الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
أما بعد:
فهذا هو الجزء الثالث من مختصرات الفقه، وهو المختصر في الأنكحة والأطعمة والأيمان والنذور، وقد كتبته كسابقيه بعبارة سهلة ومعنىً واضح، وبنيته على ما دل عليه الدليل وترجح من أقوال محققي أهل العلم مع الاستدلال لمسائله؛ ليسهل قراءته والانتفاع به لعموم المسلمين، وأشكر الله جل جلاله على إتمام هذا العمل، ثم أشكر كل من ساهم في إخراجه ونشره، وأخص بذلك الشيخ عبد العزيز بن حواس الشمري، أسأل الله جل جلاله أن ينفع به كاتبه وقارئه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه.
وكتبه
الدكتور خالد بن علي المشيقح
المدرس في كلية الشريعة بجامعة القصيم
والمدرس في الحرم المكي والمسجد النبوي
كتاب النكاح
شرع اللهُ النِّكاح لمصالح عظيمة، وحِكَمٍ عديدة، سيأتي بيانها.
والنكاح لغةً: الضم، والتداخل، والجمع.
وشرعًا: عقدٌ على امرأة، يُقصَد منه امتثال أمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحصيلُ مصالح النِّكاح.
والأصل فيه: الكتاب، والسُّنة، والإجماع.
أمَّا الكتاب: فمن ذلك قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النِّسَاء: 3].
وأما السُّنة: فكما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأمَّا الإجماع: فقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وأجمع المسلِمون على أن النِّكاحَ مشروع).
مسألةٌ: وهو سنَّة؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «يا معشر الش
باب،
مَنْ استطاع منكم الباءةَ، فليتزوَّجْ؛ فإنَّه أغَضُّ للبصَر، وأحصَن للفَرْجِ، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وجاءٌ»؛ متفق عليه، في المصباح 2/ 650: والوجاء رض عروق البيضتين حتى تنفضخا من غير إخراج؛ لأنه بتقليل الطعام والشراب يحصل للنفس انكسار عن الشهوة كالموجوء.
ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم علَّقه على الاستطاعة، والواجب لا يتوقف على الاستطاعة، وقيل بوجوبه؛ للأمر به؛ وهو مذهب الظاهرية.
وفعلُهُ مع الشهوة: أفضلُ من نوافل العبادات؛ لاشتماله على مصالحَ كثيرة؛ كما سيأتي.
قال ابن القيِّمِ رحمه الله تعالى -عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرّعد: 38]-: (استُدِلَّ به على تفضيل النِّكاح على التخلِّي لنوافل العبادة؛ لأنَّ الله جل جلاله اختار النِّكاحَ لأنبيائه ورسله).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يَبقَ من أجَلي إلا عشَرة أيام، وأعلم أني أموتُ في آخرها يومًا، لي فيهن طَوْلُ النِّكاح: لتزوَّجتُ؛ مخافةَ الفتنة)؛ رواه عبد الرزاق، وابن أبي شَيْبة، وسعيد بن منصور.
ويجب على من خاف محذورًا بتركه؛ لأنَّه طريق إعفافِ نفسه، وصونِها عن الحرام.
ويحرُمُ على من لم يقُمْ بحق الزَّوجية، أو يُلحِقُها ضررًا.
ويُكرَه في حق الفقير الذي لا كسبَ له، ولا شهوة.
مسألةٌ: حِكَم النِّكاح:
للنِّكاح مصالحُ وحِكَم؛ منها:
1 -
الاستجابة لأمر الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
2 -
غضُّ البصَر، وحفظ الفَرْج.
3 -
تكثير الأمة، ومن ثَمَّ تحصُلُ العزة والنصر والتأييد؛ كما ذكره اللهُ تعالى عن شعيب عليه السلام:{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعرَاف: 86].
4 -
حصول السَّكَن والرحمة والمودة بين الزَّوجين.
5 -
القيام على أمر المرأة، وعِفَّتها، وحِفظها.
6 -
تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته بين الأمم.
7 -
سلامة المجتمع، وأمنه.
8 -
التخلُّص من الماء الذي بقاؤه في الجسم مضرٌّ له؛ كما ذكره ابن القيِّمِ رحمه الله تعالى.
مسألةٌ: لا يجوز للرجُلِ أو المرأة أن يتعاطى علاجًا يقطع شهوةَ النِّكاح؛ لحديث سعد رضي الله عنه: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ على عثمان بن مظعونٍ التبتُّلَ» ؛ رواه البخاري ومسلِم.
وقال أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءةِ، وينهى عن التبتُّلِ نهيًا شديدًا» ؛ رواه أحمد، لكن يجوز استعمال علاج يخفِّفها، إذا كان له مصلحة في ذلك، وليس فيه ضررٌ عليه.
مسألةٌ: ولا فرقَ في مشروعية النِّكاح بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه، إذا كان قادرًا على الوطءِ؛ «لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصبِح ويمسي وليس عنده شيء» ؛ رواه البخاري.
ولحديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وفيه:«أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم زوَّج رجُلاً لم يَقدِرْ على خاتَم حديد، وليس له إلا إزارُه، ولم يكُنْ له رداءٌ» ؛ متفق عليه.
ولا يكتفي بالعمر فيه مرة واحدة، بل يكون في مجموع العمر، فلو تزوج وفارق زوجته فلابد من معاودة الزواج ولو طالت فترة الزواج بينهم؛ لقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى:(ليست العزوبةُ من الإسلام)، ولا يزول هذا الاسمُ بمرةٍ واحدة.
فرعٌ: ومَن أمره به والداه، لَزِمَه؛ لوجوب بِرهما.
وقال شيخ الإسلام: وليس للأبوينِ إلزام الولد بنكاح مَنْ لا يريد، فإن امتنع، فلا يكون عاقًّا؛ كأكل ما لا يريد.
مسألةٌ: التعدُّد سنَّة، وقيل: أنه مباح، ولكن يُشترَط له القدرةُ البدنية والمالية؛ لِما تقدم من ذِكر مصالح النِّكاح، وكلما كثُرَ الزواج كثرت هذه المصالح، ولأنَّ الله جل جلاله بدأ به في قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النِّسَاء: 3]، ولقول ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما:«تزوَّجْ؛ فإن خيرَ هذه الأمَّة أكثَرُها نساءً» ؛ رواه البخاري.
مسألةٌ: صفاتُ المرأة، يُسَنُّ أن يتزوَّجَ امرأةً تتصف بعدة صفات:
1 -
ديِّنة؛ لحديثِ أبي هُرَيرة رضي الله عنه مرفوعًا: «تُنكَح المرأةُ لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسَبها، ولدِينها؛ فاظفَرْ بذات الدِّين، تَرِبتْ يداك» ؛ متفق عليه.
ولِما روى عمرُو بن العاص رضي الله عنه أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال: «الدُّنيا متاعٌ، وخيرُ متاعِها المرأةُ الصالحة» ؛ رواه مسلِم.
فرعٌ: ومِن حق المرأة على وليِّها أن يزوِّجَها ذا الدِّين؛ لما روى أبو حاتم المُزَني رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتاكم مَنْ ترضَون دِينَهُ وخُلُقه، فزوِّجوه، إلا تَفعَلوا تكُنْ فتنةٌ في الأرض، وفساد كبير» ؛ رواه التِّرمِذي، وقال:(حسن غريب).
وقالت أسماءُ بنت أبي بكر رضي الله عنهما: (إنما النِّكاحُ رِقٌّ؛ فلينظُرْ أحدُكم أين يُرِقُّ عَتِيقتَهُ)، رواه البَيْهَقي.
2 -
أجنبية؛ أي: لا تكونُ في أول درجات العمومة والخُؤولة؛ كما قال الشافعيةُ؛ لأنَّ ولَدَها يكون أنجبَ، ولأنه لا يأمَنُ الطلاقَ، فيُفضِيَ مع القرابة
إلى قطيعة الرحِمِ، وقال عمرُ رضي الله عنه لبني السائب -وقد اعتادوا الزواجَ بقريباتهم-:(أَضْوَيْتم، فانكِحوا في النوابغ).
ولعلَّ الأقرب: أن ينظُرَ الإنسانُ في الأصلح له؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ بنتَ عمته زينبَ بنتَ جحش؛ قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزَاب: 37]، وتزوج عليٌّ رضي الله عنه بفاطمةَ رضي الله عنها، ولزواجِ زينبَ رضي الله عنها -بنتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأبي العاص بن الربيع.
3 -
بِكْرٌ؛ وهذا باتفاقِ الأئمة، وهي العَذْراء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«فهلاَّ بِكْرًا تلاعِبُها وتلاعِبُك» ؛ متفق عليه من حديث جابر رضي الله عنه.
وتقدِّمُ الثيِّبَ عند المصلحة؛ لحديث جابر رضي الله عنه: أنَّ أباه ترك تِسْعَ بنات، أو سَبْعَ، وإنِّي كَرِهتُ أن آتيهنَّ بمثلِهنَّ، فأحببتُ أن آتيَ بامرأة تقوم عليهن وتُصلِحهنَّ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فبارَكَ اللهُ لك» ؛ رواه مسلِم.
4 -
وَلُودٌ؛ أي: مِنْ نساءٍ يُعرَفْنَ بكثرة الأولاد، ويُعرَف ذلك بحال قريباتِها؛ مِنْ أخواتها وعماتها، وسلامة صحتها، وحُسْنِ شبابها؛ لحديث أنسٍ مرفوعًا:«تزوَّجوا الوَدُود الوَلُود؛ فإنِّي مكاثِرٌ بكم الأممَ يوم القيامة» ؛ رواه سعيد، وأحمد، وابن حِبَّان، والبَيْهَقي، وله شاهد من حديث مَعقِل بن يسار؛ رواه أبو داود والنَّسَائي، وإسناده حسَن.
ولقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عِمرَان: 38].
5 -
جميلةٌ؛ لأنه أغَضُّ لبصَرِه، وأكمل للمودَّة، وأسكَنُ لنفسه؛ ولذلك شُرِعَ النظرُ قبل النِّكاح، ولِما روى أبو هُرَيرة رضي الله عنه، قال: «قيل: يا رسول الله، أي النساء خير؟ قال: التي تسُرُّهُ إذا نظَر، وتطيعه إذا أمَر، ولا تخالفه
في نفسها ولا ماله بما يَكرَه»؛ رواه أحمد، والنَّسَائي، وابن ماجَهْ، وصحَّحه الحاكم.
مسألةٌ: النظر للمخطوبة، النظر للمخطوبة مستحبٌّ؛ لحديث المغيرةِ بن شعبة رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«اذهَبْ فانظُرْ إليها؛ فإنَّه أجدَرُ أن يؤدَمَ بينكما» ؛ رواه النَّسَائي، والتِّرمِذي وحسنه، وأحمد، والحاكم وصحَّحه.
فعلَّل النبي صلى الله عليه وسلم بأن النظر سببٌ للمحبة والأُلْفة بين الزَّوجين، وإذا كان كذلك، دلَّ على مشروعيته.
