المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قرأ الجمهور: «قِتَالٍ» بالجّرِّ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنه خفضٌ على - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٤

[ابن عادل]

فهرس الكتاب

الفصل: قرأ الجمهور: «قِتَالٍ» بالجّرِّ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنه خفضٌ على

قرأ الجمهور: «قِتَالٍ» بالجّرِّ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ:

أحدها: أنه خفضٌ على البدلش من «الشَّهْرِ» بدلِ الاشتمالِ؛ إذ القتالُ واقعٌ ف يه، فهو مشتملٌ عليه.

والثاني: أنه خفضٌ على التَّكرير، قال أبو البقاء:«يريدُ أنَّ التقديرَ: عَنْ قِتَالٍ فيه» . وهو معنى قول الفراء إِلَاّ أَنَّهُ قال: هُوَ مَخْفُوضٌ ب «عَنْ» مُضْمرَةً. وهذا ضعيفٌ جدّاً؛ لأنَّ حرف الجرَّ لا يبقى عملهُ بعد حذفه في الاختيار. وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين، والكسائي، والفراءِ؛ لأنَّ البدل عند جمهور البصريين على نيَّة تكرار العامل، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي.

وقوله: لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عمله بعد حذفه إِنْ أراد في غير البدل، فمُسَلَّمٌ، وإن أراد في البدلِ، فممنوعٌ، وهذا هو الذي عناه الكسائي.

الثالث: قال أبو عبيدة: «إِنه خفضٌ على الجِوَارِ» .

قال أبو البقاء: «وهو أَبْعَدُ مِنْ قولهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأنَّ الجوار من

ص: 3

مواضع الضَّرورة أو الشذوذِ، فلا يُحْمَلُ عليه ما وجدت عنه مَندُوحةٌ» وقال ابن عطية:«هُوَ خَطَأٌ» . قال أبو حيَّان إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجوار المصطلح عليه فهو خَطَأٌ. وجهةث الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أَنْ يكون الشيءُ تابعاً لمرفوع، أو منصوب، من حيثُ اللفظُ والمعنى، فيُعدل به عن تَبَعيَّته لمتبوعه لفظاً، ويُخْفَضَ لمجاورته لمخفوض؛ كقولهم:«هذا حُجْرُ ضَبِّ خَرِبٍ» ، وكان مِنْ حقِّه الرفع؛ لأنه مِنْ صفاتِ الجُحْر، لا من صفاتِ الضبِّ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضعه إِنْ شاءس اللهُ تعالى، و «قِتَالٍ» هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ، أو منصوبٍ، وجاوز مَخفوضاً فخُفِض.

وإن كان عنى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فخفضُه بكونه جاور مخفوضاً، أي: فصار تابعاً له، لم يكنْ خطأً، إِلَاّ أنه أغمضَ في عبارته؛ فالتبس بالمصطلح عليه.

وقرأ ابن عباس والأَعمش: «عَنْ قِتَالٍ» بإظهارِ «عَنْ» وهي في مُصْحَف عبد الله كذلك. وقرأ عكرمة: «قتْلٍ فِيهِ، قُلْ قَتْلٌ فِيهِ» بغير ألف.

وقُرئ شاذّاً: «قِتَالٌ فيه» بالرفع وفيه وجهان:

أحدهما: أنه مبتدأٌ، والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداءُ به وهو نكرةٌ؛ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهام، تقديره: أَقِتَالٌ فيه.

والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعلٍ تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو فاعلٌ به. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه بأن يكونَ خبرَ محذوفٍ، فجاءَ رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إِمَّا مبتدأٌ، وإِمَّا فاعلٌ، وإمَّا خبرُ مبتدأ. قالوا: ويظهرُ هذا مِنْ حَيثُ إِنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا، وإنَّما كان سؤالهم: هل يجوزُ القتالُ فيه أم لا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين، فهذه الجملةُ المُستفهمُ عنها في محلِّ جرٍّ؛ بدلاً من الشهرِ الحرامِ، لأنَّ «سَأَلَ» قد أخذ مفعوليه فلا تكونُ هي المفعول، وإن كانت محَطَّ السؤال.

وقوله: «فِيهِ» على قراءةِ خفضِ «قِتَالٍ» فيه وجهان:

أحدهما: أنه في محلِّ خفضٍ؛ لأنه صفةٌ ل «قِتَالٍ» .

ص: 4

والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ؛ لتعلُّقه بقتال، لكونه مصدراً.

وقال أبو البقاء: كما يتعلَّقُ ب «قِتَالٍ» ولا حاجة إلى هذا التشبيهِ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعل.

فصل

والضميرُ في «يَسْأَلُونك» قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - كانُوا مسلمين، فما قبل هذه الآية {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} [البقرة: 214] {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] حكاية عن المؤمنين، وما بعدها كذلك وهو قوله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 220] فوجب أن تكون هذه كذلك.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - ما سألوه إلَاّ عن ثلاث عشرة مسألةً حتى قُبض، كلهن في القُرآنِ، ومنه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ولكن الصدّ عن سبيل اللهِ، وعن المسجدِ الحرام، والكُفرِ به، أكبرُ من هذا القتالِ. {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فبيَّن تعالى أَنَّ غرضهم من هذا السؤال، أَنْ يقاتِلُوا المسلمين، ثم أنزل الله تعالى:{الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فصرَّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائزٌ والألف واللامُ في «الشَّهْرِ الحرام» قيل: للعهد، وهو رجبٌ، وقيل: للجنسِ، فيعمُّ جميع الأشهرِ الُحُرُمِ.

قوله: «قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، محلُّها النصبُ بقُلْ والمعنى: القتال في الشهر الحرام وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ:

إمَّا الوصفُ، إذا جعلنا قوله:«فيه» صفةً له.

وإمَّ التخصيصُ بالعمل، إذا جعلناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيره.

فإِنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة، وأُعيدت من غير دخول ألفٍ ولام عليها، وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى:{كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15 - 16]

ص: 5

لإِنَّه لو لم يكن كذلك، كان المذكور الثاني غير الأول، وهذا غيرث واضحٍ؛ لإِنَّ الألف كقوله:{فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5 - 6] .

فقال أبو البقاء: «ليسَ المرادُ تعظيم القتالِ المذكور المسؤولِ عنه، حتى يُعادَ بالألف واللامِ، بل المراد تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا» قِتَالٌ «الثاني غيرُ الأولِ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ السَّابق المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً، بل إنما تفيدُ العهدَ في الاسمِ السابقِ.

وأَحسنُ منه قولُ بعضهم: إنَّ الثَّاني غير الأولِ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبد الله جحش، وكان لنُصرة الإِسلامِ وخُذلان الكفرِ؛ فليس من الكبائرِ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غير هذا، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ، ونصرةُ الكُفْرِ، فاختير التنكير في هذين اللفظين؛ لهذه الدقيقة، ولو جِيءَ بهما معرفتين، أو بأحدهما مُعرَّفاً، لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ.

فصل

روى أكثرُ المفسرين عن ابن عباسٍ: سبب نزولِ هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - بعث عبد الله بن جحش الأَسديّ، وهو ابن عمَّته قبل قتال بدرٍ بشهرين على رأس سبعة شهراً من الهجرة وبعث معه ثمانية رهطٍ، من المهاجرين؛ سعد بن أبي وقَّاص الزهري وعُكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان السَّلَمي، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل ابن بيضاء، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله الحنظليّ، وخالد بن بُكَير، وكتب معهم لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وعهداً، ودفعه إليه، وقال: سِر على اسم الله، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلتَ، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثُمَّ امْضِ إلى ما أمرتُك، ولا تستكرِهنَّ أَحَداً مِنْ أصحابك على السَّير معك، فسار عبد الله يومين، ثم نزل وفتح الكتاب، وإذا فيه «بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم» أمَّا بعد: فسر على بركة اللهِ بمنْ معك مِنْ أصحابك؛ حتَّى تنزل بطن نخلة، فترصُد بها عير قريش؛ لعلك تأتينا منهم بخبرٍ، فلمَّا نظر في الكتاب، قال سَمْعاً وطاعة، ثم قال لأَصحابه ذلك، وقال: إنَّهُ نَهَاني أَن أَستكره أحداً منكم؛ فمن كان يريد الشهادة، فلينطلق معي، ومنْ كرِه، فليَرْجِع، ثم مَضَى، ومَضَى معه أصحابه، لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ، حتى كان بمعدن فوق الفُرع يقال له نجران، أضلَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى ببقيةِ أصحابِه، حتى نزل «ببطنِ نَخْلَةَ» بين «مَكَّةَ» و «الطائف» فبينما هم

ص: 6

كذلك، مرت عيرُ لقريشٍ تحملُ زبيباً، وأدماً، وتجارة مِنْ تجارات الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونوفلُ بن عبد الله المخزوميَّان، فلما رأوْا أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم َ - هابوهم، فقال عبد الله بن جحش إنَّ القومَ قد ذُعِروا منكم، فاحلققُوا رأس رجُلٍ منكم؛ وليتعرض لهم، فحلقُوا رأس عُكَاشة، ثم أَشرفوا عليهم؛ فقالوا: قومٌ عمَّارٌ، لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة. فكانوا يرون أنَّه من جمادى، وهو مِنْ رجبٍ فتشاور القومُ، وقالوا: لئن تركتموهم الليلة؛ ليدخُلنَّ الحرمَ، فليمنعُنّ به منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقفة القومِ، فَرَمَى وقادُ بن عبد الله السَّهمي عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ، فقتله، فكان أوَّلَ قتيلٍ من المشركين، واستأْسَرَ الحكم وعثمان، فكانا أَوَّلَ أَسيرين في الإسلام، وأفلت نوفلٌ فأعجزهم، واستاقَ المؤمنين العير والأَسيرين، حتَّى قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - في المدينةِ، فقالت قريشٌ: لقد استَحَلَّ محمدٌ الشهرَ الحرامَ؛ فسفك فيه الدِّماءَ، وأخذ الأموال فما شَهْر يأْمَنُ فيه الخَائِنُ، وغير ذلك، فقال أهلُ «مكَّةَ» مَنْ كان بها من المسلمين وقالوا: يا معشرَ الصَّبَأة، استحللتُم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، فقال عبد الله بن جحش: يا رسول اللهِ: إنَّا قتلنا ابن الحضرمين، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري: أفي رجبٍ أصبناه، أم في جمادى.

فوقَّف رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم َ - العير، والأسَارى؛ وأبى أن يأخُذ شيئاً من ذلك، فعظم ذلك على أصحاب السريَّة، وظنُّوا أن قد هلكُوا، وسُقِط في أيديهم، وأكثر الناس في ذلك، فأنزل اللهُ هذه الآية، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - العير، فعزل منه الخمس، فكان أولَ خُمُسٍ في الإسلام، وقسَّمَ الباقي بين أصحاب السَّريَّةِ، وكان أول غنيمةٍ في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهما فقال: بل نبقيهما حتَّى يقدم سعدٌ وعتبة، وإنْ لم يَقْدُمَا، قتلناهُما بهما، فلمَّا قدما؛ فاداهما، فأمَّا الحكم بن كيسان، فأسلَمَ، وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - بالمدينةِ، فقُتِل يوم بئر معونة شهيداً، وأَمَّا عثمان بن عبد الله، فرجع إلى مكة؛ فمات بها كافِراً، وأَمَّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزابِ؛ ليدخل

ص: 7

الخندقَ، فوقع في الخندقِ مع فرسه فتحطّما جميعاً فقتله اللهُ، فطلب المشركون جيفتهُ بالثمن؛ فقال رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم َ - خذوه فإِنَّهُ خبيثُ الجيفةِ، خبيثُ الدِّيَةِ.

فصل

اتفق الجمهورُ: على أَنَّ هذه الآية تدلُّ على حُرمَةِ القتال في الشهر الحرام، ثُمَّ اختلفُوا: هل ذلك الحكمُ باقٍ أو نُسِخ؟

فقال ابن جريج: حلف لي عَطَاءٌ باللهِ أَنَّهُ لا يحلُّ للناس الغزو في الحرم، ولا في الشَّهرِ الحرامِ، إِلَاّ على سبيل الدَّفع وروى جابر قال: لم يكن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم َ - يغزو في الشهر الحرام إِلَاّ أن يُغْزَى.

وسُئِلَ سعيد بن المسيب: هل يجوزُ للمسلمين أن يقاتلوا الكُفَّار في الشهر الحرام؟ قال: نعم.

قال أبو عبيد: والناس بالثغُور اليومَ جميعاً يرون الغزو على هذا القول مُبَاحاً في الشهور كُلِّها ولم أر أحداً من علماء «الشام» ، و «العراق» ينكرُه عليهم، وكذلك أحسب قول أهْلِ الحجاز.

ص: 8

وحجته قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهذا ناسخةٌ لتحريم القتال في الشهور الحرام.

قال ابن الخطيب: والذي عندي أن قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} نكرة في سياق الإِثبات، فيتناول فرداً واحداً، ولا يتناول كُلَّ الأَفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مُطلقاً في الشهر الحرام، ولا حاجة إلى النسخ فيه.

قوله: «وَصَدٌّ» فيه وجهان:

أحدهما: أنه مبتدأ وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرُ عن الجميع، قاله الزَّجَّاج، ويكون المعنى أَنَّ القتال الذي سألتُم عنه، وإن كان كبيراً، إلَاّ أن هذه الأشياء أكبرُ منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنَّ عذره ظاهرٌ؛ لأَنَّهُ كان يجوزُ أَنْ يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة، ونظيره في المعنى قوله تعالى لبني إسرائيل {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] .

وجاز الابتداءُ ب «صَدّ» لأحد ثلاثة أوجهٍ:

إِمَّا لتخصيصه بالوصفِ بقوله: «عَنْ سَبِيلِ الله» .

وإِمَّا لتعلُّقِه به.

وإمَّا لكونه معطوفاً والعطفُ من المسوِّغات.

والثاني: أنه عطفٌ على «كبيرٌ» أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ، قاله الفراء.

قال ابن عطية: وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله: «وكفرٌ به» عطفٌ أيضاً على «كبيرٌ» ويجيءُ من ذلك أنَّ إخراج أهل المسجد منه أكبرُ من الكفرِ، وهو بَيِّنٌ فسادُه.

وهذا الذي رَدَّ به قول الفراء، غير لازم له؛ إذ له أَنْ يقولَ: إِنَّ قولَه «وكفرٌ به» مُبْتَدَأٌ، وما بعده عَطْفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عنهما، أي: مجموعُ الأَمرين أكبرُ من القتال والصدِّ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ في الشهرِ الحرامِ.

ص: 9

وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعوله؛ إذ التقدير: وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ.

و «كفرٌ» فيه وجهان:

أحدهما: أنه عطفٌ [على «صَدّ» على قولنا بأن «صَدًّا» مُبتدأ لا على] قولنا: بأنه خبرٌ ثانٍ عن «قِتالٍ» ، لأنه يلزَمُ منه أن يكون القتالُ في الشهرِ الحرامِ كُفْراً، وليس كذلك، إِلَاّ أَنْ يرادَ بقتال الثاني ما فيه هَدمُ الإِسلامِ، وتقويةث الكفرِ؛ كما تقَدَّم ذلك عن بعضهم، فيكونُ كفراً، فيصِحُّ عطفه عليه مُطلقاً، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط، أي: وكُفْرُكم.

والثاني: أن يكون مبتدأٌ، كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه. والضميرُ في «به» فيه وجهان:

أحدهما: أنه يعودُ على «سبيل» لأنه المحدَّثُ عنه.

والثاني: أنه يعودُ على اللهِ، والأولُ أظهرُ. و «به» فيه وجهان، أعني كونه صفةً لكفر، أو متعلقاً به، كما تقدَّم في «فيه» .

قوله: «والمسجدِ» مجروراً، وقرئ شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ.

أحدها: وهو قولُ المبرد وتبعه الزمخشري - وقال ابن عطية «وهو الصحيح» - أنه عطفٌ على «سبيلِ الله» أَي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجدِ.

وَرُدَّ هذا بأنَّه يؤدِّي إلى الفصل بين أبعاض الصِّلةِ بأجنبيّ تقريرُه أنَّ «صَدّاً» مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ، والفعل، و «أَنْ» موصولة، وقد جَعَلْتُم «وَالْمَسْجِدِ» عطفاً على «سَبِيلِ» ، فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبيّ، وهو «وَكُفْرٌ بِهِ» . ومعنى كونه أجنبياً أنَّهُ لا تعلُّق له بالصِّلةِ. فإنْ قيل: يُتَوَسَّعُ في الظَّرفِ وحرفِ الجّرّ ما لم يتوسع في غيرهما.

قيل: إنَّمَا قيل بذلك في التَّقديم، لا في الفَصْل.

الثاني: أَنَّه عطفٌ على الهاءِ في «بِهِ» ، أي: وكفرٌ به، وبالمسجد، وهذا يتخرَّجُ على قولِ الكُوفيّين. وأمَّا البصريُّون؛ فيشترطُون في العطفِ على الضَّمير المجرور إعادة الخافض إِلَاّ في ضرورة، فهذا التَّخريجُ عندهم فاسِدٌ ولا بدَّ من التّعرُّض لهذه المسألة، وما هو الصَّحيحُ فيها؟ فنقول وبالله التوفيق: اختلف النُّحاةُ في العطفِ على الضَّمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهب:

ص: 10

أحدها - وهو مذهبُ البصريِّين -: وجوبُ إعادة الجارِّ إِلَاّ في ضرورةٍ.

الثاني: أَنَّهُ يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مُطْلِقاً، وهو مذهبُ الكُوفيين، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشَّلوبين.

والثالث: التَّفصيلُ، وهو إِنْ أُكِّد الضَّميرُ؛ جاز العطفُ من غير إعادةِ الخافض نحو:«مَرَرْتُ بِكَ نفسِك، وزيدٍ» ، وَإِلاّ فلا يجوز إلا ضرورةً، وهو قول الجَرميّ، والَّذي ينبغي جوازه مُطلقاً لكثرةِ السَّماع الوارد به، وضعفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس.

أَمَّا السَّماعُ: ففي النَّثْرِ كقولهم: «مَا فِيهَا غَيْرُه، وفرسِهِ» بجرِّ «فَرَسِهِ» عطفاً على الهاءِ في «غَيْره» . وقوله: {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ كما سيأتي إن شاءَ اللهُ، ولولا أَنَّ هؤلاء القرَّاء، رووا هذه اللغة، لكان مقبولاً بالاتِّفاق، فإذا قرءُوا بها في كتاب اللهِ تعالى كان أَولَى بالقبُول.

ومنه: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] ف «مَنْ» عطف على «لَكْم» في قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الحجر: 20] . وقوله: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] عطف على: «فيهنّ» ، وفيما يُتلى عَلَيْكُم. أما النَّظم فكثيرٌ جدّاً، فمنه قولُ العبَّاس بن مرداس:[الوافر]

1054 -

أَكُرُّ عَلَى الكَتِيبَةِ لَا أُبَالِي

أَفِيهَا كَانَ حَتْفي أَمْ سِوَاهَا

فَ «سِوَاهَا» عطفٌ على «فِيهَا» ؛ وقولُ الآخر: [الطويل]

1055 -

تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا

ومَا بَيْنَهَا وَالأَرْضِ غَوْطٌ نَفَانِفُ

وقول الآخر: [الكامل]

1056 -

هَلَاّ سَأَلْتَ بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ

وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ

وقول الآخر: [الطويل]

1057 -

بِنَا أَبَداً لَا غَيْرِنَا تُدْرَكُ المُنَى

وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخُطُوبِ الفَوَادِحِ

ص: 11

وقول الآخر: [البسيط]

1058 -

لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ

مِنَ الحِمَامِ عِدَانَا شَرَّ مَوْرودِ

وقال الآخر: [الطويل]

1059 -

إِذَا أَوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ

فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا

وقول الآخر: [البسيط]

1060 -

إِذَا بِنَا بَلْ أُنَيْسَانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ

ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةٌ مِمَّنْ يُعَادِيهَا

وقول الآخر: [الرجز]

1061 -

آبَكَ أَيِّهْ بِيَ أَوْ مُصَدَّرِ

مِنْ حُمُرِ الْجِلَّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ

وأنشد سيبويه: [البسيط]

1062 -

فَاليَوْم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتشْتِمُنَا

فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ

فكثرةُ ورودِ هذا، وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ، فجاءوا تارةً بالواو، وأخرى ب «لا» ، وأخرى ب «أَمْ» ، وأخرى ب «بَلْ» دليلٌ على جوازِه، وأمَّا ضعفُ الدَّليل: فهو أَنَّهم منعُوا ذلك؛ لأنَّ الضَّمير كالتَّنوين، فكما لا يُعطف على التَّنوين لا يعطفُ عليه إلَاّ بإعادة الجارّ.

ووجه ضعفه أَنَّهُ كان بمقتضى هذه العِلَّةِ ألَاّ يُعْطَفَ على الضَّمير مطلقاً، أعْنِي سواءٌ كان مرفوع الموضعِ، أو منصوبه، أو مجروره، وسواءً أُعيدَ معه الخافِضُ، أم لا كالتَّنوين.

وأَمَّا القياسُ، فلأنه تابعٌ من التَّوابع الخمسة، فكما يُؤكَّدُ الضَّميرُ المجرورث، ويُبْدَلُ منه، فكذلك يُعطفُ عليه.

ص: 12

الثالث: أَنْ يكون معطوفاً على {الشهر الحرام} ثم بعد هذا طريقان:

ص: 13

أحدهما: أنّ قوله: {قِتَالٌ فِيهِ} مبتدأ، وقوله {كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ}

ص: 14

خبر بعد خبر، والتَّقدير: إن قتالاً فيه محكُوم عليه بأنه كبيرٌ، وبأنه صدٌّ عن سبيل اللهِ، وبأنَّهُ كُفرٌ بالله.

والطريق الثانِي: أَنْ يكون قوله: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملة مبتدأ وخبر وقوله: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} ، فهو مرفوع بالابتداء. وكذا قوله {وكُفْرٌ بِهِ} والخبر محذوفٌ لدلالة ما

ص: 15

تقدَّم عليه، والتَّقدير: قل: قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ كبير وكُفرٌ به كبير ونظيره: زَيْدٌ منطلِقٌ وعمرو، وتقديره: وعمرو منطلق. وطعن البصريُّون في هذا فقالوا: أَمَّا قولكم تقدير الآية: يسألونك عن قتالٍ في الشَّهر الحرام وفي المسجد الحرام؛ فهو ضعيف؛ لأَنَّ السُّؤال كان واقعاً عن القتال في الشَّهر الحرام، لا عن القِتَال في المسجدِ الحرامِ، وطعنوا في الوجه الأوَّل بأنَّه يقتضي أَنْ يكون القتال في الشَّهر الحرام كفراً بالله، وهو خطأ بالإجماع.

الثاني: بأنَّه قال بعد ذلك {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} أي: أكبر مِنْ كُلّ ما تقدَّم، فيلزم أَنْ يكون إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر عند اللهِ من الكُفر، وهو خطأٌ بالإجماع.

قال ابن الخطيب: وللفرَّاءِ أن يجيب عن الأَوَّل بأنَّهُ: من الذي أخبركم بأَنَّه ما وقع السُّؤالُ عن القتال في المسجد الحرام، بل الظَّاهر أَنَّهُ وقع؛ لأَنَّ القوم كانُوا مستعظمين للقتال في الشَّهر الحرام في البلد الحرام، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم، فالظَّاهر أَنَّهم جمعوهما في السُّؤال، وقولهم: على الوجه الأوَّل يلزم أَنْ يكون قتال في الشَّهر الحرام وكُفر، فنحن نقول به لأَنَّ النَّكرة في سياق الإِثبات لا تفيد العموم.

وعندنا أَنَّ قتالاً واحداً في الشهر الحرام كُفرٌ.

وقولهم على الثَّاني: يلزم أَن يكون إخراجُ أهلِ المسجدِ منه أكبر من الكفر.

قلنا: المُراد أهل المسجد: وهم الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وإخراج الرَّسُول من المسجد على سبيل الإذلال لا شكّ أنه كُفرٌ، وهو مع كونه كُفراً فهو ظُلْمٌ لأَنَّهُ إيذاء للإنسان مِنْ غير جرمِ سابقٍ، ولا شكّ أن الشيء الَّذشي يكون ظُلماً وكُفراً أكبر، وأقبح عند اللهِ ممَّا يكون كفراً، وحده، ولما ذكر أبو البقاء هذا القول - وهو أن يكون معطوفاً على الشَّهر الحرام - أي يسألُونك عن الشَّهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام.

قال أبو البقاء: وضعف هذا بأنَّ القومَ لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشُكُّوا في تعظيمه، وإنَّما سألوا عن القتال في الشَّهر الحرام.

والثاني: القتال في المسجد الحرام؛ لأَنَّهُم لم يَسْأَلوا عن ذات الشَّهر ولا عن ذات المسجد، إِنما سألوا عن القتالِ فيهما؛ فأُجيبوا بأنَّ القتال في الشَّهر الحرامِ كبيرٌ، وصَدٌّ عن سبيلِ الله تعالى، فيكون [قتال] أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، وأُجيبوا بأنَّ القتال في المسجد الحرامِ وإِخراجَ أهله أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ، فعطفُه على الشَّهر الحَرام متكلَّفٌ جدّاً يبعُدُ عنه نظمُ القُرآنِ، والتركِيبُ الفصيحُ.

الرابع: أَنْ يتعلَّق بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديره: ويصُدُّون عن المسجد، كما قال تعالى:{هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] قاله أبو

ص: 16

البقاء، وجعله جيّداً، وهذا غيرُ جيّد؛ لأنه يلزمُ منه حذفُ حرفِ الجَرّ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، على خلافٍ في بعضها، ونصَّ النَّحويُّون على أنَّه ضرورةٌ؛ كقوله:[الطويل:]

1063 -

إِذَا قِيلَ: أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ

أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ

أي: إلى كُليبٍ فهذه أربعةُ أَوجه، أجودها الثاني.

ونقل بعضهم أَنَّ الواو في المسجد هي واو القسم فيكون مجروراً.

وأمَّا رفعه فوجهُه أَنَّهُ عطفٌ على «وَكُفْرٌ» على حذف مُضافٍ تقديره «وَكُفْرٌ بالمَسْجِدِ» فحُذِفَت الباءُ، وأُضِيفَ «كُفْرٌ» إلى المسجد، ثمَّ حُذِفَ المضافُ وأُقيم المُضَافُ إليه مُقَامَهُ، ولا يَخْفَى ما فيه من التَّكَلُّفِ.

فصل

وفي الصَّدِّ عن سبيل اللهِ وجوهٌ:

أحدها: أَنَّهُ صدٌّ عن الإِيمان باللهِ ورسوله.

وثانيها: صدُّ المسلمين عن الهجرة للرَّسُول عليه السلام.

وثالثها: صدُّ المسلمين عام الحُدَيبية عن العُمرَة.

ولقائل أن يقول: دلّت الرَّوايات على أَنَّ هذه الآية، نزلت قبل غزوة بدرٍ باعثاً للرَّسُول مستحقّاً للعبادة قادراً على البعث، وأما «المَسْجِد الحَرَامِ» فإِنْ عطفناه على الضَّمير في «بِهِ» ؛ كان المعنى: وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منعُ النَّاسِ عن الصَّلَاةِ، والطَّواف به، فقد كفروا بما هو السَّبَبُ في فضيلته الَّتي بها يتميَّزُ سائر البقاع.

وإن عطفناه على «سَبِيلِ اللهِ» كان المعنى: وصدّ عن المسجد الحرام، وذلك لأَنَّهم صَدُّوا الطَّائفين، والعاكِفِين، والرُّكَّعِ السُّجُود عن المَسْجِدِ الحَرَامِ.

قوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} عطفٌ على «كُفرٌ» ، أو «صَدٌّ» على حسب الخلافِ المتقدِّم، وهو مصدرٌ حُذِف فاعله، وأُضيفَ إلى مفعوله، تقديرُه:«وَإِخْرَاجُكم أَهْلَهُ» .

والضَّميرُ في «أَهله» و «مِنْهُ» عائدٌ على المَسْجِد وقيل: الضَّمير في «مِنْهُ» عائِدٌ على سبيل الله، والأَوَّل أظهرُ و «منه» متعلِّقٌ بالمصدر.

قوله: «أَكْبَرُ» فيه وجهان:

أحدهما: أنه خبرٌ عن الثلاثة، أعني: صَدّاً وكفراً، وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان:

ص: 17

أحدهما: أن يكون خبراً عن المجموع، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونض خبراً عنها باعتبار كلِّ واحدٍ، كما تقول:«زيدٌ وبكرٌ وعمرو أفضلُ من خالدٍ» ، أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفراده أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظَّاهِرُ. وإِنّما أُفْرِدَ الخبر؛ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشَّهر الحرامِ. وإنَّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى.

الثاني من الوجهين في «أَكْبر» : أن يكونَ خبراً عن الأَخير، ويكونُ خبر «وَصَدّ» و «كُفْر» محذوفاً لدلالة خبر الثَّالث عليه تقديره: وصدّ وكُفر أكبر. قال أبو البقاء في هذا الوجه: ويجب أَنْ يكون المحذوفُ على هذا أَكْبَر لا «كبير» كما قدَّره بعضهم؛ لأَنَّ ذلك يوجب أن يكُون إخراج أهل المسجد منه أكبرَ من الكُفر، وليس كذلك. وفيما قاله أبو البقاء نظر؛ لأَنَّ هذا القائل يقولُ: حُذِف خبر «وَصَدّ» و «كُفْر» لدلالة خبر «قِتَالٍ» عليه، أي: القتالُ في الشَّهرِ الحرام كبيرٌ، والصَّدّ والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشَّهْرِ الحرام. ولا يلزمُ من ذلك أَن يكون أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتّى يلزمَ ما قاله من المحذور.

و «عِنْدَ اللهِ» متعلِّق ب «أَكْبر» ، والعِنْديةُ هنا مَجَازٌ لِما عُرف.

فصل في المراد بهذا الإخراج

والمرد بهذا الإخراج أنَّهم أخرجوا المسلمين من المسجد، بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له؛ لأنَّهم القائمون بحقوق البيت كقوله تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلَاّ المتقون} [الأنفال: 34] فأخبر تعالى: أنَّ المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء، وحكم عليها بأنها أكبر، أي: كلُّ واحد منها أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهذا تفريعٌ على قول الزَّجَّاج؛ لأن كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتالٍ في الشهر الحرام، فالكفر أعظم من القتل، أو نقول: كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهو القتال الَّذي صدر عن عبد الله بن جحش؛ لأنه ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشَّهر الحرام، وهؤلاء الكفَّار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشَّهر الحرام؛ فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر حجماً.

قوله: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} ذكروا في الفتنة قولين:

أحدهما - وعليه أكثر المفسِّرين -: أنَّها الكفر، أي: الشّرك الَّذي أنتم عليه أكبر من قتل ابن الحضرميّ في الشَّهر الحرام.

ص: 18

قال ابن الخطيب: وهذا يستقيم على قول الفرَّاء، وضعيف على قول الزَّجَّاج؛ لأنَّهُ قد تقدَّم ذكر ذلك، فإنَّه تعالى قال:«وَكُفْر بِهِ أَكْبَرُ» فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً.

والقول الثاني: أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشُّبهات في قلوبهم، وتارةً بالتَّعذيب كفعلهم ببلال، وعمَّار، وصهيب.

قال: محمَّد بن إسحاق: لأن الفتنة عبارة عن الامتحان، يقال: فتنت الذَّهب بالنَّار: إذا أدخلته فيها لتزيل غشَّه قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، أي: امتحان؛ لأنَّهُ إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله، تفكّر في ولده؛ فصار ذلك مانعاً عن الإنفاق وقال تعالى:{الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]، أي: لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء، وقال:{وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه: 40] وقال: {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] وقال: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] والمراد أنهم آذوهم، وعذبوهم لبقائهم على دينهم. وقال:{إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} [النساء: 101]، وقال:{مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] وقال: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة} [آل عمران: 7] أي: ابتغاء المحبَّة في الدِّين. وقال: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49] وقال: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} [يونس: 85] والمعنى: أن يفتنوا بها عن دينهم، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر؛ وقال:{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون} [القلم: 5 - 6] قيل: المفتون المجنون؛ لأنَّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنةٌ وعدولٌ عن سبيل العقلاء، وإذا ثبت أنَّ الفتنة هي المحنة، فالفتنة أكبر من القتل؛ لأنَّ الفتنة عن الدِّين تفضي إلى القتل الكبير في الدُّنيا وإلى استحقاق العذاب الدَّائم في الآخرة، فصحَّ أنَّ الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الَّذي وقع السُّؤال عنه، وهو قتل ابن الحضرميّ.

روي أنَّه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكَّة: إذا عيَّركم المشركون بالقتال في الشَّهر الحرام؛ فعيروهم بالكفر، وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بالقتال من مكَّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام.

وصرح هنا بالمفضول في قوله: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف.

قوله: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} هذا فعل لا مصدر له، قال الواحديّ: ما زال يفصل ولا يقال منه: فاعل، ولا مفعول، ومثاله في الأفعال كثير نحو «عَسَى» ليس له مصدرٌ،

ص: 19

ولا مضارع، وكذلك ذو، وما فتِىءَ، وهلمّ، وهاكَ وهات وتعال وتعالوا.

ومعنى {وَلَا يَزَالُونَ} : نفي: فإذا دخلت عليه «مَا» كان ذلك نفياً للنَّفي، فيكون دليلاً على الثُّبوت الدَّائم.

قوله تعالى: {حتى يَرُدُّوكُمْ} حتى حرف جرِّ، ومعناها يحتمل وجهين:

أحدهما: الغاية.

والثاني: التَّعليل بمعنى كي، والتَّعليل أحسن؛ لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك ولذلك لم يذكر الزَّمخشريُّ غير كونها للتَّعليل قال:«وَحَتّى» معناها التَّعليل كقولك: «فُلَانٌ يُعْبُدُ اللهَ، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة» ، أي يُقَاتِلُونَكُم كي يردُّوكم «. ولم يذكر ابن عطيَّة غير كونها غاية قال:» وَ «يَرُدُّوكُم» نصب ب «حَتّى» ؛ لأنَّها غاية محرّدة. وظاهر قوله: «مَنْصُوبٌ بِحَتّى» أنه لا يضمر «أنْ» لكنَّه لا يريد ذلك، وإن كان بعضهم يقول بذلك. والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوباً.

و «يَزَالُونَ» مضارع زال النَّاقصة التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدَّمها نفيٌ، أو نهي، أو دعاء، وقد يحذف النَّافي باطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جواب قسم، وإلَاّ فسماعاً، وأحكامها في كتب النَّحو، ووزنها فعل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائيُّ في مضارعها: يزيل، وإن كان الأكثر يزال، فأمَّا زال التَّامَّة، فوزنها فعل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول، ومعناها التَّحوُّل. و «عَنْ دِينكُمْ» متعلق ب «يردُّوكُم» وقوله:«إِن اسْتَطَاعُوا» شرط جوابه محذوف للدلالة عليه، أي: إن استطاعوا ذلك، فلا يزالوا يقاتلونكم، ومن رأى جواز تقديم الجواب، جعل «لَا يَزَالُونَ» جواباً مقدّماً، وقد تقدَّم الرَّدُّ عليه بأنَّه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم:«أَنْ ظَالِمٌ إِن فَعَلْتَ» .

قوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ} «مَنْ» شرطيّة في محلِّ رفع بالابتداء، ولم يقرأ أحدٌ هنا بالإدغام، وفي المائدة [آية54] اختلفوا فيه، فنؤخِّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى.

ويرْتَدِدث يَفْتَعِلُ من الرَّدِّ وهو الرُّجوع كقوله: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] . قال أبو حيَّان: «وقد عَدَّها بعضُهم فيما يَتَعَدَّى إلى اثْنَيْنِ إذْ كانت عنده بمعنى صَيَّر، وجَعَلَ من ذلك قوله: {فارتد بَصِيراً} [يوسف: 96] أي: رجَع» وهذا منه سهوٌ؛ لأنَّ الخلاف إنَّما هو بالنِّسبة إلى كونها بمعنى صار، أم لا، ولذلك مثلوا بقوله:«فَارْتدَّ بَصِيراً» فمنهم من جعلها بمعنى: «صَارَ» ، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالاً، وإلاّ فأين المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى:«صَيَّر» ، فهو ردَّ لا ارْتَدَّ، فاشتبه عليه ردَّ ب «ارْتَدَّ» وصيَّر ب «صَارَ» .

ص: 20

وقال الواحديُّ: وأظهر التَّضعيف مع الجزم، ولسكون الحرف الثاني، وهو أكثر في اللُّغة من الإدغام.

و «منكم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المستكن في «يَرْتَدِدْ» و «من» للتَّبعيض، تقديره: ومن يَرْتَدِدْ في حال كونه كائناً منكم، أي: بعضكم. و «عَنْ دِينِهِ» متعلِّقٌ ب «يَرْتَدد» ، و «فَيَمُتْ» عطفٌ على الشَّرط، والفاء مؤذنةٌ بالتَّعقيق.

{وَهُوَ كَافِرٌ} جملةٌ حاليةٌ من ضمير: «يَمُتْ» ، وكأنَّها حالٌ مؤكِّدَةٌ؛ لأنَّها لو حذفت لفهم معناها، لأنَّ ما قبلها يشعر بالتَّعقيب للارتداد، وجيءَ بالحال هنا جملةً، مبالغة في التأكيد من حيث تكرُّر الضَّمير بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً.

وقوله: {فأولاائك} جواب الشَّرط.

قال أبو البقاء: و «مَنْ» في موضع مبتدأ، والخبر هو الجملة التي هي قوله:{فأولاائك حَبِطَتْ} ، وكان قد سلف له عند قوله:{فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] أن خبر اسم الشَّرط هو فعل الشَّرط لا جوابه، وردَّ على من يدَّعي ذلك بما حكيته عنه ثمَّة، ويبعد منه توهُّمُ كونها موصولةً لظهور الجزم في الفعل بعدها، ومثله لا يقع في ذلك.

و «حَبِطَ» فيه لغتان: كسر العين وهي المشهورة وفتحها، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميع القرآن، ورويت عن الحسن أيضاً. والحبوط: أصله الفساد.

قال أهل اللُّغة: أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرّها، فتعظم بطونها، فتهلك. وفي الحديث:«وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً» ، وذلك أنَّ الإبل تأكل من المرعى إلى أن تنتفخ بطنها؛ فتمون البطن.

ومنه: «حَبِطَ بَطْنُه» ، أي: انتفخ، ومنه «رَجلٌ حَبَنْطَى» ، أي: منتفخ البطن.

وحمل أوّلاً على لفظ «مَنْ» فأفرد في قوله: «يَرٍْتَدِدْ، فيمت، وهو كَافِرٌ» وعلى معناها ثانياً في قوله: «فَأُولَئِكَ» إلى آخره، فجمع، وقد تقدَّم أنَّ مثل هذا التَّركيب أحسن الاستعمالين: أعني الحمل أوّلاً على اللَّفظ، ثمَّ على المعنى. وقوله «في الدُّنْيَا» متعلِّقٌ ب «حَبِطَتْ» .

وقوله: {وأولاائك أَصْحَابُ النار} إلى آخره تقدَّم إعراب نظيرتها. واختلفوا في هذه

ص: 21

الجملة: هل هي استئنافيّةٌ، أي: لمجرَّد الإخبار بأنَّهم أصحاب النَّار، فلا تكون داخلةً في جزاء الشَّرط، بل تكون معطوفةً على جملة الشَّرط، أو هي معطوفة على الجواب؛ فيكون محلُّها الجزم؟ قولان، رجِّح الأوَّل بالاستقلال وعدم التّقييد، والثَّاني بأنَّ عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشَّرط، والقرب مرجِّحٌ.

فصل فيمن خرج من كفر إلى كفر

قال القرطبيُّ: اختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر؛ فقال جمهور الفقهاء: لا يتعرَّض له؛ لأنَّه انتقل ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه وعن الشَّافعيّ: أنَّه يقتل؛ بقوله عليه السلام:

«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وقال مالكٌ: معناه: من خرج من الإسلام إلى الكفر، فأمَّا من خرج من كفر إلى كفر، فلم يعنه الحديث.

فصل في اقتضاء الآية شرط الوفاة

ظاهر الآية يقتضي أنَّ الوفاة شرطٌ لثبوت الأحكام المذكورة. ويتفرَّع عليه بحثان: بحثٌ أصولي، وبحثٌ فروعي. فالأصوليُّ: أنَّ جماعةً من المتكلِّمين قالوا: شرط صحَّة الإيمان والكفر حصول الوفاة، فلا يكون الإيمان إيماناً، إلَاّ إذا مات المؤمن، ولا يكون الكفر كفراً، إلَاّ إذا مات الكافر عليه.

وأما البحث الفروعيُّ: فهو أنَّ المسلم إذا صلَّى، ثم ارتدّ، ثمَّ أسلم في الوقت؛ قال الشافعيُّ: لا إعادة عليه.

ص: 22

وقال أبو حنيفة: يلزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج، حجة الشَّافعي قوله تعالى:{فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} شرطٌ في إحباط العمل أن يموت وهو كافرٌ، وهذا الشَّخص لم يوجد في حقِّه هذا الشَّرط؛ فوجب ألَاّ يصير عمله محبطاً.

فإن قيل: هذا معارض بقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ} [المائدة: 5] .

ولا يقال: حمل المطلق على المقيَّد واجبٌ؛ لأنَّا نقول: ليس هذا من باب المطلق والمقيَّد؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّ من علَّق حكماً بشرطين، وعلقه بشرط، أنَّ الحكم ينزل عند أيِّهما وجد كمن قال لعبده: أنت حرٌّ؛ إذا جاء يوم الخميس، ولم يكن في ملكه، ثم اشتراه، ثم جاء يوم الخميس؛ عتق ولو كان باعه، فجاء يوم الخميس وهو في ملكه عتق بالتعليق الأوَّل.

فصل في محل إحباط العمل

ليس المراد من إحباط العمل نفس العمل؛ لأنَّ العمل شيء كما وجد، فَنِيَ وزَال، وإعدم المعدوم محال. ثمَّ اختلف المتكلِّمون فيه؛ فقال المثبتون للإحباط والتَّكفير: المراد منه أنَّ عقاب الرِّدَّةِ الحادثة يزيل ثواب الإيمان السَّابق، إمَّا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة، أو لا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي.

وقال المنكرون للإِحباط: هذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله، هو أنَّ المرتدَّ إذا أتى بالرِّدَّة فتلك الرِّدة عمل محبط؛ لأنَّ الآتي بالرِّدَّة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً، فإذا لم يأت بذلك العمل الجيِّد، وأى بدله بهذا العمل الرَّدِيءِ، لا يستفيد منه نفعاً، بل يستفيد منه أعظم المضارّ، يقال: إنَّه حبط عمله، أي: بعملٍ باطلٍ، ليس فيه فائدة، بل فيه مضرَّةٌ.

ص: 23

فصل في الإحباط في الدنيا

أمَّا إحباط الأعمال في الدُّنيا، فهو أنَّه يقتل عند الظَّفر به، ويقاتل إلى أن يظفر به، ولا يستحقُّ من المؤمنين موالاةً ولا نصراً، ولا ثناءً حسناً، وتبين زوجته منه، ولا يستحقُّ الميراث من المسلمين.

ويجوز أن يكون المعنى في إحباط أعمالهم في الدُّنيا، هو أنَّ ما يريدونه بعد الرِّدَّة من الإضرار بالمسلمين، ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره؛ فتكون الأعمال على هذا التَّأويل ما يعملونه بعد الرِّدَّة، وأمَّا إحباط أعمالهم في الآخرة، فعند القائلين بالإحباط معناه: إنَّ هذه الرَّدَّة تبطل استحقاقهم للثَّواب الذي استحقُّوه بأعمالهم السَّالفة. وعند المنكرين لذلك معناه: أنَّهم لا يستفيدون من تلك الرِّدَّة ثواباً، ونفعاً في الآخرة، بل يستفيدون منه أعظم المضارِّ، ثمَّ بين كيفيَّة تلك المضرَّة فقال:{وأولاائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

فصل

قال القرطبيُّ: قالت طائفةٌ: يستتاب المرتدُّ؛ فإن تاب وإلَاّ قتل.

وقال بعضهم: يُسْتَتَابث ساعةً واحدةً.

وقال آخرون: يُسْتَتَابُ شهراً.

وقال آخرون: يُسْتَتَابُ ثلاثاً، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم.

وقال الحسن: يُسْتَتَابث مائة مرَّةٍ، وروي عنه أنَّه يقتل دون استتابةٍ، وهو أحد قولي الشَّافعيّ.

واحتجّ من قال بأنّه يقتلُ ولا يستتاب، بحديث معاذٍ، وأبي موسى: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم َ لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل، فلمَّا قدم عليه قال: انزل، وألقى له وسَادَةٌ، وإذا رجُلٌ عنده موثقٌ، قال: مَا هَذَا؟ قال: كَانَ يُهُودِياً، فأسلم، ثم راجع دينه، فتهوَّد، قال: لا أجلس حتّى يُقتل، قضاء الله ورسوله ثلاث مرَّات، وأمر به فقتل. أخرجه «مُسْلِمٌ» وغيره.

وقال مالك: يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ، ولا يُسْتَتَابُ.

ص: 24

قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} .

إنَّ واسمها و «أُولَئِكَ» مبتدأ، و «يَرْجُونَ» خبره، والجملة خبر «إِنَّ» ، وهو أحسنُ من كون «أُولَئشكَ» بدلاً من «الّذِين» ، و «يَرْجُون» خبر «إنَّ» . وجيء بهذ الأوصاف الثَّلاثة مترتِّبةٌ على حسب الواقع، إذ الإيمان أولُ، ثم المهاجرة، ثم الجهاد.

وأفرد الإيمان بموصولٍ وحده؛ لأنَّه أصل الهجرة والجهاد، وجمع الهجرة، والجهاد في موصولٍ واحدٍ، لأنَّهما فرعان عنه، وأتى بخر «إنَّ» اسم إشارة؛ لأنَّه متضمِّنٌ للأوصاف السَّابقة. وتكرير الموصول بالنِّسبة إلى الصِّفات، لا الذَّوات، فإنَّ الذَّوات متَّحدةٌ موصوفةٌ بالأوصاف الثَّلاثة، فهو من باب عطف بعض الصِّفات على بعض، والموصوف واحد. ولا نقول: إنَّ تكرير الموصوف يدلُّ على تغير الذَّوات الموصوفة؛ لأنَّ الواقع كان كذلك. وأتى ب «يَرءجُونَ» ؛ ليدَّ على التَّجدُّد وأنهم في كلِّ وقتٍ يحدثون رجاءً.

والمهاجرة: مفاعلةٌ من الهجر، وهي الانتقال من أرض إلى أرضٍ، وأصل الهجر التّرك. والمجاهدة مفاعلةٌ من الجهد، وهو استخراج الوسع وبذل المجهود، والإجهاد: بذلُ المجهود في طلب المقصود، والرَّجاء: الطمع.

وقال الرّاغب: هو ظنٌّ يقتضي حصول ما فيه مسرَّةٌ، وقد يطلقُ على الخوف؛ وأنشد:[الطويل] :

1064 -

إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا

وَخَالَفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ

أي: لم يَخَفْ، وقال تعالى:{لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7] أي: لا يخافون، وهل إطلاقه عليه بطريق الحقيقة، أو المجاز؟ فزعم قومٌ أنه حقيقةٌ، ويكون من الاشتراك اللَّفظي، وزعم قومٌ أنه من الأضداد، فهو اشتراكٌ لفظيّ أيضاً. قال ابن عطيَّة:«ولَيْسَ هَذَا بِجيّدٍ» ، يعني: أنَّ الرَّجاء والخوف ليسا بضدَّين إذ يمكن اجتماعهما، ولذلك قال الرَّاغِبُ بعد إنشاده البيت المتقدّم «ووجْهُ [ذلك] : أنَّ الرَّجَاءَ والخوفَ يَتَلَازَمَانِ» ، وقال ابن عطيَّة:«والرَّجَاءُ أبداً معه خوفٌ، كما أنَّ الخوف معه رَجَاءٌ» . وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازم الّذي ذكرناه عن الرَّاغب وابن عطيَّة.

وأجاب الجاحظ عن البيت بأنَّ معناه لم يرج برء لسعها وزواله فالرَّجاء على بابه.

ص: 25

وأمَّا قوله: {لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7] أي لا يرجون ثواب لقائنا، فالرَّجاء أيضاً على بابه، قاله ابن عطيَّة.

وقال الأصمعيُّ: «إذا اقترن الرَّجَاء بحرفِ النَّفي، كان بمعنى الخَوْفِ» كهذا البيت والآية.

وفيه نظرٌ إذ النَّفي لا يغيِّر مدلولات الألفاظ.

والرَّجاء مقصود ناحية البئر، وحافَّاته من كل ناحيةٍ، وجاؤوا بقوام من النَّاس يخطُّون في قولهم بأعظم الرَّجَاء، فيقصرون، ولا يمدُّون، وكتبت «رَحْمَة» هنا بالتَّاء: إمَّا جرياً على لغة مَنْ يَقِفُ على تَاءِ التَّأْنِيث بالتَّاء، وإما اعتباراً بحالها في الوصل، وهي في القرآن في سبعة مواضع، كتبتُ في الجميع تاءً، هنا وفي الأعراف:

{إِنَّ رَحْمَةَ الله} [آية: 56]، وفي هود:{رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ} [آية: 73]، وفي مريم:{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [آية: 2]، وفي الرُّوم:{فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله} [آية: 50]، وفي الزخرف:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [آية: 32] .

فصل

في تعلّق هذه الآية بما قبلها، وجهان:

الأول: أنَّ عبد الله بن جحش قال: يَا رَسُولَ الله، هَبْ أنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَيْنَا فِيمَا فَعَلْنَا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهَ أُجْراً، وَثَوَاباً، فَنَطمع أن يكون سفرُنا هذا غزواً؛ فأنزل الله هذه الآية؛ لأنَّ عبد الله كان مؤمناً، ومهاجراً، وسبب هذه المقاتلة، كان مجاهداً.

الثاني: أنَّه تعالى أوجب الجهاد من قبل بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] وبين أن تركه سبب الوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} ولا يكاد يوجد وعيدٌ إلَاّ ويعقبه وعد.

فصل في المراد بالرجاء

وفي هذا الرجاء قولان:

الأوَّل: عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى هنا: أنَّهم يظنُّونَ في ثَوَابِ اللهِ؛ لأن عبد الله بن جحشٍ ما كان قاطعاً بالفوز والثَّواب في عمله، بل كان يتوقَّعه، ويرجوه.

فإن قيل: لم جعل الوعد مطلقاً بالرَّجاء، ولم يقطع به، كما في سائر الآيات؟

فالجواب من وجوهٍ.

ص: 26

أحدها: أنَّ الثَّوابَ على الإيمان، والعمل غير واجبٍ عقلاً، بل بحكم الوعد فلذلك علَّقه بالرَّجاء.

وثانيها: هب أنَّه واجبٌ عقلاً، ولكنَّه تعلّق بأنه لا يكفر، وهذا الشَّرط مشكوكٌ لا متيقِّن، فلا جرم الرَّجاء، لا القطع.

وثالثها: أنَّ المذكور ها هنا هو الإيمان، والهجرة، والجهاد، ولا بدَّ للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفَّقه لهذه الثَّلاثة، فلا جرم علقه على الرَّجاء.

ورابعها: ليس المراد من الآية أنَّ الله تعالى شكَّك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنَّهم يفارقون الدُّنيا مع الهجرة والجهاد، ومستقصرين أنفسهم في حقّ الله تعالى يرون أنّهم يعبدونه حقّ عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرَّجاء، كما قال:{والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] .

وأجاب القرطبيُّ عن هذا السُّؤال بوجهين آخرين:

الأول: أنَّ الإنسان لو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغٍ، لا يدري بماذا يختم له.

الثاني: لئلاّ يتّكل على عمله.

القول الثاني: أنَّ المراد من الرَّجاء القطع في أصل الثَّواب، والظَّن إنَّما دخل في كميّته وفي وقته، وفيه وجوه تقدَّمت في قوله تعالى:{الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] .

وقوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، أي: إنَّ الله تعالى يحقِّق لهم رجاءهم، إذا ماتوا على الإيمان، والعمل الصَّالح.

ص: 27

قوله: {عَنِ الخمر والميسر} لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ، والتَّقدير: عن حكم الخمر والميسر.

الخمر: هو المعتصر من العِنَبِ إذا غلى، وقذف بالزَّبد، ويطلق على ما غلى، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازاً.

ص: 27

وفي تسميتها «خَمْراً» أربعة أقوال:

أشهرها: أنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنها تخمر العقل، أي: تستره، ومنه: خمار المرأة لستره وجهها، والخمر: ما واراك من شجر، وغيره من وهدةٍ، وأكمة، والخامر هو الذي يكتم شهادته؛ [و: خَامِري حضَاجِرُ، أتاك ما تُحَاذِرُ «يُضْرَبُ للأحمق، وحَضَاجِرُ: علمٌ للضبع، أي: استتر عن النَّاس، ودخل في خمار النَّاس، وغمارهم] .

قال: [الوافر]

1065 -

أَلَا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا

فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ

أي: ما يستركما من شجرٍ وغيره، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان:

[الرجز]

1066 -

في لَامِعِ العِقْبَانِ لَا يَمْشِي الخَمَرْ

والثاني: لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ، فهو من التَّغطية ومنه» خَمَّروا آنيتكم «.

والثالث: - قال ابن الأنباري من المخالطة - لأنَّها تخامر العقل، أي: تخالطه، يقال: خامره الدَّاء، أي: خالطه.

وأنشد لكثير: [الطويل]

1067 -

هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ.....

...

...

...

... .

ويقال: خَامَرَ السّقام كبده. فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل، كما سمِّيت مسكراً؛ لأنَّها تسكر العقل أي: تحجزه.

والرابع: لأنَّها تترك حتى تدرك، ومنه:» اخْتَمَرَ العَجِينُ «أي: بلغ إدراكه، وخمر الرَّأي، أي: تركه، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب، وهي أقوال متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدراً مرارداً به اسم الفاعل واسم المفعول.

ص: 28

فصل

قال أبو حنيفة: الخمرُ: هو ما كان من عصير العنب وغيره.

حجّة أبي حنيفة: قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] فمنَّ الله تعالى علينا باتخاذ السَّكر، والرِّزق الحسن؛ فوجب أن يكون مباحاً؛ لأنَّ المنَّة لا تكون إلَاّ بالمباح.

وروى ابن عبَّاس أنَّه عليه السلام أتى السِّقاية عام حجَّة الوداع، فاستند إليها وقال: اسقوني، فقال العبَّاس: لنسقينَّك ممَّا ننبذُهُ في بيوتنا؟ فقال:» مِمّا يُسْقَى النَّاسُ «فجاءه بقدح من نبيذ؛ فشمَّه فقطب وجهه وردَّه، فقال العبَّاس: يا رسول الله أفسدت على أهل مكَّة شرابهم. فقال:» رَدُّوا عَلَيَّ القَدَحَ «فردُّوه عليه؛ فدعا بماء زمزم؛ فصبّ عليه وشَرِبَ وقال:» إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الأَشْرِبَة فَاقْطَعُوا نتنها بالمَاءِ «.

وجه الاستدلال به: أن التقطيب لا يكون إلَاّ من الشَّديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدَّة بالنَّصِّ، ولأنَّ اغتلام الشَّراب شدَّته، كاغتلام البعير سكره.

وأيضاً وردت عند الصَّحابة فيه آثارٌ؛ روي أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كتب إلى بعض عماله أن أرزاق المسلمين من الطِّلاء ما ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه، ورأى أبو عبيدة، ومعاذٌ: شرب الطِّلاء على الثُّلث.

وحجَّة القائلين بأنَّ الخمر من عصير العنب وغيره ما روى أبو داود عن عمر رضي الله عنه قال: «نَزَلَ تحريمُ الخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وهي من خمسة من العِنَبِ، والتَّمْرِ، والحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والذُّرَةِ» .

والخمر ما خامر العقل.

وفي «الصَّحيحين» عن عمر أنَّه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: ألا إنّ الخرم قد حرِّمت، وهي من خمسة: من العنب، والتَّمر، والعسل، والحنطة، والشعير والخمر ما

ص: 29

خامر العقل. وروى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وفي «الصَّحِيحَيْنِ» أنه عليه السلام سُئِلَ عن البِتع، فقال:«كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، فَهُوَ حَرَامٌ» والبِتع شراب يتخذ من العسل.

قال الخطابيُّ: والدَّلالة من وجهين:

أحدهما: أنَّ الآية لما دلَّت على تحريم الخمر، وكان مسمَّى الخمر مجهولاً من القوم، حسن من الشَّارع أن يقال: مراد الله تعالى من هذه اللَّفظة هذا، ويكون على سبيل إحداث لغةٍ، كما في الصَّلاة والصَّومِ وغيرهما.

والوجه الآخر: أن يكون معناه: أنَّه كالخمر في الحرمة؛ لأن قوله هذا خمر، فإن كان حقيقةً؛ فحصل المدّعي، وإن كان مجازاً؛ فيكون حكمه كحكمه؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ الشَّارع ليس مقصوده تعليم اللُّغات على تعليم الأحكام، وحديث البتع يبطل كلَّ تأويلٍ ذكره أصحاب تحليل الأنبذة، وإفساد قول من قال: إنَّ القليل من المسكر من الأنبذة مباحٌ؛ لأنَّه عليه السلام سُئِلَ عن نوع واحدٍ من الأنبذة، وأجاب بتحريم الجنس، فدخل فيه القليل والكثير، ولو كان ثمَّ تفصيلٌ في شيءٍ من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله، وقال عليه الصلاة والسلام:«مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، وقال: «مَا

ص: 30

أَسْكَرَ الفرق منه فتمسك الكف منه حرام» .

قال الخطابي: «الفَرقُ» : مِكْيَالٌ يَسَعُ ستَّة عشَرَ رطلاً وروى أبو داود عن أُمِّ سلمة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن كلِّ مسكرٍ ومفترٍ.

قال الخطَّابيُّ: «المفترُ» كلّ شرابٍ يورث الفتور، والخدر في الأعضاء.

واستدلُّوا أيضاً بالاشتقاق المتقدّم وأيضاً بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} [المائدة: 91] .

وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة؛ لأنَّها مظنّته.

وأيضاً فإنّ عمر، ومعاذ قالا: يا رسول الله، إنَّ الخمر مسلبةٌ للعقل مذهبة للمال؛ وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة.

والجواب عن دلائل أبي حنيفة: أنَّ قوله {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً} [النحل: 67] نكرة في سياق الإثبات، فلم قلتم إنّ ذلك السُّكر هو هذا النَّبيذ.

ثمَّ أجمع المفسِّرون على أنَّ هذه الآية قبل الآيات الدَّالَّة على تحريم الخمر، فتكون ناسخةً، أو مخصّصة.

ص: 31

وأمَّا حديث النَّبيذ فلعلَّه كان ماءًا نبذت فيه تمراتٌ؛ لتذهب ملوحته فتغيَّر طعم الماء قليلاً إلى الحموضة، وطبعه عليه الصلاة والسلام كان في غاية اللَّطافة، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطَّعم؛ فلذلك قطَّب وجهه، وإنما صبَّ الماء فيه؛ إزالة لتلك الحموضة، أو الرائحة. وأمَّا آثارُ الصَّحابة، فمتدافعة متعارضة.

فصل في عدد الآيات التي نزلت بمكة في تحريم الخمر

قالوا: نزل في الخمر آربع آيات بمكَّة:

قوله: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] وكان المسلمون يشربونها، وهي لهم حلالٌ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصَّحابة قالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر، فإنَّها مذهبةٌ للعقل مسلبةٌ للمال، فنزل قول تعالى:{فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «إنَّ اللهَ تَقَدَّمَ في الخَمْر» فتركها قومٌ لقوله (إثْمٌ كبيرٌ) وشربها قوم لقوله (ومنافع للناس) . إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماًن فدعا ناساً من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم َ وأتاهم بخمرٍ، فشربوا، وسكروا، وحضرت صلاة المغرب؛ فتقدَّم بعضهم ليصلِّي بهم فقرأ:«قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ» هكذا إلى آخر السورة بحذف «لا» ، فأنزل الله تعالى:{لَا تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] فحرَّم السُّكر في أوقات الصلاة، فلما نزلت هذه الآية، تركها قومٌ، وقالوا: لا خير في شيءٍ يحول بيننا وبين الصَّلاة وتركها قوم في أوقات الصَّلاة، وشربوها في غير وقت الصَّلاة، حتَّى كان الرَّجل يشرب بعد صلاة العِشاء، فيصبح، وقد زال عنه السُّكر، ويشرب بعد صلاة الصُّبح، فيصحو إذا جاء وقت الظُّهر، واتخذ عُتبان بن مالك صِبْغاً ودعا رجالاً من المسلمين، فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعيرٍ، فأكلوا منه، وشربوا الخمر، حتى أخذت منهم، ثمَّ إنّهم افتخروا عند ذلك، وانتسبوا، وتناشدوا، فأنشد سعد قصيدةً فيها هجاءٌ للأنصار، وفخر لقومه، فأخذ رجلٌ من الأنصار لحي بعيرٍ، فضرب به رأس سعدٍ؛ فشجَّه موضّحةٌ

ص: 32

فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وشكى إليه الأنصاريَّ، فقال عمر: اللَّهُمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] وذلك بعد غزوة الأحزاب بأَيَّام، فقال عمر: انتهينا يا ربّ.

قال ابن الخطيب: والحكمة في وقوع التَّحريم على هذا التَّرتيب أنَّ الله تعالى علم أنَّ القوم كانوا قد أَلِفُوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً، فعلم أنَّه لو منعهم دفعةً واحدةً لشقّ ذلك عليهم، فلا جرم درَّجهم في التَّحريم رفقاً بهم، ومن الناس من قال: إن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية، ثم نزل قوله:

{لَا تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] فاقتضى ذلك تحريم شربها؛ لأنَّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلِّي مع السُّكر، فكان المنع من ذلك منعاً من الشّرب ضمناً، ثم نزلت آية المائدة، فكانت في غاية القوَّة في التَّحريم. وعن الرَّبيع بن أنس أنَّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.

فصل

قال أنسٌ: حُرمت عليهم الخمر، ولم يكن يومئذ للعرب عيشٌ أعجب منها، وما حرِّم عليهم شيءٌ أشدّ من الخمر.

وقال أنس بن مالك: ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً، وفلاناً، إذ جاء رجلٌ فقال: حرمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس؛ قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرَّجل.

واختلف الفقهاء في الخمر على ما تقدَّم؛ فقال قومٌ: هو عصير العنب والرُّطب الَّذي اشتدّ وغلا من غير عمل النَّار فيه، واتَّفقت الأُمَّة على أنَّ هذا الخمر نجس يحدُّ شاربها، ويُفَسَّقُ، ويكفر مستحلها، وذهب سفيان الثَّوريُّ، وأبو حنيفة، وجماعة إلى أنَّ التَّحريم لا يتعدّى هذا ولا يحرم ما يتّخذ من غيرها، كالحنطة، والشَّعير، والذُّرة، والعسل، والفانيذِ إلَاّ أن يسكر منه فيحرم، وقال: إذا طبخ عَصِيرُ العِنَبِ والرُّطب، حتّى

ص: 33

ذهب نصفه، فهو حلالٌ، ولكنه يكره، وإن طبخ، حتَّى يذهب ثلثاه قالوا: هو حلالٌ مباحٌ شربه إلَاّ أنَّ السُّكر منه حرامٌ.

وقال قومٌ: إذا طُبخَ صار العَصِيرُ أدْنَى طبخ، صار حَلَالاً، وهو قول إسماعيل بن عليه، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ كل شراب أسكر كثيره، فهو خمر قليله حرام يحدّ شاربه، وقد تقدَّم ما أجابوا به.

والمَيْسِرُ: القِمَارُ، مفعل من اليُسْرِ، يقال: يَسَرَ يَيْسِرُ؛ قال علقمة: [البسيط]

1068 -

لَو يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا

وَكُلُّ مَا يَسَرَ الأَقْوَامُ مَغْرُومُ

وقال آخر: [الطويل]

1069 -

أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي

أَلَمْ تَيْئَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِس زَهْدَمِ

وفي اشتقاقه أربعة أقوال:

أحدها: من اليُسْر وهو السُّهولة؛ لأنَّ أخذه سهل من غير كدر ولا تعب قاله مقاتل.

والثاني: من اليَسَار، وهو الغنى؛ لأنَّه يسلبه يساره.

قال ابن عباسٌ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة يخاطرُ الرَّجُلَ على أهله وماله فأيهما قَمَر صاحبه؛ ذهب بأهله، وماله، فنزلت الآية.

الثالث: قال الواحديُّ: إنه من قولهم: يَسُرَ لي هذا الشَّيء يَيْسِرُ يُسْراً وميسراً، إذا وجب، واليَاسِرُ الوَاجِبُ بسبب القِدَاحِ. وحكاه الطبريُّ عن مجاهدس، ورد ابن عطيَّة عليه.

الرابع: من يسر إذا جزر، واليَاسِرُ الجَازِرُ، وهو الذي يجزّئ الجَزُور أجزاءً. قال ابن عطيَّة: وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً؛ لأنَّها موضع اليُسْرِ، ثمَّ سُمِّيت السِّهَامُ مَيْسراً للمُجَاوَرَةِ «واليَسَرُ: الذي يدخل في الضَّرْبِ بالقِدَاح، ويجمع على أيسار، وقيل: بل» يُسَّر «مع يَاسِر كَحَارِس وحُرَّسٍ وأَحْرَاسٍ.

وللميسر كيفيَّةٌ، وتُسمّى سِهَامُهُ القِدَاحَ والأزلامَ والأقلامَ. وقيل: هي عَشَرَةُ أقْدَاح، وقيل: أَحَدَ عَشَرَ، لسبعةٍ منها حُظُوظٌ، وعلى كُلِّ منها خُطُوطٌ، فالخطُّ يقدِّر الحَظَّ، وتلك القِدَاحُ هي: الفَذُّ وله سهمٌ واحدٌ، والتَّوءَمُ وله اثنان، والرَّقيبُ وله ثلاثةٌ، والحِلْسُ

ص: 34

وله أربعةٌ، والنَّافسُ وله خمسةٌ، والمُسْبلُ وله ستّةٌ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خُطُوطَ عليها، وهي المنيحُ، والسَّفيحُ، والوغْدُ.

وأنشد فيها بعضهم: [الرمل]

1070 -

لِيَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ

لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ

وَأَسَامِيهِنَّ وَغْدٌ

وَسَفِيحٌ وَمَنِيحُ

ومن زاد رابعاً سمَّاه المضعَّف، وإنَّما كثروا بهذه الأغفال ليختلط على الحرضة، وهو الضَّارب، فلا يميل مع أحد، وهو رجلٌ عدلٌ عندهم، فيجثو، ويلتحف بثوبٍ، ويخرج رأسه، فيجعل تلك القداح في خريطة وتسمى الرِّبابة بكسر الرَّاء مشبَّهة بالكتابة فيها سهامُ المَيْسِرِ، وربَّما يسمُّون جميع السِّهام ربابة، ثمَّ يخلخلها ويدخل يده فيها، ويخرج باسم رجُلٍ رجلٍ قِدحاً فمن خرج على اسمه قدحٌ: فإن كان من ذوات السِّهام؛ فاز بذلك النَّصيب، وأخذه، وإن كان من الأغفال غرِّم من الجزور؛ ولا يأخذ شيئاً.

وقال بعضهم: لا يأخذ شيئاً، ولا يغرم، ويكون ذلك القدح لغزاً.

وكانوا يفعلون هذا في الشَّتوة، وضيق العيش، ويقسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، ويفتخرون بذلك، ويسمُّون من لم يدخل معهم فيه: البَرم ويذمونه، والجَزورُ تقسم عند الجمهور على عدد القداح، فتقسم على عشرة أجزاء، وعند الأصمعي على عدد خطوط القداح، فتقسّم على ثمانية وعشرين جزءاً. وخطَّأ ابن عطية الأصمعيَّ في ذلك، وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّه يحتمل أنَّ العرب كانت تقسِّمها مرَّةً على عشرةٍ، ومرَّةً على ثمانية وعشرينَ.

فهذا أصل القمار التي كانت تفعله العرب.

واختلفوا في الميسر؛ هل هو اسم لذلك القمار المعيَّن أو اسم الجميع أنواع القمار، فقال بعض العلماء: المراد من الآية جميع أنواع القمار قال عليه الصلاة والسلام ُ: «إيَّاكُم وَهَاتَيْنِ الكَعْبَتَيْنِ المُوسومتين فَإِنَّها مِنَ مَيْسِرِ العَجَمِ» .

وعن ابن سِيرِينَ: ومجاهد، وعطاءٍ، وطاوسٍ، كلُّ شيءٍ فيه قمارٌ فهو الميسر، حتَّى لعب الصِّبيان بالجوز، والكعاب.

ص: 35

وروي عن عليّ رضي الله عنه في النرد، والشِّطرنج: أنَّه من المَيْسر. وقال الشَّافعيُّ رضي الله عنه: إذا خلا الشِّطرنجُ عن الرهان واللِّسان عن الطُّغيان، والصَّلاة عن النِّسيان؛ لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر؛ لأنَّ الميسر ما يوجب دفع مال، أو أخذ مالٍ، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قماراً ولا ميسراً.

وأمّا السَّبقُ في الخفِّ، والحافر، والنُّشابِ، فخصّ بدليلٍ.

قوله: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} الجَارُّ خبر مقدّم، و «إثْمٌ» مبتدأ مؤخَّرٌ، وتقديم الخبر هنا ليس بواجبٍ، وإن كان المبتدأ نكرةً، لأنَّ هنا مسوغاً آخر، وهو الوصف، أو العطف، ولا بدّ من حذف مضافٍ أيضاً، أي: في تعاطيهما إثمٌ؛ لأنَّ الإثم ليس في ذاتها.

وقرأ حمزة والكسائيُّ: «كثيرٌ» بالثَّاء المثَّلثة، والباقون بالباء ثانية الحروف. ووجه قراءة الجمهور واضحٌ، وهو أنَّ الإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذَّنب، ومنه آية {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] . وسمِّيت الموبقات: «الكبَائِر» ، ومنه قوله تعالى:{والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} [الشورى: 37]، و {كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وشرب الخمر، والقمار من الكبائر، فناسب وصف إثمهما بالكبر، وقد أجمعت السَّبعة على قوله:{وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} بالباء الموَّحدة، وهذه توافقها لفظاً.

وأمَّا وجه قراءة الأخوين: فإمَّا باعتبار الآثمين من الشَّاربين، والمقامرين، فلكلِّ واحد إثمٌ، وإمّا باعتبار ما يترتّب [على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه، وإمّا

ص: 36

باعتبار ما يترتَّب] على شربهما ممَّا يصدر من شربها من الأقوال السَّيئة والأفعال القبيحة.

وإمّا باعتبار ما يترتَّب على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه.

وإمَّا باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنباً إلى أن شربت، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ الخمر، ولعن معها عشرةً: بائعها، ومبتاعها وغيرهما، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة. وأيضاً فإن قوله:«إثْم» ، مقابلٌ ل «مَنَافِع» ، و «منافع» جمعٌ، فناسب أن توصف مقابلةً بمعنى الجمعيَّة، وهو الكثرة. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن، وهو أن يذكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءتي:«مَلِك» ، و {مالك} [الفاتحة: 3] .

وقال أبو البقاء: الأَحْسَنُ القِرَاءَةُ بالبَاء، لأنه يقال: إثمٌ كبيرٌ وصغيرٌ، ويقال في الفواحش العظام:«الكَبَائِرُ» ، وفيما دون ذلك «الصَّغَائِرُ» وقد قرئ بالثَّاء وهو جيدٌ في المعنى؛ لأنَّ الكثرة كبرٌ، والكثير كبيرٌ، كما أنَّ الصَّغير حقيرٌ ويسيرٌ.

وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفه -: «وإثمهما أَكْثَرُ» بالمثلَّثة، وكذلك الأولى في قراءته، ومصحفه.

فصل

دلَّ قوله تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} على تحريم الخمر كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] والإثم يستحق به؛ فدلَّ مجموع الآيتين على التَّحريم، وأيضاً فإنَّ الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به: ما يستحق به العقاب من الذُّنوب، وأيُّهما كان، فلا يصحُّ أن يوصف به إلَاّ المحرّم.

وأيضاً قد قال تعالى: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} فَصَرَّحَ بِرُجْحَانِ الإِثْمِ، وذلك يوجب التَّحْرِيمَ.

فإن قيل: لا تدلُّ الآية على أنَّ شرب الخمر حرامٌ، بل تدلُّ على أنَّ فيه إثماً، فهَبْ أنَّ ذلك الإثم حرامٌ، فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم؛ وجب أن يكون حراماً؟

فالجواب أنَّ السُّؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر، فلمَّا بين تعالى أنَّ فيه إثماً، كان المراد أنَّ ذلك الإثم لازمٌ له على جميع التَّقديرات، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرَّمة، ومستلزم المحرَّم محرَّمٌ؛ فوجب أن يكون الشُّرب محرّماً.

ص: 37

فإن قيل هذه الآية لا تدلُّ على حرمة الخمر لوجوهٍ:

أحدها: أنَّه تعالى أثبت فيها منافع للنَّاس والمحرّم لا يكون فيه منفعةٌ.

الثاني: لو دلَّت الآية على حرمتها، فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصّلاة؟

الثالث: أنَّه أخبر أنَّ فيها إثمٌ كبيرٌ، فمقتضاه أنَّ ذلك الكبير ملازماً لها ما دامت موجودة، ولو كان ذلك سبباً لحرمتها؛ لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشَّرائع.

فالجواب عن الأوَّل: أنَّ حصول النَّفع فيها ليس مانعاً من حرمتها؛ لأن صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ.

وعلى الثاني: أنّا روينا عن ابن عباس أنَّها نزلت في تحريم الخمر والتّوقف الذي ذكروه، غير مرويٍّ عنهم، وقد يجوز بطلب الكبار من الصَّحابة نزول ما هو أكبر من هذه الآية في التَّحريم كما التَمَسَ إبراهيم - صلوات الله عليه - مشاهدة إحياء الموتى، ليزداد سكوناً، وطمأنينة.

وعن الثالث: أنَّ قوله {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ مفسدةٌ لهم، وليس مَفْسَدَةٌ للَّذِينَ من قبلهم.

فصل في بيان الإثم الكبير في الآية

الإثم الكبير في الخمر أمورٌ:

أحدها: أنَّه مزيلٌ للعقل الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا كان الخمر عَدُوّاً، لا شرفاً؛ فيلزم أن يكون أخسَّ الأمور؛ وذلك لأن العقل إنَّما سمِّي عقلاً أخذاً من عقال النَّاقة، فإنَّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعاً من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي طبعه الدَّاعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل له عن فعل القبيح.

ذكر ابن أبي الدنيا: أنَّه مرَّ على سكران، وهو يبول في يده، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضِّئ، ويقول: الحمد لله، الذي جعل الإسلام نوراً، والماء طهوراً.

وعن العبَّاس بن مرداس أنَّه قيل له في الجاهليَّة: لم لا تشرب الخمر؛ فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيِّد قوم، وأمسي سفيههم.

وثانيها: ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة، والبغضاء، والصَّدّ عن ذكر الله، وعن الصَّلاة.

ص: 38

وثالثها: أنَّ هذه المعصية من خواصّها أنَّ الإنسان إذا اشتغل بها وواظب عليها، كان ميله ونفسه عليها أقوى، بخلاف سائر المعاصي، فإنَّ الزَّاني مثلاً إذ فعل مرَّةً واحدةً فترت رغبته، وكلمَّا زاد فعله؛ كان فتوره أكثر؛ بخلاف الشّرب فإنَّه كلَّما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليها ورغبته فيه أكثر، فإذا واظب عليه؛ صار غارقاً في اللَّذَّات البدنيَّة معرضاً عن تذكر الآخرة، حتّى يدخل في الّذشين نسوا الله، فأنساهم أنفسهم.

وبالجملة إذا زال العقل؛ حصلت القبائح بأسرها، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام ُ:

«اجْتَنِبُوا الخَمْرَ فَإِنَّها أُمُّ الخَبَائِثِ» . ويصدر عن الشَّارب المخاصمة، والمشاتمة وقول الفحش والزُّور.

وأما الإثم الكبير في الميسر، فإنَّه يفضي إلى العداوة أيضاً لما يجري بينهم من الشَّتم، والمنازعة؛ لأنَّه أكل مال بالباطل، وذلك يورث العداوة؛ لأنَّ صاحبه إذا أخذ ماله مجَّاناً؛ أبغضه جدّاً، وهو يشغل عن ذكر الله، وعن الصَّلاة أيضاً.

وأمَّا المنافع المذكورة فيهما، فمنافع الخمر أنَّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النَّواحي، وكان المشتري، إذا ترك المماكسة في الثَّمن؛ كانوا يعدُّون ذلك فضيلةً، ومكرمةً، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السَّبب، ومنها أنَّها تقوِّي الضَّعيف، وتهضم الطَّعام، وتعين على الباءة وتسلي المحزون، وتشجِّع الجبان، وتُسخي البخيل، وتصفي اللَّون وتُنعش الحرارة الغريزيَّة، وتزيد من الهمَّة، والاستعلاء. ومن منافع الميسر: التَّوسعة على ذوي الحاجات؛ لأنَّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئاً وإنما يفرّقه في المحتاجين؛ وذكر الواقديُّ أنَّ الواحد كان ربَّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعيرٍ، فيحصل له مالٌ من غير كدٍّ، ولا تعبٍ، ثم يصرفه إلى المحتاجين، فيكتسب فيه الثَّناء، والمدح، وكانوا يشترون الجزور، ويضربون سهامهم، فمن خرج سهمه؛ أخذ نصيبه من اللَّحم، ولا يكون عليه شيء من الثَّمن، ومن بقي سهمه آخراً، كان عليه ثمن الجزور كلِّه، ولا يكون له من اللَّحم شيءٌ.

ص: 39

قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} قرأ أُبَيّ: «أقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا» .

وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان إلى الفاعل، لأنَّ الخمر والميسر سببان فيهما، فهما فاعلان، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلُّهما. وقوله:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] قد تقدَّم الكلام عليه. وقرأ أبو عمرو: «قُلِ العَفْوُ» رفعاً والباقون نصباً. فالرَّفع على أنَّ «مَا» استفهاميةٌ، و «ذَا» موصولةٌ، فوقع جوابها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوفٍ، مناسبةً بين الجواب والسُّؤال والتَّقدير: إنفاقكم العفو. والنَّصيب على أنَّهما بمنزلةٍ واحدةٍ، فيكون مفعولاً مقدّماً، تقديره: أيَّ شيءٍ ينفقون؟ فوقع جوابها منصوباً بفعل مقدَّرٍ للمناسبة أيضاً، والتَّقدير: أنفقوا العفو. وهذا هو الأحسن، أعني أن يعتقد في حال الرَّفع كون «ذا» موصولةً، وفي حال النَّصب كونها ملغاةٌ. وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاةً مع رفع جوابها، وموصولةً مع نصبه. وقد تقدم الكلام على مستوفى وإنما اختصرت القول هنا؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى:{مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} [البقرة: 26] .

فصل

اعلم أنَّ هذا السُّؤال، قد تقدَّم، وأجيب بذكر المصرف، وهنا أجيب بذكر الكميَّة.

قال الواحدي رحمه الله: أصل العفو في اللُّغة الزِّيادة، قال الله تعالى:{خُذِ العفو} [الأعراف: 199]، أي: الزِّيادة وقال: {حتى عَفَوْاْ} [الأعراف: 95] .

وقال القفَّال: العفو ما سهل وتيسّر ممَّا فضل عن الكفاية، وهو قول قتادة، وعطاء، والسُّدِّي، وكانت الصَّحابة يكتسبون المال، ويمسكون قدر النَّفقة، ويتصدَّقون بالفضل.

قال القرطبيُّ: فالجواب خرج على وفق السُّؤال، فإنَّ السُّؤال الثَّاني في هذه الآية على قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح فإنَّه لما نزل:{قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215] قال: كم أنفق؛ فنزل «قُل العَفْوَ» .

والعَفْوُ: ما سهل، وتيسَّر وفضل، ولم يشقَّ على القلب إخراجه؛ قال الشَّاعر:[الطويل]

ص: 40

1071 -

خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي

وَلَا تَنْطقِي في سَوْرَتي حِينَ أَغْضَبُ

وقال طاوس: ما يَسُر، والعفو اليسر من كل شيءٍ، ومنه قول تعالى:{خُذِ العفو} [الأعراف: 199] أي الميسور من أخلاق النَّاس.

قال ابن الخطيب: ويشبه أن يكون العفو عن الذَّنب راجع إلى التَّيسير، والتَّسهيل، قال عليه الصلاة والسلام:«عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ، والرَّقِيقِ، فَهَاتوا عشْرَ أَمْوَالِكُمْ» معناه: التَّخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرَّقيق، ويُقال: أعفى فلانٌ فلاناً بحقِّه: إذا أوصله إليه من غير إلحالح في المطالبة، ويقال: أعطاه كذا عفواً صفواً: إذا لم يكدِّره عليه بالأذى، ويقال: خذ من النَّاس ما عُفِيَ لك، أي: ما تيسَّر، ومنه قوله تعالى:{خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف} [الأعراف: 199] وجملة التأويل: أنَّ الله - تعالى - أدَّب النَّاس في الإنفاق، فقال:{وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} [الإسراء: 26، 27] وقال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] وقال: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] وقال عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَن غِنى، وَلا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ» .

وعن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إذ جاءه رجلٌ بمثل البيضة من ذهب فقال: يا رسول الله؛ خذها صدقةً، فوالله ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ثم أتاه من بين يديه، فقال: هاتها مغضباً؛ فأخذها منه، ثمَّ حذفه بها، لو أصابته لأوجعته ثم قال:«يَأْتِينِي أَحَدُكُم بِمالِهِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عن ظَهْرِ غِنَى، خُذْهَا، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيها» . وكان عليه الصلاة والسلام يحبس لأهله قُوتَ سَنَةٍ.

وقال الحكماء الفضيلةُ بين طرفي الإفراط والتَّفريط.

ص: 41

وقال عمرو بن دينار: الوسط من غير إسراف ولا إقتار.

فصل في ورد العفو في القرآن

قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «العَفْوِ» في القرآن بإزاء ثلاثة معانٍ:

الأول: العفو: الفضل من الأموال قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} يعني الفضل من المال.

الثاني: «العفو» الترك؛ قال تعالى: {إَلَاّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] أي يتركوا، ومثله:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى: 40]، أي: ترك مظلمته.

الثالث: العفو بعينه، قال تعالى:{وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] .

فصل

واختلفوا في هذا الإنفاق؛ هل المراد به الواجب، أو التطوُّع على قولين:

الأول: قال أبو مسلم: يجوز أن يكون العفو هو الزَّكوات وذكرها ها هنا على سبيل الإجمال في السَّنة الأولى؛ لأنَّ هذه الآية قبل نزول آية الصَّدقات، وأنزل تفاصيلها في السَّنة الثَّانية فالنَّاس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم، ما يكفيهم في عامهم، ثمَّ ينفقون الباقي، ثمَّ صار هذا منسوخاً بآية الزَّكاة.

القول الثاني: أنَّ المراد به صدقة التَّطوُّع.

قالوا: لأنَّه لو كان مفروضاً لبين الله مقداره، فلمَّا لم يبيِّنه، وفوَّضه إلى رأي المخاطب؛ علمنا أنَّه ليس بفرضٍ.

وأجيب، بأنه لا يبعد أن يوجب الله - تعالى - شيئاً على سبيل الإجمال، ثمَّ يذكر تفصيله وبيانه.

قوله تعالى: {كذلك يُبيِّنُ} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: تبييناً مثل ذلك التَّبيين يبيِّن لكم، وإمَّا حالاً من المصدر المعرفة، أي: يبيِّن التبيين مماثلاً ذلك التَّبيين. والمشار إليه يبيِّن حال المنفق، أو يبيِّن حكم الخمر، والميسر، والمنفق المذكور بعدهما. وأبعد من خصَّ اسم الإشارة ببيان حكم الخمر، والميسر، وأبعد منه من جعله إشارةً إلى جميع ما سبق في السُّورة من الأحكام.

و «لَكُمْ» متعلِّق ب «يُبَيِّن» . وفي اللَاّم وجهان، أظهرهما أنَّها للتبليغ كالتي في: قلت لك.

ص: 42

والثاني: أنها للتَّعليل وهو بعيدٌ. والكاف في «كَذَلِكَ» تحتمل وجهين:

أحدهما: أن تكون للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم َ أو للسامع، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد.

والثاني: أن تكون خطاباً للجماعة، فيكون ذلك ممَّا خوطب به الجمع بخطاب المفرد، ويؤيِّده قوله «لَكُمْ، و» لَعَلَّكُمْ «، وهي لغةٌ للعرب، يخاطبون في اسم الإشارة بالكفا مطلقاً، وبعضهم يستغني عن الميم بضمَّةِ الكاف؛ قال:[الرجز]

1072 -

وَإِنَّمَا الهَالِكُ ثُمَّ التَّالِكُ

ذُو حَيْرَةٍ ضَاقَتْ بِهِ المَسَالِكُ

كَيْفَ يَكُونُ النَّوْكُ إِلَاّ ذَلِكُ

فصل

قوله تعالى: {فِي الدنيا} : فيه خسمة أوجهٍ:

أظهرها: أن يتعلَّق بيتفكّرون على معنى: يتفكَّرون في أمرهما، فيأخذون ما هو الأصلح، ويؤثرون ما هو أبقى نفعاً.

والثاني: أن يتعلَّق ب» يبيِّن «، ويروى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يحتمل أن يقدَّر مضاف، أي: في أمر الدُّنيا والآخرة، ويحتمل ألَاّ يقدَّر، لأنَّ بيان الآيات، وهي العلامات يظهر فيها. وجعل بعضهم قول الحسن من التَّقديم، والتأخير، أي: ليس لذلك يبيِّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا وزوالها وفنائها، فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة، ووقوعها، فترغبون فيها. ثم قال: ولا حَاجَةَ لِذَلِكَ، لحَمْلِ الكَلَامِ على ظاهره، يعني من تعلُّق في الدُّنيا ب» تَتَفَكَّرُونَ «. وهذا ليس من التَّقديم والتَّأخير في شيء؛ لأنَّ جملة التَّرجِّي جاريةٌ مجرى العلَّة فهي متعلِّقةٌ بالفعل معنى، وتقديم أحد المعمولات على الآخر، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضيةً، فلا تقديم، ولا تأخير.

والثالث: أن تتعلَّق بنفس «الآيَاتِ» لما فيها من معنى الفعل، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيَّة. قال مكِّيٌّ:«معنى الآية أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدُّنيا، والآخرة يدلُّ عليها، وعلى منزلتها لعلَّهم يتفكَّرون في تلك الآياتِ» قال ابن عطيَّة: «فقوله: في الدنيا: يتعلَّق على هذا التَّأويل بالآيات» وما قاله عنه ليس بظاهر؛ لأنَّ شرحه الآية لا يقتضي تعلُّق الجار بالآيات. ثمَّ إنْ عَنَى ابن عطية بالتعلّق التعلُّق الاصطلاحي، فقال أبو حيان «فو فَاسِدٌ، لأنَّ» الآيَاتِ «لا تَعْمَلُ شيئاً ألْبَتَّةَ، ولا يَتَعَلَّقُ بها ظَرْفٌ، ولا مَجْرُورٌ» وقال شِهَابُ الدِّين: وهذا من الشَّيخ فيه نظرٌ، فإنَّ الظُّروف تتعلَّق بروائح الأفعال، ولا شكّ أنَّ معنى الآيات العلامات الظَّاهرة، فيتعلَّق بها الظَّرف على هذا. وإن

ص: 43

عنى التَّعلُّق المعنويَّ، وهو كون الجارِّ من تمام معنى:«الآيَاتِ» ، فذلك لا يكون إلاّ إذا جعلنا الجارَّ حالاً من «الآيَات» ، ولذلك قدَّرها مكِّيٌّ نكرة فقال:«يبيِّن لهم آياتٍ في الدُّنْيَا» ليعلم أنَّها واقعةٌ موقع الصِّفة لآيات، ولا فرق في المعنى بين الصِّفة والحال، فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ لوقوعها صفةٌ.

الرابع: أن تكون حالاً من «الآيَاتِ» كما تقدَّم تقريره الآن.

الخامس: أن تكون صلةً للآيات، فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهب الكوفيين، فإنَّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرَّف بأل؛ وأنشدوا:[الطويل]

1073 -

لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ

وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ

ف «البيت» عندهم موصولٌ.

وجوابهم مذكور في غير هذا الكتاب.

والتَّفكُّر: تفعل من الفكر، والفكر: الذِّهن، فمعنى تفكَّر في كذا: أجال ذهنه فيه وردَّده.

قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} .

قال ابن عبَّاس: إنَّ أهل الجاهليَّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، وربَّما تزوَّجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلَاّ يخرج مالها عن يده، فلمَّا نزل قوله تعالى:{إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] وقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلَاّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152 والإسراء: 34]، وقوله:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ والمستضعفين مِنَ الولدان وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} [النساء: 127] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى، تحرُّجاً شديداً، وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم، حتَّى كان يصنع لليتيم طعاماً، فيفضل منه شيءٌ، فيتركونه، ولا يأكلونه حتَّى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً، وطعاماً، وشراباً، فعظم ذلك على ضعفة المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله ما كلُّنا يجد منازل يسكنها الأيتام، ولا كلُّنا يجد طعاماً، وشراباً، يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية.

ص: 44

قوله: {إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ، «إصْلَاحٌ» مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به أحد شيئين: إمَّا وصفه بقوله: «لَهُم» ، وإمَّا تخصيصه بعمله فيه، و «خيرٌ» خبره. و «إصْلَاحٌ» مصدرٌ حذف فاعله، تقديره: إصلاحكم لهم، فالخبريَّة للجانبين أعني جانب المصلح، والمصلح له، وهذا أولى من تخصيص أحد الجانبين بالإصلاح كما فعل بعضهم.

قال أبو البقاء: «فَيَجُوزُ أن يَكُونَ التَّقْدِيرُ: خيرٌ لكم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: خَيْرٌ لَهُم» ، أي: إصلاحهم نافع لكم.

قال بعض العلماء: هذه الكلمة تجمع النَّظر في إصلاح اليتيم بالتَّقويم والتَّأديب وغيرهما لكي ينشأ على علمٍ وأدبٍ وفضلٍ، والنَّظر في إصلاح حاله، وتجمع أيضاً النَّظر في حال الولي، أي: هذا العمل خير له من أن يكون مقصّراً في حقّ اليتيم.

وقال بعضهم: الخير عائد إلى الولي، يعني إصلاح مالهم من غير عوض، ولا أجرة، خير للولي، وأعظم أجراً.

وقال آخرون: الخير عائدٌ إلى اليتيم، والمعنى: أنَّ مخالطتهم بالإصلاح خيرٌ لهم من التَّفرُّد عنهم، والإعراض عن مخالطتهم.

فصل في هل يتصرف في مال اليتيم

قال القرطبيُّ لما أذن الله عز وجل في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنَّظر إليهم وفيهم، كان ذلك دليلاً على جواز التَّصرف في مال اليتيم تصرف الوصيّ في البيع، والقسمة، وغير ذلك على الإطلاق لهذه الآية، فإذا كفل الرَّجل اليتيم، وحازه، وكان في نظره، جاز عليه فعله وإن لم يقدّمه والٍ عليه؛ لأنَّ الآية مطلقة والكفالة ولاية عامَّة، ولم يؤثر عن أحدٍ من الخلفاء أنَّه قدّم أحداً على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنَّما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.

قوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} المخالطة: الممازجة، وقيل: جمع يتعذر فيه التّمييز ومنه يقال للجماع: الخلاط، ويقال: خولط الرجل إذا جُنَّ، والخلاط: الجنون؛ لاختلاط الأمر على صاحبه بزوال عقله.

قوله: «فَإِخْوَانُكُمْ» الفاء جواب الشّرط، و «إِخْوَانُكم» خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم. والجملة في محلِّ جزم جواب الشَّرط، والجمهور على الرَّفع، وقرأ أبو مجلز:«فَإِخْوَانُكُمْ» نصباً بفعل مقدَّر، أي: فقد خالطتهم إخوانكم، والجملة الفعليَّة أيضاً في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يطَّلع عليها الفراء وأبو البقاء فإن الفراء [قال] ولو

ص: 45

نصب كان صواباً، وقال أبو البقاء:«وَيَجُوزُ النَّصْبُ في الكَلَام، أي: فقد خالطتُهم إخوانَكم» .

فصل في بيان وجوه المخالطة

في هذه المخالطة وجوه:

أحدها: المراد بالمخالطة في الطَّعام، والشَّراب، والسُّكنى، والخدم؛ لأن القوم ميَّزوا طعامهم، وشرابهم، ومسكنهم عن طعام اليتيم، وشرابه، وسكنه فأمرهم الله تعالى بخلط الطَّعامين والشَّرابين، والاجتماع في السَّكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده، فإنَّ هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة.

الثاني: المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجرة المثل في ذلك العمل. والقائلون بهذا القول، منهم من جوَّز ذلك سواء كان القيم غنيّاً، أو فقيراً، ومنهم من قال إن كان القيم غنياً لم يأكل من ماله؛ لأن ذلك فرض عليك وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز، واحتجوا بقوله:{وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6] وإن كان القيِّم فقيراً قالوا: يأكل بقدر الحاجة، ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم.

وروي عن عمر أنَّه قال: أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وليّ اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثمَّ قضيت.

وعن مجاهد: إذا كان فقيراً، وأكل بالمعروف، فلا قضاء عليه.

الثالث: أنَّ المراد بهذه «المُخَالَطَةِ» المصاهرة بالنِّكاح، وهو اختيار أبي مسلم قال: لقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء} [النساء: 127] وهذا القول راجحٌ على غيره من وجوه:

أحدها: أنَّ هذا خلط لليتيم نفسه، والشّركة خلط لماله.

وثانيها: أنَّ الشَّركة داخلةٌ في قوله: {قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ، والخلط من جهة النّكاح، وتزويج البَنَات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب.

ص: 46

وثالثها: أن قوله تعالى «فَإِخْوَانُكُم» يدلُّ على أنَّ المراد هو هذا النَّوع؛ لأنَّ اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى إصلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً؛ فوجب أن تكون الإشارة بقوله: «فَإِخْوَانُكُم» إلى نوع آخر من المخالطة.

ورابعها: أنَّ المخالطة المندوب إيها هي في اليتامى الذين هم إخوان لكم بالإسلام، فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم، ليتأكد الاختلاط فإن كان اليتيم من المشركين، فلا تفعلوا ذلك.

قال القرطبيُّ: ما ينفقه الوصيُّ والكفيل له حالتان:

حالة لا يمكنه الإشهاد عليها، فقوله مقبولٌ بغير بيِّنة.

وحالة يمكنه الإشهاد عليها، فمهما اشترى من العقار، وما جرت العادة بالتَّوثق فيه، لم يقبل قوله بغير بيّنة.

وفرّق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصيّ، وينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته، وكسوته، لأنَّه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله، ويلبسه في كلِّ وقت، ولكن إذا قال: انفقت نفقةً لسنةٍ، قبل منه، وبين أن يكون عند أُمّه، أو حاضنته فيدعي الوصي أنَّه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأمَّ أو الحاضنة فلا يقبل منه إلَاّ بيِّنَةٍ أنَّها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة.

فصل

قال أبو عبيد: هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرُّفقاء في الأسفار، فإنَّهم يتقاسمون النَّفقات بينهم بالسَّويَّة، وقد يتفاوتون في قلَّة المطعم، وكثرته، وليس كلّ من قلَّ مطعمه تطيب نفسه بالتَّفضُّل على رفيقه، فلمَّا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً؛ كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيَّق فيه الأمر على النَّاس.

قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} ؛ أي: المفسد لأموالهم من المصلح لها، يعني: الذي يقصد بالمخالطة الخيانة، وإفساد مال اليتيم، وأكله بغير حقّ من الذي يقصد الإصلاح.

وقيل: «يَعْلَمُ» ضمير من أراد الإفساد، والطَّمع في مالهم بالنِّكاح من المصلح، يعني: إنَّكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح، فإذا لم تريدوا ذلك بقلوبكم، بل كان المراد منه عرضاً آخر [فالله مطَّلع] على ضمائركم عالمٌ بما في قلوبكم، وهذا تهديدٌ عظيمٌ؛ وذلك لأنّض اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه، وليس له أحدٌ يراعيها، فكأنَّه تعالى قال: لما لم يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بمصالحه، فَأَنَا مُتَكَفِّلٌ به، وأنا المُطَالِبُ لوليّه بذلك.

ص: 47

تقدم الكلام في قوله: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} في قوله: {إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ} [البقرة: 143] ، والمفسد والمصلح جنسان هنا، وليس الألف واللام لتعريف المعهود، وهذا هو الظَّاهر. وقد يجوز أن تكون للعهد أيضاً.

وفي قوله: {تُخَالِطُوهُمْ} التفاتٌ من ضمير الغيبة في قوله: «وَيَسْأَلُونَكَ» إلى الخطاب لينبِّه السَّامع إلى ما يلقى إليه. ووقع جواب السُّؤال بجملتين.

إحداهما من مبتدأ، وخبر، وأبرزت ثبوتية منكِّرة المبتدإ لتدلَّ على تناوله كلَّ إصلاح على طريق البدليَّة، ولو أُضيفت لعمَّ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص، وكلاهما غير مرادٍ، أمَّا العموم، فلا يمكن، وأمَّا المعهود فلا يتناول غيره؛ فلذلك أُوثر التَّنكير الدَّالُّ على عموم البدل، وأُخبر عنه ب «خَيْر» الدَّالِّ على تحصيل الثَّواب، ليتبادر المسلم إليه. والآخر من شرطٍ، وجزاءٍ، دالّ على جواز الوقوع لا على طلبه وندبيَّته.

قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعول «شَاءَ» محذوف، أي: إعناتكم. وجواب لو: «لأعنَتَكم» .

[والمشهور قطع همزة «لأَعْنَتَكُم» ] ؛ لأنَّها همزة قطعٍ. وقرأ البزيُّ عن ابن كثير في المشهور بتخفيفها بين بين، وليس من أصله ذلك، وروي سقوطها ألبتَّة، وهي كقراءة:{فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] شذوذاً وتوجيهاً. ونسب بعضهم هذه القراءة إلى وهم الرَّاوي، باعتبار أنه اعتقد في سماعه التَّخفيف إسقاطاً، لكنَّ الصَّحيح ثبوتها شاذةً.

و «العنت» : المشَقَّة و «الإعْنَات» الحمل على مشقَّةٍ لا تطاق، يقال: أعْنَتَ فلانٌ فلاناً، إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه، وتعنُّته تعنُّتاً: إذا لبَّس عليه في سؤاله، وعنت العظم المجبور: إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوتٌ: إذا كانت شاقَّةً كدوداً، وعنت الدَّابَّة تَعَنَّت عَنَتاً: إذا حدث في قوائمها كسرٌ بعد جبرٍ، لا يمكنها معه الجري. قال ابن الأنباريّ: أصل العنت الشِّدَّةُ؛ تقول العرب: فلان يتعنت فلاناً، ويعنته إذا شدّد عليه، وألزمه ما يصعب عليه أداؤه.

وقال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128]، أي: شديدٌ عليه ما شقّ عليكم.

ويقال: أعنتني في السُّؤال، أي: شدّد علي وطلب عنتي وهو الإضرارُ.

قال ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم.

ص: 48

وقال عطاءٌ: ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقَّة كما أدخلتم على أنفسكم، ولضيَّق الأمر عليكم في مخالطتهم.

وقال الزَّجَّاج: ولو شاء الله لكلفكم ما شقَّ عليكم.

والعزيز الذي يأمر بعزة سهل على العبد، أو شقَّ.

والحكيم الذي يتصرّف في ملكه بما يريده لا حجَّة عليه، أو يضيع الأشياء في مواضعها.

فضل في بيان التكليف بما لا يطاق

احتجَّ الجبَّائيُّ بهذه الآية على أنَّه تعالى لم يكلِّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لأنَّ قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} يدلُّ على أنَّه لم يفعل الإعنات، ولا ضيق في التَّكليف، ولو كلَّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لكان قد تجاوز حدّ الإعنات، والتَّضييق؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد امتناع الشَّيء لامتناع غيره.

فإن قيل: الآية وردت في حقّ اليتيم.

قلنا: الاعتبار بعموم اللَّفظ، لا بخصوص السَّبب.

واحتجَّ الكعبي بهذه الآية على أنَّه تعالى قادرٌ على خلاف العدل؛ لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات، لم يجز أن يقول:{وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} ، وللنِّظَّام أن يجيب بأنَّ هذا معلَّق على مشيئة الإعناتِ، فلم قلتم بأنَّ هذه المشيئة ممكنةٌ الثُّبوت في حقِّه تعالى.

ص: 49

الجمهور على فتح تاء المضارعة، وقرأ الأعمش بضمِّها من: أنكح الرباعي،

ص: 49

فالهمزة فيه للتَّعدية، وعلى هذا فأحد المفعولين محذوفٌ، وهو المفعول الأوَّل؛ لأنه فاعلٌ معنّى تقديره: ولا تنكحوا أنفسكم المشركات.

والنِّكاح في الأصل عند العرب: لزوم الشَّيء، والإكباب عليه؛ ومنه:«نَكَحَ المَطَرُ الأَرْضَ» ، حكاه ثعلبٌ عن أبي زيد، وابن الأعرابي.

قال الزَّجَّاجيُّ: «النّكاح في الكلام بمعنى الوطء، والعقد جميعاً، موضوع (ن. ك. ح) على هذا التَّرتيب في كلامهم للفرد والشَّيء راكباً عليه هذا كلام العرب الصَّحيح» .

أصله المداخلة؛ ومنه: تناكحت الشَّجر: أي: تداخلت أغصانها؛ ويطلق النِّكاح على العقد؛ كقول الأعشى: [الطويل]

1074 -

وَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا

حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا

أي: فاعْقِدْ، أو توحَّش، وتجنَّب النِّساء، ويطلق أيضاً على الوطء؛ كقوله:[البسيط]

1075 -

البَارِكِينَ عَلَى ظُهُورِ نِسْوَتِهِمْ

والنَّاكِحِينَ بِشَطِّ دَجْلَةَ الْبَقَرَا

وحكى الفرَّاء «نُكُح المَرْأَةِ» بضمِّ النُّون على بناء «القُبُل» ، و «الدُّبُر» ، وهو بضعها، فمعنى قولهم:«نَكَحَها» أي أصاب ذلك الموضع، نحو: كَبَدَهُ، أي أصاب كبده، وقلَّما يقال: ناكحها، كما يقال باضعها.

وقال أبو علي: فَرَّقَتِ العَرَبُ بين العَقْدِ والوَطْءِ بِفَرْقِ لَطِيفٍ، فإذا قالوا:«نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةٌ، أو ابنةَ فلانٍ» ، أرادوا عقد عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ امرأته، أو زوجته، فلا يريدون غير المجامعة، وهل إطلاقه عليهما بطريق الحقيقة فيكون من باب الاشتراك، أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظَّاهر: الثاني: فإنَّ المجاز خيرٌ من الاشتراك، وإذا قيل بالحقيقة، والمجاز فأيهما حقيقة؟ ذهب قوم إلى أنَّه حقيقةٌ في العقد واحتجوا بوجوهٍ:

منها: قوله عليه الصلاة والسلام: «لَا نِكَاحَ إلَاّ بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ» ، وقَّف النِّكاح

ص: 50

على الوليّ، والشُّهود، والمراد به العقد، وقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَولَدْ مِنْ سِفَاحٍ» فجعل النّكاح، كالمقابل للسِّفاح.

ومعلومٌ أنَّ السِّفاح مشتملٌ على الوطء، فلو كان النِّكاح اسماً للوطء، لا متنع كون النِّكاح مقابلاً للسِّفاح، وقال تعالى:{وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] ولا يمكن حمله إلَاّ على العقد.

وأيضاً قول الأعشى في البيت المتقدِّم لا يحتمل إلَاّ الأمر بالعقد؛ لأنه قال: «ولَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً» يعني مقاربتها على الطَّريق الَّذي يحرُمُ فاعقدْ وتزوَّج، وإلَاّ فتأيَّم، وتجنَّبِ النِّساء.

وقال الرَّاغب: أصْلُ النِّكَاحِ للعقدِ، ثم اسْتُعِيرَ للجِمَاعِ، ومُحَالٌ أن يَكُونَ في الأَصْلِ للجِمَاعِ، ثم استُعِير لِلْعَقْدِ، لأنَّ أَسْمَاءَ الجِمَاعِ كلَّها كِنَايَاتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه؛ كاستقباحهم تَعاطِيَهُ، ومُحالٌ أن يستعيرَ مَنْ لا يَقْصِدُ فُحْشاً اسمَ مَا لَا يَسْتَفْظِعُونَهُ لِمَا يَسْتَحْسِنُونَهُ؛ قال تعالى:{فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء}

[النساء: 3] .

وقال آخرون: هو حقيقةٌ في الوطء، واحتجوا بوجوه:

منها قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] نفي الحل ممتدٌّ إلى غاية النِّكاح، وليس هو العقد؛ ومنها قوله صلى الله عليه وسلم َ:«حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ؛ فوجب أن يكون هو الوطء.

ص: 51

وأجيب بأن امرأة رفاعة، لم تفهم عند الإطلاق إلَاّ مجرَّد العقد؛ حتى قال لها عليه الصلاة والسلام:«لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» .

ومنه: قوله عليه الصلاة والسلام: «نَاكِحُ اليَدِ مَلْعُونٌ، وَنَاكِحُ البَهِيمَةِ مَلْعُونٌ» أثبت النِّكاح [مع عدم العقدِ.

والنِّكاحُ] في اللُّغة عبارة عن الضمّ، والمداخلة كما تقدَّم في المطر، والأرض، وتناكح الشَّجر، ونكح النُّعاس عينه، وفي المثل:

«نَكَحْنَا الفَرى فَسَتَرَى» والبيت المتقدم، وقوله:[البسيط]

1076 -

أنكحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلةٍ

تَغَشْمَرَتْ بي إِلَيْكَ السَّهْلَ والجَبَلَا

والضَّمُّ والوطء في المباشرة أتَمُّ منه في العقد.

وأجيب بأنَّ هذه قرائن صارفةٌ له عن حقيقته.

فصل في هل يتناول المشرك أهل الكتاب؟

لفظ «المُشْرِك» ؛ هل يتناول أهل الكتاب؟

فالأكثرون على أنَّ الكتابة تشمل لفظ المشرك، ويدلُّ عليه وجوه:

أحدها: قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30]، ثم قال بعد ذلك:{سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] وهذا تصريحٌ بأن اليهوديَّ، والنَّصرانيّ مشركٌ.

وثانيها: قوله تعالى: {إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ، فدلت هذه الآية على أنَّ ما سوى الشّرك فقد يغفره الله تعالى في الجملة، فلو كان كفر اليهوديِّ والنَّصرانيّ ليس بشرك، لوجب أن يغفره الله تعالى في الجملة، وذلك باطلٌ، فعلمنا أنَّ كفرهما شركٌ.

وثالثها: قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]

ص: 52

فهذا التَّثليث إمَّا أن يكون لاعتقادهم وجود صفاتٍ ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة.

والأول باطلٌ؛ لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً، ومن كونه حيّاً، وإذا كانت هذه المفهومات الثَّلاثة لا بدّ من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفاتٍ ثلاثة من ضرورات دين الإسلام، فكيف يمكن تكفير النَّصارى بسبب ذلك؛ ولمَّا بطل ذلك علمنا أنَّه تعالى إنَّما كفَّرهم؛ لأنَّهم أثبتوا ذواتاً ثلاثةً قديمةً مستقلَّةً؛ وذلك لأنهم جوَّزوا في أُقنُوم الكلمة أن يحلّ في عيسى، والأُقْنُومُ عندهم عبارةٌ عن حقيقة الشَّيءِ، وجوَّزوا في أُقْنُومِ الحَيَاةِ أن يحلّ في مريم، ولولا أنَّ هذه الأشياء المسمَّاة عندهم بالأقانيم ذوات قامة بأنفسَها؛ لمّا جوَّزوا عليه الانتقال من ذوات إلى ذاتٍ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنَّفْس قديمة أزليَّة، وهذا شركٌ. وإذا ثبت دخولهم تحت اسم الشِّرك، فاليهود كذلك إذ لا قائل بالفرق.

ورابعها: أنّه عليه الصلاة والسلام أمَّر أميراً، وقال:«إذا لقيت عدوّاً مِنَ المُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُم إلى الإِسْلَامِ، فإنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم، وَإِنْ أَبوا، فادْعُهُم إِلى الجِزْيَةِ، وَعَقْدِ الذِّمَّةِ» .

وخامسها: قال أبو بكر الأصمُّ: كلُّ من جحد الرِّسالة، والمعجزة، فهو مشركٌ؛ لأن تلك المعجزات إنَّما ظهرت عن الله تعالى، وكانوا يضيفونها إلى الجنِّ والشَّياطين، ويقولون: إنَّها سحرٌ، فقد أثبتوا لله شريكاً في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر.

وقال أبو الحسن بن فارس: هم المشركون؛ لأنَّهم يقولون: القرآن كلام غير الله، فقد أشركوا مع الله غير الله.

فإن قيل: إنَّه تعالى فصل بين القسمين، وعطف أحدهما على الآخر في قوله:{إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين} [البقرة: 62] وقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17] وقال: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلَا المشركين} [البقرة: 105] وذلك يوجب التَّغاير.

والجواب أنَّ هذا كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] وكقوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فإن قالوا: إنَّما خصَّ بالذِّكر تنبيهاً على كمال الدَّرجة في ذلك الوصف.

ص: 53

قلنا: وها هنا أيضاً كذلك إنَّما خصَّ عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيهاً على كمال درجتهم في الكفر.

فصل في سبب النزول

سبب نزول هذه الآية: أنَّ أبا مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى «مَكَّة» ، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً فلما قدمها سمعت به امرأة مشركةٌ يقال لها:«عنَاق» ؛ وكانت خليلته في الجاهليَّة فأتته وقالت: يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها: ويحك يا عَنَاق إنَّ الإسلام قد حال بَيْنَنَا وبَيْنَ ذلك. قالت: هل لك أن تتزوَّج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأستأمره. فقالت: أبي تتبرم؟ ثم استغاثت؛ فضربوه ضرباً شديداً، ثمَّ خلَّوا سبيله، فلمَّا قضى حاجته بمكَّة، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أعلمه الذي كان من أمره، وأمر عناق، وقال: يا رسول الله؛ أيحلُّ لي أن أتزوَّجها؛ فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} [البقرة: 221] .

فصل في الآية هل هي ابتداء حكم أو تقرير سابق

واختلف المفسِّرون في هذه الآية: هل هي ابتداء حكم وشرع، أو هو متعلّقٌ بما تقدَّم؛ فالأكثرون على أنَّه ابتداء شرعٍ في بيان ما يحلُّ، ويحرم.

وقال أبو مسلم: بل هو متعلِّق بقصَّة اليتامى، فإنَّ الله تعالى لما قال:{وإنْ تُخَالِطُوهم فَإِخْوَانُكُمْ} وأراد مخالطة النِّكاح عطف عليه بما يبعث على الرَّغبة في اليتامى، وأنَّ ذلك أولى ممَّا كانوا يتعاطونه من الرَّغبة في المشركات، وبيَّن أنَّ أمةً مؤمنةً خيرٌ من مشركة، فإنها بلغت النِّهاية فيما يُفْضي إلى الرَّغبة فيها ليدلَّ بذلك على ما يبعث على التَّزوُّج بالتيامى، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعيةً لما أمر به من النَّظر في صلاحهم وصلاح أموالهم.

وعلى الوجهين، فحكم الآية لا يختلف.

فصل في بيان جواز نكاح الكتابيَّة

الأكثرون من الأُمَّة قالوا: يجوز للرَّجل أن يتزوَّج بالكتابيَّة. وقال ابن عمر، ومحمَّد بن الحنفيَّة، والهادي - وهو أحد أئمَّة الزَّيديَّة - إنَّ ذلك حرامٌ، واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى في سورة المائدة:{والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلاً.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من آمن منهنّ بعد الكفر، ومن كان على الإيمان من أول الأمر؟

ص: 54

قلنا: قوله: {مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [آل عمران: 186 والمائدة: 5 والمائدة: 57] يفيد حصلو هذا الوصف في حال الإباحة، ويدلُّ على ذلك فعلُ الصحابة، فإنهم كانوا يتزَّجون الكتابيَّات، ولم يظهر من أحد منهم إنكار ذلك وكان إِجماعاً على الجواز، كما نقل أنَّ حذيفة تزوَّج يهوديَّةٌ، أو نصرانية، فكتب إليه: أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فقال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهنَّ.

وتزوج عثمان نائلة بنت فرافصة، وكانت نصرانيَّة؛ فأسلمت تحته، وتزوَّج طلحة بن عبيد الله يهوديَّة.

وعن جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الكِتَابِ، وَلَا يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا» .

وروى عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنَّه عليه الصلاة والسلام قال في المجوس: «سِنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائهم، وَلَا آكلي ذَبَائِحِهِمْ» ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً، لكان هذا الاستثناء عبثاً.

وقال قتادة وسعيد بن جبير: أراد ب «المُشْرِكَاتِ» في الآية الوَثَنِيَّاتِ.

واحتجَّ القائلون بعدم الجواز بوجوه:

أحدها: أنَّ لفظ «المُشْرِك» يتناول الكتابيَّة على ما بيَّنَّاه، والتَّخصيص والنَّسخ خلافُ الظَّاهر.

قالوا: ويؤيِّد ذلك قوله في آخر الآية: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار} والوصف المناسب إذا ذكر عقيب الحكم أشعر بالعِلِّيَّة، وكأنه تعالى قال: حَرَّمْتُ عليكم نِكَاح المُشْرِكَاتِ؛ لأنَّهم يدعُونَ إِلَى النَّارِ وهذه العِلَّةُ قَائِمَةٌ في الكِتَابِيَّةِ، فوجب القطع بتحريمها.

وثانيها: أنَّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة تلا آية التَّحريم وآية التَّحليل، ووجه

ص: 55

الاستدلال: أنَّ الأصل في الأبضاع الحرمة فلما تعارض دليلُ الحلِّ، ودليل الحرمة تساقطا؛ فوجب بقاء حكم الأصل، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين قال: أحلَّتهما آيةٌ، وحرَّمتهما آية، فحكم عند ذلك بالتَّحريم للسَّبب الذي ذكرناه، فكذا ها هنا.

وثالثها: حكى ابن جرير الطَّبريُّ في «تَفْسِيرِهِ» عن ابن عبَّاسٍ تحريم أصناف النِّساء إلَاّ المؤمنات، واحتجَّ بقوله:{فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] ، وإذا كان كذلك فالكتابيَّة كالمرتدَّة في أنه لا يجوز العقد عليها.

ورابعها: أنَّ طلحة نكح يهوديَّة، وحذيفة نصرانيَّة، فغضب عمر عليهما غضباً شديداً، فقالا: نطلق يا أمير المؤمنين، فلا تغضب.

فقال: إنَّ من أحلَّ طلاقهنَّ، فقد أحلَّ نكاحهنَّ، ولكن أنتزعهنَّ منكما.

وأجيب عن الأوَّل بأنَّ من قال: الكتابيُّ لا يدخل تحت اسم المشرك، فالإشكال عنه ساقطٌ، ومن سلَّم ذلك، قال إنَّ قوله تعالى:{والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] أخص من هذه الآية، فإذا كانت هذه الحرمة ثاتبةً، ثم زالت كان قوله:«والمُحْصَنَاتُ» ناسخاً، وإن لم تثبت الحرمة كانت مخصَّصة، وإن كان النَّسخ والتَّخصيص خلاف الأصل إلَاّ أنَّه إنما لما كان لا سبيل إلى التَّوفيق بين الآيتين إلَاّ بهذا الطَّريق؛ وجب المصير إليه.

وقولهم: إنَّ نكاح الوثنيَّة إنَّما حرِّم؛ لأنَّها تدعو إلى النَّار، وهذا المعنى موجودٌ في الكتابيَّة.

قلنا: الفرق بينهما أنَّ المشركة متظاهرةٌ بالمخالفة، فلعلَّ الزَّوجَ يحبُّها، ثم إنَّها تحمله على مقاتلة المسلمين، وهذا المعنى غير موجود في الذِّمِّيَّة؛ لأنها مقهورةٌ راضيةٌ بالذِّلَّة، والمسكنة، فلا يتضمن نكاحها المقاتلة.

وقولهم: تعارضت آية التَّحريم، وآية التَّحليل. قلنا: آية التَّحليل خاصَّة، ومتأخِّرةٌ بالإجماع؛ فوجب تقديمها على آية التَّحريم، بخلاف الآيتين، بالجمع بين الأختين في ملك اليمين، لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما أخصُّ من الأُخرى من وجهٍ، وأعمُّ من وجهٍ آخر، فلم يحصل فيه سبب التَّرجيح.

ص: 56

وأمَّا التَّمسُّكُ بقوله: «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه» فجوابه: أنَّا لما فرَّقنا بين الكتابيَّة وبين المرتدَّة في أحكامٍ كثيرةٍ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم؟

أمَّا تمسُّكهم بأثر عمر، فقد نقلنا عنه أنَّه قال: ليس بحرامٍ، وإذا حصل التَّعارض بينهما؛ سقط الاستدلال بهما، وسلم باقي الأدلَّة.

فصل في نكاح الكتابيَّات

قال القرطبيُّ: وأمَّا نكاحُ أهل الكتاب إذا كانوا حرباً، فلا يحلُّ.

وسئل ابن عباس عن ذلك، فقال: لا تحلُّ، وتلا قوله تعالى:{قَاتِلُواْ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالله وَلَا باليوم الآخر وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قال الرَّاوي: تحدَّث بذلك إبراهيم النَّخعيُّ، فأعجبه.

فصل

نقل عن الحسن أنَّه قال: هذه الآية ناسخةٌ لما كانوا عليه من تزويج المشركات.

قال بعض العلماء: إن كان إقدامهم على نكاح المشركات من قبل العادة، لا من قبل الشَّرع؛ امتنع كون هذه الآية ناسخةً؛ لأنَّه ثبت في الأصول أنَّ النَّاسخَ والمنسوخَ يجب أن يكونا حكمين شرعيين، وإن كان جواز نكاح المشركات ثابتاً من جهة الشَّرع، كانت هذه الآية ناسخةٌ.

قوله: {حتى يُؤْمِنَّ} «حَتَّى» بمعنى: «إلى» فقط، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أَنْ» ، أي: إلى أن يؤمنَّ، وهو مبنيٌّ على المشهور لاتصاله بنون الإناث، والأصل: يؤمنن، فأدغمت لام الفعل في نون الإناث.

فصل في بيان قوله تعالى {حتى يُؤْمِنَّ}

اتَّفق الكلُّ على المراد من قوله {حتى يُؤْمِنَّ} الإقرار بالشَّهادة والتزام أحكام

ص: 57

الإسلام، وإذا كان كذلك احتجّت الكرَّاميَّة بهذه الآية على أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار؛ لأنَّه غيّاً التحريم إلى الإيمان، وهو هنا الإقرار؛ فثبت أنَّ الإيمان في عرف الشَّرع عبارة عن الإقرار، وأُجيبوا بوجوهً:

منها: قوله تعالى:

{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] .

ومنها: قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ؛ ولو كان الإيمان عبارة عن مجرَّد الإقرار، لكان قوله «قُلْ لم تُؤْمِنُوا» كذباً. وأُجيبوا عن التَّمسُّك بهذه الآية بأنَّ التَّصديق الذي في القلب لا يمكن الاطِّلاع عليه، فأقيم الإقرار باللِّسان مقام التَّصديق بالقلب.

قوله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ} . قال أبو مسلمٍ: اللام في قوله: «وَلأَمَةٌ» تشبه لام القسم في إفادة التَّوكيد.

سوَّغ الابتداء ب «أَمَة» شيئان: لام الابتداء والوصف. وَأصْل «أمة» : أمَوٌ، فحذفت لامها على غير قياسٍ، وعوَّض منها تاء التَّأنيث ك «قُلَة» ، و «ثُبَة» يدلُّ على أنَّ لامها واوٌ رجوعها في الجمع؛ قال الكلابيُّ:[البسيط]

1077 -

أمَّا الإِمَاءُ فَلَا يَدْعُونَنِي وَلَداً

إِذَا تَدَاعَى بَنُو الإِمْوَانِ بالعَارِ

ولظُهُورها في المصدرِ أيضاً، قالوا: أَمَةٌ بيّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة. وهل وزنها «فَعَلة» بتحريكِ العين، أو «فَعْلة» بسكونها؟ قولان، أظهرهما الأَوَّلُ، وكان قياسُها على هذا أن تُقلَبَ لامُها ألفاً لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة، ولكن حُذِفت على غير قياس.

والثاني: قال به أبو الهيثم، فإنَّهُ زعم أنَّ جمع الأمة أَمْوٌ، وأنَّ وزنها فعلة بسكون العين، فيكون مثل نخلٍ، ونخلةٍ، فأصلها أَمْوَة، فحذفوا لامها إذْ كانت حرف لين، فلمَّا جمعوها على مثل: نخلةٍ ونَخْلٍ لزمهم أن يقولوا: أَمَة، وأَم، فكرهوا أن يجعلُوها حرفين، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواو المحذوفة لمَّا كانت آخر الاسم، فقدَّموا الواو وجعلُوه ألفاً بين الهمزة والميم، فقالوا: أام. وما زعمه ليس بشيء إذ كان يلزمُ أن يكون الإعرابُ على الميم، كما كان على لامِ «نَخْلٍ» ، وراء «تَمْر» ، ولكنه على التَّاءِ المحذوفةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ. وجُمِعت على «إِمْوان» كما تقدَّم، وعلى إماء، والأصلُ: إمَاؤٌ، نحو رقبةٍ، ورِقاب، فقُلِبَت الواو همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء. وفي الحديث: «لَا

ص: 58

تَمْتَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وعلى آمٍ، قال الشَّاعر:[مجزوء الكامل]

1078 -

تَمْشِي بِهَا رُبْدُ النَّعَا

مِ تَمَاشِيَ الآمِ الزَّوَافِرْ

والأَصْلُ «أَأْمُوٌ» بهمزتين، الأُولى مفتوحةٌ زائدةٌ، والثَّانيةُ ساكِنَةٌ هي فاءُ الكلمة نحو: أكمة، وأَأْكُم، فوقعت الواو طرفاً مضموماً ما قبلها في اسمٍ مُعربٍ ولا نظيرَ لهُ، فقُلبت الواو ياءً والضَّمَّة كَسْرةً لتصِحَّ الياءُ، فصار الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ نحو: غازٍ وقاضٍ، ثمَّ قُلِبَت الهمزةُ الثَّانيةُ ألِفاً، لسكونها بعد أُخرى مفتوحةٍ، فتقولُ: جاءَ آمٌ، ومررت بآمٍ، ورأيت آمياً، تقدِّرُ الضَّمَّة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحة، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً:«أَدْلٍ» و «أَجْرٍ» جمعُ «دَلْوٍ» و «جَرْوٍ» وهذا التَّصريف الذي ذكرناهُ يرُدُّ على أبي الهيثم قوله المتقدّم، أعني كونه زعمَ أن آمياً جمع أَمْوَة بسكونِ العينِ، وأَنَّهُ قلب، إِذ لو كان كذلك لكانَ ينبغي أَنْ يُقالَ جاء آمٌ، ومررت بآمٍ، ورأيت آماً، وجاء الآم ومررتُ بالآم، فتُعْربَ بالحركات الظاهرة.

والتَّفضيلُ في قوله: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} : إمَّا على سبيل الاعتقاد، لا على سبيل الوجود، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافع أُخرويَّة، ونكاحَ المشركةِ الحُرَّة يشتملُ على منافِعَ دنْيَويّةٍ، هذا إذا التزَمنا بِأَنَّ «أَفْعَلَ» لا بدّ أن يدُلَّ على زيادةٍ ما، وإلَاّ فلا حاجة إلى هذا التأويل، كما هو مذهبُ الفرَّاءِ وجماعةٌ.

وقوله: {مِّن مُّشْرِكَةٍ} يحتمِلُ أن يكُونَ «مُشْرِكَةٍ» صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه بمقابِلِهِ، أي: مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، أو مدلولٌ عليه بلفظِهِن أي: مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ، على حسب الخلاف في قوله:«وَلأَمَةٌ» هل المُراد المَمْلُوكةُ للآدميين، أو مطلقُ النِّسَاء، لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؛ كما قال عليه السلام «لَا تَمْنَعُوا إِمَاء اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذلك الخلافُ في قوله:{وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} .

وقال بعضهم وَلأَمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ ولا حاجة إلى هذا التقدير، لأن اللَّفظ مطلق. وأيضاً فقوله:{وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} يدُلُّ على صفة الحُرِّيَّة؛ لأَنَّ التَّقدير: ولو أعجبتكم بحسنها، أو مالها، أو حرّيتها، أو نسبها، فكُلُّ ذلك داخِلٌ تحت قوله:{وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} .

ص: 59

فصل في سبب النُّزُول

نزلت هذه الآية في خنساء، وهي وليدةٌ سوداءُ، كانت لحذيفة بن اليمان، قال حذيفة: يا خنساء قد ذكرت في المَلأ الأَعلى على سوادك ودمامتك؛ فأعتقها وتزوجها.

وقال السُّدِّيُّ: نزلت في عبد اللهِ بن رواحة كانت له أَمَةٌ سَوداءُ، فغضب عليها، ولطمها، ثم أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم َ - وأخبره بذلك، فقال له عليه الصلاة والسلام:«وَمَا هي» ؟ فقال: تشهدُ ألَاّ إله إلا الله، وأنَّك رسُولُ اللهِ، وتُحسن الوضُوء وتُصَلّي فقال:«إنّ هذه مؤمنة» قال عبد اللهِ: فوالَّذي بعثك بالحق نبيّاً، لأعتقها ولأتزوجها، ففعل، فطعن عليه ناسٌ من المُسلمين، وقالوا: تنكح أمة؟! وعرضُوا عليه حُرَّةٌ مشركة. فأَنزلَ اللهُ هذه الآية.

فصل في بيان الخيريَّة في الآية

والخير ها هنا النفع الحسن، والمعنى: أَنَّ المشركة - وإِنْ كانت ثابتة في المال، والجمال، والنَّسَب - فالأَمَةُ المُؤْمِنة خيرٌ منها إِلَاّ أن الإيمان يتعلَّق بالدِّين، والمال، والجمال، والنَّسب متعلّق بالدِّين والدُّنيا، ولا شكَّ أَنَّ الدِّين خيرٌ مِنَ الدنيا؛ لأنه أشرف الأشياء عند كل أحد، فإذا اتفق الدين كملت المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد، وعند اختلاف الدين لا يحصل شيء من ذلك.

فصل في تقرير مذهب أبي حنيفة في القادر على التزوّج بأمة مع وجود الحرة

قال الجبائي: دلت الآية على أن القادرعلى طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة كمذهب أبي حنيفة؛ لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون - لا محالة - واجداً لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت في قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح فيلزم - قطعاً - أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأَمَةِ، وهو استدلالٌ لطيف.

قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ، وقوله:{وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نصب على الحالِ، وقد تقدَّم أنَّ «لَوْ» هذه في مثل هذا التَّركيب شرطيّةٌ بمعنى:«إِنْ» نحو: «رُدُّوا السَّائل، ولو بظَلْفٍ مُحْرَقٍ» ، وأنَّ الواوَ لِلْعَطفِ على حالٍ محذوفةٍ، التَّقديرُ: خيرٌ من

ص: 60

مشركةٍ على كُلِّ حالٍ، ولو في هذه الحال، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأَحوالِ، وأنَّ ما بعد «لَوْ» هذه إِنَّمَا يأتِي وهو مُنافٍ لِمَا قبلَه بوجهٍ ما، فالإِعجابُ مُنافٍ لحُكْم الخَيْريَّة، ومُقْتَضٍ جوازِ النِّكَاحِ لرغبةِ النَّاكِح فيها. وقال أبو البقاء:«لَوْ» هنا بمعنى «إِنْ» وكذا كُلُّ موضع وقع بعد «لَوْ» الفعلُ الماضِي، وكان جوابُها مُتقدِّماً عليها، وكونها بمعنى «إِنْ» لا يشترط فيه تقدُّمُ جوابها؛ ألا تَرَى أنَّهم قالوا في قوله تعالى:{لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] إنَّها بمعنى: «إنْ» مع أَنَّ جوابها وهو: «خَافُوا» مُتأخِّرٌ عنها، وَقَدْ نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النِّسَاءِ قال في خافُوا: وهو جوابُ «لَوْ» ومعناها «إنْ» .

فصل في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة

قال القُرطبيُّ: اختلفوا في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة؛ فقال مالِكٌ: مَنْ أسلم وتحته أَمَةٌ كتابيَّةٌ أَنَّه لا يُفرَّق بينهما.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوزُ نكاحُ إِماءِ أَهلِ الكِتَابِ. قال ابن العربيّ: احتجّ أصحابُ أبي حنيفة على جواز نكاح الأَمَةِ بقوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} ووجهُ الدلالة: أَنَّهُ تعالى خاير بين نكاح الأَمَة المؤْمِنة والمُشركة، فلولا أَنَّ نكاح الأَمة المشركة جائِزٌ لما خاير بينهما؛ لأَنَّ المخايرة إِنَّما هي بينَ الجائزين، لا بين جائِزٍ وممتنع، ولا بينَ متضادين.

والجوابُ: أَنَّ المخايرة بين الضدَّين تجوزث لغةً وقُرْآناً، قال تعالى:{أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 42] .

وقال عمر في رسالته لأبي موسى الأشعري: الرّجوع إلى الحقّ خيرٌ مِنَ التَّمَادِي في الباطل.

ص: 61

وجوابٌ آخرُ: أنَّ قوله: «وَلأَمَةٌ» لم يُرد به الرّقَّ المَمْلُوك وإِنَّما أراد به الآدمِيَّات والآدَميين كقوله عليه الصلاة والسلام:

«لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذا قوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} وقوله: {وَلَا تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} هذا بالإِجماع المراد منه الكُلّ، وأَنَّ المُؤْمِنة لا يحلُّ تزويجها بكافرٍ البَتَّة على اختلاف أنواع الكُفر، والكلام في قوله:{وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} على نحو ما تقدَّمَ.

فصل في نكاح المجوسيَّة

قال القرطبيُّ: اختلفوا في نكاح المجوسية؛ فمنع منه مالكٌ والشَّافعيُّ، وأبو حنيفة، والأوزاعيُّ وإسحاقُ.

وقال أحمد: لا يعجبني.

وروي أَنَّ حُذيفة بن اليمان تزوَّجَ مجوسية، وأَنَّ عمر بن الخطَّاب قال له: طلِّقها.

قال ابن القصَّار: من قال كان لهم كتاب جَوَّزَ نكاحهنَّ.

قوله: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار} وهي نظير قوله تعالى: {مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار} [غافر: 41]، وفي تأويلها وجوهٌ:

الأوَّل: أَنَّهم يدعون إلى ما يُؤَدِّي إلى النَّارِ.

فإن قيل: كيف يدعون إلى النَّارِ، ورُبَّما لم يُؤمِنُوا بالنَّارِ أصلاً، فكيف يدعون إليها؟!

والجواب: أنَّهم يدعون إلى ما يؤدِّي إلى النَّارِ، فإنَّ الظَّاهر أن الزَّوجيّة مظنة الأُلفة والمحبة والمَودَّة، وكُلُّ ذلك يُؤَدِّي إلى انتقال المسلم عن الإِسلام بسبب موافقة حبيبه.

فإن قيل: احتمالُ المحبَّة حاصِلٌ من الجانين، فكما يحتملُ أَنْ يصير المسلمُ كافراً بسبب الأُلفةِ والمحَبَّةِ يحتمل أيضاً أنْ يصير الكافِرُ مُسْلِماً بسبب الأُلفةِ والمَحبَّة، وإذا تعارض الاحتمالان، تساقطا، وبقي أصل الجوازِ.

فالجواب: أَنَّ العمل إذا دار بين أن يلحقه نفع، أو بين أن يلحقه ضررٌ؛ وجب

ص: 62

الاحترازُ عن الضَّرَرِ، فلهذا السَّبب رجَّح اللهُ جانب المنعِ.

التَّأويل الثَّاني: أنَّهُم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال، وفي تركهما وجوب استحقاق النَّار والعقاب، والغَرَضُ منه أَنْ يجعل هذا فرقاً بين الذِّمِّيَّة، وغيرها، فإنَّ الذِّمِّيَّة لا تحمل زوجها على المقاتلة.

التَّأويل الثالث: أَنَّ الولد الَّذِي يحدث، ربَّما دعاهُ الكافِرُ إلى الكُفْرِ، فيصير الكافر والولد من أهلِ النَّارِ، فهذا هو الدَّعوة إلى النَّارِ، {والله يدعوا إِلَى الجنة} حيثُ أمر بالتَّزْويج بالمسلمة، حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجَنَّة.

قوله: {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ} فيه قولان:

الأول: أَنَّ المعنى: وأولياء اللهِ يدعون إلى الجَنَّة، والمغفرة، فلا جرم أنه ينبغي للعاقل ألَاّ يقرب من مشركة، فإِنَّها من أعداء اللهِ، وأن ينكح المُؤْمنة؛ لأَنَّها تدعُو إلى الجَنَّةِ والمغفرة.

الثاني: أنَّهُ سبحانه وتعالى لمَّا بيَّنَ هذه الأَحكام، وأباح بعضها، وحرَّم بعضها قال {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة} ؛ لأنَّ من تمسَّكَ بهما اسْتَحَقّ الجنَّةَ.

و {والمغفرة} الجمهورث على جَرِّ {والمغفرة} عطفاً على «الجَنَّةِ» و «بِإِذْنِهِ» مُتعلِّقٌ ب «يَدْعُو» أي: بتسهيلهِ، وتيسيره، وتوفيقه، وقيل بقضائه وإرادته.

وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَت «المَغْفِرَة» على الجنة: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد: 21] و {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] ، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ المغفرة سببٌ في دُخُولِ الجَنَّةِ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلة، فإنَّ قبلَها «يَدْعُو إِلى النَّارِ» ، فقدَّم الجَنَّةَ ليقابِلَ بها النَّارَ لفظاً، ولتشوُّقِ النُّفوس إليها حين ذكر دعاءَ اللهِ إليها، فأتى بالأَشْرَفِ.

وقرأ الحسن {والمغفرة بِإِذْنِهِ} على الابتداءِ والخبرِ، أي: حاصِلةٌ بإذنِهِ.

ويبين آياته للناس لعلَّهم يتذكَّرُون، أي: أوامره، ونواهيه.

ص: 63

{المحيض} فعل من الحيضِ، ويُرادُ به المصدرُ، والزمانُ، والمكانُ، تقولُ: حاضِت المرأَةُ تحيضُ، حَيضاً ومَحِيضاً، ومَحاضاً، فَبَنَوْه على مَفْعلٍ ومَفْعَل بالكَسرِ والفتحِ.

واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ ثلاثة مذاهب:

ص: 63

أحدها: أَنَّهُ كالصَّحيح، فتُفْتَحُ عينهُ مراداً به المصدرُ، وتُكسَرُ مراداً به الزَّمانُ والمكانُ.

والثَّاني: أَنْ يُتَخَيَّر بين الفتح والكسر في المصدرِ خاصَّةً، كما جاء هنا: المَحيضُ والمحَاضُ، ووجهُ هذا القول: أنَّهُ كثُر هذان الوجهان: أعني، الكسر، والفتح فاقْتَاسا.

والثالث: أَنْ يُقْتَصَرَ على السَّماعِ، فيما سُمِع فيه الكَسرُ، أو الفتحُ، لا يَتَعَدَّى. فالمحيضُ المُرادُ به المَصْدَرُ ليس بمقيسِ على المذهبين الأول والثالث، مقيسٌ على الثاني. ويقال: امرأَةٌ حائِضٌ ولا يقال: «حائِضَةٌ» إلا قليلاً، أنشد الفرَّاء:[الطويل]

1079 -

...

...

...

...

كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْر طَاهِرِ

وَالمَعْرُوفُ أَنَّ النَّحويين فَرَّقوا بين حائضٍ، وحائضةٍ: فالمُجرَّدُ من تاء التَّأنيث بمعنى النَّسَب، أي: ذاتُ حيضٍ، وإِنْ لم يكن عليها حَيْضٌ، والملتبسُ بالتَّاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعر ذلك، وهكذا كُلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمُؤَنّثِ نحو: طَامِث ومُرْضِ وشبههما.

قال القرطبيُّ: ويقال: نساءٌ حيض، وحوائض، والحَيضةُ: المرأَةُ الواحدة. والحِيضةُ بالكَسْر، الاسم والجمع الحيض، والحيضة أيضاً: الخرقةُ التي تَسْتَثْفِرُ بها المَرْأَةُ، قالت عَائِشَةُ: لَيْتَنِي كُنُتُ حِيْضَةٌ مُلْقَاةٌ «وكذلك المَحِيضَةُ، والجمع: المَحائص.

وأصلُ الحَيض السَّيَلانُ، والانفجِارُ، يُقالُ: حَاضَ السَّيلُ وَفَاضَ، قال الفَرَّاءُ:» حَاضَتِ الشَّجَرَةُ، أي: سال صَمْغُها «، قال الأَزهرِيُّ:» وَمِنْ هَذَا قيل لِلْحَوضِ: حَيْضٌ؛ لأَنَّ المَاءَ يسيلُ إليه «والعربُ تُدْخِلُ الواو على اليَاءِ، وَالياءَ على الواوِ؛ لأَنَّهُما من حَيِّز واحدٍ، وهو الهواءُ.

ويقالُ: حاضت المرأةُ وتحيَّضَتْ، ودَرَسَتْ، وعَرَكت، وطَمِثت فهي حائضٌ، ودارِسٌ، وعارِكٌ، وَطَامِثٌ، وطَامِسٌ، وكَابِرٌ، وَضَاحِكٌ. قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] أي: حضن، وقال تعالى:{فَضَحِكَتْ} [هود: 71] .

قال مجاهد: أي: حاضَتْ ونافس أيضاً، والظَّاهر أن المحيض مصدرٌ كالحيضِ،

ص: 64

ومثله:» المَقِيلُ «مِنْ قال يقِيلُ؛ قال الرَّاعِي: [الكامل]

1080 -

بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ

لَا يَسْتَطِيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلَا

وكذلك قال الطَّبريُّ:» إِنَّ المَحِيضَ اسْم كالمَعِيشِ: اسمُ العَيْشِ «؛ وأنشد لرؤبة: [الرجز]

1081 -

إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ

وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي

وقيل: المَحيضُ في الآية المُرادُ به: اسمُ موضعِ الدَّم، وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً، ويؤيِّد الأَوَّل قوله:{قُلْ هُوَ أَذًى} . وقد يُجَابُ عنه بأنَّ ثَمَّ حذف مضافٍ، أي: هو ذُو أَذى، ويؤيِّدُ الثَّاني قوله:{فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} . ومن حَمَلَه على المَصْدَرِ قَدَّر هنا حَذْفَ مُضَافٍ، أي: فاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ في زَمَانِ الحَيْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَحِيضُ الأَوَّلُ مَصْدَراً والثَّاني مكاناً.

حكى الواحديُّ في» البَسيط «عن ابن السَّكِّيت: إذا كان الفعلُ من ذوات الثلاثة نحو: كَالَ يكيلُ، وحاضَ يحيض وأشباهه، فإِنَّ الاسم منه مكسور والمصدر مفتوح، مِنْ ذلك مالَ ممالاً، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم، وبالفتح إلى المصدر، ولو فتحهما جميعاً، أو كسرهما جميعاً في المصدرِ والاسمِ لجازَ، تقول: المَعَاشُ، والمَعِيشُ، والمَغَابُ، والمَغِيبُ، والمَسَارُ والمَسِيرُ فثبت أَنَّ لفظ المحيض حقيقةٌ في موضع الحيض، وأيضاً هو اسمٌ لنفس الحيضِ.

قال ابن الخطيب: وعندي أَنَّهُ ليس كذلك؛ إذ لو كان المُرادُ بالمحيض هنا الحيض، لكان قوله تعالى {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} معناه: فاعتزلوا النِّساء في الحيض، ويكونُ المُرادُ: فاعتزلوا النساء في زمن الحيض، يكون ظاهره مانعاً من الاستمتاع بهنَّ فيما فوق السُّرَّة، ودون الرّكبة، ولما كان هذا المنعُ غير ثابت لزم القول بتطرُّق النَّسخ، والتَّخصيص إلى الآية، وهو خلاف الأصل، أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض؛ كان معنى الآية: فاعتزلوا النِّسَاءَ في موضع الحيض من النِّسَاء، وعلى هذا التَّقدير لا يتطرَّقُ إلى الآية نسخٌ، ولا تخصِيصٌ.

ومن المعلوم أَنَّ اللَّفْظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً، وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور، فإِنَّ حمل اللَّفظ على المعنى الَّذِي لا

ص: 65

يُوجِبُ المحذورَ، أولى إذا سلَّمنا أَنَّ لفظ المحيض مشتركٌ بين الموضع، وبين المصَدرِ.

فإن قيل: الدَّليلُ على أَنَّ المُراد من المحيض الحيضُ قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} ، ولو كانَ المُرَادُ الموضع لما صَحَّ هذا الوَصْفُ.

قلنا: بتقدير أَنْ يكون المحيض عبارة عن الحَيض، فالحيض نفسُهُ ليس بِأَذى لأن «الحَيْضَ» عبارةٌ عن الدَّمِ المخصوص، و «الأَذَى» كيفيَّةٌ مخصوصَةٌ وهو عرض، والجسم لا يكُونُ نفس العرض فَلا بُدَّ أَنْ يقُولُوا: المرادُ منه أَنَّ الحيض موصوف بكونه أذى، وإذا جاز ذلك فيجُوزُ لنا أيضاً أن نقول: إِنَّ المراد منه أنَّ ذلك المَوْضع ذو أذًى، وأيضاً لم لا يجوزُ أَنْ يكون المراد بالمحيض الأَوَّل الحيض، وبالمحيض الثَّاني موضع الحيضِ كَمَا تقدَّمَ وعلى هذا فيزولُ الإِشكالُ.

فصل في بيان مغالاة اليهود وغيرهم في أمر الحيض

عن أنس بن مالك أَنَّ اليهُود، والمَجُوس كانُوا يبالغون في التَّباعد عن المرأَةِ حال حيضها، والنَّصارَى كانوا يجامعوهنّ ولا يبالون بالحيض، وأَنَّ أَهْلَ الجاهِليَّةِ كانُوا يقولُونَ مثل قولِ اليَهُودِ، والمَجُوسِ، وكانوا إذا حَاضَتِ المرأَةُ؛ لم يُؤَاكِلُوها، ولم يُشارِبُوها، ولم يُجَالِسُوها على فراشٍ، ولم يساكنوها في بيتٍ كفعل اليهود والمجوس، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فأخذ المُسْلِمُون بظاهر الآية، فأخرجوهنّ من بيوتهن، فقال ناسٌ من الأَعْراب: يا رسُول اللهِ البردُ شديدٌ، والثِّيابُ قَلِيلةٌ، فإِنْ آثرناهن بالثِّيابِ، هلك سائِرُ أهل البيت، وإن اسْتَأْثَرْنَاهَا هلكت الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام:«إِنَّمَا أَمَرْتُكُم أَنْ تَعْتَزِلُوا مُجَامَعَتهنَّ إِذَا حِضْن ولَمْ آمُرُكُم بإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ كَفِعْلِ الأَعاجِمِ»

فلمَّا سمع اليهُودُ ذلك قالوا: هذا الرَّجُلُ يُرِيدُ أَلَاّ يدع شيئاً من أمرنا، إلَاّ خالفنا فيه. فَجاء أُسيِّد بن حُضيرٍ وعباد بن بشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فقالا: يا رسُول اللهِ إِنَّ اليهُود تقول كذا وكذا، أفلا ننكحهنّ في المحيض، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - حتَّى ظننا أَنَّه غضب عليهما، فخرجا؛ فَجَاءَتْهُ هديَّةٌ مِنْ لَبَنِ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما.

ص: 66

فصل في مجيء «يسألونك» بحرف الواو

وجاء: {وَيَسْأَلُونَكَ} ثلاثَ مرَّاتٍ بحرفِ العطفِ بعد قوله: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر» وهي: «وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ» ، «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى» «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض» وجاء «وَيَسْأَلُونَكَ» أربع مراتٍ من غيرِ عطفٍ:«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة» «يَسْأَلُونَكَ مَذاَا يُنْفِقُونَ» «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ» «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ» . فما الفرقُ؟

والجوابُ: أَنَّ السُّؤالات الأَواخر وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ، فجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ، وهو الواوُ، أَمَّا السّؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ، وجيء بها وحدها.

وقوله: {هُوَ أَذًى} فيه وجهان:

أحدهما: قاله أبو البقاء: «أَنْ يكُونَ ضمير الوطءِ الممنوع» وكأنه يقول: إِنَّ السِّياق يدلُّ عليه، وإِنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ.

الثَّاني: أَنْ يعود على المحيض، قال أبو البقاء:«ويكون التَّقدير: هو سببُ أَذًى» وفيه نظرٌ؛ فإنَّهم فَسَّروا الأَذَى هنا بالشَّيء القَذِر، فإذا أَرَدْنا بالمَحِيضِ نَفْسَ الدَّمِ، كان شيئاً مُسْتَقْذَراً، فلا حاجة إلى تقديرِ حَذْفِ مضافٍ.

فصل في المراد من «الأذى»

قال عطاءٌ، وقتادةٌ، والسُّدِّيُّ: هو أَذًى، أي: قذر واعلم أَنَّ الأَذَى في اللُّغة ما يكره مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ويحتمل أن يَكُونَ قوله:{هُوَ أَذًى} ، أي: سببُ الأَذَى قالوا: لأَنَّ من جَامَعَ في الحَيْض، قد يحصُلُ له في ذكره وأنثييه تفتيح وقروح.

وقوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} .

الاعتزالُ: التَّنَحِّي عن الشَّيْءِ، وأَرَاد به ها هنا: تَرْكَ الوَطءِ، وقدَّم ذكر العِلَّة، وهي الأذى، ثم رَتَّبَ الحُكْم، وهو وجوب الاعتزال. فإن قيل: المرادُ ب «الأذى» هو الدَّمُ، وهو حاصِلٌ في وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة وقت الاستحاضة، غير واجب، فانتقضت هذه العِلَّةُ.

والجواب: أَنَّ دم الحيض دَمٌ فاسِدٌ يتولّد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرَّحم، ولو احْتَبَسَتْ تلك الفضلةُ لمرضت المرأةُ، فذلك الدَّمُ جارٍ مجرى البَوْلِ، والغائط، فكان أَذًى وقذراً، وأَمَّا دمُ الاستحاضة، فليس كذلك، بل هو دَمٌ صالحٌ يسير من عروق تنفجر من عمق الرَّحِمِ، فلا يكونُ أذى، قال عليه الصلاة والسلام لما سئل

ص: 67

عن الاستحاضة فقال:

«إِنَّ ذَلكَ دَمُ عِرْق، ولَيْسَ بِالحَيْضَةِ» .

قال ابن الخطيب: وهذا جوابٌ طبّيٌّ مُخَلِّصٌ ظاهر القرآن مِنَ الطَّعن.

فصل في بيان صفات دم الحيض

اعلم أَنَّ الحيضِ موصوفٌ بصفاتٍ حقيقيةٍ، ويتفرَّعُ عليه أحكام شرعيّة فالصِّفاتُ نوعان:

الأول: المنبعُ؛ فدم الحيض يخرجُ من الرَّحم، قال تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قيل في تفسيره إنَّ المراد منه الحيض والحمل، وأَمَّا دم الاستحاضة، فإِنَّهُ لا يخرجُ من الرَّحم، لكن من عروق تنقطع من فم الرَّحم، قال عليه الصلاة والسلام في صفة دم الاستحاضة:«إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» ، وهذا يؤيّدُ ما تقدَّمَ في الجواب.

النوع الثاني: من صفات دم الحيضِ التي وصفه بها رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم َ - وهي سِتّ:

أحدها: إنه أسود.

الثاني: أنه ثخين.

الثالث: محتدم وهو المحترقُ من شدَّةِ حرارته.

الرَّابع: أنه يخرُجُ برفق لا يسيلُ سيلاناً.

الخامس: أنَّ له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء؛ وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة.

والسادس: أنه بحراني وهو الشَّدِيدُ الحمرة، وقيل ما تحصُلُ فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر.

فهذه صفاته الحقيقيّة، ثم مِنَ النَّاسِ من قال: إِنَّ دَمَ الحَيْضِ يتميَّزُ عن دمِ الاستحاضة، فكلُّ دم موصوف بهذه الصِّفَات، فهو دَمْ حَيْضِ وما لا فلا، وما اشتبه الأمرُ فيه فالأَصْلُ بقاء التَّكليف، ولا يزول إلا بعارض الحيض، فإذا لم يُعلمْ وجوده؛ بقيت التَّكَاليفُ على ما كانت وقال آخرون: هذه الصِّفَاتُ قد تشتَبِهُ على المُكَلّف، فإيجاب التأمل من تلك الدِّمَاء يقتضي عسراً ومشقة فقدر الشاعر وقتاً مضبوطاً، متى حصلت فيه الدِّمَاءُ كان حُكمُها حُكم الحَيْضَ

ص: 68

كيفما كانت صفةُ تلك الدِّماء قَصْداً إلى إسقاط العُسْرِ والمَشَقَّةِ.

فصل

اختلف العُلَماءُ في مُدَّةِ الحيضِ، فقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الهُ عنه -: أقلُّه يوم ولَيْلَة، وأكثرُهُ خمسة عشر يوماً، وهو قولُ عطاء بن أَبي رباحٍ، والأوزاعيِّ، والشَّافِعِيّ، وأحمد، وإسحاق.

وقال أبو حنيفة، والثَّورِيّ: أقلّه ثلاثة أيَّام ولياليهن، فإِنْ نقص عنه، فهو دمٌ فاسد؛ وأكثره عشرةُ أيَّامِ.

قال أبو بكر الرَّازِيُّ في «أحكام القُرْآن» : وقد كان أبُو حنيفة يقولُ بقول عطاءِ، ثم تركه.

وقال مَالِكٌ: لا تقديرَ له في القِلَّةِ، والكثرة، فإن وُجِدَ ساعةً، فهو حيض، وإن وجد أيّاماً، فكذلك.

واحتجَّ أبُو بكر الرازيُّ في «أَحْكَامِ القُرْآنِ» على فساد قول مالكٍ بأنه: لو كان التَّقْدير ساقطاً في القليل، والكثِير، لوجب أَنْ يكُونَ الحيض هو الدّم الموجود من المرا’ فيلزم ألَاّ يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على المذهب، وذلك باطِلٌ بالإجماع ولأنه روي أَنّ فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم َ - «إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ» وروي أَنّ منه ما هو حيضٌ، ومنه ما هو استحاضةٌ، فبطل هذا القول ويمكن الجواب عنه بأن نقُولَ: إِنَّما يتميَّزُ دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصِّفات التي قدّمناها لدم الحيضِ، فإذا عدمت؛ حكمنا بدم الحيض، وإِنْ تَرَدَّدْنا فيهما، كان طريانُ الحيض مجهولاً، وبقاء التّكليف الَّذِي هو الأَصلُ معلوم، والمشكوك لا يارض المعلوم، فلا جَرَمَ قلنا ببقاء التَّكاليف، فبهذا الطّريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زماناً معيّناً.

واحتجَّ مالكٌ رضي الله عنه بوجهين:

الأول: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم َ - بيَّنَ علامة دم الحيض، وصفته كما قدمنا في قوله:«دَمُ الحَيْضِ هُوَ الأَسْوَدُ المُحْتَدمُ» وإذا كان الدَّمُ موصوفاً بهذه الصِّفَةِ، كان الحيضُ حاصِلاً، فيدخلُ تحت قوله:{فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} .

ص: 69

الثاني: قوله في دم الحيض «هُو أَذى» ، ذكر كونهُ أَذًى في معرض العِلَّة، لوجوب الاعتزال، وإِنَّما كان «أَذًى» للرَّائِحَة المنكرة التي فيه، واللون الفاسد وللحدةِ القوية الَّتي فيه، وإذا كان وجُوبُ الاعتزال معللاً بهذه المعاني، وجب الاحتراز عملاً بالعِلَّةِ المذكورة في كِتابِ الله.

واحتجّ الشَّافعيُّ على أبي حنيفة بوجهين:

الأول: أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته، وفي الزَّائد عن العشرة لأنه عليه الصلاة والسلام وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم، فإذا وجد ذلك، فقد حصل الحيض فيدخل تحت قوله:{فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} تركنا العمل بهذا الدّليل في الأقلّ من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً باتِّفاق بيني وبينك يا أبا حنيفة؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدَّة.

الثاني: أنَّه عليه الصلاة والسلام بيّن نقصان دينها: بأنها تمكث شطر عمرها لا تصلّي، وهذا يدلُّ على أنَّ الحيضة قد تكون خمسة عشر يوماً؛ لأن على هذا التقدير يكون الطهر خمسة عشر يوماً؛ فيكون الحيض نصف عمرها، ولو كان أقلّ من ذلك لم تكن تاركة للصَّلاة نصف عمرها.

أجاب أبو بكر الرَّازيُّ عنه بوجهين:

الأوَّل: أن الشَّطر ليس هو النِّصف، بل هو البعض.

ص: 70

والثاني: أنه لا يوجد في الدُّنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها، لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها.

والجواب عن الأول: أنَّ الشَّطر هو النِّصف، يقال: شطرت الشَّيء أي جعلته نصفين، ويقال في المثل:«احْلُبْ حَلْباً لَكَ شَطْرُهُ» أي نصفه.

وعن الثاني: أن قوله عليه الصلاة والسلام: «تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تُصَلِّي» إنّما يتناول زماناً هي تصلّي فيه، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ.

واحتجَّ أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بوجوه:

الأول: ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال:

«أَقَلّ الحَيْضِ ثَلاثَة أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّام» فإن صحَّ هذا الحديث، فلا معدل عنه لأحد.

الثاني: روي عن أنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص الثَّقفيّ أنهما قالا:«الحيضُ ثلاثةُ أيَّامٍ، وأربعة أيَّامٍ إلى عَشَرَةِ أيَّام، وما زاد فهو اسْتِحَاضَة» وهذا قول صحابي لم يخالفه أحدٌ، فكان إجماعاً، ولأنَّه إذا ورد قول عن صحابي فيما لا سبيل للعقل إليه، فالظَّاهر أنَّه سمع من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم َ.

الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام لحمنه بنت جحش: «تحيضي في علم الله ستّاً، أو سَبْعاً، كما تَحِيضُ النِّسَاء في كُلِّ شَهْرٍ» فقوله: «كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ في كُلِّ شَهْرٍ» مقتضاه أن يكون حيض النِّسَاء في كلِّ شهر هذا القدر، خالفنا هذا الظَّاهر في الثَّلاثة إلى العشرة، فيبقى ما عداه على الأصل.

الرابع: قول عليه الصلاة والسلام: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ

ص: 71

ذَوِي الأَلْبَابِ مِنْهُنَّ» فقيل: ما نقصان دينهن؟ قال: «تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ الأَيَّامَ واللَّيَالِي لَا تُصَلِّي» .

فهذا يدلُّ على أنَّ مدَّة الحيض ما يقع عليه اسم الأيّام، واللَّيالي، وأقلّها ثلاثة أيَّام وأكثرها عشرة؛ لأنَّه لا يقال في الواحد، والاثنين لفظ الأيَّام، ولا يقال في الزَّائد على العشرة أيَّام؛ بل يقال أحد عشر يوماً، أما الثَّلاثة إلى العشرة، فيقال فيها أيَّامٌ.

وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش: «دَعِي الصَّلاةَ أيَّامَ أَقْرَائِك» فلفظ الأيَّام مختصّ بالثَّلاثة إلى العشرة.

وفي حديث أُمِّ سلمة في المرأة التي سألته أنَّها تهرق الدَّم فقال: «لِتَنْظُر عَدَدَ الأَيَّامِ، واللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ لِتَغْتَسِل ولتصلِّ» .

فإن قيل: لعلَّ حيض تلك المرأة كان مقدّراً بذلك المقدار قلنا: إنَّه عليه الصلاة والسلام ما سألها عن قدر حيضها، بل حكم عليه بذلك الحكم مطلقاً، فدلّ هذا على أنَّ الحيض مطلقاً مقدّر بما ينطلق عليه لفظ الأيَّام.

وأيضاً قال في حديث عديِّ بن ثابتٍ: «المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا» وذلك عامٌّ في جميع النِّساء.

الخامس: قال الجبَّائي في «تَفْسِيرِهِ» إنّ فرض الصِّيام والصَّلاة لازم لعموم الأدلَّة، فعلى الوجوب ترك العمل بها في الثَّلاثَةَ إلى العشرة بالإجماع، وما دون الثَّلاثة وفوق العشرة حصل فيه اختلاف العلماء، فأورث شبهة، فلم نجعله حيضاً، فوجب بقاء التَّكليف على أصله.

ص: 72

فصل في حرمة جماع الحائض

اتَّفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض، واختلفوا في وجوب الكفَّارة على من جامع فيه، فذهب أكثرهم إلى أنَّه لا كفَّارة عليه فليستغفر الله ويتوب، وذهب قومٌ إلى وجوب الكفَّارة عليه؛ منهم: قتادة والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، لما روى ابن عبَّاس أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم َ قال في رجلٍ جامع امرأته وهي حائضٌ

«إنْ كَانَ الدَّمُ عَبِيطاً؛ فَلْيَتَصَدّق بِدينَار، وإِنْ كَانَ صُفْرَةٌ، فَنِصْفُ دِينَارٍ» وروي موقوفاً على ابن عبَّاس. واتَّفقوا على أنَّ جلّ الاستمتاع فيما فوق السُّرَّة، ودون الرُّكبة [واختلفوا بأنّه هل يجوز الاستمتاع بها فيما دون السُّرة، وفوق الرُّكبة؟] قال ابن الخطيب: إن فسَّرنا المحيض بموضع الحيض، كانت الآية دالّة على تحريم الجماع فقط، فلا يكون فيها دلالة على تحريم غيره، بل نقول: إنّ تخصيص الشَّيءِ بالذّكر يدلُّ على أنَّ الحُكْمَ فيما عداه بخلافه، وإن فسَّرنا المحيض بالمحيض، كان تقدير الآية فاعتزلوا النِّساء في زمان المحيض، وترك العمل بها فيما فوق السُّرَّة ودون الرُّكبة؛ فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة.

قوله: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} ، أي: لا تجامعوهنّ.

قال ابن العربيّ: سمعت الشّاشيَّ يقول: إذا قيل «لا تَقْرَب» - بفتح الرَّاء - كان معناه: لا تَتَلَبَّسْ بالفعل، وإذا كان بضمّ الرَّاء كان معناه: لا تَدْنُ منه، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى:{فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} فهذا نهيٌ عن المباشرة في موضع الدَّم، وقوله: «

ص: 73

وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ» نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع.

