المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ترجمةٌ مُوجَزةٌ للمؤلِّف (1) ‌ ‌اسمُه: محمَّدُ بنُ صالحِ بنِ عبد الله - اللآليء المكية من كلام خير البرية

[محمد بن صالح الشاوي]

فهرس الكتاب

‌ترجمةٌ مُوجَزةٌ للمؤلِّف

(1)

‌اسمُه:

محمَّدُ بنُ صالحِ بنِ عبد الله بنِ محمَّدِ بنِ عبد الله بنِ سُلَيمانَ بنِ محمَّدِ بنِ غانِمٍ الشاويُّ البَقْميُّ الأَزْديُّ.

مولدُه: وُلِدَ المؤلِّفُ في البُكَيْريَّةِ، بتاريخ:(23/ 9/ 1350 هـ)، الموافقِ:(31/ 1/ 1932 م).

‌نشأتُه:

نشأ المؤلِّفُ في البُكَيْريَّةِ بين أبوَيْنِ محافِظَيْنِ ومتديِّنَيْن؛ فقد كان والده فضيلةُ الشيخِ صالحِ بنِ عبد الله الشاويِّ رحمه الله عالمًا مِنْ علماء البُكَيْرِيَّة، وكان مِنْ المُوسِرينَ، ولله الحمدُ والمِنَّة؛ ولذلك اعتذَرَ لمَّا كُلِّفَ بالقضاءِ مرَّتَيْن

(2)

؛ لأنَّ القضاءَ سوف يَشغَلُهُ عن الاستمرارِ في تحصيلِ العلم، وإلقاءِ الدروس، وعن أعمالِهِ التجاريَّة.

حَفِظَ المؤلِّفُ القرآنَ منذ نعومةِ أَظْفاره؛ حيثُ بدأ بالحفظِ على يد الشيخ عبد الله بن محمد الخُلَيفي رحمه الله، قبل أن يكونَ إمامًا للحرَمِ المكي، ثم أكمَلَ حِفْظَهُ على الشيخِ المقرئِ عبد الرحمن بن سالم الكريديس رحمه الله في مسجد تُرْكي

(3)

.

‌طلبُهُ للعلم:

وبعد أن حَفِظَ القرآنَ بدأ مسيرتَهُ في طلَبِ العلم؛ حيثُ اهتَمَّ به والدُهُ، وأحضَرَهُ إلى مجالسِ العلماء؛ ليتعلَّمَ ويستفيدَ منهم، وكان أوَّلُ ذلك عندما بلَغَ التاسعةَ من عُمُره؛ حيثُ كان يجلسُ مع طلبةِ العلمِ الذين يدرُسُونَ عند والدِهِ فضيلةِ الشيخ صالح بن عبد الله الشاوي رحمه الله؛ في كُتُبِ شيخِ الإسلام ابن تيميَّة، وكتبِ ابن القيِّم، وكتبِ التفسير، وكتبِ السِّيرةِ النبويَّة؛ ولهذا يُعتبَرُ والدُهُ هو شيخَهُ الأوَّلَ الذي تعلَّم عليه بعضَ العلوم الشرعية.

(1)

هذه ترجمةٌ مختصَرةٌ كتَبْتُها عن الوالدِ حفظه الله، وهناك ترجمةٌ موسَّعةٌ جمَعْتُها مِنْ ذِكْرياتِهِ، ومِن الوثائقِ والمراسَلاتِ الموجودةِ لدَيْنا، ولعلَّ اللهَ أن ييسِّرَ لي طبعَها. (صالح).

(2)

حيثُ عيَّنه المَلِكُ عبد العزيز رحمه الله قاضيًا في القَصِيمِ، فامتنَعَ واستشفَعَ بالمشايخ، فسمَحَ له، ثم لمَّا تولَّى الملك سعود رحمه الله، عيَّنه قاضيًا في الجنوب، فأرسَلَ للمَلِكِ برقيَّةً قال فيها:(إنه بلَغَ سنَّ التقاعُد، وإنَّ ظروفَهُ الصحِّيَّةَ لا تَسمَحُ له)، فأُعفِيَ؛ رحمه الله رحمةً واسعة، وأسكَنَهُ فسيحَ جناته.

(3)

هكذا يُسمَّى؛ نسبةً إلى مؤسِّسهِ تُرْكي بن منصور التركي رحمه الله. ينظر: مساجد البُكَيْريَّة، لعبد العزيز الفريح (ص 61).

ص: 5

ولما بلَغَ الحاديةَ عَشْرةَ مِنْ عُمُرِه، رَغِبَ إليه والدُهُ أن ينضمَّ إلى الحَلْقةِ في المسجد الجامع الكبير في البُكَيْريَّة؛ ليدرُسَ على الشيخ محمَّد بن عبد الله السُّبَيِّلِ إمامِ الحرَمِ المكي، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله السُّبَيِّل

(1)

، والشيخِ العلَّامة محمَّد بن مُقبِلِ المُقبِل، وغيرهم مِنْ علماء ذلك الزمان رحمهم الله.

وفي السنةِ الثالثةَ عَشْرةَ مِنْ عُمُرِهِ، سافر إلى الرياض، وانضمَّ مع طلبةِ العلمِ في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وأخيه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، وغيرِهم من العلماء آنَذَاك رحمهم الله.

ولما قَدِمَ عبد الله ابنُ العمِّ الشيخِ محمَّد بن عثمان الشاوي رحمه الله مِنْ الطائف، أقنَعَهُ بالالتحاقِ بدارِ التوحيدِ في الطائف؛ فالتحَقَ ودرَسَ بها، وبعد أن أخَذَ شهادةَ المتوسِّطةِ مِنْ دار التوحيد، عاد إلى الرياض، وأكمَلَ الثانويةَ في المعهدِ العلميِّ بالرياض.

وفي عام (1372 هـ) التحَقَ بكلية الشريعة، والتي كانت تسمَّى آنَذَاكَ:«دارَ العُلُومِ الشرعيَّة» ، واستمرَّ فيها حتى تخرُّجه عام (1376 هـ)، وكان مِنْ ضمن أوَّلِ دُفْعةٍ تخرَّجت في الكلية، وكان مِنْ مشايخِهِ وأساتذتِهِ الذين درَسَ عليهم في الكلية: الشيخُ محمَّد الأمين الشِّنْقِيطي، مؤلِّفُ تفسيرِ (أضواء البيان)، والشيخُ عبد العزيز بن باز، والشيخُ عبد الرزاق عفيفي، وغيرهم من أهل العلم آنذاك رحمهم الله.

‌أعمالُه:

وبعد تخرُّجه في كلية الشريعة عام 1376 هـ، تمَّ تعيينُهُ قاضيًا في المنطقة الشرقية في بَلْدةِ النُّعَيْريَّةِ بتاريخ:(15/ 2/ 1377 هـ)، وقام بتأسيسِ المحكمةِ الشرعيَّةِ فيها، وعُيِّنَ رئيسًا لها، واستمَرَّ عمَلُهُ في مَجَالِ القضاء حتى تاريخ:(16/ 8/ 1379 هـ).

وفي أثناء وجوده في النُّعَيْريَّةِ قاضيًا تولَّى إمامةَ جامع النُّعَيرِيَّة، وتولَّى الخَطَابةَ يوم الجمعةِ، وفي الأعياد والمناسَبات.

ومن المهامِّ التي تولَّاها أثناءَ عمله قاضيًا في النُّعَيْريَّة: تأسيسُ هيئاتِ الأمرِ بالمعروف، والنهيِ عن المنكَرِ فيها، ثم عُيِّنَ رئيسًا لها، وتولَّى أعمال الحِسْبةِ فيها لفترةٍ وجيزة، حتى تمَّ تعيينُ رئيسٍ مستقِلٍّ لها.

(1)

وهو شقيقُ الشيخِ محمَّد بن عبد الله السُّبَيِّل إمامِ الحرَم المكي رحمه الله.

ص: 6

وبعد عامَيْنِ تقريبًا من عملِهِ في مجالِ القضاءِ: طلَبَ منه سماحة الشيخ محمدُ بنُ إبراهيم رحمه الله الانتقالَ إلى الرياض؛ لتأسيسِ وافتتاحِ كتابةِ العَدْل، والقيامِ بعملِ اللازمِ لها؛ حيثُ لم يكن هناك كتابةُ عَدْلٍ رسميَّةٌ بهذا الاسمِ قبل ذلك في منطقةِ الرياضِ والقَصِيم.

وبعد الانتهاءِ مِنْ عمليَّةِ تأسيسِ وافتتاحِ كتابةِ العَدْلِ: عُيِّنَ رئيسًا لها؛ فكان أوَّلَ رئيسٍ لكتابةِ العَدْلِ بالرياض، وقد رتَّب فضيلتُهُ ما يَلزَمُ لها مِنْ الأنظِمةِ والقوانينِ والموظَّفينَ، وباشَرَ العمَلَ فيها بتاريخ:(18/ 8/ 1379 هـ).

وخلالَ فَتْرةِ عملِهِ رئيسًا لكتابة العَدْلِ: كُلِّفَ بالعمَلِ عضوًا قضائيًّا احتياطيًّا بهيئةِ المنازَعاتِ التجاريَّةِ في الفترةِ المسائيَّةِ في حالةِ تغيُّبِ أحدِ أعضاء الهيئة، وذلك بتاريخ:(28/ 5/ 1389 هـ)، ثم صار بعد ذلك عضوًا رسميًّا، بعد أن طلَبَ أحدُ الأعضاءِ مِنْ الشيخِ محمَّد بن جُبَير رحمه الله إعفاءَهُ مِنْ الهيئة، للتفرُّغِ إلى عملِهِ الرسمي.

ومِن الأعمالِ التي تولَّاها: قيامُهُ بعقودِ الأَنكِحةِ بين الناس؛ حيثُ عَمِل مأذونًا للأنكحة، وقد تم تعيينُهُ في هذا العمل بتاريخ:(5/ 4/ 1392 هـ)، بجانبِ عملِهِ في كتابةِ العَدْلِ بالرياض.

ومِن الأعمالِ التي تولَّاها أيضًا: تعيينُهُ عضوًا مؤسِّسًا في مؤسَّسةِ الجزيرةِ للصِّحَافةِ والطِّبَاعةِ والنَّشْر، ثم انتُخِبَ أيضًا مِنْ قِبَلِ زملائِهِ وعُيِّنَ عضوًا إداريًّا بتاريخ:(1/ 8/ 1398 هـ). كلُّ ذلك بجانبِ عمَلِهِ في كتابة العَدْل.

ومِن الأعمالِ أيضًا: تعيينُهُ مستشارًا لمعالي وزيرِ العَدْلِ آنذاكَ الشيخ إبراهيم بن محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ، بتاريخ:(15/ 3/ 1398 هـ)، وبعد فترةٍ وجيزةٍ مِنْ عمَلِهِ مستشارًا طلَبَ الإعفاءَ والتقاعُدَ المبكِّر، فتحقَّق له ما يريد؛ وذلك بتاريخ:(9/ 2/ 1399 هـ)؛ لأنه كان يريدُ إراحةَ نفسِهِ مِنْ الأعمالِ الرسميَّة، والتفرُّغَ لكتابةِ البحوث، والعبادةِ، وغير ذلك.

بعد التقاعُد: وبعد التقاعُدِ قرَّر الانتقالَ إلى مكَّةَ المكرَّمةَ حرَسَها الله، وسكَنَ بجوارِ الحرَمِ المكي، وكان يصلِّي فيه الصلواتِ الخمسَ، ويحضُرُ الدروسَ والمحاضَرات، وقد ساعَدَهُ ذلك على استعادةِ حِفْظِهِ لكتاب الله.

ولقد رأيتُ مِنْ الوالدِ حفظه الله أثناءَ إقامتِهِ في مكَّةَ عنايةً بكتاب الله؛ تلاوةً وحفظًا، وفهمًا وتدبُّرًا؛ حتى إنه ترَكَ لأبنائِهِ جميعَ أعمالِهِ وتجاراتِه، منذ رُبُعِ قَرْنٍ تقريبًا، وسكَنَ بجوارِ الحرَمِ المكي، حتى لا يَشغَلَهُ شيءٌ عن القرآنِ ومدارَسَتِه، وكان ولا يزال: يَختِمُ القرآنَ في كلِّ يومٍ مَرَّةً؛ لا

ص: 7

يَثْنِيهِ عن ذلك إلا الضرورةُ القاهرة؛ هذا بخلافِ عباداتِهِ الأخرى مِنْ الصلاةِ والقيامِ والطواف، وحضورِ دروسِ الحرَمِ المكي.

‌مؤلَّفاتُه:

لم يَشغَلِ الوالدُ نَفْسَهُ كثيرًا بالتأليف؛ لأنه كان مشغولًا في أوَّلِ حياتِهِ بالوظائفِ الحكوميَّةِ والخَطَابةِ وغيرِها مِنْ الأعمال، وبعد التقاعُدِ شُغِلَ كثيرًا بمجالِ الأعمالِ الحُرَّةِ والتجارةِ، مع الاهتمامِ بالعبادةِ، وغيرِها، ومع ذلك: لم يَغْفُلْ عن تدوينِ بعضِ البحوثِ والكتاباتِ المفيدةِ، والتي جمَعْناها في المؤلَّفات التالية:

1 -

النَّفَحَاتُ المَكِّيَّةِ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ رَبِّ البَرِيَّةِ.

2 -

دُرُوسٌ وقَبَساتٌ مِنْ الحرَمِ - فوائِدُ ووقَفَاتٌ مُنْتقاةٌ مِنْ دُرُوسِ الحرَمِ المكِّيِّ وغَيْرِهِ.

3 -

نَفَحاتٌ قرآنيَّة - تعليقٌ على بعضِ الآياتِ القرآنيَّة.

4 -

التَّعْلِيقَاتُ النَّدِيَّة عَلَى بَعْضِ الأُصُولِ وَالقَوَاعِدِ الفِقْهِيَّة.

5 -

نَفَحَاتٌ لَطِيفَةٌ عَلَى بَعْضِ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالضَّعِيفَةِ.

6 -

تَرَاجِمُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الشَّاوِيِّ.

7 -

خُطْبةُ المِنْبَر.

8 -

رسالتانِ في القَدَرِ والرِّبا، ومقالاتٌ متنوِّعة.

9 -

القَضَاءُ وَالقَدَرُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.

10 -

الرَّدُّ الوَارِف عَلَى مَنْ أَبَاحَ رِبَا المَصَارِف.

11 -

قُطُوفٌ دَانِيَةٌ - مَقَالَاتٌ وَمَوْضُوعَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ.

12 -

حِكَمٌ مُخْتَارَاتٌ مِنْ عُيُونِ الشِّعْرِ وَالأَدَبِ.

أَيَّامٌ مِنْ حَيَاةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ الشَّاوِيِّ - جَمَعَهُ وَرَتَّبَهُ ابْنُهُ صَالِحُ الشَّاوِي.

هذا؛ ونَسْألُ اللهَ أن يَجعَلَ هذه الأعمالَ خالصةً لوجهِهِ الكريم، وأن يَحفَظَ الوالد، ويُديمَ عليه الصِّحَّةَ والعافية.

ص: 8

‌المقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين، وقائد الغر المحجَّلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلا شك أن الحديث النبوي الشريف له مكانةٌ عظمى في الشريعة الإسلامية، فهو المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، وقد بين الكتاب العزيز أهمية الحديث الشريف وذلك في قوله تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34].

قال ابن جرير رحمه الله

(1)

: (ويعني بالحكمة: ما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله، ولم ينزل به قرآن، وذلك السنة، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل).

وقال ابن كثير رحمه الله

(2)

: (أي: اعملنَ بما ينزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة. قاله قتادة وغير واحد).

وهذا تشريف عظيم للسنة؛ حيث قرنها الله تعالى بالقرآن، وأمر بالعناية بها، وسماها بأشرف الأسماء وهي الحكمة.

والسنة: هي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من: أقوال، أو أفعال، أو تقريرات، وكل ذلك داخل في نطاق الحديث النبوي.

والسنة من أهم المصادر في فهم القرآن الكريم، فكم من آيات الكتاب

(1)

ينظر: تفسير الطبري (19/ 108).

(2)

ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 415).

ص: 9

العزيز لولا السنة النبوية لحار الناس في فهمها، ولاختلفت أقوالهم في ذلك اختلافًا كثيرًا، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44].

فلا يمكن لأحد أن يعرف معاني القرآن على وجه الكمال، ولا أن يدرك شرائع الإسلام على التمام إلا بمعرفة السنة النبوية؛ على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فالسنة تقرر وتؤكد ما جاء في القرآن الكريم، وتفسر ما جاء في القرآن الكريم، وتفصل ما أجمل في القرآن الكريم، وتخصص ما ورد عامَّا في القرآن الكريم، وتقيد ما ورد مطلقا في القرآن الكريم.

كما أنها مصدر مستقل للتشريع، فتأتي بأحكام وتشريعات لم ترد في القرآن الكريم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا وإنِّي أُوتيت الكتابَ ومثلهُ معهُ»

(1)

.

وتُعد السنة النبوية هي الركيزة الأساسية التي ينبني عليها الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه واتجاهاته، كما قال الناظم:

وكلُّهم من رسولِ اللهِ ملتمسٌ

غَرفًا من البحرِ أو رشْفًا من الدِّيَمِ

وواقفون لديه عند حدِّهمُ

من نُقطةِ العِلمِ أو من شَكْلَةِ الحِكَمِ

فلا يمكن لأحد أن يُحكم العبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية، أو يعرف الحدود والكفارات وأحكام الجهاد والسياسة الشرعية، إلا بمعرفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم والتفقه فيه.

(1)

أخرجه أبو داود برقم (4604)، وأحمد في المسند برقم (17174)، وصححه الألباني.

ص: 10

وأبسط مثال على ذلك:

فإنه لولا السنة النبوية فمن أين لنا أن نعرف أن الفجر ركعتان، وأن الظهر والعصر والعشاء أربع، وأن المغرب ثلاث؟!.

ومن أين لنا أن نعرف نواقض الوضوء، ومبطلات الصلاة، ومقادير الزكاة، وأحكام الحج المتنوعة التي لم ترد في القرآن؟!.

ومن أين لنا أن نعرف كيفية قطع يد السارق، وشروط القطع، ومتى يدرأ عنه الحد، وكذلك الشأن في بقية الحدود؟!.

ومن أين لنا أن نعرف ما يحل وما يحرم من المعاملات التجارية على وجه التفصيل؟!.

كذلك فإن الحديث النبوي له أهمية كبرى في معرفة العقيدة الإسلامية الصحيحة وفهمها، وذلك لما تضمنه من ذكر أركان الإسلام والإيمان والقضاء والقدر، ونواقض الإسلام، والإخبار عن أمور الغيب، وأشراط الساعة وغير ذلك.

ولولا السنة النبوية لما فهم الناس العقيدة على الوجه الصحيح، فإن القرآن الكريم حمال أوجه، والسنة النبوية هي التي تضبط ذلك وتبين المراد من كلام الله تعالى.

فمثلًا قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، جاءت السنة لتبين أن:«كلتا يديه يمين»

(1)

تعالى وتقدس.

قال الخطابي رحمه الله

(2)

: (ليس فيما يضاف إلى الله تعالى من صفة اليد

(1)

أخرجه مسلم برقم (1827).

(2)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (30/ 20).

ص: 11

شمال؛ لأن الشمال محلُّ النقص والضعف، وليس معنى اليد عندنا الجارحة، وإنما هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت، وننتهي إلى حيث انتهى بها الكتاب والسنة المأثورة الصحيحة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة).

فالسنة هنا بينت أن يديه سبحانه ليس فيهما شمال، وإنما كلتا يديه يمين، وهذا يخرجها عن توهم الجارحة المعروفة لدى البشر، فهذا جزء من عقيدة المسلم، لولا السنة النبوية لتوهم المتوهمون ما لا يليق بالله سبحانه وتعالى.

كذلك فإن للحديث النبوي دورًا كبيرًا في نشأة علم السيرة النبوية، والآداب والأخلاق، والشمائل، حتى علم أصول الفقه، وغير ذلك من العلوم الإسلامية.

ومن هنا كان لدراسة الحديث النبوي وفهم معانيه أهمية كبيرة في معرفة دين الإسلام عقيدة وشريعة، ومعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه والسير على منهاجه صلوات ربي وسلامه عليه.

ولهذا كله كان لي اهتمام بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وبخاصة الأحاديث الجامعة التي فيها دلائل متعددة على عظمة الإسلام وسمو تشريعاته، وعلى عظمة النبي صلى الله عليه وسلم وكمال صفاته.

فكنت كلما مررت بحديث من هذه الأحاديث قيدته، مع ما أسمعه من شرح عليه من علماء الحرم المكي وغيرهم، أو ما أقرأه من كتب شروح الأحاديث، فاجتمع عندي شيء لا بأس به من الأحاديث، مع شرح بسيط لها.

ثم طلب مني الابن صالح طباعة هذه الأحاديث مع شرحها، فاعتذرت عن ذلك، لعدم ترتيبها ولاختلاط صحيحها بسقيمها، فلما أصر على ذلك وافقت على أن يُعتنى بهذه الأحاديث ويعاد ترتيبها ويكمل شرحها ويقتصر على

ص: 12

الصحيح منها، مع تخريج كل ما يرد في الكتاب من الأحاديث، فاجتمع لنا هذه المجموعة المباركة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي سبعون حديثًا نبويًّا صحيحًا.

وطريقتنا في هذا الكتاب أن نبدأ بذكر الحديث النبوي مشكَّلًا، ثم نذكر معاني الكلمات التي تحتاج إلى شرح، ثم نعلق على الحديث ونذكر معناه وما فيه من أحكام وقضايا، وأهم ما ذكره العلماء في شرحه، ثم نختم بذكر الفوائد المستخرجة من هذا الحديث على هيئة نقاط قصيرة.

أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يكتب لنا به عظيم الأجر، وأن يجزي قارئه، وطابعه، وكل من شارك في نشره خير الجزاء، إنه خير مسؤول، والحمد لله أولًا وآخرًا.

قاله وكتبه

محمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عبد الله الشَّاوِي

الثلاثاء: 23/ 01/ 1442 هـ - الموافق: 31/ 08/ 2021 م

ص: 13

‌الحديث الأول: أعذر الله إلى من بلغ الستين أو السبعين

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:«لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى عَبْدٍ أَحْيَاهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً، لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ، لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ»

(1)

.

وفي رواية للبخاري: قال: «أعْذَرَ الله إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً»

(2)

.

معاني الكلمات

(3)

:

الكلمة

معناها

أعذر

قال العلماء: معناه: لم يترك له عذرًا ولا حجة؛ إِذْ أمْهَلَهُ هذه المدَّة، يقال: أعْذَرَ الرجُلُ: إذا بلغ الغاية في العُذْرِ.

قال السندي: أي: أتى بالعذر إليه وأظهره، ومنه قولهم: أعذر من أنذر، أي: أتى بالعذر وأظهره، وهذا مجاز، فإن العذر لا يتوجه على الله، وإنما يتوجه له على العبيد.

والمقصود: أن الله لم يترك له شيئًا في الاعتذار يتمسك به، كذا قيل.

أخَّر أجلَه

يعني: أطاله.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (13/ 139) برقم (7713)، والحاكم في المستدرك (2/ 427 - 428)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 370)، والبغوي في شرح السنة (4032).

(2)

أخرجه البخاري برقم (6419).

(3)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 240).

ص: 15

التعليق:

معنى الحديث: أن من بلغ الستين لم يبق له اعتذار، كأن يقول: لو مُدَّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به.

يقال: أعذر إليه: إذا بلَّغه أقصى الغاية في العذر، ومكَّنه منه، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له، فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية.

ونسبة الإعذار إلى الله مَجَازِيَةٌ، والمعنى: أن الله لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به، والحاصل: أنه لا يعاقب إلا بعد حُجَّةٍ

(1)

.

وبالجملة: فالمقصود: أن من بلغ ستين إذا لم يتب، ومات على المعصية، فلو عذبه الله تعالى لكان تطويله العمر وتقريبه إلى الموت مع إصرار ذلك الرجل على المعصية يصير بمنزلة العذر لله في عذابه، فصار كأنه أتى الله إليه بالعذر إن عذبه لإصراره على المعصية، فلم يبق للعبد عذرٌ؛ بل العذر قد قام لله تعالى، والله تعالى أعلم.

وقيل: الهمزة في: «أعذر» ، للسلب، أي: أزال عذرَه

(2)

، فإذا لم يتب إلى هذا العمر، لم يكن له عذر، فإن الشاب يقول: أتوب إذا شخت، والشيخ ماذا يقول؟!

وقيل: أقام الله عذره في تطويل عمره وتمكينه من الطاعة مدة مديدة

(3)

، كأن المراد: أنه ألقى إليه عذره بتطويل العمر ليعتذر به، بحيث لا يبقي له إلا الاستغفار والطاعة، والإقبال إلى الآخرة بالكلية.

(1)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 240).

(2)

ذكره ابن الملك في شرح مصابيح السنة (5/ 422)، والعيني في عمدة القاري (23/ 36)، والصنعاني في التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 25).

(3)

ينظر: اللامع الصبيح للبرماوي (15/ 453)، وعمدة القاري للعيني (23/ 36).

ص: 16

وقيل

(1)

: أي: أعذر إليه غاية الإعذار، الذي لا إعذار بعده، لأن الستين قريبٌ من معترك المنايا

(2)

، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله تعالى وترقبِ المنية ولقاء الله تعالى، فهذا إعذار بعد إعذار في عمر ابن آدم؛ لطفًا من الله لعباده حين نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مرة بعد أخرى، ولم يعاقبهم إلا بعد الحجج اللائحة المُبكِّتة لهم، وإن كانوا قد فطرهم الله تعالى على حب الدنيا وطول الأمل، فلم يتركهم مهملين دون إعذار لهم وتنبيه، وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثه الرسل إليهم.

مراحل عمر الإنسان:

قال ابن الجوزي رحمه الله

(3)

: (أعذر: أي: أقام العذر في تطويل التعمير. واعلم أن الأسنان أربعة: سن الصِّبا، وسن الشباب، وسن الكهولة، وسن الشيخوخة:

- فسن الصِّبا: هو الذي يكون فيه البدن دائم النشوء والنمو، وهو إلى خمس عشرة سنة.

- وسن الشباب: هو الذي يتكامل فيه النمو ويبتدئ عقِيبه بالانحطاط، ومنتهاه في غالب الأحوال خمسٌ وثلاثون سنة، وقد يبلغ أربعين.

وبعضهم يسمي ما بين الثلاثين إلى الأربعين: سن الوقوف، كأن القوة وقفت فيه، ثم من الأربعين يأخذ في النقص، قال الشاعر:

كأن الفتى يرقى من العمر سُلَّما

إلى أن يجوزَ الأربعينَ وينحطُّ

(1)

قاله ابن بطال في شرح صحيح البخاري (10/ 152).

(2)

ومعترك المنايا: هو من الستين إلى السبعين.

(3)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 532).

ص: 17

- وسن الكهول: الذي قد تبين فيه الانحطاط والنقصان مع بقاء من القوة، ومنتهاه في أكثر الأحوال ستون سنة، فمن بلغ الستين فقد انتهى وأثَّر فيه ضعف القوة وجاءته نذر الموت، ودخل في سن المشايخ، وفي ذلك الزمان يزيد انحطاط القوة، ويقوى ظهور الضعف إلى آخر العمر

، سمعت سفيان الثوري يقول: من بلغ سنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فلْيرتَدْ لنفسه كفنًا).

وجاءكم النذير:

وطول العمر من النذر التي يرسلها الله تعالى إلى عباده ليتأهبوا للقائه وينتهوا عن معصيته، وقد بكَّت الله تعالى أهل النار ووبخهم وذكَّرهم بإمهاله لهم، وتأخيرِهِ قَبْضَ أرواحِهِم، فقال سبحانه:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، ومعنى الآية: أولم نعمِّركم حتى شبتم، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، فالشيب: هو النذير في قول ابن عباس رضي الله عنهما.

والأكثر أن: {النَّذِيرُ} : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول علي رضي الله عنه وابن زيد رضي الله عنه، وجماعة. وحجة هذا: أن الله تعالى بعث الرسل عليهم السلام مبشرين ومنذرين إلى عباده قطعًا لحجتهم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

وفيه قولٌ ثالث: أنه الموت إذا رآه ينزل بغيره، ففي فقد الآباء والأبناء والأحباب نذير بقرب الموت، وداع إلى قصر الأمل والتوثق بالعمل

(1)

.

وقولٌ رابع: أن النذير هو الحُمَّى، ذكره الماوردي كما قال ابن الجوزي

(2)

.

وروي عن علي رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما وأبي هريرة رضي الله عنه في الآية

(1)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (29/ 412).

(2)

ينظر: زاد المسير لابن الجوزي (3/ 514).

ص: 18

السالفة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37]، قال: يعني: ستين سنة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا: أربعون، وعن الحسن البصري ومسروق مثله، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب حجة لقول علي رضي الله عنه ومن وافقه في تأويل الآية.

وقول من قال: أربعون سنة له وجه صحيح أيضًا، والحجة له قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15]؛ فذكر الله تعالى: أن من بلغ الأربعين فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه، وعلى والديه، ويشكرها.

قال مالك رحمه الله: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم، ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس، واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت.

فبلوغ الأربعين نَقْلٌ لابن آدم من حالة إلى حالة أرفع منها في الاستعبار، والإعذار إليه.

وقد أسلفنا قولًا: أن النذير: الشيب، وله وجه، وذلك أنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصِّبا الذي هو سن اللهو واللعب، وهو نذير أيضًا، ألا ترى قول إبراهيم عليه السلام حين رأى الشيب: يا رب ما هذا، فقال له: وقار، قال: رب زدني وقارًا؟

فبان رفقُ الله تعالى بعباده المؤمنين، وعظيم لطفه بهم، حتى أعذر عليهم ثلاث مرات، الأولى بنبيه، ثم بالأربعين، ثم بالستين؛ لتتم حجته عليهم، وهذا أجلٌّ لإعذار الحكام إلى المحكوم عليهم مرة بعد أخرى

(1)

.

(1)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (29/ 414 - 415).

ص: 19

ومن فقه الإمام البخاري: لما كان بلوغ الستين غاية الإعذار إلى ابن آدم، خشي الإمام البخاري أن يظن من لا يتسع فهمُه أن من بلغ الستين وهو غير تائب أن ينفذ عليه الوعيد، فييأس من التوبة والمغفرة، فذكر بعد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:«لن يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله، إلا حرم الله عليه النار»

(1)

؛ وسواء أتى بها بعد الستين، أو بعد المائة لو عُمِّرها.

وقد ثبت بالكتاب والسنة: أن التوبة مقبولة مالم يغرغر ابن آدم، ويعاين قبض روحه

(2)

.

من فوائد الحديث:

أولًا: محبة الله تعالى للعذر، ولذلك يرسل لعباده النذر والعلامات ليتوبوا وينيبوا.

ثانيًا: المسارعة إلى التوبة واستدراك ما فات بالعمل الصالح قبل الممات.

ثالثًا: قصر الأمل والاعتبار بمرور الليالي والأيام.

رابعًا: في الحديث إشارة إلى أن من بلغ ستين سنة ينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية، لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (6423).

(2)

ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 153)، والتوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (29/ 415).

(3)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 240).

ص: 20

‌الحديث الثاني: إن أحدكم يجمع في بطن أمه

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، قال: حدَّثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو الصَّادق المصدوق: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، أَوْ قَالَ: يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ، وَعَمَلَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ. قال: وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلٍ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

الصادق المصدوق

الصادق في قوله، المصدوق فيما يأتي من الوحي الكريم.

يُجْمَعُ

يُضَمّ وتُحْفَظُ مَادةُ خَلْقه، وهو الماء الذي علق منه.

النطفة

الماء القليل، ومنه النطفة للمني لقلته، وهي قطرة المني.

العلقة

هي قطعة الدم الغليظ.

المضغة

هي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان.

(1)

أخرجه البخاري برقم (3332)، ومسلم برقم (2643).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 190)، والكوثر الجاري للكوراني (1/ 472)، وشرح الأربعين النووية لابن عثيمين (ص 84).

ص: 21

التعليق:

هذا حديث عظيم، يتعلق بمبتدأ الخلق ونهايته، وأحكام القدر في المبدأ والمعاد، جليلٌ حفيل

(1)

.

والمراد: أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثًا متفرقًا، فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم

(2)

.

قال ابن رجب رحمه الله

(3)

: (فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مائة وعشرين يومًا، في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يومًا منها يكون في طور، فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المائة وعشرين يومًا ينفخ الملك فيه الروح، ويكتب له هذه الأربع الكلمات.

وقد ذكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تقلب الجنين في هذه الأطوار، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 5].

وذكر هذه الأطوار الثلاثة: النطفة والعلقة والمضغة في مواضع متعددة من القرآن، وفي مواضع أخر ذكر زيادة عليها، فقال في سورة المؤمنون:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14].

(1)

ينظر: المعين على تفهم الأربعين لابن الملقن (ص 41).

(2)

ذكره ابن حجر في الفتح (11/ 479)، ونسبه للقرطبي في المفهم.

(3)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 155).

ص: 22

فهذه سبع تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الروح فيه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: خلق ابن آدم من سبع، ثم يتلو هذه الآية).

قال ابن عثيمين رحمه الله

(1)

: («ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ» : والمرسِل هو الله رب العالمين عز وجل، فيرسل المَلك إلى هذا الجنين، وهو واحد الملائكة، والمراد به الجنس لا ملك معين.

«فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ» : الروح ما به يحيا الجسم، وكيفية النفخ الله أعلم بها، ولكنه ينفخ في هذا الجنين الروح ويتقبلها الجسم.

والروح سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأمره الله أن يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85]؛ فالروح من أمر الله، أي: من شأنه، فهو الذي يخلقها عز وجل.

«وَيُؤْمَرُ» : أي: الملك، «بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ»: والآمر هو الله عز وجل، «بِكْتبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ» .

«رِزْقه» : الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين.

فالرزق الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك.

والرزق الذي يقوم به الدين: هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث.

«وَأَجَله» : أي: مدة بقائه في هذه الدنيا، واختيار طول الأجل أو قصر الأجل

(1)

ينظر: شرح الأربعين النووية لابن عثيمين (ص 85).

ص: 23

ليس إلى البشر، وليس لصحة البدن وقوام البدن، إذ قد يحصل الموت بحادث والإنسان أقوى ما يكون وأعز ما يكون، لكن الآجال تقديرها إلى الله عز وجل.

«وَعَمَله» : أي: ما يكتسبه من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، فمكتوب على الإنسان العمل.

«وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ» : هذه النهاية، والسعيد: هو الذي تم له الفرح والسرور، والشقي: بالعكس، فالنهاية إما شقاء وإما سعادة).

قال الداعية العالم محمد سعيد الحلبي: (قوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا» ، يوضحه ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»

(1)

.

فقوله: «فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ» ، تدل على أنه يعمل الخير وهو في شك، وإنما كان عمله مجاراة للناس حسب العادة التي يعملها الجماهير المسلمة.

ثم قال: إن الله -جل وعلا- أعظم وأكرم وأحكم من أن يخذل المخلص المسلم في آخر حياته فيجعله يعمل بعمل أهل النار).

وقد أعجبني تحليله، فجزاه الله أحسن الجزاء.

وقال ابن رجب رحمه الله

(2)

: (وقوله: «فيما يبدو للناس» ؛ إشارة إلى أن باطن

(1)

أخرجه البخاري برقم (2898)، ومسلم برقم (112).

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 57).

ص: 24

الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك؛ فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت.

وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلةٌ خفيةٌ من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره؛ فتوجب له حسن الخاتمة).

وذكر مثل ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح الأربعين

(1)

، ثم قال: (أقول هذا لئلاّ يُظنٌّ بالله ظنَّ السوء: فوالله ما من أحد يقبل على الله بصدقٍ وإخلاص، ويعمل بعمل أهل الجنة إلا لم يخذله الله أبدًا، فالله عز وجل أكرم من عبدِه، لكن لا بد من بلاءٍ في القلب

(2)

.

واذكروا قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الرجل لا يدع شاذَّة ولا فاذَّةً للعدو إلا قضى عليها، فتعجب الناس منه وقالوا: هذا البطل الذي كسب المعركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» .

فعظم ذلك على الصحابة رضي الله عنهم كيف يكون هذا الرجل من أهل النار؟

فقال رجل: لألزمنَّه، أي: أتابعه، فتابعه، فأصيب هذا الرجل الشجاع المقدام بسهم من العدو فجزع، فلما جزع سلَّ سيفه والعياذ بالله ثم وضع ذبابة سيفه على صدره ومقبضه على الأرض، ثم اتّكأ عليه حتى خرج من ظهره، فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، وقال: أشهد أنك رسولُ الله،

(1)

ينظر: شرح الأربعين النووية لابن عثيمين (ص 88).

(2)

أي: أن سبب انتكاس هذا العبد: هو وجود مرض، ودسيسة شر، وشبهة نفاق في قلبه، والعياذ بالله.

ص: 25

قال: بِمَ، قال: إن الرجل الذي قلت فيه: إنه من أهل النار، حصل منه كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك:«إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيْمَا يَبْدُو للِنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»

(1)

.

واذكروا قصة الأصيرم رضي الله عنه من بني عبد الأشهل من الأنصار، كان منابذًا للدعوة الإسلامية عدوًّا لها، ولما خرج الناس إلى غزوة أحد ألقى الله تعالى في قلبه الإيمان، فآمن وخرج في الجهاد وقتل شهيدًا، فجاء الناس بعد المعركة يتفقدون قتلاهم وإذا الرجل، فقالوا: ما الذي جاء بك يا فلان، أجئتَ حدَبًا على قومك، أم رغبةً في الإسلام، قال: بل رغبة في الإسلام، ثم طلب منهم أن يقرؤوا على النبي صلى الله عليه وسلم السلام، فصار هذا ختامُه أن قتل شهيدًا مع أنه كان منابذًا للدعوة).

من فوائد الحديث:

أولًا: في هذا الحديث: إثبات القدر، وأن جميع ما في الكون من نفع أو ضر بقضاء وقدر

(2)

.

قال ابن الجوزي رحمه الله

(3)

: (والحديث يدل على أن الأمور مقدرة، وقوله: «فيسبق عليه الكتاب»: يعني: ما قضي له).

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله

(4)

: (وفي هذا الحديث إثبات القدر كما هو مذهب أهل السنة، وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره خيرها وشرها

(1)

أخرجه البخاري برقم (2898)، ومسلم برقم (112)، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

(2)

ينظر: تطريز رياض الصالحين لفيصل المبارك (1/ 270).

(3)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (1/ 291).

(4)

ينظر: شرح الأربعين (ص 39).

ص: 26

نفعها وضرها، قال الله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، ولا اعتراض عليه في ملكه يفعل في ملكه ما يشاء. قال الإمام السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب: التوفيق من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول، فمن عدل عن التوفيق منه ضلَّ وتاه في مجال الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب، لأن القدر سرٌّ من أسرار الله تعالى، ضُربت دونه الأستار، واختصَّ سبحانه به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم، وقد حجب الله تعالى علم القدر عن العالم، فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وقيل: إن سرَّ القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل ذلك.

وقد ثبتت الأحاديثُ بالنهي عن ترك العمل اتكالًا على ما سبق من القدر؛ بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد بها الشرع، وكل ميسر لما خلق له، لا يقدر على غيره، فمن كان من أهل السعادة يسَّره الله لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة يسَّره الله لعمل أهل الشقاوة كما في الحديث، وقال الله تعالى:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} .. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].

قال العلماء: وكتاب الله تعالى ولوحُه وقلمُه كل ذلك مما يجب الإيمان به، وأما كيفية ذلك وصفته فعلمُه إلى الله تعالى، لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. والله أعلم).

ثانيًا: مما اتفق عليه العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر

(1)

.

قال القاضي عياض رحمه الله

(2)

: (اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر

(1)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 484).

(2)

ينظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (8/ 123).

ص: 27

ودخوله في الخامس، وهذا قد جُرب بالمشاهدة، وعليه يعوَّل فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف).

حكم الإجهاض:

ومن هذه الجملة في هذا الحديث تكلم العلماء على حكم الإجهاض أو التخلص من النطفة أو العلقة أو المضغة.

فالجنين بعد نفخ الروح فيه لا يجوز إجهاضه بلا خلاف، أما قبل ذلك ففيه خلاف، فجمهور أهل العلم على تحريمه، ومنهم من قال بالكراهة، ومنهم من قال بالجواز لعذر، ومنهم من قال بالجواز مطلقًا، ولعل القول بالجواز في الأربعين الأولى إذا كان هناك عذر ومصلحة هو الراجح.

ومن قرارات هيئة كبار العلماء في هذا الشأن

(1)

:

1 -

لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي وفي حدود ضيقةٍ جدًّا.

2 -

إذا كان الحمل في الطور الأول، وهي مدة الأربعين يومًا، وكان في إسقاطه مصلحة شرعية، أو دفع ضرر جاز إسقاطه، أما إسقاطه في هذه المدة خشية المشقّة في تربية الأولاد، أو خوفًا من العجز عن تكاليف معيشتهم وتعليمهم، أو من أجل مستقبلهم، أو اكتفاء بما لدى الزوجين من الأولاد فغير جائز.

3 -

لا يجوز إسقاط الحمل إذا كان علقة أو مضغة (وهي الأربعون يومًا الثانية والثالثة) حتى تُقرِّر لجنة طبية موثوقة أن استمراره خطر على سلامة أمِّه،

(1)

ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة، هيئة كبار العلماء (3/ 1055)، (21/ 450).

ص: 28

بأن يُخشى عليها الهلاك من استمراره، جاز إسقاطُه بعد استنفاذ كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار.

4 -

بعد الطور الثالث، وبعد إكمال أربعة أشهر لا يحل إسقاطه حتى يقرر جمع من الأطباء المتخصصين الموثوقين من أن بقاء الجنين في بطن أمه يسبب موتها، وذلك بعد استنفاذ كافة الوسائل لإبقاء حياته، وإنما رخص في الإقدام على إسقاطه بهذه الشروط دفعًا لأعظم الضَّررينِ وجلبًا لعظمى المصلحتين).

ويرى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: أنَّه إذا نُفخت فيه الروح، فإنه لا يجوز إسقاطه بأي حالٍ من الأحوال، وإن كان في بقائه هلاك للأم، لأن قتل نفس لإحياء نفس أخرى لا يجوز

(1)

.

ثالثًا: في الحديث ذكر المَلَك الذي يبعثه الله إليه بأربع كلمات، والملائكة عليهم السلام أنواع، لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، وساداتهم الأكابر أربعة: جبريل عليه السلام وميكائيل عليه السلام وعزرائيل عليه السلام وإسرافيل عليه السلام، ومنهم: الروح عليه السلام، قال الله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 83]، ومنهم: الحفظة عليهم السلام، ومنهم: الملائكة الموكلون بالقطر والنبات والرياح والسحاب، ومنهم: ملائكة القبور، ومنهم: سيَّاحون في الأرض يبتغون مجالس الذكر، ومنهم: كروبيون وروحانيون ومقرَّبون، ومنهم: ملائكة تقذف الشياطين بالشهب، ومنهم: حملةُ العرش، ومنهم: موكَّلون بصخرة بيت المقدس، ومنهم: موكَّلون بالمدينة، ومنهم: موكَّلون بتصوير النطف، ومنهم: ملائكة يبلِّغون السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أمته، ومنهم: من يشهد الحروب مع

(1)

ينظر: شرح الأربعين النووية لابن عثيمين (ص 91).

ص: 29

المجاهدين، ومنهم: خُزان أبواب السماء، ومنهم: الموكَّلون بالنار، ومنهم: ملائكة يسمَّوْن الزبانية، ومنهم: من يغرسون أشجار الجنة، ومنهم: من يصوغون حُلِيِّ أهل الجنة، ومنهم: خدمُ أهل الجنة

(1)

.

رابعًا: يستفاد من ذلك الحديث ترك الالتفات إلى الأعمال والركون إليها والتعويل على كرم الله تعالى ورحمته

(2)

.

فقلوب الخلق يصرِّفها كيف يشاء، فالموفق من بدأ عمله بالسعادة وختم بها، والمخذول عكسه، وكذا من بدأ بالخير وختم بالشر لا عكسه.

وأهل الطريق في كل حالهم يخافون سوء الخاتمة -نجانا الله منها-.

وفي الحديث إشارة إلى تعاطي الأسباب للسعادة والشقاوة، وبها يظهر ما جبل عليه من الخير والشر:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ثم لا ينبغي له مع ذلك أن يعجب بها خوف احتباطِها، ومن لطف الله تعالى أن انقلاب الناس من الخير إلى الشر نادرٌ، والكثير عكسه

(3)

: «إن رحمتي سبقت غضبي»

(4)

.

(1)

ينظر: عمدة القاري للعيني (15/ 130).

(2)

ينظر: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص 38).

(3)

ينظر: المعين على تفهم الأربعين لابن الملقن (ص 149).

(4)

أخرجه البخاري برقم (7422).

ص: 30

‌الحديث الثالث: لا يزني الزاني

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

النُّهبة

بفتح النُّون: المصدر، وبالضمِّ: المال المَنْهوب، أي: لا يأخذ مالَ غيره قَهْرًا وظُلْمًا ممن ينظُره ولا يَقدِر على دَفْعه؛ إذ هو ظُلمٌ عظيمٌ.

يرفع الناس إليه فيها أبصارهم

أشار برفع البصر إلى حالة المنهوبين، فإنهم ينظرون إلى من ينهبهم ولا يقدرون على دفعه ولو تضرعوا إليه، ويحتمل أن يكون كناية عن عدم التستر بذلك، فيكون صفةً لازمة للنهب، بخلاف السرقة والاختلاس، فإنه يكون في خفية، والانتهاب أشد لما فيه من مزيد الجراءة وعدم المبالاة.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2475)، ومسلم برقم (57).

(2)

ينظر: اللامع الصبيح للبرماوي (7/ 483)، وفتح الباري لابن حجر (12/ 59).

ص: 31

التعليق:

هذا الحديث فيه تأويلان كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله

(1)

:

أحدهما: أنه يُنزع الإيمان منه.

قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا، وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه.

ووجه هذا أن المعصية تذهله عن مراعاة الإيمان، وهو تصديق القلب، فكأنه ينسى من صدق به.

والثاني: أنه لا يزني وهو كامل الإيمان.

وقال الدكتور سليمان العودة: (معنى هذا الحديث: أنه في حالة هيجان الشهوة يغيب عنه شعوره باطلاع الله ورقابته، وأنه في تلك اللحظة اختفى إيمانه تحت هيجان الشهوة؛ حتى أنه صار لا يمنعه من فعل ذلك المنكر).

وقال علماء السنة: من وقع في هذه الكبائر وغيرها مما هي دون الشرك فإنه لا يكون مرتدًّا عن الإسلام، ولا كافرًا خارجًا من الملة؛ فهو ما زال في دائرة الإسلام، ولهذا فإنه لا يعامل معاملة المرتد، ولا معاملة الكافر، وإنما يأخذ الحدَّ الذي لا ينطبق إلا على المسلمين.

وعلى هذا: فيكون النفي في الحديث هو نفي كمال الإيمان.

قال ابن رجب رحمه الله

(2)

: (المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته، فإن الإيمان كثيرًا ما ينفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني

(1)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (2/ 436).

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 302).

ص: 32

الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن»، وقوله:«لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه»

(1)

.

وقد اختلف العلماء في مرتكب الكبائر: هل يسمى مؤمنًا ناقص الإيمان، أم لا يسمى مؤمنا؟ وإنما يقال: هو مسلم، وليس بمؤمن على قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمد.

فأما من ارتكب الصغائر، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك.

والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له: مؤمن ناقص الإيمان مروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو قول ابن المبارك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، والقول بأنه مسلم، ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي، وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الزاني ينزع منه نور الإيمان، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ينزع منه الإيمان، فيكون فوقه كالظلة، فإن تاب عاد إليه، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأبو الدرداء رضي الله عنه: الإيمان كالقميص، يلبسه الإنسان تارة، ويخلعه تارة أخرى، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره.

والمعنى: أنه إذا كمَّل خصال الإيمان، لبسه، فإذا نقص منها شيءٌ نزعه، وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء).

وقال أيضًا

(2)

: (وأما اسم الإسلام، فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته، أو انتهاك بعض محرماته، وإنما ينفى بالإتيان بما ينافيه بالكليةِ، ولا يعرف في شيء من السنة الصحيحة نفي الإسلام عمن ترك شيئًا من واجباته، كما ينفى الإيمان

(1)

أخرجه البخاري برقم (6016)، عن أبي شريح رضي الله عنه.

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 111).

ص: 33

عمن ترك شيئًا من واجباته، وإن كان قد ورد إطلاق الكفر على فعل بعض المحرمات، وإطلاق النفاق أيضًا.

واختلف العلماء: هل يسمى مرتكب الكبائر كافرًا كفرًا أصغر أو منافقًا النفاق الأصغر، ولا أعلم أن أحدًا منهم أجاز إطلاق نفي اسم الإسلام عنه، إلا أنه روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ما تارك الزكاة بمسلم، ويحتمل أنه كان يراه كافرًا بذلك، خارجًا من الإسلام.

وكذلك روي عن عمر رضي الله عنه فيمن تمكن من الحج ولم يحج أنهم ليسوا بمسلمين، والظاهر أنه كان يعتقد كفرَهم، ولهذا أراد أن يضرب عليهم الجزية).

من فوائد الحديث:

أولًا: ليس كل حديث فيه نفي الإيمان يدلُّ على كفر صاحبه وخروجِه من الملة، لأنه يمكن أن يكون المراد نفي كمال الإيمان، جمعًا بين الأدلة.

ثانيًا: هذا الحديث وأمثاله فرقانٌ بين أهل السنة والخوارج الذين يكفرون بالمعصية.

ثالثًا: الإيمان الكامل يقتضي محبة ما يحبه الله، وكراهة ما يكرهه الله عز وجل والعمل بمقتضى ذلك، فلا يرتكب أحد شيئًا من المحرمات أو يخلُّ بشيء من الواجبات إلا لتقديم هوى النفس المقتضي لارتكاب ذلك على محبة الله تعالى المقتضية لخلافه

(1)

.

رابعًا: في الحديث دليل على إطلاق اسم الإيمان على الأعمال، وهو متفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأشهر من

(1)

ينظر: اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى (ص 127).

ص: 34

أن تُشهر، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أجمعوا على أن المراد صلاتكم

(1)

.

خامسًا: تظاهرت النصوص وتطابقت على كون الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين.

والأظهر أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشُّبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض؛ بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره.

ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه

(2)

: (قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم رضي الله عنهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول: إنه على إيمان جبريل عليه السلام وميكائيل عليه السلام

(3)

.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (1/ 149).

(2)

ينظر: صحيح البخاري، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (1/ 18)، حديث رقم (48).

(3)

ينظر: شرح النووي على مسلم (1/ 148).

ص: 35

‌الحديث الرابع: إنه ليغان على قلبي

عَنِ الأَغَرِّ الْمُزَنِىِّ رضي الله عنه وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ-، أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِى، وَإِنِّى لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ»

(1)

. رواه مسلم.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

يغان على قلبي

يُغطَّى ويلبَّس على قلبي، وأصله من الغين: وهو الغطاء، وكل حائل بينك وبين شيء فهو غين، ولذلك قيل للغيم: غين، فالغيمُ والغَين وَاحِد.

التعليق:

تنوعت أقوال العلماء في معنى الغين الذي كان يغشى قلب النبي صلى الله عليه وسلم سعيًا منهم إلى تنزيه مقام النبوة عن الغفلة المذمومة.

قال أبو حاتم رحمه الله

(3)

: (قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي» ، يريد به: يرِدُ عليه الكربُ من ضيق الصدر، مما كان يتفكر فيه صلى الله عليه وسلم بأمر اشتغاله كان بطاعة عن طاعة، أو اهتمامه بما لم يعلمْ من الأحكام قبل نزولها، كأنه كان يعدُّ صلى الله عليه وسلم عدم علمه بمكةَ بما في سورة البقرة من الأحكام قبل

(1)

أخرجه مسلم برقم (2702).

(2)

ينظر: معالم السنن للخطابي (1/ 295)، والمعلم بفوائد مسلم للمازري (3/ 330)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (8/ 197).

(3)

ينظر: صحيح ابن حبان (3/ 211)، تعليقًا على حديث برقم (931).

ص: 36

إنزال الله إياها بالمدينة ذنبًا، فكان يغان على قلبه لذلك حتى كان يستغفر الله كل يوم مئة مرة، لا أنه كان يغان على قلبه من ذنب يذنبه كأمته صلى الله عليه وسلم.

وقال النووي رحمه الله

(1)

: (قال أهل اللغة: الغين بالغين المعجمة، والغيم بمعنى، والمراد هنا: ما يتغشى القلب. قال القاضي: قيل: المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنُه الدوامَ عليه، فإذا فتر عنه أو غفل عدَّ ذلك ذنبًا واستغفر منه.

قال: وقيل: هو همُّه بسبب أمته، وما اطلع عليه من أحوالها بعده، فيستغفر لهم. وقيل سببه: اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم ومحاربة العدو ومداراته وتأليف المؤلفة ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنبًا بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات وأفضل الأعمال، فهي نزول عن عالي درجته ورفيع مقامه؛ من حضوره مع الله تعالى، ومشاهدته ومراقبته، وفراغه مما سواه، فيستغفر لذلك.

وقيل: يحتمل أن هذا الغين هو السكينة التي تغشى قلبه؛ لقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} ، ويكون استغفاره إظهارًا للعبودية والافتقار وملازمة الخشوع، وشكرًا لما أولاه، وقد قال المحاشي: خوف الأنبياء والملائكة خوف إعظام، وإن كانوا آمنين عذاب الله تعالى.

وقيل: يحتمل أن هذا الغين حال خشية وإعظام يغشى القلب، ويكون استغفاره شكرًا كما سبق. وقيل: هو شيء يعتري القلوب الصافية مما تتحدث به النفس فهو منها. والله أعلم).

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (17/ 23).

ص: 37

وقال ابن الجوزي رحمه الله

(1)

: (قلت: ويحتمل معنيين: أحدهما أن معرفة الله عز وجل عند العارف كل لحظة تزيد لما يستفيده من العلم به سبحانه، فهو في صعود دائم، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما ارتقى عن مقام بما يستفيده من العلم بالله عز وجل حين قال له:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] يرى ذلك الذي كان فيه نقصًا وغطاء، فيستغفر من الحالة الأولى.

ومن هذا المعنى قيل: حسنات الأبرار ذنوب المقربين؛ هذا واقع وقع لي.

ثم رأيت ابن عقيل قد ذكر مثل ذلك فقال: كان يترقى من حال إلى حال، فتصير الحالة الأولى بالإضافة إلى الثانية من التقصير كالذنب فيقع الاستغفار لما يبدو له من عظمة الرب، وتتلاشى الحال الأولى بما يتجدد من الحال الثانية.

والمعنى الثاني: أن التغطية على قلبه كانت لتقوية الطبع على ما يلاقي، فيصير بمثابة النوم الذي تستريح فيه الأعضاء من تعب اليقظة، وذلك أن الطاعة على الحقائق ومواصلة الوحي تضعف قلبه وتوهن بدنه، وقد أشار عز وجل إلى هذا في قوله:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، وقوله:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، فلولا أنه كان يتعاهد بالغفلة لما عاش بدنه لثقل ما يعرض له.

وشاهد هذا ما يلحقه من البرحاء والعرق عند الوحي، وقد كان عليه السلام يتعرض لهذه التغطية بأسباب يلطف فيها طبعه كالمزاح ومسابقة عائشة رضي الله عنها، وتخير المستحسنات، وكل ذلك ليعادل عنده من قوة اليقظة.

فإن قيل: على هذا فكيف يتعرض بشيء ثم يستغفر منه؟ قلنا: لأنه يرى

(1)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (4/ 231).

ص: 38

تلك الحالة بالإضافة إلى الجد تقصيرًا، إلا أن الحاجة تدعو إليها، فتكون بمثابة زمن الأكل والنوم والغائط).

وفي حوار أجراه الشيخ الدريعي مع أحد المشايخ، ومما قاله الشيخ في تعليقه على هذا الحديث:(إنه صلى الله عليه وسلم ينشغل بأمور الدعوة والتخطيط لعز الإسلام، وأحيانًا تستغرق هذه كثيرًا من وقته فتشغله عن ذكر الله والتلاوة والصلاة فيكون قد انشغل قلبه في أمور فاضلة عن الأمور التي هي أفضل).

وهذا الكلام حسن وجيد، وإن كنت لم أقتنع به قناعة تامة؛ لأن الدعوة ولوازمها من المكمِّلات لها هي رسالَتُه ومهمَّتُهُ التي بُعث من أجلها؛ فانشغاله بها هي ذكر لله تعالى، ولكن لعله كان يستغفر لما في الانشغال بهذه الأمور من كثرة ملاقاة الخلق ومنهم الكفار والمنافقون وأهل الجفاء والغلظة، ومداراتهم، فعدَّ ذلك مما يستغفر منه.

الأنبياء معصومون:

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(1)

: (وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية، وأجيب بعدة أجوبة، منها ما تقدم في تفسير الغين.

ومنها قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عُصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر، كذا قال، وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضًا.

ومنها قول ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير. انتهى.

(1)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 101).

ص: 39

ومحصل جوابه: أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى.

ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة، أو لمخاطبة الناس والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة وغير ذلك، مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ومشاهدته ومراقبته، فيرى ذلك ذنبًا بالنسبة إلى المقام العلي وهو الحضور في حظيرة القدس.

ومنها: أن استغفاره تشريع لأمته أو من ذنوب الأمة، فهو كالشفاعة لهم).

من فوائد الحديث:

أولًا: أهمية القلب، فهو ملك الأعضاء، والمعوَّل عليه في صلاح الإنسان وفساده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»

(1)

.

ثانيًا: عدم الاغترار بالطاعة، وإنما ينبغي على المرء أن يشعر دائمًا بالتقصير، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وحبيب الحق يغان على قلبه، فكيف بمن دونه، نسأل الله أن يعصمنا من الزلل.

ثالثًا: كثرة الاستغفار تجلو القلب وتنيره، وتمحو السيئات.

قال ابن القيم رحمه الله

(2)

: (وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يومًا: سئل بعض أهل العلم: أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًّا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له. فقال لي -رحمه الله تعالى-: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟).

(1)

أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599)، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(2)

ينظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص 92).

ص: 40

يريد أن الاستغفار أصلح لمن كان واقعًا في المعاصي والسيئات.

رابعًا: ذكر التوبة مع الاستغفار أفضل، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»

(1)

.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(2)

: (ظاهره أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة، ويحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه.

ويرجِّح الثاني ما أخرجه النسائي بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة»

(3)

.

وله من رواية محمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، بلفظ: إنْ كنا لنعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس: «رب اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الغفور مائة مرة»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (6307).

(2)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 101).

(3)

لعله يريد ما أخرجه النسائي في الكبرى، برقم (10220)، وفي اليوم والليلة برقم (459)، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا، فسمعته استغفر مائة مرة يقول:«اللهم اغفر لي، وارحمني، وتب علي، إنك أنت التواب الغفور» .

(4)

أخرجه أحمد في المسند برقم (4726)، والترمذي برقم (3434)، وابن ماجه برقم (3814). قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الألباني.

ص: 41

‌الحديث الخامس: أسماء الله تعالى

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن لله تسعة وتسعين اسمًا؛ مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

من أحصاها

اختُلف في معنى الإحصاء على أقوال:

الأول: بمعنى: الحفظ، يريد أنه يعدها ليستوفيَها حفظًا، أي: من حفظها دخل الجنة. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لله تسعة وتسعون اسمًا، من حفظها دخل الجنة، وإن الله وتر، يحب الوتر»

(3)

.

والثاني: أن يكون الإحصاء بمعنى: الإطاقة، كقوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20]، أي: لن تطيقوا قيام الليل، فمعناه: من أطاق العمل بها.

وبيان العمل بها: أن من أسمائه الحكيم، فالعمل بذلك التحكيم لحكمته حتى لا يوجد من العبد اعتراض على أفعاله.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2736)، ومسلم برقم (6/ 2677).

(2)

ينظر: مطالع الأنوار لابن قرقول (2/ 497)، وكشف المشكل لابن الجوزي (3/ 430)، وفتح الباري لابن حجر الباري (1/ 406).

(3)

أخرجه البخاري برقم (6410)، ومسلم برقم (2677).

ص: 42

ومنها السميع، فالعمل بذلك الحياء منه، وكف اللسان عن القبيح لأنه يسمع، وعلى هذا سائر الأسماء. وهذا الوجه اختيار ابن عقيل.

والثالث: أن يكون الإحصاء بمعنى: العقل والمعرفة، فيكون معناه: من عرفها وعقل معناها وآمن بها دخل الجنة، مأخوذ من الحصاة، وهو العقل، قال طرفة:

وإن لسان المرء ما لم يكن له

حصاة على عوراته لدليل

والعرب تقول: فلان ذو حصاة، أي: عقل.

والرابع: أن يكون المراد بالحديث: من قرأ القرآن حتى يختمه، فيستوفي هذه الأسماء في القرآن، حكاه أبو سليمان عن أبي عبد الله الزبيري.

التعليق:

إن أسماء الله تدل على ذاته، وكلها حسنى، وجمهور العلماء على أنه لا حصر لها، أما الحديث الذي سردها فليس في الصحيحين

(1)

.

والإحصاء: هو أنَّ من عدها وحفظها وعقلها وآمن بمقتضاها وعمل بها دخل الجنة.

قال النووي رحمه الله

(2)

: (واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، فليس معناه: أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين،

(1)

وإنما أخرجه الترمذي برقم (3507)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: هذا حديث غريب

، ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس، هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح.

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (17/ 5).

ص: 43

وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في الحديث الآخر:«أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك»

(1)

.

وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم أنه قال: لله تعالى ألف اسم، قال ابن العربي: وهذا قليل فيها، والله أعلم.

وأما تعيين هذه الأسماء، فقد جاء في الترمذي وغيره، وفي بعض أسمائه خلاف. وقيل: إنها مخفية التعيين كالاسم الأعظم، وليلة القدر ونظائرها).

قال ابن الجوزي رحمه الله بعد ذكر هذه الأوجه السابقة في تفسير الإحصاء

(2)

: (فلما رأينا في بعض طرق الصحيح أن معنى الإحصاء الحفظ اخترنا ذلك الوجه، وآثرنا ذكر هذه الأسماء لتحفظ.

وقد اختلفت ألفاظ الرواة في عدِّها، وهذا سياق ما ذكره محمد بن إسحاق بن خزيمة، من طريق أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة:

الله، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي،

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (3712، 4318)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 436).

ص: 44

المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالى، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور.

وقد روي عن عبد العزيز بن الحصين، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن لله تسعة وتسعين اسمًا» فذكرها، وعد منها:

الرب، المنان، الكافي، البادئ، الدائم، المولى، النصير، الجميل، الصادق، المحيط، المبين، القريب، الفاطر، العلام، المليك، الأكرم، المدبر، الوتر، ذو المعارج، ذو الطول، ذو الفضل. غير أن عبد العزيز هذا ليس بالقوي في النقل).

شرح معاني بعض الأسماء الحسنى

(1)

:

وللفائدة فإني أنقل هنا شرح مختصر لبعض أسماء الله الحسنى، فأقول:

* فأما الله: فروي عن الخليل روايتان: إحداهما: أنه ليس بمشتق، والثانية: أنه مشتق.

وقال بعض من رآه مشتقًّا: إنه من الوَلَهِ؛ لأن القلوب تولَه نحوه.

وقال قوم: ألِه يألَه بمعنى: عبد يعبد.

قال ابن هبيرة رحمه الله

(2)

: (وهذا اسم علم لم يتسَمَّ به غيرُه جل جلاله.

(1)

ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (6/ 316)، وكشف المشكل لابن الجوزي (3/ 437)، ومرعاة المفاتيح للمباركفوري (7/ 427).

(2)

ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (6/ 316).

ص: 45

وقال أهل العربية فيه أقوالًا، رأيت أن مجموع معانيها في النطق الذي يخلص عن سوء الأدب فيها: هو أن يقال: إن الله اسمٌ يستنبط منه استحقاقُه العبودية، وأنه محبوب القلوب التي لا تزال تتوله إليه، وأنه الرفيع والمعبود، فسمى الله سبحانه نفسه هذا الاسم الذي يتجلى عن هذه المعاني كلها، قبل أن يخلق خلقه، وقبل أن ينطق بشر اللسان العربي، لعلمه سبحانه أنه سيخلق بشرًا منهم العرب؛ الذي ينتهي الأمر إليهم، وتقوم الساعة عليهم، فيستدلون من لغتهم على معاني هذا الاسم العظيم).

* وأما الرحمن: فهو الذي عظمت رحمته.

* والرحيم: أرق من الرحمن وأبلغ في اللطف، كما أن الرحمن أبلغ في الكثرة.

* والرب: المالك، ولا يطلق الرب إلا على الله عز وجل؛ فأما إذا ذكر لغيره، ذكر مقيدًا؛ كقولهم: ربُّ الدار.

* والقدوس: الطاهر من العيوب، المنزه عن كل نقص.

* والسلام: الذي سلم من كل عيب ونقص.

* والمؤمن: الذي آمن المؤمنين من عذابه، والذي يصدق ما وعد.

* والمهيمن: أصله: المؤتمن، وقيل: الشهيد.

* والعزيز: المنيع.

* والجبار: فعَّال من الجبر، أي: يجبر الكسر.

* والخالق: الفاطر المبتدئ.

* والمصور: مرتِّبُ الأشكال والصور.

* والحليم: الذي لا يعجل.

ص: 46

* والعليم: فعيل من العلم، بمعنى: عالم.

* والسميع: فعيل من السمع، بمعنى: سامع.

* وكذلك البصير.

* والحي: الدائم الحياة.

* والقيوم: فعول من القيام بالقسط للمبالغة.

* والواسع: الغني، على أنه واسع العفو والغفران.

* والخبير: المطلع على دقائق الأمور.

* والحنان: الذي يحنو على عباده.

* والفتاح: الحاكم.

* والحكم: الحاكم أيضًا.

* والعدل: الذي لا يجور.

* واللطيف: البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم، وهو المحيط بكل دقيق من الأمور، كما يحيط بكل جليل.

* والشكور: الذي يشكر اليسير من الطاعة فيثيب عليه.

* والشاكر: فهو سبحانه يشكر على ما هو المنعم به.

* والحفيظ: الحافظ.

* والمقيت: المقتدر.

* والحسيب: الكافي.

* والجليل: العظيم.

* والرقيب: الحافظ.

ص: 47

* والودود: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون (فعولًا) في محل (مفعول)، كما يقال: هيوب بمعنى: مهيب، فهو سبحانه مودود في قلوب أوليائه.

والثاني: أن يكون بمعنى الواد، أي: أنه يودُّ عباده الصالحين، بمعنى: أنه يحبهم ويرضى عنهم، وهو الذي كلما قُطع وصل، وكلما عُصي رزق.

* والمجيد: الواسع الكرم.

* والوكيل: الكافي.

* والمتين: الشديد القوة.

* والولي: الناصر.

* والحميد: المحمود.

* والقيوم: القائم الدائم بلا زوال.

* والواجد: الغني.

* والماجد بمعنى المجيد.

* والأحد: المنفرد بالمعني الذي لا يشاركه فيه أحد.

* والواحد: المنفرد بالذات.

* والصمد: السيد.

* والظاهر: بالحجج، وهو الذي ظهر فوق كل شيء وعلاه.

وقيل: هو الذي عرف بطرق الاستدلال العقلي؛ بما ظهر لهم من آثار أفعاله وأوصافه.

* والباطن: المحتجب عن أبصار الخلائق وأوهامهم فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم.

ص: 48

* والوالي: أي: مالك الأشياء جميعها المتصرف فيها. وقيل: المتولي لجميع أمور خلقه.

* والمتعالى: البالغ في العلو المرتفع عن النقص. وقيل: الذي جلَّ عن إفك المفترين وعلا شأنه. وقيل: الذي جلَّ عن كل وصف وثناء، وهو متفاعل من العلو. وقال الجزري: هو المتنزه عن صفات المخلوقين تعالى أن يوصف بها عز وجل.

* والرءوف: فعول من الرأفة. وقيل: الرحيم.

* والمقسط: العادل.

* والغني: المستغني عن كل شيء، لا يحتاج إلى أحد في شيء، وكل أحد يحتاج إليه، وهذا هو الغني المطلق، ولا يشارك الله فيه غيره.

* والمغني: الذي يغني من يشاء من عباده عن غيره، ويعطي من يشاء ما يشاء.

* والمانع: الناصر.

* والنور: أنه بنوره يبصر ذو العماية، لأنه نور كل موجود؛ فمن ذلك حقُّه ودينه وشرعه، كل ذلك ليس في شيء منه خفاء ولا إشكال.

* والبديع: الذي لا نظير له، وله معنيان:

الأول: الذي لا نظير له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في مصنوعاته، فهو البديع المطلق، ويمتنع أن يكون له مثيل أزلًا وأبدًا.

والمعنى الثاني: أنه المبدع الذي أبدع الخلق من غير مثال سابق.

* والوارث: الباقي بعد فناء الخلق.

* والرشيد: (فعيل) بمعنى (مفعل)، فمعناه: الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم.

ص: 49

* والصبور: الذي لا يعاجل العصاة.

* والمنان: الكثير العطاء، الذي يتابع عطاياه.

* والغفور: من الغفران، وهو كثير المغفرة.

* والشكور: فعول من الشكر.

* والمجيد: فعيل من المجد للمبالغة، فهو الذي له المجد العظيم، والمجد هو عظمة الصفات وسعتها، فكلُّ وصف من أوصافه عظيم شأنه.

* والمبدئ: وهو المنشئ لكل خلق.

* والمعيد: لكل ميت؛ ولكل خير بدأ به.

* والأول: هو السابق لكل أول.

* والآخر: هو الباقي بعد فناء كل شيء.

* والمدبر: هو المنفرد بتدبيره في عباده وأرضه وسمائه.

* والمالك: هو الذي يملك كل شيء مالك، وما يملك ذلك المالك.

* والقاهر: الذي يقهر كل جبار وعات ومعاند.

* والهادي: الذي يهدي كل ضال.

* والجميل: هو الجميل الصنع، جميل الستر، جميل الصفح، جميل الأخذ، جميل الذكر، جميل العادة.

* والكفيل: هو الذي تكفل بكل ضائع، وبكل ما وعد على لسان رسله.

* والمبين: البين أمره في الوحدانية.

* والأكرم: الذي لا يوازيه كريم، وقد يكون بمعنى الكريم، كالأعز بمعنى العزيز.

ص: 50

* والكريم: الجواد، والكريم: العزيز.

* والرفيع: هو المرتفع عن كل دناءة.

* والشهيد: فهو الذي لا يغيب، ولا يغيب عنه شيء.

* والخلاق: فعال من الخلق، للتكثير.

* والواسع: هو الغني، كما أنه واسع العفو والغفران.

* وذو المعارج: أنه سبحانه تعرج إليه أعمال بني آدم.

* وذو الفضل: ذو الخير الدائم المعروف بالفضل.

* وذو الجلال والإكرام: أنه أهل أن يجل ويكرم.

من فوائد الحديث:

الأول: فيه إشارة إلى عظمة الله تعالى، وذلك لكثرة أسمائه الحسنى التي تدل على كماله وعظمته وجلاله.

الثاني: فيه فضل أسماء الله الحسنى، وفضل إحصائها ومعرفتها.

الثالث: ليس في الحديث ما يدل على حصر أسمائه سبحانه في هذه التسعة والتسعين، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء.

الرابع: فيه ما يدل على أن الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة.

ص: 51

‌الحديث السادس: من شهد أن لا إله إلا الله

عن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، حَرَّمَ الله عَلَيْهِ النَّارَ»

(1)

.

التعليق:

يقول الشيخ ابن عقيل رحمه الله: (هذا حديث صحيح رواه مسلم رحمه الله، ولكن الدين لا يؤخذ من آية واحدة، ولا من حديث واحد.

ولهذا نقول: من أدى الشهادتين نطقًا واعتقادًا وعمل بمقتضاهن دخل الجنة وحرم الله عليه النار، ومن قصَّر في شيء من ذلك دخل الجنة لكن لم تحرّم عليه النار).

فهناك شروط للانتفاع بالشهادتين منها: الصدق في النطق بهما: لما رواه أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ رديفه على الرحل قال:«يا معاذ» ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال:«يا معاذ» ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال:«يا معاذ» ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثًا، قال:«ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ صدقًا من قلبه، إلا حرمه الله على النار» ، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال:«إذًا يتكلوا» ؛ فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا. متفق عليه

(2)

.

قال البدر العيني رحمه الله

(3)

: (قوله: «صدقًا من قلبه» : احترز به عن شهادة

(1)

أخرجه مسلم برقم (29).

(2)

أخرجه البخاري برقم (28)، ومسلم برقم (32).

(3)

ينظر: عمدة القاري للعيني (2/ 207).

ص: 52

المنافقين. وقال بعضهم: الصدق كما يعبر به قولًا عن مطابقة القول المخبر عنه، قد يعبر به فعلًا عن تحري الأفعال الكاملة، قال الله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، أي: حقق ما أورده قولًا بما تحراه فعلًا.

قلت: أشار إلى هذا المعنى أيضًا الطيبيُّ حيث قال: قوله: «صدقًا» هنا: أقيم مقام الاستقامة، وأشار بهذا إلى دفع ما قيل في أن ظاهر الخبر يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد، وذلك لأن الأدلة القطعية قد دلت عند أهل السنة والجماعة؛ أن طائفة من عصاة الموحدين يعذَّبون ثم يخرجون من النار بالشفاعة. قال الطيبيُّ: ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن لمعاذ رضي الله عنه في التبشير به.

وقد أجيب عن هذا بأجوبة أخرى:

منها: أن هذا مقيد بمن يأتي بالشهادتين تائبًا ثم مات على ذلك.

ومنها: أنه أخرج مخرج الغالب، إذ الغالب أن الموحِّد يعمل الطاعة ويجتنب المعصية.

ومنها: أن المراد بتحريمه على النار؛ تحريم خلوده فيها لا أصل دخوله فيها.

ومنها: أن المراد تحريم جملته؛ لأن النار لا تأكل مواضع السجود من المسلم، وكذا لسانُه الناطق بالتوحيد.

ومنها: أن ذلك لمن قال الكلمةَ وأدى حقها وفريضتَها، وهو قول الحسن.

ومنها: ما قيل أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي، وهو قول سعيد بن المسيب وجماعة).

ص: 53

شروط الشهادتين:

وقد ذكر أئمة الدعوة رحمهم الله أن شروط الشهادتين سبعة، وهي

(1)

:

1 -

العلم المنافي للجهل.

2 -

اليقين المنافي للشك.

3 -

القبول المنافي للرد.

4 -

الانقياد المنافي للترك.

5 -

الإخلاص المنافي للشرك.

6 -

الصدق المنافي للنفاق.

7 -

المحبة المنافية لضدها.

وقد نظمها بعضهم في قوله:

علمٌ يقينٌ وإخلاصٌ وصدقُك معْ

محبةٍ وانقيادٍ والقَبولِ لها

وكما أن للشهادتين شروطًا، فإن لهما نواقض، يؤيد ذلك ما رواه جابر رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال:«من مات لا يشرك بالله شيئًا؛ دخل الجنة؛ ومن مات يشرك به شيئًا؛ دخل النار» . رواه مسلم

(2)

.

فاشترط الخلوص من الشرك للنجاة من النار، فهذا يدل على أن هناك نواقض للشهادتين، إذا وقع فيها المرء لم ينتفع بالشهادتين، لأنه أتى بما يناقضها.

(1)

ينظر: الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للدوسري (ص 24)، وعقيدة التوحيد وبيان ما يضادها للفوزان (ص 42)، والمختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد (ص 378).

(2)

أخرجه مسلم برقم (93).

ص: 54

قال النووي رحمه الله

(1)

: (وأما حكمه صلى الله عليه وسلم على من مات يشرك بدخول النار، ومن مات غير مشركٍ بدخوله الجنة، فقد أجمع عليه المسلمون، فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده وغير ذلك.

وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرًّا عليها دخل الجنة أولًا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرًّا عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل أولًا، وإلا عُذب ثم أخرج من النار وخلد في الجنة، والله أعلم).

وقال ابن الجوزي رحمه الله

(2)

: (فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة»، وبين دخول الموحدين بذنوبهم النار؟ فالجواب: أن مآلهم إلى الجنة، وإن دخلوا النار).

نواقض الشهادتين:

ونواقض الشهادتين على أنواع:

فمنها الاعتقادي، ومنها الفعلي، ومنها القولي:

1 -

فمن النواقض الاعتقادية مما يدخل في باب الألوهيات: إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإنكار صفة من صفات الكمال، أو وصفه بما هو منزه عنه؛ كوصفه بأنه ثالث ثلاثة، أو أنه جسد، أو أنه غير محيط علمًا بكل شيء، أو

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (2/ 97).

(2)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (1/ 358).

ص: 55

وصفه بأن له ولدًا أو صاحبةً وشريكًا، أو معاونًا، أو وصفه بصفة من صفات النقص كالجهل والعجز والتعب، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.

2 -

ومن النواقض الاعتقادية فيما يتصل بالنبؤات: إنكار الأنبياء الذين ورد الخبر القاطع بالإعلام بهم أو إنكار أحدهم، أو إنكار عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتم النبيين.

3 -

ومما يدخل في النواقض الاعتقادية مما يتصل بالسمعيات: إنكار البعث والقيامة بالروح والجسد، أو اعتقاد أن النعيم والعذاب روحاني لا صلة للجسم بذلك، وأيضًا إنكار الملائكة والجن والكتب السماوية إجمالًا، أو إنكار القرآن ولو آية من آياته.

4 -

ومما يتصل بالنواقض الاعتقادية: إنكار الأركان الخمسة من الصلاة والزكاة.

5 -

ومن صور نواقض الشهادتين: جحود أمر معلوم من ديننا بالضرورة وهو ما يعرفه عوام المسلمين وخواصُّهم، وهو ما يثبت بالقرآن الكريم وكان قطعيّ الدلالة، أو بالسنة المتواترة القطعية الدلالة وليس فيه شبهة، وبإجماع جميع الصحابة المتواتر إجماعًا قطعيًّا قوليًّا غير سكوتي، وكذلك إذا استباح محرمًا مجمعًا على تحريمه معلومًا من الدين بالضرورة.

6 -

ومن المكفرات القولية: أن يقول ما لا يجوز مما يستحيل على الله عز وجل، كالوصف بالجهل وغير ذلك، أو الاستهزاء بشيء من أركان الإيمان أو الإسلام، أو أن يقول: إنه غير مقتنع بجدوى الزكاة، أو يقول: إنه غير مقتنع بأن الإسلام فيه السعادة للإنسان وأنه يكفي لإقامة الحياة، وكذلك الاعتراف بالعقائد الكافرة، وكذلك الاعتراض على عدل الله وقضائه وقدره واتهامه بالجور سبحانه وتعالى.

ص: 56

7 -

ومن المكفرات الفعلية: تعليق شعار الكفر على نفسه من غير اضطرار مع الاستحباب، أو تمزيق المصحف للإهانة، أو رميه في القاذورات، أو السجود لصنم.

8 -

ومما ينقض دعوى الشهادتين:

أ- التوكل والاعتماد على غير الله إذا أخذ طابع الاعتقاد: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

ب- عدم اعتراف الإنسان بأن كل نعمة هو فيها ظاهرة وباطنة حسية ومعنوية هي من فضل الله، وأن ما يصيبنا هو من الله وأنه المانع والمعطي.

ج- إعطاء غير الله حق الأمر والنهي المطلقين والتحليل والتحريم وحق التشريع المطلق: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57].

د- ومما ينقضها: استحباب الحياة الدنيا على الآخرة وجعل الدنيا هدفه الوحيد إن كان ذلك عن كفر بالآخرة: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 2، 3].

هـ - ومما ينقض دعوى الشهادتين: تحليل ما حرم الله أو استحلاله، وتحريم ما أحل الله مما لا خلاف بين أئمة الاجتهاد في حله:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116].

ص: 57

و- ومما ينقض دعوى الشهادتين: موالاة الكفار وأهل النفاق، وكراهية أهل الإيمان والتوحيد {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51].

9 -

ومن صور نقض الشهادتين: الحكم بغير ما أنزل الله على تفصيلاتٍ للفقهاء في ذلك.

قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرحه للعقيدة الطحاوية

(1)

: (وذلك بحسب حال الحاكم؛ فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه فضل الشهادتين، وأنها تحرم صاحبهما على النار.

ثانيًا: لابد أن تكون الشهادة خالصة من القلب، لأن المنافقين يشهدون الشهادتين ولا ينفعهم ذلك.

ثالثًا: هذا من أحاديث الرجاء التي يجب العمل بها في ضوء الأدلة الأخرى من الكتاب والسنة، والتي بينت أن هناك شروطًا للانتفاع بالشهادتين ونواقض تبطلهما، حتى يكون المسلم على بينة من أمره، ولا تدفعه مثل تلك الأحاديث إلى الاغترار وترك العمل للآخرة.

(1)

ينظر: الأساس في السنة وفقهها (1/ 319).

ص: 58

‌الحديث السابع: دعاء الكرب

عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي رضي الله عنه كان يقول عند الكرب: وفي رواية: إذا حَزَبَهُ أمر: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض، ورب العرش الكريم»

(1)

.

معاني الكلمات:

الكلمة

معناها

حَزَبَهُ أمر

أي: نابه، وهجم عليه، وألمَّ به أمر شديد

(2)

.

التعليق:

هذا هو دعاء الكرب.

قال الطيبي رحمه الله

(3)

: (صُدِّر هذا الثناء بذكر الرب؛ ليناسب كشف الكرب، لأنه مقتضى التربية، وفيه التهليلُ المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة التي تدل على تمام القدرة، والحلم الذي يدل على العلم، إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصلُ الأوصاف الإكرامية.

وفي لفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم»

(4)

.

وفي هذا دليل على أن الثناء قد يسمى دعاء.

(1)

أخرجه البخاري برقم (6346)، ومسلم برقم (2730).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (17/ 48).

(3)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 146).

(4)

أخرجه البخاري برقم (6345)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، واللفظ له.

ص: 59

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(1)

: (قال الطبري: معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما: يدعو، وإنما هو تهليل وتعظيم يحتمل أمرين:

أحدهما: أن المراد تقديم ذلك قبيل الدعاء

، وفي الأدب المفرد

(2)

من طريق عبد الله بن الحارث، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما فذكره، وزاد في آخره:«اللهم اصرف عني شره» . قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء.

ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة فيما حدثنا حسين بن حسن المروزي، قال: سألت ابن عيينة عن الحديث الذي فيه: «أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» ، الحديث، فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه دعاء

(3)

.

وقال أمية بن أبي الصلت في مدح عبد الله بن جدعان:

أأذكر حاجتي أم قد كفَاني

حياؤُك إن شيمتَك الحياءُ

إذا أثنى عليك المرءُ يومًا

كفَاه من تعرُّضِك الثناءُ

قال سفيان: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق؟

قلت: ويؤيد الاحتمال الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رفعه: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له» .

(1)

ينظر: فتح الباري (11/ 147).

(2)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (702). وصححه الألباني.

(3)

ذكره البيهقي في فضائل الأوقات برقم (193).

ص: 60

أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم، وفي لفظ للحاكم فقال رجل: أكانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا تسمع إلى قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]»

(1)

.

