الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجموع المفيد الممتاز
من كتب العلامة ابن باز
في العقيدة والصلاة والزكاة والصوم والحج والأذكار
طبع بإشراف
إدارة اللجنة العلمية في مؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية
مقدمة اللجنة العلمية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا بني بعده، وبعد:
فيطيب للجنة العلمية بمؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية أن تضع بين يدي القارئ الكريم هذا الجمع النافع الموسوم بـ (المجموع المفيد الممتاز من كتب العلامة ابن باز) في العقيدة والصلاة والزكاة والصوم والحج والأذكار وقد قام بجمعه وإعداده وترتيبه بعض من طلبة العلم وقد اشتمل على فوائد مهمة لكل مسلم ومسلمة في دينه ودنياه.
نسأل الله أن يجزي كل من سعى إلى إخراج هذه المادة خير الجزاء، كما نسأله أن يضاعف الأجر والمثوبة لسماحة شيخنا/ عبد العزيز بن باز رحمه الله وأن يجعل هذه الفتاوى من العلم النافع الذي يجري عليه أجره في قبره، وأن يجمعنا به والقارئ الكريم في دار كرامته مع الأحبة محمد وصحبه.
اللجنة العلمية
بمؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية
بيان أهمية الفقه الإسلامي
(1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن معرفة الفقه الإسلامي وأدلة الأحكام، ومعرفة فقهاء الإسلام الذين يرجع إليهم في هذا الباب - من الأمور المهمة التي ينبغي لأهل العلم العناية بها، وإيضاحها للناس؛ لأن الله سبحانه خلق الثقلين لعبادته، ولا يمكن أن تعرف هذه العبادة إلا بمعرفة الفقه الإسلامي وأدلته، وأحكام الإسلام وأدلته، ولا يكون ذلك إلا بمعرفة العلماء الذين يعتمد عليهم في هذا الباب من أئمة الحديث والفقه الإسلامي.
فالعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، ومن أسباب السعادة للعبد، ومن علامات النجاة والفوز أن يفقه في دين الله، وأن يكون فقيها في الإسلام، بصيراً بدين الله على ما جاء في كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام. والعلماء قد بين الله شأنهم ورفع قدرهم، وهم أهل العلم بالله وبشريعته، والعاملون بما جاء عن الله وعن نبيه عليه الصلاة والسلام، وهم علماء الهدى، ومصابيح الدجى، وهم العالمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قال فيهم جل وعلا:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] وقال فيهم جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال فيهم سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 38] وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله يه خيراً يفقهه في الدين» متفق على صحته.
فهذا الحديث العظيم يدلنا على فضل الفقه في الدين.
والفقه في الدين: هو الفقه في كتاب الله عز وجل، والفقه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الفقه في الإسلام؛ من جهة أصل الشريعة، ومن جهة أحكام الله التي
(1)
كلمة ألقاها سماحته في المسجد الجامع الكبير بالرياض بتاريخ 27/ 4/ 1400 هـ، وسبق أن نشرت في كتاب سماحته
(مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) الجزء التاسع، ص 128 - 141.
أمرنا بها، ومن جهة ما نهانا عنه سبحانه وتعالى، ومن جهة البصيرة بما يجب على العبد من حق الله وحق عباده، ومن جهة خشية الله وتعظيمه ومراقبته، فإن رأس العلم خشية الله سبحانه وتعالى، وتعظيم حرماته، ومراقبته عز وجل فيما يأتي العبد ويذر، فمن فقد خشية الله ومراقبته فلا قيمة لعلمه، وإنما العلم النافع، والفقه في الدين الذي هو علامة السعادة هو العلم الذي يؤثر في صاحبه خشية الله، ويورثه تعظيم حرمات الله ومراقبته، ويدفعه إلى أداء فرائض الله وإلى ترك محارم الله، وإلى الدعوة إلى الله عز وجل، وبيان شرعه لعباده، فمن رزق الفقه في الدين على هذا الوجه فذلك هو الدليل والعلامة على أن الله أراد به خيراً، ومن حرم ذلك وصار مع الجهلة والضالين عن السبيل، المعرضين عن الفقه في الدين، وعن تعلم ما أوجب الله عليه، وعن البصيرة فيما حرم الله عليه، فذلك من الدلائل على أن الله لم يرد به خيراً، وقد وصف الله الكفار بالإعراض عما خلقوا له وعما أنذروا به؛ تنبيهاً لنا على أن الواجب على المسلم أن يقبل على دين الله، وأن يتفقه في دين الله، وأن يسأل عمل أشكل عليه، وأن يتبصر، قال عز وجل:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3] وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 43]
فمن شأن المؤمن طلب العلم، والتفقه في الدين، والتبصر، والعناية بكتاب الله، والإقبال عليه وتدبره، والاستفادة منه، والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفقه فيها، والعمل بها، وحفظ ما تيسر منها، فمن أعرض عن هذين الأصلين وغفل عنهما، فذلك دليل وعلامة على أن الله سبحانه لم يرد به خيراً، وذلك علامة الهلاك والدمار، وعلامة فساد القلب وانحرافه عن الهدى، نسأل الله السلامة والعافية من كل ما يغضبه.
فجدير بنا معشر المسلمين أن نتفقه في دين الله، وأن نتعلم ما يجب علينا، وأن نحرص على العناية بكتاب الله؛ تدبراً، وتعقلاً، وتلاوة، واستفادة، وعملاً بذلك، وأن نُعنى بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام حفظاً وعملاً وتفقهاً فيها، وأن نعنى أيضاً بالسؤال عما أشكل علينا، فالإنسان يسأل عمَّا أشكل عليه، ويسأل من هو أعلم منه ليستفيد؛ عملاً بقول الله سبحانه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
وعليه أن يحضر حلقات العلم؛ ليستفيد ويتذاكر مع إخوانه الذين يرجو أن يكون
عندهم علم حتى يستفيد من علمهم، وحتى يضم ما لديهم من العلوم النافعة إلى ما لديه من العلم، فيحصل له بذلك خير كثير ويحصل له بذلك الفقه في الدين، ويحصل له بذلك البعد عن صفات المعرضين والغافلين، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»
وبما ذكرنا يعرف المؤمن فضل فقهاء الإسلام، وأنهم قد أوتوا خيراً كثيراً، وقد فازوا بحظ عظيم من أسباب السعادة وطرق الهداية؛ لأن العلم النافع من أسباب الهداية، ومن حُرِم العلم حُرِم خيراً كثيراً، ومن رزق العلم النافع فقد رزق أسباب السعادة، إذا عمل بذلك واتقى الله في ذلك.
وعلى رأس العلماء بعد الرسل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنهم هم الفقهاء على الكمال، الذين تلقوا العلم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتفقهوا في كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، ونقلوا ذلك إلى من بعدهم غضاً طرياً، تفقهوا وعملوا، ونقلوا العلم إلى من بعدهم من التابعين، نقلوا كتاب الله إلى من بعدهم لفظاً وتفسيراً وقراءة. إلى غير ذلك.
ونقلوا إلى من بعدهم أيضاً ما بينه لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام من معنى كلام الله عز وجل، ونقلوا أيضاً لمن بعدهم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي سمعوها منه، والتي رأوها منه عليه الصلاة والسلام، والتي أقرهم عليها، نقلوها إلى من بعدهم بغاية الأمانة والصدق، نقلوها إلى الأمة بواسطة الثقات من التابعين، حتى نقلت إلينا بالطرق المحفوظة الثابتة التي لا يتطرق إليها الشك، نقلها الثقات عن الثقات، والثقات عن الثقات، حتى وصلت إلى هذا القرن وما بعد.
وهذا من إقامة الحجة من الله عز وجل على عباده، فإن نقل العلم من طرق الثقات عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة إلى من بعدهم؛ إقامة للحجة، وإيضاح للمحجة، ودعوة إلى الحق، وتحذير من الباطل، وتبصير للعباد بما خلقوا له من عبادة الله وطاعته جل وعلا.
وبهذا يعلم أن لهم من الحق على من بعدهم: الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والرضا، والحرص على الاستفادة من علومهم، وما جمعوه وألفوه من العلوم النافعة، فإنهم سبقوا إلى خيرٍ عظيم، وإلى علم جَمّ، سبقوا إلى الفقه في كتاب الله، وإلى الفقه في سنة رسول
الله عليه الصلاة والسلام، ونقلوا إلينا ما وصل إليهم من علم بالله، وبكتابه، وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
فوجب علينا أن نعرف لهم قدرهم، وأن نشكرهم على علمهم العظيم، وعلى ما قاموا به من حفظ رسالة الله وتفقيه الناس في دين الله، وأن نستعين بما دونوه، وخَلَّفوه من الكتب المفيدة والعلوم النافعة، حتى نعرف بذلك معاني كلام الله، ومعاني كلام رسوله عليه الصلاة والسلام.
وإن من أعظم الفائدة، ومن أكبر الخير الذي نقلوه إلينا أن حفظوا علينا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، ونقلوها إلينا طرية غضة سليمة محفوظة، وفيها تفسير كتاب الله، وفيها بيان ما أجمل في كتاب الله، وفيها بيان الأحكام التي جاء بها الوحي الثاني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الوحي من الله له إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو السنة المطهرة، فإن الله جل وعلا أعطى نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن ومثله معه، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام:«ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه» .
فعلى أهل العلم أن ينقلوا ما جاءت به السنة، وأن يوضحوا ذلك للناس، وأن يرشدوهم إلى معاني كلام ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، في الخطب والمواعظ والدروس وحلقات العلم، وغير هذا من أسباب التوجيه والتعليم والإرشاد.
ولهذا ارتحل العلماء إلى الأمصار، واتصلوا بالعلماء في كل قطر؛ للفائدة والعلم، ففي عهد الصحابة سافر بعض الصحابة من المدينة إلى مصر والشام، وإلى العراق واليمن، وإلى غير ذلك؛ للفائدة ولنقل العلم، فتجد الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الناس بعد الأنبياء - ينتقلون من بلاد إلى بلاد؛ ليسألوا عن سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتتهم ولم يحفظوها، فبلغهم ذلك عن صحابي آخر فيسافر أحدهم إليه؛ ليسمع ذلك منه، ولينتفع بذلك، ولينقله إلى غيره من إخوانه في الله التابعين لهم بإحسان.
ثم جاء العلماء بعدهم من التابعين، هكذا فعلوا، ارتحلوا في العلم، وساروا في طلب العلم، وتبصروا في دين الله، وتفقهوا على الصحابة وسألوهم رضي الله عنهم وأرضاهم - عمَّا أشكل عليهم، وعملوا بذلك، ثم نقلوا ذلك إلى من بعدهم من أتباع
التابعين رواية ودراية، ثم هكذا أتباع التابعين نقلوه لمن بعدهم، ثم ألَّفوا كتباً عظيمة في الحديث والتفسير واللغة العربية
…
وغير هذا من أنواع العلوم الشرعية، حتى بصَّروا الناس، وحتى أرشدوا إلى الطريق السوي، وحتى علموهم القواعد الشرعية التي بها يعرف كتاب الله، وبها تعلم معانيه، وبها تحفظ السنة، وبها تعلم معانيها.
وبذلك يحصل العمل بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على بصيرة وعلى هدى وعلى نور، فجزاهم الله عن ذلك خيراً وضاعف لهم الأجور، وضاعف لهم الحسنات، ونفعنا بعلومهم جميعاً، وأعاذنا جميعاً من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
ومما يتعلق بهذا حضور حلقات العلم؛ لأنها من طريقة أهل العلم، وفي الحديث الصحيح:«إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قيل يا رسول الله وما هي رياض الجنة؟ قال «حلق الذكر» وقال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة» وقال عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فهذه أشياء مهمة تتعلق بالفقه والفقهاء، وبطلب العلم في المساجد، وبالرحلة إلى البلدان التي فيها العلماء المعروفون بالاستقامة، كل هذا من أسباب تحصيل العلم، ومن الطرق التي توصل إليه، وصاحبها يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:«من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة» .
فإذا سأل أهل العلم، أو سافر إليهم في بلادهم، أو زارهم في بيوتهم وفي المساجد فقد سلك طريقاً يلتمس فيه علماً.
وذكر أهل العلم: أن من الطرق المعينة على حفظ العلم كتابته، والعناية بحفظه، كما فعل سلفنا الصالح رحمهم الله ومن بعدهم من أهل العلم، كل هذا من وسائل تحصيل العلم، ومن الطرق الموصلة إليه. كما أن الرحلة والانتقال من بلد إلى بلد، ومن مسجد إلى مسجد، ومن حلقة إلى حلقة، ومن بيت عالم إلى بيت عالم؛ لطلب العلم، وللتفقه في الدين، كل ذلك أنواع وطرق من طرق تحصيل العلم، وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم:«من سلك طريقاً يلتمس فيه علما .... » الحديث.
والله ولي التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
العقيدة الصحيحة وما يضادها
(1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلّما كانت العقيدة الصحيحة هي أصل دين الإسلام، وأساس الملة، رأيت أن تكون هي موضوع المحاضرة، ومعلوم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن الأعمال والأقوال إنما تصح وتقبل إذا صدرت عن عقيدة صحيحة، فإن كانت العقيدة غير صحيحة بطل ما يتفرع عنها من أعمال وأقوال، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5] وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد دل كتاب الله المبين وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، على أن العقيدة الصحيحة تتلخص في: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، فهذه الأمور الستة هي أصول العقيدة الصحيحة التي نزل بها كتاب الله العزيز، وبعث الله بها رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام، ويتفرع عن هذه الأصول كل ما يجب الإيمان به من أمور الغيب، وجميع ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأدلة هذه الأصول الستة في الكتاب والسنة كثيرةٌ جداً، فمن ذلك قول الله سبحانه:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]. وقوله سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] الآية، وقوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]. وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، أما الأحاديث الصحيحة الدالة على هذه الأصول فكثيرةٌ جداً، منها الحديث الصحيح المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي
(1)
نشرت في مجلة البحوث الإسلامية (العدد السابع) الصادر في شهر رجب وشعبان ورمضان وشوال عام 1403 هـ.
الله عنه أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال له:(الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) الحديث، وأخرجه الشيخان مع اختلاف يسير من حديث أبي هريرة، وهذه الأصول الستة يتفرع عنها جميع ما يجب على المسلم اعتقاده في حق الله سبحانه، وفي أمر المعاد وغير ذلك من أمور الغيب.
فمن الإيمان بالله سبحانه، الإيمان بأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه لكونه خالق العباد والمحسن إليهم والقائم بأرزاقهم والعالم بسرهم وعلانيتهم، والقادر على إثابة مطيعهم وعقاب عاصيهم، ولهذه العبادة خلق الله الثقلين وأمرهم بها، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22] وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا الحق والدعوة إليه.
والتحذير مما يضاده، كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال عز وجل: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1 - 2]، وحقيقة هذه العبادة: هي إفراد الله سبحانه بجميع ما تعبد العباد به من دعاءٍ، وخوفٍ، ورجاءٍ، وصلاةٍ، وصومٍ، وذبحٍ، ونذرٍ، وغير ذلك من أنواع العبادة، على وجه الخضوع له والرغبة، والرهبة مع كمال الحب له سبحانه والذل لعظمته، وغالب القرآن الكريم نزل في هذا الأصل العظيم، كقوله سبحانه:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3] وقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [غافر: 14] وقوله عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الأسراء: 23] وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» .
ومن الإيمان بالله أيضا الإيمان بجميع ما أوجبه على عباده وفرضه عليهم من أركان الإسلام الخمسة الظاهرة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وغير ذلك من الفرائض التي جاء بها الشرع المطهر، وأهم هذه الأركان وأعظمها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي: إخلاص العبادة لله وحده ونفيها عما سواه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها: لا معبود بحق إلا الله، فكل ما عبد من دون الله من بشر أو ملك أو جني أو غير ذلك، فكله معبود بالباطل، والمعبود بالحق هو الله وحده، كما قال سبحانه:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] وقد سبق بيان أن الله سبحانه خلق الثقلين لهذا الأصل الأصيل وأمرهم به، وأرسل به رسله وأنزل به كتبه، فتأمل ذلك جيداً وتدبره كثيراً ليتضح لك ما وقع فيه أكثر المسلمين من الجهل العظيم بهذا الأصل الأصيل حتى عبدوا مع الله غيره، وصرفوا خالص حقه لسواه، فالله المستعان.
ومن الإيمان بالله - سبحانه-، الإيمان بأنه خالق العالم ومدبر شئونهم والمتصرف فيهم بعلمه وقدرته كما يشاء سبحانه وأنه مالك الدنيا والآخرة ورب العالمين جميعا لا خالق غيره، ولا رب سواه، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح العباد ودعوتهم إلى ما فيه نجاتهم وصلاحهم في العاجل والآجل، وأنه سبحانه لا شريك له في جميع ذلك، وقال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
ومن الإيمان بالله أيضا: الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في كتابه العزيز، والثابتة عن رسوله الأمين من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل يجب أن تمر كما جاءت بلا كيف، مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف لله عز وجل يجب وصفه بها على الوجه اللائق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقال عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وهي التي نقلها الإمام: أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه: (المقالات) عن أصحاب الحديث وأهل السنة، ونقله غيره من أهل العلم والإيمان.
قال الأوزاعي رحمه الله: سئل الزهري ومكحول عن آيات الصفات، فقالا: أمروها كما جاءت، وقال الوليد بن مسلم رحمه الله: سئل مالك والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان الثوري رحمهم الله عن الأخبار الواردة في الصفات، فقالوا جميعا: أمروها كما جاءت بلا كيف، وقال الأوزاعي رحمه الله:"كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله سبحانه على عرشه، ونؤمن بما ورد في السنة من الصفات"، ولما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمة الله عليهما عن الاستواء قال:"الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق". ولما سئل الإمام مالك رحمه الله عن ذلك، قال:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، ثم قال للسائل: ما أراك إلا رجل سوء، وأمر به فأخرج. وروي هذا المعنى عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وقال الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه:"نعرف ربنا سبحانه بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه"، وكلام الأئمة في هذا الباب كثير جداً لا يمكن نقله في هذه المحاضرة، ومن أراد الوقوف على كثير من ذلك فليراجع ما كتبه علماء السنة في هذا الباب مثل: كتاب (السنة) لعبد الله بن الإمام أحمد، و (التوحيد) للإمام الجليل محمد ابن خزيمة، وكتاب (السنة) لأبي القاسم اللالكائي الطبري، وكتاب (السنة) لأبي بكر بن أبي عاصم، وجواب شيخ الإسلام ابن تيمية لأهل حماة، وهو جواب عظيم كثير الفائدة قد أوضح فيه رحمه الله عقيدة أهل السنة، ونقل فيه الكثير من كلامهم والأدلة الشرعية والعقلية على صحة ما قاله أهل السنة، وبطلان ما قاله خصومهم، وهكذا رسالته الموسومة بـ (التدمرية) قد بسط فيها المقام، وبين فيها عقيدة أهل السنة بأدلتها النقلية والعقلية، والرد على المخالفين بما يظهر الحق، ويدمغ الباطل لكل من نظر في ذلك من أهل العلم، بقصد صالح ورغبة في معرفة الحق، وكل من خالف أهل السنة فيما اعتقدوا في باب الأسماء والصفات فإنه يقع ولا بد في مخالفة الأدلة النقلية والعقلية مع التناقض الواضح في كل ما يثبته وينفيه.
أما أهل السنة والجماعة فأثبتوا لله سبحانه ما أثبته لنفسه في كتابه الكريم، أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سنّته، إثباتاً بلا تمثيل، ونزهوه سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيهاً بريئاً من التعطيل ففازوا بالسلامة من التناقض، وعملوا بالأدلة كلها، وهذه سنة الله سبحانه فيمن تمسك بالحق الذي بعث به رسله، وبذل وسعه في ذلك وأخلص لله في طلبه، أن يوفقه للحق ويظهر حجته، كما قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] وقال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره المشهور عند كلامه على قول الله عز وجل:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] الآية، كلاماً حسناً في هذا الباب يحسن نقله ها هنا لعظم فائدته.
قال رحمه الله ما نصه: (للناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيءٌ من خلقه، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال:"من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى" انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.
وأما الإيمان بالملائكة فيتضمن: الإيمان بهم إجمالاً وتفصيلاً، فيؤمن المسلم بأن لله ملائكة خلقهم لطاعته، ووصفهم بأنهم:{عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]، وهم أصناف كثيرة منهم الموكلون بحمل العرش، ومنهم خزنة الجنة والنار، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد، ونؤمن على سبيل التفصيل بمن سمى الله ورسوله منهم، كجبريل وميكائيل ومالك خازن النار، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، وقد جاء ذكرهم في أحاديث صحيحة، وقد ثبت في
الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» خرّجه مسلم في صحيحه، وهكذا الإيمان بالكتب يجب الإيمان إجمالاً بأن الله سبحانه أنزل كتباً على أنبيائه ورسله، لبيان حقه والدعوة إليه، كما قال تعالي:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] الآية، وقال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] الآية.
ونؤمن على سبيل التفصيل بما سمى الله منها كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن، والقرآن هو أفضلها وخاتمها، وهو المهيمن والمصدق لها، وهو الذي يجب على جميع الأمة اتباعه، وتحكيمه مع ما صحت به السنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى جميع الثقلين، وأنزل عليه هذا القرآن ليحكم به بينهم، وجعله شفاء لما في الصدور، وتبياناً لكل شيء وهدى ورحمةً للمؤمنين، كما قال تعالي:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهكذا الرسل يجب الإيمان بهم إجمالاً وتفصيلاً فنؤمن أن الله سبحانه أرسل إلى عباده رسلاً منهم مبشرين ومنذرين ودعاة إلى الحق، فمن أجابهم فاز بالسعادة، ومن خالفهم باء بالخيبة والندامة، وخاتمهم وأفضلهم هو نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 156]، وقال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. ومن سمى الله منهم أو ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميته آمنا به على سبيل
التفصيل والتعيين، كنوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم صلى الله وسلم عليهم وعلى آلهم وأتباعهم.
وأما الإيمان باليوم الآخر فيدخل فيه الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت كفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وما يكون يوم القيامة من الأهوال، والشدائد، والصراط، والميزان، والحساب، والجزاء، ونشر الصحف بين الناس، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، ويدخل في ذلك أيضا الإيمان بالحوض المورود لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالجنة والنار، ورؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتكليمه إياهم، وغير ذلك مما جاء في القرآن الكريم والسنَّة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان بذلك كله وتصديقه على الوجه الذي بينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الإيمان بالقدر فيتضمن: الإيمان بأمور أربعة:
الأمر الأول: أن الله سبحانه قد علم ما كان وما يكون، وعلم أحوال عباده، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وغير ذلك من شئونهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115] وقال عز وجل: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
والأمر الثاني: كتابته سبحانه لكل ما قدره وقضاه كما قال سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].
الأمر الثالث: الإيمان بمشيئته النافذة فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] وقال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29].
الأمر الرابع: خلقه سبحانه لجميع الموجودات لا خالق غيره ولا رب سواه، كما قال سبحانه:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] وقال تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].
فالإيمان بالقدر يشمل الإيمان بهذه الأمور الأربعة عند أهل السنة والجماعة، خلافاً لمن أنكر بعض ذلك من أهل البدع. ويدخل في الإيمان بالله: اعتقاد أن الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه لا يجوز تكفير أحدٍ من المسلمين بشيءٍ من المعاصي التي دون الشرك والكفر، كالزنا، والسرقة وأكل الربا، وشرب المسكرات، وعقوق الوالدين، وغير ذلك من الكبائر ما لم يستحل ذلك؛ لقول الله سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
ولما ثبت في الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ومن الإيمان بالله الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله، فيحب المؤمن المؤمنين ويواليهم، ويبغض الكفار ويعاديهم.
وعلى رأس المؤمنين من هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل السنة والجماعة يحبونهم ويوالونهم، ويعتقدون أنهم خير الناس بعد الأنبياء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» متفق على صحته، ويعتقدون أن أفضلهم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى رضي الله عنهم أجمعين.
وبعدهم بقية العشرة، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويعتقدون أنهم في ذلك مجتهدون، من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين به، ويتولونهم ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويترضون عنهن جميعا، ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم ويغلون في أهل البيت، ويرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل، كما يتبرءون من طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، وجميع ما ذكرناه في هذه الكلمة الموجزة داخل في العقيدة الصحيحة التي بعث الله بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وهي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة التي
قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه» وقال عليه الصلاة والسلام: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة علي ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» فقال الصحابة من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» ، وهي العقيدة التي يجب التمسك بها والاستقامة عليها والحذر مما خالفها.
وأما المنحرفون عن هذه العقيدة والسائرون على ضدها فهم أصناف كثيرة، فمنهم عباد الأصنام والأوثان والملائكة والأولياء والجن والأشجار والأحجار وغيرها، فهؤلاء لم يستجيبوا لدعوة الرسل، بل خالفوهم وعاندوهم، كما فعلت قريش وأصناف العرب مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسألون معبوداتهم قضاء الحاجات، وشفاء المرضى، والنصر على الأعداء، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، فلمَّا أنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده، استغربوا ذلك وأنكروه، وقالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}
[ص: 5]. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلي الله وينذرهم من الشرك، ويشرح لهم حقيقة ما يدعو إليه حتى هدى الله منهم من هدى، ثم دخلوا بعد ذلك في دين الله أفواجاً، فظهر دين الله على سائر الأديان بعد دعوة متواصلة، وجهاد طويلٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، ثم تغيرت الأحوال، وغلب الجهل على أكثر الخلق حتى عاد الأكثرون إلي دين الجاهلية، بالغلو في الأنبياء والأولياء ودعائهم والاستغاثة بهم، وغير ذلك من أنواع الشرك، ولم يعرفوا معنى لا إله إلا الله كما عرف معناها كفار العرب، فالله المستعان.
ولم يزل هذا الشرك يفشوا في الناس إلي عصرنا هذا، بسبب غلبة الجهل وبعد العهد بعصر النبوة. وشبهة هؤلاء المتأخرين هي شبهة الأولين، وهي قولهم:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقد أبطل الله هذه الشبهة وبين أن من عبد غيره كائناً من كان فقد أشرك به، وكفر، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فرد الله عليهم سبحانه بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [يونس: 18].
فبين سبحانه في هذه الآية أن عبادة غيره من الأنبياء والأولياء أو غيرهم، هي الشرك الأكبر، وإن سماها فاعلوها بغير ذلك وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فرد الله عليهم سبحانه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]. فأبان بذلك سبحانه أن عبادتهم لغيره بالدعاء، والخوف، والرجاء، ونحو ذلك كفر به سبحانه، وأكذبهم في قولهم: إن آلهتهم تقربهم إليه زلفى.
ومن العقائد الكفرية المضادة للعقيدة الصحيحة، والمخالفة لما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام: ما يعتقده الملاحدة في هذا العصر من أتباع ماركس ولينين وغيرهما، من دعاة الإلحاد والكفر، سواء سموا ذلك اشتراكية أو شيوعية أو بعثية أو غير ذلك من الأسماء، فإن من أصول هؤلاء الملاحدة أنه لا إله والحياة مادة، ومن أصولهم إنكار المعاد، وإنكار الجنة والنار، والكفر بالأديان كلها، ومن نظر في كتبهم ودرس ما هم عليه علم ذلك يقيناً، ولا ريب أن هذه العقيدة مضادةٌ لجميع الأديان السماوية، ومفضية بأهلها إلى أسوأ العواقب في الدنيا والآخرة.
ومن العقائد المضادة للحق ما يعتقده بعض المتصوفة: من أن بعض من يسمونهم بالأولياء يشاركون الله في التدبير، ويتصرفون في شئون العالم، ويسمونهم بالأقطاب والأوتاد والأغواث، وغير ذلك من الأسماء التي اخترعوها لآلهتهم، وهذا من أقبح الشرك في الربوبية، وهو شر من شرك جاهلية العرب؛ لأن كفار العرب لم يشركوا في الربوبية وإنما أشركوا في العبادة، وكان شركهم في حال الرخاء، أما في حال الشدَّة فيخلصون لله العبادة، كما قال الله سبحانه:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. أما الربوبية فكانوا معترفين بها لله وحده، كما قال سبحانه:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما المشركون المتأخرون فزادوا على الأولين من جهتين، إحداهما: شرك بعضهم في الربوبية، والثانية: شركهم في الرخاء والشدة، كما يعلم ذلك من خالطهم وسبر
أحوالهم، ورأى ما يفعلون عند قبر الحسين والبدوي وغيرهما في مصر، وعند قبر العيدروس في عدن، والهادي في اليمن وابن عربي في الشام، والشيخ عبد القادر الجيلاني في العراق، وغيرها من القبور المشهورة التي غلت فيها العامة وصرفوا لها الكثير من حق الله عز وجل، وقل من ينكر عليهم ذلك ويبين لهم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ومن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله سبحانه أن يردهم إلى رشدهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم لمحاربة هذا الشرك والقضاء عليه ووسائله، إنه سميع قريب.