«حتّى» هنا بمعنى «إلى» والفعل بعدها منصوب بإضمار أنْ، وهو مبنيٌّ لاتصاله بنون الإناث.

وقرأ حمزة والكسائيُّ، وأبو بكرٍ بتشديد الطَّاء والهاء، والأصل:

يتطهَّرن، فأُدغم.

والباقون: «يَطْهُرْنَ» مضارع طَهُرَ، قالوا: وقراءة التَّشديد معناها يغتسلن، وقراءة التَّخفيف معناها ينقطع دمهنَّ. ورجَّح الطَّبري قراءة التَّشديد وقال:«هي بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ لإجماع الجميع على تَحْرِيم قُرْبَان الرَّجُل امرأته بعد انقطاع الدَّم حتَّى تطهر، وإ، ما الخلاف في الطهر ما هو؟ هل هو الغسل أو الوضوء، أو غسل الفرج فقط؟» .

قال ابن عطيَّة: «وكلُّ واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدَّم وزوال أذاه» .

قال: «وَمَا ذَهَبَ إليه الطَّبريُّ مِنْ أنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيد مُضَمَّنُها الاغتسال، وقراءة التَّخفيف مُضَمَّنُها انْقِطَاعُ الدَّمِ أمرٌ غيرُ لَازِم، وكذلك ادِّعَاؤهُ الإجماع» وفي رد ابن عطيَّة عليه نظرٌ؛ إذ لو حملنا القراءتين على معنى واحدٍ لزم التِّكرار. ورجَّح الفارسيُّ قراءة التَّخفيف؛ لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمث وهو ثلاثي.

فصل في ورود لفظ الطهور في القرآن

قال أبو العبَّاس المقري: ورد لفظ «الطُّهُورِ» في القرآن بإزاء تسعة معانٍ:

الأول: انقطاع الدَّم، قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، أي: حتى ينقطع الدَّم.

الثاني: الاستنجاء بالماء؛ قال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} [التوبة: 108]، أي: يستنجون بالماء.

الثالث: الاغتسال، قال تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] أي: اغْتَسَلْنَ.

الرابع: التَّنظيف من الأدناس، قال تعالى:

{وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] .

الخامس: التَّطهُّر من الذُّنوب؛ قال تعالى: {لَاّ يَمَسُّهُ إِلَاّ المطهرون} [الواقعة: 79]، ومثله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] .

ص: 74

السادس: التَّطهير من الشّرك، قال تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} [الحج: 26]، أي: طهره من الشرك.

السابع: الطهور الطيب، قال تعالى:{ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] أي أطيب.

الثامن: الطهور الحلّ، قال تعالى:{هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]، أي: أحل.

التاسع: التطهر من الرّجس، قال تعالى:{وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33]، أي: من الآثام والرِّجس.

فصل في بيان النَّهي عن الإتيان هل بعد انقطاع الدم أو الاغتسال.

استدلّ أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} بأنه نهيٌ عن قربانهن إلى غاية، وهي أن يطهرن، أي ينقطع حيضهنّ، وإذا كان انقطاع الحيض غايةً للنَّهي؛ وجب أن يزول النَّهي عند انقطاع الحيض.

وأجيب بأنَّه لو اقتصر على قوله «حتى يَطْهُرْنَ» ، لكان ما ذكرتم لازماً أما إذا انضم إليه قوله:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} صار المجموع هو الغاية، وذلك بمنزلة أن يقول الرَّجل: لا تكلِّم زيداً حتى يدخل الدَّار، فإذا طابت نفسه بعد الدُّخول، فكلّمه، فإنّه يجب أن يتعلّق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً.

فإن قيل: يحمل قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» على غسل الموضع، فإنَّه يجب غسله بإجماع، فالجواب أنَّ ظاهر قوله:«فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» حكم عائد إلى ذات المرأة، فوجب أن يكون هذا التَّطهير في كلّ بدنها لا في بعض بدنها، وأيضاً فنحمله على التَّطهير الثَّابت في المستحاضة لثبوته في الحيض، والمراد به الاغتسال، إذا أمكن وجود الماء.

فصل في هل تجبر الكتابيَّة على الاغتسال من الحيض

اختلفوا في الكتابيَّة؛ هل تجبر على الغسل؟

فقيل تجبر لقوله تعالى: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» يعني بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها.

وقيل: لا تجبر؛ لأنها لا تعتقد ذلك، وقال تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 228] وهو الحيض والحمل، وهذا خطاب للمؤمنات. وقال:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] .

قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» يعني اغتسلن، «فَأْتُوهُنَّ» أي: فجامعوهنّ.

قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} في «مِنْ» قولان:

أحدهما: أنَّها لابتداء الغاية، أي: من الجهة الَّتي تنتهي إلى موضع الحيض.

ص: 75

والثاني: أن تكون بمعنى «في» ، أي: في المكان الذي نهيتم عنه في الحيض.

قال ابن عبَّاس، ومجاهد وإبراهيم، وقتادة وعكرمة: فأتوهنّ في المأْتى؛ فإنَّه هو الذي أمر الله به ولا تأتوهنّ في غير المأْتى؛ لقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} أي: في حيث أمركم الله؛ كقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الجمعة} [الجمعة: 9]، أي: في يوم الجمعة، وقوله:{مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40]، أي: في الأرض. ورجَّح هذا بعضهم، وفي الكلام حذفٌ، تقديره:«أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيَان منه» يعني: أنَّ المفعول الثَّاني حذف للدلالة عليه.

قال الأصمُّ والزَّجَّاج: فأتوهنَّ بحيث يحلُّ لكم غشيانهنَّ، وذلك بأن لا يكنَّ صائماتٍ، ولا معتكفاتٍ، ولا محرماتٍ.

وقال محمَّد بن الحنفيَّة: فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفُجُور. والأقرب: قول ابن عباس، ومن تابعة؛ لأن لفظة «حَيْثُ» حقيقة في الكلِّ، مجاز في غيرها.

فصل

قال أبو العبَّاس المقري: ترد «مِنْ» بمعنى «في» كهذه الآية، وتكون زائدة؛ كقوله تعالى:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4]، وقوله:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين} [الشورى: 13] أي: الدِّين، وقوله:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك} [يوسف: 101]، أي الملك. وبمعنى «البَاءِ» ؛ قال تعالى:{يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] أي: بأمره، وقوله:{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11]، أي: بأمر الله، وقوله:{وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} [النبأ: 14]، أي: بالمعصرات، وبمعنى «عَلَى» ؛ قال تعالى:{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77]، أي: على القوم.

قال القرطبيُّ: عبَّر عن الوطء هنا بالإتيان.

قوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين} التَّوَّاب: هو المكثر من فعل ما يسمَّى توبةً، وقد يقال: هذا في حقِّ الله تعالى -؛ من حيث إنه يكثر من قبول التَّوبة.

فإن قيل: ظاهر الآية يدلُّ على أنَّه يحبُّ تكثير التَّوبة مطلقاً، والعقل يدلُّ على أن التَّوبة لا تليق إلَاّ بالمذنب، فمن لم يكن مذنباً، لا تجب منه التَّوبة.

فالجواب من وجهين:

الأول: أن المكلَّف لا يأمن البتَّة من التَّقصير.

ص: 76

والثاني: قال أبو مسلمٍ: التَّوبة في اللُّغة عبارة عن الرُّجوع، ورجوع العبد إلى الله في كلِّ الأحوال محمودٌ.

واعترضه القاضي: بأن التَّوبة - وإن كانت في أصل اللغة الرُّجوع - إلا أنها في عرف الشَّرع عبارةٌ عن النَّدَم على الفعل الماضي، والتَّرك في الحاضر، والعزم على ألَاّ يفعل مثله في المستقبل؛ فوجب حمله على المعنى الشَّرعيِّ دون اللُّغويّ.

ولأبي مسلم أن يجيب: بأنّ مرادي من هذا الجواب، أنّه إن أمكن حمل اللَّفظ على التَّوبة الشَّرعيَّة، فقد صحَّ اللَّفظ، وإن تعذَّر ذلك، حملناه على التَّوبة بحسب اللُّغة الأصليَّة.

قوله: {وَيُحِبُّ المتطهرين} فيه وجوه:

أحدها: المراد منه التَّنزُّه عن الذُّنوب والمعاصي، قاله مجاهد.

فإن قيل: كيف قدَّم ذكر المذنب على من لم يُذنب؟

فالجواب: قدَّمه لئلا يقنط التَّائب من الرَّحمة، ولا يعجب المتطهِّر بنفسه؛ كقوله في آيةٍ أخرى:{ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} [فاطر: 32] ، قاله القرطبي.

الثاني: قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبيّ: «يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذُّنُوبِ، والمتَطَهِّرِين بالمَاءِ من الأَحْدَاثِ والنَّجَاسَاتِ» .

الثالث: قال مقاتل بن حيَّان: يحب التَّوَّابين من الذُّنُوب، والمتطهِّرين من الشِّرك.

الرابع: قال سعيد بن جبير: التَّوَّابين من الشِّرك، والمتطهِّرين من الذُّنوب.

الخامس: أن المراد ألا يأتيها في زمان الحيض، وألَاّ يأتيها في غير المأتى على ما قال:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} .

قال بعضهم: وهذا أولى؛ لأنه أليق بنظم الآية، ولأنَّه - تعالى - قال حكاية عن قوم

ص: 77

لوطٍ: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، فكان قوله:{وَيُحِبُّ المتطهرين} ترك الإتيان في الأدبار.

السادس: أنَّه - تعالى - لمَّا أمرهنّ بالتَّطهير في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ، فلا حرم مدح التَّطهير، فقال:{وَيُحِبُّ المتطهرين} والمراد منه التَّطهير بالماء؛ قال - تعالى -: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} [التوبة: 108]، قيل في التَّفسير: إنهم كانوا يستنجون بالماء، وكرَّر قوله «يُحِبُّ» ؛ دلالةً على اختلاف المقتضي للمحبَّة، فتختلف المحبَّة.

ص: 78

{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} : مبتدأٌ وخبرٌ، ولا بدَّ من تأويلٍ، ليصحَّ الإخبار عن الجثة بالمصدر، فقيل: على المبالغة، جُعلوا نفس الفعل، وقيل: أراد بالمصدر، اسم المفعول، وقيل: على حذف مضافٍ من الأوَّل، أي: وطء نسائكم حرثٌ، أي: كحَرْثٍ، وقيل: من الثاني، أي: نساؤُكُم ذواتُ حَرْثٍ، و «لَكُمْ» في موضع رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «حَرْث» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وإنما أفرد الخبر، والمبتدأ جمعٌ؛ لأنه مصدرٌ والأفصح فيه الإفراد.

قوله: {أنى شِئْتُمْ} ، ظرف مكانٍ، ويستعمل شرطاً واستفهاماً بمعنى «مَتَى» ، فيكون ظرف زمانٍ، ويكون بمعنى «كَيْفَ» ، وبمعنى «مِنْ أَيْنَ» ، وقد فسِّرت الآية الكريمة بكلِّ من هذه الوجوهِ، وقال النحويون:«أَنَّى» لتعميم الأحوال، وقال بعضهم: إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمْرٍ له جهاتٌ، فَهِيَ على هذا أعمُّ مِنْ «كَيْفَ» ، ومِنْ «أَيْنَ» ، ومِنْ «مَتَى» ، وقالوا: إذا كانت شرطيةً، فهي ظرف مكانٍ فقط، واعمل أنها مبنيةٌ؛ لتضمُّنها: إمَّا معنى حرف الشرط، والاستفهام، وهي لازمة النصبِ على الظرفية، والعامل فيها هنا قالوا: الفعل قبلها وهو: «فَأْتُوا» قال أبو حيان: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّها إمَّا شرطية أو استفهاميةٌ، لا جائزٌ أن تكون شرطيةً؛ لوجهين:

أحدهما: من جهة المعنى، وهو أنَّها إذا كانت شرطاً، كانت ظرف مكانٍ، كما تقدَّم؛ وحينئذٍ: يقتضي الكلام الإباحة في غير القبل، وقد ثبت تحريم ذلك.

والثاني: من جهة الصناعة، وهو أنَّ اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، بل يعمل فيه فعل الشرط؛ كما أنه عاملٌ في فعل الشرط الجزم، ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، ولأنَّ «أَنَّى» إذا كانت استفهاميةً، اكتفت بما بعدها من فعلٍ واسم، نحو:{أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101]{أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 27] وهذه في هذه الآية مفتقرة لما قبلها كما ترى، وهذا موضع مشكل يحتاج إلى تأملٍ ونظر.

ص: 78

ثم الذي يظهر: أنها هنا شرطيةٌ، ويكون قد حذف جوابها؛ لدلالة ما قبله عليه، تقديره: أنَّى شئتم، فأتوه، ويكون قد جعلت الأحوال فيها جَعْلَ الظروف، وأُجريت مجراها، تشبيهاً للحال بظرف المكان؛ ولذلك تقدَّر ب «في» ، كما أُجريت «كَيْفَ» الاستفهامية مجرى الشرط في قوله:{يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} [المائدة: 64] وقالوا: كيف تصنع أصنع، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً؛ فيكون ثمَّ حذفٌ في قوله:«يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» ، أي: كيف يشاء يُنْفِق، وهكذا كل موضعٍ يشبهه، وسيأتي له مزيد بيانٍ، فإن قلت: قد أخرجت «أنَّى» عن الظرفية الحقيقية، وجعلتها لتعميم الأحوال مثل «كَيْفَ» وقلت: إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرط، فهل الفعل بعدها في محلِّ جزم، اعتباراً بكونها شرطيةً، أو في محلِّ رفع، كما تكون كذلك بعد «كَيْفَ» التي تسعمل شرطية؟ قلت: تحتمل الأمرين، والأرجح الأول؛ لثبوت عمل الجزم؛ لأنَّ غاية ما في الباب تشبيه الأحوال بالظروف، للعلاقة المذكورة، وهو تقدير «في» في كلٍّ منهما.

ولم يجزم ب «كَيْفَ» إلا بعضهم قياساً لا سماعاً، ومعفول «شِئْتُمْ» محذوفٌ، أي: شِئْتُمْ إتيانه بعد أن يكون في المحلِّ المباح.

فصل في بيان سبب النزول

روى ابن عبَّاسٍ في سبب النزول؛ قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال: يا رسول الله، هلكت. قال:«وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟» قال: حَوَّلْتُ رَحْلِي البَارِحَةَ، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، فَأُوحي إليه:{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} ، يقول: أقبل، وأدبر، واتَّقِ الحَيْضَة والدُّبُرَ.

وروى جابر بن عبد الله؛ قال: كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها: إن الولد يكون أحولاً، فنزلت هذه الآية.

وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ؛ قال: كان من شأن أهل الكتاب ألَاّ يأتوا النِّساء إلَاّ على حرفٍ، وذلك أستر ما تكون المرأة، وكان هذا الحيُّ من الأنصار قد أخذوا

ص: 79

بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيُّ من قريشٍ يتلذَّذُون منهنَّ مقبلات، ومدبراتٍ، ومستلقياتٍ، فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوَّج رَجُلٌ منهم امرأَةً من الأنصار، وذهب يصنعُ لها ذلك فَأَنْكَرَت ذلك عليه، وقالت: إنما كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ، فَإن شِئْتَ فَاصْنَع ذَلِك وإلا فاجْتَنِبْنِي، حتى سَرَى أَمْرهَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عيه وسلم، فَأنزلَ الله عز وجل:{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} يعني: موضع الولد، {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} مُقْبِلاتٍ، ومُدْبِرَاتٍ ومُستلقياتٍ.

فصل

قال عكرمة والحسن: «أنى شِئْتُمْ» إنما هو الفَرْجُ.

وقوله: «حَرْثٌ لَكُم» أي: مَزْرَعٌ لكم، ومنبتٌ للولد بمنزلة الأرض، وهذا دليلٌ على تحريم الأدبار؛ لأن محلَّ الحرث والزَّرع هو القبل لا الدُّبر،؛ وأنشد ثعلبٌ:[الرمل]

1082 -

إِنَّمَا الأَرْحَامَ أَرْضُو

نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ

فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا

وَعَلَى اللهِ النَّبَاتُ

وقال سعيد بن المسيَّب: هذا في العزل، يعني: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا، سئل ابن عبَّاس عن العزل؛ فقال: حرثُكَ، فإن شئتَ فعطِّش، وإن شئت فَارْوِ.

ورُوي عنه؛ أنَّه قال: تُسْتَأْمَر الحرَّة في العزل، ولا تُسْتَأْمَرُ الجارية، وكره جماعة العزل، وقالوا: هو الوَأْدُ الخفيّ.

وروى مالك عن نافع؛ قال: كُنْتُ أَمْسِكُ على ابن عمر المُصْحَفَ، فقرأْتُ هذه الآية:{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} فقال: تدْري فيما نزلت؛ في رجلٍ أتى امْرَأَتَهُ في دبرها،

ص: 80

فشقَّ ذلك عليه، فنزلت هذه الآية.

ويُحكَى عن مالكٍ إباحة ذلك، وأنكر ذلك أصحابه.

وروي عن عبد الله بن الحسن؛ أنه لقي سالم بن عبد الله، فقال له: يا أبا عمر؛ ما حُدِّثتُ بحديث نافع عن عبد الله؛ أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النِّساء في أدبارهنَّ، قال: كذب العبدُ وأخْطَأَ، إنما قال عبد الله: يُؤْتُونَ في فُرُوجِهِنَّ من أَدْبَارِهِنَّ، والدَّليل على تحريمِ الأدبارِ: ما روى خُزيمة بن ثابتٍ؛ أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن إِتيان النِّساء في أَدْبَارِهِنَّ، فقال عليه الصلاة والسلام:«حَلَالٌ» فلما ولَّى الرَّجل دعاه، فقال: «كَيْفَ قُلْتَ في أَيِّ الخَرْبتين أَوْ فِي الخَرزَتَين أوْ فِي أيِّ الخَصْفَتَين، أَمِنْ قُبُلِهَا في قُبُلِهَا؟

ص: 81

فَنَعَمْ، أمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا؛ فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِها فِي دُبُرِهَا، فَلَا، فإنَّ اللهَ لَا يَسْتَحيِي مِنَ الحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ في أَدْبَارِهِنَّ» .

وأراد بخربتها مسلكها، وأصل الخربة: عروة المزادة. شبِّه بالثّقب بها، والخرزة هي: الثقبة التي يثقبها الخرَّاز وكنَّى به عن المأْتى، وكذلك الخصفة من قولهم: خصفت الجلد إذا خرزته.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا» وقال - تعالى - في آيةِ المحيض: {قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} [البقرة: 222] جعل الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى، ولا معنى للأذى إلَاّ ما يتأذَّى الإنسان مه بنتن ريحِ الدَّم، وهذه العلَّة هنا أظهر؛ فوجب القول بتحريمه.

وروي عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم َ؛ قال:«مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْه يَوْمَ القِيَامَةِ» .

وروى أبو داود الطَّيالسي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:«تِلْكَ اللوطِيَّةُ الصُّغْرَى بإِتْيَانِ المَرْأَةِ في دُبُرِهَا» .

وعن طاوس؛ قال: إنه كَانَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانُ النِّسَاء في أَدْبَارِها. واحتج من جوَّزَهُ بوجوه:

الأول: التَّمسُّك بهذه الآية من وجهين:

أحدهما: أنه جعل الحرث اسماً للمرأة لا للموضع المعيَّن، فلمَّا قال بعده: {فَأْتُواْ

ص: 82

حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} كان المراد: فأتوا نساءكم أنى شئتم، فيكون إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه.

وثانيهما: كلمة «أَنَّى» معناها: أين؛ قال - تعالى - {أنى لَكِ هذا} [أل عمران: 37]، معناه: من أين لك هذا، فصار تقدير الآية: فأْتُوا حَرْثَكُم أَيْنَ شِئْتُم، وكلمة «أَيْنَ» تدلُّ على تعدُّد الأمكنة؛ تقول: اجلِس أيْن شِئْتَ، فيكون تخييراً بين الأمكنة.

وإذا ثبت هذا، فلا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها، أو من دبرها في قُبُلِها؛ لأنه على هذا التَّقدير، يكون المكان واحداً، والتَّعدُّد إنَّما وقع في طريقِ الإتيان، فاللَاّئق به أن نقول: اذهبوا إليه كيف شئتم، فلمَّا لم يذكر كيف، بل ذكر لفظة «أَنَّى» وهي مشعرةٌ بالتَّخيير بين الأمكنة كما بيَّنَّا، ثبت أنَّ المراد ما ذكرنا.

الحجة الثانية: تمسَّكوا بعموم قوله - تعالى -: {إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ، ترك العمل به في حقِّ الذُّكور بالإجماع، فيبقى فيما عداه على العموم.

الحجة الثالثة: لو قال للمرأة: دُبُرِكِ عليَّ حَرَامٌ، ونوى الطَّلاق، أنه يكون طلاقاً فيقتضي كون دبرها حلالاً له.

والجواب عن الأوَّل: أن «الحَرْثَ» اسمٌ لموضع الحراثة، والمرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة كما تقدَّم، فلما أطلق لفظ «الحَرْثِ» على ذات المرأَة، حملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية الشَّيء باسم جزئِه، وهذه الضَّرورة مفقودةٌ في قوله:«فَأْتُوا حَرْثَكُمْ» فوجب حَمْلُ الحرث ههنا على موضع الحراثة على التَّعيين؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها إلَاّ على إتيان النِّساء في محلِّ الحرث، وقد قدَّمنا أن «الحَرْثَ» إنَّما يراد للزَّرع وهو الولد، وذلك لا يكون إلَاّ في المأتى.

وعن الثَّاني: أنه لما ثبت أن المراد ب «الحَرْثِ» ذلك الموضع المعيَّن لم يمكن حمل «أَنَّى شِئْتُمْ» على التَّخْيير في الأمكنة.

وأما قوله: {إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فإنه عامٌّ، ودلائلنا خاصَّةٌ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام.

وقولهم: دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إنما صلح أن يكون كنايةٌ عن الطَّلاق، وإنَّه لَمَحَلُّ الملامسة والمضاجعة، وهو جزؤها، فصار ذلك كقوله: يدك طالقٌ.

هذا الجواب من حيث التَّفصيل أمّا من حيث الجملة: فقد بينَّا أنَّ قوله: «قُلْ هُوَ أَذًى» يدلُّ على التَّحريم؛ لوجود العلَّة المقتضية له، فلو جوَّزنا ذلك، لكان جمعاً بين دليل التَّحريم، ودليل التَّحليل في موضع واحدٍ، والأصل أنَّه لا يجوز، وأيضاً فالرِّوايات

ص: 83

المشهورة في كون سبب النُّزول، هو اختلافهم في أنَّهُ: هل يجوز إتيانهنّ من دُبُرِهِنّ في قبولِهِن؛ وسبب النُّزول لا يكون خارجاً عن الآية، ومتى حملنا الآية على هذه الصُّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السَّبب.

ويمكن الجواب عن هذا: بأن الاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، فإن السُّؤال قد يكون خاصّاً والجواب عامّاً، وهو كثير.

قوله: {وَقَدِّمُواْ} مفعوله محذوفٌ، أي: نيَّةَ الولدِ، أو نيةَ الإعفاف، وذِكْرَ اللهِ أو الخير؛ كقوله:{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} [البقرة: 110] .

وقال عطاء عن ابن عبَّاس: هي التَّسمية عند الجماع.

قال ابن الخطيب: وهذا في غاية البُعدِ: والَّذِي عندي فيه: أن قوله: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} جار مجرى التَّنبيه على إباحة الوطءِ؛ كأنه قيل: هؤلاء النِّسوان إِنَّمَا حكم الشَّرع بإباحة وطئهنَّ لكم؛ لأجل أنَّهُن حرث لكم، أي بسبب أن يتولَّد الولدُ منهن، ثم قال بعده:{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} دليلاً على الإِذن في ذلك الموضع، والمنْع من غير ذلك المَوضع، فلمَّا اشْتَمَلت الآيةُ على الإِذن في أحدِ الموضعين، والمنع من الموضع الآخِر، لا جرم قال:{وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي: لا تكُونُوا في قيد قضاء الشَّهوةِ، بل كونوا في قيد تقديم الطَّاعةِ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ ذلك بقوله:{واتقوا الله} ، ثم أكَّدَهُ ثالثاً بقوله:{واعلموا أَنَّكُمْ مُّلَاقُوهُ} ، وهذه التَّهديدات الثَّلاثة المُتَوالية، لا يليقُ ذكرها إلَاّ إذا كانت مسبوقة بالنَّهْي عن شيءٍ لذيذ مُشْتَهى، فثبت أن ما قَبْل هذه الآية دالٌّ على تحريم هذا العملِ، وما بعدها أيضاً دالٌّ على تحريمه؛ فثبتَ أَنَّ الصَّحِيح في تفسير هذه الآيةِ، ما ذهب إليه الجمهور.

قوله: «لأَنْفُسِكُمْ» مُتعلِّقٌ ب «قَدِّمُوا» ، واللامُ تحتملُ التعليل والتعديّ، والهاءُ في «مُلَاقُوهُ» يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى، ولا بُد مِنْ حذفِ مضافٍ، أي: ملاقو جزائِهِ، وأَنْ تعودَ على مفعولِ «قَدِّمُوا» المحذوف. وتَقَدَّم الكلام في التَّقوَى، وتَقَدَّم أيضاً تفسير لقاء الله في قوله:{الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] .

والضميرُ في «وَبَشِّرِ» للرَّسُول عليه الصلاة والسلام ُ لتقدُّم ذِكرِه في قوله: «يَسْأَلُونَكَ» قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلُّم لا يحتاج أَنْ يُقالَ فيهما: تَقدَّمَ ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما، ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة.

ص: 84

اللامُ في قوله {لأَيْمَانِكُمْ} تحتملُ وجهين:

أحدهما: أن تكونَ مقويةً لتعديةِ «عُرْضَةً» ، تقديره: ولا تجعلوا اللهَ معدَّى ومَرْصَداً لحَلْفِكُمْ.

والثاني: أن تكونَ للتعيلِ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ، أي: لا تَجْعَلُوهُ عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمَانِكُمْ.

قوله: {أَن تَبَرُّواْ} فيه ستةُ أوجهٍ:

أحدها: - وهو قول الزجاج، والتُبريزي، وغيرهما -: أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه: أَنْ تَبَرُّوا وتتقُوا وتُصْلِحُوا خَيْرٌ لكُمْ مِنْ أَن تجعلُوه عُرْضَةً لأَيْمانكم، أو بِرُّكُمْ أولى وأمثَلُ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاعِ هذه الجملةِ عمَّا قبلها، والظاهرُ تعلُّقُها به.

الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على أنها مفعولٌ من أجله، وهذا قولُ الجمهورِ، ثم اختلفوا في تقديرِه: فقيل: إرادةَ أنْ تَبَرُّوا وقيلَ: كراهةَ أن تَبَرُّوا، قاله المهدويُّ، وقيل: لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا، قاله المبرِّدُ، وقيل: لئَلَاّ تَبَرُّوا، قاله أبو عبيدة والطَّبريُّ؛ وأنشدا:[الطويل]

1083 -

فَلَا واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً.....

...

...

...

.

أي: لا تَهْبِطُ، فحذف «لَا» ومثلُه:{يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176]، أي: لئلا تضِلُّوا، وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ، وذلك أن التقاديرَ التي ذكرناها بعد تقدير الإِرادة لا يظهرُ معناها؛ لمَا فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِرِّ، بل وقوع الحَلْفِ مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه، «إِنْ حَلَفْتَ بالله، بَرَرْتَ» لم يصحَّ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة؛ فإنه يُعَلَّل امتناع الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ تقول: إِنْ حَلَفْتَ، لم تَبَرَّ، وإنْ لم تَحْلِفْ، بَرَرْتَ.

الثالث: أنَّها على إسقاط حرف الجرِّ، أي: في أَنْ تَبَرُّوا؛ وحينئذٍ: يَجِيء فيها القولان: قولُ سيبويه والفراء فتكون في محلِّ نصبٍ، وقولُ الخليل والكسائيَ، فتكونُ

ص: 85

في محلِّ جرٍّ، وقال الزمخشري: ويتعلَّقُ «أَنْ تَبَرُّوا» بالفعل أو بالعُرْضَةِ، أي:«ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا» . قال أبو حيان: وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصل بين العامل ومعمولهِ بأجنبيٍّ، وذلك أنَّ «لأَيْمَانِكُمْ» عنده متعلقٌ ب «تَجْعَلُوا» ، فوقع فاصلاً بين «عُرْضَةً» التي هي العاملُ وبين «أَنْ تَبَرُّوا» الذي هو معموله وهو أجنبيٌّ منهما، ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ:«امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدَ هِنْداً» ، وهو غيرُ جائزٍ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ:«جَاءَني رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ» أي رجلٌ ذُو فَرَسٍ أَبْلَقَ راكِبٌ لِما فيه من الفصلِ بالأجنبيِّ.

الرابع: أنها في محلِّ جَرٍّ؛ عطفَ بيانٍ ل «أَيْمَانِكُمْ» ، أي: للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوَى والإِصلاح كما في الحديث. قال أبو حيان: «وهو ضعيفٌ لما فيه من جَعْلِ الأيمانِ بمعنى المَحْلُوفِ عليه» ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِرَ من كَوْنها بمعنى المَحْلُوفِ عليه؛ إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ، وهذا بخلافِ الحديثِ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم َ -

«إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا» فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة.

الخامسُ: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ على البدلِ من «لأَيْمَانِكُمْ» ؛ بالتأويل الذي ذكره الزمخشريُّ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ؛ فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام.

السادس - وهو الظاهرُ -: أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر، لا على ذلك الوجه المتقدِّم، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ، والمتعلِّقُ غيرُ المتعلِّقِ، والتقديرُ:«لإِقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا» ف «عَلَى» متعلقٌ بإِقْسَامِكُمْ، والمعنى: وَلَا تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتَبَدَّلاً لإِقْسَامكُمْ على البِرِّ والتقْوَى والإِصْلَاح الَّتي هي أوصافٌ جميلةٌ؛ خَوْفاً من الحِنْثِ، فكيف بالإِقسامِ علَى ما ليس فيه بِرٌّ ولا تَقْوَى!!!

والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال:

أحدها: أنها «فُعْلَة» بمعنى «مَفْعُول» ؛ من العَرضِ؛ كالقُطْبَةِ والغُرْفَة، ومعنى الآية على هذا: لَا تَجْعَلُوهُ مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم: فُلَانٌ عُرْضَةٌ لكَذَا، أي: مُعَرَّضٌ، قال كعبٌ:[البسيط]

ص: 86

1084 -

مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ

عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلَامِ مَجْهُولُ

وقال حبيبٌ: [الطويل]

1085 -

مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ

وَكِيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي

وقال حسَّانُ: [الوافر]

1086 -

...

...

...

... ..... هُمُ الأَنصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ

وقال أوسٌ: [الطويل]

1087 -

وأَدْمَاءَ مِثْلَ الفَحْلِ يَوْماً عَرَضْتُهَا

لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ

فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا.

والثاني: أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ، فيكونُ من: عَرَضَ العُودَ على الإِناءِ، فيعترضُ دونَه، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً، ومعنى الآية علَى هذا النَّهيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ علَى أنَّهم لا يَبَرُّونَ ولَا يَتَّقُونَ، ويقُولُون: لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأَجْلِ حَلْفِنَا.

والثالث: أنَّها من العُرْضَة، وهي القوة، يقال:«جَمَلٌ عُرْضَةٌ للسَّفَرِ» ، أي: قويٌّ عليه؛ وقال ابن الزَّبير: [الطويل]

1088 -

فَهَذِي لأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ

لِلَهْوِي وَهَذِي عُرْضَةٌ لارْتحَالِنَا

أي قوةٌ وعُدَّةٌ. ثم قيل لكُلِّ ما صَلُح لِشَيء فهو عُرْضَة له، حتى قالوا للمرأَةِ: هي عُرْضَةٌ للنِّكاح إذا صَلُحَتْ له ومعنى الآية على هذا: لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البرِّ.

ص: 87

والأَيْمَانُ: جمعُ يَمِينٍ: وأصلُها العُضْوُ، واستُعْمِلَتْ في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِينَ بتصافُح أَيْمانهم، واشتقاقُها من اليُمْن، واليمينُ أيضاً: اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العُضْو، فينتصبُ على الظرف، وكذلك اليسارُ، تقول: زَيْدٌ يَمِينُ عَمْروٍ، وبَكرٌ يَسَارهُ، وتُجْمَعُ اليمينُ على «أَيْمُنٍ وأَيْمَانٍ» وهل المرادُ بالأَيْمان في الآية القَسَمُ نفسُه، أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان، الأولُ أَوْلَى.

وقد تقدَّمَ تجويزُ الزمخشريِّ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عنه.

فصل

ذكر المُفسِّرون في هذه الآية أقوالاً كثيرة، وأجودها وجهان:

أحدهما: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أنَّ قوله:{وَلَا تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} نهي عن الجُرأَة على اللهِ بكثَرةِ الحَلْفِ به؛ وذلك لأنه من أَكْثَرَ ذِكْر شيءٍ في معنًى من المعاني، فقد جعلهُ عُرْضَة له، فيقُول الرَّجُل: قد جَعَلْتَنِي عُرْضَة للَوْمك؛ قال الشَّاعر: [الطويل]

1089 -

...

...

...

...

وَلَا تَجْعَلُوني عُرْضَةَ للَّوَائِمِ

وقد ذَمَّ الله تعالى مِنْ أكثر من الحَلْفِ بقوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَاّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10]، وقال تعالى:{واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] والعرب كانوا يَمْدَحُون الإنسان بالإقلال من الحلف؛ كما قال كثير: [الطويل]

1090 -

قَلِيلُ الأَلَايَا حافِظٌ لِيَمِينِهِ

وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ

والحِكْمَة في الأَمْرِ بتقليل الأَيمانِ؛ أن من حَلَف في كُلِّ قَلِيلٍ وكثِيرٍ باللهِ، انْطَلق لِسَانهُ بذلك، ولا يبقَى لليمِين في قَلْبِهِ وقْعٌ، فلا يُؤْمَنُ إقْدَامه على الأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ، فيخْتَلُّ ما هو الغَرَضُ من اليمين، وأيضاً كُلَّمَا كان الإنسان أَكْثَرَ تعظِيماً لله - تعالى -، كان أكمل في العُبُوديَّة، ومن كمال التَّعظيم أن يكُون ذِكْر الله - تعالى - أَجَلَّ وأَعْلَى عِنْدَه، من أَنْ يَسْتشْهِد به في غرضٍ من الأَغراض الدُّنْيَويَّة.

فإن قيل: كيف يَلْزَم من تَرْك الحَلْفِ حُصُول البِرِّ والتٌّقْوى، والإصْلَاح بين النَّاسِ؟

فالجواب: أَنَّ من تَرَك الحَلْف؛ لاعْتِقَادِه أَنّ الله أَعْظَم وأَجَلَّ من أَنْ يُسْتَشْهَد باسمِه المُعَظَّم في طَلَب الدُّنْيَا، وخَسَائِس مطالب الحَلْفِ، ولا شك أن هذا من أَعْظَمِ أَبْوَابِ البِرّ.

ص: 88

فصل في سبب النزول

نزلت هذه الآيةُ في عبد الله بن رواحة؛ كان بينه وبَيْنَ خَتَنِهِ على أَخِيه بشير بن النُّعْمان شيء، فحلف عبد الله ألاّ يَدْخُلَ عليه، ولا يُكَلِّمَهُ، ولا يُصْلِح بَيْنَه وبين خصمهِ، وإذا قيل لهُ فيه، قال: قد حَلَفْتُ بالله ألَاّ أفْعَل، فلا يَحِلُّ لي إلَاّ أنْ تَبَرَّ يميني فأنْزَل الله هذه الآية.

وقال ابن جريج: نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق، حين حلف ألَاّ ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفْك، ومعنى الآية: لا تجعلوا الحلف باللهِ شيئاً مانعاً لكم من البرِّ والتَّقوَى، يُدعى أَحدكم إلى صلة الرَّحمن أو بِرِّ، فيقول: حلفتُ بالله ألاّ أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البِرّ.

قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} خَتَم بهاتَيْن الصفتَيْن؛ لتقدُّم مناسبتهما؛ فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسَّمْع، وإرادة البِرِّ من فِعْلِ القلْبِ متعلقةٌ بالعِلْم، وقَدَّم السميع؛ لتقدُّم متعلِّقِه، وهو الحَلْفُ.

قوله تعالى: {لَاّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} .

واللَّغْوُ: مصدرُ لَغَا يَلْغُو، يقال: لَغَا يَلْغُو لَغْواً، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بِما يلغى إثمه؛ كقوله عليه الصلاة والسلام

«إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمعَةِ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ» .

ومن الثاني قوله تعالى: {والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] .

قال الفرَّاء: اللَّغا مصدر للغَيت.

قال أبو العبَّاس المقري: ورد لفظ «اللَّغو» في القرآن على ثلاثة أوجه:

الأول: بمعنى اليمين بغير عقديَّةٍ كهذه الآية.

ص: 89

الثاني: بمعنى الشَّتيمة؛ قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72]، أي: لم يجيبوهم؛ ومثله: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] .

الثالث: بمعنى الحلف عند شُرْب الخمر؛ قال تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَاّ لَغْوٌ فِيهَا} [الطور: 23]، أي: لا يحلف بعضهم على بعض.

فصل

والباء في «بِاللَّغْوِ» متعلِّق ب «يؤاخذكم» والباء معناها السَّببيّة، كقوله:{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61] .

واختلف في اللَّغْوِ: فقيل: ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفرَّاء، ومنه قول الفرزدق:[الطويل]

1091 -

وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ

إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ

ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ، فنهض الفرزدق، وقال: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ، وأَنْشَد البيت:[الطويل]

وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ

...

...

...

. .....

...

...

...

وقوله: [الطويل]

1092 -

وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا

حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلِّقِ

فقال الحسن: «ما أَذْكَاكَ لَوْلَا حِنْثُك» ، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ «لَغْوٌ» .

قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72]، {لَاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [مريم: 62] ؛ وقال العجاج: [الرجز]

1093 -

وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ

عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ

وقيل: ما يُطرحُ من الكلام؛ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة «لَغْوٌ» ؛ قال جريرٌ:[الوافر]

1094 -

وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْواً

كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَرَا

وقيل: «اللَّغو» السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلاماً أو غيره، فأَمَّا وروده في

ص: 90

الكلام؛ فكقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] وقوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [الواقعة: 25]، وقوله:{لَاّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [فصلت: 26، {لَاّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية: 11] وقال عليه الصلاة والسلام: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ»

وأما قوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغواً، وأن يكون المُرادُ: وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغواً، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل.

وقيل: هو ما لا يُفهم، من قولهم:«لَغَا الطَّائِرُ» ، أي: صوَّتَ، واللَّغو، ما لَهجَ به الإنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا.

وقال الراغب: ولَغِيَ بكذا: أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ «لُغَة» ؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا، أي: أُولِعَ به، قوال ابن عيسى - وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ -:«ومنه اللغةُ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ» ، وقد غَلَّطوه في ذلك.

قوله

: {في

أَيْمَانِكُمْ

} فيه ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أن يتعلَّق بالفعلِ قبله.

الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله؛ كقولك: «لَغَا فِي يمينه» .

الثالث: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ، وتعرفه من حيث المعنى؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغو، لصحَّ المعنى، أي: اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ. وسُمِّي الحَلفُ يَميناً؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر.

وقيل: لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء.

فصل في تفسير اللغو

ذكر المفسِّرون في «اللَّغو» وجوهاً:

أحدها: قال الشَّافعيُّ وغيره: هو قول الرَّجل في عرض حديثه: «لَا واللهِ» و «بَلَى واللهِ» من غير قصدٍ إليهما، وهو قول عائشة، وإليه ذهب الشَّعبي وعكرمة، لِمَا رَوَت عائشة؛ قالت: سَبَبُ نُزُولِ هَذِه الآية: قول الرَّجُل فِي عُرْضِ حديثه: (لَا واللهِ) و (بَلَى

ص: 91

واللهِ) أخرجه البُخاري، ويروى عن عائشة: أيمان اللَّغو ما كان في الهزل والمراء والخُصُومة، والحديث الَّذي لا ينعقِدُ عليه القلبُ.

وقال آخرون: هو أن يحلف على شيءٍ يرى أنَّه صادِقٌ، ثم تَبَيَّن أنه خلاف ذلك، وهو قول ابن عبَّاس والحسن، ومجاهد، وسليمان بن يسار، والزُّهري، والسُّدِّيّ، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة: ومكحول، وبه قال أبو حنيفة.

وفائدة الخلاف: أَنَّ الشَّافعيُّ لا يوجب الكفَّارة في قول الرجل: «لَا واللهِ» و «بَلَى واللهِ» ، ويوجبها، فيما إذا حلف على شيءٍ يعتقد أَنَّهُ كان، ثم بان أَنَّه لم يكن، وأَبو حنيفة يحكم بالضِّدِّ من ذلك.

وقال سعيد بن جبير: هو اليمين في المعصية، لا يؤاخذه الله بالحَنْثِ فيها، بل يحنث ويُكَفِّر.

وقال مسروق: ليس عليه كفَّارة، أنُكفِّرُ خطوات الشَّيطان؟ وقال الشَّعبيُّ: الرَّجل يحلف على المعصية كفَّارته أن يتوب منها، وكُلُّ يمين لا يحلُّ لك أن تَفِي بها، فليس فيها كفَّارة، ولو أَمرته بالكفَّارة، لأمرته أَنْ يُتمَّ على قوله.

هذا هو اللَّغو؛ لأن اللَّغو هو المعصية؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] .

وقال عليٌّ: هو اليمين في الغضب، وبه قال طاوس.

وقال الضَّحَّاك: اللَّغو هو اليمين المُكفِّرة، سُمِّيت لغواً، لأن الكَفَّارة أسقطتِ الإثم؛ كأنه قيل: لا يُؤاخذكُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أيمانِكُم، إِذْ كَفَّرْتُم.

وقال زيد بن أسلم: هو دُعاء الرَّجُل على نفسه؛ كقوله: «أَعْمَى الله بَصَرِي إن لَمْ أَفْعَلْ كَذَا، أَخْرَجَنِي اللهُ من مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غداً» أو يقول: هُوَ كَافِرٌ إن فَعَلَ كَذَا، فهذا كُلُّه لَغْوٌ لا يُؤَاخذُه الله به، ولو آخَذَ اللهُ به، لعَجَّلَ لهم العُقُوبة؛ قال تعالى: {وَيَدْعُ

ص: 92

الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} [الإسراء: 11]، {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} [يونس: 11] .

وقال القاضي: هو كُلُّ ما يقع سهواً من غير قصدٍ؛ لقوله تعالى بعد ذلك: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، أي: يؤاخذكم إذا تعمَّدتم، ومعلوم أنَّ المقابل للعمد هو السَّهو، حُجَّة الشَّافعي رضي الله عنه ما روت عائشة رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم َ - قال:

«لَغْوُ اليَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي قَلْبِهِ: كَلَاّ واللهِ، بَلَى واللهِ، لَا وَاللهِ» .

وروي أنَّهُ صلى الله عليه وسلم َ - مرَّ بقوم ينتضلون، ومعه رجلٌ من أصحابه، فرمى رجلٌ من القوم، فقال: أصبت واللهِ، ثم أخطأ فقال الَّذي مع النَّبي عليه الصلاة والسلام ُ: حَنَثَ الرَّجُل يا رَسُولَ اللهِ، فقال النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام ُ -:«كُلُّ أَيْمَان الرُّمَاةِ لَغْوٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَلَا عُقُوبَةَ» .

وأيضاً فقوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو الَّذي يقصد الإنسانُ على سبيل الجِدِّ، ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك، وجب أَنْ يكُونَ اللَّغْو كالمقابل له، ويكُون معناه: ما لا يقصدُ الإنسان بالجِدِّ، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه: لا والله، وبلى والله مِنْ غير قصدٍ على سبيل العادة.

وأيضاً: فَإِنَّه قال قبل هذه الآية: {وَلَا تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} وتقدَّم أنَّ معناه: النَّهي عن كثرة الحلفِ، والَّذِين يقولُون على سبيل العادة لَا والله، وبلى والله، لا شك أنَّهم يكثرون الحَلْفَ واليمين، فلمَّا ذكرهم اللهُ - عقيب قوله:{وَلَا تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} ، وبين أنَّه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إِمَّا أَنْ يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم فِي كُلِّ لحظَةٍ كفَّارة، وكلاهُما حرجٌ في الدِّين.

واحتجَّ أبو حنيفة بوجوه:

الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ» ، فأوجب الكفَّارة على الحانِثِ مُطْلقاً، ولم يفصل بين الجَدِّ والهزل.

الثاني: أَنَّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطَّلاق والعتاق، وهاتان الحُجَّتان توجبان الكَفَّارة في قول النَّاس لا واللهِ، وبَلَى والله، إذا حصل الحَنثُ.

ص: 93

ويؤيِّد ما قلناه: أَنَّ اليمين في اللغة عبارةٌ عن القُوَّة؛ قال الشَّاعر: [الوافر]

1095 -

إِذَا مَا رَيَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ

تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

أي: بالقوَّة، والمقصود من اليمين: تقوية جانب البِرِّ على جانب الحنث بسب اليمين، وإنَّما يفعل هذا في الموضع الَّذي يكون قابلاً للتَّقوية، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأمَّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التَّقوية ألبتَّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمَّا اليمين على المستقبل، فإنه قابلٌ للتَّقوية.

قوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم} وقعت هنا «َلَكِنْ» بين نقيضين؛ باعتبار وجود اليمين؛ لأنَّها لا تَخْلُو: إمَّا ألَاّ يقصدها القلبُ: بل جرتْ على اللسانِ، وهي اللَّغْوُ، وإمَّا أن يقصِدَها، وهي المنعقدةُ.

قوله تعالى: {بِمَا كَسَبَتْ} متعلِّقٌ بالفعلِ قبله، والباءُ للسببية كما تقدَّم، و «مَا» يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه:

أظهرها: أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر، وهو اللَّغو، أي: لا يؤاخذكم باللغوِ، ولكن بالكسب.

والثاني: أنها بمعنى «الذي» ، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي: كَسَبَتْهُ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى «الَّذِي» أكثرُ منها مصدريةً.

والثالثُ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً، والعائدُ أيضاً محذوفٌ، وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ، تقديره: ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه.

فصل

قوله: {يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، أي: عزمتُم وقصدتُم إلى اليمين، وكَسبُ القَلْب: العقدُ والنِّيَّة.

وقال زيد بن أسلم في قوله: «وَلكِم يُؤَاخِذُكم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» هو في الرَّجل يقول: هو مشركٌ إن فعل أي: هذا اللَّغو إلَاّ أن يعقد الشِّرك بقلبه ويكسبه.

واعلم أنَّ اليمين لا تنعقد إلَاّ باللهِ تعالى أو اسم من أسمائِهِ، أو صفةٍ من صفاته، فاليمين باللهِ أَنْ يقول: والَّذي أعبده، والَّذِي أصلِّي له؛ والَّذِي نفسي بيده، ونحو ذلك.

واليمين بأسمائه؛ كقوله: واللهِ؛ والرَّحْمنِ ونحوه.

ص: 94

واليمين بصفاته؛ كقوله: وعزَّة اللهِ؛ وعظمةِ اللهِ؛ وجلال اللهِ؛ وقدرة اللهِ، ونحوها.

فإذا حلف بشيءٍ منها على أمرٍ في المستقبل فحنث، وجبت عليه الكفَّارة، وإذا حلف على أمرٍ ماضٍ أَنه كان ولم يكُن وقد كان، إِنْ كان عالِماً به حال اليمين، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر، وتجبُ فيه الكفَّارة عند الشَّافعيِّ، عالماً كان أو جاهلاً.

وقال أصحاب الرَّأي: إِنْ كان عالِماً، فهو كبيرةٌ، ولا كفَّارة لها كسائر الكبائر، وإِنْ كان جاهلاً، فهو يمين اللَّغو عندهم.

واحتجَّ الشَّافعيُّ بهذه الآية على وجوب الكفَّارة في اليمين الغموس؛ قال: «لأَنَّه - تعالى - ذكر ههنا المؤاخذة بكسب القلب، وقال في آيةِ المائدة:{ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89] ، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الَّذي مضادُّه الحِلّ، فلما ذكر ههنا قوله:{بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب، وأيضاً ذكر المُؤاخذة، ولم يبيِّن تلك المُؤاخذة ما هِيَ، وَبيَّنَها في آية المائِدَة بقوله:{ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] ، فتبيَّن أن المُؤَاخَذَة هي الكَفَّارَة، فكل مُؤَاخَذَةٍ من هاتين الآيتين مجملةٌ من وجهٍ، مبيَّنَةٌ من وجهٍ آخر، فصارت كل واحدةٍ منهما مُفسَّرة للأُخرى من وجهٍ، وحصل من كُلِّ واحدةٍ منهما أَنَّ كُلَّ يمينٍ ذكر على سبيل الجِدِّ وربط القلب به، فالكفَّارة واجبةٌ فيها، ويمين الغموس كذلك، فكانت الكفَّارة واجبةٌ فيها.

ص: 95

فصل في كراهية الحلف بغير الله

ومن حلف بغير اللهِ مثل أن قال: والكعبة، وبيت اللهِ، ونبيِّ الله؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك، فلا يكون يميناً، ولا تجب فيه الكفَّارة إذا حنث، وهو يمين مكروهٌ؛ قال الشَّافعيُّ: وأخشى أن تكون معصية.

روى مالكٌ عن نافعٍ، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - أدرك عمر بن الخطَّاب، وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه؛ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ - «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُم أَنْ تَحْلفُوا بآبَائِكُم، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» .

قوله تعالى: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} قد تقدَّم أن «الغَفُور» مبالغةٌ في ستر الذُّنوب، وفي إسقاط عقوبتها.

وأمَّا «الحليم» فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة، والسُّكون مع القُدرة والقُوَّة، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال، أي: على أشدِّها قوَّةً في السَّير، ومنه الحِلْم، لأَنَّه يرى في حال السُّكُون، وحلمة الثَّدي؛ والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُمُ إذا عَفَا مع قُدْرَة، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر يَحْلَمُ بالفتح، فسد وتثقَّب؛ وقال [الوافر]

1096 -

فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ

كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ

وأمَّا «حَلَمَ» ، أي: رأى في نومِه، فبالفتح، ومصدرُ الأولِ «الحِلْم» بالكسر؛ قال الجعديُّ:[الطويل]

1097 -

وَلَا خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُن لَهُ

بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا

ومصدرُ الثاني «الحَلِّمُ» بفتح اللام ومصدرُ الثالث: «الحُلُم» و «الحُلْم» بضم الحاءِ مع ضمِّ اللام وسكونها.

ص: 96

قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ} : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وعلى رأي الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ؛ لأنه لا يشترطُ الاعتماد، و «مِن نِّسَآئِهِمْ» في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ:

أحدها: أنْ يتعَلَّقَ ب «يُؤْلُونَ» .

قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: كيف عُدِّي ب» مِنْ «وهو مُعَدى ب» عَلَى «؟ قلتُ: قد ضُمِّنَ في هذا القَسَم المخصوصِ معنى البُعْد، فكأنه قيل: يُبْعُدُونَ من نسائِهم مُؤْلِينَ، أو مُقْسِمِين» .

الثاني: أنَّ «آلَى» يتَعَدَّى ب «عَلَى» وب «مِنْ» ؛ قاله أبو البقاء نقلاً عن غيره؛ أنه يقال: آلَى من امرأته، وعلى امرأته.

الثالث: أنَّ «مِنْ» قائمةٌ مقامَ «عَلَى» على رأي الكوفيِّين.

والرابع: أنها قائمةٌ مقامَ «فِي» ، ويكونُ ثم مضافٌ محذوفٌ، أي: على تَرْكِ وَطْءِ نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم.

والخامس: أنَّ «مِنْ» زائدةٌ، والتقدير: يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزلوا نِسَاءَهُم.

والسادس: أَنْ تتعلَّقَ بمحذوف، والتقديرُ: والذين يُؤُلون لهم من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهرٍ؛ فتتعلَّق بما يتعلق به «لَهُم» المحذوفُ، هكذا قَدَّره أبو حيَّان وعزاه للزمخشريِّ قال شهاب الدين وفيه نظرٌ؛ فإنَّ الزمخشريَّ قال: ويجوزُ أن يُرَادَ: لهم من نسائهم تَرَبُّصُ؛ كقولك: «لِي مِنْكَ كَذَا» فقوله «لَهُمْ» لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً، وهو لفظُ «لَهُمْ» ، إنما أرادَ أَنْ يعلِّق «مِنْ» بالاستقرار الذي تعلَّق به «لِلَّذِينَ» ، غايةُ ما فيه: أنه أتى بضمير «الَّذِينَ» تبييناً للمعنى، وإِلَى هذا المنحَى نحا أبو البقاء؛ فإنه قال: وقيل: الأصلُ «عَلَى» ، ولا يَجُوزُ أن تقومَ «مِنْ» مقامَ «عَلَى» فَعَلَى ذلك تتعلَّقُ «مِنْ» بمعنى الاستقرار، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قوله «لِلَّذِينَ» ، وعلى تقدير تسليم أنَّ لفظة «لَهُمْ» مقدرةٌ، وهي مُرادةٌ، فحينئذٍ: إنما تكونُ بدلاً من «لِلَّذِينَ» بإِعادةِ العاملِ، وإلَاّ يبقى قوله «لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ» مُفْلَتاً، وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ، وأمَّا تقديرُ الشيخ:«والذين يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ» ، فليس كذلك؛ لأنَّ «الَّذِينَ» لو جاء كذلك غيرَ مجرور باللام، سَهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، سهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، ثم قال أبو حيَّان: وهذا كلُّه ضعيفٌ يُنَزَّه

ص: 97

القرآن عنه، وإنما يتعلَّق ب «يُؤْلُونَ» على أحد وجهين: إمَّا أنْ تكونَ «مِنْ» للسَّبَبِ، أي يَحْلِفُون بسبب نسائِهم، وإمَّا أَنْ يُضَمَّن معنى الامتناع، فيتعدَّى ب «مِنْ» فكأنه قيل «لِلَّذِينَ يمتنعُونَ من نسائِهِم بالإِيلَاءِ» فهذان وَجْهان مع السنة المتقدِّمة؛ فتكونُ ثمانةٌ، وإن اعتبرت مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةٌ.

والإِيلاءُ: الحَلفُ. مصدرُ آلَى يُؤْلي، نحو: أَكْرَمَ يُكْرِم إِكْرَاماً، والأصل:«إئْلاءٌ» فأُبدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها؛ نحو: «إِيمَان» .

ويقال: تَأَلَّى وايتَلَى على افتَعَلَ، والأصلُ: ائْتَلَى، فقُلِبَت الثانيةُ ياءً؛ لِما تقدَّم.

والحَلْفَةُ: يقال لها: الأَلِيَّةُ والألُوَّةُ والأَلْوَةُ والإِلْوَةُ، وتُجْمَعُ الأَليَّةُ على «أَلايَا» ؛ كعَشيَّة وعَشَايَا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على «أَلَايَا» ؛ كرَكُوبَة ورَكَائِب؛ قال كُثَيِّر عزَّة:[الطويل]

1098 -

قَلِيلُ الألَايَا حَافِظٌ ليَمِينِهِ

إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ

وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وَأَلَايَا عند قوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] جمع خطيئة والإيلاء من عرف الشَّرع: هو اليمين على ترك الوطء؛ كقوله: لا أُجامعك، أولا أُباضعك، أو لا أُقاربك.

ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره: للَّذين يؤلون من نسائهم ألَاّ يطئوهم، إلَاّ أنَّه حذف لدلالة الباقي عليه.

قال ابن الخطيب: هذا إذا حملنا لفظ «الإِيلَاءِ» على المفهوم اللُّغَوِيّ، أَمَّا إذا

ص: 98

حملناه على المفهوم الشَّرعي، لم يحتج إلى هذا الإضمار.

وقرأ أُبيٌّ وابن عباس: «للَّذِينَ يُقْسِمُونَ» ، نقله القرطبي.

وقرأ عبد الله: «آلَوْا مِنْ نِسَائِهِم» .

والتَّربصُ: الانتظارُ، وهو مقلوبُ التَّصبُّرِ؛ قال:[الطويل]

1099 -

تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا

تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا

وإضافةُ التربُّص إلى الأشهرِ فيها قولان:

أحدهما: أنَّه من باب إضافة المصدر لمفعوله؛ على الاتساع في الظرف؛ حتَّى صارَ مفعولاً به، فأُضيفَ إليه، والحالةُ هذه كقوله:«بَيْنَهُمَا مَسِيرة يَوْمٍ» أي: مَسِيرة في يَوْم.

والثاني: أنه أُضِيف الحَدَثُ إلى الظرف من غير اتِّساع، فتكونُ الإِضافةُ بمعنى «فِي» وهو مذهبٌ كوفيٌّ، والفاعلُ محذوفٌ، تقديره: تربُّصُهُمْ أربعةُ أشهرٍ.

فصل

قال قتادة: كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المُسيَّب: كان ذلك من ضرار أهل الجاهليَّة، وكان الرَّجُلُ لا يُحِبُّ امرأته، ولا يريد أن يتزوَّجها غيره، فيحلف ألَاّ يقربها أبداً، فيتركها لا أَيماً ولا ذات بعلٍ، وكانوا في ابتداء الإِسلام يفعلون ذلك أيضاً؛ فأزال الله تعالى ذلك، وضرب للزَّوْج مُدَّة يَتَرَوَّى فيها ويتأمَّل، فإِنْ رأى المصلحة في تركِ هذه المضارَّة، فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة، فارقها.

وقال القُرطبيّ: وقد آلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم َ - وطَلَّق، وسببُ إيلائه: سُؤال نسائه إِيَّاه من النَّفقةِ ما ليس عندهُ؛ كذا في «صَحِيح مُسْلِم» ، وقيل: لأن زينب ردَّت عليه

ص: 99

هديَّتهُ، فغضب صلى الله عليه وسلم َ - فآلَى منهُنَّ، ذكره ابن ماجه.

فصل

فذهب أكثرهم إلى أَنَّهُ إِن حلف لا يَقْرَبُ زوجته أبداً، أَو سَمَّى مُدَّة أكثر من أربعة أشهر يكون مؤْلياً، فلا يتعرَّض لها قبل مضي أربعة أشهرن وبعد مُضيِّها يُوقفُ ويُؤمرُ بالفيئة أو الطَّلاقِ بعد مُطالبةِ المرأة، والفَيْئَة: هي الرُّجُوع عمَّا قال بالوطء إن قَدَر عليه، وإن لم يَقْدِر فبالقَوْل، فإن لم يَفِ ولم يُطَلِّق، طَلَّق عليه الحاكم واحدة.

وذهب إلى الوَقْفِ بعد مُضِيِّ المُدَّةِ: عمرن وعثمان، وعليٌّ، وأبو الدرداء، وابن عمر.

قال سُليمان بن يسار: أدْرَكْتُ بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ - كُلُّهم يقول بوقف المُؤْلي، وإليه ذهب سعيد بن جُبير، وسُلَيْمان بن يسار، ومجاهد، وبه قال مالك والشَّافعي وأحمد وإِسحاق.

وقال بعض أهل العلم: إذا مضتْ عليها أربعةُ أشهر، يقع عليها طَلْقَةً بائنة، وهو قول ابن عبَّاس وابن مسعود، وبه قال سُفيانُ الثَّورِيُّ وأصحاب الرَّأي.

وقال سعيد بن المُسيَّب والزُّهري: تقع طلقة رجعيَّةً، ولو حلف ألَاّ يطأَها أَقَلَّ من أربعة أشهر، لا يكون مُؤْلياً، بل هو حانثٌ إذا وطئها قبل مُضِيِّ تلك المُدَّة، وتجب عليه كفَّارة يمين على الصَّحيح، ولو حلف ألَاّ يطَأَهَا أربعة أشهرٍ، لا يكون مُؤلياً عند من يقول بالوقف بعد مُضِيِّ المُدَّة، لأن بقاء المُدَّة شرط للوقف، وثبوت المُطَالبة بالفيئة أو الطَّلاق، وقد مضتِ المُدَّة، وعند من لا يقول بالوقف لا يكون مؤلياً ويقعُ الطَّلَاق بمُضِيِّ المُدَّة.

وقال ابن عبَّاس لا يكون مُؤْلياً حتى يحلف لا يَطأَها أبداً.

وقال الحسن البصريِّ وإسحاق: أي مُدَّة حَلَف عَلَيها، كان مُؤلياً وإن كان يَوْماً.

ص: 100

فصل

قال القرطبيُّ: إذا حلف أَلَاّ يطأ امرأتهُ أكثر من أربعة أشهرٍ؛ فانقضت الأربعة أشهرٍ ولم تُطالبه، ولم ترفعهُ إلى الحاكم، لم يلزمه شيء عند مالكٍ وأكثر أهل المدينة.

وقال بعض أصحابنا: يلزمه بانقضاء الأَربعَة أَشهر طلقة رجعيَّة، وقال بعضهم: طلقة بائِنَة.

والصَّحِيح: ما ذهب إليه مالِكٌ، وأكثر أَهْلِ المدينة وأصحابه.

فصل هل ينعقد الإيلاء في الغضب؟!

قال ابن عبَّاس: لا يكون إيلاءً إلَاّ في حالِ الغَضَبِ، وهو المشهور عن عليٍّ رضي الله عنه وهو قول اللَّيث، والشَّعبي، والحسن، وعطاء قالوا: لا يكون الإيلاءُ إلَاّ على وجه مغاضبةٍ ومشادَّة.

وقال ابن سيرين: يكون في غضبٍ، وغير غضبٍ، وهو قول ابن مسعود، والثوري ومالك وأهل العراق والشَّافعيِّ وأحمد.

فصل

والمدخول بها وغير المدخول بها سواءٌ في صِحَّة الإيلاء منها.

قال القرطبي: والذِّمِّيُّ لا يصحُّ إيلاؤه كما لا يصحُّ طلاقهُ، ولا ظِهَارُهُ؛ لأن نكاح أهل الشِّرْكِ عندنا ليس بنكاحٍ صحيحٍ.

فصل

ومُدَّة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحُرِّ والعبدِ لأنَّها ضُرِبت لمعنى يرجع إلى الطَّبع، وهو قِلَّةُ صبر المرأَة عن الزَّوج، فيستوي فيه الحُرُّ والعبدُ؛ كمُدَّة الفَيْئَةِ ومُدَّة الرِّضاع.

وعند مالكٍ وأبي حنيفة: ينتصف بالرِّقِّ، إلَاّ عند أبي حنيفة: ينتصف بِرِقِّ المرأة، وعند مالكٍ: برِقِّ الرَّجُل؛ كقولهما في الطَّلَاق.

ولنا: ظاهر قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} فتناول الكُلَّ من غير

ص: 101

تخصيصٍ، والتَّخصيص خلاف الظَّاهر، والمعنى المُتَقَدِّم يمنع التَّخْصِيص.

قال القرطبيُّ: وأَجَلُ المُؤلي من يوم حلف، لا مِنْ يوم المرافعة إلى الحاكم.

فصل فيمن يصح منه الإيلاء ومن لا يصح

كُلُّ زَوْج يتصوَّر منه الوَقَاع، وكان تصرُّفه مُعْتبراً في الشَّرْع، صَحَّ منه الإيلاءُ.

وقال مالكٌ: لا يَصِحُّ الإيلاءُ إلَاّ في حال الغضب، وقال غيره: يصحُّ الإيلاءُ في حال الرِّضَى والغضب، ويصحُّ الإيلاءُ من الرَّجعيَّة؛ لأنها زوجة؛ بدليل أَنَّه لو قال: نسائي طوالِقٌ، وقع عليها الطَّلَاقُ.

وإيلاء الخَصِيِّ صحيحٌ، لأنه يُجَامع كالفحلِ، وإنما فُقِد في حَقِّهِ الإِنْزَالُ، والمجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يُجَامع به، صَحَّ إِيلاؤه، وإن لم يَبْقَ، فيه خلافٌ.

قال أبو حنيفة: لا يَصِحُّ إيلاؤه.

وقال غيره: يَصِحُّ لعموم الآية، ولا يصحُّ الإيلاء [من أَجْنَبيَّة] ، فلو آلَى منها ثم تَزَوَّجها، لم يكن مُؤْلِياً.

فصل

فإن امتنع من وطئها بغير يمين إضراراً بها، أُمر بوطئها، فإن امتنع إضراراً بها، فرَّق الحاكم بينه وبينها، من غير ضرب مُدَّة.

وقيل: يُضربُ له أجلُ الإيلاءِ، فإذا حلف لا يطؤها حتى يفطم ولدها؛ لئلا يُمْغَلَ بولدها، ولم يرد إضراراً بها حتى يَنْقَضِي أَمَدُ الرِّضاع، لم يكُن لها مُطَالبته.

فصل

المُوْلِي لا يخلُو إمّا أن يحلف تَرْك الوَطْءِ بالله - تعالى - أو بغيره، فإِن حَلَف بالله تعالى كان مُؤلياً، ثم إن جامعها في مُدَّة الإيلاءِ، خَرَجَ عن الإيلاءِ، وهل تجب عليه كَفَّارة؟ فيه قَوْلَان:

أصحّهما: أن عليه الكَفَّارة كما قَدَّمناه؛ لعموم الدَّلائِل الموجبةِ للكَفَّارةِ عند الحِنْثِ باليمين بالله - تعالى - لأنه لا فَرْقَ بين قوله: «والله لا أَقْرَبُكِ» ثم يَقْرَبُهَا، وبين قَوله:«والله لا أُكَلِّمُكِ» ثم يُكَلِّمُهَا.

والقول الثاني: لا كَفَّارة عليه؛ لقول تعالى: {فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

ولو كانت الكَفَّارة واجبةٌ لذكرها، والحاجة مناسبةٌ إلى معرفتها، ولا يجوزُ تأخِير

ص: 102

البيان عن وقتِ الحاجة، والغُفران يوجبُ ترك المُؤَاخَذةِ.

وللأَوَّلِين أن يجيبوا: بأنه إنما ترك الكَفَّارة ههُنا لأنه - تعالى - بيَّنها على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في سَائِر المواضع، وتَرْكُ المُؤَاخذة بقوله:«غَفُورٌ رَّحِيمٌ» يدل على عدم العقاب، وهو لا يُنافي وجُوب الفِعْل، كما أن التَّائِب عن الزِّنا والقَتْلِ لا عِقاب عليه، ومع ذلك يجِبُ عليه الحَدُّ والقِصَاصُ.

وأما إن كان الحالف في الإيلاء بغير اللهِ؛ كما إذا قال: إن وَطَأْتُكِ فعبدي حُرٌّ، أَوْ أَنْت طالِقٌ، أو ضرتك طَالِق، أو التزم أمراً في الذِّمَّة، فقال: إن وَطَأْتُكِ فَلِلَّه عليَّ عِتْق رَقبة، أو صدقة، أو صَوْم، أو حَجّ، أو صلاة، فقال الشَّافعي في «القدِيمِ» ، وَأَحمدُ في ظاهر الرِّواية عنه: لا يكون مُؤْلِياً؛ لأن الإِيلَاء المعهُود هو الحلفُ باللهِ؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:

«مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ» .

وقال الشَّافعيّ في «الجَدِيدِ» - وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة - إنه يكُون مُؤْلِياً؛ لأن لفظ الإيلاءِ يَتَناوَلُ الكُلَّ، وعلى القولين فيمينُهُ منعقدة، فإن كان قد عَلَّق به طلاقاً أو عِتْقاً، وقع بِوَطْئِه ذلك المُعَلَّق، وإن كان المُعَلَّق التزام قُرْبة في الذِّمَّة، فعليه ما في نذرِ اللَّجاج، إِمَّا كَفَّارة يمين، وإِمَّا الوَفَاء بما سَمَّى.

وفائدة هذين القولين: أنا إن قلنا: يكون مُؤْلياً، فبعد أَرْبَعَة أشهر يضيق الأَمْر عليه، حَتَّى يَفيء أو يُعَلِّق، وَإِنْ قلنا: لا يكون مُؤْلياً، لا يضيقُ عليه الأَمر.

قال القرطبي: فإن حلف بالنَّبِيّ أو الملائِكَة، أو الكَعبة ألا يَطَأَها أو قال: هو يَهُوديٌّ، أو نصرانيٌّ، أو زانٍ إن وطِئَها، فليس بِمُؤْلٍ، قال: وإن حلف ألا يَطَأَها، واستثنى فقال: إن شاء الله، فإنَّه يكون مُؤلياً، فإن وَطِئَهَا، فلا كَفَّارة عليه.

وقال ابن الماجشون في «المَبْسُوطِ» : ليس بِمؤلٍ، وهو الصَّحيحُ.

قوله: {فَإِنْ فَآءُوا} ألفُ «فَاءَ» منقلبةٌ عن ياء؛ لقولهم: فَاءَ يَفِيءُ فَيْئَةً: رَجَعَ والفَيْءُ: الظلُّ؛ لرجوعه من بعد الزوال، وقال عَلْقَمَةُ:[الطويل]

1100 -

فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي فَمَا تَستَفِزُّنِي

ذَوَاتُ العُيُون وَالبَنَانِ المُخَضَّبِ

ص: 103

وفرّقوا بين الفَيْءِ والظِّل: فقالوا: الفَيء ما كان بالعَشِيِّ؛ لأنه الذي نسختهُ الشَّمسُ، والظَّلُّ ما كان بالغداة؛ لأنه لم تنسخه الشَّمس، وفي الجنة ظِلٌّ وليس فيها فَيْءٌ؛ لأنه لا شَمْسَ فيها؛ قال تعالى:{وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] ؛ وأنشد: [الطويل]

1101 -

فَلَا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ

وَلَا الفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ

وقيل: فُلَان سريعُ الفيئة، أي: سريعُ الرُّجوع عن الغَضَبِ إلى الحَالَةِ المتقدِّمة، حكاه الفَرَّاء عن العرب.

وقيل لما رَدَّه الله على المُسلمين من مال المُشْرِكين: فَيْء؛ كأنه كان لهم فرجع إِلَيهم، فقوله:«فَاءُوا» معناه: رَجَعُوا عَمَّا حَلَفُوا عليه من تَرْك الجِمَاع، فإنه غَفُورٌ رَحِيمٌ.

فصل في وجوب الكفَّارة

قال القُرطبيّ: جمهور العُلماء أَوْجَبُوا الكَفَّارة على المُؤْلي إذا فاء بجماع امرأته.

وقال الحسن: لا كَفَّارة عليه.

قال القرطبي: إِذَا كَفَّر عن يمينه، سقط عنه الإيلاءَ.

قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} في نصب «الطَلَاقَ» وجهان:

أحدهما: أنه على إسقاط الخافضِ؛ لأنَّ «عَزَمَ» يتعدَّى ب «عَلَى» ، قال:[الوافر]

1102 -

عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ

لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ

والثاني: أن تُضَمَّن «عَزَمَ» معنى «نَوَى» ؛ فينتصب مفعولاً به.

والعَزْمُ: عَقْدُ القلبِ وتصميمُه: عَزَم يَعْزِمُ عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمَةً وعِزَاماً بالكَسْر، ويستعمل بمعنى القَسَم: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ؛ والعزمُ والعَزِيمةُ: توطينُ النَّفْسِ على المُرادِ المَطْلُوب، والأَمر المَقْصُود. والطلاقُ: انحلالُ العقدِ، وأصلُه الانطلاق.

وقال القرطبي: والطَّلاق: التَّخليةُ، يقال: نعجةٌ طالِقٌ، وناقةٌ طالِق أي: مهملة؛ قد تُرِكت في المرعى، لا قيدَ عليها ولا رَاعِيَ وبعير طُلُق: بضم الطَّاء واللام، والجمع

ص: 104

أَطلاقٌ ويقال: طَلَقَتْ بفتح اللام تَطْلُقٌ فهي طالِقٌ وطَالِقَةٌ؛ قال الأعشى: [الطويل]

1103 -

أَيَا جَارَتَا بَينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ.....

...

...

...

وحكى ثعلب: «طَلُقَتْ» بالضم، وأنكره الأخفش. والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً، أو اسمَ مصدرٍ، وهو التطليقُ.

قوله: {فَإِنَّ الله} ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال أبو حيان: ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعُوهُ، وقرأ عبد اللهِ:«فَإِنْ فَاءُوا فيهنَّ» وقرأ أُبيُّ «فِيهَا» والضميرُ للأَشْهُرِ.

وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطَّلاق إنما تكونُ بعد مُضِيِّ الأربعة الأشهر، إلَاّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يرَى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مُدَّة الأربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المتقدِّمَةُ، احتاجَ إلى تأويل الآيةِ بما نصُّه:«فإِنْ قلتَ: كيف موقعُ الفاءِ، إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّصِ؟ قلت: موقعٌ صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» فَإِنْ فَاءَوُا. وَإِنْ عَزَمُوا «تفصيلٌ لقوله: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} ، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّلَ، كما تقول: أنَّا نزيلُكُمْ هذا الشَّهْرَ، فإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ، أَقَمْتُ عندَكُمْ إلى آخره، وإلَاّ لم أقُم إلَاّ رَيْثما أَتَحَوَّلُ» ، قال أبو حيان:«وليس بصحيحٍ؛ لأ، َّ ما مثل به ليس نظيرَ الآيةِ؛ ألا ترَى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حاله، وهو قوله:» أَنَا نَزِيلُكُمْ هذا الشَّهْر «، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجواب الدالِّ على اختلاف متعلَّقِ فعل الجزاء، والآيةُ ليسَتْ كذلك؛ لأنَّ الذين يُؤلُونَ ليس مُخْبَراً عنهم، ولا مُسْنَداً إليهم حُكْمٌ، وإنما المحكُومُ عليه تربُّصُهُمْ، والمعنى: تربُّصُ المُؤلين أربعةَ أَشْهُرٍ مشروعٌ لهم بعد إيلائهم، ثم قال:» فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا «فالظاهرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأَسْرِهَا، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها؛ لأنَّ التقييد المغاير لا يَدُلُّ عليه اللفظُ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقول:» للضَّيْفِ إكرامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فإنْ أقامَ، فنحنُ كرماءُ مُؤثِرُونَ، وإنْ عَزَمَ على الرحيلِ، فله أن يَرْحَلَ «، فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطين مُقَدَّرَانِ بعد إكرامهِ» .

قلوه: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال أبو حنيفة: سَمِيعٌ لإِيلائِه، عليم بعزمِه.

قال القرطبي: دلَّت هذه الآية على أَنَّ الأَمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاءٌ، إذ لا يقع عليها طلاقٌ.

ص: 105

فصل

قال أبو حنيفة والثَّوري: إنه لا يكون مُؤْلِياً حتى يحلف ألَاّ يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد.

وقال الشَّافعيّ وأحمد ومالك: لا يكون مُؤلياً حتَّى تزيد المُدَّة على أربعة أشهر.

وفائدة الخلاف: أنه إذا آلَى منها أكثر من أربعة أهشرٍ أجل أربعة أشهرن وهذا المُدَّة تكون حَقّاً للزَّوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزَّوج بالفيئة أو بالطَّلاق فإن امتنع الزَّوجُ منهما، طلَّقها الحاكمُ عليه، وعند أبي حنيفة: إذا مضت أربعةُ أشهر، يقعُ الطَّلاق. حجة الشَّافعي وجوهٌ.

الأول: أنَّ «الفاء» في قوله {فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي كون هذين الحُكمين مشروعين متراخياً على انقضاء الأَرْبَعة أشهُر.

قال ابن الخطيب لما ذكر قول الزَّمخشريِّ المتقدِّم على سبيل الإيراد: وهذا ضعيفٌ، لأن قوله:{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} إشارةٌ إلى حُكمين:

أحدهما: صدور الإيلاء عنهم.

والثاني: وجوب تَرَبُّص هذه المُدَّة على النِّسَاء.

والفاء في قوله: «فَإِن فَآءُوا» ورد عقيب ذكرهما معاً، فلا بُدَّ وأن يكون هذا الحُكمُ مشروعاً عقيب الأَمرين: عقيب الإيلاءِ، وعقيب حُصُولِ التَّرَبُّص في هذه المُدَّة، بخلاف المثال الَّذِي ذكرهُ، وهو قوله:«أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُم؛ فإن أكرمتموني بقيتُ وإلا تَرَحَّلتُ» ؛ لأن هناك «الفاء» صارت مذكُورة عقيب شيء واحدٍ، وهو النُّزول، وهي هُنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء، وذكر التَّربُّص، فلا بُدَّ وأن يكُون ما دخلت «الفَاءُ» عليه واقعاً بين هذين الأمرين.

الحجة الثَّانية: قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} صريحٌ في أنّ وقوع الطَّلَاق، إنَّما يكون بإيقاع الزَّوج.

وعند أبي حنيفة: يقع الطَّلَاق بِمُضِيِّ المُدَّة، لا بإيقاع الزَّوج.

فإن قيل: الإيلاءُ طلاقٌ في نفسه؛ فالمراد من قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} الإيلاء المتقدِّم.

فالجواب: هذا بعيد؛ لأن قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} لا بُدَّ وأن يكون معناه: «وإن عَزَمُوا الَّذِين يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهُمُ الطَّلاق» فجعل المُؤلي عازماً، وهذا يقتضي أن يكون

ص: 106

الإيلاءُ والعزم قد اجتمعا، وأما الطَّلاق فهو مُتعلَّقُ العزم، ومُتعلِّق العزم مُتأخرٌ عن لعزم؛ فإذن الطَّلَاق مُتأَخِّر عن العَزْمِ لا محالة، والإِيلاءُ إمَّا أن يَكُون مقارناً للعزم أو متقدِّماً عليه، وهذا يُفيد أن الطَّلاق مُغَاير لذلك الإِيلاءِ.

الحجة الثَّالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي أن يصدرَ من الزَّوج شيءٌ يكون مسموعاً وما ذاك إلَاّ أن نقول تقديره: «وإِن عَزَمُوا الطَّلَاق وطلّقوا فاللهُ سمِيعٌ لكَلَامِهِم، عَلِيمٌ بما في قُلُوبِهِم» .

فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أن يَكُون المُرادُ إن الله سَمِبعٌ لِذَلِك الإيلاءِ.

فالجواب: أنّ هذا التهديد لم يحصُل على نفس الإيلاء، بل إنَّمَا حصل عن شيءٍ حصل بعد الإيلاء، فلا بُدَّ وأن يَصْدُر عن الزَّوج بعد ذلك الإيلاء، وهو كلام غيره؛ حتى يكون قوله:{فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تهديداً عليه.

الحجة الرَّابعة: قوله: «فَإِنْ فَاءُوا» ، «وَإِنْ عَزَمُوا» ظاهره التَّخيير بين الأَمرين؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحداً، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.

الحجة الخامسة: أَنَّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاقٍ، بل هو حلفٌ على الامتناع عن الجماع مُدَّة مخصوصة، إلَاّ أنّ الشَّرعَ ضرب لذلك مقداراً معلوماً من الزَّمان؛ وذكل لأَنَّ الرَّجُل قد يترُك جماع المرأة مُدَّة من الزَّمان لا بسبب المضارّة، وهذا إنّما يكُون إذا كان الزَّمَانُ قصيراً، فَأَمَّا ترك الجماعِ زماناً طويلاً، فلا يَكُون إلَاّ عند قصد المضَارَّة، ولما كان الطُّول والقِصرُ في هذا الباب أَمراً غير مضبوطٍ، قَدَّر له الشَّارع حدّاً فاصِلاً بين القَصِير والطَّويل، وذلك لا يُوجبُ وقُوعَ الطَّلاق، بل اللائِقُ بحكم الشَّرع عند ظهور قصد المضارَّة، أن يَأْمُر بتركِ المَضَارَّة، أو بتخليصها من قَيْد الإيلاءِ، وهذا المعنى مُعْتَبرٌ في الشَّرع؛ كضرب الأَجل في مُدَّة العنينِ وغيره.

حجة أبي حنيفة رضي الله عنه: قراءة عبد الله بن مسعود: «فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ» .

والجواب: أنّ القراءة الشَّاذَّة مردودة؛ لأن القرآن لا يَثْبُتُ كونه قُرآناً إلَاّ بالتَّواتُر؛

ص: 107

فحيث فلم يثبُت بالتَّواتر، قطعنا بأنَّه ليس بقُرآن وأَوْلى النَّاس بهذا أبو حنيفة؛ فإنّه تَمَسَّك بهذا الحرف في أَنَّ التَّسمية ليست من القُرْآن.

ص: 108

لما ذكر عز وجل الإيلاء، وأن الطّلاق قد يقعُ بيَّن تعالى حُكم المرأة بعد التَّطْلِيق.

قوله: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} : مبتدأٌ وخبرٌ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمر، أي: لِيتَرَبَّصْنَ، أو عَلَى بابها؟ قولان، وقال الكوفيون: إنَّ لفظها أمرٌ؛ على تقدير لام الأمرِ، ومَنْ جعلها على بابها، قدَّر: وحُكْمُ المطلَّقَاتِ أَنْ يتربَّصْنَ، فحذف «حُكْمُ» مِن الأول، و «أن» المصدرية من الثاني، وهو بعيدٌ جدّاً.

و «تَرَبَّصَ» يتعدَّى بنفسَه؛ لأنه بمعنى انْتَظَرَن وهذه الآيةُ تحتمِلُ وجهين:

أحدهما: أن يكون مفعول التربُّص محذوفاً، وهو الظاهرُ، تقديرُه: يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ، ويكونُ «ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ» على هذا منصوباً على الظرف؛ لأنَّ اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ.

والثاني: أن يكون المفعولُ هو نفسَ «ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ» أي: ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قُرُوءٍ.

وأمَّا قوله: {بِأَنْفُسِهِنَّ} [فيحتمل وجهين، أحدهما، وهو الظاهرُ: أَنْ يتعلَّق المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤتَى بالضميرِ المتصل، لو قيل في نظيرِه:«الهِنْدَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِهِنَّ» لم يجُز؛ لئلَاّ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمر المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك.

والثاني: أن يكونَ «بَأَنْفُسِهِنَّ» تأكيداً للمضمرِ المرفوع المتصلِ، وهو النونُ، والباءُ زائدة في التوكيد؛ لأَنَّه يجوزُ زيادتها في النفسِ والعينِ مُؤكَّداً بهما؛ تقولُ:«جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وِبِنَفْسِهِ وَعَيْنُهُ وَبِعَيْنِهِ» ؛ وعلى هذا: فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتها، لا يقالُ: لا جائزٌ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجبُ أن تُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ؛ لأنه لا يُؤكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنَّفسِ والعَيْنِ، إلَاّ بعد تأكيده بالضميرِ المرفوع المنفصلِ؛ فيقال: زَيْدٌ جَاءَ هُوَ نَفْسُهُ عَيْنُهُ «؛ لأنَّ هذا المؤكَّد خرجَ عن الأصلِ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلَاتِ، فخرج بذكل عن حكم التوابع، فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التزِمَ في غيره، ويُؤيِّد ذلك قولهم:» أَحْسِنْ بِزَيْدٍ، وَأَجْمِلْ «، أي: به، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريِّين، والفاعلُ عندهم لا يُحْذَفُ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرَى الفَضَلاتِ؛ بسبب جَرِّه بالحرفِ، أو خَرَجَ عن

ص: 108

أصل باب الفاعل؛ فلذلك جازَ حَذْفُه، وعن الأَخْفَش ذَكَر في» المَسَائِلِ «أنهم قالوا:» قَامُوا أَنْفُسُهُمْ «من غير تأكيدٍ، وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرن التربُّصَ هُنَّ، لا أنَّ عيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَّربُّصَ؛ ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ.

فإن قيل: القُرُوءُ: جمع كثرةٍ، ومن ثلاثةٍ إلى عشرة يُمَيَّزُ بجموع القلة ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك، إلا عند عدم استعمالِ جمع قلَّةٍ غالباً، وههنا فلفظُ جمع القلَّةِ موجودٌ، وهو» أَقْرَاء «، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمع الكثرةِ مع وجودِ جمعِ القلَّةِ؟ .

فيه أربعةُ أوجهٍ:

أوّلها: أنه لّمَّا جمع المطلَّقات جمع القُرُوء، لأنَّ كلَّ مطلقةٍ تترَّبصُ ثلاثة أقراءٍ؛ فصارَتْ كثيرةً بهذا الاعتبار.

والثاني: أنه من باب الاتساعِ، ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر.

والثالث: أنَّ «قروءاً» جمعُ «قَرْءٍ» بفتح القافِ، فلو جاء على «أَقْرَاء» لجاء على غير القياس؛ لأنَّ أفعالاً لا يطَّردُ في فَعْلٍ بفتح الفَاء.

والرابع - وهو مذهب المُبَرِّد -: أنَّ التقدير «ثَلاثَةً مِنْ قُرُوءٍ» ، فحذف «مِنْ» ، وأجاز: ثَلاثَة حَمِيرٍ وثَلاثَةَ كِلَابٍ، أي: مِنْ حِمِيرٍ، ومِنْ كِلَابٍ، وقال أبو البقاء: وقيل: التقديرُ «ثَلاثَةَ أقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ» وهذا هو مذهبُ المبرِّد بعينِه، وإنما فسَّر معناه وأَوضحه.

فصل

اعلم أن المُطلَّقة هي المرأةُ الَّتي وقع عليها الطَّلاق، وهي إمَّا أن تكون أجنبيةً أو منكوحةً.

فإن كان أجنبيةً، فإذا وقع الطّلاق عليها فهي مطلَّقةٌ بحسب اللُّغة، لكنَّها غير مطلَّقةٍ بحسب عُرْف الشَّرع، والعِدَّةُ غير واجبةٍ عليها بالإجماع.

وأما المَنْكُوحة: فإن لم يكن مدخولاً بها، لم تجب عليها العِدَّة؛ لقوله تعالى:{إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، وإن كانت مدخولاً بها: فإن كانت حاملاً، فعدَّتها بوضع الحمل؛ لقوله تعالى:{وَأُوْلَاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وإن كانت حائلاً؛ فإن امتنع الحيض في حقِّها لصغر مفرط أو كبر مُفرطٍ، فعِدَّتها بالأشهرِ؛ لقوله تعالى:{واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] .

وإن لم يمتنع الحيض في حقِّها؛ فإذا كانت رقيقة، فَعِدَّتها قَرْءان، وإن كان حُرَّة، فعدَّتها ثلاثة قُرُوءٍ.

ص: 109

فظهر من هذا أن العامَّ إِنَّما يحسن تخصيصه، إذا كان الباقي بعد التَّخصيص أكثر؛ لأن العادة جاريةٌ بإطلاق لفظ الكُلِّ على الغالب؛ لأنَّه يُقَالُ في الثَّوبِ: إنه أَسود إذا كان الغَالِبُ فيه السَّوَاد وإن حصل فيه بياضٌ قليل، فأمَّا إذا كان الغالبُ عليه البياض وكان السَّوادُ قليلاً، كان إطلاق لفظ السَّواد عليه كذباً؛ فثبت شرط تخصيص العامِّ؛ أن يكون الباقي بعد التَّخصيص أكثر، وهذه الآية ليست كذلك، فإنه خرج

ص: 110

من عمومها خمسة أقسامٍ، فأطلق لفظ «المُطَلَّقَات» على قسم واحدٍ.

والجواب: أما الأجنبيَّة فخارجةٌ عن اللَّفظ، فإنَّ الأَجنبيَّة لا يقال فيها: إنَّها مطلَّقة، وأما غيرُ المدخولِ بها فالقرينة تخرجها؛ لأن أصل العِدَّة شُرِعت لبراءة الرَّحم، والحاجةُ إلى البراءة لا تحصلُ إلَاّ عند سبق الشُّغل، وأمَّا الحامل والآيسةِ فهما خارجتان عن اللَّفظ؛ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء، يكون لم يجبُ الأقراء في حَقِّه.

وأمَّا الرقيق فتزويجهن كالنَّادِر، فثبت أن الأَعمَّ الأَغلب باقٍ تحت العُمُومِ.

فإن قيل: «يَتَرَبَّصْنَ» خبر والمراد منه الأمر، فما الفائدةُ في التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر؟

ص: 111

فالجواب من وجهين:

الأول: أنه - تعالى - لو ذكره بلفظ الأَمر، لكان ذلك يُوهم أَنَّه لا يحصل المقصود، إلَاّ إذا شرعت فيها بالقَصْد والاختيار، وعلى هذا التَّقدير: فلو مات الزَّوج، ولم تَعْلَم المرأَةُ حتى انقضت العِدَّةُ، وجب ألَاّ يكون ذلك كافياً في المقصود؛ لأنَّها إذا أُمِرَت بذلك لَمْ تخرج عن العُهْدَة إلا إذا قصدت أداء التَّكليف، فلما ذكره بلفظ الخبر، زال ذلك الوهم، وعُرِف أَنَّه متى انقضت هذه القُرُوءُ، حصل المقصُود سَوَاء علمت بذلك أو لَمْ تعلم، وسواءٌ شرعت في العِدَّة بالرِّضا أو بالغضب.

الثاني: قال الزَّمخشري: التَّعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر، والإشعار بأنَّه ممَّا يجب أن يتعلٌَّ بالمُسارعة إلى امتثاله، فكأنَّهُنَّ امتثلن الأمر بالتَّربُّص، فهو يُخْبِرُ عنه موجوداً؛ ونظيره قولهم في الدُّعاء رحمك اللهُ؛ أُخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة، كأنَّها وجدت الرَّحمة فهو يُخْبر عنها.

فإن قيل: لو قال: «يَتَرَبَّصُ المُطلَّقات» لكان ذلك جملة من فعلٍ وفاعلٍ، فما الحكمة من ترك ذلك، وعدولِهِ عن الجملة الفعليَّة إلى الجملة الاسميَّة، وجعل المُطلَّقات مبتدأ، ثم قوله:«يتربّصن» إسنادٌ للفِعل إلى ضمير المُطَلَّقات، ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المُبتدأ.

قال الشَّيخ عبد القاهر الجرجانيُّ في كتاب «دَلَائِل الإِعْجَازِ» : إنَّك إذا قَدَّمت الاسم، فقلت: زيدٌ فعل، فهذا يفيد من التَّأكيد والقُوَّة ما لا يُفيد قولك:«فَعَلَ زَيْدٌ» ؛ وذلك لأنَّ قولك: «زَيْدٌ فَعَل» قد يُستعمل في أمرين:

أحدهما: أن يكون لتخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل؛ كقولك: أنا أكتب في المُهِمِّ الفُلانيّ إلى السُّلطان، والمراد دعوى الإنسان الانفراد.

والثاني: ألَاّ يكون المقصود الحصر، بل إنَّ تقديم ذكر المُحَدّث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل له؛ كقولهم:«هُوَ يُعْطِي الجَزِيلَ» ولا يريد الحصر، بل أن يُحَقِّق عند السَّامع أَنَّ إِعطَاء الجزيل دأبه؛ وذلك مثل قوله تعالى:{والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] ، وليس المراد تخصيص المخلوقيَّة بهم، وقوله تعالى:{وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} [المائدة: 61] ؛ وقول الشَّاعر: [الطويل]

1104 -

هُمَا يَلْبِسَانِ المَجْدَ أَحْسَنَ لِبْسَةٍ

شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كَلَاهُمَا

والسَّببُ في حُصُولِ هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ: أنَّكَ إذا قلت: «عَبْدُ اللهِ» فقد أشعرت بأَنَّك تريد الإِخبار عنه، فيحصل في النَّفسِ شوق إلى معرفةِ ذلك، فإذا

ص: 112

ذكرت ذلك الخبر، قبله العقل بتشوُّق، فيكون ذلك أبلغ في التَّحقيق، ونفي الشُّبهة.

فإن قيل: هلا قيل: يَتَرَبَّصْن ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وما الفائدة في ذكر الأنفُسِ؟

فالجواب: إن في ذكر الأنفس بعث على التَّربُّص وتهييجُ عليه؛ لأن فيه ما يستنكفن منه، فيحملهنَّ على أن يتربَّصن، وذلك لأنذَ أنفس النِّساء طوامحٌ إلى الرِّجال، فأراد أن يقعن على أنفسهن، ويغلبنها على الطُّموح، ويحرِّضنها على التَّربُّص.

فإن قيل: لم لم يقل: ثلاث قروء؛ كما يقال: ثَلَاث حِيَضٍ؟

والجواب: أنه أتبع تذكير اللَّفظ، ولفظ «قَرْء» مذكَّر.

والقرء في اللغة: أصله الوقت المعتاد تردده، ومنه: قرء النَّجم لوقت طلوعه وأفوله، يقال:«أَقْرَأَ النَّجْمُ» ، أي: طلع أو أفل، ومنه قيل لوقت هبوب الرِّ] ح: قرؤها وقارئها؛ قال الشاعر: [الوافر]

1105 -

شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ

إِذَا هَبَّتْ لِقَارِيهَا الرِّيَاحُ

أي: لوقتها، وقيل: أصله الخروج من طهر إلى حيضٍ، أو عكسه، وقيل: هو من قولهم: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ؛ أي: جمعته، ومنه: قرأ القرآن. وقولهم: ما قرأت هذه الناقة في بطنها سَلاً قطٌّ، أي لم تجمع فيه جنيناً؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم:[الوافر]

1106 -

ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بَكْرٍ

هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جِنِينَا

فعلى هذا: إذا أريد به الحيض، فلاجتماع الدَّم في الرَّحم، وإن أريد به الطهر، فلاجتماع الدَّم في البدن، وهذا قول الأصمعي، والفرَّاء، والكسائيّ.

قال شهاب الدِّين: وهو غلطٌ؛ لأنَّ هذا من ذوات الياء، والقرء مهموزٌ.

وإذا تقرَّر ذلك فاختلف العلماء في إطلاقه على الحيض والطهر: هل هو من باب الاشتراك اللفظيِّ، ويكون ذلك من الأضداد أو من الاشتراك المعنويِّ، فيكون من المتواطئ؛ كما إذا أخذنا القدر المشترك: إمَّا الاجتماع، وإمَّا الوقت، وإمَّا الخروج، ونحو ذلك. وقرء المرأة لوقت حيضها وطهرها، ويقال فيهما: أَقْرَأَتِ المَرْأَةُ، أي: حاضت أو طهرت، وقال الأخفش: أَقْرَأَتْ أي: صارت ذات حيضٍ، وقرأت بغير ألفٍ أي: حاضت، وقيل: القرء، الحيض، مع الطهر، وقيل: ما بين الحيضتين. والقائل

ص: 113

بالاشتراك اللفظيِّ وجعلهما من الأضداد هم جمهور أهل اللِّسان؛ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة.

ومن مجيء القرء والمراد به الطهر قول الأعشى: [الطويل]

1170 -

أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمٌ غَزْوَةٍ تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَظِيمَ عَزَائِكَا مُوَرِّثَةً عِزًّا وَفِي الحَيِّ رِفْعَةً لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا

أراد: أنَّه كان يخرج من الغزو ولم يغش نساءه، فيضيع أقراءهنّ، وإنما كان يضيع بالسَّفر زمانَ الطُّهر لا زمان الحيض. ومن مجيئه للحيض قوله:[الرجز]

1108 -

يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ

أي: طعنته فسال دمه كدم الحائض، ويقال «قُرْء» بالضمِّ نقله الأصمعيُّ، و «قَرْء» بالفتح نقله أبو زيدٍ، وهما بمعنى واحد. وقرأ الحسن:«ثَلَاثَةَ قَرْوٍ» بفتح القاف وسكون الراء وتخفيف الواو من غير همزٍ؛ ووجهها: أنه أضاف العدد لاسم الجنس، والقرو لغةٌ في القرء، وقرأ الزُّهريُّ - ويروى عن نافع -:«قُرُوِّ» بتشديد الواو، وهي كقراءة الجمهور، إلا أنه خفَّف، فأبدل الهمزة واواً، وأدغم فيها الواو قبلها. فصل مذهب الشَّافعيِّ رضي الله عنه: أنها الأظهار؛ وهو مرويٌّ عن ابن عمرو، وزيد، وعائشة، والفقهاء السَّبعة، ومالك وربيعة، وأحمد في رواية.

وقال عليٌّ، وعمر، وابن مسعود: هي الحيض؛ وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإسحاق، وأحمد في رواية رضي الله عنهم. وفائدة الخلاف: أن مدَّة العدَّة عند الشَّافعيّ أقصر، وعندهم أطول حتَّى لو طلَّقها في حال الطُّهر، يحسب بقيَّة الطُّهر قرءاً، وإن حاضت عقيبه في الحال، فإذا شرعت في الحيضة الثَّالثة، انقضت عدَّتها، وإن طلَّقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرَّابعة، انقضت عدَّتها.

ص: 114

وعند أبي حنيفة: ما لم تطهر من الحيضة الثَّالثة، إن كان الطَّلاق في حال الطُّهر ومن الحيضة الرَّابعة إن كان الطلاق في حال الحيض، لا يحكم بانقضاء عدَّتها، ثم قال: إذا طهرت لأكثر الحيض، تنقضي عدَّتها قبل الغسل، وإن طهرت لأقلِّ الحيض، لم تنقض عدَّتها. وحجَّة الشَّافعي من وجوه: أولها: قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في وقت عدَّتهن؛ كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47]، أي: في يوم القيامة، والطَّلاق في زمن الحيض منهيٌّ عنه؛ فوجب أن يكون زمان العدَّة غير زمان الحيض.

أجاب صاحب «الكَشَّاف» بأن معنى الآية: مستقبلات لعدَّتهن كما يقال: لثلاث بقين من الشَّهر، يريد: مستقبلاً لثلاث.

قال ابن الخطيب: وهذا يقوِّي استدلال الشَّافعي رضي الله عنه لأن قوله: «لِثَلَاثٍ بَقِين من الشَّهْرِ» معناه: لزمانٍ يقع الشُّروع في الثَّلاثِ عقيبه، وإذا كان الإذن حاصلاً بالتَّطليق في جَميع زَمَانِ الطُّهر، وجَبَ أن يكُون الطُّهْرُ الحاصِل عَقِيب زمان التَّطليق من العدَّة، وهو المطلوب.

وثانيها: روي عن عائشة رضي الله عنها؛ أنها قالت: «هل تَدْرُونَ ما الأَقْرَاءُ؟ الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ» .

قال الشَّافعي: والنساء بهذا أعلم؛ لأن هذا إنما يبتلى به النِّساء.

وثالثها: وهو ما تقدَّم من أن «القرْءَ» عبارةٌ عن الجمع، واجتماع الدَّم إنَّما هو زمان الطُّهر؛ لأن الدَّم يجتمع في ذلك الزَّمان في البدن.

فإن قيل: بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم؛ لأنَّ الدَّم يجتمع في هذا الزَّمان في الرَّحم.

قلنا: لا يجتمع أَلْبَتَّةَ في زمان الحيض في الرَّحم، بل ينفصل قطرةً قطرةً، وأمَّا وقت الطُّهر، فالكلُّ مجتمعٌ في البدن لم ينفصل منه شيءٌ، وكان معنى الاجتماع وقت الطُّهر أتم؛ لأن الدَّم من أوَّل الطُّهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، فكان آخر الطُّهر هو القرء في الحقيقة.

ص: 115

ورابعها: أن الأصل ألاّ يكون لأحدٍ على أحدٍ من المكلَّفين حقّ الحبس والمنع من التّصرُّفات، وإنما تركنا العمل بهذا عند قيام الدَّليل عليه، وهو أقلُّ ما يسمَّى بالأقراء الثَّلاثة وهي الأطهار؛ لأن الاعتداد بالأطهار أقلّ زماناً من الاعتداد بالحيض، وإذا كان كذلك، أثبتنا الأقلّ ضرورة العمل بهذه الآية، واطرحنا الأكثر؛ للدَّلائل الدَّالَّة على أنَّ الأصل ألَاّ يكون لأحدٍ على غيره حقّ الحبس والمنع.

حجة أبي حنيفة وجوه:

أحدها: أنَّ الأقراء في اللُّغة، وإن كانت مشتركةً بين الأطهار والحيض؛ إلا أن الشَّرع غلَّب استعمالها في الحيض؛ لما روي أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم َ قال:«دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» والمراد أيَّام الحَيْضِ.

وثانيها: ما تقدَّم من وروده بمعنى الحيض.

وثالثها: أنا إذا قلنا: بأن الأقراء هي الحيض، أمكن معه استيفاء ثلاثة أقراءٍ بكمالها؛ لأنّا نقول إنّ المطلَّقة يلزمها تربُّص ثلاث حيضٍ، وإنَّما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثَّالثة، ومن قال: إنَّه الطُّهر يجعلها خارجة من العهدة بقَرْءين وبعض الثَّالث؛ لأن عنده إذا طلَّقها في آخر الطُّهر تعتدُّ بذلك قرءاً، فإذا كان في أحد القولين تكمل حقيقة اللَّفظ بالثَّلاثة.

أجاب الشَّافعي بأنق ال: قال الله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] والأشهر جمع، وأقلُّه ثلاثة، وقد حملناه على شهرين وبعض الثَّالث، وذلك شوَّال، وذو القعدة، وبعض ذي الحجَّة، هكذا ههنا يجوز أن نحمل هذه الثَّلاثة على طهرين وبعض الثَّالث.

أجاب الجبَّائي عن هذا بوجهين.

الأول: أنَّا تركنا الظَّاهر في هذه الآية بدليل، ولا يلزمنا أن نترك الظَّاهر هنا من غير دليلٍ.

والثاني: أن في العدَّة تربُّصاً متَّصلاً، فلا بدَّ من استعمال الثَّلاثة، ولا كذلك أشهر الحجِّ؛ لأنه ليس فيها فعل متصلٌ، فكأنَّه قيل: هذه الأشهر وقت الحجِّ لا على سبيل الاستغراق، ثم إن الثَّلاثة نصٌّ في إفرادها لا تحتمل التَّنقيص، ولا كذلك قوله:«أَشْهُر» ؛ لأنَّه ليس بنصٍّ في الثلاثة؛ لأن العلماء اختلفوا في أقلِّ الجمع، ولا

ص: 116

يقاس ما فيه نصٌّ على ما لا نصَّ فيه بل العكس.

وأجيب الجبَّائي بوجهين:

ص: 117

الأول: كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب الزّيادة؛ لأنه إذا طلَّقها في أثناء الطُّهر، لم يحسب ما بقي من ذلك الطُّهر في العدَّة فتحصل الزِّيادة.

واعتذروا عنه: بأن الزِّيادة لا بدَّ من تحمُّلها لأجل الضَّرورة، لأنه لو جاز الطَّلاق في الحيض، لأمرناه بالطَّلاق في آخر الحيض حتى يُعْتَدَّ بأطهارٍ كاملةٍ، وإذا اختص الطَّلاق بالطُّهر، صارت تلك الزِّيادة محتملة للضَّرورة.

ونحن نقول: لمَّا صارت الأقراء مفسَّرة بالأطهار، والله تعالى أمرنا بالطَّلاق في الطُّهر صار تقدير الآية: يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة أطهارٍ؛ طهر الطَّلاق وطهران آخران، ثم لزم من كون الطُّهر الأوَّل طهر الطَّلاق، أن يكون ذلك الطَّهر ناقصاً، ليعتدّ بوقوع الطَّلاق فيه.

الوجه الثاني في الجواب: أنّا بيَّنَّا أن القَرْء اسمٌ للاجتماع وكمال الاجتماع إنَّما يحصل في آخر الطُّهر، فكان في الحقيقة الجزء الأخير من الطُّهر قرءاً تاماً، وعلى هذا التَّقدير؛ لم يلزم دخول النُّقصان في شيءٍ من الأقراء.

ورابعها: أنه - تعالى - نقل إلى الشُّهور عند عدم الحيض؛ قال: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار.

وأيضاً: لما شرعت الأشهر بدلاً عن الأقراء، والبدل يعتبر بتمامها؛ لأن الأشهر لا بدَّ من إتمامها، فوجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل، فوجب أن تكون الأقراء كاملة وهي الحيض، وأما الأطهار فيجب فيها قرءان وبعض قرءٍ.

وخامسها: قوله عليه الصلاة والسلام: «طَلَاق الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وأجمعوا على أنَّ عدَّة الأمة نصف عدَّة الحرَّة، فوجب أن تكون عدَّة الحرَّة هي الحيض.

وسادسها: أجمعنا على وجوب الاستبراء في الجواري بالحيض، فكذا العدَّة؛ لأن المقصود من الاستبراء والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض لا بالطُّهر؛ فوجب أن يكون هو المعتبر.

وسابعها: إن القول بأن القرء هو الحيض احتياطٌ، وتغليبٌ لجانب الحرمة؛ لأن المطلَّقة إذا مرَّ عليها بقية الطَّهر، وطعنت في الحيضة الثَّالثة، فإن جعلنا القرء هو

ص: 118

الحيض، فحينئذ يحرم للغير التَّزويج بها، وإن جعلنا القرء هو الطُّهر، فحينئذٍ يجوز تزويجها، وجانب التَّحريم أولى بالرِّعاية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«ما اجْتَمَعَ الحَلَالُ والحَرَامُ إلَاّ غَلَبَ الحَرَامُ الحلالَ» ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة، وهذا أقرب إلى الاحتياط، فكان أولى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«دَعْ مَا يرِيبُك إلَى مَا لَا يرِيبُكَ» .

قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ} الجارُّ متعلَّقٌ ب «يَحِلُّ» واللام للتبليغ، كهي في «قُلْتث لَكَ» .

قوله: {مَا خَلَقَ الله} في «مَا» وجهان:

أظهرهما: أنَّها موصولة بمعنى «الَّذِي» .

والثاني: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، وعلى كلا التقديرين، فالعائد محذوفٌ لاستكمال الشروط، والتقدير: ما خلقه، و «مَا» يجوز أن يراد بها الجنين، وهو في حكم غير العاقل، فلذلك أوقعت عليه «مَا» وأن يراد بها دم الحيض.

قوله: {في أَرْحَامِهِنَّ} فيه وجهان:

أحدهما: أن يتعلَّق ب «خَلَقَ» .

والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من عائد «مَا» المحذوف، التقدير: ما خلقه الله كائناً في أرحامهنَّ، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرةٌ؛ قال أبو البقاء: «لأَنَّ وقتَ خَلْقِه لَيْسَ بشيءٍ، حتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ» ، وقرأ مُبَشِّر بن عبيدٍ:«في أَرْحَامِهُنَّ» و «بِرَدِّهُنَّ» بضمِّ هاء الكناية، وقد تقدَّم أنه الأصل، وأنه لغة الحجاز، وأنَّ الكسر لأجل تجانس الياء والكسرة.

قوله: {إِن كُنَّ} هذا شرطٌ، وفي جوابه المذهبان المشهوران: إمَّا محذوفٌ، وتقديره من لفظ ما تقدَّم؛ لتقوى الدلالة عليه، أي: إنْ كُنَّ يؤمنَّ بالله واليَوم الآخر، فلا

ص: 119

يحلُّ أن يكتمن، وإمَّا أنه متقدِّمٌ؛ كما هو مذهب الكوفيين وأبي زيدٍ، وقيل:«إنْ» بمعنى «إِذْ» ، وهو ضعيفٌ.

فصل في بيان تصديق قول المرأة في انقضاء عدتها

اعلم أن انقضاء العدَّة لما كان مبنياً على انقضاء الأقراء في حقِّ ذوات الأقراء، وكان علم ذلك متعذِّرٌ على الرِّجال، جعلت المرأة أمينة على العدَّة، وجعل القول قولها إذا ادَّعت انقضاء أقرائها في مدَّة يمكن ذلك فيها، وهو على مذهب الشَّافعيّ اثنان وثلاثون يوماً وساعة؛ لأن أمرها يحمل على أنَّها طلِّقت طاهرة، فحاضت بعد ساعةٍ يوماً وليلة، وهو أقلُّ الحيض، ثم طهرت خَمْسَةنَ عَشَر يوماً، وهو أقَلُّ الطُّهْر، ثم حاضَت يوماً وليلةً، ثم طَهُرَت خَمْسَة عَشَر يَوْماً، ثم رَأَتِ الدَّمَ، فقد انْقَضَت عِدَّتُها؛ لحصول ثلاثة أطهارٍ فمتى ادَّعت هذا أو أكثر منه، قبل قولها، وكذلك إن كانت حاملاً فادَّعت أنها أسقطت فالقول قولها؛ لأنها أمينة عليه.

فصل في المراد بالكتمان

قال القرطبي: ومعنى النَّهي عن الكتمان: النَّهي عن الإضرار بالزَّوجِ وإذهاب حقِّه، فإذا قالت المطلَّقة: حضتُ وهي لم تحِض، ذهبت بحقِّه في الارتجاع، وإذا قالت: لم أَحِضْ وهي قد حَاضَتْ، ألْزَمَتْهُ من النَّفَقَةِ ما لم يَلْزَمه، فأضرَّت به، أو تقصد بكذبها في نفس الحيض ألَاّ ترجع حتى تنقضي العدَّة ويقطع الشَّرع حقَّه، وكذلك الحاملُ تكتم الحمل؛ لتقطع حقَّه في الارتجاع.

قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهليَّة أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزَّوج الجديد؛ ففي ذلك نزلت الآية.

فصل

اختلف المفسِّرون في قوله: {مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} :

فقيل: هو الحَبَلُ والحَيْضُ معاً، وذلك لأنَّ المَرْأة لَهَا أغْرَاض كَثِيرة في كتمانها؛ أمّا الحبل؛ فإنه يكون غرضها فيه أنَّ انقضاء عدَّتها بالقروء؛ لأنه يكون أقلَّ زماناً من انقضاء عدَّتها يوضع الحمل، فإذا كتمت الحمل، قصرت مدّة عدَّتها فتتزوَّج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزَّوج، وربما أحبَّت التَّزويج بزوج آخر، أو أحبَّت أن تلحق ولدها بالزَّوج الثَّاني، فلهذه الأغراض تكتم الحمل، وأما كتمان الحيض، فقد يكون غرضها إذا كانت

ص: 120

من ذوات الأقراء أن تطول عدَّتها لكي يراجعها الزَّوج، وقد تحبُّ تقصير عدَّتها لتبطل رجعته ولا يتمُّ لها ذلك إلَاّ بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات، فوجب حمل النَّهي على مجموع الأمرين.

وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة: هو الحيض فقط؛ لقوله تعالى: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} [آل عمران: 6] ، ولأن الحيض خارجٌ عن الرَّحم لا مخلوقٌ فيه، وحمل قوله - تعالى -:{مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} على الولد الذي هو شريف، أولى من حمله على شيءٍ قَذِرٍ خسيسٍ.

وأجيب بأن المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال الَّتي لا اطِّلاع لغيرها عليها، وبسببها يختلف الحلُّ والحرمة في النِّكاح، فوجب حمل اللَّفظ على الكلِّ، وقيل: هو الحيض؛ لأن هذا الكلام إنَّما ورد عقيب ذكر «الأَقْرَاءِ» ، ولم يتقدَّم ذكر الحمل.

وأجيب: بأنَّ هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مستَقِلٌّ بِنَفْسِه، من غير أن يُرَدَّ إلى ما تقدَّم، فوجب حمله على كلِّ ما يخلق في الرَّحم.

وقوله: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} ليس المراد: أن ذلك النَّهي مشروطاً بكونها مؤمنة، بل هذا كقول المظلوم للظَّالم:«إن كُنْتَ مُؤْمِناً فَيَنْبَغِي أن يَمْنَعَكَ إيمَانُك عن ظُلْمِي» ، وهذا تهديدٌ شديد في حقِّ النّساء؛ فهو كقوله في الشَّهادة:{وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، وقوله:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} [البقرة: 283] .

قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ} الجمهور على رفع تاء «بُعُولَتُهُنَّ» وسكَّنها مسلمة بن محاربٍ، وذلك لتوالي الحركات، فخُفِّف، ونظيره قراءة:{وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] بسكون اللام حكاها أبو زيد، وحكى أبو عمرو: أنَّ لغة تميم تسكين المرفوع من «يُعَلِّمُهُمُ» ونحوه، وقيل: أجرى ذلك مجرى «عَضُدٍ، وعَجُزٍ» ؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وقد تقدَّم ذلك.

و {أَحَقُّ} خبرٌ عن «بُعُولَتُهُنَّ» وهو بمعنى حقيقون؛ إذ لا معنى للتفضيل هنا؛ فإنَّ غير الأزواج لا حقَّ لهم فيهنَّ البتَّة، ولا حقَّ أيضاً للنِّساء في ذلك، حتى لو أبت هي الرَّجعة، لم يعتدَّ بذلك.

وقال بعضهم: هي على بابها؛ لأنه تعالى قال: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ

ص: 121

الله في أَرْحَامِهِنَّ} فكان تقدير الآية: فإنَّهن إن كتمن لأجل أن يتزوَّج بهنَّ زوجٌ آخر، فإنَّ الزَّوج الأوَّل أحقُّ بردِّها؛ لأنه ثبت للزَّوج الثَّاني حقٌّ في الظَّاهر؛ لادِّعائها انقضاء عدَّتها.

وأيضاً: فإنَّها إذا كانت معتدَّة، فلها في انقضاء العدَّة حقُّ انقطاع النِّكاح، فلما كان لهنَّ هذا الحقُّ الذي يتضمَّن إبطال حقِّ الزَّوج، جاز أن يقول:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرَّجعة ما هنَّ عليه من العدَّة.

و «البُعُولة» فيها قولان:

أحدهما: إنه جمع «بَعْل» كالفحولة والذُّكورة والجدودة والعمومة، والهاء زائدة مؤكِّدة لتأنيث الجماعة ولا ينقاس، بل إنَّما يجوز إدخالها في جمع رواة أهل اللُّغة عن العرب، فلا يقال في كعب: كُعُوبة، ولا في كَلْب: كلابة.

والبعل زوجُ المَرْأةِ؛ قالوا: وسُمِّي بذلك على المستعلي، فلما علا من الأرض فَشَرِبَ بعروقه. ويقال: بَعَلَ الرَّجُلُ يبعلُ؛ كمنع يمنعُ. ويشترك فيه الزَّوجان؛ فيقال للمرأة: بعلة؛ كما يقال لها: زَوْجَةٌ في كَثِير من اللُّغَاتِ، وزَوْجٌ في أَفْصَح الكَلَام، فهما بَعْلَان كما أنَّهما زوجان، وأصل البعل: السَّيِّد المالِك فيما نقل، يقال: من بعلُ هذه النَّاقة؟ كما يقال من ربِّها؟ وبعل: اسم صنم، كانوا يتَّخونه ربّاً؛ قال - تعالى -:{أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} [الصافات: 125] ، وقد كان النِّساء يدعون أزواجهن بالسودد.

الثاني: أنّ البعولة مصدر، يقال: بعل الرَّجُل يَبْعَل بُعُولَةً وبِعَالاً، إذا صَارَ بَعْلاً، وبَاعَل الرَّجُل امْرَأَتَهُ: إذا جَامَعَهَا؛ ومنه الحديث: أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال في أيَّام التَّشريق: «إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» ، وامرأة حَسَنَةُ التَّبَعّل إذا كَانَت تُحْسِن عِشْرَةَ زَوْجِها، ومنه الحديث:«إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تبعُّلَ أزواجكن» .

قوله: {بِرَدِّهِنَّ} متعلِّقٌ ب «أَحَقّ» . وقوله «فِي ذَلِكَ» فيه وجهان:

أحدهما: أنه متعلّقٌ أيضاً ب «أَحَقّ» ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا وقت العدَّة، أي تستحقّ رجعتها ما دامت في العدَّة، وليس المعنى: أنه أحقُ أن يردَّها في العدَّة، وإنما يردُّها في النكاح، أو إلى النكاح.

والثاني: أن يتعلَّق بالردِّ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا النِّكاح، قاله أبو البقاء.

والضمير في «بُعُولَتِهِنَّ» عائدٌ على بعض المطلَّقات، وهنَّ الرَّجعيَّات خاصَّةً، وقال أبو حيَّان:«والاولَى عندي: أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكم، أي: وبُعُولَةُ رَجْعِيَّاتِهِنَّ» .

ص: 122

ومعنى الردّ هنا: الرُّجوع؛ قال - تعالى -: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي} [الكهف: 36]، وقال في موضع آخر:{وَلَئِن رُّجِّعْتُ} [فصلت: 50] .

فإن قيل: ما معنى الرَّدّ في الرَّجعيَّة وهي زوجة، ما دامت في العِدَّة؟

فالجواب: أنّ الردّ والرَّجعة يتضمَّن إبطال التَّربُّص والتَّحرِّي في العدَّة، فإنَّها ما دامت في العدَّة، كأنَّها جارية إلى إبْطال حقِّ الزَّوج، وبالرَّجعة بطل ذلك فسمِّيت الرَّجعة ردّاً، لا سيَّما ومذهب الشَّافعيِّ أنه يحرم الاستمتاع بها إلاّ بعد الرَّجعة، فالردُّ على مذهبه فيه معنيان:

أحدهما: ردّها من التَّربُّص إلى خلافه.

والثاني: ردُّها من الحرمة إلى الحلِّ.

قوله: {إِنْ أرادوا إِصْلَاحاً} فالمعنى: أن الأزواج أحقُّ بالمراجعة، إن أرادوا الإصلاح ولم يريدا المضارَّة؛ ونظيره قوله - تعالى -:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] .

والسَّبب في ذلك: أنَّ الرَّجل كان في الجاهليَّة يطلِّق امرأته، فإذا قرب انقضاء عدَّتها، راجعها ثم تركها مدَّة ثمَّ طلَّقها، فإذا قرب انقضاء عدَّتها، راجعها ثمَّ طلَّقها ثم بَعْدَ مدَّة طلقها يقصد بذلك تطويل عدَّتها، فنهوا عن ذلك، وجعل إرادة الإصلاح شرطاً في المراجعة.

فإن قيل: الشَّرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح ألاّ تصحّ الرَّجعة؟

فالجواب: أنّ الإرادة صفةٌ باطنةٌ لا اطِّلاع لنا عليها، والشَّرع لم يوقف صحَّة المراجعة عليها؛ بل جوازها فيما بينه وبين الله - تعالى - موقوف على هذه الإرادة، فإن راجعها لقصد المضارَّة، استحقَّ الإثم.

فصل

نقل القرطبي عن مالك، قال: إذا وطئ المعتدَّة الرَّجعيَّة في عدَّتها، وهو يريد الرَّجعة وجهل أن يُشهد، فهي رجعةٌ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:

«إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى» فإن وطئَ

ص: 123

في العدَّة، لا ينوي به الرَّجعة؛ فقال مالكٌ: يراحع في العدَّة، ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد.

قال سعيد بن المسيَّب، والحسن البصري، وابن سيرين، والزُّهري، وعطاء، والثَّوري: إذا جامعها فقد راجعها.

فصل

من قبّل أو باشر ولم ينو بذلك الرَّجعة، كان آثماً وليس بمراجعٍ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن وطئها، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ، فهي رجعة، وينبغي أن يُشهد وهو قول الثَّوريّ.

فصل

قال أحمد: ولها التَّزيُّن لزوجها، والتَّشرُّف، وله الخلوة والسَّفر بها.

وقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلَاّ بالإذن، ولا ينظر إليها إلَاّ وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها.

وقال ابن القاسم: رجع مالك عن ذلك.

قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ} خبرٌ مقدَّمٌ، فهو متعلِّق بمحذوف، وعلى مذهب الأخفشِ من باب الفعل والفاعل، وهذا من بديع الكلام، وذلك أنه قد حذف من أوَّله شيءٌ ثم أثبت في آخره نظيره، وحذف من آخره شيءٌ أثبت نظيره في الأول، وأصل التركيب:«وَلَهُنَّ على أزواجِهِنَّ مِثْلَ الذي لأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ» ، فحذف «عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ» لإثباتِ نظيره، وهو «عَلَيْهِنَّ» ، وحذفت «لأَزْوَاجِهِنَّ» لإثبات نظيره، وهو «لَهُنَّ» .

قوله: {بالمعروف} فيه وجهان:

أحدهما: أن يتعلَّق بما تعلَّق به «لَهُنَّ» من الاستقرار، أي: استقرَّ لهُنَّ بالمعروف.

والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «مِثْل» ؛ لأنَّ «مِثْل» لا يتعرَّفُ بالإضافة؛ فعلى الأوَّل: هو في محلِّ نصبٍ؛ وعلى الثاني: هو في محلِّ رفعٍ.

قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فيه وجهان:

أظهرهما: أنَّ «لِلرِّجَالِ» خبرٌ مقدَّمٌ، و «دَرَجَةٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، و «عَلَيهِنَّ» فيه وجهان على هذا التقدير: مَّا التعلُّقُ بما تعلَّق به «لِلرِّجَالِ» ، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «دَرَجَةٌ» مقدَّماً عليها؛ لأنه كان صفةً في الأصل، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً.

والثاني: أن يكون «عَلَيْهِنَّ» هو الخبر، و «للرجال» حال من «دَرَجَةٌ» ؛ لأنه يجوز

ص: 124

أن يكون صفةٌ لها في الأصل، ولكنَّ هذا ضعيفٌ؛ من حيث إنه يلزم تقديم الحال على عاملها المعنويِّ؛ لأ، َّ «عَلَيْهِنَّ» حينئذٍ هو العالم فيها؛ لوقوعه خبراً. على أنَّ بعضهم قال: متى كانت الحال نفسها ظرفاً أو جارّاً ومجروراً، قوي تقديمها على عاملها المعنويِّ، وهذا من ذاك، هذا معنى قول أبي البقاء. وردَّه أبو حيان بأنَّ هذه الحال قد تقدَّمت على جزأي الجملة، فهي نظير:«قَائِماً في الدَّارِ زَيْدٌ» ، قال: وهذا ممنوعٌ، لا ضَعِيفٌ؛ كما زعم بعضهم، وجعل محلَّ الخلاف فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العامل فيها المعنى - على جزأي الجملة، بل تتوسَّط؛ نحو:«زَيْدٌ قَائِماً في الدَّارِ» ، قال:«فأبو الحسن يُجيزُهَا، وغيره يمنعها» .

و «الرَّجُلُ» مأخوذ من الرُّجلة، أي: القوَّة، وهو أرجل الرَّجلين، أي: أقواهما وفرس رَجِيلٌ: قويٌّ على المَشي، والرَّجل معروفٌ لقوَّته على المشي، وارتجل الكلام، أي: قوي عليه من غير حاجةٍ فيه إلى فكرةٍ ورويَّة، وترجَّل النَّهار: قوي ضياؤه.

و «الدَّرَجَة» هي المنزلة، وأصلها: من درجتُ الشَّيء أدْرُجُه دَرْجاً، وأدْرَجْتُه إدْرَاجاً إذا طويته، ودَرَجَ القومُ قَرْناً بعد قرن، أي: فنوا، ومعناه: أنَّهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً، والمدْرَجة: قَارِعَةُ الطَّريق؛ لأنَّها تطوي منزلاً بعد منزل، والدَّرجة: المنزلة من منازل الجنَّة، ومنه الدَّرجة التي يرتقي فيها، والدَّرجُ: ما يرتقي عليها، والدَّرك ما يهوى فيها.

فصل

لما بيَّن أن المقصود من المراجعة إصلاح حالها، لا إيصال الضَّرر إليها، بيَّن أن لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين حقّاً على الآخر.

روي عن ابن عبَّاس، قال: إني لأَتَزَيَّن لامْرَأَتِي كما تَتَزَيَّن لي؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} .

وقال بعضهم: يجب أن يقوم بحقِّها ومصالحها، ويجب عليها الانقياد والطَّاعة له.

وقيل: لهنَّ على الزَّوج إرادةُ الإصلاح عند المراجعة، وعليهنّ ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن، وهذا أوفق لصدر الآية.

وأما درجة الرجل على المرأة فيحتمل وجهين:

الأول: أن الرَّجل أزيدُ في الفضيلة من النِّساء لأمور: في كمال العقل، وفي الدِّية،

ص: 125

وفي الميراث، وفي القيمة، وفي صلاحية الإمامة، والقضاء، والشَّهادة، وللزَّوج أن

ص: 126

يتزوَّج عليها ويتسرَّى، وليس لها ذلك مع الزَّوج، والزوج قادر على طلاقها وعلى رجعتها شاءت أو أبت، وليس لها ذلك.

الوجه الثاني: أن الزَّوج اختصَّ بأنواعٍ من الحقوق وهي التزام المهر والنَّفقة والذَّبُّ عنها، والقيام بمصالحها، ومنعها من مواقع الآفات، فكان قيام المرأة بخمة الرَّجل آكد وجوباً لهذه الحقوق الزَّائدة؛ كما قال - تعالى -:{الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]، قال عليه الصلاة والسلام:«لَوْ أَمَرْتُ أَحْداً بالسُّجُودِ لِغَيْرِ الله، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ بالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا» وإذا كان كذلك، فالمرأة كالأسير العاجز في يد الرَّجُلِ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:«اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُم عَوَانٌ» ، وفي خبرٍ آخر:«اتَّقُوا الله في الضَّعِيفَيْن: اليتيمِ والمَرْأَةِ» .

ثم قال: {والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} أي: غالبٌ لا يمنع، مصيبٌ في أحكامه.

ص: 127

قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} : مبتدأٌ وخبرٌ، و «الطلاق» يجوز أن يكون مصدر «طَلَقَتِ المَرْأَةُ طَلَاقاً» ، وأن يكون اسم مصدر، وهو التطليقُ؛ كالسَّلام بمعنى التَّسليم، ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ؛ ليكون المبتدأُ عين الخبر، والتقدير: عددُ الطَّلاق المشروع فيه الرَّجعة مرَّتان.

والتثنية في «مَرَّتَانِ» حقيقةٌ يراد بها شفعُ الواحد، وقال الزمخشريُّ:«إنها من باب التثنية الَّتي يراد بها التكرير» وجعلَهَا مثْلَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَهَذَا ذَيْكَ. وردَّ عليه أبو حيَّان بأنَّ ذلك مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً، وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر، أمَّا المناقضة، فإنه قال: الطَّلاق مَرَّتَان، أي: الطلاقُ الشرعيُّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الإرسال دفعةً واحدةً، فقوله هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقيّة، وأمَّا المخالفة، فلأنه لا يراد أن الطلاق المشروع بقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر، بل مرتين فقط؛ ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك:{فَإِمْسَاكٌ} ، أي: بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَةِ الثانية، {أَوْ تَسْرِيحٌ} أي: بالطلقة الثالثة؛ ولذلك جاء بعده «فَإِنْ طَلَّقَهَا» . انتهى ما ردَّ به عليه، قال شهاب الدين: والزَّمخشريُّ إنما قال ذلك لأجل معنًى ذكره، فينظر كلامه في «الكَشَّاف» ؛ فإنه صحيحٌ.

والألف واللام في «الطَّلَاق» قيل: هي للعهد المدلول عليه بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وقيل: هي للاستغراق، وهذا على قولنا: إن هذه الجملة متقطعةٌ ممَّا قبلها، ولا تعلُّق لها بها.

قوله: {فَإِمْسَاكٌ} في الفاء وجهان:

أحدهما: أنها للتعقيب، أي: بعد أن عرَّف حكم الطلاق الشرعيِّ؛ أنه مرَّتان، فيترتَّب عليه أحد هذين الشيئين.

والثاني: أن تكون جواب شرطٍ مقدَّرٍ، تقديره: فإن أوقع الطَّلقتين، وردَّ الزَّوجة فإمساكٌ.

وارتفاعُ «إِمْسَاكٌ» على أحد ثلاثة أوجهٍ: إمَّا مبتدأ وخبره محذوفٌ متقدِّماً، تقديره عند بعضهم: فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ، وقَدَّرهُ ابن عطية متأخِّراً، تقديره: فإِمْسَاكٌ أَمْثَلُ أَوْ أَحْسَنُ.

والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فالواجب إمساكٌ.

ص: 128

والثالث: أن يكون فاعل فعلٍ محذوفٍ، أي: فليكن إمساك بمعروفٍ

قوله: «بِمَعْرُوفٍ» و «بِإِحْسَانٍ» في هذه الباء قولان:

أحدهما: أنها متعلِّقة بنفس المصدر الذي يليه، ويكون معناها الإلصاق.

والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفة لما قبلها، فتكون في محلِّ رفعٍ، أي: فإسماك كائنٌ بمعروفٍ، أو تسريح كائنٌ بإحسان.

قالوا: ويجوز في العربيَّة نصب «فَإِمْسَاكٌ» ، و «تَسْرِيحٌ» على المصدر، أي: فأمسكوهنَّ إمساكاً بمعروف، أو سرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان، إلَاّ أنَّه لم يقرأ به أحدٌ.

والتَّسريح: الإرسال والإطلاق، ومنه قيل للماشية: سَرْحٌ، وناقَةٌ سُرُحٌ، أي: سهلة السَّير؛ لاسترسالها فيه.

وتسريح الشَّعر: تخليص بعضه من بعض، والإمساك خلاف الإطلاق، والمساك والمسكة اسمان منه؛ يقال: إِنَّه لذو مُسكةٍ ومساكة إذا كان بخيلاً.

قال الفرَّاء: يقال: إنه ليس بمساك غلمانه، وفيه مساكة من جبر، أي: قُوَّة.

قال القرطبي: وصريح الطَّلاق ثلاثة ألفاظٍ ورد القرآن بها: وهي الطَّلاق والسَّراح والفِراق، وهو قول الشَّافعي.

ص: 129

فصل

روى عُروة بن الزُّبير، قال: كان النَّاسُ في الابتداء يُطلِّقون من غير حصرٍ ولا عددٍ، وكان الرَّجُل يُطلق امرأَته، فإذا قاربت انقضاء عدَّتها، راجعها ثم طلَّقها كذلك، ثم راجعها يقصد مضارَّتها، فنزلت هذه الآية:{الطلاق مَرَّتَانِ} .

ورُوِي: أن الرَّجُل كان في الجاهليَّة يُطَلِّق امرأَتهُ، ثم يُراجعها قبل أن تنقضي عِدَّتها، ولو طَلَّقها ألف مَرَّة، كانت القُدرة على المُراجعة ثابتةٌ، فجاءت امرأةٌ إلى عائشة رضي الله عنها، فشكت أَنَّ زَوْجهها يُطَلِّقُها ويُراجِعها، يُضارّها بذلك، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فنزل قوله تعالى:{الطلاق مَرَّتَانِ} يعني: الطلاق الَّذِي يملك الرَّجعة عقيبهُ مرتان، فإذا طَلَّق ثَلَاثاً، فلا تحلُّ له إلَاّ بعد نكاح زوجٍ آخر.

فصل

اختلف المُفَسِّرون في هذه الآية:

فقال بعضهم: هذا حُكم مُبتدأ، ومعناه: أن التَّطليق الشَّرعيّ يجب ن يكون تطليقةً بعد أُخرى، على التَّفريق دون الجمع والإِرسال دفعةً واحدة، وهذا قول من قال: الجمع بين الثَّلاث حرامٌ.

قال أبو زيد الدَّبوسيّ: هذا قول عمر وعثمان وعبد الله بن عبَّاس، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين، وأبي موسى الأشعري وأَبي الدَّرداء، وحذيفة.

وقال آخرون: ليس بابتداء كلام، وإنَّما هو متعلِّق بما قبله والمعنى: أن الطَّلاقَ الرَّجعيَّ مَرَّتان، ولا رجعة بعد الثَّلاث، وهو وقل من جوَّز الجمع بين الثَّلاث، وهو مذهب الشَّافعي.

حُجَّة القول الأَوَّل: أن الأَلف واللام في «الطَّلَاقِ» إذا لم يكونا للمعهود، أفادا

ص: 130

الاستغراق، فصار تقدير الآية: كُلُّ الطَّلاق مرَّتان ومَرَّة ثالثة، ولو قال هكذا، لأفاد أن الطَّلاق المشروع مُتَفَرِّق؛ لأن المرَّات لا تكُون إلَاّ بعد تفريق الاجتماع.

فإن قيل: هذه الآية وردت لبيان الطَّلاق المَسْنُون.

فالجواب: ليس في الآية بيان صفة السُّنَّة، بل مُفسَّرة لأَصل الطَّلاق، وهذا الكلام - وإن كان لفظه الخبر - إلَاّ أن معناهُ الأمر، أي: طَلِّقُوا مَرَّتَين، يعني: دَفْعتين، وإنما عدل عن لفظ الخبر؛ لما تَقَدَّم من أن التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر يُفيد تأكيد معنى الأَمر، فثبت أن هذه الآية دالَّة على الأَمر بتفريق الطَّلقاتِ، وعلى التَّشديد في ذلك الأَمر والمُبالغة فيه. واختلف القائِلُون بهذا على قولين:

الأول - وهو اختيار كثيرٍ من علماء أهل البيت -: أنَّه لو طَلَّقها اثنتين أو ثلاثاً، لا يقع إلَاّ واحدة.

قال ابن الخطيب: وهذا القولُ هو الأَقيس، لأن النَّهْيَ يدلُّ على اشتمالِ المنهيِّ عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعيٌ في غدخال تلك المفسدة في الوجود، وهو غير جائزٍ، فوجب أن يكون الحُكم بعدم الوقوع.

والثاني: قول أبي حنيفة رضي الله عنه: إن الجمع - وإن كان مُحرَّماً - إلا أَنَّه يقعُ، وهذا منه بناءً على أَنَّ النَّهيَ لا يَدُلُّ على الفَسَادِ.

حجَّة القول الثَّاني: هو أنَّ الآية مُتعلِّقَة بما قبلها؛ لأنه - تعالى - بيَّن في الآية الأُولى أن حقَّ المُراجعة ثابتٌ للزَّوج، ولم يُبيِّن أنَّ ذلك الحَقَّ ثابِتٌ دائماً، أو إلى غاية

ص: 131

مُعيَّنة، فكان كالمجمل المُفتقر إلى المُبيِّن، أو العامِّ المفتقرِ إلى المُخصص، فبيَّن في هذه الآيةِ أن ذلك الطَّلاق الَّذِي ثبت فيه للزَّوج حَقّ الرَّجْعَة، هو أن يُوجد طلقتانِ، فأمّا بعد الطَّلْقَتين، فلا يثبِتُ أَلْبَتَّةَ حق الرَّجعة فالألف واللام في «الطَّلاقِ» المعهُود السَّابق، فهذا تفسيرٌ مطابِقٌ لنظم الآية، فيكُون أولى لوجوهٍ:

الأول: أن قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] إن كان عَامّاً في كُلِّ الأَحوال؛ فهو مُفْتَقِرٌ إلى المُخَصّص، وإن لم يكُن عامّاً فهو مُجملٌ؛ لأنه ليس فيه بيان الشَّرط الَّذِي عنده يثبت حقُّ الرَّجعة، فافتقر إلى البيان، فإذا جعلنا الآية مُتَعَلِّقة بما قبلها، كان المُخَصص حاصلاً مع العامِّ المخصوص، أو كان البيانُ حاصِلاً مع المُجْمَلِ، وذلك أَولى من ألَاّ يكون كذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخِطابِ - وإذا كان جَائِزاً -، إلا أن الأَرجح ألَاّ يَتَأَخَّر.

الثاني: أنَّا إذا جعلنا هذا الكلام مُبتدأ، كان قوله:{الطلاق مَرَّتَانِ} يقتضي ذكر الطَّلقة الثَّانية، وهي قوله:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فصار تقدير الآية: الطَّلاق مَرَّتان ومَرَّة؛ لأنا نقول: إن قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} متعلِّق بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} لا بقوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} ، ولأن لفظ التَّسريح بالإِحسانِ لا إِشعار فيه بالطَّلاق، ولأنَّا لو جعلنا التَّسريح هو الطَّلقة الثَّالثة، لكان قوله:«فَإِنْ طَلَّقَهَا» طلقة رابعة، وهو غير جائِزٍ.

الثالث: ما روينا في سبب النُّزول: من شكوى المرأة إلى عائشة كثرة تطليقها ومراجعتها قصداً للمضارَّة، وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ سبب النُّزول لا يجوز أن يكون خارجاً عن عُمُوم الآيةِ، فكان تنزيل الآيةِ على هذا المعنى، أولى من تنزيلها على حُكْمٍ أَجنبيٍّ عنها.

فصل

اعلم أن معنى الآية: أن الطَّلاق التي يَثْبُت فيه الرَّجعة هو أَنْ يوجد مرَّتان، ثم

ص: 132

الواجب بعد ذلك: إمَّا إمساكٌ بمعروفٍ، وهو أن يُراجعها لا على قصد المضارَّة، بل على قصدِ الإصلاح، وإما تسريحٌ بإِحسانٍ، وفيه وجهان:

أحدهما: أن يُوقِعَ عليها الطَّلقة الثَّالثة، روي أَنَّه لمَّا نَزلَ قوله تعالى:{الطلاق مَرَّتَانِ} ، قيل له عليه الصلاة والسلام ُ -: فأَين الثَّالثة؟ قال عليه الصلاة والسلام: «هُو قَوْلُه تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ» .

ص: 133

الثاني: أن التَّسريح بالإحسان: أن يَتْرُكَ مُراجَعَتها حتى تَبين بانقضاءِ العِدَّة، وهو مَروِيٌّ عن الضَّحَّاك والسُّدِّيّ.

قال ابن الخطيب: وهو أَقْرَبُ لوجوه:

أحدها: أن «الفَاء» في قوله: «فَإِنْ طَلَّقَها» تَقْتَضِي وقوع هذه الطَّلقة مُتَأَخِّرة عن ذلك التَّسريح، فلو كان المُرادُ بالتَّسريح هو الطَّلقَة الثَّالثة، لكان قوله: فإن طَلَّقها طَلْقَةً رَابِعَة؛ وهو لا يجُوزُ.

وثانيها: أنَّا إذا حَمَلْنَا التَّسريح على تَرْكِ المُراجعة، كانت الآيةُ مُتَنَاولة لجميع الأَحوالِ؛ لأَنَّه بعد الطَّلْقَة الثَّانية إمَّا أن يُراجعها وهو المراد بقوله:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أو لا يُراجعها، بل يتركها حتى تنقضي عِدَّتُها وتبين، وهو المرادُ بقوله:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أو يُطَلِّقها وهو المراد بقوله «فَإِنْ طَلَّقَها» ، فكانت الآيَةُ مُشْتَمِلَةً على بَيَانِ كُلِّ الأقسام، وإذا جعلنا التَّسريح بالإِحسان طَلَاقاً آخر لزم تركُ أحد الأقسامِ الثَّلاثة، ولزِم التكرير في ذكر الطَّلاقِ، وهو غيرُ جَائِزٍ.

وثالثها: أنَّ ظاهر التَّسرِيح هو الإرسالُ والإِهمالُ، فحمله على تركِ المُراجعة أَوْلَى من حملِهِ على التَّطليق.

ورابعها: أنَّه قال بعد ذلك التَّسريح: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} والمُراد به الخُلع، ومعلومٌ أنه لا يصحُّ الخلعُ بعد التَّطليقة الثَّالثة، فهذه الوجوه ظاهرة، لو لم يثبت الخبر الَّذِي رويناه، فإن صحَّ ذلك الخبر، فلا مزيد عليه.

فصل في الحكمة في الرَّجعة

والحِكْمة في إثبات حقِّ الرَّجعة: أن الإِنسان إذا كان مع صاحبه، لا يدري هل تَشُقُّ عليه مُفارقتُه أَمْ لا؟ فإذا فارقهُ بعد ذلك يظهر، فلو جَعَلَ الله الطَّلقة الواحدة مانِعةٌ من الرُّجوع، لعظمت المَشَقَّة على الإِنسان بتقدير أَنْ تظهر المَحَبَّة بعد المُفارقة مَرَّتين، وعند ذلك تحصل التَّجربة، فإن كان الأَصلحُ الإِمْسَاكَ، راجعها وأَمسكها بالمعروفِ، وإن كان الأَصلح التَّسريح، سرَّحها بإِحسان.

فصل

واختلف العُلَمَاءُ إذا كان أَحد الزَّوْجَينِ رقيقاً:

ص: 134

فذهب أكثرهم إلى أَنَّه يُعتبر عدد الطَّلاق بالزَّوج؛ فالحُرُّ يملك على زوجته الأَمة ثلاث تطليقاتٍ، والعبد لا يملك على زوجته الحُرَّة ِلَاّ طَلْقَتَيْن.

قال عبد الله بن مسعود: الطَّلاق بالرِّجال والعِدَّة بالنِّساءِ، يعني: يُعْتَبر في الطَّلاق حالُ الرَّجالِ، وفي قدر العِدَّة حالُ المرأة، وهو قول عُثمان، وزيد بن ثابت، وابن عبَّاس، وبه قال عطاء وسعيد بن المُسَيَّب، وإليه ذهب مالِكٌ، والشَّافِعِي، وأَحمد، وإسحاق.

وذهب قَوْمٌ إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطَّلاق، فيملُكِ العَبْدُ على زوجته الحُرَّة ثلاث طلقاتٍ، ولا يَمْلِكُ الحُرَّ على زوجته الأَمة إلَاّ طلْقَتَين، وهو قول سُفْيان الثَّوريّ وأصحاب الرَّأي.

فصل

إذا طلَّقها ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ، لزِمه الطَّلَاق بالإِجماع.

وقال عليّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعود: يلزمه طلقةٌ واحِدةٌ.

وقال ابن عبَّاس: وقوله: ثلاثاً لا معنى له؛ لأَنَّه لم يُطلِّق ثلاث مرَّات وإنَّما يجوز قوله: في ثَلَاث إذا كان مُخبراً عمّا مضى، فيقول: طلَّقت ثلاثاً، فيكون مُخبراً عن ثلاثة أفعالٍ كانت منهُ في ثلاثة أوقاتٍ؛ فهو كقول الرَّجُل: قرأت سُورَة كذا ثلاث؛ فإن كان قرأها ثلاث مرَّاتٍ، كان صادِقاً، وإن كان قرأها مرَّة واحِدَةً، كان كاذِباً، وكذا لو قال: أحْلِفُ بالله ثَلَاثاً يردد الحَلْف كانت ثَلَاثة أيمانٍ، ولو قال: أَحْلِف بالله ثلَاثاً، لم يَكُن حلف إلا يميناً واحدة والطَّلاق مِثْله.

وقاله الزُّبير بن العوَّام، وعبد الرَّحمن بن عوف، قاله القرطبي. قوله:«أَنْ تَأْخُذُوا» : «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعل «يَحِلُّ» ، أي: ولا يَحِلُّ لكُم أَخْذُ شَيءٍ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ. و «مِمَّا» فيه وجهان «. أحدهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ» تَأْخُذُوا «، و» مِنْ «على هذا لابتداءِ الغاية. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» شَيْئاً «قُدِّمت عليه؛ لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً، و» مِنْ «على هذا للتبعيض، و» مَا «موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، تقديره: مِنَ الذي آتيتموهنَّ إِيَّاهُ، وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حذفِ العائدِ المنصوب المنفصلِ عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] وهذا مثلُه، فَلْيُلْتَفَتْ إليه. و» آتَى «يتعدَّى لاثنين، أولهُما» هُنَّ «والثاني هو العائدُ المحذوفُ، و» شَيْئاً «

ص: 135

مفعولٌ به ناصبُه» تَأْخُذُوا «. ويجوزُ أن يكونَ مصدراً، أي: شيئاً مِنَ الأَخْذِ. والوجهانِ منقولانِ في قوله: {لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [يس: 54] . قوله: {إِلَاّ أَن يَخَافَآ} هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ، وفي» أَنْ يَخَافَا «وجهان: أحدهما: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِهِ، فيكونُ مستثنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ، والتقديرُ: وَلَا يَحِلُّ لكُمْ أن تَأْخُذُوا بِسَبَب من الأسباب، إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حُدُودِ الله، وحُذِفَ حرفُ العلةِ؛ لاستكمالِ شروط النصب، لا سيما مع» أَنْ «ولا يجيءُ هنا خلافُ الخليلِ وسيبويه: أهيَ في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حَذْفِ اللامِ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّحَ به، لنُصِبَ، وهذا قد نصَّ عليه النحويُّون، أعنِي كونَ» أَنْ «وما بعدها في محلِّ نصبٍ، بلا خلافٍ، إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ، فيكونُ مستثنى من العامِ أيضاً، تقديره: ولَا يَحِلُّ لكُمْ في كلِّ حالٍ من الأحوالِ إلَاّ في حالِ خوفِ أَلَاّ يقيما حدودَ اللهِ، قال أبو البقاء: والتقديرُ: إلَاّ خائفينَ، وفيه حَذْفُ مضافٍ، تقديره: وَلَا يَحِلُّ لكُمْ أَنْ تأخُذُوا على كلِّ حال، أو في كلِّ حال إلا في حالِ الخوفِ، والوجهُ الأولُ أحسنُ، وذلك أَنَّ» أَنْ «وما في حَيِّزها مُؤَوَّلةٌ بمصدرٍ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعلِ المنصُوبِ على الحَال، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً، فكيف بما هو في تأْويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ» أَنِ «المصدرية لا تقَعُ موقعَ الحالِ.

والألفُ في قوله «يَخَافَا» و «يُقِيمَا» عائدةٌ على صنفَي الزوجين، وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلام، لقيل:«إِلَاّ أَنْ تَخَافُوا أَلَاّ تُقِيمُوا» بِتَاءِ الخِطَابِ لِلْجَمَاعَةِ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله، ورُوِي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبَة، وهو التفاتٌ أيضاً. والقراءةُ في «يَخَافَا» بفتحِ الياءِ واضحةٌ، وقرأها حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضمِّها على البناء للمفعول، وقَد استشكلها جماعةٌ، وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب، وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً، أحسنُها أَنْ يكونَ «أَنْ يُقِيمَا» بدلاً من الضمير في «يَخَافَا» ؛ لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديره: إِلَاّ أَنْ يُخَافَ عَدَمُ إقامَتِهما حُدُودَ اللهِ،

ص: 136

وهذا من بدل الاشتمال؛ كقولك: «الزَّيْدَانِ أَعْجَبَانِي عِلْمُهُمَا» ، وكان الأصلُ:«إِلا أن يخافَ الوُلَاةُ الزوجَيْنِ أَلَاّ يقيمَا حُدُودَ اللهِ» ، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو «الوُلَاةُ» ؛ للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ «أَنْ» وما بعدها في محلِّ رفعٍ بَدَلاً؛ كما تقدَّم تقديرُه. وقد خرَّجه ابن عطيَّة على أنَّ «خَافَ» يتعدَّى إلى مفعولين ك «اسْتَغْفَرَ» ، يعنيك إلى أحدِهما بنفسِه، وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، و «أَنْ» وما في حَيِّزها هي الثاني، وجَعَل «أَنْ» في محلِّ جرٍّ عند سيبويه والكِسائيِّ، وقد رَدَّ عليه أبو حيان هذا التخريجَ؛ بأنَّ «خَافَ» لا يتعدَّى لاثنين، ولم يَعُدَّهُ النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعَدَّى لاثنين؛ ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك:«خِفْتُ زَيْداً ضَرْبَهُ» ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به، فليس هو كالثاني في «اسْتَغْفَرْتُ اللهَ ذَنْباً» ، وبأن نسبة كَوْنِ «أَنْ» في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيحٍ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصبٍ، وتبعه الفراء، ومذهبُ الخليل: أنها في محلِّ جَرٍّ، وتبعه الكسائيُّ، وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ. وقال غيره كقوله؛ إلَاّ أنَّه قدَّر حرفَ الجرِّ «عَلَى» ، والتقدير: إلَاّ أنْ يَخَافَ الوُلَاةُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى أَلَاّ يُقِيمَا، فَبُنِيَ للمفعولِ، فقام ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ «أَنْ» فجاء فيه الخلافُ المتقدِّمُ بين سيبويه والخليل. وهذا الذي قاله ابنُ عطيةَ سَبَقَه إليه أبو عليٍّ، إلَاّ أنه لم يُنَظِّرْهُ ب «اسْتَغْفَرَ» . وقد استشكل هذه القراءةَ قومٌ وطعَنَ عليها آخَرُونَ، لا عِلمَ لهم بذلك، فقال النحَّاسُ: لا أعْلَمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحَرْفِ؛ لأنه لا يُوجِبُهُ الإِعرابُ، ولا اللفظُ، ولا المعنى. أمَّا الإِعرابُ: فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ «إِلَاّ أَنْ تَخَافُوا أَلَاّ يُقِيمُوا» ، فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه، كان ينبغي أَنْ يُقال:«إِلَاّ أَنْ يُخَافَ» .

وأمَّا اللفظُ: فإِنْ كان على لفظِ «يُخَافَا» ، وَجَبَ أن يقال: فَإِن خِيفَ، وإن كان على لفظ «خِفْتُمْ» ، وَجَب أن يقال: إِلَاّ أَنْ تَخَافُوا. وأمَّا المعنى: فَأَسْتَبْعِدُ أن يُقَالَ: «وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَاّ أَنْ يَخافَ غَيْرُكُمْ» ، ولم يَقُلْ تعالى:«ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ منْهَا فدْيَةً» ، فيكون الخُلْعُ إلى السلطان، والفَرْضُ أَنَّ الخُلْعَ لا يحتاجُ إلى السلطانِ. وقد رَدَّ الناسُ على النحَّاس:

ص: 137

أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ: فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله. وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ، فإنه من باب الالتفاتِ؛ كما قَدَّمْتُه أولاً، ويَلْزَمُ النَّحَّاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يقرأَ:«فَإِنْ خَافَا» ، وإِنَّما هو في القراءتَين من الالتفاتِ المستحْسَنِ في العربيةِ. وأمَّا من حيثُ المعنى: فلأنَّ الولاةَ والحكامَ هُمُ الأصلُ في رَفْعِ التظالُمِ بين الناسوهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء. ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ، بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله «إِلَاّ أَنْ تَخَافُوا» . وخَطَّأَهُ الفارسيُّ وقال:«لَمْ يُصِبْ؛ لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على» أَنْ «، وفي قراءة حمزة واقعٌ على الرجُلِ والمَرْأَةِ» . وهذا الذي خَطَّأَ به الفراء ليس بشيءٍ؛ لأنَّ معنى قراءةِ عبد الله: إِلَاّ أَنْ تَخَافُوهُمَا، أي: الأولياءُ، الزوجين ألَاّ يُقيمَا، فالخوفُ واقعٌ على «أَنْ» وكذلك هي في قراءةِ حمزة الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمينِ: إمَّا على كونها بدلاً من ضميرِ الزوجين؛ كما تقدَّم تقريره، وإمَّا على حذف حرف الجرّ، وهو «على» . والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ:

أحدها: أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ، فتكونُ «أَنْ» في قراءةِ «غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ، أو نصبٍ؛ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ؛ إذ الأصلُ: مِنْ أَلَاّ يُقِيمَا، أو في محلِّ نصبٍ فقط؛ على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ؛ كأنه قيل: إِلَاّ أَنْ يَحْذَرَ عَدَمَ إِقَامَةِ حُذُودِ اللهِ.

والثاني: أنه بمعنى العِلْم، وهو قَوْلُ أبي عُبَيْدَة. وأنشد [الطويل]

1109 -

فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ

سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ

ومنه أيضاً: [الطويل]

1110 -

وَلَا تَدْفِنَنِّي فِي الفَلَاةِ فَإِنَّنِي

أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقُهَا

ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعد» أَنْ «، وهذا لا يصحُّ في الآيةِ، لظهورِ النَّصْب، وأما البيتُ، فالمشهورُ في روايتِهِ» فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بأَلْفَيْ «.

والثالث: الظَّنّ، قاله الفراء؛ ويؤيِّدُهُ قراءةٌ أُبَيٍّ:» إِلَاّ أَنْ يَظُنَّا «؛ وأنشد: [الطويل]

ص: 138

1111 -

أَتَانِي كَلَامٌ مِنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ

وَمَا خِفْتُ يَا سَلَاّمُ أَنَّكَ عَائِبِي

وعلى هذين الوجهين، فتكونُ «أَنْ» وما في حَيِّزها سَادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن عند سيبويه ومَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش؛ كما تقدَّم مراراً والأولُ هو الصحيحُ وذلك أَنَّ «خَافَ» مِنْ أفعالِ التوقُّع، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَين، ولذلك قال الراغب:«الخَوْفُ يُقال لِمَا فيه رجاءٌ مَّا؛ ولذلك لا يُقال: خِفْتُ أَلَاّ أَقْدِرَ على طلوعِ السماءِ، أو نَسْفِ الجبالِ» .

وأصلُ «يُقيمَا» : يُقْوِمَا، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكن قبلَها، ثم قُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لسكونها؛ بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قوله:{الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5] .

وزعم بعضهم أنَّ قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ} معترضٌ بين قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} ، وبين قوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} [البقرة: 230] ، وفيه بَعْدٌ.

قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} «لَا» واسمُها وخبرُها، وقوله:{فِيمَا افتدت بِهِ} متعلِّقٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنَهُ الخبرُ، وهو «عَلَيْهِمَا» ، ولا جائزٌ أن يكونَ «عَلَيْهِمَا» متعلِّقاً ب «جُنَاحَ» و «فِيمَا افتدت» الخبرَ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً، والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ.

والضميرُ في «عَلَيْهِمَا» عائدٌ على الزوجَيْن، أي: لا جُنَاحَ على الزوجِ فِيمَا أَخَذَ، ولا على المَرْأَةِ فيما أَعْطَتْ، وقال الفراء: إنَّما يَعُودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنى، والمرادُ واحِدٌ؛ كقوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]{نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] ؛ وقوله: [الطويل]

1112 -

فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ

وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا

وإنما يخرجُ من المِلْحِ، والنَّاسي «يُوشَعُ» وحدَهُ، والمنادَى واحدٌ في قوله:«يَا بْنَ عَفَّانَ» . و «مَا» بمعنى «الذي» ، أو نكرةٌ موصوفة، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً؛ لعَوْدِ الضميرِ مِنْ «بِهِ» عليها، إلا على رَأْي مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً؛ كالأخفش وابنِ السَّرَّاج ومَنْ تابَعَهُما.

فصل

اعلم أنه - تعالى - لمَّا أَمر بأن يكون التَّسريح بإحسانٍ بين هنا أنَّ من جُملة

ص: 139

الإحسان أَنَّه إذا طلَّقها لا يأخُذُ منها شيئاً، ويدخُل في هذا النَّهي ألا يُضَيِّقَ عليها ليلجئها إلى الافتداءِ؛ كما قال في سورة النساء:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] وقوله هنا: {إِلَاّ أَن يَخَافَآ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} هو كقوله: {إِلَاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] وقال أيضاً: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 20 - 21] .

فإن قيل: قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} هذا الخِطاب كان للأَزواج، فكيف يطابقه قوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وإن كان للأَئِمَّة والحُكَّام فهؤلاء لَا يأخذون منهنّ شيئاً؟

قلنا: الأمران جائزان:

فيجُوز أن يكون أوَّلُ الآيةِ خِطَاباً للأَزْوَاجِ، وآخِرُها خِطاباً للأَئِمَّة والحُكَّامِ، وليس ذلك بغريبٍ من القُرْآن.

ويجوزُ أن يكون الخِطَابُ كُلُّه للأَئِمَّة والحُكَّام؛ لأنهم هُمُ الَّذِين يَأْمُرُون بالأَخْذِ والإِيتَاءِ عند التَّرافُع إليهم فَكَأَنَّهم هم الآخِذُون والمُؤتون، ويَدُلُّ له قراءةُ حمزة المتقدِّمة:«يُخَافَا» بضم الياءِ، أي: يعلم ذلك منهما، يعني: يعلَم القاضي والوالي ذلك من الزَّوجين، ويطابقه قوله:«فَإِنْ خِفْتُمْ» فجعل الخوف لغير الزَّوجين، ولم يقل:«فإن خافا» . واعلم أنَّه لما منع الرجُل أن يأخذ من امرأَتِه شيئاً عند الطَّلَاق، استثنى هذه الصُّورة، وهي مسألة الخُلع، واختلفُوا في هذا الاستثناء؛ هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنقطع؟

وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيَّة؛ وهي أن أكْثَر المجتهدين جوَّز الخُلْع في غيرِ حالة الخوفِ والغَضَبِ.

وقال الزُّهري والنَّخعي وداود: لا يباح الخُلعُ إلَاّ عند الغضب والخوف من ألَاّ يُقِيما حدود الله، فإن وقع الخُلْعُ في غيرِ هذه الحالةِ، الخُلْعُ فاسِدٌ، واحْتَجُّوا بهذه الآيةِ؛ فإنها صريحةٌ في تحريم الأخذ من الزَّوجةِ عند طلاقها، واستثني هذه الصُّورة.

وأما جمهور المجتهدين فقالوا: الخُلعُ جائزٌ في حالة الخوف وغيره؛ لقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصِّل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت، كان الخُلع الَّذِي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ كقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَئاً} [

ص: 140

النساء: 92] ، أي: لكن إن كان خطأً {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] .

فصل

ظاهر الآية يدل على اشتراط حصول الخوف للرَّجل والمرأة، فنقول: الأقسام الممكنة فيه أربعة:

إمَّا أن يكون الخوفُ من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو لا يحصل الخوفُ من قبل واحدٍ منهما، أو يكون الخوف من قبلهما معاً، فإن حصل الخوفُ من قبل المرأةَ؛ بأن تَكُون المرأَةُ ناشزاً مُبْغِضةً للرَّجُلِ، ففهنا يَحلُّ للزَّوج أخذُ المال منها؛ ويدُلُّ عليه ما رُوي في سبب نُزُول الآية: أن جميلة بنت عبد الله بن أبي أَوفَى تَزَوَّجها ثابت بن قيسٍ بن شماس، وكانت تبعضُهُ أشدَّ البُغض، وهو يحُبُّها أشدَّ الحُبِّ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -، وقالت: فَرِّق بيني وبينه فإِنِّي أبغضه، ولقد رفعت طرف الخباء فرأَيْتُه يجيءُ في أقوامٍ، فكان أقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً وأشدَّهم سواداً، وأنا أكره الكُفْر بعد الإِسلام. فقال ثابت: يا رسُول الله، فلترُدَّ عليَّ الحديقة الَّتي أعطيتها؛ فقال لها:«مَا تَقُولِين؟» قالت: نعم وأزيده فقال عليه الصلاة والسلام ُ: «لا، حديقته فقط» ثم قال لثابتٍ: «خذ مِنْها ما أَعْطَيْتَها وخلِّ سَبِيلَهَا» ففعل، فكان أَوَّل خُلْعٍ في الإِسلام. وفي «سُنَنِ أَبِي دَاوُد» : أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهلٍ الأنصاري.

فإن قيل: قد شرط في هذه الآيةِ خوفهُما معاً، فكيف قُلْتُم: إنَّه يكفِي حُصُولُ الخوف منها فقط.

فالجواب: أنّ هذا الخوف - وإن كان أوّله من جهة المرأة - فقد يترَتَّب عليه الخوفُ الحاصلُ من جهة الزَّوج، فإنها إذا كانت مبغض للزَّوج إذا لم تعطه، فربَّما ضربها وشتمها، وربَّمَا زاد على قدر الواجب، فحصل الخَوْف لهما جميعاً؛ أمّا من جهتها فخوفها على نفسها من عصيان اللهِ، وأمَّا من جهته، فقد يزيد على قدرِ الواجب.

فأما أن يحصل الخوف من قبل الزَّوج فقط؛ بأن يضربها أو يُؤذِيها حتى تلتزم الفِدية، فهذا المال حرامٌ؛ للآية المتقدِّمة.

وأما القِسْم الثالث: ألا يحصل الخوف من أحدٍ منهما، فقد ذكرنا أنَّ أكثر المجتهدين قال بجواز الخلع، والمالُ المأخوذ حلالٌ، وقال قوم إنه حرامٌ.