وقال ابن بطال رحمه الله

(2)

: (حدثني أبو بكر الرازي قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم أكتب الحديث، وهناك شيخ يقال له: أبو بكر بن علي عليه مدار الفتيا، فسعي به عند السلطان فسجن، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عليه السلام عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه، قال: فأصبحت فأخبرته، فدعا به فلم يكن إلا قليلًا حتى أُخرج). انتهى.

وأخرج بن أبي الدنيا في كتاب الفرج بعد الشدة له

(3)

، من طريق عبد الملك بن عمير، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان: انظر الحسن بن الحسن فاجلده مائة جلدة، وأوقفه للناس، قال: فبعث إليه، فجيء به، فقام إليه علي بن الحسين فقال: يا ابن عم تكلم بكلمات الفرج يفرج الله عنك، فقالها فرفع إليه عثمان رأسه، فقال: أرى وجه رجل كُذب عليه، خلوا سبيله فسأكتب إلى أمير المؤمنين بعذره فأطلق.

(1)

أخرجه الترمذي برقم (3505)، والنسائي في الكبرى برقم (10417)، والحاكم في المستدرك برقم (1862، 1865)، عن سعد بن مالك رضي الله عنه. وصححه الألباني.

(2)

ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 109)، والتوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (29/ 275)، وفتح الباري لابن حجر (11/ 147)، وعمدة القاري للعيني (22/ 303)، ودليل الفالحين لطرق رياض الصالحين للبكري (7/ 305).

(3)

ينظر: الفرج بعد الشدة لابن أبي الدنيا (ص 66)، برقم (64).

ص: 61

وأخرج النسائي

(1)

من طريق الحسن بن الحسن بن علي، قال: لما زوج عبد الله بن جعفر ابنته قال لها: إن نزل بك أمر فاستقبليه بأن تقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين.

قال الحسن: فأرسل إليَّ الحجاج فقُلْتُهُن فقال: والله لقد أرسلتُ إليك وأنا أريد أن أقتلَك، فلأنت اليوم أحبُّ إلي من كذا وكذا، وزاد في لفظ: فسل حاجتك.

ومما ورد من دعوات الكربِ ما أخرجه أصحاب السنن

(2)

إلا الترمذي، عن أسماء بنت عميس، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئًا» . وأخرجه الطبري من طريق أبي الجوزاء عن بن عباس مثله.

ولأبي داود وصححه ابن حبان

(3)

، عن أبي بكرة رفعه:«دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا اله الا أنت» .

من فوائد الحديث:

الأول: فيه أن الأنبياء كغيرهم من البشر يصيبهم الكرب والحزن الشديد، ولكن ذلك لا يكون بسبب دنيا فائتة، أو مغنم زائل، وإنما جل حزنهم وكربهم

(1)

أخرجه النسائي في الكبرى برقم (10404)، وفي عمل اليوم والليلة برقم (643)، والخرائطي في مكارم الأخلاق برقم (1044).

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (27082)، وأبو داود برقم (1525)، وابن ماجه برقم (3882)، والنسائي في الكبرى برقم (10408).

(3)

أخرجه أبو داود برقم (5090)، وأحمد في المسند برقم (20430)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (701)، وابن حبان في صحيحه برقم (970). وحسنه الألباني.

ص: 62

على هداية الخلق، وإعراض أكثرهم عن الحق، ولذلك قال تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، وقال:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8].

الثاني: فيه فضيلة ذكر الله عز وجل، وبخاصة عند الكرب والحزن، كما قال سبحانه:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله

(1)

: (أن الذكر: يزيل الهم والغم عن القلب، وأنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط، وأنه يقوي القلب والبدن، وأنه ينور الوجه والقلب، وأنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، فإن الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشة لا تزول إلا بالذكر).

الثالث: فيه فضيلة كلمة التوحيد وأن لها تأثيرًا كبيرًا في كشف الكروب، وإزالة الهم والغم والحزن.

الرابع: فيه فضيلة أسماء الله: العظيم والحليم والكريم، وتأثيرها في كشف الكرب، وزوال الهم والغم والحزن.

الخامس: فيه إشارة إلى أن العبد لا يستغني عن ربه طرفة عين، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفر إلا إليه، وأنه ليس لها من دون الله كاشفة.

(1)

ينظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص 42).

ص: 63

‌الحديث الثامن: الندم توبة

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الندم توبة»

(1)

.

التعليق:

هذا الحديث صحيح الإسناد.

والمعنى: ما علم الله ندامة على ذنب من عبد الا غفر الله له قبل أن يستغفر الله.

قال بعضهم: يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه؛ فإنه يستلزم: الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود، فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه

(2)

.

وقد ضعَّف هذا القول الحافظ ابن حجر رحمه الله

(3)

فقال: (وقد تمسك من فسر التوبة بالندم بما أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه: «الندم توبة»، ولا حجة فيه؛ لأن المعنى الحضُّ عليه، وأنه الركن الأعظم في التوبة، لا أنه التوبة نفسها).

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (3568 - 4012)، وابن ماجه برقم (4250)، والطبراني في الأوسط برقم (5864) والحاكم في المستدرك برقم (7612)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 154). وصححه الحاكم وقال الذهبي: صحيح. وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 471)، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند برقم (3568): إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6802).

(2)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (13/ 471)، وإرشاد الساري للقسطلاني (10/ 439).

(3)

ينظر: فتح الباري (11/ 103).

ص: 64

وذكر الحافظ رحمه الله

(1)

أيضًا شروط التوبة، ونقل عن القرطبي في المفهم أنه ضعف القول الذي قصرها على التوبة فقط، وبين حقيقة التوبة شروطها ومكمِّلاتها، فقال:

(والتوبة: ترك الذنب على أحد الأوجه.

وفي الشرع:

- ترك الذنب لقبحه.

- والندم على فعله.

- والعزم على عدم العود.

- ورد المظلمة إن كانت، أو طلب البراءة من صاحبها، وهي أبلغ ضروب الاعتذار.

وقال القرطبي رحمه الله في المفهم: اختلفت عبارات المشايخ فيها: فقائل يقول: إنها الندم، وآخر يقول: إنها العزم على ألَّا يعود، وآخر يقول: الإقلاع عن الذنب، ومنهم من يجمع بين الأمور الثلاثة وهو أكملها، غير أنه مع ما فيه غير مانع ولا جامع:

أمَّا أولًا: فلأنه قد يجمع الثلاثة ولا يكون تائبًا شرعًا، إذ قد يفعل ذلك شحًّا على ماله، أو لئلا يعيِّره الناس به، ولا تصح التوبة الشرعية إلا بالإخلاص، ومن ترك الذنب لغير الله لا يكون تائبًا اتفاقًا.

وأما ثانيًا: فلأنه يخرج منه من زنى مثلًا ثم جُبَّ ذكرُه، فإنه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضى، وأما العزم على عدم العود فلا يتصور منه.

(1)

ينظر: المصدر السابق (11/ 103).

ص: 65

قال: وبهذا اغتر من قال: إن الندم يكفي في حد التوبة، وليس كما قال، لأنه لو ندم ولم يقلع وعزم على العود لم يكن تائبًا اتفاقًا.

قال: وقال بعض المحققين: هي اختيارُ ترك ذنبٍ سبق حقيقةً أو تقديرًا لأجل الله.

قال: وهذا أسدُّ العبارات وأجمعها؛ لأن التائب لا يكون تاركا للذنب الذي فرغ لأنه غير متمكن من عينه لا تركا ولا فعلا، وإنما هو متمكن من مثله حقيقة، وكذا من لم يقع منه ذنب، إنما يصحُّ منه اتقاء ما يمكن أن يقع لاترك مثل ما وقع، فيكون متقيا لا تائبا.

قال: والباعث على هذا تنبيهٌ إلهيٌّ لمن أراد سعادته لقبح الذنب وضرره، لأنه سم مهلك، يفوت على الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، ويحجبه عن معرفة الله تعالى في الدنيا، وعن تقريبه في الآخرة.

قال: ومن تفقد نفسه وجدها مشحونة بهذا السم، فإذا وُفِّق انبعث منه خوف هجوم الهلاك، عليه فيبادر بطلب ما يدفع به عن نفسه ضرر ذلك، فحينئذ ينبعث منه الندم على ما سبق، والعزم على ترك العود عليه.

قال: ثم اعلم أن التوبة إما من الكفر وإما من الذنب؛ فتوبة الكافر مقبولة قطعًا، وتوبة العاصي مقبولة بالوعد الصادق.

ومعنى القبول: الخلاص من ضرر الذنوب حتى يرجع كمن لم يعمل.

ثم توبة العاصي إما من حق الله، وإما من حق غيره: فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك على ما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك فقط، بل أضاف إليه القضاء أو الكفارة.

ص: 66

وحق غير الله يحتاج إلى إيصالها لمستحقها، وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب، لكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعات، ويبدل السيئات حسنات والله أعلم.

قلت: حكى غيره عن عبد الله بن المبارك في شروط التوبة زيادة فقال: الندم، والعزم على عدم العود، وردُّ المظلمة، وأداء ما ضيع من الفرائض، وأن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيذيبه بالهم والحزن، حتى ينشأ له لحم طيب، وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذة المعصية. قلت: وبعض هذه الأشياء مكمِّلات).

من فوائد الحديث:

الأول: الإشارة إلى نعمة التوبة، وبيان سعة رحمة الله، حيث أرشد عباده إلى طريق النجاة، ولم يضيق على العصاة، بل فتح لهم باب التوبة والإنابة، وهو سبحانه يحب التائبين ويقبل التوبة كما قال سبحانه:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25].

الثاني: أهمية الندم وأنه ركن التوبة الأعظم، ولا تصح التوبة إلا به.

ص: 67

‌الحديث التاسع: قل خيرًا أو اصمت

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»

(1)

.

التعليق:

قال النووي رحمه الله

(2)

: (فهذا الحديث المتفق على صحته نصّ صريح في أنه لا ينبغي أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شكّ في ظهور المصلحة فلا يتكلم. وقد قال الإِمام الشافعي رحمه الله: إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلَّم، وإن شكَّ لم يتكلم حتى تظهر).

وهذا الحديث من الأحاديث النبوية الجامعة، وهو توجيه للذين يهمون بالكلام أن يتريثوا ويتفكروا بكلامهم الذي يريدون أن يتكلموا به، فإن كان خيرًا فنعم القول هو وليقله، وإن كان شرًّا فلينته عنه فهو خيرٌ له.

قال ابن حجر رحمه الله

(3)

: (وهذا -أي: هذا الحديث- من جوامع الكلم؛ لأن القول كله إمّا خيرٌ وإمّا شرٌّ، وإما آيلٌ إلى أحدهما، فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضُها وندبُها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شرٌّ أو يؤول إلى الشر، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت).

وقال النووي رحمه الله

(4)

: (اعلم أنه على كلّ مكلّف أن يحفظَ لسانَه عن

(1)

أخرجه البخاري برقم (5673)، ومسلم برقم (48).

(2)

ينظر: الأذكار للنووي (ص 332).

(3)

ينظر: فتح الباري (10/ 461).

(4)

ينظر: الأذكار للنووي (ص 332).

ص: 68

جميع الكلام إلا كلامًا تظهرُ المصلحة فيه، ومتى استوى الكلامُ وتركُه في المصلحة، فالسنّة الإِمساك عنه، لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء).

وفي وجوب حفظ اللسان والضرر الناتج عن كثرة الكلام ورد الكثير من الأحاديث والآثار، فمن ذلك على سبيل المثال:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الإِسْلامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ المسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدِه»

(1)

. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ يَضْمَنْ لِى مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»

(2)

. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله لَا يُلْقِى لَهَا بَالًا، يَرْفَعُ الله بِهَا لَهُ دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله لَا يُلْقِى لَهَا بَالًا، يَهْوِى بِهَا في جَهَنَّمَ»

(3)

.

وعن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ الله لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ الله لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (4)، ومسلم برقم (42). وأخرجه مسلم برقم (40)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري برقم (6474).

(3)

أخرجه البخاري برقم (6478).

(4)

أخرجه الترمذي برقم (2319)، وابن ماجه برقم (3969)، ومالك في الموطأ (2/ 985) برقم (1781). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (888)، وفي صحيح الترغيب والترهيب برقم (2878).

ص: 69

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ»

(1)

.

من فوائد الحديث:

أولًا: وجوب حفظ اللسان وخطورة إطلاقه.

ثانيًا: فيه أن الإيمان قول وعمل، وأن الأعمال والأقوال الظاهرة من لوازم الإيمان التي لا تنفك عنه وهو الموافق لمذهب أهل السنة والجماعة.

ثالثًا: فيه أن الإيمان يمنع صاحبه من إطلاق لسانه والتكلم بالباطل.

رابعًا: فيه فضيلة الكلام إذا كان بالخير والحق، قال تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

خامسًا: فيه فضيلة الصمت وبخاصة عن المحرمات والمكروهات، وما لا فائدة فيه من الكلام.

(1)

أخرجه أحمد في المسند (5/ 259)، والترمذى برقم (2406)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 492)، برقم (805). قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2741).

ص: 70

‌الحديث العاشر: من جر إزاره خيلاء

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جرَّ ثوبه خُيَلاء، لم ينظر اللهُ إليه يوم القيامة» ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن أحد شِقَّيْ ثوبي يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنك لستَ تصنعُ ذلك خُيَلاء»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

الْخُيَلَاء والمَخِيلة

التكبر والتبختر والزهو، وكل ذلك أشر وبطر، وازدراء على الناس واحتقار لهم، والله لا يحب كل مختال فخور.

لم ينظر الله إليه

أي: لم ينظر الله إليه نظر رحمة. وهذا قد يكون في حال دون حال، وفي وقت دون وقت.

فمن الأحوال: أن يكون يعتقد ذلك جائزًا، فيكون متكبرًا على الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الإسلام، فإن كان ذلك فقد كفر، أو يكون ذلك في وقت حتى يغفر الله له بما معه من حسنات أو إيمان.

التعليق:

قال ابن عبد البر رحمه الله

(3)

: (وهذا الحديث يدل على أن من جر إزاره من

(1)

أخرجه البخاري برقم (3665).

(2)

ينظر: المسالك في شرح موطأ مالك لأبي بكر بن العربي (7/ 292)، وشرح النووي على مسلم (14/ 60).

(3)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (3/ 244).

ص: 71

غير خيلاء ولا بطر أنه لا يلحقه الوعيد المذكور، غير أن جرَّ الإزار والقميص وسائر الثياب مذموم على كل حال، وأما المستكبر الذي يجر ثوبه فهو الذي ورد فيه ذلك الوعيد الشديد، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل أنه قال:«الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدة منهما أدخلته النار»

(1)

.

روى كريب بن إبراهيم رضي الله عنه عن أبي ريحانة رضي الله عنه، سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل شيء من الكبر الجنة»

(2)

.

وترك التكبر واجبٌ، وهيئة اللباس سنة، قال صلى الله عليه وسلم:«أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ولا جناح عليه فيما بين ذلك إلى الكعبين، ما أسفل من ذلك ففي النار»

(3)

، يعني: أن هذا مستحق، من فعل ذلك وهو عالم بالنهي مستخف بما جاءه عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن عفا الله عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة.

ومما يدل على أن جر الإزار مذموم على كل حال؛ ما ذكره أبو زرعة رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة رضي الله عنه، أنه أخبرهم عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول لابن ابنه عبد الله بن واقد رضي الله عنه: يا بني ارفع إزارك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء»

(4)

، ألا ترى

(1)

أخرجه أبو داود برقم (4090)، وابن ماجه برقم (4174 - 4175)، وأحمد في المسند برقم (8894 - 9359)، وهو عند مسلم برقم (2620)، بلفظ:«العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته» .

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (17206 - 17207)، والطبراني في مسند الشاميين برقم (1071)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (7804).

(3)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(4)

أخرجه أحمد في المسند برقم (4567).

ص: 72

أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يقل لابن ابنه هل تجرُّه خيلاء؟ بل أرسل ذلك إرسالًا؛ خوفًا منه أن يكون ذلك خيلاء، ولو صحَّ أنه ليس خيلاء؛ لدينه إن شاء الله).

قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله

(1)

: (إن السنَّة ذمُّ الإسبال، وبالأخص ما نزل عن الكعبين من إزار وثوب وعباءة، وذلك بالنسبة للرجال فقط، وقال: إن المسبل لا يكون مرتكبًا كبيرة إلا إذا كان إسْبَالُهُ خيلاءً، ولا يكون في النار إلا إذا كان إسْبَالُهُ خيلاء، وقال: إن ذلك هو الذي يقتضيه الجمع بين الأدلة).

وسُئل الشيخ عبد الله البسام رحمه الله عن الإسبال

(2)

:

يقول السائل: إن في أسفل رجلي تشويهًا من آثار حروق قديمة، وأنا أجعل الثوب طويلًا لأغطيه؛ فيكون مسبلًا، فهل هذا حرام؟

فأجاب الشيخ: (إن العلماء يقولون: إذا أسبل ليغطي مثل ما ذكر السائل فلا بأس، ولا يُعدُّ حرامًا).

وقال الشيخ الألباني رحمه الله

(3)

: (وهنا شبهةٌ ترِد كثيرًا في مثل هذه المناسبة، يقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال في الحديث السابق: «مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ خُيَلَاءَ» ، فنحن اليوم سواءً كنا شبابًا أو شيوخًا، لا نجرُّ الثياب تحت الكعبين خيلاء، وإنما هو عادة وموضة.

ويحتج أولئك بما جاء في صحيح البخاري: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع هذا الوعيد الشديد لمن يجر إزاره خيلاء، قال: يا رسول الله! فإن ثوبي يقع،

(1)

سمعت ذلك منه في إحدى دروسة في الحرم المكي.

(2)

سمعت ذلك منه في إحدى دروسة في الحرم المكي.

(3)

ينظر: دروس صوتية للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، على موقع الشبكة الإسلامية على الإنترنت، قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.

ص: 73

فقال له عليه الصلاة والسلام: «إنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلاءَ»

(1)

، فيتمسك أولئك بقول الرسول عليه الصلاة والسلام هذا لأبي بكر، ويحتجون به على أن إطالة الثوب تحت الكعبين إنما يكون ممنوعًا إذا اقترن بهذا القصد السيئ، ألا وهو: الخيلاء والتكبر.

وجوابي على هذا من وجهين اثنين:

الوجه الأول: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يقل: أنا حينما أُفَصِّل ثوبي أجعله طويلًا تحت الكعبين لا أقصد بذلك الخيلاء، وإنما قال: يقع! وهذا يعرفه الذين اعتادوا أن يلبسوا العباءة، فقد تكون العباءة مُفَصَّلة حسب السنة، أي: فوق الكعبين؛ لكن مع الانطلاق والسير والعمل والصلاة تصبح العباءة متدليةً إلى الخلف، فتنزل إلى ما تحت الكعبين، هذا هو الذي أشار إليه أبو بكر رضي الله عنه في سؤاله، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلاءَ» .

أما أن يأتي الرجل فيُفَصِّل الثوب -أيَّ: ثوبٍ كان مما سبقت الإشارة إليه- طويلًا خلافًا للشرع، ويبرر ذلك بأنه لا يفعل ذلك خيلاء، فهذا من تلبيسات الشيطان على بني الإنسان.

وبعد هذا نقول في الجواب عن هذه الشبهة، بعد أن أوضحنا أن حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنَّما يعني الثوب الذي يستطيل بدون قصد صاحبه، ما لَمْ يُوْصِلْه صاحبه ويفصِّله طويلًا تحت الكعبين، ويدَّعي أنه إنما يفعل ذلك بغير قصد الخيلاء، نقول:

ليس من المفروض في المجتمع الإسلامي الصحيح أن يعمل المسلم -فضلًا عن جماهير المسلمين- عملًا يحتاج كل منهم إلى أن يبرر هذا العمل بحسن النية،

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 74

فهذا الأمر لا يكاد ينتهي، وهذا يخالف نصوصًا من الأحاديث الصحيحة التي تربي المسلم على ألاَّ يعمل عملًا، وألاَّ يتكلم كلامًا، وألاَّ يقول قولًا يحتاج بعد ذلك كله إلى أن يقدم له عذرًا، حيث قال عليه الصلاة والسلام:«لا تَكَلَّمَنَّ بكلام تعتذر به عند الناس»

(1)

، وهذا خاص بالكلام؛ لكن يأتي الحديث الآخر يشمله ويشمل غيره من الأعمال، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ!»

(2)

.

فمن يطيل ثوبه تحت الكعبين، فيُنْكِرُه عليه العارف بالسنة، فيقول: يا أخي! أنا لا أفعل ذلك خيلاءً، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

فأولًا: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وعرف تواضعه، وأنه قد تبرأ من الكِبْر ولو ذرة منه، فقال وشهد له بأنه لا يفعل ذلك خيلاء، فليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد يستطيع أن يشهد مثل هذه الشهادة لإنسان آخر، لا سيما في مثل هذه المجتمعات الفاسدة.

وثانيًا: قد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: «أزْرَة المؤمن إلى أنصاف ساقيه»

(3)

.

(1)

عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: جاء رجلٌ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: عِظْنِي وَأَوْجِزْ، فقال:«إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَاجْمَعِ الإِيَاسَ مِمَّا فِي يَدَيِ النَّاسِ» . أخرجه أحمد في المسند (5/ 412)، برقم (2354)، وابن ماجه برقم (4171)، والطبراني في الكبير (4/ 154)، برقم (3987)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 362)، والبيهقي في الزهد الكبير (2/ 87)، برقم (102). قال البوصيري في الزوائد (3/ 285): هذا إسناد ضعيف، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (742)، وفي السلسلة الصحيحة برقم (401).

(2)

أخرجه الضياء في المختارة برقم (2199)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3776).

(3)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 914)، برقم (1631)، وأحمد في المسند برقم (11925)، وأبو داود برقم (4093)، وابن ماجه برقم (2/ 1183)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (921)، وفي صحيح الترغيب والترهيب برقم (2031).

ص: 75

وهذا الحديث يضع لك منهجًا عمليًّا يجب أن تلتزمه، دون أن تبرر مخالفتك إياه بحجة أنك لا تفعل تلك المخالفة خيلاء، حيث يقول:«أِزْرَةُ المؤمن إلى أنصاف، ساقيه، لا جناح عليه ما بينه وبين الكعبين، وأسفل من الكعبين في النار» ، فهنا لا يُسْمَعُ مِنْ أحد يطيل ثوبه إلى ما تحت الكعبين أنه لا يفعل ذلك خيلاءً؛ لأننا نقول: إنك تفعل ذلك مخالفة لهذا النهج النبوي، وانتهى الأمر.

أما إن انضمَّ إلى ذلك أنك فعلتَه خيلاءً فقد استحققت ذلك الوعيد الشديد، ألاَّ ينظر الله تبارك وتعالى إليك يوم القيامة نظرةَ رحمة.

هذه تذكرة أردتُ أن أوجهها إليكم؛ لإرشاد من كان يريد منكم أن يكون تحت رحمة ربه عز وجل يوم يُحْشَر الناس: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]).

من فوائد الحديث:

أولًا: تحريم الكبر وأنه يهلك صاحبه.

ثانيًا: فيه إثبات صفة الرؤية لله عز وجل كالبصر والنظر- وهي صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عز وجل بالكتاب والسنة.

ثالثًا: قال ابن حجر رحمه الله

(1)

: (في الحديث اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها، وهو أصل مطرد غالبًا).

فليس المسبل بطرًا كالمسبل عادة، أو المسبل لحاجة أو ضرورة، ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(2)

: (ويستثنى من إسبال الإزار مطلقًا ما أسبله

(1)

ينظر: فتح الباري (10/ 255).

(2)

ينظر: فتح الباري (10/ 257).

ص: 76

لضرورة؛ كمن يكون بكعبيه جرح، يؤذيه الذباب مثلًا إن لم يستره بإزاره، حيث لا يجد غيره، نبَّه على ذلك شيخنا في شرح الترمذي، واستدل على ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة

(1)

، والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنه من أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي، ويستثنى أيضًا من الوعيد في ذلك النساء).

ص: 77

‌الحديث الحادي عشر: السحت

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النار أولى به»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

السُّحت

هو المال الحَرَام الذي لا يَحِلُّ كسْبُه؛ لأنه يَسْحَت البركة، أي: يُذْهبها.

والسَّحت: من الإهْلاك والاستِئصال.

والسُّحت أيضًا: كل ما يأخذه العامل والحاكم على إبطال حق أو تحقيق باطل.

التعليق:

قال أبو حاتم ابن حبان رحمه الله

(3)

: (

وقوله: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ لَحمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ» ، يريد به جنة دون جنة؛ لأنها جنان كثيرة، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (14441)، والترمذي برقم (614)، والدارمي برقم (2818)، والحاكم في المستدرك (4/ 469)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (5761)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 247): رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح، وقال محقق مسند الإمام أحمد: إسناده قوي على شرط مسلم، ورجاله ثقات غير ابن خثيم -وهو عبد الله بن عثمان- فصدوق لا بأس به، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1728).

(2)

ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/ 333)، كشف المشكل لابن الجوزي (4/ 240)، وفتح الباري لابن حجر (4/ 454).

(3)

ينظر: صحيح ابن حبان (5/ 10).

ص: 78

«لا يدخل الجنة ولد الزنى، ولا يدخل العاق الجنة، ولا منان»

(1)

، يريد جنة دون جنة)

(2)

.

وقال في مرقاة المفاتيح

(3)

: («لا يدخل الجنة» : أي: دخولًا أوليًّا مع الناجين؛ بل بعد عذابٍ بقدر أكله للحرام ما لم يُعْفَ عنه، أو لا يدخل منازله العليَّة.

أو المراد: ألَّا يدخلها أبدًا إن اعتقد حلَّ الحرام، وكان معلومًا من الدين بالضرورة.

أو المراد به: الزجر والتهديد والوعيد الشديد، ولذا لم يقيده بنوع من التقييد.

«لحم» : أي صاحب لحم.

«نبت من السحت» : بضم السين والحاء وسكونها: الحرام، لأنه يسحت البركة، أي: يذهبها.

وأسند عدم دخول الجنة إلى اللحم لا إلى صاحبه إشعارًا بالعِلِّيَّة، وأنه خبيث لا يصلح أن يدخل الطيبَ، لأن الخبيث للخبيث، ولذا أتبعه بقوله:«وكل لحم نبت من سحت كانت النار» ، وفي نسخة:«كان النار أولى به» ، أي: من الجنة؛ لتطهره النار عن ذلك بإحراقها إياه.

وهذا على ظاهر الاستحقاق، أما إذا تاب، أو غفر له من غير توبة وأرضى خصومه، أو نالته شفاعة شفيع، فهو خارج من هذا الوعيد).

(1)

أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (1723)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

(2)

ينظر: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان للألباني (2/ 257).

(3)

ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (5/ 1899) رقم (2772).

ص: 79

من فوائد الحديث:

أولَّا: التحذير من أكل الحرام، وأنَّه سبب للهلاك ولدخول النار.

ثانيًا: أن أكل السحت يذهب البركة في المال والوقت والصحة والأبناء وغير ذلك.

ثالثًا: يشير الحديث إلى وجوب التوبة من المحرمات، وإرضاء الخصوم؛ طلبًا للنجاة من النار.

ص: 80

‌الحديث الثاني عشر: الحياء

عن ابن مسعود رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إِذا لم تَسْتَح فَاصْنَعْ مَا شِئْت»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

الحياء

خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حقِّ صاحب الحق.

من كلام النبوة الأولى

أَنْ الْحيَاء لم يزل ممدوحًا على ألسن الْأَنْبِيَاء الْأَوَّلين، منذ آدم فما بعده، وهو مأمورٌ بِهِ لم يُنْسَخ فِي شرع، أي: تتواصي به الأمم، وينقله الأبناء عن الآباء لعظم مقدار صفة الحياء عند العقلاء.

التعليق:

لا شك أن الحياء كلَّه خير، وقد جاء في الحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:«الحياء كله خير»

(3)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يعظُ أخاه في الحياء

(4)

، فقال:«الحياءُ من الإيمان»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (6120).

(2)

ينظر: معالم السنن للخطابي (4/ 109)، وكشف المشكل لابن الجوزي (2/ 203)، والتنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (1/ 192)، ومدارج السالكين لابن القيم (2/ 249).

(3)

أخرجه مسلم برقم (37).

(4)

يعظ أخاه في الحياء: يعاتبه على كثرة حيائه.

(5)

أخرجه البخاري برقم (24)، ومسلم برقم (36) واللفظ له، ولفظ البخاري:«دعه، فإن الحياء من الإيمان» .

ص: 81

قال ابن القيم رحمه الله

(1)

: (والحياء من الحياة، ومنه الحيا للمطر، لكنه مقصور، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتمّ، قال الجنيد: الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء).

وقال الصنعاني رحمه الله

(2)

: (قوله: «فاصنع ما شئت» : فيه معنيان مشهوران:

الأول: أي: إذا لم تستح من العيب ولم تخش العار مما تفعله، فافعل ما تحدثك به نفسك من إعراضها حسنًا كان أو قبيحًا، فلفظه: أمر، ومعناه تهديد وتوبيخ.

وفي معناه قيل:

إذا لم تصُن عِرْضًا ولم تَخْشَ خالقًا

وتستحْيِ مخْلوقًا فما شئتَ فاصنعِ

والثاني: أن معناه: إذا لم يكن فيما تأتيه عيب ولا نكارة تستحي من إتيانه فاصنعه، فجعل الحياء معيارًا وميزانًا لما يباح للإنسان فعله، وقيل: معناه الإخبار أن من لم يستح فهو يصنع ما يشاء).

ومثَّل ابن الجوزي رحمه الله لكل وجهٍ بمثال فقال

(3)

: (وَفِي قَوْله: «إِذا لم تَسْتَح فَاصْنَعْ مَا شِئْت» ثَلَاثَة أوجه:

أَحدهَا: أَنه بِمَعْنى الْخَبَر، وَإِنْ كَانَ لَفظه لفظ الْأَمر، كَقَوْلِه:«فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار»

(4)

، فَيكون المَعْنى: إِذا لم يمنعك الحيَاء صنعت مَا شِئْت، وَهَذَا على جِهَة الذَّم لترك الحيَاء، وَهَذَا قَول أبي عبيد.

(1)

ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/ 249).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (1/ 192).

(3)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (2/ 203)، ومعالم السنن للخطابي (4/ 110).

(4)

أخرجه البخاري برقم (1291)، ومسلم برقم (4)، عن المغيرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كذبَّا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار» .

ص: 82

وَالثَّانِي: أَنه وَعِيد على ترك الحيَاء، وَالمعْنَى: إِذا لم تَسْتَحِ فافعل مَا تُرِيدُ فستجازى، كَقَوْلِه:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، قَالَه ثَعْلَب.

وَالثَّالِث: أَنْ الْمَعْنى: مَا لم تَسْتَح مِنْهُ إِذا ظهر فافعله، فَهُوَ فِي معنى قَوْله:«الْإِثْم حوًّاز الْقُلُوب»

(1)

، قَالَه أَبُو مُوسَى المروزِي الشَّافِعِي).

والحياء لا ينبغي أن يمنع صاحبه من الفضائل، وإلا لم يكن حياء ممدوحًا، كالذي يمنعه الحياء من طلب العلم أو طلب الرزق، أو طلب الحق الذي له عند غيره، أو القيام بالنصيحة عند وجود موجبها، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيره.

وَمن كَلَام بعض العلمَاء: (لا ينال العلم مستحي وَلَا متكبر، هَذَا يمنعهُ حياؤه من التَّعَلُّم، وَهَذَا يمنعهُ كبره).

وَمن كَلَام الْحسن رضي الله عنه: «من استتر عَنْ طلب العلم بِالحَيَاءِ لبس للجَهْل سرباله؛ فَقَطِّعُوا سرابيل الحَيَاءِ فانه من رقَّ وَجهُه رقَّ علمُه»

(2)

.

ومما نقل عن بعض السلف في الحياء غير الممدوح قول أمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: «قُرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان»

(3)

.

وقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: «الحياء يمنع الرزق» .

(1)

من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الطبراني في الكبير برقم (8748)، وأبو داود في الزهد برقم (125)، والبغوي في شرح السنة (13/ 77)، وقال: يعني: (ما حز في صدرك وحاك، ولم يطمئن عليه القلب، فاجتنبه، فإنه الإثم). وقال ابن عمر رضي الله عنه: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر).

(2)

ينظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 480).

(3)

ينظر: عيون الأخبار لابن قتيبة (2/ 123)، والعقد الفريد لابن عبد ربه (2/ 254)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 264)، ومفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 480).

ص: 83

وقال الشاعر

(1)

:

ارفع حياءَكَ فيما جئتَ طالبَه

إنَّ الحياءَ مع الحرمانِ مَقرونُ

يعني: إن حاجات النفس المشروعة من: علم، أو تعلم، أو طلب حق، أو أداء واجب، ونصح من يستحق، فينبغي ألَّا يمنعه من ذلك الحياء، فالحياء نعمة وجمال وخير، لكن لا حياء في أداء الواجب، أو طلب العلم، ونصح المسلمين ونحو ذلك.

وعلى هذا: فالحياء ذو حدين، إذا أعددنا غير المشروع نوعًا من الحياء، وكلّه خير إذا حجب عن المحرمات والوقاحة، كما قيل

(2)

:

وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي

وبينَ ركوِبها إِلا الحَياءُ

فكان هو الدواءُ لها ولكن

إذا ذهب الحياءُ فلا دواء

أنواع الحياء:

قال الماوردي رحمه الله

(3)

: (واعلم أن الحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه:

أحدها: حياؤه من الله تعالى.

والثاني: حياؤه من الناس.

والثالث: حياؤه من نفسه.

- فأما حياؤه من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره.

(1)

ينظر: العقد الفريد لابن عبد ربه (2/ 254).

(2)

ينظر: روضة العقلاء للدارمي (ص 58)، وأدب الدنيا والدين للماوردي (ص 220).

(3)

ينظر: أدب الدنيا والدين للماوردي (ص 248).

ص: 84

- وأما حياؤه من الناس فيكون بكفِّ الأذى وترك المجاهرة بالقبيح.

وروي أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أتى الجمعة، فوجد الناس قد انصرفوا فتنكب الطريق عن الناس، وقال:«لا خير فيمن لا يستحي من الناس، وهذا النوع من الحياء قد يكون من كمال المروءة وحب الثناء» .

- وأما حياؤه من نفسه فيكون بالعفة وصيانة الخلوات.

وقال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك. وقال بعض الأدباء: من عمل في السر عملًا يستحي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر.

ودعا قوم رجلًا كان يألف عشرتهم، فلم يجبهم، وقال: إني دخلت البارحة في الأربعين وأنا أستحي من سني.

وقال بعض الشعراء:

فسري كإعلاني وتلك خليقتي

وظلمة ليلي مثل ضوء نهاري

وهذا النوع من الحياء قد يكون من فضيلة النفس وحسن السريرة، فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة، فقد كملت فيه أسباب الخير، وانتفت عنه أسباب الشر، وصار بالفضل مشهورًا، وبالجميل مذكورًا.

وقال بعض الشعراء:

وإني ليثنيني عن الجهل والخنى

وعن شتم ذي القربى خلائق أربع

حياء وإسلام وتقوى وطاعة

لربي ومثلي من يضر وينفع

وإن أخلَّ بأحد وجوه الحياء لحقه من النقص بإخلاله بقدر ما كان يلحقه من الفضل بكماله).

ص: 85

رؤيا عجيبة:

قال الماوردي رحمه الله

(1)

: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ذات ليلة فقلت: يا رسول الله أوصني: فقال: «استح من الله عز وجل حق الحياء» ، ثم قال: تغير الناس، قلت: وكيف ذلك يا رسول الله؟، قال:«كنت أنظر إلى الصبي فأرى من وجهه البشر والحياء، وأنا أنظر إليه اليوم فلا أرى ذلك في وجهه»

(2)

.

ثم تكلم بعد ذلك بوصايا وعظات تصورتها، وأذهلني السرور عن حفظها ووددت أني لو حفظتها.

فلم يبدأ صلى الله عليه وسلم بشيء قبل الوصية بالحياء من الله عز وجل، وجعل ما سلبه الصبيُّ من البِشر والحياءِ سببًا لتغير الناس، وخصَّ الصبي؛ لأن ما يأتيه بالطبع من غير تكلف.

فصلى الله وسلم على من هدى أمته، وتابع إنذارها، وقطع أعذارها، وأوصل تأديبها، وحفظ تهذيبها، وجعل لكل عصر حظًّا من زواجره، ونصيبًا من أوامره. أعاننا الله على قبولها بالعمل، وعلى استدامتها بالتوفيق).

من فوائد الحديث:

الأول: فيه: تعظيم لقدر صفة الحياء، وأنه الخلق الذي يردع من ارتكاب القبيح، وذلك معلوم عند العقلاء، ولذلك قيل

(3)

:

إذا لم تخشَ عاقبةَ الليالي

ولم تستحْ فاصنع ما تشاءُ

فلا والله ما في العيشِ خيرٌ

ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ

يعيش المرء ما استحيا بخير

ويبقى العودُ ما بقي اللِّحاء

(1)

ينظر: أدب الدنيا والدين للماوردي (ص 249).

(2)

إذا كان هذا في عصر الماوردي المتوفي سنة 450 هجرية فكيف بعصرنا هذا؟! نسأل الله السلامة والعافية.

(3)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (1/ 192)، وأدب الدنيا والدين للماوردي (ص 248).

ص: 86

الثاني: فيه: أن الحياء خلق قديم نادى به الأنبياء جميعًا، وأنه لم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم، ولم يبدل فيما بدل منها، وذلك أنه أمر قد علم صوابه، وبان فضله، واتفقت العقول على حسنه، وما كان هذا صفته لم يجز عليه النسخ والتبديل

(1)

.

(1)

ينظر: معالم السنن للخطابي (4/ 109).

ص: 87

‌الحديث الثالث عشر: الوحدة في السفر والمبيت

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ»

(1)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ»

(2)

.

وزاد الإمام أحمد رحمه الله في روايته، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوحدة، أن يبيتَ الرجلُ وحده، أو يسافر وحده

(3)

.

(1)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 978)، وأحمد في المسند برقم (6748)، وأبو داود برقم (2607)، والترمذي برقم (1674)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 53).

(2)

أخرجه البخاري برقم (2998).

(3)

أخرجه أحمد في المسند برقم (5650). وقد حكم بعض العلماء بشذوذ رواية المبيت وحده، جاء في موقع الإسلام سؤال وجواب بإشراف الشيخ محمد المنجد ما يلي: (وهذه الرواية تعتبر شاذة، وترجح عليها رواية البخاري لسببين اثنين:

الأول: أن رواية البخاري رواها تسعة من أصحاب عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن ابن عمر. كلهم يقتصر على ذكر السفر دون المبيت، وانفرد واحد من تلاميذ عاصم بن محمد وهو عبد الواحد بن واصل بذكر النهي عن المبيت وحده. وهو وإن كان ثقة، إلا أن رواية الثقات أرجح من روايته.

الثاني: ويدل عليه أن رواية أحمد مروية بالمعنى، إذ لم يذكر الراوي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف رواية الأكثرين، ولذلك حكم محققو مسند أحمد (9/ 467)، ومثلهم الشيخ مقبل الوادعي في: أحاديث معلة (ص 249) بشذوذ رواية عبد الواحد، بخلاف الشيخ الألباني حيث حكم بصحتها، كما في السلسلة الصحيحة (ص 60). ينظر:

https:// islamqa.info/ ar/ answers/ 105280/ %D 8%AD%D 9%83%D 9%85 - %D 8%B 3%D 9%81%D 8%B 1 - %D 8%A 7%D 9%84%D 8%A 7%D 9%86%D 8%B 3%D 8%A 7%D 9%86 - %D 8%A 8%D 9%85%D 9%81%D 8%B 1%D 8%AF%D 9%87

وقد جاء النهي عن المبيت وحيدًا في بعض الآثار الصحيحة: فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لا يسافرن رجل وحده، ولا ينامن في بيت وحده» . صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 130). وسئل الإمام أحمد عن الرجل يبيت وحده؟ قال: أحب إليَّ أن يتوقى ذلك. ينظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 428).

ص: 88

معاني الكلمات

(1)

:

الكلمة

معناها

ركب

أي: جماعة.

شيطان

أي: عاصٍ.

التعليق:

قال الجوهري رحمه الله

(2)

: (قيل: السفر الذي يكره للواحد والاثنين الذي يقصر فيه الصلاة

(3)

، وذكر عن مالك فما دون ذلك فلا بأس به لواحد واثنين).

وقال الخطابي رحمه الله

(4)

: (قوله: «الراكب شيطان» : معناه والله أعلم: أن التفرد بالذهاب في الأرض من فعل الشيطان، أي: شيء يحمله عليه الشيطان ويدعوه إليه، فقيل: إن فاعله شيطان

وكذلك الاثنان ليس معهما ثالث، فإذا صاروا ثلاثة فهم ركب، أي: جماعة.

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل سافر وحده: «أرأيتم إن مات من أسأل عنه»

(5)

.

(1)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (6/ 53).

(2)

ذكره أبو القاسم الجوهري في مسند الموطأ (470).

(3)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (17/ 494)، وعمدة القاري للعيني (14/ 142).

(4)

ينظر: معالم السنن للخطابي (2/ 260).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في جامع معمر بن راشد برقم (19606).

ص: 89

قلت: المنفرد وحده في السفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه، ولا عنده من يوصي إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله، ويرد خبره عليهم، ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة، فإذا كانوا ثلاثة تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة، وصلوا الجماعة وأحرزوا الحظ منها).

وقال ابن عبد البر رحمه الله

(1)

: (وإنما سمي الواحد شيطانًا والاثنان شيطانان؛ لأن الشيطان في أصل اللغة: هو البعيد من الخير من قولهم: نوى شطون، أي: بائنة بعيدة، فالمسافر وحده يبعد عن خير الرفيق وعونه، والأنس به وتمريضه، ودفع وسوسة النفس بحديثه، ولا يؤمن على المسافر وحده أن يضطر إلى المشي بالليل فتعترضه الشياطين المردة هازلين ومتلاعبين ومفزعين.

وقد بلغنا ذلك عن جماعة المسافرين إذا سافروا منفردين، وكذلك الاثنان، لأنه إذا مرَّ أحدهما في حاجتهما بقي الآخر وحده، فإن شردت دابته أو نفرت، أو عرَض له في نفسه أو حاله شيء، لم يجد من يعينه ولا من يكفيه، ولا من يخبر بما يطرقه، فكأنه قد سافر وحده.

وإذا كانوا ثلاثة ارتفعت العلة المخوفة في الأغلب، لأنه لا يخرج الواحد مرة في الحاجة ويبقى الاثنان، ثم يخرج الآخر مرة أخرى ويبقى الاثنان، يكون هذا دأبًا في الأغلب في أمورهم، وإن خرج الاثنان لم يطل مكث الواحد وحده، هذا ونحوه والله أعلم ما أراد رسول الله بقوله ذلك صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضًا

(2)

: (في هذا الحديث كراهية الوحدة في السفر، وأتى هذا الحديث بلفظ الراكب، ويدخل الراجل في معناه إذا كان وحده.

(1)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (8/ 530).

(2)

ينظر: المرجع السابق (20/ 6).

ص: 90

ولم تختلف الآثار في كراهية السفر للواحد، واختلفت في الاثنين، ولم يُختلف في الثلاثة فما زاد أن ذلك حسن جائز.

وإنما وردت الكراهية في ذلك والله أعلم، لأن الوحيد إذا مرض لم يجد من يمرضه ولا يقوم عليه ولا يخبر عنه ونحو هذا).

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم، ما سار راكبٌ بليل وحده»

(1)

؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يجلس الرجل لوحده، أو يسافر لوحده دون أن يكون معه رفقة، لما في ذلك من المضار التي تترتب على ذلك.

قَالَ المهلب رحمه الله

(2)

: (نهيه صلى الله عليه وسلم عن الوَحدة في سير الليل إنما هو إشفاق على الواحد من الشياطين؛ لأنه وقت انتشارهم وأذاهم للبشر بالتمثيل لهم وما يفزعهم، ويدخل في قلوبهم الوساوس، ولذلك أمر الناس أن يحبسوا صبيانهم عند فحمة الليل).

وقال ابن بطال رحمه الله

(3)

: (فإن الناس مختلفو الأحوال متفاوتو الأسباب، فمن كَمِيٍّ باسل لا يهوله هائل، ولا يبقى غول غائل، فهو لا يبالى، وحده سلك المفاوز أو في عسكر، فذلك الذي أذن عمر في السير لمثله، من المدينة إلى الكوفة وحده، حين بلغه عن سعد أنه بنى قصرًا، وأمره بإحراق بابه، ومن مخيف الفؤاد يروعه كل منظر، ويهوله كل شخص، ويفزعه كل صوت، فذلك الذي يحرم عليه أن يسافر وحده، ويمكن أن يكون الذي نهاه الرسول

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (18/ 142).

(3)

ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 56).

ص: 91

صلى الله عليه وسلم، أن يبيت وحده كان بهذه الصفة، ومن أخذ بين ذلك الاحتياط له في نفسه ودينه، ترك السفر وحده، ومع آخر أيضًا، فمن كان الأغلب عليه الشجاعة، والقوة لم يكن إن شاء الله حرجًا ولا آثمًا، ومن كان الأغلب من قلبه الهلع، ومن نفسه الخور، خشيت عليه في السفر وحده الإثم والحرج، وأن يورثه ذلك العلل الردية).

جواز السفر وحده للحاجة:

وقد ورد في بعض الأحاديث ما يدل على جواز سفر الرجل وحده للحاجة، ومن ذلك:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس -قال صدقة: أظنه يوم الخندق- فانتدب الزبير رضي الله عنه، ثم ندب الناس، فانتدب الزبير رضي الله عنه، ثم ندب الناس، فانتدب الزبير رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن لكل نبي حواريًّا وإن حواري الزبير بن العوام»

(1)

.

وفي رواية النسائي

(2)

: قَالَ وهب بن كيسان: أشهد لسمعت جابرًا رضي الله عنه يقول: لما اشتد الأمر يوم بني قريظة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من يأتينا بخبر القوم» ، فلم يذهب أحد؛ فذهب الزبير رضي الله عنه، فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضًا، قال:«من يأتينا بخبرهم» ، فلم يذهب أحد، فذهب الزبير، ثم اشتد الأمر أيضًا، فقال:«إن لكل نبي حوارِيًّا وإن حواري الزبير» .

ورواه ابن أبي عاصم

(3)

من حديث وهب هذا، وفيه أن ذَلِكَ يوم الخندق.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2847)، ومسلم برقم (2415).

(2)

السنن الكبرى للنسائي برقم (8792).

(3)

أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (1393)، وهو كذلك في مسند أحمد برقم (14375).

ص: 92

وفي الترمذي

(1)

: الحواري: الناصر.

وقال عبد الرزاق

(2)

عن معمر: قَالَ قتادة: الحواري: الوزير.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(3)

: (وفيه جواز سفر الرجل وحده، وأن النهي عن السفر وحده إنما هو حيث لا تدعو الحاجة إلى ذلك).

وقال ابن بطال رحمه الله

(4)

: (وأما قصة الزبير رضي الله عنه فإنما هي ليعرف أمر العدو، والواحد الثابت في ذلك أخفى على العدو، وأقرب إلى التجسس بالاختفاء والقرب منهم، مع ما علم الله من نيته والتأييد عليها، فبعثه صلى الله عليه وسلم واثقًا بالله، ومع أن الوحدة ليست محرمة، وإنما هي مكروهة؛ فمن أخذ بالأفضل من الصحبة فهو أولى، ومن أخذ بالوحدة فلم يأت حرامًا).

وجمع المهلب بين الحديثين فقال

(5)

: (وليس بينهما تعارض لاختلاف المعنى في الحديثين؛ وهو أن الذي يسافر وحده لا يأنس بأحد ولا يقطع طريقه بمحدث يهون عليه مؤونة السفر، كالشيطان الذي لا يأنس بأحد ويطلب الوحدة ليغويه.

وأما سفر الزبير رضي الله عنه فليس كذلك، لأنه كان كالجاسوس يتجسس على قريش ما يريدون من حرب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يناسبه إلا الوحدة، على أنه

(1)

سنن الترمذي (5/ 646)، وهو كذلك في صحيح البخاري (4/ 57).

(2)

ينظر: تفسير عبد الرزاق (1/ 193).

(3)

ينظر: فتح الباري (6/ 53).

(4)

ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 155).

(5)

ينظر: عمدة القاري للعيني (14/ 142)، والتوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (17/ 494).

ص: 93

خرج في مثل هذا الأمر الخطير لحماية الدين وإظهار طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل عليه حفظ من الله تعالى ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فأين هذا من ذلك؟

ألا ترى أن عمر رضي الله عنه، لما بلغه أن سعدًا بنى قصرًا أرسل شخصًا وحده ليهدمه؟

وذكر ابن أبي عاصم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عبد الله بن أنس رضي الله عنهما سرية وحده؟

وبعث عمرو بن أمية وحده عينًا؟

وذكر ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم أرسل سالم بن عمير رضي الله عنه سرية وحده.

وحمل الطبري الحديث على جواز السفر للرجل الواحد إذا كان لا يهوله هولٌ، وإلا فممنوع من السفر وحده خشيةً على عقله، أو يموت فلا يدري خبرَه أحد ولا يشهده، كما قال عمر رضي الله عنه:«أرأيتم إذا سافر وحده فمات، من أسأل عنه؟» .

قال: ويحتمل أن يكون النهي عن السفر وحده نهي تأديب وإرشاد إلى ما هو الأولى. وقال ابن التين: وحمله الشيخ أبو محمد على السفر الذي تُقصر فيه الصلاة).

تغير الفتوى بتغير الواقع:

جاء في موقع الإسلام سؤال وجواب بإشراف الشيخ محمد المنجد

(1)

:

(1)

ينظر: موقع الإسلام سؤال وجواب بإشراف الشيخ المنجد.

https:// islamqa.info/ ar/ answers/ 105280/ %D 8%AD%D 9%83%D 9%85 - %D 8%B 3%D 9%81%D 8%B 1 - %D 8%A 7%D 9%84%D 8%A 7%D 9%86%D 8%B 3%D 8%A 7%D 9%86 - %D 8%A 8%D 9%85%D 9%81%D 8%B 1%D 8%AF%D 9%87

ص: 94

(والظاهر من الحديث أن النهي وارد على من يسافر في الطرق الخالية الموحشة، أما الطرق الآهلة، والتي يأمن فيها المرء ألا تنقطع به السبيل، ولا يعدم معينًا ولا أنيسًا، فلا يرد الكراهة ولا النهي عنه، ومثله السفر في أيامنا هذه في الطائرات أو السفن أو الحافلات، لأن من فيها كلها يعتبرون رفقة، فلم يتحقق وصف الوحدة المنهي عنه.

قال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب

(1)

: وهذا يدل على الحذر من سفر الإنسان وحده، ولكن هذا في الأسفار الذي لا يكون طريقها مسلوكًا بكثرة، وأما الأسفار الذي يكون طريقها مسلوكًا بكثرة وكأنك في وسط البلد، مثل طريق القصيم الرياض، أو الرياض الدمام، وما أشبه ذلك من الطرق التي يكثر فيها السالكون، ومثل طريق الحجاز في أيام المواسم، فإن هذا لا يعد انفرادًا في الحقيقة؛ لأن الناس يمرون به كثيرًا، فهو منفرد في سيارته وليس منفردًا في السفر، بل الناس حوله ووراءه وأمامه في كل لحظة. انتهى.

وقال الشيخ الألباني في تعليقه على هذا الحديث

(2)

: ولعل الحديث أراد السفر في الصحاري والفلوات التي قلما يرى المسافر فيها أحدًا من الناس، فلا يدخل فيها السفر اليوم في الطرق المعبدة الكثيرة المواصلات، والله أعلم). انتهى.

(1)

ينظر: الموقع الرسمي للشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

https:// binothaimeen.net/ content/ 9695? q 2=%D 9%8 A%D 8%AF%D 9%84%20%D 8%B 9%D 9%84%D 9%89%20%D 8%A 7%D 9%84%D 8%AD%D 8%B 0%D 8%B 1%20%D 9%85%D 9%86%20%D 8%B 3%D 9%81%D 8%B 1%20%D 8%A 7%D 9%84%D 8%A 5%D 9%86%D 8%B 3%D 8%A 7%D 9%86%20%D 9%88%D 8%AD%D 8%AF%D 9%87

(2)

ينظر: السلسلة الصحيحة (1/ 132)، برقم (61).

ص: 95

من فوائد الحديث:

أولَّا: جمهور العلماء على كراهة سفر الإنسان وحده لغير حاجة أو ضرورة، وأنه يجوز لوجودهما.

ثانيًا: تتأكد الكراهة لضعاف النفوس، الذين يخشى تلاعب الشيطان بهم.

ثالثًا: تزول الكراهة في السفر على الطرق المعبدة المسلوكة التي بها ما يحتاجه المسافر من خدمات؛ لانتفاء علة الكراهة.

رابعًا: أما مبيت الإنسان وحده فلا كراهة فيه على الصحيح، ولكن استحب بعض العلماء أن يتوقاه المرء.

ص: 96

‌الحديث الرابع عشر: من انتسب إلى غير أبيه

عن أبي ذر رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:«ليس من رجل ادعى لغير أبيه -وهو يعلمه- إلا كفر، ومن ادعى قومًا ليس له فيهم، فليتبوأ مقعده من النار»

(1)

.

وفي لفظ في الصحيح: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه -وهو يعلمه- إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلًا بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه»

(2)

.

معاني الكلمات

(3)

:

الكلمة

معناها

ادعى لغير أبيه

أي: انتسب إليه واتخذه أبًا.

وهو يعلم

قيدٌ لا بُدَّ منه؛ فإنَّ الإثم يتبَع العِلْمَ.

فليتبوأ مقعده من النار

أي: فلينزل منزله منها، أو فليتخذ منزلًا بها، وهو دعاء أو خبر بلفظ الأمر، وهذا أظهر القولين. ومعناه: هذا جزاؤه، فقد يجازى وقد يعفى عنه، وقد يوفق للتوبة فيسقط عنه.

ليس له فيهم

أي: ليس له فيهم نسب.

حار عليه

رجع عليه. والْحَور الرجوع، ومنه قوله تعالى:{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14].

(1)

أخرجه البخاري برقم (3508) واللفظ له، ومسلم برقم (61) باللفظ الآتي.

(2)

لفظ مسلم برقم (61).

(3)

ينظر: شرح النووي على مسلم (2/ 50)، وفتح الباري لابن حجر (6/ 540)، وإكمال المعلم للقاضي عياض (1/ 318).

ص: 97

التعليق:

من الكبائر انتساب الرجل إلى غير أبيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كفر دون كفر أو كفر النعمة، وهو مثل قول فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام:{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19]، أي: الكافرين لنعمة فرعون عليه؛ حيث تربَّى في قصره.

قال ابن حجر رحمه الله

(1)

: (وقوله: «ليس من رجل» : مِنْ زائدة، والتعبير بالرجل للغالب، وإلا فالمرأة كذلك حكمها.

وقوله: «ادعى لغير أبيه -وهو يعلمه- إلا كفر بالله» كذا وقع هنا؛ «كفر بالله» ، ولم يقع قوله: بالله في غير رواية أبي ذر ولا في رواية مسلم ولا الإسماعيلي وهو أولى. وإن ثبت ذاك، فالمراد: من استحل ذلك مع علمه بالتحريم.

وعلى الرواية المشهورة فالمراد كفر النعمة.

وظاهر اللفظ غير مراد، وإنما ورد على سبيل التغليظ والزجر لفاعل ذلك، أو المراد بإطلاق الكفر أن فاعله فَعَلَ فعلًا شبيها بفعل أهل الكفر).

وقوله: «ومن ادعى قومًا» ، أي: ومن انتسب إلى قوم.

وقوله: «ليس له فيهم» ، أي: ليس لهذا المدعي في هذا القوم نسب، أي: قرابة، وليس في رواية الكشميهني لفظة: نسب، وفي رواية مسلم:«ومن ادعى ما ليس له فليس منا» ، وهذه أعم من رواية البخاري، ولكن يحتاج فيها إلى تقدير، وأولى ما يقدر فيه لفظ: نسب، لوجوده في بعض الروايات

(2)

.

(1)

ينظر: فتح الباري (6/ 540).

(2)

ينظر: عمدة القاري للعيني (16/ 80)، وفتح الباري لابن حجر (6/ 540).

ص: 98

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن ادعى ما ليس له فليس منا» : (قال العلماء: معناه ليس على هدينا وجميل طريقتنا، كما يقول الرجل لابنه: لست مني)

(1)

.

وهذا عامٌّ لأنه يشمل من ادعى أبًا غير أبيه، كما يشمل من ادعى أي شيء له، فيدخل فيه جميع الادعاءات الباطلة، سواء كانت مالًا أو علمًا أو نسبًا أو قوة أو شرفًا أو حالًا أو صلاحًا أو نعمة أو ولاء أو غير ذلك

(2)

.

ومن العقوبات أيضًا: أن المدعي ما ليس له يحصل له نقيض مطلوبه، فمن تظاهر بشيء من الكمال، وتعاطاه وادعاه لنفسه وليس موصوفًا به، لم يحصل له من ذلك إلا نقيض مقصوده وهو النقص، فإن كان المدعى مالًا لم يبارك له فيه، أو علمًا أظهر الله جهله فاحتقره الناس، فقلَّ مقداره عندهم.

وكذلك لو ادعى دينًا أو نسبًا أو غير ذلك فضحه الله وأظهر باطله، فقلَّ مقداره عند الناس، وذلَّ في نفسه فحصل على نقيض قصده، وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم:«من أسر سريرة ألبسه الله تعالى رداءها»

(3)

.

ونحو قوله تعالى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188]، وقوله عليه الصلاة والسلام:«المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور»

(4)

، رواه مسلم

(5)

.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (2/ 50).

(2)

ينظر: فتح المنعم شرح صحيح مسلم لموسى شاهين (1/ 232).

(3)

أخرجه الطبراني في الكبير برقم (1702)، وضعفه الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد والسنن (2/ 219).

(4)

أخرجه البخاري برقم (5219)، ومسلم برقم (2130) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم برقم (2119) عن عائشة رضي الله عنها.

(5)

ينظر: الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم للهرري (3/ 161).

ص: 99

وأما قوله: «ومن دعا رجلًا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك؛ إلا حار عليه» :

قال النووي رحمه الله

(1)

: (هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات من حيث إن ظاهره غير مراد، وذلك أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي؛ كالقتل والزنا، وكذا قوله لأخيه: كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام، وإذا عرف ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه:

أحدها: أنه محمول على المستحل لذلك، وهذا يكفر، فعلى هذا معنى باء بها، أي: بكلمة الكفر، وكذا حار عليه، وهو معنى رجعت عليه، أي: رجع عليه الكفر، فباء وحار ورجع بمعنى واحد.

والوجه الثاني معناه: رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره.

والثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا الوجه نقله القاضي عياض رحمه الله عن الإمام مالك بن أنس، وهو ضعيف، لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع.

والوجه الرابع معناه: أن ذلك يؤول به إلى الكفر، وذلك أن المعاصي كما قالوا: بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر.

والوجه الخامس: معناه: فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير، لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا، فكأنه كفَّر نفسه؛ إما لأنه كفَّر

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (2/ 50).

ص: 100

من هو مثله، وإما لأنه كفَّر من لا يكفره إلا كافر، يعتقد بطلان دين الإسلام، والله أعلم).

من فوائد الحديث:

الأول: فيه تحريم انتساب الرجل إلى غير أبيه واتخاذه أبا.

الثاني: فيه تحريم ادعاء ما ليس له من الفضائل.

الثالث: فيه تحريم تكفير الناس بغير برهان.

الرابع: فيه أن من فعل ذلك رجعت عليه نقيصته لأخيه.

ص: 101

‌الحديث الخامس عشر: الحمو الموت

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ:«الحَمْوُ المَوْتُ» . متفق عليه

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

إياكم

تحذير بالغ، أي: احذروا غاية الحذر.

الدخول على النساء

أي: الأجنبيات، على وجه الخلوة بهن.

الحمو

أخو الزوج أو قريبه.

الحمو الموت

أي: دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة، فهو محرم شديد التحريم، وهذا نحو قولهم: الأسد الموت، أي: أنه يفضي لقاؤه إلى الموت، والمراد موت الدين.

وإنما بالغ بهذا التشبيه لتساهل الناس في ذلك حتى كأنه ليس بأجنبي، وقد بالغ مالك في هذا الباب حتى منع خلوة المرأة بابن زوجها وإن كانت جائزة؛ لأن موقع ذلك من الرجل ليس كموقعه من أمه؛ لأن ذلك قد استحكمت فيه النفرة العادية.

(1)

أخرجه البخاري برقم (5232)، ومسلم برقم (2172).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (4/ 395).

ص: 102

التعليق:

اهتم الإسلام بالمحافظة على الأعراض والأنساب، فسد الذرائع التي تفضي إلى انتهاك الأعراض واختلاط الأنساب، ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول الرجال على النساء الأجنبيات على وجه الخلوة بهن، لأن فيه من المفاسد ما هو معلوم مشاهد لكل أحد، وقد وقعت كثير من جرائم الزنا، وانتهاك الأعراض، وتلويث الشرف والسمعة، بسبب التساهل في هذا الهدي النبوي الشريف، وفي الحديث:«ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»

(1)

.

قال الحافظ العراقي رحمه الله

(2)

: (قوله: «إياكم والدخول» : هو بالنصب على التحذير، وهو تنبيه المخاطب على محذور يجب الاحتراز عنه فقوله:«إياكم» : مفعول بفعل واجب الإضمار تقديره: اتقوا ونحوه.

واستعمال مثل هذا اللفظ هنا يدل على تحذير شديد ونهي أكيد، وهو كقول العرب: إياك والأسد وإياك والشر.

ثانيًا: فيه تحريم الدخول على النساء، وله شرطان:

أحدهما: أن لا يكون الداخل زوجًا للمدخول عليها ولا محرمًا، ويدل له ما في صحيح مسلم

(3)

عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحًا، أو ذا محرم» ، وإنما خص فيه الثيب بالذكر؛ لأنها التي يدخل عليها غالبًا، وأما البكر فمصونة في العادة، فهي أولى بذلك.

(1)

أخرجه الترمذي برقم (2165)، وأحمد في المسند برقم (114 - 177) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الألباني.

(2)

ينظر: طرح التثريب للحافظ العراقي (7/ 40).

(3)

أخرجه مسلم برقم (2171).

ص: 103

ثانيهما: أن يتضمن الدخول الخلوة، ويدل له ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:«لا يخلُوَنَّ رجل بامرأة، إلا مع ذي محرم» ، وهذا لفظ البخاري

(1)

، ولفظ مسلم

(2)

: «إلا ومعها ذو محرم» .

وما في صحيح مسلم

(3)

أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: «ألا لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان» ؛ على أن هذا مشكل على المشهور عند أصحابنا أنه تحرم خلوة الرجل بامرأتين فما فوقهما.

قال النووي رحمه الله

(4)

: (فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة؛ لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك، وقد أشار القاضي عياض رحمه الله إلى هذا التأويل). انتهى.

فلو دخل بحضور الزوج جاز ذلك، وإليه أشار بقوله في الرواية الأخرى:«على المغيبات»

(5)

: وهن اللاتي غاب عنهن أزواجهن، ولو كانت غيبتهن في البلد أيضًا من غير سفر، ويدل له قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الإفك:«وذكروا رجلًا صالحًا ما كان يدخل على أهلي إلا معي»

(6)

، ولا يكفي إذنه من غير حضوره، ولا حضور محرم.

(1)

أخرجه البخاري برقم (5233).

(2)

أخرجه مسلم برقم (1341).

(3)

أخرجه مسلم برقم (2173).

(4)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 155).

(5)

يشير إلى حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال:«نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على المغيبات» . أخرجه أحمد في المسند برقم (17761)، وسيأتي من رواية الترمذي.

(6)

أخرجه البخاري برقم (2661)، ومسلم برقم (2770)، عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 104

وأما ما رواه الترمذي

(1)

عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أو نهى أن يدخل على النساء بغير إذن أزواجهن» ، فإنه محمول على ما إذا انتفت الخلوة المحرمة، والقصد منه توقف جواز الدخول على إذن الزوج وإن انتفت الخلوة؛ لأن المنزل ملكه، فلا يجوز دخوله إلا بإذنه، والمعنى في تحريم الخلوة بالأجنبية؛ أنه مظنة الوقوع في الفاحشة بتسويل الشيطان.

وروى الترمذي

(2)

عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: «لا تلِجُوا على المغيَّبات؛ فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم» .

وروى النسائي

(3)

عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يخلُوَنَّ رجل بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما» ، وقد حكى النووي وغيره الإجماع على تحريم الخلوة بالأجنبية، وإباحتها بالمحارم.

والمحرم: هي كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها.

فقولنا: على التأبيد؛ احتراز من أخت امرأته وعمتها وخالتها ونحوهن، ومن بنتها قبل الدخول بالأم.

وقولنا: بسبب مباح؛ احتراز من أمِّ الموطوءة بشبهة وبنتها، فإنهما حرام على التأبيد، لكن لا بسبب مباح، فإن وطء الشبهة لا يوصف بحل ولا حرمة ولا غيرهما؛ لأنه ليس فعل مكلف.

(1)

سنن الترمذي برقم (2779)، وأخرجه أحمد في المسند برقم (17805)، وحسنه الترمذي وصححه الألباني.

(2)

سنن الترمذي برقم (1172)، وأخرجه أحمد في المسند برقم (14324)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني لشواهده.

(3)

سنن النسائي الكبرى برقم (9175 - 9179 - 9181) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي وأحمد كما تقدم عن عمر رضي الله عنه.

ص: 105

وقولنا: لحرمتها؛ احتراز عن الملاعنة، فهي حرام على التأبيد، لا لحرمتها؛ بل للتغليظ).

وقال النووي رحمه الله

(1)

: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «الحمو الموت» ، فمعناه: أن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه والفتنة أكثر؛ لتمكنه من الوصول إلى المرأة، والخلوة من غير أن ينكر عليه، بخلاف الأجنبي.

والمراد بالحمو هنا: أقارب الزوج، غير آبائه وأبنائه، فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته، تجوز لهم الخلوة بها، ولا يوصفون بالموت، وانما المراد الأخ وابن الأخ، والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم، وعادة الناس المساهلة فيه، ويخلو بامرأة أخيه، فهذا هو الموت، وهو أولى بالمنع من الأجنبي لما ذكرناه، فهذا الذي ذكرته هو صواب معنى الحديث).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه الحرص على سلامة الأعراض والأنساب، ووضع الضوابط التي تمنع انتهاكها.

ثانيًا: فيه دليل على تحريم الخلوة بالأجانب.

ثالثًا: فيه الحذر من تساهل المرأة مع أقرباء زوجها ممن لا تحرم عليهم على التأبيد.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 154).

ص: 106

‌الحديث السادس عشر: ما مثلي ومثل الدنيا

عَنْ عِكْرِمَةَ رضي الله عنه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ سَارَ في يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

أوثر

الوثير: الفِراشُ الوَطيء، وهو الكثيف، وكلّ وطيء وثير.

صائف

شديد الحر، تقول: صيف صائف اتباع له وتأكيد، كما يقال: ليل لائل، ويوم صائف، أي، حار، وليلة صائفة.

التعليق:

وقد صدق صلى الله عليه وسلم، نسأل الله الرواح سالمين.

قال ابن رجب رحمه الله

(3)

: (وهذا إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله امتثالًا لما أمره الله به؛ ألّا يمدَّ عينيه إلى زهرة الحياة الدنيا، فكان يتباعد عنها بكل

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (2744)، والترمذي برقم (2377)، وابن ماجه برقم (4109)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

ينظر: العين للفراهيدي (8/ 234)، وجمهرة اللغة لابن دريد (1/ 475)، والشافي في شرح مسند الشافعي لابن الأثير (3/ 365).

(3)

ينظر: فتح الباري (2/ 426).

ص: 107

وجه، ولهذا قال:«مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها»

(1)

.

فكان حاله كله في مأكله ومشربه ولباسه ومساكنه حال مسافر، يقنع في مدة سفره بمثل زاد الراكب من الدنيا، ولا يلتفت إلى فضولها الفانية الشاغلة عن الآخرة، وخصوصًا في حال عباداته ومناجاته لله، ووقوفه بين يديه واشتغاله بذكره، فإن ذلك كان هو قرة عينه).

فكل أحد في الدنيا هذا شأنه، فإنه عن قريب سيرحل عنها، ولا يبقى له منها شيء إلا ما قدمه من عمل صالح.

قال الطيبي في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها» : (تشبيه تمثيلي، ووجه الشبه سرعة الرحيل، وقلة المكث، ومن ثمة خصَّ الراكب.

قال عيسى عليه السلام: «يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبني على موج البحر دارًا؟» . قالوا: يا روح الله ومن يقدر؟، قال:«إياكم والدنيا لا تتخذوها قرارًا» .

والحديث تزهيدٌ في الدنيا وتحقيرٌ لها، وترغيبٌ في الآخرة، فإنها الحيوان

(2)

، وإذا كان زهد فيها أفضل الخلائق الذي لو توسع لما خيف عليه ما يخاف على غيره، فغيره بالأولى)

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (4208)، وابن أبي شيبة في المصنف برقم (34303)، وأبو يعلى في المسند برقم (4998)، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه الأرناؤوط.

(2)

كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]: قال البدر العيني في عمدة القاري (19/ 108): (يعني الدار الباقية التي لا زوال لها ولا موت فيها، وقيل: ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت فيها، وكأنها في ذاتها نفس الحيوان، والحيوان مصدر حي).

(3)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (9/ 435).

ص: 108

حقيقة الزهد في الدنيا:

بسط الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم

(1)

القولَ في حقيقة الزهد في الدنيا، وذكر أقوال العلماء في ذلك، فأجاد وأفاد رحمه الله، فكان مما قال:

(فأما الزهد في الدنيا، فقد كثر في القرآن الإشارة إلى مدحه، وإلى ذمِّ الرغبة في الدنيا، قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17].

وقال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67].

وقال تعالى في قصة قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} ، إلى قوله:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 79 - 83].

وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].

وقد ذم الله من كان يريد الدنيا بعمله وسعيه ونيته.

والأحاديث في ذم الدنيا وحقارتها عند الله كثيرة جدًّا، ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفَيْه، فمر بجديٍ أسكٍّ

(2)

ميتٍ، فتناوله، فأخذ بأذنه، فقال:«أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟» ،

(1)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 177)، وما بعدها باختصار.

(2)

(أسك): بتشديد الكاف أي: صغير الأذن أو عديمها أو مقطوعها.

ص: 109

فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال:«أتحبون أنه لكم؟» ، قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال:«والله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»

(1)

.

وفيه أيضًا عن المستورد الفهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بماذا ترجع»

(2)

.

وخرَّج الترمذي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء»

(3)

.

ومعنى الزهد في الشيء: الإعراض عنه لاستقلاله، واحتقاره، وارتفاع الهمة عنه، يقال: شيء زهيد، أي: قليل حقير.

وقد تكلم السلف ومن بعدهم في تفسير الزهد في الدنيا، وتنوعت عباراتهم عنه، قال يونس بن ميسرة: ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء

(4)

.

ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب، لا من أعمال

(1)

أخرجه مسلم برقم (2957) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم برقم (2858).

(3)

أخرجه الترمذي برقم (2320) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني.

(4)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9597). وقد ورد مرفوعًا بأسانيد ضعيفة كما ذكر ابن رجب وغيره.

ص: 110

الجوارح، ولهذا كان أبو سليمان يقول: لا تشهد لأحد بالزهد، فإن الزهد في القلب.

أحدها: أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، فإن الله ضمن أرزاق عباده، وتكفل بها، كما قال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، وقال:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وقال:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17].

وقال الحسن: إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل

(1)

.

وقال مسروق: إن أحسن ما أكون ظنًّا حين يقول الخادم: ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم

(2)

.

وقيل لأبي حازم الزاهد: ما مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس

(3)

.

وقيل له: أما تخاف الفقر؟ فقال: أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟!

كذلك كان زاهدًا في الدنيا حقيقة، وكان من أغنى الناس، وإن لم يكن له

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين برقم (33)، والقناعة والتعفف (ص 50)، والتوكل وسؤال الله عز وجل لعبد الغني المقدسي برقم (31).

(2)

ينظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 97)، ومصنف ابن أبي شيبة برقم (34871)، والزهد لهناد برقم (592)، وصفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 15).

(3)

ذكره أبو بكر الدينوري في المجالسة وجواهر العلم (5/ 21).

ص: 111

شيء من الدنيا كما قال عمار: كفى بالموت واعظًا، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلًا

(1)

.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «اليقين ألَّا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدًا على رزق الله، ولا تَلُم أحدًا على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرصُ حريص، ولا يرده كراهة كاره، فإن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه وحكمه- جعل الروحَ والفرحَ في اليقين والرضا، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسخط»

(2)

.

والثاني: أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال، أو ولد، أو غير ذلك - أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضًا ينشأ من كمال اليقين.

وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا»

(3)

.

وهو من علامات الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها، كما قال علي رضي الله عنه:«من زهد الدنيا، هانت عليه المصيبات»

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد في الزهد برقم (984)، وورد عن ابن مسعود من قوله، أخرجه ابن المبارك في الزهد (2/ 37)، وذكره البغوي في شرح السنة (5/ 261).

(2)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (205)، وقد أخرجه مرفوعًا برقم (203)، وضعفه.

(3)

أخرجه الترمذي برقم (3502) عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا. وقال الترمذي: حسن غريب وحسنه الألباني.

(4)

أخرجه تمام في فوائده برقم (41)، والقضاعي في مسند الشهاب برقم (348).

ص: 112

والثالث: أن يستوي عند العبد حامده وذامُّه في الحق، وهذا من علامات الزهد في الدنيا، واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإن من عظمت الدنيا عنده أحب المدح وكره الذم، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم، وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق، دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه من محبة الحق، وما فيه رضا مولاه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:«اليقين ألَّا ترضي الناس بسخط الله»

(1)

.

وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.

وقد روي عن السلف عبارات أخر في تفسير الزهد في الدنيا، وكلها ترجع إلى ما تقدم، كقول الحسن رضي الله عنه:«الزاهد الذي إذا رأى أحدًا قال: هو أفضل مني»

(2)

.

وهذا يرجع إلى أن الزاهد حقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها.

ولهذا يقال: الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا والترفع فيها على الناس، فهو الزاهد حقًّا.

وهذا هو الذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق، وكقول وهيب بن الورد: الزهد في الدنيا ألّا تأسى على ما فات منها، ولا تفرح بما آتاك منها

(3)

، قال ابن السماك:(هذا هو الزاهد المُبرَّز في زهده)

(4)

.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

ذكره البيهقي في شعب الإيمان برقم (7899)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 314).

(3)

ذكره المزي عنه في تهذيب الكمال (31/ 172).

(4)

أخرجه ابن الأعرابي في الزهد وصفة الزاهدين برقم (34)، وابن أبي الدنيا في الزهد (ص 501)، ولفظ ابن أبي الدنيا:(عن إبراهيم بن رجاء، قال: سمعت ابن السماك يقول: الناس ثلاثة: زاهد، وصابر، وراغب، فأما الزاهد: فأصبح قد خرجت الأفراح والأحزان من صدره عن اتباع هذا الغرور، فهو لا يفرح بشيء من الدنيا أتاه، ولا يحزن على شيء من الدنيا فاته، لا يبالي على عسر أصبح أم على يسر، فهذا المبرز في زهده، وأما الصابر: فرجل يشتهي الدنيا بقلبه، ويتمناها بنفسه، فإذا ظفر بشيء منها ألجم نفسه عنها، كراهة شتاتها وسوء عاقبتها، فلو تطلع على ما في نفسه عجبت من نزاهته وعفته، أما الراغب: فلا يبالي من أين أتته الدنيا، ولا يبالي دنس فيها عرضه، أو وضع فيه حسبه، أو جرح دينه، فهؤلاء في غمرة يضطربون، وهؤلاء أنتن من أن يذكروا).

ص: 113

وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصها، وهو مثل استواء حال المصيبة وعدمها كما سبق.

وسئل الزهري عن الزاهد فقال: (من لم يغلب الحرام صبره، ولم يشغل الحلال شكره)

(1)

، وهذا قريب مما قبله، فإن معناه أن الزاهد في الدنيا إذا قدر منها على حرام، صبر عنه، فلم يأخذه، وإذا حصل له منها حلال، لم يشغله عن الشكر، بل قام بشكر الله عليه.

وقال ربيعة: (رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها، ووضعها في حقِّها)

(2)

.

قصر الأمل:

وقال سفيان الثوري رحمه الله: (الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء)

(3)

.

وقال: (كان من دعائهم: اللهم زهدنا في الدنيا، ووسع علينا منها، ولا تَزْوِها عنا، فتُرغِّبنا فيها)

(4)

.

(1)

ينظر: شعب الإيمان (6/ 305)، والجامع في السنن والآداب والمغازي لأبي زيد القيرواني (ص 174).

(2)

ينظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 259)، والمجالسة وجواهر العلم للدينوري (4/ 245).

(3)

ينظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (6/ 386)، والمجالسة وجواهر العلم للدينوري (6/ 419)، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر برقم (1334)، والرسالة القشيرية للقشيري (1/ 240).

(4)

ذكره ابن أبي الدنيا في إصلاح المال برقم (60)، وفي ذم الدنيا برقم (172).

ص: 114

وكذا قال الإمام أحمد: (الزهد في الدنيا: قصر الأمل، وقال مرة: قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس)

(1)

.

ووجه هذا أن قصر الأمل يوجب محبة لقاء الله، بالخروج من الدنيا، وطول الأمل يقتضي محبة البقاء فيها، فمن قصُر أملُه، فقد كرِه البقاءَ في الدنيا، وهذا نهايةُ الزهد فيها، والإعراض عنها، واستدل ابن عيينة لهذا القول بقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إلى قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} الآية [البقرة: 94 - 96].

أقسام الزهد في الدنيا:

قال ابن رجب رحمه الله

(2)

: (وقد قسم كثير من السلف الزهد أقسامًا:

فمنهم من قال: أفضل الزهد الزهد في الشرك، وفي عبادة ما عبد من دون الله، ثم الزهد في الحرام كله من المعاصي، ثم الزهد في الحلال، وهو أقل أقسام الزهد، فالقسمان الأولان من هذا الزهد، كلاهما واجب، والثالث: ليس بواجب، فإن أعظم الواجبات الزهد في الشرك، ثم في المعاصي كلها.

وكان بكر المزني يدعو لإخوانه: زهَّدَنا الله وإياكم زهد من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات، فعلم أن الله يراه فتركه

(3)

.

وقال ابن المبارك: قال سلام بن أبي مطيع: الزهد على ثلاثة وجوه: واحد: أن يخلص العمل لله عز وجل والقول، ولا يراد بشيء منه الدنيا، والثاني: ترك ما لا

(1)

ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/ 241)، والقاضي أبو يعلى في التوكل (ص 71).

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 185).

(3)

ينظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (6/ 303)، والمجالسة وجواهر العلم للدينوري (5/ 244).

ص: 115

يصلح، والعمل بما يصلح، والثالث: الحلال أن يزهد فيه وهو تطوع، وهو أدناها

(1)

.

وهذا قريب مما قبله، إلا أنه جعل الدرجة الأولى من الزهد الزهد في الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل، وهو الشرك الأصغر، والحامل عليه محبة المدح في الدنيا، والتقدم عند أهلها، وهو من نوع محبة العلو فيها والرياسة.

وقال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف

(2)

: فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالزهد الفرض: الزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، والزهد السلامة: الزهد في الشبهات).

مواقف الناس من الدنيا:

قال ابن رجب رحمه الله

(3)

: (وانقسم بنو آدم في الدنيا إلى قسمين:

أحدهما: من أنكر أن يكون للعباد بعد الدنيا دار للثواب والعقاب، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8]، وهؤلاء همهم التمتع بالدنيا، واغتنام لذاتها قبل الموت، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12].

ومن هؤلاء من كان يأمر بالزهد في الدنيا، لأنه يرى أن الاستكثار منها موجب الهم والغم، ويقول: كلما كثر التعلق بها، تألمت النفس بمفارقتها عند الموت، فكان هذا غاية زهدهم في الدنيا.

(1)

ينظر: الزهد لابن أبي الدنيا برقم (493)، وقوت القلوب لابن عطية (1/ 445).

(2)

ينظر: شعب الإيمان (13/ 252)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (8/ 26)، والزهد لابن أبي الدنيا برقم (125).

(3)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 187) باختصار.

ص: 116

والقسم الثاني: من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب، وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام:

ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله.

فالظالم لنفسه: هم الأكثرون منهم، وأكثرهم وقف مع زهرة الدنيا وزينتها، فأخذها من غير وجهها، واستعملها في غير وجهها، وصارت الدنيا أكبر همه، لها يغضب، وبها يرضى، ولها يوالي، وعليها يعادي، وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، وكلهم لم يعرف المقصود من الدنيا، ولا أنها منزل سفر يتزود منها لما بعدها من دار الإقامة، وإن كان أحدهم يؤمن بذلك إيمانًا مجملًا، فهو لا يعرفه مفصلًا، ولا ذاق ما ذاقه أهل المعرفة بالله في الدنيا مما هو أنموذج ما ادخر لهم في الآخرة.

والمقتصد منهم: أخذ الدنيا من وجوهها المباحة، وأدى واجباتها، وأمسك لنفسه الزائد على الواجب، يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا، وهؤلاء قد اختلف في دخولهم في اسم الزهادة في الدنيا كما سبق ذكره، ولا عقاب عليهم في ذلك، إلا أنه ينقص من درجاتهم في الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا.

روى الإمام أحمد رحمه الله في كتاب الزهد بإسناده عن عمر رضي الله عنه قال

(1)

: (لولا أن تنقص حسناتي لخالطتكم في لين عيشكم، ولكني سمعت الله عيَّر قومًا فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20]).

ويشهد لهذا ما خرَّجه الترمذي عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه، عن النبي

(1)

ينظر: تاريخ المدينة لابن شبة (2/ 695)، وإصلاح المال لابن أبي الدنيا برقم (356)، والجوع له برقم (188).

ص: 117

صلى الله عليه وسلم، قال:«إن الله إذا أحب عبدًا حماه عن الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمَه الماء»

(1)

.

وخرجه الحاكم، ولفظه:«إن الله ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه، كما تحمُون مريضكم الطعامَ والشراب، تخافون عليه»

(2)

.

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر»

(3)

.

وأما السابق بالخيرات بإذن الله: فهم الذين فهموا المراد من الدنيا، وعملوا بمقتضى ذلك، فعلموا أن الله إنما أسكن عباده في هذه الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملا؟ كما قال:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7]، وقال:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

قال بعض السلف: (أيهم أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة، وجعل ما في الدنيا من البهجة والنضرة محنةً، لينظر من يقف منهم معه، ويركن إليه، ومن ليس كذلك، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]).

(1)

أخرجه الترمذي برقم (2036)، والحاكم في المستدرك برقم (7464). قال الترمذي: حسن غريب، وصححه الحاكم برقم (7464)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (23622 - 23623)، والحاكم في المستدرك برقم (7465) عن ابن مسعود رضي الله عنه وصححه ووافقه الذهبي.

(3)

أخرجه مسلم برقم (2956) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 118

ثم بين انقطاعه ونفاده فقال: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8]، فلما فهموا أن هذا هو المقصود من الدنيا، جعلوا همَّهم التزود منها للآخرة التي هي دار القرار، واكتفوا من الدنيا بما يكتفي به المسافر في سفره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها»

(1)

.

ووصى صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة أن يكون بلاغ أحدهم من الدنيا كزاد الراكب منهم: سلمان رضي الله عنه، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وأبو ذر رضي الله عنه، وعائشة رضي الله عنها، ووصى ابن عمر رضي الله عنهما أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل

(2)

، وأن يعد نفسه من أهل القبور

(3)

.