ومن العقائد المضادة للعقيدة الصحيحة في باب الأسماء والصفات عقائد أهل البدع: من الجهمية، والمعتزلة، ومن سلك سبيلهم في نفي صفات الله عز وجل، وتعطيله سبحانه من صفات الكمال، ووصفه عز وجل بصفة المعدومات والجمادات والمستحيلات، تعالى الله عن قولهم علوا كبيراً.
ويدخل في ذلك من نفى بعض الصفات وأثبت بعضها، كالأشاعرة، فإنه يلزمهم فيما أثبتوه من الصفات نظير ما فروا منه من الصفات التي نفوها، وتأولوا أدلتها، فخالفوا بذلك الأدلة السمعية والعقلية، وتناقضوا في ذلك تناقضاً بيناً؛ أما أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا لله سبحانه ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه الكمال، ونزهوه عن مشابهة خلقه، تنزيهاً بريئاً من شائبة التعطيل، فعملوا بالأدلة كلها ولم يحرفوا ولم يعطلوا، وسلموا من التناقض الذي وقع فيه غيرهم- كما سبق بيان ذلك- وهذا هو سبيل النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، وهو الصراط المستقيم الذي سلكه سلف هذه الأمة وأئمتها، ولن يصلح آخرهم إلا ما صلح به أولهم وهو اتباع الكتاب والسنة، وترك ما خالفهما.
والله ولي التوفيق، وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا به، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين
(1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فلما كانت عقيدة التوحيد هي الأساس التي قامت عليه دعوة محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والتي هي في الحقيقة امتداد لدعوة الرسل جميعا، كما قال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وكان من صميم الاعتقاد بهذه الدعوة هو محاربة البدع والأباطيل، بشتى أشكالها، فإنه يجب على كل مسلم أن يتبصر في دينه، ويعبد الله تعالى طبقا لما جاءت به الشريعة الإسلامية، ولقد كان المسلمون الأوائل من سلف هذه الأمة، على هدى من أمر دينهم؛ ذلك لأن أعمالهم بل وجميع شئونهم، كانت على وفق ما جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ثم لما انحرف أكثر المسلمين عن هذا المنهج القويم - منهج الكتاب والسنة - في عقائدهم وأعمالهم، تفرقوا شيعاً وأحزاباً في العقائد، والمذاهب، في السياسة والأحكام، وكان من نتائج هذا الانحراف أن فشت فيهم البدع والأباطيل والشعوذة، وأصبح ذلك مدخلا لأعداء الإسلام في الطعن على الإسلام وأهله ولقد حذر علماء الإسلام - في مؤلفاتهم - قديما وحديثا من هذه البدع.
وقد ساهمت في ذلك بثلاث رسائل مجموعة:
الأولى: في حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: في حكم الاستغاثة بالجن والشياطين والنذر لهم
الثالثة: في حكم التعبد بالأوراد البدعية والشركية.
والرئاسة - وهي حاملة لواء الدعوة الإسلامية في هذه البلاد المباركة - تضع بين يديك أيها القارئ الكريم هذه الرسائل الثلاث. مساهمة منها في محاربة البدع
(1)
صدر هذا الموضوع بكتاب من منشورات الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في عام 1404 هـ.
والخرافات، ورفع المستوى الثقافي والفهم الحقيقي للإسلام، نسأل الله العلي القدير أن ينفع بها عباده، والله ولي التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الرسالة الأولى في حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم
-
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد فقد نشرت صحيفة المجتمع الكويتية في عددها 15 الصادر 19/ 4/ 1390 هـ أبياتا تحت عنوان (في ذكرى المولد النبوي الشريف) تتضمن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستنصار به لإدراك الأمة ونصرها وتخليصها مما وقعت فيه من التفرق والاختلاف، بإمضاء من سمت نفسها (آمنة)، وهذا نص من الأبيات المشار إليها:
يا رسول الله أدرك عالماً
…
يشعل الحرب ويصلى من لظاها
يا رسول الله أدرك أمة
…
في ظلام الشك قد طال سراها
يا رسول الله أدرك أمة
…
في متاهات الأسى ضاعت رؤاها
إلى أن قالت:
يا رسول الله أدرك أمة
…
في ظلام الشك قد طال سراها
عجل النصر كما عجلته
…
يوم بدر حين ناديت الإله
فاستحال الذل نصراً رائعاً
…
إن لله جنوداً لا تراها
(الله أكبر هكذا توجه هذه الكاتبة نداءها واستغاثتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طالبة منه إدراك الأمة بتعجيل النصر، ناسية أو جاهلة أن النصر بيد الله وحده، ليس ذلك بيد النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من المخلوقات، كما قال الله سبحانه في كتابه المبين:{وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] وقال عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160].
وقد علم بالنص والإجماع أن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب، لبيان تلك العبادة، والدعوة إليها، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال عز وجل: {الر*كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1 - 2]
فأوضح سبحانه في هذه الآيات المحكمات أنه لم يخلق الثقلين إلا ليعبدوه وحده، لا شريك له، وبين أنه أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للأمر بهذه العبادة والنهي عن ضدها، وأخبر عز وجل أنه أحكم آيات كتابه وفصلها لئلا يعبد غيره سبحانه، والعبادة هي توحيده وطاعته، بامتثال أوامره وترك نواهيه، وقد أمر الله بذلك في آيات كثيرة، منها قوله سبحانه:{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}
[البينة: 5]، وقوله عز وجل:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الأسراء: 23] وقوله سبحانه {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3] والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه من الأنبياء وغيرهم، ولا ريب أن الدعاء من أهم أنواع العبادة وأجمعها فوجب إخلاصه لله وحده كما قال عز وجل:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14] وقال عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وهذا يعم جميع المخلوقات من الأنبياء وغيرهم.
لأن (أحدا) نكرة في سياق النهي، فتعم كل من سوى الله سبحانه، وقال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس: 106] وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الله سبحانه قد عصمه من الشرك وإنما المراد من ذلك تحذير غيره ثم قال عز وجل:{فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] فإذا كان سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لو دعا غير الله يكون من الظالمين، فكيف بغيره، والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر، كما قال سبحانه:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
فعلم بهذه الآيات وغيرها أن دعاء غير الله من الأموات والأشجار والأصنام وغيرها، شرك بالله عز وجل ينافي العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها، وأرسل
الرسل وأنزل الكتب لبيانها، والدعوة إليها وهذا معنى (لا إله إلا الله) فإن معناها: لا معبود بحق إلا الله فهي تنفي العبادة عن غير الله وتثبتها لله وحده، كما قال الله سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] وهذا هو أصل الدين وأساس الملة، ولا تصح العبادات إلا بعد صحة هذا الأصل، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] ودين الإسلام مبني على أصلين عظيمين: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده.
والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فمن دعا الأموات من الأنبياء وغيرهم، أو دعا الأصنام أو الأشجار، أو الأحجار أو غير ذلك من المخلوقات، أو استغاث بهم، أو تقرب إليهم بالذبائح والنذور، أو صلى لهم، أو سجد لهم، فقد اتخذهم أربابا من دون الله، وجعلهم أندادا له سبحانه، وهذا يناقض هذا الأصل، وينافي معنى لا إله إلا الله، كما أن من ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله لم يحقق معنى شهادة أن محمداً رسول الله، وقد قال الله عز وجل:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] وهذه الأعمال هي أعمال من مات على الشرك بالله عز وجل، وهكذا الأعمال المبتدعة التي لم يأذن بها الله، فإنها تكون يوم القيامة هباء منثورا، لكونها لم توافق شرعه المطهر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» متفق على صحته وهذه الكاتبة قد وجهت استغاثتها ودعاءها للرسول صلى الله عليه وسلم، وأعرضت عن رب العالمين، الذي بيده النصر والضر والنفع، وليس بيد غيره شيء من ذلك.
ولا شك أن هذا ظلم عظيم وخيم، وقد أمر الله عز وجل بدعائه سبحانه، ووعد من يدعوه بالاستجابة، وتوعد من استكبر عن ذلك بدخول جهنم، كما قال عز وجل:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] أي صاغرين ذليلين، وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الدعاء عبادة، وعلى أن من استكبر عنه فمأواه جهنم، فإذا كانت هذه حال من استكبر عن دعاء الله، فكيف تكون حال من دعا غيره، وأعرض عنه، وهو سبحانه
القريب المالك لكل شيء والقادر على كل شيء كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن «الدعاء هو العبادة» ، وقال لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:«احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» أخرجه الترمذي وغيره.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار» رواه البخاري، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الذنب أعظم؟ قال «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» والند: هو النظير والمثيل فكل من دعا غير الله، أو استغاث به أو نذر له، أو ذبح له أو صرف له شيئا من العبادة سوى ما تقدم، فقد اتخذه نداً، سواء كان نبياً أو ولياً، أو ملكاً أو جنياً، أو صنماً أو غير ذلك من المخلوقات.
أما سؤال الحي الحاضر بما يقدر عليه، والاستعانة به في الأمور الحسية، التي يقدر عليها فليس ذلك من الشرك، بل من الأمور العاديةالجائزة بين المسلمين، كما قال تعالى في قصة موسى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] وكما قال تعالى في قصة موسى أيضا: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب، وغيرها من الأمور التي تعرض للناس، ويحتاجون فيها إلى بعضهم ببعض.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر أمته أنه لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً، فقال في سورة الجن:{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} [الجن: 20 - 21] وقال تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]
والآيات في هذا المعنى كثيرة وهو صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلا ربه، وكان في يوم بدر يستغيث بالله، ويستنصره على عدوه ويلح في ذلك، ويقول:«يا رب انجز لي ما وعدتني» حتى قال الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه: حسبك يا رسول الله،
فإن الله منجز لك ما وعدك وأنزل الله سبحانه في ذلك قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ*وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9 - 10] فذكّرهم سبحانه في هذه الآيات استغاثتهم، وأخبر أنه استجاب لهم بإمدادهم بالملائكة، ثم بين سبحانه أن النصر ليس من الملائكة، إنما أمدهم بهم، للتبشير بالنصر، والطمأنينة.
وبين أن النصر من عنده فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وقال عز وجل في سورة آل عمران: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
[آل عمران: 123] فبين في هذه الآية: أنه سبحانه هو الناصر لهم يوم بدر، فعلم بذلك أن ما أعطاهم من السلاح والقوة، وما أمدهم به من الملائكة، كل ذلك من أسباب النصر، والتبشير والطمأنينة، وليس النصر منها، بل هو من عند الله وحده، فكيف يجوز لهذه الكاتبة أو غيرها أن توجه استغاثتها وطلبها النصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض عن رب العالمين، المالك لكل شيء والقادر على كل شيء؟!
لا شك أن هذا من أقبح الجهل، بل من أعظم الشرك فالواجب على الكاتبة أن تتوب إلى الله سبحانه توبة نصوحا، وذلك بالندم على ما وقع منها، والإقلاع عنه، والعزم على عدم العود إليه، تعظيما لله وإخلاصا له، وامتثالا لأمره وحذرا مما نهى عنه، هذه هي التوبة النصوح، وإذا كانت من حق المخلوقين وجب في التوبة أمر رابع، وهو رد الحق إلى مستحقه، أو تحلله منه، وقد أمر الله عباده بالتوبة، ووعدهم قبولها كما قال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] وقال في حق النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [المائدة: 68 - 70]
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25] وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام
يهدم ما كان قبله والتوبة تجب ما كان قبلها» ولعظم خطر الشرك، وكونه أعظم الذنوب، وخشية الاغترار بما صدر من هذه الكاتبة، ولوجوب النصح لله ولعباده، حررت هذه الكلمة الموجزة، وأسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين جميعا، وأن يمن علينا جميعا بالفقه في الدين، والثبات عليه، وأن يعيذنا والمسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
الرسالة الثانية في حكم الاستغاثة بالجن والشياطين والنذر لهم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين، وفقني الله وإياهم للتمسك بدينه، والثبات عليه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد سألني بعض الإخوان عما يفعله بعض الجهال، من دعاء غير الله سبحانه والاستنجاد به في المهمات، كدعاء الجن والاستغاثة بهم، والنذر لهم، والذبح لهم وشبه ذلك.
ومن ذلك قول بعضهم: (يا سبعة، خذوه)، يعني بذلك سبعة من رؤساء الجن، يا سبعة افعلوا به كذا، اكسروا عظامه، اشربوا دمه، مثلوا به، ومن ذلك قول بعضهم:(خذوه يا جن الظهيرة يا جن العصر)، وهذا يوجد كثيراً في بعض الجهات الجنوبية، ومما يلتحق بهذا الأمر دعاء الأموات من الأنبياء والصالحين وغيرهم، ودعاء الملائكة والاستغاثة بهم، فهذا كله وأشباهه واقع من كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، جهلا منه وتقليداً لمن قبله، وربما سهل بعضهم في ذلك بقوله: هذا شيء يجري على اللسان، لا نقصده ولا نعتقده، وسألني أيضا: عن حكم مناكحة من عرف بهذه الأعمال، وذبائحهم والصلاة عليهم وخلفهم، وعن تصديق المشعوذين والعرافين، كمن يدعي معرفة المرض وأسبابه بمجرد إشرافه على شيء مما مس جسد المريض، كالعمامة والسراويل والخمار وأشباه ذلك.
والجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الثقلين ليعبدوه، دون كل ما سواه، وليخصوه بالدعاء والاستغاثة، والذبح والنذر وسائر العبادات، وقد بعث الرسل بذلك، وأمرهم به، وأنزل الكتب السماوية التي أعظمها القرآن الكريم ببيان ذلك والدعوة إليه، وتحذير الناس من الشرك بالله وعبادة غيره، وهذا هو أصل الأصول، وأساس الملة والدين، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله لأن معناها: لا معبود بحق إلا الله، فهي تنفي الألوهية
وهي العبادة عن غير الله، وتثبت العبادة لله وحده، دون ما سواه من سائر المخلوقات، والأدلة على هذا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، منها قوله عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الأسراء: 23] وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فبين سبحانه في هذه الآيات أنه خلق الثقلين لعبادته، وأنه قضى أن لا يعبد إلا هو سبحانه وتعالى، ومعنى قضى: أمر وأوصى، فهو سبحانه أمر عباده وأوصاهم في محكم القرآن، وعلى لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، ألا يعبدوا إلا ربهم، وأوضح جل وعلا أن الدعاء عبادة عظيمة، من استكبر عنها دخل النار، وأمر عباده أن يدعوه وحده، وأخبر أنه قريب يجيب دعوتهم، فوجب على جميع العباد أن يخصوا ربهم بالدعاء لأنه نوع من العبادة التي خلقوا لها، وأمروا بها وقال عز وجل:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
[الأنعام: 162 - 163] أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أن صلاته ونسكه، وهو الذبح، ومحياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له، فمن ذبح لغير الله فقد أشرك بالله، كما لو صلى لغير الله لأن الله سبحانه جعل الصلاة والذبح قرينين، وأخبر أنهما لله وحده لا شريك له، فمن ذبح لغير الله من الجن والملائكة والأموات وغيرهم، يتقرب إليهم بذلك، فهو كمن صلى لغير الله، وفي الحديث الصحيح يقول النبي عليه الصلاة والسلام:«لعن الله من ذبح لغير الله» وأخرج الإمام أحمد بسند حسن عن طارق بن شهاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا فقالوا لأحدهما قرب قال ليس عندي شيء أقربه قالوا قرب ولو ذباباً فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار وقالوا للآخر قرب قال ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عزوجل فضربوا عنقه فدخل الجنة» .
فإذا كان من تقرب إلى الصنم ونحوه بالذباب ونحوه يكون مشركاً، يستحق
دخول النار، فكيف بمن يدعو الجن والملائكة والأولياء ويستغيث بهم، وينذر لهم، ويتقرب إليهم بالذبائح يرجو بذلك حفظ ماله، أو شفاء مريضه، أو سلامة دوابه
وزرعه، أو يفعل ذلك خوفا من شر الجن، أو ما أشبه ذلك، فهذا وأشباهه أولى بأن يكون مشركا، مستحقا لدخول النار من هذا الرجل الذي قرب الذباب للصنم.
ومما ورد في ذلك أيضا قوله عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}
[الزمر: 2 - 3] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
أخبر الله سبحانه في هاتين الآيتين، أن المشركين اتخذوا من دونه أولياء من المخلوقات، يعبدونهم معه بالدعاء والخوف، والرجاء والذبح، والنذر ونحو ذلك، زاعمين أن أولئك الأولياء يقربون من عبدهم إلى الله ويشفعون لهم عنده، فأكذبهم الله سبحانه، وأوضح باطلهم، وسماهم كذبة وكفارا ومشركين، ونزه نفسه عن شركهم فقال جل وعلا:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فعلم بذلك أن من اتخذ ملكًا، أو نبياً أو جنياً أو شجراً أو حجراً يدعوه مع الله، ويستغيث به، ويتقرب إليه، بالنذر والذبح، رجاء شفاعته عند الله، وتقريبه لديه، أو رجاء شفاء المريض، أو حفظ المال، أو سلامة الغائب، أو ما شابه ذلك فقد وقع في هذا الشرك العظيم، والبلاء الوخيم، الذي قال الله فيه:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
والشفاعة إنما تحصل يوم القيامة لأهل التوحيد والإخلاص، لا لأهل الشرك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال «من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» وقال صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً» وكان المشركون الأولون يؤمنون بأن الله ربهم وخالقهم ورازقهم، وإنما تعلقوا على الأنبياء والأولياء والملائكة، والأشجار والأحجار وأشباه ذلك، يرجون شفاعتهم عند الله، وتقريبهم لديه كما
سبق في الآيات، فلم يعذرهم الله بذلك، ولم يعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أنكر الله عليهم في كتابه العظيم، وسماهم كفاراً ومشركين، وأكذبهم في زعمهم أن هذه الآلهة تشفع لهم، وتقربهم إلى الله زلفى وقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الشرك حتى يخلصوا العبادة لله وحده، عملا بقوله سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله أي حتى يخصوا الله بالعبادة، دون كل ما سواه.
وكان المشركون يخافون من الجن ويعوذون بهم، فأنزل الله في ذلك قوله:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] قال أهل التفسير في الآية الكريمة: معنى قوله: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي ذعرا وخوفا؛ لأن الجن تتعاظم في نفسها وتتكبر، إذا رأت الإنس يستعيذون بها، وعند ذلك يزدادون لهم إخافة وإذعاراً، حتى يكثروا من عبادتهم، واللجوء إليهم، وقد عوض الله المسلمين عن ذلك الاستعاذة به سبحانه، وبكلماته التامة، وأنزل في ذلك قوله عز وجل:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] وقوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1].
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك» ومما تقدم من الآيات والأحاديث، يعلم طالب النجاة، والراغب في الحفاظ على دينه، والسلامة من الشرك، دقيقه وجليله، أن التعلق بالأموات والملائكة والجن وغيرهم من المخلوقات، ودعاءهم والاستعاذة بهم ونحو ذلك من عمل أهل الجاهلية المشركين، ومن أقبح الشرك بالله سبحانه فالواجب تركه والحذر من ذلك والتواصي بتركه، والإنكار على من فعله، ومن عرف من الناس بهذه الأعمال الشركية لم تجز مناكحته، ولا أكل ذبيحته، ولا الصلاة عليه، ولا الصلاة خلفه، حتى يعلن التوبة إلى الله سبحانه من ذلك، ويخلص الدعاء والعبادة لله وحده والدعاء هو العبادة، بل مخها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الدعاء هو العبادة» وروي عنه صلى الله عليه وسلم في لفظ آخر أنه
قال: «الدعاء مخ العبادة» وقال سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221] فنهى الله سبحانه المسلمين عن التزوج بالمشركات، من عباد الأوثان والجن والملائكة وغير ذلك، حتى يؤمن بإخلاص العبادة لله وحده، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، واتباع سبيله، ونهى عن تزويج المشركين بالنساء المسلمات، حتى يؤمنوا بإخلاص العبادة لله وحده، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه.
وأخبر سبحانه أن الأمة المؤمنة خير من الحرة المشركة، ولو أعجبت من ينظر إليها، ويسمع كلامها، بجمالها وحسن كلامها، وأن العبد المؤمن خير من الحر المشرك، ولو أعجب سامعه والناظر إليه، بجماله وفصاحته وشجاعته وغير ذلك، ثم أوضح أسباب هذا التفضيل بقوله سبحانه:{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} يعني بذلك: المشركين والمشركات. لأنهم من دعاة النار بأقوالهم وأعمالهم وسيرتهم وأخلاقهم، أما المؤمنون والمؤمنات فهم من دعاة الجنة بأخلاقهم وأعمالهم وسيرتهم، فكيف يستوي هؤلاء وهؤلاء!
وقال جل وعلا في شأن المنافقين: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] فأوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المنافق والكافر لا يصلى عليهما؛ لكفرهما بالله ورسوله، وهكذا لا يصلى خلفهما، ولا يجعلان أئمة للمسلمين؛ لكفرهما وعدم أمانتهما، وللعداوة العظيمة التي بينهما وبين المسلمين، ولأنهما ليسا من أهل الصلاة والعبادة. لأن الكفر والشرك لا يبقى معهما عمل، نسأل الله العافية من ذلك وقال عز وجل في تحريم الميتة وذبائح المشركين:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}
[الأنعمام: 121] نهى عز وجل المسلمين عن أكل الميتة وذبيحة المشرك؛ لأنه نجس فذبيحته في حكم الميتة، ولو ذكر اسم الله عليها.
لأن التسمية منه باطلة لا أثر لها لأنها عبادة، والشرك يحبط العبادة ويبطلها، حتى يتوب المشرك إلى الله سبحانه، وإنما أباح عز وجل طعام أهل الكتاب في قوله سبحانه:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] لأنهم ينتسبون إلى دين سماوي، ويزعمون أنهم من أتباع موسى وعيسى، وإن كانوا في ذلك كاذبين وقد نسخ الله دينهم وأبطله ببعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة، ولكن الله جل وعلا أحل لنا طعام أهل الكتاب ونساءهم، لحكمة بالغة وأسرار مرعية، قد وضحها أهل العلم بخلاف المشركين من عباد الأوثان والأموات، من الأنبياء والأولياء وغيرهم؛ لأن دينهم لا أصل له، ولا شبهة فيه، بل هو باطل من أساسه، فكانت ذبيحة أهله ميتة، ولا يباح أكلها.
وأما قول الشخص لمن يخاطبه: (جن أصابك)(جن أخذك)(شيطان طار بك) وما أشبه ذلك، فهذا من باب السب والشتم، وذلك لا يجوز بين المسلمين، كسائر أنواع السب والشتم، وليس ذلك من باب الشرك، إلا أن يكون قائل ذلك يعتقد أن الجن يتصرفون في الناس بغير إذن الله ومشيئته، فمن اعتقد ذلك في الجن أو غيرهم من المخلوقات، فهو كافر بهذا الاعتقاد؛ لأن الله سبحانه هو المالك لكل شيء والقادر على كل شيء وهو النافع الضار ولا يوجد شيء إلا بإذنه، ومشيئته وقدره السابق، كما قال عز وجل آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس بهذا الأصل العظيم:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] فإذا كان سيد الخلق وأفضلهم عليه الصلاة والسلام، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، إلا ما شاء الله فكيف بغيره من الخلق! والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما سؤال العرافين والمشعوذين والمنجمين وأشباههم، ممن يتعاطى الأخبار عن المغيبات، فهو منكر لا يجوز، وتصديقهم أشد وأنكر، بل هو من شعب الكفر. لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً» رواه مسلم في صحيحه، وفي صحيحه أيضا عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إتيان الكهان وسؤالهم.
وأخرج أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم علي أنه قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فالواجب على المسلمين: الحذر من سؤال الكهنة والعرافين، وسائر المشعوذين، المشتغلين بالأخبار عن المغيبات، والتلبيس على المسلمين، سواء كان باسم الطب أو غيره، لما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وتحذيره منه، ويدخل في ذلك ما يدعيه بعض الناس باسم الطب، من الأمور الغيبية، إذا شم عمامة المريض، أو خمار المريضة، أو نحو ذلك، قال: هذا المريض أو هذه المريضة فعل كذا، وصنع كذا، من أمور الغيب التي ليس في عمامة المريض ونحوها دلالة عليها، وإنما القصد من ذلك التلبيس على العامة حتى يقولوا إنه عارف بالطب، وعارف بأنواع المرض وأسبابه، وربما أعطاهم شيئاً من الأدوية، فصادف الشفاء بقدر الله، فظنوا أنه بأسباب دوائه، وربما كان المرض بأسباب بعض الجن والشياطين، الذين يخدمون ذلك المدعي للطب، ويخبرونه عن بعض المغيبات التي يطلعون عليها فيعتمد على ذلك ويرضي الجن والشياطين بما يناسبهم من العبادة، فيرتفعون عن ذلك المريض، ويتركون ما قد تلبسوا به معه من الأذى، وهذا شيء معروف عن الجن والشياطين ومن يستخدمهم.
فالواجب على المسلمين: الحذر من ذلك، والتواصي بتركه، والاعتماد على الله سبحانه، والتوكل عليه في كل الأمور ولا بأس بتعاطي الرقى الشرعية والأدوية المباحة، والعلاج عند الأطباء الذين يستعملون الكشف على المريض، والتأكد من مرضه، بالأسباب الحسية والمعقولة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله» وقال صلى الله عليه وسلم: «لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله» وقال صلى الله عليه وسلم: «عباد الله تداووا ولا تداووا بحرام» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فنسأل الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يشفي قلوبهم وأبدانهم، من كل سوء، وأن يجمعهم على الهدى، وأن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن، ومن طاعة الشيطان وأوليائه، إنه على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
الرسالة الثالثة في حكم التعبد بالأوراد البدعية والشركية
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ( ...... ) وفقه الله لكل خير آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد وصل إلي كتابكم الكريم وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة أنه يوجد في بلادكم أناس متمسكون بأوراد ما أنزل الله بها من سلطان، منها ما هو بدعي، ومنها ما هو شركي، وينسبون ذلك إلى أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، ويقرؤون تلك الأوراد في مجالس الذكر، أو في المساجد بعد صلاة المغرب، زاعمين أنها قربة إلى الله، كقولهم: بحق الله، رجال الله، أعينونا بعون الله، وكونوا عوننا بالله، وكقولهم: يا أقطاب، ويا أسياد، أجيبوا يا ذوي الأمداد فينا، واشفعوا لله، هذا عبدكم واقف، وعلى بابكم عاكف، ومن تقصيره خائف، أغثنا يا رسول الله وما لي غيركم أذهب، ومنكم يحصل المطلب، وأنتم أهل الله، بحمزة سيد الشهداء، ومن منكم لنا مددا، أغثنا يا رسول الله، وكقولهم: اللهم صل على من جعلته سببا لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقا لأنوارك الرحمانية، فصار نائباً عن الحضرة الربانية، وخليفة أسرارك الذاتية، ورغبتكم في بيان ما هو بدعة، وما هو شرك، وهل تصح الصلاة خلف الإمام الذي يدعوا بهذا الدعاء، كل ذلك كان معلوماً؟.
والجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم وفقك الله، أن الله سبحانه إنما خلق الخلق وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليعبد وحده لا شريك له، دون كل ما سواه، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
والعبادة: هي طاعته سبحانه وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله وعن إيمان بالله ورسوله، وإخلاص لله في العمل، مع غاية الحب لله.
وكمال الذل له وحده كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الأسراء: 23] أي أمر وأوصى بأن يعبد وحده وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 2 - 5] أبان
سبحانه بهذه الآيات أنه هو المستحق لأن يعبد وحده، ويستعان به وحده، وقال عز وجل:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3] وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14] وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على: وجوب إفراد الله بالعبادة، ومعلوم أن الدعاء بأنواعه من العبادة، فلا يجوز لأحد من الناس أن يدعو إلا ربه، ولا يستعين ولا يستغيث إلا به، عملا بهذه الآيات الكريمة، وما جاء في معناها وهذا فيما عدا الأمور العادية، والأسباب الحسية، التي يقدر عليها المخلوق الحي الحاضر، فإن تلك ليست من العبادة، بل يجوز بالنص والإجماع أن يستعين الإنسان بالإنسان الحي القادر، في الأمور العادية التي يقدر عليها، كأن يستعين به، أو يستغيث به في دفع شر ولده أو خادمه أو كلبه وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الإنسان بالإنسان الحي الحاضر القادر، أو الغائب بواسطة الأسباب الحسية كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته، أو إصلاح سيارته، أو ما أشبه ذلك، ومن هذا الباب قول الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15].