وأما إن كان الخوفُ حاصلاً منهما، فالمال حرامٌ أيضاً؛ لأن الآياتِ المتقدِّمة تدُلُّ

ص: 141

على حُرمة أخذِ ذلك المَالِ، إذا كان السَّبَبُ حاصِلاً من قِبَل الزَّوج، وليس فيه تقييدٌ بأن يكون من جانب المرأة سبب أم لا؛ لأن الله - تعالى - أفرد بهذا القِسْم آية أخرى؛ وهي قوله:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} [النساء: 35] ، ولم يذكر فيه أخذ المال، وهذا التقسيم إنما هو فيما بين المكلَّفين وبين الله - تعالى - فأمَّا في الظَّاهر، فهو جائزٌ.

فصل في قدر ما يجوز الخلع به

اختلفوا في قدر ما يجوز الخلع به:

فقال الشَّعبي والزُّهري والحسن البصري وعطاء وطاوس: لا يجوز أن يأخذ فوق ما أعطاها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام ُ - لامرأة ثاتبٍ حين قالت له: نعم، وأزيده، قال:«لا، حديقَتَهُ فَقَط» ، وهو قول عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال سعيد بن المُسيَّب: بل دون ما أَعطاها حتّى يكون الفضل.

وأما سائر الفقهاء فإنَّهُم جوَّزوا المخالغة بالأَزيد والأَقَلِّ والمُساوي.

فصل

قال قومٌ: الخُلع تطليقةٌ، وهو قول علي، وعثمان، وابن مسعود، والحسن والشَّعبي، والنَّخعي، وعطاء، وابن السَّائب، وشُريح، ومجاهد، ومكحول، والزُّهري وهو قول أبي حنيفة وسُفيان وأحد قولي الشَّافعي وأحد الرِّوايتين عن أحمد.

والقول الثاني للشَّافعي، وبه قال محمَّد وإسحاق وأبو ثور.

حجَّة القول الأَوَّل: أنه لو كان فسخاً، لما صَحَّ الزِّيادة على المهر المُسَمَّى كالإِقالة في البيع، ولأَنَّه لو كان فَسْخاً فإذا خالعها ولم يذكُر المهر، وجب أن يجب عليها المهر؛ كالإقالةِ في البيع، فإن الثَّمَن يجب رَدُّه وََإِنْ لم يَذْكُرْه. ولما لم يكن كذلك، ثبت أن الخُلْعَ ليس بفسخٍ، وإذا بطل ذلك، ثبت أَنَّهُ طلاقٌ.

حجة القول الثَّاني: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ولو كان الخُلْعُ طلاقاً، لكان الطَّلَاق أربعاً، وهذا الاستدلال نقله الخطَّابي في «مَعَالم السُّنَن» عن ابن عبَّاسٍ، وأيضاً أن النَّبي صلى الله عليه وسلم َ - أذن لثابت بن قيس في مُخالعة امرأته، ولم يستكشف هل هي حائِضٌ أو في طُهْر جامعها فيه، مع أنَّ الطَّلاق في هاتين الحالتين حرامٌ منهيٌّ عنه،

ص: 142

يجب أن يستكشف عنه، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً، دلَّ على أن الخُلْع ليس بطلاقٍ.

وأيضاً روى أبو داود في «سُنَنِ» عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ: أن امرأة ثابت بن قيس لما اخْتَلَعَت، جعل النبي صلى الله عليه وسلم َ - عِدَّتها حيضَة.

قال الخطَّابي: وهذا أدلُّ شيء على أن الخُلع فسخٌ وليس بطلاقٍ؛ لأن الله - تعالى - قال: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قرواء} [البقرة: 228] فلو كانت هذه طلقة، لم يقتصر على قرءٍ واحدٍ.

قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قوله:{وَلَا تَنْكِحُواْ المشركات} [البقرة: 221] إلى هنا.

وقوله: {فَلَا تَعْتَدُوهَا} أصلُه: تَعْتَدِيُوهَا، فاسْتُثْقِلَت الضمَّةُ على الياءِ؛ فحُذِفت، فسكنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةً، فحُذِفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَينِ، وضُمَّ ما قبلَ الواو؛ لتصِحَّ، ووزنُ الكَلِمَة تَفْتَعُوها.

قال أبو العبَّاس المُقْرِي: ورد لفظ: «الاعْتِدَاء» في القُرآن بإزاء ثلاثة معانٍ:

الأول: الاعتِداء: تعدِّي المأمُورات والمنهيَّات؛ قال - تعالى -: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] .

والثاني: «الاعتِدَاء» القتل؛ قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] أي: من قتل بعد قبُول التَّوْبة.

الثالث: «الاعْتِداء» الجزاء؛ قال - تعالى -: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أي: جاوزهُ.

فصل

قال القرطبي: إذا اختلعت منه بِرِضاع ابنها منه حولين جاز، وفي الخُلْعِ بنفقتها على الابن بعد الحَوْلَيْن مُدَّة مَعْلُومة قولان:

أحدهما: يجوزُ؛ قاله سحنون.

والثاني: لا يجوزُ؛ رواه ابن القاسم عن مالك.

ولو اشترط على امرأته في الخُلْع نفقة حملِها، وهي لا شيء لها، فعليه النفقة إذا لم يَكُن لها مالٌ تنفق منه، فإن أيسَرت بعد ذلك رجع عَلَيْها.

ص: 143

قال مالك: ومن الحقِّ أن يكلِّف الرَّجل نفقة ولده وإن اشترط على أمِّه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه.

قوله: {وَمَن يَتَعَدَّ} «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وفي خبرها الخلاف المتقدِّم.

وقوله: {فأولئك} جوابها، ولا جائزٌ أن تكون موصولةٌ، والفاء زائدة في الخبر لظهور عملها الجزم فيما بعدها، و «هُمُ» من قوله:{فأولئك هُمُ} يحتمل ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أن يكون فصلاً.

والثاني: أن يكون بدلاً.

و {الظالمون} على هذين خبر «أُولَئِكَ» والإخبار بمفردٍ.

والثالث: أن يكون مبتدأً ثانياً، و «الظالمون» خبره، والجملة خبر «أُولَئِكَ» ، والإخبار على هذا بجملةٍ.

ولا يخفى ما في هذه الجملة من التأكيد؛ من حيث الإتيان باسم الإشارة للبعيد، وتوسُّط الفصل والتعريف بالألف واللام في «الظالمون» أي: المبالغون في الظلم. وحمل أولاً على لفظ «مَنْ» ، فأفرد في قوله «يَتَعَدَّ» ، وعلى معناها ثانياً، فجمع في قوله:{فأولئك هُمُ الظالمون} .

فصل

و {حُدُودُ الله} : أوامره ونواهيه، وهي: ما منع الشرع من المجاوزة عنه، وفي المراد من «الظُّلْمِ» هنا ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: اللَّعن لقوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] .

وثانيها: أنَّ إطلاق الظلم] هنا تنبيهٌ على أن الإنسان ظلم نفسه؛ حيث أقدم على المعصية، وظلم المرأة: بتقدير ألا تتمَّ عدَّة الرجل، أو كتمت شيئاً، ممَّا خلق الله في رحمها، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف، والتَّسريح بالإحسان، أو أخذ شيئاً مما أتاها بغيرِ سببٍ من نشوزٍ، فكل هذه المواضع تكون ظُلماً للغيرِ.

ص: 144

أي: من بعد الطلاق الثالث، فلمَّا قطعت «بعدُ» عن الإضافة بنيت على الضَّمِّ؛ لما تقدَّم تقريره. و «له» و «مِنْ بعد» ، و «حتى» ثلاثتها متعلقةٌ ب «يَحِلُّ» . ومعنى «مِنْ» :

ص: 144

ابتداء الغاية، واللام للتَّبليغ، وحتَّى للتعليل، كذا قال أبو حيَّان، قال شهاب الدِّين: والظَّاهر أنها للغاية؛ لأنَّ المعنى على ذلك، أي: يمتدُّ عدم التحليل له إلى أن تنكح زوجاً غيره، فإذا طلَّقها وانقضت عدَّتها منه حلَّت للأول المطلِّق ثلاثاً، ويدلُّ على هذا الحذف فحوى الكلام.

و «غيرَه» صفةٌ ل «زوجاً» ، وإن كان نكرةً، لأنَّ «غَيْرَ» وأخواتِها لا تتعرَّف بالإضافة؛ لكونها في قوَّة اسم الفاعل العامل.

و «زَوْجاً» هل هو للتقييد أو للتوطئة؟ وينبني على ذلك فائدةٌ، وهي أنه إن كان للتقييد: فلو كانت المرأة أمةً، وطلَّقها زوجها، ووطئها سيِّدها، لم تحلَّ للأول؛ لأنه ليس بزوجٍ، وإن كانت للتوطئة حلَّت؛ لأنَّ ذكر الزوج كالملغى، كأنه قيل: حتى تنكح غيره، وإنَّما أتى بلفظ «زَوْج» ؛ لأنه الغالبُ.

فإن قيل: ما الحكمة في إسناد النِّكاح إلى المرأة دون الرجل فقال {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً} ؟

فالجواب: فيه فائدتان:

إحداهما: ليفيد أنَّ المقصود من هذا النكاح الوطء، لا مجرَّد العقد؛ لأن المرأة لا تعقد عقد النكاح، بخلاف الرجل؛ فإنه يطلِّق عند العقد.

الثانية: لأنَّه أفصح، لكونه أوجز.

فإن قيل: فقد أُسند النِّكاح إلى المرأة في قوله عليه الصلاة والسلام: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» وإنما أراد العقد.

فالجواب: أن هذا يدلُّ لنا؛ لأنَّ جَعْلَ إسناد النكاح إلى المرأة، والمراد به العقد، يكون باطلاً، وكلامنا في إسناد النِّكاح الصَّحيح.

قال أهل اللُّغة: النكاح في اللغة: هو الضَّمُّ والجمع، يقال: تَنَاكَحَتِ الأشْجَارُ، إذا انضم بعضها إلى بعضٍ.

فصل

الذين قالوا: بأن التسريح بالإحسان هو الطَّلقة الثالثة، قالوا: إنَّ قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} تفسيرٌ للتسريح بالإحسان.

ص: 145

واعلم أن للزَّوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية ثلاثة أحوالٍ:

إمَّا أن يراجعها، وهو المراد بقوله:«فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ» .

أو يتركها؛ حتى تنقضي عدَّتها وتبين، وهو المراد بقوله:«أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» .

والثالث: أنه إذا راجعها، وطلَّقها ثالثةً؛ وهو المراد بقوله:{فَإِنْ طَلَّقَهَا} .

فهذه الأقسام الثلاثة؛ يجب تنزيل الألفاظ الثلاثة عليها؛ ليطابق كلُّ لفظٍ معناه، فأمَّا إن جعلنا التَّسريح بالإحسان، عبارةٌ عن الطَّلقة الثَّالثة، كنَّا قد صرفنا لفظتين إلى معنى واحدٍ؛ على سبيل التِّكرار، وأهملنا القسم الثالث، ومعلومٌ أنَّ الأوَّل أولى، ووقوع الخلع بين هاتين الآيتين، كالأجنبي، ونظم الآية:«الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، فإن طلَّقها فلا تحل له من بعد حتَّى تنكح زوجاً غيره» .

فإن قيل: إذا كان النَّظم الصَّحيح هو هذا، فما السبب في إيقاع الخلع فيما بين هاتين الآيتين؟

فالجواب: أنَّ الرجعة والخلع لا يصحَّان؛ إلَاّ قبل الطَّلقة الثالثة، وأمَّا بعدها، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك، فلهذا السَّبب ذكر الله حكم الرجعة، ثم أتبعه بذكر الخلع، ثم ذكر بعد الكلِّ حكم الطَّلقة الثالثة؛ لأنها كالخاتمة.

فصل في شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها

مذهب الجمهور: أنَّ المطلقة ثلاثاً لا تحلُّ لزوجها؛ إلَاّ بشرُوطٍ وهي:

أن تعتدَّ منه، وتتزوَّج بغيره، ويطأها ثم يطلِّقها، وتعتدَّ من الآخر.

وقال سعيد بن جبيرٍ، وسعيد بن المسيِّب: تحلُّ بمجرد العقد.

واختلف العلماء في ثبوت اشتراط الوطء؛ هل ثبت بالكتاب، أو بالسنة؟ قال أبو مسلمٍ الأصفهانيُّ: الأمران معلومان بالكتاب.

قال ابن جنّي: سألت أبا عليٍّ عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرَّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح امرأته، أو زوجته، أراد المجامعة، وعلى هذا فالزَّوجية مقدَّمةٌ على النكاح، الذي هو الوطء، وإذا كان كذلك فقوله:{تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ، أي: تتزوَّج بزوجٍ، وينكحها، أي: يجامعها.

وروي في سبب النزول أنَّ الآية نزلت في تميمة، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت تحت ابن عمِّها، رفاعة بن وهب بن عتيك القرظيّ، فطلقها ثلاثاً، قالت عائشة: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ فقالت: إني كنت عند رفاعة،

ص: 146

فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنَّما معه مثل هدبة الثوب، وإنه طلَّقني قبل أن يمسَّني؛ أفأرجع إلى ابن عمِّي؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقال:«أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لَا؛ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» والمراد ب «العُسَيْلَة» : الجماع، فروي أنها لبثت ما شاء الله، ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ - فقالت: إن زَوْجِي قد مَسَّنِي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ -:«كَذَبْتِ فِي قَوْلِكِ الأَوَّلِ، فَلَنْ أُصَدِّقَكِ في الآخرِ» ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأتت أبا بكرٍ، فقالت: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أرجع إلى زوجيَ الأول؛ فإن زوجي الآخر قد مسني؟ فقال لها أبو بكر: قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حين أتيته، وقال لك ما قال؛ فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكرٍ، أتت عمر، وقالت له مثل ذلك، فقال:«لئن رجعت إليه لأَرْجُمنَّكِ» .

ولأن المقصود من توقيف الحل على اشتراط الوطء هو زجر الزوج، وإنَّما يحصل بتوقيف الحل على اشتراط الوطء، فأما مجرد العقد، فليس فيه نفرةٌ، فلا يصلح جعله زاجراً.

فصل

قال بعض العلماء: إذا طلق زوجته، واحدةً أو اثنتين ثم نكحت زوجاً آخر، فأصابها، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد، عادت على ما بقي من طلاقها.

وقال أبو حنيفة: بل يملك عليها ثلاثاً، كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث.

فصل هل يلحق المختلعة الطلاق

قال القرطبيُّ: استدلَّ بعض الحنفية بهذه الآية، على أنَّ المختلعة يحلقها الطلاق؛ لأنَّ الله شرع صريح الطلاق بعد المفاداة، لأن «الفَاءَ» حرف تعقيبٍ، فيبعد أن يرجع إلى قوله:«الطَّلاقُ مرَّتَانِ» ؛ لأنَّ الأقرب عوده إلى ما يليه، كالاستثناء.

فصل

لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ.

ص: 147

قال القرطبيُّ: ومدار التحليل على الزوج سواء شرط التحليل، أو نواه، فمتى كان ذلك فسد نكاحه.

فصل

قال القرطبيُّ: وطءُ السيِّد لأمته التي طلقها زوجها، لا يحلّها؛ إذ ليس بزوجٍ وكذلك النكاح الفاسد.

فصل

قال القرطبيُّ: سئل سعيد بن المسيَّب، وسليمان بن يسار، عن رجل زوَّج عبداً له، جاريةً له، فطلَّقها العبد البتَّة، ثم وهبها سيِّدها له، هل تحل له بملك اليمين؟

فقالا: لا تَحِلُّ له، حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره.

فصل

سئل ابن شهاب، عن رجلٍ كانت تحته أَمةٌ مملوكةٌ فاشتراها، وقد كان طلقها واحدةً؛ فقال: تحل له بملك يمينه، ما لم يبت طلاقها، فإن بتَّ طلاقها، فقال: لا تحلُّ له، حتى تنكح زوجاً غيره.

فإن قيل: إذا طلَّق المسلم الذمية ثلاثاً؛ فتزوجت بعده ذمياً، ودخل بها، حلت للأول؛ لأن الذِّمي زوجٌ.

قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الضمير المرفوع عائدٌ على «زوجاً» النكرة، أي: فإن طلَّقها ذلك الزوج الثاني، وأتى بلفظ «إِنْ» الشرطية دون «إذا» ؛ تنبيهاً على أنَّ طلاقه يجب أن يكون باختياره، من غير أن يشترط عليه ذلك؛ لأنَّ «إذا» للمحقق وقوعه و «إِنْ» للمبهم وقوعه، أو المتحقِّق وقوعه المبهم زمان وقوعه؛ نحو قوله تعالى:{أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] .

قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} الضمير في «عليهما» يجوز أن يعود على المرأة، والزوج

ص: 148

الأول المطلَّق ثلاثاً، أي: فإن طلَّقها الثاني، وانقضت عدَّتها منه، فلا جناح على الزوج المطلِّق ثلاثاً، ولا عليها؛ أن يتراجعا.

وهذا يؤيد قول من قال: إن الرجل إذا طلق زوجته طلقةً أو طلقتين، فتزوجت غيره، وأصابها، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديدٍ، أنَّها تعود على ما بقي من طلاقها؛ لأنه سمَّى هذا العود بعد الطلاق الثلاث رجعةً، فبعد طلقةٍ وطلقتين أولى بهذا الاسم، وإذا ثبت هذا الاسم، كان رجعةً، والرجعية تعود على ما بقي من طلاقها. ويجوز أن يعود عليها، وعلى الزوج الثاني، أي: فلا جناح على المرأة ولا على الزوج الثاني، أن يتراجعا ما دامت عدَّتها باقيةً، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف تلك الجملة المقدَّرة، وهي «وانْقَضَتْ عِدَّتُها» ، وتكون الآية قد أفادت حكمين، أحدهما: أنها لا تحلُّ للأول؛ إلَاّ بعد أن تتزوج بغيره، والثاني: أنه يجوز أن يراجعها الثاني، ما دامت عدَّتها منه باقيةً، ويكون ذلك دفعاً لوهم من يتوهَّمُ أنها إذا نكحت غير الأول حلَّت للأول فقط، ولم يكن للثاني عيها رجعةٌ.

وهو الذي عوَّل عليه سعيد بن المسيَّب في أنَّ التحليل يحصل بمجرد العقد؛ لأن الوطء لو كان معتبراً، لكانت العدة واجبةً، وهذه الآية تدل على سقوط العدَّة؛ لأن «الفَاءَ» في قوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} يدلُّ على أنَّ حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني، إلَاّ أنه يجاب بأنَّ هذا المخصوص بقوله تعالى:{والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قرواء} [البقرة: 228] .

قوله: {أَن يَتَرَاجَعَآ} ، أي:«في أَنْ» ، ففي محلِّها القولان المشهوران: قال الفراء: موضعهما نصبٌ بنزع الخافض، وقال الكسائي، والخليل: موضعهما خفضٌ بإضمار، و «عليهما» خبر «لا» ، و «في أن» متعلِّقٌ بالاستقرار، وقد تقدَّم أنه لا يجوز أن يكون «عليهما» متعلقاً ب «جُناح» ، والجارُّ الخبر، لما يلزم من تنوين اسم «لا» ؛ لأنه حينئذٍ يكون مطوَّلاً.

قوله: {إِن ظَنَّآ} شرطٌ جوابه محذوفٌ عند سيبويه لدلالة ما قبله عليه، ومتقدِّم عند الكوفيين وأبي زيد. والظَّنُّ هنا على بابه من ترجيح أحد الجانبين، وهو مقوِّ أن الخوف المتقدِّم بمعنى الظَّنِّ. وزعم أبو عبيدة وغيره أنه بمعنى اليقين، وضعَّف هذا القول الزمخشري لوجهين، أحدهما من جهة اللفظ وهو أنَّ «أَنْ» الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففة منها، لا تقول: علمت أنَّ يقوم زيدٌ، إنما تقول: علمت أنْ يقوم زيدٌ. والثاني من جهة المعنى: فإنَّ الإنسان لا يتيقَّن ما في الغد وإنما يظنُّه ظناً.

ص: 149

قال أبو حيان: أمَّا ما ذكره من أنه لا يقال: «علمت أنَّ يقومَ زيد» فقد ذكره غيره مثل الفارسي وغيره، إلَاّ أن سيبويه أجاز:«ما علْتُ إلا أن يقومَ زيدٌ» فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي. قال بعضهم الجمع بينهما أنَّ «عَلِمَ» قد يراد بها الظَّنُّ القويُّ كقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، وقوله:[الوافر]

1113 -

وَأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرَ ظَنِّ

وتَقْوَى اللهِ مِنْ خَيْرِ العَتَادِ

فقوله: «علمَ حق» يفهم منه أنه قد يكون علم غير حق، وكذا قوله «غيرِ ظَنٍّ» يفهم منه أنه قد يكون علمٌ بمعنى الظن. وممَّا يدلُّ على أنَّ «عَلِمَ» التي بمعنى «ظَنَّ» تعمل في «أَنْ» الناصبة، فليس بوهم من طريق اللفظ كما ذكره الزمخشري.

وأمَّا قوله: «لأنَّ الإنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ» فليسَ كما ذكر، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرةً واقعةً في الغد ويجزم بها «قال شهاب الدين: وهذا الردُّ من الشيخ عجيبٌ جداً، كيف يقال في الآية: إنَّ الظن بمعنى اليقين، ثم يجعل اليقين بمعنى الظن المسوغ لعلمه في» أَنْ «الناصبة. وقوله:» لأنَّ الإنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد «مُسَلَّمٌ، لكن ليس هذا منها.

وقوله: {أَن يُقِيمَا} إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولين، أو الأول والثاني محذوفٌ، على حسب المذهبين المتقدمين.

فصل

كلمة» إن «في اللغة للشرط، والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فظاهر الآية يقتضي: أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة وليس الأمر كذلك؛ فإنَّ جواز المراجعة ثابتٌ، سواءٌ حصل هذا الظنُّ، أو لم يحصل، إلَاّ أنا نقول: ليس المراد أنَّ هذا شرطٌ لصحة المراجعة؛ بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنِّكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى، وقصد الإقامة لحدود الله.

قال طاوسٌ: إن ظنَّ كلٌّ واحدٍ منهما، أنه يحسن عشرة صاحبه.

وقيل: حدود الله: فرائضه، أي إذا علما أنه يكون منهما الصلاح بالنكاح الثاني.

ص: 150

فمتى علم الزوج أنه يعجز بنفقة زوجته، أو صداقها، أو شيءٍ من حقوقها الواجبة عليه؛ فلا يحلُّ له أن يتزوجها؛ حتى يبيِّن لها. وكذلك لو كانت تعلم أنها تمنعه من الاستمتاع، كان عليها أن تبين.

وكذلك لا يجوز له أن يغرَّها بنسبٍ يدعيه، ولا مال له، ولا صناعة يذكرها، وهو كاذبٌ، وكذلك لو كان بها علةٌ، تمنع من الاستمتاع من جنونٍ، أو جذامٍ، أو بَرَصٍ، أو داءٍ في الفرج؛ لم يجز لها أن تغرَّه، وعليها أن تبيِّن له ما بها، كما يجب على بائع السِّلعة. وكان النبي عليه الصلاة والسلام تزوج امرأة، فوجد بكشحها برصاً؛ فردَّها، وقال:» دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ «.

فصل هل على الزوجة خدمة الزوج؟

نقل القرطبيُّ عن ابن خويزمنداد قال: اختلف أصحابنا: هل على الزوجة خدمة الزوج؟

فقال بعضهم: ليس عليها خدمته؛ لأن العقد إنما يتناول الاستمتاع، لا الخدمة؛ قال تعالى:{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] .

وقال بعضهم: عليها خدمة مثلها؛ فإن كانت شريفة المحلِّ، فعليها التدبير للمنزل، وإن كانت متوسطة الحال، فعليها أن تفرش الفراش، ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك، فعليها أن تَقُمَّ البيت، وتطبخ، وتغسل، وإن كانت من نساء الكرد، والدّيلم والجبل في بلدهن كلِّفت ما تكلف نساؤهم المسلمين من ذلك؛ قال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} [البقرة: 228] .

قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} » تلكَ «إشارةٌ إلى ما بينهما من التَّكاليف.

«يُبَيِّنُهَا» في هذه الجملة وجهان:

أحدهما: أنها في محلِّ رفعٍ، خبراً بعد خبرٍ، عند من يرى ذلك.

والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال، وصاحبها «حدود الله» والعامل فيها اسم الإشارة.

وقرئ: «نبيِّنها» بالنون، ويروى عن عاصمٍ، على الالتفات من الغيبة إلى التكلم؛ للتعظيم.

ص: 151

فإن قيل: «تلك» إشارةٌ إلى ما بيَّنه من التكاليف؛ وقوله: «نُبَيِّنُهَا» إشارة إلى الاستقبال، والجمع بينهما متناقضَ!

فالجواب: أنَّ هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامةٌ، لا يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرة، وأكثر تلك المخصِّصات إنَّما عرفت بالسُّنَّة، فكأنه قال: إن هذه الأحكام التي تقدمت، هي حدود الله، وسيبينها الله تعالى كمال البنيان، على لسان النبي عليه الصلاة والسلام وهو كقوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .

وقيل: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} يعني: ما تقدَّم ذكره من الأحكام يبيِّنها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب، وبعث الرسل؛ ليعلموا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه.

و «لقوم» متعلِّقٌ ب «يُبَيِّنُهَا» ، و «يعلمون» في محل خَفْض صفةً ل «قوم» ، وخص العلماء بالذكر؛ لأنَّهم هم المنتفعون بالبيان دون غيرهم، وقيل: خصَّهم بالذّكر لقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] وقيل: عنى به العرب؛ لعلمهم باللسان.

وقيل: أراد من له علمٌ، وعقلٌ؛ كقوله:{وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَاّ العالمون} [العنكبوت: 43] والمقصود أنه لا يكلف إلَاّ عاقلاً، عالماً بما يكلِّف.

ص: 152

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} : شرطٌ، جوابه {فَأَمْسِكُوهُنَّ} ، وقوله:{فَبَلَغْنَ} عطفٌ على فعل الشرط، والبلوغ: الوصول إلى الشيء: بلغه يبلغه بلوغاً؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]

1115 -

وَمَجْرٍ كَغُلَاّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ

دِيَارَ العَدُوِّ ذِي زُهَاءٍ وَأَرْكَانِ

ومنه: البلغة، والبلاغ: اسم لما يتبلَّغ به.

قوله تعالى: «بمعروفٍ» في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبها: إمَّا الفاعل أي: مصاحبين للمعروف، أو المفعول، أي: مصاحباتٍ للمعروف.

قوله: {ضِرَاراً} فيه وجهان:

أظهرهما: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل الضِّرار.

ص: 152

والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، أي: حال كونكم مضارِّين لهنَّ.

قوله: {لِّتَعْتَدُواْ} هذه لام العلّة، أي: لا تضارُّوهنَّ على قصد الاعتداء عليهن، فحينئذٍ تصيرون عصاةً لله تعالى، وتكونوا معتدين؛ لقصدكم تلك المعصية.

وأجاز أبو البقاء: أن تكون لام العاقبة، أي: الصيرورة، كقوله:{فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]، وفي متعلقها وجهان:

أحدهما: أنه {لَا تُمْسِكُوهُنَّ} .

والثاني: أنه المصدرُ، إنْ قلنا: إنه حالٌ، وإنْ قُلْنَا: إنه مفعولٌ من أجله، تعلَّقت به فقط؛ وتكون علةً للعلة؛ كما تقول:«ضربتُ ابني؛ تأديباً؛ لينتفع» ، فالتأديب علةٌ للضرب، والانتفاع علةٌ للتأديب، ولا يجوز أن تتعلَّق - والحالة هذه - ب «لا تُمْسِكُوهُنَّ» .

و «تَعْتَدُوا» منصوبٌ بإضمار «أنْ» وهي وما بعدها في محلِّ جر بهذه اللام، كما تقدَّم تقريره، وأصل «تَعْتَدُوا» : تَعْتَدِيُوا، فأُعِلَّ كنظائره.

قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أدغم أبو الحارث، عن الكسائي، اللام في الذال، إذا كان الفعل مجزوماً كهذه الآية، وهي في سبعة مواضع في القرآن:{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 331] في موضعين، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً} [النساء: 30] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [النساء: 114] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} [المنافقون: 9] . وجاز لتقارب مخرجيهما، واشتراكهما في: الانفتاح، والاستفال، والجهر.

وتحرَّز من غير المجزوم نحو: يفعل ذلك. وقد طعن قومٌ على هذه الرواية، فقالوا: لا تصحُّ عن الكسائي؛ لأنها تخالف أصوله، وهذا غير صواب.

فصل في سبب النزول

هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار يدعى: ثابت بن يسارٍ، طلّق امرأته، حتى إذا قارب انقضاء عدّتها، راجعها، ثمَّ طلَّقها؛ يقصد مضارَّتها.

فإن قيل: ذكر هذه الآية بعد قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] تكريرٌ لكلامٍ واحدٍ، في موضوعٍ واحدٍ، من غير زيادة فائدةٍ، وهو لا يجوز؟!

ص: 153

فالجواب: أمَّا على قول أصحاب أبي حنيفة، فالسؤال ساقطٌ عنهم؛ لأنهم حملوا قوله تعالى:{الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] على أن الجمع بين الطلقات غير مشروعٍ، وإنَّما المشروع هو التفريق، فإن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق، وهذه في بيان كيفية المراجعة.

وأمَّا على قول أصحاب الشافعي، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة، فلهم أن يقولوا: إنَّ من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمَّ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامِّ تلك الصورة الخاصَّة مرَّةً أخرى؛ ليدلَّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام، ما ليس في غيرها، وها هنا كذلك؛ لأن قوله:{الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فيه بيان أنه لا بدَّ في مدّضة العدَّة من أحد هذين الأمرين، ومن المعلوم أنَّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء، أن يطلقها، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهرٍ، فلمَّا كان هذا أعظم أنواع المضارة، حسن إعادة حكم هذه الصورة، تنبيهاً على أنّض هذه الصورة أعظم اشتمالاً على المضارة، وأولى بأن يحترز المكلف عنها.

فصل في معنى الإمساك بالمعروف

قال القرطبيُّ: الإمساك بالمعروف، هو القيام بما يجب لها من حقٍّ على زوجها؛ وكذلك قال جماعةٌ من العلماء: إنَّ من الإمساك بالمعروف أنَّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة، أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حدِّ المعروف، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللَاّحق بها؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، ضرراً، والجوع لا يصبر أحدٌ عليه، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، وأبو ثور، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول عمر، وعلي، وأبي هريرة.

وقال سعيد بن المسيَّب: إنَّ ذلك سنةٌ، ورواه أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم َ.

وقالت طائفةٌ: لا يفرٌَّ بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلّق النفقة بذمَّته، بحكم الحاكم؛ لقوله تعالى:{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .

وحجّة الأوَّلين الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام:«تقول المرأة إمَّا أَنْ تُطْعِمني وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي» رواه البخاري في «صحيحه» .

ص: 154

فصل

قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إشارةٌ إلى المراجعة، واختلف العلماء في كيفيتها؛ فقال الشَّافعيُّ: لما لم يكن النكاح والطلاق إلَاّ بكلامٍ، لم تكن الرجعة - أيضاً - إلَاّ بكلامٍ.

وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد: تصحُّ بالوطء.

حجة الشافعي: أنَّ ابن عمر طلَّق زوجته، وهي حائض؛ فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن ذلك، فقال:«مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» فأمره عليه الصلاة والسلام بالمراجعة في تلك الحال. والوطء في زمن الحيض لا يجوز. وقد يجاب عن هذا؛ بأنَّنا لم نخصَّ الرجعة في الوطء، بل قد يكون في صورةٍ بالوطءِ، وفي صورة بالقول.

وحجَّة أبي حنيفة، قوله تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أمرٌ بمجرد الإمساك، والوطء إمساكٌ، فوجب أن يكون كافياً.

فإن قيل: إنه تعالى أثبت حقَّ المراجعة عند بلوغ الأجل، وبلوغ الأجل وهو عبارةٌ عن انقضاء العدَّة، لا يثبت حقَّ المراجعة.

فالجواب من وجهين:

الأول: أنَّ المراد مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ؛ كقول الرجل إذا قارب البلد: «قد بلغنا» ، وقول الرجل لصاحبه:«إذا بلغتَ مكَّةَ، فاغْتَسلْ بِذِي طُوى» يريد مشارفة البلوغ، لا نفس البلوغ، وهو من باب مجاز إطلاق اسم الكلِّ على الأَكْثر.

الثاني: الأَجَل اسمٌ للزمان، فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمانٍ يمكن إيقاع الرجعة فيه، بحيث إذا مات، لا يبقى بعده إمكان الرجعة على هذا، فلا حاجة إلى المجاز

فإن قيل: لا فرق بين قوله: «أَمسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» ، وبين قوله:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} ؛ لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه، فما فائدة التكرار؟

ص: 155

فالجواب: الأمر لا يفيد إلَاّ مرةً واحدةً؛ فلا يتناول كلَّ الأوقات؛ أمَّا النهيُ فإنه يتناول

ص: 156

كلَّ الأوقات، فلعلَّه يمسكها بالمعروف في الحال، ولكن في قلبه أن يضارَّها في الزمان المستقبل، فلما قال:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} انْدَفَعَتْ الشبهات، وزالت الاحتمالات.

فصل في بيان معنى الضرار

و «الضرار» : هو المضارَّةُ؛ قال تعالى: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً} [التوبة: 107] ، ومعناه راجعٌ إلى إثارة العداوة، وإزالة الألفة، وإيقاع الوحشة؛ وذكر المفسرون فيه وجوهاً:

أحدها: ما تقدَّم في سَببِ نُزولِ الآيةِ من تطويلِ العِدَّةِ تسعة أشْهُرٍ، فأكثر.

ثانيها: «الضرارُ» سوء العشرة.

وثالثها: تضييق النفقة، وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال؛ لكي تختلع المرأة عنه بمالها.

ص: 157

قوله تعالى: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فيه وجوه:

أحدها: ظلم نفسه؛ بتعريضها للعذاب.

وثانيها: ظلم نفسه؛ بأن فوَّت عليها منافع الدنيا والدِّين:

أمَّا منافع الدنيا: فإنَّه إذا اشتهر بين الناس بهذه المعاملة القبيحة فلا يرغب أحدٌ في تزويجه، ولا معاملته.

وأما منافع الدِّين فتضييعه للثواب الحاصل على حسن عشرة الأهل، والثواب على الانقياد لأحكام الله تعالى.

قوله: {وَلَا تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} فيه وجوه:

أحدها: أنَّ من أمر بشيء، فلم يفعله بعد أن نصَّب نفسه منصب الطائعين، يقال: إنه استهزأ بذلك الأمر ولعب به؛ فعلى هذا يكون المراد أنَّ من وصلت إليه هذه التكاليف المتقدمة من العدَّة، والرَّجعة، والخلع، وترك المضارَّة، ويسأم لأدائها يكون كالمستهزئ بها، وهذا تهديدٌ عظيمٌ للعصاة من أهل الصلاة، وغيرهم.

وثانيها: ولا تتسامحوا في تكاليف الله تعالى، ولا تتهاونوا بها.

وثالثها: قال أبو الدَّرداء: كان الرجل يطلِّق في الجاهلية، ويقول:«طَلَّقْتُ، وَأَنَا لَاعِبٌ» ويعتق، وينكح، ويقول مثل ذلك؛ فنزلت هذه الآية، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وقال:«مَنْ طَلَّقَ، أَوْ حَرَّرَ، أَوْ نَكَحَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَاعِبٌ فَهو جدٌّ» .

وروى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال:«ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جدٌّ؛ الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالعتَاقُ» .

ورابعها: قال عطاءٌ: معناه أنَّ المستغفِر من الذنبِ إذا كان مُصرّاً عليه، أو على غيره، كان مُسْتهزئاً بآيات الله تعالى.

وقال مالكٌ في «الموطأ» : بلغنا أَنَّ رجُلاً قال لابن عبَّاسٍ: إني طلقتُ امرأَتي مائةَ مَرَّةٍ، فماذا ترى؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: طُلِّقَتْ منك بثلاثٍ؛ وسَبْعٌ وتسعون اخذت آياتِ الله هُزُواً.

ص: 158

والأَقربُ هو الأَوَّلُ؛ لأنه تهديد بعد ذكرِ تكاليفَ، فيكون تهدِيداً عليها، لا على غيرها. ولمَّا رَغَّبهم في أداءِ التكاليف بالتهديد، رغبهم - أيضاً - بذكر نعمِهِ عليهم في الدنيا والدين، فقال:«واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم» أي: بالإسلام، وبيان الأَحكام. ويجوز في «عليكم» وجهان:

أحدهما: أن يتعلَّق بنفسِ «المنعة» ، إن أريدَ بها الإِنعامُ؛ لأنها اسمُ مصدرٍ؛ كنباتٍ من أَنْبَتَ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ؛ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله:[الطويل]

1116 -

فَلَوْلَا رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ

عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ

فأعملَ «رهبةٌ» في «عِقَابَكَ» ، وإنما المحذُورُ أن يعمل المصدرُ الذي لَا يُبنَى عليها، نحو: ضربٌ وضَرْبَةٌ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله:[الطويل]

1117 -

يُحايي بِهِ الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ

بِضَربَةِ كَفَّيْهِ الْمَلَا وَهْوَ رَاكِبُ

بأنَّ المَلَا، وهو السرابُ، منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ لا بضربةٍ.

والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من «نِعْمَة» إنْ أريد بها المُنْعَمُ به، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً؛ إذ هي فاعلةٌ به، وعلى الثاني في محلِّ جرٍّ لفظاً وتقديراً.

قوله: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} يجوزُ في «ما» وجهان:

أحدهما: أن تكونَ في محلِّ نصب؛ عطفاً على «نعمة» ، أي: اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم، فعلى هذا يكون في قوله:«يَعِظُكُم» حالاً، وفي صاحبها ثلاثةُ أوجهٍ:

أحدها: أنه الفاعلُ: في «أنزل» وهو اسمُ الله تعالى، أي: أنزله واعظاً به لكم.

والثاني: أنه «ما» الموصولةُ، والعاملُ في الحالِ: اذكروا.

والثالث: أنه العائد على «ما» المحذوفُ، أي: وما أنزلهُ موعوظاً به، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ «أَنْزَلَ» .

والثاني: من وَجْهي «ما» : أَنْ تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء، ويكونَ «يَعِظُكُم» على هذا في محل رفعٍ؛ خبراً لهذا المبتدإِ، أي: والمُنَزَّلُ عليكم موعوظٌ به. وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ.

ص: 159

قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلِّقٌ ب «أَنْزَلَ» و «من الكتابِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ، وفي صاحبِهِ وجهان:

أحدهما: أنه «ما» الموصولةُ.

والثاني: أنه عائدُها المحذوفُ، إذ التقديرُ: أنزله في حالِ كونِهِ من الكتابِ.

و «مِنْ» يجوز أن تكونَ تَبْعِيضِيةٌ، وأَنْ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك.

والضمير في «به» يعودُ على «ما» الموصولةِ «.

والمرادُ من» الكِتابِ «: القرآنُ، ومن» الحِكْمَةِ «:» السُّنَّةُ «. يَعظُكُمْ بِهِ أي: يخوفكم به، ثم قال:{واتقوا الله} أي: في أَوَامرِه، ولا تُخالِفُوه في نواهيه، {واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

ص: 160

الكلامُ في صدرِ هذه الآية كالتي قبلها، إلَاّ أنَّ الخِطابَ في:«طَلَّقتم» للأزواجِ، وفي:«فَلَا تعضُلُوهُنَّ» للأولياء؛ لأنه يروَى في سبب نُزُولِ هذه الآيةِ وجهان:

الأول: أَنَّ معقل بن يسار زوَّج أخته جميل بن عبد الله بن عاصمٍ، وقيل: كانت تحت أبي الدَّحْدَاحِ عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها، ثم تركها حتى انقضَتْ عدَّتها، ثم ندم؛ فجاء يخطبُها، فقال: زوجتُك، وفرشتُك، وأكرمتُك؛ فطلقتها ثم جئت تخطِبُها؟! لا والله، لا تعود إليك أبداً، وكانت المرأةُ تُرِيدُ أَنْ ترجع إليه، فقال لها معقل: إنه طلَّقكِ ثُمَّ تريدين مراجعته؟ وجهي مِنْ وَجْهِك حرامٌ، إنْ راجعته؛ فأنزل اللهُ هذه الآيةَ، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ - معقل بن يسار، وتلا عليه الآيةَ، فقال: رغم أنْفِي لأَمْرِ

ص: 160

رِبِّي، اللَّهُمّ رضيتُ، وسلّمْتُ لأَمْرك، وأَنكح أُخْتَه زوْجَها.

الثاني: روَى مجاهد، والسدي: أَنَّ جابر بن عبد الله، كانت له ابنةُ عَمٍّ فطلقها زَوْجُها، وأراد رجعتها بعد العِدّة؛ فأَبَى جابر؛ فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآيةَ، وكان جابرٌ يقولَ: فِيَّ نزلت هذه الآيةُ.

وقيل: الخطابُ فيهما للأزواج، ونُسِبَ العَضْلُ إليهم؛ لأنهم كذلك كانوا يفعلون، يُطَلِّقُونَ، ويأْبَونَ أن تتزوج المرأَةُ بعدَهم؛ ظلماً وقهراً.

قوله: {أَزْوَاجَهُنَّ} مجازٌ؛ لأنه إذا أُريد به المطلَّقون، فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يؤولون إليه. قال ابن الخطيب: وهذا هو المختارُ؛ لأن قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} شرطٌ، والجزاءُ قوله:«فلا تَعْضُلُوهُنَّ» والشرطُ خطابٌ مع الأزواجِ، فيكون الجزاءُ خِطَاباً معهم أيضاً؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لصار تقديرُ الآيةِ: إذا طلقتم النساء أَيُّها الأزواج، فلا تعضُلُوهُنَّ أيها الأولياءُ، وحينئذٍ لا يكونُ بين الشرطِ والجزاءِ مناسبةٌ أصلاً، وذلك يُوجِبُ تفكيك نظم الآيةِ، وتنزيه كلام اللهِ عز وجل عن مثل هذا، واجبٌ. ثم يتأكدُ بوجهين آخرين:

الأول: أَنَّه من أَوَّل آية الطَّلاق إلى هذا الموضع، خطابٌ مع الأزواجِ، ولم يجرِ للأولياءِ ذِكْرٌ أَلْبَتَّة، وصرفُ الخِطَابِ إلى الأَولياءِ خِلَافُ النَّظْمِ.

الثاني: أَنَّ ما قبل هذه الآيةِ خطابٌ مع الأَزواجِ في كيفيةِ مُعاملتهم مع النساءِ بعد انقضاءِ العِدَّة، فكان صَرْفُ الخِطابِ إلى الأزواجِ، أولى؛ لأنه تَرتيبٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ.

واستدلَّ الأولُونَ بما تقدَّمَ مِنْ سَبب النزولِ.

ويمكِنُ الجوابُ عنه من وجهين:

الأول: أَنَّ المحافظة على نظمِ كَلَامِ الله - تعالى -، أَوْلى من المحافظة على خبر الواحِدِ.

ص: 161

الثاني: أَنَّ الرَّوايتين في سبب النزولِ تَعَارَضَتَا؛ فَرُوِيَ أَنَّ معقل كان يقولُ: فِيّ نزلت هذه الآية، وجابرٌ كان يقولُ فيّ نزلت، وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فبقي ما ذكرناه من التَّمَسك بنظم كَلَامِ الله - تعالى - سليماً عن المعارِضِ، وفي هذه الاستدلالِ نظرٌ، ولا تعارُضَ بين الخبرين؛ لأن مدلولَهُمَا واحدٌ.

واحتجوا أيضاً بأن هذه الآيةَ لو كانت خطاباً مع الأزواج، فلا تخْلُوا إِمَّا أَنْ تكونَ خِطَاباً معهم قبل انقضاءِ العِدَّةِ، أو بعد انقضائِها.

والأولُ باطل؛ لأنَّ ذلك مستفادٌ من الآيةِ الأُولَى، فلما حملنا هذه الآيةَ على هذا المعنى، كان تكراراً من غير فائدةٍن وأيضاً فقد قال تعالى:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف} فنهى عن العضل حال حُصُولِ التراضي، ولا يحصلُ التراضِي بالنكاح، إلَاّ بعد التصريح بالخطبة ولا يجوزُ التصريح بالخطبة إلَاّ بعد انقضاء العِدَّة، وقال تعالى:{وَلَا تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} [البقرة: 235] .

والثاني - أيضاً - باطلٌ؛ لأنَّ بعد انقضاءِ العدَّةِ، ليس للزوج قدرةٌ على عضلِ المرأة، فكيف يُصْرفُ هذا النهي إليه؟!

ويمكنُ أن يُجابَ: بأن الرجل يمكن أَنْ يَكُونَ بحيثُ يشتد نَدَمُه على مفارقَةِ المرأة، بعد انقضاءِ عدَّتها، وتلحقُه الغيرة، إذا رأى مَنْ يخطبُها، وحينئذٍ يعضلها عن من يَنْكِحها، إِمَّا بأن يجحد الطلاق، أو يَدَّعي أنه كان راجعها في العدَّة، أو يدس إلى مَنْ يخطبها بالتهديد والوعيد، أو يسيء القول فيها: بأنْ ينسبها إلى أمورٍ تُنَفِّر الرجال عنها، فَنَهَى اللهُ تعالى الأزواج عن هذه الأَفعالِ، وعرَّفَهم أن تركها أزكَى، وأطهر، من دنسِ الآثام.

واحتجوا - أيضاً - بقوله تعالى: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} قالوا: معناه: ولا يَمْنَعُوهن أَنْ يَنْكِحْنَ الذين كانوا أزواجاً لهُنَّ قبل ذلك، وهذا الكلامُ لا ينتظِمُ إلَاّ إذا جعلنا الآيةَ خطاباً للأولياءِ.

ويمكن الجوابُ: بأنَّ معنى قوله: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أن يَنكحنَ مَنْ يُرِدْنَ أن يتزوَّجنَه، فيكونون أزواجاً لهن والعربُ تسمي الشَّيْءَ بما يَؤُول إليه.

[وقيل: الخِطَابُ فيهما للأَولياء، وفيهِ بُعْدٌ؛ من حيثُ إنَّ الطلاقٌ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيدٍ، وهو أنْ جَعَلَ تَسَبُّبَهُمْ في الطَّلاقِ طَلَاقاً] والفاءُ في {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} جوابث «إذا» .

والعَضْلُ: قيل: المَنْعُ، ومنه:«عَضَلَ أَمَتَهُ» ، مَنَعَها من التزوُّجِ، يَعْضلُها بكسر العينِ وضَمِّها؛ قال ابن هرمزٍ:[الوافر]

ص: 162

1118 -

وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي

كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ

وقال: [الطويل]

1119 -

وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا

وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللهِ عَاضِلُ

ومنه: «دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ» ، أي: احتبسَ بَيْضُها، وقيل: أَصلهُ الضِّيقُ؛ قال أوس: [الطويل]

1120 -

تَرَى الأَرْضَ مِنَّا بِالْقَضَاءِ مَرِيضَةٌ

مُعَضَّلَةٌ مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ

أي: ضَيِّقة بِهم، وعَضَلَتِ المَرْأَة، أي: نَشَبَ وَلَدُها في بَطْنِهَا، وكذلك عضلت الشَّاةُ، وأَعْضَلَ الدَّاءُ الأَطِبَّاء: إِذَا أَعياهُمْ، ويُقَالُ: دَاءٌ عُضَالٌ، أي: ضَيِّقُ العِلاج؛ وقالت ليلى الأخيلية: [الطويل]

1121 -

شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ العُضَالِ الَّذِي بِهَا

غُلَامٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا

والمُعْضِلاتُ: المُشْكِلَاتُ؛ لضِيق فَهْمِها؛ قال الشافعيُّ: [المتقارب]

1122 -

إِذَا المُعْضِلَاتُ تَصَدَّيْنَنِي

كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ

قوله تعالى: {أَن يَنكِحْنَ} فيه وجهان:

أحدهما: أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في «تَعْضُلُوهُنَّ» بدلُ اشْتِمالٍ، فيكون في محلِّ نصب، أي: فلا تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ.

والثاني: أَنْ يَكُونَ على إسقاط الخافِضِ، وهو إمَّا «مِنْ» ، أو «عَنْ» فيكونُ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهُورانِ: أعني مذهب سيبويه، ومذهب الخليل. و «يَنْكِحْنَ» مضارعُ «نَكَحَ» الثّلاثيّ، وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه؛ لأنَّ لامَه حرف حَلقٍ.

قوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ} في ناصبِ هذا الظَّرْفِ وجهان:

أحدهما: «ينكِحْنَ» أي: أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التَّراضِي.

والثاني: أَنْ يكونَ «تَعْضُلُوهنَّ» أي: لا تعضُلوهنَّ وقتَ التَّراضِي، والأولُ أظهرُ. و «إذا» هنا مُتَمحِّضَة للظرفيةِ. والضميرُ في «تراضَوا» يجوزُ أَنْ يَعُودَ إلى الأوْلياءِ وللأزواج، وأَنْ يَعُودَ على الأَزْوَاجِ والزوجاتِ، ويكونُ مِنْ تَغْلِيبِ المذكرِ على المؤنثِ.

قوله: {بَيْنَهُمْ} ظرفُ مكانِ مجازيّ، وناصبُه «تراضَوا» .

ص: 163

قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ:

أحدها: أنه متعلقٌ بتراضَوا، أي: تَرَاضَوا بما يَحْسُن مِنَ الدِّينِ والمروءَةِ.

والثاني: أن يتعلَّق ب «يَنْكِحْنَ» فيكون «ينكِحْنَ» ناصباً للظرفِ، وهو «إِذا» ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً.

والثالث: أَن يتعلَّق بمحذوفٍ على أَنَّه حالٌ من فاعل تَرَاضَوا.

والرابع: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، دلَّ عليه الفعلُ، أي: تراضياً كائناً بالمعروف.

فصل

تمسّكَ بهذه الآيةِ مَنْ يشترط الوَلِيَّ في النكَاحِ؛ بناءَ على أَنَّ الخطاب في هذه الآية للأولياء، قال: لأَنَّ المرأة لو كانت تُزوِّج نفسها، أَوْ تُوكِّلُ مَنْ يُزوِّجها، ما كان الوليُّ قادراً على عضلها من النِّكاح، ولو لم يكن قادراً على العضلِ لما نهاهُ اللهُ عن العضل وقد تقدم ما فيه من البحث، وإِنْ سلم، فلم لا يجوزُ أَنْ يكون المرادُ بالنَّهي عنِ العضلِ أَنْ يخليها ورأيها في ذلك؛ لأَنَّ الغالب في الأَيَامَى أَن يرجعن إلى رأي الأَولياء، في بَابِ النكاحِ، وإِنْ كان الاستئذان الشرعي حاصِلاً لهن، وأَنْ يكُنَّ تحت رأيهم، وتدبيرهم، وحينئذٍ يكُونون مُتمكِّنين مِنْ منعهنَّ؛ لتمكنهم مِنْ تخليتهن، فيكون النَّهي محمولاً على هذا الوجه، وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، في تفسير هذه الآيةِ. وأيضاً فثبوتُ العضلِ في حَقِّ الولي مُمْتَنِعٌ؛ لأنه متى عضل القريبُ فلا يبقى لعضله أثرٌ.

وتمسَّك أبو حنيفة بقوله تعالى: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} على أَنَّ النكاح بغير وَليٍّ جائزٌ، قال: لأنه أَضَافَ النكاح إليها إضافة الفعْل إلى فاعله، ونهى الوليَّ عَنْ منعها منه، قال: ويتأكَّدُ هذا بقوله تعالى: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وبقوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} [البقرة: 234] ، وتزويجها نفسها مِنَ الكُفءِ، فعلٌ بالمعروفِ؛ فوجب أَنْ يَصِحَّ.

وقوله تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] دليلٌ واضِحٌ مع أَنَّهُ لم يحضر هناك ولي البتَّةَ.

وأجاب الأولون: بأن الفِعْل كما يُضافُ إلى المباشر، قد يُضافُ إلى المتسبّب، يقال: بنى الأمِيرُ داراً، وضرب ديناراً، وإنْ كان مجازاً، إلَاّ أنَّهُ يجب المصيرُ إليه؛ لدلالةِ الأَحاديث على بُطْلان هذا النِّكَاح.

ص: 164

فصل في اختلاف البلوغين

قال الشَّافعيُّ رحمه الله ُ - دلَّ سياقُ الكلامينِ - أي في الآيتين - على افتراق البُلُوغين، ومعناه أَنَّه تعالى قال في الآية الأولى:{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ولو كانت عِدَّتها قد انقضت، لما قال:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} لأن إمساكها بعد العدّة لا يجوزُ وتكون مُسَرَّحَةٌ، فلا حاجة إلى تسريحها، وأما هذه الآية، فإنه نهى عن عضلهن عن التَّزويج، وهذا النَّهْي إِنَّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أَنْ تتزوَّج فيه، وذلك إِنَّما يكونُ بعد انقضاءِ العِدَّة، فهذا هو المرادُ مِنْ قول الشافعي «دَلَّ سياقُ الكَلَامينِ على افْتِراق البلوغين» .

فصل في معنى التراضي بالمعروف

في التَّراضي بالمعرُوف، وجهان:

أحدهما: ما وافَقَ الشَّرعَ مِنْ عقدٍ حلالٍ، ومهرٍ جائِزٍ، وشُهُودٍ عُدُول.

الثاني: هو ما يُضادُّ قوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} [البقرة: 231] فيكون معناه: أَنْ يرضى كُلُّ واحدٍ منهما بما لزمه بحق هذا العقد لصاحبه؛ حتى تحصل الصُّحبةُ الجميلةُ، وتدوم الأُلفَةُ.

قال بعضهم: التراضِي بالمعرُوف، هو مهرُ المِثْلِ، وفَرَّعُوا عليه مسأَلةً فقهيةً، وهي أنَّها إِذا زوَّجت نفسها بأَنْقص مِنْ مَهْرِ مِثْلِها، نقصاناً فاحشاً، فالنكاحُ صحيحٌ عند أَبِي حنيفة، وللوَلِي أَنْ يَعْتَرِض عليها بسبب ذلك النُّقْصَانِ.

وقال أَبُو يوسُف ومحمَّد ليس للوَلِيِّ ذلك.

قوله: {ذلك} مبتدأٌ و {يُوعَظُ} وما بعده خبرهُ. والمُخَاطبُ قيل: إمَّا الرسُولُ عليه الصلاة والسلام ُ - أو كلُّ سامع، ولذلك جيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحد، وقيل: للجماعةِ، وهو الظَّاهِرُ، فيكونُ «ذلك» بمعنى:«ذلكم» ، ولذلك قال بعده:{مِنكُمْ} وهو جائِزٌ في اللُّغة، والتَّثْنِية والجمع أيضاً جائِزٌ، قال تعالى:{ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} [يوسف: 37] وقال: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] وقال: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} [الطلاق: 2] وقال: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} [الأعراف: 22] وإِنَّما وحَّدَ الخطاب وهو للأَولياء؛ لأن الأَصل في مخاطبة الجمع «لَكُمْ» ثم كثر حتَّى توهَّموا أن «الكَافَ» مِنْ نفسِ الحرفِ، وليست بكافِ خِطابٍ؛ فقالوا ذلك، فإِذَا قالوا هذا، كانتِ الكافُ مُوَحَّدَةً منصوبةً في الاثنين، والجمع، والمؤَنَّثِ، و «مَنْ كان» في محلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفاعل. وفي «كان» اسمُها، يعودُ على «مَنْ» و «يؤمِنُ» في محلِّ نصبٍ، خبراً ل «كان» و «مِنْكُمْ» : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعمَلُ في الظَّرفِ وشبهِهِ، وإمَّا بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يُؤمِنُ. فإن قيل: لِمَ أتى باسمِ الإشارة

ص: 165

البعيدِ والمشارُ إليه قريب وهو الحكم المذكورُ في العَضْل؟

والجواب: أَنَّ ذلك دليلٌ على تعظيم المُشارِ إليه.

وخَصَّصَ هذا الوعظِ بالمؤمنينَ دون غيرهم؛ لأنَّهُم المنتفِعُون به فلذلك حسنَ تخصيصهم؛ كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وهو هدى لِلْكُلِّ، كما قال:{هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185]، وقال:{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [يس: 11]، مع أَنَّهُ كان منذراً لِلْكُلِّ؛ كما قال:{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] .

فصل في خطاب الكفار بفروع الشريعة

احتجُّوا بهذه الآيةِ على أَنَّ الكفار ليسُوا بمخاطبين بفروع الإِسلام؛ لأن تَخْصِيصهُ

ص: 166

المؤمنين بالأَحكام المُشَار إليها، دليلٌ على أَنَّ التكليف مختصٌّ بِمَنْ يؤمنُ باللهِ واليوم الآخر.

وأُجيبوا بأَنَّ التكليف قد ورد عامّاً؛ قال تعالى {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وبيانُ الأَحكام وإن كان عامّاً في حق كل المكلَّفين، إلَاّ أَنَّه قد يكونُ ذلك البيانُ وعظاً للمؤمنين؛ لأن هذه التكاليف إِنَّما تتوجه على الكُفَّار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز، وأَمَّا المؤمنُ المقرُّ فإِنَّما تدكرُ له وتُشْرَحُ على سبيل العظةِ، والتحذير.

قوله تعالى: {أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [البقرة: 232] زكا الزرعُ إذا نما وأَلِفُ أزكى منتقلةٌ عن واو، وقوله:«أزكى» إشارةٌ إلى استحقاقِ الثَّوابِ، وقوله:{وَأَطْهَرُ} إشارة إلى إزالة الذنُوبِ.

قال المفَسِّرون: أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرِّيبةِ. و «لكم» متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «أزكى» فهو في محلِّ رفع وقوله: «وَأَطْهَرُ» أي: لَكُمْ، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٍ؛ لِلْعِلْم به، أي: مِنَ العَضْل.

قوله: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} معناه: أَنَّ المكلَّف وَإِنْ كان يعلمُ وجه الصَّلاح في هذه التكاليف على الجملة، إلَاّ أَنَّ التفصيل غير معلومٍ، واللهُ تعالى عالِمٌ في كل ما أَمَر ونهى، بالكمية والكَيْفية بحسب الواقِع وبِحسب التقدير؛ لأنَّه تعالى عالِمٌ بما لا نهايةَ له من المعلُوماتِ.

قال بعض المفسِّرين: معناه أَنَّ لكُل واحدٍ من الزوجين، قَدْ يكونُ في نفسه من

ص: 167

الآخر علاقةُ حُبٍّ لم يُؤمن أَنْ يتجاوزَ ذلك إلى غير ما أَحَلَّ اللهُ لهما، ولم يُؤمن من الأَولياء أنْ يسبق إلى قُلُوبهم منهما ما لعلهما أَنْ يكُونا بريئين من ذلك، فَيَأثمون واللهُ يعلم من حُبِّ كُلّش واحدٍ منهما لصاحبه، ما لا تعلمون أَنْتم.

ص: 168

قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ} كقوله {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فليُلْتفتْ إليه.

قال القرطبي: لما ذكر اللهُ تعالى النِّكاح والطَّلاق ذكر الولد؛ لأن الزَّوجين قد يفترِقانِ وثمَّ وَلَدٌ فالآية إِذن في المطلَّقاتِ اللاتي لهُنَّ أولادٌ من أزواجهنَّ، قاله السُّدِّيُّ، وغيره.

قال: {والوالدات} ولم يقل والزَّوجاتُ، لأن أُمَّ الطِّفل قد تكُونُ مَطَلَّقَةً والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ، جاريتانِ مَجْرى الجوامد؛ ولذلك لم يُذْكر موصوفهما.

وقوله: {حَوْلَيْنِ} منصُوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفهما بكاملين دفعاً للتجوُّز، إِذْ قَد يُطْلَقُ «الحَوْلَانِ» على الناقصين شهراً وشهرين، من قولهم أَقَامَ فلانٌ بمكان كذا حَوْلَين أو شهرين وإِنَّما أقامَ حَوْلاً وبعض الآخر، ومثله:{فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] ومعلومٌ أنه يتعجَّل في يومٍ، وبعض اليوم الثَّاني، والحَولُ مِنْ حال الشَّيءُ يحولُ إذا انقلب، فالحَوْلُ مُنقلب من الوقْتِ الأَول إلى الثاني. وسُمِّيت السنةُ حولاً؛ لتحوُّلها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ، ويُقالُ: لا حول ولا قوةَ، ولا حَيْلَ وَلَا قُوَّةَ.

فصل في تفسير «الوالدات»

في «الوَالِدَات» ثلاثةُ أقوال:

أحدها: أَنَّ المراد منهُ جميعُ الوَالِدَاتِ سواءٌ كُنَّ مطلقاتٍ، أو متزوِّجاتٍ لعُمُومِ اللَّفظِ.

الثاني: المرادُ مِنْهُ المطلقاتُ؛ لأَنَّه ذكر هذه الآية عقيب آية الطَّلاقِ، ومناسبتهُ من وجهين:

الأول: أنه إذا طُلِّقَت المرأةُ، فيحصلُ التباغض، فقد تُؤذِي المرأةُ الطفلَ لأَمرين:

ص: 168

إِمَّا لأنَّ إيذاءَهُ يتضمَّنُ إيذاءَ الأَبِ، وإِمَّا لرغبتها في زوجٍ آخر فيفضي إلى إِهْمالِ أَمْرِ الطِّفْلِ.

الثاني: قال السُّدِّيُّ: ومما يدلُّ على أَنَّ المراد منه المطلقاتُ، قوله بعد ذلك:{وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} . ولو كانت زوجةً، لوجب على الزَّوج ذلك مِنْ غير إرضاعٍ.

ويمكن الجوابُ عن الأَوَّل: أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على حُكم مستقلٍّ بنفسه، فلم يجب تعلُّقُها بما قبلها، وعن قول السديّ: أَنَّه لا يبعُدُ أَنْ تستحِقَّ المرأةُ قدراص مِنَ المالِ، لمكانِ الزوجيَّة، وقَدْراً آخر للإرضاع، ولا مُنافاة بين الأَمرينِ.

القول الثالث: قال الواحديُّ في «البَسيط» الأَولى أَنْ يحمل على الزوجاتِ في حالِ بقاء النكاحِ؛ لأن المُطلَّقة لا تستحقُّ إلَاّ الأجرة.

فإِنْ قيل: إذا كانت الزوجيةُ باقيةً، فهي مستحقةٌ للنفقة، والكُسْوةِ؛ بسبب النكاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعت الولد، أَوْ لَمْ تُرضِعهُ، فما وجهُ تعليق هذا الاستِحقاق بالإِرضاع؟

قلنا: النفقةُ والكسوةُ يجبانِ في مُقابلةِ التمكين، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغْ لِخدمة الزوج، رُبَّما توهَّمَ مُتوهِّمٌ أَنَّ نفقتها وكسوتها تسقطُ بالخلل الواقع في خدمة الزوجِ؛ فقطعَ اللهُ ذلك الوَهْمَ بإيجاب الرِّزقِ إذا اشتغلت المرأَةُ بالرضاعِ.

فصل

هذا الكلامُ، وإِنْ كان خبراً فمعناه الأَمْرُ؛ وتقديره: يرضِعْنَ أَوْلادهنّ في حُكْمِ الله الذي أَوجبه؛ إِلَاّ أنه حذف ذلك للتصرف في الكَلامِ مع زوالٍ الإِيهامِن وهو أَمرُ استحباب، لا إيجابٍ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاعُ لما استحقتِ الأُجرة، وقد قال:

{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} [الطلاق: 6] وإذا ثبت الاستحبابُ، فهو من حيث إِنَّ تربيةَ الطفلِ بلبنِ الأُمِّ أَصْلَحُ له من سائِرِ الأَلبان، ومن حيثُ إِنَّ شفقةَ الأُم أَتَمُّ مِنْ شفقةِ غيرها.

فصل

قال القُرطبي: اختلف الناسُ في الرضاع: هَلْ هو حَقٌّ عليها أو هو حق عليه؟ واللفظُ محتملٌ؛ لأنه لو أراد التَّصريح بوجوبه لقال: وعلى الوَالِدَاتِ رضاعُ أَولادهُنَّ؛ كما قال: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ولكن هو حقٌّ عليها في حَقّ الزَّوجيَّة؛ لأنه يلزمُ في العُرْفِ إذْ قد صار كالشَّرط، إلَاّ أنْ تكونَ شريفةً ذات ترفُّهٍ، فعُرفها ألَاّ تُرْضِعَ وذلك كالشرط؛ ويجب عليها إن لم يقبل غيرها، وهو عليها إذا كان الأبُ مُعدماً؛

ص: 169

لاختصاصها به، فإِن ماتَ الأَبُ ولا مال لِلصَّبِيِّ، فذهب مالكٌ في «المُدَوَّنَةِ» غلى أَنَّ الرضاعَ لازمٌ للأُمِّ بخلاف النَّفقةِ، وفي كتاب «ابن الجلاب» : رضاعه في بيتِ المالِ، فأَمَّا المطلَّقةِ طلاقاً بائِناً، فلا رضاع عليها، والرَّضَاعُ على الزَّوج إلَاّ أَنْ تشاء الأُمُّ، فهي أَحَقُّ بأجرةِ المثل، إذا كان الزوجُ مُوسِراً، فإِن كان معدماً، لم يلزمها الرضاعُ إلَاّ أَنْ يكون المولود لا يقبلُ غيرها فتجبر على الرَّضاع وكل من لزمها الإرضاعُ، فأَصابها عُذْرٌ يمنعها منه، عاد الإِرضاع على الأَبِ، وعن مالكٍ: أَنَّ الأَبَ إذا كان مُعدماً، ولا مال للصبي أَنَّ الرضاعَ على الأم لَمْ يكن لها لبنٌ؛ ولها مالٌ، فَإِنَّ الإِرضاع عليها في مالها. وقال الشَّافعيُّ: لا يلزم الرضاعُ إلَاّ والداً أو جَدّاً وإن عَلَا.

فصل في تحديد الحولين

اختلف العلماءُ في تحديد الحولينِ فقال بعضهم: هو حَدٌّ لبعضِ المولُودين.

روى عكرمة عن ابن عبَّاس: أَنَّها إذا وضعت لستَّةِ أشهرٍ، فإِنَّها تُرْضِعه حولين كاملين، وإن وضعتْ لسبعةِ أشهُر، ترضعُه ثلاثةً وعشرينَ شهراً، وإنْ وضعت لتسعةِ أشهر، تُرضِعه إحدى وعشرين شهراً؛ كل ذلك تمامُ ثلاثين شهراً؛ لقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] .

وقال آخرون: هو حَدٌّ لكُلِّ مولُودٍ، لا يُنقصُ رضاعُهُ عن حولين، إلَاّ باتِّفاق الأَبوين فأَيُّهما أراد الفِطَامَ قبل تمام الحولينِ، ليس له ذلك إلَاّ أَنْ يجتمعا عليه؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} وهذا قولُ ابن جريجٍ، والثوري، ورواية الوالبي، عن ابن عباس.

وقيل: المرادُ من الآية: بيانُ الرضاع الذي يثبتُ به الحرمةُ، أن يكون في الحولينِ، ولا يحرم ما يكون بعدَ الحولين.

قال قتادة: فرض اللهُ على الوالداتِ إِرضاعُ حولينِ كاملين ثم أنزل التخفيف؛ فقال {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} ، أي: هذا منتهى الرضاع، ليس فيما دُونَ ذلك حَدٌّ محدودٌ، إِنَّمَا هو على قَدْرِ صلاحِ الصَّبي، وما يعيشُ به، وهذا قولُ عليّ، وابن مسعود، وابن عباسٍ، وابن عمر، وعلقَمة، والشَّعبيِّ، والزهريّ رضي الله عنهم.

وقال أبو حنيفة: مدةُ الرَّضاعِ ثلاثُون شهراً، واحتج الأَولون بقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ

ص: 170

فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] وقال عليه السلام والصلاة - «لا رضاع بعد فصال»

وروى ابن عباس قال: قال عليه الصلاة والسلام ُ - «لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَاّ مَا كَانَ فِي الحَوْلَيْنِ» .

فصل

رُوِيَ أَنَّ رجلاً جاء إلى علي رضي الله عنه فقال: تزوجتُ جاريةً بكراً، وما رأيتُ بها ريبةٌ، ثم وَلَدت لستَّةِ أشهرٍ، فقال عليٌّ رضي الله عنه قال الله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وقال تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فالحملُ ستَّةُ أشهرٍ؛ الولدُ ولدكَ.

وعن عُمَر رضي الله عنه أنه جِيء بامرأةٍ، وضعت لستةِ أشهر، فشاور في رجمِها، فقال ابنُ عباسٍ: إِنْ خاصَمْتكُم بكتابِ اللهِ - تعالى - خَصَمْتُكُمْ، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أَنَّ أَقَلَّ الحملِ ستةُ أشهرٍ، قال: فكأنما أَيْقَظَهُمْ.

قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ:

أحدها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليل، و «مَنْ» وَاقِعَةٌ على الآباء، أي: الوالداتُ يُرْضِعْنَ لأجْلِ مَنْ أَرَادَ إِتْمام الرَّضاعةِ مِنَ الآباءِ، وهذا نظيرُ قولك:«أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه» .

والثانيك أنها للتَّبيين؛ فتتعلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللامِ في قوله تعالى:{هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]، وفي قولهم:«سُقْياً لك» . فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّت به، وذلك أَنَّه لمّا ذكر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولَادَهُنَّ حولين كاملين، بيَّنَ أنَّ ذلك الحُكم إنما هو لمَنْ أرادَ أن يتُمَّ الرَّضاعة؛ و «مَنْ» تحتمِلُ حينئذٍ أَنْ يُرادَ بها الوَالِدَاتُ فقط، أَوْ هُنَّ والوالدون معاً، كلُّ ذلك محتملٌ.

والثالث: أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ، فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقديرُ: ذلك الحُكمُ لِمَن أرادَ. و «مَنْ» على هذا تكون للوالداتِ والوالدَيْنِ معاً.

قوله: {أَن يُتِمَّ الرضاعة} «أَنْ» وما في حَيَِّزها في محلِّ نصبٍ؛ مفعولاً بأراد، أي:

ص: 171

لِمَنْ أَرادَ إِتْمَامَها. والجمهورُ على «يُتمَّ الرَّضَاعَةَ» بالياء المضمومة من «أَتَمَّ» وإِعْمَالُ أنْ الناصبَة، ونصبِ «الرَّضَاعةَ» مفعولاً به، وفتح رائها.

وقرأ مجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ محيصن، وأَبُو رجاء:«تَتِمَّ» بفتح التاءِ من تَمَّ، و «الرضَاعَةُ» بالرفعِ فاعلاً، وقرأ أبو حيوة، وابنُ أَبِي عبلة كذلك، إلا أنهما كَسَرا راءَ «الرَّضَاعَة» ، وهي لغةٌ كالحَضارةِ، والحِضارة، والبَصْرِيُّونَ يقولون: فتحُ الرَّاءِ مع هاءِ التأنيث، وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكُوفيُّون يزعمُونَ العكسَ. وقرأ مجاهدٌ - ويُرْوى عن ابن عبَّاسٍ -:«أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» برفعِ «يُتِمُّ» وفيها قولان:

أحدهما: قولُ البصريِّين: أنها «أَنْ» الناصبةُ، أُهْمِلت؛ حَمْلاً عَلَى «مَا» أُخْتِها؛ لاشتراكِهمَا في المَصْدرية، وأَنشدوا على ذلك قوله:[مجزوء الكامل]

1123 -

إِنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ

قَةُ إِنْ أَمِنْتِ مِنَ الرَّزَاحِ

أَنْ تَهْبِطِينَ بِلَادَ قَوْ

مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلَاحِ

وقول الآخر: [البسيط]

1124 -

يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نُفُوسَكُمَا

وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لَقِّيتُمَا رَشَدَا

أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا

مِنِّي السَّلَامَ وَأَلَاّ تُشْعِرَا أَحَدَا

فَأَهْمَلَها، ولذلك ثَبَتَ نونُ الرفع، وأَبَوْا أَنْ يَجعلُوها المخفَّفة مِنَ الثقيلةِ لوجهين:

أحدهما: أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملة الفعلية بعدها.

والثاني: أَنَّ ما قبلها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ.

القول الثاني: وهو قول الكوفيِّين أنها المخفَّفة من الثَّقيلة، وشذَّ وقوعها موقع الناصبة، كما شذَّ وقوع «أنْ» الناصبة موقعها في قوله:[البسيط]

1125 -

...

...

. قَدْ عَلِمُوا

أَلَاّ يَدَانِيَنَا فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ

ص: 172

وقرأ مجاهدٌ: «الرَّضْعَة» بوزن القصعة.

وعن ابن عباس أنّه قرأ أن يكمل الرضاعة.

فصل

قال القرطبيُّ: قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} يدل على أنَّ إرضاع الحولين ليس حتماً؛ لأنه يجوز الفطام قبل الحولين ولكنه تحديد لقطع التَّنازع بين الزَّوجين في مدَّة الرضاع، ولا يجب على الأب إعطاء الأجرة، لأكثر من حولين، وإن أراد الأب الفطام قبل هذه المدة، ولم ترض الأمُّ، لم يكن له ذلك.

والرَّضْعُ: مصُّ الثدي، ويقال للَّئيم: راضعٌ، وذلك أنه يخاف أن يحلب الشاة؛ فيسمع منه الحلب؛ فيطلب منه اللبن، فيرتضع ثدي الشاة بفمه.

قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قوله:«رِزْقُهُنَّ» ، و «أَلْ» في المولود موصولةٌ، و «لَهُ» قَائِمٌ مقام الفاعل للمولود، وهو عائد الموصول، تقديره: وعلى الذي ولد له رزقهنَّ، فحذف الفاعل، وهو الوالدات، والمفعول، وهو الأولاد، وأقيم هذا الجارُّ والمجرور مقام الفاعل.

وذكر بعض النَّاس أنه لا خلاف في إقامة الجارِّ والمجرور مقام الفاعل، إلَاّ السُّهيليَّ، فإنَّه منع من ذلك؛ وليس كما ذكر هذا القائل، فإنَّ البصريِّين أجازوا هذه المسألة مطلقاً، والكوفيُّون قالوا: إن كان حرف الجرِّ زائداً جاز نحو: ما ضربَ من أحدٍ، وإن كان غير زائدٍ، لم يجز، ولا يجوز عندهم أن يكون الاسم المجرور في موضع رفعٍ باتفاقٍ بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاق في القائم مقام الفاعل.

فذهب الفرَّاء: إلى أنَّ حرف الجرِّ وحده في موضع رفعٍ، كما أنَّ «يَقُومُ» من «زَيْدٌ يَقُومُ» في موضع رفع.

وذهب الكسائيُّ، وهشام: إلى أنَّ مفعول الفعل ضميرٌ مستترٌ فيه، وهو ضميرٌ مبهمٌ من حيث أن يراد به ما يدلُّ عليه الفعل من مصدرٍ، وزمانٍ، ومكانٍ، ولم يدلَّ دليلٌ على أحدها.

وذهب بعضهم إلى أنَّ القائم مقام الفاعل ضمير المصدر، فإذا قلت:«سِيرَ بزيدٍ» فالتقدير: سِير هو، أي: السَّيْرُ؛ لأنَّ دلالة الفعل على مصدره قويةٌ، ووافقهم في هذا بعض البصريين.

قوله

: {بالمعروف

} يجوز أن يتعلَّق بكلِّ من قوله: «رزقُهنَّ» و «كِسْوَتُهنَّ» على أنَّ

ص: 173

المسألة من باب الإعمالن وهو على إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأُضمر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروف. هذا إن أُريد بالرزق والكسوة، المصدران، وقد تقدَّم أنَّ الرزق يكون مصدراً، وإن كان ابن الطَّراوة قد رَّد على الفارسيّ ذلك؛ في قوله:{مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً} [النحل: 73] كما سيأتي تحقيقه في النَّحل، إن شاء الله تعالى. وإن أُريد بهما اسم المرزوق، والمكسوِّ كالطِّحن، والرِّعي، فلا بدَّ من حذف مضافٍ، تقديره: اتِّصال، أو دفع، أو ما أشبه ذلك، ممَّا يصحُّ به المعنى، ويكون «بالمعروف» متعلِّقاً بمحذوفٍ، على أنه حالٌ منهما. وجعل أبو البقاء العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه «على» .

والجمهور على «كِسْوَتهنَّ» بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمِّها، وهما لغتان في المصدر، واسم المكسوِّ وفعلها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولي «أَعْطَى» في جواز حذفهما، أو حذف أحدهما؛ اختصاراً أو اقتصاراً، قيل: وقد يتعدَّى إلى واحدٍ؛ وأنشدوا: [المتقارب]

1126 -

وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةٌ

كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ

ضمَّنه معنى غطَّى، وفيه نظرٌ؛ لاحتمال أنَّه حذف أحد المفعولين؛ للدلالة عليه، أي: كَسَا وجهها غبار أو نحوه.

فصل

و {المولود لَهُ} هو الوالد، وإنَّما عبَّر عنه بهذا الاسم لوجوه:

أحدها: قال الزَّمخشريُّ: والسَّبب فيه أن يعلم أنَّ الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمَّهات؛ وأنشدوا للمأمون: [البسيط]

1127 -

وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ

مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أَبْنَاءُ

وثانيها: أنّه تنبيهٌ على أَنَّ الولد إنما يلتحق بالوالد؛ لكونه مولوداً على فراشه، على ما قاله عليه الصلاة والسلام:«الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فكأنّه قال: إذا ولدت المرأة الولد

ص: 174

لأجل الرَّجل وعلى فراشه، وجب عليه رعاية مصالحه، [فنبه على أنَّ سبب النَّسب، والالتحاق محدودٌ بهذا القدر.

وثالثها: ذكر الوالد بلفظ «المَوْلُودِ [لَهُ] » تنبيهاً على أنَّ نفقته عائدةٌ إليه، فيلزمه رعاية مصالحه] كما قيل: كلُّه لك، وكلُّه عليك.

فإن قيل: فما الحكمة في قول موسى عليه الصلاة والسلام لأخيه: {قَالَ ياابنأم} [طه: 94] ولم يذكر أباه.

فالجواب: أنّه أراد بذكر الأم [أنْ] يذكر الشفقة فإنَّ شفقة الأمِّ أعظم من شفقة الأب.

فصل

اعلم أنَّ الله تعالى كما وصَّى الأمَّ برعاية جانب الطِّفل، في قوله:{والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} - وصَّى برعاية جانب الأمِّ، حتَّى تقوى على رعاية مصلحة الطفل، فأمره برزقها، وكسوتها بالمعروف، وهذا المعروف قد يكون محدوداً بشرطٍ وعقدٍ، وقد يكون غير محدودٍ إلَاّ من جهة العرف لأنّه إذا قام بما يكفيها من طعام وكسوتها، فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن لم يقم بما يكفيها من ذلكن تضرَّرت وضررها يتعدى إلى الود، ولمّا وصَّى الأمَّ برعاية الطفل أوّلاً ثم وصَّى الأب برعايته ثانياً، دلَّ على أنَّ احتياج الطفل إلى رعاية الأمِّ أشدُّ من احتياجه إلى رعاية الأب؛ لأنَّه ليس بين الطفل وبين رعاية الأمّ واسطةٌ أَلْبَتَّةَ؛ ورعاية الأب إنَّما تصل إلى الطفل بواسطة، فإنّه يستأجر المرأة على رضاعته، وحضانته بالنفقة، والكسوة، وذلك يدلُّ على أنَّ حقَّ الأمِّ أكثر من حقِّ الأب، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرةٌ مشهورةٌ.

قوله: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} الجمهور على «تُكَلَّفُ» مبنياً للمفعول، «نفسٌ» قائم مقام الفاعل، وهو الله تعالى، {وُسْعَهَا} مفعول ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ؛ لأنَّ «كَلَّفَ» يتعدَّى لاثنين. قال أبو البقاء:«ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا، لم يَجُزْ؛ لأنه ليس ببدَلٍ» .

وقرأ أبو جراء: «لَا تَكَلَّفُ نَفْسٌ» بفتح التَّاء، والأصل:«تَتَكَلَّفُ» فحذفت إحدى التاءين؛ تخفيفاً: إمَّا الأولى، أو الثانية على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكون «نَفْسٌ» فاعلاً، و «وُسْعَها» مفعولٌ به، استثناء مفرَّغاً أيضاً. وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً:«لا يُكَلِّفُ نَفْساً» بإسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى، فتكون «نَفْساً» و «وُسْعَها» مفعولين.

ص: 175

والتكليفُ: الإلزام، وأصله من الكلف، وهو الأثر من السَّواد في الوجه؛ قال:[البسيط]

1128 -

يَهْدِي بِهَا أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ

مِنَ الْجِمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ

فمعنى «تَكَلَّفَ الأَمْرَ» ، أي: اجتهد في إظهار أثره.

وفلانٌ كَلِفٌ بكذا: أي مُغْرًى به.

و «الوُسْعُ» هنا ما يسع الإنسان فيطيق أخذه من سعة الملك أي الغرض، ولو ضاق لعجز عنه، فالسَّعة بمنزلة القدرة، ولهذا قيل: الوسع فوق الطَّاقة، والمراد منه: أنَّ أبا الصّبي لا يتكلّف الإنفاق عليه، وعلى أُمِّه، إلَاّ ما تتسع له قدرته، لأنَّ الوسع ما تتَّسع له القدرة، ولا يبلغ استغراق القدرة؛ وهو نظير قوله تعالى:{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ مَآ آتَاهَا} [الطلاق: 7] .

فصل في احتجاج المعتزلة بالآية

تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّ الله - تعالى - لا يكلّف العبد ما لا يقدر عليه.

وقوله: {لَا تُضَآرَّ} ابن كثير، وأبو عمرو:«لا تُضَارُّ» برفع الراء مشددةً، وتوجيهها واضح، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يدخل عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فرفع، وهذه القراءة مناسبةٌ لما قبلها، من حيث إنه عطف جملة خبريّةٌ على خبرية مثلها من حيث اللفظ وإلَاّ فالأولى خبريةٌ لفظاً ومعنًى، وهذه خبريةٌ لفظاً نهييَّةٌ معنًى ويدل عليه قراءة الباقين كما سيأتي.

قال الكسائيُّ والفراء: هو نسقٌ على قوله: «لَا يُكَلِّفُ» .

قال عليبن عيسى: هذا غلطٌ؛ لأنَّ النَّسق ب «لا» إنَّما هو إخراج على إخراج الثَّاني مما دخل فيه الأوَّل نحو: «ضربتُ زيداً لا عمراً» فأمّا أن يقال: يقوم زيدٌ لا يقعد عمرو، فهو غير جائزٍ على النِّسق، بل الصواب أنَّه مرفوعٌ على الاستئناف في النَّهي كما يقال: لا تضرب زيداً لا تقتل عمراً.

وقرأ باقي السَّبعة: بفتح الراء مشدّدةً، وتوجيهها أنَّ «لا» ناهيةٌ، فهي جازمةٌ،

ص: 176

فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وقبلها راء ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان؛ فحرَّكنا الثانية لا الأولى، وإن كان الأصل الإدغام، وكانت الحركة فتحةًن وإن كان أصل التقاء الساكنين الكسر؛ لأجل الألف؛ إذ هي أُخت الفتحة، ولذلك لمَّا رخَّمت العرب «إِسْحَارّ» وهو اسم نباتٍ، قالوا:«إِسحارَ» بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حذفوا الراء الأخيرة، بقيت الراء الأولى ساكنةً، والألف قبلها ساكنةٌ؛ فالتقى ساكنان، والألف لا تقبل الحركة؛ فحرَّكوا الثاني وهو الراء، وكانت الحركة فتحةً؛ لأجل الألف قبلها ساكنة، ولم يكسروا وإن كان الأصل، لما ذكرنا من مراعاة الألف.

وقرأ الحسن بكسرها مشدَّدةً، على أصل التقاء السَّاكنين، ولم يراع الألف.

وقرأ أبو جعفرٍ بسكونها مشدَّدةً، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فسكَّن، وروي عنه وعن ابن هرمز: بسكونها مخففة، وتحتمل هذه وجهين:

أحدهما: أن يكون من «ضارَ» «يَضِيرُ» ، ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف.

والثاني: أن يكون من ضارَّ يُضَارُّ بتشديد الراء، وإنما استثقل تكرير حرف هو مكرر في نفسه؛ فحذف الثاني منهما، وجمع بين الساكنين - أعني الألف والراء - إمَّا إجراءً للوصل مجرى الوقف، وإمَّا لأنَّ الألف قائمةٌ مقام الحركة، لكونها حرف مدٍّ.

وزعم الزمخشريُّ «أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ إنما اخْتَلَسَ الضَّمة، فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ، وليس كذلك» انتهى. وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ونحوه.

ثم قراءة تسكين الرَّاء: تحتمل أن تكون من رفعٍ، فتكون كقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويحتمل أن تكون من فتح، فتكون كقراءة الباقين، والأول أولى؛ إذ التسكين من الضمة أكثر من التسكين من الفتحة؛ لخفَّتها.

وقرأ ابن عبَّاس: بكسر الراء الأولى، والفكِّ، وروي عن عمر بن الخطاب:«لا تُضَارَرْ» بفتح الرَّاء الأولى، والفكِّ؛ وهذه لغة الحجاز، أعني:[فكَّ] المثلين فيما سكن ثانيهما للجزم أو للوقف، نحو: لم نمرر، وامرُرْ، وبنو تميم يدغمون، والتنزيل جاء باللغتين نحو:{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة: 54] في المائدة، قرئ في السَّبع بالوجهين، وسيأتي بيانه واضحاً.

ثمَّ قراءة من شدَّد الراء: مضمومةً أو مفتوحةً، أو مكسورةً، أو مسكَّنةً، أو خفَّفها تحتمل أن تكون الراء الأولى مفتوحة، فيكون الفعل مبنياً للمفعول، وتكون «وَالِدَة» مفعولاً لم يسمَّ فاعله، وحذف الفاعل؛ للعلم به، ويؤيده قراءة عمر رضي الله عنه.

ص: 177

ويكون معنى الآية {لَا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه {وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أي: لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها؛ تُضَارُّهُ بذلك.

وقيل: معناه لا تضارُّ والدةٌ؛ فتكره على إرضاعه، إذا كرهت إرضاعه، وقبل الصّبيُّ من غيرها؛ لأنَّ ذلك ليس بواجبٍ عليها، ولا مولودٌ له بولده فيحتمل أن يعطي الأمَّ أكثر مما يجب لها، إذا لم يرتضع الولد من غيرها.

وأن تكون مكسورةٌ، فيكون الفعل مبنياً للفاعل، وتكون «والدة» حينئذٍ فاعلاً به، ويؤيده قراءة ابن عباسٍ.

وفي المفعول على هذا الاحتمال ثلاثة أوجه:

أحدها - وهو الظاهر - أنه محذوف تقديره: لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها، بسبب ولدها بما لا يَقْدِرُ عليه مِنْ رِزْقٍ وكُسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يُضَارِرْ مَوْلُود له زوجته بسبب ولده بما وجب لها من رزق وكسوةٍ، فالباء للسببية.

والثاني: - قاله الزمخشريُّ - أن يكون «تُضارَّ» بمعنى تضرُّ، وأن تكون الباء من صلته أي: لا تضرُّ والدةٌ بولدها، فلا تسيءُ غداءه، وتعهُّده، ولا يضرُّ الوالد به بأن ينزعه منها بدما ألفها انتهى. ويعني بقوله «الباءُ مِنْ صِلتِه» ، أي: تكون متعلقةً به، ومعدِّيةً له إلى المفعول، كهي في «ذَهَبْتُ بزيدٍ» ويكون ضارَّ بمعنى أضرَّ، فاعل بمعنى أفعل، ومثله: ضاعفتُ الحسابَ وأضعفته، وباعدته وأبعدته، فعلى هذا، نفس المجرور بهذه الباء، هو المفعول به في المعنى، والباء على هذا للتَّعدية، كما نظَّرنا بِ «ذَهَبْتُ بزيدٍ» ، فإنه بمعنى أذهبته.

والثالث: أنَّ الباء مزيدةٌ، وأنَّ «ضَارَّ» بمعنى ضرَّ، فيكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَل» المجرّد، والتقدير: لا تضرُّ والدةٌ ولدها بسوء غذائه وعدم تعهُّده، ولا يضرُّ والدٌ ولده بانتزاعه من أمه بعدما ألفها، ونحو ذلك. وقد جاء «فاعل» بمعنى فعل المجرَّد نحو: واعدته، ووعدته، وجاوزته وجزته، إلَاّ أنَّ الكثير في فاعل الدَّلالة على المشاركة بين مرفوعه ومنصوبه، ولذلك كان مرفوعه منصوباً في التَّقدير، ومنصوبه مرفوعاً في التقدير، فمن ثمَّ كان التوجيه الأول أرجح من توجيه الزمخشريُّ، وما بعده، وتوجيه الزمخشريِّ أوجه ممَّا بعده.

فإن قيل: لم قال «تُضَارّ» والفعل واحد؟

قلنا: معناه لا يضار الأمُّ والأب بألَاّ ترضع الأم، أو يمنعها الأب وينزعه منها، أو يكون معناه أنّ كلَّ واحدٍ يقصد بإضرار الولد إضرار الآخر؛ فيكون في الحقيقة مضارَّة.

ص: 178

فصل في أحكام الحضانة

قال القرطبي: في هذه الآية دليلٌ لمالك على أنَّ الحضانة للأم، وهي في الغلام إلى البلوغ، وفي الجارية إلى النِّكاح، وذلك حقٌّ لها.

وقال الشَّافعيُّ: إذ بلغ الولد ثماني سنين، وهو سنُّ التَّمييز، خيَّر بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرّك همّته لتعلُّم القرآن، والأدب، والعبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية.

وروى أبو هريرة: «أنَّ امرأَةً جاءت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم َ فقالت له: إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يذْهَبَ بابني، وقد سَقَانِي من بئرِ أبي عنبة وقد نفعني، فقال النَّبيُّ لله صلى الله عليه وسلم َ:» اسْتَهِما عليه «فقال زوجها: من يحاقُّني في ولدي؟ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم َ:» هذا أبُوكَ، وهذه أُمُّكَ، فَخُذْ بِيد أيِّهمَا شِئْتَ «فأخذ بيد أُمه فانطلقت به» .

ودليلنا ما روى أبو داود، عن عبد الله بن عمرو: أَنَّ امرأةً قَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابني هذا كَانَتْ بَطْنِي له وِعَاء، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاء، وحِجْرِي لَهُ حِوَاء، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«أَنْتِ أَحَقُّ به ما لم تُنْكَحِي» .

فصل من أحق بالحضانة إذا تزوجت الأم؟

قال ابن المنذر: أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ألَاّ حقَّ للأمّ في الولد إذا تزوَّجت.

وقال مالك، والشَّافعيُّ، والنُّعمان، وأبو ثور: إنَّ الجدَّة أُمَّ الأُمِّ أحقُّ بحضانة الولد، واختلفوا إذا لم يكن له أُمٌّ، وكانت له جدَّةٌ أمُّ أبٍ، فقال مالكٌ: أمُّ الأب أحقُّ إذا لم يكن للصَّبي خالةٌ. وقال الشَّافعيُّ: أمُّ الأب أحقُّ من الخالة.

فصل الحضانة للقادر على حقوق الولد

ولا حضانة لفاجرةٍ، ولا لضعيفة عاجزةٍ عن القيام بحقِّ الولد.

ص: 179

وروي عن مالك: أنَّ الحضانة للأُمّ، ثم الجدَة للأمّ، ثم الخالة، ثمّ الجدة للأب، ثم أخت الصَّبيِّ، ثم عمَّته.

فصل

قال القرطبيُّ: إذا تزوّجت الأمُّ لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها في المشهور عندنا.

وقال ابن المنذر: إذا خرجت الأمُّ عن بلد ولدها، ثمَّ رجعت إليه، فهي أحقُّ بولدها: في قول الشَّافعيِّ، وأبي ثور، وأصحاب الرّأي وكذلك لو تزوَّجت ثمَّ طلِّقت، أو توفِّي عنها زوجها، رجعت إلى حقّها في الولد، فإن تركت حقَّها من الحضانة، ولم ترد أخذه، وهي فارغةٌ غير مشغولةٍ، بزوجٍ، ثم أرادت بعد ذلك أخذه كان لها ذلك.

وقال القرطبيُّ: إن كان تركها له من عذر، كان لها ذلك، وإن تركته رفضاً له، ومقتاً، لم يكن لها بعد ذلك أخذه.

فصل

فإن طلَّقها الزَّوج، وكانت الزَّوجة ذِمّيةٌ، فلا حضانة لها.

وقال أبو ثورٍ، وأصحاب الرَّأي، وابن القاسم: لا فرق بين الذِّميَّة والمسلمة. وكذلك اختلفوا في الزَّوجين؛ يفترقان أحدهما [حرٌّ] والآخر مملوكٌ.

قوله: «له» في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل.

قوله: {لَا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} فيه دلالةٌ على ما يقوله النَّحويُّون، وهو أنَّه إذا اجتمع مذكَّرٌ ومؤنَّثٌ، معطوفاً أحدهما على الآخر، كان حكم الفعل السابق عليهما للسابق منهما، تقول: قام زيدٌ وهندٌ، فلا تلحق علامة تأنيثٍ، وقامت هندٌ وزيدٌ، فتُلحق العلامة، والآية الكريمة من هذا القبيل، ولا يستثنى من ذلك إلَاّ أن يكون المؤنث مجازيّاً، فيحسن ألَاّ يراعى المؤنَّث، وإن تقدَّم؛ كقوله تعالى:

{وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] .

وفي هذه الجمل من علم البيان: الفصل، والوصل.

أما الفصل: وهو عدم العطف بين قوله: «لا تُكَلَّفُ نفسٌ» على ما قبلها؛ لأنها مع ما بعدها تفسيرٌ لقوله «بالمعروف» .

ص: 180

وأمَّا الوصل: وهو العطف بين قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ} ، وبين قوله:{وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} ؛ فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى. ومنه أيضاً إبراز الجملة الأولى مبتدأً وخبراً، وجعل الخبر فعلاً؛ لأنَّ الإرضاع مما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد؛ تنبيهاً على شفقتهنَّ، وحثاً لهنَّ على الإرضاع.

وجيء بالوالدات بلفظ العموم، وإن كان جمع قلَّة؛ لأنَّ جمع القلَّة متى حلِّي بأل، عمَّ، وكذلك «أَوْلَادَهُنَّ» عامٌّ؛ لإضافته إلى ضمير العامِّ، وإن كان - أيضاً - جمع قلَّةٍ.

وفيها أيضاً إبراز الجملة الثانية مبتدأً وخبراً، والخبر جارٌّ ومجرورٌ بحرف «على» الدالِّ على الاستعلاء المجازيّ في الوجوب، وقدِّم الخبر؛ اعتناءً به. وقدِّم الرزقُ على الكسوة؛ لأنه الأهمُّ في بقاء الحياة، ولتكرره كل يومٍ.

وأبرزت الثالثة فعلاً، ومرفوعه، وجعل مرفوعه نكرةً في سياق النفي؛ ليعمَّ، ويتناول ما سبق لأجله من حكم الوالدات في الإرضاع، والمولود له في الرزق، والكسوة الواجبتين عليه للوالدة.

وأبرزت الرابعة كذلك؛ لأنَّها كالإيضاح لما قبلها؛ والتفصيل بعد الإجمال؛ ولذلك لم يعطف عليها كما ذكرته لك. ولمَّا كان تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارَّةُ أحد الزوجين للآخر ممَّا يتكرَّر ويتجدَّد، أتى بهاتين الجملتين فعليتين، وأدخل عليهما حرف النَّفي وهو «لا» ؛ لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً.

وأمَّا في قراءة من جزم، فإنَّها ناهيةٌ، للاستقبال فقط، وأضاف الولد إلى الوالدة والمولود له؛ تنبيهاً على الشفقة والاستعطاف، وقدَّم ذكر عدم مضارَّة الوالدة على ذكر عدم مضارة الوالد؛ مراعاةً لما تقدَّم من الجملتين، إذ قد بدأ بحكم الوالدات وثنَّى بحكم الوالد.

قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر، قدَّم الخبر؛ اهتماماً، ولا يخفى ما فيها، وهي معطوفة على قوله:{وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتَّفسير لقوله: «بِالْمَعْرُوفِ» كما تقدَّم التنبيه عليه.

والألف واللَاّم في «الوَارِثِ» بدلٌ من الضَّمير عند من يرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضَّمير هل يعود على المولود له، وهو الأب، فكأنه قيل: وعلى وارثه، أي: وارث المولود له، أو يعود على الولد نفسه، أي: وارث الولد؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث.

وقرأ يحيى بن يعمر: «الوَرَثَةِ» بلفظ الجمع، والمشار إليه بقوله:«مثلُ ذلك» إلى

ص: 181

الواجب من الرزق والكسوة، وهذا أحسن من قول من يقول: أشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحد للاثنين؛ كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وإنما كان أحسن؛ لأنه لا يحوج إلى تأويلٍ، وقيل: المشار إليه هو عدم المضارَّة، قاله الشعبيُّ، والزهري، والضحاك، وقيل: منهما وهو قول الجمهور.

وقيل: أجرة المثل.

فصل في المراد ب «الوارث»

في المراد ب «الوارث» أربعة أقوالٍ:

أحدها: قال ابن عباس: المراد وارث الأب؛ لأنَّ قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} معطوفٌ على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} وما بينهما اعتراضٌ لبيان المعروف، والمعنى أنَّ المولود له إن مات، فعلى وارثه مثل ما وجب عليه، أي: يقوم وارثه مقامه في رزقها وكسوتها بالمعروف وتجنُّب الإضرار.

قال أبو مسلم الأصبهانيُّ: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ الولد أيضاً يرثه فيؤدِّي ذلك إلى وجوب نفقته على غيره حال ما له مال ينفق منه، وهذا غير جائزٍ.

قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب بأنَّ الصبيَّ إذا ورث من أبيه مالاً، فإنَّه يحتاج إلى من يقوم بتعهُّده والنَّفقة عليه بالمعروف، ويدفع الضَّرر عنه، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب.

القول الثاني: أنَّ المراد وارث الصبيِّ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب، هذا قول الحسن، وقتادة، وأبي مسلم، والقاضي، ثم اختلفوا في أنه أيُّ وارثٍ هو؟ فقيل: العصبات من الرِّجال، وهو قول عمر بن الخطَّاب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسفيان، وإبراهيم.

وقيل: هو وارث الصبيِّ من الرِّجال والنساء على قدر مواريثهم منه، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى، ومذهب أحمد وإسحاق.

وقيل: المراد من كان ذا رحمٍ محرمٍ دون غيرهم؛ كابن العمِّ والمولى، وهو قول أبي حنيفة.

وظاهر الآية يقتضي أَلَاّ فرق بين وارثٍ ووارثٍ، ولولا أن الأمَّ خرجت من حيث إنَّه أوجب الحقَّ لها، لصحَّ دخولها تحت الكلام؛ لأنَّها قد تكون وارثةً للصبيِّ كغيرها.

ص: 182

القول الثالث: المراد من الوارث الباقي من الأبوين، كا جاء في الدعاء:«واجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا» أي: الباقي، وهو قول سفيان وجماعة.

القول الرابع: المراد الصبيُّ نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفَّى، فإن كان له مالٌ، وجب أجرة رضاعه في ماله، وإن لم يكن له مال، فعلى الأمِّ، ولا يجبر على نفقة الصبيِّ إلَاّ الوالدان، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ.

قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} .

في الفصال قولان:

أحدهما: أنَّه الفطام؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وإنَّما سمي الفطام بالفصال؛ لأنَّ الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمِّه إلى غيره من الأقوات.

والثاني: قال أبو مسلم: ويحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأمِّ، إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك، ولم يرجع بسبب ذلك ضررٌ إلى الولد.

قال المبرِّد: والفصال، يقال: فصل الولد عن الأمِّ فصلاً وفصالاً، والفصال أحسن؛ لأنَّه إذا انفصل عن أمِّه، فقد انفصلت منه، فبينهما فصالٌ، نحو القتال والضِّراب، وسمِّي الفصيل فصيلاً؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمِّه؛ ويقال: فصل من البلد، إذا خرج عنها وفارقها؛ قال تعالى:{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} [البقرة: 249] ، وحمل الفصال على الفطام هو قول أكثر المفسرين.

اعلم أنَّه لمَّا بيَّن تمام مدَّة الرضاع بقوله: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وجب حمل هذه الآية على غير ذلك، حتى لا يلزم التَّكرار، واختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: إنَّها تدلُّ على جواز الفطام قبل الحولين وبعدهما، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس.

قوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ} فيه وجهان:

أظهرهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ إذ هو صفةٌ ل «فِصَالاً» فهو في محلِّ نصبٍ، أي: فصالاً كائناً عن تَرَاضٍ، وقدَّره الزمخشريُّ: صادراً عن تَرَاضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونه كوناً مقيَّداً.

ص: 183

والثاني: أنه متعلقٌ ب «أَرَادَا» ، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلَاّ بتكلّف. والفصال، والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريقٌ بين الصبيِّ والثَّدي، ومنه سمِّي الفصيل؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمه.

و «عَنْ» للمجاوزة مجازاً؛ لأنَّ التَّراضي معنًى، لا عينٌ.

و «تَرَاضٍ» مصدر تفاعل، فعينه مضمومةٌ، وأصله: تفاعلٌ تراضوٌ، ففعل فيه ما فعل ب «أدْلٍ» جمع دلوٍ، من قلب الوالو ياءً، والضمة قلبها كسرةً، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واوٌ قبلها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفاً.

قوله تعالى: {مِّنْهُمَا} في محلِّ جرٍّ صفةً ل «تَرَاضٍ» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: تَرَاضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما، و «مِنْ» لابتداء الغاية.

وقوله: {وَتَشَاوُرٍ} [حذفت «مِنْهُمَا» لدلالة ما قبلها عليها، والتقدير: وتشاور منهما] ، ويحتمل أن يكون التَّشاور من أحدهما، مع غير الآخر؛ لتتفق الآراء منهما، ومن غيرهما على المصلحة.

قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} الفاء جواب الشَّرط، وقد تقدَّم نظير هذه الجملة، ولا بُدَّ قبل هذا الجواب من جملةٍ قد حذفت؛ ليصحَّ المعنى بذلك، تقديره: ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه، فلا جناح عليهما في الفصال، أو في الفصل.

فصل في التشاور

التشاور في اللُّغة: استخراج الرَّأْي، وكذلك المشورة كالمعونة، وشرت العسل، إذا استخرجته.

وقال أبو زيدٍ: شُرت الدَّابَّةَ، وشَوَّرْتُهَا، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابُّ، يقال له: الشّوار، والشَّوار بالفتح متاع البيت؛ لأنَّه يظهر للنَّاظر، ويقال: شوَّرته فتشوَّر، أي: خجلته، والشَّارة: هيئة الرَّجل؛ لأنَّه ما يظهر من زينته ويبدو منها، والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنُّطق وغيره.

فصل في مدة الفطام

دلَّت الآية على أن الفطام في أقلَّ من حولين لا يجوز إلَاّ عند رضا الوالدين، وعند المشاورة مع أرباب التَّجارب، وذلك لأنَّ الأمَّ قد تملُّ من الرَّضاع فتحاول الفطام؛ والأب أيضاً قد يملُّ من عطاء الأجرة على الإِرْضَاع، فيحاول الفِطَام؛ دَفْعاً لذلك، لكنهما قلَّما يتوافقان على الإضرار بالولد؛ لغرض النَّفس، ثم بتقدير توافقهما: اعتبر

ص: 184

المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد حصول موافقة الكلِّ على ما يكون فيه ضرر الولد، فعند اتِّفاق الكلِّ على أنَّ الفطام قبل الحولين لا يضرُّ الولد ألبتَّة يجوز الفطام.

فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير، كم شرط في جواز فطامه من الشروط؛ دفعاً للمضارِّ عنه، ثم عند اجتماع هذه الشَّرائط لم يصرِّح بالإذن، بل قال:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} .

قوله: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلَادَكُمْ} .

«أن» وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، مفعولاً ب «أَرَاد» وفي «اسْتَرْضَعَ» قولان للنَّحويين:

أحدهما: أنه يتعدَّى لاثنين، ثانيهما بحرف الجرِّ، والتقدير: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم، فحذف المفعول الأوَّل وحرف الجر من الثاني، فهو نظير «أَمَرْتُ الخَيْرَ» ، ذكرت المأمور به، ولم تذكر المأمور؛ لأنَّ الثاني منهما غير الأوَّل، وكلُّ مفعولين كانا كذلك، فأنت فيهما بالخيار بين ذكرهما وحذفهما، وذكر الأوَّل، دون الثاني والعكس.

قال الواحديُّ: «أن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ» ، أي: لأَوْلَادِكُمْ وحذف اللام، اجتزاءً بدلالة الاسترضاع؛ لأنَّه لا يكون إلَاّ للأولاد، ولا يجوز:«دَعَوْتُ زَيْداً» وأنت تريد لزيد؛ لأنَّه لا يلتبس ها هنا خلاف ما قلنا في الاسترضاع، ونظير حذف «اللَاّم» قوله تعالى:{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] أي: كالو لهم، أو وزنوا لهم.

والثاني: أنه متعدٍّ إليهما بنفسه، ولكنه حذف المفعول الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ، ونظَّر الآية الكريمة بقولك:«أَنَجَحَ الحَاجَةَ» «وَاسْتَنْجَحَتْهُ الحَاجَةُ» وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ؛ لأنَّ الأصل «رَضِعَ الوَلَدُ» ، ثم تقول:«أَرْضَعَت المَرْأَةُ الوَلَدَ» ، ثم تقول:«اسْتَرْضَعْتُهَا الوَلَدَ» ؛ هكذا قال أبو حيَّان.

قال شهاب الدين: وفيه نظر؛ لأنَّ قوله «رضِعَ الوَلَدُ» يشعر أنَّ هذا لازمٌ، ثم عدَّيته بهمزة النقل، ثم عدَّيته ثانياً بسين الاستفعال، وليس كذلك، لأنَّ «رَضِعَ الوَلَدُ» متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعوله غير مذكورٍ، وتقديره: رَضِعَ الوَلَدُ أُمَّهُ؛ لأنَّ المادَّة تقتضي مفعولاً به؛ كضرب، وأيضاً فالتعدية بالسين قول مرغوبٌ عنه، والسين للطلب على بابها؛ نحو: اسْتَسْقَيْتُ زَيْداً مَاءً، واسْتَطْعَمْتُهُ خُبْزاً؛ فكما أنَّ ماءً وخبزاً منصوبان، لا على إسقاط الخافض كذلك «أَوْلَادَكُمْ» ، وقد جاء [استفعل] للطَّلب، وهو معدًّى إلى الثاني بحرف جرٍّ، وإن كان «أَفْعَلَ» الذي هو أصله متعدِّياً لاثنين، نحو:«أَفْهَمَنِي زَيْد المَسْأَلَةَ» واستفهمته عنها، ويجوز حذف «عَنْ» ، فلم يجيء مجيءَ «اسْتَسْقَيْتُ» و «اسْتَطْعَمْتُ» من كون ثانيهما منصوباً، لا على إسقاط الخافض.

ص: 185

وفي هذا الكلام التفاتٌ وتلوينٌ، أمَّا الالتفات: فإنه خروجٌ من ضمير الغيبة في قوله: «فَإِنْ أَرَادُوا» إلى الخطاب في قوله: «وَإِنْ أَرَدتُّمْ» ؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات، وأمَّا التلوين في الضمائر، فإنَّ الأول ضمير تثنيةٍ، وهذا ضمير جمعٍ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضاً؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولُودِ له، ولكنه غَلَّبَ المُذَكَّرَ، وهو المولودُ له، وإنْ كان مفرداً لفظاً، و «فَلَا جُنَاحَ» جوابُ الشرطِ.

قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} «إِذَا» شرطٌ حذف جوابه؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، قال أبو البقاء: وذلك المعنى هو العاملُ في «إذا» وهو متعلِّق بما تعلَّق به «عَلَيْكُم» ، وهذا خطأٌ في الظاهر؛ لأنه جعل العامل فيها أولاً ذلك المعنى المدلول عليه بالشَّرط الأوَّل وجوابه، فقوله ثانياً «وهو متعلِّق بما تعلَّق به عَلَيْكُم» تناقضٌ، اللهم إلا أن يقال: قد يكون سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصل «أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ» فيصحُّ، إلَاّ أنه إذا كان كذلك، تمحَّضت «إِذَا» للظرفية، ولم تكن للشرط، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطيةٌ في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه.

وليس التَّسليم شرطاً للجواز والصحَّة، وإنَّما هو ندب إلى الأولى، والمقصود منه أن يسلِّم الأجرة إلى المرضعة يداً بيدٍ، حتى تطيب نفسها، ويصير ذلك سبباً لصلاح حال الطِّفل، والاحتياط في مصالحه.

وقرأ الجمهور: «آتَيْتُمْ» بالمدِّ هنا وفي الرُّوم: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً} [الروم: 39] وقصرهما ابن كثير. وروى شيبان عن عاصم «أُوتِيتُمْ» مبنيّاً للمفعول، أي: ما أقدركم الله عليه، فأمَّا قراءة الجمهور، فواضحةٌ؛ لأنَّ «آتَى» بمعنى «أَعْطَى» ، فهي تتعدَّى لاثنين، أحدهما ضمير يعود على «مَا» الموصولة، والآخر ضميرٌ يعود على المراضع، والتقدير: ما آتيتموهنَّ إيَّاه، ف «هُنَّ» هو المفعول الأوَّل؛ لأنه الفاعل في المعنى، والعائد هو الثاني؛ لأنه هو المفعول في المعنى، والكلام على حذف هذا الضمير، وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإشكال، والجواب عند قوله:{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] .

وأمَّا قراءة القصر، فمعناها جئتم وفعلتم يقال: أَتَيْتُ جميلاً، إذا فعلته؛ قال زهيرٌ:[الطويل]

1129 -

وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا

تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ

ص: 186

أي: فعلوه، والمعنى: إذا سلَّمتم ما جئتم وفعلتم.

فعلى هذه القراءة يكون التَّسليم بمعنى الطَّاعة، والانقياد، لا بمعنى تسليم الأجرة، يعني: إذا سلَّمتم لأمره وانقدتم لحكمه.

وقال أبو عليٍّ: ما أتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو عائد الموصول، فصار: آتيتموه، أي: جئتموه.

وأما قراءة عاصم، فمعناها: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قوله تعالى:{وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] .

ثم حذف عائد الموصول، وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير: ما جئتم به، فحذف، يعني: حذف على التَّدريج بأن حذف حرف الجرِّ أولاً؛ فاتَّصل الضمير منصوباً بفعلٍ، فحذف.

و «ما» فيها وجهان:

أظهرهما: أنها بمعنى «الَّذِي» وأجاز أبو عليٍّ فيها أن تكون موصولةً حرفيَّةً، ولكن ذكر ذلك مع قراءة القصر خاصَّةً، والتقدير: إذا سلَّمتم الإتيان، وحينئذٍ يستغنى عن ذلك الضَّمير المحذوف، ولا يختصّ ذلك بقراءة القصر، بل يجوز أن تكون مصدريَّةً مع المدِّ أيضاً؛ على أن المصدر واقعٌ موقع المفعول، تقديره: إذا سلَّمتم الإعطاء، أي: المعطى.

والظاهر في «مَا» أن يكون المراد بها الأُجرة التي تتعاطاها المرضع، والخطاب على هذا في قوله:«سَلَّمْتُمْ» و «آتَيْتُمْ» لآباء خاصَّة، وأجازوا أن يكون المراد بها الأولاد، قاله قتادة والزهري، وفيه نظرٌ؛ من حيث وقوعها على العقلاء؛ وعلى هذا فالخطاب في «سَلَّمْتُمْ» للآباء والأمَّهات.

قوله تعالى: {بالمعروف} فيه ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أن يتعلَّق ب «سَلَّمْتُمْ» أي: بالقول الجميل.

والثاني: أن يتعلَّق ب «آتَيْتُمْ» .

والثالث: أن يكون حالاً من فاعل «سَلَّمْتُمْ» ، أو «آتَيتُمْ» ، فالعامل فيه حينئذٍ محذوفٌ، أي: مُلْتَبِسِينَ بالمعروف.

فصل

قد تقدَّم أنَّ الأمَّ أحقُّ بالرَّضاع، فإن حصل ثمَّ مانعٌ عن ذلك، جاز العدول عنها إلى غيرها، مثل أن تتزوَّج بزوجٍ آخر، فإنَّ قيامها بحقِّ ذلك الزوج يمنعها من الرَّضاع.

ومنها: إذا طلَّقها الزوج الأوَّل، فقد تكره الرَّضاع؛ حتى يتزوَّج بها زوجٌ آخر.

ومنها: أن تأبى المرأة إرضاع الولد؛ إيذاءً للزَّوج المطلِّق وإيحاشاً له.

ص: 187

ومنها: أن تمرض، أو ينقطع لبنها.

فعند أحد هذه الوجوه، إذا وجدنا مرضعةً أخرى، وقبل الطفل لبنها، جاز العدول عن الأمِّ إلى غيرها.

فأمَّا إذا لم نجد مرضعةً أخرى أو وجدناها، لكنَّ الطفل لا يقبل لبنها، فهاهنا الإرضاع واجبٌ على الأمِّ.

ثم إنَّه تعالى ختم الآية بالتَّحذير، فقال:{واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

ص: 188

في «الَّذِينَ» أوجهٌ:

أحدها: أنَّها مبتدأٌ لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنَّ به؛ لأنَّ الحديث معهنَّ في الاعتداد، فجاء الخبر عن المقصود، إذ المعنى: من مات عنها زوجها، تربَّصت، وإليه ذهب الكسائيُّ والفراء؛ وأنشد الفراء:[الطويل]

1130 -

لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً

عَلَى ابْنِ أَبِي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا

فقال: لَعَلِّيَ «ثم قال:» أَنْ يَتَنَدَّمَ «فأخبر عن ابن أبي ذِبَّانَ، فترك المتكلم؛ إذ التقدير: لعلَّ ابن أبي ذبَّان أن يتندَّم إن مالت بي الرِّيح ميلةً. وقال آخر: [الطويل]

1131 -

بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ وَقَتْلَهُ

بِغَيْرِ دَمٍ دَارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ

فأخبر عن قتله بأنه دار مذلَّةٍ، وترك الإخبار عن ابن قيسٍ.

وتحرير مذهب الكسائيِّ والفرَّاء: أنه إذا ذكر اسمٌ، وذكر اسم مضافٌ إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول، وأخبر عن الثاني؛ نحو:» إنَّ زَيْداً وَأُخْتهُ مُنْطَلِقَةٌ «، المعنى: إن أخت زيدٍ منطلقةٌ، لكنَّ الآية الكريمة والبيت الأول ليسا من هذا الضَّرب، وإنما الذي أورده شبيهاً بهذا الضرب. قوله:[الوافر]

1132 -

فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فَإِنِّي

وَجِرْوَةَ لَا تَرُودُ وَلَا تُعَارُ

ص: 188

وأنكر المبرد والزجاج ذلك؛ قالا: لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله.

الثاني: أنَّ له خبراً اختلفوا فيه على وجوه:

أحدها: أنه» يَتَرَبَّصْنَ «، ولا بدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوع هذه الجملة خبراً عن الأول؛ لخلوِّها من الرابط، والتقدير: وأزواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ؛ ويدلُّ على هذا المحذوف قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه. والتقدير: يتربَّصن بعدهم، أو بعد موتهم، قاله الأخفش.

وثالثها: أنَّ» يَتَرَبَّصْنَ «خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقدير: أزواجهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملة خبرٌ عن الأوَّل، قاله المبرِّد.

ورابعها: أنَّ الخبر محذوفٌ بجملته قبل المبتدأ، تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفَّون، ويكون قوله» يَتَرَبَّصْنَ «جملةً مبيِّنَةً للحكم، ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإعراب، ويعزى هذا لسيبويه.

قال ابن عطيَّة: وَحَكَى المَهْدَوِيُّ عن سيبويه أنَّ المعنى:» وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم الذين يُتَوَفَّونَ «، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه؛ لأنَّ ذلك إنما يتَّجه إذا كان في الكلام لفظ أمرٍ بعد المبتدأ، نحو قوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38]{الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] وهذه الآية فيها معنى الأمر، لا لفظه، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر.

وخامسها: أن بعض الجملة قام مقام شيء مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقدير:» وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ «فحذف» أَزْوَاجُهُمْ «بجملته، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنَّ بقيد إضافتهنَّ إلى ضمير المبتدأ.

وقال القرطبيُّ: المعنى: والرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ «» وَيَذَرُونَ «- أي: يتركون -» أَزْوَاجاً «- أي: ولهم زوجاتٌ - فالزَّوجات» يَتَرَبَّصْنَ «قال معناه الزَّجَّاج واختاره النَّحاس، وحذف المبتدأ في القرآن كثيرٌ؛ قال تعالى:{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار} [الحج: 72] أي هو النَّار.

وقرأ الجمهور» يُتَوَفَّوْنَ «مبنيّاً لما لم يسمَّ فاعله، ومعناه: يموتون ويقبضون؛ قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] ، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً، فمن مات، فقد وجد عمره وافياً كاملاً.

ص: 189

وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ورواها المفضَّل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعلن ومعناه: يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ، قاله الزمخشريُّ.

ويُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازةٍ، فقال له رجلٌ: من المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: الله، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على أن أمره بوضع كتابٍ في النَّحو.

وقد تقدَّم البحث في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قرواء} [البقرة: 228] وهل» بِأَنْفُسِهِنَّ «تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ» قُرُوء «على الظرف، أو المفعوليَّة؟ وهو جارٍ ها هنا.

قوله: {مِنكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال من مرفوع» يتَوَفَّوْنَ «والعامل فيه محذوفٌ، تقديره: حال كونهم منكم، و» مِنْ «تحتمل التبعيض وبيان الجنس والأزواج ها هنا.

فصل في معنى» التربص «

و» التَّرَبُّصُ «: التأنِّي والتصبُّر عن النِّكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح بألَاّ تفارقه ليلاً، ولم يذكر الله تعالى السُّكنى للمتوفَّى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلَّقة بقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وليس في لفظ العدَّة في القرآن ما يدلُّ على الإحداد وإنما قال:» يَتَرَبَّصْنَ «فبينت السُّنَّة جميع ذلك.

ص: 190

قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} إنما قال» عَشْراً «من غير تاء تأنيثٍ في العدد والمراد عشرة أيام؛ لوجوه:

الأول: أنَّ المراد» عَشْرَ لَيَالٍ «مع أيامها، وإنما أوثرت الليالي على الأَيام في التاريخ لسبقها؛ قال الزمخشريُّ:» وقيل «عَشْراً» ذهاباً إلى الليالي، والأيام داخلةٌ فيها، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكير ذاهبين فيه إلى الأيام، تقولك «صُمْتُ عَشْراً» ، ولو ذكَّرْت خرجت من كلامهم، ومن البيِّن قوله تعالى:{إِلَاّ عَشْراً} [طه: 103]، {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ يَوْماً} [طه: 104] .

الثاني: قال المبرِّد: إنَّ حذف التاء؛ لأجل أنَّ التقدير عشر مددٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ، تقول العرب:«سِرْنَا خَمْساً» أي: بين يوم وليلة؛ قال: [الطويل]

1133 -

فَطَافَتْ ثَلَاثاً بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ

وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ وَتَجْأَرَا

والثالث: أنَّ المعدود مذكَّرٌ وهو الأيام، وإنما حذفت التاء؛ لأنَّ المعدود المذكر، إذا ذكر وجب لحاق التاء في عدده؛ قالوا «صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّام» ، وإذا حذف لفظاً، جاز في العدد الوجهان: ذكر التاء وعدمها، حكى الكسائيُّ:«صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْساً» ، ومنه الحديث:

«وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ» ، وقال الشاعر:[الطويل]

1134 -

وَإِلَاّ فَسِيرِي مِثْلَ مَا سَارَ رَاكِبٌ

تَيَمَّمَ خَمْساً لَيْسَ فِي سَيْرِهِ أَمَمْ

نصَّ النحويون على ذلك.

قال أبو حيَّان: «فَلا يُحْتَاجُ إلى تأويلها بالليالي ولا بالمدد؛ كما قدَّره الزَّمخشريُّ والمُبَرِّد على هذا» ، قال:«وإذا تقرر هذا، فجاء قوله:» وَعَشْراً «على أحد الجازئين، وإنما حسن حذف التاء هنا؛ لأنه مقطع كلام، فهو شبيهُ بالفواصل؛ كما حسَّن قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ عَشْراً} [طه: 103] كونه فاصلةً، فقوله:» ولو ذَكَّرْتَ لَخَرجْتَ من كَلَامِهِمْ «ليس كما ذكر، بل هو الأفصح، وفائدة ذكره» إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَاّ يَوْماً «بعد قوله» إِلَاّ عَشْراً «أنه على زعمه أراد الليالي، والأيام داخلةٌ معها، فقوله:» إِلَاّ يَوْماً «دليلٌ على إرادةِ الأيَّام» . قال أبو حيان: «وهذا عندنا يدلُّ على أنَّ المراد بالعشر الأيَّام؛ لأنهم اختلفوا في مدَّة اللَّبث، فقال بعضهم:» عَشْراً «وقال بعضهم:» يَوْماً «فدلَّ على أنَّ المقابل باليوم إنما هو أيام؛ إذ لا يحسن في المقابلة أن يقول بعضهم: عَشْرُ لَيَالٍ، فيقول البعضُ: يَوْمٌ» .

الرابع: أنَّ هذه الأيَّام [أيَّام حزن ومكروه، ومثل هذه الأيَّام] تسمَّى بالليالي على

ص: 191

سبيل الاستعارة؛ كقولهم: «خَرَجْنَا لَيَالِيَ الفِتْنَةِ، وجئنا لياليَ إِمَارَة الحَجَّاج» .

الخامس: أنَّ المراد بها الليالي، وإليه ذهب الأوزاعيُّ وأبو بكر الأصمُّ، وبعض الفقهاء قالوا: إذا انقضى لها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ، حلَّت للأزواج.

فصل

لما ذكر الله تعالى عدَّة الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الرَّضاع، ذكر عدَّة الوفاة أيضاً؛ لئلَاّ يتوهَّم أن عدة الوفاة مثل عدَّة الطلاق.

فصل فيمن تستثنى من هذه العدَّة

هذه العدَّة واجبةٌ على كلِّ امرأةٍ مات عنها زوجها، إلَاّ في صورتين:

الأولى: أن تكون أمَةً، فإنَّها تعتدُّ عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرَّة.

وقال أبو بكر الأصمُّ: عدتها عدَّة الحرَّة؛ لظاهر هذه الآية، ولأن الله تعالى جعل وضع الحمل في حقِّ الحامل بدلاً عن هذه المُدَّة؛ فوجب أن يشتركا فيه.

وأجاب الفقهاء بأنَّ التنصيف في هذه المدة ممكنٌ، وفي وضع الحمل غير ممكن، فظهر الفرق.

الصُّورة الثانية: أن تكون حاملاً، فعدَّتها بوضع الحمل، ولو كان بعد وفاة الزَّوج بلحظة.

وعن عليٍّ رضي الله عنه: أن تتربّصن بأبعد الأجلين.

واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] .

فإن قيل: هذه الآية إنما وردت عقيب ذر المطلَّقات؛ [فيكون للمطلَّقات] لا للمتوفَّى عنها زوجها.

فالجواب: أنَّ دلالة الاقتران ضعيفةٌ، والاعتبار إنَّما هو بعموم اللفظ.

وأيضاً: قال عبد الله بن مسعود: «أُنْزِلَتْ سورةُ النِّساء القُصْرَى بعد الطُّولى» أراد بالقصرى «سُورَة الطَّلَاقِ» ، وبالطُّولى «سُورَة البَقَرَةِ» ، وأراد به قوله تعالى في سورة الطلاق:{وَأُوْلَاتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نزلت بعد قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} فحمله على الفسخ، وعامَّة الفقهاء خصُّوا الآية بحديث سبيعة، وهو ما

ص: 192

روي في «الصَّحِيحَينِ» : أنَّ سُبَيْعَة الأسلميَّة كانت تحت سعد بن خولة، فتوفِّي عنها في حجَّة الوداع، وهي حاملٌ، فولدت بعد وفات زوجها بنصف شهرٍ، فلمَّا طهرت من دمها تجمَّلت للخطَّاب، فدخل عليها أبو السَّنابل بن بعكك، رجلٌ من بني عبد الدَّار، فقال لها: ما لي أراك متجمِّلةً، لعلَّك تريدين النِّكاح، والله ما أنت بناكح حتَّى تمرَّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ، قالت سبيعة: فسألت النَّبي صلى الله عليه وسلم َ عن ذلك، قالت: فأفتاني بأنِّي قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتَّزويج، إن بدا لي.

ولا فرق في عدَّة الوفاة بين الصَّغيرة والكبيرة، وقال ابن عبَّاس: لا عدَّة عليها قبل الدُّخول.

فصل في عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها

اختلفوا في عدَّة أمِّ الولد، إذا توفِّي عنها سيِّدها، فقال سعيد بن المسيَّب، والزُّهريُّ، والحسن البصريُّ، وجماعةٌ: عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرٌ، وبه قال الأوزاعيُّ، وإسحاق.

وروي عن عليٍّ، وابن مسعود: أن عدَّتها ثلاث حيضٍ، وهو قول عطاء وإبراهيم النَّخعيِّ وسفيان الثوريِّ وأصحاب الرَّأي.

قال مالكٌ: لا تنقضي عدَّتها في هذه المدَّة حتى ترى عادتها من الحيض في تلك المدَّة، مثل إن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ شهر فعليها حيضتان، وإن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ أربعة أشهر مرَّة، فهاهنا يكفيها الشُّهور، وهذا خلاف ظاهر الآية، فإن ارتابت، استبرأت نفسها من الرِّيبة؛ كما أنَّ ذات الأقراء، لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط.

فصل

إذا مات الزوج، وقد بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيَّامٍ، فالشَّهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلَّة، سواءٌ خرجت ناقصةً أو كاملةً، ثم تكمل الشهر الأوَّل من الخامس ثلاثين يوماً، ثم تضمُّ إليها عشرة أيَّامٍ.

وإن مات، وقد بقي من الشَّهر أقلُّ من عشرة أيامٍ، اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلَّة، وكمل العشرين من الشَّهر السادس.

ص: 193

فصل في كون الآية ناسخة

أجمع الفقهاء على أنَّ هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وإن كانت متقدِّمة في التِّلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني، فإنّه أبى نسخها، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى. والتقدُّم في التلاوة لاّ يمنع التأخُّر في النزول.

فصل في ابتداء هذه المدَّة، فقال بعضهم: ابتداؤها من حين العلم بالوفاة؛ لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} والتربص بأنفسهن لا يحصل إلَاّ بقصد التربُّص، والقصد لا يكون إلا مع العلم.

وقال الأكثرون: ابتداؤها من حيث الموت؛ لأنَّه سببها، فلو انقضت المدَّة أو أكثرها، ثم بلغها خبر الوفاة، اعتدَّت بما انقضى من المدَّة، ويدلُّ على ذلك أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدَّتها مضيُّ هذه المدة.

فصل في وجوب نفقة الحامل

قال القرطبيُّ: أجمع العلماء على أنَّ نفقة المطلَّقة إذا كانت حاملاً واجبة؛ لقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفّى عنها زوجها، فقال ابن عبّاس، وسعيد بن المسيَّب، وعطاء، والحسن، وعكرمة، ويحيى الأنصاريُّ، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق: ليس لها نفقةٌ، وحكاه أبو عبيد عن أصحاب الرأي.

وروي عن عليّ، وعبد الله: أنَّ لها النفقة من جميع المال، وبه قال ابن عمر، وشريحٌ، وابن سيرين، والشَّعبيُّ، وأبو العالية، والنَّخعيُّ، وحماد بن أبي سلمان، وأيُّوب السَّختيانيُّ وسفيان الثوريُّ، وأبو عبيدٍ.

فصل

روي عن أبي العالية وسعيد بن المسيَّب؛ أن الله تعالى حدَّ العدة بهذا القدر؛ لأنَّ الولد ينفخ فيه الرُّوح في العشر بعد الأربعة، وهو منقولٌ عن الحسن البصريِّ.

فصل

احتجَّ من قال إنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام؛ بقوله تعالى: {والذين

ص: 194

يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} قالوا: هذا خطابٌ مع المؤمنين، فاختصَّ بهم، وجوابه أنَّ المؤمنين، لمَّا كانوا هم العالمين بذلك، خصَّهم بالذِّكر؛ كقوله:{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] مع أنَّه كان منذراً للكلِّ؛ لقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] .

قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: مِن اختيار الأَزواج دون العقد، فإن العقد إلى الوَلِيِّ.

وقيل: فيما فَعَلْنَ من التَّزَيُّن للرجالِ زينةً لا يشكرها الشَّرْع.

فصل في وجوب الإحداد في عدَّة الوفاةِ

يجب عليها الإحدادُ في عدَّة الوفاة، وهو الامتناع من الزِّينة والطّ] ب، فلا يجُوز لها تدهينُ رأسها بأيِّ دُهْن كان، سواء كان فيه طِيبٌ أو [لم يكن] ، [ولها تدهِينُ جسدها بدُهن لا طيب فيه، فإن كان فيه طيبٌ، فلا يجوز] ، ولا يجُوزُ لها أن تكتحل بكُحلٍ فيه طيبٌ وفيه زينةٌ، كالكُحْل الأسود، ولا بأس بالكُحل الفارسيِّ الذي لا زينة فيه، فإن اضطرت إلى كُحل فيه زينةٌ فرخص فيه كثيرٌ من أهْل العلم منهم سالم بنُ عبد الله، وسليمان بنُ يسارٍ، وعطاءٌ والنخعيُّ، وبه قال مالكٌ وأصحاب الراي.

وقال الشَّافعيُّ: تكتحلُ به ليلاً وتمسحهُ نهاراً.

قالت أمُّ سلمة: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - حين تُوُفِّي أبو سلمة، وقد جعلت عليَّ صبراً، فقال: إنَّه يَشُبُّ الوجه، فلا تجعليه إلَاّ باللَّيل وتنزعيه بالنَّهار.

ولا يجوز لها الخضابُ، ولا لُبسُ الوشي والدِّيباج والحُليِّ، ويجوزُ لها لُبْس البيض من الثِّياب، ولُبْسُ الصوف والوبر، ولا تلبسُ الثَّوب المصبوغ؛ كالأَحمر، والأصفر، والأَخضر النَّاضر، ويجوزُ ما صُبغ لغير زينةٍ؛ كالسَّواد والكُحْليِّ.

وقال سفيان: لا تلْبَسُ المصبُوغ بحالٍ.

فصل في العدة في بيت الزوج

قال القرطبيُّ: إذا كان الزوج يملكُ رقبة المَسكن، فإنَّ للزوجة العدَّة فيه، وعليه

ص: 195

أكثرُ الفقهاءِ، وإِن كان للزَّوج السكنى دون الرَّقبة، فلها السكنى في مدَّة العدَّة؛ خلافاً لأبي حنيفة والشَّافعيِّ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام للفُريعة - وقد علم أن زوجها يملك رقبة المسكن -:«أمْكُثي في بيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ» .

وهذا إذا كان قد أدَّى الكراء، فإِن كان لم يُؤَدِ الكراء، فالذي في «المُدَوَّنَة» أنَّه لا سكْنَى لها في مالِ المَيِّت، وإن كان مُوسِراً؛ لأنَّ حقَّها إنما يتعلق بما يمكله مِنَ السُّكْنَى ملكاً تامّاً، وما لَمْ ينقد عوضه لم يملكه مِلكاً تامّاً، وإنَّما ملك العوضَ الذي بيده، ولا حقَّ في ذلك للزَّوجة إلَاّ بالميراثِ، دون السُّكْنَى؛ لأنَّ ذلك مالٌ، وليس بسكْنَى. ورُوي عن مالكٍ: أن الكِراء لازمٌ للميِّت في ماله.

فصل

ولها أن تخْرج في حوائجها نهاراً إلى بعد العتمة، ولا تبينُ إِلَاّ في منزلها، وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحلُّ لامْرَأَةٍ تؤمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِر» يدلُّ على أنَّ الكتابيَّة لا إحداد عليها، وبه قال أبو حنيفة، ورُوِيَ عن مالك أَنَّ عليها الإحداد؛ كالمسلمة، وبه قال الشافعيُّ.

فصل

والإحدادُ واجبٌ على جميع الزَّوجات الحرائِر والإِماء والصغار والكبار، وذهب أبو حنيفة أنَّه لا إحدادَ على أمة، ولا على صغيرة، وقال الحسن: الإحْدَادُ ليس بواحبٍ.

قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ:

أحدها: أن يكونَ حالاً من فاعل «فَعَلْنَ» ، أي: فَعَلْنَ مُلْتَبسَاتٍ بالمعروف ومُصَاحِباتٍ له.

والثاني: أنه مفعولٌ به، أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية.

الثالث: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ، أي: فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف، أي: كائناً، ويجيءُ فيه مذهب سيبويه: أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ، أي: فَعَلْنَهُ - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروف، وهو الوجهُ الرابعُ.

قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} متعلق ب «خَبِيرٌ» ، وَقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ، و «مَا» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى «الذي» أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ، وعلى هذين القولين، فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأَوَّل لا يُحتاجُ إليه، إلا على رأي ضعيفٍ.

ص: 196

فصل

تَمَسَّكَ أصحابُ أبي حنيفة في جواز النِّكاح بغير وليِّ بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} قالوا: وإضافةُ الفعل إلى الفاعل محمولٌ على المباشرة؛ لأنَّ هذا هو الحقيقة في اللفظ.

والجوابُ أنَّ هذا الخطابَ مع الأَولياء، أو الحُكَّام؛ كما تقدَّم، وتقدير الآية: لا جُنَاحَ على النِّسَاء وعلَيْكُم، ثم قال:{فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} أي: ما يحسُنُ عقلاً وشرعاً؛ لأَنَّ المعروف ضدُّ المنْكَر الذي لا يحْسُن، وذلك هو الحلالُ من التزويج إذا كان مستجمعاً لِشرائط الصِّحَّة، والله أعلم.

ص: 197

قال القرطبيُّ: لا جناح، أي: لا إِثْمَ والجناحُ: الإثمُ، وهو أصح في الشَّرع.

وقيل: بل هو الأَمر الشاقُّ، وهو أصحُّ في اللغة؛ قال الشَّمَّاخ:[الوافر]

1135 -

إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجاً

تَذَكَّرُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الجُنَاحِ

و «التَّعْريضُ» في اللغة: ضدُّ التصريح، ومعناه: أن يضمِّن كلامَهُ ما يصلحُ للدَّلالة على مقصُوده، ويصلُحُ للدَّلالة على غير مقصُوده، إلا أن إشعَاره بجانب المقصُود أتَمُّ وأرجحُ.

وأصلُهُ مِنْ عُرض الشيء، وهو جانبُهُ؛ كأنَّه يحوم حولَهُ؛ ولا يظهر، ونظيره أن يقول المُحتاج للمحتاج إليه: جئتُكَ لأُسلمَ عَلَيك، ولأنْظر إلى وجهك الكريم؛ ولذلك قال:[الطويل]

1136 -

...

...

...

...

...

وَحَسْبُكَ بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا

والتعريض قد يُسمَّى تلويحاً؛ لأنَّه يَلُوحُ منه ما يريدُه، والفرقُ بين الكناية والتعريض: أنَّ الكناية ذكرُ الشَّيء بذكر لوازمه؛ كقولك فلانٌ طويلُ النجادِ، كثيرُ الرماد؛ لأنَّ النجاد عبارةٌ عن حَمِيلَةِ السَّيفِ، إذا كانت حميلةُ سيفهِ طويلةً، لزم منه أن يكونَ الرَّجُل طويلاً، وكذلك إذا كان كثير الرمَادِ، لزم منه أن يكون كثير الطَّبخ للأَضياف،

ص: 197

وغيرهم، والتعريضُ أنْ يذكر كلاماً يحتمل المقصُود وغيره، إلَاّ أنَّ قرينة الحال تؤكِّد حمله على المقصُود.

وقال الفراء: الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب، وهي مثل قولك: إِنَّه لَحَسَنُ القِعْدةِ والجِلْسَةِ تريد: القُعُود والجُلُوس والخطبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْبِ، والخَطْب: الحاجة، ثم خُصَّت بالتماس النكاح؛ لأنه بعضُ الحاجات، يقال: ما خَطْبُكَ؟ أي: ما حاجتُك. وفي اشتقاقه وجهان:

الأول: الأمر والشأن يقال ما خطبُكَ؟ أي: ما شأنُكَ؟ فقولهم: خَطَبَ فلانٌ فُلانَةً، أي: سَأَلَهَا أَمراً وشأناً في نفسِها.

والثاني: أصلُ الخِطْبة من الخطابة الَّذي هو الكلامُ، يقال: خَطَبَ المرأة، أي: خاطبها في أمر النِّكاح، والخطب: الأمر العظيم؛ لأ، َّه يحتاجُ لخطاب كثيرٍ. والخطبة بالضَّم، الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزَّجرِ، وكلاهما من الخَطْبِ الذي هو الكلامُ، وكانت سَجاح يُقال لها خِطْبٌ فتقول: نِكْحٌ.

قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النسآء} في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان:

أحدهما: الهاءُ المجرورةُ في «بِهِ» .

والثاني: «مَا» المجرورة ب «فِي» ، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ، وقال أبو البقاء: حالٌ من الهاءِ المجرورةِ، فيكونُ العاملُ فيه «عَرَّضْتُمْ» ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من «مَا» فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ. قال شهاب الدين: وهذا على ظاهره ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ؛ على ما تقرَّر، إلا أَنْ يريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ، فقد يجوزُ له ذلك.

والخِطبة بكسر الخاء - فعلُ الخاطِب -: من كلام وقصدٍ، واستلطافٍ، بفعل أَو قولٍ. يقال: خطبها يخطبها خطباً، أو خطبةً، ورجل خَطّاب كثيرُ التصرفِ في الخطبةِ، والخطيبُ: الخاطِبُ، والخِطِّيبَى: الخِطْبة، والخطبة فعلهُ: كجلسةٍ، وقعدةٍ، وخُطبة - بضمِّ الخاءِ - هي الكلامُ الذي يقال في النكاح، وغيره.

قال النحاس: «والخُطبة» ما كان لها أَوَّل وآخر، وكذلك ما كان على فعله، نحو الأَكلة، والضَّغطَة.

فصل في جواز التعريض بالخطبة في عدة الوفاة

التعريضُ بالخطبة مباحٌ في عدَّة الوفاة، وهو أَنْ يقول: رُبَّ راغبٍ فيك، ومَنْ يجدُ

ص: 198

مثلك، إنَّك لجميلة إنَّك لصالِحَةٌ، إنّك عليّ كريمةٌ، إنِّي فيك لراغِبٌ، وإن مِنْ غرضي أَنْ أَتزوَّج، وإِنْ جمع اللهُ بيني وبينك بالحلالِ أعجبتني، وإِنْ تزوَّجتُك لأُحسن إليك، ونو ذلك من الكلامِ، من غير أَنْ يقول: أَنْحكيني.

والمرأةُ تجيبه بمثله، إِنْ رغبتْ فيه.

وقال إبراهيم: لا بأس أَنْ يُهدي لها ويقوم بشغلها في العدة، إذا كانت غير شابةٍ.

روي أَنَّ سُكَيْنةَ بنت حنظلة؛ بانت من زوجها، فدخل عليها أَبُو جعفرٍ محمَّد بن علي الباقر في عِدّتها، وقال: يا ابنة حنظلة، أنا مَنْ قد عَلِمْت قرابتي مِنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم َ - وحقَّ جَدِّي عليِّ، وقدَمي في الإسلام، فقالت له سُكينة: أَتخطبني وأنا في العدَّة، وأَنْتَ يؤخذُ عنك؟ فقال أو قد فعلت؟ إِنَّما أخبرتُك بقرابتي مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -.

وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - على أُمِّ سلمة، وهي في عِدَّةٍ من زوجها، أبي سلمة، فذكر لها منزلتهُ مِنَ الله عز وجل َّ - وهو متحامِلٌ على يده؛ حتَّى أثَّر الحصيرُ في يده من شدَّة تحامله على يده.

فصل

والنٍّساء في حكم الخِطبة على ثلاثة أقسامٍ:

الأول: التي يجوز خِطْبتُها تعريضاً، وتصريحاً، وهي الخاليةُ عن الأَزْوَاجِ والعدد إلَاّ أَنْ يكونَ خطبها غيره؛ لقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«لا يَخْطِبَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيْهِ» ، وهذا الحديثُ وإِنْ كان مطلقاً ففيه ثلاثةُ أجوالٍ:

الحالة الأولى: أَنْ يخطب الرجلُ، فيجاب صريحاً؛ فهاهنا لا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها.

الحالة الثانية: أَنْ يُجابَ بالردِّ صريحاً؛ فها هنا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها.

الحالة الثالثة: ألَاّ يوجد صريحُ الإجابة، ولا صريحُ الرَّدِّ؛ فهاهنا فيه خلافٌ.

فقال بعضهم تجوزُ خطبتها؛ لأَن السكوتَ لَمْ يدُلَّ على الرِّضا وهو الجديدُ عن الشَّافعيَّ.

وقال مالكٌ: لا يجوزث، وهو القديمُ؛ لأنَّ السكوت وإِنْ لم يدُلَّ على الرضا، لكنه لا يدلُّ أيضاً على الكراهة، فربَّمَا حصلت الرغبةُ مِنْ بعضِ الوجوه؛ فتصيرُ هذه الخِطبةُ الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة.

ص: 199

القسم الثاني: التي لا تجوز خِطْبتُها؛ لا تصريحاً، ولا تعريضاً، وهي زوجة الغير؛ لأَنَّ خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأَمر على زوجها، مِنْ حيثُ إنها إذا علمت رغبة الخاطب، فربما حملها ذلك على الامتناع مِنْ تأدية حُقُوق الزوج، والتسبب إلى هذا حرامٌ، والرجعية كذلك؛ لأنها في حكم الزوجة؛ لصحة طلاقها، وظهارها، ولعانها، وعِدَّتُها منه عِدَّة الوفاة إذا مات عنها ويتوارثان.

القسم الثالث: أَنْ يفصل في حقِّها بين التعريض، والتَّصريح، وهي المعتدة غير الرجعيَّة، وهي ثلاثة أقسامٍ:

الأول: المعتدة عِدَّة الوفاةِ، يجوز خطبتها تعريضاً؛ لقوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} فظاهره أنها المتوفَّى عنها زوجها؛ لأنها مذكورةٌ عقب تلك الآية، ولمّا خُصِّصَ التعريضُ بعدم الجناح، دلّ على أنّ التصريحَ بخلافشهِ، والمعنى يُؤكِّدُه؛ لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فربما حملها الحِرص على النكاح، على الإِخبار بانقضاء العِدَّة قبل أَوانها بخلافِ التعريضِ، فإنَّه يحتمل غير ذلك، فلا يدعوها إلى الكذب.

الثاني: المعتدةُ عن الطلاق الثلاث، والبائن باللِّعان والرَّضاع ففي جواز التعريض بخطبتها خلافٌ.

فقيل: يجوز التعريض بخطبتها، لأنّها ليست في نكاحٍ، فأشبهت المتوفى عنها.

وقيل: لا يجوزُ لأنّ عدتها بالأَقراءِ، فلا يُؤمن عليها الكَذِب في الإخبارِ بانقضاء عدَّتها؛ لرغبتها في الخُطَّاب.

الثالث: البائِنُ لطلاقٍ أَوْ فسخٍ، وهي التي يجوزُ لزوجها نكاحُها في عدَّتها كالمختلعة، والتي انفسخ نكاحُها بعيبٍ أو عُنَّةٍ، أَو إعسار نفقةٍ، فهذه يجوزُ لزوجها التصريحُ، والتعريضُ؛ وأَمَّا غيرُ الزوج، فلا يحلُّ له التصريحُ، وفي التعريض خلافٌ، والصحيحُ: أنّه لا يحِلُّ لأنها مُعتدةٌ، تحلُّ للزوجِ أَنْ يستنكحها في عِدَّتها، فلم يحلَّ التعريض لها كالرجعية.

وقيل: هي كالمتوفَّى عنها زوجها، والمطلقة ثلاثاً.

قوله تعالى: {وْ أَكْنَنتُمْ} «أَوْ» هنا للإباحةِ، أو التخيير، أو التفصيلِ، أو الإِبهامِ على المخاطبِ، «وأَكَنَّ» في نفسِهِ شيئاً، أي: أَخْفَاهُ، وكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوه: أي سَتَرَهُ به، فالهمزةُ في «أَكَنَّ» للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ ك «أَشْرَقَتْ، وشَرَقَتْ» .

وقال الفراءُ: للعرب في «أَكْنَنْتُ الشَيْءَ» أي: سترتهُ، لغتان: كنَنْتُه، وأَكْنَنْتُه في

ص: 200

الكِنِّ، وفي النَّفْس؛ بمعنى، ومنه {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [القصص: 69] ، و {بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49] وفرَّق قومٌ بينهما، فقالوا: كننتُ الشيء، إذا صُنته حتَّى لا تُصيبه آفةٌ، وإن لم يكن مستُوراً يقال: دُرٌّ مكنونٌ وجاريةٌ مكنونةٌ، وبيضٌ مكنونٌ مصونٌ عن التدحرج؛ وأمَّا «أَكْنَنْتُ» فمعناه: أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يُخفيه الإنسانُ، ويستره عن غيره، وهو ضِدُّ أَعْلنتُ وأظهرت، ومفعول «أكنَّ» محذوفٌ يعودُ على «ما» الموصولة في قوله:{فِيمَا عَرَّضْتُمْ} أي: أو أكْنَنْتُمُوهُ، ف {في أَنْفُسِكُمْ} متعلِّقٌ ب {أَكْنَنتُمْ} ، ويضعُفُ جعلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ.

فصل في عدوم وجوب الحد بالتعريض

استدلَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّه لا يجب الحدُّ بالتعريض بالقذف [لأن الله تعالى لمَّا دفع الجَرَج في التعريض بالنِّكاح، دلَّ على أنَّ التعريض بالقذف] لا يوجب الحد.

وأُجيب بأنّ الله - تعالى - لم يحلَّ التصريح بالخطبة في النكاح للمعتدَّة، وأَذِن في التعريض الذي يُفهم منه النكاحُ، فهذه يدلُّ على أَنَّ التعريض يُفهم منه القذف والأعراضِ يجب صيانتها، وذلك يوجب الحدَّ على المعرِّض؛ لئلا يتعرض الفسقةُ إلى أخذ الأَعراضِ بالتعريض الذي يُفهم منه ما يُفهم بالتصريح.

فصل في المقصود من الآية

والمقصودُ من الآية أَنّه لا حرج في التعريض للمرأة في عِدَّة الوفاة، ولا فيما يُضمره الرجلُ من الرغبة فيها.

فإن قيل: إنَّ التعريضَ بالخطبة أعظم حالاً مِنْ أَنْ يميل بقلبه إليها، ولا يذكر باللِّسان شيئاً، فلمّا قدّم جواز التعريض بالخطبة، كان قوله بعد ذلك {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} جارٍ مجرى إيضاح الواضحات.

فالجواب: ليس المرادُ ما ذكرتم، بل المرادُ أنّه أباح التعريض، وحرّم التصريح في الحالِ، ثم قال:{أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} والمرادُ: أَنْ يعقد قلبه على أنه سيصرحُ بذلك في المستقبلِ، ففي أوَّل الآيةِ أباح التعريض في الحالِ، وحرَّم التصريح في الحالِ، وها هنا أباح له أن يعقد عليه على أنَّه سيصرِّحُ بذلك بعد انقضاء العدّة، ثم إنّه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك، فقال:«عَلِمَ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» لأنَّ شهوةَ النفس إذا حصلت للنكاح، لا يكاد يخلُو ذلك المشتهي من العزم، والتَّمَنِّي، فلمّا كان دفع هذا

ص: 201

الخَاطر، كالشيء الشَّاقِّ أَسقط عنه هذا الحرج، وأباحَ له ذلك، ثُمَّ قال:{ولكن لَاّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} وهذا الاستدراك فيه ثلاثةُ أوجهٍ:

أحدها: أنه استدراكٌ من الجملةِ قبله، وهي قوله:{سَتَذْكُرُونَهُنَّ} ؛ فإنَّ الذِّكر يقع على أنحاء كثيرةٍ، ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهُ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصُوص، ولو لم يُسْتَدْرَكْ، لكانَ من الجائز؛ لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ، وهو نظيرٌ:«زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِداً، ولَكِنْ [لَا] يواجهُهُ بِشَرٍّ» ، لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجته بالشَّرِّ، استُدْرِكَتْ هذه الحالةُ من بينها.

والثاني: - قاله أبو البقاء -: أنه مستدرَكٌ من قوله: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} وليس بواضحٍ.

والثالث: - قاله الزمخشريٌّ - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل «لَكِنْ» تقديرُهُ: «فَاذْكُرُوهُنَّ، وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً» وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدرَاكِ من الجملةِ قبلَه، فلا حاجة إلى حذف؛ وإنما الذي يحتاجُهُ ما بعدَ «لَكِنْ» وقوعُ ما قبلها من حيث المعنى، لا من حيثُ اللفظُ؛ لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشَّرّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ.

قوله: {سِرّاً} فيه خمسةُ أوجهٍ:

أحدها: أن يكونَ مفعولاً ثانياً.

والثاني: أنه حالٌ من فاعلِ «تُوَاعِدُوهُنَّ» ، أي: لا تُوَاعِدُوهُنَّ مُسْتَخِفين بذلك.

والثالث: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ، أي: مواعدةً سِرّاً.

والرابع: أنه حالٌ من ذلك المصدر المُعَرَّف، أي: المواعدةَ مستخفيةً.

والخامس: أَنْ ينتصِبَ على الظرف مجازاً، أي: في سِرٍّ.

وعلى الأقوالِ الأربعةِ: فلا بُدَّ من حذفِ مفعولٍ، تقديرهُ: لا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحاً.

والسِّرُّ: ضدُّ الجهرِ: وقيل: يُطْلَقُ على الوَطْءِ، وعلى الزِّننا بخُصُوصيَّةٍ؛ وأنشدوا للحُطَيْئة:[الوافر]

1137 -

وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهمْ

وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ

وقول الآخر - هو الأعشى -: [الطويل]

1138 -

وَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةَ إِنَّ سِرَّهَا

حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا

وقال الفرزدق: [الطويل]

ص: 202

1139 -

مَوَانِعُ لِلأَسْرَارِ إِلَاّ مِنَ أهْلِهَا

وَيُخْلِفْنَ مَا ظَنَّ الغَيُورُ الْمُشَفْشِفُ

أي: الذي شَغفه بهن، يعني: أنهنَّ عفائفُ يمنعن الجماعَ إلَاّ من أَزواجِهِنَّ؛ وقال امرؤ القيس: [الطويل]

1140 -

أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليَوْمَ أَنَّني

كَبِرتُ وَأَلَاّ يُحْسِنُ السَّرَّ أَمْثَالِي

فصل في بيان السر في الآية

اختلفوا في السِّرِّ هنا، فقال قومٌ: هو الزِّنا، كان الرجلُ يدخل على المرأةِ مِنْ أجلِ الزِّنْيَة وهو يُعرِّضُ بالنِّكاح، ويقول لها: دعيني أُجامِعْكِ، فإذا وَفَيْتِ عشدَّتك، أظهرتُ نكاحك قاله الحسن، وقتادة، وإبراهيم، وعطاءٌ، ورواه عطيةٌ عن ابن عباس.

وقال زيد بن أسلم: أي: لا يُنْكِحها سرّاً فيمسكها فإذا حلّت، أظهرت ذلك.

وقال مجاهدٌ: هو قول الرجل لا تفوِّتيني بنفسك، فإنِّي ناكِحُك. وقال الشعبيُّ، والسدِّيُّ: لا يؤخَذُ ميثاقها، ألَاّ ينكح غيرها. وقال عكرمة: لا يخطبها في العِدَّة.

وقال الكلبيُّ ورُوِيَ عن ابن عباس: أي تصفُوا أنفُسكم لهُنَّ بكثرةِ الجماع، فيقول آتيتك الأَربعة والخَمْسة، وأشباه ذلك، وإنما قيل للزِّنا والجماع سِرّاً؛ لأنه يكون في خفاءٍ بين الرجل والمرأةِ.

فصل في كراهة المواعدة في العدّة

حكى القرطبيُّ، عن ابن عطيَّة، قال: أجمعتِ الأُمَّةُ على كراهة المواعدة في

ص: 203

العدة للمرأة في نفسها، وللأَبِ في ابنته البِكْر، والسيّد في أمتِه. قال ابن المواز: وأمّا الوليّ الذي لا يملكُ الجبر، فأكرهُهُ.

وقال مالكٌ رحمه الله ُ - فيمَنْ يواعد في العدَّة، ثم يتزوج بعدها: فراقها أَحَبُّ إليّ، دخل بها، أو لم يدخل، وتكون تطليقةً واحدةً هذه رواية ابن وهبٍ، وروى أشهب عن مالكٍ، أنّه يفرِّق بينهما إيجاباً، وقاله ابنُ القاسِمِ، وحكى ابن الحارِث مثلهُ عن ابن الماجشون، ورأى ما يقتضي أَنَّ التحريم يتأبدُّ، وقال الشافعيُّ إِنْ صرَّح بالخطبة، وصرَّحت له بالإجابة، ولم ينعقد النكاح [حتى] تنقضي العِدَّة، فالنكاح ثابت [والتصريح لهما مكروهٌ]

قوله: {إِلَاّ أَن تَقُولُواْ} في هذا الاستثناءِ قولان:

أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنه لا يندرج تحت «سِرّ» على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه به، كأنه قال لكنْ قولُوا قولاً معروفاً.

والثاني: أنه متصلٌ، وفيه تأويلان ذكرهما الزمخشري فإنه قال: فَإِنْ قلتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناء؟ [قلتُ] : ب {لَاّ تُوَاعِدُوهُنَّ} ، أي: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قطٌّ إلا مواعدةً معروفةً غيرَ مُنْكَرَةٍ، أو لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إلا بأَنْ تقولوا، أي: لا تواعِدُوهُنَّ إلَاّ بالتعريضِ، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من «سِرّاً» ؛ لأدائِهِ إلى قولك:«لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إلَاّ التعرِيضَ» انتهى، فجعلَهُ استثناءً متصلاً مُفَرَّغاً على أحدِ تأويلين:

الأول: أنه مستثنىً من المصدرِ؛ ولذلك قدَّره: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً إلَاّ مواعدةً معروفةً.

والثاني: أنه من مجرور محذوفٍ؛ ولذلك قَدَّره ب «إِلَاّ بَأَنْ تَقُولُوا» ؛ [لأنَّ التقدير عنده: لا تُوَاعِدُوهُنَّ بشيءٍ، إلا بَأَنْ تقولُوا، ثم أَوْضَحَ قوله بأنْ تَقُولُوا] بالتعريض، فلمَّا حُذِفَت الباءُ من «أَنْ» ، وهي باءُ السببيةِ بقي في «أَن» الخلافُ المشهورُ بعد حذفِ حرفِ الجرِّ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جَرٍّ؟ وقوله: «لأدائِهِ إلى قولك

إلى آخره» يعني أنه لا يصِحُّ تسلُّط العامِل عليه، فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ، وأنت لو قلْتَ: «لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إِلَاّ التَّعْرِيض ليس مواعداً.

وردَّ عليه أبو حيان: بأنَّ الاستثناء المنقطع ليس مِنْ شرطِهِ صحَّةُ تسلُّطِ العامِل عليه، بل هو على قسمين: قسم يَصِحُّ فيه ذلك، وفيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً، نحو:» مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلَاّ حِمَاراً «ولغةُ تميم إجراؤه مجرى المتصل، فيجرونَ فيه النصبَ والبدلية بشرطه. وقِسْم لا يصحُّ فيه ذلك، نحو:» مَا زَادَ إِلَاّ مَا نَقَصَ «، و» مَا نَفَعَ إِلَاّ مَا ضَرَّ «، وحكمُ هذا النّصبُ عند العرب قاطبةً، فالقسمان يشتركان في التقديرِ ب» لَكِنْ «عند البصريين، إلَاّ أنَّ أحدهما يصحُّ تسلُّط العامِل عليه في قولك:» مَا جَاءَ أَحَدٌ

ص: 204

إِلَاّ حِمَار «لو قلت:» مَا جَاءَ إِلَاّ حِمَارٌ «، صَحَّ؛ بخلافِ القسمِ الثاني؛ فإنَّه لا يتوجَّه عليه العامل وقد تقدم البحثُ في مثل هذا كثيراً.

فصل في القول المعروف ما هو؟

قال بعضُ المفسرين: هو التعريض بالخطبة.

وقال آخرون: لمّا أُذِن في أوّل الآيةِ بالتعريض، ثم نهي عن المسارَّة معها؛ دفعاً للريبةِ، استثني منه المسارَّة بالقولِ بالمعروفِ، وهو أَنْ يعدها في السرِّ بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفُّل بمصالحها؛ حتى يصير ذِكرُ هذه الأَشياء الجميلة، مُؤكَّداً لذلك التعريض.

قوله: {وَلَا تعزموا} في لفظ» العَزْمِ «وجوه:

الأول: أنّه عبارةٌ عن عقدِ القلب على فعلٍ من الأَفعالِ، قال تعالى:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [آل عمران: 159] فلا بُدَّ في الآيةِ من إضمار فعلٍ، وهذا اللفظ إنما يُعَدَّى للفعل بحرفِ» عَلَى «فيقال: فلان عزم على كذا، فيكونُ تقدير الآيةِ:» ولا تَعْزمُوا على عُقدة النكاح حتى يبلُغَ الكِتَابث أَجَلَهُ «والمقصودُ منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العِدَّة، فإنّ العزم متقدمٌ على المعزوم عليه، فإذا ورد النهي عن الإِقدام على المعزوم عليه كان أولى.

الثاني: أنَّ العزم عبارةٌ عن الإِيجاب، يقال: عزمتُ عليكم، أي: أَوجبتُ، ويقال هذا من باب العزائم، لا من باب الرُّخَصِ؛ وقال عليه الصلاة والسلام ُ -» عَزْمَةٌ مِنْ عَزَائِمِ رَبِّنَا «وقال:» إِنَّ اللهَ تَعالى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصُهُ كَمَا تُؤْتَى عَزَائِمُهُ «

، فالعزمُ بهذا المعنى جائزٌ على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز.

وإذا ثبتَ هذا فنقولُ: الإيجابُ سببُ الوجود ظاهراً، فلا يبعد أَنْ يُستفاد لفظ العزمِ من الوجودِ، وعلى هذا فقوله:{وَلَا تعزموا عُقْدَةَ النكاح} ، أي: لا تحقِّقُوا، ولا تُنْشئَوا، ولا تُفرِّعوا منه فعلاً؛ حتى يبلغ الكتابُ أَجَلَهُ وهذا اختيارُ أَكْثَر المحققين.

الثالث: قال القفَّال: إنما لم يقُلْ: ولا تعزِمُوا على عقدةِ النكاح؛ لأن معناهُ: ولا تعقدوا عُقْدة.

قال القرطبيُّ: عزم الشيء عليه قال تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} [البقرة: 227]

ص: 205

وقال هنا: {وَلَا تعزموا عُقْدَةَ النكاح} . وحكى سيبويه: ضُرِبَ فلانٌ الظهر والبطنَ أي: «عَلَى» .

قال سيبويه: والحذفُ في هذه الأَشياء لا يقاسُ عليه.

وقال النحاسُ: ويجوز أَنْ يكون ولا تعقِدُوا عُقدة النكاح؛ لأَنَّ معنى «تَعْزِمُوا» و «تَعْقِدُوا» واحدٌ.

ويقال: تعزُمُوا، بضم الزاي.