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له وشفقتهم عليه، وتأثرهم بأحواله وما كان يلاقيه في الدنيا من الشدائد وضيق العيش.

ثانيًا: فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا والتقلل منها.

ثالثًا: فيه إشارة إلى تقلب الدنيا بأهلها، وسرعة انقضاء الأعمار.

رابعًا: فيه إشارة إلى التزام قصر الأمل، والتوثق بالعمل، واغتنام الأعمار في الطاعات، قبل هجوم هادم اللذات.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (6416) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه أحمد في المسند برقم (5002)، وابن ماجه برقم (4114).

ص: 119

‌الحديث السابع عشر: مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع

عن كَعْبٍ بن مالك رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى، حَتَّى تَهِيجَ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا، لَا يُفِيئُهَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

الخامة من الزرع

ورقة الزَّرع الغضة الرطبة، وهي أول ما ينبت منه يكون غضًّا طريًّا أو ضعيفًا.

تفيئها الريح

تُميلها.

تصرعها مرة

أَي: تلقيها.

وتعدلها أخرى

أي: تقيمها وترفعها.

تهيج

تيبس، يُقَال: هاج النَّبَات: إِذا يبس، وهاج: إِذا أصفرَّ أَيْضًا.

الأرزة

الأرزة: وَاحِدَة الْأرز، قَالَ أَبُو عبيد:(وَهِي شَجَرَة الصنوبر، والصنوبر ثَمَر الْأرز، ويُسمى: الشّجر صنوبرًا من أجل ثمره).

المجذية

الثَّابِتَة، يُقَال: أجذت تجذي، وجذت تجذو.

انجعافها

انقلاعها.

(1)

أخرجه البخاري برقم (5643)، ومسلم برقم (2810).

(2)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (2/ 122)، وشرح النووي على مسلم (17/ 151)، والتوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (27/ 255).

ص: 120

التعليق:

يدل هذا الحديث على أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته، وأما الكافر فقليلها وإن وقع به شيء لم يكفر شيئًا من سيئاته، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة

(1)

.

قال الإمام ابن رجب رحمه الله في غاية النفع في شرح حديث تمثيل المؤمن بخامة الزرع

(2)

: (ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثل المؤمن في إصابة البلاء لجسده بخامة الزرع التي تفيئها الريح يمنة ويسرة. والخامة: الرطبة من النبات.

وَمَثَّل المنافق والفاجر بالأرزة وهي الشجرة العظيمة التي لا تحركها الرياح ولا تزعزعها حتى يرسل الله عليها ريحًا عاصفًا فتقتلعها من الأرض دفعة واحدة.

ففي هذا فضيلة عظيمة للمؤمن بابتلائه في الدنيا في جسده بأنواع البلاء، وتمييز له على الفاجر والمنافق بأنه لا يصيبه البلاء حتى يموت بحاله فيلقى الله بذنوبه كلها فيستحق العقوبة عليها.

والنصوص في تكفير ذنوب المؤمن بالبلاء والمصائب كثيرة جدًّا، ففي الصحيحين عن عطاء بن يسار رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما يصيب المؤمن: من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»

(3)

.

وفيهما أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (17/ 153).

(2)

ينظر: مجموع رسائل ابن رجب (1/ 211 - 215) باختصار.

(3)

أخرجه البخاري (5641، 5642)، ومسلم (2573).

ص: 121

مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حاتَّ الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر»

(1)

.

وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال البلايا بالعبد حتى تتركه يمشي على الأرض ما به خطيئة»

(2)

.

وإنما يعرف قدر البلاء إذا كشف الغطاء يوم القيامة، كما في الترمذي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم قرضت بالمقاريض في الدنيا»

(3)

.

وفي سنن أبي داود عن عامر الرام رضي الله عنه قال: جلست إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الأسقام، فقال:«إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير، عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدْر لم عقلوه ولم أرسلوه» ، فقال رجل ممن حوله: يا رسول الله! وما الأسقام؟ والله ما مرضت قط. قال: «قم عنا فلست منا»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (5647 - 5648 - 5660 - 5661 - 5667)، ومسلم (2571).

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (1481)، والنسائي في السنن الكبرى برقم (7481)، والترمذي برقم (2398). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه الترمذي برقم (2399)، وأحمد في المسند برقم (7859 - 9811)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

أخرجه الترمذي برقم (2402) وقال: غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه، وحسنه الألباني.

(4)

أخرجه أبو داود برقم (3089)، قال المنذري في مختصر سنن أبي داود (2/ 359): في إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدم الكلام عليه، وضعفه الشيخ الألباني في أحاديث المشكاة برقم (1571).

ص: 122

وهذا كما قال للذي سأله عن الحمى فلم يعرفها: «من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا»

(1)

.

فجعل الفرق بين أهل الجنة وأهل النار إصابة البلاء والمصائب، كما جعل ذلك فرقًا بين المؤمنين والمنافقين والفجار في هذه الأحاديث المذكورة ها هنا.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال: طلَّق خالد بن الوليد رضي الله عنه امرأته، ثم أحسن عليها الثناءَ، فقيل له: يا أبا سليمان، لأي شيء طلقتها؟ قال: ما طلقتها لأمر رابني منها، ولكن لم يصبها عندي بلاء

(2)

.

وبإسناده عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه ذكر الأوجاع، فقال أعرابي عنده: ما اشتكيت قط، فقال عمار رضي الله عنه: ما أنت منا -أو لست منا- إن المسلم يبتلى ببلاء فتحط عنه ذنوبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها، وإن الكافر والفاجر يبتلى ببلاء، فمثله مثل البعير أُطلق، فلم يَدْر لِمَ أُطلق، وعُقل فلم يدْرِ لِمَ عُقل

(3)

.

من فوائد الحديث:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله

(4)

: (واعلم أن تمثيل المؤمن بالزرع، الرعاع أتباع كل ناعق نذكر ما يسر الله منها:

(1)

أخرجه النسائي في الكبرى برقم (7449)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَعْرَابِيٍّ: «هَلْ أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ قَطُّ؟» قَالَ: وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: «حَرٌّ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ» . قَالَ: مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ، قَالَ:«فَهَلْ أَخَذَكَ الصُّدَاعُ قَطُّ؟» ، قَالَ: وَمَا الصُّدَاعُ؟ قَالَ: «عِرْقٌ يَضْرِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي رَأْسِهِ» ، قَالَ: مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» ، وصححه الحاكم في المستدرك برقم (1283).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (19254)، ووالبيهقي في شعب الإيمان برقم (9447).

(3)

ينظر: شعب الإيمان برقم (9443).

(4)

ينظر: مجموع رسائل ابن رجب (1/ 216 - 224) باختصار.

ص: 123

الأول: فمنها أن الزرع ضعيف مستضعف والشجر قوي مستكبر متعاظم، فالشجر لا يضعف من حر ولا برد، ولا من كثرة ماء ولا من ريح، والزرع بخلاف ذلك، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، وبين أهل الجنة والنار.

كما في الصحيحين عن حارثة بن وهب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيفٍ متضعِّفٍ، لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتُلٍّ

(1)

جواظٍ

(2)

مستكبر»

(3)

.

وخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحاجت الجنة والنار فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار: ما لي لا يدخلني إلا المتجبرون والمتكبرون»

(4)

. الحديث.

وقد ورد في القرآن تشبيه المنافقين بالخشب المسندة مع حسن منظرهم، فقال:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4].

فوصفهم بحسن الأجسام وتمامها، وحسن المقال وفصاحته، حتى يعجب من منظرهم من رآهم، ويسمع قولهم من سمعه سماعَ إصغاء وإعجاب به، ومع هذا فبواطنهم خراب ومعانيهم فارغة، فلهذا مثَّلهم بالخشب المسندة، التي لا روح لها ولا إحساس، وقلوبهم مع هذا ضعيفة في غاية الضعف: {يَحْسَبُونَ كُلَّ

(1)

العتل: الجافي الشديد الخصومة بالباطل، وقيل: الجافي الفظ الغليظ.

(2)

الجواظ: هو الجموع المنوع، وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته.

(3)

أخرجه البخاري برقم (4918)، ومسلم برقم (2853).

(4)

أخرجه البخاري برقم (4850)، ومسلم برقم (2846)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 124

صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}، لأنهم لما أضمروا خلاف ما أظهروا خافوا الاطلاع عليهم، فكلما سمعوا صيحة ظنوا أنها عليهم، وهكذا كل مريب يُظهر خلاف ما يضمر يخاف من أدنى شيء ويحسبه عليه.

وأما المؤمن فبعكس هذه الصفات، غالبهم مستضعفون في ظاهر أجسامهم ولباسهم وكلامهم؛ لأنهم اشتغلوا بعمارة قلوبهم وأرواحهم عن عمارة أجسادهم.

فقلوبهم ثابتة قوية عامرة، فيكابدون بها الأعمال الشاقة في طاعة الله من الجهاد والعبادات والعلوم وغيرها مما لا يستطيع المنافق مكابدته؛ لضعف قلبه، ولا يخافون من ظهورِ ما في قلوبهم إلا خشية الفتنة على نفوسهم، فإن بواطنهم خير من ظواهرهم، وسرهم أصلح من علانيتهم.

قال سليمان التيمي: أتاني آت في منامي فقال: يا سليمان إن قوة المؤمن في قلبه

(1)

.

ومن قوة قلب المؤمن وثباته أنه ثابت على الإيمان، فالإيمان الذي في قلبه مثله كمثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فيعيش على الإيمان ويموت عليه ويبعث عليه، وإنما الرياح وهي بلايا الدنيا تقلب جسمه يمنة ويسرة، وكذلك قلبه لا تصل إليه الرياح؛ لأنه محروس بنور الإيمان.

(1)

ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب المنامات، برقم (84)، بلفظ:(يَا سُلَيْمَانُ الْمُؤْمِنُ فِي قَلْبِهِ).

وقد ورد بلفظه عن شميط بن عجلان، قال: إن الله عز وجل جعل قوة المؤمن في قلبه، ولم يجعلها في أعضائه، ألا ترون الشيخ يكون ضعيفًا يصوم الهواجر، ويقوم الليل، والشباب يعجز عن ذلك، ينظر: شعب الإيمان برقم (2905)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (3/ 130)، وترتيب الأمالي الخميسية للشجري برقم (1473)، وصفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 202).

ص: 125

والكافر والمنافق بعكس ذلك، قوي جسمه، لا تقلبه رياح الدنيا، وأما قلبه فإنه ضعيف، تلاعب به الأهواء المضلة، فتقلبه يمنة ويسرة، فكذلك كان مثل قلبه كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، كشجر الحنظل ونحوه مما ليس له أصل ثابت في الأرض.

وقال علي رضي الله عنه في صفة الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا منه إلى ركن وثيق

(1)

.

وبهذا يظهر الجمع بين حديث تمثيل المؤمن بخامة الزرع والفاجر بشجرة الأرز، وبين حديث تمثيل المؤمن بالنخلة

(2)

. فإن التمثيل بالزرع لجسده؛ لتوالي البلاء عليه، والتمثيل بالنخلة إيمانه وعمله وقوله، يدل عليه قوله عز وجل:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]، فجعلها مثلًا بكلمة الشهادة التي هي أصل الإسلام، وثبوتها في قلب المؤمن كثبوت أصل النخلة في الأرض، وارتفاع عمل المؤمن إلى السماء كارتفاع النخلة، وتجدد عمل المؤمن من كل حين كإتيان النخلة أكلها كل حين.

الثاني: ومنها أن المؤمن يمشي مع البلاء كيف ما مشى به، فيلين له، فيقلبه البلاء يمنة ويسرة، فكلما أداره استدار معه، فيكون عاقبته العافية من البلاء

(1)

ينظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 79)، وترتيب الأمالي الخميسية للشجري برقم (332).

(2)

كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي» ، فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله رضي الله عنه: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«هي النخلة» . أخرجه البخاري برقم (61)، ومسلم برقم (2811).

ص: 126

وحسن الخاتمة، وتوقي ميتة السوء، فلهذا كان مثله كمثل السنبلة تفيئها الرياح يمنة ويسرة، فلا تضره الرياح كما في أمثال العرب: إذا رأيت الريح عاصفًا فتطامن، أي: إذا رأيت الأمر غالبًا فاخضع له

(1)

.

الثالث: ومنها أن الزرع وإن كانت كل طاقة منه ضعيفة ضئيلة؛ إلا أنه يتقوى بما يخرج معه وحوله ويعتضد به بخلاف الشجر العظام، فإن بعضها لا يشدُّ بعضًا، وقد ضرب الله تعالى مثل نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزرع، لهذا المعنى قال:{وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى} [الفتح: 29].

وقد قال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].

وقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]، فالمؤمنون بينهم ولاية، وهي مودة ومحبة باطنة، كما قال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]؛ لأن المؤمنين قلوبهم على قلب رجل واحد فيما يعتقدونه من الإيمان.

وأما المنافقون فقلوبهم مختلفة كما قال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، فأهواؤهم مختلفة، ولا ولاية بينهم في الباطن، وإنما بعضهم من جنس بعض في الكفر والنفاق.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» . وشبك بين أصابعه

(2)

.

وفيهما أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمنين في توادهم

(1)

ينظر: جمهرة الأمثال للعسكري (1/ 170).

(2)

أخرجه البخاري برقم (481)، ومسلم برقم (2585) عن أبي موسى رضي الله عنه.

ص: 127

وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره بالحمى والسهر»

(1)

.

الرابع: ومنها أن الزرع ينتفع به بعد حصاده، فإنه يحصده أربابه، ثم يبقى منه بعد حصاده ما يلتقطه المساكين، وترعاه البهائم وتأكله الطير، وربما استخلف بعضه فأخرج منه ثانية، وبيع منه من الحب ما ينبت مرارًا.

وهكذا مثل المؤمن يموت ويُخلف ما ينتفع منه، من علم نافع وصدقة جارية وولد صالح ينتفع به.

وأما الفاجر فإنه إذا انقلع من الأرض لم يبق فيه نفع بل ربما أثر ضررًا، فهو: كالشجرة المنجعفة

(2)

لا تصلح إلا لوقيدِ النار.

الخامس: ومنها أن الزرع في حملِه مبارك، كما ضرب الله مثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء.

وليس كذلك الشجر؛ لأن كل حبة مما يغرس منه لا تزيد على نبات شجرة واحدة منها.

السادس: ومنها أن الحب الذي ينبت من الزرع هو قوت الآدميين، وغذاء أبدانهم، وسبب حياة أجسادهم، فكذلك الإيمان هو قوت القلوب وغذاء الأرواح وسبب حياتها، ومتى فقدته القلوب ماتت، وموت القلوب لا يرجى معه حياة أبدًا، بل هو هلاك الدنيا والآخرة، كما قيل:

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياء

(1)

أخرجه البخاري برقم (6011)، ومسلم برقم (2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(2)

المنجعفة: المنقلعة.

ص: 128

فلذلك شبه المؤمن بالزرع حيث كان الزرع حياة الأجساد، والإيمان حياة الأرواح.

وأما ثمر بعض الأشجار العظام كالصنوبر ونحوه، فليس له كبير نفع، وربما لا يتضرر بفقده.

فكذلك مثَّل الفاجر أو المنافق بهذه الشجرة لقلة نفع ثمرها.

ولما كانت الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فصاحب السجن لا يزال في بلاء حتى يخرج منه، فإذا خرج من السجن أفضى إلى الرخاء والنعيم الدائم، وصاحب الجنة إذا خرج منها وقع في السجن الدائم.

وإذا صُبغ أنعمُ الناس -كان في الدنيا- صبغةً في العذاب، فقيل له: هل مر بك نعيم قط؟ قال: لا يا رب. وإذا صبغ أبأس الناس -في النعيم صبغة، ثم قيل له: هل مر بك بؤس قط؟ قال: لا يا رب

(1)

:

فما هي إلا ساعة ثم تنقضي

ويذهب هذا كلُّه ويزول

لا يجد أهل الجنة من ألم نصب الدنيا شيئًا، بل ينقلب راحة أبدًا:

جميع آلام لسعِ النحل يذهبها

ما يجتني المجتني من لذة العسل

من طمع في الوصول إلى المعالي؛ صبر على مواصلة نصب النهار بسهر الليالي.

ص: 129

من أراد غدًا قربنًا؛ فليصبر اليوم على ألم ضربِنا، فما يحسُّ بألم من صدق في حبِّنا.

لابد من البلوى والاختبار ليتبين الصادق اليوم من الكاذب: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

الراحة لا تنال بالراحة:

لولا المشقةُ ساد الناس كلُّهم

الجود يفقر والإقدام قتال

مراتب الدنيا لا تنال إلا بالصبر على البلاء في طلبها والمجاهدة، فكيف من أراد مقعد صدق عند مليك مقتدر:

كم صبروا حتى قدروا

كم غضوا حتى نظروا

ما وصلوا إلى المنزل إلا بعد طول السجن، ما نالوا لذة الراحة إلا بعد أن صبروا على المشقة).

ص: 130

‌الحديث الثامن عشر: أول ما يحاسب عليه العبد

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُه، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك»

(1)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء»

(2)

.

التعليق:

قوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته» ، أي: أول ما يحاسب عليه العبد فيما بينه وبين ربه الصلاة.

وقوله: «أول ما يحاسب به بين الناس يوم القيامة في الدماء» ، أي: أول ما يحاسب عليه العبد فيما بينه وبين الناس يوم القيامة في الدماء.

وهذا الكلام هو الجمع بين الحديثين؛ لأن في كليهما أول ما يحاسب.

قال النووي رحمه الله

(3)

: (فيه تغليظ أمر الدماء وأنها أول ما يقضى فيه بين

(1)

أخرجه الترمذي برقم (413)، والنسائي برقم (465)، وفي الكبرى برقم (322)، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه البخاري برقم (6864)، ومسلم برقم (1678).

(3)

ينظر: شرح النووي على مسلم (11/ 167).

ص: 131

الناس يوم القيامة، وهذا لعظم أمرها وكثير خطرها، وليس هذا الحديث مخالفًا للحديث المشهور في السنن:«أول ما يحاسب به العبد صلاته» ؛ لأن هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى، وأما حديث الباب فهو فيما بين العباد، والله أعلم بالصواب).

أما الصلاة فشأنها عظيم، ومكانتها في الإسلام عالية، فليس يدانيها شيء من الأعمال، ولا يساويها شيء من الأقوال بعد الشهادتين، حتى قال عبد الله بن العقيلي رحمه الله:(كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة)

(1)

.

وللإمام أحمد كلام رائع في شأن الصلاة، وخطر التهاون بها، ذكره في رسالته في الصلاة، وهذه الرسالة أوردها أبو يعلى في كتابه طبقات الحنابلة

(2)

.

قال الإمام أحمد بعد كلام له: (واعلموا أن أكثر الناس اليوم ما يكون لهم صلاة، لسبقهم الإمام بالركوع والسجود والرفع والخفض، وقد جاء الحديث قَالَ:«يأتي عَلَى الناس زمان يُصلُّون ولا يُصلُّون»

(3)

.

وقد تخوفت أن يكون هذا الزمان، فلو صليت فِي مائة مسجد، ما رأيت أهل مسجد واحد يقيمون الصلاة عَلَى ما جاء عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم، فاتقوا اللَّه وانظروا فِي صلاتكم وصلاة من يصلي معكم.

واعلموا لو أن رجلًا أحسن الصلاة فأتمَّها وأحكمَها، ثم نظر إلى من أساء

(1)

لم أجده في شيء من الكتب، والإمام أحمد يطلق في هذا الكتاب لفظ الحديث على آثار الصحابة والتابعين فلعله من ذلك.

(2)

ينظر: طبقات الحنابلة (1/ 352 - 358).

(3)

أخرجه الترمذي برقم (2622).

ص: 132

فِي صلاته وضيعها وسبق الإمام فيها، فسكت عنه ولم يُعْلمه فِي إساءته فِي صلاته ومسابقته الإمام فيها، ولم ينهه عَنْ ذلك ولم ينصحه، شاركه فِي وزرِها وعارِها، فالمحسن فِي صلاته شريك المسيء فِي إساءته إذا لم ينهه ولم ينصحْه.

وجاء الحديث عَنْ بلال بْن سعد رضي الله عنه أنه قَالَ: الخطيئة إذا خَفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغيَّر ضرت العامة

(1)

؛ لتركهم ما لزمهم وما وجب عليهم من التغيير، والإنكار على من ظهرت منه الخطيئة.

وجاء عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «ويل للعالم من الجاهل حيث لا يُعَلِّمه»

(2)

.

فلولا أن تعليم الجاهل واجب عَلَى العالم لازم وفريضة وليس بتطوع، ما كان له الويل فِي السكوت عنه وفي ترك تعليمه، والله تعالى لا يؤاخذ من ترك التطوع، إنما يؤاخذ من ترك الفرائض، فتعليم الجاهل فريضة، فلذلك كان له الويل فِي السكوت عنه وترك تعليمه.

فاتقوا اللَّه تعالى فِي أموركم عامة وفي صلاتكم خاصة، واتقوا الله في تعليم الجاهل، فإن تعليمه فريضة واجب لازم، والتارك لذلك مخطئ آثم.

(1)

ذكره البيهقي في شعب الإيمان برقم (7601).

(2)

أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (4/ 394)، من حديث أنس رضي الله عنه، مطولًا. قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار برقم (528): أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس رضي الله عنه بسند ضعيف. قال المحقق أبو عبد الله محمود الحداد: (قلت: لفظ الحديث عنده: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم». وهكذا رواه أيضًا أبو يعلى الموصلي. وأما قوله: «حيث لا يعلِّمه». فليس من أصل الحديث. والمعنى: ويل للعالم من الجاهل؛ حيث لم يعلِّمه معالم الدين، ولم يرشده إلى طريقه المبين، مع إنه مأمور بذلك، وويل للجاهل من العالم؛ حيث أمره بمعروف أو نهاه عن منكر، فلم يأتمر بأمره ولم ينته بنهيه، إذ العالم حجة الله على خلقه، ومعنى الويل: الخسران).

ص: 133

وأمروا أهل مسجدِكم بإحكام الصلاة وإتمامها، وألَّا يكون تكبيرهم إلا بعد تكبير الإمام، ولا يكون ركوعهم وسجودهم ورفعهم وخفضهم إلا بعد تكبير الإمام، وبعد ركوعه وسجوده ورفعه وخفضه.

واعلموا أن ذلك من تمام الصلاة، وذلك الواجب عَلَى الناس واللازم لهم، كذلك جاء عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم.

ومن العجب أن يكون الرجل فِي منزله، فيسمع الأذان فيقوم فزعًا، يتهيأ ويخرج من منزله يريد الصلاة، ولا يريد غيرها، ثم لعله يخرج فِي الليلة المطيرة المظلمة، ويتخبط فِي الطين ويخوضُ الماء وتبتل ثيابه، وإن كان فِي ليالي الصيف فليس يأمن العقارب والهوام فِي ظلمة الليل، ولعله مع هذا أن يكون مريضًا ضعيفًا فلا يدع الخروج إلى المسجد، فيتحمل هذا كله إيثارًا للصلاة وحبًّا لها وقصدًا إليها، لم يخرجه من منزله غيرها، فإذا دخل مع الإمام فِي الصلاة خدعه الشيطان، فيسابق الإمام فِي الركوع والسجود والرفع والخفض؛ خدعًا من الشيطان له، لما يريد من إبطال صلاته وإحباط عمله، فيخرج من المسجد ولا صلاة له.

ومن العجب أنهم كلهم يستيقنون أنه ليس أحد ممن خلف الإمام ينصرف من صلاته حتى ينصرف الإمام، وكلهم ينتظرون الإمام حتى يسلم، وهم كلهم إلا ما شاء اللَّه يسابقونه فِي الركوع والسجود والرفع والخفض، خدعًا من الشيطان لهم، واستخفافًا بالصلاة منهم، واستهانة بها، وذلك حظهم من الإسلام، وقد جاء الحديث قَالَ:«لا حظ فِي الإسلام لمن ترك الصلاة»

(1)

.

(1)

موقوف من كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم (581، 5010)، وابن أبي شيبة في المصنف برقم (37074)، والخلال في السنة برقم (1371). قال البغوي في شرح السنة (2/ 179):(قلت: اختلف أهل العلم في تكفير تارك الصلاة المفروضة عمدًا، فذهب إبراهيم النخعي، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، إلى تكفيره، قال عمر رضي الله عنه: «لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة»، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «تركها كفر»، قال عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة)، وذهب الآخرون إلى أنه لا يكفر، وحملوا الحديث على ترك الجحود، وعلى الزجر والوعيد، وقال حماد بن زيد، ومكحول، ومالك، والشافعي:(تارك الصلاة كالمرتد، ولا يخرج به عن الدين)، وقال الزهري، وبه قال أصحاب الرأي:(لا يقتل، بل يحبس ويضرب حتى يصلي، كما لا يقتل تارك الصوم، والزكاة، والحج).

ص: 134

فكل مستخف بالصلاة مستهين بها هو مستخف بالإسلام مستهين به، وإنما حظهم من الإسلام عَلَى قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم فِي الإسلام عَلَى قدر رغبتهم فِي الصلاة.

فاعرف نفسك يا عبد الله، واعلم أن حظَّك من الإسلام وقدر الإسلام عندك بقدر حظك من الصلاة وقدرها عندك.

واحذر أن تلقى اللَّه عز وجل ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام فِي قلبك كقدر الصلاة فِي قلبك.

وقد جاء الحديث عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «الصلاة عمود الإسلام»

(1)

. ألست تعلم أن الفسطاط إذا سقط عموده سقط الفسطاط ولم ينتفع بالطنب

(2)

ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود الفسطاط انتفعت بالطنُب والأوتاد، فكذلك الصلاة من الإسلام.

(1)

أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة برقم (200)، عن الحسن رضي الله عنه، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، ما تقول في الصلاة؟ قال:«عمود الإسلام» . وفيه العوام بن جويرية، ضعيف، كما قال ابن معين في تاريخه (2/ 158)، وقال الذهبي في المغني في الضعفاء (2/ 494): العَوام بن جوَيْرِية عَنْ الْحسن، قَالَ ابْن حبَان: كَانَ يروي الموضوعات.

(2)

والطنب: مفرد أطناب، وهي الحبال الَّتِي يشد بهَا الْفسْطَاط، وَهِي الأواخي أَيْضًا. ينظر: غريب الحديث لابن قتيبة (2/ 402).

ص: 135

فانظروا رحمكم اللَّه واعقلوا وأحكموا الصلاة، واتقوا اللَّه فيها وتعاونوا عليها، وتناصحوا فيها بالتعليم من بعضكم لبعض والتذكير من بعضكم لبعض من الغفلة والنسيان، فإن اللَّه عز وجل قد أمركم أن تتعاونوا عَلَى البر والتقوى، والصلاة أفضل البر، وجاء الحديث عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:«أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة، وليصلين أقوام لا خلاق لهم»

(1)

.

وجاء الحديث أن: «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن تقبلت منه صلاته تقبل منه سائر عمله، وإن رُدَّت صلاته رُدَّ سائر عمله»

(2)

.

فصلاتنا آخر ديننا، وهي أول ما نسأل عنه غدًا من أعمالنا، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلامٌ ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام، فكل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعُه، فتمسكوا رحمكم اللَّه بآخر دينكم.

وليعلم المتهاون بصلاته المستخفُّ بها المسابق الإمام فيها أنه لا صلاة له، وأنه إذا ذهبت صلاته فقد ذهب دينه، فعظموا الصلاة رحمكم اللَّه، وتمسكوا بها، واتقوا اللَّه فيها خاصة، وفي أموركم عامة.

واعلموا أن اللَّه عز وجل قد عظم خطر الصلاة فِي القرآن، وعظم أمرها وشرفها وشرف أهلها، وخصها بالذكر من بين الطاعات كلها فِي مواضع من القرآن كثيرة وأوصى بها خاصة.

(1)

صح بهذا السياق موقوفًا عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الطبراني في الكبير برقم (8699)، وعبد الرزاق في المصنف برقم (5981)، وابن أبي شيبة في المصنف برقم (37585)، والخلال في السنة برقم (1391)، والخرائطي في مكارم الأخلاق برقم (176).

(2)

أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (1859)، والطوسي في مستخرجه (2/ 365)، والضياء في المختارة برقم (2578) مرفوعًا، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2573).

ص: 136

فمن ذلك أن اللَّه تعالى ذكر أعمال البر التي أوجب لأهلها الخلود فِي الفردوس، فافتتح تلك الأعمال بالصلاة، وختمها بالصلاة، وجعل تلك الأعمال التي جعل لأهلها الخلود فِي الفردوس بين ذكر الصلاة مرتين قَالَ اللَّهُ تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]؛ فبدأ من صفتهم بالصلاة عند مديحه إياهم، ثم وصفهم بالأعمال الطاهرة الزاكية المرضية إلى قول اللَّه عز وجل:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 8 - 11]، فأوجب اللَّه عز وجل لأهل هذه الأعمال الشريفة الزاكية المرضية الخلود فِي الفردوس، وجعل هذه الأعمال بين ذكر الصلاة مرتين.

ثم عاب اللَّه عز وجل الناس كلهم وذمهم، ونسبهم إلى اللؤم والهلع والجزع والمنع للخير، إلا أهل الصلاة، فإنه استثناهم منهم فقَالَ اللَّهُ عز وجل:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 - 21]، ثم استثنى المصلين منهم فقال:{إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 22 - 25].

ثم وصفهم بالأعمال الزاكية الطاهرة المرضية الشريفة إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33]، ثم ختم بثنائه عليهم ومدحهم بأن ذكرهم بمحافظتهم عَلَى الصلاة فقال:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج: 34 - 35]، فأوجب لأهل هذه الأعمال الكرامة فِي الجنة، وافتتح ذكر هذه الأعمال بالصلاة وختمه بالصلاة، فجعل ذكر هذه الأعمال بين ذكر الصلاة مرتين.

ثم ندب اللَّه عز وجل رسولَه صلى الله عليه وسلم إلى الطاعة كلها جملة، وأفرد الصلاة بالذكر من بين الطاعة كلها، والصلاة هي من الطاعة، فقال عز وجل: {اتْلُ

ص: 137

مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45]، ففي تلاوة الكتاب فعل جميع الطاعات واجتناب جميع المعصية، فخصَّ الصلاة بالذكر فقال:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} .

وإلى الصلاة خاصة ندبه اللَّه عز وجل فقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، فأمره أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، ثم أمر اللَّه تعالى جميع المؤمنين بالاستعانة عَلَى طاعته كلها بالصبر، ثم خص الصلاة بالذكر من بين الطاعة كلها، فقرنها مع الصبر بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، فكذلك أمر اللَّه تعالى بني إسرائيل بالاستعانة بالصبر والصلاة عَلَى جميع الطاعة، ثم أفرد الصلاة من بين الطاعة فقال:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].

ومثل ذلك ما أخبر اللَّه عز وجل به من حُكمه ووصيته خليله إبراهيم عليه السلام ولوطًا عليه السلام وإسحاق عليه السلام ويعقوب عليه السلام فقال: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، إلى قوله:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا} [الأنبياء: 71]، إلى قوله:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72]، إلى قوله:{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، فذكر الخيرات كلها جملة وهي جميع الطاعات واجتناب جميع المعصية، وأفرد الصلاة بالذكر، وأوصاهم بها خاصة.

ومثل ذلك ما ذكر عَنْ إِسْمَاعِيل عليه السلام فِي قوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]، فبدأ بالصلاة.

ص: 138

ومثل ذلك عَنْ نجيه مُوسَى عليه السلام فِي قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه: 9]، إلى قوله:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، فأجمل الطاعة واجتناب المعصية فِي قوله لموسى عليه السلام:{فَاعْبُدْنِي} ، وأفرد الصلاة وأمر بها خاصة، وقال الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الأعراف: 170]، والتمسك بالكتاب يأتي عَلَى جميع الطاعة واجتناب جميع المعصية، ثم خص الصلاة بالذكر فقال:{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} .

وإلى تضييع الصلاة نسب الله عز وجل من أوجب له العذاب قبل المعاصي فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، فمن اتباع الشهوات ركوب جميع المعاصي، فنسبهم اللَّه عز وجل إلى جميع المعصية فِي تضييع الصلاة.

فهذا ما أخبر الله تعالى به من آي القرآن من تعظيم الصلاة، وتقديمها بين يدي الأعمال كلها، وإفرادها بالذكر من بين جميع الطاعات، والوصية بها دون أعمال البر عامة، فالصلاة خطرها عظيم وأمرها جسيم.

وبالصلاة أمر اللَّه تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أول ما أوحى إليه بالنبوة قبل كل عمل وقبل كل فريضة.

وبالصلاة أوصى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الدنيا فقال: «اللَّه اللَّه فِي الصلاة وفيما ملكت أيمانكم»

(1)

. فِي آخر وصيته إياهم.

(1)

أخرجه البيهقي في الآداب برقم (51)، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه: «الله الله الصلاة وما ملكت أيمانكم» ، قالت: فجعل يتكلم به وما يفيض، وفي رواية أخرى: حتى جعل يلجلجها في صدره، وما يفيض بها لسانه.

ص: 139

وجاء الحديث أنها آخر وصية كل نَبِيّ لأمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا، وجاء فِي حديث آخر عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يجود بنفسه ويقول:«الصلاة الصلاة الصلاة»

(1)

.

فالصلاة أول فريضة فرضت عليهم، وهي آخر ما أوصى به أمته، وآخر ما يذهب من الإسلام، وهي أول ما يسأل عنه العبد من عمله يوم القيامة، وهي عمود الإسلام، وليس بعد ذهابها دين ولا إسلام، فالله اللَّه فِي أموركم عامة، وفي صلاتكم خاصة، فتمسكوا بها، واحذروا تضييعها والاستخفاف بها، ومسابقة الإمام فيها، وخداع الشيطان أحدكم عنها، وإخراجه إياكم منها، فإنها آخر دينكم، ومن ذهب آخر دينه، فقد ذهب دينه كله، فتمسكوا بآخر دينكم).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(2)

: (وقد جمع النسائي في روايته في حديث بن مسعود رضي الله عنه بين الخبرين ولفظه: «أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء»

(3)

.

وتقدم في تفسير سورة الحج ذكر هذه الأولية بأخص مما في حديث الباب، وهو عن علي رضي الله عنه قال: أنا أول من يجثو للخصومة يوم القيامة

(4)

، يعني: هو ورفيقاه حمزة رضي الله عنه وعبيدة رضي الله عنه، وخصومهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة الذين بارزوا يوم بدر.

(1)

لعله يريد ما أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (585)، وأبو داود برقم (5156)، من حديث علي رضي الله عنه، ولفظه: كان آخر كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «الصلاة الصلاة، اتقوا اللَّه فيما ملكت أيمانكم» . وصححه الشيخ الألباني في الإرواء برقم (2178).

(2)

ينظر: فتح الباري (11/ 397).

(3)

أخرجه النسائي برقم (3991).

(4)

أخرجه البخاري برقم (3965).

ص: 140

قال أبو ذر رضي الله عنه: فيهم نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]، الآية

(1)

. وتقدم شرحه هناك.

وفي حديث الصور الطويل عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء، ويأتي كل قتيل قد حمل رأسَه فيقول: يا ربِّ سل هذا فيم قتلني»

(2)

. الحديث.

وفي حديث نافع بن جبير رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنه رفعه: «يأتي المقتول معلقا رأسَه بإحدى يديه مُتَلَبِّبًا قاتلَه

(3)

بيده الأخرى، تشخُب

(4)

أوداجه دمًا، حتى يقفا بين يدي الله»

(5)

. الحديث.

ونحوه عند بن المبارك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا.

وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس رفعه: «نحن آخرُ الأمم وأولُ من يحاسب يوم القيامة» )

(6)

.

من فوائد الحديثين:

أولًا: في الحديث الأول تعظيم شأن الصلاة، وأنها أهم الأركان العملية بعد الشهادتين.

(1)

أخرجه مسلم برقم (3033).

(2)

أخرجه أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدوَيْه البغدادي الشافعي البزَّاز في كتاب الفوائد الغيلانيات برقم (1111).

(3)

متلببًا قاتله: أي: آخذًا بعنق قاتله بيده.

(4)

تشخب: تسيل.

(5)

أخرجه الطبراني في الكبير برقم (10742)، وفي الأوسط برقم (4217).

(6)

أخرجه ابن ماجه برقم (4290)، وأحمد في المسند برقم (2546).

ص: 141

ثانيًا: فيه أن الصلاة هي ميزان الأعمال يوم القيامة، فإن أحسن العبد صلاته، رجي له النجاح والفلاح، وهذا يدعو إلى الاهتمام بما يصلح الصلاة من أركان وواجبات وسنن، وكذلك الاهتمام بالخشوع في الصلاة، لأنه روح الصلاة ولبها.

ثالثًا: في الحديث بيان فضل التطوع وأهميته في إكمال الصلاة لتكون مقبولة عند الله تعالى.

قال ابن عبد البر رحمه الله

(1)

: (أما إكمال الفريضة من التطوع، فإنما يكون ذلك والله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أو لم يحسن ركوعها، ولم يدر قدر ذلك.

وأما من تعمد تركها أو نسي ثم ذكرها فلم يأت بها عامدًا، واشتغل بالتطوع عن أداء فرضه وهو ذاكر له، فلا تكمل له فريضته تلك من تطوعه، والله أعلم).

رابعًا: أما الحديث الثاني فقد قال ابن حجر رحمه الله

(2)

: (وفي الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك، وقد ورد في التغليظ في أمر القتل آيات كثيرة وآثار شهيرة).

(1)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (24/ 81).

(2)

ينظر: فتح الباري (11/ 397).

ص: 142

‌الحديث التاسع عشر: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين

عَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ لَهَا الْأَعْيُنُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا.

قَالَ: «أُوصِيكُمْ: بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»

(1)

.

معاني الكلمات:

الكلمة

معناها

النواجذ

آخر الأضراس.

محدثات الأمور

البدع المخالفة للسنة.

التعليق:

قال ابن رجب رحمه الله

(2)

: (كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة، كخطب الجمع والأعياد، وقد أمره الله تعالى بذلك، فقال:

(1)

أخرجه أبو داود برقم (4607)، والترمذي برقم (2676)، وأحمد في المسند برقم (17144)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحافظ أبو نعيم: هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين، كما ذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 109).

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 468 - 471) باختصار.

ص: 143

{وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]، وقال:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].

ولكنه كان لا يديم وعظهم، بل يتخولهم به أحيانًا، كما في الصحيحين

(1)

، عن أبي وائل، قال: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يذكِّرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهة أن أملَّكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوَّلنا بالموعظة كراهة السآمة علينا.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة» .

فهاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة.

أما التقوى: فهي كافلة بسعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].

وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه.

ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات، وترك المحرمات والشبهات، وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات، وترك المكروهات، وهي أعلى درجات التقوى، قال الله تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 1 - 3].

(1)

أخرجه البخاري برقم (70)، ومسلم برقم (2821).

ص: 144

وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير)

(1)

.

وقال طلق بن حبيب: (التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله)

(2)

.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، قال:(أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر)

(3)

، وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات، ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها).

وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين: ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما

(1)

أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (45/ 32)، والبيهقي في الزهد الكبير برقم (964)، وذكره المزي في تهذيب الكمال (21/ 445).

(2)

ذكره ابن المبارك في الزهد برقم (1343)، وابن بطة في الإبانة الكبرى برقم (766)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 64).

(3)

أخرجه الطبراني في الكبير برقم (8502)، والحاكم في المستدرك برقم (3159)، والبيهقي في القضاء والقدر برقم (292).

ص: 145

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الناس لا يصلحهم إلا إمام برٌّ أو فاجر، إن كان فاجرًا عبد المؤمن فيه ربه، وعمل الفاجر فيه إلى أجله)

(1)

.

وقال الحسن رضي الله عنه في الأمراء: (هم يلون من أمورنا خمسًا: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن -والله- إن طاعتهم لغيظ، وإن فرقتهم لكفر)

(2)

.

أما قوله: «وإن كان عبدًا حبشيًّا» :

قال ابن دقيق العيد رحمه الله

(3)

: (قال بعض العلماء: العبد لا يكون واليًا، ولكن ضرب به المثل على التقدير وإن لم يكن، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدًا كمفحص قطاة

(4)

، بنى الله له بيتًا في الجنة»

(5)

. ومفحص قطاةٍ لا يكون مسجدًا، ولكن الأمثال يأتي فيها مثل ذلك.

ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله، حتى توضع الولاية في العبيد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا؛ تغليبًا لأهون الضررين، وهو الصبر على ولاية من لا تجوز ولايته، لئلا يفضي إلى فتنة عظيمة.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (37254).

(2)

ذكره الآجري في الشريعة (4/ 1708) بلفظ: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد ما تقول في أمرائنا هؤلاء؟ فقال الحسن رضي الله عنه: ما عسى أن أقول فيهم، هم لحجنا، وهم لغزونا، وهم لقسم فيئنا، وهم لإقامة حدودنا، والله إن طاعتهم لغيظ، وإن فرقتهم لكفر، وما يصلح الله بهم أكثر مما يفسد.

(3)

ينظر: شرح الأربعين النووية (ص 97 - 98).

(4)

والقطاة: قال ابن سيده: وهو طائر معروف، والجمع قطوات. ينظر: شرح ابن ماجه لمغلطاي (ص 1216)، ومفحص القطاة: هو قدر ما تحضن فيه بيضها، ينظر: فتح الباري لابن حجر (12/ 83).

(5)

أخرجه ابن ماجه برقم (738) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وأحمد في المسند برقم (2157) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني.

ص: 146

وقوله: «وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا» :

هذا من بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم، أخبر أصحابه بما يكون بعده من الاختلاف وغلبة المنكر، وقد كان عالمًا به على التفصيل، ولم يكن بينه لكل أحد، إنما حذر منه على العموم، وقد بين ذلك لبعض الآحاد؛ كحذيفة رضي الله عنه وأبي هريرة رضي الله عنه وهو دليل على عظم محلهما ومنزلتهما.

وقوله: «فعليكم بسنتي» :

السنة: الطريقة القويمة التي تجرى على السنن وهو السبيل الواضح.

وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، يعني، الذين شملهم الهدى، وهم الأربعة بالإجماع: أبو بكر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، وعثمان رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه.

وأمر صلى الله عليه وسلم بالثبات على سنة الخلفاء الراشدين لأمرين:

أحدهما: التقليد لمن عجز عن النظر.

والثاني: الترجيح لما ذهبوا إليه عند اختلاف الصحابة).

وقد جاء في بعض الأحاديث فضل السنن النوافل، والسنن النوافل مثل: السنن الرواتب، وقيام الليل، وصوم الاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر وصيام عاشرواء ويوم عرفه

وغيرها كثير.

وهذه السنن غير السنن التي في قوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي» ؛ لأن الثاني المقصود الدين كاملًا أو الملة.

قوله: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» :

تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: كل بدعة ضلالة.

ص: 147

والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته:«إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»

(1)

(2)

.

فقوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله:«من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد»

(3)

.

فكل من أحدث شيئًا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة.

وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية، لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه

(4)

.

وروي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم برقم (867).

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 127).

(3)

أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718)، عن عائشة رضي الله عنها.

(4)

أخرجه مالك في الموطأ برقم (279)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى برقم (253)، وفي فضائل الأوقات برقم (121).

(5)

أخرجه عمر بن شبة في تاريخ المدينة (2/ 715)، والمروزي في مختصر قيام الليل (ص 237).

ص: 148

وروي عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر رضي الله عنه: قد علمت، ولكنه حسن

(1)

.

ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معللًا بأنه خشي أن يكتب عليهم

(2)

، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمن بعده صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر

(3)

.

ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم

(4)

، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر رضي الله عنه وعثمان رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه.

ومن ذلك: أذان الجمعة الأول، زاده عثمان رضي الله عنه لحاجة الناس إليه، وأقره علي رضي الله عنه، واستمر عمل المسلمين عليه، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه رضي الله عنه في قيام رمضان.

(1)

أخرجه الضياء في المختارة برقم (1161).

(2)

أخرجه البخاري برقم (924)، عن عروة رضي الله عنه، أن عائشة رضي الله عنه، أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس، فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس، فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهد، ثم قال:«أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها» .

(3)

أخرجه أبو داود برقم (1375)، والترمذي برقم (806)، والنسائي برقم (1605)، عن أبي ذر رضي الله عنه.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 149

ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال لأبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم علم أنه مصلحة، فوافق على جمعه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة الوحي

(1)

، ولا فرق بين أن يكتب مفرقًا أو مجموعًا، بل جمعه صار أصلح.

وكذلك جمع عثمان رضي الله عنه الأمةَ على مصحفٍ واحدٍ وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة، وقد استحسنه علي رضي الله عنه وأكثر الصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك عين المصلحة.

وكذلك قتال من منع الزكاة توقف فيه عمر رضي الله عنه وغيره حتى بين له أبو بكر رضي الله عنه أصله الذي يرجع إليه من الشريعة، فوافقه الناس على ذلك

(2)

.

(1)

كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، من كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه» . أخرجه مسلم برقم (3004)، وأحمد في المسند واللفظ له برقم (11085)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهذا زمن نزول القرآن، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بكتابة الحديث. ومن عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتدوين وكتابة القرآن الكريم أنه خصص مجموعة من أصحابه رضي الله عنهم لكتابة القرآن الكريم، وكان يُطلَق عليهم لقب (كتبة الوحي)، قال ابن كثير في الفصول (ص 255): (أما كتاب الوحي: فقد كتب له أبو بكر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، وعثمان رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه، والزبير رضي الله عنه، وأبي بن كعب رضي الله عنه، وزيد بن ثابت رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه، والأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، وأبان بن سعيد بن العاص رضي الله عنه، وأخوه خالد رضي الله عنه، وثابت بن قيس رضي الله عنه، وحنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب رضي الله عنه، وخالد بن الوليد رضي الله عنه، وعبد الله بن الأرقم رضي الله عنه، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه، والعلاء بن عتبة رضي الله عنه، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه، وقد أورد ذلك الحافظ أبو القاسم في كتابه أتم إيراد، وأسند ما أمكنه عن كل واحد من هؤلاء إلا شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه.

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 127 - 129).

ص: 150

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث فضل الوعظ والتذكير وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع أصحابه.

ثانيًا: فيه أن بلاغة الموعظة والصدق فيها أبلغ في تأثيرها في النفوس.

ثالثًا: فيه أن الوصية بتقوى الله هي أولى ما يوصى به، لما في الالتزام بها من حصول خيري الدنيا والآخرة.

رابعًا: فيه الوصية بطاعة أولي الأمر في المعروف لما في ذلك من تماسك أمر الأمة وقوتها وتفرغها لمواجهة أعدائها.

خامسًا: في الحديث إشارة إلى الفتن التي ستحدث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والاختلاف في هذه الأمة.

سادسًا: فيه الأمر بالتمسك بالسنة وبخاصة عند الفتن والاختلاف.

سابعًا: فيه الأخذ بهدي الخلفاء الراشدين وتقديم أقوالهم على أقوال غيرهم من الصحابة.

ثامنًا: فيه التحذير من البدع والمحدثات في الدين.

ص: 151

‌الحديث العشرون: اللهم احفظني بالإسلام قائمًا

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول:«اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني بالإسلام قاعدًا، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تشمت بي عدوًّا ولا حاسدًا، اللهم أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك»

(1)

.

التعليق:

جاء في صحيح ابن حبان، والدعوات الكبير للبيهقي سبب ورود هذا الحديث؛ فقد روَيَا عن هاشم بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصابته مصيبة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ذلك، وسأله أن يأمر له بوسق

(2)

من تمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن شئت أمرت لك بوسق، وإن شئت علمتك كلمات هي خير لك منه» ، قال: علمنيهن ومر لي بوسق؛ فإني ذو حاجة إليه، فقال:«أفعل» ، وقال:«قل: اللهم احفظني بالإسلام قاعدًا، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تطع فيَّ عدوًّا حاسدًا، وأعوذ بك من شر ما أنت آخذ بناصيته، وأسألك من الخير الذي هو بيدك كله»

(3)

.

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (1924)، والطبراني في الدعاء برقم (1445)، والبيهقي في الدعوات الكبير برقم (253). قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1540).

(2)

الوسق: ستون صاعًا، والصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وربع. ينظر: النهاية لابن الأثير (5/ 185)، ومفاتيح العلوم للخوارزمي (1/ 29).

(3)

أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (934)، والبيهقي في الدعوات الكبير برقم (252)، والضياء في المختارة برقم (296)، وابن كثير في مسند الفاروق (1/ 179) وقال: غريب، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (6003).

ص: 152

قال الصنعاني رحمه الله

(1)

: (قوله: «اللَّهم احفظني بالإِسلام قائمًا» ، أي: احفظني بمصاحبة الإِسلام في حال قيامي.

«واحفظني بالإِسلام قاعدًا» ، مثله.

«واحفظني بالإِسلام راقدًا»

(2)

، واحفظني عن الأسواء في هذه الأحوال بسبب الإِسلام لك والانقياد.

«ولا تشمت بي»

(3)

، في القاموس

(4)

: شمِت كفرِح شماتًا وشماتة: فرح ببلة العدو، أي: لا تُفرح «عدوًّا لي» ببلية أقع فيها «ولا حاسدًا» . وهو دعاء بأن يحفظه من أن يحلَّ به بلية.

«اللَّهم إني أسألك من كلِّ خير خزائنُه» مبتدأ «بيدك» خبره «وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك» وقد علم أن خزائن الأمر بيده تعالى فهو عام لخير الدارين).

أنواع الحفظ:

ويجب على الإنسان أن يحفظ حدود الله عز وجل ليحفظه الله في دينه ودنياه، لأن الجزاء من جنس العمل، قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وقال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ

(1)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (3/ 124)، وسبل السلام للصنعاني (2/ 712).

(2)

قال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 213): (أَرَادَ فِي جَمِيع الْحَالَات، ومقصوده: طلب الْكَمَال وإتمام النِّعْمَة عَلَيْهِ بإكمال دينه).

(3)

قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (10/ 110): (شماتة الأعداء مما ينكأ القلب، وتبلغ به النفس أشد مبلغ). وقد قال هارون لأخيه عليهما السلام: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150]، لا تفرحهم بما تصيبني به.

(4)

ينظر: القاموس المحيط للفيروز أبادي (ص 898).

ص: 153

بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة»

(1)

.

قال الإمام ابن رجب رحمه الله

(2)

: (وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:

أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله:

قال الله عز وجل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، قال ابن عباس رضي الله عنه:(هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلُّوا عنه)

(3)

.

وقال علي رضي الله عنه: (إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدَّر، فإذا جاء القدر خلَّيا بينه وبينه، وإن الأجل جُنَّةٌ حصينة)

(4)

.

وقال مجاهد رحمه الله: (ما من عبد الا له ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك، إلا شيئًا أذن الله فيه فيصيبه)

(5)

.

وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (2803)، والترمذي برقم (2516)، عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح وصححه الألباني.

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 465).

(3)

ينظر: تفسير الطبري (13/ 458)، وتفسير عبد الرزاق (2/ 230).

(4)

ينظر: تفسير الطبري (13/ 466)، وزاد المسير لابن الجوزي (2/ 486)، وتفسير ابن كثير (4/ 439).

(5)

ينظر: تفسير الطبري (13/ 460)، وتفسير ابن كثير (4/ 438).

ص: 154

والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي، وآمن روعتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي»

(1)

.

ومن حفظ الله في صباه وقوته، حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.

كان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله

(2)

، فوثب يومًا وثبة شديدة، فعوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.

وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخًا يسأل الناس فقال: إن هذا ضعيفٌ ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره

(3)

.

وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]، أنهما حفظا بصلاح أبيهما.

قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه لابنه: (لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلا هذه الآية: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82])

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود برقم (5074)، وأحمد في المسند برقم (4785)، وابن ماجه برقم (3871)، والنسائي بعضه برقم (5529)، وفي الكبرى كاملًا برقم (10325).

(2)

هو الإمام طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، أبو الطيب الطبري الفقيه، شيخ الشافعية المتوفى سنة (450) هجرية، ينظر: البداية والنهاية لابن كثير (15/ 761).

(3)

لعله يعرفه، ولا ينبغي لنا أن نحكم على الناس بمثل هذا فقد يبتلى الإنسان بالفقر والمرض والحاجة مع فضله وتقواه.

(4)

ذكره البغوي في تفسيره (5/ 196) بلفظ: (إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي)، وينظر: روح البيان (5/ 288)، وتفسير الخازن (3/ 174).

ص: 155

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه، وعقب عقبه)

(1)

.

وقال ابن المنكدر: (إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر)

(2)

.

ومتى كان العبد مشتغلًا بطاعة الله، فإن الله يحفظه في تلك الحال.

وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«كانت امرأة في بيت، فخرجت في سرية من المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عنزة وصِيصِيَتَها كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزًا لها وصِيصِيَتَها، فقالت: يا رب إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه، وإني قد فقدت عنزًا من غنمي وصيصيَتي، وإني أنشدك عنزي وصيصيَتي» ، قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شدةَ مناشدتها ربها تبارك وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فأصبحت عنزها ومثلها، وصِيصيَتُها ومثلُها»

(3)

.

والصيصية: هي الصنارة التي يغزل بها وينسج.

فمن حفظ الله حفظه الله من كل أذى قال بعض السلف: من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه، فقد ضيع نفسَه، والله الغني عنه.

(1)

أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (31/ 222)، وابن أبي الدنيا في الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان برقم (71)، بلفظ:«مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلَّا حَفِظَهُ اللَّهُ فِي عَقِبِهِ وَعَقِبِ عَقِبِهِ» .

(2)

أخرجه النسائي في الكبرى برقم (11866)، والحميدي في مسنده برقم (377)، وابن المبارك في الزهد برقم (330)، وابن أبي الدنيا في النفقة على العيال برقم (359).

(3)

أخرجه أحمد في المسند برقم (20664)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 277) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2935): وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير الرجل الطفاوي، فإنه لم يسم، ولا يضر لأنه صحابي، والصحابة كلهم عدول.

ص: 156

من عجيب حفظ الله:

ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه؛ أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى، كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كسر به المركب، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسد، فجعل يمشي معه حتى دلَّه على الطريق، فلما أوقفه عليها، جعل يُهمهِم كأنه يودعُه، ثم رجع عنه

(1)

.

ورئي إبراهيم بن أدهم نائمًا في بستان، وعنده حيةٌ في فمها طاقة نرجسٍ، فما زالت تذبُّ عنه حتى استيقظ

(2)

.

وعكس هذا أن من ضيع الله، ضيعه الله، فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السلف:(إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي)

(3)

.

النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين:

حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان.

قال بعض السلف: إذا حضر الرجل الموت يقال للملك: شُمَّ رأسه، قال:

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (6550) وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير برقم (6432)، والبيهقي في الاعتقاد (ص 316)، والبغوي في شرح السنة برقم (3732).

(2)

ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق (6/ 318)، والخطيب البغدادي في المنتخب من كتاب الزهد والرقائق (ص 128)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 337).

(3)

روي ذلك عن الفضيل بن عياض. ينظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (8/ 109)، وذم الهوى لابن الجوزي (ص 180)، ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي (ص 265)، والجواب الكافي لابن القيم (ص 54)، والرسالة القشيرية للقشيري (1/ 41).

ص: 157

أجد في رأسه القرآن، قال: شمَّ قلبه، قال: أجد في قلبه الصيام، قال: شم قدميه قال: أجد في قدميه القيام، قال: حفظ نفسه، فحفظه الله

(1)

.

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يقول عند منامه: «إن قبضت نفسي، فارحمها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»

(2)

.

وفي حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول: «اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني بالإسلام قاعدًا، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تطع في عدوًّا ولا حاسدًا»

(3)

. خرجه ابن حبان في صحيحه.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يودِّع من أراد سفرًا، فيقول:«أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك»

(4)

.

وكان يقول: «إن الله إذا استودع شيئًا حفظه»

(5)

. خرجه النسائي وغيره.

وفي الجملة: فإن الله عز وجل يحفظ على المؤمن الحافظ لحدود دينه، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها، وقد يكون كارهًا له، كما قال في حق يوسف عليه السلام:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].

(1)

ذكره ابن رجب في لطائف المعارف (ص 172)، وعزاه السيوطي لابن أبي الدنيا في شرح الصدور برقم (49).

(2)

أخرجه البخاري برقم (7393)، ومسلم برقم (2714).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

أخرجه أبو داود برقم (2600)، والترمذي برقم (3442)، وابن ماجه برقم (2826)، وأحمد في المسند برقم (4524) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

أخرجه أحمد في المسند برقم (5605)، والنسائي في الكبرى برقم (10273)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 158

قال ابن عباس رضي الله عنه: في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار

(1)

.

وقال الحسن رضي الله عنه وذكر أهل المعاصي-: هانوا عليه فعصوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم

(2)

.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنه إن يسرته له أدخلته النارَ، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير يقول: سبقني فلان دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل

(3)

.

وخرجه الطبراني من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسطت عليه أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصحَحْته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من يطلب بابا من العبادة، فأكفه عنه، لكيلا يدخله العجب، إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم خبير»

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير برقم (8954)، وينظر: زاد المسير لابن الجوزي (2/ 200).

(2)

ينظر: الجواب الكافي لابن القيم (ص 58)، وروضة المحبين له (ص 441)، وذم الهوى لابن الجوزي (ص 184)، والمنتظم له (14/ 356).

(3)

ينظر: الزهد والرقائق لابن المبارك (2/ 33)، والرضا عن الله لابن أبي الدنيا برقم (57).

(4)

أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات برقم (231)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 318). وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (1775).

ص: 159

من فوائد الحديث:

الأول: في الحديث أهمية الدعاء في حفظ النفس، وحصول كل محبوب وتوقي كل مكروه.

الثاني: فيه أن نعمة الإسلام هي أعظم النعم على الإطلاق؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل اللَّه تعالى أن يتمّ عليه هذه النعمة في كافة أحواله.

الثالث: فيه استحباب سؤال الله ألا يجعل عدوه يفرح ببلية تنزل عليه، ولا حاسدًا يتمنى زوال نعمته، فيسوء عيشه.

الثالث: فيه سؤال اللَّه تعالى من كل أنواع الخير، وأقسامه المخزونة عنده جل وعلا، ما علمناها، وما جهلناها.

الرابع: فيه الاستعاذة بالله من كل الشرور وأنواعها، مما أعلمها، ومما لا أعلمها.

ص: 160

‌الحديث الحادي والعشرون: من تعلق شيئًا

عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عيسى، أخيه، قال: دخلت على عبد الله بن عكيم أبي معبد الجهني، أعودُه وبه حُمْرةٌ، فقلنا: ألا تعلِّق شيئًا؟ قال: الموت أقرب من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من تعلق شيئًا وُكل إليه»

(1)

.

معاني الكلمات:

الكلمة

معناها

أعوده

أزوره زيارة مريض.

حُمْرة

مرض جلدي حاد، قال الأَزهري:(الحُمْرَةُ من جنس الطواعين)

(2)

.

ألا تعلق شيئًا

أي: من التعاويذ.

من تعلَّق شيئًا

أي: من علق على نفسه شيئًا من التعاويذ والتمائم وأشباهها معتقدًا أنها تجلب إليه نفعًا أو تدفع عنه ضرًّا.

وُكِل إليه

أي: خُلي إلى ذلك الشيء وترك بينه وبينه.

التعليق:

في الحديث النهي عن تعلق شيء من التمائم والحروز رجاء النفع ودفع الضر،

(1)

أخرجه الترمذي برقم (2072)، وأحمد في المسند برقم (18781)، والحاكم في المستدرك برقم (7503)، وحسته الألباني كما في صحيح الترمذي برقم (1691).

(2)

ينظر: لسان العرب لابن منظور (4/ 208).

ص: 161

وفي الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تعلَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومن تعلَّق ودَعَةً فلا ودَع اللهُ له»

(1)

.

قال السيد الشيخ أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي رحمه الله

(2)

: (إن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله تعالى وصفاته.

فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهو ظاهر ما روي عن عائشة رضي الله عنها، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد رحمه الله في رواية، وحملوا الحديث يعني حديث ابن مسعود رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم التولة شرك»

(3)

؛ على التمائم التي فيها شرك.

وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال: ابن مسعود رضي الله عنهما وابن عباس رضي الله عنهما وهو ظاهر قول حذيفة رضي الله عنه وعقبة بن عامر رضي الله عنه وابن عكيم رضي الله عنه، وبه قال جماعة من التابعين، منهم: أصحاب ابن مسعود رضي الله عنهما وأحمد رحمه الله في رواية اختارها كثير من أصحابه.

وجزم به المتأخرون واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (17404)، وأبو يعلى في المسند برقم (1759)، والطحاوي في شرح معاني الآثار برقم (7172)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (1266).

(2)

ينظر: الدين الخالص للقنوجي (2/ 172).

(3)

أخرجه أبو داود برقم (3883)، وابن ماجه برقم (3530)، وأحمد في المسند برقم (3615)، وابن حبان في صحيحه برقم (6090)، والطبراني في الكبير برقم (8862)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (331).

ص: 162

قال بعض العلماء: وهذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة، تظهر للمتأمل:

الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم.

الثاني: سد الذريعة فإن يفضي إلى تعليق من ليس كذلك.

الثالث: أنه إذا علَّق فلا بد أن يمتهنه المعلِّق؛ بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك.

قال: وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف، يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة؛ من تعظيم القبور، واتخاذها مساجد، والإقبال إليها بالقلب والوجه، وصرف الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التي هي حقُّ الله تعالى إليها من دونه، كما قال تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 106 - 107]، ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر. انتهى.

قلت: غربة الإسلام شيء، وحكم المسألة شيء آخر، والوجه الثالث المتقدم لمنع التعليق ضعيف جدًّا، لأنه لا مانع من نزع التمائم عند قضاء الحاجة ونحوها لساعة، ثم يعلقها

(1)

.

والراجح في الباب: أن ترك التعليق أفضل في كل حال، بالنسبة إلى التعليق الذي جوزه بعض أهل العلم، بناء على أن يكون بما ثبت لا بما لم يثبت، لأن التقوى لها مراتب، وكذا في الإخلاص، وفوق كل رتبة في الدين رتبة أخرى، والمحصِّلون لها أقلّ.

(1)

المشاهد أن معظم من يتعلق مثل هذه الحروز لا يخلعونها عند دخول الخلاء، نسيانًا تارة وخوفًا من السرقة تارة أخرى، وبخاصة إذا كانت ثمينة من الذهب أو غيره، وبهذا يتضح قوة الوجه الثالث الذي اعترض عليه العلامة صديق حسن خان.

ص: 163

ولهذا ورد في الحديث في حق السبعين ألفًا، يدخلون الجنة بغير حساب أنهم:«هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون»

(1)

؛ مع أن الرُّقى جائزة وردت بها الأخبار والآثار والله أعلم بالصواب، والمتقي من يترك ما ليس به بأس خوفًا مما فيه بأس). انتهى كلامه بلفظه.

قال أبو الحسن المباركفوري رحمه الله

(2)

: (وزاد بعضهم وجهًا رابعًا: وهو إن فعل ذلك استهزاء بآيات الله ومناقضة لما جاءت به، فإن الله أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وشفاء لما في الصدور، ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا، وإنه لتذكرة للمتقين، ولم ينزل القرآنُ ليتخذ حجُبًا وتمائم، ولا ليتلاعب به المتأكِّلون به، الذين يشترون به ثمنًا قليلًا، والذين يقرؤونه على المقابر وأمثال ذلك مما ذهب بحرمة القرآن وجرَّأ رؤساء المسلمين على ترك الحكم به).

أما من تعلق شيئًا، واعتقد أن الشفاء من هذا الشيء لا من الله تعالى فلا شك أن هذا محرم، لأنه نوع من الشرك.

قال الحسين بن محمود المظهري رحمه الله

(3)

: (قوله: «مَنْ تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه»؛ يعني: مَنْ تمسَّك بشيءٍ من المداواة، واعتقد أن الشفاءَ منه لا من الله تعالى لم يَشفِه الله، بل وُكِلَ شفاؤُه إلى ذلك الشيء، وحينَئذٍ لا يحصل شفاؤُه؛ لأن الأشياءَ لا تنفعُ ولا تضرُّ بغير أمر الله تعالى، ولذلك مَنْ اعتقد حصولَ الرزق أو دفعَ البلاء أو تحصيلَ مطلوبٍ من شيءٍ بغير أمر الله تعالى فهو داخلٌ في هذا الحديث).

(1)

أخرجه البخاري برقم (5752)، ومسلم برقم (220) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

ينظر: مرعاة المفاتيح للمباركفوري (8/ 240).

(3)

ينظر: المفاتيح في شرح المصابيح للمظهري (5/ 84).

ص: 164

من فوائد الحديث:

الأول: في الحديث التزام السلف بما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم من فضائل، ومن ذلك عيادة المرضى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من عاد مريضًا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع» ، قيل: يا رسول الله وما خرفة الجنة؟ قال: «جناها»

(1)

.

الثاني: في الحديث تفاوت السلف في العلم، وأن بعض المسائل المهمة كانت تخفى على بعضهم، فإذا عرفوها عملوا بها.

الثالث: فيه النهي عن التعالاق وكراهتهم لما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأن الموت أحب إليهم من اقترافه.

(1)

أخرجه مسلم برقم (2568) عن ثوبان رضي الله عنه.

ص: 165

‌الحديث الثاني والعشرون: من أصبح منكم معافى

عن سلمة بن عبيد الله بن مِحْصَنٍ الخطْميِّ، عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم معافًى في بدنه، آمنًا في سربه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

آمنًا في سِربه

بكسر السين على الأشهر، أي: في نفسه، وقيل: في نفسه وأهله، وروي بفتحها؛ أي: في طريقه ومسلكه، وقيل: بفتحتين (سَرَبه)؛ أي: في بيته.

فكأنما حيزت له الدنيا

أي: ضُمَّت وجمعت.

بحذافيرها

بجوانبها، إذ ليس مع من نال الدنيا بجوانبها سوى هذه الثلاث.

التعليق:

في هذا الحديث إشارة إلى أصول النعم الدنيوية وهي:

أولًا: نعمة الصحة والعافية.

ثانيًا: نعمة الأمن.

(1)

أخرجه الترمذي برقم (2346)، وابن ماجه برقم (4141). قال الترمذي: حسن غريب، وحسنه الشيخ الألباني.

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (10/ 110)، والتيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (2/ 399)، وشرح مصابيح السنة لابن الملك (5/ 402).

ص: 166

ثالثًا: نعمة المال والاستغناء عن الناس.

فمن جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه ونفسه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أنلا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها؛ بأن يصرفها طاعة المنعم لا في معصية، ولا يفتر عن ذكره، قال نفطويْه:

إذا ما كساك الدهرُ ثوب مَصَحَّةٍ

ولم يخل من قوتٍ يُحَلَّى ويعذُب

فلا تغبطنَّ المترفين فإنه

على حسب ما يعطيهم الدهرُ يسلبُ

وفيه حجة لمن فضل الفقر على الغنى

(1)

.

أما نعمة الصحة فهي نعمة عظيمة ينبغي أن يستثمرها الإنسان في طاعة الله ورضوانه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ»

(2)

.

فهذه النعمة مما يسأل الإنسان عن شكرها يوم القيامة، ويطالب بها، كما قال تعالى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].

وخرج الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم، فيقول له: ألم نُصِح لك جسمَك، ونَرْويك من الماء البارد؟»

(3)

.

(1)

ينظر: فيض القدير للمناوي (6/ 68).

(2)

أخرجه البخاري برقم (6412) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه الترمذي برقم (3358)، والحاكم في المستدرك برقم (7202)، وابن حبان في صحيحه برقم (7364)، والطبراني في الأوسط برقم (62). وقال الترمذي: غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني.

ص: 167

وقال ابن مسعود رضي الله عنهما: (النعيم: الأمن والصحة)

(1)

، وروي عنه مرفوعًا

(2)

.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: (النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله العباد: فيما استعملوها؟ وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]

(3)

(4)

.

وأما نعمة الأمن، فمن أعظم أسباب تحقيقها هو الإيمان بالله تعالى ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وقال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى لأهل الإيمان بالأمن التام الذي ليس بعده خوف، وهذا إنما يكون يوم القيامة، أما في الدنيا فقد يتحقق الأمن لأهل الإيمان وقد يتخلف عنهم، وقد يتحقق في وقت دون وقت، وفي قوم دون قوم، وكلما

(1)

ينظر: تفسير الطبري (24/ 603)، وتفسير ابن أبي حاتم (10/ 3460).

(2)

ينظر: أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (10/ 3462)، ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد برقم (857، 2311).

(3)

ينظر: تفسير الطبري (24/ 604)، وزاد المسير لابن الجوزي (4/ 486)، وتفسير ابن كثير (8/ 177).

(4)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 710).

ص: 168

توافرت الشروط وانتفت الموانع تحقق لهم الأمن، وكلما تخلفت الشروط وتحققت الموانع، فقد الأمن وضاعت الحقوق والمصالح، وحصل القلق والخوف والفوضى، وتسلط الظلمة على الناس، وحصل السلب والنهب، وسفكت الدماء، وانتهكت الأعراض إلى غير ذلك من مظاهر فقد الأمن للمجتمع.

فلا يأمن الإنسان على نفسه وهو في بيته، ولا يأمن على أهله وحرمته، ولا يأمن على ماله، ولا يأمن وهو في الشارع أو في المسجد أو في مكتبه ومحل عمله، لا يأمن في أي مكان إذا زالت نعمة الأمن عن المجتمع.

ولذلك ينبغي شكر هذه النعمة إذا تحققت، والعمل على تثبيتها واستمرارها.

وأما نعمة الاستغناء عن الناس: فهي نعمة عظيمة، فإن سؤال الناس مذلة، وعز المؤمن في استغنائه عن الناس، كما في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس»

(1)

.

وقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قيمة الاستغناء عن الناس، في نفوس أصحابه، فكان يبايعهم على ألا يسأل أحدهم الناس شيئًا؛ فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة؛ فقال: «ألا تبايعون رسول الله؟» وكنا حديث عهد ببيعة. فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» ، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله.

(1)

أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (4278)، والحاكم في المستدرك برقم (7921)، والقضاعي في مسند الشهاب برقم (746)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (831).

ص: 169

ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال:«على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا -وأَسَرَّ كلمةً خفية- ولا تسألوا الناس شيئًا» . قال عوف بن مالك: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه

(1)

.

ولا يستطيع الإنسان الاستغناء عن الناس إلا إذا كان يمتلك قوته وقوت عياله، فالمال لا يذم مطلقًا بل قد يمدح، لأنه يغني المرء عن مذلة السؤال، وينفق في طاعة الله وفي مشاريع الخير، ويتصدق به على الفقراء والمساكين، وتستنقذ به رقاب الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه:«يَا عَمْرُو، نِعْم الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»

(2)

.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله

(3)

: (والمقصود: أن الله تعالى أنعم على عباده بما لا يحصونه كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وطلب منهم الشكر، ورضي به منهم.

قال سليمان التيمي: إن الله أنعم على العباد على قدره، وكلفهم الشكر على قدرهم، حتى رضي منهم من الشكر بالاعتراف بقلوبهم بنعمه، وبالحمد بألسنتهم عليها

(4)

، كما خرجه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن غنام

(1)

أخرجه مسلم برقم (1043).

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (17763)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (299)، وصححه الألباني.

(3)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 715).

(4)

أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر برقم (8)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (4578).

ص: 170

رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قالها حين يمسي أدى شكر ليلته»

(1)

.

وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز رحمه الله إليه: إني بأرض قد كثرت فيها النعم، حتى لقد أشفقت على أهلها من ضعف الشكر، فكتب إليه عمر رحمه الله: إني قد كنت أراك أعلم بالله مما أنت، إن الله لم ينعم على عبد نعمة، فحمد الله عليها، إلا كان حمده أفضل من نعمه، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وقال تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر: 73]، إلى قوله:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الزمر: 74]، وأي نعمة أفضل من دخول الجنة؟

(2)

.

وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر عن بعض العلماء أنه صوب هذا القول: أعني قول من قال: (إن الحمد أفضل من النعم)

(3)

.

وعن ابن عيينة أنه خطأ قائله، قال: (ولا يكون فعل العبد أفضل من فعل الرب عز وجل

(4)

.

ولكن الصواب قول من صوبه، فإن المراد بالنعم: النعم الدنيوية، كالعافية

(1)

أخرجه أبو داود برقم (5073)، والنسائي في السنن الكبرى برقم (9750)، وفي اليوم والليلة برقم (7).

(2)

ينظر: تفسير ابن أبي حاتم (9/ 2854)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (5/ 293).

(3)

ينظر: الشكر لابن أبي الدنيا (ص 40) برقم (111).

(4)

ينظر: المصدر السابق.

ص: 171

والرزق والصحة، ودفع المكروه، ونحو ذلك، والحمد هو من النعم الدينية، وكلاهما نعمة من الله، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده، فإن النعم الدنيوية إن لم يقترن بها الشكر، كانت بلية، كما قال أبو حازم:(كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية)

(1)

.

فإذا وفق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع الشكر، كانت هذه النعمة خيرًا من تلك النعم وأحب إلى الله عز وجل منها، فإن الله يحب المحامد، ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، ويشرب الشربة، فيحمده عليها

(2)

.

والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود والكرم أحب إليهم من أموالهم، فهم يبذلونها طلبا للثناء، والله عز وجل أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فهو يبذل نعمه لعباده، ويطلب منهم الثناء بها، وذكرها، والحمد عليها، ويرضى منهم بذلك شكرا عليها، وإن كان ذلك كله من فضله عليهم، وهو غير محتاج إلى شكرهم، لكنه يحب ذلك من عباده، حيث كان صلاح العبد وفلاحه وكماله فيه.

ومن فضله أنه نسب الحمد والشكر إليهم، وإن كان من أعظم نعمه عليهم، وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال، ثم استقرض منهم بعضَه، ومدحهم بإعطائه، والكل ملكُه، ومن فضله، ولكن كرمه اقتضى ذلك، ومن هنا

(1)

ينظر: الشكر لابن أبي الدنيا (ص 11) برقم (20)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (3/ 230)، وشعب الإيمان برقم (4217)، والمجالسة وجواهر العلم للدينوري برقم (4/ 19).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2734)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها» .

ص: 172

يعلم معنى الأثر الذي جاء مرفوعًا وموقوفًا: «الحمد لله حمدًا يوافي نعمَه، ويكافئُ مَزيدَه»

(1)

.

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث فضل الصحة والمعافاة في الأبدان، وأنها من أعظم النعم.

ثانيًا: فيه فضل الأمن والاستقرار وعدم الخوف وأن ذلك من أعظم النعم.

ثالثًا: فيه فضل الاستغناء عن الناس ولو بالقليل، وأنه من أعظم النعم.

رابعًا: فيه أن نعم الدنيا وملذاتها لا تخرج عن هذه الثلاثة.

خامسًا: فيه حث على النظر والتأمل في النعم التي يتمتع بها الإنسان وقد لا يشعر بها لاعتياده عليها، فإذا فقدها علم قدرها، وفي هذا الزمان رأينا ذلك رأي العين بعد أن ضرب العالم وباء كورونا، فأدركنا كثيرًا من النعم التي حرمنا منها بسبب هذا الوباء، منها نعمة المساجد وصلاة الجماعة متلاصقين لا يخشى أحدنا من الآخر، ونعمة لقاء الناس والجلوس معهم، بل ونعمة الزحام الذي كنا نشكو منه في الحج والعمرة، وغير ذلك من النعم التي ما كنا نعدها شيئًا، فلما فقدناها علمنا قدرها.

(1)

أخرجه موقوفًا عن أبي صالح أبو الشيخ في العظمة (5/ 1576)، والمرفوع منه لا يصح، ينظر: التلخيص الحبير لابن حجر (4/ 440)، وضعيف الترغيب والترهيب برقم (962).

ص: 173

‌الحديث الثالث والعشرون: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» . رواه البخاري

(1)

.

ورواه مسلم

(2)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» .

معاني الكلمات

(3)

:

الكلمة

معناها

حُجبت

سُترت.

الشهوات

الملذات التي منع الشرع من تعاطيها أو التي قد تؤدي إلى ترك الواجبات أو الوقوع في المحرمات.

بالمكاره

المشاق التي تستلزمها الطاعات وترك المحرمات.

حُفَّت

بالحاء المهملة وتشديد الفاء من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلا بتخطيه، فالجنة لا يتوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره، والنار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات، فكانت الشهوات سببًا لدخول النار، وكانت المكاره سببًا لدخول الجنة.

(1)

أخرجه البخاري برقم (6487).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2822).

(3)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 320)، وشرح النووي على مسلم (17/ 165)، وكشف المشكل لابن الجوزي (3/ 507)، وعمدة القاري للعيني (23/ 78).

ص: 174

التعليق:

معنى الحديث: أن من يريد الجنة فعليه أن يُكره نفسه على أعمال الطاعات والخير، ومن يريد النجاة من النار، فعليه أن يبتعد عن الشهوات المحرمة، فإنها موصلة إلى النار والعياذ بالله.

قال النووي رحمه الله

(1)

: (قال العلماء هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن. ومعناه: لا يوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات.

فأما المكاره: فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات ونحو ذلك.

وأما الشهوات التي النار محفوفة بها: فالظاهر أنها الشهوات المحرمة، كالخمر والزنا والنظر إلى الأجنبية، والغيبة واستعمال الملاهي ونحو ذلك.

وأما الشهوات المباحة، فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها؛ مخافة أن يجر إلى المحرمة، أو يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا).

ولذة الشهوات زائلة لا تبقى، وإنما يبقى إثمُها وعارها.

قال عباس الدوري رحمه الله: (كان بعض أصحابنا يقول: كان سفيان الثوري كثيرًا ما يتمثل بهذين البيتين:

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (17/ 165).

ص: 175

تفنى اللذاذةُ ممن نال صفوتَها

من الحرام ويبقى الوزرُ والعارُ

تبقى عواقبُ سوءٍ في مغبَّتها

لا خير في لذةٍ من بعدها النار

وقال الحسين بن مطير:

ونفسَك أكرم عن أمورٍ كثيرةٍ

فما لك نفسٌ بعدَها تستعيرُها

ولا تقرب المرعَى الحرامَ فإنما

حلاوتُه تفنى ويبقى مريرُها

وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى).

وروى الخرائطي عن مالك بن دينار قال: بينا أنا أطوف، إذ أنا بجارية متعبدة، متعلقة بأستار الكعبة، وهي تقول: يا رب كم من شهوةٍ ذهبت لذتُها وبقيت تبعتُها، أيا رب! أما لك أدبٌ إلا النار، فما زال مقامها حتى طلع الفجر، فلما رأيت ذلك، وضعت يدي على رأسي خارجًا أقول: ثكلت مالكًا أمُّه؛ جويرية منذ الليلة قد بطَّلتْه!!

(1)

.

وطائفةٌ بالبيتِ والليلُ مظلمٌ

تقولُ ومنها دمْعُها يتسجَّمُ

أيا ربِّ كم من شهوةٍ قد رزئتُها

ولذة عيشٍ حبلُها يتصرَّمُ

أما كان يكفي للعبادِ عقوبةً

ولا أدبًا إلا الجحيمُ المضرَّمُ

فما زال ذاك القول منها تضرعًا

إلى أن بدا فجرُ الصباح المقدَّمٌ

فشبكت مني الكفَّ أهتف خارجًا

على الرأس أُبدي بعضَ ما كنت أكتُمُ

وقلت لنفسي إذا تطاولَ ما بها

وأعيا عليها ورْدُها المتغنَّمُ

(1)

أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب برقم (133)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/ 516)، والفاكهي في أخبار مكة برقم (652).

ص: 176

ألا ثكلتْك اليوم أمُّك مالكا

جويريةٌ ألهاك منها التكلُّمُ

فمازلت بطالا بها طولَ ليلةٍ

تنال بها حظًّا جسيمًا وتغنَمُ)

(1)

وأما الطاعات والمكاره، فإن تعبها يزول، ويبقى أجرها وثوابها حتى يدخل صاحبها الجنة، وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط»

(2)

.

من فوائد الحديث:

أولًا: أنَّ الجنة لا تُنال إلا بالصبر على المكاره، ولذلك كان السلف رحمهم الله لا يحبون البقاء في الدنيا إلا لمكابدة الطاعات، وكانوا يجدون في ذلك أعظم اللذة والنعيم.

وروى ابن المبارك في الزهد أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: (لولا ثلاث ما أحببت البقاء: ساعة ظمأ الهواجر، والسجود في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون جيد الكلام كما ينتقى أطايب الثمر)

(3)

.

(1)

ينظر: روضة المحبين لابن القيم (ص 330).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2807).

(3)

ينظر: الزهد لابن المبارك (1/ 94) برقم (277)، وأورده أحمد في الزهد برقم (722) بلفظ:«لولا ثلاث لأحببت أن أكون، في بطن الأرض لا على ظهرها؛ لولا إخوان لي يأتوني ينتقون طيب الكلام كما ينتقى طيب التمر، أو أعفر وجهي ساجدا لله عز وجل، أو غدوة أو روحة في سبيل الله عز وجل» .

ص: 177

ثانيًا: أنَّ النَّار لا يُنْجَى منها إلا بفطام النفس عن الشهوات المحرمة، قال تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59].

قال البغوي رحمه الله

(1)

: (أي المعاصي وشرب الخمر، يعني آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله. {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال وهب: الغي: نهر في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الغي: واد في جهنم وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد للزاني المصر عليه ولشارب الخمر المدمن عليها، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق ولشاهد الزور).

فالشهوات: هي ما تميل إليه النفس، من غير تعقل، ولا تبصر، ولا مراعاة لدين، ولا مراعاة لمروءة.

فالزنى -والعياذ بالله- شهوة الفرج، تميل إليها النفس كثيرًا، فإذا هتك الإنسان هذا الحجاب، فإنه سيكون سببًا لدخوله النار

(2)

.

(1)

ينظر: تفسير البغوي (5/ 241).

(2)

ينظر: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (2/ 87).

ص: 178

‌الحديث الرابع والعشرون: مثل طائفتان

عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَا، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .

معاني الكلمات

(1)

:

الكلمة

معناها

غيث

الغيث: هو المطر، وإنما اختار الغيث من بين سائر أسماء المطر ليؤذن باضطرار الخلق حينئذ إليه صلى الله عليه وسلم كاضطرارهم إلى المطر، قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28].

طائفة

أي: قطعة من الأرض.

الكلأ والعشب الكثير

العشب والكلأ والحشيش، كلها أسماء للنبات، لكن الحشيش مختص باليابس، والعشب والكلأ مقصورًا مختصان بالرطب، والكلأ بالهمز يقع على اليابس والرطب.

(1)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (1/ 410)، وشرح النووي على مسلم (15/ 47)، واللامع الصبيح للبرماوي (1/ 397)، ومصابيح الجامع للدماميني (1/ 206).

ص: 179

أجادب

من الجدب واليبس، وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء.

قيعان

جمع: قاع، وهي الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في هذا الحديث، كما صرح به صلى الله عليه وسلم، ويجمع أيضًا على: أقوع وأقواع.

فقُه

أي: صار فقيهًا.

التعليق:

هذه أمثال ضربت:

فالأول: لمن يقبل الهدى ويعلم غيره فينتفع وينفع.

والثاني: لمن ينفع غيره بالعلم ولا ينتفع.

والثالث: لمن لا ينفع ولا ينتفع.