فرعٌ: ما ينظُرُه الخاطب، وله نظرُ ما يظهر غالبًا؛ كوجهٍ، ورقبة، ويد، وقدم، ورأس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا خطب أحدُكم امرأة، فقدَرَ أن يرى منها بعضَ ما يدعوه إلى نكاحها فليفعَلْ» ؛ رواه أحمد، وأبو داود، وإسناده حسَنٌ، وقياسًا على ذوات المحارم.
وله أن يكرر النظرَ بقدر الحاجة؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صعَّد النظرَ للواهبة، وصوَّبه؛ متفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
ولأنَّ ما أُحِلَّ لحاجة يقدَّرُ بقدرها، ويزول بزوالها.
فرعٌ: شروط النظر للمخطوبة، يشترط لنظر المخطوبة شروطٌ:
الأول: أن يكون بلا خَلْوة بالإجماع؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما مرفوعًا: «لا يخلُوَنَّ رجُلٌ بامرأة إلا ومعها ذو مَحرَم» ؛ متفق عليه.
الثاني: أن يَعلَم أو يَغلِبَ على ظنه أنه يجاب.
الثالث: ألا ينظُرَ بشهوة، فإن حصل له شهوةٌ، دافَعها.
الرابع: أن ينظر إلى ما يظهر غالبًا، وتقدم الكلام عليه.
الخامس: وجود العزم على الزواج عند النظر؛ لحديث محمد بن مَسلَمة رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا ألقى اللهُ جل جلاله في قلب امرئٍ خِطْبةَ امرأة، فلا بأسَ أن ينظر إليها» ؛ رواه أحمد، وفي إسناده: حجاجُ بن أرطاة؛ وهو ضعيف.
السادس: ألا تستعمل المرأةُ التحمير والتصفير، ونحو ذلك؛ لِما فيه من التغرير، ولكونها أجنبيةً.
مسألةٌ: وقت النظر، نصَّ الشافعيةُ والحنابلة: أن وقت النظر قبل الخِطْبة، وبعد العزم على النِّكاح.
وعند بعض الشافعية: أن النظرَ بعد الخِطْبة أَوْلى؛ لحديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا خطَبَ أحدُكم امرأة، فإن استطاع أن ينظُرَ إلى ما يدعوه إلى نكاحها: فليفعَلْ» ؛ رواه أبو داود.
والأمر في هذا واسع.
ولا يحتاج إلى إذنها؛ لمطلَقِ الأمر، ولحديث جابر رضي الله عنه، وفيه:«فكنتُ أتخبَّأُ لها حتى رأيتُ منها ما دعاني إلى نكاحها» .
فإن لم يتيسَّرْ، بعَثَ امرأة ثقةً تتأملها، ثم تصفُها له؛ لحديث أنس رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم:«أرسل أمَّ سُلَيم تنظر جاريةً» ؛ رواه الإمام أحمد، والحاكم وصحَّحه، والبَيْهَقي.
ولا يجوز أن تَنعَتَها لغير الخاطب؛ لنهيِ النبي صلى الله عليه وسلم «أن تَنعَتَ المرأةُ امرأةً لزوجها حتى كأنه ينظُرُ إليها» ؛ رواه مسلِم.
وله أن ينظر إلى صورة المرأة بحالتها الطبيعية بالشروط السابقة.
وعلى مَنْ استُشير في الخاطب أو المخطوبة أن يذكُرَ ما فيه مِنْ عيبٍ، ولا يكون غِيبةً.
مسألةٌ: ينظُرُ من ذات المَحرَم ما يظهر غالبًا: الوجه، والرقبة، واليد، والقَدم، والرأس؛ لقوله تعالى: {ولَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ
…
} [النُّور: 31].
ولِما روَتْ عائشة وأمُّ سلَمةَ رضي الله عنهما أن سَهلة بنت سهيل رضي الله عنهما، قالت:«يا رسول الله، إنا كنا نرى سالمًا ولدًا، ويراني فُضُلاً، وقد أنزل اللهُ فيهم ما قد علمتَ، فكيف ترى فيه؟» ؛ رواه أبو داود.
فقولها: (ويراني فُضُلاً)؛ أي: في ثياب البِذْلة، التي لا تستُرُ الأطراف.
مسألة: أقسام النظر إلى المرأة:
القسم الأول: نظر الرجل الأجنبي للمرأة، جميع المرأة عورة بالنسبة للرجل الأجنبي، فلا يجوز أن ينظر إلى شيء من بدنها حتى الوجه، لقول الله جل جلاله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن، وعن عائشة رضي الله عنها كانت تقول:(لما نزلت هذه الآية وليضربن بخمرهن على جيوبهن، أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها) رواه البخاري. وقال ابن حجر في (الفتح): (قوله: فاختمرن، أي: غطين وجوههن).
ولقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزَاب: 59]، والجلباب: ما يستر جميع البدن، أي يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن فيسترن أجسامهن كلها حتى وجوههن إلا ما به ترى الطريق.
ولما تقدم من أدلة إباحة النظر إلى المخطوبة، ودل ذلك بالمفهوم أن غير الخاطب لا ينظر إلى الوجه، ولأن الوجه مجمع المحاسن.
والأئمة يتفقون على أنه إذا كان هناك فتنة فلا يجوز النظر.
والنظر إلى الوجه وسيلة إلى الفتنة وإثارة الشهوة، والوسائل لها أحكام المقاصد.
القسم الثاني: من المرأة، يجوز للمرأة أن تنظر إلى المرأة إلا ما بين السرة والركبة؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة» ، وهذا في النظر.
وأما في اللباس: فإن المرأة تلبَس لباس أمهات المؤمنين ونساء الصحابة، وهو ما ستر جميع البدن إلا الأطرافَ الرأسَ والرقبةَ واليدين والرجلين لحديث أسماء رضي الله عنها قالت: جاءت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع؟ قال:«تَحُتُّه، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه» رواه البخاري ومسلم.
فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي فيه دل على أنه لباس ساتر لجميع البدن، وإذا خرجت من بيتها سترت جميع بدنها؛ لما تقدم.
مسألةٌ: ويجوز للطبيب أن ينظر إلى موضعِ المرض من المرأة، وبالعكس، بشروط:
الأول: أن يكون النظرُ بقدر الحاجة؛ أي: إلى موضع العلاج فقط؛ لقاعدة: (الضرورة تقدَّرُ بقدرِها)؛ لأنَّ الأصل حرمةُ النظر.
الثاني: عدم الخَلْوة؛ للنهيِ عن ذلك.
الثالث: أن يكون الطبيب أمينًا، غيرَ متَّهم في خُلُقه ودِينه.
الرابع: تُقدَّمُ الطبيبة في معالجة المرأة على الطبيب، إذا وُجدت.
مسألةٌ: التصريح في الخِطْبة:
التصريح: هو اللفظ الذي لا يحتمِلُ غيرَ طلب الزواج.
كقوله: أريد أن أتزوجك، أو: أريد أن أخطُبَك، أو: زوِّجيني نفسك، أو غير ذلك ممَّا لا يحتمِل غيرَ النِّكاح.
والتعريض: اللفظ الذي يحتمِل النِّكاحَ وغيره.
كأن يتكلمَ بكلام يدل فحواه على رغبتِهِ في المرأة؛ كقوله: إنِّي في مثلِك لراغبٌ، أو: فلانةُ امرأةٌ صالحة، ونحو ذلك.
والأصل: جواز خِطْبة المرأة؛ تعريضًا وتصريحًا، لكن يستثنى من ذلك المعتدَّة؛ وهي: التي فارقت زوجَها، ودخلت في العِدَّة، فيحرُمُ التصريح للمعتدة بالإجماع؛ لمفهومِ قوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البَقَرَة: 235]؛ فالله جل جلاله لما أباح التعريضَ بالخِطْبة، دلَّ على أن التصريحَ للمعتدة محرَّم.
وخِطْبة المعتدة أقسام:
القسم الأول: المعتدة من وفاة، فلا يجوز خِطْبتُها تصريحًا؛ لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى استعجال المرأة بالإجابة، والكذبِ في انقضاء عدتها، ويجوز التعريضُ.
القسم الثاني: المُبانة حال الحياة؛ بطلاق، أو فسخٍ لرَضاع، أو لِعان: فيحرم خِطْبتها تصريحًا، دون التعريض فيباح؛ لقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البَقَرَة: 235]، ولحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: طلَّقها زوجها البتة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا حلَلتِ، فآذِنِيني» ، وفي رواية:«لا تسبقيني بنفسِك» ؛ رواه مسلِم.
القسم الثالث: الرجعيَّةُ؛ وهي التي طلَّقها زوجها دون ما يَملِكُ من العَدَدِ بلا عِوَض -: فيحرُمُ التعريضُ والتصريح؛ لأنها في حُكْمِ الزَّوجات؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البَقَرَة: 228].
مسألةٌ: خِطْبة الرجُلِ معتدَّتَهُ أثناء العِدة - أي: خِطْبة الرجُلِ المرأةَ التي فارقها - تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن تكون رجعيةً؛ فصاحب العِدَّة لا يزال زوجًا؛ فلا يحتاج إلى خِطْبة، بل له إرجاعها متى شاء.
القسم الثاني: المعتدة من طلاق بائن - بينونة كبرى -: فلا يجوز للزوج خِطْبتها تصريحًا ولا تعريضًا؛ إذ لا تَحِلُّ له إلا بعد نكاح صحيح.
القسم الثالث: المعتدة من طلاق بائن -بينونة صغرى- كالمخلوعة، أو المفسوخة، ونحو ذلك: فيجوزُ للزوج التصريح والتعريض؛ لأنَّ له أن يَعقِدَ عليها في العِدَّة، ولغيره التعريض دون التصريح.
القسم الرابع: المعتدة من نكاح فاسد، أو وطءٍ بشبهة: فيجوز له التعريضُ دون التصريح؛ إذ هو أجنبيٌّ عنها، يباح له نكاحها.
مسألةٌ: يحرُمُ على الرجعية أن تجيب مَنْ خطَبَها في عدتها تصريحًا أو تعريضًا؛ لأنَّ الخِطْبة للعقد.
وأما البائن بالثلاثِ: فيباح لها إذا خُطِبتْ في عدتها التعريضُ دون التصريح لغير مطلِّقها؛ لأنها لا تحلُّ له، وأما المخلوعة والمفسوخة: فيباح
أن تجيب زوجَها تعريضًا وتصريحًا، وغير الزَّوج تعريضًا لا تصريحًا.
فرعٌ: الخِطْبة على خِطْبة أخيه المسلِم محرَّمة؛ لحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يخطُب الرجُلُ على خِطْبة أخيه حتى ينكح أو يترك» ؛ رواه البخاري.
ولما روى ابن عمرَ رضي الله عنهما، قال:«نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضُكم على بيعِ بعض، ولا يخطُبَ الرجُلُ على خِطْبة أخيه حتى يترك الخاطبُ قبله، أو يأذَنَ له الخاطبُ» ؛ متفق عليه.
ولما في ذلك من إيقاع العداوة بين المسلِمين.