فصل

اعلم أنَّ الإِنسان إذا فعل فعلاً فلا بُدَّ أَنْ يتقدَم ذلك الفعلَ ستُّ مُقَدِّماتٍ.

الأولى: أن يسنح له ذلك الفعل، ومعنى «يَسْنَحْ له» : أن يَجْنح إلى فعله، ويعرضُ له فعله.

وثانيها: أَنْ يفكِّر في فعله، بمعنى أن يفعله، أم لا. وثالثها: أن يخطِرَ بباله فعله، بمعنى أنه يترجَّحُ فعله على تركه. ورابعها: أن يريدُ فِعْلَهُ.

وخامسها: أَنْ يَهمّ بفعله، وهو عزمٌ غيرَ جازِمٍ.

وسادسها: أَنْ يعزِم عَزْماً جازِماً فيفعله.

فصل في أصل العقد

وأَصل العقد: الشدُّ، والمعهود، والأنكحةُ تُسمَّى عُقُوداً لأنها تعقد كعقود الحبل في التوثيق.

قوله: «عُقْدَةَ» في نصبه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه مفعولٌ به على أنه ضمَّن «عَزَمَ» معنى ما يتعدَّى بنفسه، وهو: تَنْوُوا أو تُبَاشِرُوا، ونحو ذلك.

والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر، وهو «عَلَى» ؛ فإنَّ «عَزَمَ» يتعدَّى بها، قال:[الوافر]

1141 -

عَزَمْتُ عَلَى إقَامةِ ذِي صَبَاحٍ

لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ

وحذفها جائز، كقول عنترة، [الكامل]

1142 -

وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأظَلُّهُ

حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَطْعِمِ

ص: 206

أي: وَأَظَلُّ عليه.

والثالث: أنه منصوبٌ على المصدر؛ فإنَّ المعنى: ولا تعقدوا عقدة؛ فكأنه مصدرٌ على غير الصَّدر؛ نحو: قعدت جلوساً، والعقدة مصدرٌ مضاف للمفعول، والفاعل محذوفٌ، أى: عُقْدتكم النِّكاح.

قوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} فى «الكتاب» وجهان:

أحدهما: أن المراد به المكتوب، والمعنى: حتى تبلغ العدَّة المفروضة آخرها.

الثانى: أن يكون المراد «الكتابَ» نفسه، لأنه فى معنى الفرض؛ كقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] فيكون المعنى: حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته، وقال تعالى:{إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] أى: مفروضة.

قال القرطبى: وقيل: فى الكلام حذف، أى: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، فالكتاب على هذا المعنى بمعنى القرآن.

ثم قال تعالى: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ} وهذا تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالماً بالسرّ، والعلانية؛ وجب الحذر منه فى السرِّ، والعلانية، فالهاء فى «فاحذروه» تعود على الله تعالى، ولا بدَّ من حذف مضاف، أى: فاحذروا عقابه. ويحتمل أن تعود على «مَا» فى قوله «مَا فِى أَنْفُسِكُمْ» بمعنى ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز، قاله الزمخشريُّ.

ثم قال: {واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي: لا يعجِّل بالعقوبة.

ص: 207

قوله: «مَا لَمْ» فى «مَا» ثلاثة أقوالٍ:

أظهرها: أن تكون مصدريةً ظرفيةً، تقديره: مدَّة عدم المسيس، كقوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 107] وقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] .

وقول الآخر: [الكامل]

1143 -

إِنِّي بِحَبْلِكَ وَاصِلٌ حَبْلِي

وَبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائِشٌ نَبْلِي

مَا لَمْ أَجِدْكَ عَلَى هُدَى أَثَرٍ

يَقْرُو مَقَصَّكَ قَائِفٌ قَبْلِي

ص: 207

والثاني: أن تكون شرطيةً، بمعنى «إِنْ» نقله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ؛ لأنه يكون حينئذٍ من باب اعتراض الشرط على الشرط، فيكون الثانى قيداً فى الأول؛ نحو:«إِنْ تَأْتِ إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ» أي: إن أتيت محسناً، وكذا فى الآية الكريمة: إن طلَّقتموهنَّ غير ماسِّين لهنَّ، بل الظاهر: أنَّ هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى؛ لأنَّ «مَا» الظرفية مشبَّهة بالشرطيَّة، ولذلك تقتضي التعميم.

والثالث: أن تكون موصولة بمعنى «الَّذِي» ، وتكون للنساء؛ كأنه قيل: إن طلَّقتم النِّساء اللَاّئى لم تمسُّوهنَّ، وهو ضعيفٌ، لأنَّ «مَا» الموصولة لا يوصف بها، وإن كان يوصف ب «الَّذِي» ، و «الَّتي» ، وفروعهما.

وقرأ الجمهور: «تَمَسُّوهُنَّ» ثلاثيّاً وهى واضحةٌ؛ لأن الغشيان من فعل الرجل؛ قال تعالى حكاية عن مريم {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] . وقرأ حمزة والكسائيُّ فى الأحزاب «تُمَاسُّوهُنَّ» من المفاعلة، فيحتمل أن يكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَلَ» ك «سَافَرَ» ، فتوافق الأولى، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ كما قال تعالى:{مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3]، وأيضاً: فإنَّ الفعل من الرجل والتمكين من المرأة، ولذلك قيل لها زانيةٌ، ورجَّح الفارسيّ قراءة الجمهور؛ بأنَّ أفعال هذا الباب كلَّها ثلاثيّةٌ؛ نحو: نَكَحَ، فَرَعَ، سَفَدَ، وضَرَبَ الفَحْلُ.

قال تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 74]، وقال:{فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، وأمّا قوله فى الظّهار:{مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] فالمراد به المماسَّة التى هي غير الجماع، وهي حرام فى الظهار.

قوله: {أَوْ تَفْرِضُواْ} فيه أربعة أوجهٍ:

أحدها: أنه مجزوم عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ» ، و «أَوْ» على بابها من كونها لأحد الشيئين، قاله ابن عطيَّة.

والثاني: أنه منصوب بإضمار «أَنْ» عطفاً على مصدر متوهِّم، و «أَوْ» بمعنى «إِلَاّ» ، التقدير: ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أن تفرضوا؛ كقولهم: «لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَني حَقِّي» قاله الزمخشريُّ.

والثالث: أنه معطوف على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره:«فَرَضْتُمْ أَوْ لَم تَفْرِضُوا» ، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله، وهو ضعيفٌ جدًّا، وكأنَّ الذي حسَّن هذا كون لفظ «لَمْ» موجوداً قبل ذلك.

ص: 208

والرابع: أن تكون «أَوْ» بمعنى الواو.

قال تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] أي: وهم قائلون {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أي: ويزيدون، وقوله:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى} [النساء: 43] معناه وجاء أحدٌ منكم من الغائط، وأنتم مرضى أو مسافرون.

قال ابن الخطيب: فإذا تأمَّلت هذا القول، علمت أنّه متكلفٌ، بل خطأٌ قطعاً، والفرض في اللغة: التقدير، أي: تقدِّروا لهن شيئاً.

قوله: «فَرِيضَةً» فيه وجهان:

أظهرهما: أنه مفعولٌ به، وهو بمعنى مفعولة، أي: إلَاّ أن تفرضوا لهنَّ شيئاً مفروضاً.

والثاني: أن تكون منصوبةٌ على المصدر بمعنى فرضاً، واستجود أبو البقاء الوجه الأول؛ قال:«وأَنْ يكونَ مفعولاً به، وهو الجَيِّدُ» والموصوف محذوفٌ، تقديره: متعةً مفروضةً.

فصل في سبب النزول

هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوج امرأة من بنى حنيفة ولم يسمِّ لها مهراً، ثم طلَّقها قبل أن يمسَّها؛ فنزلت هذه الآية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِك» .

قوله: «وَمَتِّعُوهُنَّ» : قال أبو البقاء: «وَمَتِّعُوهِنَّ» معطوف على فعل محذوفٍ، تقديره:«فَطلِّقوهنَّ ومتِّعوهنَّ» ، وهذا لا حاجة إليه؛ فإنَّ الضمير المنصوب في «مَتِّعُوهُنَّ» عائدٌ على المطلَّقات قبل المسيس، وقبل الفرض، المذكورين في قوله: {إِن طَلَّقْتُمُ النسآء

} إلى آخرها.

فإن قيل: ظاهر الآية مشعرٌ بأن نفي الجناح عن المطلق مشروطٌ بعدم المسيس، وليس كذلك، فإنّه لا جناح عليه - أيضاً - بعد المسيس.

فالجواب من وجوه:

الأول: أنّ الآية دالةٌ على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً في زمان الحيض،

ص: 209

وغيره؛ فكان عدم المسيس شرطاً في إباحة الطلاق مطلقاً.

الثاني: ما قدمناه من أنَّ «مَا» بمعنى «الذي» ، والتقدير: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسُّوهنَّ؛ إلَاّ أنَّ «ما» اسمٌ جامدٌ لا ينصرف، ولا يبين فيه الإعراب، وعلى هذا فلا تكون «مَا» شرطاً فزال السؤال.

الثالث: قال القفال: إن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر، وتقديره: لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسُّوهنَّ أو تفرضوا لهنَّ فريضة، يعني: لا يجب المهر إلاّ بأحد هذين الأمرين، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر.

قال ابن الخطيب: وهذا ظاهر، وبيان أنّه قوله:«لَا جُنَاحَ» معناه: لَا مَهْرَ؛ لأنَّ إطلاق لفظ «الجنَاحِ» على المهر محتملٌ؛ لأن أصل الجناح في اللغة: الثقل، يقال: جَنَحتِ السفينة، إذا مالت بثقلها، والذنب يسمَّى جناحاً؛ لما فيه من الثِّقل، قال تعالى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] ، وإذا ثبت أن الجناح هو الثقل، ولزوم أداء المال ثقل، فكان جُنَاحاً، ويدلُّ على أنَّ هذا هو المراد وجهان:

الأول: أنه تعالى قال: {لَاّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} نفى الجناح محدوداً إلى غاية، وهي إمَّا المسيس، أو الفرض والتقدير، فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين، ثم إنَّ الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين، هو لزوم المهر.

الوجه الثاني: أنَّ تطليق النساء قبل المسيس، وبعد تقدير المهر، وهو المذكور في الآية التي بعدها، هو تقدير المهر، وقد أوجب فيه نصف المهر وهذا كالمقابل له، فوجب أن يكون الجناح المنفي عنه هناك، هو المثبت ها هنا، فلما كان المثبت في الآية التي بعدها، هو لزوم المهر، وجب أن يقال: الجناح المنفي في هذه الآية هو لزوم المهر.

قوله: {لَى الموسع قَدَرُهُ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، وفيها قولان:

أحدهما: أنها لا محلَّ لها من الإعراب، بل هي استئنافيةٌ بيَّنت حال المطلِّق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره.

والثاني: أنها في موضع نصب على الحال، وذو الحال فاعل «مَتِّعُوهُنَّ» .

قال أبو البقاء: «تقديره: بقَدر الوُسْعِ» ، وهذا تفسير معنًى، وعلى جعلها حاليةً: فلا بدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها، وهو محذوفٌ، تقديره: على المُوسِع مِنْكُمْ، ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم: أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه، تقديره:«عَلَى مُوسِعِكُمْ قَدَرُهُ» .

ص: 210

وقرأ الجمهور: «المُوسِعِ» بسكون الواو وكسر السين، اسم فاعل من أوسَعَ يُوسِعُ، وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين، اسم مفعولٍ من «وَسَّعَ» . وقرأ حمزة والكسائيُّ وابن ذكوان وحفصً:«قَدَرهُ» بفتح الدال في الموضعين، والباقون بسكونها.

واختلفوا: هل هما بمعنًى واحدٍ، أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش، وأكثر أئمة العربية إلى أنهما بمعنًى واحدٍ، حكى أبو زيدٍ:«خُذْ قَدَرَ [كَذَا] وقَدْرَ كَذَا» ، بمعنًى واحدٍ، قال:«ويُقْرَأُ في كتاب الله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، و» قَدْرِهَا «، وقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ولو حركت الدال، لكان جائزاً. وذهب جماعةٌ إلى أنهما مختلفان، فالساكن مصدرٌ والمتحرك اسمٌ؛ كالعدِّ والعدد، والمدِّ والمدد، وكأنَّ القدر بالتسكين الوسع، يقال:» هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ «أي وسعه، وقيل: بالتَّسكين الطاقة، وبالتحريك المقدار، قال أبو جعفر:» وَأَكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحْرِيكِ، إذا كان مساوياً للشيء، يقال: هَذَا عَلَى قَدَرِ هَذَا «.

وقرأ بعضهم بفتح الراء، وفي نصبه وجهان:

أحدهما: أن يكون منصوباً على المعنى.

قال أبو البقاء: وهو مفعولٌ على المعنى؛ لأنَّ معنى» مَتِّعُوهُنَّ « [لِيُؤَدِّ كُلٍّ مِنْكُمْ قَدَرَ وُسْعِهِ» وشرح ما قاله: أن يكون من باب التضمين، ضمَّن «مَتِّعُوهُنَّ» ] معنى «أَدُّوا» .

والثاني: أن يكون منصوباً بإضمار فعلٍ، تقديره: فأوجبوا على الموسع قدره، وجعله أبو البقاء أجود من الأول، وفي السَّجاونديِّ:«وقال ابن أبي عبلة: قَدَرَهُ، أي: قَدَرَهُ اللهُ» انتهى.

وظاهر هذا: أنه قرأ بفتح الدال والراء، فيكون «قَدَرَهُ» فعلاً ماضياً، وجعل فيه ضميراً فاعلاً يعود على الله تعالى، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من «مَتِّعُوهُنَّ» ، والمعنى: أنَّ الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر.

قوله: «مَتَاعاً» في نصبه وجهان:

ص: 211

أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وتحريره أنه اسم مصدرٍ؛ لأنَّ المصدر الجاري على صدره إنَّما هو التمتيع، فهو من باب:{أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . وقال أبو حيَّان: قالوا: انتصَبَ على المصدرِ؛ وتحريرُهُ: أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسمٌ له، ثم أطلق على المصدر؛ على سبيل المجاز، والعامل فيه:«وَمَتِّعُوهُنَّ» قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان؛ كضربٍ بمعنى مضروبٍ، وأمَّا إطلاق الأعيان على المصدر، فلا يجوز، وإن كان بعضهم جوَّزه على قلَّةٍ؛ نحو قولهم:«تِرْباً وَجَنْدَلاً» و «أَقَائِماً، وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ» ، والصحيح أن «تِرْباً» ونحوه مفعولٌ به، و «قائماً نصبٌ على الحال.

[والثاني من وجهي» مَتَاعاً «أن ينتصب على الحال] ، والعامل فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرور من معنى الفعل، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكنُّ في ذلك العامل، والتقدير: قدر الموسع يستقرُّ عليه في حال كونه متاعاً.

قوله:» بالمعروف «فيه وجهان:

أحدهما: أن يتعلَّق ب» مَتِّعُوهُنَّ «، فتكون الباء للتعدية.

والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل» مَتَاعاً «؛ فيكون في محلِّ نصبٍ، والباء للمصاحبة، أي: متاعاً ملتبساً بالمعروف.

قوله:» حَقّاً «في نصبه أربعة أوجه:

أحدها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملة قبله؛ كقولك:» هَذَا ابْنِي حَقّاً «وهذا المصدر يجب إضمار عامله، تقديره: حَقَّ ذلك حقّاً، ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله.

والثاني: أن يكون صفةً ل» مَتَاعاً «، أي: متاعاً واجباً على المحسنين.

والثالث: أنه حالٌ ممَّا كان حالاً منه» مَتَاعاً «وهذا على رأي من يجيز تعدُّد الحال.

والرابع: أن يكون حالاً من» المَعْرُوفِ «، أي: بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين، و» عَلَى المُحْسِنِينَ «يجوز أن يتعلَّق ب» حَقًّا «؛ الواجب، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له.

فصل

اعلم أن المطلقات أربعة أقسام:

القسم الأول: وهو ألَاّ يؤخذ منهم على الفراق شيءٌ ظلماً، وأخبر أن لهن كمال المهر، وعليهن العدَّة.

القسم الثاني: المطلقة قبل الدُّخول، وقد فرض لها - وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه - وبيَّن أنَّ لها نصف المفروض لها، وبيّن في سورة الأحزاب أنَّ لا عدَّة على

ص: 212

غير المدخول بها؛ فقال:

{إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] .

القسم الرابع: المطلقة بعد الدُّخول، ولم يكن فرض لها، وحكم هذا القسم، مذكورٌ في قوله تعالى:{فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] .

والقياس أيضاً يدلّ عليه، فإنّ الأمَّة مجمعةً على أن الموطوءة بشبهةٍ لها مهر المثل، والموطوءة بنكاحٍ صحيحٍ، أولى بهذا الحكم.

فصل

تمسك بعضهم بهذه الآية على أنَّ جمع الثلاثة ليس بحرامٍ، قالوا: لأن قوله: {لَاّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء} يتناول جيميع أنواع التطليق بدليل أنّه يصحُّ استثناء الثلاث منها، فيقال: لا جناح عليكم إن طلَّقتم النساء إلاّ إذا طلَّقتموهنَّ بثلاث تطليقاتٍ فإنّ عليكم الجناح، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، وعلى هذا فتتناول هذه الآية جميع أنواع التطليق مفرداً أو مجموعاً.

قال ابن الخطيب: وهذا الاستدلال ضعيفا؛ لأن الآية دالَّةٌ على تحصيل هذه الماهيَّة في الوجود، ويكفي في العمل بها إدخاله في الوجود مرَّةً واحدةً، ولهذا قلنا: إنَّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار، كما إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالقٌ، فإن اليمين انعقدت على المرّة الواحدة فقط، فثبت أنَّ هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع، وأمَّا الاستثناء فإنَّه يشكل بالأمر، لأنّه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحقّقين، مع أنَّه يصحُّ أن يقال: صلِّ إلَاّ في الوقت الفلانيّ.

فصل في جواز عقد النكاح بغير مهر

قال بعض العلماء: دلَّت هذه الآية على أنَّ عقد النكاح بغير المهر جائزٌ.

وقال القاضي: لا تدلُّ على الجواز، لكنها تدلُّ على الصِّحة، فإنّه لو لم يكن صحيحاً، لم يكن الطلاق مشروعاً، ولم تلزم المتعة، ولا يلزم من الصِّحة الجواز، بدليل أنّ الطلاق في زمن الحيض حرامٌ وإذا أوقعه صحَّ.

فصل

بيَّن في هذه الآية أن المطلقة قبل الدخول والفرض، لها المتعة، وقد تقدّم تفسير «

ص: 213

المُتْعَةِ» في قوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة} [البقرة: 196] .

واعلم أنَّ المطلَّقة قبل الدخول، إن كان قد فرض لها، فلا متعة لها في قول الأكثرين؛ لأن الله تعالى أوجب في حقِّها نصف المهر، ولم يذكر المتعة، ولو كانت واجبةً، لذكرها. وإن لم يكن فرض لها فلها المتعة؛ لهذه الآية.

قال القرطبي: من جهل المتعة حتَّى مضت أعوامٌ، فليدفع ذلك إليها، وإن تزوَّجت، وإلى ورثتها إن ماتت، رواه ابن المواز، عن ابن القاسم.

وقال أصبغ: لا شيء عليه، إن ماتت؛ لأنها تسليةٌ للزوجة عن الطَّلاق، وقد فات ذلك.

ووجه الأول: أنه حقٌّ ثبت عليه، فينتقل إلى ورثتها، كسائر الحقوق.

واختلفوا في المطلَّقة بعد الدُّخول، فذهب جماعةٌ: إلى أنه لا متعة لها؛ لأنها تستحق المهر، وهو قول أصحاب الرأي.

وذهب جماعةٌ: إلى أنَّ لها المتعة؛ لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} [البقرة: 241] ، وهو قول عبد الله بن عمر، وبه قال عطاء، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وإليه ذهب الشافعيُّ قال: لأنها تستحقُّ المهر بمقابلة إتلاف منفعة البضع، ولها المتعة على وحشة الفراق.

وقال الزُّهريُّ: متعتان يقضي بإحداهما السلطان، وهي المطلقة قبل الفرض، والمسيس، وهي قوله:{حَقّاً عَلَى المحسنين} ومتعةٌ تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى لا يقضي بها السلطان وهي المطلقة بعد الفرض والمسيس وهي قوله: «حَقّاً عَلَى المتَّقين» .

وذهب الحسن، وسعيد بن جبير: إلى أنَّ لكل مطلقةٍ متعةٌ، سواء كان قبل الفرض، والمسيس، أو بعده؛ كقوله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} [البقرة: 241] ؛ ولقوله في سورة الأحزاب: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وقال الآخر: المتعة غير واجبةٍ، والأمر بها أو ندبٍ، واستحباب.

روي أنَّ رجلاً طلّق امرأته، وقد دخل بها؛ فخاصمته إلى شريح في المتعة؛ فقال شريحٌ: لا تأب أن تكون من المحسنين، ولا تأب أن تكون من المتَّقين، ولم يجبره على ذلك.

فصل في بيان مقدار المتعة

اختلفوا في قدر المتعة، فروي عن ابن عباس: أعلاها خادمٌ، وأوسطها ثلاثة

ص: 214

أثواب: درع، وخمار، وإزار، ودون ذلك وقاية، أو شيء من الورق.

وبه قال الشَّعبيُّ، والزُّهريُّ، وهو مذهب الشافعي، وأحمد. قال الشافعي: أعلاها على الموسع: خادم، وأوسطها: ثوبٌ، وأقلُّها: أقل ماله ثمن حسنٌ ثلاثون درهماً، «وَعَلَى المقتر» مقنعة.

وروي عن ابن عباس أنّه قال: أكثر المتعة خادمٌ، وأقلها مقنعة، وأيُّ قدر أدَّى، جاز في جانبي الكثرة، والقلة.

وطلَّق عبد الرحمن بن عوف امرأته وجمعها جاريةً سوداء، أي: متَّعها.

ومتَّع الحسن بن عليٍّ امراته بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق.

وقال أبو حنيفة: المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، قال: لأن حال المرأة التي يسمَّى لها المهر، أحسن من حال التي لم يسمَّ لها، فإذا لم يجب لها زيادةٌ على نصف المسمَّى، إذا طلَّقت قبل الدُّخول، فلأن لا يجب زيادةٌ على نصف مهر المثل أولى.

فصل في دلالة الآية على حال الزوج من الغنى والفقر.

دلَّت الآية على أنَّه يعتبر حال الزوج: في الغنى، والفقر؛ لقوله:{عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} .

وقال بعض العلماء: يعتبر حالهما وهو قول القاضي.

وقال أبو بكرٍ الرَّازي: يعتبر في المتعة حال الرجل؛ للآية، وفي مهر المثل حالها، وكذلك في النفقة، واحتج القاضي بقوله:«بالمعروف» فإنّ ذلك يدلُّ على حالهما؛ لأنه ليس من المعروف أن يسوِّي بين الشريفة، الوضيعة.

فصل

إذا مات أحدهما قبل الدُّخول، والفرض؛ اختلف أهل العلم في أنها هل تستحقُّ المهر، أم لا؟ فذهب عليٌّ، وزيد بن ثابتٍ، وعبد الله بن عمرن وعبد الله بن عباسٍ: إلى أنَّه لا مهر لها، كما لو طلَّقها قبل الفرض، والدخول.

ص: 215

وذهب قومٌ إلى أنَّ لها المهر، لأن الموت كالدخول في تقدير المسمَّى، فكذلك في إيجاب مهر المثل، إذا لم يكن في العقد مسمى، وهو قول الثَّوريَّ، وأحمد، وأصحاب الرَّأي.

واحتجَّوا بما روى علقمة، عن ابن مسعود: أنَّه سئل عن رجل تزوَّج امرأةً، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات.

قال ابن مسعود: لها صداق نسائها؛ لا وكس، ولا شطط؛ وعليها العدَّة، ولها الميراث؛ فقام معقل بن يسار الأشجعيِّ، فقال:«قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم َ في بَروعَ بنت واشقٍ - امْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ» ، ففرح بها ابن مسعود.

وقال الشَّافعيُّ: فإن ثبت حديث بروع بنت واشق، فلا حجَّة في قول أحد دون النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ. وإن لم يثبت، فلا مهر لها؛ ولها الميراث. وكان عليٌّ رضي الله عنه يقول في حديث بروع: لا تقبل قول أعربيٌّ من أشجع، على كتاب الله، وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.

فصل في اختلافهم في الخلوة

إنَّما خصَّ المحسنين؛ لأنهم المنتفعون بهذا البيان، كقوله:{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] .

وقال أبو مسلم: من أراد أن يكون من المحسنين، فهذا شأنه، وطريقه، والمحسن: هو المؤمن؛ فيكون المعنى: أنَّ العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين، وقيل:«حَقّاً عَلَى المحسنين» إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.

ص: 216

هذه الآية في المطلَّقة قبل المسيس المفروض لها؛ فبيَّن أنَّ لها نصف ما فرض لها.

واختلف أهل العلم في الخلوة، فقال الشَّافعيُّ: إنها تقرر نصف المهر.

وقال أبو حنيفة: الخلوة الصَّحيحة: أن يخلو بها، وليس هناك مانعٌ حسي، ولا شرعيٍّ، فالحسِّي: كالرَّتق، والقرن والمرض أو معهما ثالثٌ.

والشرعي: كالحيض، والنُّفاس، وصوم الفرض، وصلاة الفرض، والإحرام المطلق؛ فرضاً كان، أو نفلاً.

ص: 216

واحتجَّ الشَّافعيُّ: بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر؛ لأن قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ليس كلاماً تاماً، بل لا بدَّ من إضمار، [شيءٍ، ليتم] الكلام، فإمَّا أن يضمر:«فنصفُ مَا فَرضْتُمْ سَاقِطٌ» ، أو يضمر:«فنصفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ» ، والإضمار الأوّل هو المقصود؛ لوجوه:

أحدها: أنّ المعلّق على الشَّيء بكلمة «إِنْ» عدمٌ عند عدم ذلك الشيء ظاهراً؛ فلو حملناه على الوجوب، تركنا العلم بمقتضى التعليق، لأنّه غير منفي قبله، وإذا حملناه على السقوط، عملنا بمقتضى التَّعليق؛ لأنه منفيٌّ قبله.

وثانيها: أنَّ قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يقتضي وجوب كلِّ المهر عليه، لأنه لمّا التزم كلَّ المهر، لزمه الكلُّ بقوله تعالى:{أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف، وإنَّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائمٌ، فكان سقوط البعض ها هنا، هو المحتاج إلى البيان، فكان حمل الآية على بيان السقوط، أولى من حملها على بيان الوجوب.

وثالثها: أن الآية الدَّالة على وجوب إيتاء المهر، قد تقدمت في قوله:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229] فحمل الآية على سقوط النِّصف أولى.

ورابعها: أن المذكور في هذه الآية، هو الطلاق قبل المسيس، وهو يناسب سقوط نصف المهر، ولا يناسب وجوب شيءٍ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى، لا جرم استقصينا هذه الوجوه؛ لأن منهم من قال: معنى الآية: فنصف ما فرضتم واجبٌ، وتخصيص النصف بالوجوب، لا يدلُّ على سقوط الآخر، إلاّ من حيث دليل الخطاب، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجَّة. وقد ذكرنا هذه الوجوه؛ دفعاً لهذا السؤال.

واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] إلى قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] فنهى تعالى عن أخذ المهر، ولم يفرّق بين الطلاق، وعدم الطَّلاق، إلَاّ إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص - ها هنا - فعليه البيان، وأيضاً فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر، وعلَّل بعلَّة الإفضاء، وهي الخلوة، لأنَّ الإفضاء: مشتقٌّ من الفضاء، وهو المكان الخالي فعلمنا أنَّ الخلوة تقرَّر المهر.

والجواب عن ذلك: بأن دليلهم عامٌّ، ودليلنا خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ.

قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ} : هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل، وأن يكون ضمير المفعول؛ لأنَّ الرباط موجودٌ فيهما،

ص: 217

والتقدير: وإن طلقتموهن فارضين لهن، أو مفروضاً لهنَّ، و «فَرِيضَة» فيها الوجهان المتقدمان.

والفاء في «فَنِصْفُ» جواب الشرط، فالجملة في محلِّ جزمٍ؛ جواباً للشرط، وارتفاع «نِصْفُ» على أحد وجهين: إمَّا الابتداء، والخبر حينئذٍ محذوفٌ، وإن شئت قدَّرته قبله، أي: فعليكم أو فلهنَّ نصف، وإن شئت بعده، أي: فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهنَّ - وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب نصف.

وقرأت فرقةٌ: فَنِصْفَ «بالنصب على تقدير:» فَادْفَعُوا، أَوْ أَدُّوا «، وقال أبو البقاء:» ولو قُرِئَ بالنصبِ، لكان وجهه فَأَدَّوا [نِصْفَ] «فكأنه لم يطَّلع عليها قراءة مرويَّةً.

والجمهور على كسر نون» نِصْف «، وقرأ زيدٌ وعليٌّ، ورواها الأصمعيُّ قراءة عن أبي عمرو:» فَنُصْف «بضمِّ النون هنا، وفي جميع القرآن، وهما لغتان، وفيه لغةٌ ثالثة:» نَصِيف «بزيادة ياءٍ، ومنه الحديث:» مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ «.

والنَّصيف - أيضاً -: القناع، قاله القرطبي، والنِّصف: الجزء من اثنين، يقال: نصف الماء القدح، أي: بَلَغَ نِصْفَهُ، ونَصَفَ الإزار السّاق، وكلُّ شيءٍ بلغ نصف غيره، فقد نصفه.

و» مَا «في» مَا فَرَضْتُمْ «بمعنى» الَّذِي «، والعائدُ محذوف لاستكمالِ الشروطِ، ويضعفُ جعلُها نكرةً موصوفةً.

قوله تعالى: {إَلَاّ أَن يَعْفُونَ} في هذا الاستثناء وجهان:

أحدهما: أن يكونَ استثناءً منقطعاً، قال ابن عطيَّة وغيره: لأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ» .

والثاني: أنه متصلٌ، لكنه من الأحوال؛ لأَنَّ قوله:«فنصفُ ما فَرَضْتُمْ» معناه: فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُمْ في كلِّ حال، إلا في حال عَفْوِهِنَّ، فإنه لا يجب، وإليه نَحَا أبو البقاء، وهذا ظاهرٌ، ونظيرُه:{لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَاّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] وقال

ص: 218

أبو حيان «إِلَاّ أَنَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقعَ» أَنْ «وصلتُها حالاً، كسيبويه؛ فإنه يمنعُ ذلك، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً» .

وقرأ الحسن «يَعْفُونَهُ» بهاء مضمومةٍ وفيها وجهان:

أحدهما: أنها ضميرٌ يعودُ على النِّصف، والأصلُ: إِلاّض أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ، فحُذِف حرفُ الجَرِّ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ.

والثاني: أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ، وإنما ضَمَّها؛ تشبيهاً بهاءِ الضميرِ، كقول الآخر [الطويل]

1144 -

هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ.....

...

...

...

...

على أحدِ التأويلين في البَيت أيضاً.

وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَعْفُونَ» بتاءِ الخطابِ، ووجهها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى الخطابِ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهنَّ، وأنه مندوبٌ.

و «يَعْفُونَ» منصوبٌ ب «أَنْ» تقديراً؛ فإنَّه مبنيٌّ؛ لاتصاله بنونِ الإِناثِ، هذا رأيُ الجمهور، وأمَّا ابن درستويه، والسُّهَيْليُّ: فإنه عندهما معربٌ، وقد فَرَّق الزمخشريُّ وأبو البقاء بين قولك:«الرِّجَالُ يَعْفُونَ» و «النِّسَاءُ يَعْفُونَ» وإنْ كان [هذا] من الواضحاتِ بأنَّ قولك «الرِّجَالُ يَعْفُونَ» الواو فيه ضميرُ جماعة الذكور، وحُذف قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل:«يَعْفُوونَ» ، فاسْتُقْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى، فحُذِفت، فبقيت ساكنةً، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةٌ، فحُذِفت الواو الأولى؛ لئلَاّ يلتقي ساكنان، فوزنهُ «يَعْفُونَ» ، والنونُ علامة الرفع؛ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ - وأَنَّ قولك:«النِّسَاءُ يَعْفُونَ» ، الواوُ لامُ الفعل، والنون ضميرُ جماعةِ الإِناثِ، والفعل معها مبنيٌّ، لا يظهرُ للعامِل فيه أَثَرٌ قال شهاب الدين: وقد ناقش الشيخ الزمخشريُّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تُعْرَفُ، وبأنه لم يبيِّنْ حذف الواو من قولك:«الرِّجَالُ يَعْفُونَ» ، وأنه لم يذكُرْ خلافاً في بناء المضارع المتَّصلِ بنون الإناث، وكُلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُناقَشَ بمثله.

وقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي} «أَوْ» هنا فيها وجهان:

أحدهما: هي للتنويع.

والثاني: أنها للتخيير، والمشهورُ فتحُ الواو؛ عطفاً على المنصوبِ قبله، وقرأ

ص: 219

الحسن بسكونها واستثقل الفتحة على الواو، فقدَّرها كما يقدِّرها في الألف، وسائرُ العرب على استخفافها، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورةٍ؛ كقوله - هو عامر بن الطُّفَيل -[الطويل]

1145 -

فَمَا سَوَّدَتْني عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ

أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُوْ بَأُمِّ وَلَا أَبِ

ولمَّا سكَّن الواوَ، حُذِفَت للساكن بعدها، وهو اللامُ من «الَّذِي» ، وقال ابنُ عطية «والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرِّفةٍ قبلها متحرِّكٌ؛ لقلِّةِ مجيئها في كلامهم» وقال الخليل:«لم يجئ في الكلام واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلها فتحةٌ إلا قولهم» عَفْوَة «جمع عَفْو» ، وهو ولدُ الحِمَارِ، وكذلك الحركة - ما كانت - قبل الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ «انتهى. قال أبو حيَّان: فقوله:» لقلَّةِ مجيئها «، يعني مفتوحةً، مفتوحاً ما قبلَها، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ، وذلك أنَّ الحركةَ قبلها: إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً، أو كسرةً، أو فتحةً، فإنْ كانَتْ ضمَّةً: فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ، فإنْ كان في فعلٍ، فهو كثيرٌ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارع الداخلِ عليها حرف نصبٍ؛ نحو:» لَنْ يَغْزُوَ «، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها؛ نحو» هلَ يَغْزُوَنَّ «، وكذلك الأمر؛ نحو:» اغْزُوَنَّ «، وكذا الماضي على» فَعُلَ «في التعجب؛ نحو: سَرُوَ الرَّجُل؛ حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجُّب، فيقولون:» لَقَضُوَ الرَّجُلُ «، على ما قُرِّرَ في بابِ التصريف، وإنْ كان ذلك في اسم: فإمَّا أن يكونَ مبنيّاً على هاءِ التأنيث، فيكثر أيضاً؛ نحو: عَرْقُوة وتَرْقُوة وقمحدوة، وإنْ كان قبلها فتحة، فهو قليل؛ كما ذكر الخليل، وإن كان قبلها كسرةٌ، قُلِبت الواوُ ياءً؛ نحو: الغازي والغازية، وشَذَّ من ذلك» أَفْرِوَة «جمع» فَرِوَة «، وهي مَيْلَغَةُ الكَلْب، و» سَوَاسِوَة «وهم: المستوون في الشَّرِّ، و» مَقَاتِوَة «جمع مُقْتَو، وهو السائسُ الخادِمُ، وتَلَخَّصَ من هذا أنَّ المراد بالقليل واوٌ مفتوحةٌ متطرِّفة مفْتُوحٌ ما قبلها [في] اسمٍ غير ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ، فليس قولُ ابن عطية» والَّذي عندي إلَى آخره «بظاهر.

والمرادُ بقوله: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} قيل: الزوجُ، وقيلَ: الولِيُّ و «أل» في النكاح للعهدِ، وقيل بدلٌ من الإِضافةِ، أي: نكاحُه؛ كقوله: [الطويل]

1146 -

لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللهُ غَيْرَهُمْ

مِنَ الجُودِ، وَالأَحْلاُمُ غَيْرُ عَوَازِبِ

أي: أحلامُهم، وهذا رأيُ الكوفيِّين. وقال بعضهم: في الكلامِ حذفٌ، تقديره:

ص: 220

بيده حِلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ؛ كما قيل ذلك في قوله: {وَلَا تعزموا عُقْدَةَ النكاح} [البقرة: 235] ، أي عَقْدَ عُقْدَةِ النكاح، وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزَّوْجُ.

فصل فيمن بيده عقدة النكاح

المراد بقوله: «يَعفُونَ» أي: المطلقاتُ يعفُون عن أزواجهنَّ، فلا يطالبنهم بنصفِ المهرِ.

واختلفوا في {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسعيدُ بن جُبير، والشعبي، وشُرَيحٌ، ومجاهدٌ، وقتادة: هو الزَّوج، وبه قال أبو حنيفة.

وقال علقمةُ، وعطاءُ، والحسنُ، والزهريُّ، وربيعةُ: هو الولي، وبه قال أصحابُ الشَّافعيِّ.

واحتج الأَوَّلون بوجوهٍ:

الأول: أنَّه ليس للولِيّ أَنْ يهب مهرَ وليَّته، صغيرةً كانت، أو كبيرةً.

الثاني: أنَّ الَّذي بيد الولِيّ هو عقدُ النكاحِ، فإذا عقد، فقد حصل النكاحُ، والعقدةُ الحاصلةُ بعد العقدِ في يدِ الزَّوج، لا في يدِ الولي.

الثالث: روي عن جُبير بن مطعم: أَنَّهُ تزوج امرأةً وطلَّقها قبل أن يدخل بها، فأكمل الصداق، وقال: أنا أحَقُّ بالعفوِ، وهذا يدل على أنّ الصحابةَ فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج.

واحتج القائِلون بأنّه الوَلِيُّ بوجوهٍ.

أحدها: أن عفو الزوج هو أن يعطيها المهرَ كُلَّهُ، وذلك يكون هبةً، والهبةُ لا تُسمَّى عفواً.

وأُجيبوا بأنه كان الغالب عندهم، أَنْ يسوق المهرَ كُلَّه إليها، عند التزوج، فإذا طلّق، فقد استحقَّ المُطَالبة بنصفِ ما ساقَهُ إليها، فإذا ترك المطالبة، فقد عفا عنها.

ص: 221

وأيضاً، فالعفو قد يُراد به التسهيلُ، يقال: فلانٌ وجد المالَ عفواً صَفْواً، وقد تقدَّم وجهه في تفسير قوله تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] فعلى هذا عفو الرجل: أَنْ يبعث إليها كُلَّ الصداقِ على وجهِ السهُولةِ.

الثاني: أَنَّ ذكر الزَّوج، قد تقدَّم في قوله تعالى:{وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} فلو كان المرادُ ب {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} هو الزوج، لقال: أَوْ تَعْفُو على سبيل المخاطبةِ فلمَّا عبّر عنه بلفظ الغائب، علِمْنا الغائب، علِمْنا أَنَّ المرادَ منه غيرُ الأَزواج.

وأجيبوا بأَنَّ سبب العُدُولِ عن الخطاب إلى الغيبة؛ التنبيه على المعنى الذي لأجله رغب الزوج في العقد، والمعنى: أَوْ يَعْفُو الزوج الذي حبسها مالك عقد نكاحها عن الأزواج، ولم يكن منها سبب في الفراق وَإِنَّما فارقها الزوج، فلا جرم كان حقيقاً بأَلَاّ ينقصها من مهرِها شيئاً.

الثالث: أَنَّ الزوج ليس بيده عَقْدُ عُقْدة النكاح أَلْبَةَّةَ؛ لأنه قبل النكاح كان أَجْنبيّاً عن المرأة، ولا قُدْرة له على التصرف فيها بوجهٍ من الوجوهِ، وأمَّا بعد النكاح، فقد حصل النكاحُ، ولا قُدْرة له على إيجاد الموجودِ، بل له قدرةٌ على إِزالة النكاح، والله - تعالى - أثبت العفو لمن في يدِه، وفي قُدرته عقد النكاح.

قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ} : «أَنْ تَعْفُوا» في محلِّ رفع بالابتداء؛ لأنه في تأويل «عَفْوُكُمْ» ، و «أَقْرَبُ» خبره، وقرأ الجمهور «تَعْفُوا» بالخطاب، والمرادُ الرجالُ والنساءُ، فغلَّبَ المذكَّر لأنه الأصلُ، والتأنيث، قلتَ:«قَائِمَة» فاللفظ الدالُّ على المذكر هو الأَصل، والدالُّ على المؤنَّثِ فرعٌ عليه، وأمَّا المعنى: فلأَنَّ الكمال للذُّكور، والنُّقصانَ للإِناثِ؛ فلهذا متى اجتمع المذكرُ، والمؤنثُ - غُلِّب التذْكير، والظاهِرُ أنه للأزواج خاصَّةً؛ لأنهم المخاطبون في صدر الآيةِ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ، وهو قوله:{الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} - على قولنا إنَّ المرادَ به الزوجُ -[وهو المختارُ]- إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآية، وقرأ الشَّعبيُّ وأبو نهيك «يَعْفُوا» بياء من تحت، قال أبو حيَّان جعله غائباً، وجُمِع على معنى:{الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} ؛ لأنه للجنس لا يُراد به واحدق يعني أنَّ قوله: «وَأْنْ يَعْفُوا» أصله «يَعْفُوُونَ» ، فلمَّا دخل الناصبُ، حُذِفت نونُ الرفعِ، ثم حُذِفَت الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ، وهذه الباقية هي ضميرُ الجماعةِ، جُمِعَ على معنى الموصُول؛ لأنه وإِنْ كان مفرداً لفظاً، فهو مجموعٌ في المعنى؛ لأنه جنسٌ، ويظهر فيه

ص: 222

وجهٌ آخرُ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ، وفي هذا الفعل ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عُقدةُ النِّكَاح، إلا أنه قَدَّر الفتحةَ في الواوِ استثقالاً؛ كما تقدَّم في قراءةِ الحسن، تقديره: وأَنْ يَعْفُو الذي بيده عقدةُ النِّكاح.

قوله: {للتقوى} متعلِّقٌ ب «أَقْرَبُ» وهي هنا للتعديةِ، وقيلَ: بل هي للتعليل، و «أَقْرَبُ» تتعدَّى تارةً باللام، كهذه الآيةِ، وتارةً ب «إِلَى» ؛ كقوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] ، وليست «إِلَى» بمعنى «اللام» ، وقيل: بل هي بمعناها، وهذا مذهبُ الكوفيين، أعنى التجوُّزَ في الحروفِ، ومعنى اللامِ و «إِلَى» في هذا الموضع يتقارَبُ.

وقال أبو البقاء: يجوزُ في غير القرآن: «أَقْرَبُ مِنَ التقوَى، وإِلَى التقْوَى» ، إلَاّ أَنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على [معنًى] غير معنى «إِلَى» ، وغير معنى «مِنْ» ، فمعنى اللامِ: العفو أَقربُ مِنْ أَجْلِ التقوى، واللام تدلُّ على علَّة قُرب العفو، وإذا قلتَ: أقربُ إلى التقوى، كان المعنى: يقاربُ التقوى؛ كما تقول: «أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَيَّ» ، و «أَقْرَبُ مِنَ التَّقْوَى» يقتضي أن يكون العفو والتقوَى قريبَيْن، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوَى، وليس معنى الآية على هذا. انتهى. فجعل اللام للعلة، لا للتعدية، و «إِلَى» للتعدية.

واعلم أَنَّ فِعْلَ التعجُّب، وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلهما قبل أن يكونَ تعجُّباً وتفضيلاً؛ نحو:«مَا أَزْهَدَنِي فِيهِ وَهُوَ أَزْهَدُ فِيهِ» ، وإِنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ: فإِنْ كان الفعلُ يُفهم علماً أو جَهْلاً، تعدَّيا بالباءِ؛ نحو:«هُوَ أَعْلَمُ بالفِقْهِ» ، وإِنْ كان لا يفهم ذلك، تعدَّيا باللامِ، نحو:«مَا أَضْرَبَكَ لِزَيْدٍ» و «أَنْتَ أَضْرَبُ لِعَمرو» إِلَاّ في باب الحُبِّ والبُغْضِ، فإنهما يتعَدَّيان إلى المفعول ب «في» ، نحو:«مَا أَحَبَّ زَيْداً فِي عَمرو، وَأَبْغَضَهُ فِي خَالِدٍ، وهو أَحَبُّ في بكرٍ، وأَبْغَضُ في خَالِدٍ» وإلى الفاعل المعنويِّ ب «إِلَى» ، نحو «زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عمرو من خالِدٍ، ومَا أَحَبَّ زَيْداً إِلَى عَمْرو» ، أي: إِنَّ عَمْراً يُحِبُّ زَيْداً، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ.

والمفضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ، تقديرُه: أقربُ للتقوَى من تَرْكِ العَفْوِ، والياءُ في التقوَى بدلٌ من واو، وواوها بدلٌ من ياءٍ؛ لأنها من وَقَيْتُ أَقِي وِقَايَةً، وقد تقدَّم ذلك أوَّلَ السورة.

فصل

وإنَّما كان العفو أقرب إلى حُصُول التقوى؛ لأن مَنْ سمح بترك حَقِّه، فهو محسنٌ، ومَنْ كان مُحْسِناً، استحقَّ الثواب، وإذا استحق الثواب، فقد اتقى بذلك الثواب ما هو دونه مِنَ العقاب، وأيضاً فإن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظُّلم، وترك الظلم تقوى في

ص: 223

الحقيقة؛ لأن مَنْ سمح بحقِّه تقرُّباً إلى ربه، كان أبعد مِنْ أَنْ يظلم غيره.

قوله: {وَلَا تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} قرأ الجمهور بضمِّ الواو مِنْ «تَنْسَوا» ؛ لأنها واوٌ ضمير، وقرأ ابن يعمر بكسرها تشبيهاً بواو «لَوْ» كما ضَمّوا الواو من «لَو» ؛ تشبيهاً بواو الضمير، وقال أبو البقاء في واوِ «تَنْسَوا» من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] ، وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ، فظاهرُ كلامه عودُها كلِّها إلى هنا، إلَاّ أنه لم يُنْقَل هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما.

وقرأ علي رضي الله عنه: «وَلَا تَنَاسَوا» قال ابن عطيَّة: «وهي قراءة متمكِّنةٌ في المعنى؛ لأنه موضعُ تَنَاسٍ، لا نِسْيَانٍ، إلَاّ على التشبيه» ، وقال أبو البقاء: «على باب المفاعلةِ، وهي بمعنى المتاركةِ، لا بمعنى السهو، وهو قريبٌ من قولِ ابن عطيَّة.

قوله تعالى:» بَيْنَكُمْ «فيه وجهان.

أحدهما: أنه منصوبٌ ب» تَنْسَوا «.

والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضل، أي كائناً بينَكثمْ، والأولُ أَوْلَى؛ لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغ من فعلٍ لا يكونُ بينَهُم والمرادُ بالفضلِ، أي: إفضال بعضكم لى بعض بإعطاء الرجل تمامَ الصداقِ، أو تركِ المرأَةِ نصيبها، حثَّهما جميعاً على الإحسان، ثم ختم الآية بما يجري مجرى التهديد، فقال:{إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

قال القرطبي: هذا خبرٌ في ضمنه الوعد للمحسنين، والحِرمانُ لغير المحسنين، أي: لا يخفى عليه عفوكم، واستقضاؤكم.

ص: 224

قوله تعالى: {حَافِظُواْ} : في «فَاعَلَ» هنا قولان:

أحدهما: أنه بمعنى «فَعِلَ» ، كطارَقْتُ النَّعْلَ، وعاقَبْتُ اللصَّ، ولمَّا ضمَّن المحافظة معنى المواظبةِ، عدَّاها ب «عَلَى» .

ص: 224

الثاني: أنَّ «فَاعَلَ» على بابها من كونها بين اثنين، فقيلَ: بين العبدِ وربِّه، كأنه قيل: احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ، وقيل: بين العبدِ والصلاةِ، أي: احفَظْها تَحْفَظْك. وحفظُ الصَّلاة للمُصلِّي على ثلاثة أوجهٍ:

الأول: أنها تحفظه مِنَ المعاصي؛ كقوله: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] .

الثاني: تحفظه من البَلايا، والمِحَن؛ لقوله:{واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]، وقال الله:{إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة} [المائدة: 12] أي: معكم بالصَّبر، والحفظ.

الثالث: تحفظُه: بمعنى تشفعُ له؛ لأن الصلاة فيها القرآنُ؛ والقرآن يشفع لقارئه، وهو شافِعٌ مُشَفَّعٌ.

وقال أبو البقاء: ويكون وجوبُ تكرير الحِفْظ جارياً مجرى الفاعلين؛ إذْ كان الوجوبُ حاثّاً على الفعلِ، وكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ؛ كما قالوا في {وَاعَدْنَا موسى} [البقرة: 51] فالوعدُ من اللهِ، والقَبُولُ من موسى بمنزلةِ الوعد؛ وفي «حَافِظُوا» معنى لا يُوجَدُ في «احْفَظُوا» وهو تكريرُ الحفْظِ وفيه نظرٌ؛ إذ المفاعلةُ لا تدُلُّ على تكريرِ الفعلِ ألبتةَ.

قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} ذكر الخاصَّ بعد العامِّ، وقد تقدَّم فائدته عند قوله تعالى:{مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ} [البقرة: 98] والوُسطى: فعلى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسطِ؛ كقوله - يمدح الرسول عليه والصلاة والسلام -:[البسيط]

1147 -

يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرّاً فِي مَفَاخِرِهِمْ

وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا

وهي [من] الوسط الذي هو الخيارُ، وليست من الوسطِ الذي معناه: متوسِّطٌ بين شيئين؛ لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل، إلا ما يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسِّطِ بين الشيئين؛ فإنه لا يَقْبَلُهما، فلا ينبني منه أفعلُ التفضيل.

وقرأ علي: «وَعَلَى الصَّلَاةِ» بإعادة حرفِ الجرِّ توكيداً، وقرأَتْ عائشةُ رضي الله عنها «وَالصَّلَاةَ» بالنصبِ، وفيها وجهان:

أحدهما: على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشريُّ.

ص: 225

والثاني: على موضع المجرورِ قَبْلَهُ؛ نحو: مَرَرْتُ بزيدٍ وَعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة - إن شاء الله تعالى -.

قال القرطبي: وقرأ أبو جعفر الواسطي «والصَّلَاةَ الوُسْطَى» بالنصب على الإِغراء أي: والْزَمُوا الصَّلاة الوُسْطَى وكذلك قرأ الحلواني، وقرأ قالُونُ، عن نافع «الوُصْطَى» بالصَّادِ؛ لمجاورَة الطاءِ؛ لأنهما مِنْ واحدٍ، وهما لغتان؛ كالصراط ونحوه.

فصل

لمّا ذكر الأحكام المتعلّقة بمصالح الدُّنيا مِنْ بيان: النكاح، والطلاقِ، والعُقُودِ، أتبعه بذكر الأَحكامِ المتعلِّقة بمصالح الآخرة.

وأَجمع المسلمون على وجوب الصلوات الخمس، وهذه الآيةُ تدلُّ على كونها خَمْساً؛ لأن قوله:{حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} تدل على الثَّلاثة مِنْ حيثُ إِنَّ أَقلَّ الجمع ثلاثةٌ، ثم قال:{والصلاة الوسطى} يدلُّ على شيءٍ زائدٍ عن الثلاثة؛ وإلَاّ لزم التكرارُ، والأصلُ عدمهُ، ثم إنَّ الزَّائد يمتنع أَنْ يكون أربعةً، لأنها لا يبقى لها وسطى فلا بُدَّ وأَنْ ينضمَّ إلى تلك الثلاثة عددٌ آخرٌ؛ حتى يحصلَ به للجموع واسطةٌ، وأقلُّ ذلك خمسةٌ، فدلَّت هذه الآيةُ على أن الصلوات المفروضات خمسٌ بهذا الطَّريق، وهذا الاستبدال إنما يتم، إذا قُلنا: إنَّ المراد من الوُسْطَى ما يكونُ وسطاً في العدد، لا ما يكون وسطاً بسبب الفضيلة.

فصل

هذه الآيةُ وإِنْ دلّت على وجوب الصلوات الخمس لكنَّها لا تدلُّ على أوقاتها.

قالوا: والآياتُ الدالةُ على تفصيل الأَوقاتِ أَربعٌ:

أحدها: قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] .

فقوله: «سُبْحَانَ اللهِ» أي: فسبِّحوا اللهَ، معناه: صلُّوا للهِ حين تمسون، أراد به صلاة المغربِ، والعِشَاءِ، «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» أراد صلاة الصُّبح، و «عَشيّاً» أراد به [صلاة] العصر، و «حِينَ تُظْهِرُونَ» ، صلاة الظهر.

الثانية: قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل} [الإسراء: 78] أراد ب «الدلوك» زوالها، فدخل في الآية: صلاةُ الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال:{وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] أراد صلاة الصُّبح.

الثالثة: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130] قالوا: لأَنَّ الزمان إِمَّا أَنْ يكون قبل طُلُوعِ الشَّمسِ، أو قبل غروبها، فالليل والنهارُ داخلان في هاتين اللفظتين.

ص: 226

الرابعة: قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل} [هود: 114] فالمراد ب «طَرَفَي النَّهَارِ» الصُّبحُ والعَصْر، وبقوله «وزُلْفاً من الليل» المغرب، والعشاء.

فصل في الصلاة الوسطى

اختلفوا في الوسطى على سبعة مذاهب:

الأول: أنَّ الله - تعالى - لمّا لم يبينها بل خصَّها بمزيد التوكيد، جاز في كُلِّ صلاةٍ أَنْ تكون هي الوسطَى، فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل بصفةِ الكمالِ، والتمام؛ كما أنّه أخفى ليلة القَدْرِ في رمضان، وأخفى ساعةَ الإجابةَ في يوم الجُمُعةِ، وأَخْفَى اسمه الأَعظم في جميع الأَسماءِ، وأخفى وقتَ الموتِ في الأوقات؛ ليكون المكلَّف خائِفاً من الموتِ في كل الأوقات، وهذا قولُ جماعةٍ من العُلَماءِ.

قال محمَّد بن سيرين: سأل رجلٌ زيد بن ثابتٍ، عن الصلاة الوسطى، فقال: حافِظ على الصلوات كُلِّها تصبها.

وعن الربيع بن خيثم أنّه سأله واحدٌ عنها، فقال: قال ابن عمر: الوُسطى واحدة منهن، فحافِظ على الكُلِّ تكُنْ محافظاً على الوسطى، ثم قال الربيع: فإنْ حافظتَ عليهن، فقد حافظت على الوسْطى.

الثاني: أَنَّ الوسطى هي مجموعُ الصلوات الخَمْس؛ لأَن هذه الصلوات الخمس: هي الوسطى من الطاعات، وتقريره: أنَّ الإِيمان بضعٌ وسبعون درجة: أعلاها شهادةث أَنْ لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى، فهي واسطة بين الطرفين.

وقيل: الوسطى صلاةُ الجمعة؛ لأن وقتها وسطُ النهارِ، ولها شروط ليست لبقيَّة الفرائض: من أشتراط الخُطبة، والأَربعين، ولا تصلي في المِصْر أكثر مِنْ جمعةٍ واحدةٍ، إِلَاّ أَنْ تدعُو الحاجة إلى أكثر منها؛ وتفوتُ بفواتِ وقتها ولا تقضى؛ لأن العطف يقتضي المغايرة.

الثالث: أنها صلاةُ الصبح، وهو قول علي وعمر وابن عباس، وابن عمرو وجابر بن عبد الله، ومعاذ وأبي أمامة الباهِليّ، وهو قول عطاء، وطاوسٍ، وعكرمة ومجاهد، وإليه ذهب مالكٌ، والشافعي. واستدلُّوا بوجوه:

ص: 227

أحدها: أنَّ هذه الصلاة تُؤدَّى بعد طُلُوع الفجر، وقبل طلوع الشمس، وهذا الزمان ليس فيه ظُلمة باقية، ولا ضوء تام فكأنّه ليس بليلٍ ولا نهارٍ، فكان مُتوسِّطاً بينهما.

وثانيها: أَنََّ النهار حصل فيه صلاتان: الظهر، والعصر؛ وفي الليل صلاتان: المغرب، والعشاء؛ وصلاةُ الصبح كالمتوسطة بين صلاتي الليل، وصلاتي النهار.

فإنْ قيل: هذه المعاني حاصِلةٌ في صلاة المغرب.

فالجوابُ: أنَّا نرجِّح صلاة الصُّبح على صلاة المغرب؛ بكثرة الفضائلِ، على ما سيأتي إِنْ شاء الله تعالى.

وثالثها: أَنَّ الظهر، والعصر صلاتا جمعٍ، وكذلك: المغربُ والعِشاءُ، وصلاة الصبح منفردةٌ بوقتِ واحدٍ؛ فكانت وسطاً بينهما.

ورابعها: قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] وقد ثبت أَنَّ المراد منه صلاةُ الفجر، يعنى تشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار، فلا تجتمعُ ملائِكةُ الليل وملائكةُ النهار في وقتٍ واحد، إِلاّ في صلاةِ الفجر؛ فثبت أَنَّ صلاةَ الفجرِ قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه؛ فكانت كالشيءِ المتوسِّط.

وخامسها: قوله تعالى: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} وصلاة الصبح مخصوصةٌ بطول القيام، والقنوت، وهذا ضعيف، لأنه يقال لا نُسلِّمُ أَنَّ المراد بالقنوت طولُ القيام، كما سيأتي في تفسير هذه الكلمة، ولا نُسَلّم أَنَّ القنوت مخصوص بالفجر؛ بل يقنت في سائر الصَّلوات إِذَا نزل بالمسلمين، إِلَاّ فلا قنوت في شيءٍ من الفرائض.

وسادسها: أَنَّهُ تعالى إنَّما أفردها بالذكر؛ لأَجل التأكيد؛ لأنها أحوجُ الصلوات إلى التَّأكيد، إِذْ ليس في الصلواتِ أشقّ منها؛ لأنها تجب على الناس في ألذ أوقاتِ النَّوم؛ فيترك النومَ اللذيذ إلى استعمال الماء البارِدِ، والخُروج إلى المسجد والتَّأهب للصلاة، ولا شَكَّ أن هذا شاق صعبٌ على النفس.

وسابعها: أنها أفضلٌ الصلواتِ، فوجب أَنْ تكونَ هي الوسطى، ويدل على فضيلتها وجوه:

الأول: قوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] فختم طاعاتهم بكونهم

ص: 228

مُسْتغفرين بالأَسحارِ، وأَعظمُ أَنواع الاستغفار الفرائضُ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام ُ - حاكياً عن رَبّه:«لن يتقرّب المتقرّبون إليّ بمِثْل أَدَاءِ ما افترضتُ عَلَيْهِمْ» .

الثاني: رُوِيَ أَنَّ التكبيرة الأُولى فيها في الجماعة خيرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فيها.

الثالث: أنه ثبتَ أَنَّ صلاة الصبح مخصوصة بالأَذانِ مرَّتين: مرَّة قبل طُلُوع الفجر، ومرةً بعده.

فالأول: لإيقاظِ الناس من نومِهم، وتأهبهم.

والثاني: الإِعلامُ بدخول الوقت.

الرابع: أَنَّ الله سمّاها بأسماء، فقال في بني إسرائيل {وَقُرْآنَ الفجر} وقال في النور

{مِّن

قَبْلِ

صلاة

الفجر} [النور: 58] وقال في الروم {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقال عمر رضي الله عنه أن المراد من قوله {وَإِدْبَارَ النجوم} [الطور: 49] صلاة الفجر.

الخامس: أن الله تعالى أقسَمَ بها، فقال:{والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2] .

فإن قيل: قد أقسم الله تعالى - أيضاً - بالعصر فقال: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] قلنا: سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر، لكن في صلاة الفجرمزيدُ تأكيدٍ وهو قوله:{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 14] فكما أنّ أحدَ الطرفين، وهو الصبحُ، وهو واقعٌ قبل الطلُوع والطرف الآخرُ هو المغرب؛ لأنه واقعٌ قبل الغُرُوب، فقد اجتمع في الفجر القسمُ به، مع التأكيد بقوله:{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 14] هذا التأكيدُ لم يوجد في العصر.

السادس: أن التثويب في أذان الصُّبح معتبرٌ، وهو قولُ المؤذن: الصلاةُ خيرٌ من النَّومِ، وهذا غيرُ حاصل في سائر الصلواتِ.

السابع: أَنَّ الإنسان إذا قام مِنْ نومِه فكأنه كان معدُوماً، ثم صار موجوداً أو كان مَيْتاً، ثم صار حياً، فإذا شاهد العَبْدُ هذا الأمر العظيم، فلا شكَّ أنَّ هذا الوقت أليقُ الأَوقاتِ، بأَن يظهر العبدُ الخضوع، والذلة والمسكنة في هذه العبادة.

وثامنها: رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سُئِل عن الصلاةِ الوسطى، فقال: كنا نرى أنَّها الفجرُ.

ص: 229

وعن ابن عباس رضي الله عنه أنَّه صلى الصبح، ثم قال: هذه هي الصلاةُ الوسْطى.

القول الرابع: أَنَّهُ صلاةُ الظهرِ، وهو قول عمر، وزيدٍ بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وأُسامة بن زيدٍ، وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه، واحتجُّوا بوجوه:

الأول: أن الظهرَ كان شاقّاً عليهم؛ لوقوعه في وقتِ القَيْلُولة، وشدَّةِ الحرِّ، فصرفُ المبالغة فيه أولى.

الثاني: روى زيد بن ثابت أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ - كان يصلي بالهاجرة، وكان أثقلَ الصلواتِ على أصحابه، وربما لم يكُن وراءه إلاّ الصَّفُّ، والصَّفَّاِ، فقال عليه الصلاة والسلام ُ:«لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحْرِّقَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاة في بُيُوتهم» فنزلت هذه الآيةُ.

الثالث: أن صلاة الظُّهر تقع في وسط النهار، وليس في المكتوباتِ صلاة تقع في وسطِ النهارِ، وهي أَوسطُ صلاةِ النَّهارِ في الطول.

الرابع: قال أبو العالية: صليتُ مع أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم َ - الظهرَ، فلمّا فرغُوا سأَلتُهم عن الصلاةِ الوسطى فقالوا: التي صلَّيتَها.

الخامس: روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاة الوُسْطَى وَصَلَاةَ العَصْرِ» ، وكانت تقولُ سمعتُ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -.

ص: 230

وجهُ الاستدلالِ أنها عطفت صلاةَ العَصْرِ على الصلاةِ الوُسْطى، والمعطوفُ عليه قبل المعطُوفِ، والذي قبل العصر هي صلاةُ الظهر.

السادس: رُوي أنَّ قوماً كانوا عند زيد بن ثابتٍ، فأرسلوا إلى أُسامة بن زيدٍ، وسأَلُوه عن الصَّلاةِ الوُسطى، فقال: هي صلاةُ الظهرِ كانت تقامُ في الهَاجِرة.

السابع: روي في الحديث أن أوَل إِمامة جبريل عليه السلام كانت في صلاةِ الظهر، فَدَلَّ على أنّها أشرف، فكان صرفُ التَّأكيد إليها أولى.

الثامن: أَنَّ صلاةَ الجمعة هي أشرفُ الصَّلواتِ، وهي صلاةُ الظهرِ فصرف المبالغة إليها أولى روى الإمامُ أحمدُ، وصحَّحَه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ - سُئِل عن الصلاة الوسطى [فقال] العصرُ. ورَوى أحمدُ، والترمذيُّ، وصحَّحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - سُئِل عن صلاةِ الوسطى فقال: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ والصَّلاةِ والوُسْطَى وَصَلاةَ العَصْرِ» ثم نُسِخَت هذه الكلمةُ، وبقي قولُه:«وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ» .

فإن قيل قد روي أنَّ عائشة أمرت أن يكتب لها مصحف، وقالت للكاتب: إذا بلغت قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} فآذِنِّي، فلما وصل الكاتب إلى قوله تعالى:{والصلاة الوسطى} آذنها فأمرته أن يكتب: «وَصَلَاةَ العَصْرِ» وقالت: هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.

ص: 231

فالجواب أن هذا لم يروه غير واحدٍ تفرَّد به. وقد روى جماعةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنها صلاة العصر، كما سيأتي، وكثرة الأدلة، والرُّواة يرجّح بها.

القول الخامس: أنها صلاة العصر، وهو مرويٌّ عن عليّ، وابن مسعودٍ، وابن عبَّاسٍ، وأبي هريرة، وأبي أيُّوب، وعائشة، وبه قال إبراهيم النخعي، وقتادة، والحسن، والضحاك، ويروى عن أبي حنيفة.

واحتجوا بوجوه:

الأول: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال يوم الخندق: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الوُسْطَى صَلَاة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً» وروى زرُّ بن حبيش، قال: قلنا لعبيدة: سل علياً عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال: كنَّا نرى أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول يوم الخندق:«شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الوُسْطَى صَلَاة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً» وعن عبد الله بن مسعودٍ، قال: حَبَسَ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن صَلاة العصر، حتَّى احمرَّت الشمس، أو اصفرَّت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الوُسْطَى صَلَاة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً، أو حَشَا اللهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً» .

الثاني: أنَّ العصر أولى بالتأكيد من غيرها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلَاةِ العَصْرِ فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» ، وقوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلَاةِ العَصْرِ أو مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ» وقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ حَافَظَ عَلَى صَلَاةِ العَصْرِ آتَاهُ اللهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ» ولأن المحافظة على سائر الصلوات، أخفُّ وأسهل من المحافظة على وقت العصر أخفى الأوقات.

ص: 232

وذلك لأن الصُّبح يدخل وقتها بطلوع الفجر المستطير ضوؤه، ودخول الظهر بزوال الشَّمس، والمغرب بغروب القرص، ودخول العشاء بمغيب الشَّفق الأحمر، لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر.

الثالث: أنَّ الناس عند العصر يكونون مشغولين بمهماتهم، فكان الإقبال عليها أشقُّ.

الرابع: أنَّها متوسطةٌ بين صلاةٍ نهاريَّة، وهي الظهر، وصلاةٍ ليليَّةٍ، وهي المغرب، وأيضاً، فهي متوسِّطة بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار.

فإن قيل: قد ثبت عن عائشة أنها قرأت: «وَصَلَاةَ العَصْرِ» .

فالجواب أن يقال: إن هذه قراءة شاذَّة، ولأنه ثبت عن خلق كثير في أحاديث صحيحةٍ أنها العصر ورووها بغير واوٍ؛ فدل على أنّ الواو زائدةٌ، ولأنَّ الراوي لا يجوز له أن يسقط من الحديث حرفاً واحداً يتعلق به حكمٌ شرعي.

أو يقال: هذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، أو من عطف الصفات؛ لقولك: زيدٌ الكريم والعالم.

والقول السادس: أنها صلاة المغرب، وهو قول عبيدة السلماني وقبيصة بن ذؤيب، واحتجُّوا بوجهين:

أحدهما: أنه بين بياض النَّهار، وسواد اللَّيل، وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصُّبح، إلاّ أن الغرب ترجَّح بوجوهٍ أُخر: وهي أنها أزيدُ من الرَّكعتين؛ كما في الصبح، وأقلُّ من الأربع؛ كما في الظهر، والعصر، والعشاء، فهي وسطٌ في الطُّول، والقصر.

الوجه الثاني: أنَّ صلاة الظهر تسمَّى بالصلاة الأولى، ولذلك ابتدأ جبريل بالإمامة فيها، وإذا كان الظهر أوَّل الصلوات، كانت المغرب، هي الوسطى، لا محالة، ولأنَّ قبلها صلاة سرٍّ، وبعدها صلاة جهرٍ.

القول السابع: أنها العشاء، قالوا: لأنها متوسِّطة بين صلاتين لا تقصران: المغرب، والصبح.

وعن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنّه قال: «مَنْ صَلَّى صَلَاةَ العِشَاءِ الآخِرَةِ في جَمَاعَةٍ، كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَة» .

قال القرطبي: وقال أبو بكر الأبهري: إن الوسطى صلاة الصُّبح، وصلاة العصر

ص: 233

تبعاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن اسْتَطَعْتُمْ أَلَاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» يعنى: العصر، والفجر، ثم قرأ جرير:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] . وروى عمَّار بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول: «لنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا» يعني الفجر والعصر، وقيل: العشاء والصبح؛ لأن أبا الدَّرداء رضي الله عنه قال في مرضه الذي مات فيه: اسمعوا، وبلِّغوا من خلفكم: حافظوا على هاتين الصَّلاتين، يعني في جماعة - العشاء والصُّبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على مرافقكم.

قوله: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} قال ابن عباس: القنوت: الدعاء، والذكر، بدليل قوله تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً}

[الزمر: 9] . ومنه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قنت يدعو على رعل، وذكوان، وعصيّة، وأحياء من سليم. وقيل: مُصلِّين؛ لقوله: «أَمْ هُوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ» .

وقال الشعبيُّ، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وطاوسٌ، وقتادة، والضحاك، ومقاتلٌ: القنوت: الطاعة، ويدلُّ عليه وجهان:

الأول: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنّه قال: «كُلُّ قُنُوتٍ في القُرْآنِ فَهُوَ طَاعَةٌ» .

ص: 234

والثاني: قوله تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] وقال: {فالصالحات قَانِتَاتٌ} [النساء: 34] فالقنوت عبارةٌ عن كمال الطَّاعة، وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها. قال الكلبيُّ، ومقاتلٌ: لكلِّ أهل دينٍ صلاةٌ يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين.

وقيل: القنوت: السكوت، وهو قول ابن مسعود، وزيد بن أرقم، قال زيد بن أرقم: كنَّا نتكلّم في الصلاة، فيسلِّم الرجل؛ فيردون عليه ويسألهم كيف صليتم؟ كفعل أهل الكتاب. فنزل قوله تعالى:{وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.

وقال مجاهد: القنوت: عبارةٌ عن الخشوع، وخفض الجناح، وسكون الأطراف، وترك الالتفات من هيبة الله، وكان العلماء إذا قام أحدهم يصلي، يهاب الرحمن، فلا يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث، أو يحدّث نفسه بشيءٍ من أمر الدنيا ناسياً حتى ينصرف.

وقيل: القنوت: عبارة عن طول القيام.

قال جابر: سئل النبي صلى الله عليه وسلم َ أيُّ الصَّلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، يريد طول القيام.

قال ابن الخطيب: وهذا القول ضعيفٌ؛ وإلَاّ صار تقدير الآية: وقوموا لله قائمين؛ اللَّهم إلَاّ أن يقال: وقوموا لله مديمين لذلك القيام؛ فيصير القنوت مفسَّراً بالإدامة، لا بالقيام.

وقيل: القنوت في اللغة: عبارةٌ عن الدوام على الشيء، والصَّبر عليه والملازمة له.

وفي الشريعة مختصٌّ بالمداومة على طاعة الله تعالى؛ وهو اختيار عليٍّ بن عيسى، وعلى هذا يدخل فيه جميع ما قاله المفسِّرون.

ص: 235

قوله: «قَانِتِينَ» حالٌ من فاعل «قُومُوا» و «لِلَّهِ» يجوز أن تتعلَّق اللام ب «قُومُوا» ، ويجوز أن تتعلَّق ب «قَانِتِينَ» ، ويدلُّ للثاني قوله تعالى:{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] . ومعنى اللام التعليل.

فصل

قال أبو عمرو: أجمع المسلمون على أنّ الكلام، عامداً في الصلاة، إذا كان المسلم يعلم أنّه في صلاةٍ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنّه يفسد الصلاة، إلاّ ما روي عن الأوزاعي أنّه قال إن تكلم في الصَّلاة لإحياء نفسٍ، ونحوه من الأمور الجسام، لم يفسد ذلك صلاته.

واختلفوا في كلام السَّاهي، فقيل: لا يفسد الصلاة.

وقيل: يفسدها.

وقال مالكٌ: إذا تكلم عامداً لمصلحة الصَّلاة، لم تفسد، وهو مذهب أحمد.

قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ} .

قال الواحديُّ: معنى الآية: فإن خفتم عدوّاً، فحذف المفعول لإحاطة العلم به.

وقال الزمخشريُّ: «فإن كان لكم خوفٌ من عَدُوٍّ، أو غيرِه» فهو أصحُّ؛ لأن هذا الحكم ثابتٌ عند حصول الخوف، سواءٌ كان الخوف من عدوٍّ، أو غيره.

وقيل: المعنى: فإن خفتم فوات الوقت، إذا أَخَّرْتُمُ الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم، فصلُّوا رِجالاً، أو ركْبَاناً، وعلى هذا التقدير الآية تدلُّ على تأكيد فرض الوقت؛ حتى يترخَّص لأجل المحافظة عليه في ترك القيام، والركوع، والسجود.

قوله تعالى: {فَرِجَالاً} : منصوبٌ على الحال، والعامل فيه محذوفٌ، تقديره:«فَصَلُّوا رِجَالاً، أو فحَافِظُوا عَلَيْهَا رِجَالاً» وهذا أولى؛ لأنه من لفظ الأول.

و «رِجَال» جمع راجلٍ؛ مثل قيامٍ وقائم، وتجارٍ وتاجرٍ، وصِحَابٍ وصاحب، يقال منه: رَجِلَ يَرْجَلُ رَجْلاً، فهو رَاجِلٌ، ورَجُل بوزن عضدٍ، وهي لغة الحجاز. يقولون: رَجِلَ فُلَانٌ، فهو رَجُلٌ، ويقال: رَجْلَان ورَجِيلٌ؛ قال الشاعر: [الطويل]

1148 -

عَلَيَّ إِذَا لَاقَيْتُ لَيْلَى بِخُفْيَةٍ

أَنَ ازْدَارَ بَيْتَ اللهِ رَجْلَانَ حَافِيَا

ص: 236

كلُّ هذا بمعنى مشى على قدميه؛ لعدم المركوب.

وقيل: الراجل الكائن على رجله، ماشياً كان أو واقفاً، ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة: رجالٌ؛ كما تقدَّم؛ وقال تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وقال [الكامل]

1149 -

وَبَنُو غُدَانَةَ شَاخِصٌ أَبْصَارُهُمْ

يَمْشُونَ تَحْتَ بُطُونِهِنَّ رِجَالاً

ورَجِيلٌ، ورُجَالَى، وتروى قراءةً عن عكرمة، ورَجَالَى، ورَجَّالَة، ورُجَّال، وبها قرأ عكرمة وابن مخلدٍ، ورُجَّالَى، ورُجْلَان، ورِجْلَة، ورَجْلَة بسكون الجيم وفتحها، وأرجِلَة، وأرَاجِلٍ، وأرَاجِيل، ورجَّلاً بضم الراء وتشديد الجيم من غير ألفٍ، وبها قرئ شاذّاً.

وقال القفَّال: يجوز أن يكون «رِجَالٌ» جمع الجمع؛ لأن رجلاً يجمع على «رَاجِلٍ» ، ثمَّ يجمع راجلٌ على رِجالٍ.

والرُّكبان جمع راكب مثل فُرْسَان وفَارس، قال القفَّال: قيل: ولا يقال إلَاّ لمن ركب جملاً، فأمَّا راكب الفرس، ففارسٌ، وراكب [الحمار] والبغل حمَّار وبغَّال، والأجود صاحب حمار وبغلٍ، و «أو» هنا للتقسيم، وقيل: للإباحة، وقيل: للتخيير.

فصل

قال القرطبيُّ: لمّا أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة، بحال القنوت، وهو الوقار، والسكينة، وهدوء الجوارح، وهذه هي الحالة الغالبة من الأمن، والطُّمأنينة، ذكر حالة الخوف الطارئة أحياناً، وبيَّن أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حالٍ، ورخَّص لعبيده في الصلاة رجالاً على الأقدام، أو ركباناً على الخيل والإبل، ونحوه إيماءً، وإشارةً بالرأس حيث ما توجهوا.

فصل في صلاة الخوف

صلاة الخوف قسمان:

أحدهما: حال القتال مع العدو، وهي أقسام:

أحدها: حال التحام الحرب، وهو المذكور في هذه الآية، وباقيها مذكورٌ في سورة النِّساء [102] والقتال إمَّا واجبٌ، أو مباحٌ، أو محظورٌ.

ص: 237

فالواجب: كالقتال مع الكفار، وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية، ويلحق به قتال أهل البغي، بقوله تعالى:{فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفيء إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] .

والمباح: كدفع الصائل بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه؛ فإنه يجب الدفع، وفي الدفع عن كل حيوانٍ محترم، فإنَّه يجوز فيه صلاة الخوف.

وأمَّا المحظور فلا يجوز فيه صلاة الخوف؛ لأن هذا رخصةٌ، والرخصة إعانة؛ والعاصي لا يستحقّ الإعانة.

القسم الثاني: في الخوف الحاصل في غير القتال، كالهارب من الحرق، أو الغرب، أو السَّبع، أو المطالبة بدينٍ، وهو معسر خائفٌ من الحبس عاجزٌ عن بيِّنة الإعسار فلهم أن يصلُّوا صلاة الخوف؛ لأن قوله تعالى:{فَإنْ خِفْتُمْ} مطلقٌ يتناول الكلَّ، فإن قيل: المراد منه الخوف من العدوِّ حال المقاتلة.

قلنا: سلمنا ذلك، ولكن علمنا أنّه إنّما ثبت هناك، لدفع الضَّرر، وهذا المعنى قائمٌ هنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً هنا.

فصل في عدد ركعات صلاة الحضر والسفر والخوف

ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم.

وروى مجاهد، عن ابن عباسٍ قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السَّفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.

وقال سعيد بن جبير: إذا كنت في القتال، وضرب الناس بعضهم بعضاً، فقل سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، واذكر الله فتلك صلاتك.

فصل

قال القرطبي: والمقصود من هذه الآية، أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحالٍ، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن باقي العبادات؛ لأنها تسقط بالأعذار.

قال ابن العربيّ: ولهذا قال علماؤنا: إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان

ص: 238

الذي لا يسقط بحالٍ، ولا تحوز النيابة فيها ببدنٍ، ولا مالٍ، فيقتل تاركها كالشهادتين.

قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} يعني بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة {فاذكروا الله} أي: فصلُّوا الصلوات الخمس. والصلاة قد تسمَّى ذكراً، قال تعالى:{فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] . وقيل: {فاذكروا الله} أي: فاشكروه؛ لأجل إنعامه عليكم بالأمن.

وطعن القاضي في هذا القول؛ بأن الشُّكر يلزم مع الخوف، كما يلزم مع الأمن؛ لأن نعم الله تعالى متصلة في الحالين.

وقيل: إنَّ قوله تعالى: {فاذكروا الله} يدخل تحته الصلاة، والشكر جميعاً.

قوله: {كَمَا عَلَّمَكُم} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدر محذوفٍ، أو حالاً من ضمير المصدر المحذوف، وهو الظاهر، ويجوز فيها أن تكون للتعليل، أي: فاذكروه لأجل تعليمه إيَّاكُمْ، و «مَا» يجوز أن تكون مصدريةً، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون بمعنى «الَّّذِي» ، والمعنى: فصلُّوا الصَّلاة كالصَّلاة التي عَلَّمَكُمْ، وعبَّر بالذكر عن الصلاة، ويكون التشبيه بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة الأمن. قال ابن عطيَّة:«وعَلَى هذا التأويلِ يكون قوله:» مَا لَمْ تَكُونُوا «بدلاً من» مَا «في» كَمَا «وإلَاّ لم يتَّسق لفظ الآية» قال أبو حيان: «وهو تخريجٌ مُمْكِنٌ، وأحسن منه أن يكون» مَا لَمْ تَكُونُوا «بدلاً من الضمير المحذوف في» عَلَّمَكُم «العائد إلى الموصول؛ إذ التقدير: عَلَّمَكُمُوهُ، ونصَّ النحويون على أنه يجوز: ضَرَبْتُ الذي رَأَيْتُ أَخَاكَ» [أي: رَأَيْتُهُ أَخَاكَ] ، ف «أَخَاكَ» بدلٌ من العائد المحذوف «.

ص: 239

قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي، وأبو بكرٍ، عن عاصم:«وَصِيَّةٌ» بالرفع والباقون: بالنصب. وفي رفع {الذين يُتَوَفَّوْنَ} ثمانية أوجهٍ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع «وَصِيَّةً» ، وثلاثةٌ على قراءة من نصب «وصيةٌ» ؛ فأوّل الخمسة، أنه مبتدأ، و «وَصِيَّةٌ» مبتدأ ثانٍ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديراً؛ إذ التقدير:«وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ» أو «مِنْهُمْ» ؛ على حسب الخلاف فيها: أهي واجبةٌ من الله تعالى، أو مندوبةٌ للأزواج؟ و «لأَزْوَاجِهِمْ» خبر المبتدأ الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول، وفي هذه الجملة ضمير الأول، وهذه نظير قولهم:«السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ» تقديره: «مَنَوَانِ مِنْهُ» ، وجعل ابن عطية

ص: 239

المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص؛ قال: «كما حَسُنَ أَنْ يرتفع:» سَلَامٌ عَلَيْكَ «و» خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ «؛ لأنها موضع دعاءٍ» قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ.

الثاني: أن تكون «وَصِيَّةٌ» مبتدأ، و «لأَزْوَاجِهِمْ» صفتها، والخبر محذوفٌ، تقديره: فعليهم وصيةٌ لأزواجهم، والجملة خبر الأوَّل.

الثالث: أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ، تقديره: كتب عليهم وصيَّةٌ و «لأَزْوَاجِهِمْ» صفةٌ، والجملة خبر الأول أيضاً؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله:«كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ» وهذا من تفسير المعنى، لا الإعراب؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل.

الرابع: أن «الَّذِينَ» مبتدأٌ، على حذف مضافٍ من الأول، تقديره: ووصيَّةُ الذين.

الخامس: أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني، تقديره:«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ» ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ، قال أبو حيان:«ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك» .

فهذه الخمسة الأولى التي على رفع «وَصِيَّةٌ» . وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في «وَصِيَّةٌ» :

فأحدها: أنه فاعل فعل محذوفٍ، تقديره: وليوص الذين، ويكون نصب «وَصِيَّةٌ» على المصدر.

الثاني: أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين، تقديره:«وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ» ويكون نصب «وَصِيَّةً» على أنها مفعولٌ ثانٍ ل «أُلْزِمَ» ، ذكره الزمخشريُّ، وهو والذي قبله ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل.

الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبره محذوف، وهو الناصب لوصية، تقديره: والذين يتوفون يوصون وصيَّة، وقدره ابن عطية:«لِيُوصُوا» و «وَصِيَّةً» منصوبةٌ على المصدر أيضاً، وفي حرف عبد الله:«الوَصِيَّةُ» رفعاً بالابتداء، والخبر الجارُّ بعدها، أو مضمرٌ أي: فعليهم الوصية، والجارُّ بعدها حالٌ، أو خبرٌ ثانٍ، أو بيانٌ.

قوله تعالى: {مَّتَاعاً} في نصبه سبعة أوجهٍ:

أحدها: أنَّه منصوبٌ بلفظ «وَصِيَّة» لأنها مصدرٌ منونٌ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتاء؛ لبنائها عليها؛ فهي كقوله:[الطويل]

1150 -

فَلَوْلَا رَجَاءُ النَّضْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ

عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ

والأصل: وصية بمتاع، ثم حذف حرف الجرِّ، اتساعاً، فنصب ما بعده، وهذا إذا لم تجعل «الوصيَّة» منصوبةٌ على المصدر؛ لأن المصدر المؤكَّد لا يعمل، وإنما يجيء

ص: 240

ذلك حال رفعها، أو نصبها على المفعول؛ كما تقدَّم تفصيله.

والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ، إمَّا من لفظه، أي: متِّعوهنَّ متاعاً، أي: تمتيعاً، أو من غير لفظه، أي: جعل الله لهنَّ متاعاً.

الثالث: أنه صفةٌ لوصية.

الرابع: أنه بدل منها.

الخامس: أنه منصوبٌ بما نصبها، أي: يوصون متاعاً، فهو مصدر أيضاً على غير الصدر؛ ك «قَعَدْتُ جُلُوساًَ» ، هذا فيمن نصب «وَصِيَّةٌ» .

السادس: أنه حالٌ من الموصين: أي ممتَّعين أو ذوي متاعٍ.

السابع: أنه حالٌ من أزواجهم، [أي] : ممتَّعاتٍ أو ذوات متاعٍ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانت الوصية من الأزواج.

وقرأ أُبيٌّ: «مَتَاعٌ لأَزْوَاجِهِمْ» بدل «وَصِيَّةٌ» ، وروي عنه «فَمَتَاعٌ» ، ودخول الفاء في خبر الموصول؛ لشبهه بالشرط، وينتصب «مَتَاعاً» في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر، فإنه بمعنى التمتيع؛ نحو:«يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ لَكَ ضَرْباً شَدِيداً» ، ونظيره:{قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] ، و «إِلَى الحَوْلِ» متعلِّقٌ ب «مَتَاع» أو بمحذوفٍ؛ على أنه صفة له.

قوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في نصبه ستة أوجهٍ:

أحدها: أنه نعتٌ ل «مَتَاعاً» .

الثاني: أنه بدلٌ منه.

الثالث: أنه حالٌ من الزوجات، أي: غير مخرجات.

الرابع: أنه حالٌ من الموصين، أي: غير مخرجين.

الخامس: أنه منصوب على المصدر، تقديره: لا إخراجاً، قاله الأخش.

السادس: أنه على حذف حرف الجرِّ، تقديره: من غير إخراجٍ، قاله أبو البقاء، قال شهاب الدين: وفيه نظر.

فصل في المراد بقوله «غير إخراج»

معنى قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي: ليس لأولياء الميِّت ووارثي المنزل؛ إخراجها، «فَإِنْ خَرَجْنَ» أي: باختيارهن قبل الحول «فلَا جُنَاحَ عَلَيْكُم» ، أي: لا حرج على وليِّ أحدٍ وُلِّيَ، أو حاكم، أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولاً.

وقيل: لا جناح في قطع النّفقة عنهن، أو لا جناح عليهنَّ في التشرُّف إلى الأزواج،

ص: 241

إذ قد انقطعت عنهنَّ مراقبتكم أيُّها الورثة، ثم عليها أنها لا تتزوج قبل انقضاء العدَّة بالحول أو لا جناح في تزويجهنَّ بعد انقضاء العدّة، لأنه قال:«بالمَعْرُوفِ» ، وهو ما يوافق الشرع.

و {والله عَزِيزٌ} صفةٌ تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحدَّ في هذه النازلة، في إخراج المرأة، وهي لا تريد الخروج {حَكِيمٌ} ، أي مُحْكِمٌ لما يريد من أمور عباده والله أعلم.

قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبر «لا» وه «عَلَيْكُمْ» من الاستقرار، والتقدير: لا جناح مستقرٌّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنَّ، و «مَا» موصولةٌ اسميةٌ، والعائد محذوف، تقديره: فعلنه، و «مِنْ مَعْرُوفٍ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من ذلك العائد المحذوف، وتقديره: فيما فعلنه كائناً من معروفٍ.

وجاء في هذه الآية {مِن مَّعْرُوفٍ} نكرةً مجرورةً ب «مِنْ» ، وفي الآية قبلها «بِالمَعْرُوفِ» معرَّفاً مجروراً بالباء؛ لأنَّ هذه لام العهد؛ كقولك:«رَأَيْتُ رَجُلاً فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ» إلَاّ أنَّ هذه، وإن كانت متأخِّرةً في اللفظ، فهي متقدِّمة في التنزيل، ولذلك جعلها العلماء منسوخةً بها، إلا عند شذوذٍ، وتقدَّم نظائر هذه الجمل، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها.

فصل في سبب النزول

في هذه الآية ثلاثة أقوالٍ:

الأول: وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخةٌ، قالوا: نزلت الآية في رجل من أهل الطائف، يقال له: حكيم بن الحرث، هاجر إلى المدينة، وله أولاد، ومعه أبواه وامرأته، فمات، فأنزل الله هذه الآية؛ فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم َ والديه، وأولاده ميراثه، ولم يعط امرأته شيئاً، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، كاملاً، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكان نفقتها وسكناها واجبةً في مال زوجها تلك السَّنة، ما لم يخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها، سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالرُّبع، والثُّمن، ونسخ عدَّة الحول ب «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» .

قال ابن الخطيب: دلَّت هذه الآية على وجوب أمرين:

أحدهما: وجوب النفقة، والسُّكنى من مال الزَّوج، سواءٌ قراءة «وَصِيَّةٌ ووصِيَّةً» بالرفع، أو بالنصب.

ص: 242

والثاني: وجوب الاعتداد، ثم نسخ الله تعالى هذين الحكمين، أمّا الوصية بالنفقة، والسكنى، فلثبوت ميراثها بالقرآن، والسنة، دلَّت على أنَّه لا وصيَّة لوارثٍ، فصار مجموع القرآن والسنَّة ناسخاً لوجوب الوصيَّة لها بالنفقة والسكنى في الحول.

أمَّا وجوب العدة في الحول، فنسخ بقوله:{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] .

القول الثاني: وهو قول مجاهد: أنَّ الله تعالى أنزل في عدَّة المتوفى عنها زوجها آيتين:

إحداهما: قوله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [آية: 234] ، والأخرى هذه الآية؛ فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين، فنقول: إنَّها إن لم تختر السُّكنى في دار زوجها، والأخذ من ماله، وتركته؛ فعدَّتها هي الحول، قال ابن الخطيب: وتنزيل الآيتين على هذين التَّقديرين أولى؛ حتى يكون كل منهما معمولاً به، والجمع بين الدَّليلين، والعمل بهما أولى من اطراح أحدهما، والعمل بالآخر.

القول الثالث: قال أبو مسلم الأصفهاني: معنى الآية: أنَّ من يتوفَّى منكم، ويذرون أزواجاً، وقد وصّوا وصيَّة لأزواجهم، بنفقة الحول، وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك، وخالفن وصيَّة أزواجهنَّ، بعد أن يقمن أربعة أشهرٍ وعشراً؛ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروفٍ، أي: نكاحٌ صحيحٌ؛ لأن إقامتهنَّ بهذه الوصيَّة غير لازمة.

قال: والسَّبب: أنَّهم كانوا في الجاهليَّة يوصون بالنَّفقة، والسُّكنى حولاً كاملاً، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنَّ ذلك غير واجبٍ، وعلى هذا التَّقدير، فالنَّسخ زائلٌ، واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ:

أحدها: أنَّ النَّسخ خلاف الأصل؛ فوجب المصير إلى عدمه، بقدر الإمكان.

الثاني: أنَّ النَّاسخ يكون متأخِّراً عن المنسوخ في النُّزول، وإذا كان متأخِّراً عنه في النُّزول، يجب أن يكون متأخِّراً عنه في التِّلاوة، وهو إن كان جائزاً في الجملة إلَاّ أنَّ قولنا يعدّ من سوء التَّرتيب، وتنزيه كلام الله واجبٌ بقدر الإمكان، ولمَّا كانت هذه الآية متأخِّرةً عن تلك في التِّلاوة؛ كان الأولى ألاّ يحكم بكوها منسوخةً بتلك.

الثالث: أنَّه ثبت عند الأصوليِّين متى وقع التَّعارض بين التَّخصيص، والنَّسخ، كان النَّسخ أولى، وها هنا إن خصَّصنا هاتين الآيتين بحالتين على ما هو قول مجاهد؛ اندفع النَّسخ، فكان قول مجاهد أولى من التزام النَّسخ من غير دليلٍ، وأمَّا على قول أبي مسلم، فيكون أظهر؛ لأنكم تقولون: تقدير الآية: فعليهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها:

ص: 243

فليوصوا وصيَّةً، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول: بل تقدير الآية: والذين يتوفون منكم، ولهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها: وقد أوصوا وصيَّةً لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزَّوج، وإذا كان لا بدَّ من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضمارنا ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكره أبو مسلمٍ؛ لم يلزم تطرُّق النَّسخ إلى الآية، فيكون أولى.

وإذا ثبت هذا فنقول: الآية من أولها إلى آخرها، تكون جملةً واحدةً شرطيَّةً، فالشَّرط هو قوله:{والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فهذا كلُّه شرطٌ والجزاء هو قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} فهذا تقرير قول أبي مسلمٍ.

قال ابن الخطيب: وهو ف ي غاية الصِّحَّة، وعلى تقدير باقي المفسِّرين، فالمعنى: والذين يتوفَّون منك أيُّها الرِّجال، ويذرون زوجاتٍ فليوصوا وصيَّةٌ، وكتب عليكم الوصيَّة بأن تمتِّعوهنَّ متاعاً، أي: نفقة سنةٍ لطعامها، وكسوتها، وسكناها، غير مخرجين لهن، فإن خرجن من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة، فلا جناح عليكم يا أولياء الميِّت، فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف، يعني: التَّزين للنِّكاح، ولرفع الجناح عن الرِّجال، وجهان:

أحدهما: لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج؛ لأنَّ مقامها في بيت زوجها حولاً، غير واجبٍ عليها، فخيَّرها الله تعالى بين: أن تقيم حولاً، ولها النَّفقة والسُّكنى، وبين أن تخرج إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشراً.

فإن قيل: إن الله تعالى ذكر الوفاة، ثم أمرنا بالوصيَّة، فكيف يوصي المتوفى؟!

فالجواب أنَّ معناه: والذين يقارون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا، فجعل المقاربة للوفاة عبارة عنها.

وقيل: إنّ هذه الوصيّة يجوز أن تكون مضافةً إلى الله تعالى، بمعنى:«أمره، وتكليفه» ، كأنَّه قيل: وصيّة من الله لأزواجهم، كقوله:{يُوصِيكُمُ الله في أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] .

فصل

المعتدَّة من فرقة الوفاة، لا نفقة لها، ولا كسوة حاملاً كانت، أو حائلاً.

وروي عن عليٍّ، وابن عمر رضي الله عنهما أنَّ لها النَّفقة إذا كانت حاملاً،

ص: 244

وعن جابر، وابن عبَّاس رضي الله عنهما أنهما قالا: لا نفقة لها، حسبها الميراث، وهل تستحقُّ السُّكنى؟ قال عليٌّ، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم: لا تستحقُّ السُّكنى، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ.

وقال عمر، وابن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأمُّ سلمة: إنها تستحقُّ السُّكنى، وبه قال مالك، والثَّوريُّ، وأحمد.

واحتجَّ كلٌّ من الطائفتين بخبر فريعة بنت مالك، أخت أبي سعيدٍ الخدريِّ، قتل زوجها؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقالت: إنّي أرجع إلى أهلي، فإنَّ زوجي ما تركني في منزل يملكه؛ فقال عليه الصلاة والسلام:«نَعَمْ» ، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد، أو في الحجرة دعاني فقال:«امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ» ، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث.

فقيل: لم يوجب في الابتداء، ثمَّ أوجب؛ فصار الأوَّل منسوخاً.

وقيل: أمرها بالمكث في بيتها أجراً على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الوجوب.

واحتجَّ المزنيُّ على أنَّه لا سكنى لها فقال: أجمعنا على أنَّه لا نفقة لها؛ لأنَّ الملك انقطع بالموت، فكذلك السُّكنى بدليل: أنهم أجمعوا على أنَّ من وجب له نفقةً، وسكنى عن ولد ووالد على رجلٍ؛ فمات؛ انقطعت نفقتهم، وسكناهم؛ لأنّ ماله صار ملكاً للوارث، فكذا ها هنا.

وأجيب بأنَّه لا يمكن قياس السُّكنى على النفقة؛ لأنَّ المطلقة ثلاثاً تستحقُّ السُّكنى بكلِّ حالٍ، ولا تستحقُّ النَّفقة لنفسها عند المزنيّ. ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع، ولا يمكن ها هنا، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء، وهو موجودٌ ها هنا فافترقا.

ص: 245

إنَّما أعاد ذكر المتعة ها هنا؛ لزيادة معنًى؛ وذلك أنَّ في غيرها بيان حكم غير الممسوسة، وفي هذه الآية: بيان حكم جميع المطلّقات في المتعة.

وقيل: لأنَّه لما نزل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، إلى قوله: {حَقّاً

ص: 245

عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] قال رجلٌ من المسلمين: إن أردت؛ فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل فقال الله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} جعل المتعة لهن بلام الملك، وقال:{حَقّاً عَلَى المتقين} يعنى المؤمنين المتَّقين الشِّرك.

وقيل: المراد بهذه المتعة: النَّفقة، والنَّفقة قد تسمَّى متاعاً، فاندفع التَّكرار.

واعلم أنَّ القائل بوجوب المتعة لكلِّ المطلقات: هو سعيد بن جبير، وأبو العالية والزُّهريّ.

وقال الشَّافعيُّ: لكلّ مطلقة إلاّ المطلقة التي فرض لها المهر، ولم يوجد في حقّها المسيس.

قال أبو حنيفة: لا تجب المتعة إلَاّ للمطلَّقة التي لم يفرض لها، ولم يوجد المسيس.

وقول الله تعالى في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم َ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] محمولٌ على أنَّه تطوُّع من النَّبيّ صلى الله عليه وسلم َ لا على سبيل الوجوب.

وقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] محمولٌ على غير المفروض لها أيضاً.

قال القرطبيُّ: وأوجب الشَّافعيُّ المتعة للمختلعة، والمبارئة، وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطى، فكيف تأخذ متاعاً، لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة، أو مفتدية، أو مبارئة، أو مصالحة، أو ملاعنة، أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقاً أم لا؛ وقد تقدَّم ذلك، ثم قال:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .

ص: 246

اعلم أنَّ عادته تعالى: أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسَّامع.

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين} : هذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النَّفي، فصيَّرت النَّفي تقريراً، وكذا كلُّ استفهام دخل على نفي نحو:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]{أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فيمكن أن يكون المخاطب علم هذه القصّة قبل نزول هذه الآية، فيكون التَّقرير ظاهراً، أي: قد رأيت حال هؤلاء، كقول

ص: 246

الرَّجل لغيره يريد تعريفه ابتداء: «ألم تر إلى ما جرى على فلان؟» .

قال القرطبيُّ: والمعنى عند سيبويه: تنبُّه إلى أمر الذين، ولا تحتاج هذه الرواية إلى مفعولين والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أو كل سامع، إلَاّ أنَّه قد وقع الخطاب معه ابتداءً كقوله:{ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] ويجوز أن يكون المراد بهذا الاستفهام: التعجب من حال هؤلاء، وأكثر ما يرد كذلك:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً} [المجادلة: 14]{أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] ؛ وقال الشاعر: [الطويل]

1151 -

أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقاً

وَجَدْتُ بِهَا طِيباً وإنْ لَمْ تَطَيَّبِ

والرُّؤية هنا علميَّة، فكان من حقِّها أن تتعدَّى لاثنين، ولكنَّها ضمِّنت معنى ما يتعدَّى بإلى.

والمعنى: ألم ينته علمك إلى كذا. وقال الرَّاغب: «رأيت: يتعدَّى بنفسه دون الجارِّ، لكن لما استعير قولهم:» ألم تَرَ «بمعنى ألم تنظر؛ عدِّي تعديته، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقدير، لا يقال: رأيت إلى كذا» .

وقرأ السُّلمي: «تَرْ» بسكون الرَّاء، وفيها وجهان:

أحدهما: أنه توهَّم أنَّ الراء لام الكلمة، فسكَّنها للجزم؛ كقوله:[الرجز]

1152 -

قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا

وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِماً لَبِيقَا

وقيل: هي لغة قومٍ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلَّة.

والثاني: أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وهذا أولى، فإنَّه كثيرٌ في القرآن؛ نحو:«الظُّنُونَا» ، و «الرَّسُولَا» ، و «السَّبِيلَا» ، و «لَمْ يَتَسَنَّهُ» ، و «بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» وقوله:«وَنُصْلِهِ» ، و «نُؤْتِهِ» ، و «يُؤَدِّه» ، وسيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى.

قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملة في [موضع] نصب على الحال، وهذا أحسن مجيئها، إذ قد جمع فيها بين الواو والضمير، و «أُلوفٌ» فيه قولان:

أظهرهما: أنه جمع «ألْف» لهذا العدد الخاصِّ، وهو جمع الكثرة، وجمع القلّة: آلاف كحمول، وأحمال.

ص: 247

والثاني: أنه جمع «آلِف» على فاعل كشاهدٍ وشهود، وقاعدٍ وقُعودٍ، أي: خرجوا وهم مؤتلفون، قال الزَّمخشريُّ:«وهذا من بِدَع التَّفاسير» .

قوله تعالى: {حَذَرَ الموت} أي من خوف الموت وهو مفعولٌ من أجله، وفيه شروط النَّصب، أعني المصدرية، واتحاد الفاعل، والزمان.

قوله: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فيه وجهان:

أحدهما: أنه معطوفٌ على معنى: فقال لهم الله: موتوا، لأنَّه أمرٌ في معنى الخبر تقديره: فأماتهم الله ثم أحياهم.

والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، تقديره: فماتوا ثم أحياهم بعد موتهم، و «ثم» تقتضي تراخي الإحياء عن الإماتة. وألف «أَحْيَا» عن ياء؛ لأنَّه من «حَيِيَ» ، وقد تقدَّم تصريف هذه المادّة عند قوله:{إِنَّ الله لَا يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} [البقرة: 26] .

فصل

قال السُّدِّيُّ وأكثر المفسرين: «كانت قرية يقال لها:» دَاوْردَان «قيل واسط، وقع بها الطَّاعون، فخرج عامَّة أهلها، وبقيت طائفةٌ، فهلك أكثر الباقين وبقي منهم بقيَّةٌ في المرض والبلاء، فلما ارتفع الطَّاعون؛ رجع الَّذين هربوا سالمين فقال من بَقِيَ من المرضى: هؤلاء أحزم منّا، لو صنعنا كما صنعوا لنجونا، ولئن وقع الطَّاعون ثانيةً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء فيها، فوقع الطاعون من قابِلٍ؛ فهرب عامَّة أهلها، وهم بضعةٌ وثلاثون ألفاً؛ حتى نزلوا وادياً أفيح فلمّا نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النَّجاة، ناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه:» أنْ مُوتُوا «فماتوا جميعاً وبليت أجسامهم، فمرَّ بهم نبيٌّ يقال له:» حِزْقِيل بن يوذي «: ثالث خلفاء بني إسرائيل، بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يُوشَعُ بْنُ نُون ثم كالب بن يوفنا، ثم حزقيل، وكان يقال له: ابن العجوز؛ لأنَّه أمَّه كانت عجوزاً، فسألت الله الولد بعدما كبرت، وعقمت، فوهبه الله لها» .

قال الحسن، ومقاتل: هو ذو الكفل، وسمِّي: ذا الكفل؛ لأنَّه تكفَّل بسبعين نبيّاً، وأنجاهم من القتل، فلمَّا مرَّ حزقيل على أولئك الموتى، وقف متفكّراً فيهم متعجِّباً، فأوحى الله إليه أتريد أن أُريك آيةً؟ قال: نعم، فقيل له: نادِ! يَا أَيُّهَا العِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أن تَجْتَمِعِي، فجعلتِ العِظَامُ يَطِيرُ بعضها إلى بعض، حتى تمّت العِظَامُ، ثم أوحى اللهُ

ص: 248

إليه ثانياً أن ينادي: يا أيَّتُها العِظَامُ؛ إنَّ اللهَ يأمرك أنَّ تَكْتَسِي لحماً ودماً، ثم نادي: إنَّ اللهَ يأمرك أن تَقُومي؛ فقامت، فلمَّا صاروا أحياءً قاموا، وكانوا يقولون:«سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ» ثم رجعوا إلى قريتهم، بعد حياتهم، وكانت أمارات موتهم ظاهرةً في وجوههم، ثمَّ بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم.

روى عبد الله بن عامر بن ربيعة أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: خرج إلى الشَّام، فلمَّا جاء «سَرْغَ» بلغه أنَّ الوباء قد وقع بالشَّام؛ فأخبره عبد الرحمن بن عوف: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال:

«إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وأَنْتُمْ بِهَا؛ فَلَا تَخْرُجُوا فِرَاراً» ؛ فرجع عمر من «سرغ» .

وقال ابن عبَّاس، والكلبيُّ ومقاتل والضَّحَّاك: إنَّ ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال؛ فخافوا القتال، وجبنوا، وكرهوا الموت، فاعتلُّوا، وقالوا لملكهم: إنَّ الأرض التي تذهب إليها بها الوباء، فلا نأتيها حتى يزول ذلك الوباء منها؛ فأرسل الله عليهم الموت؛ فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت، فلما رأى الملك ذلك قال: اللَّهمّ ربّ يعقوب، وإله موسى، وهارون قد ترى معصية عبادك، فأرهم آيةً في أنفسهم، حتى يعلموا أنَّهم لا يستطيعون الفرار منك، فلمَّا خرجوا قال لهم الله «مُوتُوا» ، فماتوا جميعاً، وماتت دوابهم كموت رجل واحدٍ، وبقوا ثمانية أيَّام، حتَّى انتفخوا وأروحت أجسادهم، وبلغ بني إسرائيل موتهم، فخرجوا لدفنهم؛ فعجزوا لكثرتهم، فحظروا عليهم حظائر دون السِّباع، فأحياهم الله بعد الثمانية أيَّام، وبقي فيهم شيءٌ من ذلك النتن، وفي أولادهم إلى هذا اليوم.

واحتجُّوا على هذه الرِّواية بقوله عقيب ذلك: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] وقال مقاتل والكلبي كانوا قوم حزقيل، أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيَّام، وذلك أنه لمَّا أصابهم ذلك، خرج حزقيل في طلبهم، فوجدهم موتى؛ فبكى وقال: «يا ربِّ؛ كُنْتُ من قومٍ يحمدونَكَ ويسبِّحُونَكَ ويقدِّسُونَكَ، ويكبِّرُونَكَ، ويهللونَكَ؛ فبقيت واحداً لا قوم

ص: 249

لي» ؛ فأوحى الله إليه: إنِّي جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: احيوا بإذن الله تعالى؛ فعاشوا.

قال مجاهدٌ: إنهم قالوا حين أُحيوا: سبحانك ربنا، وبحمدك لا إله إلاّ أنت، فرجعوا إلى قومهم، وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوباً إلَاّ عاد دنساً مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتب لهم.

قال ابن عباس: إنَّها لتوجد اليوم في ذلك السِّبط من اليهود تلك الرِّيح.

قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عُقُوبَةً لهم، ثم بعثهم إلى بقيَّة آجالهم.

قال ابن العربيّ: أماتهم الله عقوبة لهم، ثم أحياهم، وميتة العقوبة بعدها حياةٌ، وميتة الأجل لا حياة بعدها.

قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} .

قال ابن الخطيب: قيل: هو من قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] والمراد سرعة وقوع المراد، ولا قول هناك.

وقيل: أمر الرَّسول أن يقول لهم: «مُوتُوا» أو الملك، والأوَّل أقرب.

قوله تعالى: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} يقتضي أنهم أُحيوا بعد موتهم، وذلك ممكنٌ، وقد أخبر الصَّادق به؛ فوجب القطع.

وقالت المعتزلة: إحياء الميِّت فعلٌ خارق للعَادَةِ، ولا يجوز إظهاره إلا معجزة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم َ.

قال ابن الخطيب: وأصحابنا يجوّزون خرق العادة كرامةً للأولياء، ولغير ذلك.

قالت المعتزلة: وهذا الإحياء، وقع في زمن حزقيل ببركة دعائه. وها هنا بحثٌ وهو أنَّه قد ثبت بالدَّليل أن المعارف تصير ضروريّة عند القرب من الموت ومعاينة الأهوال والشدائد، فهؤلاء إن كانوا عاينوا تلك الأهوال الموجبة للعلم الضَّروريِّ؛ وجب

ص: 250

إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين لذلك؛ لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل؛ لتبقى لهم تلك العلوم، ومع بقائها يمتنع التَّكليف كما في الآخرة، ولا مانع يمنع من بقائهم غير مكلَّفين وإن كان جاءهم الموت بغتةً، كالنَّوم ولم يعاينوا شدَّةَ، ولا هولاً، فذلك أيضاً ممكن.

وقال قتادة: إنَّما أحيوا ليستوفوا بقيَّة آجالهم.

فصل

واختلفوا في عدّتهم.

قال الواحديُّ رحمه الله: لم يكنوا دون ثلاثة آلاف، ولا فوق سبعين ألفاً.

والوجه من حيث اللَّفظ: أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف؛ لأنَّ الألوف جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف، وقيل: إنَّ الألوف جمع ألفٍ، كقعودٍ وقاعدٍ، وجلوسٍ، وجالسٍ، والمعنى: أنَّهم كانوا مؤتلفي القلوب.

قال القاضي: والوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ ورود الموت عليهم دفعةً واحدةً، وهم كثرةٌ عظيمةٌ، تفيد مزيد اعتبار بحالهم؛ لأنَّ موت الجمع العظيم دفعةً واحدةً لا يتَّفق وقوعه، وأمَّا ورود الموت على قوم تآلفوا حب الحياة، وبينهم ائتلافٌ ومحبةٌ كوروده وبينهم اختلاف، فوجه الاعتبار لا يتغيَّر.

قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد كون كلّ واحد منهم آلفاً لحياته، محباً لهذه الدُّنيا، فرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] ، ثم إنهم مع غاية حبِّهم للحياة وألُفهم بها أماتهم الله تعالى، وأهلكهم ليعلم أنّ حرص الإنسان على الحياة، لا يعصمه من الموت، فهذا القول ليس ببعيدٍ.

فصل

قال القرطبيُّ: الطَّاعون وزنه فاعول من الطَّعن، غير أنَّه لما عدل به عن أصله؛ وضع دالاً على الموت العام بالوباء. قاله الجوهريُّ. وردت عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال:«فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» قالت: الطَّعن قد عرفناه فما الطَّاعون، قال:«غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ تَخْرُجُ في المراقِّ والآبَاطِ» قال

ص: 251

العلماء: وهذا الوباء يرسله الله نقمة، وعقوبة على من يشاء من عصاة عبيده، وكفرتهم، وقد يرسله الله شهادة، ورحمة للصَّالحين، كقول معاذٍ في طاعون عمواس: إنَّه شهادةٌ ورحمةٌ لكم، ودعوة نبيكم، وهي قوله عليه الصلاة والسلام:«اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذاً وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُم مِنْ رَحْمَتِكَ» ، فَطُعِنَ في كَفِّهِ رضي الله عنه.

فصل

وروى البخاريُّ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال حين ذكره الوباء: «إنَّه رجزٌ، أو عذابٌ عذِّب به بعض الأمم، ثمَّ بقي منه بقيَّةٌ، فيذهب المرَّة، ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرضٍ، فلا يقدمنَّ عليه، ومن كان بأرضٍ وقع بها، فلا يخرج فراراً منه» وعمل عمر رضي الله عنه بمقتضى هذا الحديث لمَّا رجعوا من «سَرْغ» حين أخبرهم ابن عوف بهذا الحديث.

وقالت عائشة رضي الله عنها «الفَارُّ مِنَ الوَبَاءِ كالفَارِّ مَنَ الزَّحْفِ» .

قال الطَّبريُّ: يجب على المرء توقّي المكاره قيل نزولها، وتجنُّب الأشياء المخيفة قبل هجومها، وكذلك كلّ متَّقًى من غوائل الأمور، سبيله إلى ذلك سبيل الطَّاعون، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام:«لَا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» ، ولما خرج عمر رضي الله عنه مع أبي عبيدة إلى الشَّام فسمع عمر أنَّ الوباء بها فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله، فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، والمعنى لا محيص للإنسان عمَّا قدَّره الله عليه، لكن أمرنا الله من التَّتحرُّز من المخاوف، والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التَّوقِّي من المكروهات، ثمَّ قال له: أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة، رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة.

قوله: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} .

ص: 252

أَتَى بهذه الجملة مؤكَّدة ب «إِنْ» واللام، وأتى بخبرٍ «إِنَّ» :«ذو» الدَّالة على الشَّرفِ بخلافِ «صاحبِ» ، و «عَلَى النَّاسِ» متعلقٌ بفَضْل تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له فَهُوَ في محلّ جرٍّ، أي: فضلٍ كائنٍ على النَّاسِ. وأل في النَّاسِ لِلْعمُوم. والمعنى أَنَّ هذه القِصَّة تشجع الإِنسان على الإِقدام على طاعة الله تعالى، وتزيل على قَلبه الخَوفَ، فكان ذِكْرُ هذه القِصَّة سبباً لبعد العبد عن المعصية، وقربه من الطَّاعةِ، فكان ذِكرُ هذه القصَّةِ فضلاً وإحساناً من اللهِ على عبدهِ وقيل للعهدِ والمُرادُ بهم: الَّذشين أَمَاتَهُم لأنهم خرجُوا من الدُّنيا على المعصيةِ، ثم أعادهُم إلى الدُّنيا؛ حتى تَابُوا.

وقيل: المُرادُ بالعَهدِ أَنَّ العرب الذين كانُوا منكرين للمعاد؛ كانوا مُتمسكين بقول اليهُود في كثير من الأُمور إذا سمِعُوا بهذه الواقعة، فالظَّاهِرُ أَنَّهُم يرجعون من الدين الباطل الَّذِي هو الإِنكارُ إلى الدِّين الحَقّ، وهو الإِقرار بالبعث، فيتخلَّصُون مِنَ العقاب، وكان ذكر هذه القصَّة؛ فضلاً من الله في حقّ هؤلاء.

قوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس} هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قوله {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} ؛ لأنَّ تقديره: فيجب عليهم أَنْ يَشْكُروه لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ، والرَّزْق، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ. وهو كقوله:{فأبى أَكْثَرُ الناس إِلَاّ كُفُوراً} [الإسراء: 89] .

ص: 253

قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا} هذه الجملة فيها أقوالٌ:

أحدها: أنه عطفٌ على قوله: «مُوتُوا» وهو أمرٌ لِمَنْ أَحياهُم اللهُ بعد الإِماتةِ بالجهاد، [أي] فقال لهم: مُوتوا وقاتِلوا، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ، والضَّحاك. قال الطَّبريِّ:«ولا وجهَ لهذا القَوْلِ» .

والثاني: [أنها معطوفةٌ على قوله: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ» وما بينهما اعتراضٌ.

والثالث] : أَنَّها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديره: «فَأَطِيعُوا وَقَاتلوا، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ قَبْلكُم، فلم يَنْفَعهم الحذرُ، قاله أبو البقاء.

والظَّاهر أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهاد، بعد ذكره قوماً لم ينفعهم الحذرُ من المَوتِ، فهو تشجيعٌ لهم، فيكونُ من عطفِ الجملِ؛ فلا يُشْتَرَطُ التوافقُ في أمرٍ ولا غيره.

قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فالسَّبيلُ: هو الطَّريق، وسمِّيتُ العباداتُ سبيلاً إلى اللهِ مِن حيثُ إِنَّ الإنسان بسلوكها يتوصَّلُ إلى ثوابِ اللهِ.

قال القرطبي: وهذا قول الجمهور: وهو الَّذِي ينوى به أن تكون كلمة الله هي

ص: 253

العُليا، وسُبُلُ الله كثيرةٌ، فهي عامَّةٌ فِي كُلِّ سبيل. قال تعالى:{قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] قال مالكٌ: سبل الله كثيرة، وما مِنْ سبيلٍ إِلَاّ يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دينُ الإسلامِ، فلا جرم كان المُجاهِدُ مُقاتِلاً في سبيلِ اللهِ. ثُمَّ قال:{واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَي: يسمعُ كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، أو في ترعيب الغيرِ عنه، و» عليمٌ «بما في ضمائركُم من البواعثِ، والأَعراضِ: أَنَّ ذلك الجهاد لغرض الدِّينِ، أو لغرض الدُّنيَا.

ص: 254

«مَّن» للاستفهام ومحلُّها الرَّفع على الابتداءِ، و «ذا» اسمُ إشارةٍ خبرُهُ، و «الذي» وصلتُهُ نعتٌ لاسم الإِشارةِ، أو بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكونَ «مَنْ ذا» كلُّه بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولك:«مَاذَا صَنَعْتَ» كما تقدَّمَ في قوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله} [البقرة: 26] . ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفرَّق بينه وبين قولِكَ: «ماذا» حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ «ما» أشدُّ إيهاماً مِنْ «مَنْ» ؛ لأنَّ «مَنْ» لمَنْ يعقِلُ. ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ «مَنْ ذا» حكمُ «ماذا» .

ويجوز أن يكونَ «ذا» بمعنى الّذي، وفيه حينئذٍ تأويلان:

أحدهما: أنَّ «الَّذِي» الثاني تأكيدٌ له؛ لأنَّه بمعناه، كأَنَّهُ قيل: مَنِ الَّذِي يُقرِضُ الله قرضاً.

والثاني: أَنْ يكونَ «الذي» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرُه:«مَنْ الذي [هو الّذي] يُقْرِضُ، وذا وصلتهُ خبرُ» مَنِ «الاستفهاميّة. أجاز هذين الوجهين ابن مالك، قال شهاب الدين وهما ضعيفان، والوجهُ ما قدَّمتُهُ.

وانتصَبَ» قَرْضاً «على المصدر على حذفِ الزَّوائِد، إِذ المعنى: إقراضاً كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ:» يُقْرِضُ اللهَ مالاً وصدقةً «، ولا بدَّ من حذفِ مُضَافٍ تقديرهُ: يقرضُ عِبادَ اللهِ المحاويجَ، لتعاليه عن ذلك، أو يكونُ على سبيل التَّجُّوزِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المفعول نحو: الخَلْق بمعنى المخلُوق، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل» يُقْرِض «.

قال الواحديُّ: والقَرْضُ في هذه الآيةِ اسمٌ لا مصدر، ولو كان مصدراً؛ لكان إقراضاً. و» حَسَناً «يجوزث أَن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوزُ أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذا جعلنا» قَرْضاً «بمعنى مفعول أي: إقراضاً حسناً.

ص: 254

قوله:» فَيُضَاعِفَهُ «قرأ عاصمٌ وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلَاّ أنَّ ابنَ عامر وعاصماً ويعقوب يشدِّدون العينَ من غير ألفٍ وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعِها، إلَاّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ؛ فحصَلَ فيها أربعُ قراءتٍ.

أحدها: قرأ أبو عمرو ونافع، وحمزة، والكسائيُّ فيضاعفُهُ بالألف ورفع الفاء.

والثانية: قراءة عاصم» فيضاعفه «بالألف ونصب الفاء.

والثالثة: قرأ ابن كثير:» فَيُضَعِّفُهُ «بالتَّشديد، ورفع الفاءِ.

والرابعة: قرأ ابن عامرٍ فيضعِّفَه بالتَّشْديد، ونصب الفاء. فالرَّفْعُ من وجهين:

أحدهما: أنَّهُ عطفٌ على» يقرض «الصِّلةِ.

والثاني: أَنَّهُ رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ.

والنصبُ من وجهين:

أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ بإضمارٍ «أَنْ» عطفاً على المصدر المفهوم من «يقرضُ» في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ مِنَ اللهِ تعالى كقوله: [الوافر]

1153 -

لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي

أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

والثاني: أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهام في المعنى؛ لأَنَّ الاستفهام وإِنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً، فهو عن الإِقراضِ معنى كأنه قال: أيقرضُ اللهَ أَحَدٌ فيضاعفَه.

قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهام على اللفظ؛ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللَّفْظِ المُقرِضُ أي الفاعلُ للقَرْضِ، لا عن القَرْضِ، أي: الذي هو الفِعْلُ» وقد مَنَع بعضُ النَّحويّين النَّصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحُكم، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرها، كقوله:«مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي؛ فأغفرَ له، مَنْ يَدْعُونِي؛ فأَسْتَجِيبَ له» بالنصبِ فيهما.

قال أبو البقاء: فإنْ قيلَ: لِمَ لَا يُعْطَفُ [الفعل على] المصدرِ الذي هو «قرضاً» كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار «أَنْ» كقولِ الشاعر [الوافر]

ص: 255

1154 -

لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي.....

...

...

...

... . .

قيل: هذا لا يصحُّ لوجهين:

أحدهما: أنَّ «قرضاً» هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المُؤكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب «أَنْ» والفعلِ.

والثاني: أنَّ عطفَهُ عليه يُوجبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ، ولا يصِحُّ هذا في المعنى؛ لأَنَّ المضاعفةَ ليستُ مُقْرِضَةً، وإِنَّما هي فعلُ اللهِ تعالى، وتعليله في الوجهِ الأولِ يُؤذِنُ بأنه يُشترط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرس يتقدَّر ب «أَنْ» والفعلِ، وهذا ليس بشرطٍ؛ بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ؛ كقوله:[الطويل]

1155 -

وَلَوْلَا رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٍ

وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا

ف «أَسُوءَكَ» منصوبٌ ب «أَنْ» ؛ عطفاً على «رِجَالٌ» ، فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال: لو عُطفَ على «قرضاً» ؛ لشاركه في عامِلِه، وهو «يُقْرض» فيصيرُ التَّقْدِيرُ: مَنْ ذا الذي يَقْرِضُ مضاعفةً، وهذا ليسَ صحيحاً معنى.

وقد تقدَّم أَنَّه قرئ «يُضاعِفُ» ، و «يُضَعِّفُ» فقيل: هما بمعنى، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير.

وقيل: إنَّ «يُضَعِّف» لِما جُعِلَ مثلين، و «ضاعَفَه» لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك.

والقَرْضُ: القَطْعُ، ومنه:«المِقْرَاضُ» لِمَا يُقْطَع به وانقطع القوم هلكوا وانقطع أثرهم وقيل للقَرْض «قرض» ؛ لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ، وهذا أصلُ الاشتقاقِ، ثم اختلف أهل العِلْمِ في «القَرْض» فقيل: هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ حَسَناً كان أو سيئاً «، تقول العرب: لك عندي قرضٌ حسنٌ وسيّئ، والمرادُ منه الفعل الذي يجازى عليه.

قال أَميَّة بن الصَّلت: [البسيط]

1156 -

كُلُّ امْرِىءٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَناً

أَوْ سَيِّئاً وَمَدِيناً مِثْلٌ ما دَانَا

واختلفوا في أَنَّ إِطلاق لفظ القَرْضِ على هذا، هل هو حقيقة أو مجازٌ.

ص: 256

قال الزَّجَّاج: هو حقيقةٌ، واستدلَّ بما ذكرناه، وقيل: مجازٌ، لأَنَّ القَرْضَ: هو أَنْ يعطي الإنسان ليرجع إليه مثله وهنا إِنَّما ينفق ليرجع إِلَيه بدله، و «القِرض» بالكَسْرِ - لغةٌ فيه حكاها الكِسَائِيُّ، نقله القرطبي.

قوله: «أَضْعَافاً» فيه ثلاثة أوجهٍ:

أظهرها: أَنَّهُ حالٌ من الهاءِ في «فيضاعِفُ» ، وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة، الظَّاهِرُ أنها مُبَيِّنَةٌ؛ لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ، إلَاّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخَر، ففُهِم منها ما لم يُفْهَمُ من عامِلها، وهذا شأنُ المبيِّنة.

والثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين «يضاعفُ» معنى يُصَيِّر، [أي: يُصَيِّره] بالمضاعَفَةِ أضْعافاً.

الثالث: أنه منصوبٌ على المصدر.

قال أبو حيان: [قيل] ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضَاعفُ، أو المضعِّفُ - بمعنى المضاعفة، أو التضعيف، كما أُطلِقَ العطاء، وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء. وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاص، واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجَزَاءِ. وسبقه إلى هذا أبُو البقاءِ، وهذه عبارتُهُ، وأنشد:[الوافر]

1157 -

أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي

وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِائَةَ الرِّتَاعَا

والأَضْافُ جمعُ «ضِعْف» ، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ مُتَسَاوييْن. وقيل: مثلُ الشَّيء في المِقْدَارِ. ويقالُ: ضِعْفُ الشَّيء: مثلُهُ ثلاثَ مرات، إلَاّ أنه إذا قيل «ضعفان» ، فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيثُ إِنَّ كلَّ واحدٍ يُضعِّفُ الآخرَ، كما يُقالُ زَوْجان، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر.

فصل

لما أمر اللهُ تعالى بالجهادِ، والقتال على الحَقّ؛ إذ ليس شيءٌ من الشَّريعة، إِلَاّ ويجوز القِتَالُ عليه وعنه، وأعظمها دينُ الإِسلام، حرَّض تعالى على الإِنفاقِ في ذلك؛ فَدَخل في ذلك: المُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ، فإِنَّهُ يَقْرضُ رجاء الثَّوابِ، كما فعلَ عثمانُ رضي الله عنه في جيشِ العُسْرَةِ.

فصل

اختلف المُفَسِّرُون في هذه الآية على قولين:

ص: 257

أحدهما: أنَّ هذه الآية متعلِّقةٌ بما قبلها، والمرادُ منها القرض في الجهادِ خاصَّةً، فندب العاجز عن الجهاد أَنْ ينفق على الفقير القادر عليه، وأمر القادر على الجهاد: أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد، ثمَّ أكد ذلك بقوله تعالى:{والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} .

القول الثاني: أَنَّ هذا الكلام مبتدأٌ لا تعلُّق له بما قبله، ثم اختلفوا هؤلاء، فمنهم من قال: المراد من القرض إنفاق المال، ومنهم من قال: إِنَّه غيره والقائلون بأَنَّه إنفاق المال، اختلفوا على ثلاثة أقوال:

الأول: أَنَّه الصَّدقةُ غير الواجبة، وهو قول الأَصم، واحتجَّ بوجهين:

أحدهما: أَنَّهُ تعالى سمَّاه قرضاً والقَرْضُ لا يكون إِلَاّ تبرعاً.

الوجه الثاني: قال ابن عبَّاسٍ: إِنَّ هذه الآية «نزلت في أبي الدَّحداح، قال: يا رسول اللهِ! إِنَّ لي حديقتين، فإِنْ تصدّقت بأحدهما، فهل لي مثلها في الجنَّة.

قال:» نَعَمْ «، قال: وأمّ الدَّحداح معي؟ قال:» نعم «. فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تُسَمَّى» الحنيبة «قال: فرجع أبُو الدَّحداح إلى أهله، وكانوا في الحديقة التي تصدّق بها، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدَّحداح: بارك اللهُ لك فيما اشتريتَ، ثمَّ خرجوا منه وسلموها؛ فكان عليه الصلاة والسلام يقول: كم مِنْ نخلةٍ رداحٍ تُدلي عروقها في الجنَّة لأَبي الدَّحداح

.» القول الثاني: أَنَّ المراد من هذا القرض: الإنفاقُ الواجب في سبيل اللهِ. قالوا: لأَنَّه تعالى ذكر في آخر الآية قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وذلك كالزَّجر وهو إِنَّما يليقُ بالواجب.

القول الثالث: أَنَّه يشتمل قسمين كقوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] وأمَّا من قال: إِنَّ المُراد: إِنفاقُ شيء سوء المال. قالوا: رُوِيَ عن بعضِ أصحاب ابن مسعودٍ أنه قول الرَّجل سبحان اللهِ، والحمد للهِ، ولا إله إلَاّ الله، واللهُ أكْبَرُ. قال ابنُ الخطيب [قال القاضي] وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ لفظ الإِقراض لا يقعُ في عرف اللُّغة عليه، ولا يمكن حمل هذا القولِ على الصِّحَّة إِلَاّ أَنْ نقول: إذا كان

ص: 258

الفقيرُ لا يملك شيئاً، وكان في قلبه أنه لو قدر على الإِنفاق لأنفق، وأعطى، فحينئذٍ تكون نيته قائمةً مقام الإِنفاق، فقد روي أَنَّه عليه الصلاة والسلام قال:«مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ فَلْيَلْعَنِ اليهُود، فإنَّه لهُ صَدَقَة» .

فصل

قال القرطبي: وذكر القَرْضِ ها هنا إِنَّما هو تأنيسٌ، وتقريبٌ للنَّاسِ بما يفهمونه، واللهُ هو الغنيُّ الحميدُ، لكنَّهُ تعالى شبَّه عطاء المؤمنين في الدُّنيا، بما يرجون به ثوابه في الآخرةِ بالقرض كما شبَّه إِعطاء النُّفوسِ، والأموال في أَخذِ الجنَّةِ، بالبيع والشراء.

قوله تعالى: «حَسَناً» قال الواقديُّ: محتسب طيبة به نفسه.

وقال عمرو بن عثمان الصَّدفيُّ: «لا يتبعه مَنّاً، ولا أَذى» .

وقال سهلُ بن عبد اللهِ: لا يعتقِدث في قرضه عوضاً.

واعلم: أَنَّ هذا الإِقراض إِذَا قلنا: المرادُ به الإِنفاقُ في سبيل الله، فهو يخالف القرضَ من وجوهٍ:

الأول: أَنَّ القرض إِنَّما يأخذه من يحتاج ُ إليه لفقره، وذلك في حقّ اللهِ تعالى مُحالٌ.

الثاني: أَنَّ البدل في القرضِ المعتاد لا يكون إِلاّ المثل، وفي هذا الإنفاق هو الضِّعفُ.

الثالث: أَنَّ المالَ الذي يأخُذُه المستقرضُ، لا يكون ملكاً له، وها هنا المالُ المأخُوذ ملك له، ومع هذه الفُروق سمَّاه الله تعالى قرضاً، والحكمةُ فيه التَّنبيهُ على أَنَّ ذلك لا يضيعُ عند اللهِ كما أَنَّ القرض يجبُ أداؤه، ولا يجوزُ الإخلالُ به، فكذا الثَّوَابُ الواجبُ على هذا الإنفاقِ واصلٌ إلى المكلف لا محالة.

فصل

قال القرطبيُّ: القرضُ: قد يكون بالمالِ، وقد بَيَّنَّا حُكْمَهُ، كما قال عليه الصّلاة

ص: 259

والسَّلام «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كأَبِي ضَمْضَم، كان إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قال: اللَّهُمَّ إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ» .

وقال ابن عمر: «أَقْرِضْ من عِرْضِكَ ليوم فَقْرِكَ» يعني مَنْ سبَّك فلا تأخذ منه حقّاً، ولا تقم عليه حَدّاً، حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز التَّصَدُّق بالعرض؛ لأَنَّه حقُّ اللهِ تعالى وهو مروي عن مالكٍ.

قال ابن العربيّ: وهذا فاسِدٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ دِمَاءَكم وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» هذا يقتضي أَنْ تكون هذه المحرمات الثَّلاث تجري مجرًى واحداً، في كونها باحترامها حقاً للآدمي

فصل

وكون القرض حسناً يحتملُ وجوهاً:

أحدها: أنه أراد به أن يكون حلالاً خالصاً من الحرام.

الثاني: ألَاّ يتبع ذلك منّاً ولا أذى.

الثالث: أن يفعله بنية التَّقرُّب إلى اللهِ تعالى.

والمراد من التَّضعيف، والإضعاف، والمضاعفة واحد، وهو: الزِّيَادَةُ على أصل الشَّيء حتَّى يصير مثليه، أو أكثر، وفي الآية حذفٌ والتقدير: فيضاعف ثوابه.

فصل

والمراد بالأضعاف الكثيرة:

قال السُّدِّيُّ: هذا التَّضعيفُ لا يعلمه إلَاّ الله عز وجل وإِنَّما أبهم ذلك؛ لأَنَّ ذكر المبهم في باب التَّرغيب، أقوى من المحدود وقال غيره: هو المذكورُ في قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] ، فيحمل المجمل على المُفسَّرِ؛ لأَنَّ كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق.

قوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قرأ أبو عمر، وحمزة، وحفص، وقنبلٌ «

ص: 260

وَيَبْسُطُ» ها هنا وفي الأعراف بالسِّين على الأصل، والباقُون بالصَّادِ لأجل الطاء. وقد تقدَّم تحقيقه في {الصراط} [الفاتحة: 6] .

فصل

قوله: «يقبض» بإمساك الرّزق والنفس، والتقتير، و «يَبْسُطُ» بالتَّوسيع، وقيل: يقبضُ بقبول التوبة الصَّادقة، ويبسط بالخلف، والثَّواب. وقيل: هو الإِحياءُ والإماتة، فمن أَمَاتهُ فقد قبضه ومن مَدَّ له في عمره فقد بسط له.

وقيل: يقبضُ بعض القلوب، حتَّى لا تقدم على هذه الطَّاعة. والمعنى: أَنَّهُ كما أمرهم بالصَّدقةِ أخبر أَنَّهُ لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، وإعانته، وقيل: ذكر ذلك ليعلمَ الإِنسان أَنَّ القبض والبسط بيد اللهِ، فإذا علم ذلك؛ انقطع نظره عن مال الدُّنيا، وبقي اعتمادُهُ على اللهِ، فحينئذٍ يَسْهُلُ عليه الإنفاق ثمَّ قال:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجزيكم بأعمالكم، حيث لا حاكم ولا مُدَبِّرَ سواه.

وقال قتادة: الهاء في «إليه» راجعة إلى التّراب كنايةً عن غير مذكور، أي من التُّراب خلقتم، وإليه تُرْجعون، وتعودون.

ص: 261

الملأُ من القَوْمِ وجوههم، وأشرافهم، وهو اسم للجماعة من النَّاس لا واحد لهُ من لفظه كالرَّهْطِ والقومِ، والجيشِ، والمَلأُ: الأَشرافُ سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يملئون العيونَ هيبةً، أو المجالسَ إذا حضروا؛ أو لأنهم مليئون بما يُحْتاج إليهم فيه، وقال الفرَّاءُ:«المَلأُ» الرجالُ في كلِّ القرآن، وكذلك القومُ والرَّهطُ والنَّفَرُ، ويُجْمع على أَمْلاء؛ قال:[الطويل]

1158 -

وَقَالَ لَهَا الأَمْلَاءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ

وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا

قال القرطبي: والملأ أيضاً حسن الخلق، ومنه الحديث:«أَحْسنُوا الملأَ فكلُّكُمْ سيروى» أخرجه مسلم.

ص: 261

قوله تعالى: {مِن بنيا} فيه وجهان:

أحدهما: أَنَّهُ صلةٌ للملأ على مذهب الكُوفيين؛ لأنهم يجعلون المُعَرَّفَ بأل موصولاً؛ ويُنْشِدُون: [الطويل]

1159 -

لَعَمْرِي لأَنْتَ الَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ

وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ

و {مِن بَعْدِ موسى} متعلِّقٌ بما تعلَّقَ [به] الجارُّ الأولُ، وهو الاستقرار، ولا يضُرُّ اتحادُ الحرفين لفظاً لاختلافِهما معنًى، فإِنَّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداءِ الغاية. وقال أبو البقاء:«مِنْ بعدِ» متعلِّقٌ بالجار الأول، أو بما تعلَّق به الأول يعني بالأولِ:«من بني» ، وجعله عاملاً في «مِنْ بعد» لِما تضمنَّه من الاستقرار، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه، وهذا على رأي بعضِهم، يَنْسِبُ العمل للظرف والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً، فتقول في نحو:«زيدٌ في الدار أبوه» أبوه: فاعلٌ بالجارِّ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ، وهو الوجهُ الثاني. وقدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً. تقديرُه: من بعدِ موسى، ليصِحَّ المعنى بذلك.

قوله: {إِذْ قَالُواْ} العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين:

أحدهما: أنه العاملُ في «مِنْ بعد» لأنَّه بدلٌ منه، إذ هما زمانان، قاله أبو البقاء: والثاني: أنه «ألم تر» قال شهاب الدين وكلاهما غيرُ صحيحٍ.

أمَّا الأول فلوجهين:

أحدهما من جهة اللفظِ والآخرُ من جهة المعنى. فأمّا الذي من جهة اللفظِ فإنه على تقدير إعادة «مِنْ» و «إذ» لا تُجَرُّ ب «مِنْ» . الثاني: أنه ولو كانَتْ «إذ» من الظروف التي تُجَرُّ ب «مِنْ» كوقت وحين لم يصِحَّ [ذلك أيضا لأنَّ العاملَ في «مِنْ بعد» محذوفٌ فإنه حالٌ تقديره: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يصِحَّ] هذا المعنى.

وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى «ألم تر» تقريرٌ للنفي، والمعنى: ألم ينته علمُك، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولهم ذلك، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟

وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ، تقديره: ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها، فصار المعنى: ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ، ولا يصحُّ المعنى إلا به لِما تقدَّم.

ص: 262

قوله تعالى: {لِنَبِيٍّ} متعلِّقٌ ب «قالوا» واللامُ فيه للتبليغ، و «لهم» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي، ومحلُّه الجرُّ، و «ابعَثْ» وما في حيَّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ. و «لنا» الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ، واللامُ للتعليلِ أي: لأجلِنا.

قوله: {نُّقَاتِلْ} الجمهورُ بالنونِ والجزم على جواب الأمر. وقرئ بالياء والجزم على ما تقدَّم، وابن أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللام على الصفةِ لملكاً، فمحلُّها النصبٌ أيضاً. [وقرئ بالنونِ ورفع اللام على أنها حالٌ من «لنا» فمحلُّها النصبُ أيضاً] أي: ابعَثْه لنا مقدِّرين القتال، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم: ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ.

قوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ} عسى واسمها، وخبرها «أَنْ لا تقاتِلوا» والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابهُ محذوفٌ للدلالة عليه، وهذا كما توسَّط في قوله:{وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ «عسى» داخلةً على المبتدأ والخبر، ويقولُ إنَّ «أَنْ» زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين. وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعل متعدٍّ فيقول:«عَسَيْتم» فعلٌ وفاعلٌ، و «أَنْ» وما بعدها مفعولٌ به تقديره: هل قارَبْتُم عدم القتالِ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ، والأولُ هو المشهورُ.

وقرأ نافع «عَسِيْتُم» هنا وفي القتال: بكسر السينِ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً ومع ن [ومع] نونِ الإناثِ نحو: عَسِينا وعَسِين، وهي لغةُ الحجاز، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال:«عسى تُكْسَرُ مع المضمر» وأَطْلَقَ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ الضمير بما ذكرنا، إذ لا يقال: الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة.

وقال الفارسي: «ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ:» هو عَس بكذا «مثل: حَرٍ وشَج، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو: نَقَم ونَقِم، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ، فإِنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال:» عَسِيَ زيدٌ «مثل:» رَضِي زيدٌ «.

فإن قيل: فهو القياسُ، وإِنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره» فظاهرُ هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهِر بطريق القياسِ على المضمرِ، وغيرهُ من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً، وظاهرُ قوله «قولُ العرب: عَسٍ» أنه مسموعٌ منهم

ص: 263

اسمُ فاعلها، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي، وقد نَصَّ النحاة على أن «عسى» لا تتصرَّف «.

واعلم أنَّ مدلولَ «عسى» إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق، فعلى هذا: فكيف دَخَلت عليها «هل» التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى، قال الزمخشري:«والمعنى: هل قارَبْتم ألَاّ تقاتلوا، يعني: هل الأمرُ كما أتوقّعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقول: عَسَيْتُم ألا تقاتلوا، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ، فأدخلَ» هل «مستفهِماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ، وثَبَتَ أنَّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه؛ كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] معناه التقريرُ» وهذا من أَحسنِ الكلامِ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ؛ مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها؛ وبوقوعها خبراً ل «إنَّ» في قوله:[الرجز]

1160 -

لَا تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا

وهذا لا دليلَ فيه؛ لأنه على إضمار القول؛ كقوله: [البسيط]

1161 -

إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ

لَا تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا

ولذلك لا توصلُ بها الموصولات؛ خلافاً لهشامٍ.

قوله: {وَمَا لَنَآ أَلَاّ نُقَاتِلَ} هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله. و «ما» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، ومعناها الاستفهامُ، وهو استفهامُ إنكارٍ. و «لنا» في محلِّ رفع خبر ل «ما» .

و «أَلَاّ نُقَاتِلَ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ.

أظهرها: أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ وهو قول الكسائي والتقديرُ: وما لنا في ألَاّ نقاتل، أي: في تركِ القتالِ، ثم حُذِفَتْ «في» مع «أَنْ» فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه: أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو «لنا» أو بما يتعلَّق هو به على حسبِ ما تقدَّم في «مِنْ بعد موسى» .

قال البغوي: فإن قيل: فما وجه دخول «أن» في هذا الموضع، والعرب لا

ص: 264

تقول ما لك ألَاّ تفعل، وإنما يقال: ما لك لا تفعل؟ قيل: دخول «أن» وحذفها لغتان صحيحتان، فالإثبات كقوله تعالى:{مَا لَكَ أَلَاّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 32]، والحذف كقوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بالله} [الحديد: 8] وقال الفراء: الكلام ها هنا محمول على المعنى؛ لأن قولك: ما لك لا تقاتل؟ معناه: ما يمنعك أن تقاتل، فلما كان معناه المنع حسن إدخال «أن» فيه كقوله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] وقوله: {أَلَاّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 32] ورجح الفارسي قول الكسائي على قول الفراء.

قال: لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر تقديره ما يمنعنا من أن نقاتل فإذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، فعلى قول الكسائي يبقى الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي أولى.

الثاني: مذهب الأخفش أنَّ «أَنْ» زائدةٌ، ولا يضرُّ عملها مع زيادتها، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجر الزائدة، وعلى هذا فالجملة المنفيَّة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنه قيل: ما لنا غير مقاتلين، كقوله:{مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13]{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] وقول العرب: «ما لك قائماً» ، وقول الله تعالى:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وهذا المذهب ضعيفٌ لأنَّ الأصل عدم الزيادة، فلا يصار إليها دون ضرورةٍ.

الثالث: - وهو أضعفها - وهو مذهب الطبري أنَّ ثمَّ واواً محذوفةً قبل قوله: «أن لا نقاتلَ» . قال: «تقديره: وما لنا ولأن لا نقاتل، كقولك: إياك أن تتكلَّم، أي: إياك وأن تتكلم، فحذفت الواو» وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً. وأمَّا قوله: إنَّ قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو؛ فليس كما زعم، بل «إياك» ضمِّنت معنى الفعل المراد به التحذير، و «أَنْ تتكلمَ» في محلِّ نصبٍ به تقديره: احذر التكلم.

قوله: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} هذه الجملة في محلِّ نصبٍ على الحال، والعامل فيها:«نقاتلْ» ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال. وهذه قراءة الجمهور، أعني بناء الفعل للمفعول.

وقرأ عمرو بن عبيد: «أَخْرَجَنا» على النباء للفاعل. وفيه وجهان:

أحدهما: أنه ضمير الله تعالى، أي: وقد أخرجنا الله بذنوبنا.

والثاني: أنه ضمير العدوّ.

{وَأَبْنَآئِنَا} عطفٌ على «ديارنا» أي: ومن أبنائنا، فلا بدَّ من حذف مضافٍ تقديره: «

ص: 265

ومن بين أبنائنا» كذا قدره أبو البقاء. وقيل: إنَّ هذا على القلب، والأصل: وقد أُخرج أبناؤنا منا، ولا حاجة إلى هذا.

قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ} ، فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره: فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا.

قوله: {إِلَاّ قَلِيلاً} نصبٌ على الاستثناء المتصل من فاعل «تَوَلَّوا» فإن قيل المستثنى لا يكون مبهماً، لو قلت:«قام القومُ لا رجالاً» لم يصحَّ، فالجواب إنما صحَّ هذا لأنَّ «قليلاً» في الحقيقة صفةٌ لمحذوفٍ، ولأنه قد تخصَّص بوصفه بقوله:«منهم» ، فقرب من الاختصاص بذلك.

وقرأ أُبي: «إلَاّ أن يكون قليلٌ منهم» وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكون معنًى من المعاني والمستثنى منه جثثٌ. ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها. وذلك أنّ العرب تقول:«قام القوم إلا أنْ يكونَ زيدٌ وزيداً» بالرفع والنصب، فالرفع على جعل «كان» تامةً، و «زيدٌ» فاعلٌ، والنصب على جعلها ناقصةً، و «زيداً» خبرها، واسمها ضميرٌ عائدق على البعض المفهوم من قوة الكلام، والتقدير: قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيداً، والمعنى: قام القوم إلا كون زيدٍ في القائمين، وإذا انتفى كونه قائماً انتفى قيامه، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين، أعني «قام القوم إلا زيداً» و «قاموا إلا أن يكون زيداً» ، إلا أن الأول استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لما قررناه.

فصل

وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها أنَّه تعالى لما فرض القتال بقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244]، ثمَّ أمر بالإنفاق فيه بقوله:{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} [البقرة: 245] ذكر بعد ذلك هذه القصة تحريضاً على عدم تركهم مخالفة الأمر بالقتال، فإنَّهم لما أُمروا تولَّوا، وخالفوا؛ فذمهم الله تعالى ونسبهم إلى الظُّلم بقوله:{والله عَلِيمٌ بالظالمين} والمراد التَّرغيب في الجهاد.

فصل فيمن هو النبي الذي نادى بالبعث في الآية

اختلفوا في ذلك النبيِّ الذي قالوا له {ابعث لَنَا مَلِكاً} من هو فقال قتادة: هو يوشع ابن نون بن أفرائيم بن يوسف لقوله تعالى: {مِن بَعْدِ موسى} وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله {مِن بَعْدِ موسى} كما لا يحتمل الاتصال بالتَّعاقب يحتمل البعديَّة بغير تعاقب، وإن كان

ص: 266

بينهما غير يوشع؛ لأنَّ البعديّة حاصلة، وذكر ابن عطيَّة في تضعيف هذا القول أنَّ مدَّة داود بعد موسى بقرون من النَّاس، ويوشع هو فتى موسى عليهما الصَّلاة والسَّلام.

وقال السُّدِّيُّ: اسمه شمعون سمَّته أُمُّه بذلك؛ لأنَّها دعت الله أن يرزقها غلاماً، فاستجاب الله دعاءها، فسمته سمعون، أي: سمع الله دعائي، والسِّين تصير شيناً بالعبرانية وهو شمعون ابن صفيَّة بنت علقمة، من ولد لاوي بن يعقوب.

وقال سائر المفسِّرين: هو اشمويل بن هلقايا.

فصل

كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك؛ لأنَّه لمَّا مات موسى خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التَّوراة، وأمر الله، حتى قبضه الله، ثمَّ خلف فيهم «كالِب بْنَ يُوفَنَا» ؛ حتى قبضه الله، ثمَّ حزقيل حتى قبضه الله، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله؛ حتى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم «إِلْياسَ» نبياً، فدعاهم إلى الله، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التَّوراة، ثم خلف بعد «إِلْيَاسَ» «اَلْيَسَع» ، وكان فيهم ما شاء الله؛ حتَّى قبضه الله، وخلف فيهم الخلوف، وعظمت الخطايا وظهر لهم عدوٌّ يقال له البلثاثا، وهم قوم «جَالُوتَ» ، كانوا يسكنون ساحل بحر الرُّوم، بين مصر، وفلسطين، وهم العمالقة، فظهروا على بني إسرائيل، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً شديداً، ولم يكن لهم نبيٌّ يدبِّر أمرهم، وكان سبط النُّبوَّة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلَاّ امرأة حبلى؛ فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جاريةً، فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً؛ فولدت غلاماً فسمته شمويل تقول: سمع الله دعائي، فكبر الغلام فأسلموه ليتعلم التَّوراة في بيت المقدس، وكفله شيخٌ من علمائهم وتبنَّاه، فلمَّا بلغ الغلام أتاه جبريل، وهو نائم إلى جنب الشَّيخ، وكان لا يأتمن عليه أحداً، فدعاه جبريل بلحن الشيخ: يا أُشمويل، فقام الغلام فزعاً إلى الشَّيخ قوال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشَّيخ أن يقول: لا فيفزع الغلام، فقال: يا بنيّ ارجع فنم، فرجع الغلام، فَنَامَ، ثمَّ دعاه الثَّانية، فقال الغلام: يا أَبَتِ دَعَوْتَنِي!؟ فقال: ارجع فنم فإنْ دعوتُكَ الثَّالثة؛ فلا تجبني، فلمَّا كانت الثَّالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك؛ فبلغهم رسالة ربِّك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيّاً، فلمَّا أتاهم كذَّبوه، وقالوا له: استعجلت بالنُّبوَّة، ول تَنَلْكَ، وقالوا: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آيةً من نبوَّتك، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على

ص: 267

الملوك، وطاعة الملوك لأنبيائهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنَّبيُّ يقوم له بأمره، ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من عند ربِّه.

قال وهبٌ: بعث الله أُشمويل نبيّاً، فلبثوا أربعين سنةً بأحسن حال، ثمَّ كان من أمر جالوت، والعمالقة ما كان فقالوا لأُشمويل:«ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِل» ، فقال:«هَلْ عَسَيْتُم» ؟! استفهام شكٍّ، أي: لعلكم «إِنْ كُتِبَ» أي: فرض «عَلَيْكُمُ القِتَالُ» مع ذلك الملك ألا تفوا بما تقولون، ولا تقاتلوا معه «قَالُوا: وَمَا لَنَا أَلَاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا» ، فجعلوا ذلك علَّةً قويَّة توجب التَّشديد في أمر الجهاد؛ لأنَّ من بلغ منه العدوُّ هذا المبلغ، فالظَّاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوِّه ومقاتلته، وظاهر الكلام العموم، والمراد الخصوص؛ لأنَّ الذين قالوا لنبيِّهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنَّما أخرج من أسر منهم، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيِّهم: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا، لا يظهر علينا عدوٌّ، فأمَّا إذْ بلغ ذلك منَّا، فنطيع ربَّنا في الجهاد، ونمنع نساءنا، وأولادنا، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ} : أعرضوا عن الجهاد، وضيَّعوا أمر الله {إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} - وهم الذين عبروا النَّهر مع طالوت، واقتصروا على الغرفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

قيل: كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدرٍ.

ص: 268

قوله تعالى: {طَالُوتَ مَلِكاً} : «مَلِكاً» حال من «طالوت» فالعامل في الحال «بَعَثَ» . و «طالوتُ» فيه قولان:

أظهرهما: أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصرف للعلتين، أعني: العلمية والعجمة الشَّخصية.

والثاني: أنه مشتقٌّ من الطول، ووزنه فعلوت كرهبوت ورحموت، وأصله طولوت، فقلبت الواو ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وكأن الحامل لهذا القائل بهذا القول ما روي في القصَّة أنه كان أطول رجلٍ في زمانه وبقوله «وزاده بسطة في العلم والجسم» إلا أنَّ هذا القول مردودٌ بأن لو كان مشتقاً من الطُّول، لكان ينبغي أن ينصرف، إذ ليس فيه إلَاّ العلمية. وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً لكنَّه شبيه بالأعجمي، من حيث إنَّه

ص: 268

ليس في أبينة العرب ما هو على هذه الصِّيغة، وهذا كما قالوا في حمدون، وسراويل، ويعقوب، وإسحاق عند من جعلهما من سحق وعقب وقد تقدم.

وأجاب آخرون: بأنه اسمٌ عبراني وافق عربيّاً مثل حطة وحنطة، وعلى هذا يكون أحد سببيه العجمة؛ لكونه عبرانياً.

قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} في «أَنَّى» وجهان:

أحدهما: أنَّها بمعنى كيف، وهذا هو الصَّحيح.

والثاني: أنها بمعنى من أين، اختاره أبو البقاء، وليس المعنى عليه. ومحلُّها النّصب على الحال، وسيأتي الكلام في عاملها ما هو. و «يَكُونُ» فيها وجهان:

أحدهما: أنها تامَّةٌ، و «المُلْكُ» فاعلٌ بها و «له» متعلّقٌ [بها، و «عَلَيْنَا» متعلقٌ] بالملك، تقول:«فلان مَلَك على بني فلان أمرهم» ، فتتعدى هذه المادة ب «على» ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلْك» ، و «يَكُونُ» هي العاملة في «أنَّى» ، ولا يجوز أن يعمل فيها أحد الظَّرفين، أعني «له» ، و «علينا» ؛ لأنه عاملٌ معنوي والعامل المعنويُّ لا تتقدَّم عليه الحال على المشهور.

والثاني: أنها ناقصةٌ، و «له» الخبر، و «علينا» متعلِّقٌ: إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبر، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلك» كما تقدَّم، والعامل في هذه الحال «يكون» عند من يجيز في «كَانَ» الناقصة أن تعمل في الظرف وشبهه، وإمَّا بنفس الملك كما تقدَّم تقريره، والعامل في «أنَّى» ما تعلَّق به الخبر أيضاً، ويجوز أن يكون «عَلَيْنَا» هو الخبر، و «لَهُ» نصبٌ على الحال، والعامل فيه الاستقرار المتعلِّق به الخبر، كما تقدَّم تقريره، أو «يَكُونُ» عند من يجيز ذلك في الناقصة، ولم أر من جوَّز أن تكون «أنى» في محلِّ نصب خبراً ل «يَكُونُ» بمعنى «كَيْفَ يَكُونُ المُلْكُ عَلَيْنَا لَهُ» ولو قيل به لم يمتنع معنًى ولا صناعةً.

قوله: {وَنَحْنُ أَحَقُّ} : جملةٌ حاليَّةٌ، و «بالمُلْكُ» و «مِنْهُ» كلاهما متعلّقٌ ب «أَحَقُّ» . «ولم يُؤْتَ سَعَةً» هذه الجملة الفعلية عطفٌ على الاسميَّة قبلها، فهي في محلِّ نصب على الحال، ودخلت الواو على المضارع؛ لكونه منفياً و «سعةً» مفعول ثانٍ ليؤت، والأول قام مقام الفاعل.

و «سَعَةً» وزنها «عَلَة» بحذف الفاء، وأصلها «وُسْعَة» ، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملاً له على المضارع، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين ياء - وهي حرف المضارعة - وكسرة مقدَّرة، وذلك أنَّ «وَسِع» مثل «وَثِق» فحقٌّ مضارع أن يجيء على

ص: 269

يفعل بكسر العين، وإنما منع ذلك في «يَسَع» كون لامه حرف حلقٍ، ففتح عين مضارعه لذلك، وإن كان أصلها الكسر، فمن ثم قلنا: بين ياء وكسرة [مقدرةٍ، والدَّليل على ذلك أنَّهم قالوا: وَجِلَ يَوْجَل فلم يحذفوها لمَّا كانت الفتحة أصلية غير عارضةً، بخلاف فتحة «يَسَع» و «يَهَب» وبابهما.

فإن قيل: قد رأيناهم يحذفون هذه الواو، وإن لم تقع بين ياءٍ وكسرةٍ] ، وذلك إذا كان حرف المضارعة همزة نحو:«أَعِدُ» ، أو تاءً نحو:«تَعِد» أو نوناً نحو: «نَعِد» ، وكذلك في الأمر والمصدر نحو:: عِدْ عِدَةَ حَسَنَةً «.

فالجواب أنَّ ذلك بالحمل على المضارع مع الياء طراً للباب، كما تقدَّم لنا في حذف همزة أفعل، إذا صار مضارعاً لأجل همزة المتكلِّم، ثم حمل باقي الباب عليه. وفتحت سين» السَّعة «لمَّا فتحت في المضارع لأجل حرف الحلق، كما كسرت عين» عِدة «لمَّا كسرت في» يَعِد «إلا أنَّه يشكل على هذا: وَهَبَ يَهَبُ هِبة، فإنهم كسروا الهاء في المصدر، وإن كانت مفتوحة في المضارع لأجل أنَّ العين حرف حلقٍ، فلا فرق بين» يَهَبُ «، و» يَسَع «في كون الفتحة عارضةً والكسرة مقدرةً، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في» هِبة «، وكان من حقِّها الفتح لفتحها في المضارع ك» سَعَة «.

و» من المال «فيه وجهان:

أحدهما: أنه متعلقٌ بيؤت.

والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسعة، أي: سَعَةً كائنةً من المال.

فصل

اعلم أنَّه تعالى لما بيَّن في الآية أنَّه لمَّا أجابهم إلى سؤالهم تولَّوا، بيَّن في هذه الآية أنَّ أوّل تولِّيهم إنكارهم إِمْرَة طالوت، وذلك أنَّهم لمَّا طلبوا من نبيِّهم أن يطلب من الله أن يعيِّن لهم ملكاً؛ فأجابهم بأنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، أظهروا التَّولي عن طاعة الله، وأعرضوا عن حكمه، وقالوا:» أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا «، واستبعدوا ذلك.

قال المفسِّرون: وسبب هذا الاستبعاد: أنَّ النبوَّة كانت مخصوصةً بسبط معيَّن من أسباط بني إسرائيل، وهم سبط لاوي بن يعقوب، ومنه «مُوسَى وهارون» وسبط المملكة سبط «يَهُوذا» ، ومنه «دَاوُدُ، وسُلَيْمَانُ» و «طَالُوت» لم يكن من أحد هذين السِّبطين، بل كان من ولد «بِنْيَامِين» فلذها السَّبب؛ أنكروا كونه ملكاً عليهم، وزعموا أنَّهم أحقُّ بالملك منه، ثمَّ أكدوا هذه الشُّبهة بشبهة أخرى وهي قولهم:«وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ» ، أي: فقير.

ص: 270

قال وهبٌ: كان دبَّاغاً.

وقال السدِّيُّ: مكارياً.

وقال آخرون: كان سقَّاء، واسمه بالعبرانية ساول بن قيس، وكان من سبط بنيامين ابن يعقوب، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً، كانوا ينكحون النِّساء على ظهر الطَّريق نهاراً، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمون سبط الإثم، ثمَّ إنَّ الله تعالى أجابهم عن شُبْهتهم بقوله:{إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} .

والاصطفاء: أخذ الملك من غيره صافياً، واصطفاه واستصفاه، بمعنى: الاستخلاص، وهو أخذ الشَّيء خالصاً.

وقال الزَّجَّاج: مأخوذٌ من الصَّفوة، فأصله اصتفى بالتاء، فأبدل التَّاء بالطَّاء ليسهل النُّطق بها بعد الصَّاد.

فصل

اعلم أنَّهم لمَّا طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين:

أحدهما: كونه ليس من بيت المملكة.

والثاني: القدرة، وهذان الوصفان أشدُّ مناسبة لاستحقاق الملك من الوصفين الأوَّلن لوجوه:

أحدها: أنَّ العلم، والقدرة من باب الكمالات الحقيقيَّة، والمال والجاه ليسا كذلك.

الثاني: أنَّ العلم، والقدرة يمكن التَّوصُّل بهما إلى المال والجاه، ولا ينعكس.

الثالث: أنَّ المال والجاه، يمكن سلبهما عن الإنسان، والعلم والقدرة، لا يمكن سلبهما عنه.

الرابع: أنَّ العالم بأمر الحرب، والقويّ الشَّديد على المحاربة، ينتفع به في حفظ مصلحة الملك، ودفع شرِّ الأعداء، أكثر من الانتفاع بالرجل النَّسيب الغنيِّ الذي لا قدرة له على دفع الأعداء، ولا يحفظ مصلحة الملك.

ص: 271

فصل

دلَّت هذه الآية على بطلان قول من يقول: إنَّ الإمامة موروثةٌ، وذلك؛ لأنَّ بني إسرائيل لمَّا أنكروا أن يكون الملك من غير بيت المملكة؛ أسقط الله هذا الشَّرْط، وبيَّن أنَّ المستحقَّ للملك من خصَّه الله به فقال:{والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} ، وهذه الآية نظير قوله:{تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران: 26] .

فصل

والمراد بالبسطة في الجسم: الجمال، وقيل: المراد: طول القامة. قيل: كان أطول من كل أحدٍ برأسه، وبمنكبه. وقيل: المراد القوَّة.

قال ابن الخطيب: وهذا القول عندي أصحُّ؛ لأنَّ المنتفع به في دفع الأعداء هو القوَّة، والشِّدة، لا الطُّول، والجمال.