ويحتمل أن يشار بالطائفة الأولى إلى العلماء بالحديث والفقه، فإنهم حفظوا المنقول واستنبطوا، فعم نفعُهم.

ويشار بالطائفة الأخرى إلى من نقل الحديث ولم يفهم معانيه ولا تفقه، فهو يحفظ الألفاظ وينقلها إلى من ينتفع بها.

ويشار بالقيعان إلى من لم يتعلق بشيء من العلم

(1)

.

قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة

(2)

: (شبه صلى الله عليه وسلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر.

(1)

ينظر: زاد المسير لابن الجوزي (1/ 410).

(2)

ينظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 60).

ص: 180

وشبه القلوب بالأراضي التي يقع عليها المطر، لأنها المحلُّ الذي يمسك الماء فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته.

ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام، بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه، وفهم معانيه، واستنباط أحكامه، واستخراج حِكَمه وفوائده:

أحدها: أهل الحفظ والفهم، الذين حفظوه وعقلوه، وفهموا معانيه، واستنبطوا وجوه الأحكام والحكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبِلت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط، فإنه بمنزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء، فهذا مثل الحفاظ الفقهاء، أهل الرواية والدراية.

القسم الثاني: أهل الحفظ الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه، ولم يرزقوا تفقها في معانيه، ولا استنباطًا ولا استخراجًا لوجوه الحكم والفوائد منه، فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه، ويراعي حروفه وإعرابه، ولم يرزق فيه فهمًا خاصًّا عن الله، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:(إلَّا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه)

(1)

.

والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعظم تفاوت، فرُب شخص يفهم من النص حكمًا أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس، فانتفعوا به، هذا

(1)

أخرجه البخاري برقم (3047) عن أبي جحيفة رضي الله عنه، قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: (لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة)، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: (العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر).

ص: 181

يشرب منه، وهذا يسقي وهذا يزرع، فهؤلاء القسمان هم السعداء والأولون أرفع درجة وأعلى قدرًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

القسم الثالث: الذين لا نصيب لهم منه لا حفظًا ولا فهمًا، ولا رواية ولا دراية، بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان، لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء.

والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم كل بحسب ما قبِله، ووصل إليه، فهذا يَعلم ألفاظَ القرآن ويحفظها، وهذا يعلِّم معانيه وأحكامه وعلومه.

والقسم الثالث لا علم ولا تعليم، فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسًا، ولم يقبلوه، وهؤلاء شر من الأنعام، وهم وقود النار.

فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم، وعظم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم وسعيدهم، وتقسم سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد.

وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر، بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث.

قال الإمام أحمد رحمه الله: الناس محتاجون الى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس

(1)

.

(1)

ينظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 390)، والآداب الشرعية لابن مفلح (2/ 44).

ص: 182

وقد قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد: 17]، شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالماء الذي أنزله من السماء؛ لما يحصل لكل واحد منهما من الحياة، ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ثم شبه القلوب بالأودية؛ فقلبٌ كبير يسع علمًا كثيرًا، كوادٍ عظيم يسع ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغير إنما يسع علمًا قليلًا، كوادٍ صغير إنما يسع ماء قليلًا، فقال:{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} .

هذا مثل ضربه الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته، فإنه يستخرج منها زبدَ الشبهاتِ الباطلة، فيطفو على وجه القلب، كما يستخرج السيل من الوادي زبدًا يعلو فوق الماء.

وأخبر سبحانه أنه رابٍ يطفو ويعلو على الماء، لا يستقر في أرض الوادي، كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم، ربت فوق القلوب وطفت، فلا تستقر فيه، بل تجفى وترمى، فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناس من الهدى ودين الحق، كما يستقر في الوادي الماء الصافي، ويذهب الزبد جُفاء، وما يعقل عن الله أمثاله إلا العالمون.

ثم ضرب سبحانه لذلك مثلًا آخر فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} ، يعني: أن مما يوقد عليه بنو آدم من الذهب والفضة والنحاس والحديد يخرج منه خبثه، وهو الزبد الذي تلقيه النار وتخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها، فإنه يقذف ويلقى به، ويستقر الجوهر الخالص وحده.

ص: 183

وضرب سبحانه مثلًا بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة، ومثلًا بالنار لما فيها من الإضاءة والإشراق والإحراق، فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الارض بالماء، وتحرق خبثها وشبهاتِها وشهواتِها وسخائمَها، كما تحرق النار ما يلقى فيها، وتميز جيِّدَها من زبدِها، كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه منه.

فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العبر والعلم قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

من فوائد الحديث:

أولًا: في هذا الحديث إشارة إلى وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وسبب بعثته، وهو هداية الخلق وتعليمهم ما ينفعهم وينجيهم.

وقد كانت الناس قبل بعثته صلى الله عليه وسلم في جهل وضلال، امتحنوا بموت القلب، حتى أصابهم الله برحمة من عنده، وأغاثهم به صلى الله عليه وسلم فأرسله إليهم رحمة.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، أي: لجميع الخلق: للمؤمنين بالهداية، وللمنافقين بالأمان من القتل، وللكافرين بتأخير العذاب، فهداهم به، وأزال ضلالهم، وعلم جاهلهم، وقوَّم مائلهم، وأحيا قلوبهم الميتة به، كما أحيا الأرض الميتة بالغيث المرسل إليها، وهذا يدل على شرفه وعلو قدره صلى الله عليه وسلم عند الله

(1)

.

ثانيًا: فيه دلالة على أن حياة القلوب لا تكون إلا بالعلم، وأن العلم للقلوب

(1)

ينظر: شرح البخاري للسفيري (2/ 149).

ص: 184

بمنزلة الحياة للأبدان، لأن المطر يمثل الحياة، بل إن حاجة الإنسان للعلم أعظم من حاجته إلى المطر.

ثالثًا: فيه إشارة إلى شرف العلم والتعليم وعظيم موقعه، وأن المشتغل به مشتغل بما اشتغل به الرسل عليهم السلام.

رابعًا: فيه إشارة إلى اختلاف عقول الناس وفهومهم، فمنهم الذي يحفظ الألفاظ، ولا يجتهد في فهم المعاني، ومنهم الذي يفهم المعاني، دون حفظ الألفاظ، ومنهم من جمع بين الحسنيين.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

(1)

: (وفي هذا الحديث دليل على أن من فقه في دين الله، وعلم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعلم فإنه خير الأقسام، لأنه علم وفقه لينتفع وينفع الناس، ويليه من علم ولكن لم يفقه، يعني روى الحديث وحمله، لكن لم يفقه منه شيئًا، وإنما هو راوية فقط، يأتي في المرتبة الثانية في الفضل بالنسبة لأهل العلم والإيمان، القسم الثالث: لا خير له، رجل أصابه من العلم والهدى الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه لم يرفع به رأسًا ولم ينتفع به، ولم يعلمه الناس، فكان -والعياذ بالله- كمثل الأرض السبخة التي ابتلعت الماء ولم تنبت شيئًا للناس، ولم يبق الماء على سطحها حتى ينتفع الناس به).

خامسًا: فيه إشارة إلى شقاء من لم ينتسب إلى أهل العلم، لا تعلمًا ولا حفظًا ولا تعليمًا، وأنه بمنزلة من لم يقبل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والرشاد.

(1)

ينظر: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (2/ 295).

ص: 185

سادسًا: في هذا الحديث دليل على حسن تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك بضرب الأمثال، لأن ضرب الأمثال الحسية يقرب المعاني العقلية، أي: ما يدرك بالعقل يقربه ما يدرك بالحس، وهذا مشاهد؛ فإن كثيرًا من الناس لا يفهم، فإذا ضربت له مثلًا محسوسًا فهم وانتفع، ولهذا قال الله تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58].

فضرب الأمثال من أحسن طرق التعليم ووسائل العلم

(1)

.

(1)

ينظر: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (2/ 295)، فقط الفائدة الأخيرة (سادسًا).

ص: 186

‌الحديث الخامس والعشرون: خالفوا المشركين

عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خالفوا المشركين: وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

وفِّروا اللِّحى

أي: اتركوها موفَّرةً.

أحفُوا الشوارب

قال الخطابيُّ: ويكون بمعنى الاستقصاء. يقال: أحفى شاربه ورأسه، وقال ابنُ دريد: يقال: حفَا شاربَه يحفوه حفوًا: إذا استأصل أخذ شعره.

التعليق:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبُّ مخالفةَ المشركين، ويخشى على أمته من التشبه بهم، واتباعهم في مظهرهم ومخبرهم.

قال ابن عبد البر رحمه الله

(3)

: (وكان صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته اتباعهم، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم على جهة التعيير والتوبيخ: «لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو النعل بالنعل، حتى إن أحدَهم لو دخل جُحر ضبٍّ لدخلتموه»)

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (5892)، ومسلم برقم (259).

(2)

ينظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (2/ 62)

(3)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (5/ 45).

(4)

أخرجه البخاري برقم (7320)، ومسلم برقم (2669)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم» ، قلنا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال: «فمن» .

ص: 187

ومن ذلك الأمر بإعفاء اللحى وجزُّ الشوارب مخالفة للمشركين، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزُّوا الشواربَ، وأرْخوا اللحى خالفوا المجوس»

(1)

.

لأن المجوس كانوا يقصرون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها

(2)

.

أما حكم حلق اللحية فقد قال السفاريني رحمه الله

(3)

: (وحاصل ما ذهب إليه إمامنا وعلماؤنا: تحريم حلق اللحية.

وقال أبو شامة من الشافعية: وقد حدَث قومٌ يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصُّونها.

وقال الإمام النووي

(4)

: يستثنى من الأمر بإعفاء اللحى: ما لو نبت للمرأة لحية، فإنه يستحب لها حلقُها، وكذا لو نبت لها شارب أو عنفقة).

وأما الأخذ من اللحية فقد ذهب أكثر العلماء إلى جواز الأخذ غير الفاحش من طولها وعرضها إذا كانت تطول عن العادة

(5)

.

وقد اختلف السلف هل لذلك حدٌّ؛ فمنهم من لم يحدد شيئًا في ذلك، إلا

(1)

أخرجه مسلم برقم (260).

(2)

ينظر: عمدة القاري للعيني (22/ 46).

(3)

ينظر: كشف اللثام للسفاريني (1/ 374).

(4)

ينظر: شرح النووي على مسلم (3/ 149).

(5)

ينظر: الاستذكار لابن عبد البر (8/ 429)، وشرح النووي على مسلم (3/ 151)، وفتح الباري لابن حجر (10/ 350)، وعمدة القاري للعيني (22/ 47).

ص: 188

أنه لا يتركها لحد الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدًّا، ومنهم من حدد بما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة

(1)

.

قال ابن حجر رحمه الله

(2)

: (الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخصُّ هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة، بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه).

وأما إحفاء الشوارب؛ فمن العلماء من فهم منه الحلق أو الاستقصاء في الأخذ، ومنهم من فهم منه القص، للحديث الوارد في سنن الفطرة، ومنها قصُّ الشوارب

(3)

.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله

(4)

: (وقص الشارب مطلق، ينطلق على إحفائه، وعلى ما دون ذلك، واستحب بعض العلماء إزالة ما زاد على الشفة، وفسروا به قوله صلى الله عليه وسلم:«وأحفوا الشوارب»

(5)

، وقوم يرون إنهاكَها، وزوال شعرها، ويفسرون به الإحفاء، فإن اللفظ يدل على الاستقصاء، ومنه: إحفاء المسألة، وقد ورد في بعض الروايات:«انهكوا الشواربَ»

(6)

.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (3/ 151).

(2)

ينظر: فتح الباري (10/ 350).

(3)

وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط» . أخرجه البخاري برقم (5891) ومسلم برقم (257).

(4)

بنظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد (1/ 124).

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

روى هذه اللفظة البخاري برقم (5893) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْهَكوا الشواربَ، وأعفوا اللِّحى» .

ص: 189

والأصل في قص الشوارب وإحفائها وجهان:

أحدهما: مخالفة زي الأعاجم، وقد وردت هذه العلة منصوصة في الصحيح، حيث قال:«خالفوا المجوس»

(1)

.

والثاني: أن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة، وأنزه من وضر الطعام).

وقال الشوكاني رحمه الله

(2)

: (وقد اختلف الناس في حدِّ ما يُقص من الشارب، وقد ذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه لظاهر قوله:«أحفوا وانْهَكوا» وهو قول الكوفيين.

وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال، وإليه ذهب مالك، وكان يرى تأديب من حلقه، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: إحفاء الشاربِ مُثْلَةٌ.

قال النووي رحمه الله: المختار أنه يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفيه من أصله، قال: وأما رواية: «أحفوا الشوارب» ، فمعناه: أحفوا ما طال عن الشفتين، وكذلك قال مالك في الموطأ

(3)

: يؤخذ من الشارب حتى يبدو أطراف الشفة.

قال ابن القيم رحمه الله

(4)

: وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد، فكان مذهبهم في شعر الرأس والشوارب أن الإحفاء أفضل من التقصير.

وذكر بعض المالكية عن الشافعي أن مذهبه كمذهب أبي حنيفة في حلق الشارب، قال الطحاوي: ولم أجد عن الشافعي شيئا منصوصًا في هذا، وأصحابه

(1)

أخرجه مسلم برقم (260) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ينظر: نيل الأوطار (1/ 148)، وقوله: مُثْلَةٌ: أي: تشويه.

(3)

ينظر: موطأ الإمام مالك برقم (3409).

(4)

ينظر: زاد المعاد لابن القيم (1/ 173).

ص: 190

الذين رأيناهم المزني والربيع كانا يحفيان شواربَهما، ويدل ذلك أنهما أخذاه عن الشافعي رحمه الله

(1)

.

وروى الأثرم عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يحفي شاربه إحفاءً شديدًا، وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يُحفى

(2)

.

وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ترى للرجل يأخذ شاربه ويحفيه أم كيف يأخذه؟ قال: إن أحفاه فلا بأس، وإن أخذه قصًّا فلا بأس

(3)

.

وقال أبو محمد: هو مخير بين أن يحفيه وبين أن يقصه.

وقد روى النووي في شرح مسلم

(4)

عن بعض العلماء أنه ذهب إلى التخيير بين الأمرين الإحفاء وعدمه).

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث الأمر بمخالفة المشركين في هديهم الظاهر.

ثانيًا: فيه الأمر بإطلاق اللحية والنهي عن حلقها.

ثالثًا: فيه الأمر بإحفاء الشارب على الخلاف في معنى الإحفاء، هل هو القص أم الإزالة.

(1)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (21/ 64).

(2)

ينظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (13/ 382).

(3)

ينظر: الوقوف والترجل في مسائل الإمام أحمد للخلال (ص 127)، والجامع لعلوم الإمام أحمد (13/ 382).

(4)

ينظر: شرح النووي على مسلم (3/ 151).

ص: 191

‌الحديث السادس والعشرون: قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا

عَنْ عبد الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» . رواه مسلم

(1)

.

معاني الكلمات:

الكلمة

معناها

أفلح

بمعنى: فاز ونجا.

والكفاف

ما كفَّ عن الاحتياج وكفى.

وقنعه الله

القناعة: الرضا بالكفاف وترك الشَّره إلى الازدياد.

التعليق:

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله

(2)

: (حكم صلى الله عليه وسلم بالفلاح لمن جمع هذه الخلال الثلاث.

والفلاح: اسم جامع لحصول كلّ مطلوب محبوب، والسلامة من كلّ مخوفٍ مهوب.

وذلك أنَّ هذه الثلاث جمعت خير الدين والدنيا، فإنَّ العبد إذا هدي للإسلام الذي هو دين الله، الذي لا يقبل دينًا سواه، وهو مدار الفوز بالثواب والنجاة من العقاب، وحصل له الرزق الذي يكفيه ويكفّ وجهه عن سؤال الخلق، ثمّ تمّم الله عليه النعمة، بأن قنَّعه بما آتاه، أي: حصل له الرضى بما أوتي من الرزق والكفاف، ولم تطمح نفسه لما وراء ذلك: فقد حصل له حسنة الدنيا والآخرة.

(1)

أخرجه مسلم برقم (1054).

(2)

ينظر: بهجة قلوب الأبرار للسعدي (ص 168).

ص: 192

فإنَّ النقص بفوات هذه الأمور الثلاثة أو أحدها: إمّا ألَّا يُهدى للإسلام، فهذا مهما كانت حاله، فإنّ عاقبته الشقاوة الأبديّة، وإمّا بأن يُهدي للإسلام، ولكنّه يبتلى: إمّا بفقرٍ ينسي، أو غنى يطغي؛ وكلاهما ضرر ونقص كبير، وإمّا بأن يحصل له الرزق الكافي موسَّعًا أو مقدّرًا، ولكنّه لا يقنع برزق الله، ولا يطمئن قلبه بما آتاه الله: فهذا فقير القلب والنفس.

فإنّه: ليس الغنى عن كثرة العرض، إنّما الغنى غنى القلب

(1)

، فكم من صاحب ثروة وقلبه فقير متحسر، وكم من فقير ذات اليد، وقلبه غنيٌّ راض، قانع برزق الله.

فالحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرِها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنِه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق فليسع لراحة القلب، وسكونه وطمأنينته. والله أعلم).

وفي هذا الحديث مدح القناعة، وقيل هي: الاستغناء بالموجود، وترك للتشوف إلى المفقود.

وقيل: الاستغناء بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث.

وقيل: أن يكتفي المرء بما يملك، ولا يطمع فيما لا يملك.

وقيل: امتلاء القلب بالرضا، والبعد عن التسخّط والشكوى.

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»

(2)

.

(1)

ورد مرفوعًا من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ» . أخرجه البخاري برقم (6446)، ومسلم برقم (1051).

(2)

أخرجه البخاري برقم (6316).

ص: 193

قال أبو حاتم البستي رحمه الله

(1)

: (فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الخبر أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، فكأنه أمره بالقناعة باليسير من الدنيا، إذ الغريب وعابر السبيل لا يقصدان في الغيبةِ الإكثارَ من الثروة، بل القناعة إليهما أقرب من الإكثار من الدنيا).

قال أكثم بن صيفي لابنه

(2)

: (يا بني من لم يأسَ على ما فاته ودَّع بدنَه، ومن قنع بما هو فيه قرَّت عينُه).

وأنشد علي بن محمد البسامي:

من تمامِ العيش ما قرَّت به

عينُ ذي النِّعمةِ أثرى أو أقَلّ

وقليلٌ أنت مسرورٌ به

لك خيرٌ من كثيرٍ في دغَل

وأنشد ابن زنجي البغدادي:

أقول للنفس صبرًا عند نائبة

فعسر يومِك موصولٌ بيسْر غدِ

ما سرني أن نفسي غيرُ قانعةٍ

وأن أرزاقَ هذا الخلقِ تحتَ يدي

قال أبو حاتم رحمه الله

(3)

: (مِنْ أكثر مواهبِ الله لعباده وأعظمِها خطرًا القناعة، وليس شيء أرْوَح للبدن من الرِّضا بالقضاء، والثقة بالقسْم، ولو لم يكن في القناعة خصلةٌ تُحمد إلا الراحة وعدم الدخول في مواضع السوء لطلب الفضل، لكان الواجب على العاقل ألا يفارق القناعة على حالة من الأحوال).

(1)

ينظر: روضة العقلاء للدارمي (ص 148).

(2)

ينظر: مجمع الأمثال للنيسابوري (2/ 265)، وجمهرة الأمثال للعسكري (1/ 493).

وروي بلفظ: «من لم يأس على مَا فَاتَهُ أراح نَفسه» . ينظر: الأمثال لابن سلام (ص 163)، والمستقصى في أمثال العرب للزمخشري (2/ 360).

(3)

ينظر: روضة العقلاء للدارمي (ص 148).

ص: 194

وعن محمد بن المنكدر قال: (القناعة مال لا ينفذ)

(1)

.

وقال محمد بن حميد الأكاف:

تقنع بالكفاف تعش رخيًّا

ولا تبغ الفضولَ من الكفافِ

ففي خبز القفار بغير أدمٍ

وفي ماء الفراتِ غنى وكاف

وكل تزين بالمرء زين

وأزينُه التزينُ بالعفاف

وأنشد محمد بن إسحاق الواسطي:

الحمد لله حمدًا دائما أبدا

لقد تزين أهلُ الحرصِ والشّين

لا زين إلا لراضٍ في تقلُّله

إن القنوعَ لثوبُ العزِّ والدين

وأنشد عبد العزيز بن سليمان الأبرش:

إذا المرءُ لم يقنع بعيشٍ فإنه

وإن كان ذا مالٍ من الفقر موقَرُ

إذا كان فضلُ الناسِ يغنيك بينهم

فأنت بفضلِ الله أغنى وأيسرُ

وقال ابن المبارك رحمه الله

(2)

: (مروءة القناعة أفضل من مروءة الإعطاء).

وقال أبو حاتم رضي الله عنه

(3)

: (القناعةُ تكون بالقلب، فمن غني قلبُه غنِيَت يداه، ومن افتقر قلبه لم ينفعْه غناه، ومن قنع ولم يتسخَّط عاش آمنا مطمئنًّا، ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائتِ نهايةٌ لرغبته، والجد والحرمان كأنهما يصطرعان بين العباد).

(1)

أخرجه محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا بسند ضعيف. ينظر: الكامل في الضعفاء لابن عدي (5/ 317)، وأخرجه الطبراني في الأوسط برقم (6922)، وقال: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن المنكدر إلا ابنه يوسف، ولا عن يوسف إلا خالد بن إسماعيل، تفرد به: أبو يوسف الصيدلاني، ولا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد.

(2)

ينظر: ترتيب الأمالي الخميسية للشجري برقم (2176).

(3)

ينظر: روضة العقلاء للدارمي (ص 148).

ص: 195

ولقد أحسن الذي يقول:

فما كل ما حاز الفتى من تلاده

بكيْسٍ ولا ما فاته بتوانِ

بكيْسٍ ولا ما فاته بتوانِ

سيكفيكه جدانِ يصطرعان

وعن المديني قال: (كان يقال: مروءة الصبر عند الحاجة والفاقة بالتعفف والغنى، أكثر من مروءة الإعطاء).

قال أبو حاتم رحمه الله

(1)

: (من نازعته نفسه إلى القنوع ثم حسد الناس على ما في أيديهم فليس ذلك لقناعةٍ ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل، فمثله كمثل حمار السوء، الذي يعرج بخفةِ حِمْلِه، ويحزن إذا رأى العلفَ يُؤثر به ذو القوةِ والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشرِه اللئيم أتعب قلبه وجسمه والكرام أصبر نفوسًا واللئام أصبر أجسادًا).

وأنشد عمرو بن محمد أنشدنا الغلابي:

لعمرك ما الأرزاق من حيلة الفتى

ولا سببٌ في ساحة الحي ثاقب

ولكنها الأرزاق تقسم بينهم

فما لك منها غير ما أنت شارب

وقال الخليل بن أحمد

(2)

:

إن لم يكن لك لحمٌ

كفاك خلٌّ وزيتُ

إلَّا يكنْ ذا وهذا

فكسرةٌ وبُيَيْتُ

تظلُّ فيه وتأوي

حتى يجيئَك موتُ

هذا لعمري كفاف

فلا يغرّك ليتُ

(1)

ينظر: روضة العقلاء للدارمي (ص 148).

(2)

ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي (4/ 355)، والثقات لابن حبان (8/ 230).

ص: 196

وعن محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، قال:(القناعة)

(1)

.

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث إشارة إلى فضل الإسلام، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.

ثانيًا: فيه فضل القناعة بالقليل، وأن ذلك نعمة من الله تعالى.

والقناعة هي أول درجات الرضا، كما قال أبو سليمان الداراني رحمه الله:(الورع أول الزهد، كما أن القناعة أولُ الرضا)

(2)

.

وإذا انحرف الإنسان عن القناعة انحرف: إما إلى حرصٍ وكلَبٍ، وإما إلى خسةٍ ومهانة وإضاعة

(3)

.

(1)

ذكره السيوطي في الدر المنثور (5/ 164).

(2)

ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/ 24).

(3)

ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/ 296).

ص: 197

‌الحديث السابع والعشرون: جوامع الخيرات

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

نفس عن مؤمن

خفف عنه ووسع عليه.

كربة

الكربة: الشدة العظيمة.

يسَّر على معسرٍ

سهل عليه إن كان له دين عنده، أو سعى عند من له الدين في التيسير عليه. والمعسر: الفقير.

والله في عون العبد

العون: النصرة.

(1)

أخرجه مسلم برقم (2699).

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 236)، والتحبير لإيضاح معاني التيسير للصنعاني (6/ 554)، والمفاتيح في شرح المصابيح للمظهري (1/ 305).

ص: 198

يلتمس فيه علمًا

أي: يطلبُ.

يتدارسونه بينهم

المدارسة مفاعلة، تصدق على من تلا شيئًا ورفيقه يستمع له، ثم يتلو رفيقه وهو كذلك، ويصدق على جماعة كلٌّ يتلو لنفسه على الاستقلال، والمفاعلة بمعنى فعل بينهم.

السكينة

فعيلة من السُّكون والطمأنينة.

وغشيتهم الرحمة

خالطتهم وعمَّتهم.

وحفتهم الملائكة

أحاطت بهم، قال تعالى:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75].

بطأ به عمله

أخّره عن القرب من الله والتقرب إليه.

التعليق:

إن أبواب الخير كثيرة وطرق البر متعددة، ومن أفضل تلك الأبواب ما يتعلق بنفع العباد وتنفيس كربهم، والسعي في حوائجهم، وكشف الضر عنهم، فإن الخلق عيال الله، وخير الناس أنفعهم لعياله، وكذلك من أبواب البر الطاعات المقصور نفعها على صاحبها، كالصلاة والتلاوة والذكر ومدارسة القرآن، كل ذلك مما يقرب إلى الله ويرفع الدرجات.

وقد ذكر النووي رحمه الله في شرح مسلم

(1)

أن هذا الحديث: (حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب.

ومعنى نفَّس الكربة: أزالها، وفيه فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر؛ من علم أو مال أو معاونة، أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك،

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (17/ 21).

ص: 199

وفضل الستر على المسلمين، وفضل إنظار المعسر، وفضل المشي في طلب العلم، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي، بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى، وان كان هذا شرطًا في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة به، لكونه قد يتساهل فيه بعض الناس، ويغفل عنه بعض المبتدئين ونحوهم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة» :

قيل: المراد بالسكينة هنا: الرحمة، وهو الذي اختاره القاضي عياض رحمه الله، وهو ضعيف؛ لعطف الرحمة عليه، وقيل: الطمأنينة والوقار هو أحسن، وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال مالك: يكره، وتأوله بعض أصحابه.

ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة: الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إن شاء الله تعالى، ويدل عليه الحديث الذي بعده فإنه مطلق

(1)

يتناول جميع المواضع ويكون التقييد في الحديث الأول خرج على الغالب لا سيما في ذلك الزمان فلا يكون له مفهوم يعمل به.

قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن بطَّأ به عملُه لم يُسرعْ به نسبُه» :

معناه: من كان عمله ناقصًا لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال فينبغى أن لايتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء ويقصر في العمل).

(1)

يريد حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عز وجل إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . أخرجه مسلم برقم (2700).

ص: 200

من فوائد الحديث

(1)

:

الأول: فضيلة تنفيس الكُرب عن المؤمنين وأن ذلك يجازى عليه بجنسه من تنفيس كُرب الآخرة.

والأصل والقياس أن الجزاء يكون من جنس العمل ثوابًا وعقابًا، كالتنفيس بالتنفيس، والستر بالستر، والعون بالعون في هذا الحديث، ونظائره كثيرة في أحكام الدنيا والآخرة.

وإنما كان تنفيس الكرب مطلوبًا للشرع مثابًا عليه لأن الخلق عيال الله عز وجل، فتنفيس كربهم إحسانٌ إليهم، والعادة أن السيد والملك يحب الإحسان إلى عياله وحاشيته والمحسن إليهم.

وفي الأثر: «الخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أرفقهم بعياله»

(2)

.

الثاني: فضيلة التيسير على المعسر، والجزاء عليه بحسبه في الآخرة كما مَرَّ في تنفيس الكربة.

الثالث: فضيلة ستر عورة المسلم، والمكافأة عليها بجنسها كما مَرَّ، ولأن الله عز وجل حَيِيٌّ كريم، وستر العورة من الحياء والكرم، ففيه تخلق بِخُلُق الله عز وجل، والله عز وجل يحب التخلق بأخلاقه.

الرابع: فضيلة عون الأخ على أموره والمكافأة عليها بجنسها من الإعانة الإلهية.

(1)

باختصار من كتاب التعيين في شرح الأربعين للصرصري (1/ 307 - 314).

(2)

أخرجه مرفوعًا أبو يعلى في مسنده برقم (3315 - 3370)، والبزار في مسنده برقم (6947)، عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في الأوسط برقم (5541) عن ابن مسعود رضي الله عنه. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (5735).

ص: 201

الخامس: أن سلوك طريق العلم يجازى عليه بتسهيل طريق إلى الجنة، وهو يحتمل وجهين:

أحدهما: أن طلب العلم وتحصيله يرشد إلى سبيل الهداية والطاعة الموصلة إلى الجنة، وذلك بتسهيل الله عز وجل له، وإلا فبدون لطفه وتوفيقه لا ينتفع بشيء من علم ولا غيره.

والثاني: أنه يجازى على طلب العلم وتحصيله، بتسهيل دخول الجنة بقطع العِقَابِ

(1)

الشاقة دونها يوم القيامة، بأن يُسَهَّلَ عليه الوقوف في المحشر والجواز على الصراط ونحو ذلك.

فإن قلت: قوله: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا» عام في كل علم شرعي أو فلسفي، فلم خصصتموه بالعلم الشرعي؟

قلنا: بدليل قوله: «سهل الله له به طريقًا إلى الجنة» ، والعلوم التي يطلب بها الجنة ويسهل بها طريقها هي الشرعية دون غيرها.

السادس: أن الاجتماع في بيوت الله عز وجل لمذاكرة الكتاب ومدارسته يجازى عليه بأشياء:

أحدها: نزول السكينة عليهم لأنها الطمأنينة، وبذكر الله عز وجل تطمئن القلوب، والمراد أنها تطمئن للإيمان حتى يفضي بها إلى الروضات في جوار الرحمن.

الثاني: غشيان الرحمة لهم لأن ذكر الله تعالى إحسان، والرحمة إحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

(1)

جمع: عقبة، وهي المرقى الصعب من الجبال، ويراد بها: المصاعب والعوائق. ينظر: العين للفراهيدي (1/ 181)، ولسان العرب لابن منظور (1/ 621).

ص: 202

الثالث: حفت الملائكة بهم لاستماع الذكر تعظيما للمذكور وإكراما للذاكر.

الرابع: ذكر الله عز وجل لهم فيمن عنده من الملائكة لقوله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، وقوله:«من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه»

(1)

.

السابع: أن الإسراع إلى السعادة إنما هي بالأعمال، لا الأنساب لقول الله عز وجل:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وقوله عليه الصلاة والسلام: «كلكم من آدم، وآدم من تراب»

(2)

؛ ولأن الله عز وجل خلق الخلق لطاعته، وهي المؤثرة لا غيرها {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].

والله عز وجل أعلم بالصواب.

(1)

أخرجه البخاري برقم (7405) ومسلم برقم (2675) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو داود برقم (5116)، والترمذي برقم (3955)، وأحمد في المسند برقم (8735)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ أحمد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب، لينتهين أقوام فخرهم برجال، أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن» .

ص: 203

‌الحديث الثامن والعشرون: لا يرد القضاء إلا الدعاء

عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ» . أخرجه الترمذي

(1)

.

معاني الكلمات:

الكلمة

معناها

القضاء

الأمر المقدر.

التعليق:

قال الطيبي رحمه الله

(2)

: (في تأويل الحديث وجهان:

أحدهما: أن يراد بالقضاء؛ ما يخافه العبد من نزول المكروه ويتوقاه، فإذا وُفق للدعاء دفع الله عنه، فتكون تسميتُه بالقضاء على المجاز.

ويزيد توضيحه ما سئل صلى الله عليه وسلم: أرأيت رقًى نسترقيها

إلى قوله: قال: «هي من قدر الله»

(3)

؛ فقد أمر الله تعالى بالدعاء والتداوي، مع علم الخلق بأن المقدور كائن؛ لأن حقيقة المقدور وجودًا أو عدمًا مخفيةٌ عنهم.

وثانيهما: أن يراد به الحقيقة، فيكون معنى ردِّ الدعاءِ القضاءَ، تهوينه وتيسير

(1)

ينظر: سنن الترمذي برقم (2149).

(2)

ينظر: شرح مشكاة المصابيح للطيبي (5/ 1709).

(3)

أخرجه الترمذي برقم (2065)، وابن ماجه برقم (3437)، عن أبي خزامة رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن.

ص: 204

الأمر فيه، حتى يكون القضاء النازل كأنه لم ينزل به، ويؤيده الحديث التالي:«إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل»

(1)

.

أما نفعه مما نزل عليه، فصبره عليه، وتحمله له، رضاه به، حتى لا يكون في نزوله متمنيًا خلاف ما كان، وأما نفعُه مما لم ينزل، فهو أن يصرفه عنه، أو يمدُّه قبل النزول بتأييدٍ من عنده، حتى تخف معه أعباءُ ذلك إذا نزل به.

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: (فإن قيل: فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مردَّ له؟ فاعلم أن من جملة القضاء ردَّ البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن التُّرسَ سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، كذلك الدعاء والبلاء.

وليس من شرط الاعتراف بالقضاء ألَّا يحمل السلاح، وقد قال تعالى:{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]؛ فقدر الله تعالى الأمر وقدَّر سببه.

وفي الدعاء من الفوائد ما ذكرنا من حضور القلب، والافتقار، وهما نهاية العبادة والمعرفة.

قوله: «ولا يزيد في العمر إلا البر» : قيل: معناه إذا أبرَّ فلا يضيع عمرُه، فكأنه زاد. وقيل: يزاد في العمر حقيقةً، قال الله تعالى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]، وقال تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39].

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (22044)، عن معاذ رضي الله عنه. وأخرجه الحاكم في المستدرك برقم (1815)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 46): رواه أحمد، والطبراني، وشهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة.

ص: 205

وذكر في الكشاف أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب.

وصورته: أن يكتب في اللوح المحفوظ: إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما، فبلغ الستين، فقد عُمِّر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين، فقد نُقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون.

وذكر نحوه في معالم التنزيل، ثم قال: فقيل للقائل: إن الله يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، فقال: هذا إذا حضر الأجل، فأما ما قبل ذلك، فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ:{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].

إذا علم الله تعالى أن زيدًا يموت سنة خمسمائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها، فاستحال أن تكون الآجال التي عليها علم الله أن تزيد أو تنقص، فيتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملَك الموت أو غيره ممن وكِّل بقبض الأرواح، وأمرَه بالقبض بعد آجالٍ محدودة، فإنه تعالى بعد أن يأمره ذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على ما سبق به علمه في كل شيء، وهو معنى قوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].

وعلى ما ذُكر يحمل قوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2]، فالإشارة بالأجل الأول إلى ما في اللوح المحفوظ، وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلى قوله:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وقوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]).

ص: 206

والحاصل أن القضاء المعلَّق يتغير، وأما القضاء المُبرَم فلا يبدَّل ولا يغير

(1)

.

وقال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله

(2)

: (وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يَردُّ القضَاءَ إلاَّ الدعاءُ، ولا يزيد في العُمر إلاَّ البرُّ» ؛ فلا يدلُّ على تغيير ما في اللَّوح المحفوظ، وإنَّما يدلُّ على أنَّ اللهَ قدَّر السَّلامةَ من الشرور، وقدَّر أسبابًا لتلك السَّلامة، والمعنى أنَّ اللهَ دفع عن العبد شرًّا؛ وذلك مقدَّرٌ بسببٍ يفعله وهو الدّعاء، وهو مقدَّرٌ، وكذلك قدَّر أن يطولَ عُمرُ الإنسان، وقدَّر أن يحصلَ منه سببُ لذلك، وهو البِرُّ وصلة الرَّحم، فالأسبابُ والمسبَّباتُ كلُّها بقضاء الله وقدره.

وكذلك يُقال في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سرَّه أن يُبسَط له في رزقه أو يُنسَأ له في أثره فليَصِلْ رَحِمَه»

(3)

، وأجَلُ كلّ إنسان مُقدَّرٌ في اللوح المحفوظ، لا يتقدَّم عنه ولا يتأخَّر، كما قال الله عز وجل:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11]، وقال تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].

وكلُّ مَنْ مات أو قُتل فهو بأجله، ولا يُقال كما قالت المعتزلة: إنَّ المقتولَ قُطع عليه أجلُه، وأنَّه لو لَم يُقتَل لعاش إلى أجل آخر؛ فإنَّ كلَّ إنسان قدَّر الله له أجلًا واحدًا، وقدَّر لهذا الأجل أسبابًا، فهذا يموتُ بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموتُ بالقتل، وهكذا.

(1)

ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (4/ 1528).

(2)

ينظر: شرح حديث جبريل (ص 64).

(3)

أخرجه البخاري (2067)، ومسلم (2557) عن أنس بن مالك رضي الله عنهما.

ص: 207

ولا يجوز الاحتجاجُ بالقدر على ترك مأمور ولا على فعل محظور، فمَن فعل معصيةً لها عقوبة محدَّدة شرعًا، واعتذر عن فعله بأنَّ ذلك قدَرٌ، فإنَّه يُعاقَبُ بالعقوبة الشرعية، ويُقال له: إنَّ معاقبتَك بهذه العقوبة قدَرٌ أيضًا).

وقد ذكر العلماء التوفيق بين قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يردُّ القضاءَ إلا الدعاء» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«وَإِنَّ رَبِّي قَال: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيتُ قَضَاء فَإنَّهُ لَا يُرَدُّ»

(1)

، قالوا:(ويرتفع الإشكال بأن يقال إن القضاء الذي لا يرده دعاء ولا غيره هو الذي سبق علم الله تعالى بأنه لا بد من وقوعه والقضاء الذي يردُّه الدعاء أو صلة الرحم؛ هو الذي أظهره الله بالكتابة في اللوح المحفوظ الذي قال الله تعالى فيه: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، والله أعلم)

(2)

.

ولذلك فقولهم: (اللهم إني لا أسألك ردَّ القضاء؛ بل أسألك اللطف فيه)، خطأ.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

(3)

: (من العبارات المشهورة بين العامة مع أنها تخالف العقيدة الصحيحة قولهم: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه)، وهذا غلط مخالف للحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يرد القضاء إلا الدعاء» ، وكم من شيء أراده الله عز وجل فرفعه بالدعاء، ألم تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاة الكسوف: «إن الله يخوف عباده بذلك، فإذا

(1)

أخرجه مسلم برقم (2889) عن ثوبان رضي الله عنه.

(2)

ينظر: الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم للهرري (26/ 96).

(3)

ينظر: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (5/ 346)، وفتح ذي الجلال والإكرام له أيضًا (5/ 497).

ص: 208

رأيتموهما فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه والصلاة»، وذلك حتى نردَّ الشر الذي انعقد سببه، والذي أنذرنا به بهذا الكسوف.

فإذا دعوت الله تعالى بكشف ضر فهذا قد كتب في الأزل في اللوح المحفوظ أن الله تعالى يرفع هذا الضر عنك بدعائك، فكله مكتوب. وأنت إذا قلت: لا أسألك ردَّ القضاء ولكن أسألك اللطف فيه، كأنك تقول: ما يهمني ترفع البلاء أو لا ترفع، لكن الإنسان يطلب رفع كل ما نزل به، فلا تقل: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه، بل قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية، اللهم اشفني من مرضي، اللهم أغنني من فقري، اللهم اقض عني الدين، اللهم علمني ما جهلت، وما أشبه ذلك.

أما لا أسألك رد القضاء، فالله تعالى يفعل ما يشاء، ولا أحد يرده، لكن أنت مفتقر إلى الله، أما هذا الكلام فلا أصل له ولا يجوز، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت» ، وهي أهون من:(اللهم لا أسألك رد القضاء)؛ «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، وليعزم المسألة، فإن الله تعالى لا مكره له»

(1)

، وفي لفظ:«فإن الله لا يتعاظمه شيء»

(2)

.

وسئل الشيخ عبد الله البسام رحمه الله: هل الدعاء يردُّ القدر؟

(3)

.

قال: إن الدعاء من القدر؛ لأنه قد كان من قِبَلِ الله -جل وعلا-، وربما قَدَرٌ رُتِّبِ رفعه على الدعاء، وفي الحديث:«لا يُردُّ القضاءُ إلا الدعاء» .

(1)

أخرجه البخاري برقم (6339)، ومسلم برقم (2679) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم برقم (2679).

(3)

سمعته من الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في درسه في الحرم المكي.

ص: 209

من فوائد الحديث:

الأول: فيه فضل الدعاء، وأنه سبب في دفع الشرور والبلاء عن العبد.

الثاني: أن البر سبب في بركة العمر وزيادته، لأن البر يطيب عيشه فكأنما زيد في عمره، وقيل يزيده حقيقة.

ص: 210

‌الحديث التاسع والعشرون: لا يشكر الناس من لا يشكر الله

قال صلى الله عليه وسلم: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»

(1)

.

التعليق:

أمر الله تعالى بشكر المحسن والثناء على صنيعه، لأن الاعتراف بالجميل من نبل النفس، وجحدُ المعروف من خسَّة النفس ودناءتها، قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «من صُنِع إليه معروفٌ فليُجزِه، فإن لم يجد ما يُجزيه فليُثْنِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أثْنَى فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَه فَقَدْ كفَرَهُ»

(2)

.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه»

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (7939 - 8019)، أبو داود برقم (4811)، والترمذي برقم (1954)، وصححه الترمذي والألباني.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (215)، والبغوي في شرح السنة (13/ 186)، وصححه الألباني.

(3)

أخرجه أبو داود برقم (1672)، والنسائي برقم (2567)، وأحمد في المسند برقم (5365 - 6106). وصححه الألباني.

ص: 211

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تجاهل شكر الناس على ما يقدمونه من الخير والمعروف، لأن هذا التجاهل يؤدي إلى عزوف الناس عن فعل المعروف، وهذا خلل في العلاقات الاجتماعية، جاء الإسلام بإصلاحه، حتى تدوم المحبة والمودة بين الناس.

وهذا أيضًا دليل على عدم شكر نعمة الله عز وجل، فإن الله أمر بشكر المحسن، فمن لم يشكره فقد ترك امتثال أمر الله، ومن ترك امتثال أمره لم يشكره

(1)

.

قال الخطابي رحمه الله

(2)

: (هذا الكلام يُتَأوَّلُ على وجهين:

أحدهما: أن من كان طبعُه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم، كان من عادته كفران نعمة الله وترك الشكر له سبحانه.

والوجه الآخر: أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه، إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم، لاتصال أحد الأمرين بالآخر).

ومن هذا الباب أيضًا ترك المرأة شكرَ نعمة الزوج ومعروفِه.

قال القاضي ابن العربي رحمه الله في شرح الموطأ

(3)

: (وقد أمر الله تعالى بشكر النعم، وقد جاء في الحديث:«لا يشكر الله من لا يشكر الناس» .

وكفر نعمة الزوج هو من باب كفر نعمة الله عز وجل؛ لأن كل نعمةٍ تصل إليها أو يصل بها العشيرُ زوجَه

(4)

، فمن نعمةِ اللهِ أجراها الله على يديه، وهو معنى

(1)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (10/ 429).

(2)

ينظر: معالم السنن للخطابي (4/ 113).

(3)

ينظر: المسالك في شرح موطأ مالك لأبي بكر بن العربي (3/ 294).

(4)

العشير: المخالط، من المعاشرة، ومنه قول الله عز وجل:{لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 13].

ص: 212

قوله: «يكفرن الإحسان»

(1)

، أراد كفرهن حقَّ الزوج ونعمة الله الذي ينعم بها عليها، فهي تعذب على ذلك في النار).

وقد جاء في الحديث من طرق صحاح، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:«لا ينظر الله إلى امرأة لا تعرف حقَّ زوجِها، ولا تشكره، وهي لا تستغني عنه»

(2)

.

من فوائد الحديث:

أولًا: أن شكر الله عز وجل فضيلة ينبغي السعي في تحصيلها والقيام بها على أكمل وجه.

ثانيًا: أن من علامات شكر الله عز وجل، شكر الخلق على إحسانهم ومعروفهم.

(1)

أخرجه البخاري برقم (29)، ومسلم برقم (907) عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن» ، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط» .

(2)

أخرجه النسائي في الكبرى برقم (9086)، والطبراني في الكبير (14184)، وصححه الحاكم في المستدرك برقم (2771) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 213

‌الحديث الثلاثون: أفضل الصدقة

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ:«أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

شحيح

الشح: بخل مع حرص؛ فهو أبلغ منه.

تأمل الغنى

تطمع فيه.

بلغت الحلقوم

الحلقوم: مجرى النفس، والمعنى: اقترب خروج الروح.

قلت لفلان: كذا

أي: قلت لورثتك: أوصي لفلان بكذا.

ولفلان كذا

أي: لغيره كذا من المال بالوصية، والتكرير يفيد التكثير.

وقد كان لفلان

قيل: جملة حالية، أي: وقد صار المال الذي تتصرف فيه في هذه الحالة، ثلثاه حقًّا للوارث، وأنت تتصدق بجميعه فكيف يقبل منك؟

(1)

أخرجه البخاري برقم (1419)، ومسلم برقم (1032).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (2/ 558)، ومرقاة المفاتيح للهروي (4/ 1322)، والأدب النبوي لمحمد عبد العزيز الخولي (ص 228).

ص: 214

وقال الطيبي رحمه الله: (قيل: إشارة إلى المنع عن الوصية لتعلق حقِّ الوارث).

ويمكن أن يقال: معناه وكان، أي: عندكم لفلان كذا من المال، فيكون الذم على الإمهال إلى تلك الحال، فإن فعل الخير في حال الصحة عمل أرباب الكمال، ورد الحقوق لا ينبغي فيه الإهمال، لأن الخطر كثير في المال ويدل عليه صدر هذا الحديث.

التعليق:

كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرون أفضل أنواع الطاعات وأعظمها عند الله أجرًا؛ ولا يأبون أن يسألوا الرسول عنها ليتقربوا بها إلى الله، وينالوا الدرجات العلا.

فسأله أحدهم عن أكثر الصدقات أجرًا، فقال له صلى الله عليه وسلم:«أن تتصدّق وأنت صحيح الجسم معافى في بدنك لم ينقطع أملك من الحياة، ولم تقف بك القدم على حافة القبر، إذ المرض يقصر يدَ المالك عن ملكه، وسخاوته بالمال إذ ذاك لا تمحو عنه سمةَ البخل ولا تدل على طيب نفسه بالعطاء، لأنه يكون قد ملَّ الحياة، وسئم العيشَ، ورأى ماله قد صار لغيره، بخلاف ما إذا كان صحيحًا يكون للمال مكانٌ في قلبه وحبٌّ من نفسه، لما يأمل من البقاء ويخشى من الفقر، فالشح به غالب، والسماح به حينئذ أصدق في الإخلاص وأعظم في المثوبة» .

وكذا إذا تصدق وهو حريص على جمع المال، قد توافرت لديه أسباب إدخاره، كان ذلك دالًّا على الرغبة في الخير، وابتغاء ما عند الله.

ص: 215

ولا يتأخر بالتصدق حتى يكون الموت منه قاب قوسين، لأنه يكون مغلولًا عن التصرف في كل ماله، إذ إن المريض لا يجوز له أن يتبرع إلا بثلث ماله فقط، وما زاد على ذلك يكون من حق الورثة، إن شاؤا أجازوا تصرفه، وإن شاؤا لم يجيزوه.

ويدل الحديث على أن تنجيز وفاء الدّين والصدقة في حال الصحة أفضل منه في حال المرض، لأنه في الأولى يصعب عليه إخراج المال غالبا؛ لما يخوفه الشيطان من الفقر، ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال، كما قال تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]، وقال:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10]

(1)

.

قال ابن الجوزي رحمه الله

(2)

: (اعلم أن المتصدق مخرج لمحبوبه عن يده، وهذا المحبوب معدٌّ للإنفاق في الأغراض، ومعظم الأغراض تكون في الصحة، فإذا كان أخرجه في المرض فقد بدت أمارات الاستغناء عن المال، فلا يلحق بدرجة المعطي في الصحة).

وقال ابن بطال رحمه الله

(3)

: (فيه: أن أعمال البر كلما صعبت كان أجرها أعظم، لأن الصحيح الشحيح إذا خشي الفقر، وأمِل الغنى صعُبت عليه النفقة، وسوَّل له الشيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمن تصدق في هذه الحال، فهو مؤثرٌ لثواب الله على هوى نفسه، وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيُخشى عليه الضرار بميراثه، والجور في فعله، ولذلك قال ميمون بن مهران حين قيل له: إن

(1)

ينظر: الأدب النبوي لمحمد عبد العزيز الخولي (ص 128).

(2)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 475).

(3)

ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 418).

ص: 216

رقية امرأة هشام ماتت، وأعتقت كل مملوك لها، فقال ميمون: يعصون الله في أموالهم مرتين، يبخلون بها، وهي في أيديهم، فإذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه حرص الصحابة وتحريهم أفضل العبادات وأعظمها أجرًا ليتقربوا بها إلى الله عز وجل.

ثانيًا: فيه أن الصدقة من أفضل أنواع البر والمعروف، والصدقات تتفاوت في الفضل.

ثالثًا: فيه أن أفضل الصدقة ما كان عن صحة وحاجة، وإقبال من الدنيا.

رابعًا: فيه الحث على الوصية والصدقة والهبة والوقف وبقية أنواع البر قبل اقتراب الأجل.

ص: 217

‌الحديث الحادي والثلاثون:

احتجاج آدم وموسى عليهم السلام

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ»

(1)

.

معاني الكلمات:

الكلمة

معناها

احتج آدم وموسى

تحاجَّا وتناظرا، أي: طلب كل منهما الحجة من صاحبه على ما يقول. وهذا الاحتجاج ذكر بعض العلماء أنه كان بعد وفاة موسى صلى الله عليه وسلم، أو أنه في الرؤيا، فإن رؤيا الأنبياء وحي. قال ابن عبد البر رحمه الله

(2)

: (ذلك عندي لا يحتمل تكييفًا، وإنما فيه التسليم، لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلًا).

فحج آدم موسى

أي: غلبه في الحجة.

التعليق:

هذا الحديث مما أشكل فهمه على بعض الفرق، فظنوا أن فيه حجة في الاحتجاج على المعاصي بالقدر، لكن من جمع بين أدلة الكتاب والسنة يجد أن

(1)

أخرجه البخاري برقم (3409)، ومسلم برقم (2652).

(2)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (18/ 16).

ص: 218

هذا لا يمكن أن يصدر من آدم عليه السلام، فهو أكرم من أن يحتج على المعصية بالقدر، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

: (قد ظن كثير من الناس أن آدم عليه السلام احتج بالقدر على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاثة فرق:

- فريق كذبوا بهذا الحديث، كأبي علي الجبائي رحمه الله وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل عليهم السلام، ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم بل جميع الأنبياء عليهم السلام، وأتباعهم، أن يجعلوا القدر حجةً لمن عصى الله ورسوله.

- وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد، كقول بعضهم: حجه؛ لأنه أبوه، والابن لا يلوم أباه، وقول بعضهم: حجه؛ لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى، وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم: لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة.

- وفريق ثالث: جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

والصواب: أن موسى عليه السلام لم يلم آدم عليه السلام إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاصٍ، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ ولم يقل: لماذا خالفت الأمر ولماذا عصيت؟

والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس، أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/ 303 - 322) ملخصًا.

ص: 219

إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم

(1)

.

وفي الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»

(2)

.

فأمره بالحرص على ما ينفعه، وهو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمره إذا أصابته مصيبة ألَّا ينظر إلى تقدير ما لم يقع، وهو قوله:«لو أني فعلت كذا وكذا، لكان كذا وكذا» ، فإن هذا ليس فيه إلا التحسر، والمضرة، ولكن لينظر إلى الواقع، ويوقن بأنه بقدر الله تعالى وقضائه، ولا بد من وقوعه، فلا مخلص منه، فيرضى به ويسلم لقدر الله تعالى وقضائه، كما قال بعضهم: الأمر أمران:

أمر فيه حيلة، فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه، فلا تجزع منه.

وما زال أئمة الهدى يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت المصيبة بفعل آدمي، فلو أن رجلًا أنفق ماله في المعاصي، ومات ولم يخلف لأولاده مالًا، أو ظلم الناس بظلم صاروا يبغضون أولاده من أجل ظلمه، فلا يعطونهم ما يعطون أمثالهم، فهذه مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب أبيهم.

(1)

ينظر: تفسير الطبري (23/ 12)، وزاد المسير لابن الجوزي (4/ 293)، وتفسير ابن كثير (8/ 138)، والتفسير الوسيط للواحدي (4/ 308).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 220

فإذا قالوا لأبيهم: أنت فعلت بنا هذا، قيل لهم: هذا كان مقدرًا عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعل من الظلم، أو الإنفاق في المعصية، ملوم على ذلك، لا يرتفع عنه الذم والعقاب بالقدر السابق.

فإن تاب توبة نصوحًا، وقبل الله توبته، وغفر له، لم يجُز ذمُّه حينئذ ولومُه بحال، لا من جهة حق الله، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله، إذ لم يكن هو ظالمًا لأولئك، فإن تلك المصيبة مقدرة عليهم.

وهذا مثل قصة آدم عليه السلام، فإنه لم يظلم أولادَه، وإنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وهبط هو وحواء، ولم يكن معهما أولاد، فلم يظلم أولاده ظلمًا يستوجب ملامَه منهم، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمرٌ مقدَّر عليهم.

وهو قد تاب من ذنبه، كما قال تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 121 - 122].

وموسى عليه السلام أعلم من أن يلومه على ذنب قد علم أنه تاب منه، وآدم عليه السلام أعلم من أن يحتج بالقدر على أن الذنبَ لا ملام عليه، وقد علم أن لعن إبليس بسبب ذنبه، وهو مقدَّر عليه.

ولو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا من الذنب لفعله آدم عليه السلام، ولكنه تاب من الذنب واستغفر ربه».

قال الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله بعد أن ساق كلام شيخ الإسلام

(1)

: (فتبين أن آدم عليه السلام حج موسى عليه السلام لما قصد موسى عليه السلام لوم آدم

(1)

ينظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، الغنيمان (2/ 435 - 438) باختصار.

ص: 221

عليه السلام على ما كان سببًا في مصيبة أبنائه، وأن آدم عليه السلام احتج بأن هذه المصيبة سبق بها القدر، ولا بد من وقوعها، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].

وسواء في ذلك المصائب التي تحصل بأفعال العباد، أو غيرها، فإن على العبد الصبر والتسليم، ولا يسقط بذلك لوم الجاني وعقابه.

قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48]. وحكم الله نوعان: خلق، وأمر:

فالأول: ما يقدره من المصائب.

والثاني: ما يأمر به وينهى عنه، وهو شرعه ودينه.

والعبد مأمور بالصبر على النوعين، فعليه أن يصبر على فعل المأمور، وترك المحظور، وعلى ما قدره الله وقضاه.

فالمصائب الحاصلة بقدر الله التي لم يبق فيه حق يؤخذ، أو ذنب يعاقب عليه، ليس فيها إلا التسليم للقدر، وقصة آدم عليه السلام من هذا القبيل، فإن موسى عليه السلام لامه من أجل ما أصابه وذريته.

وآدم عليه السلام قد تاب من الذنب الذي هو سبب المصيبة، وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فلا حيلة أمامها إلا التسليم والرضا.

ولهذا قال: «أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق» .

ص: 222

وقال الخطابي رحمه الله

(1)

: (قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله والقضاء منه، معنى الإجبار، والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن فلج آدم عليه السلام في الحجة على موسى عليه السلام إنما كان من هذا الوجه، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه.

وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم، وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها، خيرها وشرها، والقدر: اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر، كما أن الهدم، والقبض، والنشر، أسماء لما صدر عن فعل الهادم، والقابض، والناشر.

يقال: قدّرْت الشيء، وقدرته، خفيفة وثقيلة، بمعنى واحد.

والقضاء في هذا معناه: الخلق، كقوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] أي: خلقهن.

وإذا كان الأمر كذلك: فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم، أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد، وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها.

وجماع القول في هذا الباب: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما رام هدم البناء ونقضه).

وقد عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه شفاء العليل البابَ الثالث للكلام عن هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذَكَرَ الآيات التي فيها

(1)

ينظر: معالم السنن للخطابي (4/ 322).

ص: 223

احتجاجُ المشركين على شِرْكهم بالقدر، وأنَّ الله أَكذَبَهم؛ لأنَّهم باقون على شركهم وكفرهم، وما قالوه هو من الحقِّ الذي أُريد به باطل، ثم ذكر توجيهَين لمعنى الحديث، أوَّلهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال ابن القيم رحمه الله

(1)

:

(إذا عرفتَ هذا، فموسى عليه السلام أعرفُ بالله وأسمائه وصفاته من أن يَلومَ على ذنب قد تاب منه فاعلُه، فاجتباه ربُّه بعده وهداه واصطفاه، وآدمُ عليه السلام أعرفُ بربِّه من أن يحتجَّ بقضائه وقدَره على معصيته، بل إنَّما لامَ موسى عليه السلام آدمَ عليه السلام على المصيبة التي نالت الذريَّة بخروجهم من الجنَّة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئةَ تنبيهًا على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذريَّةَ، ولهذا قال له:«أخرجتَنا ونفسَك من الجنة» ، وفي لفظ «خيَّبتنَا» ، فاحتجَّ آدمُ عليه السلام بالقدر على المصيبة، وقال: إنَّ هذه المصيبةَ التي نالت الذريَّة بسبب خطيئتِي كانت مكتوبةً بقدره قبل خلْقي.

والقدرُ يُحتجُّ به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومُنِي على مصيبة قُدِّرت عليَّ وعليكم قبل خلْقي بكذا وكذا سنة، هذا جوابُ شيخنا رحمه الله.

وقد يتوجَّه جوابٌ آخر: وهو أنَّ الاحتجاجَ بالقدر على الذنب ينفعُ في موضع ويضرُّ في موضع.

فينفع إذا احتجَّ به بعد وقوعه والتوبة منه وترك مُعاودته، كما فعل آدمُ عليه السلام، فيكون في ذِكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الربِّ وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذَّاكر والسامع؛ لأنَّه لا يدفعُ بالقدر أمرًا ولا نَهيًا، ولا يُبطل به شريعةً، بل يُخبر بالحقِّ المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول

(1)

ينظر: شفاء العليل لابن القيم (ص 17 - 18).

ص: 224

والقوَّة، يوضحه أنَّ آدمَ عليه السلام قال لموسى عليه السلام: أتلومُنِي على أن عملتُ عملًا كان مكتوبًا عليَّ قبل أن أُخلَق.

فإذا أذنب الرَّجلُ ذنبًا ثم تاب منه توبةً وزال أمرُه حتى كأن لم يكن، فأنَّبَه مُؤَنِّبٌ عليه ولَامَه، حسُنَ منه أن يَحتجَّ بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمرٌ كان قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق، فإنَّه لم يَدفع بالقدر حقًّا، ولا ذكر حجَّةً له على باطل، ولا محذورَ في الاحتجاج به.

وأمَّا الموضع الذي يضُرُّ الاحتجاجُ به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكبَ فعلًا محرَّمًا أو يتركَ واجبًا، فيلُومُه عليه لائمٌ، فيحتجَّ بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطلُ بالاحتجاج به حقًّا ويرتكبُ باطلًا، كما احتجَّ به المُصِرُّون على شركهم وعبادتهم غير الله، فقالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20].

فاحتجُّوا به مُصَوِّبين لِمَا هم عليه، وأنَّهم لم يَندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولَم يُقرُّوا بفساده، فهذا ضدُّ احتجاج مَنْ تبيَّن له خطأُ نفسه وندم وعزَم كلَّ العزم على ألَّا يعودَ، فإذا لَامَه لائمٌ بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله، ونُكتة المسألة أنَّ اللَّومَ إذا ارتفع صحَّ الاحتجاجُ بالقدر، وإذا كان اللَّومُ واقعًا فالاحتجاجُ بالقدر باطلٌ).

من فوائد الحديث:

أولًا: قال ابن عبد البر رحمه الله: (هذا الحديث أصل في إثبات القدر، وأن الله قضى أعمال العباد، فكل أحد يصبر لما قدر له بما سبق في علم الله تعالى، وليس فيه حجة للجبرية)

(1)

.

(1)

ذكره ابن حجر في فتح الباري (11/ 509).

ص: 225

ثانيًا: فيه الإيمان بالغيب، فنحن نؤمن بوقوع هذه المحاججة بين آدم وموسى عليهما السلام، وإن كنا لا نجزم بكيفية وقوع ذلك، لأن الأدلة الصحيحة لم تدل على الكيفية.

ثالثًا: فيه أن المعاصي سبب كل شر يقع فيه الإنسان.

رابعًا: فيه جواز الاحتجاج بالقدر على المصائب التي وقعت وإن كانت بسبب معصية حدثت من الإنسان، ورأى ابن القيم رحمه الله جواز الاحتجاج بالقدر على المعاصي التي قد تيب منها.

ص: 226

‌الحديث الثاني والثلاثون: ليسوا سواء

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ رضي الله عنه، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رضي الله عنه، وَالْعَبَّاسُ رضي الله عنه عَمُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا» ، ثُمَّ قَالَ:«يَا عُمَرُ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

ما ينقم

نقمت على الرجل، أنقِم بالكسر، فأنا ناقمٌ، إذا عبتُ عليه. قال بعض أصحاب الغريب: معنى الحديث: ما حمله على منع الزكاة إلا أن أغناه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو تعريض بكفران النعمة، وتقريع بسوء المقابلة، قال تعالى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا} [البروج: 8]، أي: ما كرهوا.

احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله

الأدرع: جمع: درع. والأعتد: جمع: عتد: وهو الفرس القوي الصلب المعد للركوب.

وقصد بذلك إعدادها للجهاد دون التجارة، فلا زكاة فيها، وأنتم تظلمونه بأن تعدونها من عداد عروض التجارة.

(1)

أخرجه البخاري برقم (1468)، ومسلم برقم (983).

(2)

ينظر: شرح مشكاة المصابيح للطيبي (5/ 1476)، وتحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 457).

ص: 227

ويحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعا فكيف يشح بواجب عليه واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة التجارة وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف خلافًا لداود وفيه دليل على صحة الوقف وصحة وقف المنقول وبه قالت الأمة بأسرها إلا أبا حنيفة وبعض الكوفيين

(1)

.

وأما العباس فهي عليَّ ومعها مثلها

أُوِّلَ: بأنه عليه السلام استسلف منه صدقة عامين، العام الذي شكا فيه العامل، والعام الذي بعده، فهي صدقة السنة الراهنة، ومثلها صدقة السنة القابلة، وقيل: إنه استمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخر زكاة العام لحاجة بالعباس رضي الله عنه إلى العام القابل، وتكفل بصدقة العامين جميعًا.

أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه

أي: مثله، يقال لنخيلٍ خرجت من أصل واحد: صنوان، واحدها: صنو.

التعليق:

بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجباية الزكاة كعادته في بعث السُّعاة، فجاء عمر إلى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وخالد بن الوليد رضي الله عنه، وابن جميل رضي الله عنه، يريد منهم الزكاة، فمنعوا أداءَها.

فجاء عمر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي هؤلاء الثلاثة.

فقال صلى الله عليه وسلم: «أما ابن جميل، فليس له من العذر في منعها إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، فقابل نعمة الله كفرًا، وشكره نكرًا.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (7/ 56).

ص: 228

وأما خالد فإنكم تظلمونه بقولكم: منع الزكاة، وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، فكيف يقع منع الزكاة من رجل تقرب إلى الله تعالى بإنفاق ما لا يجب عليه، ثم هو يمنع ما أوجبه الله عليه، فإن هذا بعيد».

وإما لأنه جعلها أدوات قُنية

(1)

يستعملها في الجهاد، والأشياء التي للقنية ليس فيها زكاة، لأنها ليست من الأموال النامية بالتجارة وغيرها.

وأما العباس رضي الله عنه، فقد تحمَّلها صلى الله عليه وسلم عنه.

ويحتمل أن ذلك لمقامه ومنزلته، ويدل عليه قوله:«أما علمت أن عَمَّ الرجل صنوُ أبيه؟» .

وإما لأنه قدم زكاته لعامين فقد تسلمها النبي صلى الله عليه وسلم منه

(2)

.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم على الثلاثة بحكم واحد، بل فصل الحكم بما يليق بحال كل واحد منهم، وهذا يدل على أنه إذا جرت صورةُ فعلٍ بين جماعة اتفقوا في تلك الصورة، فإنه لا ينبغي أن يُحمل الأمر منهم كلهم على محمل واحد، فإن هذا الحديث يدلُّ على أنَّ منع ابن جميل رضي الله عنه وخالد رضي الله عنه والعباس رضي الله عنه كانت صورةُ امتناعهم صورةً واحدة، فلم يحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منهم على محمل واحد؛ بل فصَّل فقال:«ما ينتقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله من فضله» .

ثم اعتذر لخالد رضي الله عنه: فقال: «إنكم تظلمون خالدًا» . يعني أنكم لصقتم صورةَ حاله لصورةِ حالِ ابنِ جميل رضي الله عنه، وأنتم تعرفون أنه قد وقف في سبيل

(1)

القنية هي: الأموال المعدة للاقتناء والاستعمال الشخصي، لا للبيع والتجارة، فهذه الأموال ليس فيها زكاة.

(2)

ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (7/ 281).

ص: 229

الله أدرعَه وأعتدَه، فكيف يُظن أنه يمنع، وهو واجد في شيء يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* وقوله في العباس رضي الله عنه: «فهي علي ومثلها معها» ، المراد من ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم في مال عمِّه.

ومن روى: «فهي علي ومثلها معها» . أي: إنما أؤدي ما التُمس من العباس مضعَّفًا

(1)

.

من فوائد الحديث

(2)

:

أولًا: مشروعية بعث الإمام السعاة لجباية الزكاة.

ثانيًا: جواز شكوى من امتنع من الزكاة إلى من يجبره على أدائها، ومثله في الشكوى كل ممتنع عن واجب، أو فاعل محرمًا.

ثالثًا: قبح من جحد نعمة الله عليه شرعًا وعقلًا.

رابعًا: أن الأشياء الموقوفة في سبيل الله، أو المعدة للاستعمال، ليس فيها زكاة. وذلك على أن عذره في منع الزكاة هو جعلها وقفًا في سبيل الله، أو على معنى أنه جعلها معدة للاستعمال والقنية.

خامسًا: جواز جعل الأشياء المنقولة وقفًا لله تعالى وفى سبيله.

سادسًا: فضل خالد بن الوليد رضي الله عنه، والتنويه بإنفاقه وجهاده.

سابعًا: أما الاعتذار عن العباس رضي الله عنه، فيحتمل إفادة جواز تعجيل الزكاة، ويحتمل إفادة جواز تحمل الزكاة عمن وجبت عليه، ويبعد أن يمنع العباس رضي الله عنه الزكاة لغير عذر.

(1)

ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (7/ 281).

(2)

ينظر: تيسير العلام للبسام (ص 304 - 305)، الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (7/ 282).

ص: 230

ثامنًا: تعظيم العم، كبير حقه لأنه بمنزلة الأب.

تاسعًا: ومن فوائد هذا الحديث: أن الصورة إذا تشابهت تعيَّن أن نفرق معانيها، ويحمل كل منها ما يليق بحال صاحب الصورة؛ لأن الله تعالى قال:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26].

ص: 231

‌الحديث الثالث والثلاثون: لكل شيءٍ شِرَّةٌ ولكلِّ شِرَّةٍ فترة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ» : أخرجه الترمذي

(1)

، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.

وعَنْ عبد الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» . أخرجه أحمد

(2)

.

معاني الكلمات

(3)

:

الكلمة

معناها

شِرَّة

بكسر المعجمة وتشديد الراء، أي: جدَّة وحرصًا ونشاطًا ورغبة، قال القاضي: الشره: الحرص على الشيء والنشاط فيه.

فترة

أي: وهنًا وضعفًا وسكونًا.

فأرجوه

أي: أرجو له النجاة مداومة على ما هو عليه.

وإن أشير إليه بالأصابع

بسبب مبالغته الشديدة التي لم يؤمر بها شرعًا، وإنما عرفه الناس بذلك، وعظمت مبالغته في أعينهم حتى أشير إليه تعظيمًا.

(1)

أخرجه الترمذي برقم (2453)، وحسنه الألباني.

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (6958).

(3)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (4/ 89)، والتحبير لإيضاح معاني التيسير للصنعاني (1/ 307).

ص: 232

فلا تَعُدُّوه

أي: ممن تُرجى له النجاة، لما هو عليه من العجب والرياء.

سنتي

طريقتي التي شرعتها.

التعليق:

معنى الحديث: أن الإنسان يبالغ في العبادة أو العمل أولًا، وكل مبالغ تسكن شرتُه وتفترُ مبالغته، فإن جعل صاحب الشِّرَّةِ عملَه متوسطًا من غير غلو ولا تفريط، وتجنب طرفي أفراط الشِّرةِ وتفريطَ الفترة، فأرجو له الفلاح والصلاح والخير، وإن لم يكن مشهورًا بين الناس، فإنه يمكنه الدوام على الوسط، و:«أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ»

(1)

.

«وإن أشير إليه بالأصابع» ، أي: اجتهد وبالغ في العمل ليصير مشهورًا بالعبادة والزهد بين الناس، وصار مشهورًا مشارًا إليه، «فلا تعدوه» ، أي: لا تعتدوا به، ولا تحسبوه من الصالحين لكونه مرائيًا، ولم يقل: فلا ترجوه؛ إشارة إلى أنه قد سقط، ولم يمكنه تدارك ما فرط

(2)

.

قال الطيبي رحمه الله

(3)

: (إن لكل شيء من الأعمال الظاهرة والأخلاق الباطنة طرفين: إفراطًا وتفريطا، فالمحمود القصدُ بينهما، فإن رأيت أحدًا يسلك سبيل القصد، فأرجوه أن يكون من الفائزين ولا تقطعوا له؛ فإن الله هو الذي يتولى السرائر.

وإن رأيته يسلك سبيلَ الإفراط والغلوِّ حتى يشار إليه بالأصابع، فلا تفشو القولَ فيه بأنه من الخائنين؛ فإن الله هو الذي يطَّلع على الضمائر).

(1)

أخرجه البخاري برقم (6464) ومسلم برقم (783) عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.

(2)

ينظر: فيض القدير للمناوي (2/ 512)، والتيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (1/ 340).

(3)

ينظر: شرح مشكاة المصابيح للطيبي (11/ 3374).

ص: 233

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث الحث على التوسط في العبادة والبعد عن الغلو والجفاء.

ثانيًا: فيه التحذير من الرياء وملاحظة المخلوقين.

ثالثًا: فيه عدم القطع لمسلم بجنة ولا نار، بل يحكم عليه بما يظهر من عمله بغير قطع، لأن الله هو الذي يتولى سرائر العباد.

رابعًا: فيه أن الفلاح مرتبط باتباع السنة، والهلاك عاقبة مفارقة السنة.

ص: 234

‌الحديث الرابع والثلاثون: اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلق له

عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ، فَقَالَ:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ العَمَلَ؟ قَالَ:«اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» ، ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7] الآيَةَ

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

ينكت به في الأرض

أي: يضرب الأرض بطرفه، وهو أن يؤثر فيها بطرفه، فعل المفكر المهموم.

أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل

أي: نعتمد على ما قُدِّر علينا، يعني: أنه إذا سبق القضاء لكل واحد منّا بالجنة أو النار، فأيّ فائدة في السعي، فإنه لا يردّ قضاء الله وقدره.

التعليق:

سأل الصحابة رضي الله عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: إذا كانت أعمالنا ومساكننا في الآخرة معروفة ومحددة ومكتوبة ففيم العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم:

(1)

أخرجه البخاري برقم (4949) واللفظ له، ومسلم برقم (2647).

(2)

ينظر: تحفة الأحوذي للمباركفوري (6/ 284).

ص: 235

«اعملوا فكلٌّ ميسَّر لما خُلق له» ، فنبّه بالجواب عنه أن الله تعالى دبّر الأشياء على ما أراد، وربط بعضها ببعض، وجعلها أسبابًا ومسبّبات، ومن قدّره من أهل الجنّة، قدّر له ما يُقرّبه إليها من الأعمال، ووفقه لذلك، بإقداره، ويُمكّنه منه، ويُحرّضه عليه بالترغيب والترهيب، ومن قدّر أنه من أهل النار قدّر له خلاف ذلك، وخذَلَهُ حتى اتّبع هواه، وترك أمر مولاه.

والحاصل: أنه جعل الأعمال طريقًا إلى نيل ما قدّره له من جنة أو نار، فلا بدّ من المشي في الطريق، وبواسطة التقدير السابق يتيسّر ذلك المشي لكلٍّ في طريقه، ويَسهلُ

(1)

.

وهذا الحديث أصل في باب القضاء والقدر، وأنه قد سبق قضاء الله تعالى بكون المكلفين فريقين: فريقًا في الجنة وفريقًا في السعير.

قال الخطابي رحمه الله

(2)

: (فهذا الحديث إذا تأملته أصبتَ منه الشفاء فيما يتخالجُك من أمر القدر، وذلك أن السائلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والقائلَ له:«أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل» ، لم يترك شيئًا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في باب التجويز والتعديل، إلا وقد طالب به وسأل عنه، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك، والمطالبة عليه ساقطة، وأنه أمر لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عُقلت معانيها، وجرت معاملات البشر فيما بينهم عليها، وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل؛ ليكون أمارة في الحال العاجلة، لما يصيرون إليه في الحال الآجلة، فمن تيسر له العمل الصالح كان مأمولًا له الفوز، ومن تيسر له العمل الخبيث كان مخوفًا عليه الهلاك،

(1)

ينظر: مشارق الأنوار الوهاجة شرح سنن ابن ماجه لمحمد بن علي بن موسى (2/ 467).

(2)

ينظر: معالم السنن للخطابي (4/ 318).

ص: 236

وهذه أمارات من جهة العلم الظاهر وليست بموجبات، فإن الله سبحانه طوى علم الغيب عن خلقه، وحجبهم عن درْكِه، كما أخفى أمر الساعة فلا يعلم أحد متى إبَّانُ قيامِها.

ثم أخبر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أماراتها وأشراطها فقال: من أشراط الساعة: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان»

(1)

، ومنها: «كيت وكيت

»).

وبعد أن ذكر الإمام النووي رحمه الله هذا الحديث وغيره من أحاديث القدر قال

(2)

: (وفي هذه الأحاديث كلِّها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر، وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره؛ خيرها وشرها نفعها وضرها، وقد سبق في أول كتاب الإيمان قطعة صالحة من هذا.

قال الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فهو مِلْكٌ لله تعالى يفعل ما يشاء، ولا اعتراض على المالك في ملكه، ولأن الله تعالى لا علة لأفعاله، قال الإمام أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة، دون محض القياس ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب، لأن القدر سرٌّ من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار، اختص الله به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما فيه من الحكمة، وواجبنا أن نقف حيث حدَّ لنا، ولا نتجاوزه.

(1)

جزء من حديث جبريل الطويل أخرجه مسلم بتمامه برقم (8)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 196).

ص: 237

وقد طوى الله تعالى علم القدر على العالم، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب.

وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل دخولها، والله أعلم.

وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له، لا يقدر على غيره، ومن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعملهم، كما قال: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى

و: لِلْعُسْرَى} [الليل: 7 - 10]، وكما صرحت به هذه الأحاديث).

من فوائد الحديث:

أولًا: مشروعية إتباع الجنازة.

ثانيًا: أن متبع الجنازة عليه أن يتذكر الآخرة وأن يظهر عليه أثر ذلك.

ثالثًا: موعظة العالم أصحابه عند القبور.

رابعًا: إثبات القدر، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

خامسًا: مراجعة العالم والاستفسار منه عما قد يشكل.

سادسًا: أن السعادة والشقاوة بتقدير الله وقضائه.

سابعًا: الرد على الجبرية؛ لأن التيسير ضد الجبر، لأن الجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له.

ثامنًا: الرد على القدرية؛ لأن أفعال العباد وإن صدرت عنهم، فقد سبق علم الله بوقوعها بتقديره سبحانه وتعالى.

ص: 238

تاسعًا: أن العمل الطيب أمارة على الخير، والعكس بالعكس.

عاشرًا: النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له.

الحادي عشر: أن السنة تبين القرآن وتوضِّحه وتدل عليه

(1)

.

(1)

ينظر: عشرون حديثًا من صحيح البخاري، عبد الرزاق البدر (ص 235).

ص: 239

‌الحديث الخامس والثلاثون: لا عدوى ولا طيرة

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ: الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ»

(1)

.

وعنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا عَدْوَى» ، وَيُحَدِّثُ مَعَ ذَلِكَ:«لَا يُورِدُ الْمُمْرِضُ عَلَى الْمُصِحِّ»

(2)

.

معاني الكلمات

(3)

:

الكلمة

معناها

لا عدوى

معناه: أنه لا يعدي شيءٌ شيئًا، ولا يعدي سقيمٌ صحيحًا، والله يفعل ما يشاء، لا شيء إلا ما شاء.

ولا طيرة

الطيرة: من التطير: وهو التشاؤم بالشيء تراه أو تسمعه وتتوهم وقوع المكروه به.

الفأل

جَمْعُهُ: فؤول، كفلس وفلوس، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلمة الصالحة والحسنة والطيبة.

والممرض

الذي إبله مراض، وضده: المصح.

التعليق:

قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يورد صحيحٌ على ممرض» ، لا ينافي ولا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم:«لا عدوى» ؛ لأن المقصود أن مخالطة المريض تهيئ

(1)

أخرجه البخاري برقم (5756)، ومسلم برقم (2224).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2221).

(3)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 219)، وكشف المشكل لابن الجوزي (2/ 372).

ص: 240

فرصة للمرض أن يظهر لمن عنده استعداد وقابلية للمرض، أما النفي فإنه يرجع إلى اعتقاد أن العدوى تحصل بنفسها، وأنه لابد من وقوعها، والواقع ينافي ذلك، فكثير من الناس يخالطون المرضى ولا تحصل لهم أية عدوى، وكثير أيضًا يمرضون بغير مخالطة، وكثير تؤثر فيهم مخالطة المرضى فيمرضون، وكل ذلك بتقدير الله وإرادته، والله تعالى قد يعمل الأسباب ويفعلها ويجعلها مؤثرة، وقد يبطل أثرها وتأثيرها.

قال ابن الجوزي رحمه الله

(1)

: (كانت العرب تتوهم الفعل في الأسباب، كما كانت تتوهم نزول المطر بفعل الأنواء، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:«لا عدوى» ، وإنما أراد إضافة الأشياء إلى القدر، ولهذا قال في حديث أبي هريرة:«فمن أعدى الأول؟»

(2)

، ونهى عن الورود إلى بلد فيه الطاعون

(3)

لئلا يقف الإنسان مع السبب وينسى المسبب).

وقال النووي رحمه الله

(4)

: (قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع:

أن حديث: «لا عدوى» : المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده؛ أن المرض والعاهة تُعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى.

وأما حديث: «لايورد ممرض على مصح» ، فأرشد فيه إلى مجانبة ما

(1)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (2/ 471).

(2)

أخرجه البخاري برقم (5770) ومسلم برقم (2220).

(3)

أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، حديث رقم (2218)، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.

(4)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 213).

ص: 241

يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله.

وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما، هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، ويتعين المصير إليه).

وقوله: «ولا طيرة» :

قال ابن عبد البر رحمه الله

(1)

: (أصل التطير واشتقاقه عند أهل العلم باللغة والسير والأخبار، هو مأخوذ من زجر الطير ومروره، سانحًا أو بارحًا

(2)

، منه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك في كل شيء من الحيوان وغير الحيوان، فتطيروا من الأعور والأعضب والأبتر، وكذلك إذا رأوا الغراب أو غيره من الطير يتفلى أو ينتف.

ولإيمان العرب بالطيرة عقدوا الرتائم

(3)

واستعملوا القداح بالآمر والناهي والمتربص، وهي غير قداح الأيسار، وكانوا يشتقون الأسماء الكريهة مما يكرهون، وربما قلبوا ذلك إلى الفأل الحسن فرارًا من الطيرة، ولذلك سموا اللديغ سليمًا، والقفر مفازة، وكنوا الأعمى أبا البصير ونحو هذا.

فمن تطير جعل الغراب من الاغتراب والغربة، وجعل غصن البان من

(1)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (9/ 282).

(2)

قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: (السنوح: ما جاء على اليسار. والبروح: ما جاء من قبل اليمين). ينظر: الاستذكار لابن عبد البر (4/ 378).

(3)

الرتائم: جمع رتيمة، وهي: خيط يشد في الأصبع لتستذكر به الحاجة. ينظر: النهاية لابن الأثير (2/ 194).

ص: 242

البينونة، والحَمام من الحِمام ومن الحميم ومن الحُمَّى، وربما جعلوا الحبل من الوصال، والهدهد من الهدى، وغصن البان من بيان الطريق، والعُقاب من عقبى خير، ومثل هذا كثير عنهم، إذا غلب عليهم الإشفاق تطيروا وتشاءموا، وإذا غلب عليهم الرجاء والسرور تفاءلوا، وذلك مستعمل عندهم فيما يرون من الأشخاص، ويسمعون من الكلام، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا طيرة» ، ولا شؤم، فعرفهم أن ذلك إنما هو شيء من طريق الاتفاق، ليرفع عن المتوقع ما يتوقعه من ذلك كله، ويعلمه أن ذلك ليس يناله منه إلا ما كتب له).

وقوله: «ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة» :

قال ابن الجوزي رحمه الله

(1)

: (هذا مثل أن يكون مريضًا فيسمع: يا سالم، فيتفاءل بالشفاء، وباغيًا شيئا فيسمع: يا واجد، فيتفاءل بوجوده. وقال الأزهري: الفأل فيما يحسن ظاهره ويرجى وقوعه بالخير. والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء.

واعلم أنه إنما صار الفأل خير أنواع هذا الباب لأنه يصدر عن نطق وبيان، فكأنه خيرٌ جاء من غيب.

فأما سنوح الطير وبروحها فتكلُّفٌ من المتطير ما لا أصل له في البيان، إذ ليس هناك نطق فيستدل به على معنى فيه).

وقال الخطابي رحمه الله

(2)

: (قد أعلم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الفأل إنما هو أن يسمع الإنسانُ الكلمة الحسنة فيفأل بها، أي: يتبرك بها ويتأولها على المعنى الذي يطابق اسمَها، وأن الطيرة بخلافها، وإنما أخذت من اسم الطير، وذلك أن العرب كانت تتشاءم ببروح الطير، إذا كانوا في سفر أو مسير، ومنهم من كان

(1)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 377).

(2)

ينظر: معالم السنن للخطابي (3/ 245)

ص: 243

يتطير بسنوحِها فيصدهم ذلك عن المسير ويردُّهم عن بلوغ ما يمَّموه من مقاصدِهم، فأبطل صلى الله عليه وسلم أن يكون لشيء منها تأثير في اجتلاب ضرر أو نفع، واستحب الفأل بالكلمة الحسنة يسمعها من ناحية حسن الظن بالله).

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث بيان أنه لا عدوى تؤثر بذاتها، ولذلك لا ينبغي الجزم بأن فلانا قد انتقلت إليه العدوى من فلان، ولذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا صَفَر، ولا هامةَ» ، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل، تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فمن أعدى الأول» .