والنهي عن الخِطْبة على الخِطْبة لا يقتضي فساد العقد؛ لأنَّ النهيَ وقع على أمرٍ خارج عن العقد؛ وهو الخِطْبة، وهي ليست شرطًا في صحة العقد.
وعن الإمام أحمد: عدمُ صحة العقد مطلقًا؛ لحديث ابن عمرَ رضي الله عنهما.
فرعٌ: لا يخطُبُ على خِطْبة الكافر؛ لِما في ذلك من الظلم والاعتداء، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ولا يخطب على أخيه» : محمولٌ على الغالب، وما كان قيدًا أغلبيًّا فلا مفهومَ له؛ وهذا هو الأقرب.
فرعٌ: وتجوز الخِطْبة على خِطْبة الغير في أحوال:
الأُولى: إذا رُدَّ الخاطب الأول؛ لسقوط حقة بالرد؛ وهذا باتفاق الأئمة.
الثانية: أن يأذن الخاطبُ الأول لغيره في الخِطْبة، فيجوز لغيره أن يخطُبَ؛ لِما تقدم في حديث ابن عمرَ رضي الله عنهما:«أو يأذن له الخاطب» ؛ رواه مسلِم.
الثالثة: أن يترك الخاطبُ الأول الخِطْبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «حتى يترك الخاطبُ أو يأذن له» ؛ رواه مسلِم، ولأنه أسقَطَ حقَّه.
الرابعة: إذا استأذن الثاني الأولَ، فسكت الأولُ: جاز أن يخطُبَ الثاني؛ لأنه في معنى التركِ.
قال شيخُ الإسلام في الاختيارات: (ومَن خطب تعريضًا في العِدَّة أو بعدها، فلا يُنهَى غيرُه عن الخِطْبة).
مسألةٌ: يُسَن العقدُ يوم الجمعة؛ لأنَّ جماعةً من السلَفِ استحبوا ذلك؛ منهم: ضَمْرةُ بن حبيب، وراشد بن سعد، وحبيب بن عُتْبة، ولأنه يومٌ شريف ويومُ عيدٍ، وفيه خُلِقَ آدم عليه السلام.
ويُستحبُّ وقتَ المساء؛ لأنه ساعةُ الإجابة عند بعض العلماء، ومَن حضر العقدَ دعا للمتزوِّج بالدعاء الوارد.
ويُسَن أن يخطُبَ قبله بخُطْبة ابنِ مسعود رضي الله عنه؛ وهي:
إن الحمدَ لله، نَحمَده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يَهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.
وفي حديثِ ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ويَقرأ ثلاثَ آيات، ففسَّرها سفيانُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [آل عِمرَان: 102]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا *} [النِّسَاء: 1]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا *} [الأحزَاب: 70]؛ رواه التِّرمِذي وصحَّحه.
مسألةٌ: الفحص الطبيُّ قبل الزواج، يجوزُ اشتراطُ الفحص الطبي قبل الزواج على الرجُلِ والمرأة من قِبَل وليِّ الأمر في بعض الأمراض المُعْدية، التي لها ضرَرٌ على الطرَف الآخر، أو الأولاد؛ لِما فيه من مصلحة للطرَفينِ، ولنسلِهما.
مسألةٌ: إذا أجري عقدُ النِّكاح عن طريق آلاتِ الاتصال الحديثة -كالهاتف-: فإنَّه لا يصحُّ؛ لاشتراط الإشهاد فيه على الإيجاب والقَبول، وهذا لا يُمكِنه في هذه الأحوال؛ لأنه يُمكِنُ أن يزوَّرَ الخطُّ، وأن يقلَّدَ الصوتُ، لكنه إذا احتيج إلى العقد مع غياب الزَّوج أو الوليِّ، فإن أحدَهما يوكل شخصًا ينوب عنه في إجراء العقد.
ويجوزُ -على الصحيح-: إجراءُ عقدِ النِّكاح مع تباعدِ أماكن وجود الزَّوج والوليِّ والشهود؛ وذلك عن طريق الشبكة العالمية (الإنترنت)؛ فيُمكِن لأطرافِ العقد والشهود الاشتراكُ جميعًا في مجلس واحد حكمًا، وإن كانوا متباعِدين في الحقيقة، فيسمعون الكلامَ في نفس الوقت، فيكون الإيجابُ، ويليه فورًا القَبولُ، والشهود يرَوْنَ الوليَّ والزَّوج، ويسمعون كلامهما في نفس الوقت؛ فهذا العقدُ صحيح؛ لعدمِ إمكان التزوير، أو تقليد الأصوات، حتى على القول باشتراط اتحاد مجلسِ العقد، فإنَّهم وإن كانوا في أماكنَ متباعدة، لكنهم -حُكْمًا- في مكانٍ واحد، يرى بعضُهم البعض، ويسمع بعضُهم كلامَ بعضٍ في نفس الوقت.
وأخرج البَيْهَقي: كان ابنُ عمرَ رضي الله عنهما إذا دُعِيَ إلى تزويجٍ، قال:(لا تُفَضِّضُوا علينا الناسَ، الحمدُ لله، وصلَّى الله على محمد، إن فلانًا خطَبَ إليكم فلانةَ، إن أنكحتموه فالحمدُ لله، وإن رددتموه فسبحانَ الله)، وإسناده صحيح.
مسألةٌ: الدعاء للمتزوِّج، يُسَنُّ أن يقال للمتزوِّج:(بارك اللهُ لكما، وعليكما، وجمَعَ بينكما بخيرٍ وعافية)؛ أخرجه أبو داود، والتِّرمِذي، وابن ماجَهْ، وأحمد؛ من حديث أبي هُرَيرة مرفوعًا، وهو صحيح، وصحَّحه التِّرمِذي، وابن حِبَّان، والحاكم وأقرَّه الذهبي.
ولِما روى أبو هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «كان إذا رفَّأ إنسانًا إذا تزوَّجَ، قال: بارك لك، وبارك عليك، وجمَعَ بينكما في خير» ؛ رواه أحمد، وأبو داود، والتِّرمِذي وصحَّحه، وابن ماجَهْ، قوله:(إذا رفَّأ)؛ أي: أحَبَّ أن يدعوَ له بالرِّفاء.
ولقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «بارك اللهُ لك، أولِمْ ولو بشاةٍ» ؛ متفق عليه.
ويكونُ هذا الدعاءُ بعد العقد.
فإذا زُفَّتْ إليه، قال:«اللهمَّ إنِّي أسألُك خيرَها، وخيرَ ما جبَلتَها عليه، وأعوذُ بك من شرِّها، وشرِّ ما جبَلتَها عليه» ؛ لِما روى عبدُ الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تزوَّجَ أحدُكم أو اشترى خادمًا، فليقُلِ: اللهمَّ إنِّي أسألك خيرَها، وخيرَ ما جبَلتَها عليه، وأعوذ بك من شرِّها، وشرِّ ما جبَلتَها عليه، وإذا اشترى بعيرًا، فليأخذ بذِروة سَنامه، وليقُلْ مثلَ ذلك» ؛ رواه أبو داود، وابن ماجَهْ، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وروت عائشةُ رضي الله عنها، قالت: تزوَّجني النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأتتني أمِّي، فأدخلتني الدار، فإذا نسوةٌ من الأنصار في البيت، فقلنَ:(على الخيرِ والبركة، وعلى خيرِ طائرٍ)؛ رواه البخاري.
فرعٌ: صلاةُ ركعتينِ عند الدخول، (تزوَّج أبو سعيدٍ رضي الله عنه، فحضَره عبدُ الله بن مسعود وأبو ذرٍّ وحذيفة رضي الله عنهم، وغيرُهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا له: إذا دخلتَ على أهلك، فصلِّ ركعتينِ، ثم خُذْ برأس أهلك، فقُلِ: اللهمَّ بارِكْ لي في أهلي، وبارك لأهلي فيَّ، وارزُقْهم مني، وارزُقْني منهم)؛ رواه عبد الرزاق.
فصل وأركانُ النِّكاح
أركانُ النكاح ثلاثة: الزَّوجانِ، والإيجاب، والقَبول.
والمراد بالإيجاب: اللفظُ الصادر من الوليِّ، أو مَنْ يقوم مقامه؛ كوكيله.
والقَبول: هو اللفظ الصادر من الزَّوج، أو مَنْ يقوم مقامه؛ كوكيله.
وينعقدُ بما دلَّ عليه بكل لغةٍ.
ويصحُّ تقدُّم القَبول على الإيجاب.
فرعٌ: جمهورُ العلماء على أن النِّكاحَ ينعقدُ بالكتابة، وبالإشارة المفهومة؛ كبيع وطلاق، ولو كان قادرًا على الكتابة؛ لأنَّ كلًّا من الإشارة والكتابة حُجَّةٌ؛ بدَلالة الشرع.
ولا بد من التوالي بين الإيجاب والقَبول، إلا إن كان الفاصل يسيرًا عُرْفًا.
مسألةٌ: ولا يثبُتُ في النِّكاح خيارُ المجلس ولا خيار الشرط؛ لأنَّ الحاجة غيرُ داعية إليه، فإنَّه لا يقع إلا بعد رويَّةٍ وفِكر، ومسألةِ كلِّ واحد من الزَّوجين عن صاحبه؛ بخلافِ البيع في الأسواق.
وعند شيخ الإسلام إثباتُ خيار الشرط؛ فللزوجة مثلاً أن تشترطَ الفسخ إن تبيَّنَ لها سوءُ خُلُق الزَّوج، أو نقصُ دِينه، لكن يقيَّد بالمدة اليسيرة.
فصل في ذِكر شروط النِّكاح
اشترط الشارع للنكاح شروطًا تَقطَعُ عنه السِّفاحَ؛ كالوليِّ، وغيره، وشرع إظهارَه وإعلانه؛ لأنَّ في الإخلال بها ذريعةً إلى الوقوع في السِّفاح بصورة النِّكاح، وزوال بعض مقاصده، وأثبت له أحكامًا زائدةً على مجرد الاستمتاع، وجعله وُصْلةً بين الناس بمنزلة الرحم؛ فقال تعالى:{فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفُرقان: 54]. الشرطُ الأول: تعيينُ الزَّوجينِ؛ لأنَّ المقصود من النِّكاح التعيينُ؛ فلا يصحُّ بدونه، ولقوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزَاب: 37]، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سهلِ بن سعد رضي الله عنه:«زوَّجتُكها بما معك من القرآن» ؛ متفق عليه.
فلا يصحُّ أن يقولَ: زوَّجتُك بنتي، ولديه غيرها، حتى يميِّزَها؛ إما بالاسم: كفاطمة، أو بالصفة التي لا يشاركُها فيها غيرها: كالصالحة، أو الإشارة: كهذه.
الشرط الثاني: رِضاهما؛ فلا يصحُّ إكراهُ أحدهما بغير حق.
ويستثنى من هذا: الزَّوج المجنون، والمجنونة، والمعتوه، والصغير؛ فيزوَّجُ هؤلاء مع الحاجة إلى تزويجهم دون اعتبار لإذنِهم للحاجة والمصلحة.