قوله: {فِي العلم} فيه وجهان:

أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «بَسْطَة» كقولك: «بَسَطْتُ لَهُ في كَذَا» .

والثاني: أنه متعلّقٌ بمحذوفً؛ لأنه صفةٌ ل «بَسْطَة» ، أي: بَسْطَة مستقرةً أو كائنة.

قوله: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} .

قال بعض المفسِّرين: هذا من كلام الله تعالى لمحمّدٍ عليه الصلاة والسلام، والمشهور: أنَّه من قول أشمويل، قال لهم ذلك، لمَّا علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد أن يتمِّم كلامه بالقطعي، الذي لا اعتراض عليه فقال:{والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} ، وأضاف ملك الدُّنيا إلى الله إضافة مملوكٍ إلى ملكٍ.

قوله: {والله وَاسِعٌ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه على النسب، أي: ذو سعة رحمة، كقولهم: لابنٌ، وتامرٌ، أي: صاحب تمرٍ ولبنٍ.

والثاني: أنَّه جاء على حذف الزوائد من أوسع، وأصله مُوسِعٌ. وهذه العبارة إنَّما يتداولها النَّحويون في المصادر فيقولون: مصدرٌ على حذف الزوائد.

والثالث: أنه اسمُ فاعلٍ من «وَسِع» ثلاثياً؛ قال أبو البقاء: «فالتَّقدير على هذا: واسع الحِلم؛ لأنَّك تقول وسع حلمه» .

فصل في تفسير قوله {وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

في قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ثلاثة أقوال:

ص: 272

أحدها: أنَّه واسع الفضل، والرَّزق، والرَّحمة، وسعت رحمته كلَّ شيءٍ، والتَّقدير: أنتم طعنتم في طالوت، لكونه فقيراً، فالله تعالى واسع الفضل، يفتح عليه أبواب الرِّزق، والسَّعة، كما في المال؛ لأنه فوّض إليه الملك، والملك لا يتمشَّى إلَاّ بالمال.

والثاني، والثالث: ما تقدَّم في الإعراب آنفاً من كونه بمعنى: «مُوسِعٌ» وذو سعة، والعليم العالم وقيل: العالم بما كان، والعليم بما يكون.

ص: 273

اعلم أنَّه لما أخبرهم نبيهم: بأنَّ الله تعالى، بعث لهم طالوت ملكاً، وأبطل حجَّتهم قالوا: «فَمَا آيَةُ مُلْكِهِ؟ قال: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} .

قوله تعالى: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} :» أَنْ «، وما في حيِّزها في محلِّ رفع خبرٍ ل» إِنَّ «تقديره: إنَّ علامة ملكه إيتاؤكم التَّابوت.

وفي» التَّابوتِ «، قولان:

أحدهما: أنه فاعولٌ، ولا يعرف له اشتقاقٌ، ومنع قائل هذا أن يكون وزنه فعلوتاً مشتقاً من تاب يتوب كملكوت من الملك ورهبوت من الرُّهب، قال: لأنَّ المعنى لا يساعد على ذلك.

الثاني: أن وزنه فعلوت كملكوت، وجعله مشتقاً من التَّوب وهو الرُّجوع، وجعل معناه صحيحاً فيه، لأنَّ التَّابوت هو الصُّندوق الذي توضع فيه الأشياء، فيرجع إليه صاحبه عند احتياجه إليه، فقد جعلنا فيه معنى الرجوع.

والمشهور أن يوقف على تائه بتاءٍ من غير إبدالها هاءً؛ لأنَّها إمَّا أصلٌ إن كان وزنه فاعولاً، وإمَّا زائدةٌ لغير التَّأنيث كملكوت، ومنهم من يقلبها هاءً، وقد قرئ بها شاذّاً، قرأها أُبيّ، وزيد بن ثابت، وهي لغة الأنصار، ويحكى أنهم لمَّا كتبوا المصاحف زمن عثمان رضي الله عنه احتلفوا فيه فقال زيد:» بالهَاءِ «، وقال: [أُبَيّ:] » بالتَّاءِ «، فجاءوا عثمان فقال:» اكْتبوه على لغة قريش «يعني بالتَّاءِ.

ص: 273

وهذه الهاء هل هي أصل بنفسها، فيكون فيه لغتان، ووزنه على هذا فاعول ليس إلَاّ، أو بدلٌ من التَّاء؛ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهمس، أو إجراءٌ لها مجرى تاء التَّأنيث؟ قال الزَّمخشريُّ:» فإنْ قلت: ما وزنُ التابوت؟ قلت: لا يَخْلو أن يَكُونَ فَعَلوتاً، أو فاعُولاً، فلا يَكُونُ فاعُولاً لقلته نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ «يعني: في الأوزان العربيَّة، ولا يجوز ترك المعروف [إليه] فهو إذاً فعلوت من التَّوب وهو الرُّجوع؛ لأنَّه ظرفٌ تودع فيه الأشياء، فيرجع إليه كلَّ وقتٍ.

وأمَّا من قرأ بالهاء فهو فاعول عنده، إلَاّ من يجعل هاءه بدلاً من التَّاء لاجتماعهما في الهمس، ولأنَّهما من حروف الزِّيادة، ولذلك أُبدلت من تاء التَّأنيث.

قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ} يجوز أن يكون» فيه «وحده حالاً من التَّابوت، فيتعلَّق بمحذوفٍ، ويرتفع» سَكِينَة «بالفاعليَّة، والعامل فيه الاستقرار، والحال هنا من قبيل المفردات، ويجوز أن يكون» فيه «خبراً مقدّماً، و» سكينةٌ «مبتدأ مؤخراً، والجملة في محلِّ نصب على الحال، والحال هنا من قبيل الجمل، و» سكينةٌ «فعيلة من السكون، وهو الوقار. أي هو سبب سكون قلوبكم، فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت، ونظيره {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] قيل: كان التَّابوت سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه، ولم يفرّوا عن التَّابوت، إذا كان معهم في الحرب.

وقرأ أبو السَّمَّال بتشديد الكاف، قال الزَّمخشريُّ:«وَهُوَ غريبٌ» .

قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ ل «سَكِينَة» ، ومحلُّه الرَّفع. ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به «فيه» من الاستقرار. و «مِنْ» يجوز أن تكون لابتداء الغاية، وأن تكون للتبعيض. وثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: من سكينات ربكم.

فصل

اعلم أنَّ مجيء التَّابوت لا بدَّ وأن يكون على وجهٍ خارقٍ للعادة؛ حتى يصح كونه آية من عند الله دالَّة على صدق تلك الدَّعوة، وذلك يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون المعجز نفس التَّابوت.

قال أصحاب الأخبار: إنَّ الله تعالى، أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده، وكان من عود من الشمشار نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات فتوارثه أولاده إلى أن وصل إلى يعقوب، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه، وكان عنده إلى أن مات، ثمَّ تداولته أنبياء بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلَّم، وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدَّموه بين أيديهم، ليستفتحوا على عدوِّهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر، ثمَّ يقاتلون العدوَّ، فإذا سمعوا من

ص: 274

التَّابوت صيحةً؛ استيقنوا النَّصر، فلمَّا عصوا، وفسدوا سلَّط الله عليهم العمالقة، فغلبوهم على التَّابوت وسلبوه، فلمَّا سألوا نبيَّهم على ملك طالوت؛ قال لهم النَّبيُّ:«إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ» أنكم تجدون التَّابوت في داره، ثمَّ إنَّ الكفَّار حين سلبوا التَّابوت؛ جعلوه في موضع البول والغائط، فدعا نبيُّ ذلك الوقت عليهم، فسلَّط الله عليهم البلاء حتى كل من بال، أو تغوّط ابتلاه الله بالبواسير، فعلم الكفَّار أن ذلك سبب استخفافهم بالتَّابوت، فأخرجوه ووضعوه على ثورين، فأقبل الثَّوران يسيران، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا منزل طالوت، ثمَّ إنَّ قوم ذلك النَّبيّ رأوا التَّابوت عند طالوت، فعلموا أنَّ ذلك دليل على كونه ملكاً لهم.

وقيل: إنَّ التَّابوت صندوقٌ كان موسى عليه الصلاة والسلام يضع التوراة فيه، وكان من خشب يعرفونه، ثم إنَّ الله - تعالى - رفعه لمّا قبض موسى عليه الصلاة والسلام لسخطه على بني إسرائيل، ثمَّ قال نبيُّ أولئك القوم: إنّ آية ملك طالوت أن يأتيكم التَّابوت من السَّماء، والملائكة يحفظونه، والقوم كانوا ينظرون إليه؛ حتَّى نزل عند طالوت، وهذا قول ابن عباسٍ رضي الله عنه، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين، لأنَّ من حفظ شيئاً في «الطَّريق؛ جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء، وإن لم يحمله، كقول القائل: حملت الأمتعة إلى زيدٍ، إذا حفظها في الطَّريق، وإن كان الحامل غيره.

الثاني: ألا يكون التَّابوت معجزاً، بل يكون المعجز فيه بأن يشاهدوا التَّابوت خالياً، ثمَّ إنَّ ذلك النَّبيّ يضعه بمحضرٍ من القوم في بيتٍ، ويغلقون البيت عليه، ثمَّ يدعي ذلك النَّبي أنَّ الله تعالى يخلق فيه ما يدلُّ على ما وصفنا، فإن فتحوا باب البيت، ونظروا في التَّابوت؛ رأوا فيه كتاباً يدلُّ على أنَّ ملكهم هو طالوت، وأنَّ الله ينصرهم على عدوِّهم، فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنَّه من عند الله، ولفظ القرآن محتملٌ للوجهين.

فصل في المراد بالسكينة

اختلفوا في السَّكينة: قال عليٌّ رضي الله عنه: هي ريحٌ تخرج، أي: شديدة هفَّافةٌ لها رأسان، ووجه كوجه الإنسان.

وقال ابن عبَّاسٍ، ومجاهدٌ: هي صورةٌ من زبرجدٍ وياقوت لها رأسٌ كرأس الهِرّ وذنبٌ كذنبه، ولها جناحان، وقيل: لها عينان لهما شعاعٌ، وكانوا إذا سمعوا صوتها تيقنوا بالنَّصر، وكانوا إذا خرجوا، وضعوا التَّابوت قدَّامهم، فإذا سار ساروا، وإذا وقف وقفوا.

ص: 275

وعن ابن عبَّاس: هي طستٌ من ذهب من الجنَّة؛ كان يغسل فيها قلوب الأنبياء.

وقال أبو مسلم: كان في التَّابوت بشارات من كتب الله المنزَّلة على موسى وهارون - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ومن بعدهما من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام بأن الله تعالى ينصر طالوت، وجنوده، ويزيد خوف العدوّ عنهم.

وعن وهب بن منبّه قال: هي روحٌ من الله تتكلَّم إذا اختلفوا إلى شيءٍ من أمورهم تخبرهم ببيان ما يريدون. وقال أبو بكر الأصمٌّ: معنى السَّكينة؛ أي: تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك، وتزول نفرتكم عنه؛ لأنه متى جاءهم التَّابوت من السَّماء، وشاهدوا تلك الحالة، فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم.

وقال قتادة، والكلبيُّ: السَّكينة فعيلة من السّكون، أي: طمأنينة من ربكم، ففي أي مكان كان التَّابوت اطمأنوا إليه وسكنوا.

قوله: {وَبَقِيَّةٌ} وزنها فعيلة والأصل: بَقِيْبَة بياءين، الأولى زائدة، والثانية لام الكلمة، ثم أُدغم، ولا يستدلُّ على أنَّ لام «بَقِيَّة» ياء بقولهم:«بَقِيَ» في الماضي، لأنَّ الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء، ألا ترى أنَّ «رَضِي» و «شَقِيَ» أصلهما من الواو: الشِّقْوَة والرِّضوان.

و «مِمَّا تَرَكَ» في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «بَقِيَّة» فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: بقيةٌ كائنةٌ. و «مِنْ» للتَّبعيض، أي: من بقيَّات ربِّكم، و «مَا» موصولةٌ اسميَّةٌ، ولا تكون نكرةً ولا مصدريةً.

و «آل» تقدم الكلام فيه، وقي: هو هنا زائدٌ؛ كقوله: [الطويل]

1162 -

بُثَيْنَةُ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا

يَكُنَّ لِوَصْلٍ لَا وِصَالَ لِغَائِبِ

يريد «بُثَيْنَةُ» من النساء.

قال الزَّمخشريُّ: وَيَجُوزُ أن يريد: ممَّا تَرَكَ موسى وهارون، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنهما، أي زائدٌ للتعظيم، واستشكل أبو حيان كيفيَّة إفادة التَّفخيم بزيادة الآل. و «هَارُون» أعجميٌّ. قيل: لم يرد في شيءٍ من لغة العرب، قاله الراغب، أي: لم ترد مادته في لغتهم.

فصل في المقصود بالبقية

اختلفوا في البقية، فقيل:{مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} من الدِّين، والشَّريعة،

ص: 276

والمعنى: أنَّ بسبب هذا التَّابُوت ينتظمُ ما بَقِيَ من دينهما، وشريعتهما.

وقيل: كان فيه لوحان من التَّوراة، ورضاض الألواح الَّتي تكسَّرت، وعصا موسى ونعلاهُ، وثيابه، وعمامة هارون وعصاه، وقفيزٌ من المنّ الذي كان ينزلُ على بني إسرائيل، واختلفوا في الآلِ على قولين:

أحدهما: المراد موسى، وهارون نفسهما كقوله عليه الصلاة والسلام ُ - لأبي موسى الأَشعريّ:«لَقَدْ أُوتِيَ هذا مِزْماراً مِنْ مَزَامِير آل داوُدَ» وأراد به داود نفسه؛ لأنه لم يكُن لأحد من آلِ داوُدَ من الصَّوتِ الحسن مثل ما كان لداود.

الثاني: قال القفَّال: إنَّما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون؛ لأَنَّ ذلك التَّابوت تداولته القُرُونُ بعدهما إلى وقتِ طالُوت، وما في التَّابُوت توارثه العلماء عن أتباع موسى وهارون، فيكون الآل: هم الأتباع قال تعالى: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] .

قوله: {تَحْمِلُهُ الملاائكة} هذه الجملةُ تحتمِلُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التَّابُوت أي: محمولاً للملائكةِ وألَاّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ، إِذْ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: كيف يأتي؟ فقيل: تحمِلُهُ الملائكةُ.

وقرأ مجاهد «يَحْمِلُه» بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ الفِعْل مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ، فيجوزُ في فعله الوجهان. و «ذلك» مشارٌ به قيل: إلى التَّابوت. وقيل: إلى إتيانه، وهو الأَحسنُ ليناسِبَ آخرُ الآيةِ أولها [و «إِنْ» ] الأظْهَرُ فيها [أنها] على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ. وقيل: هي بمعنى «إذ» فإنّ هذه الآية معجزة باهِرَة للمؤمنين.

قال ابن عبَّاسٍ: إِنَّا التَّابُوت، وعصا موسى في بحيرة طبرية وإنهما يخرجان قبل يوم القيامة.

مِنَ النَّاسِ من قال: إن طالُوتَ كان نبيّاً؛ لأن اللهَ تعالى أظهر المعجزة على يديه، ومن كان كذلك كان نبيّاً.

فإن قيل: هذه من باب الكرامات، قلنا: الفَرْقٌ بين الكرامةِ والمُعجزة: أنَّ الكرامة لا تكون على سبب التَّحَدِّي؛ فتكون معجزةً، وقد يُجابُ بأن ذلك معجزةٌ لنبيّ ذلك الزّمان وأنه آية قاطِعَةٌ في ثبوت ملك طَالُوتَ.

ص: 277

[قوله تعالى: «فَصَلَ» : أي: انْفَصَلَ، فلذلك كان قاصِراً. وقيل إِنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكن حُذِفَ، والتقديرُ: فَصَلَ نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ.

و {بالجنود} متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «طَالُوت» أي مصاحباً لهم] . وبين جملةِ قوله: «فلمَّا فَصَلَ» وبين ما قبلَها من الجملِ جُمل محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه، تقديرُهُ: فلما أتاهم بالتَّابُوت أذعنوا له وأجابوا فَمَلَّكُوا طالوتَ، وتأهَّبوا للخروجِ، وهي كقوله:{فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} [يوسف: 45، 46] . ومعنى الفصل: القَطْعُ.

يقال: فصلت اللَّحْمَ عن العَظم فَصْلاً، وفاصل الرَّجُل شريكهُ وامرأته فصالاً. ويُقالُ للفطام فِصالٌ؛ لأَنَّه يقطعُ عن الرَّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه، قال تعالى:{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} [يوسف: 94] والجنود جمع جُنْدٍ، وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حدةٍ، يقال للجراد الكثيرة: إنَّها جنود اللهِ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:«الأَرْوَاح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» .

فصل

روي أنَّ طَالُوت خرج من بيت المقدس بالجنود، وهم يومئذٍ سبعون ألفاً، وقيل: ثمانُون ألف مُقاتل، وذلك أَنَّهُم لمَّا رأَوا التَّابُوت لم يشكوا في النَّصْر، فساروا إلى الجهاد، فقال طالُوتُ: لا حاجة لي في كُلِّ ما أَرى، لا يخرجُ معي رجُلٌ بنى بيتاً لم يفرغ منه، ولا تاجِرٌ مشتغلٌ بالتِّجارة، ولا مَنْ تزوّج امرأة لم يبنِ بها، ولا يتبعني إلا الشاب النّشيط الفارغ، فاجتمع إليه مما اختار ثَمَانُون ألفاً، وكان في حَرٍّ شديد، فشكوا قلَّة الماءِ بينهم، وبين عدوِّهم وقالوا: إِنَّ المياه قليلة لا تحملنا، فادعُ اللهَ أن يجري لنا نهراً فقال:{إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} ، واختلفوا في هذا القائل، فقال الأكثرون هو طالوت؛ لأنَّهُ المذكور السَّابِقُ، وعلى هذا، فإِنَّه لم يقلهُ عن نفسه، فلا بُدَّ وأن يكُون عن وحي أَتَاهُ عن رَبِّهِ وذلك يقتضي أَنَّه كان مع الملك نبيٌّ، وقيل: القائِلُ هو النَّبِيُّ المذكور في أول

ص: 278

القِصَّةِ، وهو أشمويل عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا التَّقدير إن قلنا: هذا الكلامُ من طالُوت، فيكون تحمَّلَهُ عن ذلك النَّبي، وحينئذٍ لا يكون طالُوت نبيّاً، وإن قلنا: الكلام من النَّبيّ فتقديره: فَلَمَّا فصل طالُوت بالجنود قال لهم نبيهم: إن اللهَ مبتليكم بنهرٍ، وفي هذا الابتلاء وجهان:

الأول: قال القاضي: كان المشهورُ من أمر بني إسرائيل مخالفة الأنبياء، والملوك مع ظهور الآيات، والمعجزات، فأراد اللهُ تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدوّ يتميز بها الصَّابِرُ على الحرب من غيره.

الثاني: أَنَّهُ تعالى ابتلاهم ليتعوَّدُوا الصَّبر على الشَّدائد والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من «بَلَا يَبْلُو» و «ابْتَلَى يَبْتَلِي» ؛ قال: [الكامل]

1163 -

وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي

وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ

فجاء باللُّغتين، وأصلُ الياءِ في مبتليكم واوٌ لأَنَّهُ من بلا يبلُو؛ وابتلى يَبْتَلِي، أي: اختبر، وإِنَّما قلبت لانكِسَارِ ما قبلها.

قوله {بِنَهَرٍ} الجمهورُ على قراءتَه بفتح الهاء وهي اللَّغة الفصيحةُ، وفيه لغةٌ أخرى: تسكينُ الهاءِ، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآن وكلُّ ثلاثي حشوه حرف حلق، فإِنّهُ يجيء على هذين الوجهين؛ كقوله: صَخَرَ وَصَخْر وشَعَر وشَعْر وَبَحَر وَبَحْر؛ قال: [البسيط]

1164 -

كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِن حَجَرٍ

فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنِّى عَمَلُ

يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وفي بَحَرٍ

مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ

وتقدم اشتقاقُ هذه اللَّفظة عند قوله تعالى: {مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] .

قوله: {فَلَيْسَ مِنِّي} ، أي: من أَشياعي وأصحابي، و «مِنْ» للتَّبعيض؛ كأنه يجعلُ أصحابَه بعضه؛ ومثله قول النَّابغة:[الوافر]

1165 -

إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً

فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي

ص: 279

ومعنى يَطْعَمْهُ: يَذُقْهُ؛ تقولُ العربُ: «طَمِعْتُ الشَّيْءَ» أي: ذُقْتُ طَعْمَهُ؛ قال: [الطويل]

1166 -

فَإِنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ

وَإِنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلَا بَرْدَا

والنقاخ: الماءُ العذبُ المروِي، والبردُ: هو النَّومُ.

فصل

قال أهلُ اللُّغة: وإِنَّما اختير هذا اللَّفظُ لوجهين:

أحدهما: أَنَّ الإِنسانَ إذا عطش جدّاً، ثم شربَ الماء، وأراد وصف ذلك الماء، فإِنَّهُ يصفُهُ بالطُّعُومِ اللَّذِيذة، فقوله:{وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} ، أي: وَإِنْ بلغ به العطشُ إلى حيث يكون الماءُ في فَمِهِ موصوفاً بالطُّعوم الطَّيِّبة؛ فإنه يجب عليه الاحتراز عنه، وألا يشرب.

الثاني: أَنَّ مَنْ جعل الماءَ في فمه، وتمضمض به، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أَنَّهُ ذاقه وطعمه، ولا يصدُق عليه أَنَّه شربه، فلو قال: ومن لم يشربه فإِنَّهُ مني، كان المنعُ مقصوراً على الشّرب. فلما قال:{وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} حصل المنعُ في الشُّربِ، والمضمضة، ومعلومٌ أَنَّ هذا التَّكليف أَشَقُّ، فإِنَّ الممنُوع من الشُّربِ، إِذَا تَمَضْمضَ بالماءِ وجد نوع خِفَّةٍ وراحةٍ.

فإن قيل: هَلَاّ قيل: «وَمَنْ لَمْ يَطْْعَمْ مِنْهُ» ليكون آخر الآية مُطابقاً لأَوَّلها؟

فالجواب: إِنَّما اختير ذلك لفائدة وهي أَنَّ الفُقهاء اختلفوا في أَنَّ مَنْ حَلَفَ ألَاّ يشرب مِنَ هذا النَّهرِ. قال أبو حنيفة: لا يحنثُ إلا إِذَا كرع منهُ؛ حتى لو اغترف بكوزٍ من النَّهرِ، وشرب لا يحنث؛ لأَنَّ الشُّرب من الشَّيء هو: أَنْ يكُونَ ابتداء شُربِهِ مُتَّصلاً بذلك الشَّيء، وهذا لا يحصل إِلَاّ بالشُّرب مِنَ النَّهر.

وقال الباقون: يحنثُ بالشُّرب مِنَ الكُوزِ، إذا اغترف به مِنَ النَّهر؛ لأَنَّ هذا وَإِنْ كان مجازاً، فهو مجازٌ معروفٌ، وإذا تقرَّر هذا فقوله:{مَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ظاهره: أَنَّ النَّهْيَ مقصورٌ على الشُّرب من النَّهْرِ، حتّى لو اغترف بكُوزٍ، وشرب، لا يكُونُ داخلاً تحت النَّهي فلما كان هذا الاحتمالُ قائِماً في اللَّفظ الأَوَّل ذكر في اللَّفظ الثَّاني ما يزيلُ هذا الاحتمال، فقال:{وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} أضاف الطَّعم والشّرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الاحتمال.

فصل

قال ابنُ عبَّاس، والسُّدِّيُّ: إِنَّه نهر فلسطين، وقال قتادة والرَّبيع: هو نهرٌ بين

ص: 280

الأُردن وفلسطين قال القاضي: والتوفيقُ بين القولين: أَنَّ النَّهر المُمتد من بلدٍ إلى بلدٍ قد يُضافُ إلى أحد البلدين. وروى الزَّمخشريُّ أَنَّ الوقت كان قيظاً، فسلكوا مفازةً فسألوا أَنْ يجري اللهُ لهم نهراً، فقال: إِنَّ اللهَ مبتليكم بما اقترحتُمُوهُ مِنَ النَّهرِ.

قوله: {إِلَاّ مَنِ اغترف} منصوبٌ على الاستثناء، وفي المُستَثنى منه وجهان:

الصَّحيح أَنَّهُ الجملةُ الأولى، وهي:{فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ، والجملةُ الثانيةُ معترِضةٌ بين المُستَثنى والمُستَثنى مِنْهُ وأصلُها التَّأخيرِ، وإِنَّما قُدِّمَتْ، لأنها تَدلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهوم، فإنَّه لمَّا قال تعالى:{فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ، فُهِمَ منه أَنَّ من لم يشرب فإنَّه منه، فَلَمَّا كانت مدلولاً عليها بالمفهوم، صارَ الفصلُ بها كلا فصلٍ.

وقال الزمخشريُّ: والجُمْلَةُ الثَّانيةُ في حُكم المُتَأَخِّرة، إلَاّ أَنَّها قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَ «والصَّابِئُونَ» في قوله:{إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون} [المائدة: 69] .

والثاني: أَنَّهُ مستثنى من الجملة الثَّانية، وإليه ذهب أبو البقاء. قال شهاب الدين: وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أَنَّ المعنى: ومَنْ لم يطعمْه فإِنَّهُ مِنِّي، إلَاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرفة بيده؛ فإنه ليس مني، لأَنَّ الاسْتثناء من النَّفْي إثباتٌ، ومن الإِثبات نفيٌ، كما هو الصَّحيحُ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى؛ لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غرفةً واحدةً.

والاستثناءُ إذا تعقَّبَ الجُمَلَ، وصلح عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة، أم لا؟

خلافٌ مشهورٌ، فإنْ دلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجُمَلِ عمِلَ به، والآيةُ من هذا القبيل، فإنَّ المعنى يعودُ إلى عودِهِ إلى الجُملة الأولى، لا الثَّانية لِمَا قَرَّرْنَاهُ.

وقرأ الحرمِيَّان وأبو عمرو: «غَرْفَة» بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلفٌ. والباقون بضمها. فقيل: هما بمعنى المصدر، إلَاّ أنهما جاءا على غير الصَّدر كنبات من أَنْبَتَ، وَلَوْ جاءَ على الصَّدر لقيل: اغترافاً. وقيل: هما بمعنى المُغْتَرف كالأَكل بمعنى المأكولِ. وقيل: المَفْتُوح مصدرٌ قُصِدَ به الدَّلالة على الوحدةِ، فإنَّ «فَعْلَة» يدُلُّ على المَرَّة الواحدة، ومثله الأكلة يقال فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة والمضمُومُ بمعنى المفعول، فحيثُ جعلتهما مَصْدراً فالمفعولُ [محذوفٌ، تقديره: إلَاّ مَن اغترف ماءً، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول] كانا مفعولاً به، فَلا يُحتاج إلى تقديرِ مَفْعُولٍ.

ويدل على الشَّيء الَّذي يحصُلُ بالكَفِّ كاللُّقمة والحُسْوة والخُطوةِ بالضم،

ص: 281

والحُزَّة القطعة اليسيرة من اللحم. قال القرطبيُّ: وقال بعضهم: الغرقة بالكَفّ الواحد، والغُرفة بالكفين.

وقال المبرِّدُ «غَرْفَةً» بالفتح مصدر يقعُ على قليل ما في يده وكثيره وبالضَّمِّ اسم ملء الكف، أو ما اغترف به، فحيثُ جعلتهما مصدراً، فالمفعولُ محذوفٌ تقديره: إِلَاّ من اغترف ماءً، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول كان مفعولاً به، فلا يحتاجُ إلى تقديره مفعولٍ ونُقِلَ عن أبي علي أَنَّهُ كان يُرَجِّح قراءة الضَّمِّ؛ لأَنَّه في قراءةِ الفتح يجعلها مصدراً، والمصدرُ لا يوافق الفعل في بنائِهِ، إِنَّما جاءَ على حذفِ الزوائد وجعلُها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح.

قوله: {بِيَدِهِ} يجوزُ أن يتعلَّق ب «اغْتَرَفَ» وهو الظَّاهر. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل «غُرْفَة» ، وهذا على قولنا: بأن «غُرْفَة» ، بمعنى المفعول أَظْهر منه على قولنا: بأنها مَصْدَرٌ، فإنَّ الظَّاهِرَ من الباء على هذا أن تكون ظرفيَّةٌ، أي: غُرفةً كائِنَةً في يده.

فصل

قال ابن عباس: كانت الغرْفَةَ تَشْرَبُ منها هو، ودوابُّهُ، وخدمه، ويحمل منها. قال ابن الخطيب: وهذا يحتملُ وجهين:

أحدهما: أَنَّهُ كان مَأْذوناً له أَنْ يأخذ من الماء ما شاء مرَّةً واحِدَةً بغرفةٍ واحدةٍ بحيثُ كان المأْخُوذُ من المرَّةِ الواحدة يكفيه، ودوابُّهُ، وخدمه، ويحمل باقيه.

والثاني: أَنَّهُ كان يأخذُ القليل فيجعل اللهُ فيه البركة حتَّى يكفِي كُلَّ هؤلاء؛ فتكون معجزة لنبيّ ذلك الزَّمان كما أَنَّهُ تعالى كان يَروِي الخلق العظيم من الماءِ القليل في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

فصل

قال القرطبي: قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} يدلُّ على أَنَّ الماء طعامٌ، فإذا كان طعاماً، كان قُوتاً للأَبدان به، فوجب أن يجري فيه الرِّبا.

قال ابن العربيّ وهو الصَّحيح من المذهب، ورَوَى أبو عمر عن مالكٍ قال: لا بأس ببيع الماء بالماءِ متفاضلاً، وإلى أجلٍ، وهو قول أَبي حنيفة، وأبي يوسف وقال محمَّد بن الحسن: هو مِمَّا يُكال ويوزن فعلى هذا لا يجُوزُ عندهُ التفاضل.

ص: 282

فصل

قال ابن العربيِّ: قال أبو حنيفة: إذا قال الرَّجُلُ إذا شرب عبدي من الفراتِ فهو حرّ، فلا يُعتق إِلَاّ أَنْ يكرع فيه، والكرعُ: أَنْ يشرب الرَّجُلُ بفيه مِنَ النَّهر، فَإِنْ شرب بيده، أو اغترف منه بإِناءٍ، لم يعتق، لأنَّ اللهَ - تعالى - فرَّق بين الكرع في النَّهر، وبين الشّرب باليدِ. قال: وهذا فاسِدٌ لأَنَّ شُرب الماء يُطلق على كُلِّ هيئةٍ وصفةٍ في لسان العرب من غرف باليد، أو كرع بالفم انطلاقاً واحداً.

قال القرطبي: وقول أبي حنيفة أصحّ؛ لأَنَّ أهل اللُّغة فرَّقوا بينهما، كما فرَّق الكتابُ والسُّنَّةُ.

قال الجوهريُّ وغيره: كرع من الماء كروعاً: إذا تناوله بفيه من موضعه، من غير أَنْ يشرب بكفيه، أو بإناءٍ، وفيه لغة أخرى «كرعَ» بكسر الرَّاء كَرَعاً.

وَأَمَّا السُّنَّة، فما رُويَ عن ابن عمر قال: مررنا على بِرْكةٍ، فجعلنا نكرعُ فيها فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ -:«لَا تَكْرَعُوا وَلَكِن اغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ ثُمَّ اشْرَبُوا فيها، فَإِنَّها ليس إِناءٌ بأَطيب مِنَ اليَدِ»

وقال عليه الصلاة والسلام ُ: «مَنْ شَرِبَ بيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ على إِناءٍ يُريدُ بِهِ التَّواضُع كَتَبَ اللهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ وهو إِناء عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إذا اطَّرَح القدح فقال أَفّ هذا مع الدّنيا» أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر.

قوله: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلَاّ قَلِيلاً} هذه القراءةُ المشهورةُ، وقرأ عبد الله، وأُبَيّ والأعمش «إِلَاّ قَليلٌ» وتأويله أنّ هذا الكلام وإِنْ كان موجباً لفظاً فهو منفيّ معنى، فإنه في قُوَّة: لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم، فلذلك جعلهُ تابعاً لِمَا قبلهُ في الإِعْرابِ. قال الزَّمخشريُّ: وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللَّفظ جانباً، وهو بابٌ جليلٌ من عِلْم العربيةِ، فلمَّا كان معنى «فَشَرِبُوا مِنْهُ» في معنى «فلم يُطِيعوه» حمل عليه، ونحوه قول الفرزدق:«لم يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلَاّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ» يشير إلى قوله: [الطويل]

1167 -

وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ

مِنَ المَالِ إِلَاّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ

ص: 283

فإنَّ معنى «لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلَاّ مُسْحَتاً» لم يبقَ من المالِ إِلَاّ مُسْحَتٌ، فلذلك عطف عليه «مُجَلَّفُ» بالرَّفع مُراعاة للمعنى المذكور. وفي البيت وجهان آخران، أحدهما. .

ولا بُدَّ من ذكر هذه المسألة لعموم فائدتها فأقول: إذا وقع في كلامهم استثناءٌ موجبٌ نحو: «قَامَ القَوْمُ إِلَاّ زَيْداً» فالمشهورُ وجوبُ النَّصب على الاستثناءِ. وقال بعضهم: يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ «إِلا» ما قبلها في الإِعراب فتقول: «مَرَرْتُ بالقوم إلا زيدٍ» بجرّ «زَيْدٍ» واختلفوا في تابعيَّة هذا، فعبارةُ بعضهم أَنَّهُ نعتٌ لما قبلَه، ويقولُ: إنه يُنْعَتُ بإِلَاّ، وما بعدها مُطْلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً، أم نكرةً مضمراً، أم ظاهراً، وهذا خارجٌ عن قياس باب النَّعتِ لما قد عرَفْتَ فيما تقدَّم.

ومنهم مَنْ قال: لا يُنْعَتُ بها إِلَاّ نكرةً، أو معرفةً بأل الجنسيّةِ لقربها من النّكرة. ومنهم مَنْ قال: قَولُ النَّحويين هنا نعتٌ: إِنَّما يعنُون به عطفَ البيانِ؛ ومن مَجِيء الإتباع بما بعد «إِلَاّ» قوله: [الوافر]

1168 -

وَكُلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ

لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَاّ الفَرْقَدَانِ

فصل

لما ذكر تعالى أَنّ هذا الابتلاء ليتميز المُطِيعُ مِنَ المخالف، أخبر بعد ذلك بأَنَّهُم لما هجموا على النَّهرِ شرب أَكثرهم، وأطاع قليلٌ، فلم يشربوا، فأَمَّا الَّذين شربُوا فَرُوي أَنَّهم اسودَّت شفاههم وغلبهم العطش، ولم يرووا، وبقوا على شَطّ النَّهر وجبنوا عن لقاءِ العدُوّ، وأَمَّ الَّذين أطاعوا، فقوي قلبهم، وصحَّ إِيمانهُمُ.

قال السُّدِّيُّ: كانوا أربعة آلاف، وقال الحسن، وهو الصَّحيح: أنهم كانُوا على عَدَدِ أهل بدرِ ثلاثمائة، وبضعة عشر، ويدُلُّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوم بدر:

«أَنَّتُمُ اليَوْمَ عَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوت حين عَبَرُوا النَّهَر، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلَاّ مُؤمنٌ» .

قال البراء بن عازب: وكنا يومئذٍ ثلاثمائة، وثلاثة عشر رجلا ولا خلاف بين

ص: 284

المُفسِّرين أَنَّ الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم، وإنما اختلفوا هل كان رجوعهم بعد مجاوزة النهر أو قبله؟ والصَّحيح: أنَّهُم لم يجاوزوا النَّهر، وإِنَّما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى:{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ} .

قال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ: كان المُخالِفون أهل شكٍّ، ونِفاقٍ، فقالوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} فانحرفوا، ولم يجاوزُوا النَّهرَ.

وقال آخرون: بل جاوزُونا النَّهرَ، وإنما كان رجوعهم بعد المجاوزة، ومعرفتهم بجالوت، وجنوده؛ لقولهم {لَا طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} .

قوله: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} وهذا يدلُّ على أَنَّهُم حين لا قوا العدوّ، وعاينوا كثرتهم انقسموا فرقتين إحداهما: رجعت وهي المخالفة، وبقيت المطيعة.

قوله: {جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ} «هو» ضميرٌ مرفوعٌ منفصِلٌ مؤكِّدٌ للضّمير المستكنِّ في «جَاوَزَ» .

قوله: «والَّذِين» يحتملُ وجهين:

أظهرهما: أنه عطفٌ على الضَّمير المستكنِّ في «جَاوَزَ» لوجود الشَّرط، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضَّمير المنفصلِ.

والثاني: أَنْ تكُون الواوُ للحالِ، قالوا: ويلزَمُ من الحالِ أن يكونُوا جاوزوا معه، وهذا القائلُ يجعلُ «الَّذِينَ» مبتدأ، والخبرَ قالوا:«لَا طَاقَةَ» ؛ فصار المعنى: «َفَمَّا جَاوَزَهُ، والحالُ أنَّ الَّذِين آمنوا قالوا هذه المقالة» ، والمعنى ليس عليه.

ويجوزُ إدغامُ هاء «جَاوَزَهُ» في هاء «هُو» ، ولا يُعْتدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ؛ لأنها ضعيفةٌ، وإِنْ كان بعضهم استضعف الإِدغام، قال:«إِلَاّ أَنْ تُخْتَلَسَ الهاءُ» ، يعني: فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءة أبي عمرو، وأدغم أيضاً واوَ «هُوَ» في واو العطف بخلاف عنه، فوه الإِدغام ظاهرٌ لالتقاءِ مثلين بشروطِهما. ومَنْ أظهر وهو ابن مجاهدٍ، وأصحابُهُ قال: «لأَنَّ الواو إِذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ، وإذا سكنت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلها ضمَّةٌ، فصارَت نظير:{آمَنُواْ وَكَانُواْ} [يونس: 63] فكما لا يُدغم ذاك لا يدغم هذا. وهذه العِلَّةُ فاسدةٌ لوجهين:

أحدهما: أنها ما صارَتْ مثلَ» آمنوا، وكانوا «إلا بعد الإِدغام، فكيف يُقال ذلك؟

ص: 285

وأيضاً فإِنَّهُم أدغموا: {يَأْتِيَ يَوْمٌ} [البقرة: 254] وهو نظيرُ: {فِي يَوْمٍ} [إبراهيم: 18] و {الذى يُوَسْوِسُ} [الناس: 4] بعين ما عَلَّلوا به.

وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ، كهذه الآية، ومثله:{هُوَ والملائكة} [آل عمران: 18]{هُوَ وَجُنُودُهُ} [القصص: 39]، فلو سكنت الهاءُ؛ امتنع الإِدغامُ نحو {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام: 127] ولو جرى فيه الخلافُ أيضاً لم يكن بعيداً، فله أُسوة بقوله:{خُذِ العفو وَأْمُرْ} [الأعراف: 199] بل أولى لأَنَّ سكون هذا عارضٌ بخلافِ:» الْعفوَ وأمر «.

قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ مَعَهُ} .

ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت، بل المراد: أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ «مع» لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5] واليسر لا يكون مع العسر.

قوله: {لَا طَاقَةَ لَنَا اليوم} [لنَا] هو: خبر «لا» ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بطاقة، وكذلك ما بعده من قوله «اليَومَ» و «بِجَالُوتَ» ؛ لأنه حينئذٍ يصير مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ ينصبُ منوناً، وهذا كما تراهُ مبنياً على الفتح، بل «اليَوْمَ» و «بِجَالُوتَ» متعلِّقان بالاستقرار الَّذي تعلَّق به «لنَا» .

وأجاز أبو البقاء: أن يكون «بِجَالُوتَ» هو خبرَ «لا» ، و «لنَا» حينئذٍ: إِمَّا تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوف على أَنَّه صفةٌ لطاقة.

والطَّاقةُ: القُدرةُ وعينُها واو؛ لأَنَّها مِنَ الطَّوقِ وهو القُدرةُ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزَّوائدِ، فإِنَّها من «أَطَاقَ» ونظيرها: أجَابَ جابةً، وأَغَارَ غارةً، وَأَطَاعَ طَاعةً.

و «جالوت» اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ، لا اشتقاقَ له، وليس هو فَعَلوتاً من جال يَجُول، كما تقدَّم في طَالُوت، ومثلهما داود.

قوله: {كَم مِّن فِئَةٍ} «كَمْ» خبريةٌ، فإنَّ معناها التَّكثيرُ، ويدلُّ على ذلك قراءة أبي:«وكَائِن» ، وهي للتكثير، ومحلُّها الرَّفعُ بالابتداء، و «مِنْ فِئَةٍ» تمييزُها، و «مِنْ» زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيءُ مميِّزها، ومميِّز «كَائِن» مجروراً بمِنْ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك، وقد تُحْذفُ «مِنْ» فيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصَّحيح، وقد يُنصَبُ حَمْلاً على مُميِّز «كَم» الاستفهامية، كما أَنَّهُ قد يُجَرُّ مميِّز الاستفهاميّةِ حَمْلاً عليها، وذلك بشروطٍ ذكرها النُّحاةُ.

قال الفرَّاء: لو ألغيت «مِنْ» ها هنا جاز فيه الرَّفع والنَّصبُ والخفضُ.

ص: 286

أَمَّا النَّصبُ فلأنّ «كم» بمنزلة عددٍ، فينصب ما بعدهُ نحو: عشرونَ رجلاً. وَأَمَّا الخَفْضُ، فبتقدير دخول حرف «من» عليه.

وأَمَّا الرَّفعُ، فعلى نيَّة الفِعْل تقديره «كم غلبت فئةٌ» ومِنْ مجيءِ «كَائِن» منصوباً قولُ الشاعر:[الخفيف]

1169 -

أُطْرُدِ اليَأْسَ بالرَّجَاءِ فَكَائِنْ

آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ

وَأَجازُوا أَنُ يكونَ «مِنْ فِئَةٍ» في محلِّ رفع صفةً ل «كم» فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «غَلَبَت» هذه الجملةُ هي خبرُ «كم» والتقديرُ: كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبٌ الفئاتِ الكثيرةَ.

وفي اشتقاق «فئة» قولان:

أحدهما: أنها من فاء يَفِيء، أي: رجع فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة.

والثاني: أَنَّها مِنْ فَأَوْتُ رأسَه أي: كسرتُه، فحُذِفت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة، إِلَاّ أَنَّ لامَ مئة ياءٌ، ولامَ هذه واوٌ، والفِئَةُ: الجماعةُ من النَّاسِ قلَّت، أو كثرت، وهي جمعٌ لا واحد له من لفظه، وجمعها: فئات وفئون في الرَّفع، وفئين في النَّصب والجرِّ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ، فإنَّ الجماعَةَ من النَّاسِ يَرْجِعُ بعضهم إلى بعضٍ، وهم أيضاً قطعةٌ من النَّاسِ كقطَعِ الرَّأْسِ المكسَّرة.

قوله: {بِإِذْنِ الله} فيه وجهان.

أَظهرهُمَا: أنَّه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتَّقدير: ملتبسين بتيسير الله لهم.

والثاني: أَنَّ الباءَ للتَّعْدية، ومجرورها مفعولٌ به في المعنى، ولهذا قال أبو البقاء:«وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مَفْعُولاً به» .

وقوله: {والله مَعَ الصابرين} مبتدأٌ وخبرٌ، وتحتمِل وجهين:

أحدهما: أن يكون محلُّها النَّصْبَ على أنها من مقولهم.

والثاني: أنَّها لا محلَّ لها من الإِعراب، على أَنّها استئنافٌ أَخْبَرَ اللهُ تعالى بها.

فصل في المقصود بالظن في الآية

اختلفوا في الظن المذكور في قوله تعالى: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُواْ الله} . وذكروا فيه وجوهاً:

أحدها: قال قتادة: المراد من لقاء الله الموت. قال عليه الصلاة والسلام ُ: «مَنْ

ص: 287

أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَه وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» وهؤلاء المؤمنون، لما وطَّنُوا أنفسهم على القتل، وغلب على ظنهم أَنَّهُم يموتون وصفهم بأنهم يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله.

وثانيها: قال أبو مسلم: معناه يظنون أَنَّهُم ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك لأَنَّ أحداً لا يعلمُ بما فيه عاقبة أمره وَإِنَّما يكون ظاناً راجياً وإِن بلغ في طاعة الله ما بلغ.

وثالثها: أَنَّهم ذكروا في تفسير السَّكينة قول بعض المفسِّرين: إِنَّ التَّابوت كان فيه كُتُبٌ إِلَهيَّةٌ، نزلت على الأَنبياء المُتَقَدِّمين دالَّةٌ على حُصًولِ النَّصر، والظّفر لِطَالُوتَ، وجنوده ولكنه لم يكن في تلك الكُتُبِ أَنَّ النَّصْر والظّفر يحصلُ في المرةِ الأولى، أو بعدها، فهم وإِنْ كانوا قاطعين بالنصر ولكنهم ظَنُّوا: هل هُوَ في تلك المَرَّةِ، أو بعدَها؟!

رابعها: قال كثير من المفسرين: يظنون: أي يعلمون، فأطلق الظن وأراد به العلم كقوله تعالى:{الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46] ووجه المجاز ما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكيد الاعتقاد.

والمراد من قولهم: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} تَقْويةُ قلوب الَّذِينَ قالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} ، والمعنى: لا عِبرة بكثرةِ العددِ، وإِنَّما العبرةُ بالتَّأْييد الإِلهي، ثم قال:{والله مَعَ الصابرين} . وهذا من تَمامِ قولهم، ويحتمل أَنْ يكُونَ قولاً من اللهِ تعالى، والأَوَّلُ أَظهرُ.

ص: 288

قوله تعالى: {بَرَزُواْ لِجَالُوتَ} في هذه اللام وجهان:

أحدهما: أنَّها تتعلَّق ب «برزوا» .

والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذُوفٍ على أَنَّها ومجرورها حالٌ من فاعل: «بَرَزوا» قال أبو البقاء: «وَيَجُوزُ أن تكُونَ حالاً أي: برزوا قاصِدِين لِجَالُوتَ» . ومعنى برزوا: صاروا إلى بَراز من الأرض، وهو ما انْكَشَفَ منها وَاسْتَوَى، وسميت المبارزة لظهور كُلّ قرنٍ

ص: 288

لصاحبه، واعلم أَنَّ عسكر طالُوت لما برزوا عسكر جالوت، ورأوا قِلَّة جانبهم، وكثرة عدوهم، لا جرم اشتغلوا بالدُّعاء، والتَّضرع، فقالوا:{رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} . وفي ندائِهِم بقولهم: «رَبَّنَا» : اعترافٌ منهم بالعُبُوديَّة، وطلبٌ لإِصلاحهم؛ لأَنَّ لفط «الرَّبَّ» يُشْعر بذلك دونَ غيرها، وأَتوا بلفظِ «عَلَى» في قولهم «أَفْرغ عَلَيْنَا» طلباً؛ لأنْ يكونَ الصَّبْرُ مُسْتعلِياً عليهم، وشاملاً لهم كالظرفِ. ونظيره ما حكى اللهُ عن قوم آخرين أَنَّهُم قالوا حين لاقوا عدوَّهم: ومَا كَانوا قَوْلَهُم إِلَاّ أَنْ قالُوا: {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [آل عمران: 147]{وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 147] وكذلك كان عليه الصلاة والسلام يفعل في المواطن كما رُوِيَ عنه في قصّة بدرٍ أنه عليه الصلاة والسلام لم يَزَلْ يُصَلِّي، ويستنجز من الله وعده، وكان إِذَا لقي عدُوّاً قال:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِم وَاجْعَلْ كَيْدَهُم فِي نُحُورِهِمْ» وكان يقول: «اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَأَجُولُ» .

والإفراغ: الصَّبُّ، يقال: أفرغت الإِناءَ: إذا صببت ما فيه، أصله: من الفراغ يقال: فلان فارغٌ معناه: خالٍ ممَّا يشغله، والإفراغ: إخلاءُ الإناء من كلِّ ما فيه.

واعلم أنَّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة:

الأول: الصَّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} .

الثاني: أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت، ولا يصير ملجأ إلى الفرار.

الثالث: زيادة القوَّة على العدوِّ؛ حتى يقهره، وهو المراد من قولهم «وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ» .

فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال

احتجَّ أهل السُّنَّة بقوله: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً

} الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنه لا معنى للصَّبر إلاّ: القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلاّ السُّكون والاستقرار، وهذه الآية دالَّة على أنَّ ذلك القصد بالصَّبر من الله تعالى.

أجاب القاضي: بأنَّ المراد من الصبر، وتثبيت الأقدام: تحصيل أسباب الصّبر، وأسباب ثبات القدم: إمَّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف، فيعتقد بعضهم أنَّ البعض الآخر على الباطل، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء، كالموت، والوباء، أو يبتليهم بالموت، والمرض الذي يعمهم، أو يموت رئيسهم، ومن يدبّر أمرهم، فيكون ذلك سبباً لجرأة المسلمين عليهم.

ص: 289

والجواب عما قاله القاضي من وجهين:

الأول: أنَّا بيَّنَّا أنَّ الصَّبر عبارة عن القصد إلى السكون والثبات عبارة عن السكون وهو الذي أراده العبد من الله - تعالى -، وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره، وتحملونه على أسباب الصَّبر، وترك الظَّاهر لغير دليل لا يجوز.

الثاني: أنَّ هذه الأسباب التي سلمتم أنَّها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في التَّرجيح الدَّاعي، أو ليس لها أثرٌ في التَّرجيح؛ فعند صدور هذه الأسباب المرجحة يحصل الرجحان، وعند حصول الرُّجحان، يمتنع الطَّرف المرجوح، فيجب حصول الطَّرف الرَّاجح، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب.

ص: 290

«الهَزَمُ» : أصله الكسر، يقال «سِقَاءٌ مَتَهزِّم» إذا انشق و «قَصَبٌ مُتَهَزِّمٌ» ، أي متكسِّر.

والهزمة: نقرة في الجبل، أو في الصَّخرة. قال سفيان بن عيينة في زمزم: وهي هزمة جبريل، يريد هزمها برجله فخرج الماء. ويقال: سمعت هزيمة الرعد كأنَّه صوت تشقُّقٍ. ويقال للسَّحاب هزيم؛ لأنَّه ينشق بالمطر.

قوله: {بِإِذْنِ الله} فيه الوجهان المتقدِّمات أعني كونه حالاً، أو مفعولاً به.

فصل

أخبر تعالى أنَّ تلك الهزيمة كانت بإذن الله تعالى وإعانته وتيسيره، ثم قال:{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} .

قال القرطبيُّ: وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم، ظلُّه ميل ويقال: إنَّ البربر من نسله.

قال ابن عبَّاس: إنَّ داود عليه الصلاة والسلام كان راعياً، له سبعة إخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم «إِيشَا» ؛ أرسل إليهم داود ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجياد إلى البراز، وكان من قوم عاد، فقال داود لإخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا فذهب إلى ناحية أخرى من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت، وهو يحرض الناس.

ص: 290

فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟

فقال طالوت: أنكحه ابنتي، وأعطيه نصف ملكي، فقال داود: فأنا أخرج إليه؛ وكانت عادته أنه يقاتل الأسد والذِّيب بالمقلاع في المرعى، وكان طالوت عارفاً بجلادته، فلما همَّ داود بالخروج إلى جالوت، مرّ بثلاثة أحجار فقلن: يا داود، خذنا معك ففينا منيَّة جالوت، ثمَّ لما خرج إلى جالوت، رماه، فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه، وقتل بعده ناساً كثيرة، فهزم الله جنود جالوت، وقتل داود جالوت وهو داود بن إيشى بكسر الهمزة. وقيل داود بن زكريَّا بن مرشوى من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان من أهل بيت المقدس، فحسده طالوت، وأخرجه من مملكته، ولم يف له بوعده، ثم ندم على صنعه، فذهب يطلبه إلى أن قتل، وملك داود، وحصلت له النُّبوَّة، وهو المراد من قوله:{وَآتَاهُ الله الملك والحكمة} هو العلم مع العمل والحكمة: هي وضع الأمور موضعها على الصَّواب، والصَّلاح.

قوله: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ

} .

قال الكلبيُّ وغيره: «صنعة الدُّرُوعِ» .

قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد} [سبأ: 10 - 11] وقيل: منطق الطَّير والنّمل، وقيل الزّبور، وعلم الدّين، وكيفية الحكم، والفصل.

قال تعالى: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] .

وقيل: الألحان الطَّيِّبة. قيل كان إذا قرأ الزَّبور؛ تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وتظله الطّير مصغية له، ويركد الماء الجاري، وتسكن الرّيح.

وروى الضَّحَّاك عن ابن عباس: هو أنَّ الله تعالى أعطاه سلسلةً موصولة بالمجرّة، ورأسها عند صومعته، وقوّتها اللُّؤلؤ قوّة الحديد، ولونها لون النّار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر، مدسَّرة بقضبان اللُّؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث إلاّ صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث، ولا يمسُّها ذو عاهة إلَاّ برأ، فكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدَّى على صاحبه، وأنكر حقه أتى إلى السِّلسلة، فمن كان صادقاً مدّ يده إلى السِّلسلة، فنالها، ومن كان كاذباً، لم ينلها، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة، فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة، فلما استردَّها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكَّازه، فنقرها وضمنها الجوهرة، واعتمد عليها حتى حضروا السلسلة، فقال صاحب الجوهرة:

ص: 291

ردَّ عليَّ الوديعة.

فقال له صاحبه: ما أعرف لك عندي من وديعة، فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة، فقام صاحب الجوهرة، فتناولها بيده. فقيل للمنكر قم أنت، فتناولها.

فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكَّازي هذا، فاحفظها حتى أتناول السِّلسلة، فأخذها فقال الرجل: «اللَّهم إِن كنت تَعْلم أنَّ هذه الوديعة التي يدّعيها، قد وصلت إليه فقرب مني السّلسلة، فمد يده فتناولها، فتعجب القوم، وشكُّوا فيها، فأصبحوا وقد رفع الله السِّلسلة.

قوله {مِمَّا يَشَآءُ} : فاعلٌ،» يشاء «ضمير الله تعالى.

وقيل: ضمير داود، والأول أظهر.

قوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ} ؛ قرأ نافعٌ هنا، وفي الحج:» دِفَاع «، والباقون:» دَفْع «. فأمَّا» دَفْع «، فمصدر» دَفَعَ «» يَدْفَعُ «ثلاثياً، وأمَّا» دِفَاع «فيحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون مصدر» دَفَعَ «الثلاثيِّ أيضاً، نحو: كَتَب كتاباً، وأن يكون مصدر» دَافَعَ «؛ نحو: قاتل قتالاً؛ قال أبو ذؤيبٍ: [الكامل]

1170 -

وَلَقَدْ حَرِصْتُ بَأَنْ أُدَافِعُ عَنْهُمُ

فَإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لَا تُدْفَعُ

قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فَعَلَ وفَعِلَ، تقول: جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاءً، وقمت قياماً، وأن يكون مصدر لدفع تقول: دفعته، دفعاً، ودفاعاً نحو: قتل قتلاً وقتالاً.

و» فاعل «هنا بمعنى فَعَلَ المجرد، فتتَّحد القراءتان في المعنى ويحتمل أن يكون من المفاعلة، والمعنى أنه سبحانه إنَّما يكفّ الظَّلمة، والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه، ورسله، وأئمة دينه، وكان يقع بين أولئك المحقين، وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كقوله تعالى:{يُحَارِبُونَ الله} [المائدة: 33] و {شَآقُّواْ الله} [الأنفال: 13] ونظائره كثيرة.

ومن قرأ» دِفَاع «، وقرأ في الحجّ {يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} [الحج: 38] أو قرأ» دَفْع «، وقرأ» يَدْفَع «- وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصله، فجاء بالمصدر على وفق الفعل، وأمَّا من قرأ هنا:» دَفْع «، وفي الحجّ» يُدافِع «، وهم الباقون، فقد جمع بين اللُّغتين، فاستعمل الفعل من الرُّباعي والمصدر من الثلاثي.

والمصدر هنا مضافٌ لفاعله وهو الله تعالى، و «النَّاس» مفعول أول، و «بعضهم» بدلٌُ من «الناسِ» بدل بعضٍ من كلٍّ.

ص: 292

و «ببعضٍ» متعلِّقٌ بالمصدر، والباء للتعدية، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى، والباء إنَّما تكون للتعدية في اللَاّزم، نحو:«ذَهَبَ بِهِ» فأمَّا المتعدِّي لواحدٍ فإنَّما يتعدَّى بالهمزة، تقول:«طَعِمَ زيدٌ اللَّحْمَ، وأَطْعَمْتُه اللَّحْم، ولا تقول:» طَعِمْته باللَّحْم «، فتعدِّيه إلى الثاني بالباء، إلَاّ فيما شذَّ قياساً، وهو» دَفَعَ «، و» صَكَّ «، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي: جعلت أحدهما يصكُّ الآخر، ولذلك قالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر.

فصل في المدفوع والمدفوع به

اعلم أنَّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع، والمدفوع به، وأمَّا المدفوع عنه، فغير مذكورٍ، وهو يحتمل وجوهاً:

الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأئمة الذين يمنعون النَّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدَّلائل.

قال تعالى: {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] .

الثاني: دفع بعض الناس عن المعاصي، والمنكرات بسبب البعض، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] .

الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج، والمرج، وإثارة الفتن في الدُّنيا بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - ثم الأئمة والملائكة والدّابّون عن شرائعهم، وذلك أنَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، ما لم يخبز هذا لذاك، ويطحن ذاك لهذا، ويبني هذا لذاك، وينسج ذاك لهذا، ولا تتمّ مصلحة الإنسان.

فالظَّاهر أن مصلحته لا تتمُّ إلاّ باجتماع جمع في موضع واحد، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، ثم إنَّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة، ثم إلى المقاتلة، فلا بدّ في الحكمة الإلهيَّة من وضع شريعةٍ بين الخلق ليقطع بها الخصومات، والمنازعات، فبعث الله الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بالشَّرائع؛ ليدفع بهم، وبشرائعهم الآفات، والفساد عن الخلق فإنَّ الخلق ما داموا متمسكين بالشَّرائع لا يقع بينهم خصامٌ ولا نزاعٌ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:» الإِسْلَامُ والسُّلْطَانُ أَخَوَان «وقال أيضاً:» الإِسْلَامُ أميرٌ، والسُّلْطَانُ حَارِسٌ، فمن لا أمير له فهو مُنْهَزِمٌ، ومن لا حَارِسَ له فَهُو ضَائِعٌ «.

ص: 293

وعلى هذا الوجه فيكون تفسير قوله: {لَفَسَدَتِ الأرض} ، أي: لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي، وذلك يسمّى فساداً. قال تعالى:{وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لَا يُحِبُّ الفساد}

[البقرة: 205] وقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلَاّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} [القصص: 19] .

الرابع: ولولا دفع الله بالمؤمنين، والأبرار عن الكفّار، والفجّار، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها. قال عليه الصلاة والسلام:«إِنَّ اللهَ لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِم الصَّالِح عَنْ مائَةِ أَهْلِ بَيٍْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ» وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللهَ يَدْفَعُ بمن يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عمَّن لا يصلِّي، وبمن يزكّي عمن لا يُزكِّي، وبمن يصوم عمَّن لا يصوم وبمن يحجّ عمَّن لا يحجّ، وبمن يجاهد عمَّن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ هذه الآية.

ويدلُّ على صحَّة هذا القول قوله تعالى: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف: 82] . وقال تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] وقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله: {لَفَسَدَتِ الأرض} ، أي: لأهلك الله أكثر أهلها الكفّار والعصاة.

قال القرطبيُّ: وقيل: هم الأبدال، وهم أربعون رجلاً، كلّما مات واحدٌ أبدل آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم اثنان وعشرون بالشَّام، وثمانية عشر بالعراق.

وروي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول: «إِنَّ الأَبْدَالَ يَكُونُونَ بالشَّام وَهُمْ أَرْبعُونَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم رَجُلٌ أبدل اللهُ مكانه رَجُلاً يُسْتَقَى بِهِمُ الغَيْث وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الأَعْدَاءِ وَيُصْرَفُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ البَلَاء» .

ص: 294

ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، وخرج أيضاً عن أبي الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد يقال لهم الأبدال، لم يفضلوا النَّاس بكثرة صوم، ولا صلاة، ولكن بحسن خلق، وصدق الورع، وحسن النِّية، وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنَّصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله، بصبر، وحلم، ولبٍّ، وتواضع في غير مذلَّةٍ فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله سبحانه لنفسه، واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صدِّيقاً ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن بهم يرفع الله المكاره، والبلايا عن النَّاس، وبهم يمطرون، ويرزقون، لا يموت الرَّجل منهم، حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه.

وقال سفيان الثَّوري: «هم الشُّهود الذين تستخرج بهم الحقوق» .

الخامس: قال ابن عبَّاس ومجاهد: ولولا دفع الله بجنود المسلمين؛ لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخربوا المساجد، والبلاد.

السادس: أن يحمل اللفظ على الكل؛ لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً، وهو دفع المفسدة، فإذا حملنا اللَّفظ عليه، دخلت الأقسام بأسرها فيه.

فصل في بطلان مذهب الجبر

قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدَّلائل على بطلان الجبر؛ لأنه إذا كان الفساد من خلقه لم يكن لقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} تأثير في زوال الفساد؛ لأن على قولهم إنَّما لا يقع الفساد بسبب ألا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى النَّاس، والجواب: أنَّ الله تعالى لمّا كان عالماً بوقوع الفساد، فإذا صح مع ذلك العلم ألَاّ يقع الفساد كان المعنى أنه لا يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد، فيلزم أن يكون العبد قادراً على الجمع بين النَّفي والإثبات، وهو محال ويؤيد ذلك قوله تعالى مستدركاً {ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} بين أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم فلو كان دفع الفساد بهذا الطريق فعل العبد لكان الفضل للعبد؛ لأنه الدَّافع على قولهم، ولم يكن لله تعالى على العالمين فضل سبب ذلك الدَّفع. فإن قالوا: نحمل هذا على البيان، والإرشاد.

قلنا: كلُّ ذلك قائم في حقّ الكفَّار، والفجَّار، ولم يحصل منهم دفاع.

قوله: {ولكن الله} وجه الاستدراك أنه لمَّا قسَّم النَّاس إلى مدفوع ومدفوع به، وأنَّه بهذا الدَّفع امتنع فساد الأرض، فقد يهجس في نفس من غُلب عمّا يريد من الفساد أنَّ الله

ص: 295

غير متفضِّلٍ عليه، حيث لم يبلغه مقاصده وطلبه، فاستدرك عليه [أنّه] وإن لم يبلغ مقاصده أنَّ الله متفضّلٌ عليه، ومحسن إليه؛ لأنه مندرجٌ تحت العالمين، وما من أحدٍ إلاّ ولله عليه فضلٌ، وله فضل الاختراع [والإيجاد] .

و «عَلَى» يتعلَّق ب «فَضْل» ؛ لأنَّ فعله يتعدَّى بها، وربَّما حذفت مع تخفيف الفعل؛ وقد جمع [بين] الحذف والإثبات في قوله:[الوافر]

1171 -

وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقِيْماً

كَفَضْل ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ

أمَّا إِذا ضُعِّف، فإنه لا تحذف «على» أصلاً كقوله:{فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] ، ويجوز أن تتعلَّق «عَلَى» بمحذوفٍ لوقوعها صفةً لفضل.

ص: 296

قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله} : مبتدأٌ وخبرٌ، و «نَتْلُوهَا» فيه قولان:

أحدهما: أن تكون حالاً، والعامل فيها معنى الإشارة.

والثاني: أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها. ويجوز غير ذلك، وهو يؤخذ مما تقدم.

قال القرطبيُّ: وإن شِئْتَ كان «آيَاتُ الله» بدلاً، والخبر نتلوها عليك بالحقّ وأشير إليها إشارة البعيد لما بينا في قوله:{ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] أن «تلك» و «ذَلِكَ» يرجع إلى معنى هذه، وهذا، وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشَّيء الذى انقضى، ومضى، فكانت في حكم الغائب، فلذها التأويل قال:«تِلْكَ» وأشير إليها إشارة البعيد لما تقدَّم في قوله: {ذَلِكَ الكتاب} . قوله: «بالحق» يجوز فيه أن يكون حالاً من مفعول «نَتْلُوها» ، أي: ملتبسةً بالحقّ، أو من فاعله؛ أي: نتلوها ومعنا الحقُّ، أو من مجرور «عَلَيْكَ» ، أي: ملتبساً بالحقّ.

قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} . قال القرطبيُّ: خبر إن أي: وإنك لمرسل.

فصل

اعلم أنَّه أشار بقوله: «تِلْكَ» إلى القضيَّة المذكورة من نزول التَّابوت، وغلب الجبابرة على يد داود، وهو صبيٌّ فقير. ولا شكّ أنَّ هذه الأحوال آياتٌ باهرةٌ دالّة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، وفي معنى قوله:«بالحق» وجوه:

أحدها: أنَّ المراد: أن تعتبر بها يا محمَّد أنت، وأمتك في احتمال الشَّدائد في الجهاد، كما احتملها المؤمنون، فيما مضى، وقال «نَتْلُوهَا» ، أي: يتلوها جبريل، وأضاف ذلك إليه تشريفاً له كقوله:{إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] .

ص: 296

وثانيها: «بالحق» أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب؛ لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً.

وثالثها: أنَّا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالَّة على نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة.

ورابعها: «بالحق» ، أي: يجب عليك أن تعلم: أنَّ نزول هذه الآيات من قبل الله تعالى، وليس من قبل الشياطين، ولا تحريف الكهنة والسحرة، وقوله عقيب ذلك:{وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} . يحتمل وجهين:

الأول: أن إخبارك عن هذه القصص من غير تعلُّم، ولا دراسة دليل على أنَّك رسول وإنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى.

الثاني: أن يكون المراد منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم َ. والمعنى أنك إذا عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء من الخلاف والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالفك، لأنَّ لك بهم أسوة وإنَّما بعثوا لتأدية الرِّسالة على سبيل الاختبار، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك إنَّما يرجع عليهم.

ص: 297

قال القرطبيُّ: قال «تِلْكَ» ، ولم يقل «ذَلِكَ» مراعاةً لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء، و «الرُّسُلُ» نعته، وخبر الابتداء الجملة وقيل:«الرسل» عطف بيان، و «فضَّلنا» الخبر.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها

قال أبو مسلمٍ: وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرَّسول صلى الله عليه وسلم َ، وهو أنَّه أخبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم َ بأخبار الأنبياء المتقدّمين، وأقوال أُممهم لهم، كسؤال قوم موسى:{أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153]، وقولهم:{اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] . وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، فكذبوه، وراموا قلته، ثم أقام فريقٌ منهم على الكفر به، وهم اليهود، وزعم فريقٌ منهم أنَّهم أولياؤه، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت،

ص: 297

ودفعوا ملكه بعد المسألة، وكذلك ما جرى من أمر النهر، فذكر ذلك كلَّه تسلية للرَّسول صلى الله عليه وسلم َ عمّا رأى من قومه من التّكذيب والحسد، فقال: هؤلاء الرُّسل الذين كلَّم الله بعضهم، ورفع الباقين درجات، وأيّد عيسى بروح القدس، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك من مشاهدة المعجزات، فلا يحزنك ما ترى من قومك، فلو شاء الله لم يختلف أمم أولئك، ولكن ما قضى الله فهو كائن، وما قدَّره، فهو واقع.

فصل

في المراد من تلك الرُّسل أقوال:

أحدها: أنَّ المراد من تقدم ذكرهم من الأنبياء في القرآن كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وموسى وغيرهم - صلوات الله عليهم -.

الثاني: أنَّ المراد من تقدّم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل، وداود، وطالوت على قول من يجعله نبيّاً.

الثالث: قال الأصمُّ: المراد منه الرُّسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد، وأشار إليهم بقوله:{وَلَوْلَا دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} قوله تعالى: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} : يجوز أن يكون حالاً من المشار إليه، والعامل معنى الإشارة كما تقدَّم، وقال «تلك» ولم يقل أولئك الرُّسل؛ لأنه ذهب إلى معنى الجماعة كأنه قيل: تلك الجماعة، ويجوز أن يكون مستأنفاً، ويجوز أن يكون خبر «تِلْكَ» على أن يكون «الرُّسل» نعتاً ل «تِلْكَ» ، أو عطف بيان أو بدلاً.

فصل في تفاضل الأنبياء

أجمع الأمَّة على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعضٍ، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم َ أفضل من الكلِّ، ويدلُّ على ذلك وجوه:

الأول: قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فلما كان رحمة للعالمين، لزم أن يكون أفضل من كلِّ العالمين.

الثاني: قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قيل فيه لأنه قَرَنَ ذكره بذكره في الشَّهادتين والأذان، والتّشهد، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء.

الثالث: أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وبيعته ببيعته فقال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] وعزته بعزته فقال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] ورضاه برضاه فقال: {أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، وإجابته بإجابته فقال:{استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} [الأنفال: 24] .

ص: 298

الرابع: أنَّ معجزات سائر الأنبياء قد ذهبت، ومن بعض معجزاته عليه الصلاة والسلام القرآن، وهو باقٍ إلى آخر الدَّهر.

الخامس: قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] فأمر محمداً بالاقتداء بهم، وليس هو الاقتداء في أصول الدين؛ لأن شرعه نسخ سائر الشّرائع، فلم يبق إلا أن يكون الاقتداء في محاسن الأخلاق، فكأنه تعالى قال: إنّي أطلعتك على أحوالهم وسيرهم، فاختر أنت أجودها، وأحسنها. فمقتضى ذلك أنه اجتمع فيه من الخصال ما كان متفرقاً فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم.

السادس: أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى الخلق كلهم، فوجب أن يكون مشقته أكثر من بعث إلى بعضهم، فإذا كانت مشقته أكثر كان أجره أكثر، فوجب أن يكون أفضل.

السابع: أن دين محمَّد أفضل الأديان؛ فيلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم َ أفضل الأنبياء.

بيان الأول: أنَّ الله تعالى جعل دينه ناسخاً لسائر الأديان، والنَّاسخ أفضل من المنسوخ، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] . وإنَّما نالت الأمة هذه الفضيلة لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم َ وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع.

الثامن: قال صلى الله عليه وسلم َ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ» وذلك يدل على أنه أفضل من آدم، ومن كل أولاده، وقال صلى الله عليه وسلم َ:«أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وقال صلى الله عليه وسلم َ: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ النَّبيِّين حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا، ولا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتي» وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم َ قال: «أَنَا أَوَّل النَّاسِ خُرُوجاً إِذَا بُعِثُوا، وَأَنا خَطِيبُهُم إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَّا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أيسُوا، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلى رَبِّي وَلَا فَخْرَ» .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلس ناسٌ من الصَّحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حديثهم فقال بعضهم: عجبأ إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر:

ص: 299

آدم اصطفاه الله، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقال:«سَمِعْتُ كَلَامَكُم، وحُجَّتُكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ وهُوَ كَذَلِك، ومُوسَى نَجِيُّ الله، وَهُوَ كَذلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فَخْرَ، وَأَنَا أوّل مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَة الجَنَّة فَيُفْتَحُ لي، فَأَدْخُلها، ومَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ وَلَا فَخْرَ» .

التاسع: روى البيهقي في «فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ» رضي الله عنهم «أنه ظهر علي بن أبي طالب رضي الله عنه من بعيد؛ فقال صلى الله عليه وسلم َ:» هَذَا سَيِّدُ العَرَبِ «فقالت عائشة رضي الله عنها: ألَسْتَ أَنْتَ سَيِّدَ العَرَبِ؟ فقال:» أَنَا سَيِّدُ العَالَمِينَ وهو سيِّدُ العرب «.

العاشر: جاء في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:» أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَلَا فَخْرَ، بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ، والأَسْوَدِ، وكان النَّبي قبل يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ، وجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً وَنُصِرْتُ بالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ ولَمْ تُحَلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيتِ الشَّفَاعَةَ، فادَّخَرْتُهَا لأُمَّتِي، فهِيَ نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئاً «.

الحادي عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال:» إِنَّ الله تعالى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ومُوسَى نَجِيّاً وَاتَّخَذَنِي حَبيباً. قال: وعزَّتي لأوثرنّ حبيبي على خليلي «.

الثاني عشر: أنَّ الله تعالى كلما نادى نبيّاً في القرآن ناداه باسمه قال: {يَاآدَمُ اسكن} [البقرة: 35]{ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر} [المائدة: 116]{يانوح اهبط} [هود: 48]{ياداوود} [ص: 26]{وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم} [الصافات: 104]{ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 11 - 12] وأما النبي صلى الله عليه وسلم َ فناداه بقوله: {ياأيها النبي} [الأنفال: 64]{ياأيها الرسول} [المائدة: 41] وذلك يفيد التفضيل.

ص: 300

قال القرطبي رحمة الله عليه: فإن قيل: قد روى الثِّقات أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم َ قال:» لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَلَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ «، فأجاب بعض العلماء عن ذلك، فقال: كان هذا قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيّد ولد آدم، وأن القرآن ناسخٌ للمنع من التَّفضيل.

وقال قوم: إنَّ المنع من التَّفضيل إنما هو من جهة النُّبوة، التي هي خصلة واحدة، لا تفاضل فيها، وإنَّما التَّفاضل في زيادة الأحوال، والكرامات، والألطاف، والمعجزات المتباينة.

وأما النُّبوَّة في نفسها، فلا تفاضل فيها، وإنما التَّفاضل في أمورٍ أخر زائدةٍ عليها؛ ولذلك منهم» أُولُو العَزْمِ «، ومنهم من اتُّخِذَ خَليلاً، ومنهم مَنْ كَلَّم اللهُ، ورفع بعضهم درجات.

قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، فإنَّه جمع بين الآي، والأحاديث من غير نسخ، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصُّحبة، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب، والوسائل، مع أنَّ الكلَّ شملتهم الصُّحبة والعدالة.

قال ابن الخطيب: فإن قيل إنَّ معجزات سائر الأنبياء، كانت أعظم من معجزاته، فإن آدم عليه الصلاة والسلام جعل مسجود الملائكة، وإبراهيم ألقي في النَّار العظيمة؛ فانقلبت برداً وسلاماً عليه، وموسى أوتي تلك المعجزات العظيمة من قلب العصا حية تسعى، وتلقفها ما صنعوا، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء، وفلق البحر، وفلق الحجر، ومكالمة ربه، وداود ألان له الحديد، وسخّر الجبال يسبحن معه والطّير، وسخر لسليمان الجن، والإنس، والطير والوحوش والرِّياح، وعيسى أنطقه في المهد، وأقدره على إحياء الموتى، ونفخ فيه من روحه، وجعله يبرئ الأكمه، والأبرص، ولم يكن ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم َ وقال عليه الصلاة والسلام:

«لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وقال: «لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْراً مِنْ يَحْيى بين زَكَرِيَّا» ، وذكر أنه لم يعمل سيئة قط.

ص: 301

فالجواب: أن كون آدم عليه الصلاة والسلام مسجوداً للملائكة؛ لا يوجب أَنْ يكون أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم َ - بدليل قوله صلى الله عليه وسلم َ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ» وقال: «كُنْتُ نَبِيّاً وَآدَمُ بَيْنَ المَاءِ والطِّينِ» ، وروي أَنَّ جبريل عليه الصلاة والسلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم َ - ليلة المعراج، وهذا أعظم من السُّجُود. وقال تعالى:{إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56]صلى الله عليه وسلم َ - فصلّى بنفسه على محمَّد، وأمر الملائكة، والمؤمنين بالصَّلاة عليه، وذلك أفضل من سُجُود الملائكة، وأيضاً، فإِنَّ سُجُودَ الملائكة لآدم كان تأديباً، وأمرهم بالصَّلاة على محمد صلى الله عليه وسلم َ - تقريباً، وأيضاً فالصَّلاة على محمد صلى الله عليه وسلم َ -[دائمة إلى يوم القيامة وسجود الملائكة لآدم عليه السلام] لم يكن إلا مرَّةً واحدة، وأيضاً فإِنَّ الملائكة، إِنَّما أمروا بالسُّجود لآدم لأجل أَنَّ نور محمد صلى الله عليه وسلم َ - في جبهة آدم.

قال القرطبي: وقال ابن قتيبة: إِنَّما أراد بقوله: «أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» يوم القيامة؛ لأَنَّه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله:«لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى يُونسَ بن مَتَّى» على طريق التواضع، لأنَّ قوله تعالى:{وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - أفضل منه.

فإن قيل: إنه تعالى خصّ آدم بالعلم فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31] وقال في حقّ محمد صلى الله عليه وسلم َ -: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلَا الإيمان} [الشورى: 52] وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى ومحمد معلمه جبريل كما قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] .

فالجواب: أن الله تعالى قال في علم محمَّد صلى الله عليه وسلم َ -: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113]، وقال:{الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1 - 2] وقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114]، وأما قوله:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} ، فذلك بحسب التلقين والمعلم هو الله كقوله:{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] وقال: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] .

فإن قيل: قال نوحٌ عليه الصلاة والسلام {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا}

[هود: 29] وذلك خلق منه. وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم َ - {وَلَا تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] .

فالجواب: قد قيل لنوح: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1] فكان أوَّل أمره العذاب. وقيل لنبينا صلى الله عليه وسلم َ -: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وعاقبة نوح أن قال:{رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] وعاقبة النّبي صلى الله عليه وسلم َ - الشّفاعة. قال تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: 79] فما

ص: 302

أوتي نبي آية إلا أُوتي نبينا مثل تلك الآية، وفضل على غيره بآيات مثل انشِقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشّجر عليه، وكلام البهائم، والشَّهادة برسالته، ونبع المَاءِ من بين أصابعه وغير ذلك من المُعجزات، والآيات الَّتي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السَّماء والأَرض عن الإتيان بمثله.

قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هذه الجملة تحتملُ وجهين:

أحدهما: أَنْ تكونَ لا مَحَلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافها.

والثاني: أنها بدلٌ من جملةِ قوله «فَضَّلْنا» . والجمهورُ على رفع الجلالة على أنه فاعلٌ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي: مَنْ كَلَّمه الله كقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71] .

وقُرئ بالنصبِ على أنَّ الفاعل ضميرٌ مُستترٌ وهو عائدُ الموصولِ أيضاً، والجلالةُ نَصْبٌ على التَّعظيم.

وقرأ أبو المتوكل وابن السَّميفع: «كالَمَ اللهَ» على وزن فاعَلَ، ونصبِ الجلالةِ، و «كَليم» على هذا معنى مُكَالِم نحو: جَلِيس بمعنى مُجالِس، وخليط بمعنى مخالطٍ. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ؛ لأنه خروجٌ من ضَمِيرِ المتكلّمِ المعظِّم نفسَه في قوله:«فَضَّلْنا» إلى الاسمِ الظَّاهِر الَّذشي هو في حُكْمِ الغائِبِ.

فضل في كلام اللهِ المسموع

اختلفوا في ذلك الكلامِ، فقال الأشعري وأتباعه هو الكلامُ القديم الأزليُّ الذي ليس بحرف، ولا صوت قالوا: كما أَنَّه لم يمتنع رُؤية ما ليس بمكيف، فهكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف.

وقال الماتريديُّ: سماع ذلك الكلام محالٌ إِنَّما المَسْموع هو الحرف والصَّوت.

فصل في المراد بالمُكلَّم

اختلفوا هل المُرادُ بقوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هل هو موسى وحده أم هو وغيره فقيل: موسى صلى الله عليه وسلم َ - وحده، وقيل: بل هو وغيره.

قالوا: وقد سمع من قوم موسى السّبعون المختارون، وسمع محمد صلى الله عليه وسلم َ - ليلة المِعراج بدليل قوله:{فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10] فإن قيل: قوله تعالى: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} إِنَّما ذكره في بيان غاية المنقبة والشّرف لأولئك الأَنبياء الذين كلّمهم

ص: 303

الله تعالى، وقد جاء في القرآن، مكالمة بين الله، وبين إبليس، حيث قال:{فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} إلى آخر الآيات [الحجر: 36 - 38] وظاهرها يدلُّ على مكالمة كثيرة بين اللهِ، وبين إبليس، فإن كان ذلك يوجب غاية الشَّرف، فكيف حصل لإبليس؟ فإن لم يوجب شَرَفاً، فكيف ذكره في معرض التَّشريف لموسى صلى الله عليه وسلم َ - حيث قال:

{وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] .

فالجواب: من وجهين:

أحدهما: أَنَّهُ ليس في قِصَّة إبليس ما يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة، فلعلَّ الواسطة كانت موجودة.

الثاني: هَبْ أَنَّهُ كان من غير واسطةٍ، ولكن مكالمة بالطَّرد واللَّعن فإِنَّ الله يكلِّم خاصَّتَهُ بما يحبُّونَ من التَّقرُّب والإكرام، ويكلّم من يَهينُهُ بالطَّرْدِ واللَّعْنِ والكلام الموحش فإنه وإِن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التَّقرُّبَ والتَّشريف والإكرام، والأخرى تُوجِبُ البُعدَ، والإِهانة والطَّرد.

قوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} .

في نصبه ستَّةُ أوجهٍ:

أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال.

الثاني: أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ، أي: ذوي درجاتٍ.

الثالث: أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل «رفع» على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات.

الرابع: أنه بدلُ اشتمالٍ، أي: رفع درجاتٍ بعضهم، والمعنى: على درجاتِ بعض.

الخامس: أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة، فكأنه قيل: ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ.

السادس: أنه على إِسْقاط الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون «عَلَى» أو «فِي» ، أو «إلى» تقديره: على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده.

فصل في المراد بالدَّرجات

في تلك الدَّرجات وجوهٌ:

أحدها: أَنَّ المُراد منه بيان أَنَّ مراتِب الرُّسل، ومناصبهم متفاوتة؛ وذلك لأَنَّه تعالى اتَّخَذ إبراهيم خَلِيلاً، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لِدَاوُد بين المُلْكِ، والنُّبوَّةِ، ولم يحصل هذا لغيره، وسخَّر لِسُليمان الجِنّ والإنس، والطير، والريح، ولم يحصل هذا

ص: 304

لأبيه داود، وخصّ محمداً صلى الله عليه وسلم َ - بأَنَّه مبعوث إِلى الجن والإنس، وبِأَنَّ شرعه نسخ سائِرَ الشَّرائع.

الثاني: أَنَّ المراد منه المعجزات، فَإِنَّ كل واحد من الأَنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزات على ما يَليقُ بزمانه، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة، واليد البيضاء، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدّمين فيه، وهو السّحر. ومعجزات عيسى، وهي إِبراءُ الأَكمه، والأَبْرَص، وإِحياء الموتى كالشَّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدِّمين فيه، وهو الطِّبُّ.

ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم َ - وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة، والبلاغة والخطَب، والأَشعارِ، وبالجملة فالمعجزاتُ متفاوتةٌ بالقلَّةِ والكثرة وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القُوَّةِ.

الثالث: أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدُّنيا من كثرة الأَتباع والأصحاب وقوَّة الدَّولة، وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الوجوه؛ علمت أَنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم َ - كان جامعاً لِلْكُلِّ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى، وأقوى، وقومه أكثر، ودولتُهُ أعظمُ وأوفر.

الرابع: أَنَّ المراد بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} هو محمَّد صلى الله عليه وسلم َ -؛ لأنَّه هو المفضل على الكُلّ، وإنما قال «وَرَفَعَ بَعْضَهُم» على سبيل الرَّمْزِ، لمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له: من فعل هذا الفعل؛ فيقول: أحدكم، أو بعضكم، ويرِيدُ به نفسهُ وذلك أفخمُ من التَّصريح به، وقد سُئِل الحُطَيئَةُ عن أَشعرِ النَّاسِ، فذكر زهيراً، والنَّابغة، ثم قال:«ولو شئت لذكرت الثَّالِث» أراد ن فسه.

وقيل: المراد إدريس عليه الصلاة والسلام ُ بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57] ومراتب الأنبياء في السَّمواتِ.

فإن قيل: المفهومُ من قوله {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} هو المفهوم من قوله: «تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» ، فما فائدة التكرير؟

فالجواب: أَنَّ قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، ولكنّه لا يدلُّ على أَنَّ ذلك التّفضيل، حصل بدرجة، أو بدرجات، فبيَّن بالثَّاني أَنَّ التَّفضِيل بدرجات.

فإن قيل: قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ] كلام كلي، وقوله بعد ذلك {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك:{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ، إعادة لذلك الكلام الكُلّي، ومعلومٌ أَنَّ إعادَة الكَلَامِ الكليّ بعد الشُّرُوعِ في تفصيل جُزْئِيَّاتِهِ، يكون تكراراً.

ص: 305

فالجواب: أَنَّ فيه زيادة على الأَوَّل بقوله: «دَرَجَات» إذ التفصيل أَعَمُّ درجة ودرجات، فلا تكرار في شيءٍ من ذلك.

قوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} . فيه سؤالان:

السُّؤال الأَوَّل: قال في أوَّل الآية: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [ثمَّ عَدَل عن هذا النَّوع من الكلام إلى المغايبة فقال: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ]، ثم عدل من المغايبة إلى النَّوع الأَوَّل فقال:{وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} فما الفائدة في العدول عن المُخاطبة إلى المغايبة، ثم عوده إلى المُخاطبة مرَّة أخرى.

والجوابُ: أَنَّ قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} أهيب وأكثر وَقْعاً من أن يُقال: منهم من كلمنا، ولذلك قال:{وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيما} فلهذا اختَارَ لفظ الغيبة.

وأَمَّا قوله {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} فإِنَّما اختار لفظ المخاطبة؛ لأن الضَّمير في قوله «وآتَيْنَا» ضمير التَّعظيم، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلُّ على عظمة الإيتاء.

السُّؤال الثاني: لم خصَّ موسى، وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - بذكر معجزاتهما؟

والجواب: سبب التَّخصيص: أنَّ معجزاتهما أبهر، وأقوى من معجزات غيرهما، وأيضاً، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزَّمان، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطَّعن في أمتهما، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما.

السُّؤال الثالث: تخصيص عيسى عليه الصلاة والسلام بإيتاء البيِّنات يوهم أنه مخصوص بالبيِّنات دون غيره، وليس الأمر كذلك، فإن موسى صلى الله عليه وسلم َ أوتي أقوى منها، أو مساوٍ.

والجواب: أنَّ المقصود من هذا الكلام: التَّنبيه على قبحِ أفعال اليهود، حيث شاهدوا هذه البيِّنات الواضحة الباهرة، وأعرضوا عنها.

السُّؤال الرابع: «البيِّنات» جمع قلَّة، وذلك لا يليق بهذا المقام!

والجواب: لا نسلِّم أنه جمع قلَّة، لأنَّ جمع السّلامة إنما يكون جمع قلَّة إذا لم يعرَّف بالألف واللام، فأما إذا عرف بهما؛ فإنه يصير للاستغراق، ولا يدلُّ على القلَّة.

قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} «القُدُس» تثقله أهل الحجاز، وتخففه تميم.

ص: 306

واختلفوا في تفسيره، فقال الحسن: القُدُسُ، هو الله - تعالى - وروحه جبريل عليه الصلاة والسلام والإضافة للتَّشريف.

والمعنى أعناه بجبريل في أوَّل أمره، ووسطه، وآخره.

أمَّا أوله؛ فلقوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] .

وأما الوسط، فلأن جبريل علَّمه العلوم، وحفظه من الأعداء.

وأما آخر أمره، فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه الصلاة والسلام ورفعه إلى السَّماء، ويدلُّ على أنَّ روح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام؛ قوله تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] .

ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي عيسى عليه السلام به الموتى.

وقال أبو مسلم: روح القدس الذي أيَّده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وميزه بها عن غيره من المخلوقات ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.

قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعوله محذوف، فقيل: تقديره: ألاّ تختلفوا وقيل: ألَاّ تقتتلوا.

وقيل: ألَاّ تؤمروا بالقتال.

وقيل: أن يضطرَّهم إلى الإيمان، وكلُّها متقاربة.

و «مِنْ بَعْدِهِمْ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه صلةٌ، والضَّمير يعود على الرُّسل.

وقيل يعود على موسى، وعيسى، والاثنان جمع.

قال القرطبيُّ: والأوَّل ظاهر اللَّفظ، وأنَّ القتال إنَّما وقع ممَّن جاءوا بعدهم وليس كذلك، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كلِّ نبي، وهذا كما تقول:«اشتريت خيلاً، ثمَّ بِعْتُهَا» . وهذه عبارة جائزة، وأنت إنَّما اشتريت فرساً وبعته ثم آخر وبعته، ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النَّوازل، إنما اختلف النَّاس بعد كلِّ نبي، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر بغياً وحسداً.

و {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ} فيه قولان:

أحدهما: أنه بدلٌ من قوله: «مِنْ بَعْدِهِم» بإعادة العامل.

والثاني: أنه متعلِّقٌ باقتتل، إذ في البيِّنات - وهي الدلالات الواضحة - ما يغني عن

ص: 307

التَّقاتل والاختلاف. والضَّمير في «جَاءَتْهم» يعود على الَّذشين من بعدهم، وهم أمم الأنبياء.

فصل

تعلق هذه الآية بما قبلها: أنَّ الرسل - عليهم الصَّلاة والسَّلام - لما جاءوا بالبيِّنات، وأوضحوا الدَّلائل، والبراهين، اختلف أقوامهم فمنهم من آمن، ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا، وتحاربوا، ولو شاء الله ألَاّ يقتتلوا لم يقتتلوا.

واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الحوادث إنَّما تحدث بقضاء الله وقدره.

ثم قال: {ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} وإذا اختلفوا، فلا جرم اقتتلوا.

وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّ الفعل لا يقع إلَاّ بعد حصول الدَّاعي؛ لأنَّه بيَّن أن الاختلاف مستلزم للتقاتل، والمعنى: أنَّ اختلافهم في الدِّين يدعو إلى المقاتلة، وذلك يدلُّ على أنَّ المقاتلة لا تقع إلا لهذا الدَّاعي، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكلَّ بقضاء الله وقدره؛ لأنَّ الدَّواعي تستند لا محالة إلى داعية خلق الله تبارك وتعالى في العبد دفعا للتَّسلسل، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه أيضاً على صحَّة هذا المذهب.

قوله: {ولكن اختلفوا} وجه الاستدراك واضحٌ، فإنَّ «لَكِنْ» واقعةٌ بين ضدّين، إذ المعنى: ولو شاء الله الاتِّفاق لاتَّفقوا؛ ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا. وقال أبو البقاء رحمه الله: «لكنْ» استدراك لما دلَّ الكلام عليه، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم، ثم بيَّن الاختلاف بقوله:{فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} ، فلا محلَّ حينئذٍ لقوله:{فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ} .

وكسرت النُّون من {ولكن اختلفوا} لالتقاء السَّاكنين ويجوز حذفها في غير القرآن الكريم، وأنشد سيبويه:[الطويل]

1172 -

فَلَسْتُ بِآتِيهِ، وَلَا أَسْتَطِيعُهُ

وَلَاكِ اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ

قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا} فيه قولان:

ص: 308

أحدهما: أنها الجملة الأولى كرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري.

وقال الواحدي رحمه الله إنما كرَّر ذلك تأكيداً للكلام، وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء من الله، ولا قدر.

الثاني: أنها ليست لتأكيد الأولى، بل أفادت فائدة جديدة، والمغايرة حصلت بتغاير متعلَّقهما، فإنَّ متعلَّق الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئة الثانية، والتقدير في الأولى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، وفي الثانية: ولو شاء لم يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن شاء أمرهم بذلك.

قوله: {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من اختلافهم، فيوفق من يشاء، ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله، وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين، والخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن.

ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى، ولما دلَّت على أنه يفعل ما يريد، فلو كان يريد الإيمان من الكفَّار لفعل فيهم الإِيمان، ولكانوا مؤمنين، ولما لم يكن كذلك، دلَّ على أنَّه تعالى لا يريد الإيمان منهم فدلَّت الآية على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات.

وقالت المعتزلة: يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه، وهذا ضعيفٌ لوجهين:

أحدهما: أنه تقييدٌ للمطلق.

والثاني: أنَّه على هذا التّقييد تصير الآية من باب إيضاح الواضحات؛ لأنه يصير معنى الآية: أنَّه يفعل ما يفعله.

سأل رجل عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: يا أمير المؤمنين؛ أخبرني عن القدرِ! فقال: طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكه. فأعاد السُّؤال فقال: بحرٌ عميقٌ لا تلِجْه، فأعاد السُّؤال، فقال:«سِرُّ الله في الأَرْضِ، قَد خَفِي عَلَيْكَ، فَلَا تَفْتِشْهُ» .

ص: 309

اعلم أنه تعالى لما أمر بالقتال بقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] أعقبه بالحض على النفقة في الجهاد فقال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] والمقصود منه الإنفاق في الجهاد، ثمَّ إنَّه أكد الأمر بالقتال بذكر قصَّة طالوت، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد في هذه الآية الكريمة.

ص: 309

قوله: {أَنْفِقُواْ} : مفعوله محذوفٌ، تقديره: شيئاً ممَّا رزقناكم، فعلى هذا {مِمَّا رَزَقْنَاكُم} متعلّقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعه صفةً لذلك المفعول، وإن لم تقدِّر مفعولاً محذوفاً، فتكون متعلِّقة بنفس الفعل. و «مَا» يجوز أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، أي: رزقناكموه، وأن تكون مصدريَّةً، فلا حاجة إلى عائدٍ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق، فالمراد به اسم المفعول، وأن تكون نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى:{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] .

قوله: {مِّن قَبْلِ} متعلِّقٌ أيضاً بأنفقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنًى؛ فإنَّ الأولى للتَّبعيض والثانية لابتداء الغاية، و «أَنْ يَأْتي» في محلِّ جرٍّ بإضافة «قبل» إليه، أي: من قبل إتيانه.

وقوله: {لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} إلى آخره: الجملة المنفيَّة صفةٌ ل «يَوم» فمحلُّها الرَّفع. وقرأ «بَيْعٌ» وما بعده مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] .

والخلَّة: الصَّداقة، كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وسطها.

والخلَّة: الصديق نفسه؛ قال: [الطويل]

1173 -

وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ

يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا

وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغةً، أو على حذف مضافٍ، أي: كان لها ذو خلَّة، والخليل: الصَّديق لمداخلته إيَّاك، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل، أو مفعول، وجمعه «خُلَاّن» ، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات، وإنما يكثر في الجوامد نحو:«رُغْفَانٍ» .

قال القرطبيُّ: والخُلَّة: خالص المودَّة [مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخِلالة والخَلالة، والخُلالة: الصداقة، والمودة] ؛ قال الشاعر: [المتقارب]

1174 -

وَكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ

خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ

وأبو مرحب كنية الظِّلّ، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: «مواعيد عرقوب» .

ص: 310

والخَلَّة - بالضَّمِّ - أيضاً - ما خالل من النبت يقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها.

والخَلَّة: - بالفتح - الحاجة والفقر، يقال: سدَّ خلته، أي: فقره.

والخِلَّة بالكسر ابن مَخَاض، عن الأصمعي: يقال أتاهم بقرص كأنَّه فِرْسِنُ خلة.

والأنثى خلَّة أيضاً، والخلّة: الخمرة الحامضة.

والخِلَّة - بالكسر - واحدة خلل السُّيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السُّيوف منقوشة بالذَّهب وغيره، وهي أيضاً سُيُور تلبس ظهور سيتي القوس، والخلّة أيضاً ما يبقى بين الأسنان.

و «هم» يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ ثانياً، و {الظالمون} خبره والجملة خبر الأوَّل.

فصل

قالت المعتزلة: لما أمر بالإنفاق من كلِّ ما كان رزقاً، وبالإجماع لا يجوز الإنفاق من الحرام وجب القطع بأنَّ الرّزق لا يكون إلاّ حلالاً.

وأجاب ابن الخطيب: بأنَّ الأصحاب مخصَّصة بالأمر بالإنفاق ما كان رزقاً حلالاً أو حراماً. واختلفوا في هذه النَّفقة، فقال الحسن: هذا الأمر مختص بالزكاة قال: لأنَّ قوله {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} كالوعد والوعيد، ولا يتوجه الوعيد إلَاّ على الواجب، وهو قول السُّدي.

وقال الأكثرون: هذا الأمر يتناول الواجب، والمندوب وليس في الآية وعيد، فكأنه قال: حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدُّنيا، فإنكم في الآخرة لا يمكنكم تحصيلها.

ص: 311

وقال الأصمُّ: المراد منه الإنفاق في الجهاد.

وفي المراد من البيع هنا وجهان:

أحدهما: أنَّه بمعنى الفدية كما قال: {فاليوم لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] وقال: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 123]، وقال:{وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَاّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} [الأنعام: 70] فكأنه قيل من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه، فتكسب ما تفتدي به من العذاب.

الثاني: أن يكون المعنى: قدِّموا لأنفسكم من المال الذي هو ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة يكتسب بسببها شيء من المال.

{وَلَا خُلَّةٌ} ولا صداقة، ونظيره قوله تعالى:{الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ المتقين} [الزخرف: 67] وقال {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166] .

وقوله: {وَلَا شَفَاعَةٌ} يقتضي نفي كلّ الشَّفَاعَاتِ، فقوله:{وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} عام في الكل إلَاّ أنَّ سائر الدَّلائل دلَّت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة بين المؤمنين والسبب في عدم الخلة والشفاعة أمور:

أحدها: أنَّ كل واحد يكون مشغولاً بنفسه. قال تبارك وتعالى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] .

الثاني: أنَّ الخوف الشَّديد يغلب على كلِّ أحدٍ] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] .

الثالث: أنَّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر، أو الفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما؛ صار مبغضاً لمن اتَّصف بهما.

وقوله: {والكافرون هُمُ الظالمون} ، ولم يقل «والظَّالِمُونَ هم الكافرون» .

وذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً:

أحدها: أنَّ نفي الخلَّة، والشَّفاعة مختص بالكافرين، لأنّه أطلقه ثم عقبه بقوله {والكافرون هُمُ الظالمون} وعلى هذا تصير الآية دالَّةً على إثبات الشَّفاعة في حقّ الفسَّاق.

قال القاضي: هذا التأويل غير صحيحٍ؛ لأن قوله: {والكافرون هُمُ الظالمون} كلام مبتدأ، فلم يجب تعليقه بما تقدَّم.

والجواب: أنَّا لو جعلناه كلاماً مبتدأً تطرق الخُلْفُ إلى كلام الله تعالى؛ لأنَّ غير

ص: 312

الكافرين قد يكون ظالماً، وإذا علَّقناه بما تقدَّم زال الإشكال.

الثاني: أنَّ معناه أنَّ الله لم يظلم الكافر بإدخاله النَّار، وإنَّما الكافر هو الذي ظلم نفسه، حيث اختار الكفر والفسق، ونظيره قوله تعالى:

{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] .

الثالث: معناه: أنَّكم أيُّها الحاضرون لا تقتدوا بالكفَّار حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم، وحاجتهم، ولكن قدّموا لأنفسكم ما يفديها يوم القيامة.

الرابع: {الكافرون هُمُ الظالمون} حيث وضعوا أنفسهم في غير مواضعها لتوقعهم الشَّفاعة بمن لا يشفع لهم عند الله، لأنهم كانوا يقولون عن الأوثان {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} [يونس: 18] وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] .

الخامس: المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً} [الكهف: 33] أي أعطت فلم تمنع فيكون معنى الآية الكريمة والكافرون هم التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأمَّ المسلم فلا بدَّ أن ينفق شيئاً قلَّ أو كثر.

السادس: {والكافرون هُمُ الظالمون} أي هم الكاملون في الظلم البالغون الأمر العظيم فيه. ذكر هذه الوجوه القفال.

ص: 313

اعلم أنَّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التَّوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص، فإنَّ الإنسان إذا بقي في النَّوع الواحد، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر، كان كأنَّه انشرح صدره، وفرح قلبه، فكأنه سافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، وانتقل من بستان إلى بستان آخر، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر، ولا شكّ أنه يكون ألذَّ، وأشهى، فلمَّا تقدَّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة، ذكر الآن ما يتعلَّق بالتَّوحيد.

قوله تعالى: {الله لَا إله إِلَاّ هُوَ الحي} : مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى، أي: ما إله إلَاّ هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلَاّ إيَّاه، نصب على الاستثناء.

وقيل: {الله} مبتدأٌ، و {لَا إله} مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود.

و {الحي} فيه سبعة أوجه:

أحدها: أن يكون خبراً ثانياً للجلالة.

الثاني: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو الحيُّ.

ص: 313

الثالث: بدل من موضع: {لَا إله إِلَاّ هُوَ} فيكون في المعنى خبراً للجلالة، وهذا في المعنى كالأول، إلا أنَّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلَاّ بخبرٍ واحدٍ بخلاف الأول.

الرابع: أن يكون بدلاً من «هُوَ» وحده، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، لأنَّ جملة النَّفي خبرٌ عن الجلالة، وإذا جعلته بدلاً حلَّ محلَّ الأول، فيصير التقدير: الله لا إله إلا الله.

الخامس: أن يكون مبتدأٌ وخبره {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} .

السادس: أنه بدلٌ من «اللهِ» .

السابع: أنه صفة لله، وهو أجودها، لأنه قرئ بنصب «الحيَّ القَيُّومَ» على القطع، والقطع إنَّما هو في باب النَّعت، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصِّفة والموصوف بالخبر، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [تقول: قائمٌ العاقلُ] .

و {الحي} فيه قولان:

أحدهما: أن أصله حييٌ بياءين من حيي يحيا فهو حيٌّ، وإليه ذهب أبو البقاء.

والثاني: أنَّ أصله حيوٌ فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرِّفة، وهذا لا حاجة إليه، وكأنَّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كون العين، واللام من واد واحدٍ هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه، ولذلك كتبوا «الحَيَاةَ» بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصل، ويؤيده «الحَيَوَانُ» لظهور الواو فيه. ولناصر القول الأول أن يقول: قلبت الياء الثانية واواً تخفيفاً؛ لأنَّه لمَّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثقل المثلان.

وفي وزنه أيضاً قولان:

أحدهما: أنه فعل.

والثاني: أنَّه فيعل فخُفِّف، كما قالوا ميْت، وهيْن، والأصل: هيّن وميّت.

قال السُّدِّيُّ المراد ب «الحَيّ» الباقي؛ قال لبيدٌ: [الطويل]

1175 -

فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً

فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلَابٍ وَجَعْفَرِ

وقال قتادة: والحيُّ الذي لا يموتُ والحيُّ اسمٌ من أسمائه الحسنى، ويقال إنه اسم الله الأعظم.

ص: 314

وقيل إنَّ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» .

ويقال: إنَّ آصف بن برخيا، لمَّا أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان عليه الصلاة والسلام دعا بقوله:«يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» .

ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم «أيا هيا شراهيا» يعني «يا حي يا قيوم» ، ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي رضي الله عنه لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم َ فإذا هو ساجدٌ يقول «يَا حَيُّ يَا قيُّومُ» ، فترددت مرات، وهو على حاله لا يزيدعلى ذلك إلى أن فتح الله له.

وهذا يدلُّ على عظمة هذا الاسم.

والقيُّوم: فيعولٌ من: قام بالأمر يقوم به، إذا دبَّره؛ قال أميَّة:[الرجز]

1176 -

لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ والنُّجُومُ

وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ

قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ

وَالحَشْرُ وَالجَنَّةُ والنَّعِيمُ

إلَاّ لأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ

وأصله «قَيْوُومٌ» ، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيُّوماً.

وقرأ ابن مسعود والأعمش ويروى عن عمر: «الحَيُّ القَيَّام» ، وقرأ علقمة:«القَيِّم» وهذا كما يقولون: ديُّور، وديار، وديِّر. ولا يجوز أن يكون وزنه فعُّولاً ك «سَفُّود» إذ لو كان كذلك؛ لكان لفظه قوُّوماً؛ لأنَّ العين المضاعفة أبداً من جنس الأصليَّة كسُبُّوح، وقُدُّوس، وضرَّاب، وقتَّال، فالزَّائد من جنس العين، فلمَّا جاء بالياء دون الواو؛ علمنا أنَّ أصله فيعول، لا فعُّول، وعدَّ بعضهم فيعولاً من صيغ المبالغة كضروبٍ، وضرَّاب.

قال بعضهم: هذه اللَّفظة عبريَّة؛ لأنَّهم يقولون «حياً قياماً» ، وليس الأمر كذلك؛ لأنا قد بيَّنا أن له وجهاً صحيحاً في اللُّغة.

ص: 315

فصل

اعلم أنَّ تفسير الجلالة قد تقدَّم في أوَّل الكتاب، والإله؛ قال بعضهم: هو المعبود، وهو خطأ من وجهين:

الأول: أنه تبارك وتعالى كان إلهاً في الأزل، وما كان معبوداً.

الثاني: أنَّه تعالى أثبت معبوداً سواه في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [الأنبياء: 98] .

قال ابن الخطيب رحمه الله: وإنما «الإله» هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقاً للعبادة، وأما «الحيُّ» قال المتكلِّمون: هو كلُّ ذاتٍ يصحُّ أن يعلم، ويقدر، واختلفوا في أنَّ هذا المفهوم صفةٌ وجوديَّةٌ أم لا، فقال بعضهم: إنَّه عبارةٌ عن كون الشَّيء بحيث لا يمتنع أنَّه يعلمُ ويقدرُ، وعدم الامتناع صفةٌ موجودة، أم لا؟

قال المحقِّقون: لما كانت الحياة عبارةٌ عن عدم الامتناع، وقد ثبت أنَّ الامتناع أمر عدمي، إذ لو كان وصفاً موجوداً؛ لكان الموصوف به موجوداً، فيكون ممتنع الوجود موجوداً، وهو محالٌ، وإذا ثبت أنَّ الامتناع عدمٌ وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع، وثبت أنَّ عدم العدم: وجودٌ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة، وهو المطلوب.

قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولقائل أن يقول لمّا كان الحيّ أنَّه الذي يصحّ أن يعلم، ويقدر، وهذا القدر حاصلٌ لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات.

والذي عندي في هذا الباب: أنَّ الحيَّ عبارةٌ عن الكامل في نفسه، ولما لم يكن كذلك مقيداً بأنه كاملٌ في هذا دون ذاك دلّ على أنه كاملٌ على الإطلاق.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه كان يقول: أعظم أسماء الله - تعالى - «الحيّ القيوم» .

روي أنَّه عليه الصلاة والسلام ما كان يزيد على ذكره في السجود يَومَ بَدْرٍ.

والقيوم؛ قال مجاهدٌ: القائم على كلِّ شيءٍ وتأويله قائمٌ بتدبير الخلائق في إيجادهم وأرزاقهم.

وقال الكلبيُّ: القائم على كلّ نفس بما كسبت.

ص: 316

وقال الضحاك: القيُّوم الدَّائم الوجود الذي يمتنع عليه التغيير.

وقيل: القيُّوم الذي لا ينام، وهذا القول بعيد؛ لأنه يصير قوله - تعالى - {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} تكراراً.

وقال أبو عبيدة: القيُّوم الذي لا يزول.

قوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} في هذه الجملة خمسة أوجه:

أحدها: أنها في محلِّ رفع خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحد أوجه رفع الحيّ.

الثاني: أنَّها خبرٌ عن الله تعالى عند من يجيز تعدُّد الخبر.

الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في «القَيُّومِ» كأنَّه قيل: يقوم بأمر الخلق غير غافل، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.

الرابع: أنها استئناف إخبارٍ، أخبر تبارك وتعالى عن ذاته القديمة بذلك.

الخامس: أنها تأكيد للقيُّوم؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوماً، قاله الزَّمخشريُّ، فعلى قوله إنَّها تأكيدٌ يجوز أن يكون محلُّها النصب على الحال المؤكَّدة، ويجوز أن تكون استئنافاً، وفيها معنى التأكيد، فتصير الأوجه أربعةً.

والسِّنة: النُّعاس، وهو ما يتقدَّم النَّوم من الفتور؛ قال عديّ بن الرقاع:[الكامل]

1177 -

وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ

في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ

وهي مصدر وسن يَسِنُ؛ مثل: وَعَد، يَعِد، وقد تقدَّم علة الحذف عند قوله {سَعَةً مِّنَ المال} [البقرة: 247] .

فإن قيل: إذا كانت السِّنة عبارةٌ عن مقدِّمة النَّوم، فقوله تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} يدلُّ على أنَّه لا يأخذه نومٌ بطريق الأولى، فيكون ذكر النَّوم تكراراً.

فالجواب: تقدير الآية: لا تأخذه سنة، فضلاً عن أن يأخذه نومٌ.

وقيل هذا من باب التكميل.

وقال ابن زيد: «الوَسْنَانُ: الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّومِ وهو لا يَعْقِلُ؛ حَتَّى إنَّه رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ على أهْلِهِ» ، وهذا القول ليس بشيء، لأنَّه لَا يفهم من لغة العرب ذلك، وقال المفضَّل:«السِّنَةُ: ثِقَلٌ في الرَّأْسِ، والنُّعَاسُ في العَيْنَيْنِ، والنَّوْمُ في القَلْبِ» .

ص: 317

وكُرّرت «لَا» في قوله تعالى: {وَلَا نَوْمٌ} تأكيداً، وفائدتها انتفاء كلِّ واحدٍ منهما، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه نفيُ كلِّ واحدٍ منهما على حدته، ولذلك تقول:«مَا قَامَ زيدٌ، وعمرو، بل أحدهما» ، [ولو قلت:«مَا قَامَ زيدٌ وَلَا عمْرو، بل أحدهما» ] لم يصحَّ.

فصل في تفسير «الوَسْنَانِ»

والوسنان: بين النَّائم، واليقظان، والنَّوم: هو الثَّقيل المزيل للقوَّة والعقل.

وقيل السِّنة: أوَّل النَّوم، وهو النُّعاس، والنَّوم: غشيةُ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء.

قيل: إنَّ النَّوم عبارةٌ عن ريح تخرج من أعصاب الدِّماغ فإذا وصلت العينين، حصل النُّعاس، وإذا وصلت إلى القلب، حصل النوم.

فصل

والمعنى: لا يغفل عن شيءٍ دقيقٍ، ولا جليلٍ، فعبَّر بذلك عن الغفلة، لأنه سببها، فأطلق اسم السَّبب على مسببه.

نفى الله - تعالى - عن نفسه النَّوم، لأنَّه آفةٌ وهو منزَّهٌ عن الآفات؛ ولأنَّهُ تغيُّرٌ، ولا يجوز عليه التَّغيُّر.

عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بخمس كلمات، فقال:«إنَّ اللهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ بَالْقِسْطِ، ويَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .

يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أنه حكى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنَّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى! فأرسل إليه ملكاً فأرَّقه ثلاثاً، ثمَّ أعطاه قارورتين في كلِّ يدٍ واحدة، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرَّز بجهده ألا ينام، فنام في آخر الأمر، فاطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله - تعالى - ذلك مثلاً له في بيان أنَّه لو كان ينام؛ لم يقدر على حفظ السَّموات والأرض.

ص: 318

واعلم أنَّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى عليه الصلاة والسلام فإن كلَّ من جوَّز النَّوم على الله - تعالى - أو كان شاكاً في جوازه كفر، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى عليه السلام فإن صحَّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السُّؤال إلى جهال قومه.

قوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} هي كالتي قبلها إلَاّ في كونها تأكيداً، و «ما» للشُّمول، واللاّم في «لَهُ» للملك، وكرَّر «مَا» تأكيداً، وذكرها هنا المظروف دون الظرف؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس، والقمر، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض.

فصل

لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق، والملك، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.

قالوا: لأنَّ قوله تعالى {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يتناول كل ما في السموات والأرض، وأفعال العباد من جملة ما في السَّموات والأرض، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق.

فإن قيل: لم قال «لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض» ولم يقل من في السموات.

فالجواب: لما كان المراد إضافة كلِّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة، وكان الغالب عليه ما لا يعقل، أجرى الغالب مجرى الكلِّ، فعبر عنه بلفظة «مَا» ، وأيضاً فهذه الأشياء إنَّما أسندت إليه من حيث إنَّها مخلوقة، وهي غير عاقلةٍ، فعبر عنه بلفظ «مَا» للتنبيه على أنَّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة.

قوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} كقوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} [البقرة: 245] .

قال القرطبيُّ: «مَنْ» رفع بالابتداء، و «ذَا» خبره، و «الَّذِي» نعتٌ ل «ذَا» ، أو بدل ولا يجوز أن تكون «ذا» زائدة كما زيدت مع «مَا» ؛ لأنَّ «ما» مبهمة، فزيدت «ذا» معها لشبهها بها.

و «مَنْ» ، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي، ولذلك دخلت «إلَاّ» في قوله:{إِلَاّ بِإِذْنِهِ} .

و «عِنْدَهُ» فيه وجهان:

ص: 319

أحدهما: أنَّه متعلِّق بيشفع.

والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف لكونه [حالاً] من الضَّمير في «يَشْفَعُ» ، أي: يشفع مستقراً عنده، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريبٌ منه فشفاعة غيره أبعد وضعَّف بعضهم الحاليَّة بأنَّ المعنى: يشفع إليه.

و {إِلَاّ بِإِذْنِهِ} متعلِّققٌ بمحذوف، لأنَّه حال من فاعل، «يَشْفَع» فهو استثناءٌ مفرَّغ، والباء للمصاحبة، والمعنى: لا أحد يشفع عنده إلَاّ مأذوناً له منه، ويجوز أن يكون مفعولاً به، أي: بإذنه يشفعون كما تقول: «ضَرَب بِسَيْفِهِ» ، أي: هو آلةٌ للضَّرب، والباء للتعدية.

و «يَعْلَمُ» هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين، أو استئنافاً، أو حالاً. والضَّمير فِي «أيْدِيهم» و «خَلْفَهُم» يعود على «مَا» في قوله تعالى:{لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره. وقيل: يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ «ما» دون غيرهم. وقيل: يعود على ما دلَّ عليه «مَنْ ذَا» من الملائكة والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصّةً.

فصل

قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسديُّ: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما كان قبلهم من أمور الدُّنيا «وَمَا خَلْفَهُم» ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم.

وقال الضَّحَّاك والكلبي: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» يعني الآخرة؛ لأنَّهم يقدمون عليها. «وَمَا خَلفَهُمْ» يعني الدُّنيا؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم.

وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاس: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم» من السماء إلى الأرض «وَمَا خَلْفَهُم» يريد ما في السَّموات.

وقال ابن جريج: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» : مضيّ آجالهم «وما خَلْفَهُم» : ما يكون بعدهم.

وقال مقاتل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ» ما كان قبل الملائكة. «وَمَا خَلْفَهُم» أي: ما كان بعد خلقهم.

وقيل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما قدموا من خير وشر «وَمَا خَلْفَهُمْ» ما هم فاعلوه.

ص: 320

والمقصود من هذا الكلام: أنَّه عالم بأحوال الشَّافع، والمشفوع له، فيما يتعلَّق باستحقاق الثَّواب والعقاب؛ لأنَّه عالمٌ بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيءٌ والشُّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطَّاعة ما يستحقُّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله، ولا يعلمون أنَّ الله هل أذن لهم في تلك الشَّفاعة، أم لا.

قوله: {بِشَيْءٍ} متعلِّقٌ ب «يحيطون» . والعلم عنا بمعنى المعلوم؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا» وحديث موسى، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - «مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلَاّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر» ولكون العلم بمعنى المعلوم، صحَّ دخول التَّبعيض، والاستثناء عليه. و «مِنْ عِلْمِهِ» يجوز أن يتعلَّق ب «يحيطون» ، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء، فيكون في محلِّ جر. و «بمَا شَاءَ» متعلِّقٌ ب «يحيطون» أيضاً، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول، بإعادة العامل بطرق الاستثناء، كقولك:«مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلَاّ بِزَيْدٍ» ، ومفعول «شَاءَ» محذوفٌ تقديره: إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} .

فصل

هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النَّبيين، والصِّديقين والشهداء والصالحين.

وفي معنى الاستثناء قولان:

أحدهما: أنَّهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَآ} [البقرة: 32] .

الثاني: أنَّهم لا يعلمون الغيب إلَاّ بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى {عَالِمُ الغيب فَلَا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلَاّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26 - 27] .

قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} : الجمهور على «وَسِعَ» بفتح الواو وكسر السِّين وفتح العين فعلاً ماضياً.

و «كُرْسِيُّه» بالرَّفع على أنَّه فاعله، وقرئ «وَسْعَ» سكَّن عين الفعل تخفيفاً نحو: عَلْمَ في عَلِمَ. وقرئ أيضاً: «وَسْعُ كُرْسِيِّه» بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء، و «كُرْسِيِّه» خفضٌ بالإضافة «السَّمَوَاتُ» رفعاً على أنه خبر للمبتدأ.

ص: 321

واعلم أنه يقال: وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ولا يسعك هذا أي: لا تطيقه ولا تحتمله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم َ:«لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلَاّ اتِّبَاعِي» أي: لا يحتمل غير ذلك.

والكُرْسِيُّ: الياء فيه لغير النَّسب، واشتقاقه من الكِرْسٍ، وهو الجمع؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم؛ ومنه قول العجَّاج:[الرجز]

1178 -

يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا؟

قَالَ: نَعَمْ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا

وقيل: أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض. [وأكرست الدَّار: إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها، وتلبَّد بعضها فوق بعض] ، وتكارس الشَّيء: إذا تركب ومنه الكرَّاسة، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ. و «الكُرْسِيُّ» هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ.

وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ، وفيه لغتان: أشهرهما ضمُّ كافه، والثانية كسرها، وقد يعبَّر به عن الملك؛ لجلوسه عليه، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ؛ ومنه:[الرجز]

1179 -

قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ

أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ

في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي

وعن العلم؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها؛ ومنه قيل للعلماء: «الكَرَاسِيّ» ؛ قال القاتل: [الطويل]

1180 -

يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ

كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ

وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور، ونوازلها؛ ويعبَّر به عن السَّرِّ، قال:[البسيط]

1181 -

مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ

وَلَا بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللهُ - مَخْلُوقِ

وقيل: الكرسيُّ لكلِّ شيء: أصله.

فصل في حقيقة «الكُرْسِيّ»

واختلفوا فيه على أربعة أقوال:

ص: 322

أحدها: أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات، والأرض قال الحسن: هو العرش نفسه.

وقال أبو هريرة: الكرسيُّ: موضوعٌ أمام العرش ومعنى قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} أي: سعته مثل سعة السَّموات والأرض.

وقال السُّدِّيُّ: إنَّه دون العرش، وفوق السَّماء السَّابعة، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاةٍ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاةٍ.

وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسيُّ: موضع القدمين فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح.

وثانيها: أنَّ «الكرسي» هو السُّلطان، والقدرة، والملك.

ثالثها: هو العلم، لأنَّ العلم هو الأمر المعتمد عليه «والكُرْسِيُّ» هو الشَّيء الذي يعتمد عليه، وقد تقدَّم هذا.

ورابعها: ما ختاره القفَّال وهو: أنَّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه؛ لأنَّه خاطب الخلق في تعريف ذاته، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف النَّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر النَّاس بزيارته، كما يزورون بيوت ملوكهم.

وذكر في الحجر الأسود: «أنَّهُ يمين اللهِ في أَرْضِهِ» وجعله موضوعاً للتقبيل كما

ص: 323

يقبل الناس أيضاً أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشُّهداء، ووضع الميزان، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله:{الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] ووصف العرش بقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] ثم قال: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] ثم قال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] وقال: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] ، وكذلك إثبات الكرسيّ.

وقال ابن الخطيب رحمه الله: وهذا جوابٌ مبيّن إلَاّ أنَّ المعتمد هو الأوَّل، وأنَّ ترك الظَّاهر بغير دليل لا يجوز.

قوله: {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} يقال: آده كذا، أي: أثقله، ولحقه منه مشقَّةٌ؛ قال القائل:[الطويل]

1182 -

أَلَا مَا لِسَلْمَى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا

وَضَنَّتْ وَمَا كَانَ النَّوَالُ يُؤُودُها

أي: يثقلها، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة، لأنَّهم يثقلونها بالتُّراب. وقرئ:«يَوْدُهُ» بحذف الهمزة، كما تحذف همزة «أُنَاسٍ» ، وقرئ «يُوُودُهُ» بإبدال الهمزة واواً.

و «حِفْظ» : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي: لا يَئُودُهُ أن يحفظهما.

و «العَلِيُّ» أصله: «عَلْيِوٌ» ، فأُدْغِمَ؛ نحو: مَيِّتٍ؛ لأنَّه من علا يعلو؛ قال القائل في ذلك البيت: [الطويل]

1183 -

فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ

تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ

فصل في المراد بالعلو

والمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز والعلي والعالي القاهر الغالب للأشياء تقول العرب: علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر: [الطويل]

ص: 324

1184 -

فَلَمَّا عَلَوْنَا

...

...

...

. .....

...

...

...

... . .

البيت المتقدِّم، وقال تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأرض}

[القصص: 4] .

قال ابن الخطيب: لو كان علوُّه بالمكان لكان متناهياً؛ فإنَّ الجزء المفروض فوقه، أعلى منه، فلا يكون عليّاً مطلقاً، وإن كان غير متناه، وقد دلَّت البراهين اليقينيَّة على استحالة بعدٍ غير متناهٍ.

وأيضاً فلو فرضنا في ذلك نقطاً غير متناهية، فإن لم يحصل فوق تلك النّقط نقطة، أخرى، وكانت تلك النُّقطة طرفاً، لذلك البعد، فيكون متناهياً، وإن لم يوجد في ذلك البعد سفلاً فلا يكون فيها ما هو فوق على الإطلاق، وذلك ينفي حصول العلوّ المطلق، ولأنَّ العالم كرة، فكل علوّ بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض هو سفل بالنسبة للوجه الثاني، فينقلب العلوُّ سفلاً، ولأن لو كان علُّوه بالمكان، لكان حصول العلوّ للمكان بالذَّات، والله تعالى بالعرض، وما بالذات أشرف منها بالعرض، فيكون علوُّ المكان أشرف من علوِّه سبحانه، وذلك باطلٌ.

و {العظيم} تقدَّم معناه، وقيل: هو هنا بمعنى المعظَّم؛ كما قالوا: «عَتِيقٌ» بمعنى: مُعَتَّق؛ قال القائل: [الخفيف]

1185 -

فَكَأَنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإِسْ

فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلَالِ

قيل: وَأُنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف. وقيل في الجواب عنه: إنَّه صفة فعلٍ، كالخلق، والرِّزق، والأوَّل أصحُّ.

قال الزَّمخشريُّ: «فإنْ قلت: كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الجُملُ في آية الكرسيّ من غير حَرْفِ عطفٍ؟ قلت: ما منها جملةٌ إلَاّ وهي واردةٌ على البيان لما ترتَّبت عليه، والبيان متَّحدٌ بالمبيَّن، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب:» بَيْنَ العَصَا وَلِحَائِهَا «فالأولى بيانٌ لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه، والثانية لكونه مالكاً لما يدبِّره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم، المستوجب للشَّفاعة وغير المرتضى، والخامسة لسعة علمه، وتعلُّقه بالمعلومات كلِّها، أو لجلاله وعظم قدرته» انتهى. يعني غالب الجمل وإلَاّ فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله: {وَلَا يُحِيطُونَ} ، وقوله:{وَلَا يَؤُودُهُ} وقوله {وَهُوَ العلي العظيم} .

ص: 325

فصل في فضل هذه الآية

في فضل هذه الآية الكريمة روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «ما قُرِئَت هذه الآية في دَارٍ إلَاّ اهْتَجَرَهَا الشَّيْطَانُ ثَلَاثِينَ يَوْماً، ولَا يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلَا سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» .

وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: سمعت نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّة إِلَاّ المَوْتُ، ولا يواظب عليها إلَاّ صدّيق، أو عابدٌ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه؛ أمَّنه الله على نفسه وجاره، وجار جاره، والأبيات التي حوله» .

وتذاكر الصَّحابة أفضل ما في القرآن، فقال لهم عليٌّ: أين أنتم من آية الكرسيّ قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «يَا عَلِيُّ سَيِّدُ البَشَرِ آدَمُ، وسَيِّدُ العَرَبِ مُحَمَّدٌ، وَلَا فَخْرَ، وَسَيِّدُ الكَلَامِ القُرْآنُ، وسَيِّد القُرْآنِ البَقَرَةُ وسَيِّدُ البَقَرَةِ آيةُ الكُرْسِيّ»

وعن أبيّ بن كعبٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «يَا أبا المنذر؛ أيُّ آيةٍ في كِتَابش اللهِ أعْظَم» ؟ قلت: اللهُ لا إله إلَاّ هو الحيُّ القَيُّومُ، قال: فضرب صدري ثم قال: «ليَهْنِكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ» ثم قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ لهذه الآية لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ العَرْشِ» .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بحفظ زَكَاةِ رمضان فأتاني آت، فجعل يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: [إنّي محتاج، ولي عيالٌ، ولي حاجة شديدةٌ قال: فخلّيت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ] » يا أبا هريرة مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ «؛ قلت يا رسول الله؛ شَكَا حَاجَةً شديدة، وعيالاً؛ فرحمته، فخلَّيت سبيله. قال:» أَمَا إِنَّهُ قَدُ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ «فعرفت أنه سيعود، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فرصدته، فجاء يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: دعني فإنِّي محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم َ:» يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة «قلت: يا رسول الله شكا حاجةً،

ص: 326

وعيالاً فرحمته وخلَّيت سبيله قال:» أمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وسيعود «فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إنه سيعود فرصدته الثالثة: فجاء يحثو من الطَّعام؛ فأخذته، فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم ألَاّ تعود، ثم تعود قال: دعني أُعلّمك كلمات، ينفعك الله بها، قلت: ما هي قال: إذا أَوَيْتَ إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسيّ {الله لَا إله إِلَاّ هُوَ الحي القيوم} حتى تختم الآية، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطانٌ، حتّى تصبح، فخلَّيت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: مَا فَعَلْتَ بِأَسِيركَ البَارِحَةَ؟ قلت: يا رسول الله - عليك الصَّلاة والسَّلام - زَعَمَ أنَّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخلّيت سبيله - قال: ما هي قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أولها، حتى تتمّ الآية، وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح، وكانوا أحرص شيءٍ على الخير، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم َ:» أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ، وهو كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِب منذ ثَلَاث لَيَالٍ يا أبا هُرَيْرَةَ؟ «قلت: لا، قال:» ذَلِكَ شَيْطَانٌ «.

ص: 327

قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدين} : كقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وقد تقدَّم. وأل في «الدِّين» للعهد، وقيل: عوضٌ من الإضافة أي «في دِينِ اللهِ» لقوله تعالى: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41]، أي: تأوي.

والجمهور على إدغام دال «قَد» في تاء «تَبَيَّن» ؛ لأنها من مخرجها.

والرُّشد: مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمِّها، ومعناه في اللُّغة، إصابة الخير. وقرأ الحسنُ «الرُّشُد» بضمتين كالعنق، فيجوز أن يكون هذا أصله، ويجوز أن يكون إتباعاً، وهي مسألة خلاف أعني ضمَّ عين الفعل. وقرأ أبو عبد الرحمن الرَّشد بفتح الفاء والعين، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها، وروي عن أبي عبد الرَّحمن أيضاً:«الرَّشَادُ» بالألف.

ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام. قال الزَّجَّاج: «لَا تَنْسُبوا إلى الكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرِهاً» ، يقال:«أَكْفَرَهُ» نسبه إلى الكفر؛ قال: [الطويل]

ص: 327

1186 -

وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُوني بِحُبِّهِمْ

وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ

قوله: {مِنَ الغي} متعلِّقٌ بتبيَّن، و «مِنْ» للفصل، والتمييز كقولك: ميَّزت هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: «في موضع على أنَّه مفعولٌ» وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ. ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين.

والتّبيين: الظهور والوضوح، بان الشَّيء، واستبان، وتبيَّين: إذا ظهر ووضح ومنه المثل: تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين.

قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الإيضاح، والتعريف، إنَّما سمِّي بياناً؛ لأنَّه يوقع الفصلة، والبينونة بين المقصود وغيره.

والغيُّ: مصدر غوى بفتح العين قال: {فغوى} [طه: 121]، ويقال:«غَوَى الفَصِيلُ» إذا بَشِمَ، وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد. وأصل الغيّ:«غَوْيٌ» فاجتمعت الياء والواو، فأُدغمت نحو: ميّت وبابه.

والغيُّ: نقيض الرُّشد: يقال: غَوَى يَغْوِي، غيّاً، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد.

فصل في معنى «الدِّين» في الآية

قال القرطبيُّ: المراد «بالدِّينِ» في هذه الآية الكريمة المعتقد، والملة بدليل قوله {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} .

قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة، لا يعيش لها ولد، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة. فلمَّا جاء الإسلام، وفيهم منهم، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار، فأرادت الأنصار استردادهم، وقالوا: أبناؤنا وإخواننا، فنزلت:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدين} ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم، وإن اخْتَارُوهم، فأجلوهم مَعَهمْ» .

وقال مجاهد: كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم َ بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم،

ص: 328

فمنهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت {لَا إِكْرَاهَ فِي الدين

} .

وقال مسروقٌ: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النَّبي صلى الله عليه وسلم َ ثم قدما المدينة في نفر من النَّصارى يحملون الطَّعام فلزمهما أبوهما، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال: «يَا رَسُولَ الله أَيَدْخُلُ بعضي النَّار وأنا أَنْظُرُ، فأنزل الله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدين} ، فخلى سبيلهما.

وقال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أنَّ العرب كانت أُمَّة أمّية لم يكن لهم كتاب، فلم يقبل منهم إلَاّ الإسلام، فلما أسلموا طوعاً، أو كرهاً؛ أنزل الله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدين} ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا، أو يقرُّوا بالجزية، فمن أعطى منهم الجزية، لم يكره على الإسلام.

وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام، قبل أن يؤمر بالقتال، فصارت منسوخة بآية السَّيف. ومعنى {تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} ، أي: تميَّز الحقّ من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظَّاهرة.

قوله: {بالطاغوت} متعلِّقٌ ب» يَكْفر «، والطاغوت بناء مبالغةٍ كالجبروت والملكوت. واختلف فيه، فقيل: هو مصدرٌ في الأصل، ولذلك يوحَّد ويذكَّر، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان، وهذا مذهب الفارسيّ، وقيل: هو اسم جنس مفردٍ، فلذلك لزم الإفراد والتَّذكير، وهذا مذهب سيبويه رحمه الله. وقيل هو جمعٌ، وهذا مذهب المبرّد، وهو مؤنّث لقوله تعالى {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] قال أبو علي الفارسي: وليس الأمر كذلك، لأن» الطَّاغُوتَ «مصدر كالرّغبوت، والرَّهبوت، والملكوت، فكما أنَّ هذه الأسماء آحاد، كذلك هذا الاسم مفردٌ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنَّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى:{أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} ، فأفرد في موضع الجمع، كما يقال هم رضاً، وهم عدل انتهى. وهو مؤنَّث لقوله تعالى {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] .

ص: 329

وأجاب من ادَّعى التّذكير عن هذا الاستدلال بأنَّه إنما أنَّث هنا؛ لإرادة الآلهة وقال آخرون: ويكون مذكراً، ومؤنثاً، وواحداً وجمعاً قال تعالى في المذكر والواحد:{يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60] قوال في المؤنث: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] وقال في الجمع: {يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات} [البقرة: 257] . واشتقاقه من طغَى يَطْغَى، أو من طَغَا يَطْغُو، على حسب ما تقدَّم أول السورة، هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التّقديرين، فأصله طَغَيُوت، أو طَغَوُوت لقولهم:» طُغْيان «في معناه، فقلبت الكلمة بأن قدِّمت اللاّم وأُخِّرت العين، فتحرَّك حرف العلَّة، وانفتح ما قبله فقلب ألفاً، فوزنه الآن فلعوت، وقيل: تاؤه ليست زائدةً، وإنَّما هي بدلٌ من لام الكلمة، ووزنه فاعول من الطُّغيان كقولهم» حانوت «، و» تابوت «، والتاء فيهما مبدلة من» هَا «التأنيث.

قال مكي «وقد يجُوز أن يكون أصلُ لامه واواً، فيكون أصله طغووتاً؛ لأنه يقال: طَغَى يَطْغى ويَطْغو، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ، ومثله في القلب والاعتلال، والوزن: حانوت؛ لأَنَّه من حَنا يحنو وأصله حَنَووت، ثم قُلِب وأُعِلَّ، ولا يجوزُ أن يكونَ من: حانَ يَحِين لقولهم في الجمعِ حَوانيت» انتهى قال شهاب الدين: كأنَّه لمَّا رأى أنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه، وتُخَمَة، وتُراث، وتُكَأة، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً، وهذا ليس بشيءٍ.

وقدَّم ذِكْرَ الكفر بالطَّاغوت على ذِكْرِ الإِيمان باللهِ - تعالى - اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطَّاغوتِ، وناسبَهَ اتصالُهُ بلفظ «الغَيّ» .

فصل في المراد بالطاغوت

واختلف في الطَّاغوت فقال عمر، ومجاهدٌ، وقتادة: هو الشَّيطان.

وقال سعيد بن جبير: هو الكاهن. وقال أبو العالية: هو الساحر. وقال بعضهم: الأَصنام.

وقيل مردة الجنّ والإنس، وكلُّ ما يطغى الإِنسان.

ص: 330

وقيل: الطَّاغُوتُ هو كلّ ما عُبِدَ مِنْ دون الله، وكان راضياً بكونه معبُوداً، فعلى هذا يكُونُ الشَّيطان والكهنة، والسَّحرة، وفرعون والنمروذ كلُّ واحد منهم طاغوتاً؛ لأنهم راضون بكونهم معبودين وتكونُ الملائكة، وعزير، وعيسى ليسوا بطواغيت، لأنهم لم يرضوا بأن يكونوا معبودين.

قوله: {وَيْؤْمِن بالله} عطف على الشَّرط وقوله {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} جواب الشَّرط، وفيه دليل على أنَّهُ لا بدّ للكافر من أن يتوب عن الكفر، ثم يؤمنُ بعد ذلك.

وفيه دليل على أَنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح؛ لأنَّهُ قدّم الكُفر بالطَّاغوت [على الإيمان باللهِ اهتماماً به فإن قيل الإيمان باللهِ مستلزم لِلْكُفر بالطَّاغُوت.

قلنا: لا نسلم، قد يكفر بالطَّاغوت] ولا يؤمن بالله واستمسك أي: استمسك واعتصم {بالعروة الوثقى} أي العقد الوثيق المحكم في الدِّين.

و «العُرْوَة» : موضعُ شَدِّ الأَيدي، وأصلُ المادّةِ يَدُلُّ على التَّعلُّق، ومنه: عَرَوْتُه: أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً، وَاعتراه الهَمُّ: تعلَّق به، و «الوُثْقى» : فُعْلى للتفضيل تأنيث الأوثق، كفُضْلى تأنيث الأفضل، وجمعُها على وُثَق نحو: كُبْرى وكُبَر، فأمَّا «وُثُق» بضمّتين فجمع وَثيق. وهذا استعارة المحسُوس للمعقول؛ لأَنَّ من أراد إمساك هذا الدِّين تعلّق بالدلائل وأوضحها الدّالة عليه، ولما كانت دلائِلُ الإِسلام أقوى الدَّلائل وأوضحها وصفها الله تبارك وتعالى بأَنَّها العروة الوثقى.

ص: 331

قال مجاهِدٌ: «العُرْوَةُ الوثقى» الإيمان.

وقال السُّدِّي: الإِسلام.

وقال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير والضحاك: لا إِله إلَاّ الله.

قوله: {لَا انفصام لَهَا} كقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ:

أحدها: أن تكونَ استئنافاً، فلا مَحَلَّ لها حينئذٍ.

والثاني: أنها حالٌ من العُرْوة، والعاملُ فيها «اسْتَمْسَكَ» .

والثالث: أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في «الوُثْقَى» . و «لها» في موضعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائنٌ لها. والانفصامُ - بالفَاءِ - القَطْعُ من غير بَيْنُونة، والقصمُ بالقافِ قَطْعُ بينونةٍ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ.

والمقصودُ من هذا اللَّفظ المُبالغةُ؛ لأَنَّهُ إذا لم يكن لها انفِصَام، فأن لا يكون لها انقطاع أولى، ومعنى الآية: بالعُرْوَة الوثقى التي لا انفصام لها، والعرب تُضْمِرُ «الَّتي» و «الذي» و «مَن» وتكتفي بصلاتها منها.

قال سلامة بن جندل: [البسيط]

1187 -

وَالعَادِيَاتُ أَسَالِيُّ الدِّمَاءِ بِهَا

كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أَنْصَابُ تَرْجِيبِ

يريد والعاديات التي قال تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي من له.

قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيه قولان:

أحدهما: أنَّهُ تعالى يسمع قول من يتكلم بالشَّهادتين، وقول من يتكلَّم بالكُفْر، ويعلمُ ما في قلب المؤمِنِ من الاعتقاد الطاهر، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث.

الثاني: روى عطاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - يحب إسلام أهل الكِتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة، وكان يَسْأَلُ الله ذلك سِرّاً، وعلانية، فمعنى قوله {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يريدُ لدعائك يا محمَّد عليم بحرصك واجتهادك.

ص: 332

«الوليّ» فعيل بمعنى: فاعل من قولهم: ولي فلان الشَّيء يليه ولاية، فهو وَال وولى، وأصله من الوَلْي الَّذي هو القُرْبُ؛ قال الهُذليُّ:[الكامل]

1188 -

...

...

...

..... وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ

ومنه يقال داري تلي دارها، أي: تقرب منها ومنه يُقالُ للمحبّ المقارب ولي؛ لأَنَّهُ يقرب منك بالمحبَّةِ والنُّصرة، ولا يفارقك، ومنه الوالي؛ لأَنَّه يلي القوم بالتَّدبير والأمر والنّهي، ومنه المولى، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية: العداوة من عدا الشَّيء: إذا جاوزه، فلأجل هذا كانت العَدَاوةُ خلاف الوِلَاية ومعنى قوله تبارك وتعالى:{الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} ، أي: ناصرهم ومعينهم، وقيل: مُحبهم.

وقيل: متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره.

وقال الحسنُ: ولي هدايتهم.

قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} ، أي: من الكُفْرِ إلى الإيمان.

قال الواقدي: كلّ ما في القرآن من الظُلُماتِ، والنور فالمرادُ منه: الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] فالمراد منه اللَّيل والنَّهار، سُمي الكفر ظُلمة لالتباس طريقه، وسُمي الإسلام نُوراً، لوضوح طريقه.

وقال أَبو العبَّاس المُقْرىءُ «الظُّلُمَات» على خمسة أوجه:

الأول: «الظُّلُمَاتُ» الكفر كهذه الآية الكريمة.

الثاني: ظُلمة اللَّيلِ قال تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} يعني اللَّيل والنهار.

الثالث: الظُّلُمَات ظلمات البر والبحر والأهوال قال تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر} [الأنعام: 63] أي من أهوالهما.

الرابع: «الظُّلُمَات» بطون الأُمَّهات، قال تعالى:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6] يعني المشيمة والرحم والبطن.

الخامس: بطنُ الحُوتِ قال تعالى: {فنادى فِي الظلمات} [الأنبياء: 87] أي في بطنِ الحوت.

ص: 333

فصل في سبب النُّزولِ

ظاهر الآية يقتضي أنهم كانُوا في الكفر، ثم أخرجهم اللهُ تعالى من ذلك الكُفْرِ إلى الإِيمان، وها هنا قولان:

الأول: أَنَّ هذه الآية مختصَّةٌ بمن كان كافراً، ثم أَسلم، وذكر في سبب النُّزول روايات:

أحدها: قال مجاهدٌ: نزلت هذه الآية في قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث اللهُ سبحانه وتعالى محمداً عليه الصلاة والسلام آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى.

وثانيتهما: أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه الصلاة والسلام على طريقة النَّصَارى، ثم آمنوا بعده بمحمد عليه الصلاة والسلام فقد كان إِيمانهم بعيسى حين آمنوا به كفراً، وظلمةً، لأَنَّ القول بالاتِّحاد كفرٌ باللهِ تعالى، أخرجهم من تِلْكَ الظُّلمات إلى نور الإِسلامِ.

وثالثتها: أنها نزلت في كُلِّ كافر أسلم وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم َ -.

القول الثاني: أَنْ يحمل اللَّفظ على كُلِّ مَنْ آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم َ - سواء كان ذلك الإيمان بعد كُفْرٍ، أو لم يكن؛ لأنه إخراج من ظُلُمات الكفر إلى نور الإِسلامِ؛ لقوله تعالى:

{وَكُنْتُمْ

على

شَفَا

حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} [آل عمران: 103] ومعلومٌ أَنهم ما كانوا في النار أَلْبَتَّةَ، وقال في قِصَّة يُوسُف عليه الصلاة والسلام {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 37] ولم يكن فيها قطّ، وسمي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم َ - إنساناً يقولُ: أشهد ألا إله إِلا الله، فقال:«عَلَى الفِطْرَةِ» ، فلما قال: أشهَدُ أَنَّ محمداً رسول اللهِ قال: «خَرَجَ مِنَ النَّارِ» ، ومعلوم أنه ما كان فيها.

روي أنه عليه السلام أقبل على أَصحابه، فقال «تَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ تَهَافُتَ الجَرَادِ، وَهَا أَنَا آخِذٌ بِحُجزِكُم» ومعلوم أَنَّهم ما كانوا متهافتين في النَّارِ.

فصل

استدلَّ بعضُ العُلماء بهذه الآية على أَنَّ الغاية تدخل في المُغيَّا. لقوله تعالى على لسانه -

ص: 334

عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» فلو لم يدخلون في النُّور لم يخرجهم من الظُّلمات إِلى النُّور، ولو لم تدخل الغايةُ في المُغيّا، لما أدخلوهم في النُّور.

فصل

فإن قيل: هذه الآية صريحة في أَنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي أخرج الإِنسان من الكُفْر، وأدخله في الإيمان، فيلزمُ أن يكون الإِيمانُ بخلق الله تعالى؛ لأَنَّهُ لو حصل بخلق العبد، لكان العبدُ هو الذي أخرجَ نفسهُ من الكُفر إلى الإِيمان وذلك يناقض صريح الآية.

أَجَاب المعتزلةُ بأَنَّ هذا محمولٌ على نصبِ الأَدلَّةِ وإِرسال الأنبياء، وإِنزالِ الكُتُبِ، والتَّرغيب في الإِيمانِ، والتَّحذير عن الكُفْرِ بأقصى الوجوه:

قال القاضي: وقد نَسَبَ اللهُ الإِضلال إِلى الصَّنَم بقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 36] ، لأجل أَنَّ الأَصْنَامَ سبب بوجه ما لضلالهم، فبأن يضاف الإِخراج من الظُّلمات إلى النُّور إلى الله تعالى مع قوَّةِ الأسبابِ التي فعلها بمن يؤمن أولى.

والجواب: من وجهين:

أحدهما: أَنَّ هذا حمل للَّفظ على خلاف حقيقته.

الثاني: أَن هذه التَّرغيبات إِنْ كانت مؤثرة في ترجيح الدَّاعية، صار الرَّاجح واجباً والمرجوح ممتنعاً، وحينئذٍ يبطلُ قولهم، وإن لم تؤثر في التَّرجيح لم يصحّ تسميتها بالإِخراج.

قوله تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} : «الذين» مبتدأ أولُ، وَأَوْلياؤهم مبتدأ ثانٍ، وَالطَّاغُوتُ: خبرهُ، والجملةُ خبرُ الأَوَّلِ. وقرأ الحسنُ «الطَّوَاغيت» بالجمع، وإن كان أصلُه مصدراً؛ لأنه لمَّا أطلق على المعبود مِنْ دُونِ الله اختلفَت أنواعهُ، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضميرِ مَجْمُوعاً من قوله:«يُخْرِجونهم» .

قوله: «يُخْرِجونهم» هذه الجُملة وما قبلها من قوله: «يُخْرِجُهم» الأحسنُ ألَاّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ، لأَنَّهُمَا خَرَجا مخرجَ التفسير للولاية، ويجوزُ أن يكونَ «يُخْرِجُهم» خبراً ثانياً لقوله:«الله» وَأَنْ يكونَ حالاً من الضَّمير في «وليُّ» ، وكذلك «يُخْرِجُونَهُم» والعاملُ في الحالِ ما في معنى الطَّاغُوتِ، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسيُّ في قوله تعالى:

{نَزَّاعَةً للشوى} [المعارج: 16] إنها حالٌ العاملُ فيها «لَظَى» وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى و «مَنْ» [و]«إِلى» مُتعلِّقان بفعلي الإِخراج.

ص: 335

فإن قيل كيف قال «يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلى الظُّلماتِ» وهم كفارٌ لم يكونوا في نور قطّ.

فالجواب هم اليهود كانوا مؤْمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم َ - قبل أنْ يُبعث لما يجدون في كتبهم من نعته، فلما بُعث كَفَرُوا به.

وقال مُقاتلٌ: يعني كعب بن الأَشرف وحيي بن أخطب، وسائر رؤوس الضلالة؛ «يُخْرِجُونَهُم» يدعونهم.

وقيل هو على العُموم في حقِّ جميع الكُفَّار، وقالوا: منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج، كما يَقُولُ الرَّجُل لأبيه أخرجتني من مالك، ولم يكن فيه، ولما قدَّمنا في التي قبلها.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجت المعتزلةُ بهذه الآية الكريمة على أَنَّ الكُفْر ليس من الله تعالى، قالوا: لأنه تعالى أضافه إلى الطَّاغوت لا إلى نفسه.

وأُجيبوا بأَنَّ إسناد هذا إلى الطَّاغُوت مجاز بالاتفاق بيننا وبينكم؛ لأن المراد ب «الطَّاغُوت» على أظهر الأقوال هو الصَّنَمُ، وإذا كانت هذه الإضافة مجازية بالاتفاق، خرجت عن أن تكُون حجة لكم.

قوله: {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يحتمل أَنْ يرجع ذلك إلى الكُفَّار فقط ويحتمل أَنْ يرجع إلى الكُفَّار والطَّواغيت معاً.

ص: 336

تقدَّم الكلامُ في {أَلَمْ تَرَ إِلَى} في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] قال القرطبيّ: وهذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التَّعجب، أي: أعجبوا له قال الفرَّاء: «أَلَمْ تَرَ» ، بمعنى: هل رأيتَ الَّذي حاجَّ إبراهيم، وهل رأَيْتَ الَّذي مرَّ على قرية؟

وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: بِسُكون الرَّاء وتقدَّم أيضاً توجيهها. والهاءُ في «رَبِّهِ» فيها قولان:

أظهرهما: أنها تعود على «إبراهيم» .

ص: 336

والثاني: على «الَّذِي» ، ومعنى حاجَّه: أظهرَ المغالبة في حجته.

فصل

أعلم أَنَّه تعالى ذكر ها هنا قصصاً ثلاثاً.

الأولى: في بيان إِثبات العالم بالصَّانع، والثانية والثالثة: في إثبات الحشرِ والنَّشرِ والبعث.

فالأولى مناظرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ملك زمانِهِ، وهي هذه.

قال مجاهِدٌ هو النُّمروذُ بن كنعانَ بن سام بن نُوح، هو أول من وضع التَّاجَ على رأسه، وتجبر وادَّعى الرُّبوبية؛ حاجَّ إبراهيم أي: خاصمَهُ وجادله، واختلفوا في وقتِ هذه المحاجَّةِ. فقال مقاتل: لمّا كسَّرَ الأَصنامَ سجنه النمروذ، ثم أخرجه ليحرقهُ فقال [له] : من رَبُّكَ الذي تَدعُونا إليه؛ فقال: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .

وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النَّار.

وقال قتادةُ: هو أَوَّلُ من تَجَبَّرَ، وهو صاحب الصَّرح ببابل.

وقيل هو نُمروذُ بن فالج بن عابر بن شالخ بن أَرفخشذ بن سام، وحكى السُّهيليُّ أنه النُّمروذُ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وكان ملكاً على السَّواد، وكان ملكه الضحاك الَّذي يُعْرَفُ بالأزدهاق وذلك أن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ، وكان النَّاسُ يمتارون من عنده الطَّعام، وكان إذا أتاه الرَّجلُ في طلب الطَّعام سأَلَ: مَنْ رَبُّكَ فإن قال: أَنْت؛ نال من الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه، فقال له نمروذُ: من رَبُّكَ؛ فقال له إبراهيم: ربيّ الّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ. فاشتغل بالمحاجَّة، ولم يعطه شيئاً، فرجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام ُ فمر على كثيبٍ من رَمْلٍ أعفرٍ، فأخذ منه تطييباً لقلوبِ أهْلِه إذا دخل عليهم؛ فلما أَتى أَهلهُ، ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأَتهُ؛ فصنعت له منه فقربته إليه، فقال من أين هذا؟ قالت مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جئت به، فعرف أن الله - تعالى - رزقه فَحَمَدَ اللهَ تعالى.

قوله: {أَنْ آتَاهُ الله} فيه وجهان:

أظهرهما: أَنَّهُ مفعولٌ من أجله على حذفِ العِلّة، أي: لأَنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهوران، أعني النَّصب، أو الجرِّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِّ قبل «

ص: 337

أَنْ» ؛ لأَنَّ المفعول مِنْ أجلهِ هنا نَقَّص شرطاً، وهو عدمُ اتِّحادِ الفاعلِ، وإنما حُذفت اللامُ، لأَنَّ حرف الجرِّ يطَّرد حذفُهُ معها، ومع أنَّ، كما تقدَّم.

وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ وجهان:

أحدهما: أَنَّهُ من باب العكسِ في الكلام بمعنى: أنه وضعَ المُحاجَّة موضع الشُّكْر، إذ كان مِنْ حقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْكِ، ولكنَّهُ عَمِلَ على عكس القضية، كقوله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]، وتقول:«عَادَاني فُلانٌ؛ لأني أَحسنت إليه» وهو باب بليغٌ.

والثاني: أَنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك؛ لأَنَّهُ أورثه الكِبْرَ وَالبَطَرَ، فَنَشَأَ عنهما المُحاجَّةُ.

الوجه الثاني: أنَّ «أَنْ» ، وما في حيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزَّمانِ، قال الزَّمخشريُّ رحمه الله «وَيَجُوزُ أن يكونَ التَّقديرُ: حاجَّ وقتَ أَنْ آتاهُ اللهُ» . وهذا الذي أجازه الزمخشريُّ فيه نظر؛ لأَنَّهُ إِنْ عنى أَنَّ ذلكَ على حذفِ مُضافٍ ففيه بُعْدٌ من جهةِ أَنَّ المحاجَّة لم تقع وقتَ إِيتاءِ اللهِ له المُلْك، إِلَاّ أَنْ يُتَجَوَّز في الوقتِ، فلا يُحْمَل على الظَّاهر، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَت ابتداء إيتاءِ المُلْك، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعت وقتَ وجود المُلْك، وإن عنى أَنَّ «أَنْ» وما حيِّزها واقعةٌ موقع الظَّرف، فقد نصَّ النَّحويون على منع ذلك وقالوا: لا يَنُوب عن الظَّرف الزَّماني إلا المصدرُ الصَّريحُ، نحو:«أَتيتُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ» ولو قلت: «أَنْ يصيحَ الدِّيكُ» لم يَجز. كذا قاله أبو حيَّان قال شهاب الدين وفيه نظرٌ، لأنه قال:«لا ينوبٌ عن الظَّرفِ إلا المصدرُ الصّريح» ، وهذا معارضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ «ما» المصدريةَ تنوبُ عن الزَّمانِ، وليست بمصدرٍ صريحٍ.

والضمير في «آتاه» فيه وجهان:

أظهرهما: أَنْ يعودَ على «الَّذِي» ، وهو قول جمهور المفسرين وأَجاز المهدويُّ أن يعودَ على «إِبْرَاهِيم» ، أي: ملك النُّبُوَّة. قال ابن عطيَّة: «هذا تَحاملٌ من التَّأْوِيل» ، وقال أبو حيان: هذا قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ الله تعالى قال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] والمُلْك عهدٌ، ولقوله تبارك وتعالى:{فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] . وعودُ الضَّمير إِلى أقرب مذكور واجب، وأقرب مذكورٍ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأجيب عن الأَوَّل بأَنَّ الملك حصل لآل إبراهيم، وليس فيها دلالةٌ على حصوله لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وعن الثاني: بأن الذي حاج إبراهيم كان هو المَلِكُ، فعود الضَّمير إليه أَوْلَى.

قوله: «إِذْ قَالَ» فيه أربعةُ أوجهٍ:

أظهرها: أَنَّهُ معمولٌ لحاجَّ.

ص: 338

والثاني: أن يكون معمولاً لآتاه، ذكرهُ أبو البقاء. وفيه نظرٌ من حيثُ إنَّ وقت إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم، {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، إِلَاّ أَنْ يُتَجَوَّز في الظَّرفِ كما تقدَّم.

والثالث: أن يكون بدلاً من {أَنْ آتَاهُ الله الملك} إذا جُعِلَ بمعنى الوقت، أجازه الزَّمخشريّ بناءً منه على أَنَّ «أَنْ» واقعةٌ موقعَ الظَّرف، وقد تقدَّم ضعفُهُ، وأيضاً فإِنَّ الظّرفين مختلفان، كما تقدَّم إلا بالتَّجوز المذكورِ.

وقال أبو البقاء رحمه الله «وَذَكَرَ بَعْضُهم أنه بَدَلٌ من» أَنْ آتَاهُ الملك «وليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ، فلو كان بدلاً لكان غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل» إذ «بمعنى» أَنْ «المصدرية، وقد جاء ذلك» انتهى. وهذا بناءً منه على أنَّ «أَنْ» مفعولٌ من أجله، وليست واقعةً موقع الظَّرفِ، أمَّا إِذَا كانت «أَنْ» واقعةٌ موقع الظرف فلا تكون بدل غلط، بل بدلُ كلِّ من كُلِّ، كما هو قول الزمخشري وفيه ما تقدَّم بجوابه، مع أَنَّه يجوزُ أَنْ تكون بدلاً مِنْ «أَنْ آتاهُ» ، و «أَنْ آتَاهُ» مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ؛ لأَنَّ وقتَ القولِ لاتِّسَاعِهِ مُشتملٌ عليه وعلى غيره.

الرابع: أَنَّ العامِلَ فيه «تَرَ» منق وله: «أَلَمْ تَرَ» ذكره مكيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الرُّؤية على كِلَا المذكورين في نظيرها لم تكن في وقتِ قوله:{رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .

قوله: {الذي يُحْيِي} مبتدأٌ في محلِّ نصب بالقول.

فصل

الظَّاهر أن هذا جواب سؤالٍ سابق غير مذكورٍ؛ لأَنَّ الأَنبياء بعثوا للدَّعوة ومتى ادَّعى الرسالة والدَّعوة، فلا بدَّ وأن يطالبه المنكر بإثبات أَنَّ للعالم إلهاً؛ ألا ترى لما قال موسى عليه الصلاة والسلام {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] فاحتجَّ موسى على إثبات الإِله بقوله {رَبُّ السماوات والأرض} [الشعراء: 24] فكذا ها هنا لما ادَّعى إبراهيم عليه الصلاة والسلام الرِّسالة قال النُّمروذ من ربك؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت.

وقرأ حمزة: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} بإسكان الياء، وكذلك {حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش} [الأعراف: 33] {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض} [الأعراف: 146]، و {قُل لِّعِبَادِيَ الذين} [إبراهيم: 31] ، و {آتَانِيَ الكتاب} [مريم: 30] و {مَسَّنِيَ الضر} [الأنبياء: 83] و {مَسَّنِيَ الشيطان} [ص: 41] و {عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105]، و {عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] و {إِنْ أَرَادَنِيَ الله} [الزمر: 38] ، و {إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله} [

ص: 339

تبارك: 28] أسكن الياء فيهن حمزة؛ وافق ابن عامر والكسائي في «لعبادي الذين آمنوا» وابن عامر في «آيَاتِي الَّذِين» ، وفتحها الآخرون.

فصل

استدلَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام على إثبات الإله بالإحياء والإماتة، وهو دليلٌ في غاية القُوَّة لأَنَّهُ لا سبيل إلى معرفةِ اللهِ تعالى إِلَاّ بواسطة أفعاله التي لا يُشاركُهُ فيها أحدٌ من القادرين، والإحياء والإماتة كذلك؛ لأَنَّ الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري، وهذا الدَّليل ذكره اللهُ تعالى في مواضع من كتابه كقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى آخرها وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 4، 5] وقال: {الذي خَلَقَ الموت والحياة}

[الملك: 2] .

فإن قيل: لِمَ قدَّم هنا ذِكر الحياةِ على الموتِ في قوله {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، وقدَّمَ الموتَ على الحياةِ في آياتٍ كقوله {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] وقال {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2]، وحكى عن إِبراهيم عليه الصلاة والسلام قوله في ثنائِهِ على الله تعالى {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] .

فالجواب: أَنَّ الدَّليل إذا كان المقصود منه الدَّعوة إلى اللهِ - تعالى - يجب أَنْ يكون في غاية الوضُوح، ولا شكّ أَنَّ عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإِنسان عليها أتم، فلا جرم قَدَّم ذكر الحياة هُنا.

{قَالَ أَنَا أُحْيِي} مبتدأٌ، وخبرٌ منصوب المحلِّ بالقول أيضاً. وأخبر عن «أَنَا» بالجملة الفعلية، وعن «رَبّي» بالموصولِ بها؛ لأَنَّه في الإِخبار بالموصولِ يُفيد الاختصاص بالمُخبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإِنَّهُ لم يدَّعِ لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك.

و «أَنَا» : ضميرٌ مرفوعٌ مُنفصلٌ، والاسمُ منه «أَنَ» والألفُ زائدةٌ؛ لبيان الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفت وصلاً، ومن العربِ مَنْ يثبتها مطلقاً، فقيل: أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف؛ قال القائل في ذلك: [المتقارب]

1189 -

وَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالي القَوَا

فِي بَعْدَ المَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا

وقال آخر: [الوافر]

1190 -

أَنَا سَيْفُ فَاعْرِفُونِي

حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَاما

ص: 340

والصحيح أنه فيه لغتان، إحداهما: لغةُ تميم، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً، وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإِنَّه قرأ بثبوت الألف وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، أو مفتوحةٍ نحو:{وَأَنَاْ أَوَّلُ} [الأعراف: 143]، واختلف عنه في المكسروة نحو:{إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ} [الشعراء: 115]، وقرأ ابن عامرٍ:{لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف: 38] على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وهذا أحسنُ من توجيه مَنْ يَقُولُ «أُجْري الوصلُ مجرى الوَقْفِ» . واللُّغة الثانية: إثباتُها وَقْفاً وحَذفُها وَصْلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إِلَاّ ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل «أَنَا» كلُّه ضمير.

وفيه لغاتٌ: «أَنا وأَنْ» - كلفظ أَنِ النَّاصبةِ - و «آن» ؛ وكأنه قَدَّم الألف على النون، فصار «أانَ» ، قيل: إنَّ المراد به الزَّمان، وقالوا: أَنَهْ، وهي هاءُ السَّكْتِ، لا بدلٌ من الألف؛ قال:«هكذا فَرْدِي أَنَهْ» ؛ وقال آخر: [الرجز]

1191 -

إِنْ كُنْتُ أَدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ

مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أَنِّي مَنْ أَنَهْ

وإنما أثبت نافعٌ ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللُّغتين، أو لأَنَّ النُّطقَ بالهمزِ عسرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ.