يقول: إن أول بعير جرِب من الإبل لم يكن قبله بعير أجرب فيعديه، وإنما كان أول ما ظهر الجرب في أول بعير منها بقضاء الله وقدره، فكذلك ما ظهر منه في سائر الإبل بعد

(1)

.

قال النووي رحمه الله

(2)

: (معناه أن البعير الأول الذي جرب من أجربه، أي: وأنتم تعملون وتعترفون أن الله تعالى هو الذي أوجد ذلك من غير ملاصقة لبعير أجرب، فاعملوا أن البعير الثاني والثالث وما بعدهما إنما جرب بفعل الله تعالى وإرادته، لا بعدوى تعدي بطبعها.

ولو كان الجرب بالعدوى بالطبائع لم يجرب الأول لعدم المعدي، ففي الحديث بيان الدليل القاطع لإبطال قولهم في العدوى بطبعها).

(1)

ينظر: معالم السنن للخطابي (4/ 233).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 217).

ص: 244

وهذا فيه إثبات القدر لا نفي الأسباب، قال ابن القيم رحمه الله

(1)

: (ولما قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» ، قال له رجل: أرأيت البعير يكون به الجرب فتجرب الإبل، قال:«ذاك القدر، فمن أجرب الأول؟» ، ذكره أحمد

(2)

.

ولا حجة في هذا لمن أنكر الأسباب، بل فيه إثبات القدر، وردُّ الأسباب كلها إلى الفاعل الأول؛ إذ لو كان كل سبب مستندًا إلى سبب قبله لا إلى غاية لزم التسلسل في الأسباب، وهو ممتنع؛ فقطع النبي صلى الله عليه وسلم التسلسل بقوله:«فمن أعدى الأول» ، إذ لو كان الأول قد جرب بالعدوى والذي قبله كذلك لا إلى غاية لزم التسلسل الممتنع).

ثانيًا: فيه النهي عن الطيرة.

ثالثًا: فيه استحباب الفأل الحسن وتوقع الخير والثقة في الله سبحانه وتعالى.

رابعًا: فيه الأخذ بأسباب السلامة، بعدم إيراد الممرض على المصح.

وفي الحديث: «وفرَّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد»

(3)

.

(1)

ينظر: إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 302).

(2)

في المسند برقم (4775)، وأخرجه ابن ماجه برقم (3586) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري برقم (5707) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 245

‌الحديث السادس والثلاثون: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون

عن حُصَيْنُ بْنُ عبد الرحمن رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟

قُلْتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ.

قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟

قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ.

قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟

قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ رضي الله عنه.

فَقَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمُ الشَّعْبِيُّ رضي الله عنه؟

قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ:«لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حُمَةٍ» .

فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى صلى الله عليه وسلم وَقَوْمُهُ، وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ» ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ

ص: 246

صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ؛ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟» فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ:«هُمُ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» .

فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:«أَنْتَ مِنْهُمْ» ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:«سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

انقضَّ

سقط.

البارحة

أقرب ليلة مضت.

لدغتُ

يقال: لدغته العقرب وذوات السموم: إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها.

استرقيت

طلبت الرقية.

عين

إصابة العائن غيره بعينه والعين حق.

أو حمة

الحُمَةُ بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم، هي كل هامة ذات سم من حية أو عقرب.

الرهيط

تصغير الرهط، وهو: الجماعة دون العشرة.

(1)

أخرجه البخاري دون القصة برقم (5705)، ومسلم بتمامه برقم (220).

(2)

ينظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (1/ 607)، وشرح النووي على مسلم (3/ 93)، وفتح المنعم شرح صحيح مسلم لموسى شاهين (2/ 61).

ص: 247

سواد عظيم

أي: أشخاص، وكل شخصٍ سواد، ومنه قولهم: لا يفارق سوادي سوادَك.

انظر إلى الأفق

الأفق: الناحية، والمراد به هنا: ناحية السماء.

فخاض الناس

أي: تكلموا وتجادلوا وتناظروا.

لا يرقون ولا يسترقون

أي: لا يرقون غيرهم، ولا يطلبون الرقية لأنفسهم من الغير.

ولا يتطيرون

لا يتشاءمون بالطيور ونحوها مما يتشاءم به، أي: لا يرجعون عما عزموا عليه عند وجود ما جرت به عادة الجاهلية من التطير به، والوقوف عن الفعل منه من الجوائح والسوانح.

التعليق:

قوله: «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حُمَةٍ» :

قال الخطابى رحمه الله

(1)

: (ومعنى ذلك: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وكان صلى الله عليه وسلم قد رقى ورقي، وأمر بها، وأجاز الرقية، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله تعالى فهى مباحة، وإنما جاءت الكراهية منها مما كان بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرًا أو قولًا يدخله الشرك، قال: ويحتمل أن يكون الذي ذكره من الرقية ما كان منها على مذاهب أهل الجاهلية في العِوذِ التى كانوا يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم).

(1)

ينظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (1/ 606).

ص: 248

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: «هم الذين لا يرقون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون» .

قال النووي رحمه الله

(1)

بعد ذكر حديث رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم

(2)

: (وفي الحديث الآخر في الذين يدخلون الجنة بغير حساب: «لا يرقون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون» ، فقد يُظن مخالفًا لهذه الأحاديث، ولامخالفة، بل المدح في ترك الرقى، المراد بها الرقى التي هي من كلام الكفار، والرقى المجهولة، والتي بغير العربية، وما لا يعرف معناها، فهذه مذمومة لاحتمال أن معناها كفر أو قريب منه أو مكروه، وأما الرقى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة، فلا نهى فيه، بل هو سنة.

ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين: إن المدح في ترك الرقى للأفضيلة وبيان التوكل، والذي فعل الرقى وأذن فيها لبيان الجواز، مع أن تركها أفضل، وبهذا قال ابن عبد البر، وحكاه عمن حكاه، والمختار الأول.

وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تعالى، قال المازري: جميع الرقى جائزة إذا كانت بكتاب الله أو بذكره، ومنهي عنها إذا كانت باللغة العجمية، أو بما لايدرى معناه، لجواز أن يكون فيه كفر.

قال: واختلفوا في رقية أهل الكتاب، فجوزها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكرهها مالك خوفًا أن يكون مما بدلوه، ومن جوزها قال: الظاهر أنهم لم يبدلوا

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 168).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2186) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ جِبْرِيلَ، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ» .

ص: 249

الرقى، فإنهم لهم غرض في ذلك بخلاف غيرها مما بدلوه، وقد ذكر مسلم بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شيء»

(1)

.

وأما قوله في الرواية الأخرى: يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى

(2)

، فأجاب العلماء عنه بأجوبة:

أحدها: كان نهى أولًا، ثم نسخ ذلك وأذن فيها وفعلها، واستقر الشرع على الإذن.

والثاني: أن النهي عن الرقى المجهولة كما سبق.

والثالث: أن النهي لقوم كانوا يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها، كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة.

أما قوله في الحديث الآخر: «لا رقية إلا من عينٍ أو حُمَةٍ» ؛ فقال العلماء: لم يرد به حصر الرقية الجائزة فيهما ومنعها فيما عداهما، وانما المراد لارقية أحق وأولى من رقية العين والحمة، لشدة الضرر فيهما).

حكم النُّشرة:

قال النووي رحمه الله

(3)

: (قال القاضي: وجاء في حديث في غير مسلم سئل عن النشرة فأضافها إلى الشيطان قال: والنشرة معروفة مشهورة عند أهل

(1)

أخرجه مسلم برقم (2200) عن عوف بن مالك الأشجعي.

(2)

أخرجه مسلم برقم (2199) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ:«مَا أَرَى بَأْسًا مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» .

(3)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 168).

ص: 250

التعزيم، وسميت بذلك: لأنها تنشر عن صاحبها، أي: تخلي عنه، وقال الحسن: هي من السحر. قال القاضي: وهذا محمول على أنها أشياء خارجة عن كتاب الله تعالى وأذكاره، وعن المداواة المعروفة التي هي من جنس المباح.

وقد اختار بعض المتقدمين هذا، فَكَرِهَ حل المعقود عن امرأته، وقد حكى البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه؛ أنه سئل عن رجل به طب، أي: ضرب من الجنون، أو يؤخذ عن امرأته، أيخلى عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الصلاح، فلم ينه عما ينفع.

وممن أجاز النشرة الطبري وهو الصحيح

(1)

، قال كثيرون أو الأكثرون: يجوز الاسترقاء للصحيح، لما يَخَافُ أن يغشاه من المكروهات والهوام، ودليله أحاديث، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه تفل في كفِّه، ويقرأ: قل هو الله أحد والمعوذتين، ثم يمسح بها وجهه، وما بلغت يده من جسده» ).

قال ابن الملقن رحمه الله

(2)

: (وقال أبو الحسن القابسي: معنى «لا يسترقون» : يريد به الذي كانوا يسترقون به في الجاهلية مما ليس في كتاب الله، وهو ضرب من السحر، فأما الاسترقاء بكتاب الله فقد فعله صلى الله عليه وسلم وأمر به، وليس بمخرج عن التوكل؛ لأن الثقة بالله: الاعتماد في الأمور عليه، وتفويض كل ذلك -بعد استفراغ الوسع في السعي فيما بالعبد الحاجة- إليه في أمر دينه

(1)

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (4/ 301): (والنشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل سحر بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان؛ فإن السحر من عمل فيتقرب إليه الناشر والمنتشر بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز، بل مستحب، وعلى النوع المذموم يحمل قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر).

(2)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (27/ 409).

ص: 251

ودنياه، على ما أمر به، لا كما قاله بعض الصوفية: إن التوكل حدُّه الاستسلام للسباع، وترك الاحتراز من الأعداء، ورفض السعي للمعايش والمكاسب، والإعراض عن علاج العلل، تمسكًا بقوله:«ولا يكتوون»

(1)

، الحديث.

ومعناه: معتقدين أن الشفاء والبرء في الكي وغيره دون إذن الله بالشفاء، وأما من اكتوى معتقدًا إذا شفي أن الله هو الذي شفاه فهو المتوكل على ربه).

رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ورد الحافظ ابن حجر رحمهم الله:

ولشيخ الإسلام رحمه الله

(2)

رأي في لفظة: «لا يرقون» ، التي انفرد بها مسلم في صحيحه، فقد رأى أن هذه اللفظة غلط من الراوي وأن أصلها:«لا يكتوون» ، لأن رقية الإنسان نفسه وغيره لا تنافي التوكل، بل هي من اللجوء إلى الله تعالى.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(3)

: (وقد أنكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية هذه الرواية، وزعم أنها غلط من راويها، واعتل بأن الراقي يُحسن إلى الذي يرقيه، فكيف يكون ذلك مطلوب الترك؟

وأيضًا فقد رقى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

، ورقى النبي أصحابه، وأذن لهم في الرقى، وقال:«من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل»

(5)

، والنفع مطلوب.

قال: وأما المسترقي، فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه، وتمام التوكل ينافي ذلك.

(1)

هذه اللفظة جاءت في الصحيحين؛ البخاري برقم (5705 - 5752)، ومسلم برقم (218).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/ 328)، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/ 367).

(3)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 408).

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

تقدم ذكره في الهامش.

ص: 252

قال: وإنما المراد وصف السبعين بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم، ولا يتطيرون من شيء.

وأجاب غيرُه: بأن الزيادة من الثقة مقبولة، وسعيد بن منصور حافظ، وقد اعتمده البخاري ومسلم، واعتمد مسلم على روايته هذه، وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه.

والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المسترقي، لأنه اعتلَّ بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل، فكذا يقال له: والذي يفعل غيره به ذلك ينبغي ألَّا يمكنه منه لأجل تمام التوكل.

وليس في وقوع ذلك من جبريل دلالة على المدعى، ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضًا دلالة، لأنه في مقام التشريع وتبيين الأحكام.

ويمكن أن يقال: إنما ترك المذكورون الرقى والاسترقاء حسمًا للمادة، لأن فاعل ذلك لا يأمن أن يكل نفسه إليه، وإلا فالرقية في ذاتها ليست ممنوعة، وإنما منع منها ما كان شركًا أو احتمله، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:«اعرضوا علي رقاكم، ولا بأس بالرقى ما لم يكن شرك»

(1)

.

من فوائد الحديث:

أولًا: قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله

(2)

: (وفيه من الفقه أن الرقية جائزة وتركها توكلًا على الله تعالى أفضل منها، وكذلك الكي فإنه جائز وتركه أحسن، وأما الطيرة فلا تحِلُّ بحال).

(1)

سبق تخريجه.

(2)

ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (3/ 65).

ص: 253

ثانيًا: فيه النهي عن الرقى الشركية، أو التي فيها ما يخالف الشريعة، ككشف العورات أو تحسس جسد المرأة من قبل الراقي، أو الرقى المجهولة التي لا يعرف معناها.

ثالثًا: فيه أن أولى الناس بالرقية، هم المصابون بالعين أو الحمة، وذلك لشدة حاجتهم إلى الرقية.

رابعًا: فيه فضيلة أمة النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم أكثر أهل الجنة.

خامسًا: فيه فضيلة اهتبال الفرص، وبخاصة ما يتعلق بأمور الآخرة، كما فعل عكاشة بن محصن، الذي سارع إلى طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.

ص: 254

‌الحديث السابع والثلاثون: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(1)

.

ولفظ مسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(2)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(3)

.

وفي رواية للإمام أحمد رحمه الله قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ»

(4)

.

فزاد في رواية الإمام أحمد رحمه الله: «وما تأخر» .

معاني الكلمات

(5)

:

الكلمة

معناها

إيمانًا

أي: تصديقًا بأنه حق وطاعة.

واحتسابًا

أي: طلبًا لمرضاة الله تعالى وثوابه، لا بقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص.

(1)

أخرجه البخاري برقم (38)، ومسلم برقم (760).

(2)

أخرجه مسلم برقم (760).

(3)

أخرجه البخاري برقم (37)، ومسلم برقم (759).

(4)

أخرجه أحمد في المسند برقم (9001)، وحسنه الحافظ العراقي في طرح التثريب (4/ 160).

(5)

ينظر: طرح التثريب للحافظ العراقي (4/ 161)، وعمدة القاري للعيني (1/ 226).

ص: 255

والاحتسابُ من الحسْب وهو: العدُّ، كالاعتداد من العدِّ، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأن له حينئذ أن يعتدَّ عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتدٌّ به.

التعليق:

هذه الأحاديث في فضل صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام جامع في كتابه زاد المعاد حول هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام، والمقصود من الصيام، وفوائده، قال فيه

(1)

:

(فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام:

لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدَّتها وسوْرَتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.

وتُضيَّقُ مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحُكْمِ الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتُلجم بلجامِه، فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين.

وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوتَه وطعامَه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد

(1)

ينظر: زاد المعاد لابن القيم (2/ 27).

ص: 256

يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم.

وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحِمْيتِها عن التخليط الجالب لها الموادَّ الفاسدةَ التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغِ المواد الرديئة المانعةِ لها من صحتها.

فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتَها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم جُنَّةٌ»

(1)

.

وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرةَ له عليه بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة

(2)

.

والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم، وإحسانا إليهم وحميةً لهم وجُنَّة.

وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي، وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهله على النفوس.

ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وأُلفت أوامر القرآن، فنُقِلت إليه بالتدريج.

(1)

أخرجه البخاري برقم (7492) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (5065) ومسلم برقم (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 257

متى فُرض الصيام ومراحل تشريعه:

وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعَ رمضانات.

وفرض أولًا على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعم عن كل يوم مسكينًا، ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام، فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا، ورخص للمريض والمسافر أن يفطرا ويقضيا، وللحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك، فإن خافتا على ولديهما زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم، فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض، وإنما كان مع الصحة فجبر بإطعام المسكين كفطر الصحيح في أول الإسلام.

وكان للصوم رتب ثلاث:

إحداها: إيجابه بوصف التخيير.

والثانية: تحتُّمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعَم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة.

فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة، وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة.

الإكثار من العبادات في رمضان:

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريلُ أجود بالخير من الريح المرسلة:«وكان أجودَ الناس، وأجود ما يكون في رمضان»

(1)

، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف).

(1)

أخرجه البخاري برقم (1902)، ومسلم برقم (2308) عن ابن عباس رضي الله عنهم.

ص: 258

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(1)

في قوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا» : (والمراد بالإيمان: الاعتقاد بحقَّ فرضية صومه وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى. وقال الخطابي: احتسابًا، أي: عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه).

وقوله: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا» :

قال النووي رحمه الله

(2)

: (والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح، واتفق العلماء على استحبابها واختلفوا في أن الأفضل صلاتها منفردًا في بيته أم في جماعة في المسجد، فقال الشافعي وجمهور أصحابه، وأبو حنيفة وأحمد رحمه الله وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة، كما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة رضي الله عنهم، واستمر عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد، وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل فرادى في البيت لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة؛ صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»

(3)

.

والقول الأول هو الذي عليه المسلمون كافة، في جميع الأقطار على مدى القرون.

وبالغ الطحاوي رحمه الله فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية

(4)

.

(1)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 115).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (6/ 39).

(3)

أخرجه البخاري برقم (731)، ومسلم برقم (710)، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(4)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 252)، ونيل الأوطار (3/ 62).

ص: 259

وقال الحافظ العراقي رحمه الله

(1)

: (ليس المراد بقيام رمضان قيام جميع ليله بل يحصل ذلك بقيام يسير من الليل كما في مطلق التهجد، وبصلاة التراويح وراء الإمام كالمعتاد في ذلك، وبصلاة العشاء والصبح في جماعة، لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليلَ كلَّه» ، رواه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ

(2)

.

وقوله: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابًا» :

ليلة القدر ليلة عظيمة اختص الله تعالى بها هذه الأمة، فأنزل فيها كتابه، وجعل العبادة فيها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر: قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1 - 3].

قال القاضي ابن العربي رحمه الله

(3)

: (وأما قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، ففي تأويل ذلك اختلاف على ثلاثة أقوال:

القول الأول: قيل: إن معنى ذلك أن العمل بما يرضي الله في تلك الليلة من صلاة وغيرها خير من العمل في غيرها ألف شهر.

القول الثاني: قيل: إن المعنى أن العمل في ليلة القدر خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وهو نحو ما تقدم؛ لأن فضيلة الليلة على ما سواها ليس بمعنى يختصُّ بها، حاشا تضعيف الحسنات فيها.

(1)

ينظر: طرح التثريب للحافظ العراقي (4/ 161).

(2)

أخرجه مسلم برقم (656) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(3)

ينظر: المسالك شرح موطأ مالك لأبي بكر بن العربي (4/ 264).

ص: 260

القول الثالث: قيل: إنه كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل ويصوم النهار، ففعل ذلك ألف شهر، فتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك في أمته. فقال:«يا رب جعلت أعمار أمتي أقصر الأعمار، وأقل الأعمال» ، فأعطاه الله ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، يريد خير من تلك الألف شهر التي قامها الإسرائيلي، وهذا معنى حديث مالك

(1)

؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل ما بلغه غيرهم في طول العمل، فأعطاه الله ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر).

ثم قال

(2)

: (اختلف العلماء في ليلة القدر، وفي تعيينها وفي ميقات رجائها على ثلاثة عشر قولًا -فذكر بعض هذه الأقوال-، ثم قال: الصحيح أنَّها لا تعلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قد حضَّ على قيام رمضان، وحض بالتخصيص العشرَ الأواخر.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي فيها ليله ويوقظ أهلَه ويشدُّ مئزرَه

(3)

، وصدَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها في العشر الأواخر

(4)

.

وفي الحديث دليل على أنها متنقلة غير مخصوصة بليلة؛ لأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم خرجت في صبيحة ليلة إحدى وعشرين من رمضان، وعلى جسمه وأنفه أثر الماء والطين.

(1)

ينظر: موطأ الإمام مالك برقم (889).

(2)

ينظر: المسالك شرح موطأ مالك لأبي بكر بن العربي (4/ 265، 267).

(3)

أخرجه مسلم برقم (1174) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ» .

(4)

أخرجه البخاري برقم (2020)، ومسلم برقم (1169)، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول:«تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» .

ص: 261

واستفتاه رجل ليختار له عند عجزه عن عموم الجميع، فاختار له ليلة ثلاث وعشرين، فدل ذلك أنها تنتقل، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبخس السائل حظَّه منها.

ومن فضل الله على هذه الأمة أن أعطاها قيراطين من الأجر، من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وأعطى اليهود والنصارى جميعا قيراطين، قيراطًا لكل طائفة منهما من أول النهار إلى صلاة العصر، وأعطى الله هذه الأمة ليلة القدر لقصرِ أعمارها، فجعل لهم ليلة بألف شهر، فما فاتهم من تقصير الأعمار الطوال التي كانت لمن قبلهم، أدركوه فيها، فخفَّ عنهم شغب الدنيا، وأدركوا عظيم الثواب في الآخرة، والحمد لله).

ثم قال

(1)

: (والصحيح أنها في العشر الأواخر من كل رمضان، إلا أنها تنتقل في العشر، فتارة تكون إحدى وعشرين، وتارة تكون ليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، فمن وافقها فقد سعد، والله يكشفها لمن يشاء من عباده.

وقال عبد الوهاب: ليلة القدر هي غير مرتفعة بموت النبي صلى الله عليه وسلم، خلافًا لمن قال: إنَّها زائلة، لقوله:«التمسوها في العشر الأواخر» فعم كل وقت، ولأنَّها من شعائر الدين والإسلام كشعائر سواها، وليس فيها تعيين كما بينا قبل).

ما اجتُنبت الكبائر:

أما قوله: «غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» :

فقد ذهب فريق من العلماء إلى أن المغفرة تشمل الصغائر والكبائر.

(1)

ينظر: المسالك شرح موطأ مالك لأبي بكر بن العربي (4/ 269).

ص: 262

قال العيني رحمه الله

(1)

: (قوله: «غفر له ما تقدم من ذنبه». المعروف عند الفقهاء أن هذا مختص بغفران الصغائر، دون الكبائر، قال بعضهم: يجوز أن يُخَففَ من الكبائر إذا لم تصادف صغيرة. قلت: اللفظ عام، ينبغي أن يشمل الصغيرة والكبيرة، والتخصيص بلا مخصص باطل).

لكن الصواب هو تكفير الصغائر دون الكبائر، لوجود المخصص، فقد ثبت في الصحيح ما يؤيده فمن ذلك حديث عثمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت له كفارة لما قبلها ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله» ، رواه مسلم

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ كفارة لما بينها من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر»

(3)

.

فإذا كانت الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان لا تكفر الكبائر فبالأحرى صيام رمضان وقيامه.

وقال النووي رحمه الله

(4)

: (وفي معنى هذه الأحاديث تأويلان:

أحدهما: يكفر الصغائر بشرط ألَّا يكون هناك كبائر فإن كانت كبائر لم يكفر شيئا لا الكبائر لا الكبائر ولا الصغائر.

(1)

ينظر شرح سنن أبي داود للعيني (5/ 275).

(2)

أخرجه مسلم برقم (228).

(3)

أخرجه مسلم برقم (233).

(4)

ينظر: المجموع شرح المهذب للنووي (6/ 382).

ص: 263

والثاني: وهو الأصح المختار أنه يكفر كل الذنوب الصغائر، وتقديره: يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر، قال القاضي عياض رحمه الله: هذا المذكور في الأحاديث من غفران الصغائر دون الكبائر هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة، أو رحمة الله تعالى.

فإن قيل: قد وقع في هذا الحديث هذه الألفاظ، ووقع في الصحيح غيرها مما في معناها، فإذا كفَّر الوضوء، فماذا تكفره الصلاة؟ وإذا كفرت الصلوات، فماذا تكفره الجمعات ورمضان؟ وكذا صوم يوم عرفة كفارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة

(1)

، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه

(2)

.

فالجواب: ما أجاب به العلماء؛ أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت له به درجات، وذلك كصلوات الأنبياء والصالحين والصبيان وصيامهم ووضوئهم وغير ذلك من عباداتهم، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغائر، رجونا أن تخفف من الكبائر. وقد قال أبو بكر في الأشراف في آخر كتاب الاعتكاف في باب التماس ليلة القدر في قوله صلى الله عليه وسلم:«من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»

(3)

، قال هذا قول عام يرجى لمن قامها إيمانًا واحتسابًا أن تغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها).

ص: 264

حول زيادة «وما تأخر» :

وأما زيادة الإمام أحمد رحمه الله: «وما تأخر» :

قال زين الدين العراقي رحمه الله

(1)

: (وقد يستشكل معنى مغفرة ما تأخر من الذنوب، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه:«صيام عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» ، فتكفير السنة التي بعده كمغفرة المتأخر من الذنوب، وقد قال السرخسي من أصحابنا الشافعية: اختلف العلماء في معنى تكفير السنة المستقبلة، فقال بعضهم: إذا ارتكب فيها معصية جعل الله تعالى صوم عرفة الماضي كفارة لها، كما جعله مكفرًا لما قبله في السنة الماضية، وقال بعضهم: معناه: أن الله تعالى يعصمه في السنة المستقبلة عن ارتكاب ما يحوجه إلى كفارة.

وأطلق الماوردي في الحاوي في السنتين معا تأويلين:

أحدهما: أن الله تعالى يغفر له ذنوب سنتين.

والثاني: أنه يعصمه في هاتين السنتين فلا يعصي فيهما.

وقال صاحب العدة في تكفير السنة الأخرى يحتمل معنيين:

أحدهما: المراد السنة التي قبل هذه فيكون معناه أنه يكفر سنتين ماضيتين.

والثاني: أنه أراد سنة ماضية وسنة مستقبلة.

قال: وهذا لا يوجد مثله في شيء من العبادات أنه يكفر الزمان المستقبل، وإنما ذلك خاصٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بنص القرآن العزيز. ذكر ذلك كلَّه النووي في شرح المهذب

(2)

.

(1)

ينظر: طرح التثريب للحافظ العراقي (4/ 163).

(2)

ينظر: المجموع شرح المهذب للنووي (6/ 381).

ص: 265

وهذا يأتي مثله هنا، فيكون مغفرة ما تأخر من الذنوب إما أن يراد بها العصمة من الذنوب حتى لا يقع فيها، وإما أن يراد به تكفيرها ولو وقع فيها، ويكون المكفِّر متقدِّما على المكفَّر، والله أعلم).

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث فضل صيام رمضان وقيامه.

ثانيًا: والحديث دال عَلَى أن الأعمال لا تزكو ولا تقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات، كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات»

(1)

.

وهو رادٌّ لقول زُفر: إن رمضان يجزئ من غير نية، ثم هي مبيتةٌ عند الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة والأوزاعي وإسحاق؛ حيث قالوا: يجزئ قبل الزوال.

ولا سلف لهم فيه، والنية إنما ينبغي أن تكون مقدَّمة قبل العمل، وحقيقة التبييت لغة يقتضي جزءًا من الليل

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (1) واللفظ له، ومسلم برقم (1907) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (13/ 72).

ص: 266

‌الحديث الثامن والثلاثون: خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ، وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ، وَشَرُّ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءٌ بِوَادِي بَرَهُوتٍ، بَقِيَّةُ حَضْرَمَوْتَ كَرِجْلِ الْجَرَادِ مِنَ الْهَوَامِّ، يُصْبِحُ يَتَدَفَّقُ، وَيُمْسِي لَا بَلَالَ بِهَا»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

فيه طعام من الطعم

أي: طعام إشباع أو طعام شبعٍ.

وشفاء من السقم

أي: شفاء من الأمراض.

بوادي بَرَهوت

بفتح الباء والراء: بئر عميقة. وبسكون الراء وهي المشار إليها في الآية: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج: 45].

بقية حضرموت

قال الزمخشري: برهوت بئر بحضرموت، يقال: إن بها أرواح الكفار

(3)

، أو اسم للبلد الذي فيه هذا البئر، أو واد باليمن. انتهى.

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير (11167)، وفي الأوسط برقم (3912 - 8129). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 198): رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، وصححه ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3322)، وينظر: السلسلة الصحيحة برقم (1056).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (6/ 19)، وفيض القدير للمناوي (3/ 389)، وكشف المشكل لابن الجوزي (3/ 528).

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره برقم (18574)، وعبد الرزاق في المصنف برقم (9118)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه موقوفًا.

ص: 267

رجل الجراد

أي: جماعة من جراد، وهذا من أسماء الجماعات التي لا واحد لها من لفظها، يقال: رجل من جراد، وسرب من ظباء، وخيط من نعام، وعانة من حمير.

من الهوام

أي: فيها هوام كثيرة ككثير الجراد.

يصبح يتدفق

أي: يتدفق ماء لكثرته.

ويُمسِي لا بِلالَ بها

بكسر الباء، جمع بلل، أي: ليس بها قطرة ماء بل ولا أرضها مبتلة.

التعليق:

قصة زمزم:

روى البخاريُّ

(1)

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أول ما اتخذ النساء المِنْطقَ

(2)

من قِبل أمِّ إسماعيل، اتخذت مِنْطقًا لتُعفيَ أثرَها

(3)

على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي تُرضعُه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة

(4)

، فوق زمزم في أعلى المسجد

(5)

، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاءً فيه ماء.

ثم قفَّى إبراهيم

(6)

منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا،

(1)

في صحيحه برقم (3364).

(2)

المنطق: ما يشد به الوسط. ينظر: العين للفراهيدي (5/ 104).

(3)

لتعفي أثرها: تخفيه. ينظر: المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وآخرين (2/ 612).

(4)

دوحة: شجرة كبيرة. ينظر: تهذيب اللغة للهروي (5/ 124).

(5)

في أعلى المسجد: أي: أعلى مكان المسجد، لأن المسجد لم يكن بني يومئذ.

(6)

قفَّى إبراهيم: ولَّى راجعًا إلى الشام. ينظر: جامع الأصول، لابن الأثير (10/ 295).

ص: 268

وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذن لا يضيِّعنا. ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنِيةِ

(1)

حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حتى بلغ: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]).

وجعلت أم إسماعيل تُرضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السِّقاء عطشت وعطش ابنُها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال يتلبط

(2)

، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعِها

(3)

، ثم سعت سعيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس رضي الله عنهما:«قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك سعيُ الناس بينهما» .

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، فقالت: صَهٍ

(4)

-تريد نفسها-، ثم تسمَّعت، فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غِوَاثٌ

(5)

، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم، فبحث بعَقِبِه، أو قال: بجناحِه، حتى ظهر الماءُ،

(1)

الثنية: مكان مرتفع في جبل بأعلى مكة حيث دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة. ينظر: العين للفراهيدي (8/ 243).

(2)

يتلبط: أي: يتقلب في الأرض. ينظر: تهذيب اللغة للهروي (13/ 239).

(3)

رفعت طرف درعها: أي قميصها، لئلا تعثر في ذيله. ينظر: مختارالصحاح للرازي (1/ 104).

(4)

صه: اسم فعل أمر، أي: اسكت. ينظر: تهذيب اللغه للهروي (5/ 229).

(5)

إن كان عندك غواث: إن كان عندك خير يستغاث به. ينظر: لسان العرب لابن منظور (2/ 174).

ص: 269

فجعلت تُحَوِّضُه

(1)

وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائِها، وهو يفور بعد ما تغرف».

قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم -أو قال: لو لم تغرف من الماء-، لكانت زمزم عينًا معينًا»

(2)

.

قال: فشربت وأرضعت ولدَها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة

(3)

، فإن ها هنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله».

قال ابن حجر رحمه الله

(4)

: (سُميت زمزم لكثرتها يقال: ماء زمزم، أي: كثير، وقيل: لاجتماعها، نُقل عن ابن هشام. وقال أبو زيد: الزمزمة من الناس: خمسون ونحوهم. وعن مجاهد: إنما سميت زمزم: لأنها مشتقة من الهزمة، والهزمة الغمز بالعقب في الأرض. أخرجه الفاكهي بإسناد صحيح عنه. وقيل: لحركتها، قاله الحربيُّ. وقيل: لأنها زمَّت بالميزان لئلا تأخذ يمينًا وشمالًا).

وأما بئر برَهوت: ففي الفردوس عن الأصمعي عن رجل من أهل برَهوت أنهم يجدون الريح الفظيع المنتن فيها، ثم يمكثون جثيًّا، فيأتيهم الخبر بأن عظيمًا من الكفار مات، فيرَوْن أن الريحَ منه، وقد أخذ جمعٌ من الشافعية أنه يُكره استعمالُ هذا الماء في الطهارة وغيرها

(5)

.

(1)

تحوضه: تجعله مثل الحوض، حتى لا يذهب. ينظر: لسان العرب لابن منظور (7/ 141).

(2)

عينًا معينًا: أي: ظاهرًا جاريًا على وجه الأرض. ينظر: العين للفراهيدي (2/ 255)، تهذيب اللغة للهروي (3/ 133).

(3)

الضيعة: الهلاك. ينظر: مقاييس اللغة لابن فارس (3/ 380).

(4)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 493).

(5)

ينظر: فيض القدير للمناوي (3/ 489)، التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (6/ 19).

ص: 270

من فوائد الحديث:

الأول: في الحديث أن المياه تتفاضل من حيث العذوبة والنقاء، وأن الله يضع في بعض المياه من البركة والتأثير ما لا يضعه في غيره.

الثاني: فيه فضيلة ماء زمزم، وأنه يغني شاربَه عن الطعام، وقد مكث أبو ذر في الحرم ثلاثين بين يوم وليلة لا طعام له غير ماء زمزم، قال كما في حديث مسلم:«ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنتُ حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سَخْفةَ جوع»

(1)

، أي: انطوت وانثنت طاقات لحمُ بطنه من السِّمن، ولم يجد رقةَ الجوع وضعفَه وهزالَه، وهذا من بركة زمزم وفضلها

(2)

.

الثالث: فيه أن ماء زمزم سبب في الشفاء من الأمراض، إذا شرب بنية صالحة رحمانية.

الرابع: فيه أن بعض الآبار لا يصلح ماؤها لخبثه وتكاثر الهوام والحشرات به.

(1)

أخرجه مسلم برقم (2473).

(2)

ينظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (7/ 506)، وشرح النووي على مسلم (16/ 29).

ص: 271

‌الحديث التاسع والثلاثون: ثلاث لا يُغلُّ عليهن

عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِالْخَيْفِ يقولُ: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلِى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، ولزُومِ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

نضَّر الله

معناه: الدعاء له بالنضارة، وهي النعمة والبهجة.

فوعاها

وعى يعي وعيًا، إذا حفظ كلامًا بقلبه، ودام على حفظه ولم ينسه.

لا يُغِل

قال في النِّهاية

(3)

: (يروى: يُغِلُّ؛ بضم الياء من الإغلال، وهو الخيانة في كل شيء، وبفتحِها: -يَغِلُّ- من الغِل، وهو الحقد، والشحناء؛ أي: لا يدخله حقد يزيله عن الحق.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (16737)، وابن ماجه برقم (3056).

وأخرجه أحمد في المسند برقم (13350)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وأخرجه الترمذي برقم (2658)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وأخرجه ابن ماجه برقم (230)، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(2)

ينظر: معالم السنن للخطابي (4/ 187)، وقوت المغتذي على جامع الترمذي للسيوطي (2/ 662)، وشرح مشكاة المصابيح للطيبي (2/ 683).

(3)

ينظر: النهاية لابن الأثير (3/ 381).

ص: 272

وروي «يَغِلُ» ، بتخفيف اللام من الوغول في الشيء؛ والمعنى: أنَّ هذه الخلال الثلاث يستصلح بها القُلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر).

تحيط من ورائهم

أي: تحوطهم وتكنُفُهُمْ، وتحفظهم، يريد أهل السنة دون أهل البدع والأهواء.

التعليق:

قوله: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إلِى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» :

هذا دعاء لمن جمع الحفظ والوعي والأداء، فكأن الدعاء موقوفًا على الحفظ والأداء، وكأنه حثَّ عليهما، فكأن الحفظ والأداء مأمورًا بهما، فأما مع وجود قوله:«كما سمعها»

(1)

؛ فيكون التقدير: نضر الله من أدى مقالتي كما سمعها، فيكون الدعاء مصروفًا إلى وجود الصفة متى وجد الأداء، لأن الدعاء مصروف إلى الأداء نفسه.

وقوله: «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» :

دليل على كراهية اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي في الفقه، لأنه إذا فعل ذلك فقد قطع طريق الاستنباط على من بعده ممن هو أفقه منه.

وكذلك قوله: «فرب حامل فقه غير فقيه» ؛ فإن راوي الحديث ليس الفقه من شرطه إنما شرطُه الحفظ، فأما الفهم والتدبر فعلى الفقيه.

وإنما قسم العمل إلى اثنين: لأن حامل الحديث لا يخلو إما أن يكون فقيهًا أو غير فقيه، والفقيه لا يخلو أن يكون غيره أفقه منه، فانقسم لذلك إليهما

(2)

.

(1)

كما في مسند البزار برقم (3416).

(2)

ينظر: معالم السنن الخطابي (4/ 187) والشافي في شرح مسند الشافعي لابن الأثير (5/ 575)، والتيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (2/ 460).

ص: 273

خبر الواحد يفيد العلم:

واستدل الشافعي بهذا الحديث على أن خبر الواحد يفيد العلم لا الظن، قال الشافعي رحمه الله في الرسالة

(1)

: (فلما نَدَب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى استماع مقالته وحفظِها وأدائها امرًا يؤديها، والامْرُءُ واحدٌ: دلَّ على أنه لا يأمر أن يُؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يُؤدَّى عنه حلال وحرام يُجتَنَب، وحدٌّ يُقام، ومالٌ يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دينٍ ودنيا.

ودلَّ على أنه قد يحمل الفقهَ غيرُ فقيه، يكون له حافظًا، ولا يكون فيه فقيهًا. وأمْرُ رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يُحتج به في أن إجماع المسلمين إن شاء الله لازمٌ).

ولما حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم من سمع مقالته على أدائها كما سمعها، علمهم أن قلب المسلم لا يُغِل على هذه الأشياء، خشية أن يَضِنوا بها على ذوي الإحن والحقد، لما يقع بينهم من التحاسد والتباغض، وبين أن أداء مقالته إلى من يسمعها من باب إخلاص العمل لله تعالى والنصيحة للمسلمين، فلا يحلُّ له أن يتهاون به، لأنه يخل بالخلال الثلاث

(2)

.

فأخبر أن هذه الثلاث الخصال تنفي الغلَّ، عن قلب المسلم

(3)

.

وقال البيضاوي رحمه الله

(4)

: (هذه الجملة استئنافية تأكيد لما قبله، فإنه

(1)

ينظر: الرسالة للشافعي (ص 401)، وينظر: مختصر الصواعق المرسلة للبعلي (ص 582).

(2)

ينظر: الميسَّر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (1/ 109)، وشرح مشكاة المصابيح للطيبي (2/ 684).

(3)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 117).

(4)

ينظر: قوت المغتذي على جامع الترمذي للسيوطي (2/ 662).

ص: 274

صلى الله عليه وسلم لما حرَّض على تعلم السنن ونشرها قفَّاه بردِّ ما عسى أن يعرض مانعًا وهو الغلُّ من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنَّ تعلم الشرائع، ونقلها ينبغي أن يكون خالصًا لوجه الله مبرأ عن شوائب المطامع والأغراض الدنيويَّة، وما كان كذلك لا يتأثر عن الحِقد، والحسَد.

وثانيها: أنَّ أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم، وهي من وظائف الأنبياء، فمن تعرض لذلك وقام به كان خليفةً لمن يبلغ عنه، وكما لا يليق بالأنبياء أن يهملوا أعداءهم ولا ينصحوهم لا يحسن من حامل الأخبار وناقل السنن أن يمنحها صديقه، ويمنع عدوه.

وثالثها: أنَّ النقل ونشر الأحاديث إنما يكون غالبًا بين الجماعات، فحث على لزومهان ومنع عن النأي عنها؛ لحقدٍ وضغينة تكون بينه وبين حاضر بها، ببيان ما فيها من الفائدة العظمى، وهي إحاطة دعائهم بهم من ورائهم، فتحرسهم عن مكائد الشيطان وتسويله) انتهى.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذا الحديث في كتابه الحفيل مفتاح دار السعادة وبين ما فيه من فوائد فقال

(1)

: (إن النبيَّ دعا لمن سمع كلامه ووعاه وبلغه بالنضرة، وهي البهجة ونضارة الوجه وتحسينه، ففي الترمذي

(2)

وغيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا

(1)

ينظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 71).

(2)

ينظر: سنن الترمذي برقم (2658).

ص: 275

يُغل عليهن قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم».

وروى هذا الأصل عن النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه وأبو الدرداء رضي الله عنه وجبير بن مطعم رضي الله عنه وأنس بن مالك رضي الله عنه وزيد بن ثابت رضي الله عنه والنعمان بن بشير رضي الله عنه.

وقال الترمذي: حديث ابن مسعود رضي الله عنه حديث حسن صحيح، وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه حديث حسن، وأخرج الحاكم في صحيحه حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه

(1)

والنعمان بن بشير رضي الله عنه

(2)

.

وقال في حديث جبير رضي الله عنه: على شرط البخاري ومسلم.

ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وحده لكفى به شرفًا، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه وحفظه وبلغه، وهذه هي مراتب العلم:

أولها وثانيها: سماعه وعقله، فإذا سمعه وعاه بقلبه، أي عقله، واستقر في قلبه كما يستقر الشيء الذي يوعى في وعائه ولا يخرج منه.

وكذلك عقلُه هو بمنزلة عقل البعير والدابة ونحوها حتى لا تشرد وتذهب، ولهذا كان الوعي والعقل قدرا زائدا على مجرد إدراك المعلوم.

المرتبة الثالثة: تعاهده وحفظه حتى لا ينساه فيذهب.

المرتبة الرابعة: تبليغُه وبثُّه في الأمة؛ ليحصل به ثمرته ومقصوده، وهو بثه

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (294 - 295).

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (297).

ص: 276

في الأمة، فهو بمنزلة الكنز المدفون في الأرض الذي لا ينفق منه، وهو معرض لذهابه، فإن العلم ما لم ينفق منه ويعلَّم، فإنه يوشك أن يذهب، فإذا أنفق منه نما وزكا على الإنفاق.

فمن قام بهذه المراتب الأربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية، المتضمنة لجمال الظاهر والباطن، فإن النضرة هي البهجة والحسن الذي يُكساه الوجه من آثار الايمان، وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتذاذه به، فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارةً على الوجه، ولهذا يجمع له سبحانه بين البهجة والسرور والنضرة، كما في قوله تعالى:{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]؛ فالنضرة في وجوههم والسرور في قلوبهم.

فالنعيم وطيب القلب يظهر نضارة في الوجه، كما قال تعالى:{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24].

والمقصود أن هذه النضرة في وجه من سمع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعاها وحفظها وبلغها، فهي أثر تلك الحلاوة والبهجة والسرور الذي في قلبه وباطنه.

وقوله: «ربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» :

تنبيه على فائدة التبليغ، وأن المبلَّغ قد يكون أفهم من المبلِّغ، فيحصل له في تلك المقالة ما لم يحصل للمبلغ، أو يكون المعنى: أن المبلَّغ قد يكون أفقه من المبلِّغ، فإذا سمع تلك المقالة حملها على أحسن وجوهها، واستنبط فقهها وعلم المراد منها.

وقوله: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إلى آخره» :

أي: لا يحمل الغلَّ، ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة، فإنها تنفي الغل والغش،

ص: 277

وهو فساد القلب وسخائمُه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غلَّ قلبه، ويخرجه ويزيله جملة، لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل والغش، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]؛ فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، فانصرف عنه السوء والفحشاء.

ولهذا لما علم إبليس أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص، استثناهم من شرطته التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 21]، قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].

فالإخلاص هو سبيل الخلاص، والإسلام هو مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان.

وقوله: «ومناصحة أئمة المسلمين» :

هذا أيضًا مناف للغل والغش، فإن النصيحة لا تجامع الغِلَّ إذ هي ضده، فمن نصح الأئمة والأمة، فقد برئ من الغل.

وقوله: «ولزوم جماعتهم» :

هذا أيضًا مما يطهر القلب من الغل والغش، فإن صاحبه للزومِه جماعة المسلمين، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسؤوهم، ويسره ما يسرهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم، والعيب والذم لهم، كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم، فإن قلوبهم ممتلئة غلًّا وغشا، ولهذا تجد الرافضة أبعد الناس من الإخلاص؛

ص: 278

أغشُّهم للائمة والأمة، وأشدُّهم بعدًا عن جماعة المسلمين، فهؤلاء أشد الناس غلًّا وغشًّا بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم والأمة عليهم، وشهادتهم على أنفسهم بذلك، فانهم لايكونون قط إلا أعوانًا وظهرًا على أهل الإسلام، فاي عدو قام للمسلمين كانوا أعوان ذلك العدو وبطانته، وهذا مر قد شاهدتْه الأمة منهم، ومن لم يشاهد فقد سمع منه ما يصم الآذانَ ويشجي القلوب.

وقوله: «فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» :

هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنًى؛ شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فتلك الدعوة -التي هي دعوة الإسلام، وهم داخلوها- لما كانت سورًا وسياجًا عليهم أخبر أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام، كما أحاطت بهم، فالدعوة تجمع شمل الأمة، وتلمُّ شعثَها، وتُحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته).

من فوائد الحديث:

الأول: استدل الشافعي بهذا الحديث على أن خبر الواحد يفيد العلم لا الظن.

الثاني: في قوله: «ربَّ حامل فقه لا فقه له» ، هذا أقوى دليل على ردِّ كلام من شرط لقبول الرواية، كون الراوي فقيهًا عالمًا

(1)

.

الثالث: وفيه أن أساس كل خير حسن الاستماع: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].

(1)

ينظر: فيض القدير للمناوي (6/ 284).

ص: 279

وقد حقق العارفون أن كلام الله رسالة من الله لعبيده ومخاطبة لهم، وهو البحر المشتمل على جواهر العلم، ولهذا قاموا بأدب سماعه ورعوه حق رعايته، وقد تجلى سبحانه لخلقه في كلامه {وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42]، وكذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يتعين حسن الاستماع إليه، لأنه لا ينطق عن الهوى

(1)

.

الرابع: وفيه أن هذه الخلال المذكورة في الحديث من الإخلاص، والنصيحة، ولزوم جماعة المسلمين يستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الدغل والفساد

(2)

.

الخامس: وفيه أن الجماعة رحمة وقوة ونصر للأمة، والفرقة عذاب ونقمة وانكسار للأمة.

(1)

ينظر: المصدر السابق.

(2)

ينظر: الشافي في شرح مسند الشافعي لابن الأثير (5/ 558).

ص: 280

‌الحديث الأربعون: من أحيا سنة

عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: «{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ

إِلَى آخِرِ الْآيَة: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ:{اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18].

تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قَالَ- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».

قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ.

قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم برقم (1017).

ص: 281

معاني الكلمات

(1)

:

الكلمة

معناها

مجتابي النمار

أي: لابسيها النمار، جمع: نمرة: وهي كساء من صوف ملون مخطط، كأنها أخذت من لون النمر، لما فيها من السواد والبياض، واجتابوها: قطعوها فلبسوها، وأصل الجوب القطع، ومنه:{جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9].

أراد أنه جاءه قوم لابسي أزر مخططة من صوف.

العباء

جمع: عباءة وعباية لغتان، نوع من الأكسية.

فتمعَّر

أي: تغير مما شق عليه من أمرهم.

الفاقة

الفقر.

تصدق رجل

أي: ليتصدق.

والكومة من الطعام

الصبرة، وأصل الكوم ما ارتفع من الشيء، وهو العظيم من كل شيء.

يتهلل

يستنير ويظهر عليه أمارات السرور.

مذهبة

معناه: فضة مذهبة، وهذا أبلغ في حسن الوجه وإشراقه. وقيل: شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود، وجمعها: مذاهب، وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود، وتجعل فيها خطوطًا مذهبة يرى بعضها إثر بعض.

(1)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (1/ 433)، وشرح مشكاة المصابيح للطيبي (2/ 669).

ص: 282

التعليق:

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

(1)

: (هذا حديث عظيم، يتبين منه حرص النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته صلوات الله وسلامه عليه، فبينما هم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار، إذا جاء قوم عامتهم من مضر أو كلهم من مضر مجتابي النمار، مقلدي السيوف رضي الله عنهم، يعني أن الإنسان ليس عليه إلا ثوبه، قد اجتباه يستر به عورته، وقد ربطه على رقبته، ومعهم السيوف استعدادًا لما يؤمرون به من الجهاد رضي الله عنهم.

فتمعَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: تغير وتلوَّن لما رأى فيهم من الحاجة، وهم من مضر، من أشرف قبائل العرب، وقد بلغت بهم الحاجة إلى هذا الحال، ثم دخل بيته صلى الله عليه وسلم، ثم خرج، ثم أمر بلالًا فأذن، ثم صلى، ثم خطب الناس صلى الله عليه وسلم، فحمد الله صلى الله عليه وسلم كما هي عادته، ثم قرأ قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحشر: 18].

ثم حثَّ على الصدقة، فقال: تصدق رجل بديناره، وتصدق بدرهمه، تصدق بثوبه، تصدق بصاع بره، تصدق بصاع تمره، حتى ذكر ولو شق تمرة.

وكان الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على الخير، وأسرعهم إليه،

(1)

ينظر: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (2/ 340).

ص: 283

وأشدهم مسابقة، فخرجوا إلى بيوتهم فجاءوا بالصدقات، حتى جاء رجل بصرة معه في يده كادت تعجز يده عن حملها، بل قد عجزت، ثم وضعها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم رأى جرير كومين من الطعام والثياب وغيرها قد جمع في المسجد، فصار وجه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تمعَّر، صار يتهلل كأنه مذهبة، يعني: من شدة بريقه ولمعانه وسروره صلى الله عليه وسلم لما حصل من هذه المسابقة التي فيها سدُّ حاجة هؤلاء الفقراء، ثم قال صلى الله عليه وسلم:«من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» .

والمراد بالسنة في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنةً حسنة» ، ابتدأ العمل بسنة، وليس من أحدث؛ لأن من أحدث في الإسلام ما ليس منه فهو ردٌّ وليس بحسن، لكن المراد بمن سنَّها، أي: صار أول من عمل بها؛ كهذا الرجل الذي جاء بالصرَّة رضي الله عنه، فدل هذا على أن الإنسان إذا وفق لسن سنة في الإسلام سواء بادر إليها، أو أحياها بعد أن أميتت «فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده»

(1)

.

وذلك لأن السنة في الإسلام ثلاثة أقسام:

سنة سيئة: وهي البدعة، فهي سيئة وإن استحسنها من سنها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل بدعة ضلالة»

(2)

.

(1)

زيادة يقتضيها السياق، وقد ذكر الشيخ ذلك بعد أسطر.

(2)

أخرجه مسلم برقم (867) عن جابر رضي الله عنه.

ص: 284

وسنة حسنة: وهي على نوعين:

النوع الأول: أن تكون السنة مشروعة ثم يترك العمل بها ثم يُجددها من يجددها، مثل قيام رمضان بإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته في أول الأمر الصلاة بإمام في قيام رمضان

(1)

، ثم تخلف خشية أن تفرض على الأمة، ثم ترك الأمر في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه وفي أول خلافة عمر، ثم رأى عمر رضي الله عنه أن يجمع الناس على إمام واحد ففعل، فهو رضي الله عنه قد سن في الإسلام سنة حسنة؛ لأنه أحيا سنة كانت قد تركت.

والنوع الثاني: من السنن الحسنة أن يكون الإنسان أول من يبادر إليها، مثل حال الرجل الذي بادر بالصدقة حتى تتابع الناس ووافقوه على ما فعل.

فالحاصل أن من سن في الإسلام سنة حسنة، ولا سنة حسنة إلا ما جاء به الشرع؛ فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده.

وقد أخذ هذا الحديث أولئك القوم الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه، فيبتدعون أذكارًا ويبتدعون صلوات ما أنزل الله بها من سلطان، ثم يقولون: هذه سنة حسنة، نقول: لا، كل بدعة ضلالة وكلها سيئة، وليس في البدع من حسن، لكن المراد في الحديث من سابق إليها وأسرع، كما هو ظاهر السبب في الحديث، أو من أحياها بعد أن أميتت فهذا له أجرها وأجر من عمل بها).

(1)

يشير إلى حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال:«قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان» . أخرجه البخاري برقم (1129) ومسلم برقم (761).

ص: 285

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه إشفاق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورحمته أهل الفاقة والحاجة. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في مرثيته للرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

:

وَمَا فَقَدَ الْمَاضُونَ مِثْلَ مُحَمّدٍ

وَلَا مِثْلُهُ حَتّى الْقِيَامَةِ يُفْقَدُ

ثانيًا: فيه استحباب جمع الناس للأمور المهمة ووعظهم وحثهم على مصالحهم وتحذيرهم من القبائح

(2)

.

ثالثًا: فيه مسارعة الصحابة رضي الله عنهم إلى أفعال الخير والبر وتسابقهم في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

رابعًا: فيه الفرح إذا أصاب المسلمين خير، وإذا رآهم على خير، قال النووي رحمه الله

(3)

: (وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم، ففرحًا بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذل أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على بعض، وتعاونهم على البر والتقوى، وينبغي للإنسان إذا رأى شيئا من هذا القبيل أن يفرح ويظهر سروره).

خامسًا: قوله: «من سنَّ في الإسلام سنةً حسنة فله أجرها

إلى آخره»: فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات.

(1)

سوف يذكر الشيخ المرثية كاملة في نهاية الكتاب.

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (7/ 102).

(3)

ينظر: شرح النووي على مسلم (7/ 103)

ص: 286

وسبب هذا الكلام في هذا الحديث؛ أنه قال في أوله: فجاء رجل بصرةٍ كادت كفُّه تعجز عنها، فتتابع الناس، وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان.

وفي هذا الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» ، وأن المراد به: المحدثات الباطلة والبدع المذمومة

(1)

.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (7/ 104)

ص: 287

‌الحديث الحادي والأربعون: من أسباب المغفرة

عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: «قَالَ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . رواه الترمذي

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

آدم

قيل: هو أعجمي لا اشتقاق له، وقيل: هو عربي مشتق من أديم الأرض، لأنه خلق منه، وهو لا ينصرف للعَلَمية ووزن الفعل، إذ وزنه أفعل مثل أحمد.

ما دعوتني ورجوتني

أي: ما دمت تدعوني، وترجو مغفرتي، ولا تقنط من رحمتي، فإني أغفر لك، ولا يعظم عليَّ مغفرتك وإن كانت ذنوبك كثيرة.

وأما معنى الدعاء والرجاء: فالدعاء سؤال النفع والصلاح. والرجاء: تأميل الخير، وهو اعتقاد قرب وقوعه.

(1)

أخرجه الترمذي برقم (3540) وقال: حسن غريب، وصححه الألباني. وأخرجه أحمد في المسند بنحوه، عن أبي ذر رضي الله عنه برقم (21472).

(2)

ينظر: شرح مشكاة المصابيح للطيبي (6/ 1845)، والتعيين في شرح الأربعين للصرصري (1/ 334).

ص: 288

ولا أبالي

كأنه قال: لا يشتغل بالي بهذا الأمر، لأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، والمعنى: ولا أتعظَّم على مغفرتك، وإن كانت ذنوبُك كثيرةً.

عنان السماء

العنان: السحاب، أي: ما ظهر منها، أو ما عنَّ لك فيها.

بقراب الأرض

ما يقارب مِلْأَها، وقيل: ملؤها وهو أشبه، لأن الكلام في سياق المبالغة، ومثله طباقُها وطلاعُها.

التعليق:

تضمن هذا الحديث العظيم ثلاثة أسباب للمغفرة:

السبب الأول: الدعاء مع الرجاء.

السبب الثاني: الاستغفار.

السبب الثالث: التوحيد والبراءة من الشرك.

قال ابن رجب رحمه الله

(1)

: (فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة:

أحدها: الدعاء مع الرجاء:

فإن الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].

وفي السنن الأربعة عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إن الدعاء هو العبادة»

(2)

، ثم تلا هذه الآية.

(1)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 402 - 418) باختصار.

(2)

أخرجه أبو داود برقم (1479)، والترمذي برقم (2969)، وابن ماجه برقم (3828)، وأحمد في المسند برقم (18352) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 289

أسباب الإجابة:

لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه، وقد تتخلف إجابته، لانتفاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه.

ومن أعظم شرائطه: حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى، كما خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافلٍ لاهٍ»

(1)

.

ولهذا نهي العبد أن يقول في دعائه: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له

(2)

.

ونهي أن يستعجل، ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة

(3)

، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه ولو طالت المدة، فإنه سبحانه يحب الملِحِّين في الدعاء.

وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]).

(1)

أخرجه الترمذي برقم (3479)، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحسنه الألباني لشواهده.

وأخرج نحوه أحمد في المسند برقم (6655)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بسند فيه ابن لهيعة، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 148)، وقال: رواه أحمد، وإسناده حسن، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 491 - 492).

(2)

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإنه لا مكره له» . أخرجه البخاري برقم (6339)، ومسلم برقم (2679).

(3)

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» . أخرجه البخاري برقم (6340)، ومسلم برقم (2735).

ص: 290

فما دام العبد يلح في الدعاء، ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء، فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب، يوشك أن يفتح له.

ومن أهم ما يسأل العبد ربه مغفرة ذنوبه، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار، ودخول الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«حولها ندندن»

(1)

، يعني: حول سؤال الجنة والنجاة من النار.

ومن رحمة الله تعالى بعبده أن العبد يدعوه بحاجة من الدنيا، فيصرفها عنه، ويعوضه خيرًا منها، إما أن يصرف عنه بذلك سوءًا، أو أن يدخرها له في الآخرة، أو يغفر له بها ذنبًا، كما في المسند وصحيح الحاكم عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما من مسلم يدعو بدعوة ليس له فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها» ، قالوا: إذًا نكثر؟ قال: «الله أكثر»

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود برقم (792)، وابن ماجه برقم (910)، وأحمد في المسند برقم (15898)، ورواية ابن ماجه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟» ، قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ! قَالَ:«حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» .

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (11133)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (710)، والحاكم في المستدرك برقم (1816) وقال:(صحيح الإسناد).

وبنحوه أخرجه الترمذي برقم (3573)، عن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه، حَدَّثَهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ» ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:«اللَّهُ أَكْثَرُ» ، وَقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وقال الألباني: حسن صحيح.

ص: 291

وبكل حال فالإلحاح بالدعاء بالمغفرة مع رجاء الله تعالى موجب للمغفرة، والله تعالى يقول:«أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء»

(1)

.

فمن أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنبًا لم يرج مغفرته من غير ربه، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره.

وقوله: «إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك ما كان منك ولا أبالي» :

يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك، ولا أستكثره، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا دعا أحدكم فليُعَظِّم الرغبةَ، فإن الله لا يتعاظمه شيء»

(2)

.

فذنوب العبد وإن عظُمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم، فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته.

يا رب إن عظمت ذنوني كثرةً

فلقد علمت بأن عفوَك أعظمُ

إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ

فمن الذي يرجو ويدعو المجرمُ

ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرجا

وجميل عفوك ثم إني مسلم

السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار:

ولو عظُمت الذنوب، وبلغت الكثرة عنان السماء، وهو السحاب، وقيل: ما انتهى إليه البصر منها.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (16016)، والدارمي برقم (2773)، والحاكم في المستدرك برقم (7603) عن واثلة بن الأسقع، وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وقال الذهبي: صحيح وعلى شرط مسلم.

(2)

أخرجه مسلم برقم (2679) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 292

والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها.

وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار:

فتارة يؤمر به، كقوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وقوله:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3].

وتارة يمدح أهله، كقوله:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].

وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110].

وكثيرًا ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع من الذنوب بالقلوب والجوارح.

وتارة يفرد الاستغفار، ويرتب عليه المغفرة، كما ذكر في هذا الحديث وما أشبهه، فقد قيل: إنه أريد به الاستغفار المقترن بالتوبة، وقيل: إن نصوص الاستغفار المفردة كلها مطلقة تقيَّد بما ذكر في آية «آل عمران» من عدم الإصرار؛ فإن الله وعد فيها بالمغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يُصِرّ على فعله، فتحمل النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا المقيد.

ومجرد قول القائل: اللهم اغفر لي، طلب منه للمغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء، فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، لا سيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنب، أو صادف ساعة من ساعات الإجابة؛ كالأسحار وأدبار الصلوات.

ص: 293

ويروى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: «يا بني عود لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلًا» .

وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة.

وعن مغيث بن سميّ، قال: بينما رجل خبيث، فتذكر يوما، فقال: اللهم غفرانك، اللهم غفرانك، اللهم غفرانك، ثم مات فغفر له.

ويشهد لهذا ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أن عبدًا أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، قال الله تعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا آخر»

(1)

، فذكر مثل الأول مرتين أخريين.

وفي رواية لمسلم أنه قال في الثالثة: «قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء»

(2)

، والمعنى: ما دام على هذا الحال كلما أذنب استغفر، والظاهر أن مراده الاستغفار المقرون بعدم الإصرار.

ولهذا في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» . خرجه أبو داود والترمذي

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (7507)، ومسلم برقم (2758).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2758/ 29)، وفي رواية البخاري السابقة:«غفرت لعبدي ثلاثًا، فليعمل ما شاء» .

(3)

أخرجه أبو داود برقم (1514)، والترمذي برقم (3559) وقال: غريب، وليس إسناده بالقوي. وهذا الحديث حسنه ابن كثير في تفسيره (2/ 125)، وقال: وجهالة مولى أبي بكر لا تضر، لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر.

ص: 294

وأما استغفار اللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه، وإن شاء رده.

وقد يكون الإصرار مانعا من الإجابة، وفي المسند من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا:«ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعملون»

(1)

.

وقول القائل: أستغفر الله، معناه: أطلب مغفرته، فهو كقوله: اللهم اغفر لي، فالاستغفار التام الموجب للمغفرة: هو ما قارن عدم الإصرار، كما مدح الله أهله، ووعدهم بالمغفرة.

قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره.

وكان بعضهم يقول: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير، وفي ذلك يقول بعضهم:

أستغفر الله من أستغفر الله

من لفظة بدرت خالفتُ معناها

وكيف أرجو إجابات الدعاء وقد

سددتُ بالذنب عند الله مجراها

فأفضل الاستغفار ما اقتُرن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نصوح، وإن قال بلسانه: أستغفر الله وهو غير مقلع بقلبه، فهو داع لله بالمغفرة، كما يقول: اللهم اغفر لي، وهو حسن وقد يرجى له الإجابة.

وأما من قال: توبة الكذابين، فمراده أنه ليس بتوبة، كما يعتقده بعض الناس، وهذا حق، فإن التوبة لا تكون مع الإصرار.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (6541)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (380)، وصححه الألباني، ينظر: السلسلة الصحيحة برقم (482).

ص: 295

أفضل أنواع الاستغفار:

وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة، كما في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» . أخرجه البخاري

(1)

.

وفي الصحيحين

(2)

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال:«قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» .

ومن أنواع الاستغفار أن يقول العبد: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من قاله غفر له وإن كان فرَّ من الزحف؛ أخرجه أبو داود والترمذي

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (6306).

(2)

أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705).

(3)

أخرجه أبو داود برقم (1517)، والترمذي برقم (3577) عن زيد أبو يسار، وهو غير زيد بن حارثة رضي الله عنهما، قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وصححه الألباني.

ص: 296

وفي السنن الأربعة

(1)

عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور» .

وفي صحيح البخاري

(2)

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» .

وفي صحيح مسلم

(3)

عن الأغرِّ المُزَني رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» .

وفي سنن أبي داود

(4)

عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» .

قال أبو هريرة رضي الله عنه: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم ألف مرة، وذلك على قدر ديتي» .

وقالت عائشة رضي الله عنها: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا).

قال أبو المنهال: ما جاور عبد في قبره من جار أحب إليه من استغفار كثير. وبالجملة، فدواء الذنوب الاستغفار.

(1)

أخرجه الترمذي برقم (3434)، وأبو داود برقم (1516)، وابن ماجه برقم (3814)، وأحمد في المسند برقم (4726)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه البخاري برقم (6307).

(3)

أخرجه مسلم برقم (2702).

(4)

سنن أبي داود برقم (1518)، وأخرجه ابن ماجه برقم (3819)، وأحمد في المسند برقم (2234).

ص: 297

قال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم: فالذنوب، وأما دواؤكم: فالاستغفار.

ومن زاد اهتمامه بذنوبه، فربما تعلق بأذيال من قلت ذنوبه، فالتمس منه الاستغفار.

وكان عمر رضي الله عنه يطلب من الصبيان الاستغفار، ويقول إنكم لم تذنبوا، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول لغلمان الكتاب: قولوا: اللهم اغفر لأبي هريرة رضي الله عنه، فيؤمِّن على دعائهم.

ومن كثرت ذنوبه وسيئاته حتى فاقت العدد والإحصاء، فليستغفر الله مما علم الله، فإن الله قد علم كل شيء وأحصاه، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].

وفي حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب»

(1)

.

(1)

أخرجه الترمذي برقم (3407)، والنسائي برقم (1304)، وأحمد في المسند برقم (17114)، ولفظ أحمد عن حسان بن عطية، قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه، في سفر، فنزل منزلًا، فقال لغلامه:(ائتنا بالسفرة نعبث بها)، فأنكرت عليه، فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه، فلا تحفظوها علي، واحفظوا مني ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب» ، وصححه الحاكم في المستدرك برقم (1872).

ص: 298

وفي مثل هذا يقول بعضهم:

أستغفر الله مما يعلم الله

إن الشقيَّ لمن لا يرحم الله

ما أحلمَ الله عمن لا يراقبُه

كلٌّ مسيءٌ ولكن يحلم الله

فاستغفر الله مما كان من زلل

طوبى لمن كف عما يكره الله

طوبى لمن حسُنت منه سريرتُه

طوبى لمن ينتهي عما نهى الله

السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيد:

وهو السبب الأعظم، فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض -وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها- خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته ألَّا يخلد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة.

قال بعضهم: الموحِّد لا يلقى في النار كما يلقى الكفار، ولا يلقى فيها ما يلقى الكفار، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار، فإن كمُل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية.

فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله محبةً وتعظيمًا وإجلالًا ومهابة، وخشية، ورجاء وتوكلًا، وحينئذ تُحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثلَ زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، كما سبق ذكره في تبديل السيئات حسنات، فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه

ص: 299

ذرة على جبال الذنوب والخطايا، لقلبها حسنات كما في المسند وغيره

(1)

، عن أم هانئ رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا إله إلا الله لا تترك ذنبًا، ولا يسبقها عمل» .

إذا علقت نار المحبة بالقلب أحرقت منه كلَّ شيء ما سوى الرب عز وجل، فطهر القلب حينئذ من الأغيار، وصلح عرشًا للتوحيد).

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى، وأنه لا يقنط عباده من رحمته.

ثانيًا: فيه الحث على الدعاء مع الرجاء، وأنه من أسباب المغفرة.

ثالثًا: فيه الحث على الاستغفار وأنه من أسباب المغفرة.

رابعًا: فيه فضيلة الموت على التوحيد، والبراءة من الشرك وأهله.

خامسًا: فيه أن الإيمان شرط في غفران الذنوب التي هي دون الشرك، لأن الإيمان أصل يبنى عليه قبول الطاعات وغفران المعاصي.

أما مع الشرك فلا أصل يبني عليه ذلك: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]

(2)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه برقم (3797)، والطبراني في الكبير برقم (1071)، وفيه ضعف.

(2)

ينظر: التعيين في شرح الأربعين للصرصري (1/ 336).

ص: 300

‌الحديث الثاني والأربعون: الشقي والسعيد

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«تَعِسَ عبد الدِّينَارِ، وَعبد الدِّرْهَمِ، وَعبد الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» . رواه البخاري

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

تعِس

ضد سعِد، تقول: تعس فلان، أي: شقي، وقيل: عَثُر فسقط لوجهه، وقيل: تعس: أخطأ حجتَه وبغيته.

وانتكس

أي: عاوده المرض، وقيل: إذا سقط اشتغل بسقطته، حتى يسقط أخرى.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2887).

(2)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 538)، وفتح الباري لابن حجر (6/ 82)، ومصابيح الجامع للدماميني (6/ 274)، وشرح مشكاة المصابيح للطيبي (10/ 3274).

ص: 301

القطيفة

نوع من الأكسية.

الخميصة

وهي ثوب خز أو صوف معلم، وخُصَّت بالذكر لأن الغالب في لبسها الخيلاء والرعونة والرياء والسمعة، ومن كمال ميل النفس إليها وعدم الطاقة على مفارقتها، فكأنه عبد لها.

وانتكس

قال ابن السكيت: سقط على رأسه، تقول: نكست الشيء: إذا قلبته.

شيك

أي: أصاب الشوك جسده.

فلا انتقش

أي: فلا قدر على إخراجه من بدنه ولا استطاع، يقال: نقشت الشوك: إذا استخرجته بالمنقاش.

طوبى

فُعلى من الطيب، اسم الجنة أو شجرة فيها.

بعنان فرسه

أي: بلجامه.

إن كان في الحراسة، وإن كان في الساقة

المعنى: أنه خامل الذِّكْرِ لا يقصد السمو، فأين اتفق له كان فيه.

التعليق:

يدل هذا الحديث على أن من كان همّه طلب الأموال والزينة الدنيوية من كافة وجوهها، وصار عمله كله في تحصيلها، فهو كالعابد لها، فقد شبهه بالعبد؛ لأنه لانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لا يجد خلاصًا، كالعبد الذي لا يخلص من أحكام الرِّقِّيَّة، وليس المذموم مجرد ملك الدينار المنتفع به في حاجاته ومقاصده، فإن ذلك مما يمدح ويحمد، بل قد يجب التملك ليسد به الخلة، وينفق على من يجب عليه الإنفاق

(1)

.

ولكن المذموم هو التفرغ للزينة وجمع الأموال، بحيث تستولي على القلب بالكلية.

وقد لا يفرق في سبيل ذلك بين الوجوه المباحة والوجوه المحرمة، ولذلك فهو لا يرضى عن الله إلا إذا تحصل عليها، ونال ما يريد منها، وإن لم يعط سخط ما قدَّر له خالقه ويسر له من رزقه، فصح بهذا أنه عبد في طلبها، فوجب الدعاء عليه بالتعس والانتكاس؛ لأنه أوقف عمله على متاع الدنيا الفاني وترك العمل لنعيم الآخرة الباقي.

(1)

ينظر: البدر التمام شرح بلوغ المرام للمغربي (10/ 238).

ص: 302

قال الصنعاني رحمه الله

(1)

: (أراد بعبد الدينار والدرهم من استعبدته الدنيا بطلبها، وصار كالعبد لها تتصرف فيه تصرف المالك؛ لينالها وينغمس في شهواتها ومطالبها.

وذكرُ الدينار والقطيفة مجرد مثال، وإلا فكلُّ من استعبدته الدنيا في أي أمر وشغلته عما أمر الله تعالى، وجعل رضاه وسخطه متعلقا بنيل ما يريد أو عدم نيله، فهو عبده، فمن الناس من يستعبده حب الإمارات، ومنهم من يستعبده حب الصور، ومنهم من يستعبده حب الأطيان.

واعلم أن المذموم من الدنيا كل ما يُبعد العبد عن الله تعالى، ويشغله عن واجب طاعته وعبادته، لا ما يعينه على الأعمال الصالحة، فإنه غير مذموم، وقد يتعين طلبه ويجب عليه تحصيله.

وقوله «رضِي» ، أي: عن الله بما ناله من حطامها.

«وإن لم يعط لم يرض» ، أي عنه تعالى ولا عن نفسه، فصار ساخطًا، فهذا الذي تعس؛ لأنه قصر رضاه على مولاه وسخطه على نيل الدنيا وعدمه.

والحديث نظير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} الآية [الحج: 11]).

ثم انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيان العبودية الشرعية، التي ما خُلق الخلق إلا لأجلها، وهي العبودية لله عز وجل، فذكر صفة العابد لله في موطن الجهاد في سبيل الله، فهو ماسك بلجام فرسه في طريقه إلى الجهاد، لا ينظر إلى قطيفة ولا خميصة، ولا إلى أجر دنيوي؛ بل هو أشعث الرأس، مغبر القدمين.

(1)

ينظر: سبل السلام للصنعاني (2/ 644).

ص: 303

قال الهروي رحمه الله

(1)

: («إن كان في الحراسة» : أي: حماية الجيش ومحافظتهم عن أن يتهجم عليهم عدوهم «كان» ، أي: كاملًا «في الحراسة» : غير مقصر فيها بالنوم والغفلة ونحوهما، والحراسة وإن كانت في اللغة أعم لكنها في العرف مختصة بمقدمة العسكر.

ولذا قال: «وإن كان في الساقة» : أي: في مؤخرة الجيش «كان في الساقة» ، أي: كاملًا في تلك الحالة أيضًا؛ بأن لا يخاف من الانقطاع، ولا يهتم إلى السبق بل يلازم ما هو لأجله.

وقد تقرر في علم المعاني أن الشرط والجزاء إذا اتحدا يراد بالجزاء الكمال، فالمعنى: إن كان في الحراسة أو الساقة يبذل جهده فيها، ولا يغفل عنها على وجه الكمال. قال التوربشتي رحمه الله: أراد بالحراسة: حراسته من العدو أن يهجم عليهم، وذلك يكون في مقدمة الجيش، والساقة مؤخرة الجيش، فالمعنى: ائتماره لما أمر، وإقامته حيث أقيم، لا يُفقد من مكانه بحال، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة، وأكثر آفة، الأول عند دخولهم دار الحرب، والآخر عند خروجهم.

وهو مع ذلك: «إن استأذن» ، أي: طلب الإذن في دخول محفل، «لم يؤذن له» ، أي: لعدم ماله وجاهه «وإن شفع» ، أي: لأحد «لم يشفَّع» : بتشديد الفاء المفتوحة، أي: لم تُقبل شفاعته.

وتوضيحه ما قيل: إن فيه إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث يفنى بكليته في معالجة نفسه، لا يبتغي مالًا ولا جاهًا عند الناس، بل يكون عند الله وجيهًا، ولم يقبل الناس شفاعته، وعند الله يكون شفيعًا مشفعًا).

(1)

ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (8/ 3229).

ص: 304

من فوائد الحديث:

أولًا: الإشارة إلى أن من تعلق بشيء تعلقًا تامًّا صار له مثل العبد، ولذلك نجد العشاق يفخرون بأن يوصفوا بأنهم عبيد لمن عشقوهم، كما قال الشاعر:

لا تدْعُني إلا بيا عبدِها

فإنه أشرفُ أسمائي

لأنه يتلذذ بكونه رقيقًا لها.

ثانيًا: أنه ينبغي للإنسان أن يكون رضاه فيما يرضي الله وسخطه فيما يسخط الله، لا أن يكون ذلك تبعًا للدنيا؛ لأن الدنيا فانية.

ثالثًا: وفي هذا الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يُخْرِجَ الدنيا من قلبه قبل أن تفجأه منيته، حتى لا يكون عبدًا ذليلًا لها

(1)

.

رابعًا: وفيه ذم التقيد بالزينة الظاهرة مما يتعلق بالثياب الجميلة، لا سيما إذا كانت محرمة أو مكروهة، وعدم التعلق بتخلية الباطن عن الأوصاف الدنية، وتحليتها بالنعوت الرضية، فإن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن رقَّ ثوبه رقَّ دينُه

(2)

.

خامسًا: وفيه فضل الجهاد في سبيل الله على وجه الصدق والإخلاص.

سادسًا: وفيه فضل الحراسة والساقة.

ثامنًا: وفيه فضل الخمول عن طلب الدنيا والزهد فيها.

(1)

ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام لابن عثيمين (6/ 332).

(2)

ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (8/ 3229).

ص: 305

‌الحديث الثالث والأربعون: لا خِلابة

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ: إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: «لَا خِلَابَةَ»

(1)

. رواه البخاري.

معاني الكلمات:

الكلمة

معناها

أُخْدع

أي: أُغبن.

لا خلابة

لا خديعة.

التعليق:

هذا الرجل اسمه حَبَّان بن منقذ، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوه أنه دائمًا يخدع في البيع من التجار، وذلك لقلة خبرته بالمعاملات من كبر سِنِّه، وقيل: كان متغيرَ العقلِ لشَجِّ رأسه في الغزو، فجاء أهلُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوا إليه لخرفِه الغبنَ، وطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يَحجِرَ عليه، فنهاه عن البيع، فقال الرجل: يا رسولَ الله! لم يكن لي صبرٌ عن البيع، فرفع عنه الحَجْر، وقال:«إذا بايعتَ قل: لا خِلابَة»

(2)

، وكان الرجل إذا بايَعَ بيعًا قال: لا خِلابَة؛ يعني: لا خديعةَ؛ يعني: أبيعُ هذه بشرط أن أردَّ الثمنَ وأستردَّ المَبيعَ إذا ظهرَ لي غُبن فيه.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2407).

(2)

أخرجه أبو داود برقم (3501)، والنسائي برقم (4485)، وأحمد في المسند برقم (13276) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 306

واختُلف في أن هذا الشرط كان خاصةً لذلك الرجل، أم لجميع مَنْ شرطَ هذا الشرط؟

(1)

فعند أحمد: يثبُتُ الردٌّ به لمَن شرطَ هذا الشرط؛ أي: لمَن قال في وقت البيع: «لا خِلابَة» ، أو يقول هذا المعنى بلسان آخر.

وعند الشافعي وأبي حنيفة: لا يثبت الخيارُ بالغُبن، سواءٌ قال هذا اللفظَ أو لم يقل.

وعند مالك: يثبت الخيارُ لمَن لا بصيرةَ له بمعرفة المتاع من العاقدين، سواءٌ شرطَ هذا الشرطَ أو لم يشرط، وأما إذا شرطَ المتبايعان أو أحدُهما خيارَ ثلاثةِ أيامٍ فما دونَها جازَ، ويثبت له الخيارُ في القَدْر الذي شَرَطَ.

وأولُ وقت خيار الشرط من وقت العقد في أصحِّ القولَين، ومِن أول تفرُّقهما من المجلس في القول الثاني.

ولا يجوز له الشرطُ أكثرَ من ثلاثة أيام، فإنْ شَرَطَ فسدَ البيعُ عند الشافعي وأبي حنيفة

(2)

.

وقال أبو ثور رحمه الله

(3)

: (إذا كان الغبن فاحشًا لا يتغابن الناس بمثله فسد البيع، وأنه إذا ذكرت هذه الكلمة في العقد، ثم ظهرت فيه غبينةٌ كان له الخيار، وكأنه شرط أن يكون الثمن غير زائد عن ثمن المثل، فيضاهي ما إذا شرط وصفًا

(1)

القول بأنه خاص بمن خاطبه صلى الله عليه وسلم ليس بذاك إذ لا بد للخصوصية من دليل، ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (5/ 1913).

(2)

ينظر: المفاتيح في شرح المصابيح للمظهري (3/ 408).

(3)

ينظر: شرح مشكاة المصابيح للطيبي (7/ 2122).

ص: 307

مقصودًا في المبيع فبان خلافُه، وهو قول أحمد رحمه الله، وذهب أكثر العلماء، إلى أن مجرد هذا اللفظ لا يوجب الخيار بالغبن).

قال التوربشتي رحمه الله

(1)

: (وتأويل الحديث على ذلك أن نقول: لقنه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول ليتلفظ به عند البيع؛ فيطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة فيها؛ فيمتنع بذلك عن مظان الغبن، ويرى له كما يرى لنفسه، وكان الناس في ذلك الزمان أحقاء بأن يعينوا أخاهم المسلم، وينظروا له أكثر ما ينظرون لأنفسهم).

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فضل الأمانة في البيع والشراء وما كان عليه بعض الناس من أمانة في عصور سالفة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشترى رجل من رجل عِقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقارِه جرةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرضَ، ولم أبتع منك الذهبَ، وقال الذي له الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجلٍ، فقال: الذي تحاكما إليه: ألكُما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدَّقا»

(2)

.

وبين النبي صلى الله عليه وسلم: أن الأمانة والنصيحة والصدق في البيع والشراء تجلب البركة، والنماء والخير للبائع والمشتري، وأن الغش والخديعة والكذب تمحق البركة وتجلب سخط الله والعداوة بين الناس، فعن حكيم بن حزام

(1)

ينظر: الميسَّر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي (2/ 666)، وشرح مصابيح السنة لابن الملك (3/ 401).

(2)

أخرجه البخاري برقم (3472)، ومسلم برقم (1721).

ص: 308

رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، -أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما»

(1)

.

وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغش والخداع في البيع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبرة طعام

(2)

فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال:«ما هذا يا صاحب الطعام؟» قال: أصابته السماء

(3)

يا رسول الله، قال:«أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني»

(4)

.

وقد ضرب السلف رحمهم الله أروع الأمثلة في أمانة البيع والشراء والنصيحة للمسلمين، فعن بشر بن المفضل، قال: جاءت امرأة بمِطْرف خزٍّ إلى يونس بن عبيد رحمه الله، فعرضَتْه عليه، فنظر إليه فقال لها: بكم؟، قالت: بستين درهما.

قال: فألقاه إلى جار له فقال: كيف تراه بعشرين ومائة؟ قال: هو ثمنه أو نحوه، فقال لها: انطلقي فاستأمري أهلك في بيعه بخمسة وعشرين ومائة، قالت: قد أمروني أن أبيعه بستين درهما، قال: انطلقي فاستأمريهم

(5)

.

وعن ربيع الخزاز رحمه الله، قال: جاءت امرأة شوذب بثوبِ خزٍّ، فألقته على يونس رحمه الله فقالت: اشتر هذا، قال: بكم؟ قالت: بمائة، قال: ثوبك خير من

(1)

أخرجه البخاري برقم (2082)، ومسلم برقم (1532).

(2)

صبرة طعام: الصبرة: الكومة المجموعة من الطعام. ينظر: لسان العرب لابن منظور (4/ 441).

(3)

أصابته السماء: أي: المطر. ينظر: لسان العرب لابن منظور (5/ 178).

(4)

أخرجه مسلم برقم (102).

(5)

ذكره البيهقي في شعب الإيمان برقم (4914).

ص: 309

ذلك، قالت: بمائتين، قال: ثوبك خير من ذلك، قالت: بثلاثمائة، قال: ثوبك خير من ذلك، قالت: بأربع مائة -قال أبو بشر رحمه الله: فأنا أشك حتى بلغ أربع مائة، أو خمس مائة- قال: هذا عندنا إن اشتراه رجل فوضعه عنده حتى جاء طالب ربح فيه فأخذه، قالت: خذه، قال: فلما ذهبت أقبل عليه أصحابه قالوا: يا أبا عبد الله، ما كان عليك لو أخذته بمائة؟ قال: لا شيء، إلا أني ظننت أنها مغرورة فأحببت أن أنصحها

(1)

.

وعن شعيب بن الحبحاب رحمه الله، قال: أول ما جرى بيني وبين أبي العالية، أنه جاء إلى السوق يطلب ثوبًا، فأتاني فأخرجت له ثوبًا صالحًا، وأخذت الدراهم، فذهب فأراه فقالوا: هذا خير من دراهمِك، قال: فجاء فقال: ردَّ علينا دراهمنا بارك الله فيك، فرددت عليه الدراهم، وأخذت الثوبَ

(2)

.

من فوائد الحديث:

يدل الحديث على أنه لا يجوز الخداع في البيع والشراء، فالدين النصيحة، فينبغي للمسلم أن ينصح لأخيه المسلم في بيعه وشرائه، وبخاصة إذا كان ممن لا خبرة لهم بأمور البيع والشراء.