لِما روت خنساءُ بنت خِذامٍ الأنصاريةُ رضي الله عنها: «أنَّ أباها زوَّجها وهي ثيِّبٌ، فكَرِهتْ ذلك، فأتت الرسولَ صلى الله عليه وسلم، فردَّ نكاحها» ؛ رواه البخاري.
ولحديث عبد الله بن بُرَيدة رضي الله عنه: «أن فتاةً جاءت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكَرت أن أباها زوَّجها من ابن أخيه؛ ليَرفَع به خسيستَهُ، فجعل الأمرَ إليها» ؛ رواه أحمد، والنَّسَائي، وابن ماجَهْ، والدارَقُطْني والبَيْهَقي.
مسألةٌ: تزويج الأب لابنته البِكْرِ الصغيرة لا يخلو من أمرينِ:
الأول: أن يكون لها أقلُّ من تسعِ سنين، قال ابن المنذِر:(أجمع كلُّ مَنْ أحفظ عنه من أهل العلم أن نكاحَ الأبِ ابنتَه البِكْرَ الصغيرة جائزٌ، إذا زوَّجها من كفءٍ)؛ لقول الله تعالى: {وَالَّلاِئي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَالَّلائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطّلَاق: 4]، فجعل للائي لم يَحِضْنَ عِدة ثلاثة أشهر، ولا تكون العِدة إلا عن مفارَقة من نكاح، وقالت عائشةُ رضي الله عنها:«تزوَّجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ستٍّ، وبنى بي وأنا ابنة تسعٍ» ؛ متفق عليه.
وروى الأثرمُ: (أن قُدَامة بن مظعون تزوَّج ابنةَ الزُّبَير حين نُفِستْ، فقيل له، فقال: ابنةُ الزُّبَير إن متُّ وَرِثَتْني، وإن عِشتُ كانت امرأتي).
وزوَّج عليٌّ ابنتَه أم كلثوم وهي صغيرة عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه.
وحكى ابنُ حزم عن ابن شُبْرُمةَ: أن الأب لا يزوِّجُ ابنته الصغيرة حتى تبلُغَ وتأذَنَ، وزعم أن تزوُّجَ عائشةَ وهي بنت ستِّ سنين كان مِنْ خصائصه.
والذي يظهرُ: صحةُ العقد عليها، مع بقاء الخيار لها، إذا عرَفتْ مصالح النِّكاح.
الثاني: أن يكون للصغيرة تسعُ سنوات فأكثر؛ فقول جمهور أهل العلم أن حُكْمَها حكمُ من لم تبلُغْ تسعَ سنين على ما تقدم؛ لأنَّها غير بالغة، ولأنَّ إذنَها لا يعتبر في سائر التصرُّفات.
وعن الإمام أحمد: لا يجوز تزويجُ ابنة تسعِ سنين بغير إذنها.
واختار شيخ الإسلام: عدمَ إجبار بنت تسعِ سنين، بِكْرًا كانت أو ثيِّبًا؛ لاشتراط الرضا؛ وهو الأقربُ.
فرعٌ: ولا يزوِّجُ باقي الأولياء -كالجَدِّ والأخ والعم- صغيرةً لم تبلغ؛ لِما ورد: أن قُدَامة بن مظعون زوَّج ابنة أخيه من عبد الله بن عمرَ، فرُفِعَ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«إنَّها يتيمةٌ، ولا تُنكَح إلا بإذنها» ؛ رواه الإمام أحمد، والدارَقُطْني، والبَيْهَقي، وهو حسَنٌ.
ولحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه، مرفوعًا:«تُستأمَر اليتيمةُ، فإن سكَتتْ فهو إذنُها، وإن أبَتْ لم تُكرَهْ» ؛ رواه أحمد، وإسناد حسن.
وفي الصحيحينِ من حديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تُنكَح الأيِّمُ حتى تُستأمَر، ولا البِكْرُ حتى تُستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنُها؟ قال: أن تسكُتَ» .
وعن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البِكْرُ تُستأذن، قلت: إن البِكْرَ تُستأذن وتستحي؟ قال: إذنُها صُماتُها» ؛ متفق عليه.
مسألةٌ: ضابط البِكر والثيِّب:
أولاً: اتفق الأئمةُ أن من لم تزُلْ بَكارتُها، فهي بِكر.
ثانيًا: اتفق الأئمة أن من زالت بكارتُها بوطءٍ مباح، أنها ثيِّب.
ثالثًا: من وُطِئتْ في نكاح فاسد، فهي في حكم الثيِّب.
رابعًا: من وُطِئت في الدُّبُر، فهي في حكم البِكر.
واختلف العلماءُ رحمهم الله فيما عدا ذلك:
الأُولى: من زالت بَكارتها بسبب مرض، أو وَثْبة، أو شدة حيض، أو عبَثِ المرأة، أو غير ذلك: فهل تُعد بِكرًا أو ثيِّبًا؟ على قولينِ، والأقرب: ما ذهب إليه جمهورُ أهل العلم؛ من أن لها حكم البِكر؛ لعدم تجرِبتها الرجالَ، ولم تخبُرِ المقصود.
الثاني: مَنْ زالت بكارتها بوطءٍ محرَّم: فالأقرب: أنه إن كان الوطءُ مع رضًا، فهي في حكم الثيِّب، وإن كان مع الإكراه فهي في حكم البِكر؛ وبه قال بعض الحنابلة رحمهم الله تعالى؛ لأنَّ علةَ تفضيل البِكر على الثيِّب في القَسْم هو الحياء، فليس المناطُ بقاءَ البَكارة أو زوالَها؛ ولهذا من زالت بَكارتها بغير وطءٍ فهي في حكم البِكر، كما تقدَّم.
الثالث: أن يكون الوطء بشبهة؛ مثل أن يجامع امرأةً يظنها زوجته، فتتبين غيرَ زوجته: ففي حكم البِكر؛ لأنه زِيدَ في قَسْم البِكر لعلة الحياء، وهذا موجودٌ فيمن وُطِئتْ بشبهة.
الشرط الثالث: أن يَعقِد على المرأة وليُّها؛ لأن الخطاب في الكتاب والسنة بالإنكاح للأولياء الرجال، من ذلك قوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النُّور: 32]، وقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البَقَرَة: 221]، وقوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البَقَرَة: 232]، ففي صحيح البخاري:(أنها نزلت في معقل بن يسار لما منع أخته أن تتزوج زوجها الأول لما طلقها)، قال الخطابي في معالم السنن:(هذه أدل آية في كتاب الله على أن النكاح لا يصح إلا بعقد ولي، ولو كان لها سبيل إلى أن تُنكح نفسها لم يكون للعضْل معنىً).
ولحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل باطل» ؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه
وحسنه الترمذي، وقال ابن حجر في الفتح:(صححه أبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم).
وعن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا نكاح إلا بولي» ؛ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان، وصححه ابن المديني.
(وحين تأيمت حفصة من ابن حذافة السهمي قال عمر رضي الله عنه: فلقيت أبا بكر رضي الله عنه، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة) رواه البخاري.
ولما جاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال:(لا نكاحَ إلا بوليٍّ مرشد، وشاهدَيْ عدلٍ)؛ رواه أحمدُ في المسند والبَيْهَقي، وإسناده صحيح.
فلو زوَّجتِ المرأة نفسَها بدون وليِّها، فنكاحها باطلٌ؛ ولأنَّ ذلك ذريعةٌ إلى الزنى، ولأنَّ المرأة قاصرةُ النظر عن اختيار الأصلح لها.
ووليُّ المرأة هو: أبوها، ثم جَدُّها لأبٍ وإن علا، ثم ابنها، ثم بنوه وإن نزلوا، ثم أخوها لأبوينِ، ثم أخوها لأبٍ، ثم بنوهما، ثم عمها لأبوينِ، ثم عمها لأبٍ، ثم بنوهما، ثم أقرب عصَبتها نسَبًا؛ كالإرث، ثم المعتِقُ، ثم الحاكم.
مسألة: شروط الولي:
الأول: التكليف: (وهو البلوغ والعقل)؛ لأنَّ غير المكلَّف يحتاج إلى مَنْ ينظُرُ له، فلا ينظر لغيره.
الثاني: الذُّكورية؛ لأنَّ المرأة لا وِلايةَ لها على نفسها؛ فغيرُها أَوْلى، ولأنه يعتبر في الولاية الكمالُ، ولما روى أبو هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا تزوِّجُ المرأةُ المرأةَ» ؛ رواه ابن ماجَهْ، والدارَقُطْني، والبَيْهَقي.
الثالث: الرُّشْد في العقد؛ بأن يَعرِفَ الكفءَ، ومصالحَ النِّكاح.
الرابع: اتفاق الدِّين؛ فلا وِلايةَ لكافر على مسلِمة، قال ابن المنذر:(أجمع عامةُ مَنْ يُحفَظ عنه من أهل العلم على هذا)؛ ودليلُهُ قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النِّسَاء: 141].
مسألةٌ: الكافر يلي تزويجَ مَوْليَّته الكافرة؛ وهو المذهب عند الحنابلة.
وقال شيخ الإسلام في الاختيارات: (قال أحمد: لا يَعقِد نصرانيٌّ ولا يهودي عقدة نكاح لمسلِم ولا مسلِمة، ولا يكونانِ وليَّيْنِ لمسلِم ولا مسلِمة، بل لا يكون الولي إلا مسلِمًا، وهذا يقتضي أن الكافرَ لا يزوِّج مسلِمة بوِلاية، ولا وَكالة، وظاهره: يقتضي أنْ لا وِلاية للكافر على ابنته الكافرة في تزويجها المسلِم).
الخامس: الأمانة؛ لأنَّها ولاية نظرية، فلا يستبدُّ بها غير الأمين؛ واستُدل عليه بقوله الله تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القَصَص: 26]، وبما جاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال:«لا نكاحَ إلا بوليٍّ مرشد، وشاهدَيْ عدلٍ» ؛ رواه أحمدُ في المسند والبَيْهَقي.
فرعٌ: القاضي وليُّ مَنْ لا وليَّ لها مِنْ غير المسلِمين.
فإن كانت في بلد ليس فيه قاض فرئيس الجماعة المسلمة، أو مدير المركز الإسلامي ونحو ذلك.
فرع: إن استوى وليَّانِ -كالأخوينِ فأكثر-؛ صحَّ التزويجُ من كل واحد، إن أَذِنتْ لهم، فإن أذنت لأحدهم تعيَّنَ، ولم يصحَّ نكاحُ غيره، وإن لم تأذن وتشاحّوا؛ أقرع بينهم.
فرع: تجوز الوكالة في النكاح مطلقًا؛ لأن الأصل الجواز وعدم المانع.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وَكَّل عمرَو بن أمية الضَّمْري في تزويج أم حبيبة، رواه الحاكم وهو ضعيف، وقياساً على البيع.
فرعٌ: وإن عضَلَ الأقربُ -أي: منع تزويج موليته-، أو لم يكن أهلاً، أو غاب غَيْبةً يفوت بها الخاطبُ الكفءُ: زوَّج الأبعدُ، وإن زوَّج الأبعدُ بلا عذر، صحَّ النكاح بإجازة الأقرب.