ومن ذلك استغاثة الإنسان بأصحابه في الجهاد والحرب، ونحو ذلك، فأما الاستغاثة بالأموات والجن والملائكة، والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر، وهو من جنس عمل المشركين الأولين مع آلهتهم كالعزى واللات وغيرهما، وهكذا الاستغاثة والاستعانة بمن يعتقد فيهم الولاية من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله، كشفاء المرضى، وهداية القلوب، ودخول الجنة، والنجاة من النار وأشباه ذلك، والآيات السابقات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث، كلها تدل على وجوب توجيه القلوب إلى الله في جميع الأمور، وإخلاص العبادة لله وحده.
لأن العباد خلقوا لذلك، وبه أمروا كما سبق في الآيات، وكما في قوله سبحانه:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً» متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:«من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار» رواه البخاري، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس
رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» وفي لفظ «فادعهم إلي أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» وفي رواية للبخاري: «فادعهم إلى أن يوحدوا الله» وفي صحيح مسلم عن طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا التوحيد هو أصل دين الإسلام، وهو أساس الملة، وهو رأس الأمر، وهو أهم الفرائض وهو الحكمة في خلق الثقلين والحكمة في إرسال الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام، كما تقدمت الآيات الدالة على ذلك، ومنها قوله سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ومن الأدلة على ذلك أيضاً قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال عز وجل عن نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام، أنهم قالوا لقومهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وهذه دعوة الرسل جميعاً، كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان، وقد اعترف أعداء الرسل بأن الرسل أمروهم بإفراد الله بالعبادة، وخلع الآلهة المعبودة من دونه، كما قال عز وجل في قصة عاد، أنهم قالوا لهود عليه الصلاة والسلام:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] وقال سبحانه وتعالى عن قريش لما دعاهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلي إفراد الله بالعبادة، وترك ما يعبدون من دونه من الملائكة، والأولياء والأصنام والأشجار وغير ذلك {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] وقال عنهم سبحانه وتعالى في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35 - 36] والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، ومما ذكرناه من الآيات والأحاديث، يتضح لك- وفقني الله وإياك للفقه في الدين، والبصيرة بحق رب العالمين- أن هذه الأدعية وأنواع الاستغاثة التي بينتها في سؤالك، كلها من أنواع الشرك الأكبر لأنها عبادة لغير الله، وطلب لأمور لا يقدر عليها سواه، من الأموات والغائبين، وذلك أقبح من شرك الأولين؛ لأن الأولين إنما يشركون في حال الرخاء.
وأما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة؛ لأنهم يعلمون أنه سبحانه هو القادر على تخليصهم من الشدة دون غيره، كما قال تعالى في كتابه المبين عن أولئك المشركين:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] وقال سبحانه وتعالى يخاطبهم في آية أخرى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الأسراء: 67].
فإن قال قائل من هؤلاء المشركين المتأخرين: إنا لا نقصد أن أولئك يفيدون بأنفسهم، ويشفون مرضانا بأنفسهم، أو ينفعونا بأنفسهم، أو يضرونا بأنفسهم، وإنما نقصد شفاعتهم إلى الله في ذلك؟
فالجواب: أن يقال له: إن هذا هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم، وليس مرادهم أن آلهتهم تخلق أو ترزق، أو تنفع أو تضر بنفسها، فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن، وأنهم أرادوا شفاعتهم وجاههم، وتقريبهم إلى الله زلفى، كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فرد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السموات ولا في الأرض شفيعاً عنده على الوجه الذي يقصده المشركون، وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء، وقال تعالى في سورة الزمر:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 1 - 2]، فأبان سبحانه أن العبادة له وحده، وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا؛ لأن أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له، أمر للجميع .. ومعنى الدين هنا هو العبادة، والعبادة هي طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما سلف، ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة، والخوف، والرجاء والذبح والنذر، كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك، مما أمر الله به ورسوله، ثم قال عز وجل بعد ذلك:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أي يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فرد الله عليهم بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ
كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.
وهذا هو مقصد الكفار قديماً وحديثاً، وقد أبطل الله ذلك بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، وكفّرهم بما صرفوا لها من العبادة، وبذلك يعلم كل من له أدنى تمييز أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم باتخاذهم الأنبياء والأولياء، والأشجار والأحجار وغير ذلك من المخلوقات شفعاء بينهم وبين الله واعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم من دون إذنه سبحانه ولا رضاه، كما تشفع الوزراء عند الملوك فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء، وقالوا: كما أنه من له حاجة إلى الملك والزعيم يتشفع إليه بخواصه ووزرائه، فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه سبحانه لا شبيه له، ولا يقاس بخلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وهو أرحم الراحمين، لا يخشى أحدًا ولا يخافه، ولأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده، والمتصرف فيهم كيف يشاء، بخلاف الملوك والزعماء فإنهم ما يقدرون على كل شيء فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه، من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته، فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم، أما الرب عز وجل فهو سبحانه غني عن جميع خلقه، وهو أرحم بهم من أمهاتهم، وهو الحاكم العدل، يضع الأشياء في مواضعها، على مقتضى حكمته وعلمه وقدرته، فلا يجوز أن يقاس بخلقه بوجه من الوجوه، ولهذا أوضح سبحانه في كتابه: أن المشركين قد أقروا بأنه الخالق الرازق المدبر، وأنه هو الذي يجيب المضطر، ويكشف السوء، ويحيي ويميت، إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه، وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده، كما قال عز وجل:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وسبق ذكر الآيات الدالة، على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم، إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده، كقوله سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وما جاء في معناها من الآيات وبين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة، فقال تعالى في سورة البقرة:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وقال في سورة النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]. وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر، وإنما يرضى منهم الشكر، والشكر هو توحيده والعمل بطاعته، فقال تعالى في سورة الزمر:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال «من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» أو قال «من نفسه» .
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وجميع ما ذكرنا من الآيات والأحاديث كله يدل على أن العبادة حق الله وحده، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، لا للأنبياء ولا لغيرهم، وأن الشفاعة ملك لله عز وجل، كما قال سبحانه:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] الآية، ولا يستحقها أحد إلا بعد إذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع فيه، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما سبق.
وأما المشركون فلا حظ لهم في الشفاعة، كما قال تعالي:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] والظلم عند الإطلاق هو الشرك كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
أما ما ذكرته في السؤال من قول بعض الصوفية في المساجد وغيرها: اللهم صل على من جعلته سبباً لانشقاق أسرارك الجبروتية، وانفلاقا لأنوارك الرحمانية، فصار نائباً عن الحضرة الربانية، وخليفة أسرارك الذاتية .. إلخ
والجواب:
أن يقال: إن هذا الكلام وأشباهه من جملة التكلف والتنطع، الذي حذر منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هلك المتنطعون» قالها ثلاثا، قال إلامام الخطابي رحمه الله: المتنطع: المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
وقال أبو السعادات ابن الأثير: هم المتعمقون المغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً. وبما ذكره هذان الإمامان من أئمة اللغة، يتضح لك ولكل من له أدنى بصيرة، أن هذه الكيفية في الصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جملة التكلف والتنطع المنهي عنه، والمشروع للمسلم في هذا الباب أن يتحرى الكيفية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة والسلام عليه، وفي ذلك غنية عن غيره. ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين، واللفظ للبخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال «قولوا اللهم صل علي محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال بشير بن سعد: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت ثم قال «قولوا اللهم صل على محمد وعلى
آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم».
فهذه الألفاظ وأشباهها وغيرها مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ينبغي للمسلم أن يستعملها في صلاته وسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بما يليق أن يستعمل في حقه، كما أنه أعلم الناس بما ينبغي أن يستعمل في حق ربه من الألفاظ أما الألفاظ المتكلفة والمحدثة، والألفاظ المحتملة لمعنى غير صحيح كالألفاظ التي ذكرت في السؤال، فإنه لا ينبغي استعمالها.
لما فيها من التكلف، ولكونها قد تفسر بمعان باطلة، مع كونها مخالفة للألفاظ التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها أمته، وهو أعلم الخلق وأنصحهم وأبعدهم عن التكلف، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة في بيان حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك، والفرق بين ما كان عليه المشركون الأولون، والمشركون المتأخرون في هذا الباب وفي بيان كيفية الصلاة المشروعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية ومقنع لطالب الحق أما من لا رغبة له في معرفة الحق فهذا تابع لهواه، قال الله عز وجل:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] فبين سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الناس بالنسبة إلى ما بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق قسمان:
أحدهما: مستجيب لله ولرسوله، والثاني: تابع لهواه، وأخبر سبحانه أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.
فنسأل الله عز وجل العافية من اتباع الهوى، كما نسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والمعظمين لشرعه، والمحذرين من كل ما يخالف شرعه من البدع والأهواء إنه جواد كريم، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
• • •
التحذير من البدع
(1)
الرسالة الأولى في حكم الاحتفال بالموالد النبوية وغيرها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، والقيام له في أثناء ذلك، وإلقاء السلام عليه، وغير ذلك مما يفعل في الموالد.
والجواب أن يقال: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه ممن بعدهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أي: مردود عليه، وقال في حديث آخر:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» .
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع، والعمل بها، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال عز وجل {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وقال سبحانه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]
(1)
صدرت ضمن رسالة طبعتها الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، طبعت عدة طبعات.
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] والآيات في هذا المعنى كثيرة وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة، ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم» رواه مسلم في صحيحه.
ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً ونصحاً، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين وقد جاء في معناهما أحاديث أخر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة:«أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلاله» رواه الإمام مسلم في صحيحه.
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها، عملا بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات، كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاختلاط النساء بالرجال، واستعمال آلات الملاهي، وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر، وظنوا أنها من البدع الحسنة.
والقاعدة الشرعية: رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيْلاً} [النساء: 59] وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].
وقد رددنا هذه المسألة وهي: الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه، فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا، وأمرنا باتباع الرسول فيه.
وقد رددنا ذلك- أيضا- إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله، ولا أمر به، ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق، وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع المحدثات، التي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] الآية، ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد- مع كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى، كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات، وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك، وهو الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأولياء ودعائه والاستغاثة به، وطلبه المدد، واعتقاد أنه يعلم الغيب، ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس، حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم
والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» خرجه البخاري في صحيحه، من حديث عمر رضي الله عنه. ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة، ويدافع عنها، ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجمع والجماعات، ولا يرفع بذلك رأسًا، ولا يرى أنه أتى منكراً عظيماً، ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة، وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي، نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين.
ومن ذلك: أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد، ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل، وأقبح الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنين:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15 - 16] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفع» عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، فهذه الآية الكريمة، والحديث الشريف، وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث، كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات، إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم، فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور، والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
أما الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات، ومن الأعمال الصالحات، كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً» وهي مشروعة في جميع الأوقات، ومتأكدة في آخر كل صلاة، بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة، وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة منها ما بعد الأذان،
وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وفي يوم الجمعة وليلتها، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة.
والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يمن على الجميع بلزوم السنة، والحذر من البدعة، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
• • •
الرسالة الثانية: حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فلا ريب أن الإسراء والمعراج من آيات الله العظيمة الدالة على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى عظم منزلته عند الله عز وجل، كما أنها من الدلائل على قدرة الله الباهرة، وعلى علوه سبحانه وتعالى على جميع خلقه، قال الله سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الأسراء: 1].
وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السماء، وفتحت له أبوابها حتى جاوز السماء السابعة، فكلمه ربه سبحانه بما أراد، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان الله سبحانه فرضها أولا خمسين صلاة، فلم يزل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يراجعه ويسأله التخفيف، حتى جعلها خمساً، فهي خمس في الفرض، وخمسون في الأجر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه.
وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج، لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة رضي الله عنهم إلينا، فقد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يفرطوا في شيء من الدين، بل هم السابقون إلى كل خير، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعاً لكانوا أسبق الناس إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أنصح الناس للناس، وقد بلغ الرسل غاية البلاغ، وأدى الأمانة فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الله لم يغفله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه، فلما لم يقع شيء من ذلك، علم أن الاحتفال بها، وتعظيمها ليسا من الإسلام في شيء وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتم عليها النعمة، وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله
قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] وقال عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21].
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: التحذير من البدع، والتصريح بأنها ضلالة، تنبيها للأمة على عظم خطرها، وتنفيراً لهم من اقترافها، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله- عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» زاد النسائي بسند جيد: «وكل ضلالة في النار» وفي السنن عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن السلف الصالح بعدهم، التحذير من البدع والترهيب منها، وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم، وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقول الله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] والمخالفة الصريحة لأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام المحذرة من البدع والمنفرة منها.
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة كفاية ومقنع لطالب الحق في إنكار هذه البدعة: أعني بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، والتحذير منها، وأنها ليست من دين الإسلام في شيء.
ولما أوجب الله من النصح للمسلمين، وبيان ما شرع الله لهم من الدين، وتحريم كتمان العلم، رأيت تنبيه إخواني المسلمين على هذه البدعة، التي قد فشت في كثير من الأمصار، حتى ظنها بعض الناس من الدين، والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، ويمنحهم الفقه في الدين، ويوفقنا وإياهم للتمسك بالحق والثبات عليه، وترك ما خالفه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
•••
الرسالة الثالثة: حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد نبي التوبة والرحمة.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية من سورة المائدة، وقال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] الآية من سورة الشورى وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الجمعة:«أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليها نعمته، ولم يتوف نبيه عليه الصلاة والسلام إلا بعدما بلغ البلاغ المبين، وبين للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال.
وأوضح صلى الله عليه وسلم أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى دين الإسلام من أقوال أو أعمال، فكله بدعة مردود على من أحدثه، ولو حسن قصده، وقد عرف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وهكذا علماء الإسلام بعدهم، فأنكروا البدع وحذروا منها، كما ذكر ذلك كل من صنف في تعظيم السنة وإنكار البدعة كابن وضاح، والطرطوشي، وأبي شامة وغيرهم.
ومن البدع التي أحدثها بعض الناس: بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها، فكله موضوع، كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم، وسيأتي ذكر بعض كلامهم إن شاء الله وورد فيها أيضا آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم، والذي أجمع عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة، وبعضها موضوع، وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب، في كتابه:(لطائف المعارف)
وغيره، والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلها بأدلة صحيحة، أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان، فليس له أصل صحيح حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة.
وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام: أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وأنا أنقل لك: أيها القارئ، ما قاله بعض أهل العلم في هذه المسألة، حتى تكون على بينة في ذلك، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب: رد ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله- عز وجل، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حكما به أو أحدهما فهو الشرع الواجب الاتباع، وما خالفهما وجب اطراحه، وما لم يرد فيهما من العبادات فهو بدعة لا يجوز فعله، فضلا عن الدعوة إليه وتحبيذه، كما قال سبحانه في سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [النساء: 10] الآية من سورة الشورى، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، الآية من سورة آل عمران، وقال عز وجل:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي نص في وجوب رد مسائل الخلاف إلى الكتاب والسنة، ووجوب الرضى بحكمهما، وأن ذلك هو مقتضى الإيمان، وخير للعباد في العاجل والآجل، وأحسن تأويلا: أي عاقبة.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه: (لطائف المعارف) في هذه المسألة- بعد كلام سبق- ما نصه: (وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام؛ كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم، يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان، اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم، ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، منهم: عطاء، وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم، عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد. كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخرون ويتكحلون، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى، إلى أن قال: ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان: من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد، فإنه (في رواية) لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحبها (في رواية)، لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود لذلك وهو من التابعين، فكذلك قيام ليلة النصف، لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام)، انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في ليلة النصف من شعبان، وأما ما اختاره الأوزاعي رحمه الله من استحباب قيامها للأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول، فهو غريب وضعيف. لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً، لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله، سواء فعله مفردا أو في جماعة، وسواء أسره أو أعلنه. لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها.
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه: (الحوادث والبدع) ما نصه: (وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم، قال: ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلاً على ما سواها).
وقيل لابن أبي مليكة: إن زيادا النميري يقول: (إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر)، فقال:(لو سمعته وبيدي عصا لضربته) وكان زياد قاصاً، انتهى المقصود.
وقال العلامة: الشوكاني رحمه الله في: (الفوائد المجموعة) ما نصه: (حديث: يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات قضى الله له كل حاجة إلخ وهو موضوع، وفي ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الثواب ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه، ورجاله مجهولون، وقد روي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل، وقال في: (المختصر): حديث صلاة نصف شعبان باطل، ولابن حبان من حديث علي:(إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها)، ضعيف وقال في:(اللآلئ): مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات مع طول فضله، للديلمي وغيره موضوع، وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء قال: واثنتا عشرة ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة موضوع وأربع عشرة ركعة موضوع.
وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء كصاحب (الإحياء) وغيره وكذا من المفسرين، وقد رويت صلاة هذه الليلة- أعني: ليلة النصف من شعبان على أنحاء مختلفة كلها باطلة موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، ونزول الرب ليلة النصف إلي سماء الدنيا، وأنه يغفر لأكثر من عدة شعر غنم كلب، فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة، على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع، كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها، لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة، على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه) انتهى المقصود.
وقال الحافظ العراقي: (حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه.
وقال الإمام النووي في كتاب: (المجموع): (الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء، ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يغتر بذكرهما في
كتاب: (قوت القلوب)، و (إحياء علوم الدين)، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما، فإنه غالط في ذلك).
وقد صنف الشيخ الإمام: أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد، وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير جداً، ولو ذهبنا ننقل كل ما اطلعنا عليه من كلام في هذه المسألة، لطال بنا الكلام، ولعل فيما ذكرنا كفاية ومقنعاً لطالب الحق.
ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم، يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وما جاء في معناها من الآيات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وما جاء في معناه من الأحاديث، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يومها بالصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» فلو كان تخصيص شيء من الليالي، بشيء من العبادة جائزا، لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها. لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس، بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي، دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى، لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة، إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص.
ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها، نبه النبي
صلى الله عليه وسلم على ذلك، وحث الأمة على قيامها، وفعل ذلك بنفسه، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» فلو كانت ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب أو ليلة الإسراء
والمعراج يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة، لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إليه، أو فعله بنفسه، ولو وقع شيء من ذلك لنقله الصحابة رضي الله عنهم إلى الأمة، ولم يكتموه عنهم، وهم خير الناس، وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم، وقد عرفت آنفا من كلام العلماء أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب، ولا في ليلة النصف من شعبان، فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام، وهكذا تخصيصها بشيء من العبادة، بدعة منكرة، وهكذا ليلة سبع وعشرين من رجب، التي يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج، لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادة، كما لا يجوز الاحتفال بها، للأدلة السابقة، هذا لو عُلِمَت، فكيف والصحيح من أقوال العلماء أنها لا تعرف، وقول من قال: أنها ليلة سبع وعشرين من رجب، قول باطل لا أساس له في الأحاديث الصحيحة، ولقد أحسن من قال: وخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بالسنة والثبات عليها، والحذر مما خالفها، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرسالة الرابعة: تنبيه هام على كذب الوصية المنسوبة
(1)
للشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين حفظهم الله بالإسلام، وأعاذنا وإياهم من شر مفتريات الجهلة الطغام، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد اطلعت على كلمة منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف بعنوان: (هذه وصية من المدينة المنورة عن الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف) قال فيها: (كنت ساهراً ليلة الجمعة أتلو القرآن الكريم، وبعد تلاوة قراءة أسماء الله الحسنى، فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم، فرأيت صاحب الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى بالآيات القرآنية، والأحكام الشريفة. رحمة بالعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يا شيخ أحمد، قلت لبيك يا رسول الله، يا أكرم خلق الله، فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة، ولم أقدر أن أقابل ربي، ولا الملائكة. لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفاً على غير دين الإسلام، ثم ذكر بعض ما وقع فيه الناس من المعاصي، ثم قال: فهذه الوصية رحمة بهم من العزيز الجبار. ثم ذكر بعض أشراط الساعة، إلى أن قال: فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه الوصية. لأنها منقولة بقلم القدر من اللوح المحفوظ، ومن يكتبها ويرسلها من بلد، إلى بلد، ومن محل إلى محل، بني له قصر في الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن كتبها وكان فقيراً أغناه الله، أو كان مديوناً قضى الله دينه، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية، ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة، وقال: والله العظيم ثلاثاً هذه حقيقة، وإن كنت كاذباً أخرج من الدنيا على غير الإسلام، ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار، ومن يكذب بها كفر)، هذه خلاصة ما في الوصية المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعنا هذه الوصية المكذوبة مرات كثيرة منذ سنوات متعددة، تنشر بين الناس فيما بين وقت وآخر، وتروج بين الكثير من العامة، وفي ألفاظها اختلاف، وكاذبها يقول: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فحمله هذه الوصية، وفي هذه النشرة الأخيرة
(1)
نشرت هذه الوصية في كراسة برقم 17 عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1402 هـ.
التي ذكرنا لك أيها القارئ زعم المفتري فيها أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم عندما تهيأ للنوم، فالمعنى: أنه رآه يقظة!
زعم هذا المفتري في هذه الوصية أشياء كثيرة، هي من أوضح الكذب، وأبين الباطل، سأنبهك عليها قريباً في هذه الكلمة إن شاء الله ولقد نبهت عليها في السنوات الماضية، وبينت للناس أنها من أوضح الكذب، وأبين الباطل، فلما اطلعت على هذه النشرة الأخيرة ترددت في الكتابة عنها، لظهور بطلانها، وعظم جراءة مفتريها على الكذب، وما كنت أظن أن بطلانها يروج على من له أدنى بصيرة، أو فطرة سليمة، ولكن أخبرني كثير من الإخوان أنها قد راجت على كثير من الناس، وتداولوها بينهم وصدقها بعضهم، فمن أجل ذلك رأيت أنه يتعين على أمثالي الكتابة عنها، لبيان بطلانها، وأنها مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتر بها أحد، ومن تأملها من ذوي العلم والإيمان، أو ذوي الفطرة السليمة والعقل الصحيح، عرف أنها كذب وافتراء من وجوه كثيرة.
ولقد سألت بعض أقارب الشيخ أحمد المنسوبة إليه هذه الفرية، عن هذه الوصية، فأجابني: بأنها مكذوبة على الشيخ أحمد، وأنه لم يقلها أصلاً، والشيخ أحمد المذكور قد مات من مدة، ولو فرضنا أن الشيخ أحمد المذكور، أو من هو أكبر منه، زعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم أو اليقظة، وأوصاه بهذه الوصية، لعلمنا يقيناً أنه كاذب، أو أن الذي قال له ذلك شيطان، ليس هو الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوه كثيرة منها:
1 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرى في اليقظة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ومن زعم من جهلة الصوفية أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أو أنه يحضر المولد أو ما شابه ذلك، فقد غلط أقبح الغلط، ولبس عليه غاية التلبيس، ووقع في خطأٍ عظيم وخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم. لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا، ومن قال خلاف ذلك فهو كاذب كذباً بيناً، أو غالط ملبس عليه، لم يعرف الحق الذي عرفه السلف الصالح، ودرج عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، قال الله تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15 - 16] وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفع» والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
2 -
الوجه الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول خلاف الحق، لا في حياته ولا في وفاته، وهذه الوصية تخالف شريعته مخالفة ظاهرة، من وجوه كثيرة- كما يأتي- وهو صلى الله عليه وسلم قد يرى في النوم، ومن رآه في المنام على صورته الشريفة فقد رآه؛ لأن الشيطان لا يتمثل في صورته، كما جاء بذلك الحديث الصحيح الشريف، ولكن الشأن كل الشأن في إيمان الرائي وصدقه وعدالته وضبطه وديانته وأمانته، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صورته أو في غيرها.
ولو جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث قاله في حياته، من غير طريق الثقات العدول الضابطين لم يعتمد عليه، ولم يحتج به، أو جاء من طريق الثقاة الضابطين، ولكنه يخالف رواية من هو أحفظ منهم، وأوثق مخالفة لا يمكن معها الجمع بين الروايتين، لكان أحدهما: منسوخاً لا يعمل به، والثاني: ناسخ يعمل به، حيث أمكن ذلك بشروطه، وإذا لم يمكن الجمع ولا النسخ وجب أن تطرح رواية من هو أقل حفظاً، وأدنى عدالة، والحكم عليها بأنها شاذة لا يعمل بها.
فكيف بوصية لا يعرف صاحبها، الذي نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعرف عدالته وأمانته، فهي والحالة هذه حقيقة بأن تطرح ولا يلتفت إليها، وإن لم يكن فيها شيء يخالف الشرع، فكيف إذا كانت الوصية مشتملة على أمور كثيرة تدل على بطلانها، وأنها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتضمنة لتشريع دين لم يأذن به الله!
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار» وقد قال مفتري هذه الوصية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وكذب عليه كذباً صريحاً خطيراً، فما أحراه بهذا الوعيد العظيم وما أحقه به إن لم يبادر بالتوبة، وينشر للناس كذب هذه الوصية على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من نشر باطلاً بين الناس ونسبه إلى الدين لم تصح توبته منه إلا بإعلانها وإظهارها، حتى يعلم الناس رجوعه عن كذبه، وتكذيبه لنفسه؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ
اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160] فأوضح سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة: أن من كتم شيئاً من الحق لم تصح توبته من ذلك إلا بعد الإصلاح والتبيين، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة ببعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وما أوحى الله إليه من الشرع الكامل، ولم يقبضه إليه إلا بعد الإكمال والتبيين، كما قال عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3].
ومفتري هذه الوصية قد جاء في القرن الرابع عشر، يريد أن يلبس على الناس ديناً جديداً، يترتب عليه دخول الجنة لمن أخذ بتشريعه، وحرمان الجنة ودخول النار لمن لم يأخذ بتشريعه، ويريد أن يجعل هذه الوصية التي افتراها أعظم من القرآن وأفضل، حيث افترى فيها: أن من كتبها وأرسلها من بلد إلى بلد، أو من محل إلى محل بني له قصر في الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
وهذا من أقبح الكذب ومن أوضح الدلائل على كذب هذه الوصية، وقلة حياء مفتريها، وعظم جرأته على الكذب؛ لأن من كتب القرآن الكريم وأرسله من بلد إلي بلد، أو من محل إلى محل، لم يحصل له هذا الفضل إذا لم يعمل بالقرآن الكريم، فكيف يحصل لكاتب هذه الفرية وناقلها من بلد إلى بلد. ومن لم يكتب القرآن ولم يرسله من بلد إلى بلد، لم يحرم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مؤمناً به، تابعاً لشريعته، وهذه الفرية الواحدة في هذه الوصية، تكفي وحدها للدلالة على بطلانها وكذب ناشرها، ووقاحته وغباوته وبعده عن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى.
وفي هذه الوصية- سوى ما ذكر- أمور أخرى كلها تدل على بطلانها وكذبها، ولو أقسم مفتريها ألف قسم، أو أكثر على صحتها، ولو دعا على نفسه بأعظم العذاب وأشد النكال، على أنه صادق لم يكن صادقاً، ولم تكن صحيحة، بل هي والله ثم والله من أعظم وأقبح الباطل، ونحن نشهد الله سبحانه، ومن حضرنا من الملائكة، ومن اطلع على هذه الكتابة من المسلمين- شهادة نلقى بها ربنا عز وجل: أن هذه
الوصية كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخزى الله من كذبها وعامله بما يستحق.
ويدل على كذبها وبطلانها، سوى ما تقدم أمور كثيرة:
الأول قوله فيها: (لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفاً علي غير دين الإسلام). لأن هذا من علم الغيب، والرسول صلى الله عليه وسلم قد انقطع عنه الوحي بعد وفاته، وهو في حياته لا يعلم الغيب فكيف بعد وفاته. لقول الله سبحانه:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] الآية وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يذاد رجال عن حوضي يوم القيامة، فأقول يا رب أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]» .