فصل

قال أكثرُ المفسِّرين: لما احتج إبراهيم عليه الصلاة والسلام على إثبات الإله بالإحياء، والإماتة؛ دعا النُّمروذ برجلين، فقتل أحدهما، واستبقى الآخر، وقال: أَنَا أيضاً أحيي وأُميت، فجعل تَرْكَ القتلِ إِحياءً.

قال ابن الخطيب: وعندي أَنَّه بعيد؛ لأَنَّ الظَّاهر من حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه شرح حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة ومتى شرحه امتنع أَن يشتبه على العاقل الإِماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أَنْ يكونُوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق، والمرادُ من الآية - واللهُ أعْلَمُ -

ص: 341

أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما احتجّ بالإحياء، والإِماتة قال المنكر: أتدعي الإِحياء والإِماتة مِن اللهِ ابتداء من غير واسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، أو بواسطتها.

أَمَّا الأَوَّل: فلا سبيل إليه، وأَمَّا الثَّاني، فلا يدلُّ على المقصود، لأَنَّ الواحد منا يقدر على الإِحياء والإِماتة بواسطة سائر الأسباب فإِنَّ الجماع قد يُفْضي إلى الولد الحيّ بواسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، وتناول السّم قد يفضي إلى الموت، فلما ذكر النُّمروذ هذا السُّؤَال على هذا الوجه؛ أجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال:[هب أَنَّ الإِحياء، والإماتة] حصلا من الله تعالى بواسطة الاتِّصالات الفلكية إلَاّ أنه لا بُدَّ لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مُدَبّر، فإذا كان المُدبِّر لتلك الحركات الفلكيّة هو اللهُ تعالى؛ كان الإِحياءُ والإماتةُ الصَّادران من البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية ليست كذلك؛ لأنه لا قدرة للبشر على الاتِّصالات الفلكية؛ فظهر الفرقُ.

إذا عرف هذا فقوله تعالى: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق} ليس دليلاً آخر، بل من تمام الدَّليل الأَوَّل؛ ومعناه: أَنَّهُ وإن كان الإحياء والإماتة [من اللهِ] بواسطة حركات الأَفلاك إِلَاّ أن حركات الأفلاك من اللهِ تعالى فكان الإِحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأَسباب السَّماويَّة والأَرضيَّة إلَاّ أن تلك الأَسباب ليس واقعة بقدرته؛ فثبت أَنَّ الإِحياء والإِماتة الصَّادرين عن البشر ليسا على ذلك الوجه، فلا يصلح نقضاً عليه، فهذا هو الَّذي اعتقده في كيفيَّة جريان هذه المناظرة، لا ما هو المشهورُ عند الكلِّ واللهُ أَعلمُ بحقيقة الحال.

قوله: {فَإِنَّ الله} هذه الفاءُ جواب شرطٍ مقدَّر تقديره: قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام إِنْ زعمتَ، أو موَّهْتَ بذلك فإِنَّ اللهَ. ولو كانت الجملةُ محكيَّةً بالقول، لما دخلت هذه الفاءُ، بل كان تركيب الكلام: قال إبراهيم: إِنَّ اللهَ يَأْتِي، وقال أبو البقاء رحمه الله:«دَخَلَتِ الفاءُ؛ إيذاناً بتعلُّق هذه الكلام بما قبلَه، والمعنى: إذا ادَّعيت الإِحياءَ والإِماتة، ولم تفهم، فالحُجَّة أَنَّ الله تعالى يأتي، هذا هو» المعنى «والباءُ في» بالشَّمْسِ «للتعديةِ، تقول: أَتَتِ الشَّمْسُ، وأَتَى اللهُ بها، أي: أجاءها، و» مِنَ المَشْرِقِ «و» مِنَ المَغْرِبِ «متعلِّقان بالفعلين قبلهما، وأجاز أبو البقاء فيهما بعد أَنْ مَنع ذلك أن يكونا حالين، وجعل التقدير: مُسخَّرةً أو منقادةً قال شهاب الدين رحمه الله: وليته استمر على منعه ذلك.

فصل

للناس ها هنا طريقان:

أحدهما: طريقة أكثر المفسِّرين: وهو أنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما

ص: 342

رأى من النُّمروذ إِلقاءَ تلك الشُّبهة، عدل إلى دليل آخَرَ أوضح من الأَوَّل، فقال:{فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق، فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} فزعم هؤلاء أن الانتقال مِنْ دليل إلى دليلٍ أوضح منه جائزٌ للمستدلِّ.

فإن قيل: هلَاّ قال النمروذُ فليأتِ بها ربُّك من المغربِ.

قلنا: الجوابُ من وجهين:

أحدهما: أن هذه المُحاجَّة كانت بعد إلقاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النَّار وخروجه منها سالماً، فعلم أَنَّ من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق، يقدر على أن يأتي بالشَّمس من المغرب.

والثاني: أن الله تعالى خذله وأنساه إيرادَ هذه الشُّبهة؛ نصرةً لنبيِّه صلى الله عليه وسلم َ -.

والطريقُ الثاني: قاله المحقِّقون: إن هذا ليس بانتقالٍ من دليل إلى دليلٍ، بل الدليلُ واحدٌ في الموضعين، وهو أنا نرى حدوث الأشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، فلا بُدَّ من قادر آخر يتولَّى إحداثها، وهو سبحانه وتعالى، ثم إنَّ قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، أمثلةٌ؛ منها: الإِحياء والإِماتة، ومنها: السحاب، والرعد، والبرق، ومنها: حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدلُّ لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليلٍ، ولكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً، فله أن ينتقل مِنْ ذلك المثال إلى مثالٍ آخر، فيكون ما فعله إبراهيم عليه السلام من باب ما يكونُ الدليلُ فيه واحداً، إلَاّ أنه يقع الانتقال عند إيضاحه مِنْ مثالٍ إلى مثالٍ آخر، وليس ما يقع [من باب الانتقال من دليل إلى دليل آخر] .

قال ابن الخطيب: وهذا الوجه أحسن من الأوَّل وأليقُ بكلام أهل التحقيق، وعليه إشكالات من وجوه:

الإشكال الأول: أن صاحب الشُّبهة، إذا ذكرها وقعت في الأسماع، وجب على المحقِّ القادر على الجواب أن يجيب في الحال؛ إزالةً لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدَّليل الأوَّل أو في المثال الأول بتلك الشبهة، كان الاشتغال بإبطال تلك الشبهة واجباً مضيِّقاً، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب.

الإشكال الثاني: أن المبطل لمَّا أورد تلك الشُّبهة، فإذا ترك المحق الجواب عنها، وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه الأوَّل، كان ضعيفاً ساقطاً، وأنه ما كان عالماً بضعفه، وأن ذلك المبطل، علم وجه ضعفه، ونبَّه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط شأن المحقِّ، وهو لا يجوز.

ص: 343

الإشكال الثالث: أنَّه وإن كان يحسن الانتقال من دليلٍ إلى دليلٍ آخر، أو من مثالٍ إلى مثالٍ آخر، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وها هنا ليس كذلك؛ لأنَّ جنس الإحياء والإماتة لا قدرة للخلق عليهما، وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرةق عليه ولا يبعد في العقل وجود ملكٍ عظيم في الجثة أعظم من السموات، وأنه هو الذي يحرِّك السموات، وعلى هذا التقدير فالاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من الاستدلال بطلوع الشَّمس على وجود الصانع، فكيف يليق بالمعصوم أن ينتقل من الدَّليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفيِّ.

الإشكال الرابع: أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من دلالة طلوع الشَّمس عليه؛ لأنَّا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدّلات واختلافات، والتبدُّل قويّ الدلالة على الحاجة إلى المؤثِّر القادر، وأمَّا الشمس فلا نرى في ذاتها تبدُّلاً، ولا في صفاتها، ولا في منهج حركاتها ألبتَّة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأجلى لأقوى للأضعف الأخفى، وإنه لا يجوز.

الإشكال الخامس: أنَّ النمروذ، لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تبارك وتعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشَّمس أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إلهٌ، فقل له يطلعها من المغرب؛ وعند ذلك التزم المحقِّقون من المفسِّرين ذلك، فقالوا: إنه لو أورد هذا السُّؤال، لكان من الواجب أن تطلع الشَّمس من المغرب، ومن المعلوم: أن إفساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثيرٍ من إلزامه بطلوع الشَّمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشَّمس من المشرق دليلاً على وجود الصَّانع، وحينئذٍ يصير دليله الثَّاني ضائعاً؛ كما صار دليله الأوَّل ضائعاً، فالذي حمل سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام على أن يترك الجواب عن ذلك السؤال الرَّكيك، والتزام الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال والتمسُّك بدليلٍ لا يمكنه تمشيته، إلا بالتزام طلوع الشَّمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب، فإنه يضيع دليله الثَّاني أيضاً كما ضاع الأوَّل، والتزام هذه المحذورات لا يليق بأقلِّ الناس علماً؛ فضلاً عن أفضل العقلاء، وأعلم العلماءس، فظهر بهذا أنَّ الذي أجمع جمهور المفسِّرين عليه ضعيفٌ.

قال ابن الخطيب: وأما الوجه الذي ذكرناه، فلا يتوجَّه عليه شيءٌ من هذه الإشكالات، لأنَّا نقول: لما احتجَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالإحياء والإماتة، أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء، وهو أنَّك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا

ص: 344

بواسطةٍ، فلا تجد إلى إثبات ذلك سبيلاً، وإن ادعيت حصولها بواسطة حركات الأفلاك، [فنظيره أو ما يقرب منه حاصلٌ للبشر؛ فأجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن الإحياء والإماتة، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك] ، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى؛ بخلاف الخلق، فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك، فلا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، وعلى هذا تزول الإشكالات المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[قال القرطبيُّ: وروي في الخبر أن الله تعالى قال: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى آتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ لِيُعْلَمَ أَنِّي أَنَا القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ.

» ] «قوله: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} الجمهور:» بُهِتَ «مبنيّاً للمفعول، والموصول مرفوعٌ به، والفاعل في الأصل هو إبراهيم، لأنه المناظر له، ويحتمل أن يكون الفالع في الأصل ضمير المصدر المفهوم من» قَالَ «، أي: فبهته قول إبراهيم، وقرأ ابن السَّميفع:» فَبَهَتَ «بفتح الباء والهاء مبنيّاً للفاعل، وهذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون الفعل متعديّاً، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، و» الَّذِي «هو المفعول، أي: فبهت إبراهيم الكافر، أي: غلبه في الحجَّة، أو يكون الفاعل الموصول، والمفعول محذوفٌ، وهو إبراهيم، أي: بهت الكافر إبراهيم، أي: لمَّا انقطع عن الحجَّة بهته، أي: سبَّه وقذفه حين انقطع، ولم تكن له حيلةٌ.

والثاني: أن يكون لازماً، والموصول فاعلٌ، والمعنى معنى بهت، فتتَّحد القراءتان، أو بمعنى أتى بالبهتان، وقرأ أبو حيوة:» فَبَهُتَ «بفتح الباء، وضمِّ الهاء، كظرف، والفاعل الموصول، وحكى الأخفش: فَبَهِتَ بكسر الهاء، وهو قاصر أيضاً، فيحصل فيه ثلاث لغاتٍ: بَهَت بفتحهما، بَهُتَ بضم العين، بَهِتَ بكسرها.

قال عروة العدويُّ: [الطويل]

1192 -

فَمَا هُوَ إِلَاّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً

فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ

فالمفتوح يكون لازماً ومتعدياً، قال تعالى:{فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء: 40] .

ص: 345

والبَهْتُ: التحيُّر، والدَّهش، وبَاهَتَهُ وَبَهَتَهُ واجهه بالكذب، ومنه الحديث:» إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ «، وذلك أن الكذب يحيِّر المكذوب عليه.

ومعنى الآية: أنَّه: بقي مغلوباً لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جواباً.

قوله: {والله لَا يَهْدِي القوم الظالمين} . وتأويله على قول أهل السُّنة ظاهر، وأما المعتزلة، فقال القاضي: يحتمل وجوهاً:

منها: أنه لا يهديهم؛ لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق، كما يهدي المؤمن، فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع.

ومنها: لا يهديهم بزيادة الهدى والألطاف.

ومنها: لا يهديهم إلى الثواب أو لا يهديهم إلى الجنَّة.

والجواب عن الأول: أنَّ قوله:» لَا يَهْدِيهِمْ «إلى الحجاج إنما يصحُّ إذا كان الحجاج موجوداً؛ إذ لا حجاج على الكفر.

وعن الثاني: أن تلك الزيادة، إذا كانت ممتنعةً في حقِّهم عقلاً، لم يصحَّ أن يقال: إنه تبارك وتعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تبارك وتعالى لا يجمع بين الضِّدَّين، فلا يجمع بين الوجود والعدم.

وعن الثالث: أنه لم يهدهم للثواب ولم يجز للجنة ذكر فيبعد صرف اللَّفظ إليهما، بل اللائق بسياق الآية الكريمة أن يقال: إنه تعالى لما أخبر أن الدليل، لمَّا بلغ في الظهور والحجَّة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عن سماعه، إلَاّ أن الله تعالى لم يقدِّر له الاهتداء، لم ينفعه ذلك الدليل الظَّاهر، ونظير هذا التفسير قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] .

ص: 346

هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو «أَوْ» وهي هنا للتفضيل، وقيل: للتخيير بين التعجُّب من شأنهما، وقرأ سفيان بن حسين «أَوَ» بفتحها، على أنها واو العطف، والهمزة قبلها للاستفهام.

ص: 346

وفي قوله: «كَالَّذِي» أربعة أوجهٍ:

أحدها: أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين، قالوا: ونظيره من القرآن قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 85] ثم قال: {مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86 - 87] . فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه: لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر: [الوافر]

1193 -

مُعَاوِيَ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ

فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلَا الحَدِيدَا

فحمل على المعنى، وترك اللفظ، وتقدير الآية:

هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم، أو كالذي مرَّ على قريةٍ، هكذا قال مكيٌّ، أمَّا العطف على المعنى، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم؛ كقوله:[الطويل]

1194 -

تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ

بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلَا بِحَقَلَّدِ

وقول الأخر في هذين البيتين: [الوافر]

1195 -

أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ

وَلَا بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولَا

وَلَا مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ

بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولَا

فإنَّ معنى الأول: ليس بمكثِّر، ولذلك عطف عليه «وَلَا بِحَقَلَّد» ، ومعنى الثاني: أجِدَّك لست بِرَاءٍ، ولذلك عطف عليه «وَلَا مُتَدَارِكٍ» ، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه.

الثاني: أنه منصوبٌ على إضمار فعل، وإليه نحا الزمخشريُّ، وأبو البقاء، قال الزمخشريُّ:«أو كالَّذِي: معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي» ، فحذف لدلالة «أَلَمْ تَرَ» عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ، بخلاف العطف على المعنى.

ص: 347

الثالث: أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقول الآخر:[السريع أو الرجز]

1196 -

فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ

والتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة.

والرابع: أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش. قال شهاب الدِّين: وهو الصحيح من جهة الدليل، وإن كان جمهور البصريين على خلافه، فالتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى مثل الذي مرَّ، وهو معنى حسنٌ. وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب.

منها: معادلتها في الفاعلية ب «مِثْل» في قوله: [الطويل]

1197 -

وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ

ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ

ومنها دخول حروف الجر، والإسناد إليها. وتقدَّم [الكلام] في اشتقاق القرية.

قوله: «وهي خَاوِيَةٌ» هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ:

أحدها: أن تكون حالاً من فاعل «مَرَّ» والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه.

الثاني: أنها حالٌ من «قرية» : إمَّا على جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقاً؛ وهو ضعيف عند سيبويه.

الثالث: أنها حالٌ من «عُرُوشِهَا» مقدَّمةٌ عليه، تقديره: مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ.

الرابع: أن تكون حالاً من «هَا» المضاف إليها «عُرُوش» قال أبو البقاء: «والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه» انتهى. والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه، كونه بعض المضاف؛ لأنَّ «العُرُوشَ» بعض القرية، فهو قريب من قوله تعالى:{مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] .

ص: 348

الخامس: أن تكون الجملة صفةً لقرية، وهذا ليس بمرتضى عندهم؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى:{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4][فجعل: «وَلَهَا كِتَابٌ» ] صفةً، قال:«وتَوَسَّطَتِ الواوُ؛ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف» وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه، وفي ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً، بالواقعة حالاً، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى، ورتَّب أبو البقاء جعل هذه الجملة صفةً لقرية، على جواز جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» بدلاً من «قَرْيَةٍ» على إعادة حرف الجرِّ، ورتَّب جعل «وَهِي خَاوِيَةٌ» حالاً من العروش، أو من القرية، أو من «ها» المضاف إليها، على جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» صفةٌ للقرية، وهذا نصُّه، قد ذكرته؛ ليتضح لك، فإنه قال: وقد قيل: هو بدلٌ من القرية تقديره: مرَّ على قريةٍ على عروشها، أي: مَرَّ على عروش القرية، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل، ويجوز أن يكون «عَلَى عُرُوشِهَا» على هذا القول صفةً للقرية، لا بدلاً، تقديره: على قرية ساقطةٍ على عروشها، فعلى هذا لا يجوز أن تكون «وَهِيَ خَاوِيَةٌ» حالاً من العروش وأن تكون حالاً من القرية؛ لأنها قد وصفت، وأن تكون حالاً من «هَا» المضاف إليه، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى.

قوله: {على عُرُوشِهَا} فيه أربعة أوجهٍ:

أحدها: أن يكون بدلاً من «قرية» بإعادة العامل.

الثاني: أن يكون صفةً ل «قَرْيَةٍ» كما تقدَّم فعلى الأول: يتعلَّق ب «مَرَّ» ؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوفٍ، أي: ساقطةٍ على عروشها.

الثالث: أن يتعلَّق بنفس خاوية، إذا فسَّرنا «خَاوِيَةٌ» بمعنى متهدِّمة ساقطة.

الرابع: أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوف قالوا: هو لفظ «ثَابِتَةٌ» ؛ لأنهم فسَّروا «خَاوِيَةٌ» بمعنى: خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ، ولا يتبادر إليه الذهن، وقيل:«عَلَى» بمعنى «مَعَ» ، أي: مع عروشها، قالوا: وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية.

وقيل: «عَلَى» بمعنى «عَنْ» أي: خاويةٌ عن عروشها، جعل «عَلَى» بمعنى «عَنْ» كقوله:{إِذَا اكتالوا عَلَى الناس} [المطففين: 2] أي: عنهم.

والخاوي: الخالي. يقال: خوت الدار تخوي خواءً بالمد، وخويّاً، وخويت - أيضاً - بكسر العين تَخْوَى خَوّى بالقصر، وخَوْياً، والخَوَى: الجوع؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد. والخويُّ على فعيل: البطن السَّهل من الأرض، وخوَّى البعير: جَافَى جنبه عن الأرض؛ قال القائل في ذلك: [الرجز]

ص: 349

1198 -

خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ

كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ

ومنه الحديث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم َ - إِذَا سَجَدَ خَوَّى» أي: خلا عن عضده، وجنبيه، وبطنه، وفخذيه، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه، ويقال للبيت إذا انهدم خوى؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت.

والعُرُوشُ: جمع عرش، وهو سقف البيت، وكذلك كلُّ ما هُيِّىءَ ليستظلَّ به، وقيل: هو البنيان نفسه؛ قال القائل في ذلك: [الكامل]

1199 -

إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ

بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ

اختلفوا في الذي مرَّ بالقرية فقال مجاهد، وأكثر المفسرين من المعتزلة: كان رجلاً كافراً شاكّاً في البعث.

وقال قتادة، وعكرمة، والضحاك، والسديُّ: هو عُزَيرُ بن شرخيا.

وقال وهب بن منبه، ورواه عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما هو إرمياء بن خلقيا، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: إنَّ إرمياء هو الخضر عليه السلام، وهو من سبط هارون بن عمران عليه الصلاة والسلام وهو قول محمد بن إسحاق.

وقال وهب بن منبِّه: إنَّ إرمياء، هو النبي صلى الله عليه وسلم َ - الذي بعثه الله عندما خرَّب بخت نصَّر بيت المقدس، وأحرق التوراة.

واحتجَّ من قال إنه كان كافراً بوجوه:

الأول: استبعاده الإحياء بعد الإماتة من الله وذلك كفرٌ.

فإن قيل: يجوز وقوع ذلك منه قبل البلوغ.

ص: 350

قلنا: لو كان كذلك، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصَّبيُّ لا يتعجَّب من شكِّه في مثل ذلك، وضعَّفوا هذه الحجة؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشَّكِّ في قدرة الله تعالى، بل يحتمل أن يكون بسبب اطِّراد العادات في أنَّ مثل ذلك الموضع الخراب قلَّما يصيِّره الله معموراً، كما أنَّ الواحد إذا رأى جبلاً، فيقول: متى يقلب الله هذا ذهباً، أو ياقوتاً؟ لا أن مراده الشَّكُّ في قدرة الله، بل إنَّ ذلك لا يقع في مطرد العادات، فكذا ها هنا.

الحجة الثانية: قوله تعالى في حقه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة، ما كان حاصلاً له قبل ذلك، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسمل أنه لم يكن حاصلاً له.

الحجة الثالثة: قوله: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد، وطمأنينة، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك.

الحجة الرابعة: انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم.

واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه:

منها قوله تعالى: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة.

ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله: {كَمْ لَبِثْتَ} وبقوله: {بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ} ، وبقوله:{فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ} ، وبقوله:{وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ، وبقوله {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر، قال تعالى:{والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] ، فجعله آية للناسن دليلٌ على مزيد التشريف.

ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير، ومنهم العزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى «بابل» فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ، وهو على حمارٍ، فربط حماره، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، فعجب من ذلك، وقال {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب، ونام فأماته الله في منامه مائة عام

ص: 351

وهو شابٌّ ثم أعمى عنه عيون الإنس والسِّباع والطَّير، ثمَّ أحياه الله بعد المائة، ونودي من السَّماء يا عزير «كَمْ لَبِثْتَ» بعد الموت، فقال:«يَوْماً» وذلك أن الله أماته ضحًى في أول النهار، وأحياه بعد مائة عامٍ آخر النَّهار قبل غيبوبة الشَّمس، فلما أبصر من الشَّمس بقيةً قال:«أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» فقال الله تبارك وتعالى: {بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ} من التِّين، والعنب «وَشَرَابِكَ» من العصير لم يتغير طعمه، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما قال:«وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ» فنظر فإذا هو عظامٌ بيض تلوح وقد تفرَّقت أوصاله، وسمع صوتاً: أيَّتها العظام البالية، إنِّي جاعلٌ فيك روحاً، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعضٍ، ثم التصق كلُّ عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع، والذِّراع إلى مكانه، ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب والعروق، ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد، ثمَّ نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق، فخرَّ عزير ساجداً، وقال:{أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم إنَّه دخل بيت المقدس.

فقال القوم: حدَّثنا آباؤنا: أنَّ عزير بن شرخيا مات ببابل، وقد كان بختنصر قد قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة، وكان فيهم عزير، والقوم ما عرفوا أنَّه يقرأ التوراة، فلمَّا أتاهم بعد مائة عام جدَّد لهم التوراة، وأملاها عليهم عن ظهر قلبه، فلم يخرم منها حرفاً، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاها فما اختلفا في حرفٍ واحدٍ، فعند ذلك قالوا: عزير ابن الله، وهذه الرواية مشهورة.

ويروى أنه أرميا عليه الصلاة والسلام فدلَّ على أنَّ المارَّ كان نبيّاً؛ واختلفوا في تلك القرية:

فقال وهبٌ، وقتادة، وعكرمة، والربيع هي: إيلياء، وهي بيت المقدس، وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت، وعن ابن زيد أيضاً أن القوم الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوفٌ حذر الموت فقال الله لهم: موتوا، مرَّ عليهم رجلٌ، وهم عظامٌ تلوح فوقف ينظر؛ فقال:{أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ} .

قال ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذا الآية إنما تضمَّنت قريةً خاويةً، لا أنيس فيها، والإشارة ب «هذه» إنَّما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة، ووجود البناء والسكان.

قال القرطبي: روي في قصص هذه الآية: أنَّ الله تعالى بعث لها ملكاً من

ص: 352

الملوك، فعمرها وجدَّ في ذلك، حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل. وقيل: إنه لمَّا مضى لمدته سبعون سنةً، أرسل الله ملكاً من ملوك فارس عظيماً يقال له «كُوشَك» فعمَّرها في ثلاثين سنةً.

وقال الضحاك: هي الأرض المقدَّسة.

وقال الكلبيُّ: هي دير سابر أباد وقال السديُّ مسلم أباد، وقيل: دير هرقل.

وقوله: {أنى يُحْيِي هذه الله} في «أَنَّى» وجهان:

أحدهما: أن تكون بمعنى «متى» .

قال أبو البقاء رحمه الله: «فَعَلى هذا تكون ظرفاً» .

والثاني: أنَّها بمعنى كيف.

قال أبو البقاء رحمه الله: فيكون مَوْضِعُها حالاً من «هذه» ، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهرُ أنها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين: فالعاملُ فيها «يُحْيِي» ، و «بعد» أيضاً معمول له. والإحياء، والإماتة: مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً، أي: أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية، وجثثهم المتمزقة، دلَّ على ذلك السياق.

قوله: {مِئَةَ عَامٍ} قال أبو البقاء رحمه الله: «مائَة عامٍ» : ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف، تقديره:«فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام» ويدلُّ على ذلك قوله: «كَمْ لَبِثْتَ» ، ولا حاجة إلى هذين التأويلين، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام.

و «مِئة» عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامها محذوفة، وهي ياء، يدلُّ على ذلك قولهم:«أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ» ، أي: صيَّرتها مئة، فوزنها فعة ويجمع على «مِئَات» ، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل:[الطويل]

1200 -

ثَلَاثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا

رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ

كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها؛ كما قالوا: سنون: في سنة.

ص: 353

والعام: مدَّة من الزمان معلومةٌ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير: عويم، وفي التكسير:«أَعْوَام» .

وقال النقَّاش: «هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك، والعوم: هو السبح؛ وقال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال» .

فإن قيل: ما الحكمة في أنْ أماته الله مائة عامٍ، مع أنَّ الاستدلال بالإحياء بعد يومٍ، أو بعض يومٍ حاصل.

فالجواب: أنَّ الإحياء بعد تراخي المدَّة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدَّة، وبعد تراخي المدَّة يشاهد منه، ويشاهد هو من غيره، ما هو عجبٌ.

قوله: «ثُمَ بَعَثَهُ» ، أي: أحياه، ويوم القيامة يسمَّى يوم البعث؛ لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله: من بعثت الناقة، إذا أقمتها من مكانها.

فإن قيل: ما الحكمة في قوله تبارك وتعالى «ثُمَّ بَعَثَهُ» ولم يقل: ثمَّ أحياه؟

فالجواب: أن قوله: «بَعَثَهُ» يدلُّ على أنه عاد كما كان أوَّلاً: حيّاً، عاقلاً، فاهماً، مستعداً للنظر، والاستدلال، ولو قال: ثمَّ أحياه، لم تحصل هذه الفوائد.

قوله: «كَمْ» منصوبٌ على الظرف، ومميِّزها محذوفٌ تقديره: كم يوماً، أو وقتاً.

والناصب له «لَبِثْتَ» ، والجملة في محلِّ نصب بالقول، والظاهر أنَّ «أَوْ» في قوله:«يوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» بمعنى «بَلْ» للإضراب، وهو قول ثابت، وقيل: هي للشك.

فصل

قال ابن الخطيب: من الخوارق ما يمكن في حالة، ومن الناس من يقول في قصة أهل الكهف، والعزير: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه، ولكنه لا مؤاخذة به، وإلَاّ فالكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، وذلك لا يختلف بالعمل، والجهل؛ فعلى هذا يجوز أن يقال: إنَّ الأنبياء لا يعصمون عن السَّهو والنِّسيان، والقول الأوَّل أصحُّ.

قوله: «قَالَ بَلْ لَبِثْتَ» عطفت «بل» هذه الجملة على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره: ما لبثتَ يوماً أو بعض يوم، بل لبثت مئة عام. وقرأ نافع، وعاصم، وابن كثير: بإظهار الثَّاء في جميع القرآن الكريم، والباقون: بالإدغام.

ص: 354

فصل فيمن قال: كم لبثت

أجمعوا على أن ذلك القائل هو الله تعالى؛ لأنَّ ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره، وظهور البلى في عظامه، ما عرف به أنَّ تلك الخوارق لم تصدر إلَاّ من الله تعالى.

وقيل: سمع هاتفاً من السماء، يقول له ذلك.

وقيل: خاطبه جبريل، وقيل: نبيٌّ.

وقيل: مؤمنٌ شاهده من قومه عند موته، وعمِّر إلى حين إحيائه.

قال القرطبي: والأظهر أنَّ القائل هو الله عز وجل، لقوله تعالى:{وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} .

فإن قيل: إنه تعالى كان عالماً بأنه كان مَيْتاً، والميِّت لا يمكنه بعد أن صار حيّاً أن يعلم مدَّة موته طويلةً كانت أم قصيرةً؛ فلأيِّ حكمةٍ سأله عن مقدار المدة؟

فالجواب: أنَّ المقصود منه التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق، بقوله:{لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} على حسب ظنِّه؛ كما روي في القصة: أنه أماته ضحًى، وأحياه بعد المائة قبل غروب الشمس؛ فظن أنَّ اليوم لم يكمل، كما حكي عن أصحاب الكهف:{قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] على ما توهَّموه، ووقع في ظنِّهم.

وقول إخوة يوسف {ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلَاّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] وإنما قالوا ذلك؛ بناءً على إخراج الصُّواع من رحله.

قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال، وزعم بعضهم: أنَّ المضارع المنفيَّ ب «لَمْ» إذا وقع حالاً، فالمختار دخول واو الحال؛ وأنشد:[الطويل]

1201 -

بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ

وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ

وزعم آخرون: أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالاً بما، ولمَّا. وهذان الزَّعمان غير صحيحين؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن، قال تعالى:{فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174]، وقال تعالى:{أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}

[الأنعام: 93] فجاء النفي ب «لم» مع الواو ودونها.

ص: 355

فإن قيل: قد تقدَّم شيئان، وهما «طَعَامِكَ وشَرَابِكَ» ولم يعد الضَّمير إلَاّ مفرفاً، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ:

أحدهما: أنها لمَّا كانا متلازمين، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر، صارا بمنزلة شيء واحد؛ حتى كأنه [قال:] فانظر إلى غذائك.

الثاني: أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط؛ لأنه أقرب مذكور، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها. والتقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه، وإلى شرابك لم يتسنَّه، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه «فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه» ، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه، فعدم تغيُّر الطعام أولى، قال معناه أبو البقاء.

الثالث: أنه أفرد في موضع التثنية، قاله - أيضاً - أبو البقاء؛ وأنشد:[الكامل]

1202 -

فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ

أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ

وليس بشيءٍ.

وقرأ حمزة، والكسائي:«لَمْ يَتَسَنَّهْ» بالهاءِ وقفاً، وبحذفها وصلاً، والباقون: بإثباتها في الحالين. فأمَّا قراءتهما، فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ: فالهاءُ تحتملُ وجهين:

أحدهما: أن تكون - أيضاً - للسكت، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف، وهو في القرآن كثيرٌ، [سيمرُّ بك منه مواضع] فعلى هذا يكون أصل الكلمة: إِمَّا مشتقاً من لفظ «السَّنَةِ» على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع؛ قالوا:«سُنَيَّة وَسَنَوات» ؛ وعلى هذه اللغة قالوا: «سَانَيْتُ» أُبْدِلَتِ الواو ياءً؛ لوقوعها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ؛ قال الشاعر: [الكامل]

1203 -

...

...

...

... ..... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ

ص: 356

ويقولون في جمعها: سنوات فقلبوا الواو تاءً، والأصلُ: أَسْنُووا، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة؛ كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً.

وإما من لفظ «مَسْنُون» وهو المتغيرُ، ومنه {حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28] ، والأصلُ: يتَسَنَّنُ، بثلاثٍ نونات، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال، فأَبدلنا الأخيرة ياءً؛ كما قالوا في تظنَّن: تظنَّى، وفي قصَّصت أظفاري: قصَّيتُ، ثم أبدلنا الياء ألفاً؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ثم حُذِفت جزماً، قاله أبو عمرو، وخطَّأَه الزجاج، قال:«لأنَّ المسنونَ: المصبوبُ على سنن الطريق» .

وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال: «هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ» أي: تغيَّر، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً، إذ لو كان مشتقاً من «أَسِنَ الماءُ» لكان ينبغي حين منه تفعَّل، أَنْ يقال تأسَّنَ. ويمكن أَنْ يُجاب عنه: أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضع لامها، فبقي: يَتَسَنَّأ، بالهمزة آخراً، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً، كقولهم في قرأ:«قَرَا» ، وفي استهزأ:«اسْتَهْزا» ثم حُذفت جزماً.

والوجه الثاني: أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها، ويكونُ مشتقاً من لفظ «سَنَة» أيضاً، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً، وهم الحجازيون، والأصلُ: سُنَيْهة، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير، قالوا: سُنَيْهةٌ، وسُنَيْهَاتٌ، وسَانَهْتُ؛ قال شاعرهم:

1204 -

وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلَا رُجَبِيَّةٍ

وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ

ومعنى «لم يَتَسَنَّهْ» على قولنا: إِنَّهُ من لفظ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِهِ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه:«مِنْ قولك: أَسْنَى يُسْنِي، إذا مَضَتْ عليه سِنُون» ؛ لأنه يصير المعنى: لم تمضِ عليه سِنُون، وهذا يخالفه الحِسُّ، والواقع.

وقرأ أُبَيّ؛ «لَمْ يَسَّنَّهْ» بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ، والأَصْلُ:«لم يَتَسَنَّهْ» .

ص: 357

كما قُرِئ: {لَاّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ} [الصافات: 8]، والأصل: يَتَسَمَّعُونَ؛ فأُدغم، وقرأ طلحة بن مصرفٍ:«لِمِئَةِ سَنَةٍ» .

فإن قيل: لما قال تعالى: {بَلْ لبثت مائة عام} كان مِنْ حقِّه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} لا يدلُّ على أنه لبث مائة عامٍ، بل يدلُّ ظاهراً على قول المسؤول إنه لبث يوماً أو بعض يوماً.

فالجواب أنه ذكر ذلك ليعظم اشتياقه إلى طلب الدَّليل الذي يكشف هذه الشبهة، فلما قال تعالى:{وانظر إلى حِمَارِكَ} فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة، فعظُم تعجبه من قُدرة الله تعالى؛ فإنَّ الطعامَ، والشراب يسرع التغير إليهما، والحمارُ ربما بقي دهراً طويلاً عظيماً، فرأى ما لا يبقى باقياً، وهو الطعامُ، والشَّرابُ، وما يبقى غير باقٍ، وهو العظامُ فعظُم تعجبه من قدرة الله تعالى، وتمكّنت الحجةُ في قلبه، وعقله.

قوله: {وانظر إلى حِمَارِكَ} معناه أَنَّه عرَّفه طُول مدة موته، بأن شاهد انقلاب العِظام النخرة حيّاً في الحال، فإنه إذْ شاهد ذلك، علِمَ أن القادر على ذلك قادِرٌ على أَنْ يُميته مائة عام، ثم يُحْييه.

فإن قيل: إنَّ القادِرَ على إحياء العِظام النخرة، قادِرٌ على أَنْ يجعل الحمار عظاماً نخرة في الحال، وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طُول مدة الموت.

فالجواب: أَنَّ انقلاب العِظام إلى الحياة معجزةٌ دالَّةٌ على صدق قوله: «بَلْ لَبِثْتَ مائةَ عامٍ» . قال الضحاك: إنَّهُ تعالى بعثهُ شابّاً أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخٌ بيض اللِّحى، والرُّؤوس.

قوله: «وَلِنَجْعَلَكَ» فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديره: ولنجعلك فعلنا ذلك.

الثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره: فعلنا ذلك، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك.

الثالث: أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها، أي: وانظر إلى حِمارِك، لنجعلَكَ.

قال الفرَّاء: وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ، كان النظرُ إلى الحمار شرطاً، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال:«وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً» [كان المعنى: ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا، من الإماتة، والإحياء. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، كما زعم بعضهم؛ فقال: إن قوله: «وَلِنَجْعَلَكَ» مؤخر بعد قوله

ص: 358

تعالى: {وانظر إِلَى العظام} ، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجارّ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَنْ» وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ. و «آية» مفولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى: التصيير. و «لِلنَّاسِ» صفةٌ لآيةٍ، و «أَلْ» في الناس، قيل: للعهدِ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ، وقيل: للجنس، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم] .

قوله: {وانظر إِلَى العظام} .

أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام حمارُه، وقال آخرون: أراد بها عظام الرجلِ نفسه، قالوا: إِنَّ الله أَحْيَا رأسهُ وعينيه، وكانت بقيةُ بدنه، عظاماً نخرةً، فكان ينظرُ إلى أَجزاء عظام نفسه فرآها تجتمعُ، وينضمُّ بعضها إلى بعضٍ وكان يرى حمارَه واقفاً كما ربطه حين كان حيّاً لم يأكل، ولم يشرب مائة عام، وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك؛ وهو قولُ قتادة، والرَّبيع، وابن زيدٍ، وضُعِّف ذلك بوجوه:

منها: أَنَّ قوله «لَبِثْتُ يَوْمَا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» إنما يليقُ بمن لا يرى أثر التغير في نفسه، فيظن أنه كان نائِماً في بعض يومٍ، وأَمَّا من شاهد بعض أجزاءِ بدنه متفرقةً، وعظامُه رميمة نخرةً، فلا يليقُ به ذلك.

ومنها أنه خاطبُه، وأَجاب، والمجيب، هو الذي أَماتهُ اللهُ، فإذا كانت الإِماتةُ راجعةً إلى كله، فالمجيب - أيضاً - الذي بعثه اللهُ، يجب أن يكون جملة الشَّخص.

ومنها أَنَّ قوله - تعالى - {فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} يدلُّ على أَنَّ تلك الجملة أَحياها، وبعثها.

قوله: «كَيْفَ» منصوبٌ نصبَ الأَحوال، والعاملُ فيها «نُنْشِزُها» وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في «نُنْشِزُها» ، ولا يعملُ في هذا الحالِ «انظُرْ» إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام، فلا يعملُ فيه ما قبله، هذا هو القولُ في هذه المسألة، ونظائرها.

وقال أبو البقاء: «كيف نُنْشِزُها» في موضِعِ الحالِ من «العِظَامِ» ، والعاملُ في «كيف» نُنْشِزُها، ولا يجوز أن يعمل فيها «انظُرْ» لأنَّ هذه جملة استفهام، والاستفهامُ لا يقعُ حالاً، وإنما الذي يقعُ حالاً «كَيْفَ» ، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ، نحو:«كيف ضَرَبْتَ زيداً؛ أقائماً أم قاعداً» ؟

والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة، وأمثالها: أَنْ تكونَ جملةُ «كَيْفَ نُنْشِزُها» بدلاً مِنَ «العِظَامِ» فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ، وذلك أنَّ «نظر» البصرية

ص: 359

تتعدَّى ب «إِلَى» ، ويجوزُ فيها التعليقُ، كقوله تعالى:

{انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [الإسراء: 21] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به. ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ؛ لتصِحَّ البدليَّة، والتقدير: إلى حال العظام، ونظيرُهُ قولهم: عَرفْتُ زيداً: أبو مَنْ هُوَ؟ ف «أَبُو مَنْ» هو بدلٌ من «زَيْداً» ، على حذفٍ تقديرُهُ:«عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ» . والاستفهامُ في بابِ التعليقِ، لا يُراد به معناه؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقاً عليه، حكُم اللفظِ دونَ المعنى، و [هو] نظيرُ «أي» في الاختصاص، نحو:«اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ» فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه، وليس معناه عليه.

وقرأ أبو عمروٍ، والحرميَّان:«نُنْشِزُهَا» بضم النون، وكسر الشِّين، والراءِ المُهملةِ، والباقُون: كذلك؛ إلَاّ أَنَّها بالزاي المُعْجمة. وابن عباسٍ: بفتح النونِ، وضمِّ الشِّين، والراءِ المهملةِ أيضاً والنخعيّ: كذلك؛ إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِل عنه أيضاً ضمُّ الياءِ، وفتحِها مع الراءِ، والزاي.

فأَمَّا قراءة الحرميّين: فمن «أَنشَرَ اللهُ الموتى» بمعنى: أَحْيَاهم، وأمَّا قراءةُ ابن عباس: فَمِنْ «نَشَر» ثُلَاثيّاً، وفيه حينئذٍ وجهان:

أحدهما: أَنْ يكون بمعنى أَفعلَ، فتتحدَ القراءتان.

والثاني: أَنْ يكونَ مِنْ «نَشَرَ» ضِدَّ: طَوى، أي: يَبسُطها بالإِحياء، ويكونُ «نَشَرَ» أيضاً مطاوِع أَنْشَرَ، نحو: أَنْشَرَ الله الميتَ، فَنَشَرَ، فيكونُ المتعدي، واللازمُ بلفظٍ واحدٍ؛ إلَاّ أنَّ كونه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمة؛ لتعدِّي الفعل فيها، وإنْ كان في عبارة أبي البقاء رحمه الله في هذا الموضع بعضُ إبهامٍ؛ ومِنْ مجيء «نَشَر» لَازِماً قوله:[السريع]

1205 -

حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا

يَا عَجَباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ

فناشِر: مِنْ نَشَر؛ بمعنى: حَيِيَ. والمراد بقوله ننشرها، أي: نُحْييها، يقال أنشر الله الميتَ ونشرَهُ، قال تعالى:{ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 22] وقد وصف اللهُ العِظِام بالإِحياءِ في قوله: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ} [يس: 78، 79] .

ص: 360

وأَمَّا قراءةُ الزَّاي فمن «النَّشْزِ» وهو الارتفاعُ، ومنه:«نَشْزُ الأَرْضِ» وهو المرتفع، ونشوزُ المرأةِ، وهو ارتفاعها عن حالها إلى حالةٍ أُخرى، فالمعنى: يُحرِّك العِظام، ويرفعُ بعضها إلى بعضٍ للإِحياء.

قال ابن عطية: «وَيَقْلَقُ عندي أَنْ يكونَ النشوزُ رفعَ العِظَامِ بعضها إلى بعضٍ، وإنما النشوزث الارتفاعُ قليلاً قليلاً» ، قال:«وانظر استعمال العربِ، تَجده كذلك؛ ومنه:» نَشَزَ نَابُ البَعِير «و» أَنْشَزُوا، فَأَنْشَزوا «، فالمعنى هنا على التدرُّج في الفعلِ» فجعل ابنُ عطية النشوزَ ارتفاعاً خاصّاً.

ومَنْ ضَمَّ النونَ جعلهُ مِنْ «أَنْشَزَ» ، ومَنْ فَتَحها، فَمِنْ «نَشَزَ» ، يقال:«نَشَزه» و «أَنْشَزَه» بمعنى. ومَنْ قرأَ بالياءِ، فالضميرُ لله تعالى. وقرأ أُبيّ «نُنْشِئُها» من النَّشْأَةِ. ورجَّح بعضهم قراءة الزاي على الراء، بِأَنْ قال: العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ؛ بل بانضمام بعضِها إلى بعضٍ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى؛ إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ، فالموصُوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ، ولا يقال: هذا عظمٌ حيٌّ. وهذا ليس بشيءٍ؛ لقوله: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] .

ولا بُدَّ من ضميرِ محذوفٍ من قوله: «العِظام» أي؛ العظامِ منه، أي: من الحمارِ، أو تكونُ «أَلْ» قائمةً مقامَ الإِضافة، أي: عظامِ حمارِك.

قوله: «لَحْماً» مفعولٌ ثانٍ لِ «نَكْسُوها» وهو من باب أَعْطَى، وهذا من الاستعارة، ومثله قول لبيدٍ:[البسيط]

1206 -

الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِيني أَجَلِي

حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلَامِ سِرْبَالا

قوله: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ» في فاعل «تَبيَّن» قولان:

أحدهما: مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ، تقديرُهُ: فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها، وقدَّره الزمخشريُّ:«فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه» يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني.

والثاني: - وبه بدأ الزمخشري -: أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ، يعني أن «تَبَيَّن» يطلُبُ فاعلاً، و «أَعْلَمُ» يطلبُ مفعولاً، و «أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ» يصلُح أَنْ يكونَ فاعلاً لتبيَّن، ومفعولاً لأعلَمُ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع، وهذا نصُّه، قال: وفَاعِلُ «تبيَّن» مضمرٌ تقديره: فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ

ص: 361

على كل شيء قديرٌ، فحُذف الأَوَّل؛ لدلالةِ الثاني عليه، كما في قولهم:«ضَرَبَنِي، وضَرَبْتُ زَيْداً» فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني، وهو المختارُ عند البصريين، فلمَّا أعملَ الثاني، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلاً، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول، فكأنه قال: فلمَّا تبيَّن له، قال أعلمه أن الله. ومثله في إعمال الثاني:{آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96]{هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] لما ذكرت.

إِلَاّ أَنَّ أبا حيَّان ردَّ عليه بأنَّ شرط الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَينِ، وأَدْنى ذلك بحرفِ العطفِ - حتى لا يكون الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول، نحو:«جاءني يَضْحَكُ زيدٌ» فإنَّ «يَضْحَكُ» حالٌ عاملها «جاءني» فيجعل في: «جاءني» ، أو في:«يضحك» ضميراً؛ حتَّى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً، ولا يَردُ على هذا جعلُهُم «آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً»

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176]{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} [المنافقون: 5] و {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] من باب الإِعمال؛ لأنَّ هذه العوامل مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراكِ، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العَمَلِ، فإذا كان على ما نصُّوا، فليس العاملُ الثاني مُشْتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ، ولا بغيره، ولا هو معمولٌ للأول؛ بل هو معمولٌ لقال، و «قال» جوابُ «لَمَّا» إِنْ قلنا: إنَّها حرفٌ، وعاملةٌ في «لَمَّا» إن قلنا: إنها ظرفٌ، و «تبيَّن» على هذا القول مخفوضٌ بالظرف، ولم يذكر النحاةُ التنازع في نحو:«لَوْ جَاءَ قَتَلْتُ زيداً» ، ولا «لَمَّا جاء ضربت زيداً» ، ولا «حِينَ جاء قتلْتُ زيداً» ، ولا «إذا جاء قتلتُ زيداً» ، ولذلك حكى النحاةُ أَنَّ العربَ لا تقول:«أَكْرَمْتُ أَهْنتُ زيداً» - يعني لعدم الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قوله؛ حيثُ جعل الفاعل محذوفاً، كما تقدَّم في عبارتِهِ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمار في قوله:«وفاعِلُ تبيَّن مُضْمَرٌ» الحذفَ فهو قول الكسائيِّ؛ لأنه لا يُجيزُ إضمارَ المرفوع قبل الذكر فيدَّعي فيه الحذف، ويُنشد:[الطويل]

1207 -

تَعَفَّقَ بِالأَرْطَى لَهَا وَأَرَادَهَا

رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ

ولهذا تأويل مذكورٌ؛ ورُدَّ عليه بالسماع قال القائِلُ: [البسيط]

1208 -

هَوَيْنَنِي وَهَوَيْتُ الخُرَّدَ الْعُرُبَا

أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطاً بِي هَوًى وَصِبَا

ص: 362

فقال: «هَوَيْنَنِي» فجاءَ في الأَوَّل بضمير الإِناث، من غير حذفٍ. انتهى ما رُدَّ به عليه، قال شهاب الدِّين رحمه الله وفيه نظرٌ لا يخفى.

وقرأ ابن عبَّاس: «تُبُيِّن» مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ، الجارُّ والمجرورُ بعدَه. وابنُ السَّمَيْفع «يُبَيِّن» من غير تاء مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامه ضميرُ كيفية الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ.

قوله: {قَالَ أَعْلَمُ} الجمهورُ على: «قال» مبنيّاً للفاعلِ. وفي فاعله على قراءة حمزة والكسائي: «اعْلَمْ» أمراً من «عَلِمَ» قولان:

أظهرهما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك، أي: قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ.

الثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي، فخاطبها؛ ومنه:[البسيط]

1209 -

وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ.....

...

...

...

.

وقوله: [المتقارب]

1210 -

تَطَاوَلَ لَيْلُكَ

...

...

... .....

...

...

...

. .

يعني نفسه، قال أبو البقاء رحمه الله:«كما تقول لنفسك: اعلم يا عبد الله، ويُسَمَّى هذا التجريدَ» يعني: كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطباً يخاطِبُه.

وأمَّا على قراءةِ «أَعْلَمُ» مضارعاً [للمتكلم] وهي قراة الجمهور ففاعل «قال» ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلمُ أنا. وقرأ الأَعمشُ: «قِيل» مبنيّاً للمفعولِ. والقائمُ مقام الفاعل: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة.

[وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ: «اعلمْ» على الأَمر، والباقون: «أَعْلَمُ» مضارعاً] وقرأ الجعفيّ عن أبي بكر: «أَعْلِمْ» أَمْراً من «أَعْلَمَ» ، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل «قال» ما هو؟

ص: 363

فصلٌ في معنى قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ}

قال الطبريُّ: معنى قوله: «فلمَّا تبيَّنَ لهُ» أي: لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه، قال: أَعلمُ. قال ابن عطيَّة: وهذا خطأٌ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذِّ، وهذا عندي ليس بإِقرارٍ بما كان قبل ينكره، كما زعم الطبريُّ، بل هو قولٌ بعثه الاعتبارُ؛ كما يقول المؤمنُ إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى: لَا إِلَه إِلَاّ اللهُ، ونحو هذا. وقال أبو عليّ: معناه أعلم هذا الضرب من العلمِ الذي لم أكُن أَعْلَمه.

و «أَنَّ الله» في محلّ نصب، سادَّةً مسد المفعولين، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف.

ص: 364

هذه القصة الثالثة الدالَّةُ على صحَّة البعث.

في العامل في «إذْ» ثلاثةُ أوجه:

أظهرها: أنه قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} ، أي: قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك.

والثاني: أنه «أَلَمْ تَرَ» أي: ألم تر إذ قال إبراهيم.

والثالث: أنه مضمرٌ تقديره: واذكر قاله الزجاح ف «إِذْ» على هذين القولين مفعولٌ به، لا ظرفٌ. و «ربِّ» منادى مضافٌ لياءِ المتكلم، حُذفَتْ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها، وهي اللغةُ الفصيحةُ، وحُذِف حرفُ النداءِ.

وقوله: «أَرِنِي» تقدَّم ما فيه من القراءات، والتوجيه في قوله:{وَأَرِنَا} [البقرة: 128] والرؤية - هنا - بصرية تتعدَّى لواحدٍ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل، أكسبته مفعولاً ثانياً، والأولُ ياءُ المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية و «رأى» البصرية تُعَلَّق، كما تعلق «نَظر» البصرية، ومن كلامهم:«أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هَهُنَا» .

و «كَيْفَ» في محلِّ نصب: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على التشبيه بالحال، كما تقدَّم في قوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . والعاملُ فيها «تُحيي» وقدَّره مكي: بأي حالٍ تُحْيي الموتى، وهو تفسيرُ معنًى، لا إعرابٍ.

قال القرطبيُّ: الاستفهامُ بكيف، إنما هو سؤالٌ عن حالةِ شيءٍ موجودٍ متقرر

ص: 364

الوجوه عند السائل، والمسؤول؛ نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا: ومتى قلت: كيف ثوبُكَ؟ وكيف زيدٌ؟ فإِنَّما للسؤال عن حالٍ من أحواله، وقد تكون «كَيْفَ» خبراً عن شيءٍ شأنه أَنْ يُسْتفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شِئتَ فكُنْ، ونحو قول البخاريّ:«كَيْفَ كان بَدْءُ الوَحْي» ، و «كَيْفَ» في هذه الآية إِنَّما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء، والإحياءُ متقرِّرٌ، ولكن لمَّا وجدنا بعض المنكرين لوجود شيءٍ، قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة ذلك الشيء، يعلم أنها لا تصح؛ فيلزم من ذلك أَنَّ الشيء في نفسه لا يصحُّ؛ مثاله أَنٍْ يقول مُدَّعٍ أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذِّب له: أَرِني كيف ترفعه فهذه طريقةُ مجاز في العبارة، ومعناها تسلِيمٌ جدلي، كأنه يقول: افرِض أَنَّكَ ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كان في عبارة الخليل عليه الصلاة والسلام هذا الاشتراك المجازي، خلص اللهُ له ذلك، وحمله على أَنْ بيَّن له الحقيقة، فقال لله:«أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال: بَلَى» فكمل الأَمر، وتخلص من كُلِّ شكٍّ.

فإِن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى لم يُسَمِّ عزيراً، بل قال:{أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} [البقرة: 259] ، وها هُنَا سمَّى إبراهيم، مع أَنَّ المقصُودَ في كِلتا القصَّتين شيءٌ واحِدٌ؟!

فالجواب: قال ابن الخطيب رحمه الله: والسببُ فيه: أَنَّ عزيراً لم يحفظِ الأَدَبَ، بل قال

{أنى

يُحْيِي

هذه

الله بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في نفسه، وإبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام - حفظ الأَدب، ورَاعاهُ؛ فقال أَوَّلاً «رَبِّ» ثُمَّ دعا فقال:{أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في الطيور.

قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} في هذه الواوِ وجهان:

أظهرهما: أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي، قَرَّره؛ كقول القائل:[الوافر]

1211 -

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا

وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ

و {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، المعنى: أنتم خيرُ، وقد شرحنا.

والثاني: أنها واوُ الحالِ، دخلت عليها ألفُ التقرير، قال ابن عطية؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ، وإذا كانت كذلك، استدعَتْ ناصباً، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ، فلا بُدَّ من تقديره؛ والتقديرُ «أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ» ، فالهمزةُ في الحقيقة، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ. وهذا ليس بظاهر، بل الظاهرُ الأَوَّلُ، ولذلك أُجيبت ببلى، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى.

وقوله: {بلى} جوابٌ للجملة المنفيَّة، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا

ص: 365

بالمعنى، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى، نحو:{سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ.

قوله: {لِّيَطْمَئِنَّ} اللامُ لامُ كَيْ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها، بإضمار «أَنْ» ، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد «لكنْ» تقديرُه «ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر، قبل» لكنْ «؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ، والتقديرُ: بلى آمنْتُ، وما سألتُ غير مؤمنٍ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً.

قال السُّدِّيُّ، وابن جبير:{أَوَلَمْ تُؤْمِن} بأَنَّكَ خليلي {قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بالخُلَّةِ.

والطُّمأنينةُ: السكونُ، وهي مصدرُ» اطمأنَّ «بوزن: اقْشَعَرَّ، وهي على غير قياس المصادر، إذ قياسُ» اطْمَأنَّ «أَن يكون مصدرُه على الاطمئنان. واختلف في» اطْمَأَنَّ «هل هو مقلوبٌ؛ أم لا؟ فمذهب سيبويه رحمه الله أنه مقلوبٌ من» طَأْمَنَ «، فالفاءُ طاءٌ، والعينُ همزةٌ، واللامُ ميمٌ، فقُدِّمت اللامُ على العينِ فوزنه: افْلَعَلَّ بدليل قولهم: طامنتُه، فتطامَنَ. ومذهبُ الجرمي: أنه غيرُ مقلوب، وكأَنَّه يقول: إِنَّ اطمَأَنَّ وطَأْمَنَ مادَّتانِ مُسْتَقلَّتانِ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء فإنه قال: والهَمزةُ في» لِيَطْمَئِنَّ «أصلٌ، ووزنه يفعَلِلُّ، ولذلك جاء {فَإِذَا اطمأننتم} [النساء: 103] مثل:» اقْشَعْرَرْتُمْ «. انتهى. فوزنه على الأصل دونَ القلب، وهذا غيرُ بعيدٍ؛ ألا ترى أَنَّهم في» جَبَذَ، وجَذَبَ، قالوا: ليس أحدهما مقلُوباً من الآخر لاستواءِ المادَّتين في الاستعمال.

ولترجيح كلٍّ من المذهبين موضعٌ غير هذا.

فصلٌ في الداعي على السؤال

ذكروا في سبب سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام وجوهاً:

أحدها: قال الحسنُ، والضحاكُ، وقتادةُ، وعطاءٌ، وابن جريج: أَنَّهُ رأى جيفةً مطروحةً على شطّ البحر، قال ابن جريج: جيفة حمارٍ، بساحل البحر وقال عطاءٌ: بحيرة طبريَّة؛ فإذا مَدَّ البحر أكل منها دوابُّ البحر، وإذا جزر البحر، جاءت السِّباعُ وأَكلت، وإذا ذهب السابع، جاءت الطيورُ، فأكلت وطارت، فقال إبراهيم: ربِّ أَرِنِي كيف تجمعُ أجزاءَ الحيوانِ من بطون السباع، والطيور، ودوابِّ البحر؟ فقيل: أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال: بلى، ولكن المطلُوبُ من السؤال أن يصير العلمُ الاستدلاليُّ ضروريًّا.

ص: 366

الثاني: قال محمد بن إسحاق، والقاضي إِنَّ سببهُ أَنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام في مناظرته مع النُّمروذ، لما قال:{رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] قال الملعون {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فأطلق محبوساً، وقتل رجلاً، فقال إبراهيم ليس هذا بإحياءٍ وإماتة، وإنما الإِحياءُ، أن [الله] يقصد إلى جسد ميِّت فيُحْييه. فقال له نمروذ: أَنتَ عانيته؟ فلم يقدر أن يقول: نعم، فقال له نمروذ: قُل لربّك حتَّى يحيي، وإِلَاّ قتلتك، فسأل اللهَ - تعالى - ذلك.

وقوله: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} يعني: بنجاتي من القتل، أو ليطمئِنَّ قلبي بقوة حُجَّتي، وإذا قيل لي: أنت عانيته؟ فأقول: نعم، وأَنَّ عدولي منها إلى غيرها، ما كان بسبب ضعفِ تلك الحُجَّة، بل بسبب جهل [المستمع] .

الثالث: قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والسديُّ: إِنَّ الله تعالى أوحى إليه إِنِّي متَّخذٌ بشراً خليلاً، فاستعظم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك، وقال: إِلهي، ما علامةُ ذلك؟ فقال تعالى: علامتُه: أَنْ يُحْيي الميِّت بدعائه فلمَّا عظُم مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام في مقام العُبُودية وأداءِ الرسالة خطر بباله إنّي لعلِّي أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت، فقال الله: أَوَ لَمْ تُؤْمِنُ؟ قال: بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأَنِّي خليلٌ لك.

الرابع: أنه عليه السلام إِنَّما سأل ذلك لقومه؛ لأَنَّ أَتْبَاع الأَنبياءِ كانوا يُطالبونهم بأشياء: تارةً باطلةٌ وتارةً حقة، كقولهم لموسى {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] فسأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك. والمقصودُ أَنْ يُشاهِدَه قومه فيزول الإنكارُ عنهم.

الخامس: قال ابن الخطيب رحمه الله: إِنَّ الأمَّة لا يحتاجون إلى العلم بأَنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام صادق في ادِّعاء الرسالة إلى معجزة تظهر عليه، فكذلك الرسولُ، عن وصول الملك إليه، وإِخباره بأَنَّ اللهَ بعثه رسولاً يحتاج إلى معجزة تظهرُ على يد ذلك الملك؛ ليعلم الرسولُ أَنَّ ذلك الواصل ملكٌ لا شيطانٌ، فلا يبعد أَن يقال: إنه لمَّا جاء الملك إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأخبره بأن اللهَ بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة، فقال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} على أَنَّ الآتي ملكٌ كريمٌ لا شيطانٌ رجيمٌ.

[قال ابن الخطيب: وعلى قول المتكلمين طلب العلم الضروريِّ، لأَنَّ الاستدلاليَّ مما يتطرقُ إليه الشكوكُ، والشُّبهاتُ، ولعلَّه طالع في الصُّحف المتقدمة أَنَّ

ص: 367

عيسى يُحيي الموْتَى بدعائه، ومعنى {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} على أَني لستُ أَقَلَّ منزلةً من عيسى، أو أَنَّهُ سارع في الطَّاعة بذبح ولده، كأنه قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح، ففعلتُ، فأنا أسألُك أن تجعل غير ذي روح رُوحانيّاً؛ ليطمئن قلبي بإجابتك، أو أَنَّ المعنى أَرِني كيف يكونُ الحشرُ يوم القيامة؟ أَي: ليطمئِنَّ قلبي بهذا التشريف أو يكون قصَّة سماع الكلام، لا نفس الإِحياء] .

قال ابن الخطيب: وها هنا سؤالٌ صعبٌ، وهو أنَّ الإنسان حال حصول العلم له إمَّا يكون مجوِّزاً لنقيضه أو لا.

فإن جوَّز نقيضه بوجهٍ من الوجوه، فذلك ظنٌّ قويٌّ لا اعتقاد جازم، وإن لم يجوّز نقيضه بوجه من الوجوه، امتنع وقوع التفاوت في المعلوم.

وهذا الإشكال إنما يتوجَّه إذا قلنا: المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء، أمَّا إذا قلنا: المقصود شيءٌ آخرن فالسؤال زائلٌ.

روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - قال: «نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ورحم اللهُ لوطاً، لَقَد كَانَ يَأْوِي إلى ركْن شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» وأخرج مسلم بن الحجَّاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب مثله. وقال: نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى «.

حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث: لم يشكَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ - ولا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنَّ الله قادرٌ على أن يحيي الموتى، وإنَّما شكَّا أنه: هل يجيبهما إلى ما سألاه؟ وقال أبو سليمان الخطَّابي لي في قوله» نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ «اعترافٌ بالشكِّ على نفسه، ولا على إبراهيم، ولكن فيه نفي الشَّكِّ عنهما يقول: إذا لم أشُكُّ أنا في قدرة الله، على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى ألا يشكَّ، وقال ذلك على سبيل التَّواضع، وهضم النَّفس، فكذلك قوله:» لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي «وفيه إعلامٌ بأنَّ المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال.

ص: 368

وقيل: لما نزلت هذه الآية الكريمة قال قوم: شكَّ إبراهيم، ولم يشك نبيُّنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - هذا القول تواضعاً منه؛ وتقديماً لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.

[قال القرطبيُّ: اختلف النَّاس في هذا السؤال: هل صدر من إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن شكٍّ، أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ، وإنَّما طلب المعاينة؛ وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به؛ ولهذا قال عليه السلام: «لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» رواه ابن عباس قال أبو عمر: لم يروه غيره] .

قوله: {مِّنَ الطير} في متعلِّقه قولان:

أحدهما: أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة، تقديره: أربعةً كائنةً من الطير.

والثاني: أنه متعلقٌ بخذ، أي: خذ من الطير.

و «الطير» اسم جمع، كركبٍ وسفر، وقيل: بل هو جمع طائرٍ، نحو: تاجر وتجر، وهذا مذهب أبي الحسن. وقيل: بل هو مخفَّف من «طَيَّر» بتشديد [الياء]، كقولهم:«هَيْن ومَيْت» في «هَيِّن ومَيِّت.

قال أبو البقاء رحمه الله:» هو في الأصل مصدر طارَ يطِير، ثم سمِّي به هذا الجنسُ «. فتحصَّل فيه أربعة أقوال.

وجاء جرُّه ب» مِنْ «بعد العدد على أفصح الاستعمال، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية الكريمة، ويجوز الإضافة كقوله تعالى:{تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] ؛ وقال ذلك القائل: [الوافر]

1212 -

ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ

لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي

ص: 369

وزعم بعضهم: إن إضافته نادرةٌ، لا يقاس عليها، وبعضهم: أنَّ اسم الجمع لما يعقل مؤنث، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ؛ لما تقدَّم من الآية الكريمة، واسم الجمع لما لا يعقل يذكَّر، ويؤنَّث؛ وهنا جاء مذكراً لثبوت التاء في عدده.

قوله: {فَصُرْهُنَّ} قرأ حمزة، والكسائي: بكسر الصَّاد، والباقون: بضمِّها، وتخفيف الراء. واختلف في ذلك، فقيل: القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنًى واحدٍ، وذلك أنه يقال: صاره يصوره ويَصِيرُهُ، بمعنى قطعه، أو أماله، فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تحتملهما معاً، وهذا مذهب أبي عليّ.

وقال الفراء:» الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسر: فمعناه القطع فقط «.

وقال غيره:» الكَسْرُ بمعنى القطع، والضمُّ بمعنى الإمالة «. يقال رجل أصور، أي: مائلُ العنق، ويقال: صار فلان إلى كذا، إذا قال به، ومال إليه، وعلى هذا يصير في الكلام محذوفٌ، كأنه قيل أملهنَّ إليك، وقطِّعهنَّ.

وقال ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد: صرهنَّ بالضم: بمعنى قطِّعهنَّ، يقال صار الشَّيء يصوره صوراً، إذا قطعه، قال رؤبة يصف خصماً ألد:[الرجز]

1213 -

صُرْنَاهُ بِالحُكْمِ وَيَبْغِي الحَكَمَا

أي: قطعناهُ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار، وقال عطاء: معناه اجمعهنَّ، واضممهنَّ إليك، يقال: صار يصور صوراً، إذا اجتمع، ومنه قيل لجماعة النَّحل: صورٌ.

فصل في لفظ «الصِّرِّ» في القرآن

قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ:

الأول: بمعنى القطع؛ كهذه الآية، أي: قطِّعهنَّ إليك صوراً.

الثاني: بمعنى الريح الباردة، قال تعالى:{رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] أي: بردٌ.

الثالث: يعني الإقامة على الشيء؛ قال تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} [آل عمران: 135]، أي: لم يقيموا، ومثله:{وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46] .

ص: 370

ونقل عن الفرَّاء أيضاً: أنه قال: «صَارَه» مقلوبٌ من قولهم: «صَرَاهُ عَنْ كَذَا» ، أي: قطعه عنه، ويقال: صُرْتُ الشيء، فانصار، أي: انقطع؛ قالت الخنساء: [البسيط]

1214 -

فَلَوْ يُلَاقِي الَّذي لَاقَيْتُهُ حَضِنٌ

لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ

أي: تنقطع.

قال المبرد: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر.

واختلف في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ، أو معرَّبة؟ فعن ابن عباس: أنها معرَّبة من النَّبطية، وعن أبي الأسود، أنَّها من السُّريانية، والجمهور على أنها عربيةٌ، لا معرَّبةٌ.

و «إِلَيْكَ» إن قلنا: إِنَّ «صُرْهُنَّ» بمعنى أملهنَّ: تعلَّق به، وإن قلنا: إنه بمعنى: قطِّعهنَّ، تعلَّق ب «خُذْ» .

ولمَّا فسَّر أبو البقاء «فَصُرْهُنَّ» بمعنى: أَمْلْهُنَّ «قدَّر محذوفاً بعده تقديره: فأملهنَّ إليك، ثم قطِّعهنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن - كما تقدم - قدَّر محذوفاً يتعلَّق به» إِلَى «تقديره: قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك. ثم قال:» والأجودُ عندي أن يكون «إليك» حالاً من المفعول المضمر تقديره: فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك، أو ممالةً، أو نحو ذلك «.

وقرأ ابن عباس رضي الله عنه:» فَصُرْهُنَّ «بتشديد الراء، مع ضم الصاد وكسرها، مِنْ: صرَّه يَصُرّه، إذا جمعه؛ إلَاّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل - بكسر العين في المضارع - قليلٌ.

ونقل أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى عمَّن شدَّد الراء: أنَّ منهم من يضمُّها، ومنهم من يفتحها، ومنهم من يكسرها، مثل:» مُدَّهُنَّ «فالضمُّ على الإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين.

قال القرطبي: قرئ» صَرِّهِنَّ «بفتح الصاد، وتشديد الراء مكسورة؛ حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة؛ بمعنى فاحبسهنَّ، من قولهم:» صرَّى يُصَرِّي «: إذا حبس، ومنه الشاة المصرَّاة، قال القرطبي: وها هنا اعتراضٌ ذكره الماوردي، وهو أن يقال: كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى عليه السلام في قوله: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] ؟

ص: 371

فعنه جوابان:

أحدهما: أن ما سأله موسى لا يصحُّ مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاصٌّ يصحُّ معه بقاء التكليف.

الثاني: أن الأحوال تختلف، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي قوتٍ آخر المنع، فيما لا يتقدَّم فيه إذنٌ.

قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما أمر الله تعالى إبراهيم بهذا، قبل أن يولد، وقبل أن ينزل عليه الصُّحف.

فصل في الطير المأخوذة

قال مجاهدٌ، وعطاءٌ، وابن جريج: أخذ طاووساً، وديكاً، وحمامةً، وغراباً. ونقل عن ابن عباس: ونسراً بدل الحمامة. وقال عطاء الخراساني: بطَّة خضراء، وغراباً أسود، وحمامةً بيضاء، وديكاً أحمر «فَصُرْهُنَّ» أي: قطِّعهنَّ، ومزقهن، وقيل أملهُنَّ على ما تقدَّم.

فصل في الحكمة في نوع الطير وعدده

وها هنا سؤالات:

الأول: ما الحكمة في كونه أمره بأخذ أربعةٍ من الطير، ولم يأمره بأكثر، ولا بأقل؟ {

الثاني: ما الحكمة في كونها من الطير، دون غيرها من الحيوان؟}

الثالث: هل كان من حيوان البحر، ثم الوحش، والطير وبهم الأنعام؟

الرابع: هل كان الأربعة كلُّ واحدٍ مخلوقٌ من غالب عنصرٍ من العناصر الأربعة، كالطير، مخلوق من غالب عنصر الهواء، والسمك مخلوق من غالب عنصر الماء، وحيوان البرّ مخلوقٌ من غالب عنصر التراب، وسراج البحر، والدرّاج التي هي تطيرُ بالليل كلُّها نارٌ، والسَّمندل الذي يعيش في النار فإنهم مخلوقون من غالب عنصر النار.

ص: 372

فإن قيل: ما الفائدة في أمره بضمِّها إلى نفسه بعد أخذها؟

فالجواب: فائدته أن يتأمل فيها، ويعرف أشكالها، وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهَّم أنَّها غير تلك، وأجمع المفسِّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن، وأنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام قطع أعضاءها، ولحومها، وريشها، ودماءها، وخطل بعضها ببعضٍ؛ غير أبي مسلم؛ فإنه أنكر ذلك، وقال: إنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه.

والمراد ب {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} الإمالةُ والتمرين على الإجابة، وتعلمها، أي: فعوَّد الطير الأربعة، بحيث تصير إذا دعوتها، أجابتك. والغرض منه ذكر مثالٍ محسوسٍ في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه: فقطعهن.

واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ:

أحدها: أنَّ المشهور في قوله: «فَصُرْهُنَّ» أي: أملهنَّ، وأمَّا التقطيع والذبح، فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل، وهو لا يجوز.

وثانيها: لو كان المراد قطِّعهنَّ، لم يقل إليك؛ فإنَّ ذلك لا يتعدى بإلى.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديمٌ، وتأخيرٌ، تقديره: فخذ إليك أربعةً من الطير، فصرهن؟

قلنا: التزام التقديم والتَّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر.

وثالثها: أن الضمير في قوله: {ثُمَّ ادعهن} عائدٌ إليها لا إلى أجزائها، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً، وكان الموضوع على كلِّ جبلٍ بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها، وهو خلاف الظاهر، وأيضاً في قوله:{يَأْتِينَكَ سَعْياً} عائد إليها، لا إلى أجزائها، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض، كان الضمير في «يَأْتِينَكَ» عائداً إلى أجزائها لا إليها.

ص: 373

واحتجَّ الجمهور بوجوهٍ:

الأول: أنَّ المفسِّرين قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه ذبح تلك الطيور، وقطَّعها أجزاءً، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع.

الثاني: أنَّ ما ذكره غير مختصٍّ بإبراهيم؛ فلا يكون له فيه مزية على الغير.

الثالث: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى، وظاهر الآية، يدلُّ على أنه أجيب إلى ذلك، وعلى قول أبي مسلمٍ لم تحصل الإجابة في الحقيقة.

الرابع: أنَّ قوله {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} يدلُّ على أنَّ تلك الطيور جعلت أجزاءً.

قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه: إنَّه أضاف الجزء إلى الأربعة، فيجب أن يكون المراد بالجزء، هو الواحد من تلك الأربعة.

وأُجيب بأنَّ ما ذكرتم، وإن كان محتملاً إلَاّ أنَّ ما ذكرناه أظهر، والتقدير: فاجعل على كل جبلٍ من كلِّ واحدٍ منهن جزءاً أو بعضاً.

قوله: {ثُمَّ اجعل} «جَعَلَ» يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء، فيتعدَّى لواحدٍ، وهو «جُزْءاً» ، فعلى هذا يتعلَّق «عَلَى كُلِّ» و «مِنْهُنَّ» ب «اجعل» ، وأن يكون بمعنى «صَيَّر» ، فيتعدَّى لاثنين، فيكون «جُزءاً» الأول، و «عَلَى كُلِّ» هو الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ.

و «منهنَّ» يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفً على أنَّه حالٌ من «جُزْءاً» ، لأنه في الأصل صفة نكرة، فلمَّا قُدِّم عليها، نصب حالاً.

وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ل «اجْعَلْ» يعني: إذا كانت «اجْعَلْ» بمعنى «صَيَّر» ، فيكون «جُزْءاً» مفعولاً أول، و «منهنَّ» مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف. [ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد] قوله:«كُلِّ جَبَلٍ» تقديره: «عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك، أو يليك» حتى يصحَّ المعنى.

وقرأ الجمهور: «جُزْءاً» بسكون الزاي والهمز، وأبو بكر ضمَّ الزاي، وأبو جعفر شدَّد الزاي، من غير همزٍ؛ ووجهها: أنَّه لمَّا حذف الهمزة، وقف على الزاي، ثم ضعَّفها، كما قالوا:«هذا فَرَجّ» ، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف. وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله:{هُزُواً} [البقرة: 67] . وفيه لغةٌ أخرى وهي: كسر الجيم.

ص: 374

قال أبو البقاء: «وَلَا أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها» . والجزء: القطعة من الشيء، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع، والتفرق، ومنه: التجزئة والأجزاء.

فصل في المعنيِّ بالجبل في الآية

ظاهر قوله: {على كُلِّ جَبَلٍ} جميع جبال الدنيا، فذهب مجاهد، والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان، كأنه قيل: فرقها على كلِّ جبلٍ يمكنك التفرقة عليه.

وقال ابن عبَّاس، والحسن، وقتادة، والربيع: أُمر أن يجعل كلَّ طائرٍ أربعة أجزاءٍ، ويجعلها على أربعة أجبلٍ، على كل جبلٍ ربعاً من كل طائرٍ.

وقيل: على حسب الجهات الأربع: أعني المشرق، والمغرب، والشمال، والجنوب. وقال السديُّ، وابن جريج: سبعةٌ من الجبال؛ لأنَّ المراد على كل جبل يشاهده إبراهيم حتى يصح منه دعاء الطائر، وكانت الجبال التي يشاهدها عليه الصلاة والسلام سبعةٌ.

قوله: {يَأْتِينَكَ} جواب الأمر، فهو في محلِّ جزمٍ، ولكنه بُني لاتصاله بنون الإناث.

قوله: {سَعْياً} فيه أوجه:

أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير، أي: يَأتينك ساعياتٍ، أو ذوات سعي.

والثاني: أن يكون حالاً من المخاطب، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا، فإنه روي عنه:«أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعياً» فعلى هذا يكون «سعياً» منصوباً على المصدر، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في «يَأْتِينَكَ» . قال شهاب الدين: والذي حمل الخليل رحمه الله على هذا التقدير؛ أنه لا يقال عنده: «سَعَى الطائرُ» فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل عليه السلام لا من صفة الطيور.

الثالث: أن يكون «سَعْياً» منصوباً على نوع المصدر؛ لأنه نوعٌ من الإتيان، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ، فكأنه قيل: يأتينك إتياناً سريعاً.

وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ السعي، والإتيان يتقاربان» ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله، إلَاّ أنه تساهل في العبارة.

ص: 375

فصل في معنى «سَعْياً»

قيل: معنى «سَعْياً» عدواً ومشياً على أرجلهنَّ؛ لأن ذلك أبلغ في الحجة.

وقيل: «طَيَراناً» . ولا يصحُّ؛ لأنه لا يقال للطائر إذا طار: سعى، ومنهم من أجاب عنه: بأن «السَّعْي» هو الاشتداد في الحركة، فإن كانت الحركة طيراناً، فالسَّعيُ فيها هو الاشتداد في تلك الحركة.

روي أنَّه عليه الصلاة والسلام ذبحها، ونتف ريشها، وقطَّعها أجزاءً، وخلط لحمها، وريشها، ودمها، ووضع على كلِّ جبلٍ جزءاً من ذلك المجموع، وأمسك رؤوسهن، ثم دعاهنَّ فقال: تَعَالَيْن بإذن الله تعالى، فجعلت كلُّ قطرةٍ من دم طائرٍ تطير إلى القطرة الأخرى، وكل عظم يصير إلى الآخر من جثَّته، وكل بضعةٍ تصير إلى الأخرى، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ينظر؛ حتى لقيت كل جثَّة بعضها بعضاً في الهواء بغير رأسٍ، ثم أقبلن إلى رؤوسهنَّ سعياً: كلّث جثَّةٍ إلى رأسها، فانضمَّ كلَّ رأسٍ إلى جثَّته، وصار الكلُّ أحياءً بإذن الله. {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على جميع الممكنات {حَكِيمٌ} عالمٌ بعواقب الأمور، وغاياتها.

ص: 376

لمَّا بين تعالى أصل العلم بالمبدأ، والمعاد، وبيَّن دلائل صحَّتها، أتبع ذلك ببيان الشرائع، والأحكام، فبدأ ببيان التكليف، بالإنفاق.

قال القاضي في كيفية النَّظم: إنه تعالى لمَّا أجمل قوله تعالى {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] فصل بهذه الآية الكريمة تلك الأضعاف، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلَّة على قدرته بالإحياء والإماتة، من حيث: لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب، لكان الإنفاق، وسائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق: قد عرفت أنِّي خلقتك، وأكملت نعمتي عليك، بالإحياء، والإقدار، وقد علمت قدرتي على المجازاة، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال؛ فإنه يجازي القليل بالكثير، ثمَّ ضرب لذلك الكثير مثلاً.

وقال الأصم: إنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتجّ على الكلِّ بما يوجب تصديق النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليرغبوا بالمجاهدة بالنفس، والمال، في نصرته، وإعلاء شريعته.

ص: 376

وقيل: لما بيَّن تعالى أنَّه وليُّ المؤمنين، وأن الكفَّار أولياؤهم الطاغوت، بيَّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله، وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت.

فصل في سبب نزول الآية

[روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفَّان، وعبد الرحمن بن عوف]رضي الله عنهما؛ «وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - لما حثَّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة» تَبُوك «، جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم، فقال: يا رسول الله، كان عندي ثمانية آلافٍ، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلافٍ، وأربعة آلافٍ أقرضتها لربِّي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ «وقال عثمان: يا رسول الله، عليَّ جهاز من لا جهاز له؛ فنزلت هذه فيهما.

وروى البستي عن ابن عمر، قال:» لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي» ؛ فنزلت: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] قال صلى الله عليه وسلم َ: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي» ، فنزلت {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] .

قوله «مَثَلُ» مبتدأُ، و «كَمَثَلِ حَبَّةٍ» خبره. ولا بدَّ من حذفٍ، حتى يصحَّ التشبيه؛ لأنَّ الذين ينفقون لا يشبَّهون بنفس الحبة.

واختلف في المحذوف، فقيل: من الأول، تقديره: ومثل منفق الذين، أو نفقة الذين.

وقيل: من الثاني، تقديره: ومثل الذين ينفقون كزارع حبةٍ؛ أو من الأول، والثاني باختلاف التقدير، أي: مثل الذين ينفقون، ونفقتهم كمثل حبَّةٍ وزارعها.

وهذه الأوجه قد تقدَّم تقريرها محررةً عند قوله تعالى:

{وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] . والقول بزيادة الكاف، أو «مِثْلَ» بعيدٌ جدّاً، فلا يلتفت إليه.

ص: 377

والحبَّة: واحدة الحبِّ، وهو ما يزرع للاقتيات، وأكثر إطلاقه على البر، قال المتلمِّس:[البسيط]

1215 -

آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ

وَالحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ

و «الحِبَّة» بالكسر: بذور البقل ممَّا لا يقتات به، و «الحُبَّة» بالضَّمِّ: الحُبُّ.

والحُبُّ: المحبة، وكذلك «الحِبّ» بالكسر، والحِبُّ أيضاً: الحبيب، وحبة القلب سويداؤه، ويقال ثمرته، وهو ذاك.

قوله: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} أي: أخرجت وهذه الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ لحبة، كأن قيل: كمثل حبَّةٍ منبتةٍ.

وأدغم تاء التأنيث في سين «سَبْع» أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشامٌ. وأظهر الباقون، والتاء تقارب السين، ولذلك أُبدلت منها؛ قالوا: ناسٌ، وناتُ، وأكياسٌ، وأكياتٌ؛ قال:[الرجز]

1216 -

عَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ

لَيْسُوا بَأَجْيَادٍ وَلَا أَكْيَاتِ

أي: شرار الناس، ولا أكياسِ.

وجاء التَّمييز هنا على مثال مفاعل، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألف والتَّاء، فقال الزمخشريُّ:«فإنْ قلتَ: هلَاّ قيل:» سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ «على حقِّه من التمييز بجمع القلَّة، كما قال: {وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 43 و46] . قلت: هذا لما قدَّمت عند قوله: {ثَلَاثَةَ قرواء} [البقرة: 228] من وقوع أمثلة الجمع [متعاورةً] مواقعها» .

يعني: أنه من باب الاتساع، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص، [ولا محَصِّلٍ]، فلا بدَّ من ذكر قاعدةٍ مفيدة في ذلك:

قال شهاب الدين رحمه الله: اعلم أن جمعي السَّلامة لا يميَّز بهما عددٌ إلا في موضعين:

أحدهما: ألا يكون لذلك المفرد جمعٌ سواه، نحو: سبع سموات، وسبع بقرات، وسبع سنبلات، وتسع آيات، وخمس صلوات، لأنَّ هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة، فأمَّا قوله:[الطويل]

1217 -

...

...

...

. .....

...

...

ص: 378

فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا

فشاذٌ، منصوصٌ على قلَّته، فلا يلتفت إليه.

والثاني: أن يعدل إليه لمجاوزة غيره، كقوله:{وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 43 و46] عدل من «سَنَابِلَ» إِلى «سُنْبُلَاتٍ» ؛ لأجل مجاورته «سَبْعَ بَقَرات» ، ولذلك إذا لم توجد المجاورة، ميِّز بجمع التكسير دون جمع السلامة، وإن كان موجوداً نحو:«سَبْعَ طَرَائِق، وسَبْعِ لَيَالٍ» مع جواز: طريقات، وليلات.

والحاصل أنَّ الاسم إذا كان له جمعان: جمع تصحيح، وجمع تكسيرٍ، فالتكسير إمَّا للقلة، أو للكثرة، فإن كان للكثرة: فإمَّا من باب مفاعل، أو من غيره، فإن كان من باب مفاعل، أُوثر على التصحيح، تقول: ثلاثة أحَامِدَ، وثَلَاثُ زَيَانِبَ، ويجوز قليلاً: أَحْمَدِينَ وَزَيْنَبَات.

وإن كان من غير باب مفاعل: فإمَّا أن يكثر فيه من غير التصحيح، وغير جمع الكثرة، أو يقلَّ.

فإن كان الأول: فلا يجوز التصحيح، ولا جمع الكثرة إلا قليلاً؛ نحو: ثَلاثَةُ زُيُودٍ، وَثَلاثُ هُنُودٍ، وثَلَاثَةُ أَفْلُسٍ، ولا يجوز: ثلاثةُ زيْدِينَ، ولا ثَلَاثُ هِنْدَات، ولا ثَلَاثةُ فُلُوسٍ، إلَاّ قليلاً.

وإن كان الثاني: أُوثر التصحيح وجمع الكثرة، نحو: ثلاثُ سُعَادَات، وثلاثة شُسُوع، وعلى قلّة يجوز: ثَلاثُ سَعَائد، وثلاثةُ أشْسُع. فإذا تقرَّر هذا، فقوله:«سَبْعَ سَنَابِلَ» جاء على المختار، وأمَّا قوله «سَبْعِ سُنْبُلَاتٍ» ؛ فلأجل المجاورة كما تقدَّم.

وقيل: لمَّا كان الكلام - ها هنا - في تضعيف الأجر، ناسبها جمع الكثرة، وفي سورة يوسف ذكرت في سياق الكلام في سني الجدب؛ فناسبها التقليل؛ فجمعت جمع القلة.

والسُّنْبُلَةُ فيها قولان:

أحدهما: أنَّ نونها أصليةٌ؛ لقولهم: «سَنْبَلَ الزرعُ» أي: أخرج سنبله.

والثاني: أنها زائدةٌ، وهذا هو المشهور؛ لقولهم:«أَسْبَلَ الزرعُ» ، فوزنها على الأول: فُعلُلَةٌ، وعلى الثاني: فُنْعُلَة، فعلى ما ثبت من حكاية اللُّغتين: سَنْبَلَ الزرعُ، وأسْبَلَ تكون من باب سَبِط وسِبَطْر.

قال القرطبي: من أسْبَلَ الزرعُ: إذا صار فيه السُّنبل، كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل: معناه: صار فيه حبٌّ مستورٌ، كما يستر الشيء بإسبال السَّتر عليه.

ص: 379

قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} هذا الجارُّ في محلِّ جر؛ صفةً لسنابل، أو نصبٍ؛ صفةً لسبع، نحو: رأيت سبع إماءٍ أحرارٍ، وأحراراً، وعلى كلا التقديرين فيتعلَّق بمحذوفٍ.

وفي رفع «مئة» وجهان:

أحدهما: بالفاعلية بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وقع صفةً.

والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلَاّ أنَّ الوجه [الأول] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل.

والجمهور على رفع: «مِئَة» على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها.

وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين:

أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ.

والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلَاّ أنَّ الوجه [الأول] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل.

والجمهور على رفع: «مِئَة» على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها.

وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين:

أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ.

والثاني: أنها بدلٌ من «سَبْعِ» ، وردَّ بأنَّه لا يخلو: إمَّا أن يكون بدل [كلِّ] من كلٍّ، أو بدل بعضٍ من كلٍّ، أو بدل اشتمالٍ.

فالأول: لا يصحُّ؛ لأنَّ المائة ليست كلَّ السبع سنابل.

والثاني: لا يصحُّ - أيضاً؛ لعدم الضمير الراجع على المبدل منه، ولو سلِّم عدم اشتراط الضمير، فالمئة ليست بعض السبع؛ لأنَّ المظروف ليس بعضاً للظرف، والسنبلة ظرفٌ للحبة، ألا ترى قوله:{فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فجعل السُّنْبُلَة وعاءٌ للحَبِّ.

والثالث - أيضاً - لا يصحُّ؛ لعدم الضَّمير، وإن سُلِّم، فالمشتمل على «مِئَةِ حَبَّةٍ» هو سنبلة من سبع سنابل، إلا أن يقال إنَّ المشتمل على المشتمل على الشيء، هو مشتملٌ على ذلك الشيء، فالسنبلة مشتملةٌ على مائة والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل، فلزم أنَّ السبع مشتملةٌ على «مائة حبة» .

وأسهل من هذا كلِّه أن يكون ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: حبَّ سَبْع سَنَابِلَ، فعلى هذا يكون «مِئَةُ حَبَّةٍ» بدل بعضٍ من كل.

فصل في المقصود بسبيل الله

معنى {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} يعني: دينه، قيل: أراد النفقة في الجهاد خاصَّةً، وقيل: جمع أبواب الخير من الواجب والنَّفل.

قال القرطبيُّ: شبَّه المتصدِّق بالزَّارع، وشبَّه البذر بالصدقة، فيعطيه بكل صدقةٍ

ص: 380

له سبعمائة حسنة، ثمَّ قال {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزَّارع، إن كان حاذقاً في عمله فيكون البذر جيّداً، وتكون الأرض عامرةً يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحاً، والمال طيِّباً، ويضعه موضعه، فيصير الثواب أكثر.

فإن قيل: لم نر سُنبُلَةً فيها مائة حبَّةٍ، فكيف ضرب المثل بها؟

فالجواب: قال القفَّال: المقصود أنه لو علم طالب الزيادة والرِّبح أنَّه إذا بذر حبَّةً واحدةً، أخرجت له سبعمائة حبةٍ ما كان ينبغي له ترك ذلك، فكذلك ينبغي لطالب الآخرة والأجر عند الله ألَاّ يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة، وإذا كان المراد منه هذا المعنى فسواء وجدت هذه السنبلة، أو لم توجد، فإنَّ المعنى حاصل مستقيم. وقيل: وجد ذلك في الدُّخن.

{والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} .

قيل: معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء.

وقيل يضاعف على هذا، ويزيد لمن يشاء، ما بين سبع إلى سبعين، إلى سبعمائة، إلى ما شاء الله من الأضعاف، مما لا يعلمه إلا الله تعالى. {والله وَاسِعٌ} أي: القدرة على سبيل المجازاة على الجود، والإفضال عليهم بنية من ينفق ماله.

فصل في الاستدلال بالآية على فضل الزراعة

قال القرطبيُّ: دلَّت هذه الآية على أنَّ حرفة الزَّرع من أعلى الحرف، التي يتخذها الناس، والمكاسب التي يشتغل بها العمَّال، ولذلك ضرب الله به المثل وقال صلى الله عليه وسلم َ -:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً، أو يَزْرَعُ زَرْعاً فَتأَكْلُ مِنْهُ الطَّيْرُ، أو إِنْسَانٌ، أوْ بَهِيمَةٌ، إِلَاّ كَانَ لَهُ صَدَقَة» رواه مسلم.

وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «الْتَمِسُوا الرِّزْقَ في خَبَايَا الأَرْضِ» ، يعني: الزَّرع، والزِّراعة من فروض الكفايات،

ص: 381

يجب على الإمام أن يجبر النَّاس عليها، وما كان في معناها من غرس الأشجار.

ص: 382

{الذين يُنْفِقُونَ} فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره الجملة من قوله تعالى:{لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} ، ولم يضمَّن المبتدأ هنا معنى الشَّرط، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره، لأنَّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها؛ لأنَّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشَّيء الثَّابت المفروغ منه، وهو تشبيه نفقتهم بالحبَّة المذكورة، فجاءت هذه الجملة كذلك، والخبر فيها أُخرج مخرج الثَّابت المستقرِّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [غيره] ما قبله.

والثاني: أنَّ {الذين} خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين ينفقون، وفي قوله:{لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} على هذا وجهان:

أحدهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال.

والثاني: - وهو الأولى - أن تكون مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعراب، كأنها جواب سائل قال: هل لهم أجرٌ؟ وعطف ب «ثمّ» جَرْياً على الأغلب؛ لأنَّ المتصدِّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنُّ عقيب صدقته، ولا يؤذي على الفور، فجرى هذا على الغالب، وإن كان حكم المنِّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك.

قال الزَّمخشريُّ: ومعنى «ثُمَّ» : إظهار التَّفاوت بين الإنفاق، وترك المنِّ والأذى، وأنَّ تركهما خبرٌ من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدُّخول فيه بقوله:{ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] ، فجعلها للتَّراخي في الرُّتبة، لا في الزَّمان، وقد تكرَّر له ذلك غير مرَّةٍ.

و «مَا» في قوله تعالى: {مَآ أَنْفَقُواُ} يجوز أن تكون موصولةً اسميّةً، فالعائد محذوفٌ، أي: ما أنفقوه، وأن تكون مصدريةً، فلا تحتاج إلى عائدٍ، أي: لا يتبعون إنفاقهم. ولا بدَّ من حذفٍ بعد «مَناً» ، أي: مناً على المنفق عليه، ولا أذى له، فحذف للدّلالة عليه.

والمنُّ: الاعتداد بالإحسان، وهو في الأصل: القطع، ولذلك يطلق على النِّعمة؛ لأنَّ المنعم يقطع من ماله قطعةً للمنعم عليه. يقال: قد منَّ الله على فلان، إذا أنعم عليه، ولفلان عليَّ منَّةٌ، أي: نعمة؛ وأنشد ابن الأنباريّ: [الطويل]

1218 -

فَمُنِّي عَلَيْنَا بالسَّلَامِ فَإِنَّمَا

كَلَامُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمٌ

ص: 382

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم َ -: «ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنَّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ، وَلَا ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ» يريد أكثر إنعاماً بماله، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ، أي: منعمٌ، و «المنّ» أيضاً النَّقص من الحقّ. قال تبارك وتعالى:{وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] أي: غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناص؛ لأنه ينقص الحياة، ويقطعها، ومن هذا الباب: المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة، وتكدّرها، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم:[الرمل]

1219 -

زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَماً

أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حَقِيرْ

تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ

وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ

والمنُّ: الذي يوزن به، ويقال في هذا:«مَنَا» مثل: عَصَا. وتقدَّم اشتقاق الأذى.

و «مَنّاً» مفعولٌ ثانٍ، و «لَا أَذًى عطفٌ عليه، وأبعد من جعل» وَلَا أَذًى «مستأنفاً، فجعله من صفات المتصدِّق، كأنَّ قال: الذين ينفقون، ولا يتأذَّون بالإِنفاق، فيكون» أَذى «اسم لا، وخبرها محذوفٌ، أي: ولا أذًى حاصل لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي.

قال شهاب الدِّين: وهذا تكلُّفٌ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ» وَلَا أَذَى «بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة.

فصل في سبب النزول

قال الكلبيُّ: نزلت في عثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف.

أمَّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة» تبوك «، بألف بعيرٍ بأقتابها، وأحلاسها، وألف دينارٍ.

» قال عبد الرَّحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينارٍ في جيش العسرة، فصبّها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم َ - فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم َ - يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها، ويقول:«مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْم» وقال «يَا رَبِّ؛ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ» فنزلت هذه الآية الكريمة.

«وأمَّا عبد الرحمن بن عوفٍ، فإنَّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -

ص: 383

فقال: كانت عندي ثمانية آلاف، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلافٍ أقرضتها ربّي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ، وفِيمَا أَعْطَيْتَ «فنزلت الآية. وقال بعض المفسِّرين: إن الآية المتقدمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره، فبين تعالى أنَّ الإنفاق على الغير، يوجب الثَّواب المذكور في الآية المتقدِّمة، إذا لم يتبعه» مَنّ «،» ولا أَذًى «قال القفَّال: وقد يحتمل أن يكون هذا الشَّرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم َ - والمؤمنين، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين، مثل أن يقول: لو لم أحضر لما تمَّ هذا الأمر، ويقول لغيره: أنت ضعيفٌ لا منفعة بك في الجهاد.

وقال بعضهم:» فِي سبيلِ «، أي: طاعة الله - تعالى -؛ ولا يمنّ بعطائه، ولا يعدّ عليه نعمه، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره، فيقول: إلى كم تسأل، وكم تؤذيني؟ وقيل: الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه.

وقال سفيان:» مَنّاً وَلَا أَذًى «: هو أن قول: قد أعطيتك، فما شكرت. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً، ورأيت أنَّ سلامك يثقل عليه، فكف سلامك عنه، فحظر الله على عباده المنَّ بالصَّنيعة، واختصّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّه من العباد تعييرٌ وتكديرٌ، ومن الله إفضال، وتذكير، وإنَّما كان المنُّ، والأذى مذموماً، لأنَّ الفقير الآخذ للصَّدقة منكسر القلب، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك: إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرَّة بعد المنفعة، وينفّر أهل الحاجة عن الرَّغبة في صدقته إذا اشتهر بتلك الطَّريقة، وأمَّا» الأذَى «، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين، وليس بظاهرٍ، بل اختصاصه بما تقدَّم من أذى الفقير أولى.

فإن قيل: ظاهر اللَّفظ: أنَّ مجموع المنّ، والأذى يبطلان الأجر، فيلزم منه أنَّه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر.

قلنا: بل الشَّرط ألَاّ يوجد واحدٌ منهما؛ لأن قوله: {لَا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلَا أَذًى} يقتضي ألَاّ يقع منه، لا هذا، ولا ذاك.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

قالت المعتزلة: الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الكبائر تحبط ثواب فاعلها؛ وذلك لأنَّ الله - تعالى - بين أنَّ هذا الثَّواب إنَّما يبقى إذا لم يوجد المنّ والأذى؛ لأنَّه لو ثبت مع

ص: 384

فقدهما، ومع وجودهما؛ لم يكن لهذا الاشتراط فائدة.

وأُجيبوا بأنَّ المراد منها أنَّ حصول المنّ والأذى يخرجان الإنفاق عن أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلَاّن على أنَّه إنَّما أنفق لكي يمنّ، ولم ينفق، لطلب رضوان الله، ولا على وجه القربة والعبادة، فلا جرم، بطل الأجر.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجَّت المعتزلة بقوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} على أنَّ العمل موجبٌ للأجر على الله - تعالى -.

وأجيبوا بأنَّ حصول الأجر بسبب الوعد، لا بسبب نفس العمل؛ لأن العمل واجبٌ على العبد، وأداء الواجب لا يوجب الأجر.

فصل

وأجمعت الأمَّة على أنَّ قوله: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مشروطٌ بعدم الكفر، وذلك يدلُّ على جواز التَّكلُّم بالعام لإرادة الخاصّ، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللَّفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التَّمسُّك بالعمومات على القطع بالوعيد.

قوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فيه قولان:

أحدهما: أنَّ إنفاقهم في سبيل الله، لا يضيع، بل يجدونه يوم القيامة، فلا يخافون فقده «وَلَا يَحْزَنُونَ» بسبب ألَاّ يوجد، ونظيره {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} [طه: 112] .

الثاني: أنهم يوم القيامة، لا يخافون العذاب ألبتة، ونظير {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] وقال {لَا يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] .

ص: 385

في قوله: {مَّعْرُوفٌ} ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أنه مبتدأٌ، وساغ الابتداء بالنَّكرة لوصفها، وللعطف عليها. و «مَغْفِرةٌ» عطفٌ عليه، وسوَّغ الابتداء بها العطف، أو الصِّفة المقدَّرة، إذ التَّقدير: ومغفرةٌ من السَّائل، أو من الله. و «خَيْرٌ» خبرٌ عنهما. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «والتَّقدير:

ص: 385

وسبب مغفرة، لأنَّ المغفرة من الله تعالى، فلا تفاضل بينهما، وبين فعل العبد، ويجوز أن تكون المغفرة: مجاوزة المتصدّق، واحتماله للفقير، فلا يكون فيه حذف مضافٍ» .

الثاني: أنَّ {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، أي: أمثل، أو أولى بكم، و «مَغْفِرَةٌ» مبتدأق، و «خَيْرٌ» خبرها، فهما جملتان، ذكره المهدوي وغيره. قال ابن عطيَّة:«وهذا ذهابٌ برونق المعنى» .

والثالث: أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ تقديره: المأمور به قولٌ معروفٌ.

وقوله: {يَتْبَعُهَآ أَذًى} في محلِّ جرِّ صفةً لصدقةٍ، فإن قيل لم يعد ذكر المنِّ فيقول: يتبعها منٌّ، وأذى. فالجواب؛ لأنَّ الأذى يشمل المنَّ، وغيره، وإنَّما نصَّ عليه في قوله:{لَا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلَا أَذًى} [البقرة: 262] لكثرة وقوعه من المتصدِّقين، وعسر تحفُّظهم منه، ولذلك قدِّم على الأذى.

فصل

القول المعروف: هو القول الذي تقبله القلوب، والمراد منه هنا: ردُّ السَّائل بطريقٍ حسنٍ.

وقال عطاءٌ: عِدَةٌ حسنة.

وقال القرطبيُّ: وروي من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم َ -: «إِذَا سأَلَ السَّائِلُ فَلَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ رُدّوا عليه بِوَقَارٍ، وَلِينٍ، أو ببذل يَسِيرٍ، أوْ رَدٍّ جميلٍ، فقد يأْتِيكُم مَنْ لَيْسَ بإِنْسٍ ولا جَانّ يَنْظُرُونَ صَنِيعَكُم فيما خَوَّلَكُمُ اللهُ تعالى» .

وأمَّا المغفرة فقيل: هي العفو عن بذاءة الفقير، والصَّفح عن إساءته فإنه إذا ردَّ بغير مقصوده؛ شقَّ عليه ذلك، فربَّما حمله ذلك على بذاءة اللِّسان.

وقيل المراد ونيل مغفرةٍ من الله بسبب الردّ الجميل.

وقال الضَّحَّاك: نزلت في إصلاح ذات البين.

وقيل المراد: أن يستر حاجة الفقير، فلا يهتك ستره، ولا يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله.

وقيل: إن قوله {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} خطابٌ مع المسؤول بأن يردّ السَّائل بأحسن الطُّرق.

ص: 386

وقوله «مَغْفِرَةٌ» : خطابٌ مع السَّائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرَّدِّ، فإنَّه ربَّما لم يقدر على ذلك المطلوب في تلك الحالة، ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ فعل الرَّجل لهذين الأمرين خير له من صدقةٍ يتبعها أذى؛ لأنَّه إذا أعطى، وأَتْبع الإعطاء بالأذى، فقد جمع بين النفقة والإضرار.

وأمَّا القول المعروف، فقيه نفعٌ بلا ضررٍ؛ لأنَّه يتضمَّن إيصال السُّرور إلى قلب المسلم، فكان خيراً من الأوَّل.

قال بعضهم: الآية الكريمة واردة في التَّطوُّع؛ لأنَّ الواجب لا يحلُّ منعه ولا ردّ السّائل منه، ويحتمل أن يراد به الواجب، فإنَّه قد يعدِل به عن سائلٍ إلى سائلٍ، وعن فقيرٍ إلى فقيرٍ. ثم قال:{والله غَنِيٌّ} عن صدقة العباد، وإنما أمركم بها ليثيبكم عليها {حَلِيمٌ} لم يتعجَّل بالعُقُوبة على من يمنّ، ويؤذي بصدقته.

ص: 387

اعلم أنَّه تعالى، لم ذكر هذين النَّوعين من الإنفاق ضرب واحداً منهما مثلاً.

قوله: {كالذي} الكاف في محلِّ نصبٍ، فقيل: نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: لا تبطلوها إبطالاً كإبطال الذي ينفق رئاء النَّاس. وقي: في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدر المقدَّر كما هو رأي سيبويه، وقيل: حالٌ من فاعل «تُبْطِلُوا» ، أي: لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النَّاس.

و {رِئَآءَ} فيه ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ تقديره: إنفاقاً رئاء النَّاس، كذا ذكره مكي.

والثاني: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل رئاء النَّاس، واستكمل شروط النَّصب.

الثالث: أنه في محلِّ حالٍ، أي: ينفق مرائياً.

والمصدر هنا مضافٌ للمفعول، وهو «النَّاس» ، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالاً، والأصل:«رِئايا» فالهمزة الأولى عين الكلمة، والثانية بدلٌ من ياءٍ هي لام الكلمة، لأنها

ص: 387

وقعت طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ. والمفاعلة في «راءَى» على بابها، لأنَّ المرائي يري النَّاس أعمال؛ حتى يروه الثَّناء عليه، والتَّعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم -:«رِيَاء» بإبدال الهمزة الأولى ياء، وهو قياس الهمزة تخفيفاً؛ لأنَّها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ.

قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ} مبتدأٌ وخبرٌ، ودخلت الفاء، قال أبو البقاء:«لتربط الجُمْلَة بِمَا قَبْلَهَا» كما تقدَّم، والهاء في «فَمَثَلُهُ» فيها قولان:

أظهرهما: أنها تعود على «الَّذي يُنْفِقُ رِئَاءَ النَّاسِ» ؛ لأنَّه أقرب مذكورٍ فيكون المعنى أنَّ الله شبّه المانَّ المؤذي بالمنافق، ثم شبَّه المنافق بالحجر.

والثاني: أنها تعود على المانِّ المؤذي، كأنه تعالى شبَّهه بشيئين: بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه ترابٌ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة، ومن جمع إلى إفراد.

والصَّفوان: حجرٌ كبيرٌ أملس، وفيه لغتان:

أشهرهما سكون الفاء، والثانية فتحها، وبها قرأ ابن المسيّب والزُّهريُّ، وهي شاذَّةٌ؛ لأنَّ «فَعَلان» إنَّما يكون في المصادر نحو: النَّزوان، والغليان، والصفات نحو: رجلٌ طغيان وتيس عدوان، وأمَّا في الأسماء فقليلٌ جداً. واختلف في «صَفْوَان» فقيل: هو جمعٌ مفرده: صفا، قال أبو البقاء:«وجَمْعُ» فَعَلَ «على» فَعْلَان «قليلٌ» . وقيل: هو اسم جنس.

قال أبو البقاء: «وهو الأجود، ولذلك عاد الضَّمير عليه مفرداً في قوله: عَلَيْه» .

وقيل: هو مفردٌ، واحده «صُفيٌّ» قاله الكسائي، وأنكره المبرَّد. قال:«لأنَّ صُفيّاً جمع صفا نحو: عصيّ في عصا، وقُفِيّ في قَفَا» . ونقل عن الكسائي أيضاً أنه قال: «صَفْوان مفردٌ، ويجمع على صِفوان بالكسر» . قال النَّحاس: «ويجوز أن يكون المكسور الصَّاد واحداً أيضاً، وما قاله الكسائيُّ غير صحيح، بل صفوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصفا ك» وَرَل «وَوِرْلان، وأخ وإخوان وكرى وكروان» .

وحكى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الصَّلإوان، والصَّفا، والصَّفو واحد والكلُّ مقصورٌ.

وقال بعضهم: الصَّفوان: جمع صفوانة، كمرجانٍ ومرجانةٍ وسعدان، وسعدانة.

ص: 388

وقال بعضهم: الصَّفوان: هو الحجر الأملس، وهو واحدٌ وجمعٌ.

و {عَلَيْهِ تُرَابٌ} : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ، وخبرٍ، وقعت صفةً لصفوان، ويجوز أن يكون «عَلَيْه» وحده صفةً له، و «تُرَابٌ» فاعلٌ به، وهو أولى لما تقدَّم عند قوله {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] . والتُّراب معروفٌ وهو اسم جنسٍ، لا يثنَّى، ولا يجمع.

وقال المبرِّد: وهو جمع واحدته «ترابة» . وذكر النَّحَّاس له خمسة عشر اسماً: ترابٌ وتَوْرَبٌ، وتَوْرَابٌ، وتَيْرَابٌ وإِثْلَب وأَثْلَب وَكَثْكَثٌ وَكِثْكِثٌ ودَقْعَمٌ وَدَقْعَاءُ ورَغام بفتح الراء، ومنه: أرغم الله أنفه أي: ألصقه بالرَّغام وبَرى، وقرى بالفتح مقصوراً [كالعصا وكملح وعثير] وزاد غيره تربة وصعيد.

ويقال: ترب الرَّجل: افتقر. ومنه: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] كأنَّ جلده لصق به لفقره، وأترب، أي: استغنى، كأنَّ الهمزة للسَّلب، أو صار ماله كالتُّراب.

قوله: {فَأَصَابَهُ} عطفٌ على الفعل الذي تعلَّق به قوله: «عَلَيْهِ» ، أي: استقرَّ عليه ترابٌ، فأصابه. والضَّمير يعود على الصَّفوان، وقيل: على التُّراب. وأمَّا الضَّمير في «فَتَرَكَهُ» فعلى الصفوان فقط. وألف «أصَابَه» من واوٍ؛ لأنه من صاب يصوب.

والوابل: المطر الشَّديد، وبلت السَّماء تبل، والأرض موبولة، ويقال أيضاً: أوبل، فهو موبل، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل، وأفعل، وهو من الصِّفات الغالبة كالأبطح، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوفٍ. قال النَّضر بن شيملٍ:

أولُ ما يَكُونُ المَطَرُ رَشاً، ثم طشاً، ثم طَلاًّ، ورَذاذاً، ثم نضحاً، وهو قطرٌ بين قطرين، ثم هطلاً وتهتاناً، ثم وابلاً وجوداً. والوبيل: الوخيم، والوبيلة: حزمة الحطب، ومنه قيل للغليظة: وبيلةٌ على التَّشبيه بالحزمة.

قوله: {فَتَرَكَهُ صَلْداً} كقوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] . والصَّلد: الأجرد الأملس، ومنه:«صَلَدَ جبينُ الأصْلَعِ» : أي برق، والصَّلد أيضاً صفة، يقال: صلد بكسر اللام يصلد بفتحها، فهو صلد. قال النَّقَّاش:«الصَّلْدُ بلغة هُذَيل» . وقال أبان بن تغلب: «الصَّلْد: اللَّيِّن من الحجارة» وقال علي بن عيسى: «هو من الحجارة ما لا خير فيه، وكذلك من الأرضين وغيرها، ومنه:» قِدْرٌ صَلُود «أي: بطيئة الغَلَيان» ، وصلد الزّند: إذا لم يورد ناراً.

قوله: {لَاّ يَقْدِرُونَ} في هذه الجملة قولان:

أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب.

والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من «الَّذِي» في قوله: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ} ،

ص: 389

وإنما جمع الضَّمير حملاً على المعنى، لأنَّ المراد بالذي الجنس، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرَّةً في قوله:«مَالَهُ» و «لَا يُؤْمِنُ» ، «فمثلُه» وعلى معناه أخرى.

وصار هذا نظير قوله: {كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} [البقرة: 17] ثم قال: {بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} [البقرة: 17] ، وقد تقدَّم.

وزعم ابن عطيَّة أنَّ مهيع كلام العرب الحمل على اللَّفظ أولاً، ثم المعنى ثانياً، وأنَّ العكس قبيحٌ، وتقدَّم الكلام معه في ذلك. وقيل: الضَّمير في «يَقْدِرُونَ» عائدٌ على المخاطبين بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم} ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وفيه بعدٌ.

وقيل: يعود على ما يفهم من السِّياق، أي: لا يقدر المانُّون، ولا المؤذون على شيءٍ من نفع صدقاتهم. وسمَّى الصّدقة كسباً.

قال أبو البقاء: «وَلا يَجُوزُ أن يَكُونَ» لَا يَقْدِرُونَ «حالاً من» الَّذِي «؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله:» فَمَثَلُه «وما بعده» . ولا يلزم ذلك؛ لأنَّ هذا الفصل فيه تأكيدٌ، وهو كالاعتراض «.

فصل

قال القاضي: إنه تبارك وتعالى أكَّد النَّهي عن إبطال الصَّدقة بالمنّ، والأذى، وأزال كلّ شبهة للمرجئة، وبيَّن أنَّ المنَّ والأذى يبطلان الصَّدقة، ومعلومٌ أنَّ الصَّدقة قد وقعت، فلا يصحُّ أن تبطل، فالمراد إبطال أجرها، لأنَّ الأجر لم يحصل بعد، وهو مستقبل، فيصحُّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى.

واعلم أنَّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصَّدقة بالمنّ والأذى مثلين، فمثله أوَّلاً: بمن ينفق ماله رئاء النَّاس، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله، واليوم الآخر، لأنَّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر، أظهر من بطلان أجر صدقة من يُتْبعها بالمنّ، والأذى. ثم مثَّله ثانياً: ب» الصَّفْوَانِ «الذي وقع عليه تُرابٌ، وغبارٌ، ثم أصابه المطر القويُّ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلاً، فالكافر كالصَّفوان، والتُّراب مثل ذلك الإنفاق، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر، وكالمنّ والأذى اللَّذين يحبطان عمل هذا المنفق.

قال: فكما أنَّ الوابل أزال التُّراب الذي وقع على الصَّفوان، فكذلك المنّ والأذى، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صريحٌ في القول بالإحباط.

قال الجبَّائيُّ: وكما دلّ هذا النَّص على صحَّة قولنا فالعقل دلَّ عليه عليه أيضاً؛

ص: 390

لأن من أطاع، فلو استحقّ ثواب طاعته، وعقاب معصيته لوجب أن يستحقّ النّقيضين؛ لأنَّ شرط الثَّواب أن يكون منفعة خالصةً دائمةً مقرونةً بالإجلال، وشرط العقاب أن يكون مضرةً خالصةً دائمةً مقرونةً بالإهانة فلو لم تقع المحابطة، لحصل استحقاق النّقيضين وذلك محال، ولأنَّه حين يعاقبه، فقد منعه الإثابة، ومنع الإثابة ظلمٌ، وهذا العقاب عدل، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنَّه حقّه، وأن يكون ظلماً من حيث إنَّه منع الإثابة، فيكون ظلماً بنفس الفعل الذي هو عادلٌ فيه؛ وذلك محال، فصحّ بهذا النَّصّ ودلالة العقل صحّة قولنا في الإحباط والتَّكفير.

وأجيبوا بأنه ليس المراد بقوله «لَا تُبْطِلُوا» النَّهي عن إزالة هذا الثَّواب بعد ثبوته، بل المراد به ألَاّ يأتي بهذا العمل باطلاً؛ لأنَّه إذا قصد به غير وجه الله تعالى، فقد أتى به من الابتداء موصوفاً بالبطلان.

قال ابن الخطيب: ويدلّ على بطلان قول المعتزلة وجوه:

أولها: أنَّ الباقي والطّارئ إن لم يكن بينهما منافاة، لم يلزم من طَرَيَانِ الطَّارئ زوال الباقي، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن زوال الباقي أولى من اندفاع الطَّارئ، بل ربَّما كان اندفاع الطَّارئ، أولى؛ لأن الدفع أسهل من الرفع.

وثانيها: أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي، وهو محال؛ لأنَّ الماضي قد انقضى، ولم يبق في الحال، وإعدام المعدوم محالٌ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال؛ لأنَّ الموجود في الحال، لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محالٌ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محالٌ، لأنَّ الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال، وإعدام ما لم يوجد بعد محال.

وثالثها: أنَّ شرط طريان الطَّارئ، زوال الباقي، فلو جعلنا زوال النافي معلّلاً بطريان الطَّارئ، لزم الدَّور، وهو محالٌ.

ورابعها: أنَّ الطَّارئ إذا طرأ وأعدم الثَّواب السَّابق، فالثَّواب السَّابق إمَّا أن يعدم

ص: 391

من هذا الطَّارئ شيئاً، أو لا يعدم منه شيئاً، والأول هو الموازنة، وهو قول أبي هاشم، وهو باطلٌ، وذلك لأنَّ الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معاً اللَّذان هما معلومان، لزم حصول الموجودين اللَّذين هما علَّتان، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما موجوداً حال كون كلّ واحد منهما معدوماً وهو محالٌ.

والثاني، وهو قول أبي علي الجبَّائي: هو أيضاً باطل؛ لأنَّ العقاب الطَّارئ لما أزال الثَّواب السَّابق، وذلك الثَّواب السَّابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشَّيء من هذا العقاب الطَّارئ؛ فحينئذ لا يحصل له من العلم الذي أوجب الثَّواب السَّابق فائدة أصلاً، لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب، وذلك على مضادة النَّصّ الصّريح في قوله تبارك وتعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، لأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقّة الطَّاعة، ولم يظهر له منها أثر، لا في جلب منفعةٍ، ولا في دفع مضرةٍ.

خامسها: أنكم تقولون الصَّغيرة تحبط بعض أجزاء الثَّواب دون البعض وذلك محالٌ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهيَّة، فالصَّغيرة الطَّارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكلّ في الماهيَّة كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجّح، وهو محالٌ فلم يبق إلَاّ أن يقال بأنَّ الصَّغيرة الطَّارئة تزيل كلَّ تلك الاستحقاقات، وهو باطلٌ بالاتّفاق، أو لا تزيل شيئاً منها، وهو المطلوب.

سادسها: أنَّ عقاب الكبيرة، إذا كان أكثر من ثواب العَمَل المتقدّم، فإمَّا أن يقال: بأنَّ المؤثر في إبطال الثَّواب بعض أجزاء العقاب الطَّارئ، أو كلها، والأوَّل باطل؛ لأنَّ اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثريّة دون البعض مع استواء كلِّها في الماهيَّة ترجيح للمكن من غير مرجّح، وهو محالٌ. الثاني باطلٌ، لأنَّه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثَّواب جزآن من العقاب مع أنَّ كلَّ واحد من ذينك الجزأين مستقلٌّ بإبطال ذلك الثَّواب، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران كلّ واحدٍ منهما مستقلٌّ وذلك محالٌ؛ لأنَّه يستغني بكلِّ واحدٍ منهما عن كلّ واحد منهما فيكون غنيّاً عنهما معاً، حال كونه محتاجاً إليهما معاً، وهو محالٌ.

سابعها: أنَّه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين؛ لأنَّ السَّيِّد إذا قال لعبده: احفظ هذا المتاع لئلاّ يسرقه السَّارق، ثم في ذلك الوقت جاء العدوّ، وقصد قتل السّيِّد، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدوِّ، وقتله، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح، والتعظيم حيث دفع القتل عن سيِّده، ويوجب استحقاقه للذَّمِّ، حيث عرض ماله للسّرقة، وكلّ واحدٍ من الاستحقاقين ثابت، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى التَّرجيح أو إلى المهايأة، فأمَّا أن يحكموا بانتفاء الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوعٌ في بداية العقول.

ص: 392

ثامنها: أَنَّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المُتقدِّم، فهذا الطَّارئ إِمَّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق، أو لا يكون. والأوَّل محالٌ؛ لأَنَّ ذلك العل إنَّما يكون موجوداً في الزَّمان الماضي، فلو كان لهذا الطَّارئ أَثَرٌ في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعاً للتَّأثير في الزَّمان الماضي، وهو محالٌ، وإن لم يكن لهذا الطَّارئ [أثر] في اقتضاءِ ذلك الفعل السَّابق لذلك الاستحقاق، وجب أَن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألَاّ يزول.

وتاسعها: أَنَّ المعتزلة يقولون: إِنَّ شُرب جرعةٍ من الخمرِ، يحبطُ ثواب الإِيمان وطاعة سبعين سنةٍ على سبيل الإِخلاص، وذلك محالٌ؛ لأنَّا نعلم بالضَّرورة أَنَّ ثواب هذه الطَّاعات أكثر مِنْ عقاب هذه المعصية الواحدة، والأعظم بالأَقلّ.

قال الجبَّائي: لا يمتنع أَنْ تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كُلِّ طاعةٍ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه، وإحسانه، كما أَنَّ استحقاق قيام الرَّبَّانيَّة، وقد ربَّاهُ وملكه، وبلغه إلى النِّهاية [العظيمة أعظم] من قيامه بحقِّه لكثرة نعمه، فإِذا كانت نعم الله على عباده، بحيث لا تُضبط عظماً، وكثرةً لم يمتنع أَنْ يستحقَّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الَّذي يعلو على ثواب جملة الطَّاعات.

قال ابن الخطيب: وهذا العُذْرُ ضعيفٌ؛ لأَنَّ المَلِك الَّذِي عظمت نعمُهُ على عبده، ثمّ إِنَّ ذلك العبدَ قام بحقِّ عبوديَّته خمسين سنةً، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً، فلو أحبط المَلك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكُلُّ أحدٍ يذمُّهُ، وينسبه إلى ترك الإِنصاف والقسوة، ومعلومٌ أَنَّ جميع المعاصي بالنِّسبة إلى جلال الله تعالى أقلُّ من كسر رأس القلم، فظهر أَنَّ قولهم على [خلاف] قياس العقول.

ص: 393

عاشرها: أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ، والله أعلمُ.

قوله {لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} يحتمل أمرين:

أحدهما: لا تأْتُوا به باطِلاً، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة.

[قال القرطبيُّ: إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول، وحرمان الثوب] بالإبطال، والمراد الصَّدقة الَّتي يمُنُّ بها، ويُؤذي لا غيرها، فالمَنُّ والأَذى في صدقة؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها.

قال جمهور العلماء في هذه الآية: إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ، أو يُؤذي بها، فإِنَّها لا تقبل.

ص: 393

وقيل: إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة، فهو لا يكتبها.

قال القرطبيُّ: وهذا حسنٌ.

والثاني: أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى، فيزيلوا ثوابها، وضرب لذلك مثلين:

أحدهما: يطابقُ الأَوَّل وهو قوله: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلَا يُؤْمِنُ بالله} ، إِذْ من المعلوم [أَنَّ المراد من كونه عمل] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً، ثم يزول؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود.

والمثال الثاني: وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان، فكذا ها هنا: يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر.

ويمكن أَنْ يجاب عنه: بأَنَّا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان، لم يكن ملتصقاً به، ولا غائصاً فيه أَلْبَتَّة، بل يكون لك الاتِّصال كالانفِصال، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ، وفي الحقيقة منفصلٌ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ، وفي الحقيقة ليس كذلك، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعف.

فصلٌ

قال ابن عبَّاس قوله: {لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن} على الله بسب صدقتِكُم، وبالأذى لذلك السَّائل.

وقال الباقون: بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس} ؛ لأنَّ المُنافق، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير، ولا آذاه، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء.

ص: 394

(فصل في " هل تعطى الصدقة للأقارب)

قال القرطبي: كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه؛ لئلا يعتاض منهم الحمد، والثناء، ويظهر منته عليهم، ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه الله - تعالى - واستحب أن يعطيها الأجانب، واستحب أيضا أن يولي غيره تفريقها، إذا لم يكن الإمام عدلا؛ لئلا تحبط بالمن والأذى، والشكر، والثناء، والمكافأة بالخدمة من المعطى بخلاف صدقة التطوع السر؛ لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد.

(فصل في كيفية التشبيه في الآية)

في كيفية هذا التشبيه وجهان:

الأول: ما تقدم أن العمل الظاهر كالتراب والمان والمؤذي والمنافق كالصفوان يوم القيامة كالوابل، هذا على قولنا، وما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل.

الوجه الثاني: قال القفال رحمه الله: إن أعمال العباد يجازون بها يوم القيامة، فمن عمل بالإخلاص، فكأنه طرح بذرا في الأرض، فهو ينمو، ويتضاعف له، حتى يحصده في وقته، ويجده وقت حاجته، والصفوان محل بذر المنافق، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء، ولا يكون فيه قبول للبذر، والمعنى أن عمل المان، والمؤذي، والمنافق كالبذر المطروح في تراب قليل على صفوان، فإذا أصابه مطر بقي مستودع بذره خاليا، لا شيء فيه؛ ألا ترى أنه تعالى: ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ والجنة ما يكون فيها أشجار ونخيل، فمن أخلص لله، كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض، فهو يجني ثمر غراسه في أوقات حاجته " وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " متضاعفة زائدة.

ثم قال تعالى " لا يقدرون على شيء مما كسبوا ".

وفيه قولان مبنيان على ما تقدم في الإعراب، فعلى الأول لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان، لزوال التراب، وما فيه من البذر بالمطر، فلم يقدر أحد على الانتفاع به، وهذا يقوي تشبيه القفال، وإن عاد الضمير إلى الذي ينفق، فإنما أشير به إلى الجنس والجنس في حكم العام، ثم قال " والله لا يهدي القوم الكافرين ".

(فصل في التحذير من الرياء)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا يا رسول الله: وما الشرك الأصغر؟ قال: " الرياء، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا

ص: 395

إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا، [فانظروا] هل تجدون عندهم جزاء ".

وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه " أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضى بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعون رجلا جمع القرآن، ورجلا قتل في سبيل الله ورجلا كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى له: ألم أوسع عليك حتى [لم] أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله - تعالى - بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول له: في ماذا قتلت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت: ويقول الله تعالى بل أدرت أن يقال فلان جريء، وقد قيل ذلك ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي، ثم قال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تعالى تسعر بهم النار يوم القيامة.

قوله " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله ".

قوله " ومثل الذين ينفقون " كقوله " مثل الذين ينفقون كمثل حبة أنبتت سبع " في جميع التقادير فليراجع. وقرأ الجحدري " كمثل حبة " بالحاء المهملة والباء.

في قوله: " ابتغاء " وجهان:

أحدهما: أنه مفعول من أجله، وشروط النصب متوفرة.

ص: 396

والثاني: أنه حال، و" تثبيتا " عطف عليه بالاعتبارين، أي: لأجل الابتغاء والتثبيت، أو مبتغين متثبتين. ومنع ابن عطية أن يكون " ابتغاء " مفعولا من أجله، قال: لأنه عطف عليه تثبيتا، وتثبيتا لا يصح أن يكون مفعولا من أجله، [لأن الإنفاق لا يكون لأجل التثبيت ". وحكى عن مكي كونه مفعولا من أجله] قال:" وهو مردود بما بيناه ".

وهذا الذي رده لا بد فيه من تفصيل، وذلك أن قوله تبارك وتعالى:" وتثبيتا " إما أن يجعل مصدرا متعديا، أو قاصرا، فإن كان قاصرا، أو متعديا، وقدرنا المفعول هكذا:" وتثبيتا من أنفسهم الثواب على تلك النفقة "، فيكون تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملا لهم على النفقة، وحينئذ يصح أن يكون " تثبيتا " مفعولا من أجله.

وإن قدرنا المفول غير ذلك، أي: وتثبيتا من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية، أو جعلنا " من أنفسهم هو المفعول في المعنى، وأن " من " بمعنى اللام، أي: لأنفسهم، كما تقول: " فعلته كسرا من شهوتي " فلا يتضح فيه أن يكون مفعولا لأجله.

وأبو البقاء قد قدر المفعول المحذوف " أعمالهم بإخلاص النية "، وجوز أيضا أن يكون " من أنفسهم " مفعولا، وأن تكون " من " بمعنى اللام، وقد كان قدم أولا أنه يجوز فيهما المفعول من أجله، والحالية؛ وهو غير واضح كما تقدم.

وتلخص أن في " من أنفسهم " قولين:

أحدهما: أنه مفعول بالتجوز في الحرف.

والثاني: أنه صفة ل " تثبيتا "، فهو متعلق بمحذوف، وتلخص أيضا أن التثبيت يجوز أن يكون متعديا، وكيف يقدر مفعوله، وأن يكون قاصرا.

فإن قيل: " تثبيت " مصدر ثبت؛ وثبت متعد، فكيف يكون مصدره لازما؟

فالجواب: أن التثبيت مصدر تثبت، فهو واقع موقع التثبت، والمصادر تنوب عن بعضها؛ قال تعالى:{وتبتل إليه تبتيلا} [المزمل: 8] والأصل: " تبتلا " ويؤيد ذلك قراءة مجاهد " وتثبتا "، وإلى هذا نحا أبو البقاء.

قال أبو حيان: " ورد هذا القول؛ بأن ذلك لا يكون إلا مع الإفصاح بالفعل المتقدم على المصدر، نحو الآية، وأما أن يؤتى بالمصدر من غير نيابة على فعل مذكور، فلا يحمل على غير فعله الذي هو له في الأصل "، ثم قا: " والذي نقول: إن ثبت - يعني

ص: 397

مخففا - فعل لازم، معناه تمكن ورسخ، وثبت معدى بالتضعيف، ومعناه مكن وحقق؛ قال ابن رواحة:[البسيط] 1220 -

(فثبت الله ما أتاك من حسن

تثبيت عيسى ونصرا كالذي نصروا)

فإذا كان التثبيت مسندا إليهم، كانت " من " في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر، وتكون للتبعيض، مثلها في:" هز من عطفه "، و" حرك من نشاطه " وإن كان مسندا في المعنى إلى أنفسهم، كانت " من " أيضا في موضع نصب؛ صفته لتثبيتا ".

قال الزمخشري: " فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله تعالى، فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل روحه، وماله معا، فقد ثبت نفسه كلها ". قال أبو حيان: " والظاهر أن نفسه هي التي تثبته، وتحمله على الإنفاق في سبيل الله، ليس له محرك إلا هي؛ لما اعتقدته من الإيمان والثواب " يعني: فيترجح أن التثبيت مسند في المعنى إلى أنفسهم. والابتغاء: افتعال من بغيت، أي: طلبت، وسواء قولك: بغيت، وابتغيت.

(فصل)

معنى قوله: " ابتغاء مرضات الله "، أي: طلب رضي الله " وتثبيتا من أنفسهم " قال قتادة: احتسابا.

وقال الشعبي، والكلبي: تصديقا من أنفسهم، أي: يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم، على يقين الثواب، وتصديق بوعد الله، ويعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا، وقيل: على يقين بإخلاف الله عليهم.

وقال عطاء، ومجاهد: يتثبتون، أي: يضعون أموالهم.

قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت، فإن كان لله، أمضى، وإن كان يخالطه شك، أمسك، ثم إنه تعالى لما بين أن غرضهم من الإنفاق هذان الأمران، ضرب الإنفاق مثلا، فقال:" كمثل جنة بربوة ".

ص: 398

قال القرطبي: الجنة هي البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار، حتى تغطيها، مأخوذة من لفظ الجن والجنين، لاستتارهم.

قوله: " بربوة " في محل جر؛ لأنه صفة لجنة. والباء ظرفية بمعنى " في "، أي: جنة كائنة في ربوة. والربوة: أرض مرتفعة طيبة، قاله الخليل. وهي مشتقة من: ربا يربو، أي: ارتفع، وتفسير السدي لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال ربوة ورباوة، بتثليث الراء فيهما، ويقال - أيضا - رابية، قال القائل:[الطويل] 1221 -

(وغيث من الوسمي حو تلاعه

أجابت روابيه النجاء هواطله)

وقرأ ابن عامر، وعاصم:" ربوة " بالفتح، والباقون: بالضم، قال الأخفش:" ونختار الضم؛ لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلا الربا " يعني فدل ذلك على أن المفرد مضموم الفاء، نحو برمة، وبرم، وصورة، وصور. وقرأ ابن عباس:" ربوة " بالكسر، [والأشهب] العقيلي:" رباوة "، مثل رسالة، وأبو جعفر:" رباوة " مثل كراهة، وقد تقدم أن هذه لغات.

(فصل)

تقدم أن الربوة: هي المرتفع من الأرض، ومنه الرابية، لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد، ومنه الربا؛ لأنه الزيادة قال المفسرون: إن البستان إذا كان في ربوة من الأرض، كان أحسن، وأكثر ريعا.

قال ابن الخطيب: وفيه إشكال: وهو أن البستان إذا كان في موضع مرتفع من الأرض، فلا ترتفع إليه الأنهار، وتضر به الرياح كثيرا؛ فلا يحسن ريعه وإذا كان في وهدة من الأرض، انصبت إليه مياه الأنهار، ولا يصل إليه إثارة الرياح، فلا يحسن أيضا ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة، ولا وهدة فإذن ليس المراد من هذه الربوة، ما ذكروه، بل المراد منه كون الأرض طينا حرا بحيث إذا نزل المطر عليها، انتفخ وربا ونما، فإن الأرض متى كانت بهذه الصفة يكثر ريعها، وتكمل أشجارها، ويؤيد هذا التأويل قوله تبارك وتعالى {وترى الأرض هامدة فإذا

ص: 399

أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] والمراد من ربوها ما ذكرنا، فكذا ها هنا.

وأيضا فإنه تبارك وتعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول، وهو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر، ولا يربو، ولا ينمو؛ بسبب نزول المطر عليه، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو، وتنمو والله أعلم.

قال ابن عطية: ورياض الحزن لست من هذا، كما زعم الطبري؛ بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد؛ لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية:" زوجي كليل تهامة ".

قوله: " أصابها وابل " هذه الجملة فيها أربعة أوجه:

أحدها: أنها صفة ثانية لجنة، وبدئ هنا بالوصف بالجار والمجرور، ثم بالجملة؛ لأنه الأكثر في لسانهم؛ لقربه من المفرد، وبدئ بالوصف الثابت المستقر وهو كونها بربوة، ثم بالعارض، وهو إصابة الوابل. وجاء قوله في وصف الصفوان بقوله:" عليه تراب " ثم عطف على الصفة " فأصابه وابل " وهنا لم يعطف بل أخرج صفة.

والثاني: أن تكون صفة ل " ربوة ".

قال أبو البقاء: " لأن الجنة بعض الربوة " كأنه يعني أنه يلزم من وصف الربوة بالإصابة، وصف الجنة به.

الثالث: أن تكون حالا من الضمير المستكن في الجار؛ لوقوعه صفة.

الرابع: أن تكون حالا من " جنة "، وجاز ذلك؛ لأن النكرة قد تخصصت بالوصف.

قوله: " فآتت أكلها " أي أعطت و" أكلها " فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: وهو الأصح أن " آتت " تتعدى لاثنين، حذف أولهما وهو " صاحبها "، أو " أهلها ". والذي حسن حذفه، أن القصد الإخبار عما تثمر، لا عمن تثمر له؛ ولأنه مقدر في قوله:" كمثل جنة " أي: غارس جنة، أو صاحب جنة؛ كما تقدم. و" أكلها " هو المفعول الثاني. و" ضعفين " نصب على الحال من " أكلها ".

والثاني: أن " ضعفين " هو المفعول الثاني، وهذا غلط.

والثالث: أن " آتت " هنا بمعنى أخرجت، فهو متعد لمفعول واحد. قال أبو البقاء:" لأن معنى " آتت ": أخرجت، وهو من الإتاء، وهو الريع ". قال أبو حيان:

"

ص: 400

لا نعلم ذلك في لسان العرب ". ونسبة الإتاء إليها مجاز.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " أكلها " بضم الهمزة، وسكون الكاف، وهكذا كل ما أضيف من هذا إلى مؤنث، إلا أبا عمرو، فإنه يثقل ما أضيف إلى غير ضمير، أو إلى ضمير المذكر، والباقون: بالتثقيل مطلقا، وسيأتي إيضاح هذا كله. والأكل بالضم: الشيء المأكول والأكلة في المعنى مثل الطعمة؛ وأنشد الأخفش: [الطويل] 1222 -

(فما أكلة إن نلتها بغنيمة

ولا جوعة إن جعتها بغرام)

وقال أبو زيد: يقال: إنه لذو أكل، إذا كان له حظ من الدنيا. وبالفتح مصدر، وأضيف إلى الجنة؛ لأنها محله أو سببه ومعنى " ضعفين " أي: ضعفت في الحمل؛ لأن ضعف الشيء مثله زائدا عليه، وقيل: ضعف الشيء مثلاه.

قال عطاء: حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين.

وقال عكرمة: حملت في السنة مرتين.

وقال الأصم: ضعف ما يكون في غيرها.

قوله: " فإن لم يصبها وابل فطل ". الفاء: جواب الشرط، ولا بد من حذف بعدها؛ لتكمل جملة الجواب. واختلف في ذلك على ثلاثة أوجه:

فذهب المبرد إلى أن المحذوف خبر، وقوله:" فطل " مبتدأ، والتقدير:" فطل يصيبها ". وجاز الابتداء هنا بالنكرة؛ لأنها في جواب الشرط، وهو من جملة المسوغات للابتداء بالنكرة، ومن كلامهم:" إن ذهب عير، فعير في الرباط ".

والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فالذي يصيبها طل.

والثالث: أنه فاعل بفعل مضمر؛ تقديره: فيصيبها طل، وهذا أبينها.

إلا أن أبا حيان قال - بعد ذكر الثلاثة الأوجه - " والأخير يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جوابا، وإبقاء معمول لبعضها؛ لأنه متى دخلت الفاء على المضارع، فإنما هو على إضمار مبتدأ؛ كقوله:{ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95][أي: فهو ينتقم] ، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا، أي: فهي، أي: الجنة يصيبها طل، وأما في

ص: 401

التقديرين السابقين، فلا يحتاج إلا إلى حذف أحد جزئي الجملة ". قال شهاب الدين: وفيما قاله نظر؛ لأنا لا نسلم أن المضارع بعد الفاء الواقعة جوابا يحتاج إلى إضمار مبتدأ. ونظير الآية قول امرئ القيس: [الوافر] 1223 -

(ألا إن لا تكن إبل فمعزى

كأن قرون جلتها العصي)

فقوله " فمعزى " فيه التقادير الثلاثة.

وادعى بعضهم أن في هذه الآية الكريمة تقديما وتأخيرا، والأصل:" أصابها وابل، فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين " حتى يجعل إيتاؤها الأكل ضعفين على الحالين: من الوابل، والطل، وهذا لا حاجة إليه؛ لاستقامة المعنى بدونه، والأصل عدم التقديم والتأخير، حتى يخصه بعضهم بالضرورة.

والطل: المستدق من القطر الخفيف وقال مجاهد: " هو الندى " وهذا تجوز منه؛ ويقال: " طله الندى وأطله أيضا؛ قال: [الطويل] 1224 -

(ولما نزلنا منزلا طله الندى

...

...

...

...)

ويجمع " طل " على طلال؛ نقول: طلت الأرض، وأطلها الندى فهي مطلولة قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر، وأقل ريعا.

(فصل)

هذا مثل ضربه الله تعالى؛ لعمل المؤمن المخلص، فيقول: كما أن هذه الجنة تريع في كل حال، ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر؛ كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن، ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم، يعمل عمل الوابل الشديد.

وقيل: معناه إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها، فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمرا دون ثمر الوابل، فهي على كل حال لا تخلو من ثمرة، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى، لا يضيع كسبه؛ قليلا كان، أو كثيرا.

قوله: " والله بما تعملون بصير " هذا وعد، ووعيد.

قرأ الجمهور: تعملون خطابا وهو واضح، فإنه من الالتفات من الغيبة إلى

ص: 402

الخطاب الباعث على فعل الإنفاق الخالص لوجه الله تعالى، والزاجر عن الرياء والسمعة. وقرأ الزهري: بالياء على الغيبية، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يعود على المنفقين. والثاني: أن يكون عاما فلا يخص المنفقين، بل يعود على الناس أجمعين؛ ليندرج فيهم المنفقون اندراجا أوليا. والمراد من البصير: العليم، أي: هو تبارك وتعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها والأمور الباعثة عيلها، وأنه تعالى يجازي بها.

ص: 403

هذا مثالٌ آخر ذكره اللهُ تعالى في حقِّ من يُتبعُ إنفاقه بالمَنِّ والأَذَى، «الودُّ» : هو المحبةُ الكامِلةُ، والهمزةُ في «أَيَودُّ» للاستفهام، وهو بمعنى الإِنكارِ، وإنما قال:«أَيَوَدُّ» ، ولم يقل أَيُرِيد؛ لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبةُ التامةُ، ومعلومٌ أن محبةَ كُلِّ أحدٍ لعدم هذه الحالة محبةً كاملة، فلهذا ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت؛ تنبيهاً على الإِنكار التَّام، والنفرةِ البالغةِ إلى الحد الذي لا مزيد فوقه.

قوله تعالى: {مِّن نَّخِيلٍ} في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة، أي: كائنة من نخيل. و «نَخِيلٍ» فيه قولان:

أحدهما: أنه اسم جمع.

والثاني: أنه جمع «نَخْل» الذي هو اسم الجنسِ، ونحوه: كلب وكَلِيب، قال الراغب:«سُمِّي بذلك؛ لأنه منخولُ الأشجارِ، وصَفِيُّها؛ لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ» وذكر له منافع وشبهاً من الآدميين.

والأعنابُ: جمع عِنَبَة، ويقال:«عِنَباء» مثل «سِيرَاء» بالمدِّ، فلا ينصرفُ. وحيثُ جاء في القرآن ذكرُ هذين، فإنما يَنصُّ على النخلِ دون ثمرتها، وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم؛ لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثَمرَتهُ دونَ باقيه.

قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} هذه الجملة في محلِّها وجهان:

أحدهما: أنَّها في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة.

والثاني: أنها في محلِّ نصب، وفيه أيضاً وجهان، فقيل: على الحال من «جنَّة» ؛ لأنها قد وُصِفَتْ. وقيل: على أنها خبرُ [تكون] نقله مكيّ.

ص: 403

قوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} جملة من مبتدإٍ، وخبرٍ، فالخبر قوله:«لَهُ» و «مِنْ» كُلِّ الثَّمَراتِ «هو المبتدأُ، وذلك لا يستقيمُ على الظاهر، إذ المبتدأُ لا يكونُ جارّاً ومجروراً؛ فلا بُدَّ من تأويله. واختلف في ذلك:

فقيل: المبتدأ في الحقيقة محذوفٌ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامه، تقديره:» له فيها رِزقٌ من كلِّ الثمراتِ، أو فاكهةٌ مِنْ كلِّ الثمرات «فحُذف الموصوفُ، وبقيت صفتُه؛ ومثله قول النَّابغة:[الوافر]

1225 -

كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ

يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ

أي: جملٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ، وقوله تعالى:{وَمَا مِنَّآ إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: وما مِنَّا أحدٌ إِلَاّ له مقامٌ.

وقيل:» مِنْ «زائدةٌ تقديره: له فيها كلُّ الثمرات، وذلك عند الأخفش؛ لأنه لا يَشْتَرِطُ في زيادتها شيئاً.

وأمَّا الكُوفيُّون: فيشترطون التنكير، والبصريون يَشْتَرطونه وعدم الإِيجاب، وإذا قُلنا بالزيادة، فالمرادُ بقوله:» كُلِّ الثَّمَرَاتِ «التكثيرُ لا العموم، لأنَّ العُمومَ مُتعذِّرٌ.

قال أبو البقاء: ولا يجوزُ أَنْ تكونَ» مِنْ «زائدةً، لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفشِ؛ لأنَّ المعنى يصيرُ: له فيها كُل الثمراتِ، وليسَ الأمرُ على هذا، إلَاّ أَنْ يُرادَ به هنا الكثرة لا الاستيعاب، فيجوزُ عند الأخفش؛ لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ» مِنْ «في الواجب.

فإن قيل: كيف عطف «وأَصَابَهُ» على «أيودُّ» ؟ وكيف يجوزُ عطفُ الماضي على المستقبل؟

فالجواب: من وجوه:

أحدها: أَنَّ الواو للحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، و «قد» مقدَّرةٌ أي: وقد أصابه، وصاحبُ الحال هو «أَحَدُكُمْ» ، والعاملُ فيها «يَودُّ» ، ونظيرُها:{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]، وقوله تعالى:{وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا} [آل عمران: 168] أي: وقد كُنتم، وقد قَعَدوا.

والثاني: أَن يكون قد وضع الماضي موضع المضارع، والتقديرُ «ويُصيبَه الكِبَر» كقوله تعالى:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ} [هود: 98] أي: يوردهُم. قال

ص: 404

الفراء: يجوزُ ذلك في «يَوَدُّ» ؛ لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب «أَنْ» ومرةً ب «لو» فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكان الآخر.

الثالث: أنه حُمِل في العطفِ على المعنى؛ لأنَّ المعنى: أَيَودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ، فأصابه الكِبَرُ، وهذا الوجهُ فيه تأويلُ المضارع بالماضي؛ ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه، عكسُ الوجه الذي قبله، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع. واستضعف أبو البقاء هذا الوجه؛ بأنه يُؤدّي إلى تغيير اللفظ مع صحّة المعنى.

والزمخشريُّ نَحَا إلى هذا الوجه - أيضاً - فإنه قال «وقيل: يُقالُ: وَدِدْتُ لو كان كذا؛ فحُمِل العطفُ على المعنى، كأنه قيل: أَيَودُّ أحدُكم لو كانت له جَنَّةٌ، وأصابَه الكِبَرُ» .

قال أبو حيان: «وظاهرُ كلامه أَنْ يكونَ» أَصَابَهُ «معطوفاً على متعلِّق» أَيَودُّ «وهو» أَنْ تَكُونَ «؛ لأنه في معنى» لَوْ كانَتْ «، إذ يقال: أيودُّ أحدكم لو كانت، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه يمتنع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على» كانت «التي قبلها» لو «؛ لأنه متعلَّق الوُدِّ، وأمَّا» أَصابَه الكِبَرُ «فلا يمكنُ أن يكون متعلَّق الودِّ؛ لأنَّ» أصَابه الكِبَرُ «لا يودُّه أَحَدٌ ولا يتمنَّاه، لكن يُحْمل قول الزمخشريُّ على أنه لمّا كان» أَيَوَدُّ «استفهاماً معناه الإِنكارُ جُعِلَ متعلَّقُ الودادةِ الجمع بين الشيئين، وهما: كونُ جنةٍ له، وإصابةُ الكِبَر إياه، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مَوْدُوداً على انفراده، وإنما أَنكروا ودادة الجمع بينهما» .

قوله تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في «وأَصابَه» ، وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة. وقُرئ «ضِعافٌ» ، وضُعفاءُ، وضعاف، منقاسان في ضعيف، نحو: ظريف، وظُرَفَاء، وظِراف، وشَريف، وشُرَفاء وشِراف.

قوله: {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} هذه الجملة عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها، قاله أبو البقاء. يعني على قوله تعالى:{مِّن نَّخِيلٍ} وما بعده.

وأتى في هذه الآياتِ كلِّها بلفظ الإِصابة نحو فأصابه وَابِلٌ، وأَصابَه الكِبَر، فأصابها إعصارٌ؛ لأنه أبلغُ، وأَدَلُّ على التأثير بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيء، من أنه لم يُذكر بلفظ الإِصابة، حتى لو قيل:«وَبَل» ، و «كَبِر» ، و «أَعْصَرَتْ» لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ.

والإِعصارُ: الريحُ الشديدةُ المُرتفعةُ، وتُسَمِّيها العامَّةُ: الزَّوبعة. وقيل: هي الريحُ السَّموم، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ، حكاه المهدوي. وقيل: لأَنها تَعْصِر السَّحابَ، وتُجمع على أَعَاصير، قال:[البسيط]

ص: 405

1226 -

أ - وَبَيْنَما المَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ

إِذْ هُوَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ

والإعصارُ من بين سائر أسماءِ الريحِ، مذكرٌ، ولهذا رجع إليه الضمير مذكَّراً في قوله:«فيه نارٌ» .

و «نَارٌ» يجوز فيه الوجهان: أعني الفاعلية، والجارُّ قبلها صفةٌ ل «إِعْصار» والابتدائية، والجارُّ قبلها خبرها، والجملة صفةُ «إِعْصارٌ» ، والأول أَولى؛ لما تقدَّم من أنَّ الوصف بالمفرد أَولى، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة.

قوله: {فاحترقت} أي: أحرقها، فاحترَقَتْ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي، وأمَّا «حَرَقَ» من قولهم:«حَرَقَ نابُ الرجُلِ» إذا اشتدَّ غيظهُ، فيُستعمل لازِماً، ومتعدِّياً، قال:[الطويل]

1226 -

ب - أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابُهُ

عَلَيْه فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ

رُوي برفع «نَابهُ» ونصبه، وقوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} إلى آخره قد تقدَّم نظيرُه.

فصل

قال عبيد بن عمير: قال عمر رضي الله عنه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ - فيمن ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} ؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر رضي الله عنه فقال: قولوا: نعلم، أو لا نعلم، فقال ابن عباس رضي الله عنه: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس رضي الله عنه: ضُرِبَت مثلاً لعمل فقال عمر: أيُّ عملٍ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لعمل منافقٍ، ومراءٍ، قال عمر رضي الله عنه: لأي رجل؟ قال لرجل غني يعمل بطاعة الله، بعث الله له الشيطان؛ فعمل بالمعاصي؛ حتى أحرق أعماله.

وقال المفسّرون: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعمل المنافق، والمرائي، يقول: عمله في حسنه كحسن الجنَّة، كما ينتفع صاحب الجنَّة بالجنة.

ص: 406

{مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} وإنما خصهما بالذكر؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظراً حيث تكون باقيةً على الأشجار، ووصف تلك الجنَّة بأن الأنهار تجري من تحتها، وذلك زيادةٌ في الحسن، وأنَّ فيها من كلِّ الثمرات، وهذا سبب لكمال حال هذه الجنَّة من الرؤية، والمنظر، وكثرة النَّفع، والرَّيع، ولا يمكن الزيادة على ذلك، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولادٌ ضعافٌ، أي: بسبب الصِّغر، والطفوليَّة، فإنه إذا صار كبيراً؛ عجز عن الاكتساب، وكثرت جهات حاجاته في مطعمه، وملبسه، ومسكنه، ومن يقوم بخدمته، وتحصيل مصالحه، فإذا تزايدت حاجاته، وتناقصت جهات مكسبه، أصاب جنَّته إعصار فيه نارٌ فاحترقت، وهو أحوج ما يكون إليها، وضعف عن إصلاحها؛ لكبره، وضعف أولاده عن إصلاحها؛ لصغرهم، فلم يجد هو ما يعود به على أولاده، ولا أولاده ما يعودون به عليه، فبقوا جميعاً متحيرين عجزةً لا حيلة بأيديهم، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق، والمرائي حيث لا مغيث لهما، ولا توبة، ولا إقالة، ونظير هذه الآية الكريمة {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] .

ص: 407

اعلم أنه تعالى لما ذكر الانفاق على قسمين، وبين كل قسم وضرب له مثلاً، ذكر في هذه الآية كيفية الإِنفاق.

قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} : في مفعول «أَنْفِقُوا» قولان:

أحدهما: أنه المجرور ب «مِنْ» ، و «مِنْ» للتبعيض، أي: أنفقوا بعض ما رزقناكم.

والثاني: أنه محذوفٌ قامت صفته مقامه، أي: شيئاً ممَّا رزقناكم، وتقدَّم له نظائر.

و «ما» يجوز أن تكون موصولةً اسمية، والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط، أي: كسبتموه، وأن تكون مصدريةً أي: من طيِّبات كسبكم، وحينئذٍ لا بدَّ من تأويل هذا المصدر باسم المفعول، أي: مكسوبكم، ولهذا كان الوجه الأول أولى.

و {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا} عطفٌ على المجرور ب «مِنْ» بإعادة الجار، لأحد معنيين: إمَّا التأكيد، وإمَّا للدلالة على عاملٍ آخر مقدرٍ، أي: وأنفقوا ممَّا أخرجنا. ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي: ومن طيبات ما أخرجنا. و «لكم» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» ، واللام للتعليل. و «مِنَ الأرض» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية.

قوله: {وَلَا تَيَمَّمُواْ الخبيث} الجمهور على «تَيَمَّموا» ، والأصل: تتيمموا بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفاً: إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية، وقد تقدّم تحريره عند قوله:{تَظَاهَرُونَ} [البقرة: 85] .

ص: 407

وقرأ البزِّيُّ هنا وفي مواضع أُخر بتشديد التاء، على أنه أدغم التاء الأولى في الثانية، وجاز ذلك هنا وفي نظائره؛ لأنَّ الساكن الأول حرف لين، وهذا بخلاف قراءته {نَاراً تلظى} [الليل: 14] {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] فإنه فيه جمع بين ساكنين، والأول حرفٌ صحيحٌ، وفيه كلامٌ لأهل العربية، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

قال أبو علي: هذا الإدغام غير جائزٍ؛ لأنَّ المدغم يسكَّن، وإذا سكِّن، وجب أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي، نحو {فادارأتم} [البقرة: 72] و {ارتبتم} [المائدة: 106] و {اطيرنا} [النمل: 47] .

لكن أجمعوا على أنَّ همزة الوصل لا تدخل على المضارع.

وقرأ ابن عباس، والزُّهريُّ «تُيَمِّمُوا» بضم التاء، وكسر الميم الأولى، وماضيه: يمَّم، فوزن «تُيَمَّمُوا» على هذه القراءة: تفعِّلوا من غير حذفٍ، وروي عن عبد الله «تُؤَمِّموا» من أمَّمت، أي: قصدت.

والتيمم: القصد، يقال: أمَّ ك «رَدَّ» ، وأمَّم ك «أخَّر» ، ويمَّم، وتيمَّم بالتاء، والياء معاً، وتأمَّم بالتاء والهمزة. وكلُّها بمعنى قصد. وفرَّق الخليل رحمه الله بينها بفروقٍ لطيفةٍ، فقال:«امَّمْتُه أي قصدت أمامه، ويمَّمْتُه: قصدته من أيِّ جهةٍ كان» .

والخبيث والطيب: صفتان غالبتان، لا يذكر موصوفهما؛ قال تعالى:{والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26]، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 157] ، قال صلى الله عليه وسلم َ:

«مِنَ الخُبْثِ، والخَبائث» .

قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} «منه» متعلِّقٌ بتنفقون، وتنفقون فيها ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل في «تَيَمَّموا» أي: لا تقصدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرة، لأن الإنفاق منه يعق بعد القصد إليه، قاله أبو البقاء وغيره.

ص: 408

والثاني: أنها حالٌ من الخبيث؛ لأن في الجملة ضميراً يعود إليه، أي: لا تقصدوا منفقاً منه.

والثالث: أنه مستأنف منه ابتداء إخبار بذلك، وتمَّ الكلام عند قوله:{وَلَا تَيَمَّمُواْ الخبيث} ثم ابتدأ خبراً آخر، فقال: تنفقون منه، وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم، كأن هذا عتابٌ للناس، وتقريعٌ.

والتقدير: تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الإغماض، فهو استفهامٌ على سبيل الإنكار. قال شهاب الدِّين: وهذا يردُّه المعنى.

فصل في بيان المراد من النفقة

اختلفوا في المراد بهذه النفقة: فقال الحسن: المراد بها الزكاة المفروضة؛ لأن هذا أمرٌ، والأمر للواجب.

وقال قومٌ: صدقة التطوع؛ لما روي عن علي، والحسن، ومجاهد: أنهم قالوا: كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم، ورديء أموالهم؛ فنزلت هذه الآية.

«وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجلٌ ذات يوم بعذق خشف فوضعه في الصَّدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:» بِئْسَ مَا صَنَعَ صاحبُ هذا «فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال آخرون: المراد الفرض، والنفل؛ لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز وهذا المفهوم قدرٌ مشتركٌ بين الفرض والنَّفل؛ فوجب أن يدخلا فيه، فعلى القول بأنَّه الزكاة فنقول: ظاهر الآية يدلُّ على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، من الذَّهب، والفضَّة، والتجارة، وزكاة الإبل، والغنم، والبقر؛ لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسبٌ.

قال القرطبيُّ: والكسب يكون بتعب بدنٍ، وهي الإجارة، أو مقاولة في تجارةٍ، وهو البيع، والميراث داخلٌ في هذا؛ لأن غير الوارث قد كسبه.

وقال ابن خويزمنداد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم َ:» أَوْلَادُكُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِ أَوْلَادِكُمْ هَنِيئاً «.

ص: 409

قوله: {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} يدلُّ على وجوب الزَّكاة في كل ما تنبته الأرض، على ما هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم َ -:» لَيْسَ في الخُضْرَوَاتِ صَدَقَةٌ «وأستدل أبو حنيفة رحمه الله أيضاً بهذه الآية الكريمة على وجوب إخراج الزكاة من كلِّ ما أنبتته الأرض، قليلاً كان، أو كثيراً؛ لظاهر الآية وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم َ -:

«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة أَوْسُق صَدَقَةٌ» .

أما المعدن والرِّكازُ فقال صلى الله عليه وسلم َ -: «العَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، والمعْدنُ جُبَارٌ، وفي الرِّكاز الخمسُ» الجبار: الهدر الذي لا شيء فيه، والعجماء: الدَّابَّة، والرِّكاز: هو ما دفنه أهل الجاهلية وعليه علامتهم.

فصل

اختلفوا في الطِّيب: فقيل: هو الجيد، فعلى هذا يكون الخبيث هو الرديء. وقال

ص: 410

ابن مسعودٍ، ومجاهدٌ، والسدّي: الطيب هو الحلال، وعلى هذا، فالخبيث هو الحرام.

حجة الأول ما ذكرنا في سبب النزول، ولأن المحرم لا يجوز أخذه؛ لا بإغماضٍ ولا غيره، والآية تدلُّ على جواز أخذه بالإغماض.

قال القفَّال رحمه الله: ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الإغماض: المسامحة، وترك الاستقصاء، فيكون المعنى: ولستم بآخذيه، وأنتم تعلمون أنه محرَّم؛ إلَاّ أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالون من أيِّ وجهٍ أخذتم المال أمن حلالٍ، أم حرام.

واحتجُّوا - أيضاً - بقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وذلك يؤكد أنَّ المراد بالطيب هو النَّفيس الذي يستطاب تملكه، لا الخسيس الذي يرفضه كل أحد واحتجَّ القاضي للقول الثاني: بأنَّا أجمعنا على أن الطِّيب في هذه الآية؛ إمَّا الجيد؛ وإما الحلال، فإذا بطل الأول، تعيَّن الثاني.

وإنما قلنا: بطل الأول؛ لأن المراد لو كان هو الجيد، لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيِّد سواءٌ كان حلالاً أو حراماً، وذلك غير جائزٍ، والتزام التخصيص خلاف الأصل؛ فتعين الحلال.

قال ابن الخطيب: ويمكن أن يذكر فيه قولٌ ثالثٌ، وهو: أن المراد من «الطِّيِّب» - هاهنا - ما يكون طيِّباً من كلِّ الوجوه، فيكون طيّباً بمعنى: الحلال، ويكون طيِّباً بمعنى: الجودة، وليس لقائلٍ أن يقول إنَّ حمل اللفظ المشترك على مفهوميه، لا يجوز؛ لأنا نقول: الحلال إنما يسمى طيِّباً؛ لأنه يستطيبه العقل، والدِّين، والجيد: إنما يسمَّى طيباً؛ لأنه يستطيبه الميل، والشهوة. فمعنى الاستطابة مفهومٌ واحدٌ مشترك بين القسمين، فكان اللفظ محمولاً عليه. إذا ثبت أنَّ المراد منه الجيد الحلال؛ فنقول: الأموال الزكاتيَّة إما أن تكون كلُّها شريفةً، أو كلها خسيسةٌ، أو تكون متوسطة أو مختلطة، فإن كان الكل شريفاً، كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك، وإن كان الكل خسيساً، كانت الزكاة كذلك، أيضاً، ولا يكون ذلك خلافاً للآية؛ لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إذا كان في المال جيد ورديء، فحينئذٍ يقال للإنسان: لا تجعل الزكاة من رديء مالك، وأمَّا إن كان المال مختلطاً، فالواجب هو الوسط، «قال صلى الله عليه وسلم َ - لمعاذٍ حين بعثه إلى اليمن:» إِيَّاكَ وكَرَائِمَ أَمْوَالهمْ «وأما إن قلنا: المراد صدقة التطوع أو كلاهما،

ص: 411

فنقول: إنَّ الله تعالى ندبهم إلى التقرُّب إليه بأفضل ما يملكونه، كمن يتقرب إلى السُّلطان بتحفة، وهدية، فلا بدّ وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه، فكذا - هاهنا -.

قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} هذه الجملة فيها قولان:

أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب، وإليه ذهب أبو البقاء.

والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، ويظهر هذا ظهوراً قوياً عند من يرى أن الكلام قد تمَّ عند قوله:{وَلَا تَيَمَّمُواْ الخبيث} وما بعده استئنافٌ، كما تقدَّم.

والهاء في {بِآخِذِيهِ} تعود على «الخَبِيث» وفيها، وفي نحوها من الضمائر المتصل باسم الفاعل؛ قولان مشهوران:

أحدهما: أنها في محلِّ جر، وإن كان محلُّها منصوباً؛ لأنها مفعولٌ في المعنى.

والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصبٍ، وإنما حذف التنوين، والنون في نحو:«ضَارِبُنْكَ» بثبوت التنوين، وقد يستدلُّ لمذهبه بقوله:[الطويل]

1227 -

هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ.....