الشرط الرابع: الشهادة على العقد؛ لأنَّ الغرض إعلانُ النِّكاح؛ احتياطًا للنسَب؛ ودليل ذلك: حديثُ عائشة مرفوعًا: «لا نكاحَ إلا بوليٍّ، وشاهدَيْ عدل» ؛ رواه ابن حِبَّان، وقال:(لا يصح في ذكر الشاهدين غيره)، وورد عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما موقوفًا عند الدارَقُطْني، وإسناده صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة» ؛ رواه الترمذي، ورواه البيهقي موقوفًا وقال:(وهذا أصح).
وعن عمرَ رضي الله عنهما: أنه أُتِيَ بنكاح لم يَشهَدْ عليه إلا رجُلٌ وامرأة، فقال:(هذا نكاح السرِّ، ولا أجيزه، ولو كنتُ تقدَّمتُ فيه، لرَجَمتُ)؛ أخرجه مالك في الموطأ بإسناد منقطع.
قال التِّرمِذي: (والعملُ على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن بعدهم من التابعين، وغيرهم؛ قالوا: لا نكاحَ إلا بشهودٍ، لم يختلفوا في ذلك مَنْ مضى منهم، إلا قومٌ من المتأخرين من أهل العلم).
وجمهور العلماء على أن الشهادةَ شرطٌ في صحة النِّكاح؛ للأدلة السابقة، ولأنَّ الله تعالى أمر بالإشهاد عند الرَّجْعة؛ بقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطّلَاق: 2]، وهي إبقاءُ نكاحٍ سابق، فبَدْؤُهُ أَوْلى، ولعِظَم شأن النِّكاح،
وما يترتب عليه.
وقال شيخ الإسلام: يصحُّ النِّكاح بدون إشهاد؛ بشرطِ الإعلان.
ويشترط في الشاهد: أن يكون بالغًا عاقلاً أمينًا قويًّا على الشهادة.
مسألةٌ: والكفاءة هي الخُلُق والدِّين؛ لحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «فاظفَرْ بذات الدِّين، تَرِبتْ يداك» ؛ رواه البخاري ومسلِم.
ولحديث عائشة رضي الله عنها: «أن أبا حُذَيفة بن عتبة بن ربيعة تبنَّى سالمًا، وأنكحه ابنةَ أخية هندَ بنت الوليد بن عتبة، وهو مولًى لامرأةٍ من الأنصار» ؛ رواه البخاري.
ولحديث أبي حاتم المُزَني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه» ؛ أخرجه الترمذي وقال: (حديث حسن غريب).
فلا يصحُّ تزويج من لا يصلِّي، أو من يقارف الفواحش، ولا يجوز أن يزوج من تتضرر المرأةُ بالزواج منه؛ كمَن يتعاطى المخدِّرات والمُسكِرات.
باب المحرَّمات في النِّكاح
ويعبِّرُ بعض العلماء ب: موانع النِّكاح.
الأصل في النساء: الحِلُّ؛ لقوله تعالى بعد أن ذكر المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاء: 24]، وهنَّ ضربانِ:
الضرب الأول: اللاتي يحرمن تحريمًا مؤبدًا؛ وهنَّ خمسة أنواع:
النوع الأول: من يحرمن بالنَّسَب؛ وهنَّ سَبْعٌ في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ
…
*} [النِّسَاء: 23].
- الأمُّ، والجَدَّة لأبٍ، أو لأم، وإن علَوْنَ؛ لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ} [النِّسَاء: 23].
- البنتُ، وبنتُ الابنِ، وبنتُ البِنْتِ، وبنتُ بنتِ الابنِ، وإن نزَلْنَ؛ لقوله تعالى:{وَبَنَاتُكُمْ} [النِّسَاء: 23].
- الأخت؛ شقيقةً كانت، أو لأبٍ، أو لأم؛ لقوله تعالى:{وَأَخَوَاتُكُمْ} [النِّسَاء: 23].
- بنتُ الأخت، وبنتُ ابنها، وبنتُ بنتِها، وإن نزَلْنَ؛ لقوله تعالى:{وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النِّسَاء: 23].
- بنت الأخ، وبنتُ بنتِ الأخ، وبنتُ ابنه، وإن نزَلْنَ؛ لقوله تعالى:{وَبَنَاتُ الأَخِ} [النِّسَاء: 23].
- العمةُ والخالة مطلقًا، وإن علَوْنَ؛ لقوله تعالى:{وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} [النِّسَاء: 23].
النوع الثاني: اللاتي يحرمن بالرَّضاع، وبيانهنَّ كما يلي:
يحرُمُ بالرَّضاع ما يحرم بالنَّسَب من الأقسام السابقة؛ فكلُّ امرأة حرُمتْ بالنسب من الأقسام السابقة؛ حرُمَ مثلُها بالرَّضاع؛ كالأمهات والأخوات؛ لقوله تعالى: {وَأُمَهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النِّسَاء: 23]، ولحديث عائشة رضي الله عنها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يحرُمُ مِنْ الرَّضاع ما يحرم مِنْ النَّسَب» ؛ متفق عليه.
النوع الثالث: الملاعَنةُ على الملاعِن؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» ؛ رواه البخاري.
النوع الرابع: المحرَّمات بالمصاهَرة؛ وهنَّ أربعٌ:
1 -
تحرُمُ بالعقد زوجةُ أبيه، وزوجة جَدِّهِ، وإن علا، من جهة الأبِ أو الأم؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النِّسَاء: 22].
2 -
تحرم زوجةُ ابنه، وابن ابنه، وابن بنته، وإن نزل، بمجرد العقد؛ لقوله تعالى:{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النِّسَاء: 23].
3 -
تحرم عليه أمُّ زوجته، وجَدَّاتها، وإن علَوْنَ، بمجرد العقدِ؛ لقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النِّسَاء: 23].
4 -
ابنة الزَّوجة تحرُمُ بالدخول بأمها -أي: جِماعها-، وابنة ابنها، وابنة بنتها، سواء كان من زوج سابق أو لاحق؛ لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي
فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النِّسَاء: 23].
النوع الخامس: المحرَّمات بالاحترام؛ وهنَّ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم في زاد المعاد: (وهل يحرم نظير المصاهرة بالرضاع، فيحرم عليه أم امرأته من الرضاع، وبنتها من الرضاعة، وامرأة ابنة من الرضاعة، أو يحرم الجمع بين الأختين من الرضاعة، أو بين المرأة وعمتها، وبينهما وبين خالتها من الرضاعة؟ فحرمه الأئمة الأربعة وأتباعهم، وتوقف فيه شيخنا وقال، إن كان قد قال أحد بعدم التحريم، فهو أقوى).
فرع: ربيبة والده وولده، وأم زوجة والده وولده، حلال؛ لأن الأصل الحل.
الضرب الثاني: ما كان تحريمُهُ منهنَّ مؤقتًا، وهن نوعان:
النوع الأول: ما يحرُمُ من أجل الجمع:
1 -
يحرُمُ الجمع بين الأختينِ؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء: 23].
2 -
يحرم الجمع بين المرأة وعمَّتها، وبين المرأة وخالتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها:«لا يُجمَعُ بين المرأة وعمَّتِها، ولا بين المرأة وخالتِها» ؛ متفق عليه، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم الحكمةَ في ذلك حين قال:«إنَّكم إذا فعَلتُم ذلك، قطَعتُم أرحامَكم» ؛ وذلك لِما يكون بين الضرائرِ من الغَيرة، فإذا كانت إحداهما مِنْ أقارب الأخرى حصَلتِ القطيعةُ بينهما، فإذا طُلِّقتِ المرأةُ وانتهت عِدَّتُها؛ حلَّتْ أختُها، وعمَّتُها، وخالتها، وابنة أختها، وابنة أخيها؛ لانتفاء المحذور.
3 -
ولا يجوز أن يُجمَعَ بين أكثرَ من أربعِ نسوة؛ لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النِّسَاء: 3]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ تحته أكثرُ من أربعٍ لمَّا أسلم أن يفارق ما زاد عن أربعٍ؛ رواه أبو داود، وابن ماجَهْ، والبَيْهَقي، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لقيس بن الحارث:«اختَرْ منهنَّ أربعًا» ؛ رواه أحمد والتِّرمِذي وابن ماجَهْ.
وقال شيخُ الإسلام: (ولا يُشترط في جواز وطئِهنَّ انقضاءُ العِدَّة، لا في جمعِ العَدَد، ولا في جمعِ الرَّحِم؛ لأنه لم يَجمَعْ عَددًا ولا وَطْئًا).
مسألةٌ: من أسلم وتحته أكثر من أربع، أو أختان ونحو ذلك، فإنه يختار إن كان مكلَّفًا، وإن كان غيرَ مكلف اختار له وليُّه؛ لأنَّ الفسخ واجب، فيقوم الوليُّ مقامه في التعيين، كما يقوم مقامه في تعيينِ الواجب عليه؛ من المال، والزكاة، وغيرها.
وإن أبى الاختيار، أُجبِرَ بحبسٍ، ثم تعزير؛ لأنَّ الاختيار حقٌّ عليه، فأُلزِمَ بالخروج منه إن امتنَع، كما يقوم في تعيين الواجب؛ لما ورد أن فَيْروز الدَّيْلمي رضي الله عنه:«أسلَمَ وتحته أختانِ، فخيَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فاختار إحداهما» رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي:(حديث حسن).
النوع الثاني: ما كان تحريمُهُ لعارض يزول؛ وله صُوَر:
1 -
يحرُمُ تزوُّجُ المعتدة من غير مَنْ فارَقَها؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البَقَرَة: 235]، والحكمة في ذلك: أنه لا يؤمَنُ أن تكون حاملاً، فيفضي ذلك إلى اختلاط المياه، واشتباه الأنساب.
2 -
يحرم تزوج الزانية -إذا عَلِمَ زناها- حتى تتوبَ وينقضي استبراؤها؛ لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النُّور: 3].
3 -
يحرم على الرجُلِ أن يتزوج مَنْ طلقها ثلاثًا حتى يطأها زوجٌ غيرُه، بنكاح صحيح؛ لقوله تعالى:{اَلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البَقَرَة: 229] إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البَقَرَة: 230]؛ يعني: الثالثة، {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البَقَرَة: 230].
4 -
يحرم تزوُّج المُحْرِمة حتى تَحِلَّ من إحرامها.
وكذا لا يجوز للمحرِمِ أن يعقد النِّكاحَ على امرأة وهو محرِم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: في حديث عثمان رضي الله عنه: «لا يَنْكِحُ المحرِمُ، ولا يُنكَح، ولا يخطُبُ» ؛ رواه مسلم.
وكذا الوليُّ إذا كان محرِمًا لا يزوِّجُ حتى يَحِلَّ.
5 -
لا يحل أن يتزوج كافرٌ امرأةً مسلِمة حتى يُسلِمَ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البَقَرَة: 221].
6 -
الكافرة لا يجوز الزواجُ منها؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البَقَرَة: 221]، وقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [المُمتَحنَة: 10]، وقوله:{لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [المُمتَحنَة: 10].