الثاني: من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية وأنها كذب، قوله فيها:(من كتبها وكان فقيراً أغناه الله، أو مديوناً قضى الله دينه، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية) إلى آخره، وهذا من أعظم الكذب، وأوضح الدلائل على كذب مفتريها، وقلة حيائه من الله ومن عباده؛ لأن هذه الأمور الثلاثة لا تحصل بمجرد كتب القران الكريم، فكيف تحصل لمن كتب هذه الوصية الباطلة، وإنما يريد هذا الخبيث التلبيس على الناس، وتعليقهم بهذه الوصية حتى يكتبوها ويتعلقوا بهذا الفضل المزعوم، ويتركوا الأسباب التي شرعها الله لعباده، وجعلها موصلة إلى الغنى. وقضاء الدين، ومغفرة الذنوب، فنعوذ بالله من أسباب الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.
الثالث: من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية، قوله فيها:(ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة) وهذا أيضا من أقبح الكذب، ومن أبين الأدلة على بطلان هذه الوصية، وكذب مفتريها، كيف يجوز في عقل عاقل، أن يكتب هذه الوصية التي جاء بها رجل مجهول في القرن الرابع عشر، يفتريها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعم أن من لم يكتبها يسود وجهه في الدنيا والآخرة، ومن كتبها كان غنياً بعد الفقر، وسليماً من الدَّيْن بعد تراكمه عليه، ومغفوراً له ما جناه
من الذنوب!! سبحانك هذا بهتان عظيم، وإن الأدلة والواقع يشهدان بكذب هذا المفتري، وعظم جرأته على الله، وقلة حيائه من الله ومن الناس، فهؤلاء أمم كثيرة لم يكتبوها، فلم تسود وجوههم، وههنا جمع غفير لا يحصيهم إلا الله قد كتبوها مرات كثيرة، فلم يقض دينهم، ولم يزل فقرهم، فنعوذ بالله من زيغ القلوب، ورين الذنوب، وهذه صفات وجزاءات لم يأت بها الشرع الشريف لمن كتب أفضل كتاب وأعظمه وهو القرآن الكريم، فكيف تحصل لمن كتب وصية مكذوبة مشتملة على أنواع من الباطل، وجمل كثيرة من أنواع الكفر، سبحان الله ما أحلمه على من اجترأ عليه بالكذب.
الأمر الرابع: من الأمور الدالة على أن هذه الوصية من أبطل الباطل، وأوضح الكذب قوله فيها:(ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار، ومن كذب بها كفر)، وهذا أيضا من أعظم الجرأة على الكذب، ومن أقبح الباطل، يدعو هذا المفتري جميع الناس، إلى أن يصدقوا بفريته، ويزعم- أنهم بذلك ينجون من عذاب النار، وأن من كذب بها يكفر، لقد أعظم والله هذا الكذاب على الله الفرية، وقال- والله- غير الحق إن من صدق بها هو الذي يستحق أن يكون كافراً لا من كذب بها. لأنها فرية وباطل وكذب لا أساس له من الصحة، ونحن نشهد الله على أنها كذب، وأن مفتريها كذاب، يريد أن يشرع للناس ما لم يأذن به الله، ويدخل في دينهم ما ليس منه، والله قد أكمل الدين وأتمه لهذه الأمة من قبل هذه الفرية بأربعة عشر قرناً فانتبهوا: أيها القراء والإخوان، وإياكم والتصديق بأمثال هذه المفتريات، وأن يكون لها رواج فيما بينكم، فإن الحق عليه نور لا يلتبس على طالبه، فاطلبوا الحق بدليله، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، ولا تغتروا بحلف الكذابين، فقد حلف إبليس اللعين لأبويكم آدم وحواء، على أنه لهما من الناصحين، وهو أعظم الخائنين وأكذب الكذابين، كما حكى الله عنه ذلك في سورة الأعراف حيث قال سبحانه:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] فاحذروه واحذروا أتباعه من المفترين، فكم له ولهم من الأيمان الكاذبة، والعهود الغادرة، والأقوال المزخرفة للإغواء والتضليل! عصمني الله وإياكم وسائر المسلمين من شر الشياطين، وفتن المضلين، وزيغ الزائغين، وتلبيس أعداء الله المبطلين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويلبسوا على الناس دينهم، والله متم نوره، وناصر دينه، ولو كره أعداء الله من الشياطين وأتباعهم من الكفار والملحدين.
وأما ما ذكره هذا المفتري من ظهور المنكرات، فهو أمر واقع، والقرآن الكريم والسنة المطهرة قد حذرا منها غاية التحذير، وفيهما الهداية والكفاية، ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يمن عليهم باتباع الحق، والاستقامة عليه والتوبة إلى الله سبحانه من سائر الذنوب، فإنه التواب الرحيم القادر على كل شيء.
وأما ما ذكر عن شروط الساعة، فقد أوضحت الأحاديث النبوية ما يكون من أشراط الساعة، وأشار القرآن الكريم إلى بعض ذلك، فمن أراد أن يعلم ذلك وجده في محله من كتب السنة، ومؤلفات أهل العلم والإيمان، وليس بالناس حاجة إلى بيان مثل هذا المفتري وتلبيسه، ومزجه الحق بالباطل وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلي يوم الدين.
حكم السحر والكهانة وما يتعلق بها
(1)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد فنظراً لكثرة المشعوذين في الآونة الأخيرة ممن يدعون الطب ويعالجون عن طريق السحر أو الكهانة وانتشارهم في بعض البلاد واستغلالهم للسذج من الناس ممن يغلب عليهم الجهل رأيت من باب النصيحة لله ولعباده أن أبين ما في ذلك من خطر عظيم على الإسلام والمسلمين لما فيه من التعلق بغير الله تعالى ومخالفة أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
فأقول مستعينا بالله تعالى يجوز التداوي اتفاقاً وللمسلم أن يذهب إلى دكتور أمراض باطنية أو جراحية أو عصبية أو نحو ذلك ليشخص له مرضه ويعالجه بما يناسبه من الأدوية المباحة شرعاً حسبما يعرفه في علم الطب؛ لأن ذلك من باب الأخذ بالأسباب العادية ولا ينافي التوكل على الله وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الداء وأنزل معه الدواء عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله ولكنه سبحانه لم يجعل شفاء عباده فيما حرمه عليهم.
فلا يجوز للمريض أن يذهب إلى الكهنة الذين يدعون معرفة المغيبات ليعرف منهم مرضه كما لا يجوز له أن يصدقهم فيما يخبرونه به فإنهم يتكلمون رجماً بالغيب أو يستحضرون الجن ليستعينوا بهم على ما يريدون وهؤلاء حكمهم الكفر والضلال إذا ادَّعوا علم الغيب.
وقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود وخرجه أهل السنن الأربع وصححه الحاكم، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له
(1)
نشر جزء من هذه المقالة في الجزء الثاني من كتاب مجموع فتاوى بعنوان (بيان أشياء التي يتقي بها شر السحر) وكذلك صدرت المقالة بكاملها بنشرة من الرئاسة بعنوان: (رسالة في حكم السحر والكهانة) ونشرت في مجلة اليمامة، ومجلة البحوث الإسلامية
أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه البزار بإسناد جيد.
ففي هذه الأحاديث الشريفة النهي عن إتيان العرافين والكهنة والسحرة وأمثالهم وسؤالهم وتصديقهم والوعيد على ذلك فالواجب على ولاة الأمور وأهل الحسبة وغيرهم ممن لهم قدرة وسلطان إنكار إتيان الكهان والعرافين ونحوهم ومنع من يتعاطى شيئا من ذلك في الأسواق وغيرها والإنكار عليهم أشد الإنكار والإنكار على من يجيء إليهم ولا يجوز أن يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يأتي إليهم من الناس فإنهم جهال لا يجوز التأسي بهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم لما في ذلك من المنكر العظيم والخطر الجسيم والعواقب الوخيمة ولأنهم كذبة فجرة، كما أن في هذه الأحاديث دليلا على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصدهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله وذلك كفر بالله وشرك به سبحانه والمصدق لهم في دعواهم على الغيب يكون مثلهم وكل من تلقى هذه الأمور عمن يتعاطاها فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز للمسلم أن يخضع لما يزعمونه علاجاً كنمنمتهم بالطلاسم أو صب الرصاص ونحو ذلك من الخرافات التي يعملونها فإن هذا من الكهانة والتلبيس على الناس ومن رضي بذلك فقد ساعدهم على باطلهم وكفرهم، كما لا يجوز أيضا لأحد من المسلمين أن يذهب إليهم ليسألهم عمن سيتزوج ابنه أو قريبه أو عما يكون بين الزوجين وأسرتيهما من المحبة والوفاء أو العداوة والفراق ونحو ذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى والسحر من المحرمات الكفرية كما قال الله عز وجل في شأن الملكين في سورة البقرة:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].
فدلت هذه الآيات الكريمة على أن السحر كفر وأن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه كما دلت على أن السحر ليس بمؤثر لذاته نفعاً ولا ضراً وإنما يؤثر بإذن الله الكوني القدري؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخير والشر ولقد عظم الضرر واشتد
الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ولبسوا بها على ضعفاء العقول فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل.
كما دلت الآية الكريمة على أن الذين يتعلمون السحر إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وأنه ليس لهم عند الله من خلاق أي من حظ ونصيب وهذا وعيد عظيم يدل على شدة خسارتهم في الدنيا والآخرة وأنهم باعوا أنفسهم بأبخس الأثمان ولهذا ذمهم الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] والشراء هنا بمعنى البيع نسأل الله العافية والسلامة من شر السحرة والكهنة وسائر المشعوذين.
كما نسأله سبحانه أن يقي المسلمين شرهم وأن يوفق حكام المسلمين للحذر منهم وتنفيذ حكم الله فيهم حتى يستريح العباد من ضررهم وأعمالهم الخبيثة إنه جواد كريم وقد شرع الله سبحانه لعباده ما يتقون به شر السحر قبل وقوعه وأوضح لهم سبحانه ما يعالج به بعد وقوعه رحمة منه لهم وإحساناً منه إليهم وإتماماً لنعمته عليهم.
وفيما يلي بيان للأشياء التي يُتقى بها خطر السحر قبل وقوعه والأشياء التي يعالج بها بعد وقوعه من الأمور المباحة شرعاً أما ما يتقى به خطر السحر قبل وقوعه.
فأهم ذلك وأنفعه هو التحصن بالأذكار الشرعية والدعوات والمعوذات المأثورة ومن ذلك قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة مكتوبة بعد الأذكار المشروعة بعد السلام ومن ذلك قراءتها عند النوم وآية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم وهي قوله سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
ومن ذلك قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]، خلف كل صلاة مكتوبة، وقراءة السور الثلاث ثلاث مرات في أول النهار بعد صلاة الفجر وفي أول الليل بعد صلاة المغرب.
ومن ذلك قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل وهما قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] إلى آخر السورة. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح)، وصح عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) والمعنى والله أعلم: كفتاه من كل سوء، ومن ذلك الإكثار من التعوذ بـ (كلمات الله التامات من شر ما خلق) في الليل والنهار وعند نزول أي منزل في البناء أو الصحراء أو الجو أو البحر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك).
ومن ذلك أن يقول المسلم في أول النهار وأول الليل ثلاث مرات: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) لصحة الترغيب في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك سبب للسلامة من كل سوء. وهذه الأذكار والتعوذات من أعظم الأسباب في اتقاء شر السحر وغيره من الشرور لمن حافظ عليها بصدق وإيمان وثقة بالله واعتماد عليه وانشراح صدر لما دلت عليه، وهي أيضاً من أعظم السلاح لإزالة السحر بعد وقوعه مع الإكثار من الضراعة إلى الله وسؤاله سبحانه أن يكشف الضرر ويزيل البأس. ومن الأدعية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في علاج الأمراض من السحر وغيره - وكان صلى الله عليه وسلم يرقي بها أصحابه -:(اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما) يقولها ثلاثاً، ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله:(بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك) ويكرر ذلك ثلاث مرات.
ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضاً وهو علاج نافع للرجل إذا حبس من جماع أهله أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه ويجعلها في إناء ويصب عليه من الماء ما يكفيه للغسل، ويقرأ فيها آية الكرسي و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] وآيات السحر التي في سورة الأعراف، وهي قوله سبحانه:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 117 - 119] والآيات التي في
سورة يونس وهي قوله سبحانه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 79 - 82] والآيات التي في سورة طه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 65 - 69] وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب منه ثلاث مرات ويغتسل بالباقي وبذلك يزول الداء إن شاء الله وإن دعت الحاجة لاستعماله مرتين أو أكثر فلا بأس حتى يزول الداء.
ومن علاج السحر أيضاً وهو من أنفع علاجه بذل الجهود في معرفة موضع السحر في أرض أو جبل أو غير ذلك فإذا عرف واستخرج وأتلف بطل السحر هذا ما تيسر بيانه من الأمور التي يُتقى بها السحر ويعالج بها والله ولي التوفيق.
وأما علاجه بعمل السحرة الذي هو التقرب إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات فهذا لا يجوز؛ لأنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون؛ لأنهم لا يؤمنون ولأنهم كذبة فجرة يدعون علم الغيب ويلبسون على الناس وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم كما سبق بيان ذلك في أول هذه الرسالة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن النشرة؟ فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد جيد، والنشرة هي حل السحر عن المسحور ومراده صلى الله عليه وسلم بكلامه هذا النشرة التي يتعاطاها أهل الجاهلية وهي سؤال الساحر ليحل السحر أو حله بسحر مثله من ساحر آخر، أما حله بالرقية والمعوذات الشرعية والأدوية المباحة فلا بأس بذلك كما تقدم، وقد نص على ذلك العلامة ابن القيم والشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد رحمة الله عليهما ونص على ذلك أيضاً غيرهما من أهل العلم والله المسئول أن يوفق المسلمين للعافية من كل سوء وأن يحفظ عليهم دينهم ويرزقهم الفقه فيه والعافية من كل ما يخالف شرعه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
التحذير من بناء المساجد على القبور
وسئلت هل يجوز أن يبنى على موضع أهل الكهف مسجد؟
فأجبت قائلا: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشر في العدد الثالث من مجلة رابطة العلوم الإسلامية في باب (أخبار المسلمين في شهر). إن رابطة العلوم الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية تنوي إشادة مسجد على الكهف الذي اكتشف حديثاً في قرية الرحيب وهو الكهف الذي يقال إن أهل الكهف الوارد ذكرهم في القرآن الكريم رقدوا فيه، انتهى.
ولواجب النصح لله ولعباده رأيت أن أوجه كلمة في المجلة نفسها لرابطة العلوم الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية مضمونها نصيحة الرابطة عن تنفيذ ما نوته من إشادة مسجد على الكهف المذكور، وما ذاك إلا لأن إشادة المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وآثارهم مما جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة بالمنع منه والتحذير عنه ولعن من فعله؛ لكونه من وسائل الشرك والغلو في الأنبياء والصالحين، والواقع شاهد بصحة ما جاءت به الشريعة، ودليل على أنها من عند الله عز وجل، وبرهان ساطع وحجة قاطعة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن الله وبلغه الأمة، وكل من تأمل أحوال العالم الإسلامي وما حصل فيه من الشرك والغلو بسبب إشادة المساجد على الأضرحة وتعظيمها وفرشها وتجميلها واتخاذ السدنة لها علم يقينا أنها من وسائل الشرك، وأن من محاسن الشريعة الإسلامية المنع منها والتحذير من إشادتها، ومما ورد في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمة الله عليهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت عائشة (يحذر ما صنعوا)، قالت:(ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا)، وفي الصحيحين أيضا أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال صلى الله عليه وسلم:«أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله»
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم
خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك»، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد نص الأئمة من علماء المسلمين من جميع المذاهب الأربعة وغيرهم على النهي عن اتخاذ المساجد على القبور وحذروا من ذلك. عملا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصحا للأمة وتحذيرا لها أن تقع فيما وقع فيه من قبلها من غلاة اليهود والنصارى وأشباههم من ضلال هذه الأمة.
فالواجب على رابطة العلوم الإسلامية في الأردن وعلى غيرها من المسلمين أن تأخذ بالسنة، وتسير على نهج الأئمة، وأن تحذر مما حذر الله منه ورسوله، وفي ذلك صلاح العباد وسعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة وقد تعلق بعض الناس في هذا الباب بقوله عز وجل في قصة أهل الكهف:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]، والجواب عن ذلك أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى أخبر عن الرؤساء وأهل السيطرة في ذلك الزمان أنهم قالوا هذه المقالة، وليس ذلك على سبيل الرضا والتقرير لهم وإنما هو على سبيل الذم والعيب والتنفير من صنيعهم، ويدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزلت عليه هذه الآية وهو أعلم الناس بتأويلها قد نهى أمته عن اتخاذ المساجد على القبور، وحذرهم من ذلك ولعن وذم من فعله، ولو كان ذلك جائزا لما شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك التشديد العظيم وبالغ في ذلك حتى لعن من فعله، وأخبر أنه من شرار الخلق عند الله عز وجل، وهذا فيه كفاية ومقنع لطالب الحق، ولو فرضنا أن اتخاذ المساجد على القبور جائز لمن قبلنا لم يجز لنا التأسي بهم في ذلك؛ لأن شريعتنا ناسخة للشرائع قبلها ورسولنا عليه الصلاة والسلام هو خاتم الرسل وشريعته كاملة عامة وقد نهانا عن اتخاذ المساجد على القبور، فلم تجز لنا مخالفته، ووجب علينا اتباعه والتمسك بما جاء به وترك ما خالف ذلك من الشرائع القديمة، والعادات المستحسنة عند من فعلها؛ لأنه لا أكمل من شرع الله ولا هدي أحسن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله المسئول أن يوفقنا والمسلمين جميعا للثبات على دينه والتمسك بشريعة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام في الأقوال والأعمال، والظاهر والباطن، وفي سائر الشئون
حتى نلقى الله عز وجل وإنه سميع قريب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
دفن الموتى في المساجد إحدى وسائل الشرك
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على صحيفة الخرطوم الصادرة في 17/ 4/ 1415 هـ فألفيتها قد نشر فيها بيان بدفن السيد محمد الحسن الإدريسي بجوار أبيه في مسجدهم بمدينة أم درمان .. الخ.
ولما أوجب الله من النصح للمسلمين، وبيان إنكار المنكر رأيت التنبيه على أن الدفن في المساجد أمر لا يجوز، بل هو من وسائل الشرك، ومن أعمال اليهود والنصارى التي ذمهم الله عليها، ولعنهم رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على المسلمين في كل مكان -حكومات وشعوباً- أن يتقوا الله، وأن يحذروا ما نهى عنه، وأن يدفنوا موتاهم خارج المساجد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يدفنون الموتى خارج المساجد وهكذا أتباعهم بإحسان.
وأما وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في مسجده صلى الله عليه وسلم فليس به حجة على دفن الموتى في المساجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دفن في بيته - في بيت عائشة رضي الله عنها ثم دفن صاحباه معه، فلما وسع الوليد بن عبد الملك المسجد أدخل الحجرة فيه على رأس المائة الأولى من الهجرة، وقد أنكر عليه ذلك أهل العلم، ولكنه رأى أن ذلك لا يمنع من التوسعة، وأن الأمر واضح لا يشتبه. وبذلك يتضح لكل مسلم أنه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما لم يدفنوا في المسجد، وإدخالهم فيه بسبب التوسعة ليس بحجة على جواز الدفن في المساجد؛ لأنهم ليسوا في المسجد، وإنما هم في بيته عليه الصلاة
والسلام، ولأن عمل الوليد لا يصلح حجة لأحد في ذلك، وإنما الحجة في الكتاب والسنة، وفي إجماع سلف الأمة رضي الله عنهم، وجعلنا من أتباعهم بإحسان. وللنصح وبراءة الذمة جرى تحريره في 14/ 5/ 1415 هـ.
…
الله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه، وأتباعهم بإحسان.
الصلاة وأهميتها
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن على المرء أن يهتم بالصلاة؛ لأن أمرها عظيم، ومكانتها كبيرة، وأن يخلص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن يتبرأ مما سوى الله كائنا من كان، وأن يؤمن ويعتقد أنه سبحانه هو المعبود بالحق، وما عبد من دونه فهو باطل، كما قال عز وجل في سورة الحج:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62]، وفي سورة لقمان قال سبحانه:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30]، وقال سبحانه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الأسراء: 23]، وقال عز وجل:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
هذا الأساس العظيم هو أصل دين الإسلام، وهو أول شيء يدخل به العبد في دين الله الإسلام، ثم يلي هذه الشهادة الشهادة بأن محمداً رسول الله، هاتان الشهادتان هما أصل الدين لا يصح دين بدونهما، إحداهما لا تغني عن الأخرى، فبعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لا بد منهما، فلا إسلام إلا بتوحيد الله، ولا إسلام إلا بالإيمان بأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلو أن إنساناً يصوم النهار ويقوم الليل، ويعبد الله بكل العبادات، ولكنه لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بعدما بعثه الله، فإنه يكون بذلك كافراً، بل من أكفر الناس عند جميع أهل العلم، ولو أنه شهد أن محمداً رسول الله وصدقه، وعمل كل شيء، إلا أنه يشرك بالله - يعبد مع الله غيره من ملك أو نبي أو صنم أو شجر أو حجر أو جني أو كوكب - صار بذلك كافراً ضالاً، ولو قال: إن محمداً رسول الله، فلا بد من الإيمان بهما جميعاً، لا بد من توحيد الله، والإخلاص له.
ولا بد من الإيمان بأن محمداً رسول الله، بعثه الله إلى الثقلين -إلى الجن والإنس-، وكان الرسل الماضون يبعث كل واحد منهم إلى قومه خاصة، لكن نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام بعثه الله إلى الناس كافة، إلى العرب والعجم، إلى الجن والإنس، إلى
الذكور والإناث، إلى الأغنياء والفقراء، إلى الحكام والمحكومين، كلهم داخلون في رسالته عليه الصلاة والسلام، فمن أجاب هذه الدعوة التي جاء بها وانقاد لها وآمن بها دخل الجنة، ومن استكبر دخل النار، قال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17].
وقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:«كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» ، وقد قال الله عز وجل:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد هاتين الشهادتين أمر الصلاة، فهي التي تلي هاتين الشهادتين، وهي الركن الأعظم بعد هاتين الشهادتين، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. جاء في مسند أحمد بإسناد جيد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً بين أصحابه فقال:«من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف» ، قال بعض الأئمة في هذا: إنما يحشر من أضاع الصلاة مع هؤلاء الصناديد من الكفرة الأشقياء: فرعون، وهامان، وقارون، وأبي بن خلف؛ لكونه شابههم، والإنسان مع من شابه. قال تعالى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] يعني أشباههم ونظراءهم.
فمن كانت علته الرياسة حتى ترك الصلاة حشر مع فرعون؛ لأن فرعون حمله ما هو فيه من الملك على التكبر، وعادى موسى عليه الصلاة والسلام من أجل ذلك، فصار من الأشقياء الذين باعوا بالخسارة وصاروا إلى النار، قال تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] نعوذ بالله من ذلك. ومن حملته وظيفته أو وزارته على التخلف عن الصلاة، صار شبيهاً بهامان وزير فرعون فيحشر معه يوم القيامة نعوذ بالله من ذلك، فإن تركها من أجل المال والشهوات والنعم، شابه قارون الذي أعطاه الله المال
العظيم فاستكبر وطغى، حتى خسف الله به الأرض وبداره، فيكون شبيهاً به فيحشر معه يوم القيامة إلى النار.
أما إن شغله عن الصلاة وعن حق الله البيع والشراء والمعاملات والمكاسب الدنيوية، فإنه يكون شبيهاً بأبي بن خلف - تاجر أهل مكة - فيحشر معه إلى النار، نسأل الله العافية من الكفرة وأعمالهم.
والمقصود أن أمر الصلاة عظيم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله»
(1)
، وقال عليه الصلاة والسلام:«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر»
(2)
.
أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه بإسناد صحيح، عن بريدة رضي الله عنه، وخرج مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»
(3)
.
فالأمر عظيم وخطير جداً، إذا نظرنا في حال الناس اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقد كثر المتخلفون عن الصلاة والمتساهلون بأدائها في الجماعة، فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين الهداية.
والله جل وعلا أوسع النعم وأكثر الخيرات، ولكن ابن آدم مثل ما قال الله جل وعلا:{كَلا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7].
أدر الله النعم وأوسع الخير، فقابلها الكثير من الناس بالعصيان والكفران، نعوذ بالله من ذلك، فالواجب الحذر، والواجب التبليغ، كل إنسان يبلغ من حوله ويجتهد في بذل الدعوة وبذل التوجيه لمن حوله من المتخلفين، ومن المتكاسلين، ومن المقصرين في الصلاة وغيرها من حقوق الله وحق عباده؛ لعل الله أن يهديهم بأسبابه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع» .
(1)
رواه الترمذي في الإيمان برقم (2541)، ومسند الإمام أحمد (5/ 231).
(2)
رواه الترمذي في كتاب الإيمان، 9 - باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2545)، والنسائي في 5 - كتاب الصلاة، 8 - باب الحكم في تارك الصلاة، رقم (459)، وأحمد (5/ 346)، وابن ماجه في 5 - كتاب إقامة الصلاة، 77 - باب ما جاء فيمن ترك الصلاة رقم (1079).
(3)
صحيح مسلم، كتاب الإيمان، 35 - باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (86) ورواه الإمام أحمد بلفظ:" بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة "، المسند (3/ 389).
وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن من تركها تهاوناً وإن لم يجحد وجوبها يكفر كفرا أكبر؛ لهذه الآيات والأحاديث التي سبق ذكرها، ولو قال إنه يؤمن بوجوبها، إذا تركها تهاوناً فقد تلاعب بهذا الأمر الواجب، وقد عصى ربه معصية عظيمة، فيكفر بذلك في أصح قولي العلماء؛ لعموم الأدلة، ومنها قول الرسول عليه الصلاة والسلام:«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» ، ما قال من جحد وجوبها، بل قال:«من تركها» ، فهذا يعم من جحد ومن لم يجحد، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم:«بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» ، ما قال إذا جحد وجوبها.
فالرسول عليه الصلاة والسلام أفصح الناس عليه الصلاة والسلام، فهو أفصح الناس، وهو أعلم الناس، يستطيع أن يقول إذا تركها جاحداً لها، أو إذا جحد وجوبها، لا يمنعه من هذه الكلمة التي تبين الحكم لو كان الحكم كما قال هؤلاء، فلما أطلق عليه الصلاة والسلام كفره فقال:«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» ، دل ذلك على أن مجرد الترك والتعمد لهذا الواجب العظيم يكون به كافراً كفراً أكبر - نسأل الله العافية - ورِدّة عن الإسلام، نعوذ بالله من ذلك.
ولا يجوز للمرأة المسلمة بعد ذلك أن تبقى معه حتى يرجع إلى الله ويتوب إليه، وقد قال عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل رحمه الله:(كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة).
فذكر أنهم مجمعون على أن ترك الصلاة كفر، ولم يقولوا بشرط أن ينكر وجوبها، أو يجحد وجوبها، أما من قال: إنها غير واجبة، فهذا كافر عند الجميع كفراً أكبر، وإذا قال: إنها غير واجبة فقد كفر عند جميع أهل العلم، ولو صلى مع الناس، متى جحد الوجوب كفر إجماعاً، نسأل الله العافية.
وهكذا لو جحد وجوب الزكاة، أو وجوب صوم رمضان أو جحد وجوب الحج مع الاستطاعة كفر إجماعاً، نسأل الله العافية.
وهكذا لو قال: إن الزنا حلال، أو الخمر حلال، أو اللواط حلال، أو العقوق حلال، أو الربا حلال، كفر بإجماع المسلمين، نسأل الله العافية؛ لأنه استحل ما حرمه الله، لكن إذا كان مثله يجهل ذلك وجب تعليمه، فإن أصر على جحد الوجوب كفر إجماعا كما تقدم، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه
أما بعد: فهذه كلمات موجزة في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، أردت تقديمها إلى كل مسلم ومسلمة ليجتهد كل من يطلع عليها في التأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي»
(1)
رواه البخاري، وإلى القارئ بيان ذلك:
1 -
يسبغ الوضوء، وهو أن يتوضأ كما أمره الله؛ عملا بقوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور»
(2)
وقوله صلى الله عليه وسلم للذي أساء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء
…
»
(3)
2 -
يتوجه المصلي إلى القبلة وهي الكعبة أينما كان بجميع بدنه قاصدا بقلبه فعل الصلاة التي يريدها من فريضة أو نافلة، ولا ينطق بلسانه بالنية، لأن النطق باللسان غير مشروع لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بالنية ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويجعل له سترة يصلي إليها إن كان إماما أو منفردا، واستقبال القبلة شرط في الصلاة إلا في مسائل مستثناة معلومة موضحة في كتب أهل العلم.