(1)

ذكره البيهقي في شعب الإيمان برقم (4915).

(2)

ذكره البيهقي في شعب الإيمان برقم (4919).

ص: 310

‌الحديث الرابع والأربعون: من عادى لي وليًّا

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»

(1)

. رواه البخاري.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

وَلِيًّا

الولي: هو المؤمن التقي، كما فسره الله بذلك في قوله:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]، فهذا تفسيره تعالى للولي لا يقبل غيره، وأما اصطلاح الصوفية وغلوهم وجعلهم للولي من اتصف بصفات جمعوها، وبلوغهم به إلى فوق رتبة النبوة فمن الهوس والأباطيل.

فقد آذنته بالحرب

أعلمته أني محارب له، وحرب الله لا تنحصر في نوع معين.

(1)

أخرجه البخاري برقم (6502).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (3/ 313)، وفتح الباري لابن حجر (11/ 347).

ص: 311

افترضت عليه

الفرائض الظاهرة فعلًا؛ كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات، وتركًا؛ كالزنا والقتل وغيرهما من المحرمات، والباطنة؛ كالعلم بالله والحب له، والتوكل عليه والخوف منه وغير ذلك، وهي تنقسم أيضًا إلى أفعال وتروك

(1)

.

التعليق:

ذكر ابن الجوزي رحمه الله

(2)

أن هذا الحديث فيه عدة إشكالات

(3)

:

أحدها: أن يقال: كيف يعادي الإنسان الأولياء، والأولياء قد تركوا الدنيا وانفردوا عن الخلق، فإن جهل عليهم جاهل حلموا، والعداوة إنما تكون عن خصومة؟

والإشكال الثاني: قوله: «فقد آذنته بالحرب» ، وكيف يتصور الحرب بين الخالق والمخلوق؟ والمحارب مناظر، وهذا المخلوق في أسر قبضة الخالق.

والإشكال الثالث: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه» ، والعادة قد جرت بأن التقرب يكون بما لا يجب، كالهدايا إلى الملوك دون أداء الخراج، فإن مؤدي اللازم لا يكاد يحمد، وإنما يشكر من فعل ما لا يجب.

والرابع: أن يقال: فإذا كانت الفرائض أفضل القربات، فكيف أثمرت النوافل المحبة ولم تثمرها الفرائض؟

والخامس: قوله: «كنت سمعه وبصره ويده» ، فما صورة هذا؟

(1)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 347).

(2)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 525)

(3)

ذكر رحمه الله ستة إشكالات وأجاب عنها، وقد اكتفينا هنا بخمسة فقط، لأنه مشى في السادس على طريقة الخلف في تأويل الصفات.

ص: 312

والسادس: قوله: «ولئن سألني لأعطينه» ، وكم قد رأينا من عابد وصالح يدعو ويبالغ ولا يرى إجابة.

والجواب:

أما الإشكال الأول: فإن معاداة الأولياء يقع من أربعة أوجه:

أحدها: أن يعاديهم الإنسان عصبية لغيرهم، كما يعادي الرافضي أبا بكر وعمر.

والثاني: مخالفة لمذهبهم، كما يعادي أهل البدع أحمد ابن حنبل.

والثالث: احتقارًا لهم، فيكون الفعل بهم فعل الأعداء، كما كان بعض الجهال يحصب أويسًا القرني.

والرابع: أنه قد يكون بين الولي وبين الناس معاملات وخصومات وليس كل الأولياء ينفردون في الزوايا، فربَّ وليٍّ في السوق!

وأما الإشكال الثاني: فإن الإنسان إنما خوطب بما يعقل، ونهاية العداوة الحرب، ومحاربة الله عز وجل للإنسان أن يهلكه، وتقدير الكلام: فقد تعرض لإهلاكي إياه.

وأما الإشكال الثالث: فإن في أداء الواجبات احترامًا للأمر وتعظيما للأمر، وبذلك الانقياد تظهر عظمة الربوبية، ويبين ذل العبودية.

وأما الإشكال الرابع: فإنه لما أدى المؤمن جميع الواجبات، ثم زاد بالتنفل وقعت المحبة لقصد التقرب، لأن مؤدي الفرض ربما فعله خوفًا من العقاب، والمتقرب بالنفل لا يفعله إلا إيثارًا للخدمة والقرب، فيثمر له ذلك مقصوده.

وأما الإشكال الخامس: فإن قوله: «كنت سمعه وبصره» ، مثلٌ، وله أربعة أوجه:

ص: 313

أحدهما: كنت كسمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحبُّ هذه الجوارح.

والثاني: أن كُلِّيَّتَه مشغولةٌ، فلا يُصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يبصر إلا عن أمري.

والثالث: أن المعنى: أني أحصل له مقاصده كما يناله بسمعه وبصره.

والرابع: كنت له في العون والنصرة كبصره ويده اللذين يعاونانه على عدوه.

وأما الإشكال السادس: فإنه ما سئل ولي قط إلا وأجيب، وإلا أنه قد تؤخر الإجابة لمصلحة، وقد يسأل ما يظن فيه مصلحة ولا يكون فيه مصلحة، فيعوض سواه.

لا يوصف الله تعالى بالتردُّد المطلق:

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

(1)

: (ورد في حديث: «من عادى لي وليًّا» ، في نهاية الحديث يقول الله عز وجل:«وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن» ، فهل في هذا إثبات صفة التردد لله عز وجل؟ أو كيف التوفيق في هذا الأمر؟

فأجاب: إثبات التردد لله عز وجل على وجه الإطلاق لا يجوز؛ لأن الله تعالى ذكر التردد في هذه المسألة: «وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن» ، وليس هذا التردد من أجل الشك في المصلحة، ولا من أجل الشك في القدرة على فعل الشيء، بل هو من أجل الرحمة بهذا العبد المؤمن، ولهذا قال في نفس الحديث: «يكره الموت وأكره مساءتَه، ولا بد

(1)

ينظر: لقاء الباب المفتوح (59/ 12).

ص: 314

منه»، وهذا لا يعني: أن الله عز وجل موصوف بالتردد في قدرته أو في علمه، بخلاف الآدمي فهو إذا أراد أن يفعل الشيء يتردد؛ إما لشكه في نتائجه ومصلحته، وإما لشكه في قدرته عليه؛ أي: هل يقدر أو لا يقدر، أما الربُّ عز وجل فلا).

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن معنى تردد الله في هذا الحديث؟

(1)

.

فأجاب: (هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد ردَّ هذا الكلام طائفة، وقالوا: إنَّ الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إنَّ الله يعامل معاملة المتردد.

والتحقيق: أنَّ كلام رسوله صلى الله عليه وسلم حقٌّ، وليس أحد أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه، فإذا كان كذلك؛ كان المتحذْلِقُ والمنكر عليه من أضلَّ الناس وأجهلِهم وأسوئِهم أدبًا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة، والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردِّد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه لا يعلم عاقبة الأمور؛ لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنْزلة ما يوصف به الواحد منا؛ فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردَّد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهل منه بالشيء الواحد الذي يحَبُّ من وجه ويكره من وجه؛ كما قيل:

الشَّيْبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أَنْ أفَارِقَهُ

فاعْجَبْ لِشَيْءٍ عَلى البغضاءِ محبوبُ

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (18/ 129) باختصار.

ص: 315

وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح:«حُفَّت النارُ بالشهوات، وحُفَّت الجنةُ بالمكاره»

(1)

، وقال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] الآية.

ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث؛ فإنه قال: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه» ؛ فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق محبًّا له، يتقرب إليه أولًا بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبُّها ويحبُّ فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحقِّ، فأحبه الحق. والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه.

والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به؛ فهو يريده، ولا بد منه؛ فالرب مريدٌ لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كارهٌ لمساءَة عبده، وهي المساءةُ التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحق من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقة التردد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه مكروهًا من وجه، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادةُ الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته).

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث بيان تحريم معاداة أولياء الله تعالى من المؤمنين الطائعين، وأن من عاداهم فقد تعرض لما لا قبل له به من إهلاك الله له وانتقامه منه؛ فإن الحرب تنشأ عن العداوة والعداوة تنشأ عن المخالفة، وغاية الحرب

(1)

أخرجه مسلم برقم (2822)، عن أنس رضي الله عنه.

ص: 316

الهلاك، والله لا يغلبه غالب، فكأن المعنى فقد تعرض لإهلاكي إياه، فأطلق الحرب وأراد لازمه، أي: أعمل به ما يعمله العدو المحارب

(1)

.

ثانيًا: قال ابن هبيرة: ويستفاد من هذا الحديث تقديم الإعذار على الإنذار، وهو واضح قوله:«فقد آذنته» ، أي: أعلمتُه والإيذان الإعلام

(2)

.

ثالثًا: وفيه أن فعل الواجبات أحب إليه تعالى مما سواها.

قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل؛ فلهذا كانت أحب إلى الله تعالى وأشد تقريبًا، وأيضًا فالفرض كالأصل والأس، والنفل كالفرع والبناء، وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الآمر وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية؛ فكان التقرب بذلك أعظم

(3)

.

رابعًا: وفيه أن التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، مما يزيد من محبة الله للعبد.

خامسًا: وفيه أن الله يتولى أولياءه وهم عباده الصالحون بالحفظ والرعاية والدفع والنصر والمدد والغوث في جميع حركاتهم وسكناتهم، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا

(1)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 342).

(2)

ينظر: المرجع السابق (11/ 342).

(3)

ينظر: المرجع السابق (11/ 343).

ص: 317

يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61]، وقال تعالى:{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وغير ذلك من الآيات.

سادسًا: في قوله: «كنت سمعه الذي يسمع به» ، وقوله:«وبصره الذي يبصر به» .. إلخ، أي: أنه يسدده في جوارحه وفي أقواله وأفعاله؛ فحينئذ: لا ينطق العبد الا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به

(1)

.

سابعًا: وفيه أن الإيمان والتقوى وسيلة كل خير، ومن ذلك إجابة الدعاء، والإعاذة من كل مكروه، كما قال:«وإن سألني لأعطينه» مطلوبه «ولإن استعاذني لأُعِيذَنَّه» من كل مكروه

(2)

.

ثامنًا: ويؤخذ من هذا الحديث: ألَّا يحكم لإنسان آذى وليًّا، ثم لم يعاجل بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده بأنه سلم من انتقام الله؛ فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه؛ كالمصيبة في الدين مثلًا

(3)

.

(1)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 347).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (3/ 314).

(3)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 346).

ص: 318

‌الحديث الخامس والأربعون: وعليكم بالدلجة

عن أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ عليه السلام قَالَ:«إذَا أَخْصَبَتِ الْأَرْضُ فَانْزِلُوا عَنْ ظَهْرِكُمْ فَأَعْطُوهُ حَقَّهُ مِنَ الْكَلَإِ، وَإِذَا أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ فَامْضُوا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا، وَعَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ»

(1)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ، فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ، فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ، وَإِذَا عَرَّسْتُمْ بِاللَّيْلِ، فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهَا مَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ»

(2)

.

معاني الكلمات

(3)

:

الكلمة

معناها

أخصبت الأرض

الخصبُ: هو كثرةُ العشبِ والمرعى وهو ضدُّ الجدب.

فأعطوه حقَّه من الكلأ

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من الأرض» ، أي: فأعطوا الإبل حقها من العشب والماء والراحة.

(1)

أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده برقم (3618)، والبزار في مسنده برقم (6315)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (10343)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار برقم (113 - 114). وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة برقم (682).

(2)

أخرجه مسلم برقم (1926).

(3)

ينظر: المنتقى شرح الموطأ للباجي (7/ 305)، ومطالع الأنوار لابن قرقول (4/ 127)، والتنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (2/ 75).

ص: 319

فامضوا عليها بنِقْيِها

أي: أسرعوا عليها السير ما دامت قوية عليه قبل الهزال والضعف، فإنكم إِنْ أبطأتم عَلَيْهَا فِي أَرض الجدب ضعفت وهزلت. والنِّقْيُ: بكسر النون: المخ، ثم يقال للشحم: نِقْيٌ. قال مالك: هو شحمُها وقوَّتها.

وعليكم بالدُّلْجة

وهي سير الليل، يقال: أدلج بالتخفيف؛ إذا سار من أول الليل. ودلج بالتشديد: إذا سار من آخره. والاسم منهما: الدلجة، والإدلاج: السير في ظلمة أول الليل.

السَّنة

القحط والجدب، ومنه قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130]، أي: بالقحوط.

عرَّستم بالليل

نزلتم عن دوابكم بالليل للنوم والراحة.

الهوام

الحيات، وكل ذي سُمٍّ يقتل.

التعليق:

هذان الحديثان فيهما بعض التوجيهات النبوية للمسافرين، وذلك للتخفيف من مشقة السفر سواء على المسافرين، أو على الدواب التي تحملهم، وكذلك للحفاظ على سلامتهم من الدواب والحشرات أثناء الراحة والنوم.

قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله

(1)

عن الحديث الأول: (فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه أمر رسول الله عليه السلام في حال الخصب بالنزول عن الظهرِ، ليأخذ حاجتَه من الكلإ، وأمره في حال الجدب بالمُضِيِّ عليه بنِقْيِه، وهو مخيَّرٌ، وأمرهم مع ذلك أن يكون مسيرُهم عليه في الليل، لأن الأرض تُطوى فيه، فتكون المسافات فيه على الظهر دون المسافات في غير الليل).

(1)

ينظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي (1/ 106).

ص: 320

وقال ابن عبد البر رحمه الله

(1)

: (وأمر المسافر في الخصب بأن يمشي رويدًا ومهلًا، ويكثر النزول لترعى دابته، وتأكل من الكلأ وتنال من الحشيش والماء، هذا كله إذا كانت الأرض مخصَبةً، والسفر بعيدًا، ولم تضم صاحبه ضرورة إلى أن يجدَّ في السير، فإذا كان عام السَّنة، وأجدبت الأرض، فالسُّنة للمسافر أن يسرع السير، ويسعى في الخروج عنها، وبدابته شيء من الشحم والقوة إلى أرض الخصب.

والنِّقْيُ في كلام العرب: الشحمُ والودك.

وأما قوله: «فإن الأرض تطوى بالليل» : فمعناه والله أعلم: إن الدابة بالليل أقوى على المشي، إذا كانت قد نالت قوتها واستراحت نهارها تضاعف مشيُها، ولهذا ندب إلى سير الليل، والله أعلم بما أراد لا شريك له).

وقال النووي رحمه الله في شرح الحديث الثاني

(2)

: (ومعنى الحديث الحث على الرفق بالدواب ومراعاة مصلحتها، فإن سافروا في الخصب قلَّلوا السير وتركوها ترعى في بعض النهار وفي أثناء السير، فتأخذ حظها من الأرض بما ترعاه منها، وإن سافروا في القحط عجَّلوا السير ليصلوا المقصدَ وفيها بقيةٌ من قوتها، ولا يقللوا السير فيلحقها الضرر، لأنها لا تجد ما ترعى فتضعف ويذهب نقيُها، وربما كلت ووقفت.

وقد جاء في أول هذا الحديث في رواية مالك في الموطأ: «أن الله رفيقٌ يحبُّ الرفق

(3)

.

(1)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (24/ 157).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (19/ 69).

(3)

أخرجه مالك في الموطأ برقم (2062).

ص: 321

قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل» :

قال أهل اللغة: التعريس: النزول في أواخر الليل للنوم والراحة؛ هذا قول الخليل والأكثرين.

وقال أبو زيد: هو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار، والمراد بهذا الحديث هو الأول، وهذا أدب من آداب السير والنزول، أرشد إليه صلى الله عليه وسلم، لأنَّ الحشرات ودواب الأرض من ذوات السموم والسباع تمشي في الليل على الطرق لسهولتها، ولأنها تلتقط منها ما يسقط من مأكول ونحوه، وما تجد فيها من رمَّةٍ ونحوها، فإذا عرَّس الإنسان في الطريق، ربما مرَّ به منها ما يؤذيه، فينبغي أن يتباعد عن الطريق).

من فوائد الحديث:

الأول: فيه شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بالناس والدواب.

الثاني: فيه استحباب المسير ليلًا؛ لأن الأرض تطوى للمسافر ليلًا.

الثالث: وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه استحباب تعجيل السير عند القحط حتى لا تضعف الدابة عن مواصلة السير.

الرابع: فيه اجتناب الطريق عند النزول للنوم والاستراحة ليلًا لئلا يصاب بأذى من دواب الأرض وغيرها من الحشرات والزواحف وذوات السموم.

ص: 322

‌الحديث السادس والأربعون: صنائع المعروف

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ»

(1)

. رواه الطبراني.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

صنائع المعروف

جمع: صنيعة، وهي ما يفعل من الإحسان إلى الأنام.

تقي

تدفع عن فاعلها.

مصارع السوء

كل مصرع لا يحبه الواقع فيه.

التعليق:

هذا تنويه عظيم بفضل المعروف وأهله.

قال الماوردي رحمه الله

(3)

: (فينبغي لمن قدر على ابتداء المعروف أن يعجِّله حذرا من فَوْته، ويبادر به خيفةَ عجزه، ويعتقد أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يمهله ثقةً بالقدرة عليه، فكم من واثق بقدرة فاتت، فأعقبت ندما، ومعوِّلٍ على مُكنةٍ زالت، فأورثت خجلًا، ولو فطن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب فكره، لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مخبورة. وقيل: من أضاع الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها).

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير برقم (8014)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3797).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (4/ 8).

(3)

ينظر: أدب الدنيا والدين للماوردي (ص 202).

ص: 323

وأما قوله: «وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر» :

قال النووي رحمه الله

(1)

: (وهذا في صدقة التطوع، فالسر فيها أفضل، لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل.

وهكذا حكم الصلاة، فإعلان فرائضها أفضل، وإسرار نوافلها أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم:«أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»

(2)

.

وقال المناوي رحمه الله

(3)

: (استدل به الرافعي على أن صدقة السر أفضل من العلانية، قال ابن حجر: وأولى منه خبر: «سبعة يظلهم الله» ، وفيه:«ورجل تصدق بصدقة فأخفاها»

(4)

.

قال في الإتحاف: ذكر مع الصلة صدقة السر للمناسبة التامة المؤذنة بمزيد فضل؛ فالصلة وصفت بأنها تزيد في العمر سواء كانت سرًّا أو جهرًا بخلاف، إطفاء الغضب، فإنه لا يكون إلا بالصدقة سرًّا ثم إخفاؤها، فالصلة أفضل، فإنها نوع من الصدقة، فيجتمع فيها حينئذ الأمران؛ الزيادة في العمر، وإطفاء الغضب).

وقال الصنعاني رحمه الله

(5)

: (الجامع بينهما -أي: بين الصدقة والصلة- حتى تعاطفًا، إذ الكل إحسان يراد به وجه الله تعالى).

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (7/ 122).

(2)

أخرجه البخاري برقم (731)، ومسلم برقم (781)، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

(3)

ينظر: فيض القدير للمناوي (4/ 196).

(4)

أخرجه البخاري برقم (1423)، ومسلم برقم (1031)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (6/ 585).

ص: 324

حول زيادة العمر ونقصانه:

قوله: «وصلةُ الرحم تزيد في العمر» :

قال الشيخ محمد بن علي الأثيوبي رحمه الله

(1)

: (استُدِلّ بهذا الحديث على جواز الزيادة في العمر، وهذا الاستدلال واضح، وهو الصواب من القولين في المسألة).

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله

(2)

: (وأما نقص العمر وزيادته، فمن الناس من يقول: إنه لا يجوز بحال، ويَحمِل ما ورد على زيادة البركة، والصواب: أنه يحصل نقص وزيادة عما كُتب في صحف الملائكة، وأما علم اللَّه تعالى القديم فلا يتغيّر، وأما اللوح المحفوظ، فهل يُغيَّر ما فيه؟ على قولين، وعلى هذا يتفق ما ورد في هذا الباب من النصوص). انتهى كلامه رحمه الله، وهو كلام نفيس جدًّا.

وقد حقق المسألة العلامة الشوكاني رحمه الله، وكتب فيها رسالة مفيدة جدًّا، ورجح القول بأن العمر يزيد وينقص حقيقةً، أحببتُ إيرادها هنا تتميمًا ونشرًا للفائدة، قال رحمه الله

(3)

: (اعلم أنه قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادئ الرأي من التعارض بين هذه الآيات الشريفة، وهي قوله عز وجل:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11]، وقوله:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، وقوله:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145].

(1)

ينظر: ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، الإثيوبي الوَلَّوي (20/ 206).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 381).

(3)

وهي كما قال رسالة مفيدة جدًّا، ويبدو أن الشيخ لم يذكرها كاملة خوفًا من الإطالة، فمن أراد التوسع في هذه المسألة فليرجع إلى هذا الموضع.

ص: 325

فقد قيل: إنها معارضة لقوله عز وجل: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وقوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 2].

فذهب الجمهور إلى أن العمر لا يزيد ولا ينقص؛ استدلالًا بالآيات المتقدّمة، والأحاديث الصحيحة، كحديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إن أحدكم يُجمع خلقُه في أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يبعث اللَّه ملكًا، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقيّ، أو سعيد»

(1)

، وهو في الصحيحين وغيرهما، وما ورد في معناه من الأحاديث الصحيحة.

وذهب جمع من أهل العلم إلى أن العمر يزيد، وينقص، واستدلوا بالآيات المتقدّمة، فإن المحو والإثبات عامَّان، يتناولان العمر، والرزق، أو السعادة، والشقاوة، وغير ذلك.

وقد ثبت عن جماعة من السلف رحمهم الله، ومن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم:«اللَّهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة، فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحُني، وأثبتني في أهل السعادة»

(2)

.

ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه ونحو ذلك بما يخصِّص هذا العموم.

(1)

أخرجه البخاري برقم (3208)، ومسلم برقم (2643) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه البيهقي في القضاء والقدر برقم (257)، وابن بطة في الإبانة الكبرى برقم (1565)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم (1207)، وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الطبراني في الكبير برقم (8847).

ص: 326

وهكذا تدلّ على هذا المعنى الآية الثانية، فإن معناها أنه لا يطول عمر إنسان ولا ينقص إلا وهو في كتاب، أي: اللوح المحفوظ، وهكذا يدلّ قوله عز وجل:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} أن للإنسان أجلين، يقضي اللَّه عز وجل له بما يشاء منهما، من زيادة، أو نقص.

ويدلّ على هذا أيضًا ما في الصحيحين، وغيرهما، عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر

(1)

.

وفي لفظ في الصحيحين

(2)

: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه» .

وفي لفظ: «من أحبّ أن يمدَّ اللَّه في عمره وأجله، ويُبسط له في رزقه، فليتق اللَّه، وليصِلْ رحِمه»

(3)

.

وفي لفظ: «صلةُ الرحم، وحسن الخلق يعمّران الديار، ويزيدان من الأعمار»

(4)

.

ومن أعظم الأدلة ما ورد في الكتاب العزيز من الأمر بالدعاء؛ لقوله عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقوله:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].

(1)

كما سيأتي.

(2)

أخرجه البخاري برقم (2067)، ومسلم برقم (2557) عن أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أحمد في المسند برقم (1213)، والطبراني في الأوسط برقم (3014)، عن علي رضي الله عنه.

(4)

أخرجه أحمد في المسند برقم (25259) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 327

والأحاديث المشتملة على الأمر بالدعاء متواترة:

وفيها: إن الدعاء يدفع البلاء، ويردّ القضاء.

وفيها: أن الدعاء هو العبادة.

وفيها: الاستعاذة من سوء القضاء، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال:«اللَّهم إني أعوذ بك من سوء القضاء»

(1)

، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«وقني شرّ ما قضيت»

(2)

.

فإذا كان الدعاء لا يفيد شيئًا، وأنه ليس للإنسان إلا ما قد سبق في القضاء الأزليّ، لكان أمره عز وجل بالدعاء لغوًا، لا فائدة فيه، وكذلك وعده بالإجابة للعباد الداعين، وهكذا تكون استعاذة النبيّ صلى الله عليه وسلم لغوًا لا فائدة فيها.

وهكذا يكون ما ثبت في الأحاديث المتواترة المشتملة على الأمر بالدعاء، وأنه عبادة لغوًا، لا فائدة فيها.

وهكذا يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «وقني شرّ ما قضيت» : لغوًا، لا فائدة فيه.

وهكذا يكون أمره صلى الله عليه وسلم بالتداوي، وأن اللَّه عز وجل ما أنزل من داء، إلا وله دواء لغوًا لا فائدة فيه، مع ثبوت الأمر بالتداوي في الصحيح

(3)

عنه صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البخاري برقم (6347)، ومسلم برقم (2707) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ: جَهْدِ البَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ» .

(2)

أخرجه أبو داود برقم (1525)، والترمذي برقم (464)، والنسائي برقم (1745)، وابن ماجه برقم (1178)، وأحمد في المسند برقم (1718).

(3)

أخرجه البخاري برقم (5678)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» .

ص: 328

فإن قلت: فعلى ما يحمل ما تقدّم من الآيات القاضية بأن الأجل لا يتقدم، ولا يتأخّر، ومن ذلك قوله عز وجل:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} .

قلت: قد أجاب عن ذلك بعض السلف رحمهم الله، وتبعه الخلف، بأن هذه الآية مختضة بالأجل إذا حضر، فإنه لا يتقدّم، ولا يتأخّر عند حضوره.

ويؤيد هذا أنها مقيدة بذلك، فإنه قال:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} ، ومثل هذا التقييد المذكور في هذه الآية قوله عز وجل:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، وقوله عز وجل:{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]، فقد أمكن الجمع بحمل هذه الآيات على هذا المعنى، فإذا حضر الأجل لم يتقدّم، ولم يتأخر، وفي غير هذه الحالة يجوز أن يؤخّره اللَّه بالدعاء، أو بصلة الرحم، أو بفعل الخير، ويجوز أن يقدم لمن عمل شرًّا، أو قطع ما أمر اللَّه به أن يوصل، وانتهك محارم اللَّه عز وجل.

فإن قلت: فعلى ما يحمِل قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، وقوله:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وكذلك معنى ما ورد في هذا المعنى؟

قلت: هذه أوّلًا: معارضة بمثلها، مثل قوله عز وجل:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ومثل ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح القدسيّ:«يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللَّه، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلا نفسه»

(1)

.

وثانيًا: بإمكان الجمع بحمل مثل قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ، وقوله

(1)

أخرجه مسلم برقم (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 329

عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، على عدم التسبب من العبد بأسباب الخير من الدعاء، وسائر أفعال الخير، وحمل ما ورد فيما يخالف ذلك على وقوع التسبب بأسباب الشرّ المقضية لأمان المكروه، ووقوعه على العبد.

وهكذا يكون الجمع بين الأحاديث الواردة لسبق القضاء، وأنه فرغ من تقدير الأجل، والرزق، والسعادة، والشقاة، وبين الأحاديث الواردة في صلة الرحم بأنها تزيد في العمر، وكذلك سائر أعمال الخير، وكذلك الدعاء.

فتحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير والشرّ، وتحمل الأحاديث الأخرى على أنه قد وقع من العبد التسبب بأسباب الخير، من الدعاء، والعمل الصالح، وصلة الرحم، أو التسبب بأسباب الشرّ.

فإن قلت: قد تقرر بالأدلّة من الكتاب بأن علمه عز وجل أزليّ، وأنه قد سبق في كلّ شيء، ولا يصحّ أن يقدّر وقوع غير ما قد علمه، وإلا انقلب العلم جهلًا، وذلك لا يجوز إجماعًا.

قلت: علمُه عز وجل سابق أزليّ، وقد علم ما يكون قبل أن يكون، ولا خلاف بين أهل الحقّ من هذه الحيثية، ولكنه غلا قوم، فأبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة من الإرشاد إلى الدعاء، وأنه يردّ القضاء، وما ورد في الاستعاذة منه صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه، وبما كسبت يده، ونحو ذلك، مما جاءت به الأدلة الصحيحة، وجعلوه مخالفًا لسبق العلم، ورتبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلًا، والأمر أوسع من هذا.

والذي جاءنا بسبق العلم، وأزليته هو الذي جاءنا بالأمر بالدعاء، والأمر بالدواء، وعرَّفَنا بأن صلة الرحم، تزيد في العمر، وأن الأعمال الصالحة تزيده

ص: 330

أيضًا، وأن أعمال الشرّ تمحقُه، وأن العبد يصاب بذنبه، كما يصل إلى الخير، ويندفع عنه الشرّ بكسب الخير، والتلبّس بأسبابه، فإعمال بعض ما ورد في الكتاب والسنّة، وإهمال البعض الآخر، ليس كما ينبغي، فإن الكلّ ثابت عن اللَّه عز وجل، وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والكلّ شريعة واضحة، وطريق مستقيمة، والجمع ممكن بما لا إهمال فيه لشيء من الأدلّة.

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه فضل الإحسان إلى الخلق، وأن ذلك سببٌ في دفع مِيتتة السوء، وإرضاء الله تعالى، وبركة العمر.

ثانيًا: فيه فضل الإسرار بالصدقة كما قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].

ثالثًا: فيه إشارة إلى أن من كان واقعًا في المعاصي، فعلاجه بعد التوبة والإقلاع عن الذنوب، أن يكثر من صدقة السر، حتى يذهب غضب الله عليه.

رابعًا: وفيه أن صلة الرحم تزيد في العمر حقيقة كما سبق ذكره.

ص: 331

‌الحديث السابع والأربعون: أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطاب

عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد الله رضي الله عنهما، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ وَقَالَ:«أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» . رواه أحمد

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

أمتهوكون

أي: مترددون متحيرون وأنتم في الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى.

بيضاء نقية

أراد الملة، لذلك جاء التأنيث، كقوله سبحانه وتعالى:{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، أي: تفسير الملة القيمة الحنيفية.

بيضاء

أي: واضحة، حال من ضمير:«بها» .

نقية

صفة «بيضاء» ، أي: ظاهرة صافية خالصة، خالية عن الشرك والشبهة.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (15165)، وابن أبي شيبة في المصنف برقم (26421)، والبغوي في شرح السنة برقم (126)، وابن أبي عاصم في السنة برقم (50)، وحسنه الألباني لشواهده.

(2)

ينظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 282)، وشرح السنة (1/ 271).

ص: 332

وقيل: المراد بها أنها مصونة عن التبديل والتحريف والإصرار والأغلال، خالية عن التكاليف الشاقة، وأشار بذلك إلى أنه أتى بالأعلى والأفضل، واستبدال الأدنى بالأعلى مظنة التحير.

التعليق:

في هذا الحديث التحذير من التحير والتردد في الدين، كما تحيَّرت اليهود؛ لأن طلبَ شيءٍ لم يأمرهم به نبيُّهم صلى الله عليه وسلم دليلٌ على أن من طلب ذلك يظن نقصانَ ما أتى به النبي عليه السلام من الدين، واعتقاد أن ما أتى به النبي عليه السلام من الدِّين ناقص؛ قبيحٌ، بل ينبغي أن يعتقد الرجل أنَّ ملةَ نبينا صلى الله عليه وسلم أفضلَ الملل وأكملها، ويحتاج إلى ملتنا جميعُ المِلل ولا يُحتاج إلى مِلَّةٍ أخرى.

ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءهم بالملَّةِ الحنيفية في حال كونها أظهر الملل وأيسرها لا مشقة فيها؛ بخلاف ما كان في دين اليهود من المشقة العظيمة؛ لأن في دينهم أن يخرجوا ربع أموالهم في الزكاة، وأن يقطعوا مواضع النجاسة من الثوب، ولا يجوز غسله، وغير ذلك من العُسْرِ.

وقوله: «ولو كان مُوسى حَيًّا لما وَسِعَهُ إلا اتِّباعي» :

أي: ما ينبغي له شيء غير اتباعي، ولا بُدَّ له من اتباعي؛ يعني: لو كان موسى عليه السلام حيًّا لا يجوز له أن يفعل فعلًا أو يقول قولًا إلا بأمري، فإذا كانت هذه حال موسى عليه السلام، فكيف يجوز لكم أن تطلبوا فائدة مِنْ موسى عليه السلام مع وجودي؟!

(1)

.

(1)

ينظر: المفاتيح في شرح المصابيح للمظهري (1/ 285).

ص: 333

من فوائد الحديث:

أولًا: في هذا الحديث التحذير من التحير والتردد في الدين.

ثانيًا: فيه أن شريعة الإسلام كاملة، ولا يحتاج المسلم إلى غيرها من الشرائع.

ثالثًا: فيه فضل نبينا صلى الله عليه وسلم وأنه أفضل من موسى عليه السلام، وأن شريعته صلى الله عليه وسلم أفضل من شريعة موسى عليه السلام.

ص: 334

‌الحديث الثامن والأربعون: إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء

عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةِ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»

(1)

. رواه مسلم.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

كتب الإحسان على كل شيء

أي: أمر بالرفق واللطف.

القِتْلة

بكسر القاف: صورةُ القِتلة وهيئتها، يقال: قتله قِتلةَ سوءٍ.

والذِّبحة

بكسر الذال، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث «فأحسنوا الذبح» ، بغير هاء، وهو بالفتح: مصدر، وبالهاء والكسر: الهيئة والحالة.

وليُحد

بضم حرف المضارعة: من أحدَّ السكين أحسن حدَّها.

والشفرة

السكين العظيمة، وما عظُم من الحديد وحُدِّد.

وليُرح

من الإراحة، ويكون بإحداد السكين وتعجيل إمرارها وحسن الصنيعة.

(1)

أخرجه مسلم ببرقم (1955) عن أَبي يعلى شَدَّاد بن أوسٍ رضي الله عنه.

(2)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (2/ 210)، وشرح النووي على مسلم (13/ 106)، وسبل السلام للصنعاني (2/ 527).

ص: 335

التعليق:

قوله: «كتب الإحسان» :

أي: أوجبه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. وهو فعل الحسن ضد القبيح، فيتناول الحسنَ شرعًا والحسن عرفًا، وذكر منه ما هو أبعد شيء عن اعتبار الإحسان، وهو الإحسان في القتل، لأي حيوان من آدمي وغيره، في حدٍّ وغيره.

ودل على نفي المُثلة مكافأة، إلا أنه يحتمل أنه مخصَّص بقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]

(1)

.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله

(2)

: (وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد كثيرة، ومعنى إحسان القتل: أن يجتهد في ذلك ولا يقصد التعذيب. وإحسان الذبح في البهائم: أن يرفق بالبهيمة ولا يصرعها بغتة ولا يجرها من موضع إلى موضع، وأن يوجهها إلى القبلة، ويسمي ويحمد ويقطع الحلقوم والودجين ويتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله تعالى بالمنة والشكر على نعمه؛ فإنه سبحانه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا).

وقال ابن رجب رحمه الله

(3)

: (فهذا الحديث نصٌّ في وجوب الإحسان، وقد أمر الله تعالى به، فقال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

(1)

ينظر: سبل السلام للصنعاني (2/ 527).

(2)

ينظر: شرح الأربعين النووية (ص 72).

(3)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 381) بتصرف.

ص: 336

وهذا الأمر بالإحسان تارة: يكون للوجوب؛ كالإحسان إلى الوالدين والأرحام، بمقدار ما يحصل به البر والصلة، والإحسان إلى الضيف، بقدر ما يحصل به قراه على ما سبق ذكره.

وتارة: يكون للندب، كصدقة التطوع ونحوها.

وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه:

فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب، وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب.

والإحسان في ترك المحرمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]؛ فهذا القدر من الإحسان فيها واجب.

وأما الإحسان في الصبر على المقدورات، فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تسخط ولا جزع.

والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله.

والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم، القيام بواجبات الولاية كلها، والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب.

والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأوحاها من غير زيادة في التعذيب، فإنه إيلام لا حاجة إليه.

ص: 337

وهذا النوع هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال:«إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» .

والقِتلة والذِّبحة بالكسر، أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل، وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه، وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة.

وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق، قال الله تعالى في حق الكفار:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، وقال تعالى:{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية تغزوا في سبيل الله قال لهم: «لا تمثِّلوا ولا تقتلوا وليدًا»

(1)

.

وخرَّج البخاري من حديث عبد الله بن يزيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:«نهى عن المثلة»

(2)

.

وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذبوا بعذاب الله عز وجل»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم برقم (1731)، عن بريدة رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا

»، في حديث طويل.

(2)

أخرجه البخاري برقم (2474)، عن عبد الله بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه، قَالَ:«نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّهْبَى وَالمُثْلَةِ» .

(3)

أخرجه البخاري برقم (3017) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 338

وخرًّج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمررنا بقرية نمل قد أحرقت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«إنه لا ينبغي لبشر أن يعذب بعذاب الله عز وجل»

(1)

.

وقد حرق خالد رضي الله عنه جماعة في الردة.

وروي عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم تحريق من عمل عمل قوم لوط، وروي عن علي رضي الله عنه أنه أشار على أبي بكر رضي الله عنه أن يقتله ثم يحرقه بالنار، واستحسن ذلك إسحاق بن راهويه؛ لئلا يكون تعذيبًا بالنار.

وأكثر العلماء على كراهة التحريق بالنار حتى للهوام، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: تحريق العقرب بالنار مثلة).

ونهت أم الدرداء رضي الله عنه عن تحريق البرغوث بالنار.

وقال أحمد: لا يشوى السمك في النار وهو حي، وقال: الجراد أهون، لأنه لا دم له.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صبر البهائم، وهو: أن تحبس البهيمة ثم تضرب بالنبل ونحوه حتى تموت، ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:«نهى أن تصبر البهائم»

(2)

.

وفيهما أيضًا، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه مر بقوم نصبوا دجاجة يرمونها، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (4018)، وأبو داود برقم (2675)، والنسائي في الكبرى برقم (8560)، والطبراني في الأوسط برقم (2304)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (5513)، ومسلم برقم (58/ 1956)، عن الحكم بن أيوب رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري برقم (5515)، ومسلم برقم (1958).

ص: 339

وخرَّج مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه نهى أن يتخذ شيء فيه الروح غرضًا»

(1)

، والغرض: هو الذي يرمى فيه بالسهام.

وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.

فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان القتل والذبح، وأمر أن تحد الشفرة، وأن تراح الذبيحة، يشير إلى أن الذبح بالآلة الحادة يريح الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها.

وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال:«أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدِّ الشفار، وأن توارى عن البهائم، وقال: إذا ذبح أحدكم فليُجْهز»

(2)

، يعني: فليسرع الذبح.

وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عند ذبحها.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: تقاد إلى الذبح قودًا رفيقًا، وتوارى السكين عنها، ولا تظهر السكين إلا عند الذبح، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أن توارى الشفار.

وفي مسند الإمام أحمد عن معاوية بن قرة، عن أبيه: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والشاةُ إن رحِمتها رحِمك الله»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم برقم (1956/ 58)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (5864)، وابن ماجه برقم (3172).

(3)

أخرجه أحمد في المسند برقم (15592)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (373)، وصححه الألباني.

ص: 340

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه الأمر بالإحسان، وأن الإحسان يكون في كل شيء.

ثانيًا: فيه شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على الحيوان، والإحسان عند الذبح، والأمر بسرعة الإجهاز على الذبيحة، وذلك بإحداد الشفرة لتكون ماضية، حتى لا يزيد في ألم الحيوان المذبوح.

ص: 341

‌الحديث التاسع والأربعون: اللهم بارك لأمتي في بكورها

عَنْ صخْرِ الغامِديِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» ، قَالَ: وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، أَوْ جَيْشًا، بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ تِجَارَةً بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

البكور

أول النهار؛ وهو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كما في القاموس.

فأثرى

صار ذا ثروة؛ أي: مال كثير.

التعليق:

الدعاء في هذا الحديث يحتمل أنه دعاء بالبركة لنفس ذلك الوقت، حتى ليتسع لما يعمل فيه، أو ببركة نفس العمل، فيكون العمل فيه مبروكًا، وتقدم الحديث في الأمر بالغدوة في طلب العلم وهذا عام في الأعمال كلها

(3)

.

وهذا الحديث لا يدل أن غير البكور لا بركة فيه؛ لأن كل ما فعله الشارع

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (15443)، وأبو داود برقم (2606)، والترمذي برقم (1212)، وابن ماجه برقم (2236)، عن صخر الغامدي رضي الله عنه. وحسنه الترمذي.

وأخرجه أحمد في المسند برقم (1320)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(2)

ينظر: دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين للبكري (6/ 441)، ومرقاة المفاتيح للهروي (6/ 2517).

(3)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (3/ 83).

ص: 342

ففيه البركة ولأمته فيه أكرم الأسوة، إنما خصَّ البكور بالدعاء من بين سائر الأوقات؛ لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم، وهو وقت نشاط وقيام من دعةٍ فخصه بالدعاء لينال بركة دعوته جميع أمته

(1)

.

وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى ابنًا له نائمًا نومة الصبحة فقال له: قم؛ أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق

(2)

.

ولا شك أن النوم بعد صلاة الفجر جائز، بمعنى أنه لا يأثم فاعله، ولو لم يكن محتاجًا إليه، ولكن كرهه بعض أهل العلم نظرًا لما يترتب عليه من آثار صحية وغيرها، إلا إذا كان لحاجة.

قال ابن القيم رحمه الله

(3)

: (نوم الصبحة يمنع الرزق لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها وهو وقت قسمة الأرزاق فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة). انتهى.

وقال أيضًا

(4)

: (ونوم النهار رديء يورث الأمراض الرطوبية والنوازل، ويفسد اللون، ويورث الطحال، ويرخي العصب، ويكسل، ويضعف الشهوة إلا في الصيف وقت الهاجرة، وأردؤه نوم أول النهار، وأردأ منه النوم آخره بعد العصر).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(5)

: (وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة

(1)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (18/ 53).

(2)

ينظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني الحنبلي (2/ 355).

(3)

ينظر: زاد المعاد لابن القيم (4/ 222).

(4)

ينظر: المرجع السابق (4/ 221).

(5)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (2/ 37).

ص: 343

الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه فضل البكور في كل عمل، وهو يشمل طلب العلم والكسب والسفر وغيرها.

ثانيًا: فيه حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه السنة عند بعث السرايا وإرسال الجيوش.

ثالثًا: فيه بركة اتباع السنة، فقد كان صخر الغامدي رضي الله عنه هذا يراعي هذه السُّنَّة، وكان تاجرًا يبعث ماله في أول النهار إلى السفر للتجارة، فكثر ماله ببركة مراعاة السُّنَّة، لأن دعاءه صلى الله عليه وسلم مقبولٌ لا محالة

(1)

.

رابعًا: وفيه سُنِّيَّة السفر في أول النهار

(2)

.

(1)

ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (6/ 2517).

(2)

ينظر: شرح مصابيح السنة لابن الملك (4/ 365).

ص: 344

‌الحديث الخمسون: لسنا نعبدهم

عن عدي بن حاتمٍ رضي الله عنه، قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ:«يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» ، فَطَرَحْتُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ، فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]؛ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ:«أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ الله فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ الله فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟» ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ:«فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»

(1)

. رواه الطبراني.

معاني الكلمات:

الكلمة

معناها

الوثن

الصنم المتّخذ منْ حجر أو خشب؛ سواء كان على شكل صليب أو صورة شخص، أو غيره.

التعليق:

الإشراك بالله في عبادته، والإشراك به في حكمه، كلاهما سواء، كما قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه في الحديث السابق حين قال:«لسنا نعبدهم» .

وفي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، فسماهم تعالى أربابًا؛ لأن التحليل والتحريم من خواص الإله، كما قال تعالى:

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير برقم (218)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى برقم (216)، والترمذي نحوه برقم (3095)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3293).

ص: 345

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]، فجعل التحليل والتحريم افتراءً عليه من قائلهما.

فإن قلت: قد يستنبط المجتهد من الأدلة تحريم شيء أو تحليله.

قلت: كونه من الأدلة هو من عند الله؛ لأنه أمر بالنظر فيها لإثبات الأحكام، وإنما الكلام فيمن حرم وحلل غير مستند إلى شيء

(1)

.

وقال الشيخ الألباني رحمه الله

(2)

: (والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام لكلام علمائهم ورؤسائهم، والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه، وإن أخطأه اجتهاد مقلِّدِه).

قال الآلوسي رحمه الله عقب الحديث

(3)

: (ونظير ذلك قولهم: فلان يعبد فلانًا؛ إذا أفرط في طاعته، فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة، أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها، والأول أبلغ، وقيل: اتخاذهم أربابًا بالسجود لهم، ونحوه مما لا يصلح إلا للرب عز وجل، وحينئذ فلا مجاز، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد فرق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين من أطاع غيره في تبديل شرائع الدين معتقدًا أن ذلك هو الأفضل، وأن شرع الله تعالى لا يصلح للعمل به والاحتكام إليه، وبين من أطاعهم على سبيل المعصية ويعلم أنه عاص ولا يعتقد أن ما يفعل هو الخير، فالأول له نصيب من الكفر والشرك، والثاني كأمثاله من أهل الذنوب والمعاصي.

(1)

ينظر: التحبير لإيضاح معاني التيسير للصنعاني (2/ 185).

(2)

ينظر: السلسلة الصحيحة برقم (3293).

(3)

ينظر: روح المعاني للآلوسي (5/ 276).

ص: 346

قال ابن تيمية رحمه الله

(1)

: (وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، يكونون على وجهين:

أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله؛ اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم شركًا -وإن لم يكونوا يُصلون لهم ويسجدون لهم-؛ فكان من اتبع غيره في خلاف الدين، مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ مشركًا مثل هؤلاء.

والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنما الطاعة في المعروف»

(2)

.

وقال: «على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية»

(3)

، وقال:«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»

(4)

، وقال:«من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه»

(5)

.

ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام؛ إن كان مجتهدًا قصدُه اتباع

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/ 70).

(2)

أخرجه البخاري برقم (7257)، ومسلم برقم (1840)، عن علي رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري برقم (2955)، ومسلم برقم (1839)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه أحمد في المسند برقم (1095)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل» .

(5)

أخرجه ابن حبان برقم (4558)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 347

الرسول صلى الله عليه وسلم لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع؛ فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه.

ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمَّه الله، لا سيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باللسان واليد، مع علمه بأنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه.

ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال، وإن كان عاجزًا عن إظهار الحق الذي يعلمه؛ فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق؛ لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره.

وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199]، وقوله:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، وقوله:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83].

وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد؛ فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ، كما في القبلة.

وأما إن قلد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؛ فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبًا؛ لم يكن عمله صالحًا، وإن كان متبوعه مخطئًا؛ كان آثما، كمن قال في القرآن برأيه؛ فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار.

ص: 348

وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، فإن ذلك لمَّا أحب المال حبًّا منعه عن عبادة الله وطاعته صار عبدًا له. وكذلك هؤلاء؛ فيكون فيه شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك. وفي الحديث:«إن يسير الرياء شرك»

(1)

.

وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب).

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث تحريم لبس الصليب، أو غيره من الرموز الوثنية، أو ما فيه تشبه بالكفار.

ثانيًا: فيه سرعة استجابة عدي بن حاتم رضي الله عنه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث طرح الصليب دون أن يسأل عن علة الأمر.

ثالثًا: فيه أن طاعة الغير في تحليل الحرام وتحريم الحلال، هو شرك بالله وعبادة لغيره تعالى.

(1)

أخرجه ابن ماجه برقم (3989)، والطبراني في الأوسط برقم (7112)، وفي الصغير برقم (892). قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 334):(إسناده ضعيف).

ص: 349

‌الحديث الحادي والخمسون: عش ما شئت فإنك ميت

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»

(1)

. رواه الطبراني.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

فإنك مفارقه

بموت أو غيره، وما من أحد في الدنيا إلا وهو ضيف، وما بيده عارية، والضيف مرتحل والعارية مؤداة.

شرف المؤمن

علاه ورفعته.

وعزُّه

قوته وغلبته على غيره.

استغناؤه عن الناس

اكتفاؤه بما قسم له، وعدم النظر إلى ما في أيدي الناس، أو سؤالهم إياه.

التعليق:

يرشد هذا الحديث إلى قصر الأمل، وعدم الاغترار بالصحة والقوة، فإن الموت هو نهاية كل حي، وأنه ينبغي إعداد الزاد ليوم المعاد، وذلك بالعمل الصالح الذي ينجي صاحبه يوم القيامة، كقيام الليل، فإنه شرف المؤمن في الدنيا

(1)

أخرجه الطبراني في الأوسط (4278)، والحاكم في المستدرك (7921)، وصححه ووافقه الذهبي، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (831)، وحسنه لطرقه.

(2)

ينظر: التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (1/ 21).

ص: 350

والآخرة، وليس معنى ذلك أن يكون المرء منقطعًا للعبادة، يعيش عالة على غيره، بل عليه أن يعمل في الدنيا ليستغني عن الناس ويكون عزيزًا بينهم.

قال الصنعاني رحمه الله

(1)

: قوله: («أتاني جبريل فقال: يا محمد عش ما شئت» ، العيش: الحياة، من: عاش يعيش عيشًا ومعيشة، والمراد بالأمر: قدِّر في نفسك أيَّ غايةٍ تريدها في الحياة، «فإنك ميت»: وإذا كان لا بد من الموت، فطويل الحياة وقصيرها سواء، كما قيل:

كلُّ عمرٍ يكون آخرَه الموتُ

سواءٌ طويلُه والقصير

وليس المراد الإخبار بأن بعد الحياة موتًا، فإنه معلوم، بل المراد الاستعداد لأخذ الزاد، والإرشاد إلى ذلك.

ثم قال: «وأحبب من شئت فإنك مفارقه» :

إرشاد إلى قطعِ العلائق عن محبةِ كلِّ من غايةُ حبِّه الفراق، ودلالة على محبة الإنسان لمن يلازمه، حيث كان في الدنيا في اليقظة والمنام والصحة والسقام، والغنى والإعدام، والشدة والرخاء، والممات والمحيا، فهو معه في لحده وقبره وحشره ونشره، وذلك مولاه الذي أوجده من العدم، وغمره بما لا يحصيه من النعم، وهو الذي ينجيه من كل كرب وهم وغم، وهو الذي يشفيه إن مسَّه السقم، كما قال الخليل عليه السلام:{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 79 - 82].

ثم قال: «واعمل ما شئت» : من خير وشر، من باب قوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، «فإنك ملاقيه» ، أي: ملاق جزاءه إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

(1)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (1/ 286).

ص: 351

ثم قال: «واعلم» : الأمر بهذه الصيغة، لا يأتي إلا إذا كان بعده أمر عظيم له شأن وخطر، وهو هنا قوله:«إن شرف المؤمن قيامُه بالليل» :

والشرف: بتحريك فائه وعينه العلو، وهو عند الناس معروف في شرف الدنيا، بمال أو جاء أو نسب، فأخبر صلى الله عليه وسلم ونبه بهذه الصيغة على خطأ اعتقاد أن الشرف فيما ذكر، بل هو في قيام الليل، والمراد: شرفه عند الله فإنه الشرف الحقيقي، وقيام الليل مراد به القيام بالعبادة من تلاوة وصلاة وذكر لله.

ثم قال: «وعزه استغناؤه عن الناس» :

العز: القوة والشدة والغلبة كما في النهاية، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن عزَّ المؤمن غير هذا، بل هو استغناؤه وعدم إنزاله لحاجاته بالناس، ومنه استغن عمن شئت تكن نظيره، فإنه لا يستغنى عنهم إلا من كمُلت ثقته بالله تعالى).

قال الغزالي رحمه الله

(1)

: (القصد بهذا تأديب النفس عن البطر والأشر والفرح بنعيم الدنيا؛ بل بكل ما يزايله بالموت؛ فإنه إذا علم أن من أحب شيئًا يلزمه فراقه ويشقى لا محالة بفراقه شَغَلَ قلبه بحب من لا يفارقه وهو ذكر الله؛ فإن ذلك يصحبه في القبر فلا يفارقه، وكل ذلك يتم بالصبر أيامًا قلائل؛ فالعمر قليل بالإضافة إلى حياة الآخرة، وعند الصباح يحمد القوم السرى؛ فلا بد لكل إنسان من مجاهدة فراق ما يحبه وما فيه فرحه من أسباب الدنيا، وذلك يختلف باختلاف الناس فمن يفرح بمال أو جاه أو بقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة الاتباع في التدريس والإفادة، يترك أولًا ما به فرحه ثم يراقب الله حتى لا يشتغل إلا بذكر الله والفكر فيه، ويكف عن شهواته ووساوسه حتى يقمعَ مادتَها ويلزم ذلك بقية العمر فليس للجهاد آخر إلا الموت.

(1)

ينظر: فيض القدير للمناوي (1/ 102)، وفتوح الغيب للطيبي (11/ 480).

ص: 352

قيل: صاح طِيْطَوى

(1)

بحضرة سليمان فقال: تدرون ما يقول؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: «كل حي ميت، وكل جديد بالٍ»

(2)

، وقال: النسر يقول في صياحه: «يا ابن آدم اعمل ما شئت، آخرك الموت» ).

ثم أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يجعل العبد عزيزًا شريفًا عند الله وعند الناس، فقيام الليل يجعله عزيزًا عند الله، والاستغناء عن الناس يجعله عزيزًا عند الناس، ولهذا قال حاتم لأحمد وقد سأله: ما السلامة من الدنيا وأهلها؟ قال: أن تغفر لهم جهلهم، وتمنع جهلك عنهم، وتبذل لهم ما في يدك، وتكون مما في أيديهم آيسًا.

قال الغزالي رحمه الله

(3)

: (ومن لا يؤثر عزَّ النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل، ناقص الإيمان، ففي القناعة العزُّ والحرية، ولذلك قيل: استغن عمن شئت فأنت نظيره، واحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأحسن إلى من شئت فأنت أميره. وقال بعضهم: الفقر لباس الأحرار، والغنى بالله لباس الأبرار، والقيام انتصاب القامة.

ولما كانت هيئة الانتصاب أكمل هيآت من له القامةُ وأحسنها، استعير ذلك للمحافظة على استعمال الإنسان نفسَه في الصلاة ليلًا، فمعنى قيام الليل: المحافظة على الصلاة فيه، وعدم تعطيله باستغراقه بالنوم أو اللهو. قال الزمخشري رحمه الله: قام على الأمر: دام وثبت).

(1)

طيطوى: طائر، على وزن نينوى. ينظر: تهذيب اللغة للهروي (14/ 39). قيل:

لم يَصِحْ للبَيْن مِنْهُم صُرَدٌ

وغرابٌ لَا وَلَكِن طِيطَوَى

ينظر: تاج العروس للزبيدي (36/ 235).

(2)

ينظر: تفسير البغوي (6/ 148)، وتفسير القرطبي (13/ 166).

(3)

ينظر: فيض القدير للمناوي (1/ 102).

ص: 353

قال الغزالي رحمه الله

(1)

: (جَمَعَتْ هذه الكلمات حكم الأولين والآخرين وهي كافية للمتأمل فيها طول العمر، إذ لو وقف على معانيها، وغلبت على قلبه غلبة يقين استغرقته، وحالت بينه وبين النظر إلى الدنيا بالكلية، والتلذذ بشهواتها، وقد أوتي المصطفى صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة).

من فوائد الحديث:

أولًا: تضمن هذا الحديث التنبيه على قصر الأمل، والتذكير بالموت، ومفارقة الأهل والأحباب.

ثانيًا: وفيه اغتنام العمر في العبادة والتحذير من الغفلة.

ثالثًا: وفيه عدم الاغترار بالاجتماع والقوة والشباب، فإن الموت يأتي بغتة.

رابعًا: وفيه الحث على التهجد وعمارة ساعات الليل بالصلاة والذكر والدعاء وتلاوة القرآن.

خامسًا: وفيه بيان جلالة علم جبريل عليه السلام.

(1)

ينظر: فيض القدير للمناوي (1/ 102).

ص: 354

‌الحديث الثاني والخمسون: معنى: (تباركت)

عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَالَ:«اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الْاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ

(1)

. رواه مسلم.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

السلام

من أسمائه تعالى، ومعناه: المتنزه عن النقائص والعيوب.

ومنك السلام

يرجى ويطلب منك لا من غيرك، وذلك أن كل مخلوق يفتقر إلى السلامة من شرور الدارين، ولا يكون ذلك إلا منه تعالى، فهو السالم عن كل نقص وعيب المرجوة منه السلامة.

تباركت

من البركة، وهي الكثرة والنماء، ومعناه: تعاظمت إذ كثرت صفات جلالك وكمالك. قال النووي رحمه الله: قوله: «تباركت» ، أي: استحققت الثناء، وقيل: ثبت الخير عندك. وقال ابن الأنباري: تبارك العباد بتوحيدك، والله أعلم.

يا ذا الجلال

الذي يجله كل مخلوق ويعظمه ويمجده، والجلال: الغنى المطلق.

والإكرام

الفضل التام، فهو سبحانه الذي يُكرم بعبادته كل مخلوق.

(1)

أخرجه مسلم برقم (591).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (6/ 59)، والتنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (8/ 351).

ص: 355

التعليق:

بين النبي صلى الله عليه وسلم أن وصفه سبحانه بالسلام لا يشبه أوصاف المخلوقين، فإنهم بصدد الافتقار، وهو المتعالى عن ذلك، فهو السلام الذي يعطي السلامة ويمنعها، ويبسطها ويقبضها، لا تبدأ إلا منه، ولا تعود إلا إليه

(1)

.

قال الصنعاني رحمه الله

(2)

: (وإنما استغفر بعد أداء الفريضة؛ لأن العبد يقصر عن القيام بحق مولاه في أداء فرائضه وإن بالغ في ذلك، فهو مفتقر إلى عفو الله.

ثم لما كانت الصلاةُ بها النجاة من شرور الدارين والسلامة، والعبدُ قاصرٌ عن الوفاء بحقها لنقصه وقصوره، ناسب أن يأتي بعد الإتيان بها بوصف الرب بالسلامة، وطلبها منه، والإقرار بتعالاه واتصافه بالجلال والإكرام، للإعلام بأنه غنيٌّ عن العبد وعبادتِه).

وقال ابن القيم رحمه الله

(3)

: (وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارًا عقيب الطاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، ولا رضيها لسيده.

وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات، وهو أجل المواقف وأفضلها، فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

(1)

ينظر: شرح مشكاة المصابيح للطيبي (3/ 1057).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (8/ 351).

(3)

ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/ 192).

ص: 356

رَحِيمٌ} [البقرة: 198 - 199]، وقال تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، قال الحسن: (مدُّوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل

(1)

.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثًا، ثم قال:«اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام»

(2)

.

وأمره الله تعالى بالاستغفار بعد أداء الرسالة، والقيام بما عليه من أعبائها، وقضاء فرض الحج، واقتراب أجله، فقال في آخر سورة أنزلت عليه:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3].

ومن هاهنا فهم عمر، وابن عباس رضي الله عنهم أن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به، فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه، فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك، ولم يبق عليك شيء، فاجعل خاتمتَه الاستغفار، كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل، وخاتمة الوضوء أيضًا أن يقول بعد فراغه:«سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين»

(3)

.

(1)

ينظر: تفسير البغوي (2/ 17)، واللباب في علوم الكتاب (5/ 89).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

اللفظ المشهور من هذا الحديث ليس فيه: «أستغفرك وأتوب إليك» ، وهو الذي أخرجه الترمذي برقم (55)، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ، فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» .

وأما ما فيه الاستغفار فقد أخرجه البيهقي في الدعوات الكبير برقم (59)، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوَضُوءَ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ وَضُوئِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، خُتِمَ عَلَيْهَا بِخَاتَمٍ فَوُضِعَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَلَمْ تُكْسَرْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .

ص: 357

فهذا شأن من عرف ما ينبغي لله، ويليق بجلاله من حقوق العبودية وشرائطها، لا جهل أصحاب الدعاوى وشطحاتهم.

وقال بعض العارفين: متى رضيت نفسك وعملك لله، فاعلم أنه غير راض به، ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر، وعمله عرضة لكل آفة ونقص، كيف يرضى لله نفسه وعمله؟

ولله درُّ الشيخ أبي مدين حيث يقول: من تحقق بالعبودية نظر أفعالَه بعين الرياء، وأحوالَه بعين الدعوى، وأقوالَه بعين الافتراء.

وكلما عظم المطلوب في قلبك، صغرت نفسك عندك، وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيله، وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس، وتبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعملِ الثقلين خشيت عاقبتَه، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضا بكرمه وجوده وتفضله).

وقال الصنعاني رحمه الله

(1)

: (والاستغفار إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحق عبادة مولاه، لما يعرض له من الوساوس والخواطر، فشرع له الاستغفار تداركًا لذلك، وشرع له أن يصف ربَّه بالسلام كما وصف به نفسه، والمراد ذو السلامة من كل نقص وآفة، مصدر وصف به للمبالغة.

«ومنك السلام» ، أي: منك نطلب السلامة من شرور الدنيا والآخرة.

(1)

ينظر: سبل السلام للصنعاني (1/ 295).

وأخرجه أحمد في المسند برقم (17596) عن ربيعة بن عامر رضي الله عنه، وصححه الألباني.

ص: 358

والمراد بقوله: «يا ذا الجلال والإكرام» : يا ذا الغنى المطلق، والفضل التام، وقيل: الذي عنده الجلال والإكرام لعباده المخلصين، وهو من عظائم صفاته تعالى؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم:«ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام»

(1)

، ومر برجل يصلي وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال:«قد استجيب لك»

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله في معاني هذا الذكر

(3)

: (فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثناء؛ أعني ثناء التنزيه والتسبيح، وثناء الحمد والتمجيد، بأبلغ لفظ وأوجزِه، وأتمِّه معنًى.

فأخبر أنه السلام ومنه السلام، فالسلام له وصفًا وملكًا، وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام، وأن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه كلها سلام، وكذا الحمد كله له وصفًا وملكًا، فهو المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محمودًا، فيهبه حمدًا من عنده، وكذلك العزة كلها له وصفًا وملكًا، وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه، ومن عز من عباده فبإعزازه له، وكذلك الرحمة كلها له وصفًا وملكًا، وكذلك البركة، فهو المتبارك في ذاته، الذي يبارك فيمن شاء من خلقه وعليه، فيصير بذلك مباركًا:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف: 85]، وهذا بساط، وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه وأطرافه.

(1)

أخرجه الترمذي برقم (3525)، عن أنس رضي الله عنه وقال: غريب.

وأخرجه أحمد في المسند برقم (17596) عن ربيعة بن عامر رضي الله عنه، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه الترمذي برقم (3527)، وأحمد في المسند برقم (22017)، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن.

(3)

ينظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/ 187).

ص: 359

وأما ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق بالله، وأقربهم إلى الله، وأعظمهم عنده جاهًا:«لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»

(1)

، رواه مسلم، وقال في حديث الشفاعة الطويل:«فأخرُّ ساجدًا لربي، فيفتح علي من محامدِه بما لا أحسنُه الآن»

(2)

، رواه البخاري ومسلم.

وفي دعاء الهم والغم: «أسألك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك»

(3)

.

فدل على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات، استأثر بها في علم الغيب عنده دون خلقه، لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وحسبنا الإقرار بالعجز، والوقوف عند ما أذن لنا فيه من ذلك، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وبالله التوفيق).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه من الفوائد أن العبد لا يمكنه أن يقوم بحق عبادة مولاه، لما يعرض له من الوساوس والخواطر، فشرع له الاستغفار تداركا لذلك.

ثانيًا: فيه أن من أراد السلامة فليلزم عتبة العبودية، لأنه تعالى هو السلام المتنزه عن النقص والسالم من كل عيب، ومنه يطلب السلام والنجاة والأمن.

(1)

أخرجه مسلم برقم (486)، عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري برقم (7410)، ومسلم برقم (193)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أحمد في المسند برقم (3712)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 360

‌الحديث الثالث والخمسون: النهي عن صوم يوم السبت

عَنْ عبد الله بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ»

(1)

. رواه أحمد وأصحاب السنن.

معاني الكلمات:

الكلمة

معناها

اللحاء

ممدود، وهو قشر الشجر.

العنبة

هي الحبة من العنب.

فليمضُغه

أي: يطعمها للفطر بها.

التعليق:

قال الترمذي رحمه الله

(2)

: (ومعنى كراهته في هذا: أن يخص الرجل يوم السبت بصيام، لأن اليهود تعظم يوم السبت).

قال الطيبي رحمه الله

(3)

: (قالوا: النهي عن الإفراد كما في الجمعة، والمقصود مخالفة اليهود فيهما، والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور، وما افتُرض يتناول المكتوب، والمنذور، وقضاء الفوائت، وصوم الكفارة، وفي معناه ما وافق سنة

(1)

أخرجه أبو داود برقم (2421)، وابن ماجه برقم (1726)، والترمذي برقم (744)، والنسائي في الكبرى برقم (2775)، وأحمد في المسند برقم (27075). قال الترمذي: حديث حسن، وصححه الألباني.

(2)

ينظر: سنن الترمذي (3/ 111).

(3)

ينظر: تحفة الأحوذي للمباركفوري (3/ 372).

ص: 361

مؤكدة؛ كعرفة وعاشوراء أو وافق وِرْدًا. وزاد بن الملك: وعشرة ذي الحجة، أو في خير الصيام صيام داود، فإن النهي عنه شدة الاهتمام والعناية به حتى كأنه يراه واجبا، كما تفعله اليهود. قال القاري: فعلى هذا يكون النهي للتحريم، وأما على غير هذا الوجه، فهو للتنزيه بمجرد المشابهة).

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله

(1)

: (إن الحديث الوارد في النهي عن صوم يوم السبت، هو حديث ضعيف، ولا يصحُّ عنه صلى الله عليه وسلم، فعلى من رغب أن يصومَ نفلًا، أو فرضًا فله ذلك ولا حرج).

وكتب الشيخ محمد بن عثيمين بحثًا حول صيام يوم السبت، حيث قال

(2)

:

بحث حديث: «لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم»

(3)

:

(قال أبو داود في السنن: قال مالك: هذا كذب، وقال أبو داود: هو منسوخ

(4)

، وقال الإمام أحمد: كان يحيى بن سعيد يتقيه، وأبى أن يحدثني به. قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت، أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بشر رضي الله عنه، يشير إلى حديث النهي عن

(1)

ينظر: الموقع الرسمي لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله على الإنترنت، من خلال الرابط التالي:

https:// binbaz.org.sa/ search? q=%D 8%B 5%D 9%8 A%D 8%A 7%D 9%85+%D 9%8 A%D 9%88%D 9%85+%D 8%A 7%D 9%84%D 8%B 3%D 8%A 8%D 8%AA&type=fatwa

(2)

ينظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (20/ 57).

(3)

أخرجه أبو داود (2421)، وابن ماجه (1726)، والترمذي (744)، وأحمد في المسند (27075)، وقال الترمذي: حديث حسن.

(4)

قال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 414): (وادعى أبو داود: أن هذا منسوخ، ولا يتبين وجه النسخ فيه، قلت: يمكن أن يكون أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر، ثم في آخر أمره قال: «خالفوهم»، فالنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية، وهذه صورة النسخ، والله أعلم).

ص: 362

صومه، منها: حديث أم سلمة رضي الله عنها حين سُئلت: أي: الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر صيامًا لها؟ فقالت: السبت والأحد

(1)

.

وذكر أحاديث أخرى تدل على جوازه، إلى أن قال: فهذا الأثرم فهم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، وذكر أن الإمام في علل الحديث يحيى بن سعيد كان يتقيه، وأبى أن يحدثه به، فهذا تضعيف للحديث، إلى أن قال: وعلى هذا فيكون الحديث، إما شاذًّا غير محفوظ، وإما منسوخًا. قال أبو داود: وأكثر أهل العلم على عدم الكراهة).

ما بين القوسين من اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

.

(وليعلم أن صيام يوم السبت له أحوال:

الحال الأولى: أن يكون في فرض كرمضان أداء، أو قضاء، وكصيام الكفارة، وبدل هدي التمتع، ونحو ذلك، فهذا لا بأس به، ما لم يخصه بذلك معتقدًا أن له مزية.

الحال الثانية: أن يصوم قبله يوم الجمعة، فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وقد صامت يوم الجمعة:«أصمت أمس؟» ، قالت: لا، قال:«أتصومين غدًا؟» ، قالت: لا، قال:«فأفطري»

(3)

.

فقوله: «أتصومين غدًا؟» يدل على جواز صومه مع الجمعة.

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير (616)، وابن خزيمة في صحيحه (2167)، وابن حبان في صحيحه (3616).

(2)

ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/ 71).

(3)

أخرجه البخاري برقم (1986).

ص: 363

الحال الثالثة: أن يصادف صيامَ أيام مشروعة، كأيام البيض، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وستة أيام من شوال لمن صام رمضان، وتسع ذي الحجة؛ فلا بأس، لأنه لم يصمه لأنه يوم السبت؛ بل لأنه من الأيام التي يشرع صومها.

الحال الرابعة: أن يصادف عادة، كعادة من يصوم يومًا ويفطر يومًا، فيصادف يوم صومه يوم السبت، فلا بأس به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم أو يومين نهى عنه قبل رمضان، إلا من كان له عادة أن يصوم فلا نهي، وهذا مثله.

الحال الخامسة: أن يخصه بصوم تطوع فيفرده بالصوم، فهذا محل النهي إن صح الحديث في النهي عنه).

كتبه محمد الصالح العثيمين في: 17/ 1/ 1418 هـ.

من فوائد الحديث:

فيه النهي عن إفراد يوم السبت بصيام تطوع على وجه التفضيل والتخصيص، ويصام بحسب الضوابط التي جاءت في الشرح، ومن ضَعَّفَ الحديث أجاز إفراد السبت بصيام التطوع.

ص: 364

‌الحديث الرابع والخمسون: اللهم أجرني في مصيبتي

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» ، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ رضي الله عنه، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ رضي الله عنه يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ:«أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ»

(1)

. رواه مسلم.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

تصيبه مصيبة

هو: مطلق في أي مصيبة؛ في الأديان والأبدان والأموال.

أْجُرني في مصيبتي

أثِبني وأعطِني الأجر، واجعلني مأجورًا في مصيبتي.

وأخلف لي خيرًا منها

أي: عوِّضني خيرًا مما فاتني في هذه المصيبة.

غيور

شديدة الغيرة.

أول بيتٍ هَاجَر

من مكة إلى المدينة؛ موافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه مسلم برقم (918).

(2)

ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (3/ 1167)، والمفاتيح في شرح المصابيح للمظهري (2/ 420).

ص: 365

التعليق:

هذا الحديث يبين فضيلة الصبر والاحتساب والاسترجاع عند المصائب، كما قال تعالى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].

قال الهرري رحمه الله

(1)

: (قال القرطبي: «فيقول ما أمره الله» : هذا تنبيه على قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} الآية، مع أنه ليس فيها أمر بذلك القول، وإنما تضمنت مدحَ من قاله، فيكون ذلك القول مندوبًا، والمندوب مأمور به، أي: مطلوب، وإن جاز تركه. وقال أبو المعالي: لم يختلف الأصوليون في أن المندوب مطلوب، وإنما اختلفوا هل يسمى مأمورًا به.

قلت -أي: الهرري-: وهذا الحديث يدل على أنه يسمى بذلك، وقوله:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ؛ كلمة اعتراف بالملك لمستحقه، وتسليم له فيما يجريه في ملكه، وتهوين للمصيبات بتوقع ما هو أعظم منها، وبالثواب المرتَّب عليها، وتذكير المرجع والمآل الذي حكم به ذو العزة والجلال).

قال الزرقاني رحمه الله

(2)

: (قال أبو عمر: فينبغي لكل من أصيب بمصيبة أن يفزع إلى ذلك تأسيًا بكتاب الله وسنة رسوله. قال ابن جريج: ما يمنعه أن يستوجب على الله ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما فيها؛ صلوات الله، ورحمته والهدى.

ثم قال: وظاهر الأحاديث أن المأمور به قول ذلك مرة واحدة فورًا، وذلك في الصبر عند الصدمة الأولى.

(1)

ينظر: الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم للهرري (11/ 99).

(2)

ينظر: شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 116)

ص: 366

قالت أم سلمة: «فلما توفي أبو سلمة» : هو عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي رضي الله عنه، أخو النبي صلى الله عليه وسلم من رضاع ثويبة، وابن عمته برَّة بنت عبد المطلب، كان من السابقين، شهد بدرًا، ومات في جمادى الآخرة سنة أربع بعد أحد.

وفي مسلم عن أم سلمة: دخل صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة رضي الله عنه وقد شق بصرُه فأغمضَه، وقال:«إن الروحَ إذا قُبض تبعه البصر» ، فضجَّ ناس من أهله، فقال:«لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» ، ثم قال:«اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونوِّر له فيه»

(1)

.

قلت ذلك المذكور من الاسترجاع وما بعده، ثم قلت:«ومن خير من أبي سلمة رضي الله عنه» ، أي: قالته في نفسها ولم تحرك به لسانها، ولا أنكرت أنه صلى الله عليه وسلم قال حقًّا، ولكن هو شيء يخطر بالقلب، وليس أحدٌ معصوما منه، ولو قال ذلك قائل لمنع العوض كما يمنع الذي يعجل بدعائه الإجابة، قاله أبو عبد الملك.

وفي مسلم: فلما مات قلت: «أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسوله» .

قال أبو عبد الله الأَبِّيُّ: المعنى بالنسبة إليها: فلا يكون خيرًا من أبي بكر وعمر؛ لأن الأخير في ذاته قد لا يكون خيرًا لها.

ويحتمل أن تعني أنه خيرٌ مطلقًا، فالإجماع على فضل أبي بكر إنما هو

(1)

أخرجه مسلم برقم (920).

ص: 367

فيمن تأخرت وفاته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما من مات في زمنه ففيه خلاف، انتهى. والأول أولى، فالخلاف شاذ لا يعتد به).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه وجوب الصبر عند المصائب وعدم الجزع.

ثانيًا: فيه فضيلة الاسترجاع عند المصيبة وفضيلة الذكر الوارد في هذا الحديث.

ثالثًا: فيه ذكر المرأة لمحاسن زوجها، وأنه في نظرها أفضل الرجال.

رابعًا: فيه تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقوع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

خامسًا: فيه ذكر المخطوبة ما يُظنُّ أنه عيبٌ فيها؛ ليكون الخاطب على بينة من هذا الأمر، وكذلك على الخاطب أن يذكر ما فيه مما يمكن أن يؤثر على الحياة الزوجية، كأن يكون مدخِّنا فينبغي أن يذكر ذلك.

ص: 368

‌الحديث الخامس والخمسون: المساواة في العطية بين الأبناء

عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ رضي الله عنها: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟» ، قَالَ: لَا، قَالَ:«فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» ، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ

(1)

.

التعليق:

هذا الحديث تمسك به الإمام أحمد في وجوب العدل في عطية الأولاد أن تفضيل أحدهم حرام وظلم.

وأجيب: بأن الجور: هو الميل عن الاعتدال، والمكروه أيضًا جور.

وقد زاد مسلم: «أشهد على هذا غيري» ، وهو إذن بالإشهاد على ذلك، وحينئذ فامتناعه عليه الصلاة والسلام من الشهادة على وجه التنزّه.

واستضعف هذا ابنُ دقيق العيد؛ بأن الصيغة وإن كان ظاهرها الإذن بهذا إلا أنها مُشعِرة بالتنفير الشديد عن ذلك الفعل، حيث امتنع عليه الصلاة والسلام من مباشرة هذه الشهادة؛ معلّلًا بأنها جورٌ، فتخرج الصيغة عن ظاهر الإذنِ بهذه القرائن، وقد استعملوا مثل هذا اللفظ في مقصود التنفير

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2587)، ومسلم برقم (1623).

(2)

ينظر: إحكام الأحكام لابن دقيق العيد (2/ 154).

ص: 369

قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» ، قال:«فرجع» بشير من عند النبي صلى الله عليه وسلم «فردَّ عطيتَه» التي أعطاها للنعمان

(1)

.

وسئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله

(2)

: ورد في الحديث: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» ، فهل المقصود المساواة المطلقة، أم للذكر مثل حظ الأنثيين أسوة في الميراث، فالحديث على ما أظن يقول:«أكلهم أعطيتهم مثل ذلك» ، فكلمة مثل إن صحت توحي بالمساواة المطلقة، اللهم إلا إن كان يتكلم عن الذكور فقط، أفيدونا أفادكم الله؟

فأجاب: (الحديث صحيح، رواه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن أباه أعطاه غلامًا، فقالت أمه: لا أرضى حتى يشهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فذهب بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما فعل، فقال:«أكل ولدك أعطيته مثل ما أعطيت النعمان؟» ، فقال: لا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» ، فدل ذلك على أنه لا يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطايا، أو تخصيص بعضهم بها؛ فكلهم ولده، وكلهم يرجى بره، فلا يجوز أن يخص بعضهم بالعطية دون بعض.

واختلف العلماء رحمهم الله، هل يسوى بينهم، ويكون الذكر كالأنثى، أم يفضل الذكر على الأنثى كالميراث، على قولين لأهل العلم، والأرجح أن العطية كالميراث، وأن التسوية تكون بجعل الذكر كالأنثيين، فإن هذا هو

(1)

ينظر: إرشاد الساري للقسطلاني (4/ 345).

(2)

ينظر: مجموع فتاوى ابن باز (20/ 49).

ص: 370

الذي جعل الله لهم في الميراث، وهو سبحانه الحكم العدل، فيكون المؤمن في عطيته لأولاده كذلك، كما لو خلفه لهم بعد موته، للذكر مثل حظ الأنثيين، هذا هو العدل بالنسبة إليهم، وبالنسبة إلى أمهم وأبيهم، وهذا هو الواجب على الأب والأم، أن يعطوا الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، وبذلك يحصل العدل والتسوية، كما جعل الله ذلك في الميراث، وهو عدل من أبيهم وأمهم).

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث الندب إلى التأليف بين الأخوة، وترك ما يوقع بينهم الشحناء، ويورث العقوق للآباء.

ثانيًا: في الحديث كراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح.

ثالثًا: وفيه مشروعية الإِشهاد في الهبة لإثباتها وتوثيقها وتأكيدها، وأن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة.

رابعًا: وفيه ورع عمرة زوج بشير رضي الله عنهما، لأنه لما حاك في صدرها هذه الهبة، أرادت تثبيتها بإشهاد النبي صلى الله عليه وسلم عليها إن كانت صحيحة، فلما أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع به جور لم يكن مقصودًا.

خامسًا: وفيه الأمر بالعدل بين الأبناء في العطايا والهبات، وعدم تفضيل بعضهم على بعض.

سادسًا: وفيه أن على الحاكم أو المفتي أن يستفسر عن الأمور التي قد تؤثر في الحكم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع بشير.

سابعًا: وفيه: جواز تسمية الهبة صدقة.

ثامنًا: وفيه: أمر الحاكم والمفتي بتقوى الله على كل حال.

تاسعًا: وفيه إشارة إلى طاعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ومسارعتهم في تنفيذ أحكامه وقضاياه

(1)

.

(1)

ينظر هذه الفوائد في: عمدة القاري للعيني (13/ 147)، ومنار القاري (4/ 15).

ص: 371

‌الحديث السادس والخمسون: يتبع الميت ثلاثة

عن أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»

(1)

. متفق عليه.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ

وهذا يقع في الأغلب، وربَّ ميت لا يتبعه إلا عملُه فقط.

وَمَالُهُ

مثل رقيقِه ودوابُّه على ما جرت به عادةُ العرب.

التعليق:

يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، أن الميت يتبعه إلى قبره: أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويتركانه وحيدًا مرتهنًا بما قدم، لأن أهله لن يدخل أحد منهم القبر معه ليؤنسه فيه.

وكذلك ماله، فلن يوضع معه في قبره، بل سيقسم على الورثة، وسيحاسب هو عليه؛ من أين اكتسبه، وفيما أنفقه.

وأما عمله، فهو الذي يدخل معه القبر، فإن كان سعيدًا مُثِّل له أحسن صورة، فيؤنسه ويبشره في قبره، فيقول: من أنت يرحمك الله؟ فيقول: عملك.

وإن كان سيئًا مُثِّل له في أقبح صورة، فيقول له: من أنت؟ فيقول: عملك.

(1)

أخرجه البخاري برقم (6514)، ومسلم برقم (2960).

(2)

ينظر: عمدة القاري للعيني (23/ 97).

ص: 372

ويصحبه كذلك حَتَّى يحشر

(1)

.

قال الإمام ابن رجب رحمه الله

(2)

: (وتفسير هذا: أن ابن آدم في الدنيا لا بد له من أهلٍ يعاشرهم، ومالٍ يعيش به، فهذان صاحبان يفارقانه ويفارقهما، فالسعيد من اتخذ من ذلك ما يعينه على ذكر الله تعالى، وينفعه في الآخرة، فيأخذ من المال ما يبلغ به إلى الآخرة، ويتخذ زوجةً صالحة تعينه على إيمانه.

فأما من اتخذ أهلًا ومالًا يشغله عن الله تعالى، فهو خاسر، كما قالت الأعراب:{شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح: 11]، وقال تعالى:{لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]، وقال تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37].

قال الحسن وهو في جنازة: ابن آدم، لئن رجعتَ إلى أهل ومال، فإن الثَّوى

(3)

فيهم قليل، فإذا مات ابن آدم، وانتقل من هذه الدار لم ينتفع من أهله وماله بشيء، إلا بدعاء أهله له واستغفارهم، وبما قدمه من ماله بين يديه، قال الله تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94].

(1)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (29/ 611).

(2)

ينظر: مجموع رسائل ابن رجب (2/ 421 - 434) باختصار، وهي رسالة بعنوان شرح حديث يتبع الميت ثلاثة.

(3)

الثوى: المكث. ينظر: الصحاح للفارابي (6/ 2296)، ومجمل اللغة لابن فارس (1/ 164) ..

ص: 373

فأما إن خلَّف من يدعو له من أهله، أو قدم شيئًا من ماله فإنه ينتفع به، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا مات الإنسانُ انقطع عملُه إلا من ثلاث: إلا من صدقةٍ جارية، أو ولدٍ صالح يدعو له، أو علمٍ ينتفع به»

(1)

.

الصاحب الأول: الأهل:

فأهله لا ينفعه منهم بعد موته إلا من استغفر له ودعا له، وقد لا يفعل، وقد يكون الأجنبيُّ أنفعَ للميت من أهله، كما قال بعض الصالحين: وأين مثل الأخ الصالح؟! أهلك يقتسمون ميراثَك، وهو قد تفرَّد بحزنك، يدعو لك، وأنت بين أطباقِ الأرض، فمن الأهل من هو عدوٌّ، كما قال الله تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، ومنهم من يشتغل عن الميت بحصول ميراثِه، كما قيل:

تمر أقاربي جنباتِ قبرى

كأن أقاربي لا اعرفوني

وذووا الميراثِ يقتسمون مالي

ولا يألون إن جحدوا ديوني

وقد أخذوا سهامَهُم وعاشوا

فيا للهِ أسرعَ ما نسوني

قال الحسن: أزهد الناس في عالم جيرانُه، وشرُّ الناس لميت أهلُه؛ يبكون عليه، ولا يقضون دينه

(2)

. يشير إلى أنهم يفعلون ما يضرُّه ويتركون ما ينفعه؛ فالبكاء إذا كان معه ندبٌ أو نوْحٌ أو تسخطٌ يعذَّب به الميت

(3)

، وإنما يبكون لفقد حظوظهم منه، فبكاؤهم على أنفسهم لا على ميتِهم.

(1)

أخرجه مسلم برقم (1631).

(2)

ذكره القرطبي في التذكرة (ص 330)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (8/ 517).

(3)

لحديث عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» . أخرجه البخاري برقم (1292)، ومسلم برقم (927).