ويستثنى الكتابيَّةُ النصرانية أو اليهودية؛ بشروط:
أ-أن تكون حُرَّة.
ب-وأن تكون عفيفة.
ج-وأن تكون باقية على دينها.
لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المَائدة: 5].
مسألةٌ: لا يصحُّ تزويجُ مَنْ نكاحُها فاسد قبل طلاق أو فسخٍ ممن تزوجها أو القاضي؛ لأنَّ تزويجَها من غيرِ فُرْقة يفضي إلى تسليط زوجينِ عليها، كلٌّ منهما يعتقد صحةَ نكاحه، فإن أبى الزوج الطلاق أو الفسخ؛ فسخه حاكمٌ؛ لقيامِهِ مقام الممتنِع فيما وجب عليه.
باب الشروط في النِّكاح
المراد بالشروط في النِّكاح: ما يَشرِطُهُ أحدُ الزَّوجين بسبب العقد مما له فيه منفعةٌ ومصلحة، والأصل فيها الحل؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المَائدة: 1]، والأمرُ بالإيفاء بالعقود يتضمَّنُ الإيفاءَ بأصله ووصفِه، ومِن وصفِهِ: الشرطُ فيه، ولحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه مرفوعًا:«المسلِمون على شروطهم» ؛ رواه البخاري معلقًا، ولحديثُ عقبة بن عامر رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إن أحقَّ الشروطِ أن تُوفُوا به ما استحلَلتُم به الفُروجَ» ؛ متفق عليه.
والشروط تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الشروط الصحيحة؛ وهي: ما لا يخالفُ الشرع؛ مثل: أن تشترطَ على الزَّوج ألا يخرجَها من دارها، أو لا يمنعها من العمل، أو أن يحج بها، ونحو ذلك.
القسم الثاني: الشروط الباطلة غير المبطِلة؛ وهو ما نهى عنه الشرعُ، ولم يعُدِ النهيُ إلى ذات المنهيِّ عنه، أو شَرْطِه المختص به؛ مثل: إذا شرَطتْ طلاق ضَرَّتها، لا يصحُّ هذا الشرطُ ولا يجوز؛ لحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا تَسألِ المرأةُ طلاقَ أختها لتَكفأَ صَحْفتَها، ولتَنكِحْ؛ فإنَّ لها ما قُدِّرَ لها» ؛ رواه البخاري، ولِما فيه من الظلم على الزَّوجة الأولى، إلا إذا كان اشتراطُ طلاق الضَّرة بسببٍ شرعي؛ كنحوِ رِيبة ظهرت منها، ونحو ذلك من المقاصد.
فرع: يقاس على ذلك كلُّ شرط اقتضى ظلمًا، مثل: أن يَقسِمَ لها أكثرَ من ضَرَّتها، ونحو ذلك.
القسم الثالث: الشروط الباطلة في نفسِها، المبطِلة للعقد؛ وهي: ما عاد النهيُ فيها إلى أصل العقد، أو شرْطِهُ المختص به، قال ابن القيِّمِ رحمه الله تعالى:(الضابط الشرعيُّ الذي دلَّ عليه النهي: أن كل شرطٍ خالَفَ حُكْمَ الله وكتابَه، فهو باطلٌ، وما لم يخالف حُكْمَه، فهو لازم).
وهو أنواع:
النوع الأول: نكاح الشِّغار:
الشغار بالكسر: الخلو من العوض، ومنه قولهم: شغر المكان إذا خلا، وقيل: هو البعد، كأنه بعد عن طريق الحق، وقيل: مأخوذ من شَغَرَ الكلبُ رِجلَه إذا رفعها ليبول، سمي شغارًا لقبحه، تشبيهًا له بقبح الكلب حين يرفع رجله ليبول.
والشِّغار أن يزوِّجه مَوْليَّته -كأخته وبنته -على أن يزوِّجه الآخَر موليته-أي بشرطِ أن يزوِّجه موليته-؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الشِّغار» ؛ رواه البخاري ومسلِم.
وقال شيخ الإسلام: (وفصلُ الخطاب: أن الله حرَّم نكاح الشِّغار؛ لأنَّ الوليَّ يجب عليه أن يزوِّج مَوْليَّته إذا خطبها كفءٌ، ونظَرُهُ لها نظَرُ مصلحةٍ، لا نظَرُ شهوة، والصداق حقٌّ لها لا له، وليس للوليِّ ولا للأب أن يزوِّجها إلا لمصلحتها، وليس له أن يزوِّجَها لغرضه لا لمصلحتها، وبمثل هذا تسقُطُ وِلايته، ومتى كان غرضُهُ أن يعاوِضَ فَرْجَها بفَرْجِ الأخرى، لم ينظُرْ في مصلحتها، وصار كمن زوَّجها على مال له لا لها، وكلاهما لا يجوز، وعلى
هذا لو سُمِّيَ صداقًا حيلةً، والمقصود المشاغَرة: لم يجُزْ؛ كما نص عليه أحمد؛ لأنَّ مقصودَهُ أن يزوِّجها بتزوُّجه الأخرى، والشرع بيَّن أنه لا يقع هذا إلا لغرضِ الوليِّ، لا لمصلحة المرأة، سواءٌ سُمِّيَ مع ذلك صداقًا أو لم يُسَمَّ؛ كما قاله معاوية وغيره، وأحمد جوَّزه مع الصداق المقصود دون الحيلة؛ مراعاةً لمصلحة المرأة في الصداق).
النوع الثاني: نكاح المحلِّل: وهو أن يتزوَّجها بشرطِ أنه متى حلَّلها للأول؛ طلَّقها، أو نوى الزَّوجُ الثاني التحليلَ بلا شرط يُذكَر في العقد، أو اتفقا عليه قبل العقد؛ ففي جميع هذه الأحوال: يبطُلُ النِّكاح؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبِرُكم بالتيسِ المستعار؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله! قال: هو المحلِّل؛ لعَنَ اللهُ المحلِّلَ، والمحلَّلَ له» ؛ رواه ابن ماجَهْ، والحاكم، وغيرهما.
ولنكاح التحليل صُوَرٌ:
الأولى: أن يشترِطَ عليه في العقد أن يطلِّقها بعد الدخول بها، فعند جمهور أهل العلم أنه محرَّم، وباطل.
الثانية: أن ينويَ ذلك بقلبه؛ فالمذهبُ ومذهب المالكية: بطلانُ هذا العقد، ولا تَحِلُّ لزوجها الأول؛ لحديث عمرَ رضي الله عنه مرفوعًا:«إنما الأعمال بالنيات» ؛ متفق عليه، ولأنه قَصَد التحليل؛ فلم يصحَّ.
وقال شيخ الإسلام: (لا يصحُّ نكاحُ المحلِّل، ونيةُ ذلك كشرطِه).
الثالثة: أن يحصُلَ تواطؤٌ بين الزَّوج والزَّوجة أو وليِّها قبل العقد، ولا يذكُرَ لفظًا في صُلْبِ العقد، لكنه منويٌّ ومعلوم؛ فحكمُ هذه الصورة حكمُ الصورة السابقة.
الرابعة: أن لا تشرطَ عليه الطلاقَ بعد الوطء، لكنه يغيِّر رأيه في نفسه ويَرجِع، ويَعقِدُ عليها وفي نيته أنه نكاحُ رغبةٍ، فلا ينوي تحليلَها ولا تطليقها: فالمذهب -هو مذهبُ الأئمة الثلاثة-: أن العقدَ صحيح؛ لانتفاءِ المحذور، وحصول المقصود من الإمساك على الدوام.
الخامسة: أن تكون نيةُ التحليل من الزَّوجة، أو من الزَّوج الأول، أو الوليِّ: فقول الأئمة -: أن العقد صحيحٌ؛ لأنه خلا عن نية التحليل وشرطِه؛ لأنَّ كلًّا من الزَّوجة والزَّوج الأول لا يَملِكانِ رفعَ العقد؛ فوجودُ نيتهما كعدَمِه.
النوع الثالث: تعليق النِّكاح:
لو عُلِّقَ النِّكاح، فجمهورُ العلماء على أنه لا يصحُّ؛ لأنَّه عقدُ معاوضة؛ كما لو قال: زوَّجتُك إذا دخل شهرُ رمضان.
وقيل: يصح، واختاره شيخ الإسلام، وهو الصواب؛ لورود تعليق الإمارة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الأصل في الشروط في النكاح الحل.
النوع الرابع: نكاح المتعة؛ وهو محرم، وله صُوَر:
الأُولى: أن يتزوَّجَها لمدة معينة؛ كأسبوع مثلاً.
الثانية: أن يشترط طلاقَها بمُضيِّ مدة معينة، لحديث سَبْرةَ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة» ؛ رواه مسلم.
الثالثة: النِّكاح بنيَّة الطلاق: وهو محرَّم؛ لحديث عمرَ رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمالُ بالنيَّات» ؛ متفق عليه.
والقصدُ معتبَرٌ في العقود؛ قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في بهجة قلوب الأبرار: (ومِثلُ ذلك من تزوَّج بنيته الطلاق، ظاهر زواجه أنه يريد الدوامَ والاستمرار، وباطنه يريد التمتُّع بها إلى أجلٍ يَمكُرُ بها بعد انتهاء غرضه عبَثًا وخداعًا، فهو توصَّل بهذه النية إلى ما حرَّم الله، وهو العبث والخديعة، وظلمُ المرأة وأوليائها)، ولأنَّ الضررَ الحاصل للزوجة بهذا النِّكاح كالضرَرِ الحاصل بنكاح المتعة، ولأنَّ الشريعة جاءت بتحريم ما كانت مَفسدتُهُ أعظمَ من مصلحته.
فصلٌ في العيوب في النِّكاح
العيب في اللغة: النقص.
وفي الاصطلاح: كلُّ عيبٍ ينفِّرُ أحدَ الزَّوجينِ من الآخَر خِلْقةً عُرْفًا؛ كالعَمَى، والعَوَر، وقطع أحد الأطراف، ونحو ذلك.
التفريق بالعيب يثبُتُ لكل من الزَّوجين؛ لما روى أبو هُرَيرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لا عدوَى ولا طِيَرةَ، ولا هامةَ ولا صفَرَ، وفِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد» ؛ رواه البخاري.
وفرارُ أحد الزَّوجينِ من صاحبه بإثبات حقِّ الفَسْخِ، ويقاس على الجُذَام غيرُه من العيوب ممَّا ينفِّر.
ولما ورد: أن عمرَ رضي الله عنه قال: (أيُّما رجلٍ تزوَّج المرأة وبها جنون أو جُذَام أو برَصٌ؛ فلها صداقُها كاملاً؛ وذلك لزوجها غُرْمٌ على وليها)؛ رواه مالك في الموطأ، والدارَقُطْني، ورجاله ثقات، وهو مِنْ رواية سعيدٍ عن عمرَ.
ولقول ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أربعٌ لا يجُزْنَ في بيعٍ ولا نكاح: المجنونة، والمجذومة، والبَرْصاء، والعَفْلاء» ؛ رواه البَيْهَقي، وقال البيهقي في الخلافيات:(وهو صحيح عن ابن عباس، ولا يصح عن أحد من الصحابة خلاف ذلك).