3 -
يكبر تكبيرة الإحرام قائلا الله أكبر ناظرا ببصره إلى محل سجوده.
4 -
يرفع يديه عند التكبير إلى حذو منكبيه أو إلى حيال أذنيه.
5 -
يضع يديه على صدره، اليمنى على كفه اليسرى لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
رواه البخاري في (الأذان) برقم (595)، والدارمي في (الصلاة) برقم (1225).
(2)
رواه مسلم في (الطهارة) برقم (329)، والترمذي في (الطهارة) برقم (1).
(3)
رواه البخاري في (الاستئذان) برقم (5782)، وفي (الأيمان والنذور) برقم (6174)، وأبو داود في (الصلاة) برقم (730)، وابن ماجه في (الطهارة وسننها) برقم (441).
6 -
يسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح وهو: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد. وإن شاء قال بدلا من ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وإن أتى بغيرهما من الاستفتاحات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس، والأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة لأن ذلك أكمل في الاتباع، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ويقرأ سورة الفاتحة لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
(1)
ويقول بعدها آمين جهرا في الصلاة الجهرية، ثم يقرأ ما تيسر من القرآن.
7 -
يركع مكبرا رافعا يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه جاعلا رأسه حيال ظهره واضعا يديه على ركبتيه مفرقا أصابعه ويطمئن في ركوعه ويقول: سبحان ربي العظيم، والأفضل أن يكررها ثلاثا أو أكثر ويستحب أن يقول مع ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.
8 -
يرفع رأسه من الركوع رافعا يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه قائلا: سمع الله لمن حمده إن كان إماما أو منفردا، ويقول حال قيامه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أما إن كان مأموما فإنه يقول عند الرفع: ربنا ولك الحمد إلى آخر ما تقدم، ويستحب أن يضع كل منهما - أي الإمام والمأموم - يديه على صدره كما فعل في قيامه قبل الركوع لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث وائل ابن حجر وسهل بن سعد رضي الله عنهما.
9 -
يسجد مكبرا واضعا ركبتيه قبل يديه إذا تيسر ذلك، فإن شق عليه قدم يديه قبل ركبتيه مستقبلا بأصابع رجليه ويديه القبلة ضاما أصابع يديه ويسجد على أعضائه السبعة: الجبهة مع الأنف، واليدين، والركبتين، وبطون أصابع الرجلين. ويقول: سبحان ربي الأعلى، ويكرر ذلك ثلاثا أو أكثر، ويستحب أن يقول مع ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، ويكثر من الدعاء لقول النبي صلى الله
(1)
رواه البخاري في (الأذان) برقم (714)، ومسلم في (الصلاة) برقم (595)، والترمذي في (الصلاة) برقم (230)، والنسائي في (الافتتاح) برقم (901).
عليه وسلم: «أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم»
(1)
ويسأل ربه من خير الدنيا والآخرة سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا، ويجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه ويرفع ذراعيه عن الأرض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب»
(2)
10 -
يرفع رأسه مكبرا ويفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها وينصب رجله اليمنى ويضع يديه على فخذيه وركبتيه ويقول: رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني واجبرني، ويطمئن في هذا الجلوس.
11 -
يسجد السجدة الثانية مكبرا ويفعل فيها كما فعل في السجدة الأولى.
12 -
يرفع رأسه مكبرا ويجلس جلسة خفيفة كالجلسة بين السجدتين وتسمى جلسة الاستراحة، وهي مستحبة وإن تركها فلا حرج وليس فيها ذكر ولا دعاء ثم ينهض قائما إلى الركعة الثانية معتمدا على ركبتيه إن تيسر ذلك وإن شق عليه اعتمد على الأرض، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر له من القرآن بعد الفاتحة ثم يفعل كما فعل في الركعة الأولى.
13 -
إذا كانت الصلاة ثنائية أي ركعتين كصلاة الفجر والجمعة والعيد جلس بعد رفعه من السجدة الثانية ناصبا رجله اليمنى مفترشا رجله اليسرى واضعا يده اليمنى على فخذه اليمنى قابضا أصابعه كلها إلا السبابة فيشير بها إلى التوحيد وإن قبض الخنصر والبنصر من يده وحلق إبهامها مع الوسطى وأشار بالسبابة فحسن لثبوت الصفتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وركبته، ثم يقرأ التشهد في هذا الجلوس وهو: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل
(1)
رواه مسلم في (الصلاة) برقم (738)، وأبو داود في (الصلاة) برقم (742)، وأحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (1260) و (مسند بني هاشم) برقم (1801).
(2)
رواه البخاري في (الأذان) برقم (779) ومسلم في (الصلاة) برقم (762)، والنسائي في (التطبيق) برقم (1098).
إبراهيم إنك حميد مجيد)، ويستعيذ بالله من أربع فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال، ثم يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة، وإذا دعا لوالديه أو غيرهما من المسلمين فلا بأس سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لما علمه التشهد:«ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو»
(1)
وفي لفظ آخر: «ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء»
(2)
وهذا يعم جميع ما ينفع العبد في الدنيا والآخرة، ثم يسلم عن يمينه وشماله قائلا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.
14 -
إن كانت الصلاة ثلاثية كالمغرب أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء فإنه يقرأ التشهد المذكور آنفا مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينهض قائما معتمدا على ركبتيه رافعا يديه إلى حذو منكبيه قائلا: الله أكبر ويضعهما - أي يديه - على صدره كما تقدم ويقرأ الفاتحة فقط وإن قرأ في الثالثة والرابعة من الظهر زيادة عن الفاتحة في بعض الأحيان فلا بأس لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وإن ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأول فلا بأس لأنه مستحب وليس بواجب في التشهد الأول، ثم يتشهد بعد الثالثة من المغرب وبعد الرابعة من الظهر والعصر والعشاء كما تقدم ذلك في الصلاة الثنائية ثم يسلم عن يمينه وشماله ويستغفر الله ثلاثا ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ويسبح الله ثلاثا وثلاثين ويحمده مثل ذلك ويكبره مثل ذلك ويقول تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ويقرأ أية الكرسي وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس بعد كل صلاة، ويستحب تكرار هذه السور، الثلاث ثلاث مرات بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب لورود الأحاديث بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذه الأذكار سنة
(1)
رواه النسائي في (السهو) برقم (1281)، وأبو داود في (الصلاة) برقم (825).
(2)
رواه مسلم في (الصلاة) برقم (609).
وليست بفريضة، ويشرع لكل مسلم ومسلمة أن يصلي قبل الظهر أربع ركعات وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين وقبل صلاة الفجر ركعتين، الجميع اثنتا عشرة ركعة وهذه الركعات تسمى الرواتب لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليهما في الحضر، أما في السفر فكان يتركها إلا سنة الفجر والوتر فإنه كان عليه الصلاة والسلام يحافظ عليهما حضرا وسفرا، والأفضل أن تصلى هذه الرواتب والوتر في البيت، فإن صلاها في المسجد فلا بأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»
(1)
والمحافظة على هذه الركعات من أسباب دخول الجنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته تطوعا بنى الله له بيتا في الجنة»
(2)
رواه مسلم في صحيحه. وإن صلى أربعا قبل العصر، واثنتين قبل صلاة المغرب، واثنتين قبل صلاة العشاء فحسن لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، وإن صلى أربعا بعد الظهر وأربعا قبلها فحسن لقوله صلى الله عليه وسلم:«من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار»
(3)
رواه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن أم حبيبة رضي الله عنها. والمعنى أنه يزيد على السنة الراتبة ركعتين بعد الظهر لأن السنة الراتبة أربع قبلها وثنتان بعدها. فإذا زاد ثنتين بعدها حصل ما ذكر في حديث أم حبيبة رضي الله عنها. والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
(1)
رواه البخاري في (الأذان) برقم (689) واللفظ له، ومسلم في (صلاة المسافرين) برقم (1301)، والترمذي في
(الصلاة) برقم (412).
(2)
رواه مسلم في (صلاة المسافرين) برقم (1198، 1199)، وأبو داود في (الصلاة) برقم (1059)، والنسائي في (قيام الليل وتطوع النهار) برقم (1773).
(3)
رواه الترمذي في (الصلاة) برقم (393)، وأبو داود في (الصلاة) برقم (1077) وأحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (25547).
كيفية صلاة المريض
أجمع أهل العلم على أن من لا يستطيع القيام، له أن يصلي جالسا، فإن عجز عن الصلاة جالسا فإنه يصلي على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، والمستحب أن يكون على جنبه الأيمن، فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقيًا لقوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين:«صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب»
(1)
رواه البخاري وزاد النسائي: «فإن لم تستطع فمستلقيا» ومن قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام، بل يصلي قائما فيومئ بالركوع ثم يجلس ويومئ بالسجود. لقوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «صل قائما» ولعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وإن كان بعينه مرض فقال ثقات من علماء الطب: إن صليت مستلقيا أمكن مداواتك وإلا فلا، فله أن يصلي مستلقيا. ومن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن السجود وحده ركع وأومأ بالسجود، وإن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته، إن كان ظهره متقوسا فصار كأنه راكع فمتى أراد الركوع زاد في انحنائه قليلا، ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثر من الركوع ما أمكنه ذلك، وإن لم يقدر على الإيماء برأسه كفاه النية والقول. ولا تسقط عنه الصلاة ما دام عقله ثابتا بأي حال من الأحوال للأدلة السابقة. ومتى قدر المريض في أثناء الصلاة على ما كان عاجزا عنه من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود أو إيماء، انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته، وإذا نام المريض أو غيره عن صلاة أو نسيها وجب عليه أن يصليها حال استيقاظه من النوم أو حال ذكره لها، ولا يجوز له تركها إلى دخول وقت مثلها ليصليها فيه. لقوله صلى الله عليه وسلم:«من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك»
(2)
وتلا قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ولا يجوز ترك الصلاة بأي حال من الأحوال، بل يجب على المكلف أن يحرص على الصلاة أيام مرضه أكثر من حرصه عليها أيام صحته، فلا يجوز له ترك المفروضة حتى يفوت وقتها ولو كان مريضا ما دام عقله ثابتا، بل عليه أن يؤديها في وقتها حسب استطاعته، فإذا تركها عامدا وهو عاقل عالم بالحكم الشرعي مكلف
(1)
رواه البخاري في (الجمعة) برقم (1050)، وأبو داود في (الصلاة) برقم (815).
(2)
رواه البخاري في (مواقيت الصلاة) برقم (562)، ورواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) برقم (1102، 1104).
يقوى على أدائها ولو إيماء فهو عالم، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى كفره بذلك. لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر»
(1)
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله»
(2)
وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير حسبما يتيسر له، إن شاء قدم العصر مع الظهر وإن شاء أخرالظهر مع العصر، وإن شاء قدم العشاء مع المغرب، وإن شاء أخر المغرب مع العشاء. أما الفجر فلا تجمع مع ما قبلها ولا مع ما بعدها، لأن وقتها منفصل عما قبلها وعما بعدها. هذا بعض ما يتعلق بأحوال المريض في طهارته وصلاته.
واسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفي مرضى المسلمين، ويكفر سيئاتهم، وأن يمن علينا جميعا بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
(1)
رواه ابن ماجه في (كتاب إقامة الصلاة)، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، والترمذي في (الإيمان) برقم (2545).
(2)
رواه الترمذي في (الإيمان) برقم (2541)، وأحمد في (مسند الأنصار) برقم (21008، 21054).
فضل صيام رمضان وقيامه مع بيان أحكام مهمة قد تخفى على بعض الناس
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان، ووفقني وإياهم للفقه في السنة والقرآن. آمين.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فهذه نصيحة موجزة تتعلق بفضل صيام شهر رمضان وقيامه، وفضل المسابقة فيه بالأعمال الصالحة، مع بيان أحكام مهمة قد تخفى عل بعض الناس.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان، ويخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه شهر تفتح فيه أبواب الرحمة وأبواب الجنة وتغلق فيه أبواب جهنم وتغل فيه الشياطين، ويقول صلى الله عليه وسلم:«إذا كانت أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب جهنم فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة»
(1)
.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «جاءكم شهر رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء، ينظر الله على تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله»
(2)
.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»
(3)
.
ويقول عليه الصلاة والسلام: يقول الله عز وجل: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته
(1)
رواه الترمذي في الصوم باب ما جاء في فضل شهر رمضان برقم 682، وابن ماجة في الصيام باب ما جاء في فضل شهر رمضان برقم 1642
(2)
عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 142 إلى الطبراني في الكبير.
(3)
رواه البخاري في صلاة التراويح باب فضل ليلة القدر برقم 2014، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في قيام رمضان برقم 760
وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»
(1)
. والأحاديث في فضل صيام رمضان وقيامه وفضل جنس الصوم كثيرة.
فينبغي للمؤمن أن ينتهز هذه الفرصة وهي ما منَّ الله به عليه من إدراك شهر رمضان فيسارع إلى الطاعات، ويحذر من السيئات، ويجتهد في أداء ما افترض الله عليه ولا سيما الصلوات الخمس، فإنها عمود الإسلام وهي أعظم الفرائض بعد الشهادتين. فالواجب على كل مسلم ومسلمة المحافظة عليها وأداؤها في أوقاتها بخشوع وطمأنينة.
ومن أهم واجباتها في حق الرجال؛ أداؤها في الجماعة في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما قال عز وجل: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]، وقال تعالى:{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] وقال عز وجل: {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون
…
} [المؤمنون: 1 - 2] إلى أن قال عز وجل: {والذين هم على صلواتهم يحافظون. أولئك هم الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}
[المؤمنون: 9 - 11].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر»
(2)
.
وأهم الفرائض بعد الصلاة أداء الزكاة كما قال عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة: 5] وقال تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون}
[النور: 56]، وقد دل كتاب الله العظيم وسنة رسوله الكريم على أن من لم يؤد زكاة ماله يعذب به يوم القيامة.
وأهم الأمور بعد الصلاة والزكاة صيام رمضان، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة المذكورة في قول النبي صلى اله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،
(1)
رواه البخاري في الصوم 9 باب هل يقول إني صائم برقم 1904، ومسلم في الصيام 9 باب فضل الصيام برقم 1151
(2)
رواه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار من حديث بريدة الأسلمي برقم 22428، والترمذي في الإيمان باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621، وابن ماجة في إقامة الصلاة باب ما جاء فيمن ترك الصلاة برقم 1079
وحج البيت»
(1)
، ويجب على المسلم أن يصون صيامه وقيامه عما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال؛ لأن المقصود بالصيام هو طاعة الله سبحانه، وتعظيم حرماته، وجهاد النفس على مخالفة هواها في طاعة مولاها، وتعويدها الصبر عما حرم الله، وليس المقصود مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم»
(2)
.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»
(3)
.
فعلم بهذه النصوص وغيرها أن الواجب على الصائم الحذر من كل ما حرم الله عليه والمحافظة على كل ما أوجب الله عليه، وبذلك يرجى له المغفرة والعتق من النار وقبول الصيام والقيام.
وهناك أمور قد تخفى على بعض الناس:
منها: أن الواجب على المسلم أن يصوم إيماناً واحتساباً لا رياء ولا سمعة ولا تقليداً للناس أو متابعة أهل بلده، بل الواجب عليه أن يكون الحامل له على الصوم هو إيمانه بأن الله قد فرض عليه ذلك، واحتسابه الأجر عند ربه في ذلك، وهكذا قيام رمضان يجب أن يفعله المسلم إيماناً واحتساباً لا لسبب آخر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:«من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»
(4)
.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ما قد يعرض للصائم من جراح أو رعاف أو قيء أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره، فكل هذه الأمور لا
(1)
رواه البخاري في الإيمان باب بني الإسلام على خمس برقم 8، ومسلم في الإيمان باب أركان الإسلام برقم 16
(2)
رواه البخاري في الصوم باب هل يقول إني صائم إذا شتم برقم 1904
(3)
رواه البخاري في الصوم باب من لم يدع قول الزور برقم 1903
(4)
رواه البخاري في صلاة التراويح باب فضل ليلة القدر برقم 2014، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في قيام رمضان برقم 760
تفسد الصوم، لكن من تعمد القيء فسد صومه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء»
(1)
.
ومن ذلك: ما قد يعرض للصائم من تأخير غسل الجنابة إلى طلوع الفجر، وما يعرض لبعض النساء من تأخر غسل الحيض أو النفاس إلى طلوع الفجر، إذا رأت الطهر قبل الفجر، فإنه يلزمها الصوم، ولا مانع من تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر ن ولكن ليس لها تأخيره إلى طلوع الشمس؛ بل يجب عليها أن تغتسل وتصلي الفجر قبل طلوع الشمس، وهكذا الجنب ليس له تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الشمس، بل يجب عليه أن يغتسل ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس، ويجب على الرجل المبادرة بذلك حتى يدرك صلاة الفجر مع الجماعة.
ومن الأمور التي لا تفسد الصوم: تحليل الدم، وضرب الإبر، غير التي يقصد بها التغذية، لكن تأخير ذلك إلى الليل أولى وأحوط إذا تيسر ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
(2)
، وقوله عليه الصلاة والسلام:«من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»
(3)
.
ومن الأمور التي لا يخفى حكمها على بعض الناس: عدم الاطمئنان في الصلاة سواء كانت فريضة أو نافلة، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول اله صلى الله عليه وسلم على أن الاطمئنان ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونه، وهو الركود في الصلاة والخشوع فيها وعدم العجلة حتى يرجع كل فقار إلى مكانه. وكثير من الناس يصلي في رمضان صلاة التراويح صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها بل ينقرها نقراً، وهذه الصلاة على هذا الوجه باطلة، وصاحبها آثم غير مأجور.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة، وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا كله ظن في غير محله بل هو خطأ مخالف للأدلة.
(1)
رواه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين مسند أبي هريرة برقم 10085، وابن ماجة في الصيام باب ما جاء في الصائم يقيئ برقم 1676 واللفظ له.
(2)
رواه الإمام احمد في باقي مسند المكثرين مسند أنس بن مالك برقم 11689، والبخاري معلقاً في كتاب البيوع باب تفسير الشبهات، والنسائي في الأشربة باب الحث على ترك الشبهات برقم 5711.
(3)
رواه البخاري في الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه برقم 52، ومسلم في المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم 1599
وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن صلاة الليل موسع فيها فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة، وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره.
ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل قال: «مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى»
(1)
متفق على صحته.
ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره، ولهذا صلى الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر رضي الله عنه في بعض الأحيان ثلاثاً وعشرين ركعة، وفي بعضها إحدى عشرة ركعة، كل ذلك ثبت عن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة في عهده، وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستاً وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث، وبعضهم يصلي إحدى وأربعين، ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم، كما ذكر رحمه الله أن الأمر في ذلك واسع، وذكر أيضاً أن الأفضل لمن أطال القراءة والركوع والسجود أن يقلل العدد، ومن خفف القراءة والركوع والسجود زاد في العدد، هذا معنى كلامه رحمه الله.
ومن تأمل سنته صلى الله عليه وسلم علم أن الأفضل في هذا كله هو صلاة إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، في رمضان وغيره؛ لكون ذلك هو الموافق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحواله، ولأنه أرفق بالمصلين وأقرب إلى الخشوع والطمأنينة، ومن زاد فلا حرج ولا كراهية كما سبق.
والأفضل لمن صلى مع الإمام في قيام رمضان أن لا ينصرف إلا مع الإمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة»
(2)
.
ويشرع لجميع المسلمين الاجتهاد في أنواع العبادة في هذا الشهر الكريم من صلاة النافلة، وقراءة القرآن بالتدبر والتعقل والإكثار من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير
(1)
رواه البخاري في الجمعة باب ما جاء في الوتر برقم 991، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة الليل مثنى مثنى برقم 749.
(2)
رواه الإمام أحمد في مسند الأنصار من حديث أبي ذر الغفاري برقم 20910، والترمذي في الصوم باب ما جاء في قيام شهر رمضان برقم 806
والاستغفار والدعوات الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، ومواساة الفقراء والمساكين، والاجتهاد في بر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، وعيادة المريض، وغير ذلك من أنواع الخير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق:«ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله»
(1)
، ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:«من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه»
(2)
،
ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «عمرة في رمضان تعدل حجة. أو قال: حجة معي»
(3)
.
والأحاديث والآثار الدالة على شرعية المسابقة والمنافسة في أنواع الخير في هذا الشهر الكريم كثيرة.
والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه، وأن يتقبل صيامنا وقيامنا، ويصلح أحوالنا ويعيذنا جميعاً من مضلات الفتن، كما نسأله سبحانه أن يصلح قادة المسلمين، ويجمع كلمتهم على الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1)
عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 142 إلى الطبراني في الكبير
(2)
رواه ابن خزيمة مختصراً في صحيحه 3/ 191 برقم 1887
(3)
رواه البخاري في الحج باب حج النساء برقم 1863، ومسلم في الحج باب فضل العمرة في رمضان برقم 1256، وابن ماجة في المناسك باب العمرة في رمضان برقم 2991
الاختيارات العلمية في مسائل الحج والعمرة
كتاب المناسك
1 -
الحج والعمرة واجبان على كل مسلم حر مكلف مع الاستطاعة مرة في العمر.
2 -
الحج واجب على الفور مع الاستطاعة في أصح قولي العلماء.
3 -
يجب الحج على من كان عليه دين ويستطيع الحج وقضاء الدين.
4 -
الأفضل عدم الاقتراض لأداء الحج.
5 -
لا يصح حج من كان تاركاً للصلاة، وكذا من كان يصلي ويدع الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر»
(1)
رواه الخمسة وهم: أحمد وأهل السنن الأربعة بإسناد صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم:«بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة»
(2)
رواه مسلم في صحيحه.
6 -
من حج من مال حرام صح الحج؛ لأن أعمال الحج كلها بدنية وعليه التوبة من الكسب الحرام.
7 -
يصح حج المرأة بلا محرم مع الإثم؛ لأنه لا يجوز لها السفر بدون محرم ولو للحج والعمرة.
8 -
إذا حج الصبي أو العبد صح منهما ولا يجزئهما عن حجة الإسلام؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى»
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بإسناد حسن.
(1)
رواه الترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621
(2)
رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82
(3)
رواه البيهقي في السنن الكبرى في الحج في جماع أبواب دخول مكة باب حج الصبي يبلغ والمملوك يعتق والذمي يسلم برقم 9865
9 -
من مات ولم يحج وهو يستطيع الحج وجب الحج عنه من التركة أوصى بذلك أو لم يوصِ.
10 -
لا تصح الإنابة في الحج عمن كان صحيح البدن ولو كان فقيراً سواء كان فرضاً أو نفلاً، أما العاجز لكبر سن أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يلزمه أن ينيب من يؤدي عنه الحج المفروض والعمرة المفروضة إذا كان يستطيع ذلك بماله؛ لعموم قول الله سبحانه:{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} .
11 -
العمى ليس عذراً في الإنابة للحج فرضاً كان أو نفلاً، وعلى الأعمى أن يحج بنفسه إذا كان مستطيعاً؛ لعموم الأدلة.
12 -
الأفضل لمن حج الفريضة تقديم نفقة الحج النافلة للمجاهدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم الجهاد على الحج النفل، كما في الحديث الصحيح.
13 -
من اجتمع عليه حج الفريضة وقضاء صيام واجب كالكفارة وقضاء رمضان أو نحوهما قدم الحج.
14 -
لا نعلم أقل حد بين العمرة والعمرة، أما من كان من أهل مكة فالأفضل له الاشتغال بالطواف والصلاة وسائر القربات وعدم الخروج خارج الحرم لأداء عمرة إن كان قد أدى عمرة الإسلام.
باب المواقيت
1 -
الواجب على جميع الحجاج والعمار أن يحرموا من الميقات الذي يمرون عليه أو يحاذونه جواً أو براً أو بحراً؛ لحديث ابن عباس المذكور آنفاً.
2 -
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وقت المواقيت الخمسة: ذو الحليفة والجحفة وقرن المنازل ويلملم وذات عرق، لكن وافق اجتهاد عمر رضي الله عنه توقيته لأهل العراق ذات عرق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لم يعلم ذلك حين وقت لهم ذات عرق فوافق اجتهاده رضي الله عنه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 -
من جاوز الميقات بلا إحرام وجب عليه الرجوع، فإن لم يرجع فعليه دم، وهو سبع بقرة، أو سبع بدنة، أو رأس من الغنم يجزئ في الأضحية، إذا كان حين مر على الميقات ناوياً الحج أو العمرة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين.
4 -
من بدا له الحج وهو في مكة فإنه يحرم من مكانه، أما العمرة فلابد من خروجه للحل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في ذلك.
5 -
من توجه إلى مكة غير مريد الحج أو العمرة لم يجب عليه الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الإحرام على من نوى الحج أو العمرة أو كليهما. والعبادات توقيفية ليس لأحد أن يوجب ما لم يوجبه الله ورسوله، كما أنه ليس له أن يُحرِّم ما لم يحرمه الله ورسوله، لكن من لم يؤد الفريضة وجب عليه الإحرام بالحج في وقته أو بالعمرة في أي وقت أداءً لما أوجبه الله عليه من الحج والعمرة من أي ميقات يمر عليه.
6 -
جدة ليست ميقاتاً للوافدين وإنما هي ميقات لأهلها ولمن وفدوا إليها غير مريدين للحج أو العمرة ثم أنشأوا الحج أو العمرة منها، لكن من وفد إلى الحج أو العمرة من طريق جدة ولم يحاذِ ميقاتاً قبلها أحرم منها
(1)
.
7 -
أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة.
باب الإحرام
1 -
يشرع للمحرم التلفظ بما نوى من حج أو عمرة أو قران، فيقول: اللهم لبيك عمرة، إن كان أراد العمرة، أو يقول: اللهم لبيك حجاً، إن أراد الحج، أو: "اللهم لبيك عمرة وحجاً، إذا أراد القران. والأفضل لمن قدم في أشهر الحج وليس معه هدي أن يحرم بالعمرة وحدها ثم يلبي بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة؛ تأسياً بالنبي
(2)
صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
(1)
كمن قدم إلى جدة عن طريق البحر من الجزء المحاذي لها من السودان
(2)
أي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر من لم يسق الهدي من أصحابه بذلك. أما هو عليه الصلاة والسلام فقد كان قارناً ولم يحل من إحرامه لأنه قد ساق الهدي.
2 -
الصبي والجارية دون التمييز ينوي عنهما وليهما ويلبي عنهما ويجنبهما ما يجتنبه المحرم، ويكونان طاهري الثياب حين الطواف بهما.
3 -
إن كان الصبي والجارية مميزين أحرما بإذن وليهما ويفعلان ما يفعله الكبير، فإن عجزا عن الطواف والسعي حملا، ووليهما هو الذي يتولى الحج بهما، سواء كان أباهما أو أمهما أو غيرهما.
4 -
النية تكفي المستنيب، ولا يحتاج إلى ذكر اسمه، وإن سماه لفظاً عند الإحرام فهو أفضل.
5 -
لا يجوز لمن أهل بالحج أو العمرة عن نفسه أو عن غيره تغيير النية عمن أهل عنه إلى شخص آخر.
6 -
لا تشترط الطهارة الصغرى ولا الكبرى لمن أراد الإحرام، ولهذا صح الإحرام من الحائض والنفساء، وإنما يستحب للجميع الغسل، ويستحب أن يكون الإحرام بعد صلاة مفروضة أو نافلة في حق غير الحائض والنفساء؛ لأن الصلاة لا تصح منهما.
7 -
(أ) إذا وصلت الحائض أو النفساء للميقات وجب عليهما أن تحرما إذا كان الحج فريضة أو العمرة. أما إن كانا مستحبين وقد أدتا حجة الإسلام وعمرة الإسلام فإنه يشرع لهما الإحرام من الميقات كغيرهما من الطاهرات في الحج والعمرة؛ رغبة في الخير وتزوداً من الأعمال الصالحة؛ لقول الله عز وجل: {تزودا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} ، ولحديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها، فإنها ولدت في الميقات محمد بن أبي بكر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتحرم، فإذا طهرت الحائض أو النفساء طافتا وسعتا لحجهما أو عمرتهما ثم قصرتا إن كانتا محرمتين بالحج والعمرة
(1)
فإنه يشرع لهما جعل إحرامهما عمرة فتطوفان وتسعيان وتقصران وتحلان ثم تحرمان بالحج في اليوم الثامن كسائر الحجاج المحلين، وإن بقيتا على إحرامهما ولم تحلا فلا بأس، لكن ذلك خلاف السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه في حجة الوداع أن يحلوا ويجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي.