ص: 374

احتُضر بعض الصالحين فبكى أبواه وولده، فسألهم عن بكائهم، فذكر أبواه ما يتعجلانه من فقده، ووحشتَهم بعدَه، وذكر ولده ما يتعجلون من فقده، ويُتمَهم بعده، فقال: كلُّكم بكى لدنياي، أما منكم من يبكي لآخرتي؟!

أما منكم من يبكي لِمَا يلقاه في التراب وجهي؟! أما منكم من يبكي لمسائلةِ منكرٍ ونكيرٍ إياي؟! أما منكم من يبكي لمقامي بين يدي ربي؟! ثم صرخ صرخةً فمات رحمه الله.

وأكثر الورثة لا يوفون دينَ موَرِّثهم، فيتركونه مرتهَنا محتبَسا بدَيْنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم مات منهم ميت:«إن صاحبكم محتبَسٌ بدَيْنِه، فإن شئتم فأسْلموه أو فكُّوه»

(1)

، أو كما قال.

وبكل حال فليوطن الإنسان في الدنيا نفسَه على مفارقة أهله، ولا ينتفع الميتُ بعد موته بأهله ولا غيرهم، إلا بالاستغفار له ودعائهم وترحمهم، أو صدقتهم عنه، وينتفع بزيارة من زاره ويسلِّم عليه ويستأنس بذلك.

وقد وصى عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن يقيموا على قبرِه بعد دفنه بقدر ما تُنحر جزورٌ ويقسَّم لحمُها، وقال: أستأنس بكم، وأنظر ما أراجع به رسلَ ربي

(2)

.

وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت قال: «سلوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسأل»

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (20222)، عن سمرة رضي الله عنه، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر، فقال:«هاهنا من بني فلان أحد؟» ثلاثًا، فقال رجل: أنا، فقال:«إن صاحبكم محبوس عن الجنة بدينه» ، وأخرجه أبو داود برقم (3341).

(2)

أخرجه مسلم برقم (121).

(3)

أخرجه أبو داود برقم (3221)، والحاكم في المستدرك برقم (1327)، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال الحاكم:(صحيح ولم يخرجاه).

ص: 375

وأما إقامتهم عنده بعد ذلك فلا ينتفع به، ومع هذا فالمؤمن يبشَّر في قبره بصلاح ولده من بعده؛ لتقرَّ عينُه، وتنزل الملائكة عند موت المؤمن بالبشرى له، ويقال له: لا تخف مما أنت قادمٌ عليه، ولا تحزن على من خلَّفت من أهلك؛ فإن الله يتكفل بهم، فتقرّ عينُ المؤمن بذلك.

فهذا أحد الأخلاءِ الثلاثةِ، وهو الأهل يصِلون مع خليلهم إلى باب الملك وهو اللحدُ، ثم يرجعون عنه.

الصاحب الثاني: المال:

وأما الخليل الثاني وهو المال، فيرجع عن صاحبه أولًا ولا يدخل معه قبره، ورجوعُه كنايةً عن عدم مصاحبته له في قبره ودخوله معه، وقد فسر بعضهم المال الراجع بمن يتبعه من رقيقِه، ثم يرجعون مع الأهل فلا ينتفع الميت بشيءٍ من ماله بعد موته، إلا بما كان قدمه بين يديه؛ فإنه داخل في عمله الذي يصحبه في قبره، فأما ما خلَّفه وتركه، فهو لورثته لا له، وإنما كان خازنًا لورثته.

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، قال: وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبستَ فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيت؟»

(1)

.

وفيه أيضًا (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاثُ: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى

(2)

، وما سوى ذلك فهو ذاهبٌ وتاركُه للناس»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم برقم (2958).

(2)

فاقتنى: أي: ادخره لآخرته كما في شرح الأبي والسنوسي على صحيح مسلم (9/ 429).

(3)

أخرجه مسلم برقم (2959).

ص: 376

وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّكم مالُ وارثِه أحبُّ إليه من ماله؟ قالوا: ما منا إلا مالُه أحبُّ إليه من مال وارثه. قال: فإن مالَه ما قدم، ومالُ وارثه ما أخر»

(1)

.

فلا ينتفع العبد من ماله إلا بما قدمه لنفسه، وأنفقه في سبيل الله عز وجل.

فأما ما أكله ولبسه، فإنه لا له ولا عليه، إلا أن يكون فيه نيةٌ صالحة، وقيل: بل يثاب عليه مطلقًا.

فأما ما أنفقه في المعاصي فهو عليه لا له، وكذلك ما أمسكه ولم يؤدّ حق الله عز وجل منه؛ فإنه يمثَّل له شجاعًا أقرع

(2)

، يتبعه وهو يفرُّ منه، حتى يأخذَ بلهزمتيه

(3)

، ويقول: أنا مالك! أنا كنزُك، ويلقمه يدَه فيقضمُها

(4)

قضمَ الفحلِ

(5)

.

وإن كان المكنوز ذهبًا أو فضة جُعل صفائح، فأحمي عليها، ثم كوي بها جبينه وجبهته وجنبُه، فمن تحقق هذا، فليقدم لنفسه من ماله ما يحبُّ، فإنه إذا قدمه كان له وبين يديه، ينتفع به في دار الإقامة، وإذا خلفه كان لغيره لا له، وقد يكون هو ممن يحبسه عن النفقة في سبيل الله، فيراه يوم القيامة في ميزان غيره، فيتحسَّر على ذلك، فيدخل هو بماله النار، ويدخل وارثه به الجنة!

(1)

أخرجه البخاري برقم (6442) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

الشجاع الأقرع: فسر بحية بيضاء كريهة المنظر، كثيرة السم. ينظر: شرح مسلم للأبي (3/ 439).

(3)

بلهزمتيه: أي: بشدقيه، وفي الجامع: هما لحم الخدين الذي يتحرك إذا أكل الإنسان، ينظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 318).

(4)

فيقضمها: يأكلها، ينظر: المصدر السابق.

(5)

أخرجه البخاري برقم (1403)، ومسلم برقم (987).

ص: 377

فالعاقل هو من قدم من ماله ما يحبه، فيفوز به في دار الإقامة؛ فإن من أحب شيئًا استصحبه معه، ولا يدعه لغيره، فيندم حين لا ينفعه الندم.

وقال بعض الملوك لأبي حازم الزاهد: ما بالنا نكره الموت؟

قال: لتعظيمِك الدنيا، جعلت مالك بين عينيك، فأنت تكره فراقَه، ولو قدمته لآخرتك لأحببت اللحوقَ به.

قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].

كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يعجبه شيء من ماله إلا قدَّمه لله، حتى إنه كان يومًا راكبًا على ناقة فأعجبته، فنزل عنها في الحال وقلَّدها وجعلها هديًا لله عز وجل.

دخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتًا نوجِّه إليه صالح متاعنا، قال: إنه لا بدَّ لك من متاع، ما دمت هاهنا قال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.

يا جامع الأموالِ بادر صرفَها

واعلم بأن الطالبين حِثاثُ

خذ من تراثِك ما استطعتَ فإنما

شركاؤُك الأيامُ والأحداثُ

لم يقض حقَّ المال إلا معشرٌ

نظروا الزمان يعيثُ فيه فعاثوا

ما كان فيه فاضلًا عن قوتِه

فليعلَمنَّ بأنه ميراثُ

(1)

(1)

الأبيات للشريف الرضي كما في ديوانه (1/ 218)، وتمامها:

تَحثو عَلى عَيبِ الغَنِيّ يَدُ الغِنى

وَالفَقرُ عَنْ عَيبِ الفَتى بِحّاثُ

المالُ مالُ المَرءِ ما بَلَغَت بِهِ ال

شَهَواتُ أَوْ دَفَعَت بِهِ الأَحداثُ

ما كانَ مِنهُ فاضِلًا عَنْ قوتِهِ

فَليَعلَمَنَّ بِأَنَّهُ ميراثُ

ما لي إِلى الدُنيا الغَرورَةِ حاجَةٌ

فَليَخزَ ساحِرُ كَيدِها النَفّاثُ

طَلَّقتُها أَلفًا لِأَحسِمَ داءَها

وَطَلاقُ مَنْ عَزَمَ الطَلاقَ ثَلاثُ

سَكَناتُها مَحذورَةٌ وَعُهودُها

مَنقوضَةٌ وَحِبالُها أَنكاثُ

أُمُّ المَصائِبِ لا يَزالُ يَروعُنا

مِنها ذُكورُ نَوائِبٍ وَإِناثُ

إِنّي لَأَعجَبُ مِنْ رِجالٍ أَمسَكوا

بحَبائِلِ الدُنيا وَهُنَّ رِثاثُ

كَنزوا الكُنوزَ وَأَغفَلَوا شَهَواتِهِم

فَالأَرضُ تَشبَعُ وَالبُطونُ غِراثُ

أَتُراهُمُ لَم يَعلَموا أَنَّ التُقى

أَزوادُنا وَدِيارُنا الأَجداثُ

ص: 378

قال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك.

وقيل لبعضهم: جمع فلان مالًا، قال: هل جمع عمرًا ينفقه فيه؟ قالوا: لا، قال: ما جمع شيئًا.

جمعت مالًا ففكر هل جمعت له

يا جامع المال أيامًا تفرقه

المال عندك مخزونٌ لوارثه

ما المال مالَك إلا حين تنفقه

من قدم اليوم شيئًا قدِم عليه غدًا، ومن لم يقدم شيئًا قدِم على غير شيء، فطال فقره في دار الإقامة.

دخلت امرأة على عائشة رضي الله عنها قد شُلَّت يدُها، فقالت: يا أم المؤمنين، بتُّ البارحة صحيحةَ اليد فأصبحت شلَّاء! قالت عائشة رضي الله عنها: وما ذاك؟ قالت: كان لي أبوان موسران، كان أبي يعطي الزكاة، ويقري الضيف، ويعطي السائل، ولا يحقر من الخير شيئًا إلا فعله، وكانت أمي امرأة بخيلة ممسكة، لا تصنع في مالها خيرًا، فمات أبي ثم ماتت أمي بعده بشهرين، فرأيت البارحة في منامي أبي وعليه ثوبان أصفران، بين يديه نهرٌ جارٍ، قلت: يا أبهْ ما هذا؟ قال: يا بنية، من يعمل في هذه الدنيا خيرًا يره، هذا أعطانيه الله تعالى.

قلت: فما فعلت أمي؟ قال: وقد ماتت أمك؟! قلت: نعم، قال: هيهات!

ص: 379

عُدلت عنا، فاذهبي فالتمسيها ذات الشمال، فملت عن شمالي، فإذا أنا بأمي قائمة عريانة متزرة بخرقةٍ، بيدها شُحَيمة تنادي: والهفاه، واحسرتاه، واعطشاه، فإذا بلغها الجهد دلَكت تلك الشُّحَيْمة براحتِها ثم لحسَتْها، وإذا بين يديها نهر جارٍ، قلت: يا أماه! ما لك تنادين العطش وبين يديك نهرٌ جار؟! قالت: لا أترك أن أشرب منه. قلت: أفلا أسقيك؟ قالت: وددتُ أنك فعلت، فغرفتُ لها غرفةً فسقيتُها، فلما شربت نادى منادٍ من ذات اليمين: ألا من سقي هذه المرأة شُلَّت يمينه مرتين فأصبحتُ شلاءَ اليمين، لا أستطيع أن أعمل بيميني.

قالت لها عائشة رضي الله عنها: وعرفتِ الخرقة؟ قالت: نعم يا أمَّ المؤمنين، وهي التي رأيتها عليها، ما رأيت أمي تصدَّقت بشيءٍ قط، إلا أن أبي نحر ذات يوم ثورًا، فجاء سائل فعمدت أمي إلى عظم عليه شُحَيْمةٌ فناولتها إياه، وما رأيتها تصدقت بشيء، إلا أن سائلًا جاء يسأل، فعمدت أمي إلى خِرقةٍ فناولتها إياه؛ فكبرت عائشة رضي الله عنها وقالت: صدق الله وبلَّغ رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].

أخرجه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب الترغيب والترهيب من طريق أبي الشيخ الأصبهاني الحافظ بإسناد حسن

(1)

.

من خرج إلى سفر من أسفار الدنيا بغير زاد، ندم حيث يحتاج إلى الزاد، فلا ينفعه الندم وربما هلك؛ فكيف بمن رحل إلى سفر الآخرة مع طوله ومشقته بغير زاد؟!

كان علي رضي الله عنه يقول في الليل: آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة

(1)

وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أخرى (4/ 471 - 472)، وابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء برقم (71).

ص: 380

الطريق

(1)

، وبكى أبو هريرة رضي الله عنه عند موته وقال: إنما أبكي على بعد سفري وقلة زادي

(2)

.

إذا شكا من قلة الزاد من زاده كثير

فكيف يقول من لا زاد له؟!

يا جامع المال ما أعددتَ للحفر

هل يُغفل الزاد من أضحى على سفر

قال ابن السماك رحمه الله: ما بكوا لسكرة الموت، إنما بكوا لحسرة الفوت، خرجوا من دار لم يتزودوا منها، وقدموا على دار لا زاد لهم فيها

(3)

.

إذا أنت لم ترحَل بزاد من التقى

وأبصرتَ بعد الموت من قد تزودا

ندمتَ على ألَّا تكون شركتَه

وأرصدتَ ما قد كان من قبل أرصدا

الصاحب الثالث: العمل

أما الخليل الثالث: فهو العمل، وهو الخليل الذي يدخل مع صاحبه قبره فيكون معه فيه، ويكون معه إذا بُعث، ويكون معه في مواقف القيامة، وعلى الصراط، وعند الميزان، وبه تُقتسم المنازل في الجنة والنار.

قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]، وقال تعالى:{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44].

قال بعض السلف رحمهم الله: في القبر

(4)

.

يعني: أن العمل الصالح يكون مِهادًا

(5)

لصاحبه في القبر، حيث لا يكون

(1)

أورده ابن عساكر في تاريخ دمشق (24/ 401)، والاستيعاب لابن عبد البر (3/ 1108).

(2)

أورده ابن عساكر في تاريخ دمشق (67/ 384).

(3)

أخرجه أبو القاسم الحنائي في فوائده برقم (198).

(4)

روي عن مجاهد، ينظر: تفسير الطبري (18/ 516)، وتفسير ابن أبي حاتم (9/ 3093).

(5)

مهادًا: أي: فراشًا ممهدًا.

ص: 381

للعبد من متاع الدنيا فراش ولا وساد ولا مهاد؛ بل كل عامل يفترش عملَه ويتوسده من خير أو شر.

فالعاقل من عمر بيته الذي تطول إقامتُه فيه، ولو عمره بخراب بيته الذي يرتحل عنه قريبا لم يكن مغبونًا؛ بل كان رابحًا.

قال وهب بن منبه رحمه الله: قال لقمان عليه السلام لابنه: يا بني، لكل إنسان بيتان: بيت غائب، وبيت شاهد؛ فلا يلهينك بيتك الشاهد الذي فيه عمرك القليل، عن بيتك الغائب الذي فيه عمرك الطويل

(1)

.

وقال بعض السلف رحمهم الله: اعمل للدنيا على قدر مكثِك فيها، واعمل للآخرة على قدر مكثِك فيها.

وقال بعضهم: لابن آدم بيتان: بيت على الأرض، وبيت في بطن الأرض، فعمد إلى الذي على وجه الأرض، فزخرفه وزينه، وجعل فيه أبوابًا للشمال، وأبوابًا للجنوب، ووضع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه، ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فأخربه؛ فإذا قيل: هذا البيت الذي أصلحته كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري. قيل له: والذي أخربته كم تقيم فيه؟ قال: فيه مقامي. قال: تقر بهذا على نفسك وأنت رجل تعقل؟!

(2)

قال الحسن: تبع رجل من المسلمين جنازة أخيه، فلما دلي في قبره قال الرجل: ما أرى تبعك من الدنيا إلا ثلاثة أثواب، أما والله لقد تركت بيتي كثير المتاع، أما والله إن أقالني الله حتى أرجع لأقدمنه بين يدي، قال: فرجع فقدمه والله بين يديه، وكانوا يرون أنه كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

(1)

ينظر: التبصرة لابن الجوزي (2/ 9).

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور برقم (104)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (38/ 83) عن عبيد الله بن العيزار، وينظر: أهوال القبور لابن رجب (ص 165).

ص: 382

وكان ينشد هذه الأبيات كثيرًا

(1)

:

من كان حين تصيب الشمسُ جبهتَه

أو الغبارُ يخاف الشينَ والشعَثا

ويألف الظلَّ كي تبقى بشاشتُه

فسوف يسكن يوما راغمًا جَدَثا

في ظل مقبرةٍ غبراءَ مظلمةٍ

يطيل تحت الثرى في غمها اللبثا

تجهَّزي بجهازٍ تبلغين به

يا نفس قبل الرَّدى لم تُخلقي عبثا

فالمؤمن يأتيه عمله الصالح في قبره في أحسن صورة، فيبشره بالسعادة من الله، والكافر بعكس ذلك.

والأعمال الصالحة تحيط بالمؤمن في قبره؛ في صحيح ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «والذي نفسي بيده، إنه ليسمع خفْقَ نعالهم حين يُولُّون عنه، فإن كان مؤمنًا كانت الصلاةُ عند رأسه، والزكاةُ عن يمينه، والصوم عن شماله، وفعل الخيرات والمعروفُ والإحسانُ إلى الناس من قِبلِ رجليه، فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ليس قِبَلي مدخل

».

وذكر سائر الأعمال كذلك، وقال في الكافر:«يؤتى من هذه الجهاتِ فلا يوجد شيء فيجلس خائفًا مرعوبًا»

(2)

.

قال عطاء بن يسار رحمه الله

(3)

: إذا وضع الميت في لحده، فأول شيء يأتيه عمله، فيضرب فخذه الشمال فيقول: أنا عملك. فيقول: فأين أهلي وولدي وعشيرتي وما خوَّلني الله؛ فيقول: تركت أهلك وولدك وعشيرتَك وما خوَّلك الله

(1)

ينظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (45/ 240)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 138).

(2)

أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (3113)، وعبد الرزاق في المصنف برقم (6703)، والطبراني في الأوسط برقم (2630)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 51 - 52): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

(3)

ينظر: أهوال القبور لابن رجب (ص 33).

ص: 383

وراء ظهرك، فلم يدخل معك قبرك غيري. فيقول: يا ليتني آثرتك على أهلي وولدي وعشيرتي وما خولني الله، إذ لم يدخل معي غيرك.

قال يزيد الرقاشي رحمه الله

(1)

: بلغني أن الميت إذا وضع في قبره احتوَشَتْه

(2)

أعمالُه، ثم أنطقَها الله، فقالت: أيها العبد المنفرد في حفرته، انقطع عنك الأخلاءُ والأهلون، فلا أنيس لك اليوم غيرنا، ثم بكى يزيد وقال: طوبى لمن كان أنيسه صالحًا، والويل لمن كان أنيسه وبالًا.

تزوَّد قرينًا من فعالك إنما

قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

وإن كنت مشغولًا بشيءٍ فلا تكن

بغير الذي يرضى به الله تُشغل

فلن يصحب الإنسانَ من بعد موتِه

إلى قبرِه إلا الذي كان يعملُ

ألا إنما الإنسانُ ضيف لأهلِه

يقيم قليلًا عندهم ثم يرحلُ).

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث التذكير بالموت وانقضاء الأعمار وانقطاع الأعمال.

ثانيًا: فيه الحث على قصر الأمل، واغتنام الأعمار في طاعة الله والأعمال الصالحة.

ثالثًا: فيه أن المال والأهل اللذان يتبعان الميت لا ينفعانه بعد موته، وإنما ينفعه عمله الصالح، أما ماله الذي أنفق، فلا ينفعه منه إلا ما قدمه لآخرته.

(1)

ينظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (65/ 88)، وتاريخ بغداد للخطيب البعدادي (4/ 664)، وتهذيب الكمال للمزي (32/ 74).

(2)

احتوشته: أحاطت به. ينظر: تهذيب اللغة للهروي (5/ 93).

ص: 384

‌الحديث السابع والخمسون: خطر النظر

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

كُتب على ابن آدم

أي: قُدِّر عليه ذلك، وكتب كَتْبَ تقدير وسابقيةِ علم؛ بأنه يأتيه مختارًا.

نصيبه من الزنا

أي: من مقدماته من التمني، والتخطي لأجله، والتكلم فيه طلبًا، أو حكايةً أو سماعًا ونحوها.

لا محالة

بفتح الميم، ويضم، أي: لا بد له، ولا فراق، ولا احتيال منه، فهو واقع ألبتة.

والقلب يهوى

بفتح الواو، أي: يحبُّ ويشتهي.

ويتمنى

أي: ما ذُكر من المقدِّمات، أي: ما تتمناه النفس، وتدعو إليه الحواس، وهو الجماع.

ويصدق ذلك الفرج

أي: يوافقه، ويطابقه بالفعل.

(1)

أخرجه مسلم (2657).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (8/ 131)، ومرقاة المفاتيح للهروي (1/ 159).

ص: 385

ويكذبه

أي: بالترك، والكفِّ عنه، فإن تركه خوفًا من الله فيثاب عليه، وإن تركه اضطرارًا لا يعاقب عليه فقط.

التعليق:

قال الهروي رحمه الله

(1)

: (سمى هذه الأشياء باسم الزنا؛ لأنها مقدماتٌ مؤذنةٌ بوقوعه، ونسب التصديق، والتكذيب إلى الفرج، لأنه منشؤه، ومكانه، أي: يصدِّقه بالإتيان مما هو المراد منه، ويكذبه بالكف عنه.

وقيل معناه: إن فعل بالفرج ما هو المقصود من ذلك فقد صار الفرج مصدقًا لتلك الأعضاء، وإن ترك ما هو المقصود من ذلك فقد صار الفرج مكذبًا.

قال ابن حجر: فإن حقَّق زناه فيوقع صاحبه في تلك الكبيرة، وإن كذبه بأن لا يزني، فيستمر زنا تلك الأعضاء على كونها صغيرة.

أقول: الأظهر أن يقال: والفرج، أي: عمله يصدق ذلك التمني، ويكذبه، وهو أقرب لفظًا، وأنسب معنى.

وقيل: معنى: «كُتب» : أنه أُثبت عليه ذلك؛ بأن خلق له الحواس التي يجد بها لذة ذلك الشيء، وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل، فبالعينين، وبما ركب فيهما من القوة الباصرة تجد لذة النظر، وعلى هذا، وليس المعنى: أنه ألجأه إليه، وأجبره عليه، بل ركز في جبلته حبَّ الشهوات، ثم إنه تعالى برحمته وفضله يعصم من يشاء، كذا قاله بعض الشراح.

وقيل: هذا ليس على عمومه، فإن الخواص معصومون عن الزنا،

(1)

ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (1/ 158).

ص: 386

ومقدماته، ويحتمل أن يبقى على عمومه بأن يقال: كتب الله على كل فرد من بني آدم صدور نفس الزنا، فمن عصمه الله عنه بفضله، صدر عنه من مقدماته الظاهرة، ومن عصمه بمزيد فضله، ورحمته عن صدور مقدماته، وهم خواص عباده صدر عنه لا محالة بمقتضى الجبلة مقدماته الباطنة

(1)

، وهي تمني النفس، واشتهاؤها).

وقال المناوي رحمه الله

(2)

: (شبه صورةَ حالةِ الإنسان -من إرسال الطرف الذي هو رائد القلب إلى النظر إلى المحارم، وإصغائه بالأذن إلى السماع، ثم انبعاث القلب إلى الاشتهاء والتمني، ثم استدعائه منه، فصار ما يشتهي ويتمنى باستعمال الرجلين في المشي، واليدين في البطش، والفرج في تحقيق مشتهاه، فإذا مضى الإنسان على ما استدعاه القلب حقق متمنَّاه، فإذا امتنع من ذلك خيبه فيه- بحال رجل يخبره صاحبه بما يزينه له ويغويه عليه، فهو إما يصدقه ويمضي على ما أراده منه أو يكذبه، ثم استعمل في حال المشبَّه ما كان مستعملًا في جانب المشبه به من التصديق والتكذيب؛ ليكون قرينة للتمثيل أو الإسناد في قوله:«والفرْجُ يُصدِّقُ ذلك ويكذِّبه» ، مجازي لأنَّ الحقيقي هو أن يسند للإنسان فأسند إلى الفرج، لأنه مصدر الفعل والسبب الأقوى.

وقد نظر المحاسبي رحمه الله إلى هذا حيث قال:

وكنتَ متى أرسلت طرفَك رائدًا

لقلبك يوما أتعَبَتْك المناظرُ

رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ

عليه ولا عن بعضِه أنت صابر

(1)

قال المباركفوري صاحب مرعاة المفاتيح (1/ 591): (قلت: المراد بالمقدمات الباطنة: الخواطر الذميمة التي هي غير اختيارية، ويؤيده قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]).

(2)

ينظر: فيض القدير للمناوي (2/ 246)، وإرشاد الساري للقسطلاني (9/ 356).

ص: 387

قال الطيبي: وبدأ بزنا العين لأنه أصل زنا اليد والرجل والقلب والفرج، ونبه بزنا اللسان بالكلام على زنا الفم بالتقبيل، وجعل الفرج مصدقًا لذلك؛ إن حقق الفعل، ومكذبًا له إن لم يحققه، فكان الفرج هو الموقع).

فائدة في استثناء النظر للمخطوبة:

ما مُنع سدًّا للذريعة مثل النظر للنساء، يباح للمصلحة الراجحة كما في النظر إلى المخطوبة، التي يرغب الزواج منها.

قال ابن القيم رحمه الله

(1)

: (وما حُرِّم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه أن مقدمات الزنا يطلق عليها اسم الزنا، وإن لم يترتب عليها عقوبة الزنا.

ثانيًا: فيه أن ما كتب على الإنسان لابد أن يدركه لا محالة.

ثالثًا: وفيه أن العينين هما الرائد الأول للزنا ولذلك بدأ بهما.

قال العلماء: (المعاصي بريد الكفر

(2)

، والنظر بريد الزنا)

(3)

.

(1)

ينظر: أعلام الموقعين لابن القيم (2/ 109).

(2)

قال النووي في شرح صحيح مسلم (11/ 29): (وهذا نحو قول السلف: المعاصي بريد الكفر، أي: تسوق إليه، عافانا الله تعالى من الشر).

(3)

قال الذهبي في الكبائر (ص 59): (وكان يقال: النظر بريد الزنا).

ص: 388

ثالثًا: فيه أن الزنى الحقيقي لابد فيه من تصديق الفرج، وذلك إذا حقق الفعل، وهو الإيلاج في فرج محرم.

رابعًا: وفيه أن العبد لا يخلق فعل نفسه، لأنه قد يريد الزنا فلا يطاوعه الذكر، ولو كان خالقًا لفعله لم يعجز عما يريده مع استحكام الشهوة

(1)

.

(1)

ينظر: فيض القدير للمناوي (2/ 246).

ص: 389

‌الحديث الثامن والخمسون: الوقاية من الشبهات

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ- «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

بيِّنٌ

ظاهر.

مشتبهات

التي لا يقال فيها: حلال ولا حرام، فهي تشتبه بالشيئين.

اتقى الشبهات

تجنبها.

استبرأ لدينه وعرضه

احتاط لهما، أي: حصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي، وصان عرضه عن كلام الناس فيه.

(1)

أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (11/ 27)، وشرح مشكاة المصابيح للطيبي (7/ 2099)، وكشف المشكل لابن الجوزي (2/ 212).

ص: 390

يرعى حول الحمى

الحمى: هو المرعى الممنوع الذي حماه الإمام، ومنع من أن يُرعى فيه.

يوشك

يقرُب.

يرتع فيه

يرعى غنمه أو إبله في نفس الحمى، بناء على تساهله في المحافظة، وجراءته على الرعي، وعدم الفرق بينه وبين غيره، فيستحق عقاب الملك.

مُضغة

قطعة من اللحم قدر ما يمضغ، وسمي القلب بها لأنها قطعة من الجسد. قال العلماء: المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان له.

التعليق:

قال النووي رحمه الله

(1)

: (أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام.

وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات، فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذر من مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بين أهم الأمور وهو مراعاة القلب، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة

» إلى آخره، فبين صلى الله عليه وسلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (11/ 27).

ص: 391

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين والحرام بين» ، فمعناه أن الأشياء ثلاثة أقسام:

1 -

حلال بين واضح لا يخفى حله؛ كالخبز والفواكه والزيت والعسل، والسمن ولبن مأكول اللحم وبيضه، وغير ذلك من المطعومات، وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات، فيها حلالٌ بين واضح لا شك في حله.

2 -

وأما الحرامُ البيِّن؛ فكالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح، وكذلك الزنى والكذب، والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك.

3 -

وأما المشتبهات؛ فمعناه: أنها ليست بواضحة الحلِّ ولا الحرمةِ، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمَها بنصٍّ أو قياس أو استصحابٍ أو غير ذلك، فإذا تردَّد الشيء بين الحلِّ والحرمة، ولم يكن فيه نصٌّ ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد، فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلالًا، وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين، فيكون الورع تركه، ويكون داخلًا في قوله صلى الله عليه وسلم:«فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» .

وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه، فهل يؤخذ بحله، أم بحرمته، أم يتوقف فيه، ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض رحمه الله وغيره، والظاهر أنها مخرَّجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع وفيه أربعة مذاهب؛ الأصح أنه لا يحكم بحل، ولا حرمة، ولا إباحة، ولا غيرها، لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع، والثاني: أن حكمها التحريم، والثالث: الإباحة، والرابع: التوقف).

ص: 392

وجاء في شرح المشكاة للطيبي رحمه الله

(1)

: (إن الله تعالى بين الحلال والحرام، بأن مهَّد لكل منهما أصلًا، يتمكن الناظر المتأمل فيه من استخراج أحكام ما يعِنُّ له من الجزئيات، ويعرف أحوالَها، لكن قد يقع في الجزئيات ما يقع فيه الاشتباه، لوقوعه بين الأصلين، ومشاركته لأفراد كل منهما من وجه، فينبغي أن لا يجتريء المكلَّف على تعاطيه، بل يتوقفه ريثما يتأمل فيه، فيظهر له أنه من أي القبيلين هو، فإن اجتهد ولم يظهر له أثر الرجحان، بل رجع طرفُ الذهنِ عن إدراكه حسيرًا، تركه في حيِّز التعارض أسيرًا، وأعرض عما يريبه إلى ما لا يريبه، استبراءً لدينه أن يختل بالوقوع في المحارم، وصيانةً لعرضه عن أن يتهم بعدم المبالاة بالمعاصي والبعد عن الورع، فإنَّ من هجم على الشبهات، وتخطَّى خُطَطَها، ولم يتوقف دونها، وقع في الحرام؛ إذ الغالب أن ما وقع فيه من الشبهات لا يخلو عن المحارم، كما أن الراعي إذا رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).

وقال الإمام ابن رجب رحمه الله

(2)

: (ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأن ذلك كلَّه بحسب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلب صلحت إرادته، وصلحت جميع الجوارح، فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله واجتناب سخطه، فقنعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها، وانبعث في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه، ولم تقنع بالحلال؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق.

(1)

ينظر: شرح مشكاة المصابيح للطيبي (7/ 2098).

(2)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 229).

ص: 393

فالقلب الصالح: هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره، وهو أن يكون سليما عن جميع ما يكرهه الله، من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه، ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته، ومحبته ما يحبه الله وإرادة ذلك، وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه.

والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الميل على الأهواء المضلة، والشهوات المحرمة، وليس فيه من خشية الله ما يكف الجوارح عن اتباع هوى النفس؛ فالقلب ملك الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له المنقادة لأمره، فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره ونواهيه.

وقد بوب البخاري على هذا الحديث: (باب فضل من استبرأ لدينه)، والمقصود من إدخاله هذا الحديث في هذا الباب: أن من اتقى الأمور المشتبهة عليه، التي لا تتبين له أحلال هي أو حرام؟ فإنه مستبراءٌ لدينه بمعنى: أنه طالب له البراء والنزاهة مما يدنسه ويشينه؛ ويلزم من ذلك أن من لم يتق الشبهات فهو معرضٌ دينَه للدنس والشين والقدح، فصار بهذا الاعتبار الدين تارة يكون نقيًّا نزها بريًّا، وتارة يكون دنسًا متلوثًا.

والدين يوصف تارة بالقوة والصلابة، وتارة بالرقة والضعف، كما يوصف بالنقص تارة وبالكمال تارة أخرى، ويوصف الإسلام تارة بأنه حسن، وتارة بأنه غير حسن، والإيمان يوصف بالقوة تارة وبالضعف أخرى.

هذا كلُّه إذا أخذ الدين والإسلام والإيمان بالنسبة إلى شخصٍ شخص، فأما إذا نظر إليه بالنسبة إلى نفسِه من حيث هو هو فإنه يوصف بالنزاهة.

ص: 394

قال أبو هريرة: الإيمان نزِهٌ، فإن زنا فارقه الإيمان، فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان

(1)

.

خرجه الإمام أحمد في كتاب الإيمان. ومن كلام يحيى بن معاذ: الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك)

(2)

.

من فوائد الحديث:

أولًا: في هذا الحديث يسر الإسلام وسماحته في مسائل الحلال والحرام، فهي واضحة لكل أحد، ولا حجة لأحد في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله.

ثانيًا: فيه أن المشتبهات، وإن كان لا يعلمهن كثير من الناس، إلا أن الراسخين في العلم يعلمونها، ولذلك أمر الله عز وجل بسؤالهم فقال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

ثالثًا: فيه فضيلة اتقاء الشبهات، وأن في اتقائها سلامة الدين والعرض.

رابعًا: فيه أن من وقع في الشبهات واعتاد عليها، ولم يبال بكونها غير واضحة الحِلِّيَّةِ، جره ذلك إلى الوقوع في الحرام والتهاون بارتكابه.

خامسًا: قال ابن رجب رحمه الله

(3)

: (وفي الحديث دليل على صحة القياس وتمثيل الأحكام وتشبيهها).

(1)

أخرجه أبو بكر الخلال في السنة برقم (1259)، والآجري في الشريعة برقم (229)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة برقم (1870)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (4980).

(2)

ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة بلفظ: (الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والنهار نقي فلا تدنسه بآثامك)، وكذا ذكر في مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي (15/ 405).

(3)

ينظر: فتح الباري لابن رجب (1/ 229).

ص: 395

سادسًا: وفيه دليل على أن المصيب من المجتهدين في مسائل الاشتباه واحد؛ لأنه جعل المشتبهات لا يعلمها كثير من الناس مع كون بعضهم في طلب حكمها مجتهدين، فدل على أن من يعلمها هو المصيب العالم بها دون غيره ممن هي مشتبهة عليه وإن كان قد يجتهد في طلب حكمها ويصير إلى ما أداه إليه اجتهادة وطلبه.

سابعًا: فيه عظم شأن القلب، وأنه على صغر حجمه هو ملك الأعضاء وقائدها، فإذا استقام استقامت، وإذا فسد فسدت.

ص: 396

‌الحديث التاسع والخمسون: اتباع الظن

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، -ولا تنافسوا

(1)

-، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»

(2)

. متفق عليه.

معاني الكلمات

(3)

:

الكلمة

معناها

إياكم والظن

أي: لا تتبعوا الظنون، وتحكموا عليها استنادًا إلى الظنون الكاذبة، بل تثبتوا في كل ما تقولونه وتفعلونه، كما قال سبحانه:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

أكذب الحديث

أي: حديث النفس.

ولا تحسسوا

التحسس بالحاء: طلب الخبر بالحاسة كاستراق السمع وإبصار الشيء خفية، ومنه قوله سبحانه:{يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87]، والمنهي عنه هو ما كان على سبيل التجسس، لا لغرض شرعي. ويقال: تجسست الخبر وتحسست بمعنى واحد.

(1)

زيادة من رواية مسلم.

(2)

أخرجه البخاري (6066)، ومسلم (2563).

(3)

ينظر: معالم السنن للخطابي (4/ 123)، وكشف المشكل لابن الجوزي (3/ 514).

ص: 397

ولا تجسسوا

أي: لا تبحثوا عن عيوب الناس، ولا تتبعوا أخبارهم، فالتجسس: التبحث والاستقصاء والفحص عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال ذلك في الشر، والجاسوس: صاحب سر الشر، والناموس: صاحب سر الخير.

ولا تناجشوا

التناجش: من النجش، وهو أن يزيد في السلعة، وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، والنجش: رفع الثمن، وقيل: المراد من الحديث النهي عن إغراء بعضهم بعضًا على الشر والخصومة.

ولا تنافسوا

المنافسة: الرغبة في التفرد بالشيء، وذلك إذا كان في طلب الدنيا أوجب التباغض.

ولا تحاسدوا

أي: لا يتمنى أحدُكم زوالَ نعمة غيره.

ولا تدابروا

أي: لا تهاجروا ولا تقاطعوا، فيولي كل واحد منكما دبره لصاحبه حين يراه، لأن من أبغض أعرض، ومن أعرض ولى دبره، بخلاف من أحب.

التعليق:

في هذا الحديث جملة من المنهيات التي تتعلق بآداب المسلم في التعامل مع الخلق، ثم ختم الحديث بالأمر بالأخوة الإيمانية التي تقتضي التخلص من هذه المنهيات، والتحلي بضدها من حسن الظن بالمؤمنين، وستر عوراتهم، ومحبة الخير لهم.

النهي عن سوء الظن بغير سبب:

فقوله: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث» : المراد النهي عن ظن السوء.

ص: 398

قال النووي رحمه الله

(1)

: (قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس، فإن ذلك لا يملك، ومراد الخطابي: أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به كما سبق في حديث: «تجاوز الله تعالى عما تحدَّثت به الأمة ما لم تتكلم أو تعمد»، وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر. ونقل القاضي عن سفيان أنه قال الظن الذي يأثم به هو ما ظنه وتكلم به؛ فإن لم يتكلم لم يأثم).

وقال ابن حجر رحمه الله

(2)

: (قال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها، كمن يتهم رجلًا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله:«ولا تجسسوا» ، وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة، فيريد أن يتحقق فيتجسس، ويبحث ويستمع، فنهى عن ذلك.

وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة؛ لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن.

فإن قال الظانُّ: أبحث لأتحقق، قيل له:«ولا تجسسوا» .

فإن قال: تحققت من غير تجسس، قيل له:«ولا يغتب بعضكم بعضًا» .

وقال عياض: استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، وحمَله المحققون على ظن مجرد عن الدليل، ليس مبنيًّا على أصل ولا تحقيق نظر.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 119)، وكشف المشكل لابن الجوزي (3/ 514).

(2)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 481، 482).

ص: 399

وقوله: «فإن الظن أكذب الحديث» : قد استشكلت تسمية الظن حديثًا، وأجيب بأن المراد: عدم مطابقة الواقع؛ سواء كان قولًا أو فعلًا، ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن، فوصفُ الظن به مجازًا.

النهي عن التجسس والتحسس:

وقوله: «ولا تحسسوا ولا تجسسوا» : إحدى الكلمتين بالجيم والأخرى بالحاء المهملة، وفي كل منهما حذف إحدى التاءين تخفيفًا، وكذا في بقية المناهي التي في حديث الباب، والأصل تتحسسوا. قال الخطابي: معناه: لا تبحثوا عن عيوب الناس، ولا تتبعوها، قال الله تعالى حاكيًا عن يعقوب عليه السلام:{يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} .

وأصل هذه الكلمة التي بالمهملة من الحاسَّة، إحدى الحواس الخمس، وبالجيم من الجس، بمعنى: اختبار الشيء باليد، وهي إحدى الحواس، فتكون التي بالحاء أعم. وقال إبراهيم الحربي: هما بمعنى واحد، وقال ابن الأنباري: ذكر الثاني للتأكيد كقولهم بعدًا وسخطًا، وقيل: بالجيم: البحث عن عوراتهم، وبالحاء: استماع حديث القوم، وهذا رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أحد صغار التابعين.

وقيل: بالجيم: البحث عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر، وبالحاء: البحث عما يدرك بحاسة العين والأذن ورجح هذا القرطبي.

وقيل: بالجيم: تتبع الشخص لأجل غيره، وبالحاء: تتبعه لنفسه وهذا اختيار ثعلب

(1)

.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 19)، وكشف المشكل لابن الجوزي (2/ 514)، والتمهيد لابن عبد البر (18/ 21).

ص: 400

ويستثنى من النهي عن التجسس: ما لو تعين طريقًا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلًا، كأن يخبر ثقة بأن فلانًا خلا بشخص ليقتله ظلمًا، أو بامرأة ليزني بها فيشرع في هذه الصورة التجسس، والبحث عن ذلك حذرًا من فوات استدراكه، نقله النووي عن الأحكام السلطانية للماوردي واستجاده، وأن كلامه ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات، ولو غلب على الظن استسرار أهلها بها إلا هذه الصورة.

النهي عن التحاسد:

وقوله: «ولا تحاسدوا» : الحسد: تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها، أعم من أن يسعى في ذلك أو لا، فإن سعى كان باغيًا، وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره، ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نهي المسلم عنها في حق المسلم نظر؛ فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهذا مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى فقد يعذر، لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية، فيكْفِيه في مجاهدتها ألَّا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها.

وعن الحسن البصري قال: ما من آدمي إلا وفيه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء.

النهي عن التدابر:

وقوله: «ولا تدابروا» : قال الخطابي: لا تتهاجروا فيهجر أحدُكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه.

وقال ابن عبد البر: قيل للإعراض مدابرة، لأن من أبغض أعرض، ومن أعرض ولى دبره، والمحب بالعكس.

وقيل معناه: لا يستأثر أحدكم على الآخر، وقيل للمستأثر مستدبر؛ لأنه

ص: 401

يولي دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر. وقال المازري: معنى التدابر: المعاداة، يقول: دابرته، أي: عاديته، وحكى عياض أن معناه: لا تجادلوا، ولكن تعاونوا، والأول أولى.

وقد فسره مالك في الموطأ بأخص منه، فقال إذ ساق حديث الباب عن الزهري بهذا السند: ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام، يدبر عنه بوجهه

(1)

، وكأنه أخذه من بقية الحديث:«يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»

(2)

؛ فإنه يفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع ذلك الإعراض.

ويؤيده ما أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في زيادات كتاب البر والصلة لابن المبارك بسند صحيح عن أنس، قال: التدابر: التصارم.

النهي عن التباغض:

قوله: «ولا تباغضوا» : أي: لا تتعاطوا أسباب البغض، لأن البغض لا يكتسب ابتداء، وقيل: المراد النهي عن الأهواء المضلة المقتضية للتباغض، قلت: بل هو لأَعمُّ من الأهواء، لأن تعاطي الأهواء ضرب من ذلك.

وحقيقة التباغض: أن يقع بين اثنين، وقد يطلق إذا كان من أحدهما، والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فإنه واجب فيه، ويثاب فاعله؛ لتعظيم حق الله، ولو كانا أو أحدهما عند الله من أهل السلامة، كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك، وهو معذور عند الله.

(1)

ينظر: موطأ الإمام مالك (2/ 907).

(2)

أخرجه البخاري برقم (6077)، ومسلم برقم (2560) عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

ص: 402

‌النهي عن النجش:

قال المازري رحمه الله

(1)

: (وأما قوله: «وَلَا تَنَاجَشُوا» : فصفة النجش عند الفقهاء: أن يزيد في السلعة ليغتر به غيره لا ليشتريها، فإن وقع ذلك وعلم أنْ الناجش من قبل البائع كان المشتري، بالخيار بين أن يمضي البيع أو يرده.

وحكى القرويون عن مالك أن بيع النجش مفسوخ واعتلَّ بأنه مَنْهِيُّ عنه.

وهكذا اعتلّ ابن الجهم لما ردَّ على الشافعي فقال: الناجش عاصٍ فكيف يكون من عصى الله يتم بيعه؟.

قال أبو بكر: أصل النجش مدح الشيء وإطراؤه. فمعناه: لا يمدح أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها ليسمعه غيره فيزيد.

وقال غيره: النجش تنفير النَّاس عن الشيء إلى غيره. والأصل فيه: تنفير الوحش من مكان إلى مكان).

النهي عن التنافس في الدنيا:

وقال ابن عبد البر رحمه الله

(2)

: (وأما قوله: «ولا تنافسوا» ؛ فالمراد به: التنافس في الدنيا، ومعناه: طلب الظهور فيها على أصحابها، والتكبر عليهم، ومنافستهم في رياستِهم، والبغي عليهم، وحسدهم على ما آتاهم الله منها.

وأما التنافس والحسد على الخير وطرق البر فليس من هذا في شيء، وكذلك من سأل عما غاب عنه من علم وخير فليس بمتجسس، فقف على ما فسرت لك).

(1)

ينظر: المعلم بفوائد مسلم للمازري (2/ 140).

(2)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (18/ 22).

ص: 403

الأمر بالأخوة الإيمانية:

قال ابن حجر رحمه الله

(1)

: (وقوله: «وكونوا عباد الله إخوانًا» : بلفظ المنادى المضاف، زاد مسلم في آخره من رواية أبي صالح عن أبي هريرة:«كما أمركم الله»

(2)

، ومثله عنده من طريق قتادة عن أنس، وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم، كأنه قال: إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانًا، ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء، ومعنى: كونوا إخوانًا؛ اكتسبوا ما تصيرون به إخوانًا مما سبق ذكره وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتًا ونفيًا.

وقوله: «عباد الله» : أي: يا عباد الله بحذف حرف النداء، وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله، فحقكم أن تتواخوا بذلك. قال القرطبي: المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة، ولعل قوله في الرواية الزائدة:«كما أمركم الله» : أي: بهذه الأوامر المقدم ذكرها، فإنها جامعة لمعاني الأخوة، ونسبها إلى الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله.

ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «كما أمركم الله» : الإشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فإنه خبر عن الحالة التي شرعت للمؤمنين، فهو بمعنى الأمر. قال ابن عبد البر: تضمن الحديث تحريم بغض المسلم، والإعراض عنه، وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعي، والحسد له على ما أنعم به عليه، وأن يعامله معاملة الأخ النسيب، وألَّا ينقب عن معايبه، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب، وقد يشترك الميت مع الحي في كثير من ذلك).

(1)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 482).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2563/ 30) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 404

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث تعظيم حرمات المسلمين، وتحريم هذه الأمور المذكورة في الحديث.

ثانيًا: فيه الأمر بالأخوة الإيمانية التي تقتضي التراحم والتعاطف والتناصح بين المسلمين.

ص: 405

‌الحديث الستون: البر والإثم

عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ:«الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

البر

قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة، وبمعنى: اللطف، والمبرة، وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى: الطاعة، وهذه الامور هي مجامع حسن الخلق.

فقوله: «الْبر حسن الْخلق» ، أَي: يُطلق على مَا يُطلق عَلَيْهِ من الصِّلَة والصدق والمبرة واللطف وَحسن الصُّحْبَة وَالْعشرَة وَالطَّاعَة، فَإِنْ الْبر يُطلق على كل مِمَّا ذكر، وَهِي مجامع حسن الْخلق.

حاك

أَي: تردَّد وَلم ينشرح لَهُ الصَّدْر، وَحصل فِي الْقلب منه الشَّك.

التعليق:

قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله في شرح الأربعين

(3)

: (البرُّ: كلمةٌ جامعة تشمل الأمور الباطنة التي في القلب، والأمور الظاهرة التي تكون على

(1)

أخرجه مسلم برقم (2553).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 111).

(3)

ينظر: شرح الأربعين النووية للعباد (25/ 13، 14).

ص: 406

اللسان والجوارح، وآية:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] واضحة الدلالة على ذلك؛ فإنَّ أوَّلَها مشتمل على الأمور الباطنة، وآخرَها مشتمل على الأمور الظاهرة، ويُطلق البرُّ على خصوص برِّ الوالدين، لا سيما إذا قُرن بالصلة، فإنَّه يُراد بهما بر الوالدين وصلة الأرحام.

ويأتي البرُّ مقرونًا بالتقوى، كما في قول الله عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، فعند اجتماعهما كما في هذه الآية يُفسَّر البرُّ بفعل الطاعات، والتقوى بترك المنهيات، فإذا أُفرد أحدهما عن الآخر بالذِّكر شمل المعنيين جميعًا، وهذا نظير الإسلام والإيمان، والفقير والمسكين.

جاء في حديث النواس: «البرُّ حسن الخلق» : وحُسنُ الخُلُق يحتمل أن يكون المراد به خصوص الخلق الكريم المعروف بهذا الاسم، ويكون تفسير البرِّ به لأهميَّته وعظيم شأنه، وهو نظير: قوله: «الدِّين النصيحة»

(1)

، وقوله:«الحجُّ عرفة»

(2)

.

ويُمكن أن يُراد به العموم والشمول لكلِّ ما هو خير، ويدلُّ عليه وصف أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها لِخُلق الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه القرآن، والمعنى: أنَّه يتأدَّب بآدابه، ويمتثل أوامره، ويجتنب نواهيه.

وقوله: «والإثمُ ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطَّلع عليه الناس» :

من الإثم ما يكون واضحًا جليًّا، ومنه ما يحوك في الصدر ولا تطمئنُّ إليه النفس، ويكره الإنسانُ أن يطَّلع عليه الناس؛ لأنَّه مِمَّا يُستحيا من فعله، فيخشى صاحبُه ألسنةَ الناس في نيلهم منه، وهو شبيه بما جاء في الأحاديث الثلاثة

(1)

أخرجه مسلم برقم (57) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الترمذي برقم (889)، والنسائي برقم (3016)، وابن ماجه برقم (3015)، وأحمد في المسند برقم (18774).

ص: 407

الماضية: «فمَن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»

(1)

، و:«دع ما يريبُك إلى ما لا يريبك»

(2)

، و:«إنَّ مِمَّا أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت»

(3)

.

والإثمُ: يُراد به عموم المعاصي الواضحة والمشتبهة، ويأتي مقترنًا بالعدوان، كما في قول الله عز وجل:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، فيُفسَّر العدوان بالاعتداء والظلم، فيدخل فيه الاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم).

قال ابن دقيق العيد رحمه الله

(4)

: (قوله صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق» : يعني: أن حسن الخلق أعظم خصال البر، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الحج عرفة»

(5)

.

أما البر: فهو الذي يبر فاعله ويلحقه بالأبرار، وهم المطيعون لله عز وجل.

والمراد بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة، والرفق في المحاولة، والعدل في الأحكام، والبذل في الإحسان، وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} ، إلى قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، وقال تعالى: {التَّائِبُونَ

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

أخرجه الترمذي برقم (2518)، والنسائي برقم (5711)، وأحمد في المسند برقم (1727)، وصححه الترمذي.

(3)

أخرجه البخاري برقم (6120) عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه.

(4)

ينظر: شرح الأربعين النووية (ص 94).

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 408

الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ}، إلى قوله:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]، وقال:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، إلى قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 1 - 10]، وقال:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، إلى آخر السورة.

فمن أشكل عليه حاله، فليعرض نفسه على هذه الآيات، فوجود جميعها علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض، فليشغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده.

ولا يظن ظان أن حسن الخلق عبارة عن لين الجانب وترك الفواحش والمعاصي فقط، وأن من فعل ذلك فقد هذب خلقه، بل حسن الخلق ما ذكرناه من صفات المؤمنين والتخلق بأخلاقهم.

ومن حسن الخلق: احتمال الأذى، فقد ورد في الصحيحين

(1)

: أن أعرابيًّا جذب بردَ النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشيتُه في عاتق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضحك وأمر له بعطاء.

وقوله: «والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطَّلع عليه الناس» :

يعني: هو الشيءُ الذي يورث نفرةَ في القلبِ، وهذا أصلٌ يتمسك به لمعرفة الإثم من البرِّ؛ إن الإثم ما يحوك في الصدر، ويكره صاحبه أن يطَّلع عليه الناس، والمراد بالناس والله أعلم: أماثلهم ووجوههم لا غوغاؤهم، فهذا هو الإثم فيتركه والله أعلم).

(1)

أخرجه البخاري برقم (3149)، ومسلم برقم (1057).

ص: 409

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه بيان عظم شأن حسن الخلق.

ثانيًا: فيه أن المؤمن الصادق يستطيع بنفسه أن يفرق بين البر والإثم.

ثالثًا: أنَّ المسلمَ يُقْدِم في أمور دينه على فعل ما هو واضح الحلِّ دون ما هو مشتبه.

ص: 410

‌الحديث الحادي والستون: دعوة للمسافر

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي، قَالَ:«زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى» ، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ:«وَغَفَرَ ذَنْبَكَ» ، قَالَ: زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ:«وَيَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ»

(1)

. رواه الترمذي.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

فزودني

من التزويد، وهو إعطاءُ الزاد، يعني به: ادعُ لي، ودعاؤُك خيرُ الزاد.

زودك الله التقوى

بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والاستغناء عن المخلوق.

بأبي أنت وأمي

أي: أفديك بهما، وأجعلهما فداءك، فضلًا عن غيرهما.

التعليق:

نِعْمَ الزاد هذه الدعوات.

في هذا الحديث ما يدل على أن طلب المسلم الدعاء من أخيه المسلم جائز لا حرج فيه؛ للأدلة المتكاثرة الواردة في الكتاب والسنة النبوية، وهي تدل على

(1)

أخرجه الترمذي (3444)، وابن خزيمة في صحيحه برقم (2532)، والحاكم في المستدرك برقم (2477)، والبزار في مسنده برقم (6933)، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه الألباني.

(2)

ينظر: شرح مشكاة المصابيح للطيبي (6/ 1902)، ومرقاة المفاتيح للهروي (4/ 1691).

ص: 411

جواز طلب الدعاء من الآخرين، خاصة إذا كان طلب الدعاء ممن هو مشهور بالخير والصلاح، ومن الأدلة على ذلك:

1 -

قول الله عز وجل عن إخوة يوسف: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97].

2 -

حديث أويس القرني رضي الله عنه الطويل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه:«يَأْتِي عَلَيْكُم أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ .... فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» ، فَأَتَى أُوَيْسًا رضي الله عنه فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي

(1)

.

3 -

عن صفوان رضي الله عنه وهو ابن عبد الله بن صفوان-، وكانت تحته الدرداء رضي الله عنها، قال: قدمت الشام، فأتيت أبا الدرداء رضي الله عنه في منزله، فلم أجده ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام، فقلت: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:«دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملَكٌ موكل كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل»

(2)

.

4 -

عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: استأذنت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في العمرَة، فأَذِنَ لي وقال:«لا تَنسَنَا يا أخي مِنْ دُعائك» ، فقال كلمةَ ما يَسُرُّني أن لي بها الدُّنيا، قال شعبةُ: ثم لقيت عاصمًا بعد بالمدينة فحدثَنيه، وقال:«أشْرِكنا يا أُخَي في دُعائِكَ»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم برقم (2542) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم برقم (2733).

(3)

أخرجه أبو داود برقم (1498)، والترمذي برقم (3562)، وابن ماجه برقم (2894)، وأحمد في المسند برقم (195)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وضعفه الألباني وغيره.

ص: 412

وأما الأحاديث التي فيها طلب الصحابة الدعاء والاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة جدًّا.

وقد قرر جواز طلب المسلم الدعاء من أخيه المسلم كثير من أهل العلم، حتى نقل الإمام النووي رحمه الله الإجماع عليه، حيث يقول

(1)

: (باب استحباب طلب الدعاء من أهل الفضل، وإن كان الطالب أفضل من المطلوب منه، والدعاء في المواضع الشريفة، اعلم أن الأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصر، وهو مجمع عليه).

كما قرر حكم الجواز أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال

(2)

: (طلب الدعاء مشروع من كل مؤمن لكل مؤمن

؛ فلهذا كان طلب الدعاء جائزًا كما يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه، والأفعال التي يقدر عليها).

ويقول أيضًا

(3)

: (ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه وممن هو دونه).

وقال ابن رجب رحمه الله

(4)

: (ينبغي للمنقطعين طلب الدعاء من الواصلين لتحصل المشاركة).

ويقول الصاوي المالكي رحمه الله

(5)

: (يندب للعائد طلب الدعاء منه -أي: من المريض-).

(1)

ينظر: الأذكار (ص 643).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/ 326 - 329).

(3)

المصدر السابق (27/ 69).

(4)

ينظر: لطائف المعارف (ص 237).

(5)

ينظر: حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 763).

ص: 413

ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله

(1)

: (طلب الدعاء من الأخ في الله أو الأخت في الله لا حرج فيه).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه استحباب مجيء المسافر للصالحين من أصحابه، وسؤالهم الدعاء

(2)

.

ثانيًا: يندب لكلِّ من ودع مسافرًا أن يقول هذا الدعاء له، ويحصل أصل السنة بقوله: زودك الله التقوى، والأكمل الإتيان بما ذكر كله

(3)

.

ثالثًا: قوله: «زودك الله التقوى» ، أي: زادك أن تتقي محارم الله، وتتجنب معاصيه.

رابعًا: وفيه أن خير ما يتزود به الإنسان تقوى الله عز وجل، وقد قال الله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

(1)

باختصار من فتاوى نور على الدرب (2/ 143) جمع الشويعر، ينظر: موقع الإسلام سؤال وجواب على شبكة الإنترنت بإشراف الشيخ محمد المنجد.

https:// islamqa.info/ ar/ answers/ 163632

(2)

ينظر: دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين للبكري (5/ 203).

(3)

ينظر: فيض القدير للمناوي (4/ 66).

ص: 414

‌الحديث الثاني والستون: من أنفق زوجين في سبيل الله

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عبد الله هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ:«نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»

(1)

. متفق عليه.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

زوجين

الزوج في اللغة: كل شيء كان له قرين من جنسه، فهو اسم يقع على كل واحد من المقترنين، يقال: لفلان زوجان من حمام، أي: ذكر وأنثى.

قال الهروي في تفسير هذا الحديث: (قيل: وما زوجان؟ قال: فرسان، أو عبدان، أو بعيران).

وقال ابن عرفة: (كل شيء قُرن بصاحبه فهو زوج، يقال: زوجت بين الإبل إذا قرنت بعيرًا ببعير).

دعي من باب الريان

أي: باب الرواء، جزاء لما قاساه الصائم من عطش.

(1)

أخرجه البخاري برقم (1897)، ومسلم برقم (1027).

(2)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 390)، وشرح النووي على مسلم (7/ 116).

ص: 415

التعليق:

هذا الحديث يتعلق بفضائل بعض أعمال البر العظيمة كالصلاة والصيام والصدقة والجهاد، وأن لكل عمل من هذه الأعمال باب من أبواب الجنة يدخل منه المكثر من هذا العمل.

قال ابن عبد البر رحمه الله

(1)

: (وفي هذا الحديث من الفقه والفضائل: الحضُّ على الإنفاق في سبيل الخير، والحرص على الصوم، وفيه أن أعمال البر لا يفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها، وأن من فتح له في شيء منها حُرم غيرها في الأغلب، وأنه قد تفتح في جميعها للقليل من الناس، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من ذلك القليل.

وفيه أن من أكثر من شيء عرف به ونسب إليه، ألا ترى إلى قوله:«فمن كان من أهل الصلاة» : يريد من أكثر منها فنسب إليها، لأن الجميع من أهل الصلاة، وكذلك من أكثر من الجهاد ومن الصيام على هذا المعنى ونسب إليه، دعي من بابه ذلك والله أعلم.

ومما يشبه ما ذكرنا ما جاوب به مالكٌ رحمه الله العمريَّ العابد وذلك أن عبد الله بن عبد العزيز العمريَّ العابد كتب إلى مالك يحضُّه إلى الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: إن الله عز وجل قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة، ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد، ولم يفتح له في الصلاة.

(1)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر (7/ 184).

ص: 416

وَنَشْرُ العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قُسم له والسلام.

هذا معنى كلام مالك لأني كتبته من حفظي، وسقط عني في حين كتابتي أصلي منه.

وأما قوله: «من أنفق زوجين» ، معناه عند أهل العلم: من أنفق شيئين من نوع واحد، نحو درهمين، أو دينارين، أو فرسين، أو قميصين، وكذلك من صلى ركعتين، ومشى في سبيل الله خطوتين، أو صام يومين ونحو ذلك كله، وإنما أراد والله أعلم أقل التكرار وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البر لأن الاثنين أقل الجمع).

وقوله: «في سبيل الله» : قيل: يحتمل العموم في جميع وجوه الخير، وقيل: الخصوص في الجهاد، والأول أظهر.

وقوله: «نودى هذا خير» : فيه وجهان؛ أي: هنالك خير وثواب وغبطة، والآخر هذا الباب خير من غيره من الأبواب لك، لكثرة ثوابه، ونعيمه

(1)

.

قوله: «ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان» : خصَّ الريان بأهل الصائم لما كان في الصوم من الصبر على ألم العطش؛ لأن قوله: (باب الريان) أي: باب الرواء، وإن كانت تلك كلها فيها الرواء، غير أن باب الريان أروى)

(2)

.

وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ما على من يدعى من هذه الأبواب من

(1)

ينظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (3/ 555).

(2)

ينظر: المسالك شرح موطأ مالك لأبي بكر بن العربي (5/ 124).

ص: 417

ضرورة، فقوله:(من ضرورة)، أي: من ضرر، أي: ليس على المدعو من كل الأبواب مضرة، أي: قد سعد من دعي من أبوابها جميعًا.

ويقال معناه: ما على من دعي من تلك الأبواب من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة ودعي من بابها، فإنه لا ضرر عليه، لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة من أيها أراد، لاستحالة الدخول من الكل معًا.

قال البدر العيني رحمه الله

(1)

: (قال الكرماني: أقول: يحتمل أن تكون الجنة كالقلعة لها أسوار محيط بعضُها ببعض، وعلى كل سور باب، فمنهم من يدعى من الباب الأول فقط، ومنهم من يتجاوز عنه إلى الباب الداخل وهلم جرًّا. قلت: هذا الذي ذكره لا يستبعده العقل، ولكن معرفة كيفية الجنة وكيفية أبوابها وغير ذلك موقوفة على السماع من الشارع).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه استحباب تكرار أعمال الطاعة والعبادة، حتى تكون سجية لصاحبها.

ثانيًا: فيه فضل الصلاة والصيام والإنفاق والجهاد.

ثالثًا: فيه فضل الإخلاص في العمل، وأن يكون المراد منه وجه الله تعالى.

رابعًا: فيه فضيلة الصديق رضي الله عنه، لأن قوله:«وأرجو أن تكون منهم» ، خطاب لأبي بكر رضي الله عنه، والرجاء من النبي صلى الله عليه وسلم واجب، نبه عليه ابن التين، فدل هذا على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه، وعلى أنه من أهل هذه الأعمال كلها

(2)

.

(1)

ينظر: عمدة القاري للعيني (10/ 265).

(2)

ينظر: عمدة القاري للعيني (10/ 265).

ص: 418

خامسًا: فيه الحث على اغتنام الأوقات في الطاعة والاستكثار من أفعال البر ليكون دخوله من جميع أبواب الجنة أو من أغلبها، أو من أحدها، فقد فاز في كل الأحوال.

قال القاضي ابن العربي رحمه الله

(1)

: (قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة)، يقول: ما على من يدعى من باب واحد من كل هذه الأبواب من ضرورة، وقد فاز ونجا.

وهذا لا يكون -والله أعلم- إلا لمن جاهد في سبيله، وأنفق ذلك في مرضاته، ولزم الثغر للرباط، والحرس للمسلمين والحوطة عليهم، وكان عبد الله بن المبارك ينشد في ذلك:

كل عيش قد أراه نكدًا

غير ركن الرمح في ظلِّ الفرس

وقيامٌ في ليالي الدُّجى

حارسًا للناس في أقصى الحرس

أرفع الصوتَ بتكبير بلا

صخب فيه ولا صوت جرس

(1)

ينظر: المسالك شرح موطأ مالك لأبي بكر بن العربي (5/ 125).

ص: 419

‌الحديث الثالث والستون: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]

(1)

. متفق عليه.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

استدراج

أي: مكر منه سبحانه، قال تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]، والمعنى: أخذه بتدريج واستنزال من درجة إلى أخرى، فكلما فعل معصية قابلها بنعمة، وأنساه الاستغفار، فيدنيه من العذاب قليلًا قليلًا، ثم يصبُّه عليه صبًّا.

مقيم على معاصيه

أي: عاكف عليها ملازم لها.

التعليق:

في هذا الحديث التحذير من الاغترار بالنعم مع الاستمرار على المعاصي، وبيان أن هذا استدراج، ومقدمة للأخذ على غرة، كما قيل: يستدرجهم بالنعم حتى يوقعهم بالنقم.

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (17311)، والطبراني في الكبير برقم (913)، وفي الأوسط برقم (9272)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (413).

(2)

ينظر: فيض القدير للمناوي (1/ 354).

ص: 420

وذلك لأن العبد يعتقد بإدرار نعم الله عليه أنه لكرامته على الله ورضاه عنه، فلا يزال في غيِّه مطلقًا وسنه في ضلاله حتى يأتيه حِمامُه.

فإن قيل: في هذا الاستدراج منه تعالى لعبده إيهام رضاه عنه، وهو سبب إصراره على القبيح. أجيب عنه: بأن المكلف إذا كان عالمًا بقبح القبيح أو متمكنًا من العلم به، ثم رأى نعم الله عليه تتوالى وهو مقيم على عصيانه، كان ترادفها كالمنبه له على الحذر، فلا قبح حينئذ.

وفي كلام نهج البلاغة: (ابن آدم إذا رأيت ربك يتابع عليك نعمَه وأنت تعصيه فاحذره)

(1)

.

قال إسماعيل بن رافع

(2)

: (الأمن من مكر اللَّه: إقامة العبد على الذنب، ثم يتمنى على اللَّه المغفرة).

وقد فسر بعض السلف المكر

(3)

: (بأن اللَّه يستدرجهم بالنعم إذا عصوه، من صحة الأبدان، ورغد العيش وغيرها، ويملي لهم، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]).

قال الهروي رحمه الله

(4)

: (قال الطيبي: الاستدراج هو الأخذ في الشيء، والذهاب فيه درجة فدرجة، كالمراقي والمنازِل في ارتقائه ونزولِه، ومعنى

(1)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (2/ 60).

(2)

ينظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن التميمي (3/ 358)، وقال:(رواه ابن أبي حاتم).

(3)

ينظر: الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة للشقاوي (4/ 167).

(4)

ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (8/ 3257).

ص: 421

استدراج الله: استدراجهم قليلًا قليلًا إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، وذلك أن تواتر الله نعمه عليهم مع انهماكِهم في الغَيِّ، فكلما جدد عليهم نعمة ازدادوا بطرًا وجددوا معصية، فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم، ظانين أن تواترَ النعم أثْرةٌ من الله وتقريبٌ، وإنما هي خذلان منه وتبعيد.

«ثم تلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» ، أي: استشهادًا أو اعتضادًا، {فَلَمَّا نَسُوا} ، أي: عهده سبحانه، أو تركوا أمره ونهيه، وهو المعني بقوله:{مَا ذُكِّرُوا بِهِ} ، أي: وعظوا به، {فَتَحْنَا} ، بالتخفيف ويشدد، {عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} ، أي: من أسباب النعم التي في الحقيقة من موجبات النقم، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} ، أي: أعطوا من المال والجاه وصحةِ البدن وطول العمر، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} ، أي: فجأة بالموت أو العذاب، فإنه أشد في تلك الحالة، {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} ، أي: واجمون ساكتون متحسرون متحيرون آيسون).

قال المناوي رحمه الله

(1)

: (قال إمام الحرمين: إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار، فلا تأمن على نفسك، فإن الأمر على خطر، فلا تدري ماذا يكون، وما سبق لك في الغيب، ولا تغترّ بصفاء الأوقات، فإن تحتها غوامض الآفات. وقال علي كرم الله وجهه: كم من مستدرج بالإحسان، وكم من مفتون بحسن القول فيه، وكم من مغرور بالستر عليه

(2)

.

(1)

ينظر: فيض القدير للمناوي (1/ 354).

(2)

يروى عن الحسن البصري، ينظر: تفسير السمعاني (6/ 30)، وفتح القدير للشوكاني (5/ 329)، والنكت والعيون للماوردي (6/ 72).

ص: 422

وقيل لذي النون

(1)

: ما أقصى ما يُخدع به العبد؟، قال: بالألطاف والكرامات، ثم قرأ:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} . وفي الحكم: خف من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه؛ أن يكون ذلك استدراجًا.

والاستدراج: الأخذ بالتدريج لا مباغتة، والمراد هنا: تقريب الله العبد الى العقوبة شيئًا فشيئًا، واستدراجه تعالى للعبد أنه كلما جدد ذنبًا جدد له نعمة وأنساه الاستغفار فيزداد أشرًا وبطرًا، فيتدرج في المعاصي بسبب تواتر النعم عليه ظانًّا أن تواترها تقريب من الله وإنما هو خذلان وتبعيد).

العقوبات الخفية:

قال ابن الجوزي رحمه الله

(2)

: (كل شيء خلق الله تعالى في الدنيا، فهو أنموذجٌ ما يكون في الآخرة، وكل شيء يجري فيها أنموذج ما يجري في الآخرة، فأما المخلوق منها، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الجنة شيءٌ يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء

(3)

، وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم إلى نعيم، وخوف بعذاب من عذاب.

فأما ما يجري في الدنيا، فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنب ذنبًا، وهو معنى قوله تعالى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].

وربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله، فظن أن لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة، وقد قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة.

(1)

ينظر: تفسير القرطبي (7/ 329).

(2)

ينظر: صيد الخاطر لابن الجوزي (ص 65 - 67) باختصار.

(3)

ينظر: تفسير الطبري (1/ 416)، والقرطبي (19/ 140)، وابن كثير (1/ 205).

ص: 423

وربما كان العقاب العاجل معنويًّا، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب! كم أعصيك ولا تعاقبني!، فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري! أليس قد حرمتك حلاوةَ مناجاتي؟.

فمن تأمَّل هذا الجنس من المعاقبة، وجده بالمرصاد، حتى قال وهيب بن الورد، وقد سئل: أيجد لذةَ الطاعة من يعصي؟ قال: ولا من همَّ.

فرب شخص أطلق بصره، فحرم اعتبارَ بصيرته، أو لسانه، فحرم صفاءَ قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه، فأظلم سرُّه، وحُرم قيام الليل، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك، وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفوس.

وعلى ضدِّه يجد من يتقي الله تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلًا، كما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«يقول الله تعالى: النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان، من تركه ابتغاء مرضاتي، آتيته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه»

(1)

. فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها.

فأما المقابلة الصريحة في الظاهر، فقلَّ أن تحتبس، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الصبحة تمنع الرزق»

(2)

، و:«إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»

(3)

.

ومثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة، رأى الجزاءَ وفهِم، كما قال الفضيل: إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي

(4)

.

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (7875) عن حذيفة بنحوه، والطبراني في الكبير برقم (10362) عن ابن مسعود رضي الله عنهما بنحوه.

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (530) وإسناده ضعيف، وضعفه البيهقي في الآداب برقم (675)، قال:(والصبحة النوم عند الصباح).

(3)

أخرجه ابن ماجه برقم (4022)، والنسائي في الكبرى (11775)، وأحمد في المسند برقم (22414).

(4)

ينظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 383)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 84).

ص: 424

وعن أبي عثمان النيسابوري: أنه انقطع شسعُ نعله في مُضيِّه إلى الجمعة، فتعوق لإصلاحة ساعةً، ثم قال: إنما انقطع؛ لأني ما اغتسلت غسل الجمعة

(1)

.

ومن عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، امتدت أكفُّهم بين يديه بالطلب يقولون:{وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88]، ولما صبر هو يوم الهَمَّة، ملك المرأة حلالًا، ولما بغت عليه بدعواها:{مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف: 25]، أنطقها الحق بقولها:{أَنَا رَاوَدْتُهُ} [يوسف: 51].

ولو أن شخصًا ترك معصية لأجل الله تعالى، لرأى ثمرة ذلك، وكذلك إذا فعل طاعة، ولقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع طلبًا للراحة العاجلة، فانقلبت أحواله إلى التنغصِ العاجل، وعُكست عليه المقاصد).

وقال أيضًا

(2)

: (من أراد دوام العافيةَ والسلامةَ فليتق الله عز وجل، فإنه ما من عبد أطلق نفسَه في شيء ينافي التقوى، وإن قلَّ، إلا وجد عقوبتَه عاجلةً أو آجلةً، ومن الاغترار أن تسيء، فترى إحسانًا، فتظن أنك قد سومحْت، وتنسى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} ، وربما قالت النفس: إنه يَغفر، فتسامحت! ولا شك أنه يغفر، ولكن لمن يشاء.

وأنا أشرح لك حالًا، فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة؛ وذلك أن من هفا هفوة، لم يقصدها، ولم يعزم عليها قبل الفعل، ولا عزم على العود بعد الفعل، ثم انتبه لما فعل، فاستغفر الله، كان فعله -وإن دخله عمدًا- في مقام خطإٍ، مثل أن يعرض له مستحسن، فيغلبه الطبع، فيطلق النظر، وتشاغل في حال نظره بالتذاذ الطبع

(1)

ذكر ابن القيم هذه القصة في مدارج السالكين (2/ 437) عن الشيخ أبي بكر محمد بن موسى الواسطي.

(2)

ينظر: صيد الخاطر لابن الجوزي (ص 193 - 195).

ص: 425

عن تلمح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه لنفسه، ندم على فعله، فقام الندم بغسل تلك الأوساخ، التي كانت كأنها غلطة لم تقصد، فهذا معنى قوله تعالى:{إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].

فأما المداوم على تلك النظرة، المردِّدُ لها، المصِرُّ عليها، فكأنه في مقام متعمد للنهي، مبارز بالخلاف، فالعفوُ يبعُد عنه بمقدار إصرارِه، ومن البعد ألا يرى الجزاء على ذلك، كما قال ابن الجلاء: رآني شيخي وأنا قائم أتأمل حدثًا نصرانيًّا، فقال: ما هذا؟! لترين غبَّها ولو بعد حين؛ فنسيت القرآن بعد أربعين سنة!

(1)

.

واعلم أنه من أعظم المحن الاغترارُ بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر، ومن أعظم العقوبة ألا يحسُّ الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدِّين، وطمس القلوب، وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن، وبلوغ الأغراض.

قال بعض المعتبرين: أطلقت نظري فيما لا يحلُّ لي، ثم كنت أنتظر العقوبة، فأُلجئت إلى سفر طويل، لا نيةَ لي فيه، فلقيت المشاقَّ، ثم أعقب ذلك موت أعزِّ الخلق عندي، وذهاب أشياء كان لها وقعٌ عظيم عندي، ثم تلافيت أمري بالتوبة، فصلُح حالي، ثم عاد الهوى، فحملني على إطلاق بصري مرة أخرى، فطُمس قلبي، وعدمت رقتَه، واستُلب مني ما هو أكثر من فقدِ الأول، ووقع لي تعويضٌ عن المفقود بما كان فقدُه أصلح.

فلما تأملت ما عُوِّضتُ وما سُلب مني، صحتُ من ألم تلك السياط، فها أنا أنادي من على الساحل: إخواني! احذروا لُجَّةَ هذا البحر، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصنَ التقوى، فالعقوبة مُرَّةٌ.

(1)

ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق (6/ 84)، وينظر: بغية الطلب في تاريخ حلب (3/ 1237)، وفيهما:(فنسيت القرآن بعد عشرين سنة).

ص: 426

واعلموا أن في ملازمة التقوى مراراتٍ من فقد الأغراضِ والمشتهيات، غير أنها في ضرب المثل كالحِميةِ تعقب صحةً، والتخليط ربما جلب موتَ الفجأة، وبالله، لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضا المبتلي، كان قليلًا في نيل رضاه، ولو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا، مع إعراضه عنكم، كانت سلامتُكم هلاكًا، وعافيتكم مرضًا، وصحتكم سقمًا، والأمر بآخره، والعاقل من تلمح العواقب، فصابروا رحمكم الله تعالى هجيرَ البلاء، فما أسرع زوالَه! والله الموفق، إذ لا حول إلا به، ولا قوة إلا بفضله).

من فوائد الحديث:

أولًا: في الحديث التحذير من المعاصي وأنها سبب غضب الله على العبد ومكره به.

ثانيًا: فيه التحذير من الاغترار بتتابع النعم مع المداومة على المعصية، وأن ذلك قد يكون مكرا بالعبد، ومقدمة لهلاكه.

ثالثًا: فيه أن العقوبة على المعصية قد تتأخر، ولكنها لا تتخلف، إذا لم يتب منها صاحبها.

رابعًا: فيه أن الله تعالى يهيئ أسباب الضلال لمن يريد إضلاله، وهذا يوافق مذهب أهل السنة والجماعة في أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

ص: 427

‌الحديث الرابع والستون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عَنْ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا»

(1)

. رواه البخاري.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

القائم على حدود الله

المعظم لها، الآمِر بالمعروف، والنَّاهي عن المُنكَر.

الواقع فيها

أي: التَّارِك للمعروف، المرتكِب للمنكر.

استهموا

أخَذَ كلُّ واحد منهم سهمًا، أي: نصيبًا من السَّفينة بالقُرعة.

استَقَوْا

طلبوا الماءَ العذبَ.

أخذوا على أيديهم

منَعوهم من الخَرْق.

نجَوْا

أي: الآخِذون.

ونجَوْا

أي: المأْخُوذون، وهكذا إن أُقيمت الحُدود تحصُل النَّجاة، وإلا هلَك العاصي بالمعصية، وغيرُهم بترك الإقامة.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2493).

(2)

ينظر: اللامع الصبيح للبرماوي (7/ 512).

ص: 428

التعليق:

هذا الحديث يبين القاعدة التي تقول: لا ضرر ولا ضرار، فليس هناك حرية مطلقة لأحد يفعل ما يشاء، بحجة أنه يتصرف في حدود ما يملك، ولذلك ذكر شرَّاح الحديث أنه إذا اشترك اثنان في بيت يتكون من طابقين مثلًا وهو ما عبروا عنه بالعلو والسفل، فإذا أراد صاحب السفل أن يهدم، وأراد صاحب العلوِّ أن يبني علوَّه، فليس لصاحب السفل أن يهدم السفل إلا من ضرورة، يكون هدمه له أرفق لصاحب العلو؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لربِّ العلو أن يبني على علوِّه شيئًا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل، ولو تكسرت خشبة من سقف العلو، لأدخل مكانها خشبةً ما لم تكن أثقل منها، ويخاف ضررها على صاحب السفل، وذكروا في ذلك أحكامًا كثيرة

(1)

.

وهذا في شأن الدنيا، وأما في شأن الدين فالأمر أشد، فيجب على الجميع حفظ حدود الله تعالى، والأخذ على أيدي العابثين والمتلاعبين بأحكام الله، حتى لا تغرق السفينة، والله تعالى يقول:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب»

(2)

، وقال ابن كثير رحمه الله

(3)

: (يحذر تعالى عباده المؤمنين {فِتْنَةً}، أي: اختبارًا ومحنة، يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب، بل يعمهما، حيث لم تدفع وترفع).

(1)

ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 13).

(2)

ينظر: تفسير القرطبي (7/ 391).

(3)

ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 37).

ص: 429

وفي الصحيحين عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:«نعم إذا كثر الخبث»

(1)

.

وفي السنن ومسند الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعًا: «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمُّهم الله بعقاب من عنده»

(2)

.

وقال القرطبي عن حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه

(3)

: (ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل؛ وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصة السبت حين هجروا العاصين وقالوا: لا نُساكنكم، وبهذا قال السلف رضي الله عنهم؛ روى ابن وهب عن مالك أنه قال: تُهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارًا ولا يستقرّ فيها).

ولا يجب التغيير إلا على المستطيع الذي له قوة ومنعة وسلطة.

قال ابن عبد البر رحمه الله

(4)

: (هذا واضح في أنه لا يلزم التغيير إلا من القوة والعزة والمنعة وأنه لا يستحق العقوبة إلا من هذه حاله، وأما من ضعف عن

(1)

أخرجه البخاري برقم (3346)، ومسلم برقم (2880).

(2)

أخرجه أبو داود برقم (4338)، والترمذي برقم (2168)، وابن ماجه برقم (4005)، وأحمد في المسند برقم (1).

(3)

ينظر: تفسير القرطبي (7/ 392).

(4)

ينظر: الاستذكار لابن عبد البر (8/ 586).

ص: 430

ذلك فالفرض عليه التغيير بقلبه والإنكار والكراهة. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: بحسب المؤمن إذا رأى منكرًا لا يستطيع له تغييرًا أن الله يعلم من قلبه أنه له كاره).

من أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(1)

: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، وكل واحد من الأمة مخاطبٌ بقدر قدرته، وهو من أعظم العبادات، ومن الناس من يكون ذلك لهواه، لا لله.

وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه: مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق، ويجلد الشارب، ويقيم الحدود؛ لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد؛ لأن كلَّ واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحقَّ ذلك؛ فهذا مما ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر المطاع كالسلطان ونوابه.

وكذلك دقيق العلم الذي لا يفهمه إلا خواصُّ الناس، وجماع الأمر في ذلك بحسب قدرته، وإنما الخلاف فيما إذا غلب على ظن الرجل أن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لا يطاع فيه، هل يجب عليه حينئذ؟ على قولين: أصحهما: أنه يجب وإن لم يقبل منه، إذا لم يكن مفسدة الأمر راجحة على مفسدة الترك، كما بقي نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عامًا ينذر قومه.

ولما قالت الأمَّة من أهل القرية الحاضرة البحر لواعظي الذين يعْدون في السبت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، أي: نقيم عذرَنا عند ربِّنا، وليس هداهم علينا، بل الهداية إلى الله

(2)

،

(1)

ينظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 203).

(2)

ينظر: زاد المسير لابن الجوزي (2/ 163)، وتفسير القرطبي (7/ 306)، وتفسير ابن كثير (3/ 494).

ص: 431

ومن لم يحب ما أحبه الله وهو المعروف ويبغض ما أبغضه الله تعالى وهو المنكر لم يكن مؤمنًا، فلهذا لم يكن وراء إنكار المنكر بالقلب حبة خردل من إيمان، ولا يمكن أن يحبَّ جميع المنكرات بالقلب إلا إن كان كافرًا، وهو الذي مات قلبه، كما سئل بعض السلف عن ميت الأحياء في قولهم:

ليس من مات فاستراح بميْتٍ

إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياء

فقال: هو الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، لكن من الناس من ينكر بعض الأمور دون بعض، فيكون في قلبه إيمان ونفاق، كما ذكر ذلك من ذكره من السلف؛ حيث قالوا: القلوب أربعة

(1)

:

قلبٌ أجرد فيه سراجٌ يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فهو، قلب الكافر، وقلب منكوسٌ، فذلك قلب المنافق، وقلب فيه مادتان، مادة تمدُّه بالإيمان، ومادة تمدُّه بالنفاق، فذلك خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا.

وفي الجملة فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فإذا غلب على ظنه أن غيره لا يقوم به تعيَّن عليه ووجب عليه ما يقدر عليه من ذلك؛ فإن تركه كان عاصيًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون فاسقًا وقد يكون كافرًا، وينبغي لمن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أن يكون فقيها قبل الأمر، رفيقًا عند الأمر، ليسلك أقرب الطرق في تحصيله، حليما بعد الأمر، لأن الغالب أن لا بد أن يصيبه أذى كما قال تعالى:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

(1)

ورد مرفوعًا بسند ضعيف، أخرجه أحمد في المسند برقم (11129)، والطبراني في الصغير برقم (1075)، وورد موقوفًا عن حذيفة كما في مصنف ابن أبي شيبة برقم (30404)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 276)، والإبانة الكبرى لابن بطة برقم (929).

ص: 432

من فوائد الحديث:

الأول: في الحديث جواز القرعة، وأنها سنة لكل من أراد العدل في القسمة بين الشركاء، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذم المستهمين في السفينة، ولا أبطل فعلهم، بل رضيَه وضربه مثلًا لمن نجته نفسه من الهلكة في دينه والفقهاء متفقون على القول بها

(1)

.