ولما ورد عن علي رضي الله عنه؛ أنه قال: «أيُّما رجلٍ تزوج امرأة مجنونة، أو جَذْماء، أو بها برَصٌ، أو قَرَنٌ: فهي امرأته؛ إن شاء أمسك، وإن شاء طلَّق» ؛ رواه البَيْهَقي، والدارَقُطْني، وإسناده صحيح.
قال ابن القيِّمِ: (والقياس: أن كل عيبٍ يَنفِرُ الزَّوجُ الآخر منه، ولا يحصل به مقصودُ النِّكاح؛ من الرحمة والمودة: يوجب الخيارَ، وهو أَوْلى من البيع، كما أن الشروطَ المشترَطة في النِّكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم اللهُ ورسوله مغرورًا قط ولا مغبونًا بما غُرَّ به وغُبِنَ به، ومَن تدبَّر مقاصد الشرع في مصادره وموارده، وعدله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح: لم يخفَ عليه رجحانُ هذا القول، وقُرْبُهُ مِنْ قواعد الشريعة).
فرع: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في عيوب الزَّوجين، هل هي محدودة أو معدودة؟
ذهب جمهور أهل العلم: أنها معدودة، فيعدِّدونها، وعلَّل الجمهور بعِلَل ترجع إلى أن هذا المرضَ مانعٌ من الجماع، وكمال الاستمتاع، أو لأنه مُعْدٍ، أو لأنه منفِّرٌ لا يستطاع الصبرُ عليه، أو أن الأثر ورد بهذه العيوب فقط.
وعن محمد بن الحسن، والزُّهْري، وشُرَيح، وأبي ثَوْرٍ، وبه قال شيخُ الإسلام، وابن القيِّمِ: أنها محدودة ومضبوطة بضابط.
فعند محمد بن الحسن: أنه كل عيبٍ لا يمكن للزوجة المُقامُ مع الزَّوج إلا بضرر.
وعند شيخ الإسلام: تُرَدُّ المرأة بكل عيبٍ ينفِّرُ عن كمال الاستمتاع.
والأقرب: أنه كل عيب ينفِّرُ أحد الزَّوجينِ عن الآخَر خِلْقةً عُرْفًا، وذلك مثل: أن يجد أحدُ الزَّوجين الآخرَ مقطوع اليد، أو الرِّجْل، أو مجنونًا، أو عقيمًا، أو أعمى، أو أعرج، ونحو ذلك من العيوب التي تنفِّر أحدَ الزَّوجين عن الآخَر خِلْقة عرفًا.
فرع: ومن رضي بالعيب من الزوجين قولاً أو فعلاً فلا فسخ له.
باب نكاح الكفَّار من أهل الكتاب وغيرهم
ضابط: (حكمُ نكاح الكفار كنكاح المسلِمين في الصحة)؛ يقعُ فيه الطلاق، والظِّهار، والإيلاء، ووجوب المَهْرِ، والنفقة، والإحصان، وغير ذلك، ويُقَرُّون على فاسد النِّكاح إذا اعتقدوا صحتَهُ في شرعهم، بخلاف ما لا يعتقدون حِلَّهُ؛ فلا يُقَرُّون عليه؛ لأنه ليس من دِينهم، ولا هو من دِين الإسلام؛ لقول الله تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التّحْريم: 11]، وقال تعالى:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *} [المَسَد: 4]، فأضاف الله تعالى الزوجية لكل من فرعون وأبي لهب، مما يدل على صحة النكاح، ولأنَّه أسلم كثير من الصحابة، ولم يفتش عليه الصلاة والسلام في أنكحتهم.
فإن أتونا قبل عقدِهِ، عقدناه على حكمِنا؛ بإيجاب وقَبول، ووليٍّ، وشاهدَيْ عدلٍ منا؛ قال تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المَائدة: 42].
وإن أتونا بعد العقد، أو أسلم الزَّوجان على نكاح: لم نتعرَّضْ لكيفية صدوره؛ من وجود صيغته، أو وليٍّ، أو غير ذلك؛ لأنه أسلم خَلْقٌ كثير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع نسائهم، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنكحتهم، ولم يسأل عن شروط النِّكاح وكيفيته؛ فإن كان العقد وقع بلا صيغة، أو وليٍّ، أو شهود: أُقِرَّ على نكاحها؛ لأنَّ ابتداء النِّكاح حينئذ لا مانع فيه؛ فلا مانعَ من استدامته؛ فالاستدامة أقوى من الابتداء.
لكن يُشترط أن تكون المرأة تباح وقتَ الإسلام؛ فإن عقد على امرأة في عدتها، ثم أسلم قبل فراغ العدة، أو عقد على أختِ زوجةٍ مع وجودها في عصمته؛ لم يُقَرَّ.
ومثله لو كانت الزَّوجة ممن لا يجوز ابتداءُ نكاحها حال الإسلام؛ كذات مَحرَم من نسَبٍ أو رَضاع أو مصاهَرة؛ لم يقر، فإن عمرَ رضي الله عنه كتب:«أنْ فرِّقوا بين كل ذي رحِمٍ من المجوس» ؛ رواه البخاري.
فرع: إن وَطِئَ كافر كافرة، فأسلما، أو قدما إلينا وقد اعتقداه نكاحًا؛ أُقِرَّا عليه كنكاح بلا وليٍّ؛ لأنَّا لا نعترض على كيفية النِّكاح بينهم، وإن لم يعتقداه نكاحًا، فُرِّقَ بينهما؛ لأنه سِفاح، ولأنه ليس من أنكحتهم.
أما المَهْرُ إذا أسلم فله أحوال:
الأولى: أن يسمى المهر تسمية صحيحة؛ فليس لها غيره.
الثانية: أن يسمى المهر تسمية فاسدة، وقد قبضَتْه؛ فليس لها غيره.
الثالثة: أن يسمى المهر تسمية فاسدة - كخمرٍ - ولم تقبضه؛ فلها بدله.
مسألة: أثر الإسلام في عقد النِّكاح؛ له أحوال:
الأولى: إن أسلم الزَّوجان معًا، بأن تلفَّظا بالإسلام دفعة واحدة: فعلى نكاحهما؛ لأنه لم يوجد منهما اختلافُ دِين.
الثانية: إذا أسلم زوج كتابية - كتابيًّا أو غير كتابي - بقي نكاحُهما؛ لأنَّ للمسلِم ابتداءَ نكاح الكتابية؛ فمِلك استدامته بطريق الأَوْلى؛ إذ الاستدامة أقوى من الابتداء.
الثالثة: إذا أسلمت الزَّوجة الكتابية تحت كافر كتابي أو غيره.
الرابعة: إذا أسلم أحد الزَّوجين غير الكتابيين - كالمجوسيَّين يُسلِم أحدهما -:
ففي الحالتين الأخيرتين، متى أسلم الزَّوج الآخر بعد العِدَّة، أو في أثناء العِدَّة: فهما على نكاحهما، سواء قبل الدخول أو بعده، لكن إذا لم يُسلِم حتى انتهت العِدَّة، فالمرأة بالخيار، إن شاءت تزوَّجتْ، وإن شاءت انتظرت زوجها حتى يُسلِم؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ردَّ ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، ولم يجدد عقدًا، وبين إسلامهما ما يقرب من ثمان عَشْرة سنة، ولأنَّ من الصحابة رضي الله عنهم من يُسلِم أحدهما قبل الآخر، فهما على نكاحهما، وما لم يسلم الزَّوج فهي أجنبية عنه.
مسألةٌ: إذا ارتد أحد الزَّوجين، فهما على نكاحهما حتى يُسلِم المرتد، فإن رجعَ فهما على نكاحهما، وإن لم يرجع فالزَّوجة بعد العِدَّة بالخيار؛ إن شاءت انتظرت زوجها حتى يسلم، وإن شاءت تزوَّجتْ، لكن إذا ارتد الزَّوج؛ تحرُمُ عليه، وتكون أجنبية عنه حتى يرجع إلى الإسلام.
قال شيخ الإسلام: (إذا أسلمتِ الزَّوجة والزَّوجُ كافر، ثم أسلم قبل الدخول أو بعد الدخول: فالنِّكاح باقٍ، ما لم تنكح غيره، والأمر إليها، ولا حُكْمَ له عليها، ولا حقَّ لها عليه، فمتى أسلمت ولو قبل الدخول أو بعده، فهي امرأته إن اختار، وكذا إن ارتد الزَّوجان أو أحدهما ثم أسلما أو أحدهما".
باب الصَّداق
صداق المرأة: مهَرُها، وأصدَقَها: أي سمَّى لها صداقًا، وسمِّي بذلك؛ لإشعاره بصِدق رغبته في النِّكاح، وله ثمانية أسماء.
صداقٌ ومَهْرٌ نِحْلةٌ وفريضةٌ
حِباءٌ وأجرٌ ثم عُقْرٌ علائقُ
والصَّداق اصطلاحًا: ما يعطيه الزَّوج لزوجته مقابل العقد عليها.
والأصل فيه: القرآن؛ كما في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النِّسَاء: 4]، والسنَّة؛ كما سيأتي، والإجماع على مشروعيته.
مسألة: يسن تخفيفُهُ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «أعظمُ النساءِ بركةً أيسَرُهنَّ مُؤْنة» ؛ أخرجه أحمد، وابن أبي شَيْبة، والنَّسَائي في الكبرى، وفيه ضعف.
ولحديث سهل رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«التمِسْ ولو خاتَمًا من حديد» ؛ رواه البخاري ومسلِم.
مسألةٌ: حكم الصداق: المهرُ واجب في النِّكاح؛ لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النِّسَاء: 24]، فقيَّد الإحلالَ به، لكن إذا شرَطَ نفيَهُ، كما لو قال: أتزوج بلا صداق فشرطُهُ فاسد مُفسِدٌ للعقد.
وتسنُّ تسميته في العقد؛ لقطع النزاع، وذِكرُ المَهْر في العقد ليس شرطًا لصحة النِّكاح، فيجوز إخلاء عقد النِّكاح عن تسميتِهِ باتفاق الفقهاء؛ لقوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البَقَرَة: 236].
ولحديث سهل رضي الله عنه في قصة الواهبة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«التمِسْ ولو خاتَمًا من حديد» ؛ متفق عليه.
وورَدَ عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه سئل: عن رجُلٍ تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود:(لها مثلُ صداق نسائها، لا وَكْسَ ولا شطَطَ، وعليها العِدَّة، ولها الميراث، فقام مَعقِل بن سِنان الأشجعي، فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَعَ بنت واشق -امرأةٍ منا- بمثلِ ما قضيتَ)؛ رواه التِّرمِذي والنَّسَائي، وصحَّحه الترمذي.