(1)
ولم تكونا ساقتا الهدي
(ب) يجوز للحائض قراءة القرآن، لعدم وجود الدليل الصريح المانع من ذلك ولكن بدون مس المصحف، وحديث:"لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن"
(1)
ضعيف.
8 -
يجوز للمرأة أخذ حبوب منع العادة في الحج ورمضان إذا لم يكن فيها مضرة بعد استشارة طبيب مختص.
9 -
كان النبي صلى الله عليه وسلم يهل
(2)
بنسكه إذا انبعثت به راحلته، ومثل الراحلة السيارة يستحب الإهلال في الحج أو العمرة إذا ركب السيارة من الميقات، وهكذا إذا ركبها عند التوجه من مكة إلى منى يوم الثامن.
10 -
الاشتراط يكون وقت الإحرام إذا دعت الحاجة إليه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في قصة ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها قالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال لها صلى الله عليه وسلم:«حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني»
(3)
.
11 -
لا يجوز وضع الطيب على ملابس الإحرام، وإنما السنة تطييب البدن عند الإحرام، فإن طيبها لم يلبسها حتى يغسلها.
12 -
لا بأس بتغيير ملابس الإحرام بملابس أخرى جديدة أو مغسولة، كما أنه لا بأس أن يغسل ملابس الإحرام التي عليه إذا أصابها وسخ أو نجاسة، ويجب غسلها من النجاسة.
13 -
من وقع على إحرامه دم كثير وجب عليه غسله، ولا يصلي فيه وفيه نجاسة، ولا يضر اليسير من الدم عرفاً.
14 -
من لم يجد الإزار لبس السراويل، ومن لم يجد النعلين لبس الخفين بدون قطع، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في القطع منسوخ في أصح قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس في عرفة ذكر في خطبته: «أن من لم
(1)
رواه الترمذي في (الطهارة) باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن برقم 131
(2)
أي: يلبي
(3)
رواه البخاري في (النكاح) باب الأكفاء في الدين برقم 5089، ومسلم في (الحج) باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه برقم 1207
يجد إزاراً لبس السراويل، ومن لم يجد نعلين لبس الخفين»
(1)
، ولم يذكر القطع؛ فدل على النسخ.
15 -
ليس للمرأة ملابس معينة تحرم فيها، ولها أن تحرم بما شاءت، مع مراعاة عدم التبرج وعدم لبس الملابس التي تدعو إلى الفتنة، مع ترك النقاب والقفازين، ولها ستر وجهها ويديها بغير ذلك.
16 -
قد أجمع العلماء على صحة الإحرام بأي واحد من الأنساك الثلاثة، فمن أحرم بأي واحد منها صح إحرامه، والقول بأن الإفراد والقران قد نسخا قول باطل، لكن التمتع أفضل في أصح أقوال العلماء في حق من لم يسق الهدي، أما من ساق الهدي فالقران له أفضل؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
17 -
من اعتمر في أشهر الحج ورجع لأهله ثم أحرم بالحج مفرداً فليس عليه دم التمتع؛ لأنه في حكم من أفرد الحج، وهو قول عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما وغيرهما من أهل العلم. أما إن سافر إلى غير بلده كالمدينة أو جدة أو الطائف أو غيرها ثم رجع محرماً بالحج فإن ذلك لا يخرجه عن كونه متمتعاً في أصح قولي العلماء، وعليه هدي التمتع.
18 -
من أحرم بالحج في أشهر الحج شرع له أن يفسخه إلى عمرة، وهكذا القارن بين الحج والعمرة يشرع له أن يفسخ إحرامه إلى العمرة، إذا لم يكن معهما هدي
(2)
؛ لصحة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ويكونان بذلك في حكم المتمتع.
19 -
من نوى التمتع أو القران ثم غير النية إلى الإفراد وهو في الميقات قبل أن يحرم بواحدة منهما فلا بأس؛ لأن النسك إنما يلزم بالإحرام، أما النية السابقة قبل الإحرام فإنها غير ملزمة ولا حرج عليه.
20 -
لا يصح لمن لبى بالقران أو التمتع أن يقلبهما إلى الإفراد؛ لما تقدم في المسألة التي قبلها.
(1)
رواه البخاري في (الحج) باب لبس الخفين للمحرم برقم 1841، ومسلم في (الحج) باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة برقم 1179
(2)
ساقاه من الحل
21 -
على من أهل بالعمرة ثم رفضها التوبة إلى الله سبحانه وإتمام مناسك العمرة فوراً؛ لقوله سبحانه: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] الآية، فإن كان قد جامع فعليه ذبيحة تذبح بمكة وتوزع على فقرائها، مع إتمام مناسك العمرة؛ لعموم الآية المذكورة، وعليه عمرة أخرى من الميقات الذي أحرم منه بالعمرة الفاسدة، وهكذا زوجته إن كانت غير مكرهة، مع التوبة إلى الله سبحانه من ذلك.
باب محظورات الإحرام
1 -
لا يأخذ المحرم من بشرته ولا من أظفاره، ولا من شعره شيئاً حتى يحل التحلل الأول.
2 -
لا حرج في استعمال الصابون المعطر؛ لأنه ليس طيباً ولا يسمى مستعمله متطيباً، وإنما فيه رائحة حسنة فلا يضره إن شاء الله، وإن تركه تورعاً فهو حسن.
3 -
الحناء ليس طيباً فلا شيء فيه في حق المحرم والمحرمة.
4 -
لا حرج في لبس الهميان والحزام والمنديل.
5 -
المرأة المحرمة لا حرج عليها أن تلبس الجوارب والخفين؛ لأنها عورة، ولكن لا تنتقب ولا تلبس القفازين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى المرأة المحرمة عن ذلك، ولكن تغطي وجهها بغير النقاب ويديها بغير القفازين.
6 -
يباح للمرأة سدل الخمار على وجهها بلا عصابة فهي غير مشروعة، وإن مس الخمار وجهها فلا شيء عليها ويجب عليها ذلك عند وجود الرجل الأجنبي. أما النقاب فلا يجوز لها حال كونها محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرمة عن ذلك وعن لبس القفازين، لكن تغطي وجهها ويديها بغير ذلك.
7 -
من جامع زوجته قبل التحلل الأول بطل حجه وحجها ووجب على كل واحد منهما بدنة مع إتمام مناسك الحج، فمن عجز منهما عنها صام عشرة أيام، وعليهما الحج من قابل مع الاستطاعة والاستغفار والتوبة.
8 -
من جامع بعد التحلل الأول وقبل الثاني فعليه وعلى زوجته إن كانت مطاوعة شاة أو سُبع بقرة، ومن عجز منهما صام عشرة أيام.
9 -
من جامع قبل طواف الإفاضة أو بعده قبل السعي إذا كان عليه سعي فعليه دم.
10 -
من أنزل عامداً بعد التحلل الأول وقبل الثاني من غير جماع فلا شيء عليه، فإن صام ثلاثة أيام أو ذبح شاة أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع فهو حسن؛ خروجاً من خلاف من قال بوجوب الفدية وأحوط، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»
(1)
.
11 -
من احتلم وهو محرم فلا شيء عليه سوى الغسل.
باب الفدية
1 -
ليس على المحرم شيء إن قلم أظافره أو نتف إبطه أو قص شاربه أو حلق عانته أو تطيب ناسياً أو جاهلاً؛ لقول الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله قد فعلت»
(2)
، ولحديث صاحب الجبة.
2 -
من خلع الإحرام ولبس المخيط جاهلاً أو ناسياً فعليه المبادرة بخلع المخيط متى علم أو ذكر ولا شيء عليه؛ لعموم قول الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أن الله قال: قد فعلت» ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أحرم في جبة وتضمخ بخلوق واستفتاه في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:«اغسل عنك أثر الخلوق ثلاثاً وانزع الجبة»
(3)
. ولم يأمره بالفدية من أجل جهله.
(1)
رواه البخاري في (الإيمان) باب فضل من استبرأ لدينه برقم 52، ومسلم في (المساقاة) باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم 1599.
(2)
رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان أن الله سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق برقم 126
(3)
رواه البخاري في (الحج) باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج برقم 1789، ومسلم في (الحج) باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة برقم 1180
باب صيد الحرم
1 -
الأدلة الشرعية دلت على أن الحسنات تضاعف، الحسنة بعشر أمثالها، وتضاعف بكميات كثيرة في الزمان الفاضل كرمضان وعشر ذي الحجة، والمكان الفاضل كالحرمين. وأما السيئات فالذي عليه المحققون من أهل العلم أنها تضاعف من حيث الكيفية لا من حيث العدد؛ لقول الله سبحانه:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}
[الأنعام: 186].
2 -
من هم بالإلحاد في الحرم المكي فهو متوعد بالعذاب الأليم؛ لأن الله تعالى قال: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25]، فإذا ألحد أيَّ إلحاد - وهو: الميل عن الحق - فإنه متوعد بهذا الوعيد لهذه الآية الكريمة، لأن الوعيد على الهم بالإلحاد يدل على أن الوعيد في نفس الإلحاد أشد وأعظم.
باب دخول مكة
1 -
لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول من باب السلام، وإنما دخل منه، فإن تيسر ودخل منه فهو أفضل وإلا فلا حرج.
2 -
السنة للمحرم تغطية كتفيه بالرداء إلا في طواف القدوم فإنه يضطبع بردائه، فإذا انتهى أعاد رداءه على كتفيه.
والاضطباع هو: أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر إلى أن ينتهي من الطواف، ثم يجعل الرداء على عاتقيه قبل ركعتي الطواف.
3 -
يشرع للطائف استلام الحجر الأسود والركن اليماني في كل شوط، كما يستحب له تقبيل الحجر الأسود واستلامه بيده اليمنى إذا تيسر ذلك بدون مشقة، أما مع المشقة والزحام فيكره، ويشرع أن يشير للحجر الأسود بيده أو بعصا ويكبر، أما الركن اليماني فلم يرد فيه فيما نعلم دليل يدل على الإشارة إليه. وإن استلم الحجر الأسود بيده أو بعصا قَبَّل ما استلم به؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يتيسر تقبيل الحجر.
4 -
يشرع للطائف صلاة ركعتي الطواف خلف المقام؛ للآية الكريمة، وللأحاديث الواردة، فإن لم يتيسر صلاهما فيما شاء من بقية المسجد.
5 -
المعروف عند أهل العلم أنه يجوز أن يواصل بين طوافين أو أكثر ثم يصلي لكل طواف ركعتين.
6 -
الوضوء شرط في صحة الطواف في أصح قولي العلماء، وهو قول أكثر أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يطوف توضأ ثم طاف، كما صح ذلك عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:" الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام"
(1)
. فإذا اننتقضت الطهارة فعليه أن يتطهر ويعيد الطواف من أول شوط كالصلاة، سواء كان الطواف فرضاً أو نفلاً.
7 -
الأرجح أن خروج الدم لا يؤثر في الطواف إذا كان يسيراً من غير الدبر والقبل كالصلاة.
8 -
متى طهرت النفساء قبل الأربعين جاز لها الطواف وغيره، وليس لأقل النفاس حد، أما أكثره فأربعون يوماً، فإن لم تطهر بعد الأربعين اغتسلت وصامت وصلت وطافت وحلت لزوجها، وتتوضأ لكل صلاة حتى ينقطع الدم كالمستحاضة.
9 -
من قطع طوافه للصلاة بدأ من حيث انتهى ولا يلزمه العود إلى أول الشوط في أصح قولي العلماء، وإن بدأ من أول الشوط خروجاً من الخلاف فهو حسن إن شاء الله؛ لما فيه من الاحتياط.
(أ) يجوز لحامل الطفل أن ينوي الطواف والسعي عنه وعن الطفل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألت المرأة عن الطفل فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال:«نعم ولك أجر»
(2)
، ولم يأمرها أن تخصه بطواف أو بسعي؛ فدل ذلك على أن طوافها به وسعيها به مجزئ عنهما.
(1)
رواه بنحوه الإمام أحمد في (مسند المكيين) حديث رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم برقم 14997، والنسائي في (مناسك الحج) باب إباحة الكلام في الطواف برقم 2922.
(2)
رواه مسلم في باب صحة حجة الصبي برقم 1336.
10 -
يستحب للحاج والمعتمر وغيرهما أن يشرب من ماء زمزم إذا تيسر له ذلك، ويجوز له الوضوء منه، ويجوز أيضاً الاستنجاء به والغسل من الجنابة إذا دعت الحاجة إلى ذلك. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نبع الماء من بين أصابعه ثم أخذ الناس حاجتهم من هذا الماء ليشربوا وليتوضئوا وليغسلوا ثيابهم وليستنجوا. كل هذا وقع؛ وماء زمزم إن لم يكن مثل الماء الذي نبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فوق ذلك، فكلاهما ماء شريف.
11 -
لا حرج في بيع ماء زمزم ولا نقله من مكة.
12 -
في التفضيل بين كثرة النافلة وكثرة الطواف خلاف، والأرجح أن يكثر من هذا وهذا ولو كان غريباً. وذهب بعض أهل العلم إلى التفضيل فاستحبوا الإكثار من الطواف في حق الغريب ومن الصلاة في حق غيره، والأمر في ذلك واسع ولله الحمد.
13 -
من دخل الحرم بعد العصر أو بعد الفجر فليس له أن يصلي غير سنة الطواف وكل سنة ذات سبب كتحية المسجد.
14 -
المشروع لمن سعى أن يقول في أول شوط: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]، أما تكرار ذلك فلا أعلم ما يدل على استحبابه.
15 -
لا يجب الصعود على الصفا والمروة ويكفي الساعي استيعاب ما بينهما، ولكن الصعود عليهما هو السنة والأفضل إذا تيسر ذلك.
16 -
السعي في الطابق العلوي صحيح كالسعي في الأسفل؛ لأن الهواء يتبع القرار.
17 -
الأرجح أن من ترك شيئاً من السعي أو نسيه أكمله إن لم يطل الفصل.
18 -
من ترك شوطاً أو أكثر من السعي في العمرة فعليه أن يعود ويأتي بالسعي كاملاً ولو عاد إلى بلده، وهو في حكم الإحرام الذي يمنعه من زوجته وكل المحظورات، وعليه أن يقصر مرة أخرى بعد السعي، والتقصير الأول لا يصح.
19 -
من سعى من غير طهارة أجزأه ذلك؛ لأن الطهارة ليست شرطاً في السعي وإنما هي مستحبة.
20 -
لا حرج على من قدَّم السعي على الطواف خطأً أو نسياناً، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله فقال: سعيت قبل أن أطوف؟ فقال: «لا حرج»
(1)
؛ فدل ذلك على أنه إن قدَّم السعي أجزأه، ولكن الأحوط أن لا يفعله عمداً، ومتى وقع منه نسياناً أو جهلاً فلا حرج.
باب صفة الحج والعمرة
1 -
المشروع للحاج الحلال أن يحرم بالحج يوم التروية من مكانه، سواء كان في داخل مكة أو خارجها أو في منى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين حلوا من العمرة أن يحرموا بالحج يوم التروية من منازلهم.
2 -
من كان مقيماً في منى يوم الثامن من ذي الحجة أحرم من مكانه ولا حاجة لدخوله إلى مكة؛ لعموم حديث ابن عباس الوارد في ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر المواقيت:«ومن كان دون ذلك فمهله من حيث أنشأ حتى أهل مكة يهلون من مكة»
(2)
.
3 -
لا يصح حج من وقف خارج حدود عرفة ولو كان قريباً منها.
4 -
من وقف يوم عرفة قبل الزوال فقط فأكثر أهل العلم على عدم إجزاء الوقوف.
وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وجماعة إلى أن من وقف في عرفة قبل الزوال يجزئه ذلك؛ لعموم حديث عروة بن مضرس، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
وقد وقف بعرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً»
(3)
، فأطلق النهار، قالوا: فهذا يشمل ما قبل الزوال وما بعده، ولكن الجمهور على خلافه وأنه لا يجزئ الوقوف يوم عرفة إلا بعد الزوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وقف
بعد الزوال وهذا هو الأحوط.
(1)
رواه أبو داود في (المناسك) باب فيمن قدم شيئاً قبل شيء في حجه برقم 2015
(2)
رواه البخاري في (الحج) باب مهل أهل الشام برقم 1526، ومسلم في (الحج) باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181
(3)
رواه الإمام أحمد في (مسند المدنيين) حديث عروة بن مضرس برقم 15775، والترمذي في (الحج) باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع برقم 891
5 -
من وقف بعد الزوال أجزأه فإن انصرف قبل المغرب فعليه دم إن لم يعد إلى عرفة ليلاً أعني ليلة النحر.
6 -
من وقف بعرفة ليلاً أجزأه ولو مر بها مروراً.
7 -
يمتد وقت الوقوف بعرفة من فجر اليوم التاسع إلى آخر ليلة النحر؛ للأحاديث الواردة في ذلك. والأفضل والأحوط أن يكون الوقوف بعرفة بعد الزوال أو في الليل من اليوم التاسع؛ خروجاً من خلاف الجمهور القائلين بعدم إجزاء الوقوف بعرفة قبل الزوال.
8 -
يجب على الحاج المبيت في مزدلفة إلى نصف الليل، وإذا كمل وبقي إلى الفجر حتى يسفر كان أفضل.
9 -
يجوز للنساء مطلقاً الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل من ليلة مزدلفة وهي ليلة النحر ولو كنَّ قويات، وهكذا بقية الضعفاء من كبار السن والمرضى وأتباعهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ذلك.
10 -
من مر بمزدلفة ولم يبت بها ثم عاد قبل الفجر ومكث بها ولو يسيراً فلا شيء عليه.
11 -
من ترك المبيت في مزدلفة فعليه دم.
12 -
لا يتعين جمع الحصى من مزدلفة بل يجوز من منى.
13 -
لا يجوز رمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل من ليلة النحر، وكذا طواف الإفاضة.
14 -
الصحيح أن رمي جمرة العقبة في النصف الأخير من ليلة النحر مجزئ للضعفة وغيرهم، ولكن يشرع للمسلم القوي أن يجتهد حتى يرمي في النهار؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس.
15 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس"
(1)
ضعيف؛ لانقطاعه بين الحسن العرني وابن عباس. وعلى فرض صحته فهو محمول على الندب؛ جمعاً بين الأحاديث، كما نبه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله.
16 -
لا يجوز الرمي قبل الزوال في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر لمن لم يتعجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بعد الزوال في الأيام الثلاثة المذكورة، وقال:«خذوا عني مناسككم»
(2)
، ولأن العبادات توقيفية لا يجوز فيها إلا ما أقره الشرع المطهر.
17 -
لم يثبت دليل على منع الرمي ليلاً والأصل جوازه، والأفضل الرمي نهاراً في يوم العيد كله وبعد الزوال في الأيام الثلاثة إذا تيسر ذلك، والرمي في الليل إنما يصح عن اليوم الذي غربت شمسه، ولا يجزئ عن اليوم الذي بعده. فمن فاته الرمي نهار العيد رمى ليلة إحدى عشرة إلى آخر الليل، ومن فاته الرمي قبل غروب الشمس في اليوم الحادي عشر رمى بعد غروب الشمس في ليلة اليوم الثاني عشر، ومن فاته الرمي في اليوم الثاني عشر قبل غروب الشمس رمى بعد غروب الشمس في ليلة اليوم الثالث عشر، ومن فاته الرمي نهاراً في اليوم الثالث عشر حتى غابت الشمس فاته الرمي ووجب عليه دم؛ لأن وقت الرمي كله يخرج بغروب الشمس من اليوم الثالث عشر.
18 -
لا يشترط بقاء الحصى في المرمى ولكن يشترط وقوعه فيه، فلو وقعت الحصاة في المرمى ثم خرجت منه أجزأت في ظاهر كلام أهل العلم، وممن صرح بذلك النووي رحمه الله في المجموع، ولا يشرع رمي الشاخص بل السنة الرمي في الحوض.
19 -
من شك هل وقع الحصى في المرجم أم لا فعليه التكميل حتى يتيقن.
20 -
لا يجوز الرمي مما في الحوض، أما الذي بجانبه فلا حرج.
(1)
رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن عباس برقم 2083، والترمذي في (الحج) باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل برقم 893
(2)
رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً برقم 1297
21 -
الأحوط أن لا يرمي بحصى قد رمي به.
22 -
من رمى الجمرات السبع كلها دفعة واحدة فهي عن حصاة واحدة، وعليه أن يأتي بالباقي.
23 -
يجب الترتيب في رمي الجمرات، فيبدأ بالأولى ثم الثانية ثم الثالثة وهي جمرة العقبة.
24 -
لا يستحب غسل الحصى بل يرمى به من غير غسل؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم.
25 -
يصح تأخير الرمي كله إذا دعت الحاجة إلى ذلك إلى اليوم الثالث عشر ويرميه مرتباً، فيبدأ برمي جمرة العقبة عن يوم النحر، ثم يرجع فيرمي الصغرى ثم الوسطى ثم العقبة عن اليوم الحادي عشر، ثم يرجع فيرمي الثلاث عن اليوم الثاني عشر ثم يرجع ويرميهن عن الثالث عشر إن لم يتعجل، لكن السنة أن يرمي الجمار كما رماها النبي صلى الله عليه وسلم، فيرمي جمرة العقبة يوم العيد بسبع حصيات ثم يرمي الجمار الثلاث في اليوم الحادي عشر بادئاً بالصغرى التي تلي مسجد الخيف ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، ثم يرمي الثلاث في اليوم الثاني عشر كذلك، ثم يرمي الثلاث في اليوم الثالث عشر كما رماها في الحادي عشر والثاني عشر إذا لم يتعجل في اليوم الثاني عشر.
26 -
تجوز الإنابة في الرمي عن العاجز، كالمريض وكبير السن والأطفال، ويلحق بهم ذات الأطفال التي ليس لديها من يحفظهم.
27 -
لا تجوز الوكالة في الرمي إلا لعذر شرعي، كما تقدم ذلك.
28 -
من وكل غيره في الرمي من غير عذر شرعي، فالرمي باقٍ عليه ولو كان حجه نافلة على الصحيح، فإن لم يرم فعليه دم يذبح في مكة للفقراء إذا فات الوقت ولم يرم بنفسه.
29 -
من ناب عن غيره بدأ بنفسه عند كل جمرة.
30 -
من أراد الرمي عن غيره فله حالتان، وهما: أن يرمي عن نفسه جميع الجمار ثم عن مستنيبه. والأخرى أن يرمي عن نفسه وعن مستنيبه عند كل جمرة، وهذا هو
الصواب دفعاً للحرج والمشقة، ولعدم الدليل الذي يوجب خلاف ذلك.
31 -
الذبح أو النحر في اليوم الأول خير وأفضل من الثاني والثاني خير من الثالث والثالث خير من الرابع.
32 -
الحلق في الحج والعمرة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالرحمة والمغفرة للمحلقين ثلاثاً والمقصرين واحدة. ولا يكفي أخذ بعض الرأس؛ بل لابد من تقصيره كله كالحلق، إلا إذا كان أداء العمرة قريباً من وقت الحج فإن الأفضل فيها التقصير حتى يكون الحلق في الحج؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتقصير لما فرغوا من طوافهم وسعيهم في حجة الوداع، إلا من كان معه الهدي فإنه بقي على إحرامه ولم يأمرهم بالحلق؛ لأن أداءهم للعمرة كان قبل الحج بأيام قليلة.
(أ) من سبق له أن قصر من بعض رأسه جاهلاً أو ناسياً وجوب التعميم فلا شيء عليه. والمرأة تقصر من كل ضفيرة أُنملة فأقل.
(ب) من نسي الحلق أو التقصير وتحلل بعد الرمي فإنه ينزع ثيابه إذا ذكر ثم يحلق أو يقصر ثم يلبسهما، فإن قصر وهو عليه ثيابه جهلاً منه أو نسياناً فلا شيء عليه؛ لعموم قوله سبحانه:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]، وحديث صاحب الجبة.
33 -
لا دليل لمن قال بعدم جواز تأخير طواف الإفاضة عن ذي الحجة، والصواب جواز التأخير، ولكن الأولى المبادرة به.
34 -
الواجب على من حاضت قبل طواف الإفاضة أن تنتظر هي ومحرمها حتى تطهر ثم تطوف الإفاضة، فإن لم تقدر جاز لها السفر ثم تعود لأداء طواف الإفاضة، فإن كانت لا تستطيع العودة وهي من سكان المناطق البعيدة كأندونيسيا أو المغرب وأشباه ذلك جاز لها على الصحيح أن تتحفظ وتطوف بنية الحج وأجزأها ذلك عند جمع من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله وآخرون من أهل العلم.
35 -
على القارن والمفرد سعي واحد، فإن فعلاه مع طواف القدوم أجزأهما ولا يلزمهما أن يأتيا بسعي آخر، فإن لم يفعلاه مع طواف القدوم وجب أن يأتيا به مع طواف الإفاضة.
36 -
المبيت في منى يسقط عن أصحاب الأعذار كالسقاة والمريض الذي يشق عليه المبيت في منى، لكن يشرع لهم أن يحرصوا في بقية الأوقات على المكث بمنى مع الحجاج؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إذا تيسر ذلك.
37 -
يرخص للسقاة والرعاة والعاملين على مصلحة الحجاج أن يتركوا المبيت في منى ويؤخروا الرمي لليوم الثالث إلا يوم النحر فالمشروع للجميع فعله وعدم تأخيره.
38 -
من ترك المبيت في منى جاهلاً حدودها مع القدرة على المبيت فعليه دم؛ لأنه ترك واجباً من غير عذر شرعي وكان الواجب عليه أن يسال حتى يؤدي الواجب.
39 -
إذا اجتهد الحاج في التماس مكان في منى ليبيت فيه فلم يجد فلا حرج عليه أن ينزل خارجها، ولا فدية عليه لعموم قول الله سبحانه:{فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»
(1)
.
40 -
من ترك المبيت في منى ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر بلا عذر فعليه دم.
41 -
من أدركه الغروب في اليوم الثاني عشر وقد ارتحل من منى فهو في حكم النافر، ولا شيء عليه. أما من أدركه الغروب ولم يرتحل فإنه يلزمه المبيت في ليلة الثالث عشر والرمي في اليوم الثالث عشر بعد الزوال؛ لقول الله سبحانه:{فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة: 203]؛ ومن غابت عليه الشمس في اليوم الثاني عشر قبل أن يرتحل لا يسمى متعجلاً.
(1)
رواه البخاري في (الاعتصام بالكتاب والسنة) باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم 7288 ومسلم في (الحج) باب فرض الحج مرة في العمر برقم 1337
42 -
من ترك طواف الوداع أو شوطاً منه فعليه دم يذبح في مكة ويوزع على فقرائها، ولو رجع وأتى به فإن الدم لا يسقط عنه.
43 -
لا يصح الطواف بغير طهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يطوف توضأ، وقد قال:«خذوا عني مناسككم»
(1)
، ولما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام" وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصح، وهو في حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من جهة الرأي.
44 -
ليس على الحائض والنفساء وداع؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض"
(2)
متفق على صحته. والنفساء مثلها عند أهل العلم.
45 -
من طاف طواف الوداع قبل تمام الرمي لم يجزئه عن الوداع؛ لكونه أداه قبل وقته، وإن سافر فعليه دم.
46 -
من طاف للوداع واحتاج شراء شيء ولو لتجارة جاز مادامت المدة قصيرة، فإن طالت المدة عرفاً أعاد الطواف.
47 -
لا يجب على المعتمر وداع؛ لعدم الدليل، وهو قول الجمهور، وحكاه ابن عبد البر إجماعاً.
48 -
من مات في أثناء أعمال الحج فإنه لا يكمل عنه؛ لحديث الذي وقصته راحلته فمات فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكمال الحج عنه، وقال:«إنه يُبعث يوم القيامة ملبياً»
(3)
.
49 -
ما يفعله كثير من الناس من الإكثار من العمرة بعد الحج من التنعيم أو الجعرانة أو غيرهما وقد سبق أن اعتمر قبل الحج فلا دليل على شرعيته، بل الأدلة تدل
(1)
رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً برقم 1297
(2)
رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328
(3)
رواه البخاري في (الجنائز) باب الكفن في ثوبين برقم 1265، ومسلم في (الحج) باب ما يُفعل بالمحرم إذا مات برقم 1206
على أن الأفضل تركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك في حجة الوداع.
50 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "من ترك نسكاً أو نسيه فليهرق دماً"
(1)
له حكم الرفع؛ لأنه لا يقال من جهة الرأي، ولم نعرف مخالفاً له من الصحابة رضي الله عنهم. فعلى من ترك واجباً عمداً أو سهواً أو جهلاً كرمي الجمار أو المبيت ليالي منى وطواف الوداع ونحو ذلك - دم يُذبح في مكة المكرمة ويُقسم على الفقراء. والمجزئ في ذلك هو المجزئ في الأضحية، وهو رأس من الغنم أو سبع بدنة أو سُبع بقرة.