الثاني: فيه عدم الإضرار بالآخرين، وألا يمكن من أراد ذلك.

الثالث: فيه أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حفظ وسلامة المجتمع.

الرابع: وفيه تعذيبُ العامة بذُنوب الخاصَّة، إذا فرطوا في نصحهم والأخذ على أيديهم.

(1)

ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (16/ 79).

ص: 433

‌الحديث الخامس والستون: أويس القرني

عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ، فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ، قَلِيلَ الْمَتَاعِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» ، فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ، قَالَ أُسَيْرٌ: وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً، فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لِأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم (2542).

ص: 434

معاني الكلمات

(1)

:

الكلمة

معناها

أويس

تصغير أوس، وأوس اسم للذئب، وأنشدوا:

ما فعل اليوم أويسٌ في الغنم

مراد

اسم قبيلة، وقرَن مفتوحة الراء: قبيلة، وقرْن بتسكين الراء هو قرن المنازل، ميقات من مواقيت الحج.

أمداد أهل اليمن

هم الجماعة الغزاة الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو، واحدهم: مدد.

غبراء الناس

أي: ضعافهم وصعاليكهم وأخلاطهم الذين لا يؤبه لهم.

رث البيت

هو بمعنى: قليل المتاع، والرثاثة والبذاذة بمعنى واحد: وهو حقارة المتاع وضيق العيش.

التعليق:

أويس القرني هو: أويس بن عامر القرني، وهو من مراد، ثم من قَرْن، من صفاته: أنه لو أقسم على الله لأبره.

قال القرطبي رحمه الله

(2)

: (كان أويس من أولياء الله المخلصين المختفين الذين لا يؤبه لهم، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عنه، ووصفه ونعته بنعته، وعلامته، لَمَا عرفه أحد، وكان موجودًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به وصدقه ولم يَلْقه، ولا كاتبه، فلم يُعَد من الصحابة.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 95)، وكشف المشكل لابن الجوزي (1/ 156).

(2)

ينظر: تطريز رياض الصالحين لفيصل المبارك (1/ 253).

ص: 435

وهذا يعتبر من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث أن أويسًا قد حضر مع وفد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المدينة، ولما وصل الوفد علم عمر رضي الله عنه أن أويسًا مع هذا الوفد، فلما سأل عنه قال القوم: إنه عند رواحلهم، فذهب إليه وتركهم، ثم طلب منه عمر رضي الله عنه أن يستغفر الله له، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصاه بذلك).

قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله

(1)

: (في هذا الحديث دليل على بركة الصالحين، وأن العبد المؤمن قد يبلغ إلى أن يتبرك به عمر رضي الله عنه

(2)

، ويسأله الاستغفار، فيكون من فقه هذا أن يُتبع الأخيار وإن كانوا في الأطمار الرثة، وأن يتطلبوا وإن كانوا لا ذكر لهم في المحافل رجاء بركتهم.

* وفيه أيضًا أن أويسًا على كرم حاله أصابه البرص، وأن ذلك مما أصابه الله به ووفقه أن يسأل الله تعالى إبراءه منه، وأنه أبرأه منه إلا موضع درهم منه، يذكر به نعمته عليه، إذ من عادة الآدمي نسيان النعم إلا من وفقه الله.

* وفيه أيضًا ما يدل على أن من جملة وسائل أويس برُّه بوالدته، وأنها كانت من العلامات التي عرفه بها عمر رضي الله عنه.

* وفيه أيضًا أن أويسًا لما استغفر لعمر رضي الله عنه خلى سبيله وتركه وشأنه، ولعله قد آنس منه علمًا يكفيه في معاملته ربه.

* وفيه أيضًا من الفقه أنه كان يسأل عنه بعد ذلك من يأتي من العراق تعرفًا لخبره، وتعهدًا لأحواله لأنه كان صديقًا له في الله عز وجل؛ إذ مرادهما واحد ومطلوبهما سواء.

(1)

ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (1/ 224).

(2)

أي: بدعائه واستغفاره كما أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 436

* وفيه أيضًا من الفقه جواز حبِّ الخمول لمن يصلح في ذلك، لأنه لما انتشر خبره بالكوفة خرج عنها إلى حيث لا يعرف.

* وفيه أيضًا أنه بلغ به الزهد إلى الحال التي استُنكر عليه فيها وجودُ بردة لبسها؛ ومع ذلك كله فلا خلاف أن عمر رضي الله عنه أفضل منه ومن أمثاله، ولكن هذه الطريقة من المرابطة على عبادة الله باب من أبواب العبادات، وقد كان أويس رحمه الله أصلًا فيها، فكم ممن اقتدى به في زمانه وبعد موته رحمه الله، ورضي عنه، وهذا إنما يباح لمن عرف من العلم قدر ما فرض الله سبحانه عليه).

قوله: «وكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم» : أبقى هذا الأثر ليذكر مكان هذا الداء، ثم عوفي فيبعثه ذلك على الزيادة في الشكر

(1)

.

وقول النبي عليه الصلاة والسلام فيه: «له والدة، هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره» : إشارة إلى إجابة دعوته وعظيم مكانته عند ربه، وأنه لا يخيِّبُ أمله فيه، ولا يكذب ظنه به، ولا يردُّ دعوتَه ورغبتَه وعزيمتَه وقسَمه في سؤاله؛ بصدق توكله عليه، وتفويضه إليه.

وقيل: معنى «أقسم على الله» : دعى، و «أبره»: أجابه، وفيه فضل بر الوالدين، وعظيم أجر البر بهما.

وقوله

(2)

: «فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» : لا يفهم من هذا أفضليته على عمر رضي الله عنه، ولا أن عمر رضي الله عنه غير مغفور له، للإجماع على أن عمر أفضل منه، لأنه تابعي، والصحابي أفضل منه، إنما مضمون ذلك الإخبار بأن أويسًا ممن يستجاب له الدعاء، وإرشاد عمر رضي الله عنه إلى الازدياد من الخير

(1)

ينظر: دليل الفالحين لطريق رياض الصابحين للبكري (3/ 235).

(2)

ينظر: المرجع السابق (3/ 236).

ص: 437

واغتنام دعاء من ترجى إجابته، وهذا نحو مما أمرنا النبي به من الدعاء له، والصلاة عليه وسؤال الوسيلة له، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ولد آدم، وكذا ما يأتي من قوله لعمر رضي الله عنه:«أشركنا في دعائك يا أخي»

(1)

.

ومما تميز به أويس رحمه الله هو التقلل من الدنيا والاكتفاء باليسير منها، والبعد عن زينتها وزهرتها، وكراهية الشهرة، وأن يعرف بين الناس بالصلاح، ولذلك لما قال له عمر رضي الله عنه:«ألا أكتب لك إلى عاملها» : أي: ليقوم بكفايتك من بيت مال المسلمين، رفض أويس هذا العرض، وقال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، أي: مع البسطاء والفقراء، لا مع الأمراء والقادة.

وقول الآخر: «تركته رث الهيئة قليل المتاع» : كله دليل على احتقار أويس نفسه، وستره أمرَه.

وقوله في آخر خبره: «ففطن له الناس، فانطلق على وجهه» ، أي: أخفى أمر نفسه لئلا يشتهر مخافة الفتنة

(2)

.

وقوله

(3)

: «ففطن له الناس، فانطلق على وجهه» : لا يخفى أن وجه خفائه؛ أنه كان مستجاب الدعوة في مادة الاستغفار، ولو كان ظاهرًا لتوجه إليه البر والفاجر، مستورًا أو غيره، فلا يمكنه الاستغفار للكل، ولا امتناعه عن البعض لما يوجب من الإيحاش وكشف الحال، والله أعلم بالأحوال).

وهذا الحديث يشير إلى أن مقياس التفاضل في الإسلام يتعلق بما في

(1)

أخرجه الترمذي برقم (3562)، وأحمد في المسند برقم (195)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(2)

ينظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (7/ 583).

(3)

ينظر: مرقاة المفاتيح للهروي (9/ 4035).

ص: 438

القلوب من تقوى وخير ومعروف وبر وإحسان، وإن كان صاحب هذا القلب مدفوعًا بالأبواب لا يفتقد إذا غاب، ولا يشعر به إذا حضر، وليس الفضل بحسب الأنساب والأموال والمناصب، كما يراه كثير من الناس.

ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم»

(1)

، وأشار بأصابعه إلى صدره.

وعن سهل رضي الله عنه، قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما تقولون في هذا؟» ، قالوا: حرِيٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفع، وإن قال أن يُستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال:«ما تقولون في هذا؟» ، قالوا: حرِيٌّ إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع أن لا يُشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره»

(3)

.

وأما قبوله البردة من أسير بن جابر، فيبدو والله أعلم أنه قبلها حتى يخفي حاله ولا يشتهر بالزهد، ولكي يتركه الناس وشأنه، إلا أن عادة الناس لا تتغير، فكانوا كلما رأوا البردة عليه تساءلوا من أين لأويس هذه البردة، حتى اضطر إلى التواري والاختفاء.

(1)

أخرجه مسلم برقم (2564).

(2)

أخرجه البخاري برقم (5091).

(3)

أخرجه مسلم برقم (2854).

ص: 439

من فوائد الحديث:

الأول: في هذا الحديث معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودليل من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه أخبر بقدوم أويس قبل وقوعه، وذكر أويسًا باسمه، وصفته، وعلامته، واجتماعه بعمر، وهذا مما أطلعه الله عليه من الغيب.

الثاني: وفيه الإرشاد إلى الازدياد من الخير واغتنام دعاء من ترجى إجابته.

الثالث: وفيه فضل بر الوالدة، وأنه سبب في هداية العبد وصلاحه.

الرابع: وفيما فعل عمر رضي الله عنه: تبليغ الشريعة ونشر السنة، والإقرار بالفضل لأهله، والثناء على من لا يخشى عليه عجب بذلك.

الخامس: وفيه التواضع وطلب الفاضل الدعاء والاستغفار من المفضول.

السادس: وفيه فضيلة الزهد في الدنيا والتقلل منها، وازدراء النفس والبعد عن مواطن الشهرة وإخفاء الحال.

ص: 440

‌الحديث السادس والستون: الاقتصاد في المشاعر

قال صلى الله عليه وسلم: «أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضَك يومًا ما، وأبغضْ بغيضَك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبَك يومًا ما»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

أحبب حبيبك هونًا ما

قال في النهاية: (حبًّا مقتصدًا لا إفراط فيه، وإضافة «ما» إليه تفيد التقليل، بمعنى: لا تسرف في الحب والبغض).

وعسى

الأولى: للإشفاق، والثانية: للترجي ك (لعل).

التعليق:

وهذا فيه النصيحة بالاقتصاد في إظهار مشاعر الكراهية والحب معًا، لأن القلوب تتغير، والمواقف التي أثمرت تلك المشاعر تتغير أيضًا.

ونقل البغوي رحمه الله في شرح السنة

(3)

: (عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أسلم لا يكن حبُّك كَلَفا، ولا بغضُك تلفًا، قلت: وكيف ذاك؟ قال: إذا أحببت فلا تكْلَف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه، وإذا أبغضت؛ فلا تبغض بغضًا تحب أن يتلفَ صاحبُك ويهلك.

(1)

أخرجه الترمذي (1997)، والطبراني في الأوسط برقم (3395)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: غريب، وصححه الألباني.

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (1/ 400).

(3)

ينظر: شرح السنة (13/ 65).

ص: 441

وقال الحسن: أحبوا هونًا، وأبغضوا هونًا، فقد أفرط أقوام في حب أقوام، فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا.

قال علي رضي الله عنه: أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما.

ورفعه بعضهم عن علي رضي الله عنه وعن أبي هريرة رضي الله عنه، والصحيح أنه موقوف على علي رضي الله عنه.

قال الحليمي رحمه الله: (والاقتصاد في كل أمر أفضل وأجمل من البغي فيه، حتى الحب والبغض)

(1)

.

يعني: لا يسرف في الحب والبغض، فعسى أن يصير الحبيب بغيضًا، والبغيض حبيبًا، فلا تكون قد أسرفت في الحب فتندم، ولا في البغض فتستحي.

والحديث فيه إرشاد إلى الاعتدال في الأمور، وعدم المبالغة والغلو في الحب والبغض، وأن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، والأمر هنا للندب.

وألَمَّ بمعنى الحديث من قال

(2)

:

وأحبب إذا أحببتَ حبًّا مقاربًا

فإنَّك لا تدري متى أنت نازعُ

وأبغض إذا أبغضتَ غير مباينٍ

فإنك لا تدري متى أنت راجع

وكن معدنًا للخير واصفح عن الأذى

فإنك راءٍ ما عملتَ وسامع

وقال ابن العربي رحمه الله في فوائد هذا الاقتصاد

(3)

: (أن القلوب بين إصبعين

(1)

ينظر: شعب الإيمان للبيهقي (8/ 514).

(2)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (1/ 400).

(3)

ينظر: فيض القدير للمناوي (1/ 176).

ص: 442

من أصابع الرحمن فقد يعود الحبيب بغيضًا وعكسه، فإذا أمكنته من نفسك حال الحب وعاد بغيضًا، كان لمعالم مضارِّك أجدر، لما اطلع منك حال الحب بما أفضيت إليه من الأسرار.

وهذا الاقتصادُ في الحب والبغض لا يمنع من النصيحة عند البغض، ولا يمنع المحبُّ من إعلام الشخص المحبوب بأنه يحبه، فإن هذا أدوم للمحبة، ففي الحديث عن المِقدام بن معدي كرب رضي الله عنه وقد كان أدركَه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا أحَبَّ الرجُلُ أخاهُ فَليُخبِرْهُ أنه يُحبُّه»

(1)

.

قال البغوي رحمه الله

(2)

: (ومعنى الإعلام: هو الحث على التودد والتآلف، وذلك أنه إذا أخبره، استمال بذلك قلبه، واجتلب به ودِّه.

وفيه: أنه إذا علم أنه محبٌّ له، قبل نصحه فيما دله عليه من رشَده، ولم يردّ قوله فيما دعاه إليه من صلاحٍ خَفِي عليه باطنُه.

قال ابن عمر رضي الله عنهما: ليس المعرفة أن تعرف الرجل بوجهه، حتى تعرف اسمه واسم أبيه، وإذا مات شهدت جنازته).

من فوائد الحديث:

أولًا: الاقتصاد في الأمور وعدم المبالغة والغلو حتى في المشاعر، وذلك كي يظل المرء متماسكًا متحكمًا في نفسه، ولا يصل إلى منزلة من قال:

أحبُّ لحبها السودانَ حتى

أحب لحبِّها سودَ الكلابِ

(1)

أخرجه أبو داود برقم (5124)، والترمذي برقم (2392)، وأحمد في المسند برقم (17171)، وقالالترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الألباني.

(2)

ينظر: شرح السنة (13/ 67).

ص: 443

ثانيًا: فيه أن المحبة الكاملة لا تكون إلا لله تعالى ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم فهذه محبة مطلقة غير مشروطة، أما محبة غيرهما فتابعة لمحبتهما والانقياد لحكمهما.

ثالثًا: فيه إشارة إلى تغير المشاعر بتغير الزمان والأحوال والمواقف والقناعات.

ص: 444

‌الحديث السابع والستون: من صُنع إليه معروفٌ

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» . أخرجه الترمذي

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

معروفًا

المعروف ما تقبله الأنفس، ولا تجد منه تكرُّها. وقيل: ما قَبِلَهُ العقل، وأقره الشرع، وأحبه كرم الطبع.

فقد أبلغ في الثناء

أي: بالغ في ثنائه على فاعله، وجازى المحسن إليه بأحسن مما أسداه إليه، حيث أظهر عجزه، وأحاله على ربه.

التعليق:

المعروف الذي يُسمى فاعله محسنًا كلُّ ما يُعَدُّ معروفًا ولو أن يلقى أخاه بوجه طليق، كما يفيده حديث أبي ذر رضي الله عنه:«لا تحقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق»

(3)

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي (2035)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ جَيِّدٌ غَرِيبٌ، والنسائي في الكبرى برقم (9937)، وصححه الألباني.

(2)

ينظر: التحبير لإيضاح معاني التيسير للصنعاني (2/ 549)، ودليل الفالحين لطرق رياض الصالحين للبكري (7/ 300).

(3)

أخرجه مسلم برقم (2626).

(4)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (2/ 401).

ص: 445

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في معنى الحديث

(1)

: (إذا صنع إليك إنسان معروفًا بمال أو مساعدة أو علم أو جاه، أو غير ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تكافئ صانع المعروف، فقال صلى الله عليه وسلم:«من صنع إليكم معروفًا فكافئوه»

(2)

.

والمكافأة تكون بحسب الحال؛ من الناس من تكون مكافأته أن تعطيه مثل ما أعطاك أو أكثر، ومن الناس من تكون مكافأته أن تدعو له، ولا يرضى أن تكافئه بمال، فإن الإنسان الكبير الذي عنده أموال كثيرة، وله جاه وشرف في قومه، إذا أهدى إليك شيئًا فأعطيته مثل ما أهدى إليك، رأى في ذلك قصورًا في حقِّه، لكن مثل هذا ادع الله له:«فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه»

(3)

.

ومن ذلك أن تقول له: جزاك الله خيرًا إذا أعطاك شيئًا أو نفعك بشيء، فإن قلت له: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغت في الثناء، وذلك لأن الله تعالى إذا جزاه خيرًا كان ذلك سعادة له في الدنيا والآخرة).

لا تنتظر جزاء على الإحسان:

وكانت عادةُ أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها إذا دعَا لها السائلُ أن تُجيبَه بمِثْل ما يدعو لها السائل، ثم تُعطيه من المال ما تُعطيه، فقيل لها: أتُعطينَ السائلَ المالَ وتَدْعينَ له بمِثْل ما يدعو لك؟ فقالت رضي الله عنها: لو لم أَدْعُ له لَكانَ حقُّه بالدعاء لي أكثرَ من حقِّي بالصدقة، فأدعو له بمِثْل ما يدعو، حتى أُكافِئَ دعاءَه بدعائي؛ لِتَخلُصَ لي صدقتي

(4)

.

(1)

ينظر: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (6/ 49).

(2)

تقدم تخريجه

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

ينظر: المفاتيح في شرح المصابيح للمظهري (2/ 533).

ص: 446

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(1)

: (ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال تعالى ممن أثنى عليهم:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].

والدعاء جزاء كما في الحديث: «من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به، فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه»

(2)

.

كانت عائشة رضي الله عنها إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول صلى الله عليه وسلم: اسمع ما يدعون به لنا، حتى ندعوَ لهم بمثل ما دعوا لنا، ويبقى أجرُنا على الله.

وقال بعض السلف رحمهم الله: إذا قال لك السائل: بارك الله فيك، فقل: وفيك بارك الله، فمن عمل خيرًا مع المخلوقين سواء كان المخلوق نبيًّا أو رجلًا صالحًا أو ملكًا من الملوك أو غنيًّا من الأغنياء، فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصًا لله يبتغي به وجه الله، لا يطلب به من المخلوق جزاءً ولا دعاء ولا غيره، لا من نبي، ولا رجل صالح، ولا ملك من الملائكة، فإن الله أمر العباد كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين).

من فوائد الحديث:

الأول: فيه مشروعية الدعاء لمن فعل المعروف حسِّيًّا أو معنويًّا

(3)

.

الثاني: وفيه دليل على أن صانع المعروف يستحق على من ابتدأه إليه الثناء عليه

(4)

.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/ 188).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ينظر: تطريز رياض الصالحين لفيصل المبارك (1/ 819).

(4)

ينظر: التحبير لإيضاح معاني التيسير للصنعاني (2/ 549).

ص: 447

الثالث: فيه أن هذا الدعاء هو أفضل ما يجازى به أهل الإحسان، لاعتراف المحسن إليه بالتقصير، ولعجزه عن جزائه، ولذلك فقد فوض جزاءه إلى الله ليجزيه الجزاء الأوفى.

قال بعض الحكماء: (إذا قصُرت يداك بالمكافأة، فليطل لسانك بالشكر والدعاء بالجزاء الأوفى)

(1)

.

(1)

ينظر: فيض القدير للمناوي (6/ 172).

ص: 448

‌الحديث الثامن والستون: استحباب الاستمرار على العمل الصالح

عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ؟ قَالَتْ: «لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ»

(1)

.

معاني الكلمات

(2)

:

الكلمة

معناها

ديمة

أي: يدوم عليه ولا يقطعه، قال أبو عبيد:(أصل الديمة المطر الدائم مع السكون)، وقال لبيد:

(باتت وأسبل واكفٌ من ديمةٍ

يروي الخمائلَ دائمًا تسجامُها

فشبهت عمله في دوامه مع الاقتصاد بديمة المطر).

التعليق:

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله

(3)

: (قوله: «هل كان يخصُّ من الأيام شيئًا؟ قالت: لا» ، قال ابن التين: استدل به بعضهم على كراهة تحرِّي صيام يوم من الأسبوع، وأجاب الزين ابن المنيِّر: بأن السائل في حديث عائشة إنما سأل عن

(1)

أخرجه البخاري (6466)، ومسلم (783).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (6/ 72)، كشف المشكل لابن الجوزي (4/ 358).

(3)

ينظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 236).

ص: 449

تخصيص يوم من الأيام من حيث كونها أيامًا، وأما ما ورد تخصيصه من الأيام بالصيام، فإنما خُصِّص لأمر لا يشاركه فيه بقية الأيام؛ كيوم عرفة، ويوم عاشوراء، وأيام البيض، وجميع ما عُيِّن لمعنًى خاصٍّ، وإنما سأل عن تخصيص يوم لكونه مثلا يوم السبت.

ويشكل على هذا الجواب صوم الاثنين والخميس، فقد وردت فيهما أحاديث، وكأنها لم تصح على شرط البخاري فلهذا أبقى الترجمة على الاستفهام، فإن ثبت فيهما ما يقتضي تخصيصُهما استثني من عموم قول عائشة رضي الله عنها لا.

قلت: ورد في صيام يوم الاثنين والخميس عدة أحاديث صحيحة، منها حديث عائشة أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان من طريق ربيعة الجرشي عنها، ولفظه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس»

(1)

، وحديث أسامة رضي الله عنه:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين والخميس، فسألته، فقال: «إن الأعمال تعرض يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم»

(2)

، أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة.

فعلى هذا فالجواب عن الإشكال أن يقال: لعل المراد بالأيام المسئول عنها الأيام الثلاثة من كل شهر، فكأن السائل لما سمع أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم

(1)

أخرجه الترمذي برقم (745)، والنسائي برقم (2360 - 2361 - 2362 - 2363)، وابن ماجه برقم (1739)، وأحمد في المسند برقم (24509 - 24748)، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه الترمذي برقم (747)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد في المسند (21753)، والنسائي برقم (2358)، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، وصححه الألباني.

ص: 450

ثلاثة أيام ورغب في أنها تكون أيام البيض، سأل عائشة هل كان يخصُّها بالبيض، فقالت:«لا، كان عمله ديمة» ، تعني: لو جعلها البيض لتعيَّنت وداوم عليها، لأنه كان يحب أن يكون عمله دائمًا، لكن أراد التوسعة بعدم تعينها، فكان لا يبالي من أي الشهر صامها كما تقدمت الإشارة إليه في باب صيام البيض، وأن مسلمًا روى من حديث عائشة رضي الله عنها:«أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وما يبالي من أي الشهر صام»

(1)

.

وقد أورد ابن حبان حديث الباب وحديث عائشة رضي الله عنها في صيام الاثنين والخميس وحديثها: «كان يصوم حتى نقول لا يفطر»

(2)

، وأشار إلى أن بينهما تعارضًا، ولم يفصح عن كيفية الجمع بينهما، وقد فتح الله بذلك من فضله).

وقال العيني رحمه الله

(3)

: (قوله: «هل كان يخصُّ شيئًا من الأيام» ، أي: بعبادة مخصوصة لا يفعل مثلها في غيره، فقالت:«لا» ، قيل: هو معارض بقولها: «ما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان»

(4)

، وأجيب: بأنه لا تعارض؛ لأنه كان كثير الأسفار فلا يجد سبيلًا إلى صيام الثلاثة الأيام من كل شهر فيجمعها في شعبان، وإنما كان يوقع العبادة على قدر نشاطه وفراغه من جهاده).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الغلو في العبادة ويحذر من ذلك، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: «من

(1)

أخرجه مسلم برقم (1160).

(2)

تمام الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان» ، أخرجه البخاري برقم (1969)، ومسلم برقم (1156).

(3)

ينظر: عمدة القاري للعيني (23/ 65).

(4)

جزء من الحديث السابق، ينظر: تخريجه.

ص: 451

هذه؟»، فقالت: فلانة -تذكر من صلاتها-، فقال:«مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا»

(1)

، وكان أحب الدين إليه:«مادام عليه صاحبه»

(2)

.

قال الإمام ابن رجب رحمه الله

(3)

: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم «مه» : زجرٌ لعائشة رضي الله عنها عن قولها عن هذه المرأة في كثرة صلاتها، وأنها لا تنام الليل، وأمرٌ لها بالكفِّ عما قالته في حقِّها؛ فيحتمل أن ذلك كراهيةً للمدح في وجهها؛ حيث كانت المرأة حاضرة، ويحتمل -وهو الأظهر وعليه يدلُّ سياق الحديث- أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع، وعلى هذا فكثيرًا ما

(1)

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل نستطيع أن نثبت صفة الملل والهرولة لله تعالى؟

فأجاب: جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملوا» ، فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن ملل الله ليس كملل المخلوق؛ إذ إنَّ ملل المخلوق نقص؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله؛ فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالًا، ومن العلماء من يقول: إنَّ قوله: «لا يَمَلُّ حتى تملوا» ؛ يراد به بيان أنه مهما عملت من عمل؛ فإنَّ الله يجازيك عليه؛ فاعمل ما بدا لك؛ فإنَّ الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا، فيكون المراد بالملل لازم الملل، ومنهم من قال: إنَّ هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقًا؛ لأنَّ قول القائل: لا أقوم حتى تقوم؛ لا يستلزم قيام الثاني، وهذا أيضًا:«لا يمل حتى تملوا» ؛ لا يستلزم ثبوت الملل لله عز وجل، وعلى كل حال: يجب علينا أن نعتقد أنَّ الله تعالى مُنَزَّه عن كل صفة نقص من الملل وغيره، وإذا ثبت أنَّ هذا الحديث دليل على الملل؛ فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق. ينظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (1/ 174).

(2)

أخرجه البخاري برقم (43)، وأخرجه مسلم برقم (782) بسياق آخر عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَصِيرٌ، وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ، فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ» ، وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ، وهذا عند البخاري أيضًا.

(3)

ينظر: فتح الباري (1/ 164).

ص: 452

يذكر في مناقب العباد من الاجتهاد المخالف للشرع ينهى عن ذكره على وجه التمدح به والثناء به على فاعله، وقد سبق شرح هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم:«الدين يسر»

(1)

.

فإن المراد بهذا الحديث: الاقتصاد في العمل والأخذ منه بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه، وأن أحب العمل إلى الله مادام صاحبه عليه وإن قل، وقد روي ذلك في حديث آخر.

وكذلك كان حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان عمله ديمة، وكان إذا عمل عملًا أثبته. وقد كان ينهى عن قطع العمل وتركه، كما قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:«لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل»

(2)

، وقوله:«إن الله لا يمل حتى تملوا»

(3)

، وفي رواية:«لا يسأم حتى تسأموا»

(4)

، الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه، فإذا سأم العبد من العمل ومله قطعه وتركه فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم).

من فوائد الحديث:

الأول: عدم تحري يوم من الأيام وتخصيصه بصلاة أو صيام، أو عبادة من العبادات، إلا ما صح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كصيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، والإثنين والخميس، وأيام البيض وغيرها مما صح به الخبر.

(1)

أخرجه البخاري برقم (39) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (1152).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

أخرجه أحمد في المسند برقم (26096).

ص: 453

الثاني: فيه دليل على استحباب المداومة على العمل الصالح وعدم قطعه وتركه.

الثالث: فيه إشارة إلى قوة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة وصبره، وأنه صلى الله عليه وسلم يطيق من ذلك ما لا نطيق.

ص: 454

‌الحديث التاسع والستون: فضل الصدقة والعفو والتواضع

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ»

(1)

.

التعليق:

هذا الحديث فيه الحث على الصدقة، وبيان أنها لا تنقص المال، بفضل ما يجعل الله في هذا المال المتبقى من البركة التي تكون بسبب الصدقة، ويمكن أنها تكون سببًا في تتابع الأرزاق على العبد فلا يشعر بنقص في ماله، وفيه أيضًا الحث على العفو والتواضع، وأنهما سبب للعز والرفعة في الدنيا والآخرة.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله

(2)

: (هذا الحديث احتوى على فضل الصدقة، والعفو والتواضع، وبيان ثمراتها العاجلة والآجلة، وأن كل ما يتوهمه المتوهم من نقص الصدقة للمال، ومنافاة العفو للعز والتواضع للرفعة، وهم غالط وظن كاذب، فالصدقة لا تنقص المال؛ لأنه لو فرض أنه نقص من جهة، فقد زاد من جهات أُخر؛ فإن الصدقة تبارك المال، وتدفع عنه الآفات وتنميه، وتفتح للمتصدق من أبواب الرزق وأسباب الزيادة أمورًا ما تفتح على غيره، فهل يقابل ذلك النقص بعض هذه الثمرات الجليلة؟

فالصدقة لله التي في محلها لا تنفد المال قطعًا، ولا تنقصه بنصِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وبالمشاهدات والتجربات المعلومة، هذا كله سوى ما لصاحبها

(1)

أخرجه مسلم (2588).

(2)

ينظر: بهجة قلوب الأبرار للسعدي (ص 91).

ص: 455

عند الله: من الثواب الجزيل، والخير والرفعة، وأما العفو عن جنايات المسيئين بأقوالهم وأفعالهم فلا يتوهم منه الذل، بل هذا عين العز، فإن العز هو الرفعة عند الله وعند خلقه، مع القدرة على قهر الخصوم والأعداء، ومعلوم ما يحصل للعافي من الخير والثناء عند الخلق وانقلاب العدو صديقًا، وانقلاب الناس مع العافي، ونصرتهم له بالقول والفعل على خصمه، ومعاملة الله له من جنس عمله، فإن من عفا عن عباد الله عفا الله عنه.

وكذلك المتواضع لله ولعباده يرفعه الله درجات؛ فإن الله ذكر الرفعة في قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، فمن أجلّ ثمرات العلم والإيمان: التواضع؛ فإنه الانقياد الكامل للحق، والخضوع لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ امتثالًا للأمر، واجتنابًا للنهي، مع التواضع لعباد الله، وخفض الجناح لهم، ومراعاة الصغير والكبير، والشريف والوضيع، وضد ذلك التكبر؛ فهو غمط الحق، واحتقار الناس.

وهذه الثلاث المذكورات في هذا الحديث: مقدمات صفات المحسنين؛ فهذا محسن في ماله، ودفع حاجة المحتاجين، وهذا محسن بالعفو عن جنايات المسيئين، وهذا محسن إليهم بحلمه وتواضعه وحسن خلقه مع الناس أجمعين.

وهؤلاء قد وسعوا الناس بأخلاقهم وإحسانهم ورفعهم الله، فصار لهم المحل الأشرف بين العباد، مع ما يدخر الله لهم من الثواب.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «وما تواضع أحد لله» : تنبيه على حسن القصد والإخلاص لله في تواضعه؛ لأن كثيرًا من الناس قد يظهر التواضع للأغنياء ليصيبَ من دنياهم، أو للرؤساء لينال بسببهم مطلوبه.

ص: 456

وقد يظهر التواضع رياء وسمعة، وكل هذه أغراض فاسدة، لا ينفع العبد الا التواضع لله تقربًا إليه وطلبًا لثوابه، وإحسانًا إلى الخلق؛ فكمال الإحسان وروحه الإخلاص لله).

قال ابن الجوزي رحمه الله

(1)

: (قد اعترض معترض فقال: كيف يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما ينافي الحقائق، ونحن نعلم أن من تصدق من دينار بقيراط نقص؟

فأجاب العلماء فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد هذا، وإنما أراد أن البركة تخلف الجزء المنفصلَ فيكون كأنه لم يزَلْ.

ووقع لي في هذا جواب آخر ينطبق على أصل السؤال، فقلت: للإنسان داران، فإذا نقل بعض ماله بالصدقة إلى الدار الأخرى لم ينقص مالُه حقيقةً، وقد جاء في الحديث:«فيُرَبِّيها لأحدكم حتى تكونَ كالجبل»

(2)

، وصار كمن بعث بعض ماله إلى إحدى داريْه أو قسمه في صندوقين، فيراد من هذا أن ما خرج منك لم يخرج عنك).

وقال الصنعاني رحمه الله

(3)

في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصَتْ صدقةٌ من مال» : (لأن الله يُخْلِفها بنصِّ: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]، قال الفاكهاني: أخبرني من أثق به أنه تصدق من عشرين درهمًا بدرهم فوزنها فلم تنقصْ قال: وأنا

(1)

ينظر: كشف المشكل لابن الجوزي (3/ 586).

(2)

نصُّ الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فُلوَّه، حتى تكون مثل الجبل» ، أخرجه البخاري برقم (1410)، ومسلم برقم (1014).

(3)

ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (9/ 516).

ص: 457

وقع لي ذلك. وقيل: هو عائد إلى الدنيا بالبركة فيه ودفع المفسدات عنه. وقيل: إلى الآخرة بالثواب والتضعيف والقولان جاريان في عزِّ العبد بعفوِه ورفعته بتواضعِه. وقال النووي

(1)

: قد يكون المراد الوصفان معًا في الأمور الثلاثة).

قال القاضي عياض رحمه الله

(2)

: (وقوله: «وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا» : فيه أيضًا وجهان:

أحدهما: ظاهره أن من عرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزُّه.

الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك.

وقوله: «وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» : فيه وجهان كذلك:

أحدهما: أن الله تعالى يمنحه ذلك في الدنيا جزاء على تواضعه له، وأن تواضعه يثبت له في القلوب محبة ومكانة وعزةً.

والثاني: أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه.

وهذه الوجوه كلها في الدنيا ظاهرة موجودة، وقد صدق عليه السلام فيما أخبر منها، وقد يكون جمع الوجهين في جميعها، وكان هذا كلُّه تنبيها على ردِّ قول من يقول: الصبر والحلم الذل، ومن قاله من الجملة فإنما أراد به شِبهَه في الاحتمال وعدم الانتصار).

وقد قيل في بعض الحكم: (لا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم)

(3)

.

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 142).

(2)

ينظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (8/ 59).

(3)

ينظر: البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي (1/ 11)، ونثر الدر لأبي سعد الآبي (1/ 124).

ص: 458

وكلاهما، أي: التواضع والعلم، رفعة في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

من فوائد الحديث:

الأول: فضل الصدقة والحث عليها.

الثاني: أنها لا تنقص المال على الحقيقة، بل تزيده.

الثالث: أن العفو سبب للسيادة والشرف والعز في الدنيا والآخرة.

الرابع: أن التواضع سبب لتثبيت المحبة في القلوب، والرفعة في الدنيا والآخرة.

ص: 459

‌الحديث السبعون: كنز من كنوز الجنة

عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ:«يَا عبد الله بْنَ قَيْسٍ، قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» ، أَوْ قَالَ:«أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»

(1)

.

معاني المفردات

(2)

:

الكلمة

معناها

لا حول

أي: لا حيلة، يقال: ما للرجل حيلة ولا استطاعة إلا بالله. قال ابن مسعود: معناه: لا حول عن المعصية إلا بعصمة الله، ولا قوة على الطاعة إلا بعون الله.

كنز من الجنة

أي: أجر مدخر وثواب مخبأ لقائلها، وقيل: بل لمن اتصف بذلك، وتبرأ من حوله وقوته، وفوض أمره إلى الله تعالى، ولمن قالها عن صدق نيته وتحقيق ضميره.

التعليق:

المؤمن دائم التعظيم لله تعالى، لأنه يعلم من أسماء الله تعالى وصفاته ما يدل على الكمال والجلال والعظمة والكبرياء والقدرة والقوة، ويعلم كذلك أنه ضعيف فقير عارٍ لا يقدر على شيء، إلا ما وفقه الله تعالى إليه، فلا يستطيع جلب

(1)

أخرجه البخاري برقم (6384)، ومسلم برقم (2704).

(2)

ينظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (8/ 200).

ص: 460

منفعة ولا دفع مضرة إلا بتوفيق الله تعالى، ولذلك فإن المؤمن يكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، ليتبرأ من حوله وقوته، وغناه واستطاعته ومكانته ومعارفه وحاشيته وسلطانه، ويستمد حصول كل خير ودفع كل شر من الله تعالى وحده.

كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من نظمه ما يدل على ذلك، فقال

(1)

:

أنا الفقيرُ إلى ربِّ البرياتِ

أنا المُسيكينُ في مجموعِ حالاتي

أنا الظلومُ لنفْسي وهي ظالمتي

والخيرُ إن يأتنا من عندِه يأتي

لا أستطيعُ لنفسي جلبَ منفعةٍ

ولا عن النفسِ لي دفعُ المضرَّاتِ

وليس لي دونَه مولًى يدبرني

ولا شفيعٌ إذا حاطتْ خطيئاتي

إلا بإذنٍ من الرحمن خالقِنا

إلى الشفيع كما قد جا في الآياتِ

ولستُ أملك شيئًا دونه أبدًا

ولا شريك أنا في بعضِ ذراتِ

ولا ظهير له كي يستعينَ به

كما يكون لأربابِ الولاياتِ

والفقرُ لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبدًا

كما الغنى أبدًا وصفٌ له ذاتي

وهذه الحالُ حالُ الخلق أجمعهم

وكلُّهم عنده عبدٌ له آتي

فمن بغى مطلبًا من غير خالقِه

فهو الجهولُ الظلومُ المشركُ العاتي

والحمدُ لله ملءَ الكونِ أجمعِه

ما كان منه وما من بعدُ قد يأتي

قال النووي رحمه الله

(2)

: (قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حول ولا قوة إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة» ، قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله

(1)

ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/ 520)، والمستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية (1/ 144).

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (17/ 26)

ص: 461

تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لاصانع غيره، ولارادَّ لأمره، وأن العبد لايملك شيئًا من الأمر.

ومعنى الكنز هنا: أنه ثواب مدَّخر في الجنة، وهو ثواب نفيسٌ، كما أن الكنز أنفسُ أموالكم.

وقد حث العلماء على الإكثار من هذا الذكر وبينوا فضائله وفوائده التي وجدوها بعد ملازمتهم له، ومن هذا قو ل الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله

(1)

: وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال).

وقال ابن القيم رحمه الله

(2)

: (وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معالجة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يخاف، وركوب الأهوال، ولها أيضًا تأثير في دفع الفقر).

وقال ابن رجب رحمه الله

(3)

: (وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله، فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإن المعنى: لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/ 137).

(2)

ينظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص 77).

(3)

ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 482).

ص: 462

الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز»

(1)

.

ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيره، وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولًا. كتب الحسن رضي الله عنه إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله: لا تستعن بغير الله، فيكلك الله إليه. ومن كلام بعض السلف رحمهم الله: يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك، وعجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك).

من فوائد الحديث:

أولًا: فيه فضل قول لا حول ولا قوة إلا بالله وأنها من الوسائل التي يتوصل بها إلى الجنة.

ثانيًا: فيه إشارة إلى حاجة العبد الى ربه وافتقاره إليه، وأنه لا يقدر على فعل شيء من الخير، ولا يتحول عن شيء من الشر إلا بمعونة الله له وتوفيقه.

(1)

أخرجه مسلم برقم (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 463

‌فهرس المصادر والمراجع

أولًا: القرآن الكريم.

ثانيًا: المصادر والمراجع الأخرى:

1 -

الإبانة الكبرى، أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة العكبري، المحقق: رضا معطي، وعثمان الأثيوبي، ويوسف الوابل، والوليد بن سيف النصر، وحمد التويجري، دار الراية، الرياض.

2 -

الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، عبد الرحمن بن محمد بن خلف بن عبد الله الدوسري، مكتبة دار الأرقم، الكويت، ط 1، 1402 هـ - 1982 م.

3 -

الأحاديث المختارة، الضياء المقدسي، المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط 3، 2000 م.

4 -

أحاديث معلة ظاهرها الصحة، أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي، دار الآثار، ط 2، 1421 هـ - 2000 م، طبعة جديدة ومنقحة ومفهرسة، ومزيدة بأكثر من مائة حديث عن الطبعة السابقة.

5 -

إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام، ابن دقيق العيد، مطبعة السنة المحمدية

6 -

أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن العباس المكي الفاكهي، المحقق: د. عبد الملك عبد الله دهيش، دار خضر، بيروت، ط 2، 1414 هـ.

7 -

اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، المحقق: جسم الفهيد الدوسري، مكتبة دار الأقصى، الكويت، ط 1، 1406 هـ - 1985 م.

8 -

الآداب للبيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، تحقيق: أبو عبد الله السعيد المندوه، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، ط 1، 1408 هـ - 1988 م.

ص: 465

9 -

أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، دار مكتبة الحياة، 1986 م.

10 -

الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 3، 1409 هـ - 1989 م.

11 -

الأدب النبوي، محمد عبد العزيز بن علي الشاذلي الخَوْلي، دار المعرفة، بيروت، ط 4، الرابع، 1423 هـ.

12 -

الأذكار، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1414 هـ - 1994 م.

13 -

إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، ط 7، 1323 هـ.

14 -

إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، إشراف: زهير الشاويش، ط 2، 1405 هـ - 1985 م.

15 -

الأساس في السنة وفقهها - العقائد الإسلامية، سعيد حوّى، دار السلام، ط 2، 1412 هـ - 1992 م.

16 -

الاستذكار، ابن عبد البر، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت.

17 -

الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد البر، تحقيق: علي البجاوي، دار الجيل بيروت 1412 هـ.

18 -

الأسماء والصفات لأبي بكر البيهقي، تحقيق: عبد الله الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، 1413 هـ.

19 -

إصلاح المال، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، المحقق: محمد عبد القادر عطا، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، ط 1، 1414 هـ - 1993 م.

ص: 466

20 -

الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، المحقق: د. نجم عبد الرحمن خلف، دار البشير، عمان، ط 1، 1413 هـ - 1993 م.

21 -

الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، المحقق: أحمد عصام الكاتب، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 1، 1401 هـ.

22 -

اعتلال القلوب للخرائطي، أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن سهل بن شاكر الخرائطي السامري، تحقيق: حمدي الدمرداش، نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الرياض، ط 2، 1421 هـ 2000 م.

23 -

إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت 1411 هـ.

24 -

الإفصاح عن معاني الصحاح، يحيى بن (هُبَيْرَة بن) محمد بن هبيرة الذهلي الشيبانيّ، أبو المظفر، عون الدين، المحقق: فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الوطن، 1417 هـ.

25 -

اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، المحقق: ناصر عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب، بيروت، لبنان، ط 6، 1419 هـ - 1999 م.

26 -

الأمثال، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي، تحقيق: الدكتور عبد المجيد قطامش، دار المأمون للتراث، ط 1، 1400 هـ - 1980 م.

27 -

أهوال القبور، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، المحقق: عاطف صابر شاهين، دار الغد الجديد، المنصورة، مصر، ط 1، 1426 هـ - 2005 م.

28 -

أيام من حياة الشيخ محمد بن صالح الشاوي، إعداد الشيخ صالح بن محمد الشاوي، مخطوط لم يطبع.

ص: 467

29 -

البداية والنهاية، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق: الدكتور أحمد أبو ملحم، والدكتور علي نجيب عطوي، والأستاذ فؤاد السيد، والأستاذ مهدي ناصر الدين، والأستاذ علي عبد الساتر، مصر، القاهرة، دار الريان، ط 1، 1408 هـ - 1988 م.

30 -

بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

31 -

البدرُ التمام شرح بلوغ المرام، الحسين بن محمد بن سعيد اللاعيّ، المعروف بالمَغرِبي، المحقق: علي بن عبد الله الزبن، دار هجر، ط 1، ج 1، 2 (1414 هـ - 1994 م)، ج 3، 5 (1424 هـ - 2003 م)، ج 6 - 10 (1428 هـ - 2007 م).

32 -

البصائر والذخائر، أبي حيان التوحيدي، تحقيق الدكتورة وداد القاضي، دار صادر، بيروت، ط 4، 1419 هـ - 1999 م.

33 -

بغية الطلب في تاريخ حلب، عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي، كمال الدين ابن العديم، المحقق: د. سهيل زكار، دار الفكر.

34 -

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط 4، 1423 هـ.

35 -

البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، حققه: د محمد حجي وآخرون، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط 2، 1408 هـ - 1988 م.

36 -

تاج العروس من جواهر القاموس، أبو الفيض، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، الملقّب بمرتضى الزَّبيدي، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج وآخرين، الكويت، وزارة الإعلام، 1984 م.

37 -

تاريخ ابن معين (رواية عثمان الدارمي)، أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام بن عبد الرحمن المري بالولاء، البغدادي، المحقق: د. أحمد محمد نور سيف، دار المأمون للتراث، دمشق.

ص: 468

38 -

تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: الدكتور بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 2003 م.

39 -

تاريخ المدينة لابن شبة، عمر بن شبة (واسمه زيد) بن عبيدة بن ريطة النميري البصري، أبو زيد، حققه: فهيم محمد شلتوت، طبع على نفقة: السيد حبيب محمود أحمد، جدة، 1399 هـ.

40 -

تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، لبنان، بيروت، ط 1، 1422 هـ - 2002 م.

41 -

تاريخ مدينة دمشق، علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الشافعي، دار الفكر، ط 1، 1419 هـ.

42 -

التبصرة، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1406 هـ - 1986 م.

43 -

التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير، حققه: محَمَّد صُبْحي بن حَسَن حَلّاق أبو مصعب، مَكتَبَةُ الرُّشد، الرياض، السعودية، ط 1، 1433 هـ - 2012 م.

44 -

تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة، القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، المحقق: لجنة مختصة بإشراف نور الدين طالب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، 1433 هـ - 2012 م.

45 -

تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى، دار الكتب العلمية، بيروت.

46 -

التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، تحقيق: الدكتور الصادق بن محمد بن إبراهيم، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض، ط 1، 1425 هـ.

ص: 469

47 -

تراجم علماء الشاوي، محمد بن صالح الشاوي، مخطوط لم يطبع.

48 -

ترتيب الأمالي الخميسية للشجري، مؤلف الأمالي: يحيى المرشد بالله بن الحسين الموفق بن إسماعيل بن زيد الحسني الشجري الجرجاني، رتبها: القاضي محيي الدين محمد بن أحمد القرشي العبشمي، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1422 هـ - 2001 م.

49 -

تطريز رياض الصالحين، فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي، المحقق: د. عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الزير آل حمد، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1423 هـ - 2002 م.

50 -

تعظيم قدر الصلاة، أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي، المحقق: د. عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1406 هـ.

51 -

التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان وتمييز سقيمه من صحيحه، وشاذه من محفوظه، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، دار باوزير، جدة، السعودية، ط 1، 1424 هـ - 2003 م.

52 -

التعيين في شرح الأربعين، سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين، المحقق: أحمد حَاج محمّد عثمان، مؤسسة الريان، بيروت، لبنان، المكتَبة المكيّة، مكّة السعودية، ط 1، 1419 هـ - 1998 م.

53 -

تفسير ابن أبي حاتم = تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم، تحقيق: د. أحمد عبد الله العماري الزهراني، والدكتور حكمت بشير ياسين، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، ودار طيبة بالرياض، ودار ابن القيم بالدمام، ط 1، 1419 هـ - 1997 م.

54 -

تفسير ابن كثير = تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 2، 1420 هـ - 1999 م.

55 -

تفسير البغوي = معالم التنزيل في تفسير القرآن، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، المحقق: حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر، عثمان جمعة ضميرية، سليمان مسلم الحرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 4، 1417 هـ - 1997 م.

ص: 470

56 -

تفسير السمعاني = تفسير القرآن، أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي، تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن غنيم، دار الوطن، الرياض، السعودية، ط 1، 1418 هـ - 1997 م.

57 -

تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الإسلامية بدار هجر الدكتور عبد السند حسن يمامة، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط 1، 1422 هـ - 2001 م.

58 -

تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط 2، 1384 هـ - 1964 م.

59 -

تفسير الماوردي = النكت والعيون، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، المحقق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

60 -

تفسير عبد الرزاق، أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني، دار الكتب العلمية، دراسة وتحقيق: د. محمود محمد عبده، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، سنة 1419 هـ.

61 -

التلخيص الحبير، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: حسن عباس مؤسسة قرطبة، القاهرة 1416 هـ.

62 -

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، مصطفى بن أحمد العلوي محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387 هـ.

ص: 471

63 -

التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِيرِ، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير، تحقيق: د. محمَّد إسحاق محمَّد إبراهيم، مكتبة دار السلام، الرياض، ط 1، 1432 هـ - 2011 م.

64 -

تهذيب الكمال في أسماء الرجال، يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي، المحقق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400 هـ - 1980 م.

65 -

التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، تحقيق: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، دار النوادر، دمشق، سوريا، ط 1، 1429 هـ - 2008 م.

66 -

التوكل وسؤال الله عز وجل، مخطوط، عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي الدمشقي الحنبلي، أبو محمد، تقي الدين.

67 -

التوكل، القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف المعروف ب ابن الفراء، تحقيق: د. يوسف بن علي الطريف، دار الميمان، الرياض، السعودية، ط 1، 1435 هـ - 2014 م.

68 -

تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن حمد بن محمد بن حمد البسام، حققه: محمد صبحي بن حسن حلاق، مكتبة الصحابة، الأمارات، مكتبة التابعين، القاهرة، ط 10، 1426 هـ - 2006 م.

69 -

التيسير بشرح الجامع الصغير، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، ط 2، 1408 هـ - 1988 م.

70 -

الثقات، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي، طبع بإعانة: وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية، تحت مراقبة: الدكتور محمد عبد المعيد خان مدير دائرة المعارف العثمانية، دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند، ط 1، 1393 هـ - 1973 م.

ص: 472

71 -

الجامع (منشور كملحق بمصنف عبد الرزاق)، معمر بن أبي عمرو راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي بباكستان، وتوزيع المكتب الإسلامي ببيروت، ط 2، 1403 هـ.

72 -

جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، المحقق: شعيب الأرناؤوط، إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 7، 1422 هـ - 2001 م.

73 -

جامع المسانيد والسُّنَن الهادي لأقوم سَنَن، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، المحقق: د عبد الملك بن عبد الله الدهيش، دار خضر، بيروت، لبنان، طبع على نفقة المحقق ويطلب من مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط 2، 1419 هـ - 1998 م

74 -

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبو الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، 1414 هـ.

75 -

الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ، أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، تحقيق: محمد أبو الأجفان، عثمان بطيخ، مؤسسة الرسالة، بيروت، المكتبة العتيقة، تونس، ط 2، 1403 هـ - 1983 م.

76 -

الجامع لعلوم الإمام أحمد، الترجمة، خالد الرباط، وائل إمام، بمشاركة الباحثين بدار الفلاح، دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، الفيوم، جمهورية مصر العربية، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.

77 -

جمهرة الأمثال، أبي هلال العسكري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش، دار الفكر، ط 2، 1988 م.

78 -

جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1987 م.

79 -

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق: عامر بن علي ياسين، السعودية، الرياض، دار ابن خزيمة، ط 1، 1417 هـ - 1997 م.

ص: 473

80 -

الجوع، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت لبنان، ط 1، 1417 هـ - 1997 م

81 -

حاشية الصاوي على الشرح الصغير = بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، (الشرح الصغير هو شرح الشيخ الدردير لكتابه المسمى أقرب المسالك لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ)، أحمد بن محمد الصاوي المالكي، صححه: لجنة برئاسة الشيخ أحمد سعد علي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، 1372 هـ - 1952 م.

82 -

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصفهاني، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت 1409 هـ.

83 -

الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار الهجرة، ط 1، 1424 هـ.

84 -

الدعاء، لسليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413 هـ.

85 -

الدعوات الكبير، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، المحقق: بدر بن عبد الله البدر، غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1، للنسخة الكاملة، 2009 م.

86 -

دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، محمد علي بن محمد بن علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي، اعتنى بها: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط 4، 1425 هـ - 2004 م.

87 -

الدين الخالص، السيد محمد صديق حسن القنوجي البخاري، تحقيق: محمد سالم هاشم، دارالكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1415 هـ - 1995 م.

88 -

ديوان الشريف الرضي، لا يوجد بيانات.

89 -

ذم الدنيا، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا، مؤسسة الكتب الثقافية، ط 1، 1414 هـ - 1993 م.

ص: 474

90 -

ذم الهوى، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المحقق: مصطفى عبد الواحد، مراجعة: محمد الغزالي.

91 -

الرسالة القشيرية، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري، تحقيق: الإمام الدكتور عبد الحليم محمود، الدكتور محمود بن الشريف، دار المعارف، القاهرة

92 -

الرسالة، للشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مكتبه الحلبي، مصر 1358 هـ.

93 -

الرضا عن الله بقضائه، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، المحقق: ضياء الحسن السلفي، الدار السلفية، بومباي، ط 1، 1410 هـ.

94 -

روح البيان، إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي، المولى أبو الفداء، دار الفكر، بيروت.

95 -

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين أبو الفضل محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 هـ.

96 -

روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي، المحقق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت.

97 -

روضة المحبين ونزهة المشتاقين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1403 هـ - 1983 م.

98 -

زاد المسير في علم التفسير، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المحقق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1422 هـ.

99 -

زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، مؤسسة الرسالة، ط 8، 1405 هـ.

100 -

الزهد لابن أبي الدنيا، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، دار ابن كثير، دمشق، ط 1، 1420 هـ - 1999 م.

ص: 475

101 -

الزهد لأبي داود السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، تحقيق: أبو تميم ياسر بن ابراهيم بن محمد، أبو بلال غنيم بن عباس بن غنيم وقدم له وراجعه: فضيلة الشيخ محمد عمرو بن عبد اللطيف، دار المشكاة للنشر والتوزيع، حلوان، ط 1، 1414 هـ - 1993 م.

102 -

الزهد والرقاق، لابن المبارك، يليه الزهد لنعيم بن حماد، أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التركي ثم المرْوزي، المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت.

103 -

الزهد وصفة الزاهدين، أبو سعيد بن الأعرابي أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري الصوفي، المحقق: مجدي فتحي السيد، دار الصحابة للتراث، طنطا، ط 1، 1408 هـ

104 -

الزهد، أبو السَّرِي هَنَّاد بن السَّرِي بن مصعب بن أبي بكر بن شبر بن صعفوق بن عمرو بن زرارة بن عدس بن زيد التميمي الدارمي الكوفي، المحقق: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، ط 1، 1406 هـ.

105 -

الزهد، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، وضع حواشيه: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1420 هـ - 1999 م.

106 -

سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1.

107 -

سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الممكلة العربية السعودية، ط 1، 1412 هـ - 1992 م.

108 -

السنة، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخَلَّال البغدادي الحنبلي، المحقق: د. عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، ط 1، 1410 هـ - 1989 م.

ص: 476

109 -

السنة، أبو بكر بن أبي عاصم وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني، المحقق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1400 هـ.

110 -

سنن ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد، المحقق: شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد، محمَّد كامل قره بللي، عبد اللّطيف حرز الله، دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.

111 -

سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، المحقق: شعَيب الأرنؤوط، محَمَّد كامِل قره بللي، دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.

112 -

سنن الترمذي = الجامع الصحيح محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر ج 1، 2، ومحمد فؤاد عبد الباقي ج 3، وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف ج 4، 5، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط 2، 1395 هـ - 1975 م.

113 -

سنن الدارمي، للإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي السمرقندي، تحقيق فواز أحمد زمرلي وخالد السَّبع العليمي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م.

114 -

السنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن الحُسَين بن عليٍّ البيهقي، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية (الدكتور عبد السند حسن يمامة)، ط 1، 1432 هـ - 2011 م.

115 -

السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني النسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، إشراف: شعيب الأرناؤوط، تقديم: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2001 م.

116 -

سنن النسائي = المجتبى من السنن، للإمام المحدث أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان الخراساني النسائي، تحقيق: مكتب التراث الإسلامي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1412 هـ - 1992 م.

ص: 477

117 -

سير أعلام النبلاء، الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 9، 1413 هـ - 1993 م.

118 -

الشَّافِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير، المحقق: أحمد بن سليمان، أبي تميم يَاسر بن إبراهيم، مَكتَبةَ الرُّشْدِ، الرياض، ط 1، 1426 هـ - 2005 م.

119 -

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي، تحقيق: الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة، ط 4، 1423 هـ.

120 -

شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، المؤلف: تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المعروف بابن دقيق العيد، مؤسسة الريان، ط 6، 1424 هـ - 2003 م.

121 -

شرح الأربعين النووية، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، دار الثريا للنشر.

122 -

شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري الأزهري، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط 1، 1424 هـ - 2003 م.

123 -

شرح السنة، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت، ط 2، 1403 هـ - 1983 م.

124 -

شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، المحقق: عبد المجيد طعمة حلبي، دار المعرفة، لبنان، ط 1، لى، 1417 هـ - 1996 م

125 -

شرح النووي على مسلم = المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 هـ.

ص: 478

126 -

شرح حديث جبريل في تعليم الدين، عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر، مطبعة سفير، الرياض، السعودية، ط 1، 1424 هـ - 2003 م.

127 -

شرح رياض الصالحين، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، مدار الوطن للنشر، الرياض، ط 1، 1426 هـ.

128 -

شرح سنن ابن ماجه = الإعلام بسنته عليه السلام، مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري المصري الحكري الحنفي، أبو عبد الله، علاء الدين، المحقق: كامل عويضة، مكتبة نزار مصطفى الباز، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1419 هـ - 1999 م.

129 -

شرح سنن أبي داود، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى، المحقق: أبو المنذر خالد بن إبراهيم المصري، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1420 هـ -1999 م.

130 -

شرح سنن النسائي المسمى (ذخيرة العقبى في شرح المجتبى)، محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلَّوِي، دار المعراج الدولية للنشر (ج 1 - 5)، دار آل بروم للنشر والتوزيع (ج 6 - 40)، ط 1، ج (1 - 5) 1416 هـ - 1996 م، ج (6 - 7) 1419 هـ - 1999 م، ج (8 - 9) 1420 هـ - 1999 م، ج (10 - 12) 1419 هـ - 2000 م، ج (13 - 40) 1424 هـ - 2003 م.

131 -

شرح صحيح البخارى لابن بطال، ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، السعودية، الرياض، ط 2، 1423 هـ - 2003 م.

132 -

شَرْحُ صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِى عِيَاض = إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل، تحقيق: الدكتور يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء، مصر، ط 1، 1419 هـ - 1998 م.

133 -

شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، عبد الله بن محمد الغنيمان، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1405 هـ.

ص: 479

134 -

شرح مشكاة المصابيح = شرح الطيبي على مشكاة المصابيح = الكاشف عن حقائق السنن، شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي، د. عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الرياض، ط 1، 1417 هـ - 1997 م.

135 -

شرح مشكل الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1415 هـ، 1494 م.

136 -

شرح مصابيح السنة لابن الملك، محمَّدُ بنُ عزِّ الدِّينِ عبد اللطيف بنِ عبد العزيز بن أمين الدِّين بنِ فِرِشْتَا، الرُّوميُّ الكَرمانيّ، الحنفيُّ، المشهور بابن المَلَك، تحقيق ودراسة: لجنة مختصة من المحققين بإشراف: نور الدين طالب، إدارة الثقافة الإسلامية، ط 1، 1433 هـ - 2012 م.

137 -

شرح معاني الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي، حققه وقدم له:(محمد زهري النجار - محمد سيد جاد الحق) من علماء الأزهر الشريف، راجعه ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: د يوسف عبد الرحمن المرعشلي - الباحث بمركز خدمة السنة بالمدينة النبوية، عالم الكتب، ط 1، 1414 هـ، 1994 م

138 -

الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي، المحقق: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار الوطن، الرياض، السعودية، ط 2، 1420 هـ - 1999 م.

139 -

شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، تحقيق: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، وإشراف: مختار أحمد الندوي، صاحب الدار السلفية ببومباي، الهند، مكتبة الرشد، الرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، ط 1، 1423 هـ - 2003 م.

140 -

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1398 هـ - 1978 م.

ص: 480

141 -

الشكر، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، المحقق: بدر البدر، المكتب الإسلامي، الكويت، ط 3، 1400 هـ - 1980 م.

142 -

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1407 هـ - 1987 م.

143 -

صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي، المحقق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1414 هـ - 1993 م.

144 -

صحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري، تحقيق: الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400 هـ.

145 -

صحيح أبي داود، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1، 1423 هـ - 2002 م.

146 -

صحيح أبي داود، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، مؤسسة غراس، الكويت، ط 1، 1423 هـ - 2002 م.

147 -

صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، دار الصديق، ط 4، 1418 هـ - 1997 م.

148 -

صحيح البخاري = الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، 1422 هـ.

149 -

صحيح الترغيب والترهيب، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط 5، 1421 هـ.

ص: 481

150 -

صحيح الجامع الصغير وزيادته = الفتح الكبير، محمد ناصر الدين الألباني، إشراف زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1408 هـ - 1988 م.

151 -

صحيح مسلم = المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

152 -

صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي وشرحه مكمل إكمال الإكمال للسنوسي، مطبعة السعادة، مصر، 1328 هـ، تصوير دار الكتب العربية.

153 -

صحيح وضعيف سنن ابن ماجة، محمد ناصر الدين الألباني، مصدر برنامج منظومة التحقيقات الحديثية، المجاني، من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.

154 -

صحيح وضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، مصدر برنامج منظومة التحقيقات الحديثية، المجاني، من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.

155 -

صحيح وضعيف سنن النسائي، محمد ناصر الدين الألباني، مصدر الكتاب: برنامج منظومة التحقيقات الحديثية - المجاني - من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية

156 -

صفة الصفوة، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المحقق: أحمد بن علي، دار الحديث، القاهرة، مصر، 1421 هـ - 2000 م.

157 -

صيد الخاطر، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، بعناية: حسن المساحي سويدان، دار القلم، دمشق، ط 1.

158 -

ضعيف الترغيب والترهيب، محمد ناصر الدّين الألباني، مكتَبة المَعارف لِلنَشْرِ والتوزيْع، الرياض، السعودية، ط 1، 1421 هـ - 2000 م

159 -

ضعيف الجامع الصغير وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1410 هـ - 1990 م.

ص: 482

160 -

ضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، إشراف: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1410 هـ - 1991 م.

161 -

طرح التثريب في شرح التقريب (المقصود بالتقريب: تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد)، أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي، أكمله ابنه: أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين الكردي الرازياني ثم المصري، أبو زرعة ولي الدين، ابن العراقي، الطبعة المصرية القديمة، وصورتها دور عدة منها (دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، ودار الفكر العربي)

162 -

عشرون حديثًا من صحيح البخاري دراسة اسانيدها وشرح متونها، عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط 1، 1409 هـ.

163 -

العظمة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري، المعروف بأبِي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: رضاء الله بن محمد إدريس المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1408 هـ.

164 -

العقد الفريد، أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، تحقيق: محمد عبد القادر شاهين، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط 1، 1419 هـ - 1998 م.

165 -

عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك، صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان.

166 -

عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابي الحنفي بدر الدين العيني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

167 -

عمل اليوم والليلة، للنسائي، تحقيق: فاروق حمادة، مؤسسة الرسالة، بيروت 1406 هـ.

168 -

العين، أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.

ص: 483

169 -

عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري، تحقيق: الدكتور محمد الأسكندراني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 5، 1423 هـ - 2002 م.

170 -

غريب الحديث، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المحقق: د. عبد الله الجبوري، مطبعة العاني، بغداد، ط 1، 1397 هـ.

171 -

فتاوى اللجنة الدائمة، هيئة كبار العلماء، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الإدارة العامة للطبع، الرياض.

172 -

فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، محب الدين الخطيب، وعلق على أجزائه الثالث الأولى: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المعرفة، بيروت، 1379 هـ.

173 -

فتح الباري شرح صحيح البخاري، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، تحقيق: محمود بن شعبان بن عبد المقصود، مجدي بن عبد الخالق الشافعي، إبراهيم بن إسماعيل القاضي، السيد عزت المرسي، محمد بن عوض المنقوش، صلاح بن سالم المصراتي، علاء بن مصطفى بن همام، صبري بن عبد الخالق الشافعي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، الحقوق: مكتب تحقيق دار الحرمين - القاهرة، ط 1، 1417 هـ - 1996 م.

174 -

فتح القدير، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت ط 1، 1414 هـ.

175 -

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، مصر، ط 7، 1377 هـ - 1957 م.

176 -

فتح المنعم شرح صحيح مسلم، الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين، دار الشروق، ط 1، 1423 هـ - 2002 م.

177 -

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام، محمد بن صالح العثيمين، تحقيق وتعليق: صبحي بن محمد رمضان، أم إسراء بنت عرفة بيومي، المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، ط 1، 1427 هـ - 2006 م.

ص: 484

178 -

فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف)، شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي، مقدمة التحقيق: إياد محمد الغوج، القسم الدراسي: د. جميل بني عطا، المشرف العام على الإخراج العلمي للكتاب: د. محمد عبد الرحيم سلطان العلماء، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، ط 1، 1434 هـ - 2013 م.

179 -

الفرج بعد الشدة، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، خرجه وعلق عليه: أبو حذيفة عبيد الله بن عالية، دار الريان للتراث، مصر، ط 2، 1408 هـ - 1988 م.

180 -

الفردوس بمأثور الخطاب، شيرويه بن شهردار بن شيرو يه بن فناخسرو، أبو شجاع الديلميّ، المحقق: السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1406 هـ - 1986 م.

181 -

الفصول في السيرة، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، تحقيق: محمد العيد الخطراوي، محيي الدين مستو، مؤسسة علوم القرآن، ط 2، 1403 هـ.

182 -

فضائل الأوقات، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، المحقق: عدنان عبد الرحمن مجيد القيسي، مكتبة المنارة، مكة المكرمة، ط 12، 1410 هـ.

183 -

فوائد أبي القاسم الحنائي = الحنائيات، أبو القاسم الحسين بن محمد بن إبراهيم بن الحسين الدمشقي، الحنَّائي، تخريج: النخشبي المحقق: خالد رزق محمد جبر أبو النجا، أضواء السلف، ط 1، 1428 هـ - 2007 م.

184 -

الفوائد، أبو القاسم تمام بن محمد الرازي، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة الرشد، السعودية، الرياض، 1412 هـ.

185 -

فيض القدير في شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن نورالدين علي بن زين العابدين الحدادي المناوي القاهري الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1415 هـ - 1994 م.

ص: 485

186 -

القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، محمد نعيم العرقسُوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط 8، 1426 هـ - 2005 م.

187 -

القبور لابن أبي الدنيا، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، المحقق: طارق محمد سكلوع العمود، مكتبة الغرباء الأثرية، ط 1، 1420 هـ - 2000 م.

188 -

القضاء والقدر، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، المحقق: محمد بن عبد الله آل عامر، مكتبة العبيكان، الرياض، السعودية، ط 1، 1421 هـ - 2000 م.

189 -

القناعة والتعفف، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، ط 1، 1413 هـ - 1993 م

190 -

قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، محمد بن علي بن عطية الحارثي، أبو طالب المكي، المحقق: د. عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 2، 1426 هـ -2005 م.

191 -

قوت المغتذي على جامع الترمذي، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، إعداد الطالب: ناصر بن محمد بن حامد الغريبي، إشراف: فضيلة الأستاذ الدكتور سعدي الهاشمي، رسالة الدكتوراة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، كلية الدعوة وأصول الدين، قسم الكتاب والسنة، 1424 هـ.

192 -

الكامل في ضعفاء الرجال، أبي أحمد ابن عدي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي معوض، دار الكتب العلمية بيروت 1418 هـ.

193 -

الكبائر، تنسب لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، دار الندوة الجديدة، بيروت.

194 -

كتاب الزهد الكبير، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، تحقيق: عامر أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 3، 1996 م.

ص: 486

195 -

كتاب الفوائد (الغيلانيات)، أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدوَيْه البغدادي الشافعي البزَّاز، حققه: حلمي كامل أسعد عبد الهادي، قدم له وراجعه وعلق عليه: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، السعودية، الرياض، ط 1، 1417 هـ - 1997 م.

196 -

كشف اللثام شرح عمدة الأحكام، شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي، تحقيق: نور الدين طالب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، دار النوادر، سوريا، ط 1، 1428 هـ - 2007 م.

197 -

كشف المشكل من حديث الصحيحين، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المحقق: علي حسين البواب، دار الوطن، الرياض.

198 -

الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري، أحمد بن إسماعيل بن عثمان بن محمد الكوراني الشافعي ثم الحنفي، المحقق: الشيخ أحمد عزو عناية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 1429 هـ - 2008 م.

199 -

الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم = الكوكب الوهَّاج والرَّوض البَهَّاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، جمع وتأليف: محمد الأمين بن عبد الله الأُرَمي العَلَوي الهَرَري الشافعي، نزيل مكة المكرمة والمجاور بها، مراجعة: لجنة من العلماء برئاسة البرفسور هاشم محمد علي مهدي، المستشار برابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، دار المنهاج، دار طوق النجاة، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.

200 -

اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح، شمس الدين البِرْماوي، أبو عبد الله محمد بن عبد الدائم بن موسى النعيمي العسقلاني المصري الشافعي، تحقيق ودراسة: لجنة مختصة من المحققين بإشراف نور الدين طالب، دار النوادر، سوريا، ط 1، 1433 هـ - 2012 م.

201 -

لباب التأويل في معاني التنزيل، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي أبو الحسن، المعروف بالخازن، المحقق: تصحيح محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415 هـ.

ص: 487

202 -

اللباب في علوم الكتاب، أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1419 هـ -1998 م.

203 -

لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي الأمازيغي المصري، تحقيق: عبد الله علي الكبير، وأحمد حسب الله، وهاشم الشاذلي، القاهرة، دار الكتاب المصري، لبنان، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1989 م.

204 -

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، دار ابن حزم للطباعة والنشر، ط 1، 1424 هـ - 2004 م.

205 -

مجابو الدعوة (مطبوع ضمن مجموعة رسائل ابن أبي الدنيا)، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، تحقيق: المهندس الشيخ زياد حمدان، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، ط 1، 1413 هـ - 1993 م.

206 -

المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية صلى الله عليه وسلم من صحيح الإمام البخاري، شمس الدين محمد بن عمر بن أحمد السفيري الشافعي، تحقيق: أحمد فتحي عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1425 هـ - 2004 م.

207 -

المجالسة وجواهر العلم، أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، جمعية التربية الإسلامية، البحرين، أم الحصم، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، 1419 هـ.

208 -

مجمع الأمثال، أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت.

209 -

المجمع الثقافي، أبو ظبي، الإمارات، ط 2، 1998 م.

210 -

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، المحقق: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ - 1994 م.

ص: 488

211 -

مجمل اللغة لابن فارس، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1406 هـ - 1986 م.

212 -

مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، السعودية، 1416 هـ - 1995 م.

213 -

مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، المحقق: أبو مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني، الفاروق الحديثة، ج 3، ط 1، 1424 هـ - 2003 م، ج 4، ط 1، 1425 هـ - 2004 م، ج 1، 2، ط 2، 1424 هـ -2004 م.

214 -

المجموع شرح المهذب، مع تكملة السبكي والمطيعي، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار الفكر، طبعة كاملة معها تكملة السبكي والمطيعي.

215 -

مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله، أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء.

216 -

مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، دار الوطن، دار الثريا، 1413 هـ.

217 -

مختصر الأحكام = مستخرج الطوسي على جامع الترمذي، أَبو عَلِيٍّ الحسنُ بنُ عَليِّ بنِ نَصْرٍ الطُّوْسِيُّ، المُلَقَّبُ: بِكَرْدُوشٍ، المحقق: أنيس بن أحمد بن طاهر الأندونوسي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، السعودية، ط 1، 1415 هـ.

218 -

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، مؤلف الأصل: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، اختصره: محمد بن محمد بن عبد الكريم بن رضوان البعلي شمس الدين، ابن الموصلي، المحقق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، مصر، ط 1، 1422 هـ - 2001 م.

219 -

المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد، أبو يوسف مدحت بن حسن آل فراج المصري، مؤسسة الريان، بيروت، لبنان، ط 1، 1426 هـ - 2005 م.

ص: 489

220 -

مختصر سنن أبي داود، الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، المحقق: محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب (خرج أحاديثه وضبط نصه وعلق عليه ورقم كتبه وأحاديثه وقارن أبوابه مع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف ووضع حكم المحدث الألباني على الأحاديث بطلب من صاحب مكتبة المعارف، الرياض حيث أنه صاحب الحق في ذلك)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، السعودية، ط 1، 1431 هـ - 2010 م.

221 -

مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر، أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي، اختصره: العلامة أحمد بن علي المقريزي، حديث أكادمي، فيصل اباد، باكستان، ط 1، 1408 هـ - 1988 م.

222 -

مُخْتَصَرُ مِنْهَاجِ القَاصِدِينْ، نجم الدين، أبو العباس، أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، قدم له: الأستاذ محمد أحمد دهمان، مكتَبَةُ دَارِ البَيَانْ، دمشق، 1398 هـ - 1978 م.

223 -

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي لبنان، بيروت، دار الكتاب العربي، ط 2، 1393 هـ - 1973 م.

224 -

المدخل إلى السنن، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، اعتنى به وخرَّجَ نقُولَه: محمد عوامة، دار اليسر للنشر والتوزيع، القاهرة، جمهورية مصر العربية، دار المنهاج للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 1437 هـ - 2017 م.

225 -

مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قِزْأُوغلي بن عبد الله المعروف ب «سبط ابن الجوزي» ، تحقيق وتعليق: محمد بركات، كامل محمد الخراط، عمار ريحاوي، محمد رضوان عرقسوسي، أنور طالب، فادي المغربي، رضوان مامو، محمد معتز كريم الدين، زاهر إسحاق، محمد أنس الخن، إبراهيم الزيبق، دار الرسالة العالمية، دمشق، سوريا، ط 1، 1434 هـ - 2013 م.

226 -

مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، أبو الحسن عبيد الله بن محمد عبد السلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام الدين الرحماني المباركفوري، إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء، الجامعة السلفية، بنارس، الهند، ط 3، 1404 هـ - 1984 م.

ص: 490

227 -

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي بن سلطان محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 1، 1422 هـ - 2002 م.

228 -

مساجد البُكَيْريَّة تاريخها وأئمتها، أ. د عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الفريح، عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مكتبة العبيكان، السعودية، الرياض، ط 1، 1440 هـ - 2019 م.

229 -

المسالِك في شرح مُوَطَّأ مالك، القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي، قرأه وعلّق عليه: محمد بن الحسين السُّليماني وعائشة بنت الحسين السُّليماني، قدَّم له: يوسف القَرَضَاوي، دَار الغَرب الإسلامي، ط 1، 1428 هـ - 2007 م.

230 -

مستدرك الحاكم = المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 هـ - 1990 م.

231 -

المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، جمعه ورتبه وطبعه على نفقته: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، ط 1، 1418 هـ.

232 -

المستقصى في أمثال العرب، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1987 م.

233 -

مسند أبي يعلى، أبو يعلى أحمد بن علي بن المثُنى بن يحيى بن عيسى بن هلال التميمي، الموصلي، المحقق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1، 1404 هـ - 1984 م.

234 -

مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، المحقق: شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد، وآخرون، إشراف: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421 هـ - 2001 م.

ص: 491

235 -

مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، المحقق: أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1416 هـ - 1995 م.

236 -

مسند البزار = البحر الزخار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار، المحقق: محفوظ الرحمن زين الله، وعادل بن سعد، وصبري عبد الخالق الشافعي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 1، 2009 م.

237 -

مسند الحميدي، أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله القرشي الأسدي الحميدي المكي، تحقيق: حسن سليم أسد الدَّارَانيّ، دار السقا، دمشق، سوريا، ط 1، 1996 م.

238 -

مسند الشاميين، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1405 - 1984 م.

239 -

مسند الشهاب، أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمون القضاعي المصري، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1407 هـ - 1986 م.

240 -

مسند الموطأ للجوهري، أَبُو القَاسِمِ عبد الرَّحْمَنِ بنُ عبد اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ الغَافِقِيُّ، الجَوْهَرِيُّ المالكي، تحقيق: لطفي بن محمد الصغير، طه بن علي بُو سريح، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1997 م.

241 -

مسند أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأقواله على أبواب العلم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، المحقق: عبد المعطي قلعجي، دار الوفاء، المنصورة، ط 1، 1411 هـ - 1991 م.

242 -

مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه، محمد بن علي بن آدم بن موسى، دار المغني، الرياض، السعودية، ط 1، 1427 هـ - 2006 م.

ص: 492

243 -

مشكاة المصابيح، محمد بن عبد الله الخطيب العمري، أبو عبد الله، ولي الدين، التبريزي المحقق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1985 م.

244 -

مصابيح الجامع، محمد بن أبي بكر بن عمر بن أبي بكر بن محمد، المخزومي القرشي، بدر الدين المعروف بالدماميني، وبابن الدماميني، تحقيق: نور الدين طالب، دار النوادر، سوريا، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.

245 -

مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي، المحقق: محمد المنتقى الكشناوي، دار العربية، بيروت، ط 2، 1403 هـ.

246 -

مصنف ابن أبي شيبة = المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1416 هـ - 1995 م.

247 -

مصنف عبد الرزاق، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وملحق به الجامع، لمعمر بن راشد في آخر المجلد العاشر والحادي عشر، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ.

248 -

مطالع الأنوار على صحاح الآثار، إبراهيم بن يوسف بن أدهم الوهراني الحمزي، أبو إسحاق ابن قرقول، تحقيق: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة قطر، ط 1، 1433 هـ - 2012 م.

249 -

معالم السنن، شرح سنن أبي داود، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي، المطبعة العلمية، حلب، ط 1، 1351 هـ - 1932 م.

250 -

المعجم الأوسط، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللَّخمي الشامي الطبراني، تحقيق: طارق عوض الله، وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ - 1995 م.

251 -

المعجم الصغير = الروض الداني، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، المحقق: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، دار عمار، بيروت، ط 1، 1405 هـ - 1985 م.

ص: 493

252 -

المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللَّخمي الشامي الطبراني، مكتبة العلوم والحكمة، ط 2، 1404 هـ.

253 -

المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى، وأحمد الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد النجار، تحقيق: مجمع اللغة العربية، دار الدعوة، القاهرة، ط 3، 1405 هـ - 1985 م.

254 -

المُعْلم بفوائد مسلم، أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التَّمِيمي المازري المالكي، تحقيق: فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر، الدار التونسية للنشر، المؤسّسة الوطنية للكتاب بالجزائر، المؤسّسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدّراسات بيت الحكمة، ط 2، 1988 م.

255 -

المعين على تفهم الأربعين، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، دراسة وتحقيق: الدكتور دغش بن شبيب العجمي، مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع، حولي، الكويت، ط 1، 1433 هـ - 2012 م.

256 -

المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار (مطبوع بهامش إحياء علوم الدين)، أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط 1، 1426 هـ - 2005 م.

257 -

المغني في الضعفاء، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، المحقق: الدكتور نور الدين عتر.

258 -

مفاتيح العلوم، محمد بن أحمد بن يوسف، أبو عبد الله، الكاتب البلخي الخوارزمي، المحقق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، ط 2.

259 -

المفاتيح في شرح المصابيح، الحسين بن محمود بن الحسن، مظهر الدين الزَّيْدَانيُّ الكوفي الضَّريرُ الشِّيرازيُّ الحَنَفيُّ المشهورُ بالمُظْهِري، تحقيق ودراسة: لجنة مختصة من المحققين بإشراف: نور الدين طالب، دار النوادر، وهو من إصدارات إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف الكويتية، ط 1، 1433 هـ - 2012 م.

260 -

مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية العلم والإرادة، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، المحقق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد وفق المنهج المعتمد من بكر بن عبد الله أبو زيد، راجعه: مُحَمَّدْ أَجْمَل الإصْلاحِي، سليمان بن عبد الله العمير، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1432 هـ.

ص: 494

261 -

مكارم الأخلاق ومعاليها ومحمود طرائقها، أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن سهل بن شاكر الخرائطي السامري، تحقيق: أيمن عبد الجابر البحيري، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط 1، 1419 هـ - 1999 م.

262 -

المنامات، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، المحقق: عبد القادر أحمد عطا، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1413 هـ - 1993 م.

263 -

المنتخب من كتاب الزهد والرقائق، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي، المحقق: د. عامر حسن صبري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان، ط 1، 1420 هـ - 2000 م.

264 -

المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المحقق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1412 هـ - 1992 م

265 -

المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1332 هـ.

266 -

الموطأ، الإمام مالك بن أنس الأصبحي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الثقافية، بيروت، 1408 هـ - 1988 م.

267 -

الموطأ، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، المحقق: محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، أبو ظبي، الإمارات، ط 1، 1425 هـ - 2004 م.

268 -

الميسر في شرح مصابيح السنة، فضل الله بن حسن بن حسين بن يوسف أبو عبد الله، شهاب الدين التُّورِبِشْتِي، المحقق: د. عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط 2، 1429 هـ - 2008 م.

269 -

نثر الدر في المحاضرات، أبي سعد منصور الآبي، تحقيق: خالد بن عبد الغني محفوظ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 11424 هـ - 2004 م.

ص: 495

270 -

النفقة على العيال، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، المحقق: د نجم عبد الرحمن خلف، دار ابن القيم، السعودية، الدمام، ط 1، 1410 هـ - 1990 م

271 -

النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى، محمود محمد الطناح، المكتبة العلمية، بيروت، 1399 هـ - 1979 م.

272 -

نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، دار الحديث، مصر، ط 1، 1413 هـ - 1993 م

273 -

الوابل الصيب من الكلم الطيب، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: محمد عبد الرحمن عوض، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1405 هـ - 1985 م.

274 -

الوسيط في تفسير القرآن المجيد، أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الدكتور أحمد محمد صيرة، الدكتور أحمد عبد الغني الجمل، الدكتور عبد الرحمن عويس، قدمه وقرظه: الأستاذ الدكتور عبد الحي الفرماوي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1415 هـ - 1994 م

275 -

الوقوف والترجل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخَلَّال البغدادي الحنبلي، المحقق: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، ط 1، 1415 هـ - 1994 م.

276 -

اليقين لابن أبي الدنيا، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، تحقيق: ياسين محمد السورس، دار البشائر الإسلامية.

ص: 496

ثالثًا: مصادر الشبكة العنكبوتية:

1 -

الموقع الرسمي لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله على الإنترنت، من خلال الرابط التالي:

https://binbaz.org.sa

2 -

الموقع الرسمي للشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

https://binothaimeen.net

3 -

لقاء الباب المفتوح، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، لقاءات كان يعقدها الشيخ بمنزله كل خميس، بدأت في أواخر شوال 1412 هـ، وانتهت في الخميس 14 صفر عام 1421 هـ، مصدر دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.

https://www.islamweb.net

4 -

موقع: الإسلام سؤال وجواب:

https://islamqa.info/ar

ص: 497