...

...

...

وقوله الآخر: [الطويل]

1228 -

وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ.....

...

...

...

.

فقد جمع بين النون النائبة عن التنوين، وبين الضمير.

قوله: {إِلَاّ أَن تُغْمِضُواْ} الأصل: إلَاّ بأن، فحذف حرف الجرِّ مع «أنْ» فيجيء فيها القولان: أهي في محلِّ جرٍّ، أم نصب؟ وهذه الباء تتعلَّق بقوله:{بِآخذيه} . وأجاز أبو البقاء رحمه الله أن تكون «أنْ» وما في حيِّزها في محلِّ نصب على الحال، والعامل فيها «آخِذيه» . والمعنى: لَسْتُم بآخذِيه في حالٍ من الأحوال إلا في حال الإغماض، وقد تقدَّم أنَّ سيبويه رحمه الله لا يجيز أن تقع «أَنْ» ، وما في حيِّزها موقع الحال. وقال

ص: 412

الفراء: المعنى على الشرط والجزاء؛ لأنَّ معناه: إن أغمضتم أخذتم، ولكن لمَّا وقعت «إلَاّ» على «أَنْ» ، فتحها، ومثله، {إِلَاّ أَن يَخَافَآ} [البقرة: 229] {إَلَاّ أَن يَعْفُونَ} [البقرة: 237] . وهذا قول مردودٌ.

والجمهور على: «تُغْمِضُوا» بضمِّ التاء، وكسر الميم مخففةً؛ من «أَغْمَض» ، وفيه وجهان:

أحدهما: أنه على حذف مفعوله، تقديره: تغمضوا أبصاركم، أو بصائركم.

والثاني: في معنى ما لا يتعدَّى، والمعنى إلَاّ أن تغضوا، من قولهم:«أَغْضَى عنه» .

وقرأ الزهريُّ: «تُغَمِّضُوا» بضم التاء، وفتح الغين، وكسر الميم مشددةً؛ ومعناها كالأولى. وروي عنه أيضاً:«تَغْمَضُوا» بفتح التاء، وسكون الغين، وفتح الميم؛ مضارع «غَمِضَ» بكسر الميم، وهي لغةٌ في «أَغْمض» الرباعي، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل وأفعل.

وروي عن اليزيديّ: «تَغْمُضُوا» بفتح التاء، وسكون الغين، وضمِّ الميم.

قال أبو البقاء رحمه الله: «وهو مِنْ: يَغْمُضُ، كظرفُ يظرُفُ، أي: خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه» .

وروي عن الحسن: «تُغَمَّضُوا» بضمِّ التاء، وفتح الغين، وفتح الميم مشددةً على ما لم يسمَّ فاعله.

وقتادة كذلك، إلا أنه خفَّف الميم، والمعنى: إلَاّ أن تحملوا على التغافل عنه، والمسامحة فيه. وقال أبو البقاء رحمه الله في قراءة قتادة:«ويجوزُ أن يكون مِنْ أغْمَضَ، أي: صودف على تلك الحال؛ كقولك: أَحْمَدْتُ الرجُلَ، أي: وجدته مَحْمُوداً» وبه قال أبو الفتح.

وقيل فيها أيضاً: إنَّ معناها إلَاّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه.

والإغماض: في اللغة غضُّ البصر، وإطباق الجفن، وأصله من الغموض، وهو الخفاء، يقال: هذا كلامٌ غامضٌ أي خفي الإدراك.

قال القرطبيُّ: من قول العرب: أغمض الرجل؛ إذا أتى غامضاً من الأمر؛ كما

ص: 413

تقول: أعمن الرجل: إذا أتى عمان، وأعرق: إذا أتى العراق، وأنجد: إذا أتى نجداً، وأغار: إذا أتى الغور الذي هو تهامة.

أو من أغمض الرجل في أمر كذا: إذا تساهل فيه، والغمض: المتطامن الخفيُّ من الأرض، فقيل المراد به في الآية المساهلة؛ لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه؛ لئلا يرى ذلك، ثم كثر ذلك؛ حتى جُعِل كل تجاوزٍ، ومساهلةٍ في البيع، وغيره إغماضاً، فتقديره في الآية: لو أُهْدِي إليكم مثل هذه الأشياء، لما أخذتموها إلَاّ على استحياءٍ، وإغماضٍ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! قاله البراء.

وقيل معناه: لو كان لأحدكم على رجل حقٌّ، فجاءه بهذا لم يأخذه إلَاّ وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقِّه، وتركه.

وقال الحسن، وقتادة: لو وجدتموه يباع في السوق، ما أخذتموه بسعر الجيد؛ إلَاّ إذا أغمضتم بصر البائع، يعني أمرتموه بالإغماض، والحطِّ من الثمن.

ثم قال: {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} والمعنى أنَّه غنيٌّ عن صدقاتكم، و «الحميد» أي: محمودٌ على ما أنعم بالبيان.

وقيل: قوله: «غَنِيٌّ» كالتَّهديد على إعطاء الرديء في الصدقات، و «حَمِيدٌ» : بمعنى حامدٍ، أي: أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات، وهو كقوله تعالى:{فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء: 19] .

ص: 414

قوله تعالى: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء

} الآية: مبتدأٌ وخبرٌ، وتقدَّم اشتقاق الشيطان، وما فيه عند الاستعاذة. ووزن يعدكم: يعلكم بحذف الفاء، وهي الواو؛ لوقوعها بين ياءٍ، وكسرةٍ، وقرأ الجمهور:«الفَقْر» بفتح الفاء، وسكون القاف، وروى أبو حيوة، عن بعضهم:«الفُقْر» بضم الفاء وهي لغةٌ، وقرئ «الفَقَر» بفتحتين.

والوعد: يستعمل في الخير، والشَّرِّ؛ قال تعالى في الخبر:{وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] وقال في الشَّرِّ: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [الحج: 72] ويمكن أن يحمل هذا على التهكم به كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فإذا لم يذكر الخير والشر، قلت في الخير: وعدته، وفي الشر أوعدته؛ قال:[الطويل]

ص: 414

1229 -

وَإِنِّيَ إِنْ أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ

لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي

والفَقْر والفُقْر لغتان؛ وهو الضعيف بسبب قلَّة المال، وأصله في اللغة: كسر الفقار، يقال: رجلٌ فقيرٌ وفَقِرٌ، إذا كان مكسور الفقار؛ قال طرفة:[الرمل]

1230 -

...

...

...

...

..... إِنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ

وسيأتي له مزيد بيان في قوله: «لِلْفُقَراءِ» .

فصل في المراد من الآية

معنى الآية الكريمة أن الشيطان يخوّفكم الفقر، ويقول للرجل: أمسك عليك مالك؛ فإنك إذا تصدقت به افتقرت.

وهذه أوجه اتصال هذه الآية بما قبلها.

قيل المراد ب «الشيطان» : إبليس، وقيل: شياطين الجن، والإنس.

وقيل: النَّفس الأمَّارة بالسُّوء.

{وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} أي: بالبخل، ومنع الزكاة.

قال الكلبي: كلُّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلَاّ هذا، والفاحش عند العرب: البخيل، قال طرفة:[الطويل]

1231 -

أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي

عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَددِ

«يعتامُ» : منقولٌ من عام فلانٌ إلى اللبن، إذا اشتهاه، وقد نبَّه الله تعالى في هذه الآية الكريمة على لطيفةٍ، وهي أنَّ الشيطان يخوفه أولاً بالفقر، ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء، ويغريه على البخل؛ وذلك لأن البخل صفةٌ مذمومةٌ عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلَاّ بتقديم تلك المقدمة، وهي التخويف من الفقر، وقيل «الفَحْشَاءُ» : هو أن يقول: لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله تعالى؛ لئلا تصير فقيراً؛ فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك، زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق بالكلية؛ حتى لا يعطي الجيد، ولا الرديء، وحتى يمنع الحقوق الواجبة، فلا يؤدِّي الزكاة، ولا

ص: 415

يصل الرحم، ولا يردُّ الوديعة، فإذا صار هكذا، سقط وقع الذنوب عن قلبه، ويصير غير مبالٍ بارتكابها، وهناك يتَّسع الخرق، ويصير مقداماً على كلِّ الذنوب، وذلك هو الفحشاء، وتحقيقه: أنَّ لكل خلقٍ طرفين، ووسطاً، فالطرف الكامل: هو أن يكون بحيث يبذل كلَّ ما يملكه في سبيل الله: الجيِّد، والرديء، والطرف الفاحش النَّاقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله: لا الجيد، ولا الرديء، والمتوسط بأن يبخل بالجيد، وينفق الرديء، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش، لا يمكنه إلَاّ بأن يجره إلى الوسط، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام، انقطع طمع الشيطان عنه، وإن أطاعه فيه، طمع في أن يجرَّه من الوسط إلى الطرف الفاحش، فالوسط: هو قوله تعالى: {يَعِدُكُمُ الفقر} والطرف الفاحش قوله تعالى: {وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} .

وقال القرطبيُّ: «الفَحْشَاءُ» : المعاصي، قال: ويجوز في غير القرآن: ويأمركم الفحشاء بحذف الباء، وأنشد سيبويه:[البسيط]

1232 -

أ - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ

فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ

فصل في بيان هل الفقر أفضل من الغنى؟!

تمسك بعضهم بهذه الآية في أنَّ الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه.

قال ابن عطية: وليس في الآية حجَّةٌ؛ لقوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [سبأ: 39] ثم قال: {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} لذنوبكم، كقوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] .

وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة:

أحدهما: التنكير في لفظ «المغْفِرَةِ» ، والمعنى: مغفرةٌ وأيُّ مغفرة.

والثاني: قوله: «مَغْفِرَةً مِنْه» يدل على كمال حال هذه المغفرة؛ لأن كمال كرمه ونهاية جوده، معلومٌ لجميع العقلاء، فلما خص هذه المغفرة بكونها منه، علم أنَّ

ص: 416

المقصود تعظيم حال هذه المغفرة؛ لأنَّ عظم المعطي يدلُّ على عظم العطيَّة.

قوله: {مِّنْهُ} فيه وجهان:

أحدهما: أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه نعتٌ لمغفرة.

والثاني: أن يكون مفعولاً متعلقاً بيعد، أي: يعدكم من تلقاء نفسه.

و {وَفَضْلاً} صفته محذوفةٌ، أي: وفضلاً منه، وهذا على الوجه الأول، وأمَّا الثاني، فلا حذف فيه.

فصل

يحتمل أن يكون المراد من كمال هذه المغفرة ما قاله في آيةٍ أخرى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، ويحتمل أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين، ويحتمل أن يكون المقصود أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا، فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا، ما دمنا في الدنيا.

وأمَّا معنى الفضل، فهو الرزق، والخلف المعجَّل في الدنيا.

ثم قال تعالى: {والله وَاسِعٌ} ، أي: واسع المغفرة والقدرة على إغنائكم، وإخلاف ما تنفقونه {عَلِيمٌ} لا يخفى عليه ما تنفقون؛ فهو يخلفه عليكم.

ص: 417

قال السَّدِّي: هي النبوة.

وقال ابن عباس، وقتادة: علم القرآن: ناسخه، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدّمه، ومؤخره، وحلاله، وحرامه، وأمثاله.

قال الضحاك: في القرآن مائةٌ وتسع آياتٍ، ناسخةٌ ومنسوخةٌ، وألف آية حلالٌ وحرامٌ، لا يسع المؤمنين تركهن، حتى يتعلموهنَّ، ولا يكونوا كأهل النهروان فإنهم تأوَّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة، وإنما أنزلت في أهل الكتاب، جهلوا علمها، فسفكوا بها الدماء، وانتهبوا الأموال، وشهدوا علينا بالضلال، فعليكم تعلم القرآن؛ فإنه من علم فيما أُنزل؛ لم يختلف في شيء منه.

ص: 417

وقال مجاهد: هي القرآن، والعلم، والفقه، وروى ابن أبي نجيح عنه هي الإصابة في القول، والفعل.

وقال إبراهيم النخعيُّ: هي معرفة معاني الأشياء، وفهمها.

وروي عن مقاتل، قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه:

أحدها: مواعظ القرآن. قال: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] وفي النساء {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} [النساء: 113] يعني المواعظ ومثلها في آل عمران.

وثانيها: الحكمة بمعنى: الفهم، والعلم قال {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} [مريم: 12] وفي لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} [لقمان: 12] يعني الفهم، والعلم، وفي الأنعام {أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89] وفي «ص» {وَآتَيْنَاهُ الحكمة} [ص: 20] .

وثالثها: النبوة.

ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، قال في النحل:{ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة} [النحل: 125] وفي هذه الآية {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وعند التحقيق ترجع هذه الوجوه إلى العلم.

قال أبو مسلم: الحكمة: فعلةٌ من الحكم، وهي كالنَّحلة: من النَّحل، ورجلٌ حكيمٌ إذا كان ذا حِجًى، ولُبَّ، وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل، ويقال: أمر حكيمٌ، أي: محكمٌ.

قوله تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ} : الجمهور على «يُؤْتِي» «وَمَنْ يُؤْتَ» بالياء فيهما، وقرأ الريع بن خيثم: بالتاء على الخطاب فيهما. وهو خطابٌ للباري؛ على الالتفات.

وقرأ الجمهور: «وَمَنْ يُؤْتَ» مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير «مَنْ» الشرطية، وهو المفعول الأول فتكون في محل رفع، و «الحكمة» مفعول ثانٍ.

ص: 418

وقرأ يعقوب: «يُؤْتِ» مبنياً للفاعل، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى، و «مَنْ» مفعولٌ مقدمٌ، و «الحكمة» مفعولٌ ثانٍ؛ كقولك:«أَيّاً يُعْطِ زيداً دِرْهماً أُعْطِه درهماً» ويدل لهذه القراءة قراءة الأعمش.

وقال الزمخشريُّ: بمعنى «وَمْن يُؤْتِهِ اللهُ» . قال أبو حيان: «إِن أرادَ تفسير المعنى، فهو صحيحٌ، وإن أراد الإعراب، فليس كذلك؛ إذ ليس ثمَّ ضمير نصب محذوفٌ، بل مفعول» يُؤْتِ «من الشرطية المتقدمة» . قال شهاب الدين: ويؤيِّد تقدير الزمخشري قراءة الأعمش.

قوله: {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} جواب الشرط، والماضي المقترن بقد، الواقع جواباً للشرط، تارةً يكون ماضي اللفظ مستقبل المعنى، كهذه الآية الكريمة، فهو الجواب حقيقةً، وتارةً يكون ماضي اللفظ، والمعنى نحو:

{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ} [فاطر: 4] فهذا ليس جواباً، بل الجواب محذوفٌ، أي: فتسلَّ، فقد كذِّبت رسلٌ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

والتنكير في «خَيْراً» قال الزمخشريُّ: يفيد التعظيم، كأنه قال: فقد أُوتي [أيَّ] خير كَثيرٍ «. قال أبو حيَّان: وتقديره هكذا، يؤدي إلى حذف الموصوف ب» أَيَّ «وإقامة الصفة مقامه، فإنَّ التقدير: فقد أُوتِيَ خيراً أي خيرٍ كثيرٍ، وحذف» أيَّ «الواقعة صفةً، وإقامة المضاف إليها مقامها، وكذلك وصف ما يضاف إليه» أيَّ «الواقعة صفةً، نحو: مررت برجلٍ أيِّ رجلٍ كريم، وكلُّ هذا يحتاج في إثباته إلى دليلٍ، والمحفوظ عن العرب: أنَّ» أيّاً «الواقعة صفةً تضاف إلى ما يماثل الموصوف نحو:

1232 -

ب - دَعَوْتُ امْرَأً أَيَّ امْرِئٍ فَأَجَابَنِي

وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلَاذاً وَمَوْئِلاً

وقد يحذف المصوف ب» أي «؛ كقوله: [الطويل]

1233 -

أ - إِذَا حَارَبَ الحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ

عَلَاهُ بِسَيْفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ

تقديره: منافقاً أيَّ منافقٍ، وهذا نادرٌ، وقد تقدم أنَّ تقدير الزمخشريِّ كذلك، أعني كونه حذف موصوف» أيّ «كقراءة الأعمش بإثبات» ها «الضمير و» مَنْ «في قراءته مبتدأٌ، لاشتغال الفعل بمعموله، وعند من يجوِّز الاشتغال في أسماء الشَّرط، والاستفهام، يجوز في»

ص: 419

مَنْ «النصب بإضمار فعلٍ، وتقديره متأخراً والرفع على الابتداء، وقد تقدم نظائر هذا.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجُّوا بهذه الآية الكريمة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم، لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية؛ لأنها حاصلة للبهائم، والمجانين، والأطفال، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكمة، فهي مفسرة بالعلوم النظرية، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهرٌ، وعلى التقديرين: فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية، والحسية ثابتاً من غيرهم، وبتقدير مقدِّرٍ من غيرهم، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة أو القرآن، أو قوة الفهم أو الخشية، على ما قال الرَّبيع بن أنسٍ؟

فالجواب: إنَّ الدليل الذي ثبت بالتواتر أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن، بل هي مفسرة: إمَّا بمعرفة حقائق الأشياء، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة، وعلى التقديرين، فالمقصود حاصلٌ فإن حاولت حمل الإيتاء على التوفيق، والإعانة، والألطاف، قلنا: كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين، فقد فعل مثله في حق الكفَّار، مع أن هذا المدح العظيم لا يتناولهم، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيءٌ آخر سوى فعل الألطاف.

قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُواْ الألباب} وأصل» يَذَّكَّرُ «: يتذكر، فأدغم.

» وأُولُوا الأَلْبَابِ «ذوو العقول، ومعناه: أن الإنسان إذا تأمَّل، وتدبر هذه الأشياء، وعرف أنها لم تصل إلَاّ بإيتاء الله تعالى، وتيسيره، كان من أولي الألباب.

ص: 420

قوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ} [البقرة: 106]{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 197] وقد تقدَّم. وأيضاً تقدَّم الكلام في مادة «نَذَرَ» في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]، إلَاّ أنَّ النَّذر له خصوصيَّة: وهو عقد الإنسان ضميره على شيءٍ، يقال: نذر ناذرٌ؛ قال عنترة: [الكامل]

1233 -

ب - الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا

والنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَم الْقَهُمَا دَمِي

ص: 420

وأصله من التَّخويف تقول أنذرت القوم إنذاراً بالتخويف، وفي الشرع على ضربين: مفسر: كقوله للهِ عليَّ عَتْق رَقَبةٍ، ولِلَّهِ عليَّ حجٌّ فهاهنا يلزم الوفاء، ولا يجزيه غيره، وغير مفسَّر كقوله: نذرت لله تعالى ألَاّ أفعل كذا، ثم يفعله، أو يقول: لله عليَّ نذرٌ، ولم يسمِّه، فيلزمه كفارة يمينٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم َ -:«َمَنْ نَذَرَ نَذْراً، وسَمَّى فَعَلْيهِ ما سمَّى، ومَنْ نَذَرَ نَذْراً، ولَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارةُ يَمِينٍ» .

قوله: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} جواب الشرط؛ إن كانت «ما» شرطيةً، أو زائدة في الخبر، إن كانت موصولة.

فإن قيل: لم وحَّد الضمير في «يَعْلَمُه» وقد تقدم شيئان النفقة، والنذر؟

فالجواب أن العطف هنا ب «أو» ، وهي لأحد الشيئين، تقول:«إنْ جاء زيدٌ، أو عمروٌ أكرمتُه» ، ولا يجوز: أكرمتها، بل يجوز أن تراعي الأول نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ، أو الثاني، نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقة، والآية من هذا، ولا يجوز أن يقال: منطلقان. ولهذا أوَّل النحاة: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومن مراعاة الأول قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]، على هذا لا يحتاج إلى تأويلات ذكرها المفسرون. وروي عن النَّحاس أنه قال: التقدير: وما أنفقتم من نفقةٍ، فإنَّ الله يعلمها، أو نذرتم من نذر، فإنَّ الله يعلمه، فحذف، ونظَّره بقوله تعالى:{والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلَا يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] وقوله: [المنسرح]

1234 -

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا

عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

وقول الآخر في هذا البيت: [الطويل]

1235 -

رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْه وَوَالِدِي

بَرِيئاً وَمِنْ أَجْلِ الطَوِيِّ رَمَانِي

وهذا لا يحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواو المقتضية للجمع بين الشيئين، وأمَّا «

ص: 421

أَوْ» المقتضية لأحد الشيئين، فلا. وقال الأخفش: الضمير عائدٌ إلى الأخير كقوله: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} [النساء: 112] وقيل: يعود إلى «ما» في قوله: «وَمَا أَنْفَقْتُمْ» لأنها اسمٌ كقوله: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] ، ولا حاجة إلى هذا أيضاً؛ لما عرفت من حكم «أو» .

قوله: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} أفاد: الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، لأنه يعلم ما في قلب المتصدق من الإخلاص فيتقبل منه تلك الطاعة؛ كما قال:

{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27]، وقوله:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] .

قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} اعلم أنَّ الظالم قسمان:

الأول: من ظلم نفسه وهو يشتمل على كل المعاصي.

الثاني: من ظلم غيره بأن لا ينفق أو لا يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غ يره، أو ينفق على المستحقِّ رياءً وسمعةً، أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظُّلم على الغير، بل من باب الظلم على النَّفس.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة في إنكار الشفاعة

تمسَّك المعتزلة بهذه الآية، في نفي الشَّفاعة عن أهل الكبائر، قالوا: لأنَّ ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه، فلو اندفعت العقوبة عنهم بالشفاعة، لكان أولئك الشفعاء أنصاراً لهم، وذلك يضاد الآية.

وأجيبوا بوجوه:

الأول: أن الشفيع لا يسمَّى في العرف ناصراً، بدليل قوله:{واتقوا يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123] ففرَّق تعالى بين الشفيع، والناصر؛ فلا يلزم من نفي الناصر نفي الشفيع.

الثاني: أن الشفيع إنما يشفع عن المشفوع عنده على سبيل استعطافه، والناصر ينصره عليه، والفرق ظاهرٌ.

وأجاب آخرون: بأنه ليس لمجموع الظالمين من أنصارٍ.

فإن قيل: لفظ «الظَّالِمِينَ» ، ولفظ «الأَنْصَارِ» جمعٌ، والجمع إذا قوبل بالجمع، توزع الفرد على الفرد، فكان المعنى: ليس لأحدٍ من الظالمين، أحدٌ من الأنصار.

قلنا لا نسلّم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد؛ لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد.

الوجه الثالث: أن هذا الدليل للشفاعة عامٌّ في حقِّ الكلِّ في الأشخاص،

ص: 422

والأوقات، ودليل إثبات الشفاعة خاصٌّ في بعض الأوقات، والخاصُّ مقدمٌ على العامِّ.

الوجه الرابع: ما بينا أن اللفظ العامَّ لا يكون قاطعاً في الاستغراق؛ بل ظاهرٌ على سبيل الظن القويِّ، فصار الدليل ظنياً، والمسألة ليست ظنيَّة، فسقط التمسُّك بها.

و «الأَنْصَارُ» جمع نصير؛ كأشرافٍ، وشريف، وأحبابٍ، وحبيب.

ص: 423

قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} أي تُظهرونها {فَنِعِمَّا هِيَ} .

الفاء جواب الشرط، و «نِعْمَط فعلٌ ماضٍ للمدح، نقيض بئس، وحكمها في عدم التصرف، والفاعل، واللغات حكم بئس، كما تقدَّم.

و» مَا «في محلِّ الرفع. و» هِيَ «في محل النصب، كما تقول: نِعْمَ الرجل رجلاً، فإذا عرَّفت، رفعت فقلت: نِعْمَ الرجلُ زَيْدٌ.

قال الزجاج:» ما «في تأويل الشيء، أي: نعم الشيء هو.

قال أبو علي: الجيد في تمثيل هذا أن يقال:» ما «في تأويل شيءٍ؛ لأن» مَا «ها هنا نكرةٌ فتمثيله بالنكرة أبين، والدليل على أن» ما «ها هنا نكرةٌ أنها لو كانت معرفةً، فلا بد لها من صلة، وليس ها هنا ما يوصل به؛ لأن الموجود بعد» ما «هو» هي «وكلمة» هِيَ «مفردةٌ، والمفرد لا يكون صلةً ل» مَا «وإذا بطل هذا، فنقول» مَا «نصبٌ على التمييز، والتقدير: نِعْمَ شيئاً هي إبداء الصدقات، فحذف المضاف؛ لدلالة الكلام عليه.

وقرأ ابن عامرٍ، وحمزة، والكسائيُّ، هنا وفي النساء:» فَنَعِما «بفتح النون، وكسر العين، وهذه على الأصل؛ لأنَّ الأصل على» فَعِلط كعلم، وقرى ابن كثير، وورش، وحفص: بكسر النون والعين، وإنما كسر النون إتباعاً لكسرة العين، وهي لغة هذيل.

قيل: وتحتمل قراءة كسر العين أن يكون أصل العين السكون، فلمّا وقعت بعدها «ما» وأدغم ميم «نِعْم» فيها، كسرت العين؛ لالتقاء الساكنين، وهو محتملٌ.

وقرأ أبو عمرو، وقالون، وأبو بكر: بكسر النون، وإخفاء حركة العين.

ص: 423

وروي عنهم الإسكان أيضاً، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغةً للنبي صلى الله عليه وسلم َ - في [نحو] قوله:«نِعْمَّا المالُ الصالح مع الرجلِ الصالحِ» .

والجمهور على اختيار الاختلاس على الإِسكان، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو، وممَّن أنكره المبرد، والزجاج والفارسي، قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدِّهما. قال المبرد: «لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يَنْطِقَ به، وإنما يَرُومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّك، ولا يَشْعُر» وقال الفارشي: «لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سُكُوناً» .

وقد تقدَّم الكلام على «مَا» اللاحقة لنعم، وبئس. و «هي» مبتدأٌ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حذف مضاف، أي: فنعم إبداؤها، ويجوز ألَاّ يقدَّر مضافٌ، بل يعود الضمير على «الصَّدَقَاتِ» بقصد صفة الإبداء، تقديره: فنعمَّا هي، أي: الصدقات المبداة. وجملة المدح خبرٌ عن «هي» ، والرابط العموم، وهذا أولى الوجوه، وقد تقدَّم تحقيقها.

والضمير في {وَإِن تُخْفُوهَا} يعود على الصدقات. قيل: يعود عليها لفظاً ومعنًى، وقيل: يعود عليها لفظاً لا معنًى؛ لأنَّ المراد بالصدقات المبداة: الواجبة، وبالمخفاة: المتطوَّع بها، فيكون من باب «عِنْدِي دِرْهمٌ، ونصفُه» ، أي: ونصف درهمٍ آخر؛ وكقول القائل: [الوافر]

1236 -

كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ

خَرِيقٌ وَهْيَ سَاكِنَةُ الهُبُوبِ

أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية.

والفاء في قوله: «فهو» جواب الشرط، والضمير يعود على المصدر المفهوم من «تُخْفُوهَا» أي: فالإخفاء، كقوله:{اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] و «لكم» صفةٌ لخير، فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «خَيْر» يجوز أن يكون للتفضيل، فالمفضَّل عليه محذوف، أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريَّة، أي: خيرٌ لكم من الخيور.

وفي قوله: «إِن تُبْدُواْ، وَإِن تُخْفُوهَا» نوعٌ من البديع، وهو الطِّباق اللَّفظيّ. وفي قوله:{وَتُؤْتُوهَا الفقرآء} طباق معنوي؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الأغنياء الصدقات، وإن يخف الأغنياء الصدقات، ويؤتوها الفقراء، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظاً، والأغنياء بالفقراء معنًى.

ص: 424

والصَّدقة: قال أهل اللغة: موضوع: «صَ دَ قَ» على هذا الترتيب للصحة، والكمال ومنه قولهم: رجلٌ صدقُ النَّظر، وصدقُ اللقاء، وصدقُوهم القتال، وفلانٌ صادق المودَّة، وهذا خلٌّ صادق الحموضة، وشيءٌ صادق الحلاوة، وصدق فلانٌ في خبره، إذا أخبر به على وجه الصِّحة كاملاً، والصَّديق يسمى صديقاً؛ لصدقه في المودَّة، وسمِّي [الصَّداق صداقاً لأن] مقصود العقد يتمُّ به ويكمل، وسميت الزكاة صدقةً؛ لأن المال بها يصحُّ ويكمل، فهي إمَّا سببٌ لكمال المال، وبقائه، وإما أنها يستدلُّ بها على صدق إيمان العبد، وكماله فيه.

فصل في بيان فضيلة صدقة السِّر

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: صدقة السرِّ أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية.

«وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:» سَبْعَةٌ يُظْلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَاّ ظِلُّهُ

«إلى أن قال:»

ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعلم شِمَالُه ما تُنْفِقُ يَمِينُه «.

وقيل: الآية في صدقة التطوُّع؛ أما الزكاة المفروضة، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى يقتدي الناس به؛ كالصلاة المكتوبة في الجماعة، والنافلة في البيت أفضل.

وقيل: الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيراً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - أمَّا في زماننا، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى لا يساء به الظن.

واعلم أنَّ الصدقة تطلق على الفرض والنَّفل؛ قال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وقال: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} [التوبة: 60]،» وقال صلى الله عليه وسلم َ -:«نَفَقَةُ المرْءِ عَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ» والزكاة لا تطلق إلَاّ على الفرض.

قوله: {وَيُكَفِّرُ} بالواو، والأعمش: بإسقاطها، والياء، وجزم الراء؛ وفيها تخريجان:

أحدهما: أنه بدلٌ من موضع قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ؛ لأنه جواب الشرط، كأنَّ التقدير: وإن تخفوها، يكن خيراً لكم، ويُكَفِّرْ.

ص: 425

والثاني: أنه حذف حرف العطف، فتكون كالقراءة المشهورة، والتقدير:«ويُكَفِّرُ» وهذا ضعيفٌ جداً.

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر: بالنون ورفع الراء، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بالنون وجزم الراء، وابن عامرٍ، وحفصٌ عن عاصم: بالياء ورفع الراء، والحسن: بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أيضاً: بالياء ونصب الراء، وابن عباس:«وتُكَفِّرْ» بتاء التأنيث وجزم الراء، وعكرمة: كذلك؛ إلا أنه فتح الفاء؛ على ما لم يسمَّ فاعله، وابن هرمز: بالتاء ورفع الراء، وشهر بن حوشب - ورويت عن عكرمة أيضاً -: بالتاء ونصب الراء، وعن الأعمش إحدى عشرة قراءةً، والمشهور منها ثلاثٌ.

فمن قرأ بالياء، ففيه ثلاثة أوجه:

أظهرها: أنه أضمر في الفعل ضمير الله تعالى؛ لأنه هو المكفِّر حقيقةً، وتعضده قراءة النون؛ فإنها متعيِّنةٌ له.

والثاني: أنه يعود على الصَّرف المدلول عليه بقوة الكلام، أي: ويكفِّر صرف الصدقات.

والثالث: أنه يعود على الإخفاء المفهوم من قوله: {وَإِن تُخْفُوهَا} ، ونسب التكفير للصَّرف، والإخفاء مجازاً؛ لأنَّهما سببٌ للتكفير، وكما يجوز إسناد الفعل إلى فاعله، يجوز إسناده إلى سببه.

ومن قرأ بالتاء ففي الفعل ضميرُ الصَّدقات، ونُسب التكفير إليها مجازاً كما تقدَّم، ومن بناه للمفعول؛ فالفاعل هو الله تعالى، أو ما تقدَّم.

ومن قرأ بالنون، فهي نون المتكلِّم المعظِّم نفسه.

ومن جزم الراء؛ فللعطف على محلِّ الجملة الواقعة جواباً للشرط؛ ونظيره قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] في قراءة من جزم «وَيَذَرُهُمْ» .

ومن رفع، فعلى ثلاثة أوجهٍ:.

أحدها: أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب، وتكون الواو عاطفةً جملة كلام على جملة كلام آخر.

والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمر، وذلك المبتدأ: إمَّا ضمير الله تعالى، أو الإخفاء،

ص: 426

أي: وهو يُكفِّر؛ فيمن قرأ بالياء، ونحن نكفِّر؛ فيمن قرأ بالنون، أو وهي تُكَفِّر؛ فيمن قرأ بتاء التأنيث.

والثالث: أنه عطفٌ على محلِّ ما بعد الفاء، إذ لو وقع مضارعٌ بعدها، لكان مرفوعاً؛ كقوله تبارك وتعالى:{ومعناه وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95]، ونظيره {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] في قراءة من رفع.

ومن نصب، فعلى إضمار «أَنْ» ؛ عطفاً على مصدر متوهَّم، مأخوذ من قوله:{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، والتقدير: وإن تخفوها يكن، أو يوجد خيرٌ لكم وتكفيرٌ. ونظيرها قراءة من نصب:«فيغفر» بعد قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284]، إلَاّ أنَّ تقدير المصدر في قوله:«يُحَاسِبْكُمْ» ثَمَّ أسهل منه هنا؛ لأنَّ ثمَّة فعلاً مصرَّحاً به، وهو «يُحَاسِبْكُمْ» ، والتقدير: يقع محاسبةً فغفرانٌ، بخلاف هنا، إذ لا فعل ملفوظٌ به، وإنما قدَّرنا المصدر من مجموع قوله:{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} .

وقال الزمخشريُّ: «ومعناه: وإِنْ تُخْفُوها، يكُنْ خَيْراً لكم، وأَنْ يُكَفِّرَ» قال أبو حيَّان: «وظاهِرُ كَلَامِهِ هذا أنَّ تقديره:» وأَنْ يُكَفِّرَ «يكون مقدَّراً بمصدر، ويكون معطوفاً على» خَيْراً «الذي هو خبر» يَكُنْ «التي قدَّرها، كأن قال: يكنِ الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً، فيكون» أَنْ يُكَفِّرَ «في موضع نصبٍ، والذي تقرَّر عند البصريِّين: أنَّ هذا المصدر المنسبك من:» أنْ «المضمرة مع الفعل المنصوب بها، هو معطوفٌ على مصدر متوهَّم مرفوع، تقديره من المعنى. فإذا قلت:» مَا تَأْتِينَا فتحدثنا «فالتقدير: ما يكون منك إتيانٌ فحديثٌ، وكذلك:» إِنْ تَجِىءْ وتُحْسِنَ إليَّ، أُحْسِنْ إليك «التقدير: إن يكن منك مجيءٌ، وإحسانٌ أُحْسن إليك، فعلى هذا يكون التقدير: وإن تخفوها، وتؤتوها الفقراء، فيكون زيادة خير للإخفاء على خير الإبداء وتكفيرٌ» . انتهى. قال شهاب الدين: ولم أدر ما حمل الشيخ على العدول عن تقدير أبي القاسم، إلى تقديره وتطويل الكلام في ذلك؛ مع ظهور ما بين التقديرين؟

وقال المهدويُّ: «هو مُشَبَّهٌ بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء، لوجوب غيره كالاستفهام» . وقال ابن عطيَّة: «الجزمُ في الراء أفصحُ هذه القراءات؛ لأنها تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التكفير في الجزاء، وكونه مَشْرُوطاً إن وقع الإخفاء، وأمَّا رفع الراء، فليس فيه هذا المَعْنَى» قال أبو حيان: «ونقولُ إنَّ الرفع أبلغُ وأعمُّ؛ لأنَّ الجزم يكون على أنَّه معطوفٌ على جواب الشرط الثاني، والرفع يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهة المعنى على بذل الصدقات أُبْدِيَتْ، أو أُخْفيت، لأنَّا نعلم أنَّ هذا التكفير متعلِّقٌ بما قبله، ولا يختصُّ التكفير بالإخفاء فقط، والجزم يخصِّصه به، ولا يمكن أن

ص: 427

يقال إن الذي يبدي الصدقات، لا يُكَفِّرْ مِنْ سيئاتِهِن فقد صار التكفيرُ شاملاً للنوعَيْن: من إبداء الصدقاتِ، وإخفائها؛ وإن كان الإخفاء خيراً» .

قوله تعالى: {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} في «مِنْ» ثلاثة أقوالٍ:

أحدها: أنها للتَّبعيض، أي: بعض سيئاتكم، لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات، وعلى هذا فالمفعول في الحقيقة [محذوفٌ]، أي: شيئاً من سيئاتكم، كذا قدَّره أبو البقاء.

والثاني: أنها زائدة وهو جارٍ على مذهب الأخفش، وحكاه ابن عطية عن الطبري عن جماعةٍ، وجعله خطأً؛ يعني من حيث المعنى.

والثالث: أنها للسببية، أي: من أجل ذنوبكم؛ وهذا ضعيفٌ.

والسيئات: جمع سيِّئة، ووزنها: فيعلة، وعينها واوٌ، والأصل: سيوءة، ففعل بها ما فعل بميِّت، كما تقدَّم.

قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إشارةٌ إلى تفضيل صدقة السرِّ على العلانية؛ كأنه يقول: أنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاة الله، وقد حصل مقصودكم في السر؛ فما معنى الإبداء؛ فكأَنَّهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء؛ ليكون أبعد من الرياء، وكسر قلب الفقير.

ص: 428

هذا الكلام متصلٌ بما قبله من ذكر الصدقات، كأنه بيَّن فيه جواز الصدقة على المشركين.

قوله: «هُداهُمْ» : اسم ليس، وخبرها الجارُّ والمجرور. و «الهُدَى» مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول، أي: ليس عليك أن تهديهم، ويجوز أن يكون مضافاً لفاعله، أي: ليس عليك أن يهتدوا، يعني: ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء.

وفيه طباقٌ معنويٌّ، إذ التقدير: هَدْيُ الضَّالِّين، وفي قوله:{ولكن الله يَهْدِي} مع قوله تعالى: {هُدَاهُمْ} جناسٌ مغاير؛ لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ، والأخرى فعلٌ، ومفعول {يَشَآءُ} محذوفٌ، أي: هدايته.

فصل في بيان سبب النزول

روي في سبب النزول وجوه:

أحدها: أن قُتَيْلَةَ أمَّ أسماء بنت أبي بكر، أتت إليها؛ تسألها شيئاً، وكذلك جدَّتها،

ص: 428

وهما مشركتان؛ فقالت: لا أُعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فإنَّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك؛ فنزلت هذه الآية؛ فأمرها رسول الله - صلى الله لعيه وسلم - أن تتصدق عليهما.

الثاني: كان أُناسٌ من الأنصار، لهم قرابةٌ من قريظة والنَّضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً؛ فنزلت هذه الآية الكريمة.

الثالث: قال سعيد بن جبير: كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - عن التصدق على المشركين؛ كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام؛ فنزلت الآية الكريمة فتصدق عليهم والمعنى على جميع الروايات: ليس عليك هدى من خالفك؛ حتى تمنعهم الصدقة؛ لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدقْ عليهم، لوجه الله، ولا توقف ذلك على إسلامهم، والمراد بهذه الهداية هداية التوفيق، وأما هداية البيان، والدعوة، فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -.

وظاهر هذه الآية أنها خطابٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم َ - ولكن المراد به هو، وأُمَّته؛ ألا تراه قال:{إِن تُبْدُواْ الصدقات} [البقرة: 271] وهذا عامٌّ، ثم قال:{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} وظاهره خاصٌّ، ثم قال بعده {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} وهذا عامٌّ، فيفهم من عموم ما قبل الآية الكريمة، وعموم ما بعدها: عمومها أيضاً.

فَصْلٌ في بَيان هدايةِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ

دلَّت هذه الآية الكريمة على أن هداية الله تبارك وتعالى غير عامَّةٍ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين، لأن قوله تعالى:{ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} إثباتٌ للهداية المنفيَّة بقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ولكنَّ المنفي بقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هو حصول الاهتداء، على سبيل الاختيار، فكان قوله:{ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} عبارةٌ عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار، وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى، وتخليقه وتكوينه؛ وهو المطلوب.

وحمله المعتزلة على أنه يهدي بالإثابة، والألطاف، وزيادة الهدى؛ وهو مردودٌ بما قررناه.

قوله: {فَلأَنْفُسِكُمْ} خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: فهو لأنفسكم شرط وجوابه، «والخَيْرُ» في هذه الآية المال؛ لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنه المال، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال؛ نحو قوله:{خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] وقوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ونحوه.

ص: 429

وقوله: {إِلَاّ ابتغآء} فيه وجهان:

أحدهما: أنه مفعولٌ من أجله، أي: لأجل ابتغاء وجه الله، والشروط هنا موجودةٌ.

والثاني: أنه مصدرٌ في محلّ الحال، أي: إلَاّ مبتغين، وهو في الحالين استثناءٌ مفرَّغٌ، والمعنى: وما تنفقون نفقة معتداً بقبولها؛ إلَاّ ابتغاء وجه [الله] ، أو يكون المخاطبون بهذا ناساً مخصوصين، وهم الصحابة، لأنهم كانوا كذلك، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين؛ لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاء غير وجه الله.

قال بعض المفسرين: هذا جحدٌ لفظه نفيٌ، ومعناه نفيٌ، أي: لا تنفقوا إلَاّ ابتغاء وجه.

قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} تأكيدٌ وبيان؛ كقوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} .

وقوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جواب الشرط، وقد تقدَّم أنه يقال:«وَفَّى» بالتشديد و «وَفَى» بالتخفيف و «أَوْفَى» رباعياً.

وإنما حسن قوله: «إِلَيْكُمْ» مع التوفيه؛ لأنها تضمَّنت معنى التَّأدية، ومعناه يوفّ لكم جزاؤه في الآخرة.

وقوله: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأ، وخبرٍ: في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «إِلَيْكُمْ» ، والعامل فيها «يُوَفَّ» ، وهي تشبه الحال المؤكَّدة؛ لأنَّ معناها مفهومٌ من قوله:«يُوَفَّ إِلَيْكُم» ؛ لأنهم إذا وفُّوا حقوقهم، لم يظلموا. ويجوز أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب، أخبرهم فيها أنه لا يقع عليهم ظلمٌ، فيندرج فيه توفية أجورهم؛ بسبب إنفاقهم في طاعة الله تعالى، اندراجاً أوَّلياً.

فصل في المراد من الآية

في معنى الآية وجوه:

الأول: أن معناه: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين لا تقصدون إلَاّ وجه الله تعالى، وقد علم الله هذا من قلوبكم، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله تعالى في صلة رحم، وسدِّ خلَّة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم، حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم.

الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبراً، إلَاّ أن معناه النهي، أي: ولا تنفقوا إلَاّ ابتغاء وجه الله وورود الخبر بمعنى الأمر، والنهي كثير؛ قال تعالى:{والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]{والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] .

ص: 430

الثالث: معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح؛ حتى تبتغوا بذلك وجه الله.

فصل في ذكر الوجه في قوله {إِلَاّ ابتغآء وَجْهِ الله}

إذا قلت: فعلته: لوجه زيدٍ، فهو أشرف في الذكر من قولك: فعلته له؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، وإذا قلت: فعلت هذا الفعل له، فيحتمل أن يقال فعلته له ولغيره، أما إذا قلت: فعلت هذا الفعل لوجهه، فهذا يدل على أنَّك فعلت هذا الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركةٌ.

فصل في بيان عدم صرف الزكاة لغير المسلم

أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير مسلم؛ فتكون هذه الآية مختصةً بصدقة التطوع، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره؛ وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله، لكان لك ثواب نفقتك.

ص: 431

قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ} الآية: في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ:

أحدها: - وهو الظاهر - أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ، يدلُّ عليه سياق الكلام، واختلفت عبارات المعربين فيه، فقال مكي - ولم يذكر غيره -:«أَعْطُوا لِلْفقراءِ» ، وفي هذا نظرٌ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل: إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، وإمَّا لكونه فرعاً؛ نحو قوله تعالى:{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ويبعد أن يقال: لمَّا أُضمر العاملن ضعف؛ فقوي باللام، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك، وإن لم يضعف العامل، وجعل منه {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقدَّره أبو البقاء:«اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ» وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب. وقدَّره الزمخشريُّ:«اعْمدُوا، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء» والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي، لكن فيه ما تقدَّم.

الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات، قالوا: فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء، وفيها بيان مصرف الصَّدقات. وهذا اختيار ابن الأنباري.

ص: 431

قال ابن الخطيب: لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق، قال بعدها «لِلْفُقَرَاءِ» أي: ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل، فتقول: عاقلٌ لبيبٌ، والمعنى: أن ذلك الذي مرَّ وصفه عاقلٌ لبيبٌ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس يجعلون فيه الذهب، والفضَّة: ألفان، أو مائتان، أي: ذلك الذي في الكيس ألفان، أو مائتان.

وأنشد ابن الأنباري: [الرجز]

1237 -

تَسْأَلُنِي عَنْ زَوْجِهَا أَيُّ فَتَى

خبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى

يريد: هو خبٌّ.

الثالث: أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} [البقرة: 271] وهو مذهب القفَّال، واستبعده الناس؛ لكثرة الفواصل.

الرابع: أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} وفي هذا نظرٌ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب، فيصير نظير قولك: مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك، معلِّلاً بما ذكرناه، فقال: وَلَا يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام «تنفقوا» الأخير في الآية المتقدمة الكريمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل، والمعمول بما ليس منه، كما لا يجوز:«كانَتْ زَيْداً الحُمَّى تأخُذُ» .

الخامس: أنَّ «للفقراء» بدلٌ من قوله: «فلأَنْفُسِكُمْ» ، وهذا مردودٌ؛ قال الواحدي، وغيره:«لأنَّ الإنفاق من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من باب {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس، ولا جزاءً منها، ولا مشتملةً عليها، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى:

{وَلَا

تقتلوا

أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] في أحد التأويلين.

والفقير: قيل: أصله من «فَقَرَتْه الفَاقِرَةُ» ، أي: كسرت فقارات ظهره الداهية. قال الراغب: وأصل الفقير: هو المكسُورُ الفقار، يقال:«فَقَرَتْه الفاقرةُ» أي: الداهية تكسر الفقار، و «أَفْقَرَكَ الصَّيْدُ [فَارْمِهِ» ] أي أمكنك من فقاره، وقيل: هو من الفُقرة، أي: الحفرة، ومنه قيل لكلِّ حفرةٍ يجتمع فيها الماء، فقيرٌ: وفقرت للفسيل: حفرت له حفرة؛ غرسته فيها؛ قال: [السريع أو الرجز]

ص: 432

1238 -

مَا لَيْلَةُ الفَقِيرِ إِلَاّ شَيْطَانْ

قيل: هو اسم بئر، وفقرت الخرز: ثقبته.

وقال الهروي: يقال «فَقَره» إذا أصاب فقار ظهره، نحو: رَأَسَه، أي: أصاب رأسه، وبَطَنَهُ، أي: أصاب بطنه. وقال الأصمعي: «الفقر: أن يحزَّ أنف البعير، حتى يخلص الحزُّ إلى العظم، ثم يلوي عليه جريراً يذلَّل به الصَّعب من الإبل، ومنه قيل: عمل به الفاقرة» . والفقرات - بكسر الفاء، وفتح القاف -: جمع فقرة: الأمور العظام، ومنه حديث السَّعي:«فِقَراتُ ابن آدَم ثلاثٌ: يَوْمَ وُلِد، ويومَ يَمُوتُ، ويومَ يُبْعَثُ» . والفقر - بضم الفاء، وفتح القاف -: جمع فقرة؛ وهي الحزُّ، وخرم الخطم، ومنه قول أبي زيادٍ:«يُفْقَرُ الصَّعْبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خطْمِه» ومنه حديث سعدٍ: «فَأَشَارَ إلى فُقَرٍ في أنْفِهِ» ، أي: شقٍّ، وحزِّ. وقد تقدَّم الكلام في الإحصار عندق وله:«فإن أحصرتم» .

قوله: {فِي سَبِيلِ} في هذا الجار وجهان:

أحدهما: أن يتعلَّق بالفعل قبله؛ فيكون ظرفاً له.

والثاني: أن يكون متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من مرفوع «أُحصروا» ، أي: مستقرين في سبيل الله. وقدَّره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله، فهو تفسير معنًى لا إعراب؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق.

فصل في بيان سبب النزول

نزلت في فقراء المهاجرين، وكانوا نحو أربعمائةٍ، وهم أصحاب الصُّفَّة، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد؛ يتعلمون القرآن الكريم، ويرضخون النوى بالنهار ويخرجون في كل سريَّةٍ يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فحث الله عليهم الناس؛ فكان من عنده فضلٌ أتاهم به، إذا أمسى.

«عن ابن عباس رضي الله عنهما: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - يوماً على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم، وجهدهم؛ فطيَّب قلوبهم، فقال:» أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فإنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِياً بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رُفَقَائِي «واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفاتٍ:

الأولى: قوله: {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} والإحصار: أن يعرض للرجل ما

ص: 433

يحول بينه وبين سفره من مرضٍ، أو كسرٍ، أو عدوٍّ، أو ذهاب نفقةٍ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء، يقال: أحصر الرجل: فهو محصرٌ، وفي معنى هذا الإحصار، وجوه:

الأول: أنَّهم حصروا أنفسهم، ووقفوها على الجهاد؛ لأن قوله:{فِي سَبِيلِ الله} مختصٌّ بالجهاد في عرف القرآن.

الثاني: قال قتادة رحمه الله وابن زيد: منعو أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش؛ خوف العدوِّ؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم، قتلوهم.

الثالث: قال سعيد بن جبير؛ وهو اختيار الكسائي: إنَّ هؤلاء القوم أصابتهم جراحاتٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وصاروا زمنى، فأحصرهم المرض، والزمانة عن الضَّرب في الأرض.

الرابع: قال ابن عباس رضي الله عنهما هؤلاء القوم من المهجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله، فعذرهم الله.

الصفة الثانية: قوله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} في هذه الجملة احتمالان:

أظهرهما: أنها حالٌ، وفي صاحبها وجهان:

أحدهما: أنه «الفقراء» ، وثانيهما: أنه مرفوع «أُحْصِرُوا» .

والاحتمال الثاني: أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب؛ و «ضَرْباً» مفعولٌ به، وهو هنا السفر للتجارة؛ قال:[الوافر]

1239 -

لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ مِنْ بَقَاهُ

وَضَرْبٌ في البِلَادِ بِغَيْرِ زَادِ

ويقال: ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْباً، ومَضْرِباً، أي: سرتُ.

فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية

عدم استطاعتهم: إمَّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدِّين، بأمر الجهاد؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإمَّا لخوفهم من الأعداء، وإمَّا لمرضهم، وعجزهم؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكَّ في احتياجهم إلى من يعينهم.

ص: 434

الصفة الثالثة: قوله: {يَحْسَبُهُمُ} يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف، وكذلك ما بعدها.

«يَحْسَبُهُمْ» هو الظَّنُّ، أي: إنّهم من الانقباض، وترك المسألة، والتوكل على الله، بحيث يظنهم الجاهل أغنياء.

وقرأ ابن عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزة:«يَحْسَبُ» - حيث ورد - بفتح السين، والباقون: بكسرها. فأمَّا القراءة الأولى؛ فجاءت على القياس؛ لأنَّ قياس فعل - بكسر العين - يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخفَّ اللفظ، وهي لغة تميم، والكسر لغة الحجاز، وبها قرأ رسول الله - صلى الله عيه وسلم -، وقد شذَّت ألفاظٌ أخر؛ جاءت في الماضي، والمضارع بكسر العين منها: نَعِم يَنْعِم، وبَئِس يَبْئِسُ، ويَئِسَ يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة، وعَمِد يَعْمِد، وقياسها كلُّها الفتح، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة: أبو عمرٍو - وكفى به -، والكسائي، وقارئا الحرمين: نافع، وابن كثير.

والجاهل هنا: اسم جنس لا يراد به واحدٌ بعينه.

ولم يرد - هنا - به الجهل الذي هو ضدّ العلم، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدُّ الاختيار، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء، و «أغنياءَ» هو المفعول الثاني.

قوله: {مِنَ التعفف} في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها سببيةٌ، أيك سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم، فهو مفعولٌ من أجله، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ، لفقد شرطٍ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل، وفاعل التعفُّف هم الفقراء، ولو كان هذا المفعول له مستكملاً لشروط النصب، لكان الأحسن جرَّه بالحرف؛ لأنه معرَّفٌ بأل، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه؛ نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبه؛ قال القائل:[الرجز]

1240 -

لَا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ

وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرَ الأَعْدَاءِ

والثاني: أنها لابتداء الغاية، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسبه غنى مالٍ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام.

والثالث: أنها لبيان الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال: يكون التعففُ داخلاً في

ص: 435

المحسبة، أي: إنه لا يظهر لهم سؤالٌ، بل هو قليلٌ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه، ف «مِنْ» لبيان الجنس على هذا التأويل.

قال أبو حيَّان: «وليس ما قالَه مِنْ أنَّ» مِنْ «هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر» مِنْ بموصولٍ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى:{فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] يصح أن يقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا:«يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف» لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي: بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم، أي: غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمَّى «مِنْ» الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ «مِنْ» سببية، لكنها تتعلق بأغنياء، لا بيحسبهم «. انتهى.

وتتعلَّق» مِنْ «على الوجهين الأولين بيحسبهم. قال أبو البقاء رحمه الله:» ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى «أغْنِياء» ؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أنَّ معنى الآية: أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء، ولو علِّقت بأغنياء، صار المعنى، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال «. انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثاً.

وأما على الوجه الثالث - وهو كونه لبيان الجنس - فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان، وعلى الجملة: فكونها لبيان [الجنس، قلق المعنى] .

والتعفُّف: تفعُّل من العفَّة: وهو ترك الشيء، والإعراض عنه، مع القدرة على تعاطيه؛ قال رؤبة:[الرجز]

1241 -

فعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الغَسَقْ

وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعَشَقْ

وقال عنترة: [الكامل]

1242 -

يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِي

أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ

ومنه: «عَفِيفُ الإِزَارِ» كنايةٌ على حصانته، وعرَّف التعفف، لأنه سبق منهم مراراً فصار كالمعهود، ومتعلَّق التعفف، محذوفٌ؛ اختصاراً، أي: عن السؤال، والأحسن ألَاّ يقدَّر.

ص: 436

الصفة الرابعة: قوله: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} السِّيما: العلامة بالقصر ويجوز مدُّها، وإذا مدَّت، فالهمزة فيها منقلبةٌ عن حرف زائدٍ، للإلحاق: إمَّا واوٌ، وإمَّا ياء، فهي كعلباء ملحقة بسرداح، فالهمزة فيه للإلحاق، لا للتأنيث؛ وهي منصرفةٌ لذلك.

و «سيما» مقلوبة، قدِّمت عينها على فائها؛ لأنها مشتقةٌ من الوسم فهي بمعنى السِّمة، أي: العلامة، فلما وقعت الواو بعد كسرةٍ قلبت ياءً، فوزن سيما: عِفْلا، كما يقال اضمحلَّ، وامضحلَّ، [و]«وَخِيمَة» ، و «خامة» وله جاهٌ، ووجه، أي: وجاهَةٌ.

وفي الآية الكريمة طباقٌ في موضعين:

أحدهما: «أُحْصِروا» مع قوله: {ضَرْباً فِي الأرض} .

والثاني: قوله تعالى: {أَغْنِيَآءَ} ، مع قوله:{لِلْفُقَرَآءِ} نحو: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] . ويقال «سِيمِيَا» بياء بعد الميم، وتمدُّ كالكيمياء؛ وأنشد:[الطويل]

1243 -

غُلَامٌ رَمَاهُ اللهُ بِالْحُسْنِ يَافِعاً

لَهُ سِيمِيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرْ

والباء تتعلَّق ب «تَعْرِفُهُمْ» ومعناها السببية، أي: إنَّ سبب معرفتك إياهم هي سيماهم. والسِّيما: العلامة، وقال قومٌ: السِّيما: الارتفاع، لأنَّها علامةٌ وضعت للظُّهور.

فصل

قال القرطبيُّ: هذه الآية تدلُّ على أن للسِّيما أثرٌ في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام، وعليه زنَّارٌ، وهو غير مختونٍ؛ لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدَّم ذلك على حكم الدار؛ في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30] فدلَّت هذه الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثيابٌ، وكسوة وزيٌّ في التجمل.

فصل في تفسير «السِّيما»

قال مجاهد: هو التخشع، والتواضع.

وقال الربيع، والسديُّ: أثر الجهد من الفقر، والحاجة.

وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع، والضر.

ص: 437

وقال ابن زيدٍ: رثاثة ثيابهم.

قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الكلَّ فيه نظرٌ؛ لأن كل ما ذكروه علاماتٌ دالَّةق على حصول الفقر، وذلك يناقض قوله:{يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} بل المراد شيء آخر، وهو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق، كل من رآهم تأثر منهم، وتواضع لهم؛ وذلك إدراكاتٌ روحانيةٌ، لا علاتٌ جسمانيةٌ؛ ألا ترى أنَّ الأسد إذا مرَّ هابته جميع السباع بطباعها، لا بالتجربة؛ لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت، وكذلك البازي، إذا طار فرّت منه الطيور الضَّعيفة، وكل ذلك إدراكاتٌ روحانية، لا جسمانية فكذا ها هنا، روي أنهم كانوا يقومون الليل، للتهجّد، ويحتطبون بالنهار؛ للتعفف.

الصفة الخامسة: قوله: {لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} في نصبه «إلحافاً» ثلاثة أوجه:

أحدها: نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر، أي: يلحفون إلحافاً، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل «يَسْألون» .

والثاني: أن يكون مفعولاً من أجله، أي: لا يسألون؛ [لأجل الإلحاف.

والثالث: أن يكون مصدراً في موضع الحال، تقديره: لا يسألون] ملحفين.

فصل في تفسير الإلحاف

الإلحاف: هو الإلحاح؛ قال عطاءٌ: إذا كان عنده غداءٌ لا يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاءٌ لا يسأ غداءً.

وعن ابن مسعودٍ إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السَّائل الملحف، الذي إن أعطي كثيراً، أفرط في المدح، وإن أعطي قليلاً أفرط في الذَّمِّ.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «لَا يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَاّ فَتح الله عليه بَابَ فَقْرٍ، ومَنْ

ص: 438

يَسْتَغْنِ، يُغْنِه اللهُ، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ، يُعِفَّهُ الله، لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً يَحْتِطِبُ فِيهِ فَيَبِيعَهُ بمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ» .

فصل

اعلم: أنَّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد؛ نحو:«مَا رَأَيْتُ رَجُلاً صَالِحاً» ، الأكثر على أنك رأيت رجلاً، ولكن ليس بصالح، ويجوز أنَّك لم تر رجلاً ألبتة؛ لا صالحاً ولا طالحاً، فقوله:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} المفهوم أنهم يسألون، لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يسألون، ولا يلحفون؛ والمعنيان منقولان في التفسير، والأرجح الأول عندهم، ومثله في المعنى:«مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا» يجوز أنه يأتيهم، ولا يحدِّثهم، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثهم، انتفى السبب، وهو الإتيان، فانتفى المسبِّب، وهو الحديث.

وقد شبَّه الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس؛ وهو قوله: [الطويل]

1244 -

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ

إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا

قال أبو حيَّان: «تَشْبيهُ الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين، أي: لا سؤال ولا إلحاف، وكذلك هذا: لا منار ولا هداية، لا أنه مثله في خصوصيَّة النفي، إذ كان يلزم أن يكون المعنى: لا إلحاف، فلا سؤال، وليس تركيب الآية على هذا المعنى، ولا يصحُّ: لا إلحاف، فلا سؤال؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، كما لزم من نفي المنار، نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه، وإنما يؤدِّي معنى النفي على طريقة النَّفي في البيت أن لو كان التركيب:» لا يُلْحِفُونَ الناسَ سُؤالاً «لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف، إذ نفي العامِّ يدلُّ على نفي الخاص؛ فتلخَّص من هذا: أنَّ نفي الشيئين: تارة يدخل حرف النفي على شيءٍ، فتنتفي جميع عوارضه، وينبِّه على بعضها بالذكر لغرض ما، وتارةً يدخل حرف النفي على عارضٍ من عوارضه، والمقصود نفيه، فتنتفي لنفيه عوارضه» .

قال شهاب الدين: قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال: «تَشْبيهه ليس مثله في خصوصية النفي؛ لأنَّ انتفاء المنار في البيت يدلُّ على نفي الهداية، وليس انتفاء الإلحاح،

ص: 439

يدلُّ على انتفاء السؤال في الآية» . وأطال ابن عطية في تقرير هذا، وجوابه ما تقدم: من أنَّ المراد نفي الشيئين، لا بالطريق المذكور في البيت، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفاً:«ونظير هذا: ما تَأْتِينَا فتحدِّثَنا» فعلى الوجه الأول: يعني نفي القيد وحده: ما تأتينا محدِّثاً، إنما تأتي ولا تحدِّث.

وعلى الوجه الثاني: يعني نفي الحكم بقيده ب «ما يكُونُ مِنْكَ إتيانٌ، فلا يكونُ حديثٌ» ، وكذلك هذا: لا يقع منهم سؤالٌ ألبتَّة، فلا يقع إلحاحٌ، ونبَّه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح؛ لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده، ووجود غيره؛ لأنه كان يصير المعنى الأول، وإنما يراد بنفي هذا الوصف، نفي المترتبات على المنفيِّ الأول؛ لأنه نفى الأولى على سبيل العموم، فتنتفي مترتِّباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان، فانتفى الحديث، انتفى جميع مترتِّبات الإِتيان: من المجالسة، والمشاهدة، والكينونة في محلٍّ واحد، ولكن نبَّه بذكر مترتِّب واحدٍ؛ لغرضٍ ما على ذكر سائر المترتِّبات «وهذا يقرر ما تقدَّم.

وأمَّا الزمخشريُّ: فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج، فإنه قال:» وقيل: هو نفيٌ للسؤال والإلحاف جميعاً؛ كقوله: [الطويل]

1245 -

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمنَارِهِ.....

...

...

...

... . .

يريد نفي المنار والاهتداء به «.

قال شهاب الدين: وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه، قد قبلها الناس، ونصروها، واستحسنوا تنظيرها بالبيت؛ كالفارسيِّ، وأبي بكر بن الأنباريِّ، قال أبو عليٍّ: لم يُثْبِتْ في قوله: {لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} مسألةً فيهم؛ لأن المعنى: ليس منهم مسألةٌ، فيكون منهم إلحافٌ، ومثل ذلك قول الشاعر:[السريع]

1246 -

لَا يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا

وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ

أي: ليس فيها أرنبٌ؛ فيفزع لهولها، ولا ضبٌّ فينجحر، وليس المعنى: أنه ينفي الفزع عن الأرنب، والانجحار عن الضب.

وقال أبو بكرٍ: تأويل الآية: لَا يَسْأَلُونَ أَلْبَتةَ، فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف؛ فجرى هذا مجرى قولك: فلانٌ لا يُرْجى خيره، أي: لا خير عنده ألبتة فيرجى؛ وأنشد قول امرئ القيس: [الطويل]

ص: 440

1247 -

وَصُمٌّ صِلَابٌ مَا يَقِينَ مِنَ الوَجَى

كَأَنَّ مَكَانَ الرَّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَالِ

أي: ليس بهن وجًى، فيشتكين من أجله؛ وقال الأعشى:[البسيط]

1248 -

لَا يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلَا وَصَبٍ

وَلَا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ

معناه: ليس بساقه أينٌ، ولا وصبٌ؛ فيغمزها.

وقال الفراء قريباً منه، فإنه قال:» نفى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميع وجوه السؤال؛ كما تقول في الكلام:«قَلَّ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هذا الرجل» ولعلك لم تر قليلاً، ولا كثيراً من أشباهه «.

وجعل أبو بكر الآية الكريمة عند بعضهم من باب حذف المعطوف، وأن التقدير: لَا يَسْأَلُونَ الناسَ إلحافاً، ولا غير إلحاف، كقوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81]، أي: والبرد.

وقال بعضهم: إنَّ السائل الملحف الملح، هو الذي يستخرج المال بكثرة تَلَطُّفِهِ، فقوله:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} أي: لا يسألون الناس بالرِّفق، والتَّلطُّف، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه، فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى.

وذكر ابن الخطيب رحمه الله فيها ثلاثة أوجه أخر:

أحدها: أنه ليس المقصود منق لوه: {لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً؛ لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بالتعفُّف، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة، قد علم - أيضاً - أنهم لا يسألون الناس إلحافاً، بل المراد التَّنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً، مثاله: إذا حضر عندك رجلان: أحدهما عاقلٌ، وقورٌ ثابتٌ، والآخر طيَّاش مهذارٌ سفيهٌ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما، وتعرض بالآخر، قلت: فلانٌ، رجل عاقلٌ وقُورٌ قليل الكلام، لا يخوض في الترّهات، ولا يشرع في السفاهات، ولم يكن غرضك من قولك: لا يخوض في التّرّهات، والسفاهات، وصفه بذلك؛ لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك؛ بل غرضك التنبيه على مذمَّة الثاني؛ فكذا هاهنا قوله:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} بعد قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} الغرض منه التنبيه على مذمَّة من يسأل الناس إلحافاً.

وثانيها: أنه تعالى بيَّن فيما تقدَّم شدَّة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته، فإنه لا يمكنه ترك السؤال؛ إلَاّ بإلحاحٍ شديد منه على نفسه، فقوله:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً}

ص: 441

أي: لا يسألون الناس، وإنَّما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحُّوا على النفس، ومنعوها بالتكليف الشَّديد عن ذلك السؤال، ومنه قول عمر بن الخطَّاب:[الوافر]

1249 -

وَلِي نَفْسٌ أَقُولُ لَهَا إِذَا مَا

تُنَازِعُنِي: لَعَلِّي أَوْ عَسَانِي

وثالثها: أنَّ من أظهر من نفسه آثار الفقر، والمذلَّة، والمسكنة؛ ثم سكت عن السؤال، فكأنَّه أتى بالسؤال الملحِّ الملحف؛ لأن ظهور أمارات الحاجة، تدلُّ على الحاجة، وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع تلك الحاجة، ومتى تصوَّر الإنسان من غيره ذلك، رقَّ له قلبه جدّاً، وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف، فقوله:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} معناه: أنهم سكتوا عن السؤال، لكنَّهم لا يضمُّون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال، وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف، بل يزيّنون أنفسهم عند الناس، ويتجملون عند الخلق، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليها إلَاّ الخالق.

فصل

قال ابن عبد البرِّ: من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السُّؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه. ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل، وقد سئل عن المسألة، متى تحل؟ قال: إذا لم يكن عنده ما يغدِّيه ويعشيه، قيل لأبي عبد الله: فإن اضطرَّ إلى المسألة؟ قال: هي مباحةٌ إذا اضطر.

قيل له: فإن تعفَّف؟ قال: ذلك خيرٌ له، وقال: ما أظن أنَّ أحداً يموت من الجوع؛ الله يأتيه برزقه، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ:«مَنْ اسْتَعْفَفَ أَعَفَّهُ الله» .

قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئاً؛ أيسأل الناس، أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة، وهو يجد من يسأله؟ هذا شنيعٌ.

قال القرطبيُّ: فإن جاءه شيءٌ من غير سؤالٍ، فله أن يقبله ولا يرده؛ إذ هو رزقٌ رزقه الله، لما روي «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - أرسل إلى عمر بن الخطَّاب بعطاءٍ، فردَّه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:» لِمَ رَدَدْتَه؟ «فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أنَّ خيراً لأحدنا ألَاّ يأخذ شيئاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:» إنَّما ذَاكَ عَنِ المَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ،

ص: 442

فَإِنَّمَا هو رزقٌ رَزَقَكَهُ الله «فقال عُمَر بن الخطَّاب:» والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا أَسْأَلُ شَيْئاً، وَلَا يَأْتِيني شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلَاّ أَخَذتُه «.

والإلحاف، والإلحاح، واللُّجاج، والإحفاء، كلُّه بمعنًى، يقال: أَلحف، وألحَّ في المسألة: إذا لجَّ فيها.

وفي الحديث:» مَنْ سَألَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ، فَقَدْ أَلْحَفَ «، واشتقاقه من اللِّحاف؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته، ويعمُّهم؛ كما يشتمل اللِّحاف من تحته ويغطِّيه؛ ومنه قول ابن أحمر يصف ذكر نعامٍ، يحضن بيضه بجناحيه، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف:[الوافر]

1250 -

يَظَلُّ يُحُفُّهُنَّ بِقَقْقَفَيْهِ

وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافاً ثَخِينَا

وقال آخر في المعنى: [الرمل]

1251 -

ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ المِسْكِ بِهِمْ

يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ

أي: يلبسونها الأرض، كإلباس اللِّحاف للشيء. وقيل: بل اشتقاق اللفظة من» لَحْفِ الجَبَلِ «وهو المكان الخشن، ومجازه أنَّ السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته، وقيل: بل هي من» لَحَفني فُلَانٌ «، أي: أعطاني فضل ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأوَّل.

قوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} هو نظير قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]، وليس بتكرارٍ؛ لأنه لمَّا قال في الآية الأولى: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ

ص: 443

خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} فهم منه التوفية من غير بخسٍ؛ ولا نقصان، وذلك لا يمكن إلَاّ بالعلم بمقدار العمل، وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب.

ص: 444

قوله: {الذين يُنْفِقُونَ} : مبتدأٌ، وخبره الجملة من قوله:{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ودخلت الفاء؛ لما تضمَّنه الموصول من معنى الشرط. وقال ابن عطية رحمه الله: «وإنما يوجد الشَّبه - يعني بين الموصول، واسم الشرط - إذا كان الموصول موصولاً بفعل، وإذا لم يدخل على الموصول عاملٌ يغيِّر معناه» . قال أبو حيَّان رحمه الله: «فَحَصر الشَّبه فيما إذا كان» الَّذِي «موصولاً بفعل، وهذا كلامٌ غير محرَّرٍ، أمَّا قوله:» الَّذِي «فلا يختصُّ ذلك ب» الذي «، بل كلُّ ما كان موصولاً غير الألف واللام، حكمه حكم الذي» بلا خلافٍ، وفي الألف واللام خلاف، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء.

الثاني: قوله «مَوْصولاً بفعل» فأطلق الفعل واقتصر عليه، وليس كذلك، بل شرط الفعل أن يصلح لمباشرة أداة الشرط، فلو قلت: الذي سَيَأْتِيني، أو لمَّا يأتيني، أو ما يأتيني، أو ليس يأتيني - فله درهمٌ لم يجز شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ أداة الشرط لا يصلح أن تدخل على شيءٍ من ذلك، وأمَّا الاقتصار على الفعل، فليس كذلك؛ بل الظرف والجارُّ والمجرور في الوصل كذلك، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصول، جاز دخول الفاء.

وقوله: «وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ على» الَّذي «عاملٌ يغيِّر معناه» عبارةٌ غير ملخَّصةٍ؛ لأن العامل لا يغيِّر معنى الموصول، إنما يغيِّر معنى الابتداء، بأن يصيِّره تمنِّياً، أو ترجِّياً، أو ظناً، نحو: لعل الذي يأتضيني، أو ليت الذي يأتيني، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ، لا يجوز دخول الفاء لتغيُّر معنى الابتداء.

وكان ينبغي له - أيضاً - أن يقول: «بِشَرْطِ أَنْ يكونَ الخبرُ مستحِقاً بالصلةِ؛ كالآية الكريمة؛ لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنْفاقِ» .

وقول الشيخ أيضاً: «بل كلُّ مَوْصُولٍ» ليس الحكم - أيضاً - مقتصراً على كلِّ موصولٍ، بل كلُّ نكرةٍ موصوفةٍ بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخول الفاء، أو ما أُضيف إلى تلك النكرة، أو إلى ذلك الموصول، أو الموصوف بالموصول - حكمه كذلك. وقد تقدمت المسألة.

ص: 444

فصل في بيان سبب النُّزول

في سبب النزول وجوه:

الأول: لما نزل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 273] ، بعث عبد الرَّحمن بن عوف بدنانير كثيرةٍ إلى أصحاب الصُّفة، وبعث عليٌّ - كرم الله وجهه - بوسق تمرٍ ليلاً؛ فكان أحبَّ الصَّدقتين إلى الله تعالى، صدقه عليٍّ؛ فنزلت الآية.

وقدَّم الله تعالى ذكر الليل؛ ليعرف أنَّ صدقة اللَّيل كانت أكمل، رواه الضَّحَّاك، عن ابن عبَّاسٍ.

الثاني: روى مجاهدٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

«نزلت هذه الآية في عليٍّ رضي الله عنه كان عنده أربعة دراهم، لا يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً؛ فقال عليه الصلاة والسلام:» مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ «فقال: أن أستوجب ما وعدني ربِّي، فقال:» لَكَ ذَلِكَ «.

الثالث: قال الزَّمخشريُّ نزلن في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدَّق بأربعين ألف دينار: عشرةٌ باللَّيل، وعشرةٌ بالنهار، وعشرةٌ في السِّرِّ، وعشرة في العلانية.

الرابع: قال أبو أمامة، وأبو الدَّرداء، ومكحولٌ، والأوزاعي: نزلت هذه الآية الكريمة في الذين يربطون الخيل للجهاد؛ فإنها تعتلف ليلاً ونهاراً، وسراً وعلانية، فكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا مرَّ بفرسٍ سمين، قرأ هذه الآية.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -:» مَنِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً، وتَصْدِيقاً بوعدِهِ، فإنَّ شِبَعَهُ وريَّه ورَوْثَهُ، وبَوْلَهُ في ميزانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ «.

ص: 445

الخامس: أن الآية الكريمة عامةٌ في الذين يعمون الأوقات، والأحوال بالصدقة، تحريضاً لهم على الخير.

وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السِّرِّ أفضل؛ لأنه قدم اللَّيل على النهار، والسر على العلانية في الذكر، وتقدم نظير هذه الآية؛ ومدلولها، وهو مشروطٌ عند الكل بألَاّ يحصل عقيبه الكفر، وعند المعتزلة ألَاّ يحصل عقيبه كبيرةٌ محبطةٌ.

ص: 446

«الرِّبَا» في اللُّغة: عبارةٌ عن الزِّيادة؛ يقال ربا الشيء يربو ربواً، ومنه قوله {اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5] ، أي زادت، وأربى الرَّجل: إذا عامل في الربا، ومنه الحديث «مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى» ، أي: عامل بالرِّبا، والإجباء: بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه.

والمادة تدلُّ على الزيادة والارتفاع، ومنه الرَّبوة. وقال حاتم الطائيُّ يصف رمحاً:[الطويل]

1252 -

وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ

نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْبَى ذِرَاعاً عَلَى العُشْرِ

والرِّبا: لامه واوٌ؛ لقولهم: ربا يربو؛ فلذلك يثنَّى بالواو، ويكتب بالألف. وجوَّز الكوفيُّون تثنيته بالياء، وكذلك كتابته، قالوا: لكسر أوَّله، ولذلك أمالوه، وليس هذا مختصّاً بمكسور الأول، بل الثُّلاثيُّ من ذوات الواو، المكسور الأول، أو المضمومه؛ نحو:«رِبا» ، و «عُلا» حكمه ما ذكرته عنهم، فأمَّا المفتوح الأول نحو: عصا، وقفا، فلم يخالفوا البصريين، وكتب في القرآن بخطِّ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ.

وقيل: إنما بالواو؛ لأنَّ أهل الحجاز تعلَّموا الخطَّ من أهل الحيرة، وأهل الحيرة يقولون:«الرِّبَوا» بالواو، فكتبوها كذلك، ونقلها أهل الحجاز كذلك؛ خطّاً لا لفظاً.

قرأ العدويُّ: «الرِّبَو» كذلك بواوٍ خالصةٍ بعد فتحة الباء. فقيل: هذا القارئ أَجرى الوصل مجرى الوقف، وذلك أنَّ من العرب من يقلب ألف المقصور واواً؛ فيقول: هذه أفعو، وهذا من ذاك، إلَاّ أنه أجْرَى الوصل مُجْرى الوقف.

ص: 446

وقد حكى أبو زيدٍ ما هو أغرب من ذلك، فقال:«قرأ بعضهم بكسر الراء، وضمِّ الباء، وواو بعدها» ، ونسب هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ العرب لا يبقى واواً بعد ضمة في الأسماء المعربة، بل إذا وجد ذلك، لم يقرَّ على حاله، بل تقلب الضَّمَّة كسرةً، والواو ياءٌ، نحو: دلوٍ وأدلٍ، وجروٍ؛ وأنشد أبو عليّ:[البسيط]

1253 -

لَيْثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عِنْدَ خِيسَتِهِ

بِالرَّقْمَتَيْنِ لَهُ أَجْرٍ وأَعْرَاسُ

ونهاية ما قبل فيها: أنَّ قارئها قلب الألف واواً؛ كقولهم في الوقف: أَفْعَو، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك، قيل: ولم يضبط الرَّاوي عنه ما سمع؛ فظنَّه بضمِّ الباء؛ لأجل الواو؛ فنقلها كذلك، وليت الناس أخلو تصانيفهم من مثل هذه القراءات التي لو سمعها العامة لمجُّوها، ومن تعاليلها، ولكن صار التارك لها، يعده بعضهم جاهلاً بالاطِّلاع عليها.

ويقال: رِبا ورِما، بإبدال بائه ميماً؛ كما قالوا: كثم في كثب. والألف واللام في «الرِّبا» : يجوز أن تكون للعهد، إذ المراد الرِّبا الشرعيُّ، ويجوز أن تكون لتعريف الجنس.

فصل في وجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها

اعلم أنَّ بين الصدقة، والرِّبا مناسبةٌ من جهة التضادِّ؛ لأن الصدقة عبارةٌ عن تنقيص المال بسبب أمر الله تبارك وتعالى بذلك؛ والرِّبا عبارةٌ عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله سبحانه وتعالى عنه، فكانا كالمتضادَّين، ولهذا قال تعالى:

{يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276] فلما حصلت المناسبة بينهما من هذا النوع، ذكر حكم الربا عقيب حكم الصدقات، وخصَّ الأكل؛ لأنه معظم الأمر؛ كقوله:{الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] فنبَّه بالأَكل على ما سواه من وجوه الإتلافات، ولأنَّ نفس الرِّبا الذي هو الزيادة لا يؤكل، وإنما يصرف في المأكول، وقال صلى الله عليه وسلم َ -:«لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، ومُوكِلَه وشاهده وكَاتِبَهُ، والمحلِّلَ لَهُ» فعلمنا أنَّ الحرمة غير مختصة بالأكل.

فصل في تقسيم الرِّبا

الرِّبا قسمان: ربا النَّسيئة، وربا الفضل.

ص: 447

أمَّا ربا النسيئة، فهو الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهليَّة، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهرٍ قدراً معيناً، ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حلَّ الدَّين طالبوا المدينون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحقِّ والأجل، فهذا هو الرِّبا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية.

وأمَّا «ربا الفضل» فهو أن يباع منٌّ من الحنطة بمنوين منها، أو ما أشبه ذلك.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان لا يحرِّم إلَاّ القسم الأول، فكان يقول لا ربا إلَاّ في النَّسيئة، وكان يجوِّز ربا الفضل؛ فقال له أبو سعيدٍ الخدريِّ: أشهدت ما لم تشهد، أو سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - ما لم نسمع! ثمَّ روى له الحديث المشهور في هذا الباب، ثم قال أبو سعيدٍ: لا أواني وإيَّاك ظلُّ بيتٍ، ما دمت على هذا.

ثمَّ روي أنه رجع عنه.

قال محمد بن سيرين: كنَّا في بيتٍ، ومعنا عكرمة، فقال رجلٌ: يا عكرمة، أما تذكر ونحن في بيت فلانٍ، ومعنا ابن عباس فقال: إنما كنت استحللت الصرف برأيي، ثم بلغني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - حرَّمه، فاشهدوا أنِّي حرمته، وبرئت منه إلى الله.

وحجَّة ابن عباس أنَّ قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول بيع الدرهم بالدِّرهمين نقداً؛ وقوله: {وَحَرَّمَ الربا} ] إنما يتناول العقد المخصوص المسمَّى فيما بينهم رباً، وذلك هو ربا النَّسيئة، فكان ذلك مخصوصاً بالنَّسيئة؛ فثبت أنَّ قوله {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول ربا الفضل، وقوله:{وَحَرَّمَ الربا} لا يتناوله؛ فوجب أن يبقى على الحلِّ ولا يمكنه أن يقال إنما يحرمه بالحديث؛ لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد، وهو غير جائزٍ وهذا هو عرف ابن عباسٍ، وحقيقته راجعةٌ إلى أنَّ تخصيص القرآن بخبر الواحد: هل يجوز أم لا؟

وأمَّا جمهور العلماء، فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أمَّا القسم الأوَّل، ربا النَّسيئة فبالقرآن، وأمَّا ربا الفضل، فبالخبر، ثم إن الخبر دلَّ على حرمة ربا الفضل في الأشياء الستة، ثم اختلفوا.

فقال جمهور الفقهاء: حرمة ربا الفضل غير مقصورةٍ على هذه النسيئة؛ بل ثابتةٌ في غيرها بالعلَّة الجامعة وقال نفاةُ القياس: بل الحرمة مقصورة عليها.

فصل في سبب تحريم الربا

ذكروا في سبب تحريم الرِّبا وجوهاً:

ص: 448

أحدها: أنه يُفضي إلى أخد الإنسان مال غيره من غير عوضٍ؛ لأنه إذا باع الدِّرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئةً، فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان له حرمةٌ عظيمةٌ، قال صلى الله عليه وسلم َ -:«حُرْمَةُ مَالِ المسلمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» ؛ فكان أخذ ماله بغير عوض محرَّماً.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكونَ لبقاء رأس المال في يده مدَّةٌ مديدةٌ عوضاً عن الدِّرهم الزَّائد؟ لأنَّ رأس المال لو بقي في يد مالكه، لتمكَّن من التجارة به، والربح، فلمَّا تركه في يد المديون، وانتفع المديون به، لم يبعد أن يدفع إلى ربِّ المال ذلك الدرهم الزَّائد؛ عوضاً عن انتفاعه بماله.

فالجواب أنَّ هذا الانتفاع المذكور أمرٌ موهومٌ قد يحصل له منه كسبٌ، وقد لا يحصل، وأخذ الدرهم الزائد أمرٌ متيقنٌ فتفويت المتيقن لأجل أمر موهوم، لا ينفكُّ عن نوع ضرر.

وثانيها: أنَّ الرِّبا يمنع النَّاس عن الاشتغال بالمكاسب؛ لأنه إذا حصَّل الدرهم بالربا، فلا يكاد يحتمل مشقَّة التَّكسُّب بالتجارة، والصناعة، فيفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أنَّ [مصالح العالم] لا تنتظم إلَاّ بالتجارات، والعمارات، والحرف، والصِّناعات.

وثالثها: أنَّ الربا يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الرِّبا إذا حرم، طابت النفوس بقرض الدرهم، واسترجاع مثله، ولو حلَّ الربا، لكانت حاجة المحتاج تحمله حاجته على أخذ الدرهم بالدرهمين، فيفضي ذلك إلى قطع المواساة، والمعروف، والإحسان.

ورابعها: أنَّ الغالب أنَّ المقرض يكون غنيّاً، والمستقرض يكون فقيراً، فالقول بتجويز الرِّبا تمكينٌ للغني من أن يأخذ من الفقير الضَّعيف مالاً زائداً، وهو غير جائزٍ برحمة الرَّحيم.

وخامسها: أنَّه غير معقولٍ المعنى.

قوله: {لَا يَقُومُونَ} الظَّاهر أنَّها خبر الموصول المتقدِّم، وقال بعضهم: إنها حالٌ، وهو سهوٌ، وقد يتكلَّف تصحيحه بأن يضمر الخبر؛ كقراءة من قرأ {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] ؛ وقوله: [الطويل]

1254 -

...

...

. .

ص: 449

لَا أَنَا بَاغِيَا.....

...

...

...

...

في أحد الوجهين.

والمراد القيام يوم القيامة أو من القبور.

قوله: {إِلَاّ كَمَا يَقُومُ} فيه الوجهان المشهوران وهما:

النصب على النعب؛ لمصدر محذوف، أي: لا يقومون إلا قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان، وهو المشهور عند المعربين.

أو النصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المقدَّر، أي: لا يقومونه، أي: القيام إلَاّ مبشهاً قيام الذي يتخطبه الشيطان، وهو رأي سيبويه، وقد قدَّمت تحقيقهما.

و «ما» الظاهر أنها مصدريةٌ، أي: كقيام. وجوَّز بعضهم أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، والتقدير: إلا كالقيام الذي يقومه الذي يتخبَّطه الشيطان، وهو بعيدٌ.

و «يتخبَّطه» يتفعَّله، وهو بمعنى المجرد أي يخبطه؛ فهو مثل: تعدَّى الشيء وعداه فهو تفعَّل بمعنى فعل، نحو تقسَّمه: بمعنى قسمه، وتقطَّعه: بمعنى قطعه. ومعنى ذلك مأخوذٌ من خبط البعير بأخفافه: إذا ضرب بها الأرض. ويقال: فلانٌ يخبط خبط عشواء؛ قال علقمة: [الطويل]

1255 -

وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ

فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ

وقال زهير: [الطويل]

1256 -

رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ

تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ

والتخبط معناه: الضَّرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه، إنه يخبط خبط عشواء، وخبط البعير الأرض بأخفافه، وتخبطه الشيطان، إذا مسَّه بخبلٍ، أو جنونٍ؛ لأنه كالضَّرب على غير استواء في الإدهاش.

قوله: {مِنَ المس} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهة الجنون، فيكون في موضع نصبٍ، قاله أبو البقاء.

ص: 450

الثاني: أنه يتعلَّق بقوله تبارك وتعالى: {لَا يَقُومُونَ} ، أي: لا يقومون من المسِّ الذي بهم، إلا كما يقوم المصروع.

الثالث: أنه يتعلَّق بقوله: «يَقومُ» ، أي: كما يقوم المصروع من جنونه؛ ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشريُّ.

قال أبو حيَّان: وكان قدَّم في شرح المسِّ أنه الجنون، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّق «مِنَ المَسِّ» بقوله:«لَا يَقُومُونَ» ضعيفٌ؛ لوجهين:

أحدهما: أنه قد شرح المسَّ بالجنون، قلت: وهو بابٌ في البلاغة مشهورٌ، وهو أعلى رتب التشبيه؛ ومنه قوله:[الطويل]

1257 -

وَرَمْلٍ كَأَوْرَاكِ العَذَارَى قَطَعْتُهُ.....

...

...

... . .

فصل في دفع شبهة في تحليل الرِّبا

القوم كانوا في تحليل الرِّبا على هذه الشُّبهة، وهي أنَّ من اشترى ثوباً بعشرة، ثمَّ باعه بأحد عشر، فهذا حلالٌ؛ فكذا إذا باع العشرة بأحد عشر، يجب أن يكون حلالاً؛ لأنه لا فرق في العقل بين الصُّورتين، فهذا في ربا الفضل، وكذلك - أيضاً - في ربا النَّسيئة؛ لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهرٍ، جاز، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهرٍ، وجب أن يجوز؛ لأنه لا فرق في العقل بينهما، وإنما جاز ذلك، لحصول التراضي من الجانبين، فكذا هاهنا، لما حصل التراضي من الجانبين، وجب أن يجوز أيضاً، والبياعات إنَّما شرعت لدفع الحاجة، ولعل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال، شديد الحاجة، ويكون له في المستقبل من الزمان أموالٌ كثيرةٌ، فإذا لم يجز الرِّبا، لم يعطه ربُّ المال مجاناً، فيبقى الإنسان في الشدة، والحاجة، وبتقدير جواز الربا فيعطيه ربُّ المال؛ طمعاً في الزيادة، والمديون يردُّه عند وجدان المال، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال، أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال، فهذا يقتضي حلَّ الرِّبا، كما قلنا في سائر البياعات أنَّها إنما شرعت؛ لدفع الحاجة، فهذه شبهة القوم.

ص: 451

فأجابهم الله تعالى بقوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} ، وتوجيه هذا الجواب أنَّ ما ذكرتم معارضةٌ للنَّصِّ بالقياس؛ وهو لا يجوز.

فصل في دفع شبهة لنفاة القياس

تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: لو كان الدِّين بالقياس، لكانت هذه الشبهة لازمةً، فلمَّا بطلت، علمنا أن الدين بالنَّصّ لا بالقياس.

وفرَّق القفَّال بينهما، فقال: من باع ثوباً يساوي عشرةً بعشرين، فقد جعل ذات الثَّوب مقابلةً بالعشرين، فلمَّا حصل التراضي على هذا التقابل، صار كلُّ واحدٍ منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض. أمَّا إذا باع العشرة بالعشرة، فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوضٍ، ولا يمكن أن يقال: إنَّ غرضه هو الإمهال في الأجل؛ لأن الإمهال ليس إلَاّ مالاً أو شيئاً يشار إليه، حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة؛ فافترقا.

فإن قيل: ما الحكمة في قلب هذه القضية؟ ومن حقّ القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؛ لأن حلَّ البيع متفقٌ عليه، وهم أرادوا قياس الربا عليه؛ فكان نظم الكلام أن يقال: إنما الرِّبا مثل البيع، فقلبه، وقال:{إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} ؟

فالجواب أنّه لم يكن مقصود القوم أن يتمسَّكوا بنظم القياس، بل كان غرضهم أنَّ البيع والرِّبا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة، فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحلِّ، والآخر بالحرمة، وعلى هذا التقدير: فأيُّهما قدِّم، أو أخِّر جاز.

قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} الظاهر أنه من كلام الله تعالى، أخبر بأنه أحلَّ هذا، وحرَّم ذاك، وعلى هذا؛ فلا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب. وقال بعضهم:«هذه الجملة من تَتِمَّة قول الذين يأكلون الربا، فتكون في محلِّ نصبٍ بالقول؛ عطفاً على المَقُولِ» وهو بعيدٌ جداً، لأنَّ القائل بأنَّ هذا من كلام الكفَّار، لا يتمُّ إلَاّ بإضمار زيادةٍ، إمَّا بأن يحمل ذلك على الاستفهام؛ على سبيل الإنكار، أو يحمل ذلك على الرِّواية من قول المسلمين، والإضمار خلاف الأصل، وعلى الأول لا يحتاج إلى الإضمار، فكان أولى أيضاً فإنَّ المسلمين - أبداً - يتمسَّكون في جميع مسائل البيع بهذه الآية، ولو كان ذلك من كلام الكفَّار، لما جاز لهم الاستدلال به. وأيضاً، فقوله بعده: {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ

} إلى قوله: {

خَالِدُونَ} يقتضي أنَّهم لما تمسَّكوا بقولهم: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} فالله تعالى قد كشَفَ عن فساد تلك الشُّبهة، وبيَّن ضعفها، فلو لم

ص: 452

يكن قوله {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} من كلام الله تعالى، لم يكن أجاب عن تلك الشبهة، فلم يكن قوله {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} - لائقاً بهذا الموضع.

فصل

ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} من المجملات التي لا يجوز التمسك بها.

قال ابن الخطيب: وهو المختار عندي لوجوه:

الأول: أنه ثبت في «أصول الفِقْهِ» أنَّ الاسم المفرد المحلَّى ب «لام» التَّعريف، لا يفيد العموم ألبتَّة، بل ليس فيه إلَاّ تعريف الماهيَّة، ومتى كان كذلك، كفى في العمل ثبوت حكمه في الصورة الواحدة.

الثاني: سلَّمنا أنه يفيد العموم، ولكنا لا نشكُّ في أنَّ إفادته أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم، مثلاً قوله:{وَأَحَلَّ الله البيع} وإن أفاد الاستغراق إلَاّ أن قوله: «وأحل الله البيعات» أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله: «وأحل الله البيع» لا يفيد الاستغراق إلَاّ إفادة ضعيفة، ثم بتقدير العموم لا بدَّ أن يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرةٌ خارجةٌ عن الحصر والضبط، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى، وكلام رسوله؛ لأنه كذبٌ، والكذب على الله محالٌ.

فأما العامُّ الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جدّاً، فذلك جائزٌ؛ لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرفٌ مشهورٌ في كلام العرب.

الثالث: روي عن عمر رضي الله عنه قال: خرج رسول صلى الله عليه وسلم َ - من الدنيا، وما سألناه عن الربا. ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم، لما قال ذلك؛ فعلمنا أنَّ هذه الآية من المجملات.

الرابع: أن قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً، وكل ربا حراماً؛ والرِّبا: هو الزيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع، وآخرها حرَّم الجميع؛ فلا يعرف الحلال من الحلال بهذه الآية؛ فكانت مجملةً، ووجب الرجوع في معرفة الحلال، والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم َ -.

قوله: {فَمَن جَآءَهُ} يحتمل أن تكون شرطيةً وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، وعلى كلا التقديرين فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء.

وقوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} هو الخبر، فإن كانت شرطيةً، فالفاء واجبةٌ، وإن كانت موصولةٌ، فهي جائزةٌ، وسبب زيادتها ما تقدَّم من شبه الموصول لاسم الشرط. ويجوز

ص: 453

حال كونها شرطيةً وجهٌ آخر، وهو أن تكون منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، ويقدَّر الفعل بعدها؛ لأنَّ لها صدر الكلام، والتقدير: فأيُّ شخصٍ جاءت الموعظة جاءته، ولا يجوز ذلك فيها موصولةً؛ لأنَّ الصلة لا تفسِّر عاملاً؛ إذ لا يصحُّ تسلُّطها على ما قبلها، وشرط التفسير صحة التسلُّط. وسقطت علامة التأنيث من فعل الموعظة لأن ثانيها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وأيضاً للفصل بين الفعل، وفاعله بالمفعول. وقرأ أبيّ والحسن:«جاءَتْه» على الأصل.

قوله: {مِّنْ رَّبِّهِ} يجوز أن تكون متعلقةً بجاءته، وتكون لابتداء الغاية؛ مجازاً، وأن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظةٍ، أي: موعظةٌ من موعظات ربه، أي: بعض مواعظه.

وقوله

: {فانتهى

} نسقٌ على «جاءَتْه» عطفه بفاء التعقيب، أي: لم يتراخ انتهاؤه عن مجيء الموعظة.

وقوله: {وَمَنْ عَادَ} الكلام على «مَنْ» هذه في احتمال الشرط، والموصول، كالكلام على التي قبلها.

«عاد» أي: رجع، يقال: عاد يعود عوداً، ومعاداً، وعن بعضهم: أنها تكون بمعنى «صار» ؛ وأنشد [الطويل]

1258 -

وَبِالمَحْضِ حَتَّى عَادَ عَنَطْنَطاً

إِذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ

وأنشد: [الطويل]

1259 -

تُعِدُّ لَكُمْ جَزْرَ الجَزُورِ رِمَاحُنَا

وَيَرْجِعْنَ بالأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ

والضمير في قوله «فَأمْرُه» يعود على «مَا سَلَف» ، أي: وأمر ما سلف إلى الله، أي: في العفو عنه وإسقاط التِّبعة منه. وقيل: يعود على المنتهي المدلول عليه بانتهى، أي: فأمر المنتهي عن الربا إلى الله؛ في العفو؛ والعقوبة.

وقيل: يعود على ذي الرِّبا في أن ينتبه على الانتهاء، أو يعيده إلى المعصية.

وقيل: يعود على الرِّبا، أي: في عفو الله عمَّا شاء منه، أو في استمرار تحريمه.

قال الواحديُّ «السُّلُوفُ» : التقدم، وكلُّ شيءٍ قدمته أمامك فهو سلفٌ، ومنه الأمم السَّالفة، وسالف الذكر، وله سلفٌ صالحٌ: آباءٌ متقدِّمون، ومنه {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} [

ص: 454

الزخرف: 56] أي: أمةً متقدمةً تعتبر بهم من بعدهم، وتجمع السَّلف على: أسلافٍ وسلوفٍ، والسالفة والسُّلاف: المتقدِّمون في حرب أو سفرٍ، والسالفة من الوجه؛ لتقدُّمها؛ قال:[الوافر]

1260 -

وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً

وَسَالِفَةٌ وأَحْسَنُهُ قَذَالَا

والسُّلفة: ما يقدَّم من الطعام للضَّيف. يقال: «سَلِّفُوا ضَيْفَكُمْ، ولَهِّنُوهُ» أي: بادروه بشيءٍ مَّا، ومنه: السَّلف في الدَّين؛ لأنه تقدَّمه مالٌ.

والسَّالفة: العنق؛ لتقدُّمه في جهة العلو، والسلفة: ما قدم قبل الطعام، وسلافة الخمر: صفوتها؛ لأنه أوَّل ما يخرج من عصيرها.

فصل في تأويل ما سلف

قال الزجاج: أي صفح له عمَّا مضى من ذنبه، قبل نزول الآية؛ كقوله:{قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وضعِّف؛ بأن قبل نزول الآية في التحريم، لم يكن ذلك حراماً، ولا ذنباً؛ فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنبٌ؟ والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم! ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك، وهو قوله:{فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: كلُّ ما أكل من الرِّبا، وليس عليه ردُّه، فأمَّا ما لم يقضَ بعد، فلا يجوز له أخذه، وإنما له رأس ماله فقط؛ كما بيَّنه تعالى في قوله تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] .

فصل

قال ابن الخطيب رحمه الله: في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} وجوهٌ للمفسرين، والذي أقوله: إنَّ هذه الآية مختصةٌ بمن ترك استحلال الرِّبا من غير بيان أنه ترك أكل الربا، أو لم يترك؛ ويدلُّ عليه مقدمة الآية ومؤخِّرتها.

أمَّا مقدمة الآية؛ فلأن قوله {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى} ليس فيه بيان أنه انتهى عماذا، فلا بدَّ وأن يصرف ذلك إلى المدلول السابق، وأقرب المذكورات إلى هذه الكلمة قولهم:{إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} فكان قوله: {فانتهى} عائداً إليه فيكون المعنى: فانتهى عن هذا القول.

وأما مؤخرة الآية فقوله: {وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} معناه

ص: 455

عاد إلى الكلام المتقدم، وهو استحلال الربا «فَأَمْرهُ إلى اللهِ» ثم هذا الإنسان إمَّا أن يقال: إنه كما انتهى عن استحلال الربا، انتهى - أيضاً - عن أكل الربا، وليس كذلك؛ فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله تعالى؛ فحينئذٍ يستحق المدح والتعظيم، لكنَّ قوله «فَأَمْرُهُ إِلى اللهِ» ليس كذلك؛ لأنه يدلُّ على أنه تعالى إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر، ولا بالمؤمن المطيع، فلم يبق إلَاّ أنها تختصُّ بمن أقرَّ بحرمة الرِّبا، ثم أكل الربا؛ فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فهو كقوله {إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] . ثم قال: {وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ومن عاد إلى استحلال الربا، حتى يصير كافراً، وفيها دليلٌ على أنَّ الخلود لا يكون إلَاّ للكافر.

ص: 456

قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي} : الجمهور على التخفيف في الفعلين من: مَحَقَ، وأربى. وقرأ ابن الزبير: ورويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - «يُمْحِّقُ، ويُرَبِّي» بالتشديد فيهما.

والمحق: النقص، يقال: محقته فانمحق، وامتحق؛ ومنه المحاق في القمر؛ قال:[البسيط]

1261 -

يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ

كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ

وأنشد ابن السِّكِّيتِ: [الطويل]

1262 -

وَأَمْصَلْتُ مَالِي كُلَّهُ بِحَيَاتِهِ

وَمَا سُسْتَ مِنْ شَيْءٍ فَرَبُّكَ مَاحِقُهْ

ويقال: هجيرٌ ماحقٌ: إذا نقص كلُّ شيءٍ بحرِّه.

وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع:

أحدهما: الطِّباق في قوله: «يَمْحَقُ، ويُرْبِي» فإنهما ضدَّان، نحو:{أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] .

والثاني: تجنيس التغاير في قوله: «الرِّبا، ويُرْبي» إذ أحدهما اسم والآخر فعل.

فصل في بيان وجه النَّظم

لما كان الداعي إلى فعل الرِّبا، تحصيل الزيادة، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات - بيَّن تعالى - ها هنا - أنَّ الربا وإن كان زيادةً، فهو نقصانٌ في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصاً في الصورة، فهي زيادةٌ في المعنى، فلا يليق

ص: 456

بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع، والحسُّ من الدواعي والصَّوارف؛ بل يعوِّل على ما ندبه الشرع إليه؛ فهذا وجه النظم.

فصل

اعلم أن محق الربا، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.

أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه:

أحدها: أنَّ الغالب في المربي - وإن كثر ماله - أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن مالح؛ قال صلى الله عليه وسلم َ -: «الرِّبا وَإِنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبتَهُ تَصِيرُ إِلى قلٍّ» .

وثانيها: أنه وإن لم ينتقص ماله، فإن عاقبته الذَّمُّ والنقص، وسقوط العدالة، وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق، والقسوة، والغلظة.

ثالثها: أنَّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا، يلعنونه، ويبغضونه، ويدعون عليه؛ وذلك يكون سبباً لزوال الخير، والبركة عنه في نفسه وماله.

الرابع: أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرِّبا، توجهت إليه الأطماع، وقصده كلُّ ظالمٍ، ومارقٍ وطمَّاعٍ، ويقولون: إنَّ ذلك المال ليس له في الحقيقة، فلا يترك في يده.

وأمَّ أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوهٍ:

أحدها: قال ابن عباس: معنى هذا المحق: أن الله تعالى لا يقبل منه صدقةً، ولا جهاداً ولا حجّاً، ولا صلة رحم.

ثانيها: أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت، ويبقى عليه التبعة، والعقوبة، وذلك هو الخسار الأكبر.

وثالثها: ثبت في الحديث: أنَّ الأغنياء يدخلون الجنَّة بعد الفقراء بخمسمائة عامٍ، فإذا كان الغِنَى من الحلال كذلك، فما ظنُّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان!

وأمَّا «إِرْبَاءُ الصدقاتِ» فيحتمل - أيضاً - أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.

ص: 457

أما في الدنيا: فمن وجوهٍ:

أحدها: أن من كان لله كان الله له، فإذا كان الإنسان يحسن إلى عبيد الله، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً، ولا جائعاً في الدنيا، وقد ورد في الحديث أنَّ ملكاً ينادي كلَّ يومٍ:«اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِكُلِّ مُنْفِقٍ خَلَفاً، ولكل مُمْسِكٍ تَلَفاً» .

وثانيها: أنه يزداد كلَّ يومٍ في جاهه، وذكره الجميل، وميل القلوب إليه.

وثالثها: أن الفقراء يعينونه بالدعاء الخالص من قلوبهم.

ورابعها: أنَّ الأطماع تنقطع عنه، فإنه متى اشتهر بإصلاح مهمَّات الفقراء، والضعفاء؛ فكلُّ أحدٍ يحترز عن منازعته، وكلُّ ظالم، وطمَّاع يتخوف من التعرض إليه، اللهم إلَاّ نادراً، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا.

وأما إرباؤها في الآخرة، فروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقبلُ الصَّدَقَاتِ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَاّ الطَّيِّبَ ويَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُربِّيها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مَهرَةُ أَوْ فَلُوَّهُ حتى إنَّ اللقمةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ» وتصديق ذلك بيِّنٌ في كتاب الله تعالى {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} [التوبة: 104] .

وقال ابن الخطيب: ونظير قوله: {يَمْحَقُ الله الربا} المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً ونظير قوله: {وَيُرْبِي الصدقات} المثل الذي ضربه الله بحبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ.

قوله: {والله لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} اعلم أن الكفَّار فعَّالٌ من الكفر، ومعناه: أن ذلك عادته، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول: فلان فعَّالٌ للخير أمَّارٌ به و «الأَثِيم» فعيل بمعنى فاعلٍ، وهو الآثم، وهو - أيضاً - مبالغةٌ في الاستمرار على اكتساب الإثم والتمادي فيه، وذلك لا يليق إلَاّ بمن ينكر تحريم الربا، فيكون جاحداً.

وفيه وجه آخر وهو أن يكون «الكَفَّارُ» راجعاً إلى المستحلّ «والأَثيم» يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم؛ فتكون الآية الكريمة جامعةً للفريقين.

ص: 458

اعلم أنَّ من عادته تعالى في القرآن الكريم مهما ذكر وعيداً، ذكر بعده وعداً فلما بلغ ها هنا في وعيد المرابي، أتبعه بهذا الوعد، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية.

واحتجّ من قال بأن العمل الصالح خارجٌ عن مسمى الإيمان بهذه الآية، فإنه عطف عمل الصالحات على الإيمان؛ والمعطوف يغاير المعطوف عليه.

وأجيب عنه بأنه قال: {وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} ولا نزاع في أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، داخلان تحت عمل الصالحات، فكذا ما ذكرتُم، وأيضاً قال تبارك وتعالى:{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [النحل: 88] وقال: {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} [البقرة: 39] ويمكن أن يجاب بأن الأصل حمل كل لفظةٍ على فائدةٍ جديدة، تُرِكَ العملُ به عند التَّعذُّر، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل.

فإن قيل إنَّ الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله تعالى وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه، ثم مات، فهو من أهل الثواب بالاتفاق، فدلَّ على أن استحقاق الثواب لا يتوقَّف على حصول العمل.

وأيضاً فقد يثيب الله تعالى المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال، وإذا كان كذلك فكيف وقف الله ها هنا حصول الأجر على حصول العمل؟

فالجواب: أنه تبارك وتعالى إنما ذكر هذه الخصال؛ لا لأجل أنَّ استحقاق الثواب مشروطٌ بهذا، بل لأجل أنَّ لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب، كما قال في ضدِّ هذا {والذين لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] ومعلومٌ أنَّ من ادعى مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر، وإنما جمع اللهُ الزِّنا، وقتل النَّفس، مع دعاء غير الله إلهاً، لبيان أنَّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.

ص: 459

اعلم أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة أنَّ من انتهى عن الربا، فله ما سلف؛ فقد يظنُّ أنه لا فرق بين المقبوض منه، وبين الباقي في ذمَّة الغريم، فبين في هذه الآية الكريمة بقوله:{وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} أي: الذي لم يقبض فالزيادة حرامٌ، وليس لهم أن يأخذوا إلَاّ رؤوس أموالهم، فقال:{اتقوا الله} والاتقاء إنما يكون باتقاء ما نهى عنه، {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} يعني: إن كنتم قد قبضتم منه شيئاً، فيعفو عنه، وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه، فالذي لم يقبض حرامٌ قبضه، وهذه الآية دليلٌ على أحكام الكفَّار إذا أسلموا؛ لأن ما مضى في زمن الكفر، فإنه لا ينقض، ولا يفسخ، وما لم يوجد منه

ص: 459

شيء في حال الكفر، فحكمه الإسلام، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم، ولا يجوز في الإسلام فمعفوٌّ عنه، وإن وقع على مهرٍ حرامٍ، وقبضته المرأة، فقد مضى، وليس لها شيءٌ، وإن لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المسمى.

قوله تعالى: {وَذَرُواْ} : فتحت العين من «ذَرْ» حملاً على «دَعْ» ، إذ هو بمعناه، وفتحت في «دَعْ» ؛ لأنه أمرٌ من «يَدَعُ» ، وفتحت من «يَدَعُ» ، وإن كان قياسها الكسر؛ لكون الفاء واواً؛ [كيَعِدُ] لكون لامه حرف حلقٍ.

ووزن «ذَرُوا» : علوا؛ لأنَّ المحذوف الفاء لا يستعمل منه ماضٍ إلَاّ في لغيَّة، وكذلك «دَعْ» .

وقرأ الحسن: «مَا بَقَى» بقلب الكسر فتحةً، والياء ألفاً، وهي لغةٌ لطَيِّىءٍ، ولغيرهم؛ ومنه قول علقمة:[الطويل]

1263 -

زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إِنْسَانُ عَيْنِهِ

يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَقِ

وقال آخر: [الوافرٍ] .

1264 -

وَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةس عَلَيْنَا

وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ

ويقولون في الناصية: ناصاةٌ. وقرأ الحسن أيضاً: «بَقِيْ» بتسكين الياء، قال المبرد:«تسكين ياء المنقوص في النصب من أحسن الضرورة، هذا مع أنَّه معربٌ، فهو في الفعل الماضي أحسنُ» قال شهاب الدين: وإذا كانوا قد حذفوها من الماضي صحيح الآخرن فأولى من حرف العلة، قال:[مجزوء الرمل]

1265 -

إِنَّمَا شِعْرِيَ قَيْدٌ

قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانِ

وقال جرير في تسكين الياء: [البسيط]

1266 -

هُوَ الخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيْ لَكُمُ

مَاضِي العَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ

وقال آخر: [الطويل]

1267 -

لَعَمْرُكَ لَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقِيْ

عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا

ص: 460

قوله: {مِنَ الربا} متعلِّقٌ ببقي، كقولهم:«بَقِيَتْ منه بقيةٌ» ، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ على أنه حال من فاعل «بقَى» ، أي: الذي بقي حال كونه بعض الربا، فهي تبعيضيةٌ.

ونقل ابن عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ «مِنَ الرِّبُو» بتشديد الراء مكسورة، وضمِّ الباء بعدها واوٌ. قال شهاب الدين: قد تقدم أنَّ أبا السَّمَّال إنما قرأ «الرِّبَا» في أول الآية الكريمة بواوٍ بعد فتحة الباء، وأنَّ أبا زيدٍ حكى عن بعضهم: أنه ضمَّ الباء، وقدَّمت تخريجهما على ضعفه.

وقال ابن جنِّي: «شَذَّ هَذَا الحَرْفُ في أمرين:

أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناءَ لازماً.

والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلَاّ في الفعل؛ نحو: يغزو ويدعو، وأمَّا» ذو «الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً، ومنهم من يغيِّر واوها، إذا فارق الرفع، فيقول:» رأيتُ ذَا قَامَ «.

ووجه القراءة أنه لمَّا فخَّم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها، على حدِّ قولهم: الصَّلاة والزكاة، وهي بالجملة قراءة شاذةٌ» . قال شهاب الدين: غيره يقيِّد هذه العبارة، فيقول:«ليس في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة» حتى يخرج عنه «ذُو» بمعنى الذي، و «هو» من الضمائر، وابن جنِّي لم يذكر القيد استثناء «ذو الطائية» ويرد عليه نحو «هو» ، ويرد على العبارة «ذُو» بمعنى صاحب؛ فإنَّها معربةٌ في آخرها واوٌ بعد ضمةٍ.

وقد أجيب عنه بأنها تتغيَّر إلى الألف والياء فلم يبال بها، وأيضاً فإنَّ ضمة الدَّال عارضةٌ، إذ أصلها الفتح، وإنما ضمَّت؛ إتباعاً على ما تقرر في إعراب الأسماء الستة في كتب النحو.

وقله: «بناءً لازماً» تحرُّزٌ من وجود الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ، بطريق العرض؛ نحو: الحِبُك؛ فإنه من التداخل، ونحو: الرِّدُءْ «موقوفاً عليه، فالخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ في هاتين الكلمتين، ليس بلازمٍ.

وقوله:» مِنْهُمْ مَنْ يغيِّرُ واوَها «المشهور بناؤها على الواو مطلقاً، وقد تعرب؛ كالتي بمعنى صاحب؛ وأنشدوا:[الطويل]

1268 -

فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ

فَحَسْبِيَ مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا

ص: 461

ويروى:» مِنْ ذُو «على الأصل.

فصل

قوله: {إِن كُنْتُمْ} شرطٌ، وجوابه محذوفٌ عند الجمهور، أي: فاتَّقوا، وذروا، ومتقدِّم عند جماعةٍ، وقيل:» إِنْ «هنا بمعنى إذ؛ وهذا مردودٌ.

فإن قيل: كيف قال {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} ثم قال {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فالجواب من وجوهٍ:

الأول: أن هذا كما يقال إن كنت أخي فأكرمني، معناه: إِنَّ من كان أخاً، أكرم أخاه.

الثاني: أنَّ معناه إن كنتم مؤمنين قبله، أي: معترفين بتحريم الرِّبا.

الثالث: إن كنتم تريدون استدامة حكم الإيمان.

الرابع: يا أيُّها الذين آمنوا، بلسانهم، ذروا ما بقي من الرِّبا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم.

الخامس: ما تقدم أنَّ» إن «بمعنى» إذْ «.

فصل في سبب النزول

في سبب النزول رواياتٌ:

الأولى: أن أهل مكة كانوا يرابون، فلما أسلموا عند فتح مكة، أمرهم الله تعالى بهذه الآية، أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة.

الثانية: قال مقاتلٌ: نزلت في أربعة إخوةٍ من ثقيف: مسعودٍ، وعبد [ياليل] ، وحبيبٍ، وربيعة، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يرابون. فلما ظهر النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ - على لاطائف، أسلم هؤلاء الإخوة، فطلبوا رباهم من بنى المغيرة. فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الرِّبا في الإسلام، وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتَّاب بن أسيد، فكتب عتَّابٌ - وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ - بقصة الفريقين، وكان ذلك مالاً عظيماً؛ فنزلت الآية.

ص: 462

الثالثة: قال عطاء، وعكرمة: نزلت في العباس بن عبد المطَّلب، وعثمان بن عفَّان رضي الله عنهما وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما، لا يبقى لي ما يكفي عيالي! فهل لكما أن تأخذا النصف، وتؤخِّرا النّصف؛ وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما جاء الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فنهاهما فأنزل الله هذه الآية؛ فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.

الرابعة: قال السُّدِّيُّ: نزلت في العباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عميرٍ، وناسٍ من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الربا؛ فأنزل الله هذه الآية. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ - في «حجةِ الوَدَاعِ» في خطبته يوم عرفة «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، ودِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَم أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بن الحَارِثِ، كان مُسْتَرْضِعاً في بني سعدٍ؛ فقَتَلَه هُذيْلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وأَوَلُّ رِباً أَضَعُ رِبَا العباسِ بنِ عَبْد المطلبِ؛ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّه» .

فصل

القاضي قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} يدلُّ على أنَّ الإيمان لا يتكامل إذا أصرَّ الإنسان على الكبائر، ولا يصير الإنسان مؤمناً على الإطلاق، إلَاّ إذا اجتنب كل الكبائر.

والجواب: لمَّا دلَّت الدلائل الكثيرة المذكورة في قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] على أنَّ العمل خارج عن مسمَّى الإيمان، كانت هذه الآية محمولةً على كمال الإِيمان وشرائعه، فكان التقدير: إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه؛ لتلك الدلائل.

فإن قيل: كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟

قلنا: هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر

«مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً، فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ» ، وعن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم َ -:«مَنْ لم يَدَع المخابرة، فليأذَن بحرب من اللهِ ورسُوله» وقد جعل كثيرٌ من المفسرين والفقهاء قوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب وسنة رسوله.

وفي الجواب عن السؤال وجهان:

الأول: أن المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب.

ص: 463

الثاني: أن المراد منه نفس الحرب، وفيه تفضيلٌ؛ فنقول: إنّ المصرَّ على فعل الربا، إذا كان من شخص، وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التَّعزير، والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن كان المصر ممن له عسكرٌ وشوكة، حاربه الإمام، كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكرٍ رضي الله عنه مانعي الزكاة، وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان، وترك دفن الموتى، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه.

وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما من عامل بالربا، يستتاب، فإن تاب، وإلاّض ضرب عنقه.

والقول الثاني: أنه خطابٌ للكفار، وأن معنى قوله:{إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: معترفين بتحريم الربا {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي: فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} ومن ذهب إلى هذا القول، قال: إنَّ فيه دليلاً على أنّض من كفر بشريعة واحدةٍ من شرائع الإسلام، فهو خارجٌ من ملة الإسلام، كافرٌ كما لو كفر بجميع شرائعه.

قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ} فالمعنى على القول الأول: وإن تبتم عن معاملة الربا، وعلى الثاني: من استحلال الربا {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} أي: لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال {وَلَا تُظْلَمُونَ} أي: بنقصان رأس المال.

قوله: {لَا تَظْلِمُونَ} فيها وجهان:

أظهرهما: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، أخبرهم تعالى بذلك، أي: لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه، ولا تظلمون أنتم - أيضاً - بضياع رؤوس أموالكم.

والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «لَكُمْ» والعامل ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرار؛ لوقوعه خبراً وهو رأي الأخفش.

وقرأ الجمهور الأول مبنيّاً للفاعل، والثاني مبنياً للمفعول. وروى أبانٌ، والمفضَّل، عن عاصم بالعكس. ورجَّح الفارسي قراءة العامة؛ بأنها تناسب قوله:«وإن تُبْتُمْ» في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون مبنياً للفاعل أشكل بما قبله. وقال أبو البقاء رحمه الله: يُقْرَأُ بتسميةِ الفَاعِلِ في الأوَّلِ، وترْكِ التسمية في الثاني؛ ووجهه: أنَّ منعهم من الظلم أهمُّ؛ فبدئ به، ويقرأ بالعكس، والوجه فيه: أنه قدَّم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم، ثم منعهم من الظلم، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحدٍ؛ لأنَّ الواو لا ترتِّب.

ص: 464

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} : في «كان» هذه وجهان:

أحدهما: - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حدث، ووجد، أي: وإن حدث ذو عسرةٍ، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، قيل: وأكثر ما تكون كذلك إذا كان مرفوعها نكرةٌ، نحو:«قد كان مِنْ مَطَرٍ» .

والثاني: أنها الناقصة والخبر محذوفٌ. قال أبو البقاء: «تقديره: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حقٌّ، أو نحو ذلك» وهذا مذهب بعض الكوفيين في الآية، وقدَّر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرةٍ. وقدَّره بعضهم: وإن كان ذو عسرةٍ غريماً.

قال أبو حيَّان: «وَحَذْفُ خبرِ كَانَ لا يجيزه أصحابنا؛ لا اختصاراً؛ ولا اقتصاراً، لعلَّةٍ ذكروها في كتبهم. وهي أنَّ الخبر تأكّد طلبه من وجهين:

أحدهما: كونه خبراً عن مخبر عنه.

والثاني: كونه معمولاً للفعل قبله، فلما تأكدت مطلوبيته، امتنع حذفه.

فإن قيل: أليس أن البصريين لمَّا استدلَّ عليهم الكوفيون في أنَّ» ليس «تكون عاطفةً بقوله: [الرمل]

1269 -

...

...

...

..... إِنَّمَا يَجْزِي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ

تأوَّلُوهَا على حَذْفِ الخَبَرِ؛ وأَنْشدوا شَاهِداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه: [الكامل]

1270 -

...

...

...

...

يَبْغِي جِوَارَكِ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ

وإذا ثبت هذا، ثبت في سائر الباب.

فالجواب أن هذا مختصٌّ بليس؛ لأنها تشبه لا النافية، و» لا «يجوز حذف خبرها، فكذا ما أشبهها» .

ص: 465

وتقوَّى الكوفيُّون بقراءة عبد الله، وأُبيّ؛ وعثمان:«وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ» أي: وإن كان الغريم ذا عُسْرَةٍ. قال أبو عليّ: في «كان» اسمها ضميراً تقديره: هو، أي: الغريم، يدلُّ على إضماره ما تقدَّم من الكلام؛ لأنَّ المرابي لا بدَّ له ممَّن يرابيه.

وقرأ الأعمش: «وإِنْ كان مُعْسِراً» قال الدَّاني، عن أحمد بن موسى:«إنها في مُصْحَفِ عبد الله كذلك» .

ولكنَّ الجمهور على ترجيح قراءة العامة وتخريجهم القراءة المشهورة. قال مكي: وَإِنْ وقع ذُو عُسْرَةٍ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس، ولو نصبت «ذا» على خبر «كان» ، لصار مخصوصاً في ناس بأعيانهم؛ فلهذه العلة أجمع القرَّاء المشهورون على رفع «ذو» .

وقد أوضح الواحديُّ هذا، فقال:«أي: وإنْ وقع ذو عسرةٍ، والمعنى على هذا يصحُّ، وذلك أنه لو نصب، فقيل: وإن كان ذا عسرة، لكان المعنى: وإن كان المشتري ذا عُسْرةٍ، فنظرةٌ؛ فتكون النظرة مقصورةً عليه، وليس الأمر كذلك؛ لأن المشتري، وغيره إذا كان ذا عسرةٍ، فله النظرة إلى الميسرة» .

وقال أبو حيَّان: مَنْ نصب «ذَا عُسْرَةٍ» ، أو قرأ «مُعْسِراً» فقيل: يختصُّ بأهل الرِّبا، ومن رفع، فهو عامٌّ في جميع من عليه دينٌ، قال:«وليس بلازمٍ، لأنَّ الآية إنما سِيقَتْ في أهل الربا، وفيهم نزلت» قال شهاب الدين: وهذا الجواب لا يجدي؛ لأنه وإن كان السياق كذا، فالحكم ليس خاصاً بهم.

وقرئ «وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ» ، وقرأ أبو جعفرٍ «عُسْرَةٍ» بضم السين.

فصل

قال ابن الخطيب: لما كنتُ ب «خَوَارِزْم» ، وكان هناك جمعٌ من أكابر الأدباء،

ص: 466

فأوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب؛ فقلت: إنكم تقولون: إنَّ «كان» إذا كانت ناقصةً، أنها تكون فعلاً؛ وهذا محالٌ؛ لأن الفعل ما دلَّ على اقتران حدثٍ بزمان، فقولك «كان» يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي، وإذا أفاد هذا المعنى، كانت تامةً، لا ناقصةً، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً، كانت تامةً لا ناقصة، وإن لم تكن تامةً لم تكن فعلاً ألبتة؛ بل كانت حرفاً، وأنتم تنكرون ذلك؛ فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً، وصنَّفوا في الجواب عنه كتباً، وما أفلحوا فيه، ثم انكشف لي فيه سرٌّ أذكره - ها هنا - وهو: أنَّ «كانَ» لا معنى له إلَاّ أنه حدث، ووقع، ووجد إلَاّ أن قولك وجد، وحدث على قسمين:

أحدهما: أن يكون المعنى وجد، وحدث الشيء؛ كقولك: وجد الجوهر، وحدث العرض.

والثاني: أن يكون المعنى وجد، وحدث موصوفية الشيء بالشيء، فإذا قلت: كان زيدٌ عالماً، فمعناه: حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم.

والقسم الأول هو المسمَّى ب «كان» التامة.

والقسم الثاني: هو المسمَّى ب «الناقصة» وفي الحقيقة: فالمفهوم من «كان» في الموضعين هو الحدوث، والوقوع إلَاّ أنه في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً، بل لا بدَّ فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر، وهذا من لطائف الأبحاث.

فأما إن قلنا إنه فعل، كان دالاًّ على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذٍ تكون تامةً لا ناقصةً، وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرفٌ، فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل، والأمر، وجميع خواصِّ الأفعال؟ وإذا حمل الأمر على ما قلناه، تبيَّن أنه فعلٌ وزال الإشكال بالكلية.

المفهوم الثالث ل «كان» أن تكون بمعنى «صَارَ» ؛ وأنشدوا: [الطويل]

1271 -

بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأَنَّهَا

قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا

وعندي أنَّ هذا اللفظ - ها هنا - محمولٌ على ما ذكرناه، فإنَّ معنى «صار» أنَّها حدثت موصوفية الذات بهذه الصفة، بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك؛ فتكون «كان» هنا أيضاً بمعنى حدث، ووقع؛ إلَاّ أنه حدوثٌ مخصوصٌ وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة، بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى.

ص: 467

المفهوم الرابع: أن تكون زائدة؛ وأنشدوا: [الوافر]

1272 -

سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْرٍ تَسَامَى

عَلَى كَانَ المُسَوَّمَةِ الجِيَادِ

و «العُسْرَةِ» اسم من الإعسار، ومن العسر، وهو تعذُّر الموجود من المال؛ يقال: أعسر الرجل، إذا صار إلى حالة العسرة، وهي الحالة التي يتعسَّر فيها وجود المال.

قوله: {فَنَظِرَةٌ} الفاء جواب الشرط، و «نَظِرَةٌ» خبر مبتدأ محذوف، أي: فالأمر أو فالواجب، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، أي: فعليكم نظرةٌ.

وقرأ العامَّة: «نَظِرَةٌ» بزنة «نَبَقَة» . وقرأ الحسن، ومجاهدٌ، وأبو رجاء:«فَنَظِرةٌ» بتسكين العين، وهي لغةٌ تميمةٌ يقولون:«كَبْد» في «كَبِد» و «كَتْف» في «كَتِف» .

وقرأ عطاء «فَنَاظِرَةٌ» على فاعلة، وقد خرَّجها أبو إسحاق على أنها مصدر نحو:{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2]{يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} [غافر: 19]{أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] . وقال الزمخشري: «فناظِرُهُ، أي: فصاحب الحقّ ناظره، أي: منتظره، أو صاحب نظرته على طريقة النسب؛ كقولهم: مَكَانٌ عَاشِبٌ، وبَاقِلٌ؛ بمعنى ذو عشبٍ، وذو بقلٍ، وعنه:» فناظِرْهُ «على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها» فنقله عنه القراءة الأولى يقتضي أن تكون قراءته «ناظِر» اسم فاعل مضافاً لضمير ذي العسرة، بخلاف القراءة التي قدمها عن عطاء، فإنها «نَاظِرَةٌ» بتاء التأنيث، ولذلك خرَّجها الزَّجَّاج على المصدر. وقرأ عبد الله:«فناظِرُوه» أمراً للجماعة بالنظرة، فهذه ستُّ قراءات مشهورها واحدةٌ.

وهذه الجملة لفظها خبرٌ، ومعناها الأمر؛ كقوله تعالى:{والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] وقد تقدَّم. والنظرة: من الانتظار، وهو الصبر والإمهال.

تقول: بعته الشيء بنظرة، وبإنظار. قال:{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الأعراف: 14 - 15]{إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38] .

ص: 468

قوله: {إلى مَيْسَرَةٍ} قرأ نافع وحده: «مَيْسَرَة» بضمِّ السِّين، والباقون بفتحها. والفتح هو المشهور؛ إذ مفعل، ومفعلة بالفتح كثيرٌ، ومفعُلٌ بالضم، معدومٌ؛ إلا عند الكسائي، فإنه أورد منه ألفاظاً، وأمَّا مفعلةٌ، فقالوا: قليلٌ جدّاً وهي لغة الحجاز، وقد جاءت منها ألفاظٌ، نحو: المسرُقة، والمقبرة، والمشربة، والمسربة، والمقدرة، والمأدبة، والمفخرة، والمزرعة، ومعربة، ومكرمة، ومألكة.

وقد ردَّ النحاس الضمَّ؛ تجرؤاً منه، وقال:«لم تَأْتِ مَفْعُلَةٌ إِلَاّ في حُرُوفٍ معدودةٍ ليس هذه منها، وأيضاً فإنَّ الهاء زائدةٌ، ولم يَأْتِ في كلامِهِم مَفْعُل أَلْبتةَ» انتهى.

وقال سيبويه: «لَيْسَ في الكَلَامِ مَفْعُل» قال أبو عليّ: «يَعْنِي في الآحاد» . وقد حكى سيبويه «مَهْلك» مثلَّث اللَاّم، وقال الكسائيُّ:«مَفْعُل» في الآحاد، وأورد منه مكرُماً في قول الشاعر:[الرجز]

1273 -

لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فَعَالِ مَكْرُمِ

ومَعْوُن في قول الآخر - هو جميلٌ -: [الطويل]

1274 -

بُثَيْنُ، ألْزَمِي «لَا» ؛ إنَّ «لَا» إِنْ لَزِمْتِهِ

عَلَى كَثْرَةِ الوَاشِينَ أَيُّ مَعْوُنِ

ومألكاً في قول عديّ: [الرمل]

1275 -

أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكاً

أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي

وهذا لا يرد على سيبويه لوجهين:

أحدهما: أنَّ هذا جمعٌ لمكرمةٍ، ومعونة، مألكة، وإليه ذهب البصريون، والكوفيون خلا الكسائي، ونقل عن الفراء أيضاً.

والثاني: أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل، فيقول:«لم يَرِدْ كذا» وإن كان قد ورد منه الحرف والحرفان، لعدم اعتداده بالنادر القليل.

ص: 469

وإذا تقرَّر هذا، فقد خطَّأ النحويون مجاهداً، وعطاءً في قراءتهما:«إلى مَيْسُرِهِ» بإضافة «مَيْسُر» مضموم السين إلى ضمير الغريم؛ لأنهم بنوه على أنه ليس في الآحاد مفعل، ولا ينبغي أن يكون هذا خطأً؛ لأنه على تقدير تسليم أنَّ مفعلاً ليس في الآحاد، فميسر هنا ليس واحداً، إنما هو جمع ميسرة، كما قلتم أنتم: إنَّ مكرماً جمع مكرمةٍ، ونحوه، أو يكون قد حذف تاء التأنيث للإضافة؛ كقوله:[البسيط]

1276 -

إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فَانْجَرَدُوا

وأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا

أي: عدة الأمر؛ ويدلُّ على ذلك أنهم نقلوا عنهما، أنهما قرآ أيضاً:«إِلَى مَيْسَرِهِ» بفتح السين، مضافاً لضمير الغريم، وهذه القراءة نصٌّ فيما ذكرته لك من حذف تاء التأنيث للإضافة؛ لتوافق قراءة العامَّة:«إلى مَيْسَرَةٍ» بتاء التأنيث.

وقد خرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخر، وهو أن يكون الأصل:«مَيْسُورِه» فخفِّف بحذف الواو؛ اكتفاءً بدلالة الضمة عليها، وقد يتأيَّد ما ذكره على ضعفه، بقراءة عبد الله، فإنه قرأ: إلى «مَيْسُورِه» بإضافة «مَيْسورٍ» للضمير، وهو مصدرٌ على مفعول؛ كالمجلود والمعقول، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش؛ إذ أثبت من المصادر زنة مفعول، ولم يثبته سيبويه.

«والمَيْسَرَةُ» : مفعلةٌ من اليسر، واليسار الذي هو ضدُّ الإعسار، وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل، فهو موسرٌ، أي: صار إلى حالة وجود المال فالميسرة، واليسر، والميسور: الغنى.

فصل في سبب نزول «وإن كان ذو عسرة»

لما نزل قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] قال بنو عمرو الثَّقفي: بل نتوب إلى الله، فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال، فشكى بنو المغيرة العسرة، وقالوا: أخِّرونا إلى أن تدرك الغلَاّت، فأبوا أن يؤخروا؛ فأنزل الله تعالى:{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} يعني وإن كان الذي عليه الدَّين معسراً، {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} ، يعن: أَنْظِرُوه إلى اليسار، والسَّعة.

فصل في بيان حكم الإنظار

اختلفوا في حكم الإنظار: هل هو مختصٌّ بالربا، أو عامٌّ في كل دين؟ فقال ابن عباس، وشريح، والضحاك، والسدي، وإبراهيم: الآية في الربا، وذكر عن شريح أنَّه أمر

ص: 470

بحبس الخصم، فقيل له: إنه معسرٌ، فقال شريح إنما ذلك في الربا، والله تعالى قال في كتابه العزيز {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .

وقال جماعة منهم مجاهد: إنها عامَّة في كل دين؛ لعموم قوله تعالى: {ذُو عُسْرَةٍ} ولم يقل ذا عسرة.

فصل

والإعسار: هو ألَاّ يجد في ملكه ما يؤدِّيه بعينه، ولا يكون له ما لو باعه، لأمكنه أداء الدَّين من ثمنه خارجاً عن مسكنه وثيابه، ولا يجوز أن يحبس من لم يجد إلَاّ قوت يوم لنفسه وعياله، وما لا بدَّ لهم من كسوةٍ لصلاتهم ودفع البرد والحرِّ عنهم.

واختلفوا: إذا كان قويّاً، هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدَّين، أو غيره؟

فقال بعضهم: يلزمه ذلك، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه، أو لعياله.

وقال بعضهم: لا يلزمه ذلك، واختلفوا أيضاً إذا بذل للمعسر ما يؤدِّي به الدَّين، هل يلزمه قبوله والأداء، أو لا يلزمه؟ فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجبٌ عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلَاّ ذلك، ويؤدِّيه في الدَّين.

فصل في تحريم حبس المعسر

إذا علم الإنسان أنَّ غريمة معسرٌ - حرم عليه حبسه، وأن يطالبه بما له عليه ووجب عليه إنظاره إلى يساره، فإن ارتاب في إعساره، جاز له حبسه إلى أن يظهر إعساره، فإذا ادَّعى الإعسار وكذَّبه الغريم، فإن كان الدَّين عن عوضٍ، كالبيع، والقرض، فلا بدَّ له من إقامة البيِّنة على أنَّ ذلك العوض قد هلك، وإن كان الدَّين عن غير عوض كالإتلاف، والصَّداق، والضَّمان؛ فالقول قول المعسر؛ لأن الأصل الفقر وعلى الغريم إقامة البينة.

فصل

قال المهدويُّ: قال بعض العلماء: هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر.

قال القرطبيُّ: وحكى مكيٌّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ - أمر به في صدر الإسلام.

قال ابنُ عطية: فإن ثبت فِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم َ - فهو نسخٌ، وإلَاّ فليس بنسخ.

قال الطَّحاوي: كان الحرُّ يباع في الدَّين أول الإسلام، إذا لم يكن له مالٌ يقضيه عن نفسه؛ حتى نسخ الله ذلك بقوله:{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} .

ص: 471

واحتجُّوا بما رواه الدَّارقطنيُّ من حديث مسلم بن خالد الزَّنجي، قال: حدثنا زيد ابن أسلم عن ابن البيلمانيّ، عن سرَّقٍ، قال: كان لرجلٍ عليّ مالٌ - أو قال - دينٌ فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فلم يصب لي مالاً، فباعني منه، أو باعني له؛ أخرجه البزَّار بإسناد طويل، ومسلم بن خالد الزنجي، وعبد الرحمن البيلماني لا يحتجُّ بهما.

قوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ} مبتدأ وخبره «خير» وقرأ عاصم: بتخفيف الصاد، والباقون: بتثقيلها. وأصل القراءتين واحدٌ؛ إذ الأصل: تتصدَّقوا، فحذف عاصمٌ إحدى التاءين: إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية، وتقدَّم تحقيق الخلاف فيه، وغيره أدغم التاء في الصاد، وبهذا الأصل قرأ عبد الله:«تَتَصَدَّقوا» . وحذف مفعول التصدُّق للعلم به، أي: بالإنظار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم َ -: «لَا يَحِلُّ دَيْنُ رَجلٍ مُسْلم، فيؤخره؛ إلَاّ كان له بِكُلِّ يَوْمٍ صدقةٌ» وهذا ضعيفٌ؛ لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدةٍ جديدةٍ، ولأن قوله «خَيْرٌ لكُمْ» إنما يليق بالمندوب، لا بالواجب. وقيل: برأس المال على الغريم، إذ لا يصحُّ التصدق به على غيره؛ كقوله تعالى:{وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] .

قوله: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابه محذوفٌ، و «اَنْ تَصَدَّقُوا» بتأويل مصدرٍ مبتدأ، و «خيرٌ لكم» خبره.

فصل في تقدير مفعول «تعلمون» ونصب «يوماً»

وتقدير مفعول «تَعْلَمُونَ» فيه وجوه:

أحدها: إن كنتم تعلمون أنَّ هذا التصدُّق خير لكم إن عملتموه.

الثاني: إن كنتم تعلمون فضل التصدُّق على الإنظار والقبض.

الثالث: إن كنتم تعلمون أنَّ ما يأمركم به ربُّكم أصلح لكم.

ص: 472

قوله: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} الآية انتصب قوله «يَوْماً» على المفعول به، لا على الظرف؛ لأنه ليس المعنى واتَّقوا في هذا اليوم، لكن المعنى تأهَّبوا للقائه، بما تقدِّمون من العمل الصالح، ومثله:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [

ص: 472

المزمل: 17] أي: كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه، مع الكفر بالله تعالى.

فصل في آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من القرآن

قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه آخر آيةٍ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لما حجَّ نزلت {وَيَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 172] وهي آية الكلالة ثم نزلت، وهو واقفٌ بعرفة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ثم نزل {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} فقال جبريل عليه السلام يا محمد ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - بعدها أحداً وثمانين يوماً، وقيل أحداً وعشرين يوماً.

وقال ابن جريجٍ: تسع ليالٍ.

وقال سعيد بن جبير: سبع ليالٍ، وقيل: ثلاث ساعاتٍ، ومات يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، حين زاغت الشمس، سنة إحدى عشرة من الهجرة.

وقال الشعبي، عن ابن عباس: آخر آيةٍ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - أية الرِّبا.

قوله تعالى: {تُرْجَعُونَ فِيهِ} : هذه الجملة في محلِّ نصبٍ؛ صفةً للظرف. وقرأ أبو عمرو: «تَرْجِعُونَ» بفتح التاء؛ مبنياً للفاعل، والباقون بضَمِّ التَّاءِ مبنياً للمفعُولِ. وقرأ الحسنُ:«يَرْجِعُون» بياء الغيبة؛ على الالتفات. قال ابن جنِّي: «كأنَّ اللهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنينَ عن أنْ يواجِهَهُم بذكر الرَّجْعَة، إذ هي ممَّا تتفطَّر لها القلوب، فقال لهم:» واتَّقُوا «ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة، فقال: يَرْجِعُون» .

واعلم أنَّ الرجوع لازمٌ ومتعدٍّ، وعليه خرِّجت القراءتان.

فصل في المراد باليوم

قال القاضي: اليوم: عبارةٌ عن زمانٍ مخصوصٍ، وذلك لا يتَّقى؛ إنَّما يتقى ما يحدث

ص: 473

فيه من الشِّدة، والأهوال، واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلَاّ في دار الدُّنيا بمجانبة المعاصي، وفعل الواجبات؛ فصار قوله:{واتقوا يَوْماً} يتضمن الأمر بجميع أنواع التكليف.

قال جمهور العلماء: المراد بهذا اليوم المحذَّر منه هو يوم القيامة.

وقيل يوم الموت، قال ابن عطية: والأول أصحُّ.

فصل

اعلم أنَّ الرجوع إلى الله ليس المراد منه، ما يتعلق بالمكان والجهة؛ فإن ذلك محالٌ على الله تعالى، وليس المراد الرجوع إلى علمه، وحفظه؛ فإنه معهم أينما كانوا، لكن كل ما في القرآن من الرجوع إلى الله، فله معنيان:

الأول: أن الإنسان له ثلاثة أحوالٍ مرتَّبين، فالأولى: كونهم في بطون أمَّهاتهم لا يملكون نفعهم، ولا ضرَّهم؛ بل المتصرف فيهم ليس إلَاّ الله تعالى.

والثانية: بعد خروجهم من البطون، فالمتكفل بإصلاح أحوالهم في أوَّل الأمر الأبوان، ثم بعد ذلك، يتصرف بعضهم في بعض، في حكم الظاهر.

الثالثة: بعد الموت وهناك لا يتصرف فيهم إلَاّ الله تعالى، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا، فهذا معنى الرجوع إلى الله.

المعنى الثاني: أن المراد يرجعون إلى ما أعدَّ الله لهم من ثوابٍ، وعقابٍ.

قوله: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} معناه: أنَّ المكلف يصل إليه جزاء عمله بالتمام، كما قال:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وقال:{وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .

وفي تأويل قوله: {مَّا كَسَبَتْ} وجهان:

أحدهما: فيه حذفٌ تقديره: جزاء ما كسبت.

والثاني: أنَّ المكتسب إنَّما هو الجزاء في الأصل، فقوله {مَّا كَسَبَتْ} معناه: ذلك الجزاء وهذا أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى الإضمار.

قوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} جملة حالية من «كلِّ نَفْسٍ» وجمع اعتباراً بالمعنى، وأعاد الضمير عليها أولاً مفرداً في «كَسَبَتْ» اعتباراً باللفظ، وقدِّم اعتبار اللفظ؛ لأنه الأصل، ولأنَّ اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة؛ فكان تأخيره أحسن.

قال أبو البقاء: وَيَجُوزُ أن يكون حالاً من الضمير في: «يُرْجَعُون» على القراءة بالياء، ويجوز أن يكون حالاً منه - أيضاً - على القراءة بالتاء، على أنَّه خروج من

ص: 474

الخطاب إلى الغيبة؛ كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22]، قال شهاب الدين: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك.

فإن قيل: لما قال {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فهم منه عدم الظلم، فيكون قوله:{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} من باب التكرير.

فالجواب: أنه تعالى لما قال {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} دلَّ على إيصال العذاب إلى الكفار والفسَّاق، فكان لقائلٍ أن يقول: كيف يليق بأكرم الأكرمين تعذيب عبيده؟ فأجاب بقوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} والمعنى: أن العبد هو الذي ورط نفسه؛ لأن الله تعالى مكَّنه، وأزاح عذره، فهو الذي أساء إلى نفسه.

وهذا الجواب إنَّما يستقيم على أصول المعتزلة، وأمَّا على أصولنا، فالله سبحانه مالك الخلق، يتصرف في ملكه كيف شاء، وأراد؛ فلا يكون ظلماً.

ص: 475

في كيفية النظم وجهان:

الأول: أنَّ تعالى لمَّا ذكر الإنفاق في سبيل الله، وهو يوجب تنقيص المال، وذكر الرِّبا، وهو - أيضاً - سبب تنقيص المال، وختم هذين الحكمين بالتهديد بقوله {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] والتقوى تسدُّ على الإنسان أكثر أبواب المكاسب، والمنافع - أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال، وصونه عن الفساد، فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله، وعلى ترك الرِّبا، وعلى ملازمة التقوى، لا يتم إلَاّ عند حصول المال؛ فلأجل هذا بالغ في الوصيَّة بحفظ المال، ونظيره {وَلَا تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] فحثَّ على الاحتياط في أمر الأموال؛ لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد.

ص: 475

قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ويدلُّ على ذلك: أنَّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسطٌ شديدٌ؛ ألَاّ ترى أنَّه قال تعالى {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} ، ثم قال ثانياً:{وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} ، ثم قال ثالثاً:{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله} ، فكان هذا كالتِّكرار لقوله:{وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} ؛ لأنَّ العدل هو ما علَّمه الله، ثم قال رابعاً:{فَلْيَكْتُبْ} وهذا إعادةٌ للأمر الأول؛ ثم قال خامساً: {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق} وفي قوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} كفاية عن قوله: {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق} ؛ لأنَّ الكاتب بالعدل إنَّما يكتب ما يملُّ عليه، ثم قال سادساً:{وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} ، وهذا تأكيدٌ، ثم قال سابعاً:{وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} ، وهذا كالمستفاد من قوله:{وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} ، ثم قال ثامناً:{وَلَا تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ} ، وهو أيضاً تأكيد لما مضى، ثم قال تاسعاً:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلَاّ ترتابوا} ، فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التَّأكيدات السَّالفة، وكلُّ ذلك يدلُّ على المبالغة في التَّوصية بحفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك؛ ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله: من الرِّبا، وغيره، والمواظبة على تقوى الله.

الوجه الثاني: قال بعض المفسرين: إنَّ المراد بهذه المداينة «السَّلَمُ» فإن الله تبارك وتعالى لما منع من الرِّبا في الآية المتقدِّمة؛ أذن في السَّلم في هذه الآية، مع أنَّ جميع المنافع المطلوبة من الرِّبا حاصلة في السَّلم، وبهذا قال بعض العلماء: لا لذَّة، ولا منفعة يوصل إيها بالطَّريق الحرام، إلا والله صلى الله عليه وسلم َ سبحانه وتعالى وضع لتحصيل تلك اللَّذَّة طريقاً حلالاً، وسبيلاً مشروعاً.

فصل

قال سعيد بن المسيَّب: بلغني أنَّ أحدث القرآن بالعرش آية الدَّين.

التداين تفاعل من الدَّين كتبايع من البيع، ومعناه: داين بعضكم بعضاً، وتداينتم: تبايعتم بدين.

يقال: داينت الرجل أي: عاملته بدينٍ، وسواء كنت معطياً، أم آخذاً؛ قال رؤبة:[الرجز]

ص: 476

1277 -

دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى

فَمَطلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا

ويقال: دنت الرجل: إذا بعته بدينٍ، وأدنته أنا: أخذت منه بدين ففرَّقوا بين فعل وأفعل.

قال ابن الخطيب: قال أهل اللغة القرض غير الدين؛ لأنَّ القرض أن يقرض الرجل الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً وما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه الأجل، والدَّين يجوز فيه الأجل ويقال من الدّين: أدَّان إذا باع سلعته بثمن إلى أجلٍ، ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض؛ وأنشد الأحمر:[الطويل]

1278 -

نَدِينُ وَيَقْضِي اللهُ عنَّا وَقَدْ نَرَى

مَصَارعَ قَوْمٍ لَا يَدِينُونَ ضُيَّعِ

فصل في بيان إباحة السلف

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما حرم الله تعالى الرِّبا؛ أباح السَّلف، وقال: أشهد أن السَّلف المضمون إلى أجل مسمّى، قد أحلَّه الله في كتابه، وأذن فيه ثمَّ قال:{ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} .

قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في السَّلف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم َ - قدم المدينة وهم يسلفون الثِّمار السَّنتين، والثَّلاث؛ فقال صلى الله عليه وسلم َ -:«مَنْ أَسْلَفَ؛ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» .

وقال آخرون: المراد القرض، وهو ضعيف؛ لأن القرض لا يشترط فيه الأجل والآية فيها اشتراط الأجل، وقال أكثر المفسِّرين البياعات على أربعة أوجه:

أحدها: بيع العين بالعين، وذلك ليس بمداينة ألبتة.

والثاني: بيع الدَّين بالدَّين، وهو باطلٌ، فلا يدخل تحت الآية. بقي قسمان، وهما بيع العين بالدَّين، وهو بيع الشَّيء بثمن مؤجَّل، وبيع الدَّين بالعين، وهو المسمَّى ب «السّلم» وكلاهما داخلان تحت هذه الآية الكريمة.

ص: 477

فإن قيل: المداينة: مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كلّ واحدٍ منهما دين، وذلك هو بيع الدَّين بالدَّين، وهو باطلٌ بالاتفاق.

فالجواب: أنَّ المراد من «تَدَايَنْتُمْ» : تعاملتم، والتَّقدير تعاملتم بما فيه دين.

فإن قيل: قوله «تَدَايَنْتُمْ» يدلُّ على الدّين، فما الفائد في قوله:«بِدَيْنٍ» .

فالجواب من وجوه:

أحدها: قال ابن الأنباريّ: التَّداين يكون لمعنيين:

أحدهما: التَّداين بالمال؛ والتَّداين بمعنى المجازاة من قولهم: «كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» فذكر الدين لتخصيص أحد المعنيين.

الثاني: قال الزَّمخشريُّ: وإنَّما ذكر الدَّين؛ ليرجع الضمير إليه في قوله تبارك وتعالى {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر، لوجب أن يقال: فاكتبوا الدُّين.

الثالث: ذكره ليدلّ به على العموم، أي: أي دين كان من قليلٍ، أو كثيرٍ من قرضٍ، أو سلمٍ، أو بيع دين إلى أجل.

الرابع: أنَّه تبارك وتعالى ذكره للتَّأكيد كقوله تبارك وتعالى

{فَسَجَدَ

الملاائكة

كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وقوله: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] .

الخامس: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: إنَّ المداينة مفاعلة، وهي تتناول بيع الدَّين بالدَّين وهو باطلٌ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطلٌ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل فلما قال:{إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} كان المعنى: إذا تداينتم تدايناً يحصل فيه دين واحد وحينئذٍ يخرج عن بيع الدّين بالدين، ويبقى بيع العين بالدّين أو بيع الدّين بالعين، فإن الحاصل في كلِّ واحدٍ منهما دين واحد لا غير.

فإن قيل: إن كلمة «إذَا» لا تفيد العموم، والمراد من الآية العموم؛ لأن المعنى كلَّما تداينتم بدين فاكتبوه فلم عدل عن كلما وقال:{إِذَا تَدَايَنتُم} .

فالجواب: أنَّ كلمة «إِذَا» ، وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنَّها لا تمنع من

ص: 478

العموم، وها هنا قام الدَّليل على أنَّ المراد هو العموم؛ لأنه تعالى بين العلَّة في الأمر بالكتابة في آخر الآية، وهي قوله تعالى:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلَاّ ترتابوا} والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدّين، ولم يكتب فالظَّاهر أنه تنسى الكيفيَّة فربَّما توهم الزِّيادة، فطلب الزِّيادة ظلماً، وربَّما توهم النُّقصان، فترك حقَّه من غير حمد ولا أجر، فأمَّا إذا كتب كيفيَّة الواقعة أمن من هذه المحذورات، فلمَّا دلَّ النَّصُّ على أن هذا هو العلَّة، وهي قائمةٌ في الكلّ كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكلِّ.

قوله تعالى: {إلى أَجَلٍ} : متعلِّق بتداينتم، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة لدين، و {مُّسَمًّى} صفة لدين، فيكون قد قدَّم الصفة المؤولة على الصَّريحة، وهو ضعيفٌ، فكان الوجه الأول أوجه.

والأجل: في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدّين لوقت معيَّن في المستقبل، وأصله من التَّأخير يقال: أجل الشَّيء بأجل أجولاً إذا تأخَّر، والآجل: نقيض العاجل.

فإن قيل: المداينة لا تكون إلا مؤجلة، فما فائدة ذكر الأجل المداينة؟

فالجواب: إنَّما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله {مُّسَمًّى} والفائدة ف يقوله {مُّسَمًّى} ليعلم أنَّ من حقّ الأجل أن يكون [معلوماً] كالتَّوقيت بالسَّنة، والأشهر، والأيَّام، فلو قال إلى الحصاد، أو إلى الدياس، أو إلى رجوع قدوم الحاج؛ لم يجز لعدم التَّسمية.

وألف «مُسَمًّى» منقلبةٌ عن ياءٍ، تلك الياء منقلبةٌ عن واو؛ لأنه من التَّسمية، وقد تقدَّم أنَّ المادَّة من سما يسمو.

فصل

والأجل يلزم في الثَّمن في البيع، وفي السّلم بحيث لا يكون لصاحب الحقّ الطلب قبل محله، وفي القرض، لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم.

قال القرطبي: شروط السّلم تسعة، ستّة في المسلم فيه، وثلاثة في رأس مال السّلم.

أمَّا السِّتَّة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذِّمَّة، وأن يكون موصوفاً، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن يكون مؤجّلاً، وأن يكون عام الوجود عند الأجل، وأمَّا الثلاثة

ص: 479

التي في رأس مال السلم، فأن يكون معلوم الجنس، معلوم المقدار، وأن يكون نقداً.

قوله: {فاكتبوه} الضَّمير يعود على «بِدَيْنٍ» .

فصل

أمر الله تعالى في المداينة بأمرين:

أحدهما: الكتابة بقوله: {فاكتبوه} .

الثاني: الإشهاد. بقوله: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} ، وفائدة الكتابة والإشهاد أنَّ دخول الأجل تتأخّر فيه المطالبة، ويتخلَّله النِّسيان ويدخله الجحد، فالكتابة سبب لحفظ المال من الجانبين، لأنَّ صاحب الدّين إذا علم أنَّ حقّه مقيّد بالكتابة، والإشهاد تحذر من طلب زيادة، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، والمديون يحذر من الجحد، ويأخذ قبل حلول الدّين في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت الحلول.

فصل

القائلون بأن ظاهر الأمر النَّدب، لا إشكال عليهم، واختلف القائلون بأن ظاهر الأمر الوجوب، فقال عطاء، وابن جريج والنَّخعي بوجوب الكتابة، وهو اختيار محمد بن جرير الطَّبري، قال النَّخعي: يشهد، ولو على دُسْتَجةِ بَقْلٍ.

وقال جمهور الفقهاء: هذا أمر ندب؛ لأنّا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار المسلمين يبيعون بالأثمان المؤجَّلة من غير كتابة، ولا إشهاد، وذلك إجماعٌ على عدم وجوبها، ولأنَّ في إيجابها حرجٌ شديدٌ، ومشقَّة عظيمةٌ. وقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

وقال صلى الله عليه وسلم َ: «بُعِثْتُ بالحنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» .

وقال الحسن، والشَّعبيُّ، والحكم بن عتيبة: كانا واجبين ثمّ نسخا بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] .

وقال التيمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألا تسمع قوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} [البقرة: 283] .

ص: 480

فصل

لما أمر الله تعالى بكتابة هذه المداينة؛ اعتبر في الكتابة شرطين:

الأولَّل: أن يكون الكاتب عدلاً لقوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} وذلك أنَّ قوله تعالى: {فاكتبوه} ظاهره يقتضي أنَّه يجب على كلِّ أحدٍ أن يكتب، لكن ذلك غير ممكنٍ، فقد يكون ذلك الإنسان غير كاتب، فصار معنى قوله:{فاكتبوه} ، أي: لا بدَّ من حصول هذه الكتابة وهو كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فإن ظاهره، وإن كان يقتضي خطاب الكلّ بهذا الفعل، إلَاّ أنَّا علمنا أنَّ المقصود منه أنَّه لا بدَّ من حصول قطع اليد من إنسان واحد، إمَّا الإمام، أو نائبه أو المولى، فكذا ها هنا.

ويؤكِّد هذا قوله تعالى: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} فإنَّه يدلُّ على أنَّ المقصود حصول الكتابة من أيّ سخصٍ كان.

قوله: {بالعدل} فيه أوجهٌ:

أحدها: أن يكون الجارُّ متعلّقاً بالفعل قبله. قال أبو البقاء: «بالعَدْلِ متعلِّق بقوله: فليكتب، أي: ليكتب بالحقِّ، فيجوز أن يكون حالاً، أي: ليكتب عادلاً، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي: بسبب العدل» .

قوله أولاً: «بالعدلِ مُتَعَلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب» يريد التعلق المعنوي؛ لأنَّه قد جوَّز فيه بعد ذلك أن يكون حالاً، وإذا كان حالاً تعلَّق بمحذوف لا بنفس الفعل.

وقوله: «ويجوزُ أن يكون مفعولاً» يعني فتتعلق الباء حينئذٍ بنفس الفعل.

والثاني: أن يتعلَّق ب «كَاتِب» . قال الزَّمخشريُّ: «مُتَعَلِّقٌ بكاتب صفةً له، أي: كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتُب» ، وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابن عطيَّة:«والبَاءُ متعلِّقةٌ بقوله:» ولْيَكْتُبْ «، وليست متعلِّقة بقوله» كَاتِبٌ «؛ لأنه كان يلزم ألَاّ يكتب وثيقةً إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصّبيُّ والعبد» .

الثالث: أن تكون الباء زائدةٌ، تقديره: فليكتب بينكم كاتب بالعدل.

فصل في معنى العدل

في تفسير العدل وجوه:

أحدها: أن يكتب بحيث لا يزيد، ولا ينقص عنه، ويكتب بحيث يصلح أن يكون حجَّة له عن الحاجة إليه.

وثانيها: لا يخصّ أحدهما بالاحتياط له دون الآخر، بل يكتبه بحيث يكون كل

ص: 481

واحد من الخصمين آمناً من تمكن الآخر من إبطال حقّه.

ثالثها: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متّفقاً عليه بين أهل العلم، بحيث لا يجد قاضٍ من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على قول بعض المجتهدين.

ورابعها: أن يحترز عن الألفاظ المجملة المتنازع في المراد بها، فهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلَاّ إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين، أديباً مميّزاً بين الألفاظ المتشابهة.

قوله: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ} وهذا ظاهره نهي الكاتب عن الامتناع عن الكتابة وإيجاب الكتابة على كل من كان كاتباً، وهذا على سبيل الإرشاد، والمعنى: أنَّ الله تعالى لمَّا علمه الكتابة وشرفه بمعرفة أحكام الشَّريعة، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهمّ أخيه المسلم شكراً لتلك النِّعمة، فهو كقوله تعالى:{وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] .

وقال الشعبي: هو فرض كفاية، فإن لم يوجد من يكتب غيره وجب عليه الكتابة، وإن وجد غيره؛ وجبت الكتابة على واحد منهم.

وقيل: كانت الكتابة واجبة على الكاتب، ثمَّ نسخت بقوله تعالى:{وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} .

وقيل: متعلِّق الإيجاب، هو أن يكتب كما علمه الله، يعني: أنَّه بتقدير أنه يكتب، فالواجب أن يكتب كما علَّمه الله، ولا يخلّ بشرط من الشّرائط، ولا يدرج فيه قيداً يُخلّ بمقصود الإنسان.

قوله: {أَنْ يَكْتُبَ} مفعولٌ به، أي: لا يأب الكتابة.

قوله: {كَمَا عَلَّمَهُ الله} يجوز أن يتعلَّق بقوله: {أَنْ يَكْتُبَ} على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير: أن يكتب كتابةً مثل ما علَّمه الله، أو أن يكتبه أي: الكتب مثل ما علَّمه الله.

ويجوز أن يتعلَّق بقوله: «فَلْيَكْتُبْ» .

قال أبو حيَّان: «والظّاهر تعلُّق الكاف بقوله: فَلْيَكْتُبْ» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وهو قلق لأجل الفاء، ولأجل أنه لو كان متعلِّقاً بقوله:«فَلْيَكْتُبْ» ، لكان النَّظم: فليكتب كما علمه الله، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخرٌ في المعنى.

وقال الزَّمخشريُّ - بعد أن ذكر تعلُّقه بأن يكتب، وب «فَلْيَكْتُبْ» - «فإِنْ قلت: أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت: إن علَّقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيَّدة، ثم قيل [له] : فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها، وإن علَّقته بقوله:» فَلْيَكْتُبْ «فقد نهى

ص: 482

عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيّدةً» . فيكون التقدير: فلا يأب كاتبٌ أن يكتب، وها هنا تمَّ الكلام، ثم قال بعده:{كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ} ، فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً، ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إيَّاها.

ويجوز أن تكون متعلقةً بقوله: لا يأب، وتكون الكاف حينئذٍ للتعليل. قال ابن عطيّة رحمه الله:«ويحتمل أن يكون» كما «متعلّقاً بما في قوله» ولا يأْبَ «من المعنى، أي: كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة، فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل عليه» . قال أبو حيَّان: «وهو خلاف الظاهر، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل» قال شهاب الدين رحمه الله: وعلى القول بكونها متعلقةً بقوله: «فليكتب» يجوز أن تكون للتعليل أيضاً، أي: فلأجل ما علَّمه الله فليكتب.

وقرأ العامة: «فَلْيَكْتُبْ» بتسكين اللام كقوله: «كَتْف» في كتِف، إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل. وقد قرأ الحسن بكسرها وهو الأصل.

قوله: «ولْيُمْلِل» أمرٌ من أملَّ يملُّ، فلمَّا سكن الثاني جزماً جرى فيه لغتان: الفكُّ وهو لغة الحجاز وبني أسد، والإدغام وهو لغة تميم، وقيس، ونزل القرآن باللُّغتين.

قال تعالى في اللغة الثانية: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] وكذا إذا سكن وقفاً نحو: أملل عليه وأملَّ، وهذا مطَّرد في كل مضاعفٍ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى عند قراءتَيْ:«مَنْ يَرْتَدِدْ، ويرتدَّ» .

وقرئ هنا شاذّاً: «وَلْيُمِلَّ» بالإدغام، ويقال: أملَّ يملُّ إملالاً، وأملى، يملي إملاءً؛ ومن الأولى قوله:[الطويل]

1279 -

أَلَا يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ

أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوانِ

ويقال: أمللت وأمليت، فقيل: هما لغتان، وقيل: الياء بدلٌ من أحد المثلين، وأصل المادتين: الإعادة مرة بعد أخرى.