باب الزيارة
1 -
(أ) زيارة المسجد النبوي سنة في جميع الأوقات، وليس لها تعلق بالحج، وليست واجبة.
2 -
حديث: "أن من صلى فيه - يعني المسجد النبوي - أربعين صلاة كانت له براءة من النار وبراءة من النفاق"
(2)
ضعيف عند أهل التحقيق فلا يعتمد عليه.
باب الفوات والإحصار
1 -
الإحصار يكون بالعدو وغيره كالمرض وعدم النفقة، ولا يعجل بالتحلل إذا كان يرجو زوال المانع قريباً.
2 -
من أحصر فليس له التحلل حتى ينحر هدياً ثم يحلق أو يقصر، فإن كان قد اشترط حل ولم يكن عليه شيء، لا هدي ولا غيره، وإن عجز عن الهدي صام عشرة أيام ثم حلق أو قصر ثم حل.
3 -
يذبح المحصر هديه في المكان الذي أحصر فيه، سواء كان داخل الحرم أو خارجه، ويُعطى للفقراء، فإن لم يكن هناك فقراء وجب نقله إليهم.
(1)
رواه مالك في الموطأ في (الحج) باب التقصير برقم 905، وفي باب ما يفعل من نسي من نسكه شيئاً برقم 957
(2)
رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم 12173
باب الهدي والأضحية
1 -
ليس على أهل مكة هدي تمتع ولا قران وإن اعتمروا في أشهر الحج وحجوا؛ لقول الله سبحانه لما ذكر وجوب الدم على المتمتع والصيام عند العجز عنه: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة: 196].
2 -
من ذبح هديه قبل يوم النحر فإنه لا يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يذبحوا إلا أيام النحر، ولو كان الذبح جائزاً قبل يوم النحر لبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولو بينه لنقله أصحابه رضي الله عنهم.
يجوز تأخير ذبح الهدي إلى اليوم الثالث عشر؛ لأن أيام التشريق كلها أيام أكل وشرب وذبح، والأفضل تقديمه يوم العيد.
3 -
لا يجوز صيام أيام التشريق لا تطوعاً ولا فرضاً إلا لمن لم يجد الهدي؛ لحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي"
(1)
رواه البخاري.
4 -
الأفضل لمن عجز عن دم التمتع والقران أن يصوم قبل يوم عرفة الثلاثة الأيام، وإن صامها في أيام التشريق فلا بأس كما تقدم في المسألة السابقة.
5 -
من كان قادراً على هدي التمتع والقران وصام فإنه لا يجزئه صيامه وعليه أن يذبح ولو بعد فوات أيام النحر؛ لأنه دين في ذمته.
6 -
لا يجوز إخراج قيمة الهدي وإنما الواجب ذبحه، والقول بجواز إخراج القيمة تشريع جديد ومنكر؛ قال تعالى:{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21].
7 -
تجوز الاستدانة لشراء الهدي، ولا يجب ذلك إذا كان عاجزاً عن الثمن، ويجزئه الصوم.
8 -
الإطعام في الفدية وكذا الذبح كلاهما لفقراء الحرم.
9 -
يوزع الهدي على الفقراء والمساكين والمقيمين في الحرم من أهل مكة وغيرهم.
(1)
رواه البخاري في (الصوم) باب صيام أيام التشريق برقم 1998
10 -
من ترك هديه في مكان لا يستفاد منه لم يجزئه ذلك.
11 -
من ذبح هديه خارج الحرم كعرفات وجدة لم يجزئه ولو وزعه في الحرم، وعليه قضاؤه، سواء كان عالماً أو جاهلاً.
12 -
يستحب أن يأكل ويتصدق ويهدي من هدي التمتع والقران والأضحية
13 -
يستحب له أن يقول عند ذبح الهدي أو نحره: " بسم الله والله اكبر، اللهم هذا منك ولك " ويوجهه إلى القبلة، والتوجيه للقبلة سنة وليس بواجب.
14 -
الأضحية سنة مؤكدة في أصح قولي أهل العلم، إلا إن كانت وصية فيجب تنفيذها، ويشرع للإنسان أن يبر ميته بالأضحية وغيرها من الصدقة.
الحكمة في تشريع الحج وأحكامه وفوائده
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخليله وصفوته من عباده نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما منّ به من هذا اللقاء في خير بقعة بإخواني في الله؛ للتواصي والتناصح بالحق، والتعاون على البر والتقوى، والتذكير بالله وبحقه، والتذكير بهذه الشعيرة العظيمة شعيرة الحج، وما فيها من الخير العظيم، والمنافع الكبيرة والعواقب الحميدة للمسلمين في كل مكان.
فأسأله جل وعلا أن يجعله لقاءً مباركاً، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعاً، وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يتقبل منا ومن سائر إخواننا حجاج بيت الله الحرام وغيرهم من المسلمين، أسأل الله أن يتقبل منا جميع أعمالنا التي نتقرب بها إليه سبحانه وتعالى.
(1)
محاضرة لسماحة الشيخ بنادي مكة الثقافي الأدبي في حج عام 1412 هـ
ثم أشكر أخي معالي الشيخ راشد الراجح مدير جامعة أم القرى ورئيس هذا النادي على هذه الدعوة لهذا اللقاء، وأسأل الله جل وعلا أن يبارك في جهوده، وأن يعينه على كل خير، وأن يجعلنا وإياكم وإياه من الهداة المهتدين، إنه خير مسؤول.
أيها الأخوة: شعيرة الحج أمرها عظيم وفوائدها كثيرة وحكمها متنوعة، ومن تأمل كتاب الله وتأمل السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الموضوع عرف عن ذلك الشيء الكثير.
ولقد شرع الله سبحانه هذه الشعيرة لعباده لما في ذلك من المصالح العظيمة، والتعارف، والتعاون على الخير، والتواصي بالحق، والتفقه في الدين، وإعلاء كلمة الله، وتوحيده، والإخلاص له، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة والفوائد التي لا تحصى.
ومن رحمته سبحانه أن جعل الحج فرضاً على جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فالحج فريضة عامة على جميع المسلمين: رجالاً ونساءً، عرباً وعجماً، حكاماً ومحكومين، مع الاستطاعة، كما قال عز وجل:{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97]. فالآية الكريمة واضحة في أن هذا الحج واجب على جميع الناس مع الاستطاعة.
والحج مرة في العمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: «لو قلتها لوجبت، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع»
(1)
. وهذا من تيسير الله أيضاً ومن نعمته العظيمة أن جعلها مرة في العمر؛ لأنه لو كان أكثر من ذلك لكانت المشقة عظيمة بسبب الكلفة الكبيرة بالنسبة للبعيدين عن هذه البقعة المباركة، ولكن الله بلطفه ورحمته جعل الحج مرة في العمر، ومن زاد فهو تطوع.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» .
(2)
متفق على صحته.
(1)
رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن العباس برقم 2637، والدارمي في (المناسك) باب كيف وجوب الحج برقم 1788
(2)
رواه البخاري في (الحج) باب وجوب العمرة وفضلها برقم 1773، ومسلم في (الحج) باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1349
وفي الصحيحين أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»
(1)
.
وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، والحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة»
(2)
.
فالحج له شأن عظيم وفوائد كثيرة، ومن فوائده العظيمة أنه إذا كان مبروراً فجزاؤه الجنة والسعادة وغفران الذنوب، وهذه فائدة كبيرة وكسب لا يقاس بغيره.
والله جل وعلا جعل هذا البيت مثابة للناس وأمناً، كما قال جل وعلا:{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} [البقرة: 125]، يثوبون إليه من كل مكان مرة بعد مرة، ولا يشبعون من المجيء إليه؛ لأن في المجيء إليه خيراً عظيماً وفوائد جمة، وهو مؤسس على توحيد الله والإخلاص له، قال تعالى:{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج: 26]. فالله هيأ هذا البيت لخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليقيمه على توحيد الله، والإخلاص له، وعدم الإشراك به، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن أول بيت وضع للناس، قال:«هو المسجد الحرام»
(3)
. والله يقول في كتابه العظيم: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين} [آل عمران: 96]. فهو أول بيت وضع للعبادة العامة، وقد بين سبحانه وتعالى أنه أسس على توحيد الله والإخلاص له.
فمن الواجب على كل مسلم قصد هذا البيت أن يخلص العبادة لله وحده، وأن يجتهد في أن تكون أعماله كلها لله وحده: في صلاته ودعائه، في طوافه وسعيه، وفي جميع عباداته؛ ولهذا قال الله تعالى:{وطهر بيتي} [الحج: 26]، أي طهر مكان البيت من الشرك. "للطائفين"، وقد بدأ بالطواف؛ لأن الطواف لا يفعل إلا في هذا البيت العتيق، ما من عبادة في الدنيا فيها طواف إلا حول البيت العتيق، أما الطواف بالقبور
(1)
رواه البخاري في (الحج) باب فضل الحج المبرور برقم 1521، ومسلم في (الحج) باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1350
(2)
رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن مسعود برقم 3660، والترمذي في (الحج) باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة برقم 810
(3)
رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء) باب قول الله تعالى: "ووهبنا لداود سليمان" برقم 3425، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) أول الكتاب (باب) برقم 520
والأشجار والأحجار فهو من الشرك الأكبر، كالصلاة لها والسجود لها. وإن طاف بها تقرباً لله فهو بدعة، ليس هناك طواف يتقرب به لله إلا بالبيت العتيق، وتطهيره يكون بتنزيهه من الشرك بالله والبدع المضلة، وألا يكون حوله إلا توحيد الله والإخلاص له وما شرع من العبادة.
فالواجب على حماة هذا البيت والقائمين عليه، أن يطهروا هذا البيت من الشرك والبدع والمعاصي، حتى يكون كما شرع الله بيتاً مقدساً مطهراً من كل ما حرمه الله.
وفي البيت العتيق آيات بينات: مقام إبراهيم، وأرض الحرم كلها مقامات لإبراهيم،
فالصفا والمروة والبيت العتيق ومنى ومزدلفة وعرفات، كلها مقامات تذكر بهذا النبي العظيم، والرسول الكريم، وما بذله من الجهود والأعمال الجليلة في سبيل توحيد الله والإخلاص له، ودعوة قومه إلى توحيد الله واتباع شريعته.
ويقول سبحانه في شعيرة الحج العظيمة: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197]، وهي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، أي شهران وبعض الشهر، ثم يقول تعالى:{فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} .
هذه من المنافع العظيمة والفوائد الكبيرة، أن الوافد لهذا البيت العتيق وفد لإخلاص العبادة لله وحده دون الشرك به سبحانه وتعالى، مع التطهر والحذر من كل ما يخالف شرع الله سبحانه، حتى تكون العبادة كاملة لله عز وجل، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، وبذلك يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، إذا حج فلم يرفث ولم يفسق. والرفث هو: الجماع وما يدعو إليه من ملامسات ونظرات وكلمات وغيرها، كما وضح ذلك العلماء رحمهم الله.
والفسوق: المعاصي كلها، المحرمة في الحج، والمحرمة مطلقاً، ومن المحرم في الحج: قص الأظافر بعد الإحرام، وقص الشعر، والتطيب، ولبس المخيط، وتغطية الرأس للرجل، ولبس القفازين للرجل والمرأة، والنقاب للمرأة، إلى غير هذا مما حرم الله على المحرم.
وهناك محرمات عامة، كالزنى والسرقة والظلم في النفس والمال والعرض وأكل الربا إلى غير ذلك مما هو محرم على الجميع في الحج وغيره.
"ولا جدال" وعلى المؤمن أن يكون بعيداً عن الجدال والمراء الذي يثير العداوات والشحناء. فالحج وسيلة للمحبة والتعاون والصفاء، ومن حكمه العظيمة ترك ما يسبب البغضاء والشحناء من رفث أو فسوق أو جدال، فهو وسيلة عظيمة إلى صفاء القلوب واجتماع الكلمة والتعاون على البر والتقوى، والتعارف بين عباد الله في سائر أرض الله. ولقد كان عند العرب جدال في جاهليتها فنهى الله عن ذلك، فلا جدال في الحج، لا من جهة ما كانت عليه في الجاهلية ولا من جهة ما يسبب البغضاء والشحناء، كل ذلك لا يجوز، فإذا صدر منك لأخيك غيبة فتب إلى الله منها واستسمحه من ذلك حتى تكون الكلمات في الحج كلها تدعو إلى الخير والبر والتقوى والتعاون على الخير والصفاء، والبعد عن كل ما يسبب الفرقة والاختلاف. أما الجدال بالتي هي أحسن فهذا مطلوب دائماً في كل وقت، قال تعالى:{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]. هذا مطلوب في حق المحرم وغيره، قال تعالى:{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46]. فلا حرج في الجدال بالتي هي أحسن لإزالة الشبه وإيضاح الحق بأدلته مع البعد عن أسباب الشحناء والعداوة.
ثم قال جل وعلا: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} [البقرة: 197]. وفي هذا حث وتحريض على أنواع الخير، فعلى الحاج أن يحرص على فعل الخير بكل وسيلة، والله سبحانه يعلمه ويجازيك عليه، والخير يشمل القول والعمل؛ فالكلمة الطيبة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كله خير، والصدقة والمواساة وإرشاد الضال وتعليم الجاهل كله خير، فجميع ما ينفع الحاج أو ينفع المسلم من قول أو عمل مما شرعه الله وما أباحه جل وعلا كله خير.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} . فالله جل وعلا أمر الحاج بالتزود بالنفقة وبكل ما ينفعه في الحج، من العلم النافع والكتب المفيدة وكل ما ينفع نفسه أو غيره، وكلمة "وتزودوا" كلمة مطلقة تشمل أنواع التزود من أمور الدنيا والدين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أناس يحجون من غير زاد ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله تعالى:{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} . والآية عامة تعم جميع الناس، فعلى جميع الناس في كل أصقاع الدنيا أن يتزودوا من العلم ومن المال ومن كل ما ينفعهم في حجهم، حتى لا يحتاجوا للناس. والله تعالى يقول: {فإن خير الزاد
التقوى}، أي: خير الزاد للمؤمن ولإخوانه التقوى، أن يتقي الله بطاعته والإخلاص له، وفي نفع إخوانه الحجاج، وتوجيههم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ومواساة المحتاج منهم بالطريقة الحسنة وبالأسلوب المناسب.
ثم كرر سبحانه فقال: {واتقون يا أولي الألباب} . أمر بعد أمر أكد فيه سبحانه وتعالى التقوى لما فيها من الخير العظيم، كما قال سبحانه:{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]، وسئل النبي عليه الصلاة والسلام: أي الناس أكرم؟ قال: "أتقاهم"
(1)
. فأتقى الناس لله هو أكرمهم عنده وأفضلهم عنده، من عرب وعجم، وأحرار وعبيد، ورجال ونساء، وجن وإنس، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأنبياء، ثم بعدهم الأفضل فالأفضل.
وقد قال تعالى: {يا أولي الألباب} ؛ لأن أولي الألباب - وهي العقول الصحيحة- هم الذين يعقلون عن الله، وهم الذين يفهمون مراده، وهم الذين يقدرون النصائح والأوامر، بخلاف فاقدي العقول فلا قيمة لهم، ومن أعرض عن الله وغفل عنه فليس من أولي الألباب، وإنما أولو الألباب المقبلون على الله، الراغبون في طاعته، الراغبون فيما ينفع الناس، الناس كلهم مأمورون بالتقوى، لكن أولي الألباب لهم ميزة؛ لما أعطاهم الله من العقل والبصيرة، كما قال جل وعلا في آية أخرى:{وليذكر أولو الألباب} [إبراهيم: 52]، فكلنا مأمورون بالتذكر والتقوى لكن أولي الألباب لهم شأن ولهم ميزة في فهم أوامر الله وتنفيذها، وهكذا قوله تعالى:{إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} [آل عمران: 190]، فيه آيات للجميع لكل أحد، لكن لا يفهمها ولا يعقلها ولا يقدرها إلا أولو الألباب.
ويقول سبحانه: {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27]، أي: أذن يا إبراهيم وأعلن للناس بالحج، وقد فعل ونادى الناس وأعلن عليه الصلاة والسلام، والدعاة إلى الله ينادون بالحج اقتداء بإبراهيم والأنبياء من بعده، وبنبينا عليه الصلاة والسلام. "يأتوك رجالاً"، أي: مشاة. وقد استنبط بعض الناس من الآية الكريمة أن الماشي أفضل ولكن ليس بظاهر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حج راكباً وهو القدوة والأسوة، عليه
(1)
رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء) باب قول الله تعالى: "واتخذ الله إبراهيم خليلا" برقم 3353، ومسلم في (الفضائل) باب من فضائل يوسف برقم 2378
الصلاة والسلام، ولكن الراجل يدل فعله على شدة الرغبة وقوتها في الحج، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون أفضل، فمن جاء ماشياً فله أجره والراكب الذي رغب في رحمة الله وإحسانه له أجره وهو أفضل. {وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} ، من كل فج، أي: طريق واسع بعيد من المشرق والمغرب ومن كل مكان، يريدون وجه الله والدار الآخرة.
لماذا أتوا؟ {ليشهدوا منافع لهم} [الحج: 28]، هذه المنافع أبهمها الله تعالى، ولكنه شرحها في مواضع كثيرة، منها قوله بعد ذلك:{ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} ، وكل ما يفعله الحاج من طاعة لله ونفع لعباده مما ذكر ومما لم يذكر كله داخل في المنافع. وهذه من حكم الله في إبهامها، حتى يدخل فيها كل ما يفعله المؤمن والمؤمنة من طاعة لله ونفع لعباده. فالصدقة على الفقير منفعة، وتعليم الجاهل منفعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منفعة، وفي الدعوة إلى الله منافع عظيمة، والصلاة في المسجد الحرام منفعة، والقراءة منفعة، وتعليم العلم منفعة، وكل ما تفعله مما ينفع الناس من قول أو عمل أو صدقة أو غيرها مما شرعه الله أيضاً داخل في المنافع.
فينبغي للحاج أن يستغل هذه الفرصة العظيمة ويعمرها بتقوى الله، والحرص على جميع المنافع التي ترضي الله وتنفع عباده، فيشتغل بذكر الله في مكة وفي المشاعر وفي جميع الأماكن، ويشتغل بطاعة الله فيما ينفع الناس، إن كان عنده علم، يعلم الناس ويفقه الناس ويدعو إلى الله ويرشد إليه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإن كان عنده مال يحسن إلى الناس ويواسي الفقير ويعين على نوائب الحق، ويعمر الوقت بذكر الله وقراءة القرآن، ويعتني بأداء المناسك كما شرعها الله ويتحرى في ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأعظم المنافع أن يكون هدفه في جميع الأمور توحيد ربه والإخلاص له ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى.
ومما ينبغي للحاج، أن يتفقه في دينه، ويسأل إذا لم يكن عنده علم، ويحضر حلقات العلم في المسجد الحرام وفي مساجد مكة وفي المسجد النبوي، ويسأل أهل العلم، ويطلب الكتب المفيدة، ويلتمس المنسك الإسلامي الذي ليس فيه ما يخالف الشرع، ويحذر البدع والأقوال المرجوحة، ويتحرى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى
يكون حجه مبروراً، وحتى تكون رحلته مباركة نافعة له ولغيره، وحتى يستفيد منها بعد ذلك في بلاده.
والحج أحكامه معروفة ومناسكه معلومة لأهل العلم، وقد عرفها الكثير من المسلمين الذين ارتادوا الحج، ولكن الكثير من الناس يجهل الأحكام، فعليه أن يتعلم ويسأل أهل العلم عما أشكل عليه ويحرص على معرفة الأحكام الشرعية في مسائل الحج، وهكذا كل منسك يتحرى فيه صاحبه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعض عليها بالنواجذ، وهكذا يحرص على كتب أهل العلم التي تعتني بالدليل وإيضاح الحق بحجته ينبغي أن يعتني بها.
ويجب على المؤمن الحاج وغيره أن يحذر كل ما حرم الله في الحج وفي غيره، في بيته وفي طريقه وفي مجتمعه مع إخوانه وفي كل مكان، وأن يسأل الله التوفيق والإعانة على ذلك، والله جل وعلا يحب من عباده أن يسألوه ويتضرعوا إليه وهو جواد كريم سبحانه وتعالى.
والمشروع للحاج عند وصوله إلى الميقات أن يغتسل إذا تيسر له ذلك، وأن يتوضأ ويصلي ركعتين سنة الوضوء إلا أن يكون إحرامه بعد فريضة فإن ذلك يكفيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في حجة الوداع بعد صلاة الظهر في ذي الحليفة، وإذا كان منزله قريبا من الميقات كأهل الطائف والمدينة واغتسل في بيته كفاه ذلك، لكن لا يحرم إلا إذا وصل الميقات، والمراد بالإحرام نية الحج أو العمرة أو كليهما والتلبية بذلك. أما التجرد من المخيط فلا بأس أن يفعله قبل ذلك في بيته أو في الطريق، وهكذا الغسل كما تقدم. ويتجرد من المخيط ويلبس ملابس الإحرام، ثم يركب سيارته، والأفضل أن يكون إحرامه بالحج أو العمرة بعد الركوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بعد أن ركب دابته، والمراد بذلك نية الدخول في الحج أو العمرة. ثم يكثر من التلبية ويستمر فيها مع ذكر الله وتسبيحه والاستغفار والتوبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل، إلى أن يشرع في طواف العمرة إن كان إحرامه بعمرة، فإذا شرع في الطواف قطع التلبية. أما إن كان إحرامه بالحج فإنه يستمر في التلبية إلى أن يرمي جمرة العقبة، فبعد الرمي صباح العيد يقطع التلبية ويشتغل بالتكبير.
ولابد في رمي الجمار من أن يتحقق أو يغلب على ظنه أن الحجر وصل إلى الحوض، فإن لم يتحقق ذلك أو يغلب على ظنه أعاد الرمي في الوقت، فإن خرج من منى ولم يعد فعليه دم؛ لأنه ترك واجباً، أما إذا تيسر له أن يعيد الرمي في أيام منى أعاده مرتباً بالنية ولا شيء عليه.
ومن المعلوم أنه يمكن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة بعد رمي الجمار، بعد الزوال. وإذا أحب أن يسافر طاف للوداع وسافر، هذا إذا كان قد طاف طواف الحج، أما إذا لم يكن قد طاف طواف الحج فلا مانع أن يكون طواف الحج هو طواف الوداع، فطواف الإفاضة يكفيه عن طواف الوداع إذا سافر بعده، وإن تأخر ورمى الجمار يوم الثالث عشر بعد الزوال فهذا هو الأفضل وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن غابت عليه شمس يوم الثاني عشر وهو في منى لزمه المبيت وأن يرمي يوم الثالث عشر بعد الزوال، ومن فاته الرمي حتى غابت الشمس يوم الثالث عشر لزمه دم عن ترك هذا الواجب العظيم.
أما فيما يتعلق بعرفة فهي الركن الأعظم للحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»
(1)
، فلابد في الحج من الوقوف بعرفة يوم التاسع بعد الزوال، هذا هو المشهور عند جمهور أهل العلم، ويقول بعضهم: إذا وقف قبل الزوال أجزأه؛ لأنه يعد من عرفة. لكن المشروع أن يقف بعد الزوال إلى غروب الشمس، وإن وقف ليلة النحر أجزأه ذلك قبل طلوع الفجر، ومن فاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر فاته الحج، ومن وقف نهاراً وانصرف قبل الغروب فقد ترك واجباً فعليه دم عند جمهور أهل العلم.
ويشرع للحاج أن يكثر في عرفات من الدعاء والذكر والتلبية، مع رفع الأيدي كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والسنة أن يصلي الظهر والعصر جمع تقديم مع القصر، بأذان وإقامتين في مسجد نمرة إن تيسر له ذلك، فإن لم يتيسر ذلك، فعلى كل جماعة أن يصلوا في مكانهم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يبقى الحاج في محله من عرفة، وعرفة كلها موقف، ويدعو الله في جميع الأحوال: جالساً أو مضطجعاً أو قائماً، ويكثر من الذكر والتلبية إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس انصرف بسكينة ووقار وهدوء إلى مزدلفة، ويصلي بها المغرب والعشاء قبل أن يحط الرحال، بأذان
(1)
رواه الإمام أحمد في (مسند الكوفيين) حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي برقم 18475، والترمذي في الحج باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج برقم 889
واحد وإقامتين، يصلي المغرب ثلاثاً والعشاء اثنتين، ولا يصلي بينهما شيئاً، ولا بين الظهر والعصر في عرفات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بينهما شيئا.
ويمكن للحاج بعد صلاة المغرب والعشاء أن يفعل ما يشاء، فإن شاء نام، وإن شاء أكل، وإن شاء قرأ القرآن، وإن شاء ذكر الله. ويمكن للضعفاء أن ينفروا إلى منى في النصف الأخير من الليل، والأفضل بعد غروب القمر قبل الزحمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص لهم، رحمة بهم وتخفيفاً عنهم. ويمكنهم الرمي قبل الفجر، ومن أخر الرمي إلى الضحى فلا بأس، والرمي في الضحى للأقوياء هو الأفضل وهو السنة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن طاف بعد الرمي أو قبل الرمي أجزأه، ولكن تأخير الطواف بعد الرمي والذبح والحلق يكون أفضل، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو قدم فلا بأس، وما سئل النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد عن شيء قدم ولا أخر إلا قال:«لا حرج»
(1)
؛ في الرمي والذبح والحلق والتقصير والطواف والسعي.
والخلاصة أن السنة في يوم العيد: الرمي أولاً، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، والحلق أفضل، ثم يتحلل، ثم الطواف والسعي إن كان عليه سعي.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعاً الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يفقههم في الدين، وأن يرزقهم النشاط المتواصل لمعرفة أمور الدين والتعلم والرغبة فيما عند الله.
كما نسأله سبحانه أن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادتهم، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين في كل مكان لتحكيم شريعة الله والرضا بها وإيثارها على ما سواها، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
(1)
رواه البخاري في (العلم) باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها برقم 83، ومسلم في (الحج) باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم 1306
بحوث هامه حول الزكاة
(1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الباعث لكتابة هذه الكلمة هو النصح والتذكير بفريضة الزكاة، التي تساهل بها الكثير من المسلمين فلم يخرجوها على الوجه المشروع مع عظم شأنها، وكونها أحد أركان الإسلام الخمسة، التي لا يستقيم بناؤه إلا عليها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت»
(2)
.
وفرض الزكاة على المسلمين من أظهر محاسن الإسلام ورعايته لشئون معتنقيه؛ لكثرة فوائدها، ومسيس حاجة فقراء المسلمين إليها، فمن فوائدها تثبيت أواصر المودة بين الغني والفقير؛ لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
ومنها تطهير النفس وتزكيتها، والبعد بها عن خلق الشح والبخل، كما أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. ومنها تعويد المسلم صفة الجود والكرم والعطف على ذي الحاجة.
ومنها استجلاب البركة والزيادة والخلف من الله، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يقول الله عز وجل: {يا ابن آدم أنفق أُنفق عليك}
(3)
. إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة.
وقد جاء الوعيد الشديد في حق من بخل بها أو قصر في إخراجها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ
(1)
كلمة لسماحته بعنوان (بحوث هامة حول الزكاة) نشرت ضمن كتيب بعنوان (رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام) من مطبوعات رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1401 هـ، وقد نشرت في (مجلة الدعوة) العدد 1089 في 29/ 8/ 1407 هـ
(2)
رواه البخاري في (الإيمان) باب بني الإسلام على خمس برقم 8، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم 16، والترمذي في (الإيمان) باب ما جاء بني الإسلام على خمس برقم 2609، واللفظ له.
(3)
رواه البخاري في (النفقات) باب فضل النفقة على الأهل برقم 5352، ومسلم في (الزكاة) باب الحث على النفقة برقم 993
أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35].
فكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز، يعذب به صاحبه يوم القيامة، كما دل على ذلك الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»
(1)
.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الإبل والبقر والغنم الذي لا يؤدي زكاتها، واخبر أنه يعذب بها يوم القيامة.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: «من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك» ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
(2)
[آل عمران: 180].
والزكاة تجب في أربعة أصناف: الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، والسائمة من بهيمة الأنعام، والذهب والفضة، وعروض التجارة.
ولكل من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود لا تجب الزكاة فيما دونه، فنصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق: ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون مقدار النصاب بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من التمر والزبيب والحنطة والأرز والشعير ونحوها ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أربع حفنات بيدي الرجل المعتدل الخلقة إذا كانت يداه مملوءتين.