و «الحَقُّ» يجوز أن يكون مبتدأٌ، و «عَلَيْهِ» خبر مقدمٌ، ويجوز أن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على الموصول، والموصول هو فاعل «يُمْلِل» ومفعوله محذوف،

ص: 483

أي: وليملل الديَّان الكاتب ما عليه من الحقِّ، فحذف المفعولين للعلم بهما.

ويتعدَّى ب «عَلَى» إلى أحدهما فيقال: أمللت عليه كذا، ومنه الآية الكريمة.

فصل

اعلم أنَّ الكتابة، وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشُّروط والسِّجلات، لكن ذلك لا يتمّ إلَاّ بإملاء من عليه الحق؛ فيدخل في جملة إملائه اعترافه بالحقّ في قدره، وجنسه وصفته، وأجله، وغير ذلك.

ثم قال: {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} بأن يقرّ بمبلغ المال، {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} ، أي: لا ينقص منه شيئاً.

قوله: {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} يجوز في «منه» وجهان:

أحدهما: أن يكون متعلقاً بيبخس، و «مِنْ» لابتداء الغاية، والضمير في «منه» للحقِّ.

والثاني: أنَّها متعلقة بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفةٌ للنكرة، فلمَّا قُدِّمت على النكرة نصبت حالاً.

و «شَيئاً» : إمَّا مفعول به، وإمَّا مصدرٌ.

والبخس: النَّقص، يقال منه، بخس زيدٌ عمراً حقَّه يبخسه بخساً، وأصله من: بخست عينه، فاستعير منه بَخْسُ الحق، كما قالوا:«عَوَرْتُ حَقَّه» استعارة من عور العين. ويقال: بخصه بالصَّاد. والتباخس في البيع: التناقص، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايعين ينقص الآخر حقَّه.

قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ} إدخال حرف «أو» بين هذه الألفاظ الثلاثة يقتضي تغايرها؛ لأنَّ معناه: أنَّ الذي عليه الحقّ كان متَّصفاً بإحدى هذه الصِّفات الثلاثة {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} وإذا ثبت تغايرها وجب حمل السَّفيه على الضعيف الرَّأي النَّاقص العقل من البالغين الذين لا يحسنون الأخذ لأنفسهم، ولا الإعطاء منها أخذاً من الثَّوب السَّفيه وهو خفيف النَّسج، والبذيء اللسان يسمى سفيهاً، لأنَّه لا يكاد أن تتفق البذاءة إلَاّ في جهَّال النَّاس، وأصحاب العقول الخفيفة، والعرب تسمي الضعيف العقل سفيهاً؛ قال الشاعر:[السريع]

1280 -

نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلَامُنَا

وَيَجْهَل الدَّهْرُ مَعَ الحَالِمِ

والضَّعيف على الصَّغير، والمجنون، والشَّيخ الخرف وهو الذين فقدوا العقل

ص: 484

بالكلية، «والَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُملّ» من يضعف لسانه عن الإملاء لخرسٍ، أو لجهله بما عليه، وله.

فهؤلاء لا يصحُّ منهم الإملاء، ولا الإقراء، فلا بدَّ ممَّن يقوم مقامهم.

فقال تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} .

قيل: الضُّعف بضم الضَّاد في البدن، وبفتحها في الرأي.

وقيل: هما لغتان.

قال القرطبيُّ: والأول أصحُّ.

قوله: {أَن يُمِلَّ هُوَ} أن، وما في حيِّزها في محل نصب مفعولاً به، أي: لا يستطيع الإملال، و «هو» تأكيدٌ للضمير المستتر. وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير، والتَّنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، قاله أبو حيان.

وقرئ بإسكان هاء: «هو» وهي قراءة ضعيفة؛ لأنَّ هذا الضمير كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلها.

ومن سكَّنها أجرى المنفصل مجرى المتصل، وقد تقدَّم هذا في أول هذه السورة، قال أبو حيَّان رحمه الله: «وهذا أشذُّ من قراءة من قرأ: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة} [القصص: 61] .

قال شهاب الدين: فجعل هذه القراءة شاذةً وهذه أشذُّ منها، وليس بجيد، فإنَّها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارىء أهل المدينة فيما رواه عنه قالون، وهو أضبط رواته لحرفه، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة.

والهاء في» وليُّه «للذي عليه الحقُّ، إذا كان متصفاً بإحدى الصِّفات الثلاث؛ لأن وليَّه هو الَّذي يُقر عليه بالدَّين كما يقرُّ بسائر أُموره، وقال ابن عبَّاس، ومقاتلٌ والرَّبيعُ: المراد بوليِّه: وَلِيُّ الدَّين وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ قول المُدّعي لا يقبل، فإِن اعتبرنا قوله، فأيُّ حاجة إلى الكتابة، والإشهاد؟

وقوله:» بالعدْلِ «تقدَّم نظيره.

فصلٌ

واعلم أَنَّ المقصود من الكتابة: هو الاستشهادُ؛ لكي يتمكَّن صاحب الحقّ بالشُّهود إلى تحصيل حقّه عند الجحود.

ص: 485

وقوله:» فاسْتَشْهِدُوا «يجوز أن تكون السِّين على بابها من الطَّلبِ، أي: اطلبُوا شهيدَين، ويجوزُ أن يكونَ استفعل بمعنى أفعل، نحو: اسْتَعْجضلَ بمعنى أَعجَل، واستيقن بمعن أَيقَنَ فيكون» اسْتَشْهِدُوا «بمعنى شهدوا، يقال أشهدت الرَّجُل واشتشهدته بمعنى واحدٍ، والشَّهيدان: هما الشَّاهدانِ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ.

وفي قوله:» شَهِيدَيْن «تنبيهٌ على أَنَّهُ ينبغي أن يكون الشَّاهد ممَّن تتكرَّرُ منه الشَّهادةُ، حيث أَتَى بصيغة المبالغة.

قوله:» مِنْ رِجَالِكُمْ «يجوزُ أن يتعلَّق باستشهدوا، وتكونُ» مِنْ «لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ، على أَنَّهُ صفةٌ لشهيدين، و» مِنْ «تبعيضيةٌ.

فصلٌ

في المراد بقوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} ثلاثة أقوال:

أحدها: قال أكثر العلماء: المراد الأَحرارُ المسلمون.

الثاني: قال شريحٌ، وابن سيرين: المراد المسلمون؛ فيدخل العبيد.

الثالث: من رجالكم الَّذين تعدونهم للشَّهادة، بسبب العدالة. حجَّةُ شريح، وابن سرين: عمومُ الآية؛ ولأَنَّ العدالة لا تختلف بالحريَّة والرِّقِّ، واحتَجَّ الآخرونَ بقوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ} ، وهذا يقتضي: أَنَّ الشَّاهد؛ يجب عليه الذَّهاب إلى موضع أدَاءِ الشَّهادة، ويحرمُ عليه الامتناعُ والإِجماعُ على أَنَّ العبد لا يجبُ عليه الذَّهابُ، فلا يكونُ شاهداً، وهذا مذهبُ الشَّافعي، وأبي حنيفة.

والجواب عن قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} ، أي: الذين تعدُّونهم لأداء الشَّهادة، كما قدَّمناهُ.

قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} ، جوَّزوا في» كَانَ «هذه أَنْ تكون النَّاقصة، وأَنْ تكون التامة، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى: فإنْ كانت ناقصةً فالألفُ اسمها، وهي عائدةٌ على الشَّهيدين أي: فإن لم يكنِ الشّاهدان رجُلَين، والمعنى على هذا: إن أغفَل ذلك صاحبُ الحقّ، أو قصد أَنْ لا يُشهد رجلين لغرض له، وإن كانت تامّةً فيكون» رجلين «نصباً على الحالِ المؤكِّدة كقوله:

{فَإِن كَانَتَا اثنتين} [النساء: 176] ، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدمِ الرِّجال. والألفُ في «يَكُونَا» عائدةٌ على «شَهِيدَيْنِ» ، تفيدُ الرجولية.

فصلٌ

قال القرافيُّ: العلماءُ يقولون: إِذَا ورد النَّصُّ بصيغة «أو» فهو للتَّخيير، كقوله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ،

ص: 486

وإن ورد النَّصُّ بصيغة الشَّرط كقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجدْ} [البقرة: 196] الآية فهو على التَّرتيب، وهذا غير صحيح لهذه الآية؛ لأَنَّ قوله تعالى:{فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} يقتضي على قولهم أَلَاّ يجوز استشهادُ رجُلٍ وامرأتين إِلَاّ عند عدم الرَّجلين، وقد أَجمعت الأُمَّة على جواز ذلك، عند وجود الرَّجلين، وأَنَّ عدمهما ليس بشرطٍ، واستفدنا من هذه الآية سؤالين عظيمين.

الأول: أَنَّ الصِّيغة لا تقتضي التَّرتيب.

الثاني: أَنَّهُ لا يلزمُ من عدم الشَّرط عدم المشروط، وهو خلافُ الإِجماع، وهو هناك كذلك.

قولنا: إذا لم يكن العدد زوجاً، فهو فردٌ، وإِنْ لم يكن فرداً، فهو زوج مع أَنَّهُ لا تتوقَّف زوجيَّته على عدم الفرديَّة، ولا فرديته على عدمِ الزَّوجيَّة. بل هو واجبُ الثُّبوت في نفسه، وجد الآخر أم لا، وإذا تقرَّر هذا، فالمُرادُ من الآية: انحصارُ الحُجَّة التَّامَّة من الشَّهادة، بعد الرَّجلين في الرَّجل، والمرأتين، فإِنَّه لا حُجَّة تامَّةٌ من الشَّهادة في الشَّريعة، إِلَاّ الرَّجُلين، والرَّجُلَ، والمرأتين، هذا هو المجمع عليه من البيِّنة الكامِلة، في الأَموال، فإذا فرض عدم إحداهما، قبل الحصر في الأُخرى، وقد وضح أَنَّ الشَّرط كما يستعملُ في الترتيب؛ كذلك يُسْتعملُ في الحصر، والكل حقيقة لغوية، فضابطُ ما يتوقَّف فيه المشروطُ على الشَّرطِ، هو الَّذي لا يراد به الحصرُ، فمتى أُريد به الحصرُ فلا يدلُّ على التَّرتيب، بل لا بُدَّ من قرينة.

قوله: {فَرَجُلٌ وامرأتان} يجوزُ أن يرتفع ما بعد الفاءِ على الابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ تقديره: فرجلٌ، وامرأتان، يكفُون في الشَّهادة، أو مُجزِئون، ونحوه. وقيل: هو خبرٌ والمبتدأُ محذوفٌ تقديره: فالشَّاهدُ رجلٌ، وامرأتان وقيل: مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره: فيكفي رجُلٌ، أي: شهادةُ رجلٍ، فحُذِف المضافُ للعلم به، وأُقيم المضافُ إليه مقامه. وقيل: تقدير الفعلِ فَلْيَشْهَدْ رجلٌ، وهو أحسنُ، إذ لا يُحوج إلى حذفِ مُضافٍ، وهو تقديرُ الزَّمخشريُّ.

وقيل: هو مرفوعٌ بكان النَّاقصة، والتَّقدير: فليكن مِمَّن يشهدون رجلٌ وامرأتان، وقيل: بل بالتَّامَّةِ وهو أَولى؛ لأنَّ فيه حذف فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ، وفي تقدير النَّاقصة حذفُها مع خبرها، وقد عُرِفَ ما فيه، وقيل: هو مرفوعٌ على ما لم يسمَّ فاعلُهُ، تقديرُهُ: فليُسْتَشْهَد رجلٌ. قال أبو البقاء: «وَلَوْ كَانَ قَدْ قُرئ بالنَّصب لكان التَّقديرُ: فَاسْتَشْهِدُوا» وهو كلامٌ حسنٌ.

وقرئ: «وَامْرَأَتَانِ» بسكون الهمزة التي هي لامُ الكلمة، وفيها تخريجان.

ص: 487

أحدهما: أنه أَبْدَل الهمزة ألفاً، وليس قياسُ تخفيفها ذلك، بل بَيْنَ بين، ولمَّا أبدلها ألفاً همزها كما هَمزتِ العربُ نحوك العأْلَمِ، والخَأْتَمِ؛ وقوله:[الرجز]

1281 -

وَخِنْدفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ

وقد تقدَّم تحقيقه في سورة الفاتحة، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إِنْ شاء اللهُ - تعالى - في قراءة ابن ذكوان:«مِنْسَأْتَه» في سبأ.

وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجهِ، ونحا إلى القياس فقال: ووجهُهُ أنه خفَّفَ الهمزة - يعني بينَ بينَ - فقَرُبَتْ من الألف، والمُقَرَّبة من الألفِ في حكمها؛ ولذلك لا يُبْتَدأُ بها، فلمَّا صارت كالألف، قَلَبها همزةً ساكنةً كما قالوا: خَأْتم وعَأْلم.

والثاني: أن يكُونَ قد استثقَلَ تواليَ الحركاتِ، والهمزةُ حرفٌ يُشبِهُ حرف العلة فتُستثقل عليها الحركة فسُكِّنت لذلك. قال أبو حيَّان رحمه الله: ويمكنُ أنه سكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ؛ وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزةِ في قول الشَّاعر: [الطويل]

1282 -

يَقُولُونَ جَهْلاً لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ

لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأْنَ رَقُوبُ

يريدُ: وَأَنَا رَقوب، فسكِّنَ همزةَ «أَنَا» بعد الواوِ، وحذف ألف «أنا» وصلاً على القاعدة. قال شهاب الدين: قد نصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال: «ولا يَجُوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزة؛ لأنَّ المفتوح لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفَتْحَةِ» وهذا من أبى الفتح محمولٌ على الغالب، وإلا فقد تقدَّم لنا في قراءة الحسنِ «مَا بَقِي مِنَ الرِّبَا» ، وقبل ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً، حتَّى في الحروفِ الصَّحيحة السَّهلةِ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفلَة؟

قوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء} فيه أوجهٌ:

أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجُلٍ وامرأتين.

والثاني: أنه في محلِّ نصب؛ لأنه نعتٌ لشهيدين. واستضعف أبو حيّان هذين الوجهين قال: «لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن شَهِيدَيْنِ» ، واستضعفَ الثَّاني أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: للوصف الواقعِ بينهما.

الوجه الثالث: أنه بدلٌ من قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} بتكريرِ العاملِ، والتقدير: «

ص: 488

وَاستَشْهِدوا شَهِيدَيْن مِمَّن تَرْضَوْن» ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه. وكان ينبغي أن يُضعِّفَه بما ضَعَّف وجهَ الصّفة، وهو للفصلِ بينهما، وضعَّفه أبو حيّان بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشَّهيدين الرَّجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا من بَدَلِ البَعْض إن أخذنا «رِجَالكُمْ» على العموم، أو الكلِّ من الكلِّ إن أخذناهم على الخصوصِ، وعلى كلا التّقديرين، فلا ينفي ذلك عمَّا عداه، وأمّا في الوصف فمسلَّمٌ؛ لأنَّ مفهوماً على المختارِ.

الرابع: أن يتعلَّقَ باستشهِدوا، أي: استشهدوا مِمَّنْ ترضَوْن. قال أبو حيان: «ويكون قيداً في الجميعِ، ولذلك جاء مُتَأخّراً بعد الجميعِ» .

قوله: {مِنَ الشهدآء} يجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ من العائدِ المحذوفِ، والتَّقديرُ: مِمَّن تَرْضَونَه حال كونه بعض الشُّهداءِ.

ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ «مِنْ» بإعادةِ العامل، كما تقدَّم في نفسِ {مِمَّن تَرْضَوْنَ} ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القَوْلينِ في كلِّ منهما.

فصلٌ

قوله {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء} كقوله تعالى في الطلاق: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] وهذه الآية تدلُّ على أَنَّهُ ليس كلُّ أحدٍ يكونُ شاهداً، والفقهاءُ شرطوا في الشَّاهد الَّذي تقبلُ شهادته عشرة شروطٍ: أَنْ يكونَ حُرّاً بالغاً، مسلماً عدلاً، عالماً بما شهد به؛ ولا يجر بتلك الشَّهادة منفعة إلى نفسه، ولا يدفع بها مضرَّة عن نفسه، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلطِ، ولا بترك المُروءةِ، ولا يكُونُ بينه وبين من يشهد عليه عداوة.

وقيل: سبعة: الإِسلامُ، والحريَّةُ، والعقلُ، والبُلُوغُ، والعدالةُ، والمروءةُ وانتفاء التُّهمة.

قوله: {أَنْ تَضِلَّ} قرأ حمزة بكسر «إِنْ» على أنَّها شرطيَّةٌ والباقون بفتحها، على أنَّها المصدريةُ النَّاصبةُ، فأمَّا القراءة الأولى، فجوابُ الشَّرط فيها قوله «فتذكِّرُ» ، وذلك أَنَّ حمزة رحمه الله يقرأ:«فَتُذَكِّرُ» بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ؛ فصَحَّ أن تكونَ الفاءُ، وما في حيِّزها جواباً للشَّرط، ورَفَعَ الفعل؛ لأَنَّهُ على إضمارِ مبتدأ، أي: فهي تُذَكِّر، وعلى هذه القراءة فجملة الشَّرطِ والجزاءِ هل لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟

ص: 489

فقال ابن عطيَّة: إِنَّ محلَّها الرَّفْعُ صفةً «لامْرَأَتَيْن» ، وكان قد تقدَّم أنَّ قوله:«مِمَّنْ تَرْضَوْنَ» صفةٌ لقوله «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان» قال أبو حيان رحمه الله: «فَصَارَ نظيرَ جَاءَني رجُلٌ، وامرأتان عُقَلَاءُ حُبْلَيَان» وفي جواز مثل هذا التّركيب نظرٌ، بل الَّذي تقتضيه الأَقيسة تقديمُ «حُبْلَيَان» على «عُقَلَاء» ؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ «ممَّنْ تَرْضَوْن» بدلٌ من رِجَالِكُم، أو مُتعلِّقٌ باستشهِدُوا، فيتعذَّر جعلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصل بين الصِّفة، والموصوفِ بأجنبيّ. قال شهاب الدين رحمه الله: وابن عطيَّة لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ، بل سبقه إليه الواحديُّ فإنه قال: وموضعُ الشَّرط وجوابُه رفعٌ بكونهما، وصفاً للمذكورين وهما «امْرَأَتَانِ» في قوله:«فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ» لأنَّ الشَّرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما، كما يُوصَف بهما في قوله:{الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} [الحج: 41] .

والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشَّرطية مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحُكْم، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأَنَّ قائلاً قال: ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيب بهذه الجملة.

وأمَّا القراءةُ الثَّانيةُ؛ ف «أَنْ» فيها مصدريَّة ناصبة للفعل بعدها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغام في الثَّانية، مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يُمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ، فحرَّكنا الثَّانية بالفتحة هرباً من التقائِهما، وكانتِ الحركةُ فتحةٌ؛ لأَنَّها أَخَفُّ الحركاتِ، وأَنْ وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذفِ حرفِ الجَرّ، وهي لامُ العِلَّة، والتَّقديرُ: لأن تَضِلَّ، أو إرادة أَنْ تَضِلَّ.

وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه:

أحدها: أَنَّهُ فِعلٌ مضمرٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابق، إذا التَّقديرُ: فاسْتَشْهِدُوا رَجُلاً وامرأتين لئلا تَضِلَّ إِحداهما، ودلَّ على هذا الفعلِ قوله:{فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} ، قاله الواحديُّ ولا حاجة إليه؛ لأَنَّ الرَّافع لرجُلٍ وامرأتين مُغنٍ عن تقدير شيءٍ آخر، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولك:«فَرَجُلٌ وامرأتان» إذ تقديرُ الأول: فَلْيَشهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني: فرجلٌ وامرأتان يشهدُون؛ لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التَّقديران هما الوجهُ الثَّاني والثَّالث من الثَّلاثةِ المذكورة. فإن قيل هل جُعِل ضلالُ إِحداهما علَّةً لتطلُّب الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حسبِ التقديرين المذكورين أولاً؟ وقد أَجابَ سيبويه رحمه الله وغيرُه بأن الضلالَ لمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسبِّباً عنه، وهم يُنَزِّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسهما، واتِّصالهما كانت إرادةُ الضَّلال المُسَبَّب عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكار. فكأنه قيل: إرادة أَنْ تُذَكِّر إِحداهما الأخرى إِنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم: «أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائِطُ فأدعمَه، وأعدْدتُ السَّلاح أن يجيء عدوٌّ

ص: 490

فأدفعَه» فليس إعدادُك الخشبة؛ لأَنء يميلَ الحائطُ، ولا إعدادُك السلاح لأن يجيء العدو وإنما للإدغام إذا مال، وللدفع إذا جاء العدو، وهذا مِمَّا يعودُ إليه المعنى ويُهجَرُ فيه جانبُ اللفظ.

وقد ذهب الجرجانيُّ في هذه الآيةِ الكريمة إلى أَنَّ التقدير: مخافةَ أَنْ تَضِلَّ؛ وأنشد قول عمروٍ: [الوافر]

1283 -

...

...

...

...

.

فَعَجَّلْنَا القِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا

أي: «مخافَةَ أَنْ تَشْتِمُونَا» وهذا صحيحٌ لو اقتصر عليه مِنْ غير أَنْ يُعْطَفَ عليه قوله «فَتُذَكِّرَ» ؛ لأنه كان التَّقديرُ: فاستشهدوا رجلاً وامرأتين، مخافةَ أَنْ تضلَّ إحداهما، ولكنَّ عطفَ قوله:«فَتُذَكِّر» يُفسده، إذا يصيرُ التقديرُ: مخافةَ أَنْ تُذكِّرَ إحداهما الأخرى، [وإذكارُ إحداهما الأخرى] ليس مخوفاً منه، بَلْ هو المقصودُ، وقال أبو جعفرٍ:«سمعتُ عليّ بن سليمان يحكي عن أبي العباس أَنَّ التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ» قال أبو جعفر رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «وهو غلطٌ إذ يصير المعنى: كراهةَ أَنْ تُذَكِّرَ إحداهما الأخرى» .

وذهب الفرَّاء إلى أَن تقدير الآيةِ الكريمة: «كي تذكِّر إِحْدَاهُمَا الأخرى إِنْ ضَلَّت» ، فلمَّا قُدِّم الجزاءُ اتَّصَل بما قبلَه ففُتِحَتْ «أَنْ» ، قال: ومثلُه من الكلام: «إنه ليعجبُني أَنْ يسأل السَّائلُ فيُعْطى» معناه: إنه ليعجبني أَنْ يُعْطَى السَّائلُ إن سَأَلَ؛ لأَنَّه إنما يُعجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ، فلمَّا قدَّموا السُّؤالَ على العطيَّة أصحبوه أن المفتوحة لينكشِفَ المعنى، فعنده «أنْ» في «أَنْ تَضِلَّ» للجزاءِ، إِلَاّ أَنَّهُ قُدِّم وفُتِح، وأصله التأخير.

وردَّ البصريُّون هذا القول أبلغَ ردٍّ. قال الزّجَّاج: «لَسْتُ أدري لِمَ صارَ الجَزَاءُ [إذا تقدَّم] وهو في مكانهِ وغير مكانه يوجب فتح أن» . وقال الفارسيُّ: ما ذكره الفرَّاءُ دَعوى لا دلالةَ عليها، والقياسُ يُفْسِدها، أَلَا ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العامل، إذا تغيَّرت حركته؛ لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عملِهِ ولا معناه، كما روى أبو الحسن من فتح اللام الجارَّةِ مع المُظْهر عن يونس، وأبي عُبيدة، وخلف الأَحمرِ، فكما أنَّ هذه اللامَ لمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك «إنْ» الجزائيّة ينبغي، إذا فُتِحت أَلَاّ يتغيَّر عملُها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديم و [لا] بالتأخيرِ، تقول «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ» وتقول:«بزيدٍ مَرَرْتُ» فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها

ص: 491

من تأخيرٍ. وأجاب ابن الخطيب فقال هاهنا غرضان:

أحدهما: حُصُولُ الإِشهاد وهذا لا يتأَتَّى إِلَاّ بتذكير إحدى المرأتين.

والثاني: بيانُ تفضيل الرَّجُل على المرأة حتّى يبين أَنَّ إقامة المرأتين مقامَ الرَّجُل الواحد هو العدلُ في القضيَّة، وذلك لا يتأتى إِلَاّ بضلالِ إحدى المرأتين، وإذا كان كُلّ واحد من هذين أعني الإِشهاد، وبيان فضل الرَّجُل على المرأةِ مقصود، فلا سبيلَ إلى ذلك إِلَاّ بإِضلال أَحدهما وتذكر الأخرى، لا جرم صار هذان الأمران مطلُوبين.

فصل

لَمَّا كان النّسيان غالباً على طباع النِّساءِ لِكثرةِ البَرْدِ والرُّطوبة في أمزجتهنَّ؛ أقيمت المرأتان مقام الرَّجل الواحد؛ لأن اجتماع المرأَتين على النِّسيان أبعد في العقل من صُدُورِ النّسيان عن المرأة الواحدة؛ لأَنَّ إحداهما إذا نسيت؛ ذكَّرتها الأخرى، والمراد بالضَّلال هنا النِّسيان قال أبو عُبيدةَ: الضلال عن الشَّهادة إِنَّما هو نسيانها.

قوله: «فَتُذَكِّرَ» وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو: «فَتُذَكِرَ» بتخفيفِ الكافِ، ونصب الرَّاءِ من أَذْكَرْتهُ أي: جَعلُه ذاكراً للشَّيءِ بعد نسيانه، فإِنَّ المراد بالضَّلالِ هنا النسيانُ كقوله تعالى:{قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] وقال في ذلك الفرزدق: [الكامل]

1284 -

وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دَارِماً

كَضَلَالِ مُلْتَمِسٍ طَريقَ وَبَارِ

فالهمزةُ في «أَذْكَرْتُهُ» للنقلِ والتَّعدية، والفِعلُ قبلها متعدٍّ لواحدٍ؛ فلا بُدَّ من آخر، وليس في الآية مفعولٌ واحدٌ، فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثَّاني، والتقديرُ فتُذْكر إحداهما الأُخرى الشَّهادة بعد نِسيانها إن نَسِيَتْهَا هذا مشهورٌ قول المفسِّرين.

وقد شَذَّ بعضهم قال: مَعْنَى فَتُذَكِّرَ إحداهما الأُخرى أي: فتجعلها ذكراً، أي: تُصَيِّرُ حكمها حكم الذَّكر في قبولِ الشَّهادة وروى الأَصميعُّ عن أبي عمرو بن العلاء قال: «فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى بالتَّشديد فهو من طريقِ التَّذكير بعد النِّسيان، تقولُ لها: هَلْ تَذْكُرين إذ شهدنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ، أو فلانة، ومَنْ قرأ» فَتُذكِرَ «بالتَّخفيف فقال: إذا شهدت المرأةُ، ثم جاءَتِ الأخرى؛ فشهِدَت معها، فقد أَذْكَرَتْها لقيامِها مقامَ ذَكَر» ولم يَرْتَضِ المفسِّرون وأهلُ اللِّسان هذا من أبي عمرو، بل لم يُصحِّحوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانتهِ في العلمِ، ورَدُّوه على قائِلِه من وجوهٍ:

ص: 492

منها: أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلة الضَّلالِ المرادِ به النّسيانُ بالإِذكار والتَّذكير، ولا تناسُبَ في المقابلة بما نقل عنه.

ومنها: أنَّ النِّساء لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العددِ لا بدَّ معهنَّ مِنْ رجلٍ، هكذا ذكروا، وينبغي أن يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأَتين، وإلَاّ فقد نجدُ النِّساء يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انْضِمام رجلٍ إِليهنَّ.

ومنها: أَنَّها لَوْ صَيَّرتها ذكراً؛ لكان ينبغي أن يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ، ولا يُقتصَرُ به على ما فيه ماليّةٌ وفيه نظرٌ أيضاً، إذ هو مشتركُ الإِلزامِ لأنه يقال: وكذا إذا فسَّرتموه بالتَّذكير بعد النِّسيان لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها، فما أُجيبَ به فهو جوابُهم أيضاً.

وقال الزمخشريُّ: «ومِنْ بِدَع التَّفَاسِير: [فَتُذَكِّرَ] فتجعلَ إحداهما الأخرى ذكَراً، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر» انتهى. ولم يجعل هذا القول مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخرى.

وأمَّا نصبُ الرَّاء؛ فنسقٌ على «أَنْ تَضِلَّ» ؛ لأَنَّهما يَقْرآن: «أَنْ تَضِلَّ» بأن النَّاصبةِ، وقرأ الباقون بتشديد الكافِ من «ذَكَّرْتُه» بمعنى جعلتُه ذاكِراً أيضاً، وقد تقدَّم أَنَّ حمزة وحده هو الَّذي يرفع الرَّاءَ.

وخرج من مجموع الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ: فحمزةُ وحدَه: بكسرِ «إِنْ» ويشدد الكافِ ويرفع الرَّاء، وابن كثير: بفتح «أنْ» ويخفف الكاف وينصب الرَّاء، والباقون كذلك، إِلاّ أنهم يُشَدِّدون الكافَ.

والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى: أَكْرَمْتُه وكَرَّمته، وفرَّحته وأَفْرَحته. قالوا: والتَّشديد في هذا اللَّفظ أكثرُ استعمالاً مِنَ التَّخفيف، وعليه قوله:[المتقارب]

1285 -

عَلَى أَنَّنِي بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى

ثَلَاثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلاً كمِيلَا

يُذَكِّرُنِيك حَنِينُ العَجُولِ

ونَوْحُ الحَمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلَا

ص: 493

وقرأ عيسى بن عمرو والجحدريُّ: «تُضَلَّ» مبنيّاً للمفعول، وعن الجحدريّ أيضاً:«تُضِلَّ» بضمِّ التَّاء، وكسر الضَّاد من أضلَّ كذا، أي: أضاعهُ، فالمفعول محذوفٌ أي: تُضِلَّ الشَّهادة. وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهدٌ: «فَتَذْكُر» برفع الرَّاءِ، وتخفيف الكافِ، وزيدُ بن أسلمَ «فتُذاكِرُ» من المذاكرة.

وقوله: إحداهما «فاعل،» والأخرى «مفعولٌ، وهذا مِمَّا يجبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعراب، والمعنى نحو: ضَرَب مُوسَى عِيسَى.

قال أبو البقاء: ف» إحداهما «فاعلٌ، و» الأخرى «مفعول، ويصحُّ العكسُ، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النَّحويّين في الإِعراب، لأَنَّهُ إذا لم يظهر الإعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ، وجَبَ تقديمُ الفاعل فيما يُخاف فيه اللَّبسُ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جاز تقديم المفعولِ كقولك:» كَسَرَ العَصَا مُوسَى «، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ، لأنَّ النِّسيان، والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما، بل ذلك على الإِبهامِ، وقد عُلِم بقوله:» فَتُذَكِّرَ «أنَّ الَّتي تُذَكِّر هي الذَّاكرةُ، والتي تُذَكَّر هي النَّاسية، كما علم من لفظ» كَسَر «مَنْ يصحُّ منه الكَسْرُ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل» إِحْدَاهُما «فاعلاً، و» الأُخْرَى «مفعولاً وبالعكس انتهى.

ولمَّا أبهم الفاعل في قوله: «أَنْ تَضِلَّ إحداهما» أَبْهَمَ أيضاً في قوله: «فَتُذَكِّرَ إحداهما» ؛ لأنَّ كلاًّ من المَرْأَتين يجوزُ [عليها ما يجوزُ] على صاحبتها من الإِضلالِ، والإِذكارِ، والمعنى: إن ضلَّت هذه أَذْكَرَتْها هذه، فَدَخَلَ الكلامَ معنى العموم.

قال أبو البقاء: فإنْ قيل: لِمَ يَقُلْ: «فَتُذَكِّرَها الأُخرَى» ؟ قيل فيه وجهان:

أحدهما: أَنَّهُ أَعاد الظَّاهر، ليدلَّ على الإِبهام في الذِّكر والنّسيان، ولو أَضمرَ لتعَيَّن عودُه على المذكور.

والثاني: أنه وضع الظَّاهر موضع المضمرِ، تقديره:«فَتُذَكِّرهَا» وهذا يَدُلُّ على أن «إحداهما» الثانية مفعولٌ مقدمٌ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجه؛ لأنَّ المُضَمرَ هو المُظْهَرُ بعينه، والمُظْهَرُ الأول فاعل «تضِلَّ» ، فلو جعل الضَّمير لذلك المظهر؛ لكانت النَّاسيةُ حقاً هي المُذَكِّرَة، وهو مُحالٌ قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وقد يتبادرُ إلى الذهن أنَّ الوجهين راجعان لوجهٍ واحدٍ قبل التأمُّل؛ لأنَّ قوله: «أَعادَ الظَّاهِرُ» قريبٌ من قوله: «وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمر» .

و «إِحْدَى» تأنيثُ «الواحِد» قال الفارسيُّ: أَنَّثُوه على غيره بنائِه، وفي هذا نظرٌ، بل

ص: 494

هو تأنيثُ «أحَد» يقابُلونها به في: أحد عشرَ وإحدى عشرة وأحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين، وتُجْمَعُ «إِحْدَى» على «إِحَد» نحو: كِسْرَة وكِسَر.

قال أبو العباس: «جَعَلُوا الألفَ في الإِحْدَى بمنزلةِ التاء في» الكِسْرَة «، فقالوا في جمعها:» إِحَد «؛ كما قالُوا: كِسْرَة وكِسَر؛ كما جعلوا مثلها في الكُبْرَى والكُبَر، والعُلْيا والعُلَى، فكما جعلوا هذه كظُلمة، وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر» قال: «وكَمَا جعلوا الألف المقصُورة بمنزلةِ التَّاءِ فيما ذُكِر؛ وجعلوا الممدودةَ أيضاً بمنزلتها في قولهم» قَاصِعَاء وقَوَاصع «و» دَامَّاء ودَوَامّ «، يعني: أنَّ فاعلة نحو: ضارِبَة تُجمع على ضَوارِب، كذا فاعِلَاء؛ نحو: قاصِعَاء، ورَاهِطَاء تُجْمَعُ على فَوَاعِل؛ وأنشد ابن الأعرابيّ على إحدى وإِحَد قول الشاعر:[الرجز]

1286 -

حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إِحْدَى الإِحَدِ

لَيْثاً هِزَبْراً ذَا سِلَاحٍ مُعْتدِي

قال: يقال: هو إحدى الإِحَدِ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ، وواحدُ الآحادِ، كما يقال: واحدٌ لا مثل له، وأنشد البيت.

واعلَم أنَّ «إِحْدَى» لا تُستعمل إلا مُضَافَةً إلى غيرها؛ فيقال: إِحْدَى الإِحَدِ وإِحْدَاهُما، ولا يقال: جاءَتْني إِحْدى، ولا رأيتُ إِحْدَى، وهذا بخلافِ مذكَّرها.

و «الأُخرى» تأنيث «آخرَ» الذي هو: أَفْعَلُ التَّفضيل، وتكونُ بمعنى آخِرة؛ كقوله تعالى:{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ} [الأعراف: 38] ، ويُجْمَعُ كلٌّ منهما على «أُخَر» ، ولكنَّ جمع الأُولَى ممتنعٌ من الصَّرفِ، وفي علَّته خلافٌ، وجمعُ الثانية منصرفٌ، وبينهما فرقٌ يأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى في الأَعراف.

فصلٌ

أجمع الفقهاءُ على أنَّ شهادة النِّساء جائزةٌ مع الرِّجال في الأموال، حتى يثبت برجُل وامرأتين، واختلفوا في غير الأموال، فقال سُفيانُ الثَّوريُّ وأصحابُ الرَّأي: تجوز شهادتُهُنَّ مع الرِّجال في غير العُقُوباتِ.

وذهب جماعةٌ إلى أَنّ غير المال، لا يثبُتُ إِلَاّ برجلين عدلين وذهب الشَّافعيُّ، وأحمدُ إلى: أنّ ما يطلع عليه النِّساءُ غالباً كالولادة والرّضاع، والثُّيوبة والبكارةِ ونحوها يَثْبُتُ بشهادة رجلٌ وامرأتين، وبشهادة أربع نسوةٍ.

وعن أحمد: يثبت بشهادةِ امرأة عدلٍ، واتَّفَقُوا على أن شهادة النّساء لا تجوز في العُقُوباتِ.

ص: 495

فصلٌ

قال القُرطبيُّ: لما جعل اللهُ تعالى شهادة امرأتين بَدَلَ شهادة رجل؛ وجب أن يكون حكمهما حُكْمُه، فكما له أن يخلف مع الشَّاهد عندنا، وعند الشَّافعي، كذلك يجبُ أن يحلف مع شهادةِ امرأتين بمُطْلق هذه العِوضيَّة، وخالف في هذا أبُو حنيفة، وأصحابُهُ، فلم يروا اليمين مع الشَّاهد.

قالوا: لأَنَّ اللهَ تعالى قسم الشَّهادة، وعددها، ولم يذكر الشَّاهد مع اليمين، فلا يجوزُ القضاءُ به؛ لأَنَّهُ يكُونُ قسماً ثالثاً على ما قسَّمه الله، وهذه زيادةٌ على النَّصِّ، فيكون نسخاً، وهذا قولُ الثَّوري، والأوزاعي والحكم بن عُتَيْبَة وطائفة.

قال بعضهم: الحكم باليمين مع الشَّاهد منسوخٌ بالقرآن، وزعم عطاءٌ أنَّ أوَّل من قضى به عبد الملك بن مروان.

وقال الحكم: القضاء باليمين والشَّاهد بدعةٌ، وهو كلُّه غلط، وليس في قوله تعالى:{واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} الآية ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - باليمين، والشاهد؛ ولا أنَّه لا يتوصل إلى الحقوق إلَاّ بما ذكر فيها لا غير، فإنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطَّالب، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعاً، وليس هو في الآية، مع أنَّ الخلفاء الأربعة: قضوا بالشَّاهد واليمين، وقضى به أُبيُّ بن كعبٍ، ومعاوية وشريحٌ وعمر بن عبد العزيز، وكتب به إلى عمَّاله، وإياس بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة.

قال مالك: أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ -: قضى بالشَّاهد مع اليمين.

قوله: {وَلَا يَأْبَ الشهدآء} مفعوله محذوفٌ لفهم المعنى، أي: لا يأبون إقامة الشهادة، وقيل: المحذوف مجرور لأن «أبى» بمعنى امتنع، فيتعدَّى تعديته أي من إقامة الشهادة.

قوله: {إِذَا مَا دُعُواْ} ظرفٌ ل «يَأْبَ» أي: لا يمتنعون في وقت [دَعْوَتهم] لأدائها، أو لإقامتها، ويجوز أن تكون [متمحضةً للظرف، ويجوز أن تكون] شرطيةً والجواب محذوفٌ أي: إذا دُعُوا فلا يأبوا.

ص: 496

فصل

في الآية وجوه:

أحدها: أنَّ هذا نهيٌ للشَّاهد عن الامتناع عن أداء الشَّهادة عند احتياج صاحب الحقّ إليها.

الثاني: أراد إذا دُعُوا لتحمل الشَّهادة على الإطلاق، وهو قول قتادة، واختيار القفَّال، قال كما أمر الكاتب ألَاّ يأب الكتابة، كذلك أمر الشَّاهد ألَاّ يأب من تحمل الشَّهادة، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتعلَّق بالآخر وفي عدمها ضياع الحقوق، وسمَّاهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء، وهو أمر إيجابٍ عند بعضهم.

الثالث: المراد تحمّل الشَّهادة إذا لم يوجد غيره، فهو مخير، وهو قول الحسن.

الرابع: قال الزَّجَّاج، وهو مروي عن الحسن أيضاً، وهو قول مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ: المراد مجموع الأمرين التحمُّل أولاً، والأداء ثانياً.

قال الشعبي: الشَّاهد بالخيار ما لم يشهد وقال قومٌ: هو أمر ندب، وهو مخيّر في جميع الأحوال. قال القرطبيُّ: قد يؤخذ من هذه الآية دليلٌ على أنَّه يجوز للإمام أن يقيم للنَّاس شهوداً، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغلٌ إلَاّ تحمل حفظ حقوق النَّاس، وإن لم يكن ذلك؛ ضاعت الحقوق وبطلت.

فصل

قال القرطبيُّ: دلَّت هذه الآية على أنَّ الشَّاهد يمشي إلى الحكم، وهذا أمر بُني الشَّرع عليه، وعمل به في كلّ مكان وزمان، وفهمته كلُّ أمَّةٍ.

وإذا ثبت هذا فالعبد خارجٌ عن جملة الشُّهداء، فيخص عموم قوله:«مِنْ رِجَالِكُمْ» لأنَّه لا يمكنه أن يجيب؛ لأنَّه لا استقلال له بنفسه، فلا يصحُّ له أن يأتي فانحطّ عن منصب الشَّهادة، كما انحطَّ عن منصب الولاية، وكما انحطَّ عن فرض الجمعة وعن الجهاد والحجّ.

قوله: {وَلَا تسأموا} والسَّأم والسآمة: الملل من الشَّيء والضَّجر منه.

قوله: {أَن تَكْتُبُوهُ} مفعولٌ به إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً تقديره: «ولا تَسْأَمُوا كِتَابَتَه» ، وإن شئت بنزع الخافض والنَّاصب له «تَسْأَموا» ؛ لأنه يتعدَّى بنفسه قال:[الطويل]

ص: 497

1287 -

سَئِمْتُ تَكَالِيف الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ

ثَمَانِينَ حَوْلاً لَا أَبَا لَكَ يَسْأَمِ

وقيل: بل يتعدَّى بحرف الجرّ، والأصل: من أن تكتبوه، فحذف حرف الجرِّ للعلم به، فيجري الخلاف المشهور في «أَنْ» بعد حذفه، ويدلُّ على تعدِّيه ب «مِنْ» قوله:[الكامل]

1288 -

وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا

وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ

والهاء: في «تَكْتبوه» يجوز أن تكون للدَّين في أوَّل الآية، وأن تكون للحقّ في قوله:{فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق} ، وهو أقرب مذكورٍ، والمراد به «الدَّيْن» وقيل: يعود على الكتاب المفهوم من «تَكْتبوه» قاله الزَّمخشريُّ.

و {صَغِيراً أَو كَبِيرا} حالٌ، أي: على أيّ حالٍ كان الدَّين قليلاً أو كثيراً، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتاب مختصراً، أو مشبعاً، وجوَّز السَّجاونديُّ انتصابه على خبر «كان» مضمرةٌ، وهذا لا حاجة تدعو إليه، وليس من مواضع إضمارها.

وقرأ السُّلميُّ: «وَلَا يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتبُوهُ» بالياء من تحت فيهما. والفاعل على هذه القراءة ضمير الشُّهداء، ويجوز أن يكون من باب الالتفات، فيعود: إمَّا على المتعاملين وإمَّا على الكتَّاب.

فصل

والمقصود من الآية الكريمة الحثُّ على الكتابة قلَّ المال، أو كثر، فإنَّ النِّزاع في المال القليل ربَّما أدَّى إلى فسادٍ عظيم، ولجاج شديد.

فإن قيل: هل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر؟

فالجواب: لا، لعدم جريان العادة به.

قوله: {إلى أَجَلِهِ} فيه ثلاثة أوجهٍ:

أظهرها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: أن تكتبوه مستقرّاً في الذّمَّة إلى أجل حلوله.

والثاني: أنه متعلِّقٌ بتكتبوه، قاله أبو البقاء. وردَّه أبو حيان فقال:«متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب» تَكْتُبُوهُ «لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدَّين، إذ ينقضي في زمن يسير، فليس نظير: سِرْتُ إلى الكُوفَةِ» .

ص: 498

والثالث: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاء، قاله أبو البقاء.

قوله: «ذَلِكم» مشارٌ به لأقرب مذكورٍ وهو الكتب.

وقال القفَّال: إليه وإلى الإشهاد.

وقيل: إلى جميع ما ذكر وهو أحسن. و «أَقْسَطُ» قيل: هو من أقسط إذا عدل، ولا يكون من قسط، [لأن قسط] بمعنى جار، وأقسط بمعنى عدل، فتكون الهمزة للسَّلب، إلا أنه يلزم بناء أفعل من الرباعي، وهو شاذٌّ.

قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلتَ ممَّ بني أفعلا التّفضيل - أعني أقسط وأقوم؟ - قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيّين من» أَقْسَطَ «، و» أَقَامَ «وأن يكون» أَقْسَط «من قاسط على طريقة النَّسب بمعنى: ذي قسطٍ؛ و» أَقْوَم «من قويم» . قال أبو حيَّان رحمه الله: لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعل التّفضيل يبنى من «أَفْعل» ، إنَّما يؤخذ ذلك بالاستدلال، فإنَّه نصَّ في أوائل كتابه على أنَّ «أَفْعَل» للتعجب يكون من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ، فظاهر هذا أن «أَفْعَل» للتعجب يبنى منه أفعل للتَّفضيل، فما جاز في التَّعجُّب، وأفعل التَّفضيل من أفعل على ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنَّقل، فيمتنع، أو لا فيجوز، وعليه يؤوَّل الكلام، أي: كلام سيبويه، حيث قال:«إنه يبنى من أفعل» ، أي: الذي همزته لغير التَّعدية. ومن منع مطلقاً قال: «لم يَقُلْ سيبويه، وأفعل بصيغة الماضي» إنَّما قالها أفعل بصيغة الأمر، فالتبس على السَّامع، يعني: أنه يكون فعل التّعجب على أفعل، بناؤه من فَعَلَ، وفَعِل، وفَعُل، وعلى أَفْعِلْ.

ولهذه المذاهب موضع هو أليق بالكلام عليها.

ونقل ابن عطيَّة أنه مأخوذٌ من «قَسُطَ» بضمِّ السِّين نحو: «أَكْرَمَ» من «كَرُم» . وقيل: هو من القسط بالكسر وهو العدل، وهو مصدر لم يشتقَّ منه فعلٌ، وليس من الإقساط؛ لأنَّ أفعل لا يبنى من «الإِفْعَالِ» . وهذا كله بناء منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجوز والرُّباعيَّ بمعنى العدل.

ويحكى أنَّ سعيد بن جبيرٍ لمَّا سأله الظَّالم [الحجَّاج] بن يوسف: ما تقول فيَّ؟ فقال: «أقولُ إنّك قَاسِطٌ عَادِلٌ» ، فلم يفطن له إلا هو، فقال: إنه جعلني جائراً كافراً، وتلا قوله تعالى:{وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15]{ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] .

وأمَّا إذا جعلناه مشتركاً بين عدل، وبين جار فالأمر واضحٌ قال ابن القطَّاع:«قَسَط، قُسُوطاً، وقِسْطاً: جار وعَدَل ضِدٌّ» . وحكى ابن السِّيد في كتاب: «الاقْتِضَابِ» له عن ابن

ص: 499

السَّكِّيت في كتاب: «الأَضْدَادِ» عن أبي عبيدة: «قَسَطَ: جارَ، وقَسَط، [عَدَل] ، وأقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير» . وقال أبو القاسم الرَّاغب الأصبهاني: «القِسْطُ أَنْ يأخذ قسط غيره، وذلك جورٌ، والإقساط أن يعطي قسطَ غيره، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقول: قَسَط إذا جَارَ، وأقْسَط إذا عَدَل» .

والقسط: اسم، والإقساط مصدر يقال: أقسط فلانٌ في الحكم يقسط إقساطاً، إذا عدل، فهو مقسطٌ.

قال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] ويقال: هو قاسط إذا جار فقال تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15]{ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] ، وأمَّا إذا جعلنان مشتركاً بين عدل وبين جار فالأمر واضحٌ.

قال ابن القطَّاع: قَسَطَ قُسُوطاً، وقسطاً: جَارَ، وعَدَلَ ضدٌّ، وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في سورة النساء إن شاء الله تعالى.

قوله: {عِندَ الله} ظرفٌ منصوبٌ ب «أَقْسَط» ، أي في حكمه. وقوله:«وَأَقْوَمُ» إنَّما صحَّت الواو فيه؛ لأنه أفعل تفضيل، وأفعل التَّفضيل يصحُّ حملاً على فعل التَّعجُّب، وصحَّ فعل التَّعجُّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرُّفه.

و {وَأَقْومُ} يجوز أن يكون من «أَقَامَ» الرُّباعي المتعدِّي؛ لكنَّه حذف الهمزة الزَّائدة، ثمَّ أتى بهمزة [أفعل] كقوله تعالى:{أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} [الكهف: 12] فيكون المعنى: أثبت لإقامتكم الشهادة، ويجوز أن يكون من «قام» اللازم ويكون المعنى: ذلك أثبت لقيام الشَّهادة، وقامت الشهادة: ثبتت، قاله أبو البقاء.

قوله: {لِلشَّهَادَةِ} متعلِّقٌ ب «أَقْوَم» ، وهو مفعولٌ في المعنى، واللَاّم زائدةٌ ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التَّفضيل إلَاّ لضرورة؛ كقوله:[الطويل]

1289 -

...

...

...

..... وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا

وقد قيل: «إشن» القَوانسَ «منصوبٌ بمضمر يدلُّ عليه أفعل التَّفضيل، هذا معنى كلام أبي حيّان، وهو ماشٍ على أنّ» أَقْوَم «من أقام المتعدّي، وأمَّا إذا جعلته من» قَام «بمعنى ثبت فاللَاّم غير زائدة.

قوله: {أدنى أَلَاّ ترتابوا} ، أي: أقرب، وحرف الجرّ محذوفٌ، فقيل: هو اللَاّم أي: أدنى لئلَاّ ترتابوا، وقيل هو» إلَى «وقيل: هو» من «، أي: أدنى إلى ألاّ ترتابوا، وأدنى من ألا ترتابوا. وفي تقديرهم:» مِنْ «نظرٌ، إذ المعنى لا يساعد عليه. و» تَرْتَابُوا «: تفتعلوا من الرِّيبة، والأصل:» تَرْتَيِبُوا «، فقلبت الياء ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها.

ص: 500

والمفضَّل عليه محذوفٌ لفهم المعنى، أي: أقسط وأقوم، وأدنى لكذا من عدم الكتب، وحسَّن الحذف كون أفعل خبراً للمبتدأ بخلاف كونه صفةً، أو حالاً. وقرأ السُّلمي:» ألاّ يَرْتَابُوا «بياء الغيبة كقراءة:» وَلَا يَسْأَمُوا أَنْ يكتبُوهُ «وتقدَّم توجيهه.

فصل في فوائد الإشهاد والكتابة

اعلم أنَّ الكتابة، والاستشهاد تشتمل على ثلاث فوائد:

الأولى: قوله: {أَقْسَطُ عِندَ الله} ، أي: أعدل عند الله وأقرب إلى الحقّ.

والثانية: قوله: {أَقْومُ لِلشَّهَادَةِ} ، أي: أبلغ في استقامته التي هي ذد الاعوجاج؛ لأنَّ المنتصب القائم ضدّ المنحني المعوج، وإنَّما كانت أقوم للشَّهادة؛ لأنها سبب للحفظ والذكر، فكانت أقرب إلى الاستقامة.

والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلّق بتحصيل مرضاة الله، والثانية تتعلّق بتحصيل مصلحة الدُّنيا، ولهذا قدمت الأولى عليها؛ لأن تقديم مصلحة الدّين على مصلحة الدُّنيا واجب.

الفائدة الثالثة: قوله: {وأدنى أَلَاّ ترتابوا} يعني أقرب إلى زوال الشَّكِّ والارتياب عن قلوب المتداينين، فالفائدة الأولى إشارة إلى تحصيل مصلحة الدِّين.

والثَّانية: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدُّنيا.

والثالثة: إشارة إلى دفع الضَّرر عن النَّفس وعن الغير، أمَّا عن النَّفس فلأنه يبقى في الفكران، أنَّ هذا الأمر كيف كان، وهذا الذي قلت: هل كان صدقاً، أو كذباً، أمَّا عن الغير، فلأنّ ذلك الغير ربَّما نسبه إلى الكذب، فيقع في عقاب الغيبة.

قوله: {إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} في هذا الاستثناء قولان:

أحدهما: أنه متَّصل قال أبو البقاء:» والجُمْلَةُ المستثناة في موضع نصبٍ؛ لأنَّه استثناءٌ [من الجنس] لأنه أمرٌ بالاستشهاد في كلِّ معاملةٍ، فالمستثنى منها التجارة الحاضرة، والتَّقدير: إلَاّ في حال حضور التِّجارة «.

والثاني: أنَّه منقطع، قال مكي بن أبي طالبٍ: و» أَنْ «في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع» وهذا هو الظَّاهر، كأنه قيل: لكنّ التّجارة الحاضرة، فإنَّه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها.

ص: 501

وقرأ عاصم هنا «تِجَارَةً» بالنَّصب، وكذلك «حَاضِرَةً» ؛ لأنها صفتها، ووافقه الأخوان، والباقون قرءوا بالرَّفع فيهما.

فالرَّفع فيه وجهان:

أحدهما: أنها التامة، أي: إلا أن تحدث، أو تقع تجارة، وعلى هذا فتكون «تُدِيرونها» في محلِّ رفع صفةً لتجارة أيضاً، وجاء هنا على الفصيح، حيث قدَّم الوصف الصريح على المؤول.

والثاني: أن تكون النَّاقصة، واسمها «تِجَارَةٌ» والخبر هو الجملة من قوله:«تُدِيرُونَهَا» كأنه قيل: إلا أنَّ تكون تجارةٌ حاضرةٌ مدارةٌ، وسوَّغ مجيء اسم كان نكرةً وَصْفُه، وهذا مذهب الفراء و [تابعه] آخرون.

وأمَّا قراءة عاصم، فاسمها مضمرٌ فيها، فقيل: تقديره: إلا أن تكون المعاملة، أو المبايعة، أو التجارة. وقدَّره الزَّجاج إلَاّ أن تكون المداينة، وهو أحسن. وقال الفارسيُّ:«ولا يجوز أن يكون [التَّداينُ] اسم كان؛ لأنَّ التَّداين معنًى، والتّجارة الحاضرة يراد بها العين، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتَّداين حقٌّ في ذمة المستدين، للمدين المطالبة به، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان لاختلاف التَّداين، والتّجارة الحاضرة» وهذا الرد لا يظهر على الزجاج، لأنَّ التِّجارة أيضاً مصدرٌ، فهي معنًى من المعاني لا عينٌ من الأعيان، وأيضاً فإنَّ من باع ثوباً بدرهم في الذِّمَّة بشرط أن يؤدى الدّرهم في هذه السَّاعة، كان مداينة، وتجارةً حاضرة.

وقال الفارسيُّ أيضاً: ولا يَجُوزُ أيضاً أن يكون اسمها «الحَقُّ» الذي في قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق} للمعنى الذي ذكرنا في التَّداين، لأنَّ ذلك الحقَّ دينٌ، وإذا لم يجز هذا لم يخل اسم كان من أحد شيئين:

أحدهما: أنَّ هذه الأشياء التي اقتضت من الإشهاد، والارتهان قد علم من فحواها التبايُع، فأضمر التَّبايع لدلالة الحال عليه كما أضمر لدلالة الحال فيما حكى سيبويه رحمه الله:«إذا كَانَ غَداً فَأتني» ؛ وينشد على هذا: [الطويل]

1290 -

أَعَيْنَيَّ هَلَاّ تَبْكِيَانِ عِفَاقَا

إِذَا كَانَ طَعْناً بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا

أي: إذا كان الأمر.

ص: 502

والثاني: أن يكون أضمر التِّجارة؛ كأنه قيل: إلَاّ أن تكون التِّجارة تجارةً؛ ومثله ما أنشده الفرَّاء رحمه الله: [الطويل]

1291 -

فدًى لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي

إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا

وأنشد الزمخشريُّ: [الطويل]

1292 -

بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا

إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا

أي: إذا كان اليوم يوماً، و «بَيْنَكُم» ظرفٌ لتديرونها.

قوله: «فَلَيْسَ» قال أبو البقاء: «دَخَلَتِ الفَاءُ في» فَلَيْسَ «إيذاناً بتعلُّق ما بعدها بما قبلها» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: هي عاطفةٌ هذه الجملة على الجملة من قوله: {إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} إلى آخرها، والسَّببيَّة فيها واضحةٌ أي: بسببٍ عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة.

وقوله: {أَلَاّ تَكْتُبُوهَا} أي: «في أن لا» ، فحذف حرف الجر فبقي في موضع «أَنْ» الوجهان.

فصل

التِّجارة عبارةٌ عن التَّصرُّف في المال سواء كان حاضراً أو في الذِّمَّة لطلب الرِّبح، يقال: تجر الرَّجل يتجر تجارةً، فهو تاجرٌ.

قال النَّوويُّ في «التَّهْذِيبِ» : «ويقال: اتَّجر يتَّجر تجراً، وتجارةً فهو تاجرٌ، والجمع تجار كصاحب، وصحاب، ويقال أيضاً: تجَّار بتشديد الجيم كفاجرٍ، وفجَّارٍ» .

وقال في «المُهَذَّبِ» في آخر «بَابِ زَكَاةِ الزَّرْعِ» يجب العشر والخراج، ولا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر، وزكاة التجارة، فالمتجر بفتح الميم، وإسكان التَّاء، وفتح الجيم، والمراد به المخزون وصرَّح به صاحب «المُهَذَّبِ» في كتابه «الخِلَافُ» فقال: كأجرة المخزون، وكذا ذكره غيره من أصحابنا.

فصل

وسواء كانت المبايعة بدينٍ، أو بعينٍ، فالتِّجارة تجارةٌ حاضرةٌ فقوله: {إِلَاّ أَن تَكُونَ

ص: 503

تِجَارَةً حَاضِرَةً} لا يمكن حمله على ظاهره، بل المراد من التِّجارة ما يتجر فيه من الأبدال، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيدٍ، ومعنى نفي الجناح، أي: لا مضرّة عليكم في ترك الكتابة، ولم يرد نفي الإثم، لأنَّه لو أراد الإثم؛ لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم، ويأثم صاحب الحقّ بتركها، وقد ثبت خلافه، وبيان أنَّه لا مضرَّة عليهم في تركها؛ لأنَّ التِّجارة الحاضرة تقع كثيراً، فلو تكلَّفوا فيها الكتابة، والإشهاد؛ يشقُّ عليهم، وأيضاً فإنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاملين إذا أخذ حقَّه من صاحبه في المجلس؛ لم يكن هناك خوف التَّجاحد، فلا حاجة إلى الكتابة، والإشهاد.

قوله: {وأشهدوا} : هذا أمر إرشاد إلى طريق الاحتياط.

قال أكثر المفسِّرين: إنَّ الكتابة، وإن رفعت عنهم في التِّجارة الحاضرة؛ فلا يرفع الإشهاد؛ لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته.

قوله: {إِذَا تَبَايَعْتُمْ} يجوز أن تكون شرطيةً، وجوابها: إمَّا متقدّم عند قومٍ، وإمَّا محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه تقديره: إذا تبايعتم فأشهدوا، ويجوز أن تكون ظرفاً محضاً، أي: افعلوا الشَّهادة وقت التبايع.

قوله: {وَلَا يُضَآرَّ} العامَّة على فتح الرَّاء جزماً، ولا ناهيةٌ، وفتح الفعل لما تقدَّم في قراءة حمزة:«إِن تَضِلَّ» . ثمَّ هذا الفعل يحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل، والأصل:«يُضَارِرْ» بكسر الرَّاء الأولى، فيكون «كَاتِب» ، و «شَهِيد» فاعلين نهيا عن مضارَّة المكتوب له، والمشهود له، نهي الكاتب عن زيادة حرف يبطل به حقّاً أو نقصانه، ونهي الشَّاهد عن كتم الشَّهادة، واختاره الزجاج، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال:{فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ، ولا شكَّ أنَّ هذا من الكاتب والشَّاهد فسقٌ، ولا يحسن أن يكون إبرام الكاتب والشهيد والإلحاح عليهما فسقاً. لأنَّ اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشَّهادة؛ حتّى يبطل الحقّ بالكليّة أولى منه بمن أضرّ الكاتب والشَّهيد؛ ولأنه تبارك وتعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشَّهادة «

{وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] والإثم والفسق متقاربان وهذا في التَّفسير منقول عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ومجاهد وطاوس، والحسن وقتادة. ونقل الدَّاني عن ابن عمر، وابن عبَّاس، ومجاهد، وابن أبي إسحاق أنهم قرءوا الرَّاء الأولى بالكسر، حين فكُّوا.

ويحتمل أن يكون الفعل فيها مبنيّاً للمفعول، والمعنى: أنَّ أحداً لا يُضَارِرُ الكاتب ولا الشَّاهد، ورجَّح هذا بأنه لو كان النَّهي متوجِّهاً للكاتب والشّهيد لقال:«وإِنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما» ، ولأنَّ السياق من أول الآيات إنما هو للمكتوب له والمشهود له بأن يودّهما

ص: 504

ويمنعهما من مهمَّاتها، وإذا كان خطاباً للذين يقدمون على المداينة، فالمنهيُّون عن الضِّرار هم، وهذا قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وابن مسعود. ونقل الداني أياضً عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد أنهم قرءوا الراء الأولى بالفتح. فالآية عندهم محتملةٌ للوجهين ففسروا وقرءوا بهذا المعنى تارةً وبالآخر أخرى.

وقرأ أبو جعفر، وعمرو بن عبيدٍ:«ولا يُضارَ» بتشديد الرّاء ساكنةً وصلاً، وفيها ضعفٌ من حيث الجمع بين ثلاث سواكن، لكنَّه لمَّا كانت الألف حرف مدٍّ؛ قام مدُّها مقام حركةٍ، والتقاء السَّاكنين مغتفرٌ في الوقف، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك.

وقرأ عكرمة: «ولا يُضَارِرْ كَاتِباً وَلَا شَهِيداً» بالفكِّ، وكسرِ الراءِ الأولى، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق، ونَصْب «كاتباً» ، و «شهيداً» على المَفْعُول به، أي: لا يضارِرْ صَاحِبُ حقٍّ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكِتَابَة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز.

وقرأ ابن محيصن: «ولا يُضارُّ» برفع الرَّاء، وهو نفيٌ فيكون الخبر بمعنى النهي كقوله:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] .

وقرأ عكرمة في رواية مقسم: «ولا يُضارِّ» بكسر الرَّاء مشدَّدةً على أصل التقاء الساكنين. وقد تقدَّم تحقيقُ هذه عند قوله: {لَا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .

قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ} ، أي: تفعلوا شيئاً ممَّا نهى الله عنه، فحذف المفعول به للعلم به. والضّمير في «فإنَّهُ» يعود على الامتناع، أو الإضرار. و «بِكُمْ» متعلّقٌ بمحذوفٍ، فقدَّره أبو البقاء:«لاحِقٌ بِكُم» ، وينبغي أن يقدَّر كوناً مطلقاً؛ لأنه صفةٌ ل «فُسُوق» ، أي: فسوق مستقرٌّ بكم، أي: ملتبسٌ بكم ولاحق بكم.

قوله: {واتقوا الله} ، يعني: فيما حذَّر منه هاهنا، وهو المضارة، أو يكون عاماً، أي: اتَّقوا الله في جميع أوامره، ونواهيه.

قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الله} يجوز في هذه الجملة الاستئناف - وهو الظَّاهر - ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل في «اتَّقوا» قال أبو البقاء: «تقديره: واتقوا الله مضموناً لكم

ص: 505

التَّعليم، أو الهداية، ويجوز أن تكون حالاً مقدَّرة» . قال شهاب الدين: وفي هذين الوجهين نظرٌ، لأنَّ المضارع المثبت لا تباشره واو الحال، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤوَّل، لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا.

فصل

المعنى: يعلمكم ما يكون إرشاداً، أو احتياطاً في أمر الدُّنيا، كما يعلِّمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدِّين، {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، أي: عالم بجميع مصالح الدُّنيا، والآخرة.

ص: 506

قوله: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ} .

قال أهل اللُّغة (س ف ر) تركيب هذه الحروف للظُّهور، والكشف، والسفر هو الكتاب؛ لأنه يبيِّن الشيء ويوضحه، وسمي السِّفر سفراً؛ لأنَّه يسفر عن أخلاق الرِّجال، أي: يكشف، أو لأنه لمّا خرج من الكن إلى الصَّحراء فقد انكشف للنَّاس؛ أو لأنه لمَّا خرج إلى الصَّحراء فقد صارت أرض البيت منكشفةً خاليةً، وأسفر الصُّبح: إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته، وسفرت عن القوم أسفر سفارة، أي: كشفت ما في قلوبهم، وسفرت أُسفر، أي: كنست، والسَّفر: الكنس، وذلك لأنك إذا كنست، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار، والسّفر من الورق ما سفر به الرِّيح، ويقال لبقية بياض النَّهار بعد مغيب الشَّمس سفر لوضوحه.

فصل في بيان وجه النَّظم

اعلم أنَّه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام:

بيع بكتاب وشهود، وبيع برهن مقبوضة، وبيع بالأمانة، ولما أمر في آخر الآية المتقدّمة بالكتاب، والإشهاد، وأعلم أنَّه ربما تعذَّر ذلك في السَّفر إمَّا ألَاّ يوجد الكاتب، أو إن وجد لكنَّه لا توجد آلات الكتابة، ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرَّهن، فهذا وجه النَّظم، وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد.

قوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أنَّها عطفٌ على فعل الشَّرط، أي:«وَإِنْ كُنْتُم» ، {وَلَمْ تَجِدُواْ} فتكون في

ص: 506

محلِّ جزمٍ لعطفها على المجزوم تقديراً.

والثاني: أن تكون معطوفةً على خبر «كان» ، أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتباً.

والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال، فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلّ نصبٍ.

والعامة على «كاتباً» اسم فاعل. وقرأ أُبي ومجاهدٌ، وأبو العالية:«كِتاباً» ، وفيه وجهان:

أحدهما: أنَّه مصدرٌ أي ذا كتابة.

والثاني: أنه جمع كاتبٍ، كصاحبٍ وصحاب. ونقل الزمخشريُّ هذه القراءة عن أُبيّ وابن عبَّاسٍ فقط، وقال:«وَقَالَ ابْنُ عباس: أرأيت إن وَجَدْتَ الكاتب، ولم تجد الصَّحيفة والدَّواة» . وقرأ ابن عباس والضَّحَّاك: «كُتَّاباً» على الجمع [اعتباراً] بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ. وقرأ أبو العالية: «كُتُباً» جمع كتاب، اعتباراً بالنَّوازل، قال شهاب الدين: قول ابن عباس: «أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَ الكَاتِبَ

إلخ» ترجيحٌ للقراءة المرويَّة عنه واستبعادٌ لقراءة غيره «كاتباً» ، يعني أن المراد الكتاب لا الكاتب.

قوله: {فَرِهَانٌ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي عن ذلك رهنٌ مقبوضةٌ.

الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ، أي: فرهن مقبوضة تكفي.

الثالث: أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالوثيقة، أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضةٌ.

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرٍو:«فَرُهُنٌ» بضم الرَّاء، والهاء، والباقون «فَرِهَانٌ» بكسر الرَّاء وألف بعد الهاء، روي عن ابن كثير، وأبي عمرو تسكين الهاء في رواية.

فأمَّا قراءة ابن كثير، فجمع رهن، وفَعْلٌ يجمع على فُعُلٍ نحو: سَقْف وسُقُف. ووقع في أبي البقاء بعد قوله: «وسَقْف وسُقُف. وأسَد وأُسُد، وهو وهمٌ» ولكنَّهم قالوا: إنَّ فعلاً جمع فعل قليل، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها: رَهْن ورُهُن،

ص: 507

ولَحْد القبر، ولُحُد، وقَلْب النَّخلة، وقُلُب، ورجلٌ ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ، وفرس وَرْدٌ، وخيلٌ وُرُدٌّ، وسَهمٌ حَشْرٌ وَسِهَامٌ حُشُرٌ. وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءته قول قعنب:[البسيط]

1293 -

بَانَتُ سُعَادُ وأَمْسَى دُونَها عَدَنُ

وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَبْلِكَ الرُّهُنُ

وقال أبو عمرو: «وإنما قرأت فرُهُن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع» رَهْن «في غيرها» ومعنى هذا الكلام أنما اخترت هذه القراءة على قراءة «رهَان» ؛ لأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك كما ذكر دون اتِّباع روايةٍ.

واختار الزَّجَّاج قراءته هذه قال: «وَهَذِه القِرَاءَة وافَقَت المصحف، وما وافق المصحف وصحَّ معناه، وقرأ به القرَّاء فهو المختار» . قال شهاب الدين: إن الرسم الكريم «فرهن» دون ألفٍ بعد الهاء، مع أنَّ الزَّجَّاج يقول:«إنَّ فُعُلاً جمع فَعْلٍ قليلٌ» ، وحكي عن أبي عمرو أنه قال:«لا أَعْرِفُ الرَّهان أكثر، والرِّهان في الخيل أكثر» وأنشدوا أيضاً على رَهْنٍ ورُهُن قوله: [الكامل]

1294 -

آلَيْتُ لَا نُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا

رُهُناً فيُفْسِدُهُمْ كَمَنْ قَدُ أَفْسَدَا

وقيل: إنَّ رُهُناً جمع رهان، ورهان جمع رَهْن، فهو جمع الجمع، كما قالوا في ثمار جمع ثمر، وثُمر جمع ثمار، وإليه ذهب الفراء وشيخه، ولكنَّ جمع الجمع غير مطرَّدٍ عند سيبويه وجماهير أتباعه.

وأمَّا قراءة الباقين «رِهان» ، فرهان جمع «رَهْن» وفعل وفعال مطردٌ كثير نحو: كَعْب، وكِعَاب، وكَلْب وكِلَاب، ومَنْ سَكَّن ضمة الهاء في «رُهُن» فللتخفيف وهي لغةٌ، يقولون: سُقْفٌ في سُقُف جمع سَقْفٍ.

والرَّهنُ في الأصل مصدر رهنت، يقال: رهنت زيداً ثوباً أرهنه رهناً أي: دفعته إليه رهناً عنده، قال:[الوافر]

1295 -

يُرَاهِنُنِي فَيَرْهَنُنِي بَنِيهِ

وأَرْهَنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ

وأرهنت زيداً ثوباً، أي: دفته إليه ليرهنه، ففرَّقوا بين فعل وأفعل. وعند الفرَّاء رهنته وأرهنت بمعنى، واحتجَّ بقول همَّامٍ السَّلوليِّ:[المتقارب]

ص: 508

1296 -

فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ

نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكاً

وأنكر الأصمعيُّ هذه الرِّواية، وقال إِنَّما الرَّواية:«وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا» والواو للحال؛ كقولهم: «قَمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ» وهو على إضمار مبتدأ.

وقيل: أرْهَنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتّى أخذها بكثير الثَّمن، ومنه قوله:[البسيط]

1297 -

يَطْوِي ابنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بُعْداً

عِيديَّةً أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَايِيرُ

ويقال: رَهنتُ لساني بكذا، ولا يُقال فيه «أَرْهَنْتُ» ثم أُطْلق الرَّهنُ على المرهون من باب إطلاق المصدرِ على اسم المفعول كقوله تعالى:{هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] ، و «درهَمٌ ضَرْبُ الأَمِير» ، فإذا قلت:«رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً» فرهناً هنا مصدرٌ فقط، وإذا قلت «رهنْتُ زيداً رَهْناً» فهو هنا مفعولٌ به؛ لأن المراد به المرهونُ، ويُحتملُ أن يكونَ هنا «رَهْناً» مصدراً مؤكداً أيضاً، ولم يذكرِ المفعول الثَّاني اقتصاراً كقوله:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} [الضحى: 4] .

و «رَهْن» مِمَّا استغني فيه بجمعِ كثرته عن جمع قلَّته، وذلك أنَّ قياسه في القلةِ أفعل كفلس، وأفلسُ، فاستُغنيَ برَهن ورِهان عن أرَهنُ.

وأصل الرَّهن: الثُّبوت والاستقرارُ يقال: رهن الشَّيءُ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر، ونعمةٌ راهنةٌ، أي: دائمة ثابتة، وأنشد ابن السَِّكِّيت:[البسيط]

1298 -

لَا يَسَفِيقُونَ مِنْهَا وَهْيَ رَاهِنَةٌ

إِلَاّ بهَاتِ وَإِنْ نَهِلُوا

ويقال: «طَعَامٌ رَاهِنٌ» أي: مُقيمٌ دائمٌ؛ قال: [البسيط]

1299 -

الخُبْزُ واللَّحْمُ لَهُمْ رَاهِنٌ.....

...

...

...

أي: دائمٌ مستقرٌّ، ومنه سُمِّي المرهونُ «رَهْناً» لدوامِه واستقراره عند المُرتهِن.

فصل في إثبات الرهن في الحضر والسفر

جمهورُ الفُقهاء على أَنَّ الرهن في الحضرِ، والسَّفر سواءٌ، وفي حال وجود الكاتب، وعدمهِ، وذهب مجاهِدٌ: إلى أَنَّ الرهنَ لا يجوزُ إِلَاّ في السقر؛ لظاهر الآية، ولا عمل عليه، وإِنَّما قيدت الآيةُ بالسفر؛ لأَنَّ الغالبَ في السفرِ عدمُ الكاتِب؛ فهو

ص: 509

كقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وليس الخوفُ من شرط جواز القصرِ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم َ - أَنَّهُ رهن دِرْعَهُ عند أَبِي الشَّحم اليهوديِّ ولم يكن ذلك في سفرٍ.

قوله: {فَإِنْ أَمِنَ} قرأ أُبي فيما نقله عنه الزَّمخشريُّ «أُومِنَط مبنيّاً للمفعول، قال الزَّمخشريُّ: أي:» أَمِنَه الناسُ وَوَصَفُوا المَدْيُونَ بالأمانةِ والوفاءِ «قلت: وعلامَ تنتصبُ بَعْضاً؟ والظاهرُ نصبه بإسقاطِ الخافض على حذف مضافٍ، أي: فإن أُومِنَ بعضُكم على متاعٍ بعضٍ، أو على دينِ بعضٍ.

وفي حرف أُبيّ:» فَإِن اؤْتُمِنَ «يعني: وإن كان الذي عليه الحقُّ أَمِيناً عند صاحب الحقِّ؛ فلم يرتهن منه شيئاً؛ لحسن ظنه به.

قوله: {فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} إذا وُقِفَ على الَّذِي، وابتُدىءَ بما بعدها قيل:» اوتُمِنَ «بهمزةٍ مضمومةٍ، بعدها واوٌ ساكنةٌ، وذلك لأنَّ أصله اؤْتُمِنَ؛ مثل اقتُدر بهمزتين: الأُولى للوصل، والثَّانية فاءُ الكلمة، ووقعت الثانيةُ ساكنةً بعد أُخرى مثلها مضمومةً؛ فوجب قَلْبُ الثانية لمُجانس حركة الأُولى، فقلت: اوتُمِنَ؛ فأمَّا في الدَّرج، فتذهبُ همزةُ الوصل؛ فتعودُ الهمزةُ إلى حالها؛ لزوالِ موجب قلبها واواً، بل تُقلبُ ياءً صريحةً في الوصلِ؛ في رواية ورشٍ.

ورُوي عن عاصم:» الَّذِي اؤْتُمِنَ «برفع الأَلف ويُشير بالضَّمَّةِ إلى الهمزةِ، قال ابن مجاهدٍ:» وهذه الترجمةُ غلطٌ «ورَوَى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضَّمَّ، وفي الإِشارة، والإِشمام المذكُورَين نظرٌ.

وقرأ عاصمٌ أيضاً في شاذِّه: «الَّذِي اتُّمِنَ» بإِدغام الياء المبدلة من الهمزة في تاءِ الافتعال، قال الزمخشريُّ: قياساً على: «اتَّسَرَ» في الافتعال من اليُسْر، وليس بصحيح؛ لأَنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ، فهي في حُكمِ الهمزةِ، واتَّزر عامِّيٌّ، وكذلك «رُيَّا» في «رُؤْيَا» .

قال أبو حيَّان: وَمَا ذَكَرهُ الزمخشريُّ فيه: أَنَّهُ ليس بصحيح، وأَنَّ «اتَّزَرَ» عامِّيٌّ - يعني أنه مِنْ إِحداث العامَّةِ لا أصلَ له في اللغة - قد ذكره غيره أنَّ بعضهم أَبدلَ، وأدْغَمَ:«اتَّمَنَ واتَّزَرَ» وأنَّ لغةٌ رديئةٌ، وكذلك «رُيَّا» في رُؤْيَا، فهذا التشبيهُ إمَّا أَنْ يعودَ على قوله:«واتَّزَرَ عَامِّيٌّ» ، فيكون إدغام «رُيَّا» عَامِّيًّا، وإمَّا أن يعود إلى قوله «فَلَيْسَ بِصَحِيح»

ص: 510

أي: وكذلك إدغامُ «رُيَّا» ليس بصحيحٍ، وقد حكى الكِسائيُّ الإدغام في «رُيَّا» .

وقوله: {أَمَانَتَهُ} يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشَّيءِ المُؤْتَمَنِ عليه؛ فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقوله: «فَلْيُؤَدِّ» ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلها، وتكونَ على حذفِ مضافٍ، أي: فليؤدِّ دين أَمانتهِ، ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبة على مصدرِ اؤْتمنَ، والضَّمير في «أَمَانَتَهُ» يُحْتَمَلُ أَنْ يعودَ على صاحب الحقِّ، وأَنْ يعودَ على {الذي اؤتمن} .

فصلٌ

هذا هو القِسْمُ الثّالث مِنَ البياعاتِ المذكورة في الآية، وهو بيعُ الأمانة، أعني: ما لا يكون فيه كتابةٌ، ولا شهودٌ، ولا يكونَ فيه رهنٌ.

يقال: «أَمِنَ فُلَانٌ غَيْرَهُ» إذا لم يخف منه.

قال تعالى: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَاّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ} [يوسف: 64] فقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} أي: لم يخف خيانتهُ وجحودَه للحقِّ {فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} أي: فليؤدِّ المديونُ الذي كان أميناً، ومؤتمناً في ظنِّ الدَّائن - أمانتَهُ، أي: حقَّهُ، كأنه يقولُ: أَيّها المديُونُ، أنتَ أمينٌ، ومُؤْتمن في ظنِّ الدَّائِن، فلا تخلف ظنَّه، وأدِّ إليه أمانتَهُ، وحقه، يقالك أَمِنتُه، أو ائْتَمَنْتُه، فهو مأمونٌ، ومُؤْتَمَنٌ، {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} أي: يتق اللهَ، ولا يجحدُ، لأن الدَّائن لمَّا عامله المعاملة الحسنة؛ حينئذٍ عَوَّل على أَمانته، ولم يُطَالبه بالوثائق من الكتابة، والإِشهاد، والرهنِ؛ فينبغي لهذا المديُون أنْ يتَّقِي الله، ويعامله أَحسنَ معاملة، بأن لا يُنكر الحقَّ، ويؤديه إليه عند حلول الأَجل.

وقيل: إنه خطابٌ للمرتَهِن بأن يُؤَدِّي الرهنَ عند استيفاءِ المالِ، فإنه أمانةٌ في يده.

فصلٌ

قال بعضهم: هذه الآيةُ ناسخةٌ للآياتِ المتقدمةِ الدالَّةِ على وجوب الكتابة، والإِشهادِ، وأخذ الرهن.

واعلم أَنَّ التزام وقُوع النسخِ من غير دليلٍ يُلجئُ إليه خطأٌ.

[بل] تلك الأَوامِرُ محمولةٌ على الإِرشاد، ورعاية الاحتياط، وهذه الآيةُ محمولةٌ على الرخصة.

وعن ابن عباسٍ، أنه قال: ليس في آية المداينة نسخٌ.

قوله: {وَلَا تَكْتُمُواْ الشهادة} وفيه وجوهٌ:

الأول: قال القفَّال رحمه الله ُ -: إنه تعالى لما أباحَ تركَ الكتابةِ والإِشهادِ، والرهنِ عند اعتقادِ أمانة المديونِ، ثم كان من الجائز أَنْ يكون المديونُ خائِناً جاحداً

ص: 511

للحقِّ، وكان من الجائزِ أيضاً أن يكون بعضُ الناسِ مُطّلعاً على أحوالهم، فهاهنا ندب اللهُ ذلك المطلع إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف صاحبُ الحق تلك الشهادة، أم لا، وشدَّد فيه بأن جعله آثِمَ القلبِ بكتمانها.

وقد قال صلى الله عليه وسلم َ -: «خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ» .

الثاني: أَنَّ المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة، ونظيره قوله تعالى:{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} [البقرة: 140] والمرادُ الجُحودُ وإنكارُ العِلْمِ.

الثالث: كِتمانُ الشهادة: هو الامتناع مِنْ أدَائها عند الحاجة إلى إقامتها، كما تقدَّمَ في قوله:{وَلَا يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة: 282] ؛ لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة صار كالمبطل لحقه، وحُرمة مال المسلم كحُرمةِ دمه، فلهذا بالغَ في وعيده.

وقرأ أَبُو عَبدِ الرحْمَن «وَلَا يَكْتُمُوا» بياءِ الغيبةِ؛ لأن قَبْلَهُ غَيْباً وهم مَنْ ذُكر في قوله: «كَاتِبٌ ولا شهيد» .

قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} في هذا الضمير وجهان:

أحدهما: أنه ضميرُ الشأنِ، والجملةُ بعدَه مفسِّرٌ له.

والثاني: أنه ضميرُ «مَنْ» في قوله: «ومَنْ يَكْتُمْهَا» وهذا هو الظاهرُ.

وأمَّا «آثِمٌ قَلْبُهُ» ففيه أوجهٌ:

أظهرها: أنَّ الضميرَ في «إِنَّهُ» ضميرُ «مَنْ» و «آثِمٌ» خبرُ «إِنَّ» ، و «قَلْبُهُ» فاعلٌ ب «آثِمٌ» ، نحو قولك:«زَيْدٌ إِنَّهُ قَائِمٌ أَبُوهُ» ، وعَمَلُ اسم الفاعل هنا واضحٌ؛ لوجودِ شروطِ الإِعمال، ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأنِ؛ لأنَّ ضميرَ الشأن لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، واسمُ الفاعلِ مع فاعله عند البصريِّين مفردٌ، والكوفيُّون يُجيزون ذلك.

الثاني: أن يكون «آثِمٌ» خبراً مقدَّماً، و «قَلْبُهُ» مبتدأٌ مؤخراً، والجملةُ خبرَ «إِنَّ» ، ذكره الزمخشريُّ وأبو البقاء وغيرهما وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيِّين؛ لأنه لا يعودُ عندهم الضَّميرُ المرفوعُ على متأخِّرٍ لفظاً، و «آثِمٌ» قد تحمَّل ضميراً، لأنه وقع خبراً؛

ص: 512

وعلى هذا الوجه: فيجوزُ أن تكونَ الهاءَ ضميرَ الشأ، وأَنْ تكونَ ضميرَ «مَنْ» .

والثالث: أن يكونَ «آثِمٌ» خبرَ «إِنَّ» ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في «إِنَّهُ» ، و «قَلْبُهُ» بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كُلٍّ.

الرابع: [أن يكونَ]«آثمٌ» مبتدأً، و «قَلْبُهُ» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، والجملةُ خبرُ «إِنَّ» ، قاله ابن عطية، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين؛ لأنَّه لا يعملُ عندهم اسمُ الفاعل، إلا إذا اعتمد على نفي، أو استفهام؛ نحو: ما قائِمٌ أَبَوَاكَ، وهَلْ قائِمٌ أَخَوَاكَ؟ وَمَا قَائِمٌ قَوْمُكَ، وَهَلْ ضَارِبٌ إِخْوَتُكَ؟ وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين، والأخفشِ من البصريِّين؛ إذ يجيزانِ: قائمٌ الزَّيدانِ، وقائِمٌ الزَّيدُونَ، فكذلك في الآية الكريمة.

وقرأ ابن عبلة: «قَلْبَهُ» بالنصب، نسبها إليه ابن عطيَّة.

وفي نصبه ثلاثةُ أوجه:

أحدها: أنه بدلٌ من اسم «إِنَّ» بدلُ بعض من كلٍّ، ولا محذورَ في الفصلِ [بالخبر - وهو آثِمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه، كما لا محذورَ في الفصل] به بين النعتِ والمنعوتِ، نحو: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ العَاقِلُ مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ؛ بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه؛ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبدلِ منه.

الثاني: أنه منصوبٌ على التشبيه بالمفعولِ به؛ كقولك: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهَهُ» ، وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ:

فمذهب الكوفيين: الجواز مُطْلَقاً، أعني نظماً ونَثْراً. ومذهبُ المبرد المنع مطلقاً، ومذهب سيبويه: منع في النثر، وجوازه في الشعرِ، وأنشد الكسائي على ذلك:[الرجز]

1300 -

أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَّاتِهَا

مُدَارَةَ الأَخْفَافِ مُجْمَرَّاتِهَا

غُلْبَ الرِّقَابِ وَعَفْرْنِيَّاتِهَا

كُومَ الذُّرَى وَادِقَةَ سُرَّاتِهَا

ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرار الضمير.

الثالث: أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكيٌّ وغيره؛ وضعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً، وهذا عند البصريِّين، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه، ومنه عندهم:{إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] و {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] ؛ وأنشدوا قوله: [الوافر]

ص: 513

1301 -

إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلَاءٍ

لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ

وقرأ ابن أبي عيلة - فيما نقل عنه الزمخشريُّ - «أَثَّمَ قَلْبَهُ» جعل «أَثَمَّ» فعلاً ماضياً مشدَّد العين، وفاعله مستترٌ فيه، و «قَلْبَهُ» مفعول به، أي: جعل قلبه آثِماً، أي: أَثِمَ هو؛ لأنه عَبَّر بالقلبِ عن ذاتِه كلِّها؛ لأنه أشرفُ عضوٍ فيها. وهو، وإِنْ كان بلفظِ الإِفراد، فالمرادُ به الجمعُ، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن، فجمع في قوله:«وَلَا يَكْتُمُوا» .

وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديع: منها: التجنيسُ المغايرُ في «تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ» ، ونظائره، والمماثلُ في قوله:{وَلَا تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا} ، والطباقُ في «تَضِلَّ» و «تُذَكِّرَ» و «صَغِيراً وكَبِيراً» ، وقرأ السُّلمِيُّ أيضاً:«واللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ» بالغَيبَة؛ جرياً على قراءته بالغَيْبَة.

و «الآثم» : الفاجرُ رُوِيَ أَنَّ عمر كان يُعلِّمُ أَعرابيّاً {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 43، 44] فكان يقول: «طَعَامُ اليَتِيم» فقال له عُمرُ: طعام الفاجِرِ، وهذا يدلُّ على أَنَّ الإِثم يكون بمعنى الفجورِ. قيل: ما وعد اللهُ على شيءٍ كإيعاده على كتمان الشهادة؛ قال: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وأراد به مسخ القلب؛ نعوذُ بالله من ذلك.

وقوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحذيرٌ من الإِقدامِ على الكِتمانِ؛ لأنَّ المكلَّفَ إذا علم أَنَّ الله تعالى لا يعزُبُ عن عِلْمِه ضميرُ قلبه، كان خائِفاً حذراً من مُخالفة أَمرِ اللهِ تعالى.

ص: 514

في كيفية النَّظم وجوه:

الأول: قال الأَصمّ: إنه تعالى لمَّا جمع في هذه السُّورة أشياءَ كثيرةً مِنْ علم الأُصُول: من دلائل التَّوحيدِ، والنُّبوةِ، والمعادِ، وبيان الشَّرائِع، والتكاليف؛ كالصلاةِ

ص: 514

والزكاةِ، والصومِ، والحجِّ، والقِصَاصِ، والجهادِ، والحيضِ، والطَّلَاقِ، والعِدَّةِ، والصَّدَاقِ، والخُلعِ، والإِيلاءِ، والرَّضَاعةِ، والبيع، والرِّبَا، وكيفيَّةِ المُداينةِ - ختم هذه السورة بهذه الآية على سبيل التَّهديد.

قال ابن الخطيب: لمَّا كان أكملُ الصفاتِ هو العلم والقدرة عبَّرَ عن كمالِ قُدْرته بقول {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} مِلكاً ومُلْكاً، وعبَّرَ عن كمال علمه، وإِحاطته بالكُلِّيَّاتِ، والجُزْئِيَّاتِ بقوله:{وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} ، وإذا اختصَّ بكمال العلم، والقُدرة، فكل من في السموات والأرض عبيدٌ مربوبون له، وجدوا بتخليقه، وتكوينه، وهذا غاية الوعدِ للمطيعين، ونهايةُ الوعيد للمذنبين، ولهذا ختم السورة بهذه.

الثاني: قال أبو مسلم: إنه تعالى لمَّا نزَّل في آخر الآية المتقدِّمة: «إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ» ، ذكر عقيبهُ ما يجرِي مجرى الدليل العقلي فقال:{للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ومعنى هذا الملك أَنَّ هذه الأشياء لمَّا كانت محدثةً، فقد وجدت بتكوينه؛ وإبداعه، ومن أتقن هذه الأفعال العجيبة الغريبة المشتملةِ على الحِكم المُتكاثرة؛ والمنافع العظيمة، فلا شَكَّ أَنَّ ذلك مِنْ أعظم الأَدِلَّة على كونه عالماً مُحيطاً بأجزائها.

الثالث: قال القاضي: إنه تعالى لمَّا أمر بهذه الوثائِق - أعني الكتابة، والإِشهادَ، والرهنَ، وكان المقصودُ من الأَمر بها صيانة الأَموالِ، والاحتياط في حفظها - بيَّن تعالى أن المقصودَ من ذلك إنما يرجع لمنفعة الخلقِ، لا لمنفعةٍ تعُودُ إليه سبحانه، فإنَّ له مُلْكَ السَّموات، والأَرضِ.

الرابع: قال الشعبيُّ، وعكرمةُ، ومجاهدٌ: إنه تعالى لما نهى عن كِتمان الشهادة، وأَوعد عليه، بيَّن أَنَّ له مُلك السمواتِ، والأَرضِ؛ فيجازِي على الكِتْمانِن والإِظهارِ.

فصلٌ في بيان سبب النُّزُول

قال مقاتلٌ: نزلت فيمن يتولَّى الكافرين من المؤمنين، يعني: وإن تُعْلِنُوا ما في أَنفُسِكُم من ولاية الكُفَّار، أو تُسِّروه، يُحَاسِبكُم به الله، كما ذكر في سورة آل عمران

ص: 515

{لَاّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ} [آل عمران: 28]، إلى أن قال:{قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} [آل عمران: 29] .

وذهب الأَكثرُون إلى أنَّها عامَّةٌ.

فصلٌ

رُوِي عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية، «جاء أبو بكرٍ وعمرُ، وعبدُ الرَّحمن بن عوف، ومعاذ، وناسٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم َ - ثم بركُوا على الرَّكبِ، فقالوا: يا رسُول اللهِ، كُلِّفنا من الأَعمالِ ما نُطيقُ؛ الصلاةُ، والصِّيامُ، والجِهَادُ، والصَّدَقَةُ، وقد أُنزِلت عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُهَا، إنَّ أَحدنا ليُحدِّثُ نفسهُ بما لا يحبّ أن يثبتَ في قلبهِ وإنَّ له الدُّنيا، فقال صلى الله عليه وسلم َ -:» أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الكِتابينِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بل قولوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ»

فَلمَّا قرأها القومُ، ذلَّتْ بهم أَنفُسُهُم، فأنزل الله في إثرها {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} [البقرة: 285] فمكَثُوا في ذلك حولاً، واشتدَّ ذلك عليهم، فأَنزل اللهُ - تعالى - {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فَنَسَخَتْ هذه الآية، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم َ:«إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ» .

قال ابن مسعود، وابن عبَّاسٍ، وابن عمر: هذه الآية منسوخةٌ، وإليه ذهب محمَّد بن كعبٍ القرظيّ؛ ويدُلُّ عليه ما رَوَى أَبو هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم َ: قال: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» .

ص: 516

وقال آخرون: الآية من باب الخبر، والنَّسخُ لا يتطرَّق إلى الأخبارِ، إنما يرِدُ على الأمرِ والنَّهي، وقوله:{يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} خبر، وهؤلاء ذكرُوا في الآيةِ وجُوهاً:

الأول: أن الخواطر الواردة على النَّفس قسمان:

منها: ما يعزمُ على فعله وإيجاده، فيكون مؤاخذاً به؛ لقوله - تعالى -:{لَاّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وقال بعد هذه الآية:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286]، وقال:{إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] .

ومنها: ما يخطر بالبالِ مع أَنَّ الإنسان يكرهُهَا ولا يمكنه دفعها، فهذا لا يُؤاخذُ به.

الثاني: أن كُلَّ ما كان في القلب ممَّا لا يدخُل في العملِ؛ فإنه في محلِّ العفوِ.

وقوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} فالمرادُ منه أن يوجد ذلك العمل، إمَّا ظاهراً وإمَّا خُفيَةً، وأمَّا ما يُوجدُ في القلبِ من العزائم والإراداتِ، ولم تتَّصِل بعمل، فذلك في محلِّ العفو.

قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأن أكثر المُؤاخذاتِ إنَّما تكون بأفعالِ القُلُوبِ؛ ألا ترى أنَّ اعتقادَ الكُفْرِ والبدَع إِلَاّ مِنْ أَعمال القُلُوبِ، وأعظم أَنواع العِقَابِ مُتَرتِّبٌ عليه.

وأيضاً: فأفعالُ الجوارح إذا خلت عن أفعال القُلُوبِ، لا يترتَّب عليها عقابٌ؛ كأفعال النَّائِمِ والسَّاهي.

الثالث: قال الحسن: كُلُّ من أسرَّ عملاً أو أَعْلَنهُ من حركةٍ من جوارحه، أو همَّةٍ في قلبه، إِلَاّ يُخْبرُه الله به ويُحاسبُه عليه، ثم يغفِر ما يشاءُ ويُعذِّب من يشاء؛ لأن الله - تعالى - أَثبت للقلبِ كسباً؛ فقال:{ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] .

الرابع: أن الله - تعالى - يُحاسِبُ خلقهُ بجميع ما أَبدوا من أعمالهم أو أخفوهُ، ويُعاقِبُهُم عليه، غير أنَّ معاقبَتَهُ على ما أَخفوهُ ممَّا يعملُوه هو ما يحدث لهم في الدُّنيا من الهَمِّ والغَمِّ والمصائِبِ، والأُمُور التي يحزنزن عليها.

روى الضَّحَّاك عن عائشة رضي الله عنها: قالت: سألت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم َ - ما حدَّث العبد به نفسهُ من شرٍّ كانت مُحاسبةُ الله - تعالى - عليه، فقال: «يا عائشة، هذه مُعاتَبةُ الله عز وجل العبد بما يُصيبُهُ من الحُمَّى والنّكبة، حتَّى الشَّوكة والبضاعة يضعُهَا

ص: 517

في كُمِّهِ فيفقدها فيرُوعُ لها فيجِدُها في ضِبْنه حتَّى إنَّ المؤمن ليخرُجُ من ذُنُوبه؛ كما يخرج التَّبرُ الأحمرُ من الكِبر.»

وعن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - أنه قال:«إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الشَّرَّ أَمْسَك عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافِيَهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .

فإن قيل: كيف تحصل المُؤَاخذةُ في الدُّنيا مع قوله: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] .

قلنا: هذا خاصٌّ، فيُقدَّمُ على ذلك العامِّ.

الخامس: أنه - تعالى - قال: «يُحَاسِبْكُم» ولم يَقُل «يُؤَاخِذْكُم» وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومُحَاسباً وجوهاً كثيرة، ومن جملتها كونه عالماً بها، فيرجعُ معنى الآية إلى كونه عالماً بكُلِّ ما في الضَّمائر والسَّرائر.

والمرادُ من المُحاسبة: الإِخبار والتَّعريفُ.

ومعنى الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَافِي أَنْفُسِكُمْ فتعملُوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممَّا أضمرتم ونويتم، يحاسبكم به الله، ويُخبركم به، ويُعرفكم إيَّاه ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله، ويعذِّب الكافرين إظهاراً لعدلِهِ.

وهذا معنى قول الضَّحَّاك، ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ يدلُّ عليه أَنَّهُ قال:{يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} ولم يَقُلْ: «يُؤَاخِذْكُمْ» ، والمُحاسبةُ غير المُؤَاخذة.

ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ أنه - تعالى - إذا جمع الخلائق يُخْبَرهم بما كان في نفوسهم، فالمُؤْمِنُ يُخبِرهُ ويعفو عنه، وأهل الذُّنُوب يُخبرهم بما أَخفوا من التَّكذِيب والذَّنب روى صفوان بن محرز قال: كُنتُ آخِذاً بيد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فأتاهُ رجلٌ، فقال: كيف سمعتَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم َ - يقول في النَّجوى؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «

ص: 518

إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُه من النَّاسِ، فيقُولُ: أي عَبْدِي، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فيقولُ: نَعَمْ أي ربِّ، ثم يقُول: أي رَبِّ، حتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قال: فَإِنِّي قد سترتُها عليك في الدُّنيا وقد غَفَرْتُهَا اليَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [بِيَمِينِهِ] ، وأَمَّا الكافِرُ والمُنَافِقُ فَيقُولُ الأَشهادُ هؤلاءِ الَّذِين كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» .

السادس: أنه - تعالى - قال: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} فيكون الغُفرانُ لمن كان كارِهاً لورُودِ تلك الخواطِرِ، والعَذَابُ إن كان مُصِرّاً على تِلك الخواطِرِ مستحسِناً لها.

السابع: المراد كتمان الشَّهادة؛ وهذا ضعيفٌ، لعُموم اللَّفظ.

قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ} : قرأ ابن عامر وعاصمٌ برفع «يَغْفِرُ» و «يُعَذِّبُ» ، والباقون من السبعةِ بالجزم، وقرأ ابن عباس والأعرجُ وأبو حيوة:«فَيَغْفِرَ» بالنصب.

فأمَّا الرفعُ: فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان:

أحدهما: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فهو يَغْفِرُ.

والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ، عُطِفت على ما قبلها.

وأمَّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم.

وأمَّا النصبُ: فبإضمار «أَنْ» ، وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهِّم من الفعلِ قبل ذلك، تقديره: تكنْ محاسبةُ، فغفرانٌ، وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجه الثلاثة، وهو:[الوافر]

1302 -

فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ

رَبيعُ النَّاسِ وَالبَلَدُ الحَرَامُ

ونَأْخُذْ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ

أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَامُ

ص: 519

بجزم: «نَأْخُذْ» عطفاً على «يَهْلِكْ رَبِيعُ» ونصبه ورفعِه، على ما ذُكِرَ في «فَيَغْفِرْ» وهذه [قاعدة مطَّرِدة، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جاز فيه هذه] الأوجُهُ الثلاثةُ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه، نحو: إِنْ تَأْتِنِي فَتَزُرْنِي أَوُ فَتَزُورَنِي، أَوْ وَتَزُرْني أَوْ تَزُورَنِي.

وقرأ الجعفي وطلحة بن مصرِّف وخلَاّد: «يَغْفِرْ» بإسقاط الفاء، وهي كذلك في مصحف عبد الله، وهي بدلٌ من الجواب؛ كقوله تعالى:{وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 68 - 69] . وقال أبو الفتح: «وهي على البدلِ من» يُحاسِبْكُمْ «، فهي تفسيرٌ للمحَاسَبَة» قال أبو حيان: «وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المُحَاسَبَةِ» . وقال الزمخشريُّ: «ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة، الحساب؛ لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّل، فهو جارٍ مجرى بدل البعض من الكلِّ أو بدل الاشتمال؛ كقولك:» ضَرَبْتُ زَيْداً رَأْسَهُ «و» أَحْيَيْتُ زَيْداً عَقْلَهُ «، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ؛ لحاجةِ القبلتينِ إلى البيان» .

قال أبو حيان: وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ؛ فقوله: «معنَى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ» ، ولس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ؛ لأنَّ الحِسَابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئاتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المُحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةٌ بالغفرانِ والعذابِ. وأمَّا ثانياً؛ فلقوله بعد أَنْ ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال:«وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ لحاجةِ القبيلَين إلى البيان» ، أمَّا بدلُ الاشتمال، فهو يمكن، وقد جاءَ؛ لأنَّ الفعلَ يدُلُّ على الجنسِ، وتحته أنواعٌ يشتملُ عليها، ولذلك إذا وقع عليه النفيُ، انتفَتْ جميعُ أنواعه، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ، فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤَ؛ فلا يقال في الفعلِ له كلٌّ وبعضٌ، إلا بمجازٍ بعيدٍ، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يستحِيلُ وجودُ [بدل] البعضِ من الكلِّ في حق الله تعالى؛ إذ الباري لا يتقسَّم ولا يتبعَّض.

قال شهاب الدين: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرة والعذابِ تفسيراً، أو تفصيلاً للحساب، والحسابُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشريِّ هي بمعنى عبارة ابن جنِّي، وأمَّا قوله:«إِنَّ بدلَ البعضِ من الكلِّ في الفعْلِ متعذِّرٌ، إذ لا يتحقَّق فيه تجزُّؤٌ» ، فليس بظاهرٍ؛ لأنََّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ، والنوعَ

ص: 520

بعضٌ، وأمَّا قياسُه على الباري تعالى، فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلام الزمخشريُّ ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال: وقرأ الأعمش: «يَغْفِر» بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من «يُحَاسِبْكُمْ» ؛ كقوله: [الطويل]

1303 -

مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا

تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا

وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك؛ كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبدِلَ فيه من فعلِ الشرط، لا من جوابِه، والآية الكريمة قد أُبْدِلَ فيها من نفسِ الجواب، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له.

وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام، والباقون بإظهارها، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ [عنه] ، وورشٌ عن نافع، والباقون بالإِدغام، وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرٍو؛ لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ.

قال الزمخشريُّ: «فإن قلت:» كيف يَقْرأ الجَازِمُ «؟ قلت: يُظْهِر الراءَ، ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللام لاحِنٌ مخطىءٌ خطأً فاحِشاً، وراويه عن أبي عمرٍو مخطىءٌ مرتين؛ لأنه يَلْحَنُ وينسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يُؤذِنُ بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايات قِلَّةُ ضبطِ الرواة، وسبب قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية، ولا يَضْبطُ نحو هذا إلا أهلُ النَّحو» قال شهاب الدين. وهذا من أبي القاسم غيرُ مرضيٍّ؛ إذ القُرَّاء معتنُونَ بهذا الشأن؛ لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ [بعد الحَرْفِ] ، فكيف يقلُّ ضبطُهُم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعيِّ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللام والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتُها، والأقوى لا يدغم في الأضعَف، وهذا مَذهبُ البصريِّين: الخليل وسيبويه ومَنْ تبعهما، وأجاز ذلك الفراءُ والكسائيُّ والرُّؤاسيُّ ويعقوبُ الحضرميُّ ورأسُ البصريِّين أبو عمرو، وليس قوله:«إن هذه الرواية غلطٌ علَيْه» بمُسَلَّم، ثم ذكر أبو حيان نقولاً عن القراء كثيرةٌ، وهي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً؛ فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، [وكيف] يقال: إنَّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطىءٌ مرتين، ومن جملة رُواتِهِ اليزيديُّ إمامُ النَّحو واللغةِ، وكان يُنازعُ الكسائيُّ رئاسته، ومحلُّهُ مشهُور بين أهلِ هذا الشَّأْن.

ص: 521

روى طاوُس عن ابنِ عبَّاس: «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ» الذَّنب العَظِيم «ويُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ على الذَّنْبِ الصَّغِير، لا يُسْأَلَ عمَّا يَفْعَل وهُمْ يُسْأَلُون، واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير» .

قوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قد بيَّن بقوله تعالى: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أنه كامل الملك والمَلَكُوتِ، وبيَّن بقوله:{إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} أنه كامل العِلْمِ والإحاطةِ، ثم بيَّن بقوله:{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أنه كامِل القُدْرة، مُسْتَولٍ على كل المُمكِنَات بالقَهرِ والقُدرة والتَّكوين والإِعدام، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفات، يجبُ على كُلِّ عاقِلٍ أن يكون عَبْداً له مُنْقَاداً خاضِعاً لأوامرهِ ونواهِيهِ.

ص: 522

في كيفية النَّظم وجوهٌ:

الأول: لما بيَّن في الآيةِ المتقدِّمة كمال المُلْكِ والعلم والقُدرةِ له - تعالى -، وأنَّ ذلك يوجب كمال صفة الرُّبُوبيَّة، أَتْبَع ذلك ببيان كون المؤمن في نهاية الانقياد والطَّاعة والخُضُوع لله - تعالى -، وذلك هو كمالُ العُبُوديَّة.

الثاني: أنه - تعالى - لَمَّا قال: {إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284] وبيَّن أنه لا يخفى عليه من سِرِّنا وجهرنا شيءٌ أَلبتَّة، ذكر عقيب ذلك ما يَجْرِي مُجْرَى المَدْحِ لنا؛ فقال:{آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون} كأنَّهُ بفضله يقول: عبدي، أنا وإن كُنْتُ أعلم جميع أحوالِك، فلا أَذكُرُ مِنها إِلَاّ ما يكون مدحاً لك، حتى تَعْلَمَ أَنِّي الكامِلُ في العِلم والقُدْرَة، فأنا كامِلٌ في الجُودِ والرَّحْمَةِ، وفي إِظهارِ الحسناتِ، وفي السَّتْرِ على السَّيِّئَاتِ.

الثالث: أنه بَدَأَ السُّورة بمدح المُتَّقين {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] بيَّن في آخر السُّورة أنَّ الَّذِين مدحهُم في أوَّل السُّورة هم أُمَّةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم َ - فقال: {والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} وهذا هو المراد بقوله في أَوَّل السُّورة: {يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3]، ثم قال هَهُنا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} وهو المراد بقوله أَوَّل السُّورة:{وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] ثم

ص: 522

حكى عنهم هَهُنَا كيفيَّة تضرُّعِهِمِ في قولهم: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ

} [البقرة: 286] إلى آخر السُّورَة، وهو المراد بقوله أَوَّل السورة:{أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] .

فصلٌ في بيان سبب النُّزُول

قال القرطبيُّ: سبب نزول هذه الآية: الآيةُ الَّتِي قبلها، وهو قوله:{وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284] فإنه لمَّا نزل هذا على النَّبيِّ صلى الله عليه سولم اشتدَّ ذلك على أصحابِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم َ - فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم َ - ثم بَرَكُوا على الرُّكب، فقالوا: أي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم َ - إذْ كُلِّفْنَا من الأَعمالِ ما نُطِيق؛ الصَّلاة والصِّيام والجِهَادُ، وقد أُنزِل عليكَ هذه الآيُ ولا نُطِيقُهَا، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم َ -:«أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكِتَابَيْنِ من قَبْلِكُمْ: سَمِعنَا وعَصَيْنَا، بل قولُوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ» فلما قَرَأَها القومُ وذَلَّت بها أنْفُسُهْم، أَنزَل اللهُ في إِثرها {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} إلى قوله:{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} فلما فعلُوا ذلك، نسخَها اللهُ، فأنزلَ اللهُ

{لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] قال: نعم، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلَانَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} قال: نعم أخرجهُ مسلمٌ، عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه

فصلٌ

معنى قوله: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} : أنه عَرَفَ بالدَّلائل القاهرة؛ أن هذا القُرْآن وجُملة ما فيه من الشَّرائع والأَحكامِ مُنزَّلٌ من عِندِ الله - تعالى -، وليس من إلقاء الشَّيَاطين ولا السِّحر والكهانة، بل بما ظَهر من المُعجزات على يد جبريل عليه الصلاة والسلام.

وقوله: {والمؤمنون} فيه احتمالان:

أحدهما: أَنَّهُ يَتِمُّ الكلامُ عند قوله - تعالى - {والمؤمنون} ، فيكُونُ المعنى: آمَن الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ بما أُنزِل إِلَيهم من ربِّهم، ثم ابتدأ [بعد] ذلك بقوله:{كُلٌّ آمَنَ بالله} والمعنى: كُلُّ أحَدٍ من المذكُورين وهم الرَّسُول والمُؤْمِنُون آمَنَ بالله.

والاحتمال الثَّاني: أن يتمَّ الكلامُ عند قوله: {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} ثم يَبْتَدِىءُ

ص: 523

{المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله} ويكون المعنى: أن الرَّسول آمَنَ بكُلِّ ما أُنزلَ إليه من ربِّه، وأمَّا المُؤْمِنُونَ فإِنَّهم آمَنُوا بالله ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ.

فالوجه الأول يشعر بأنه عليه السلام ما كان مؤمناً بِرَبِّه، ثم صار مُؤْمِناً به، ويَحْتمِلُ عدم الإِيمان إلى وقت الاستدلالِ.

وعلى الوجه الثاني يُشْعِر اللَّفظُ بأنَّ الَّذِي حدث هو إيمانُهُ بالشَّرائع التي نَزَلَتْ عليه؛ كما قال - تعالى - {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلَا الإيمان} [الشورى: 52] فأمَّا الإِيمانُ بالله ومَلَائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ على الإِجمال، فقد كان حاصلاً منذُ خُلِقَ من أَوَّل الأَمْرِ، وكيف يُسْتَبْعَدُ ذلك مع أَنَّ عيسى عليه الصلاة والسلام حين انفصَلَ عن أُمِّهِ، قال {إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب} [مريم: 30] فإذا لم يَبْعُد أن يكُونَ عيسى رسولاً من عند اللهِ حين كان طِفْلاً، فكيف يُستبعد أن يقال: إن محمَّداً كان عارفاً بربِّه من أَوَّل [مَا] خُلِقَ كامل العقلِ.

فصلٌ

دلَّت الآية على أنَّ الرَّسُول آمَنَ بما أُنزِل إليه من رَبِّه، والمؤْمِنُون آمَنُوا بالله ومَلَائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وإنما خُصَّ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام بذلك؛ لأنَّ الذي أُنزِل إليه من رَبِّه قد يكُونُ كلاماً مَتْلُوّاً يسمعهُ الغير ويعرِفُه، فيمكنُه أن يؤمن به، وقد يكون وحياً لا يعلمُه فيكونُ عليه الصلاة والسلام مُختصّاً بالإيمان به، ولا يتمكَّنُ غيره من الإِيمان به، فلهذا السَّبب كان الرَّسُول صلى الله عليه وسلم َ - مختصّاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.

قوله تعالى: {والمؤمنون} : يجوزُ فيه وجهان:

أحدهما: أنه مرفوعٌ بالفاعلية عطفاً على «الرَّسُول» عليه الصلاة والسلام فيكونُ الوقفُ هنا، ويدُلُّ على صحَّةِ هذه قراءةُ عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -:«وَآمَنَ المُؤْمِنُونَ» ، فأَظْهَرَ الفعلَ، ويكون قوله:«كُلٌّ آمَنَ» جملةً من مبتدأ وخبر يدُلُّ على أنَّ جميع مَنْ تقدَّم ذكره آمَنَ بما ذكر.

والثاني: أن يكون «المُؤْمِنُونَ» مبتدأٌ، و «كلٌّ» مبتدأ ثانٍ، و «آمَنَ» خبرٌ عن «كُلّ» وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأوَّل؛ وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه، وهو محذوفٌ، تقديرُه:«كُلٌّ مِنْهُمْ» وهو كقولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَم» ، تقديرُه: مَنَوَانِ مِنْهُ، قال الزمخشريُّ:«والمؤمنُونَ إن عُطِفَ على الرسول، كان الضّميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في» كُلّ «راجعاً إلى» الرَّسُول «صلى الله عليه وسلم َ - و» المُؤْمِنُونَ «أي: كلُّهم آمَنَ بالله ومَلَائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ من المذكورين. ووُقِفَ عليه، وإن كان مبتدأً كان الضميرُ للمؤمنين» .

ص: 524

فإن قيل: هل يجوزُ أَنْ يكون «المُؤْمِنُونَ» مبتدأ، و «كُلٌّ» تأكيد له، و «آمَنَ» [خبر هذا] المبتدأ؟ فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنهم نَصُّوا على أَنَّ «كُلاًّ» وأخواتها لا تقعُ تأكيداً للمعارف، إلا مضافةٌ لفظاً لضميرِ الأولِ، ولذلك ردُّوا قولَ مَنْ قال: إِنَّ كُلاًّ في قراءة مَنْ قَرَأَ: {إِنَّا كُلاًّ فِيهَآ} [غافر: 48] تأكيدٌ لاسم «إِنَّ» وقرأ الأَخَوان هنا «وَكِتَابِهِ» بالإِفراد، والباقون بالجمعِ، وفي سورة التحريم [آية12] قرأ أبو عمرو وحفصٌ عن عاصم بالجَمْع، والباقون بالإفراد، فتلخّصَ من ذلك أنَّ الأخوين يَقْرَآن بالإِفراد في الموضعين، [وأنَّ أبا عمرو وحفصاً يقْرآن بالجمعِ في الموضعَيْن] ، وأنَّ نافعاً وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصمٍ قَرَءُوا بالجمع هنا، وبالإِفرادِ في التحريم.

فأمَّا الإِفرادُ، فإنه يُراد به الجنسُ، لا كتابٌ واحدٌ بعينه، وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه:«الكتَابُ أكثرُ من الكُتُب» قال الزمخشريُّ: فإنْ قلت: كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمعِ؟ قلت: لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحداتِ الجنس كُلِّها، لَمْ يَخْرُج منه شيءٌ، وأمَّا الجمعُ، فلا يَدْخُل تحته إلَاّ ما فيه الجنسية من الجُمُوع. قال أبو حيان:«وليس كما ذكر؛ لأنَّ الجمعَ متى أُضيفَ، أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [الجنسية] ، صارَ عامّاً، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ، فلو قال:» أَعْتَقْتُ عَبِيدِي «، لشمل ذلك كلَّ عَبْدٍ له، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم من الواحدِ، إلَاّ بقرينةٍ لفظيَّةٍ، كأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمع؛ نحو:{إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلَاّ الذين آمَنُواْ}

[العصر: 2 - 3]«أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ والدِّرْهَمُ البِيضُ» أو قرينةٍ معنويةٍ؛ نحو: «نِيَّة المُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ» وأقصى حالِهِ: أن يكونَ مثل الجمعِ العامِّ، إذا أريد به العموم «. قال شهاب الدِّين: للناس خلافٌ في الجمع المحلَّى بأَلْ أو الضمافِ: هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ، أم إلى أعمَّ من ذلك، وتحقيقُه في علم الأُصُول. وقال الفارسيُّ: هذا الإِفرادُ ليس كإفراد المصادر، وإن أريدَ بها الكثيرُ؛ كقوله تعالى:{وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] ولكنه كما تُفْرَدُ الأسماءُ التي يُرَاد بها الكثرةُ، نحو: كَثُرَ الدِّينَارُ والدِّرهمُ، ومجيئها بالألف واللام أكثرُ من مجيئها مضافةً، ومن الإِضافةِ:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وفي الحديث:» مَنَعَتِ العِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا «يُراد به الكثيرُ، كما يُراد بما فيه لامُ التعريف. قال أبو حيان:» انتهى

ص: 525

ملخصاً، ومعناه أنَّ المفرد المحلَّى بالألفِ واللام يعُمُّ أكثر من المفرد المُضافِ «.

قال شهاب الدين: وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك ألبتةَ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ معرَّفةً بأَلْ أكثرُ من مجيئها مضافةً، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ.

وقيل: المرادُ بالكتابِ هنا القرآن؛ فيكونُ المرادُ الإِفراد الحقيقيَّ. وأمَّا الجمعُ، فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ؛ إذْ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ، وأيضاً؛ فإنَّ فيه مناسبةً لَما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ.

ومَنْ قرأ بالتَّوحيد في التحريم، فإنما أراد به الإِنجيل؛ كإرادة القرآن هنا، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجِنْسُ، وقد حَمَلَ على لفظ» كُلّ «في قوله:» آمَنَ «فَأَفْرد الضمير، وعلى معناه، فجمع في قوله:» وَقَالُوا سَمِعْنَا «، قال الزمخشريّ: ووحَّد ضمير» كُلّ «في» آمَنَ «على معنى: كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ؛ كقوله تعالى:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] .

وقرأ يحيى بن يعمر - ورُويت عن نافع -» وكُتْبِهِ وَرُسْلِهِ «بإسكان العين فيهما، ورُوي عن الحسن وأبي عمرو تسكين سين» رُسْلِهِ «.

فصلٌ

دلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ معرفة هذه المراتب الأربع من ضرورات الإيمان: فالمرتبة الأولى: هي الإيمانُ بالله - سبحانه - بأنَّهُ الصَّانع القادِرُ العالِمُ بجميع المعلومات، الغنيُّ عن كُلِّ الحاجات.

والمرتبة الثانية: الإِيمانُ بالملائكة؛ لأَنَّه - سبحانه - إنَّما يُوحِي إلى الأَنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بواسطة الملائكة، قال:{يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، وقال:{فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} [الشورى: 51] وقال: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194]، وقال:{شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] ، وإذا ثبت أنَّ وحي اللهِ إنَّما يصلُ إلى البشر بواسطة الملائكة، فالملائكة واسطةٌ بين اللهِ وبيْن البشرِ؛ فلهذا السَّبب ذكر الملائكة في المرتبة الثانية، ولهذا قال:{شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إله إِلَاّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط}

[آل عمران: 18] .

والمرتبة الثالثة: الكُتُب؛ وهو الوَحْي الذي يتلقَّاهُ الملك من اللهِ - تعالى -، ويُوصِلُه إلى البشر، فلمَّا كان الوَحْيُ هو الَّذِي يتلقَّاهُ المَلَكُ من اللهِ؛ فلهذا السَّبَب جُعِلَ في المرتبة الثالثة.

ص: 526

المرتبة الرابعة: الرسُلُ؛ وهم الَّذِين يأخذُون الوَحْيَ من الملائكة، فيكونون متأخِّرين عن الكتب؛ فلهذا جعلُوا في المرتبة الرابعة.

قوله: {لَا نُفَرِّقُ} هذه الجملة منصوبةٌ بقولٍ محذوف، تقديره:«يقولون: لا نُفَرِّقُ» ، ويجوز أن يكون التقدير:«يَقُولُ» يعني يجوز أن يراعى لفظ «كُلّ» تارةً، ومعناها أخرى في ذلك القول المقدَّر، فمن قدَّر «يَقُولُونَ» ، راعى معناها ومن قدَّر «يَقُولُ» ، راعى لفظها، وهذا القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال، ويجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ؛ لأنه خبر بعد خبر، قاله الحوفيُّ.

والعامَّة على «لَا نُفَرِّقُ» بنون الجمع.

وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب - ورويت عن أبي عمرو أيضاً - «لا يُفَرِّقُ» بياء الغيبة؛ حملاً على لفظ «كُلّ» ، وروى هارون أنَّ في مصحف عبد الله «لا يُفَرِّقُونَ» بالجمع؛ حملاً على معنى «كُلّ» ؛ وعلى هاتين القراءتين، فلا حاجة إلى إضمار قولٍ، بل الجملة المنفية بنفسها: إمَّا في محلِّ نصب على الحال، وإمَّا في محلّ رفعٍ خبراً ثانياً؛ كما تقدَّم في ذلك القول المضمر.

قوله: {بَيْنَ أَحِدٍ} متعلِّقٌ بالتفريق، وأضيف «بَيْنَ» إلى أحد، وهو مفرد، وإن كان يقتضي إضافته إلى متعدد؛ نحو:«بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ» أو «بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو» ، ولا يجوز «بَيْنَ زَيْدٍ» ، ويسكت - إمَّا لأنَّ «أَحَداً» في معنى العموم، وهو «أَحَد» الذي لا يستعمل إلا في الجحد، ويراد به العموم؛ فكأَنَّه قيل: لا نفرِّق بين الجميع من الرسل، قال الزمخشريُّ: كقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]، ولذلك دخل عليه «بَيْنَ» وقال الواحدي: و «بَيْنَ» تقتضي شيئين فصاعداً، وإنما جاز ذلك مع «أَحَدٍ» ، وهو واحدٌ في اللفظ؛ لأنَّّ «أَحَداً» يجوز أن يؤدِّي عن الجميعِ؛ قال الله تعالى:{فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] وفي الحديث: «مَا أُحِلَّت الغَنَائِمُ لأَحَدٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْركُمْ» ، يعني: فوصفه بالجمع؛ لأنَّ المراد به جمعٌ، قال: وإنَّما جاز ذلك؛ لأنَّ «أَحَداً» ليس كرجل يجوز أن يثنَّى ويجمع، وقولك:«مَا يَفْعَلُ هَذَا أَحَدٌ» ، تريد ما يفعله الناس كلُّهم، فلما كان «أَحَد» يؤدَّى عن الجميع، جاز أن يستعمل معه لفظ «بَيْنَ» ، وإن كان لا يجوز أن تقول:«لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْهُمْ» .

قال شهاب الدين: وقد ردَّ بعضهم هذا التأويل؛ فقال: وقِيلَ إنَّ «أَحَداً» بمعنى «جميع» ، والتقدير:«بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ» ويبعد عندي هذا التقدير، لأنه لا ينافي كونهم مفرِّقين بين بعض الرسل، والمقصود بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا

ص: 527

يفرّقون بين كلِّ الرسل، بل البعض، وهو محمَّد صلى الله عليه وسلم َ -؛ فثبت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ، بل معنى الآية: لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رسله، وبين غيره في النبوَّة.

فصل

قال شهاب الدين: وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً، إلا أنَّ القائلين بكون «أَحَد» بمعنى «جميع» ، وإنما يريدون في العموم المصحِّح لإضافة «بَيْنَ» إليه؛ ولذلك ينظِّرونه بقوله تعالى:{فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} [الحاقة: 47]، وبقوله:[الرجز]

1304 -

إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكَا

لَا يَرْهَبُونَ أَحَداً رَأَوْكَا

فقال: «رَأَوْكَ» ؛ اعتباراً بمعنى الجميع المفهوم من «أَحَد» .

وإمَّا لأن ثمَّ معطوفاً محذوفاً؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير:«لَا نُفَرِّقُ بين أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وبَيْنَ أَحَدٍ» وعلى هذا: فأحد هنا ليس الملازم للجحد، ولا همزته أصليةٌ، بل هو «أَحَد» الذي بمعنى واحد، وهمزته بدلٌ من الواو، وحذف المعطوف كثيرٌ جدّاً، نحو:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد، وقوله:[الطويل]

1305 -

فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً

أَبُو حُجُرٍ إِلَاّ لَيَالٍ قَلَائِلُ

أي: بين الخير وبيني.

و «مِنْ رُسُلِهِ» في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ ل «أَحَد» ، و «قَالُوا» عطفٌ على «آمَنَ» ، وقد تقدَّم أنه حمل على معنى «كُلّ» .

فصل

قال الواحديُّ رحمه الله: قوله: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» أي: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، إلَاّ أنه حذف المفعول.

قال ابن الخطيب: وحذف المفعول في هذا الباب ظاهراً وتقديراً، أولى؛ لأنَّك إذا جعلت التَّقدير: سمعنا قوله وأطعنا أمره، أفاد أن ههنا قول آخر غير قوله، وأمر آخر يطاع سوى أمره، فأمَّا إذا لم يقدَّر فيه ذلك المفعول، أفاد أنَّه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلَاّ قوله، وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلَاّ أمره، فكان حذف المفعول صورةً ومعنًى في هذا الموضع أولى.

ص: 528

فصل

لما وصفهم بقوله: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» ، علمنا أنه ليس المراد منه السَّماع الظَّاهر؛ لأن ذلك لا يفيد المدح، بل المراد: عقلناه وعلمنا صحَّته، وتيقَّنا أنَّ كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم السلام إلينا، فهو حقٌّ صحيحٌ واجبٌ قبوله وسمعه، والسَّمع بمعنى القبول والفهم واردٌ في القرآن؛ قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ}

[ق: 37]، والمعنى: لمن سمع الذِّكرى بفهم حاضرٍ، وعكسه قوله تعالى:{كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} [لقمان: 7]، وقولهم بعد ذلك:«وَأَطَعْنَا» فدلَّ على أنَّهم ما أَخلُّوا بشيءٍ من التَّكاليف، فجمع تعالى بهذين اللَّفظين كلَّ ما يتعلَّق بأحوال التَّكاليف علماً وعملاً.

قوله: «غُفْرَانَكَ» منصوبٌ: إمَّا على المصدرية، قال الزمخشريُّ:«منصوبٌ بإضمار فعله، يقال:» غُفْرَانَكَ، لَا كُفْرَانَكَ «أي: نستغفرك ولا نكفرك، فقدَّره جملةً خبريةً، وهذا ليس مذهب سيبويه رحمه الله، إنما مذهبه تقدير ذلك بجملةٍ طلبية؛ كأنه قيل:» اغْفِرْ غُفْرَانَكَ «ويستغنى بالمصدر عن الفعل نحو:» سقياً ورعياً «ونقل ابن عطيَّة هذا قولاً عن الزَّجَّاج، والظاهر أنَّ هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها؛ لنيابتها عنه، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور، فعدَّها تارةً مع ما يلزم فيه إضمار الناصب؛ نحو:» سُبْحَانَ اللهِ، [ورَيْحَانَهُ «] ، و» غُفْرَانَكَ لَا كُفْرَانَكَ «، وتارةً مع ما يجوز إظهار عامله، والطلب في هذا الباب أكثر، وقد تقدَّم في أول الفاتحة نحو من هذا.

وقال الفرَّاء: هو مصدرٌ وقع موقع الأمر، فنصب وهو أولى من قول من يقول:» نَسْأَلك غُفْرَانَكَ «لأن هذه الصِّيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى، فقد كانت أدلَّ عليه؛ ونظيره: حمداً وشكراً، أي: أحْمَدُ حَمْداً وأشْكُر شُكْراً.

فإن قيل: إن القوم لما قبلوا التَّكاليف، وعملوا بها، فأيُّ حاجةٍ لهم إلى طلب المغفرة؟ فالجواب من وجهين:

الأول: أنَّهم وإن بذلوا جهدهم في أداء التَّكاليف، فهم خائفون من صدور تقصيرٍ، فلمَّا جوَّزوا ذلك، طلبوا المغفرة للخوف من التَّقصير.

الثاني: قال صلى الله عليه وسلم َ -» [إِنَّهُ لَيُغَانُ] عَلَى قَلْبِي، حَتّى أَنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّة «، وذكروا لهذا الحديث تأويلات؛ من جملتها: أنَّه صلى الله عليه وسلم َ - كان يترَقَّى في

ص: 529

جملة العبوديَّة، فكان كلما ترقَّى عن مقام إلى مقام أعلى من الأوَّل، رأى الأوَّل حقيراً، فيستغفر الله منه؛ فكذلك طَلَبُ الغفران في هذه الآية. والمصير: اسم مصدر من صار يصير: أي: رجع، وقد تقدَّم في قوله:{المحيض} [البقرة: 222] أنَّ في المفعل من الفعل المتعلِّ [العين] بالياء ثلاثة مذاهب، وهي: جريانه مجرى الصحيح، فيبنى اسم المصدر منه على مفعل بالفتح، والزمانُ والمكان بالكسر، نحو: ضَرَبَ يَضْرِب مَضْرِباً، أو يُكْسَرُ مطلقاً، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماع، فلا يتعدَّى، وهو أعدلها، ويطلق المصير على المِعَى، ويجمع على مصران، كرغيفَ ورغفان، ويجمع مصران على مصارين.

فصل

في قوله تبارك وتعالى: {وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} فائدتان:

إحداهما: أنَّهم كما أقرُّوا بالمبدإ؛ فكذلك أقرُّوا بالمعاد؛ لأن الإيمان بالمبدإ أصل الإيمان بالمعاد.

والثانية: أن العبد متى علم أنَّه لا بدَّ من المصير إليه، والذهاب إلى حيث لا حكم إلَاّ حكم الله - تعالى -، ولا يستطيع أحدٌ [أن] يشفع إلَاّ بإذن الله، كان إخلاصه في الطَّاعات أتمَّ، واحترازه عن السَّيِّئات أكمل.

ص: 530

قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} : «وُسْعَهَا» مفعولٌ ثانٍ، وقال ابن عطية:«يُكَلِّفُ يتعدَّى إلى مفعولين، أحدهما محذوفٌ، تقديره: عبادةً أو شيئاً» . قال أبو حيان: «إن غَنَى أنَّ أصله كذا، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» إِلَاّ وُسْعَهَا «استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني، وإن عَنَى أنَّ أصله كذا، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» إِلَاّ وُسْعَهَا «استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني، وإن عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصنعة، فليس كذلك، بل الثاني هو» وُسْعَهَا «؛ نحو:» مَا أَعْطَيْتُ زَيْداً إِلَاّ دِرْهَماً «، و» مَا ضَرَبْتُ إِلَاّ زَيْداً «هذا في الصناعة هو المفعول، وإن كان أصله: ما أعْطَيْتُ زَيْداً شَيْئاً إِلَاّ دِرْهَماً» ، والوسع: ما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه، ولا يخرج منه. قال الفرَّاء: هو اسم كالوجد والجهد. وقال بعضهم: الوسع هو هدون المجهود في المشقَّة، وهو ما يتَّسع له قدرة الإنسان.

ص: 530

وقرأ ابن أبي عبلة: «إِلا وَسِعَهَا» جعله فعلاً ماضياً، وخرَّجوا هذه القراءة على أنَّ الفعل فيها صلةٌ لموصول محذوفٍ تقديره:«إِلَاّ ما وَسِعَهَا» وهذا الموصول هو المفعول الثاني، كما كان «وُسْعَهَا» كذلك في قراءة العامَّة، وهذا لا يجوز عند البصريِّين، بل عند الكوفيِّين، على أنَّ إضمار مثل هذا الموصول ضعيفٌ جدّاً؛ إذ لا دلالة عليه؛ وهذا بخلاف قول الآخر حيث قال:[الخفيف]

1306 -

مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ

وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ

وقال حسَّان أيضاً -[الوافر]

1307 -

أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ

وَيَنْصُرُهُ وَيَمْدَحُهُ سَواءُ

وقد تقدَّم تحقيق هذا، وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإعراب، أم لا؟ الظاهر الثاني؛ لأنها سيقت للإخبار بذلك، وقيل: بل محلُّها نصبٌ؛ عطفاً على «سَمِعْنَا» و «أَطَعْنَا» ، أي: وقالوا أيضاً: لا يكلِّف الله نفساً، وقد خرِّجت هذه القراءة على وجه آخر؛ وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفاً لفهم المعنى، وتجعل هذه الجملة الفعليَّة في محلِّ نصبٍ لهذا المفعول، والتقدير: لا يكلِّف الله نفساً شيئاً إلا وسعها. قال ابن عطية: وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوُّزٌ؛ لأنه مقلوبٌ، وكان يجوز وجه اللفظ: إلا وسعته؛ كما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} [البقرة: 255]{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] ، ولكن يجيء هذا من باب «أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي» .

فصل في كيفيَّة النَّظم

إن قلنا إِنَّه من كلام المؤمنين، فإنَّهم لمَّا قالوا:«سَمِعْنَا وأَطَعْنَا» فكأنَّهم قالوا: كيف نسمع ولا نطيع، وهو لا يكلِّفنا إلَاّ ما في وسعنا وطاقتنا بحكم الرَّحمة الإلهيَّة.

وإن قلنا: إنه من كلام الله تبارك وتعالى، فإنَّهم لمَّا قالوا:«سَمِعْنَا وَأَطْعْنَا» ثم قالوا بعده: «غُفْرَانَكَ رَبَّنَا» ، طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التَّقصير على سبيل الغفلة [والسَّهو؛ لأنَّهم لمَّا سمعوا وأطاعوا، لم يتعمّدوا التَّقصير، فطلبوا المغفرة لما يقع منهم على سبيل الغفلة] ، فلا جرم خفَّف الله عنهم، وقال:{لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} والتَّكليف: هو إلزام ما فيه كلفة ومشقَّة، يقال: كلَّفته فتكلَّف.

فصل في بيان مسألة تكليف ما لا يطاق

استدلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة ونظائرها؛ كقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ

ص: 531

حَرَجٍ} [الحج: 78]، {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] ، {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] على أنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق، وإذا ثبت هذا فههنا أصلان:

الأول: أن العبد موجدٌ لأفعال نفسه؛ لأنه لو كان موجدها هو الله تعالى، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة، ولا قدرة للعبد ألبتَّة على فعله ولا تركه؛ أمَّا أنَّه لا قدرة له على الفعل؛ فلأنَّ ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى، والموجود لا يوجد ثانياً، وأمَّا أنَّه لا قدرة للعبد على الدَّفع، فلأنَّ قدرته أضعف من قدرة الله تعالى، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى، وإذا لم يخلق الله الفعل، استحال أن يكون للعبد قدرة على تحصيل الفعل؛ فثبت أنَّه لو كان موجد فعل العبد هو الله، فكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق.

الثاني: أن الاستطاعة قبل الفعل، وإلَاّ لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان، فكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق.

وأجيبوا: بأنَّ الدَّلائل العقليَّة دلَّت على وقوع هذا التَّكليف، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية، وذلك من وجوهٍ:

أحدها: أنَّ من مات على الكفر، تبيَّنَّا بموته على الكفر أنَّ الله تعالى كان في الأزل عالماً بأنَّه يموت على الكفر، ولا يؤمن أصلاً، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النَّقيضين، وهذه الحجَّة كما جرت في العلم، فتجري أيضاً في الجر.

وثانيها أيضاً: أن صدور الفعل عند العبد يتوقَّف على الدَّاعي، وتلك الدَّاعية مخلوقةٌ لله تعالى، ومتى كان الأمر كذلك، لزم تكليف ما لا يطاق؛ لأنَّ قدرة العبد لمَّا كانت صالحةً للفعل والترك، فلو ترجَّح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجِّح، لزم وقوع الممكن من غير مرجِّح، وذلك نفيٌ للصَّانع.

وإنما قلنا: إن تلك الدَّاعية من الله تعالى؛ لأنَّها لو كانت من العبد، لافتقر إيجادها إلى داعيةٍ أخرى ولزم التَّسلسل، وإنما قلنا: إنه متى كان الأمر كذلك، لزم الجبر، لأنَّ عند حصول الدَّاعية المرجِّحة لأحد الطَّرفين، صار الطَّرف الآخر مرجوحاً، والمرجوح ممتنع الوقوع، وإذا كان المرجوح ممتنعاً، كان الرَّاجح واجباً ضرورة أنَّه لا خروج عن النَّقيضين؛ فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلّف به، فلزم تكليف ما لا يطاق.

وثالثها: أنه تعالى كلَّف «أبَا لَهَب» بالإيمان، والإيمان تصديق الله في كلِّ ما أخبر عنه، ومن جملة ما أخبر عنه أنه لا يؤمن، فقد صار «أبُو لَهَب» مكلَّفاً بأن يؤمن بأنَّه لا يؤمن، وذلك تكليف ما لا يطاق.

ص: 532

ورابعها: أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله؛ لأن من حرَّك أصبعه، لم يعرف عدد الأحيان التي حرَّك أصبعه فيها، ولم يخطر بباله أنه حرَّك أصبعه في بعض الأوقات، وسكن في بعضها وأنَّه أين تحرَّك وأين سكن، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله، لم يكن موجداً لها، وإذا لم يكن موجداً، لزم تكليف ما لا يطاق.

فصل في تأويل هذه الآية

اختلفوا في تأويل هذه الآية:

فقال ابن عباس وعطاء وأكثر المفسِّرين: أراد به حديث النَّفس المذكور في قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] .

وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: هم المؤمنون خاصَّة، وسَّع الله عليهم أمر دينهم، ولم يكلِّفهم فيه إلَاّ ما يطيقونه؛ كقوله:{يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185]، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} هذه الجملة لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، وهي كالتفسير لما قبلها؛ لأنَّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها، واحتمالها ما حصَّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [لا] تسعه، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنًى، أم لا؟ فقال بعضهم: نعم، وفرَّق بأنَّ الكسب أعمُّ، إذ يقال:«كَسَبَ» لنفسه ولغيره، و «اكْتَسَبَ» أخصُّ؛ إذ لا يقال:«اكْتَسَبَ لِغَيْرِهِ» ؛ وأنشد قول الحطيئة: [البسيط]

1308 -

أَلْقَيْتُ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ.....

...

...

...

. .

ويقال: هو كاسب أهله، ولا يقال: مكتسب أهله.

وقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: لم خصَّ الخير بالكسب، والشرَّ بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمالٌ، ولمَّا كان الشرُّ ممَّا تشتهيه النفس، وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به، كانت في تحصيله أعمل وآجد، فجعلت لذلك مكتسبةً فيه، ولمَّا لم تكن كذلك في باب الخير، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» .

وقال ابن عطيَّة: وكَرَّر فعلَ الكسب، فخَالَفَ بين التصريف حُسناً لنمط الكلام؛ كقوله تعالى:{فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ} [الطارق: 17]، قال شهاب الدين: «والذي يظهر لي في هذا: أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلُّفٍ؛ إذ كاسبها على جادَّة أمر الله تعالى،

ص: 533

ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها؛ فحسن في الآية مجيء التصريفين؛ إحرزاً لهذا المعنى» .

وقال آخرون: «افْتَعَل» يدلُّ على شدَّة الكلفة، وفعل السَّيِّئة شديدٌ لما يئول إليه.

وقال الواحديُّ: «الصَّحيح عند أهل اللغة: أنَّ الكسب والاكتساب واحدٌن لا فرق بينهما.

وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ؛ قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] . وقال تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وقال تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81]، وقال تعالى:{بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} [الأحزاب: 58] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشرِّ» .

قال ذو الرُّمَّة: [البسيط]

1309 -

...

...

...

...

.

أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ

وإنما أَتَى في الكسب باللام، وفي الاكتساب ب «عَلَى» ؛ لأنَّ اللام تقتضي الملك، والخير يحبُّ ويسر به، فجيء معه بما يقتضي الملك، ولمَّا كان الشرُّ يحذر، وهو ثقلٌ ووزرٌ على صاحبه جيء معه ب «عَلَى» المقتضية لاستعلائه عليه.

وقال بعضهم: «فيه إيذانٌ أنَّ أدنى فعلٍ من أفعال الخير يكون للإنسان تكرُّماً من الله على عبده؛ حتَّى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به؛ لأنه من كسبه في الجملة، بخلاف العقوبة؛ فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدَّ فيها واجتهد» ، وهذا مبنيٌّ على القول بالفرق بين البنائين، وهو الأظهر.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجت المعتزلة بهذه الآية على أنَّ فعل العبد بإيجاده؛ قالوا: لأنَّ الآية صريحةٌ في إضافة خيره وشرِّه إليه، ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى، لبطلت هذه الإضافة، ويجري صدور أفعاله مجرى لونه، وطولهن وشكله، وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتَّة.

قال القاضي: لو كان تعالى خالقاً أفعالهم، فما فائدة التَّكليف، والكلام فيه معلوم.

ص: 534

فصل

احتجوا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة؛ لأنَّه - تعالى - أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع، فبيَّن أن لها ثواب ما كسبت، وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريحٌ في اجتماع هذين الاستحقاقين، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر.

قال الجبَّائي: ظاهر الآية وإن دلَّ على الإطلاق، إلَاّ أنَّه مشروطٌ، والتَّقدير: لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ العَمَلِ الصَّالِح إذا لم يبطله، وعليها ما اكتَسَبَتْ مِن العَقَاب إذا لَمْ يُكَفِّرْه بالتَّوبة، وإنَّمَا صِرْنَا إلى إضْمَارِ هذا الشَّرط، لمَّا ثبت أن الثَّواب يجب أن يكون منفعةً خالصةً دائمةً، والجمع بينهما محالٌ في العقول، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محالٌ.

فصل

تمسَّك الفقهاء بهذه الآية في أنَّ الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار؛ لأن اللام في قوله: {مَا كَسَبَتْ} تدلُّ على ثبوت الاختصاص، ويؤكِّد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم َ -:«كُلُّ امْرِىءٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وسَائِر النَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة:

منها: أن المضمونات لا تملك إلَاّ بأداء الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ.

ومنها: إذا غصب ساجةً فأدرجها في بنائه، أو حنطةً فطحنها، لا يزول الملك.

ومنها: أن القطع في السَّرقة لا يمنع وجوب الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ، وهو قوله:{لَهَا مَا كَسَبَتْ} ويجب ردُّ المسروق إن كان باقياً.

ص: 535

قوله: {لَا تُؤَاخِذْنَا} يقرأ بالهمزة، وهو من الأخذ بالذَّنب، ويقرأ بالواو، ويحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون من الأخذ أيضاً، وإنما أُبدلت الهمزة واواً؛ لفتحها وانضمام ما قبلها، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ، ويحتمل أن يكون من: واخذه بالواو، قاله أبو البقاء. وجاء هنا بلفظ المفاعلة، وهو فعل واحدٍ؛ لأنَّ المسيء قد أمكن من نفسه، وطرق السبيل إليها بفعله؛ فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه.

قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجهٌ آخر، وهو أنَّ الله تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة، فالمذنب كأنَّه يأخذ ربَّه بالمطالبة بالعفو والكرم، فإنَّه لا يجد من يخلِّصه من عذابه إلَاّ هو، فلهذا يتمسَّك العبد عند الخوف منه به، فلمَّا كان كلُّ واحدٍ منهما يأخذ الآخر، عبَّر عنه بلفظ المؤاخذة، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت.

قوله: {إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} .

في النِّسيان وجهان:

الأول: أنَّ المراد النِّسيان الذي هو ضدُّ الذِّكر.

فإن قيل: أليس فعل النَّاسي في محلِّ العفو بحكم دليلِ العقل؛ حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق، وبدليل السَّمع؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم َ:«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وإن كان كذلك، فما معنى طلب العفو عنه؟

فالجواب من وجوهٍ:

الأول: أن النِّسيان منه ما يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يعذر؛ ألا ترى أنَّ من رأى في ثوبه نجاسة، فأخَّر إزالتها عنه إلى أن نسي فصلَّى وهي على ثوبه، عدَّ مقصِّراً؛ إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالتها، وأمَّا إذا لم ير في ثوبه نجاسة، فإنه يعذر فيه، ومن رمى صيداً فأصاب إنساناً، فقد يكون بحيث لا يعلم الرَّامي أنه يصيب ذلك الصَّيد أو غيره، فإذا رمى ولم يحترز، كان ملوماً، وأمَّا إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرةٌ، ثم رمى فأصاب إنساناً؛ كان ههنا معذوراً، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدَّرس والتِّكرار، حتى نسي القرآن يكون ملوماً، وأمَّا إذا واظب على القراءة ونسي القرآن، فههنا يكون معذوراً؛ فثبت أن النِّسيان على قسمين: منه ما يعذر فيه، ومنه ما لا يعذر فيه، وهو ما إذا ترك التَّحفُّظ،

ص: 536

وأعرض عن أسباب التذكُّر، فهذا يصحُّ طلب غفرانه بالدُّعاء.

الثاني: أن هذا دعاء على سبيل التَّقدير؛ لأنَّ هؤلاء الَّذِين ذكروا هذا الدُّعاء كانوا متَّقين لله حقَّ تقاته، فلم يكن يصدر عنهم ما لا ينبغي إلَاّ على وجه النِّسيان والخطأ، فكان وصفهم بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عمَّا يؤاخذون به؛ كأنه قيل: إذا كان النِّسيان ممَّا تجوز المؤاخذة به، فلا تؤاخذنا به.

الثالث: أنَّ المقصود من هذا الدُّعاء إظهار التَّضرُّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل؛ لأن الدَّاعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأنَّ الله تعالى يفعله، سواءٌ دعا أو لم يدع؛ قال:{رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112]، وقال:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194]، وقالت الملائكة:{فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} [غافر: 7] فكذا ههنا.

الرابع: أن مؤاخذة النَّاسي ممتنعةٌ عقلاً، لأنَّ الإنسان إذا علم أنه بعد النِّسيان يكون مؤاخذاً، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذٍ لا يصدر عنه، إلَاّ أنَّ استدامة ذلك الذِّكر يشقُّ على النَّفس، فلمَّا جاز ذلك في العقول، حسن طلب المغفرة منه.

الخامس: أن الَّذين جوَّزوا تكليف ما لا يُطاق بهذه الآية، فقالوا: النَّاسي غير قادرٍ على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنَّه جائزٌ عقلاً أن يعاقبه الله عليه، لما طلب بالدُّعاء ترك المؤاخذة به.

القول الثاني: أن المراد بالنِّسيان: التَّرك؛ قال الله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، أي: تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم، ويقول الرَّجل لصاحبه «لَا تَنْسِني من عَطِيَّتِكَ» ، أي: لا تتركني، فالمراد بهذا النِّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسدٍ، والمراد بالخطأ: أن يفعل الفعل لتأويل فاسدٍ.

قوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً} .

الإصر: في الأصل: الثِّقل والشِّدَّة؛ قال النابغة: [البسيط]

1310 -

يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ

وَالحَامِلَ الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَمَا غَرِقُوا

وأُطلق على العهد والميثاق لثقلهما؛ كقوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي: عهدي، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] أي: التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلِّ ما يثقل، حتى يروى عن بعضهم أنه فسَّر الإصر هنا بشماتة الأعداء؛ وأنشد:[الكامل]

ص: 537

1311 -

أَشْمَتَّ بِيَ الأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتَنِي

وَالمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ

ويقال: الإصر أيضاً: العطف والقرابة، يقال:« [مَا] يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ» أي: ما يعطفني عليه قرابةٌ ولا رحمٌ؛ وأنشد للحطيئة: [مجزوء الكامل]

1312 -

عَطَفُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ آ

صِرَةٍ فَقَدْ عَظُمَ الأَوَاصِرْ

ويقال: ما يأصرني عليه آصرةٌ أي: رحمٌ وقرابة، وإنما سمِّي العطف إصراً؛ لأن من عطفت عليه، ثقل على قلبك كلُّ ما يصل إليه من المكاره.

وقيل: الإصر: الأمر الذي تربط به الأشياء؛ ومنه «الإصَارُ» للحبل الشديد الذي تشدُّ به الأحمال، يقال: أصَرَ يَأْصِرُ أَصْراً بفتح الهمزة، فأما بكسرها، فهو اسمٌ، ويقال بضمِّها أيضاً، وقد قرىء به شاذًّا.

وقرأ أُبيّ: «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْ عَلَيْنَا» بتشديد الميم.

قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلت: أيُّ فرقٍ بين هذه التَّشديدة والتي في» وَلَا تُحَمِّلْنَا «؟

قلت: هذه للمبالغة في حمله عليه، وتلك لنقل حمله من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولين» انتهى.

يعني: أن التَّضعيف في الأوَّل للمبالغة، ولذلك لم يتعدَّ إلَاّ لمفعولٍ واحدٍ، وفي الثانية للتَّعدية، ولذلك تعدَّى إلى اثنين: أوَّلهما: «نَا» ، والثاني: ما لا طاقة لنا به.

فصل

قال مجاهدٌ وعطاء وقتادةٌ والسُّدِّيُّ والكلبيُّ وجماعة: المراد عهداً ثقيلاً ومشاقَّ لا نستطيع القيام به، فتعذِّبنا بنقضه وتركه {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} ، يعني: اليهود.

ص: 538

وقال عثمان بن عفَّان، ومالك بن أنس، وأبو عبيدة، وجماعة: معناه: لا تُشتدِّد علينا في التَّكاليف ما لا نستطيع المقام معه، فتعذِّبنا بنقضه وتركه؛ كما شدَّدت على الذين من قبلنا، يعني: اليهود، فلم يقوموا به فيعذِّبهم.

قال المفسِّرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاةً، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزَّكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسةً أمر بقطعها، ومن أصاب ذنباً، أصبح وذنبه مكتوب على بابه، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجِّلت لهم العقوبة في الدُّنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئةٍ، حرم عليهم من الطَّعام بعض ما كان حلالاً لهم؛ قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] ، ونحو ذلك؛ كتحريمه على قوم طالوت الشُّرب من النَّهر، وتعجيل تعذيبهم في الدُّنيا بكونهم مسخوا قردةً وخنازير.

قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ومن نظر في السِّفر الخامس من التَّوراة التي تدَّعيها هؤلاء اليهود، وقف على ما أخذ عليه من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربَّهم أن يصونهم عن أمثال هذه التَّغليظات، وهو بفضله ورحمته قد أزال عنهم ذلك.

قال تعالى في صفة هذه الأمة: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .

وقال صلى الله عليه وسلم َ -: «دُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَسْفُ والمَسْخُ والغَرَقُ» .

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . وقال عليه الصلاة والسلام ُ: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّة السَّمْحَة» والمؤمنون إنَّما طلبوا هذا التَّخفيف؛ لأن التِّشديد مظنَّة التَّقصير، والتَّقصير موجبٌ للعقوبة، ولا طاقة لهم بعذاب الله، فلا جرم طلبوا تخفيف التَّكاليف.

وقيل: الإصر ذنبٌ لا توبة له، معناه: اعصمنا من مثله، قالوا: والأصل فيه العقد والإحكام.

قوله: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .

الطَّاقة: القدرة على الشيء، وهي في الأصل، مصدرٌ، جاءت على حذف الزوائد، وكان من حقِّها «إطَاقَة» ؛ لأنها من أطاق، ولكن شذَّت كما شذَّت أُلَيْفَاظٌ؛ نحو: أَغَارَ

ص: 539

غَارةً، وأجَاب جَابةً، وقالوا:«سَاءَ سَمعاً؛ فَسَاءَ جَابَةً» ؛ ولا ينقاس؛ فلا يقال: طَال طَالَةً، ونظير أجاب جَابَةً:{أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] وأعطى عطاء في قوله: [الوافر]

1313 -

...

...

...

...

... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرَّتَاعَا

فصل في المراد بالآية

معناه: لا تكلِّفنا من العمل ما لا نطيق.

وقيل: هو حديث النَّفس والوسوسة المتقدِّم في الآية الأولى، وحكي عن مكحول: أنَّه الغلمة.

وعن إبراهيم: هو الحبُّ، وعن محمَّد بن عبد الوهَّاب: هو العشق.

وقال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير، وقيل: هو شماتة الأعداء.

وقيل: هو الفرقة والقطيعة.

فإن قيل: لم خصَّ الآية الأولى بالحمل، فقال «لا تَحْمِلْ عَلَيْنا» وهذه الآية بالتَّحميل؟

فالجواب: أن الشَّاقَّ يمكن حمله، أمَّا ما لا يكون مقدوراً، فلا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التَّحميل فقط، فإن التَّحمُّل غير ممكنٍ.

وأمَّا الشاقُّ: فالحمل، والتَّحميل فيه ممكنان، فلهذا السَّبب خصَّ الآية الأخيرة بالتَّحميل.

فإن قيل: ما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بلفظ الجمع في قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، ولفظ الإفراد أكثر تذلُّلاً وخضوعاً من التَّلفُّظ بنون الجمع.

فالجواب: أن قبول الدُّعاء عند الاجتماع أكثر، وذلك لأن للهمم تأثيراتٍ، فإذا اجتمعت الأرواح والدَّواعي على شيء واحدٍ، كان حصوله أكمل.

فصل

استدلُّوا بهذه الآية الكريمة على جواز التَّكليف بما لا يطاق، قالوا: إذ لو لم يكن

ص: 540

جائزاً، لما حسن طلب دَفْعِهِ بالدُّعاء من الله تعالى، وأجاب المعتزلة بوجوهٍ:

الأول: المراد بالآية ما يشقُّ فعله مشقَّةً عظيمةً؛ كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أنظر إلى فلانٍ؛ إذا كان مستثقلاً له؛ قال الشاعر: [الرجز]

1314 -

إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ

سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ

وقال صلى الله عليه وسلم َ - في المملوك: «لَهُ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، ولَا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ» أي: ما يشقُّ عليه، وقال صلى الله عليه وسلم َ - في المريض «يصلِّي وهو جالسٌ، فإن لم يَسْتَطِعْ، فَعَلَى جَنْبٍ» ، فقوله:«فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» ليس المراد به: عدم القوَّة على الجلوس، بل كلُّ الفقهاء يقولون: المراد منه: إذا كان يلحقه في الجلوس مشقَّةٌ شديدةٌ؛ وقال تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} [هود: 20]، أي: كان يشقُّ عليهم ذلك.

الثاني: أنه تعالى لم يقل: «لَا تُكَلِّفْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ» بل قال: {لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} والتَّحميل: هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمُّله، فيكون المراد منه العذاب، والمعنى: لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله، فلو حملنا الآية على ذلك، كان قوله:«لَا تُحَمِّلْنَا» حقيقةً فيه، ولو حملناه على التكليف، كان قوله:«لَا تُحَمِّلْنَا» مجازاً فيه، فكان الأوَّل أولى.

الثالث: هب أنَّهم سألوا الله تعالى ألَاّ يكلِّفهم ما لا قدرة لهم عليه، لكن ذلك لا يدلُّ على جواز أن يفعل خلافه؛ لأنَّه لو دلَّ على ذلك، لدلَّ قوله:{رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] على جواز أن يحكم بالباطل، وكذلك قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم َ -:{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] على جواز خزي الأنبياء.

وقوله تعالى: {وَلَا تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1]، وقوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}

[الزمر: 65] ، وذلك لا يدلُّ على جواز أن يطيع الكافرين والمنافقين، ولا على جواز الشِّرك.

وأجاب مخالفوهم: بأن الوجه الأول مدفوعٌ من وجهين:

الأول: أنه لو كان المراد من ألا يشدِّد عليهم التَّكاليف، لكان معناه ومعنى الآية الأولى واحداً، فتكون تكراراً محضاً، وهو غير جائزٍ.

ص: 541

والثاني: أنَّا بيَّنا أنَّ الطَّاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله:{وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ظاهره لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا عليه، أقصى ما في الباب أنَّه جاء هذا اللَّفظ بمعنى الاستقبال في بعض الوجوه على سبيل المجاز، إلَاّ أنَّ الأصل حمل اللَّفظ على الحقيقة.

وأمَّا الوجه الثاني: فإن التَّحميل مخصوصٌ في عرف القرآن بالتَّكليف، قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات} [الأحزاب: 72] إلى قوله: {وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] ، ثم هب أنَّه لم يوجد هذا العرف، إِلَاّ أنَّ قوله:{لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} عامٌّ في العذاب والتَّكليف، فوجب إجراؤه على ظاهره، فأَمَّا تخصيصُهُ بغير حُجَّةٍ، فلا يجوز.

وأَمَّا الوجه الثالث: فإن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً، لم يجز طلب امتناعه بالدُّعاء؛ لأنه يجري مجرى قوله في دعائه ربَّنا لا تجمع بين الضِّدَّين.

وإذا كان هذا هو الأصل، فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصُّور لدليلٍ مفصَّلٍ، لم يجب تركهُ في سائر الصُّور بغير دليلٍ.

قوله: {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ} قال ابن الخطيب: لما كانت الأدعية الثَّلاثةُ المُتقدِّمةُ، المطلوب بها الترك، قُرِنت بلفظ «رَبَّنَا» ، وأَمَّا هذا الدُّعاء فحذف فيه لفظ «رَبَّنَا» وظاهره يدلُّ على طلب الفعل.

فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر هنا لفظ «رَبَّنَا» .

فالجواب: أن النِّداء إنما يحتاجُ إليه عند البعد أمَّا عند القرب فلا؛ وإنَّما حذف النِّداء إشعاراً بأنَّ العبد إذا واظب على التَّضرُّع نال القرب من اللهِ - تعالى -.

فإن قيل: ما الفرقُ بين العفو والمغفرة والرّحمة.

الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التَّخجيل والفضيحة؛ كأن العبد يقول: أطلُبُ منك العفو، وإذا عفوت عنِّي فاسترهُ عليَّ فإِنَّ الخلاص من عذاب النَّار إنَّما يطيبُ، إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، فلما تخلَّص من هذين العذابين، أقبل على طلب الثَّواب، فقال:{وارحمنآ} فإنَّنا لا نقدر على فعل الطَّاعة وترك المعصية إِلَاّ برحمتك.

قوله تعالى: {أَنتَ مَوْلَانَا} المَولى مفعلٌ من وَلِي يلي، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ، فيجوز أن يكون على حذف مضافٍ، أي: صاحبُ تَولِّينا، أي: نُصرتنا، ولذلك قال:{فانصرنا} ، والمَوْلأى يجوزُ أن يكونَ اسم مكانٍ أيضاً، واسم زمانٍ.

في قوله: {أَنتَ مَوْلَانَا} فائدةٌ؛ وهي أَنَّها تدلُّ على نهاية التَّذلُّل، والخُضوع، فلا جرم

ص: 542

ذكرها عند الدُّعاء متكلين على فضله وإحسانه بمنزلة الطِّفل، لا تتمُّ مصلحته إِلَاّ بتدبير قيمه، والعبد الَّذِي ينتظم شمل مهمَّاته إلا بإصلاح مولاهُ، وهو المولى في الحقيقة لِلكُلِّ على ما قال

{نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الأنفال: 40] ونظير هذه الآية الكريمة {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ} [البقرة: 257] أي: ناصرهم، وقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} [التحريم: 4] أي: ناصره، وقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لَا مولى لَهُمْ} [محمد: 11] .

قوله تعالى: {فانصرنا} أتى بالفاء هنا؛ إعلاماً بالسببية؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كان مولاهم ومالك أمورهم، وهو مُدَبِّرِهم تسبَّبَ عنه أن دعَوْهُ أن ينصرهم على أعدائهم؛ كقولك:«أَنْتَ الجَوَادُ فَتَكرَّمْ» ، و «أَنت المُعطي فرجاً فضلاً منك» .

قوله: {عَلَى القوم الكافرين} أي: انصرنا في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجَّة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] .

فصلٌ

روى الواحدي رحمه الله عن مقاتل بن سليمان؛ أنه لما أُسري بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم َ - أُعطي خواتيم سورة البقرة، فقالت الملائكةُ: إنَّ الله - تعالى - قد أكرمك بحسن الثَّناء عليك بقوله - تعالى -: «آمَن الرَّسُول» فسلهُ وارغب إليه، فعلَّمهُ - جبريل عليه الصلاة والسلام ُ - كيف يدعو، فقال محمَّد عليه الصلاة والسلام «غُفْرَانَكَ رَبَّنَا» وقال الله: قد غفرتُ لكم، فقال:«لَا تُؤَاخِذْنَا» فقال الله: لَا أؤاخذكم، فقال:«ولَا تَحْمل عَلَينا إصراً» فقال: لا أُشدّد عليكم، فقال محمَّد:«لَا تُحمِّلنا ما لَا طاقةَ لنَا به» فقال: لا أُحملكم ذلك، فقال محمد:«واعْفُ عنا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنَا» فقال الله: قد عَفَوتُ عنكم، وغَفَرتُ لكم، ورحمتكم، وأنصركم على القوم الكافرين.

وروى سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس، وسمعناه في بعض الرِّوايات؛ أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان يذكر هذه الدَّعوات والملائكة كانوا يقولون: آمين.

وعن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه» وعن النُّعمان بن بشير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -

ص: 543

سورة ق

ص: 3

مكية، وهي خمس وأربعون آية، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة، وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم‌

‌ ق

وله تعالى: {ق} قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هو قَسَمٌ. وقيل: اسم السورة. وقيل اسم من أسماء القرآن. وقال القرطبي: هو مفتاح اسمه قدير، وقادر، وقاهر وقريب وقابض. وقال عكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زُمُرَّدَةٍ خَضْراءَ ومنه: خُضْرَةُ السماء. والسماء مَقْبِيَّةٌ عليه، وعليه كتفاها ويقال: هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنةٍ. وقيل: معناه قضِي الأمر وقضي ما هو كائن، كما قالوا في حم (حم الأمر)، وفي ص: صدق الله، وقيل هو اسم فاعل من قَفَا يَقْفُوهُ.

فصل

قال ابن الخطيب، لما حكى القول بأن «ق» اسم جبل محيط بالأرض عليه أطواق السماء قال: وهذا ضعيف لوجوه:

ص: 3