والواجب في ذلك العشر إذا كانت النخيل والزروع تسقى بلا كلفة كالأمطار والأنهار والعيون الجارية ونحو ذلك، أما إذا كانت تسقى بمؤونة وكلفة، كالسواني والمكائن
(1)
رواه مسلم في (الزكاة) باب إثم مانع الزكاة برقم (987)
(2)
رواه البخاري في (الزكاة) باب إثم مانع الزكاة برقم (1403)
الرافعة للماء ونحو ذلك، فإن الواجب فيها نصف العشر، كما صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما نصاب السائمة من الإبل والبقر والغنم، ففيه تفصيل مبين في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي استطاعة الراغب في معرفته سؤال أهل العلم عن ذلك، ولولا قصد الإيجاز لذكرناه لتمام الفائدة.
وأما نصاب الفضة فمائة وأربعون مثقالاً، ومقداره بالدراهم العربية السعودية ستة وخمسون ريالاً، ونصاب الذهب عشرون مثقالاً، ومقداره من الجنيهات السعودية أحد عشر جنيهاُ وثلاثة أسباع الجنيه، وبالغرام اثنان وتسعون غراماً.
والواجب فيهما ربع العشر على من ملك نصاباً منهما أو من أحدهما وحال عليه الحول، والربح تابع للأصل فلا يحتاج إلى حول جديد، كما أن نتاج السائمة تابع لأصله فلا يحتاج إلى حول جديد إذا كان اصله نصاباً.
وفي حكم الذهب والفضة الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم، سواء سميت درهماً أو ديناراً أو دولاراً أو غير ذلك من الأسماء، إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة أو الذهب، وحال عليها الحول، وجبت فيها الزكاة.
ويلتحق بالنقود حلي النساء من الذهب أو الفضة خاصة، إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، فإن فيها الزكاة وإن كانت معدة للاستعمال أو العارية في أصح قولي العلماء؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار
…
»
(1)
إلى آخر الحديث المتقدم.
ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى بيد امرأة سوارين من ذهب فقال: «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا. قال: «أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟» فألقتهما، وقالت: هما لله ولرسوله
(2)
. أخرجه أبو داود والنسائي بسند حسن.
(1)
سبق تخريجه
(2)
رواه أبو داود في (الزكاة) باب الكنز ما هو وزكاة الحلي برقم (1563)
وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب، فقالت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ما بلغ أن يزكى فزكي فليس بكنز»
(1)
. مع أحاديث أخرى في هذا المعنى.
أما العروض وهي السلع المعدة للبيع، فإنها تقوَّم في آخر العام ويخرج ربع عشر قيمتها، سواء كانت قيمتها مثل ثمنها أو أكثر أو أقل؛ لحديث سمرة قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع»
(2)
رواه أبو داود.
ويدخل في ذلك الأراضي المعدة للبيع والعمارات والسيارات والمكائن الرافعة للماء وغير ذلك من أصناف السلع المعدة للبيع، أما العمارات المعدة للإيجار لا للبيع، فالزكاة في أجورها، إذا حال عليها الحول، أما ذاتها فليس فيها زكاة؛ لكونها لم تعد للبيع، وهكذا السيارات الخصوصية والأجرة ليس فيها زكاة إذا كانت لم تعد للبيع، وإنما اشتراها صاحبها للاستعمال. وإذا اجتمع لصاحب سيارة الأجرة أو غيره نقود تبلغ النصاب، فعليه زكاتها إذا حال عليها الحول، سواء كان أعدها للنفقة أو للتزوج أو لشراء عقار أو لقضاء دين أو غير ذلك من المقاصد؛ لعموم الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الزكاة في مثل هذا. والصحيح من أقوال العلماء أن الدين لا يمنع الزكاة؛ لما تقدم.
وهكذا أموال اليتامى والمجانين تجب فيها الزكاة عند جمهور العلماء إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، ويجب على أوليائهم إخراجها بالنية عنهم عند تمام الحول؛ لعموم الأدلة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ لما بعثه على أهل اليمن:«إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم»
(3)
.
والزكاة حق الله لا تجوز المحاباة بها لمن لا يستحقها، ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسه نفعاً أو يدفع ضراً، ولا أن يقي بها ماله أو يدفع بها عنه مذمة، بل يجب على المسلم صرف زكاته لمستحقيها؛ لكونهم من أهلها لا لغرض آخر، مع طيب النفس بها والإخلاص لله في ذلك، حتى تبرأ ذمته ويستحق جزيل المثوبة والخلف.
(1)
رواه أبو داود في (الزكاة) باب الكنز ما هو وزكاة الحلي برقم (1564)
(2)
رواه أبو داود في (الزكاة) باب العروض إذا كانت للتجارة برقم (1562)
(3)
رواه البخاري في (الزكاة) باب وجوب الزكاة برقم 1395، ومسلم في (الإيمان) باب الدعاء إلى الشهادتين برقم (19)
وقد أوضح الله سبحانه في كتابه الكريم أهل الزكاة، قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
[التوبة: 60].
وفي ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين العظيمين تنبيه من الله سبحانه لعباده، على انه سبحانه هو العليم بأحوال عباده ومن يستحق منهم الصدقة ومن لا يستحق، وهو الحكيم في شرعه وقدره فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وإن خفي على بعض الناس بعض أسرار حكمته؛ ليطمئن العباد لشرعه ويسلموا لحكمه.
والله المسئول أن يوفقنا والمسلمين للفقه في دينه والصدق في معاملته، والمسابقة على ما يرضيه، والعافية من موجبات غضبه إنه سميع قريب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
س: ما نصيحتكم لرجل لا يؤدي الزكاة، لعل قلبه يلين فيرجع إلى الحق؟
(1)
ج: نصيحتي لمن بخل بها أن يتقي الله وأن يتذكر أن الذي أعطاه إياها قد ابتلاه بها، الذي أعطاه المال قد ابتلاه به، فإن شكر النعمة وأدى حقها أفلح وإن بخل بالزكاة ولم يؤد حق هذه النعمة خسر وخاب وذاق عذاب وجزاء ذلك في قبره ويوم القيامة نسأل الله العافية.
فالمال زائل وأمره خطير وعواقبه وخيمة لمن بخل ولم يؤد زكاته، وسوف يدعه لمن بعده ويكون عليه حسابه ووزره، فالواجب على كل مسلم عنده مال أن يتقي الله ويتذكر الموقف بين يدي الله، وانه سبحانه يجازي كل عامل بعمله وأن هذا المال بلية، كما قال عز وجل: " {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، وقال سبحانه:{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، فالمال ابتلاء وامتحان، فإن شكرت الله وأديت حقه وصرفته في وجوهه أفلحت كل الفلاح، وصار نعمة في حقك، ونعم الصاحب للمؤمن هذا المال، يصل به رحمه، ويؤدي به الحقوق التي عليه، ويساهم في المشاريع الخيرية، وينفع المستضعفين ويواسيهم، فهو نعمة بحقه عظيمة، وإذا بخل به
(1)
من ضمن أسئلة موجهة لسماحته بعد محاضرته عن (الزكاة ومكانتها في الإسلام) في الجامع الكبير بالرياض.
فهو بليَّة عليه عظيمة، وعاقبته وخيمة فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من كل سوء.
من ترك إخراج الزكاة لزمه إخراجها عما مضى من السنين
س: أنا إنسان لم أخرج الزكاة منذ أن ملكت النصاب قبل حوالي ثلاث سنوات، وقدرت أن ما أملكه بيدي أو في ذمة غيري لي هو مبلغ معين، فهل أدفع زكاة الثلاث سنوات التي مضت إذا حل الحول الثالث في هذا العام، علماً بأنني قادر ومستطيع على ذلك، أم ما هو العمل؟
(1)
ج: أخرج الزكاة عن الحولين الماضيين واستغفر ربك وتب إليه عما أخَّرت، وإذا تم الحول الثالث فأخرج زكاته، ولا تؤخر الزكاة بل عجل زكاة الحولين مع التوبة والاستغفار، فإذا تم الحول الثالث فأخرج زكاته.
الجهل بفرضية الزكاة لا يسقطها
س: الأخ و. م. ب. من الرياض، يقول في سؤاله: عندي مبلغ من المال منذ حوالي خمس سنوات، وهذا المبلغ يزيد وينقص، وفي هذا العام جرى حديث مع أحد الإخوة عن زكاة المال، وذكر أن أي مبلغ يملكه الإنسان وحال عليه الحول ولو كان يدخره لزواج أو شراء مسكن، عليه زكاة. سماحة الشيخ: هل عليَّ زكاة عن السنوات الماضية وأنا لا أعلم أن عليَّ زكاة، أم أزكي هذه السنة فقط التي علمت فيها أن عليَّ زكاة؟ أفتوني جزاكم الله خيراً
(2)
.
ج: عليك الزكاة عن جميع الأعوام السابقة، وجهلك لا يسقطها عنك؛ لأن فرض الزكاة أمرمعلوم من الدين بالضرورة، والحكم لا يخفى على المسلمين، والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، والواجب عليك المبادرة بإخراج الزكاة عن جميع الأعوام السابقة، مع التوبة إلى الله سبحانه من التأخير، عفا الله عنا وعنك وعن كل مسلم. والله الموفق.
(1)
من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته عقب ندوة ألقيت في الجامع الكبير بعنوان (الربا وخطره).
(2)
من ضمن الأسئلة المقدمة لسماحته من (المجلة العربية) وقد صدرت الإجابة عنه من مكتب سماحته بمكة في 24/ 9/ 1418 هـ
حكم زكاة أموال اليتامى
س: توفي رجل وخلف أموالاً وأيتاماً، فهل في هذه الأموال زكاة؟ وإن كان كذلك فمن يخرجها؟
(1)
ج: تجب الزكاة في أموال اليتامى من النقود والعروض المعدة للتجارة وفي بهيمة الأنعام السائمة وفي الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة؛ وعلى ولي الأيتام أن يخرجها في وقتها، فإن لم يكن لهم من جهة والدهم المتوفى وجب رفع الأمر إلى المحكمة؛ حتى تعين لهم ولياً يتولى شئونهم وشئون أموالهم وعليه في ذلك تقوى الله والعمل بما فيه صلاحهم وصلاح أموالهم؛ لقول الله سبحانه:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، وقوله سبحانه:{وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ويعتبر الحول في أموالهم من حين مات والدهم؛ لأنها بموته دخلت في ملكهم. والله ولي التوفيق.
إخراج الزكاة من مال الطفلة
س: إني أقوم بتربية طفلة تبلغ من العمر (5) سنوات، وإن زوجي يقوم بإعطائها بعضاً من المال الذي أقوم بدوري أنا بوضعه بمصرف فيصل الإسلامي، فهل تجب الزكاة على مالها أم لا؟
(2)
ج: عليك أن تؤدي زكاة مالها؛ لأنك القائمة عليها.
حكم إخراج الزوج زكاة زوجته من ماله
س: هل يجوز أن يخرج زوجي عني زكاة مالي، علماً أنه هو الذي أعطاني المال؟ وهل
يجوز إعطاء الزكاة لابن أختي المتوفى عنها زوجها وهو شاب في مقتبل العمر ويفكر في الزواج؟ أفيدوني
(3)
.
(1)
نشر في كتاب (تحفة الإخوان) لسماحته ص 150، وفي كتاب (مجموعة فتاوى سماحة الشيخ) إعداد وتقديم د. عبد الله الطيار والشيخ أحمد الباز ج 5 ص 37
(2)
استفتاء شخصي مقدم لسماحته من أم عبد العزيز، وقد صدرت الإجابة عنه من مكتب سماحته بتاريخ 9/ 9/ 1415 هـ
(3)
نشر في (مجلة الدعوة) العدد 947 في 19/ 9/ 1404 هـ
ج: الزكاة واجبة عليكِ في مالكِ إذا كان عندكِ نصاب أو أكثر من الذهب أو الفضة أو غيرهما من أموال الزكاة، وإذا أخرجها عنكِ زوجكِ بإذنكِ فلا بأس، وهكذا لو أخرجها عنك أبوكِ أو أخوكِ أو غيرهما بإذنكِ فلا بأس، ويجوز دفع الزكاة لابن أختك مساعدة له في الزواج إذا كان عاجزاً عن مئونته. وفق الله الجميع لما يرضاه.
س: هل يدفع الزوج زكاة حلي زوجته؟
(1)
ج: لا يلزمه الزكاة عنها، لكن إذا ساعدها بذلك ورضيت فلا بأس، وإلا فالزكاة عليها لحليها؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك تدل على أن الزكاة عليها لا على زوجها.
(1)
من برنامج (نور على الدرب)
تحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة من الأدعية والأذكار
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من أفضل ما يتخلق به الإنسان وينطق به اللسان الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، وتسبيحه، وتحميده، وتلاوة كتابه العظيم، والصلاة والسلام على رسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه، مع الإكثار من دعاء الله سبحانه، وسؤاله جميع الحاجات الدينية والدنيوية، والاستعانة به، والالتجاء إليه بإيمانٍ صادق وإخلاصٍ وخضوع، وحضور قلب يستحضر به الذاكر والداعي عظمة الله وقدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء واستحقاقه للعبادة.
وقد ورد في فضل الذكر والدعاء والحث عليهما آيات كثيرة وأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نذكر ما تيسر منها، قال الله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43]، وقال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وقال تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} إلى أن قال سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وقال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190 - 191]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، وقال تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]، وقال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا
بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]، وقال تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
والإكثار من ذكر الله تبارك وتعالى ودعاءه سبحانه مستحب في جميع الأوقات والمناسبات، وفي الصباح والمساء وعند النوم واليقظة ودخول المنزل والخروج منه، وعند دخول المسجد والخروج منه؛ لما سبق من الآيات الكريمات، ولقوله تعالى أيضاً:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]، وقوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]، وقوله تعالى:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، وقوله تعالى:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، وقوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48 - 49]، وقوله تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18]، وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وقال سبحانه:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
[الأعراف: 55 - 56]، وقال سبحانه:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ .. } [النمل: 62].
وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم» فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز
وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»
(1)
.
وفي صحيح البخاري عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»
(2)
.
وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه»
(3)
.
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران» ، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال:«كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حزقان من طيرٍ صواف تحاجان عن صاحبهما»
(4)
.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (ألم) حرف ولكن (ألف) حرف و (لام) حرف و (ميم) حرف»
(5)
رواه الترمذي بسند حسن.
فصل في بيان الأذكار المشروعة بعد السلام في الصلوات الخمس
لقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلم من صلاة الفريضة استغفر الله ثلاثاً وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام
(6)
، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك
(1)
أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة برقم 803.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم 5027.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة برقم 804.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة برقم 805.
(5)
رواه الترمذي في كتاب فضل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ماله من الأجر برقم 2910.
(6)
أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم 591.
الجد
(1)
، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون
(2)
، ويسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمده مثل ذلك، ويكبره مثل ذلك، ويقول تمام المائة:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»
(3)
، ويقرأ آية الكرسي و {قل هو الله أحد} و {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} بعد كل صلاة.
ويستحب تكرار هذه السور الثلاث ثلاث مرات: بعد صلاة الفجر، وصلاة المغرب لورود الحديث الصحيح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما يستحب أن يزيد بعد الذكر المتقدم بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب قول:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير»
(4)
، عشر مرات؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان إماماً انصرف إلى الناس وقابلهم بوجهه بعد استغفاره ثلاثاً. وبعد قوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ثم يأتي بالأذكار المذكورة، كما دل على ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم. كل هذه الأذكار سنة وليست فريضة.
فصل فيما يشرع من الذكر والدعاء عند الأذان وبعده
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن»
(5)
متفق عليه.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة برقم 844، ومسلم في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم 593.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم 594.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم 593.
(4)
أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار، حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه برقم 23007.
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي برقم 611، ومسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول، مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم 383.
الوسيلة، والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة»
(1)
رواه البخاري، وزاد البيهقي في آخره بإسناد حسن «إنك لا تخلف الميعاد»
(2)
.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، غفر له ذنبه»
(3)
رواه مسلم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حيّ على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حيّ على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة»
(4)
رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلّى عليّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة»
(5)
رواه مسلم في صحيحه.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء برقم 614.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ج 1 ص 410 برقم 410 برقم 1790.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم 386.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب ا لقول مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم 385.
(5)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب استحباب القول مثل قول المؤذن برقم 384.
فصل في مشروعية السلام بدءاً وإجابة وتشميت العاطس إذا حمد الله
وعيادة المريض
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»
(1)
متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»
(2)
رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز»
(3)
متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه»
(4)
رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم فحمد الله فحق على كل مسلمٍ سمعه أن يشمته. وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال: هاء، ضحك منه الشيطان»
(5)
متفق عليه.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام برقم 12، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام. وأي أموره أفضل برقم 39.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون برقم 54.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، برقم 1240، ومسلم في كتاب السلام، باب حق المسلم على المسلم رد السلام برقم 2162.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام برقم 2162.
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب برقم 6223.
وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع»
(1)
رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل»
(2)
رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له يرحمك الله فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم»
(3)
رواه البخاري. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه»
(4)
رواه مسلم.
فصل في الأذكار والأدعية المشروعة في ابتداء الشراب والأكل والفراغ منهما
عن عمر ابن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام سم الله وكُلْ بيمينك وكُلْ مما يليك»
(5)
متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله. فإن نسي أن يذكر الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره»
(6)
رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الحاكم، وأقره الذهبي.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها»
(7)
رواه مسلم.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهية التثاؤب برقم 2994.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب برقم 2995.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب إذا عطس كيف يشمت برقم 6224.
(4)
أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب برقم 2992.
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة باب التسمية على الطعام والأكل باليمين برقم 5376 ومسلم في كتاب الأشربة، باب آدم الطعام والشراب وأحكامهما برقم 2202.
(6)
أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام برقم 3767، والترمذي في كتاب الأطعمة، باب ما جاء في التسمية على الطعام برقم 1858.
(7)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب برقم 2734.
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه»
(1)
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة بإسناد حسن.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا»
(2)
رواه البخاري في صحيحه.
فصل فيما يشرع من الذكر والدعاء عند النوم واليقظة
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: «اللهم باسمك أموت وأحيا» ، وإذا استيقظ قال:«الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور»
(3)
رواه البخاري. وأخرج عن أبي ذر رضي الله عنه مثله. وأخرج مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه مثل حديث حذيفة المذكور. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلةٍ جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات»
(4)
متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه أتاه آتٍ يحثو من الصدقة وكان قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم عليها ليلةً بعد ليلة، فلما كان في الليلة الثالثة قال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ما هي؟ فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية. فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح) فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدقك وهو كذوب ذاك شيطان»
(5)
رواه البخاري. وعن
(1)
أخرجه أبو داود في كتاب اللباس برقم 4023، والترمذي في كتاب الدعوات، ما يقول إذا فرغ من الطعام برقم 3258، وابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب ما يقال إذا فرغ من الطعام برقم 3258.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب ما يقول إذا فرغ من طعامه برقم 5458.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن برقم 6312.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات برقم 5018.
(5)
أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة برقم 5010.
أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»
(1)
متفق عليه.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك مت على الفطرة واجعلهن آخر ما تقول»
(2)
متفق عليه، وفي رواية لمسلمٍ رحمه الله «واجعلهن من آخر كلامك» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه: «اللهم رب السموات، ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيءٍ أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر»
(3)
رواه مسلم. وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ثم يقول: «اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك»
(4)
، ثلاث مرات. رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد حسن.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا، وآوانا، فكم ممن لا كافي له، ولا مؤوي»
(5)
أخرجه مسلم.
(1)
أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة برقم 5010، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة برقم 807.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الضوء، برقم 247 ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم 2710.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم 2713.
(4)
أخرجه أحمد في مسند المكثرين، مسند عبد الله بن مسعود برقم 3786، وأبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم برقم 5045.
(5)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب ما يقال عند النوم وأخذ المضجع برقم 2715.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه أن يقول: «اللهم خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية»
(1)
، قال ابن عمر سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه، وليسمّ الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: سبحانك اللهم ربي بك وضعت جنبي، وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»
(2)
متفق عليه واللفظ لمسلم.
وعن علي رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً فلم تجده، ووجدت عائشة رضي الله عنها فأخبرتها، قال عليّ: (فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا فقال: «ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين، فإنه خير لكما من خادم»
(3)
، قال عليّ: (فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته»
(4)
رواه البخاري ومعنى قوله: "من تعار" أي استيقظ.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقال عند النوم وأخذ المضجع برقم 2712.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها برقم 7393، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقال عند النوم وأخذ المضجع برقم 2714.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب التكبير والتسبيح عند المنام برقم 6318، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم برقم 2728.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل من تعار من الليل فصلّى برقم 1154.
فضل الذكر والتحميد والتهليل والتسبيح والدعاء
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على فضل الذكر والتحميد والتهليل والتسبيح والدعاء والاستغفار كل وقت وفي طرفي الليل والنهار، وفي إدبار الصلوات الخمس بعد السلام، نذكر بعضها:
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «سبق المفردون» قالوا يا رسول الله: من
المفردون؟ قال: «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات»
(1)
رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: «أحب الكلام إلى الله أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»
(2)
رواه مسلم.
وفي صحيح مسلم أيضاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني كلاماً أقوله، قال:«قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم» فقال: يا رسول الله إن هؤلاء لربي فما لي؟ قال: «قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني»
(3)
.
وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: «الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله»
(4)
أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقال عليه الصلاة والسلام: «ما عمل ابن آدم عملاً أنجا له من عذاب الله، من ذكر الله»
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني بإسناد حسن عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى برقم 2676.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب كراهة التسمية بالأسماء القبيحة وبنافع برقم 2137.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء برقم 2696.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين، مسند أبي سعيد الخدري برقم 11316.
(5)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ج 2 ص 166.
الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذكر الله»
(1)
رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة
وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده»
(2)
رواه مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل»
(3)
متفق عليه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك، ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر»
(4)
.
وفي الصحيحين أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي كتاب الدعوات، باب منه برقم 3377 وابن ماجه في كتاب الأدب، باب فضل الذكر برقم 3780 والإمام أحمد في مسند الأنصار، حديث معاذ بن جبل برقم 21065.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم 2700.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التهليل برقم 5925، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح برقم 2693.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التهليل رقم 5924 ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء برقم 2691.
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح برقم 6406، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح برقم 2694.
وخرج الترمذي وغيره بإسناد حسن عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما قعد قوم مقعداً لم يذكروا الله فيه عز وجل ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم»
(1)
.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه
(2)
خرجه مسلم في صحيحه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»
(3)
خرجه مسلم في صحيحه.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي وفي بيتي قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»
(4)
.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدعاء هو العبادة»
(5)
أخرجه أصحاب السنن الأربعة بإسناد صحيح.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك»
(6)
رواه مسلم في صحيحه.
(1)
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في القوم يجلسون ولا يذكرون الله، برقم 3308 وأبو داود في كتاب الأدب، باب كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله برقم 4215.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها برقم 373.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم 2699.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام برقم 834، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر برقم 2705.
(5)
أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة برقم 2969 وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء برقم 1479، وابن ماجه كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء برقم 3828.
(6)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب أكثر أهل الجنة الفقراء برقم 2739.
وعنه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء»
(1)
رواه النسائي وصححه الحاكم.
وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب»
(2)
أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر»
(3)
أخرجه مسلم.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير»
(4)
متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وارزقني علماً ينفعني»
(5)
رواه النسائي والحاكم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»
(6)
رواه البخاري.
(1)
أخرجه النسائي في كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من غلبة الدين برقم 5475.
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء برقم 1493 والترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في جامع الدعوات عن النبي صلى الله عليه وسلم برقم 3475 وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم برقم 3857.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل برقم 2720.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، برقم 6398 ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل برقم 2719.
(5)
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب العفو والعافية برقم 3599.
(6)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم برقم 6307.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة «رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الغفور»
(1)
رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيد
الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»
(2)
رواه البخاري في صحيحه.
فصل في أذكار الصباح والمساء
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه»
(3)
رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: «أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر رب أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر» ، وإذا أصبح قال ذلك أيضاً:«أصبحنا وأصبح الملك لله»
(4)
رواه مسلم. وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» ، قال: «ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن
(1)
أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار برقم 1516، والترمذي في كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من المجلس برقم 3434.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل الاستغفار برقم 6306.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء برقم 2692.
(4)
أخرجه مسلم في كتابا لذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل برقم 2723.
يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة»
(1)
رواه البخاري.
وعن عبد الله بن حبيب قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه فقال: «قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل: فقلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: قل: {قل هو الله أحد} والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء»
(2)
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي بإسناد حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أصحابه يقول:«إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور، وإذا أمسى فليقل اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير»
(3)
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وإسناده عند أبي داود وابن ماجة صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: قل: «اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءً أو أجره إلى مسلم، قال: قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك»
(4)
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح، وهذا لفظ أحمد والبخاري.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء»
(5)
رواه
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب في انتظار الفرج وغير ذلك برقم 3575 وأبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5082.
(3)
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5068، والترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3391.
(4)
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5067، والترمذي في كتاب الدعوات، باب منه برقم 3529 وأحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه برقم 82.
(5)
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3388، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3869.
الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح وهو كما قال رحمه الله.
وعن ثوبان خادم النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من عبد مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً إلا كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة»
(1)
رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة بإسناد حسن، وهذا لفظ أحمد، ولكنه لم يسم ثوبان وسماه الترمذي في روايته، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة بلفظ أحمد.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وجبت له الجنة»
(2)
.
وروى مسلم في صحيحه أيضاً عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً»
(3)
.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك وجميع خلقك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك أعتق الله ربعه من النار، ومن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، فإن قالها أربعاً أعتقه الله من النار»
(4)
رواه أبو داود بإسناد حسن، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة بسند حسن، ولفظه:«من قال حين يصبح: اللهم إني أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك أعتق الله ربعه ذلك اليوم من النار، فإن قالها أربع مرات أعتقه الله ذلك اليوم من النار»
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى برقم 3389 وأبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5072.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب بيان ما أعده الله للمجاهد في الجنة برقم 1884.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً" فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي الكبائر برقم 34.
(4)
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5069.
(5)
أخرجه النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، ج 1/ 138.
وعن عبد الله بن غنام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر يومه، ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته»
(1)
رواه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة بإسنادٍ حسن، وهذا لفظه لكنه لم يذكر «حين يمسي» وأخرجه ابن حبان بلفظ النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)
(2)
خرجه الإمام أحمد في المسند، وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه الحاكم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، من قالها عشر مرات حين يصبح كتب الله له مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، وكانت له عدل رقبة، وحفظ بها يومئذ حتى يمسي، ومن قالها مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك»
(3)
رواه الإمام أحمد في مسنده بإسنادٍ حسن.
وعنه رضي الله عنه أيضاً قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال إذا أمسى ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضره حمة تلك الليلة»
(4)
رواه الإمام أحمد والترمذي بإسنادٍ حسن. والحمة: سم ذوات السموم كالعقرب والحية ونحوهما.
(1)
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5073.
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5074، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما برقم 4770.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، حديث أبي هريرة برقم 8502.
(4)
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب الاستعاذة برقم 3966، والإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، مسند أبي هريرة برقم 7838.
وأخرج مسلم في صحيحه عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك»
(1)
.
وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: «أصبحنا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين»
(2)
خرجه الإمام أحمد في مسنده بإسنادٍ صحيح.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر أنه قال لأبيه: يا أبت إني أسمعك تدعو كل غداة (اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت) تعيدها ثلاثاً حين تصبح وثلاثاً حين تمسي، وتقول:(اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وأعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت، تعيدها حين تصبح ثلاثاً وحين تمسي ثلاثاً قال: نعم يا بني إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهن فأحب أن أستن بسنته)
(3)
رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي بإسناد حسن.
ويشرع لكل مسلم ومسلمة أن يقول في صباح كل يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة حتى يكون في حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي؛ لما تقدم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك، ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر»
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من سوء القضاء برقم 2708.
(2)
أخرجه أحمد في مسند المكيين، حديث عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي برقم 14935.
(3)
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح برقم 5090، وأحمد في أول مسند البصريين، حديث أبي بكرة برقم 19917.
(4)
سبق تخريجه.