مسألةٌ: يسن أن يكون من أربعمائة درهم من الفضة، وهي صداقُ بنات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لحديث عليِّ بن أبي طالب:«أنه أصدق فاطمةَ درعَ حديدٍ حُطَمية، وكان ثمنها أربعمائة درهم» ؛ أخرجه أبو داود، والنَّسَائي، وأحمد، إلى خمسمائة درهم، وهي صداق أزواجه صلى الله عليه وسلم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:«كان صداقُهُ صلى الله عليه وسلم لأزواجه ثنتَيْ عَشْرة أُوقِيَّةً ونَشًّا» ، والنَّشُّ: نصف أوقية؛ فتلك خمسمائة درهم؛ فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه؛ أخرجه مسلِم، إلا صفية وأم حبيبة رضي الله عنهما، فصفيَّةُ أصدَقها صلى الله عليه وسلم عِتْقَها، وأم حبيبة أصدَقها النجاشيُّ أربعة آلاف درهم.
وقال عمرُ رضي الله عنه: «ألا لا تُغالُوا بصداق النساء؛ فإنَّها لو كانت مكرمةً في الدنيا، أو تقوَى عند الله؛ لكان أَوْلاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما أصدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه ولا امرأةً من بناته أكثرَ من ثنتَيْ عَشْرة أوقية» ؛ رواه أبو داود، والنَّسَائي، والتِّرمِذي، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي.
مسألةٌ: لا خلاف بين الفقهاء في أنه لا حدَّ لأكثرِ الصداق؛ لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النِّسَاء: 20]، وفي القنطار أقوال؛ منها: أنه المال الكثير، وقيل: إنه ألفُ مثقال من الذهب، وقيل: ملءُ جِلدِ ثورٍ من الذهب، وقيل: على سبيل المبالغة.
وأما أقل المَهْر، فالضابط: أنه يصحُّ بكل ما يجوز أن يكون مالاً شرعًا من الأعيان والمنافع، قليلاً كان أو كثيرًا، ما لم ينتهِ في القِلة إلى حدٍّ لا يُتموَّل؛ لقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النِّسَاء: 24] دون تحديدِ حدٍّ معين.
ولحديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وفيه:«تزويجُهُ صلى الله عليه وسلم الصحابيَّ بما معه من القرآن» ؛ متفق عليه.
مسألةٌ: وإن أصدَقها تعليمَ قرآنٍ أو غيرِه من العلوم الشرعية، أو المباحة: صحَّ؛ لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«زوَّجتُكها بما معك من القرآن» ؛ متفق عليه، ولأن التعليم منفعة، والمنافع أموال.
ويجوز أن يأتيَها بمن يعلِّمها إياه، إن كان مثلَهُ في التعليم، وإن تعلمته من غيره، وتعذَّر عليه تعليمُها: لَزِمته أجرةُ التعليم.
مسألةٌ: يجوز جعلُ المنفعة صداقًا؛ كدار تنتفع بسكَنها، أو استعمال سيارته، ونحو ذلك؛ لأنَّها منفعة يجوز أخذ العِوَض عليها؛ فهي مال.
مسألةٌ: إن أصدَقها طلاقَ ضَرَّتها، لم يصحَّ؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:«لا يحلُّ لرجُلٍ أن ينكح امرأهً بطلاقِ أخرى» ؛ أخرجه أحمد، وفيه ابن لهيعة ضعيف، وله شاهد صحيح من حديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه مرفوعًا، بلفظ:«لا تسألِ المرأةُ طلاقَ أختها؛ لتستفرغَ صَحْفتَها، ولتَنكِحْ؛ فإن لها ما قُدِّرَ لها» ؛ أخرجه البخاري ومسلِم، ولأنها منفعةٌ ليس لها قيمة مالية، ولما في ذلك من المضارَّة للضَّرة.
قال شيخ الإسلام: (لو قيل ببطلان النِّكاح، لم يبعُدْ؛ لأنَّ المسمى فاسدٌ لا بدل له، فهو كالخمرِ، ونكاح الشِّغار).
ولها مَهْرُ مثلِها؛ لفساد التسمية.
مسألةٌ: إذا كانت المنفعة خدمةَ الزَّوج للزوجة؛ كأن يعمل في تجارتها، أو زراعتها، أو رعيِ غنَمِها، ونحو ذلك: فقسمانِ:
الأول: ما فيه امتهان وتحقير للزوج، كما لو تزوَّجها على أن يخدمَها بغسلِ ثيابها ونحو ذلك: فلا يجوز؛ لأنَّ القِوامة والسيادة في القرآن والسُّنة للزوج على الزَّوجة.
الثاني: ما ليس فيه مهانة ولا مَذلة للزوج؛ كالعمل بتجارتها، أو زراعتها، ونحو ذلك: فلا بأس.
مسألةٌ: متى بطَلَ المسمى؛ لكونه مجهولاً -كعبدٍ، أو ثوب، أو خمر، أو نحوها-: وجب مهرُ المثل بالعقد، ويصحُّ النِّكاح، ويبطل المسمى؛ لجهالته أو تحريمه، ويجب لها مهرُ مثلها من النساء؛ لحديث مَعقِل بن سنان الأشجعي، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«ولها مهرُ نسائِها» .
وقيل: بل مثلُ المغصوب أو قيمته، ويجب مثلُ الخمر خَلًّا.
مسألةٌ: تصحُّ الجهالة اليسيرة في الصداق؛ كما لو تزوَّجها على عبد، أو فرَسٍ، أو ما أشبهه مما يذكر جنسه؛ فإنَّه يصحُّ، ولها الأوسط؛ لأنَّ العِوَض ليس مقصودًا في النِّكاح قصدًا أصليًّا.
مسألةٌ: باتفاق الأئمة يجوز تعجيلُ الصداق وتأجيله، ويُستحب كون المَهْر معجَّلاً؛ لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة الواهبة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«زوَّجتُكها بما معك من القرآن» ، لمن لم يجد ولو خاتَمًا من حديد؛ متفق عليه، ولم يجعله مؤجَّلاً.
فإن عيَّنَا أجلاً؛ أُنيط به، وإن لم يعيِّنا أجلاً بل أطلقا، فمحِلُّهُ الفُرْقة؛
بالطلاق أو الموت؛ على العُرْفِ والعادة في الصداق الآجل.
مسألة: وإن أصدقها محرَّمًا -كخمرٍ ودخان- فلها قيمتُه، إلا إن علما التحريمَ، فيفسُدُ، ولها مهرُ المثل؛ لحديث مَعقِل بن سنان الأشجعي السابق.
فرع: إن وجدتِ المَهْرَ المباح مَعِيبًا -كعبدٍ به نحوُ عرَجٍ- خُيِّرت بين إمساكه مع أَرْشه، وبين ردِّه وأخذ قيمته إن كان متقوِّمًا، وإلا فمثله.
مسألة: للأبِ أن يشترط شيئًا من المَهْر على المشهور مِنْ مذهب الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ} [القَصَص: 27]؛ فجعل الصداقَ الإجارةَ على رعاية غنَمه، وهو شرطٌ لنفسه، ولأنَّ للوالد الأخذَ من مال ولده؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنتَ ومالُكَ لأبيك» رواه ابن ماجه، والطحاوي في المشكل، قال ابن القطان الفاسي:(إسناده صحيح).
وقال عطاء، وطاوس، وعِكْرمة، وعمر بن عبد العزيز، والثَّوْري ومالك: يكون ذلك كلُّه للمرأة؛ لحديث عبد الله بن عمرَ رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّما امرأةٍ نكحَتْ على صداقٍ أو حِباء أو عِدَة قبل عصمة النِّكاح: فهو لمن أُعطِيَهُ» ؛ رواه أحمد، وأبو داود، والنَّسَائي، وابن ماجَهْ، لكن في إسناده ابن جُرَيج، وهو مدلِّس، وقد عنعنه.
ولأنَّ الولاية شُرِطتْ للنظر لمصلحة المرأة، فإذا جاز الشرطُ فيها؛ نظر الوليُّ لمصلحته دون مصلحة مَوْليَّته.
ولو شُرِطَ بعض الصداق لغير الأب -كالجد والأخ- فكلُّهُ للزوجة؛ لأنه عِوَضُ مقابل للاستمتاع بها، والشرط باطلٌ؛ لأنَّ غير الأب لا حقَّ له في مال الزَّوجة.
مسألة: من زوَّج بنته -ولو ثيبًا- بدون مهر المثل؛ صحَّ، ولو كَرِهتْ؛ لأنه ليس المقصودُ في النِّكاح العِوَضَ، ولا يلزم أحدًا تتمةُ المَهْر.
ولقول عمر رضي الله عنه: «ألا لا تُغالُوا بصداق النساء، ما أصدَقَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أصدَق امرأة من بناته: أكثرَ من ثنتَيْ عَشْرة أوقيَّه» ، وكان ذلك في جمع من الصحابة، ولم يُنكَر.
وإن زوَّجها بدون مهرِ مثلِها وليٌّ غيرُ الأب بإذنها: صحَّ مع رشدِها؛ لأنَّ الحق لها، وقد أسقطته، وإن لم تأذَنْ في تزويجها بدون مهر مثلِها لغير الأب، فلا يلزم الزَّوجَ إلا المسمى، والباقي على الوليِّ؛ كالوكيل في البيع.
مسألة: إن زوَّج ابنَهُ بمَهْر المِثلِ أو أكثرَ، صحَّ؛ لأنَّ المرأة لم ترضَ بدونه، وقد تكون مصلحةُ ابنه في بذل الزيادة، ويلزم الابنَ إن كان له مال، وإلا فعلى أبيه، فإن لم يكُنْ، فمن تلزمه نفقتُه.
فرع: وللولي قبضُ الصداق؛ لأنَّه العادة، وإن كانت صغيرة أو مجنونة أو سفيهة، فلأنه يَلِي مالها.
مسألة: وتَملِك المرأة جميعَ صداقها بالعقد؛ لقول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النِّسَاء: 4]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سهل رضي الله عنه، الذي رواه البخاري ومسلِم:«إنْ أعطيتَها إزارك، جلَستَ لا إزارَ لك» : دليلٌ على أنه كلَّهُ للمرأة.
مسألة: المَهْرُ ينقسم إلى قسمين:
الأول: معيَّن؛ كما لو قال: أصدقتُكِ هذه السيارة، أو البقرة.
الثاني: غير معيَّن؛ كما لو قال: أصدقتُكِ ثوبًا من ثيابي، ونحو ذلك.
وهذا التقسيم يترتب عليه أحكامٌ:
1 -
للمرأة نماءُ المَهْر المعيَّن؛ من حَبٍّ، وثمرة، وولد، ونحوها؛ لأنه نماءُ مِلكها.
2 -
إن تَلِفَ المَهْر المعيَّن أو نقَص قبل قبضها، فمن ضمانها؛ لتمام مِلكها عليه، إلا إن منعها زوجُها قبضه، فيَضمَنه إن تَلِفَ، وعليه نقصُهُ إن تعيَّبَ أو نقَص، والزيادة لها.
3 -
ها التصرُّف في المَهْر المعيَّن بالبيع، والهبة، والوقف، ونحو ذلك.
4 -
أن عليها زكاةَ المعيَّن إذا حال عليه الحولُ من العقد، وحول المبهم من تعيين.
5 -
إن طلَّق الزوج قبل الدخول أو الخَلْوة، فله نصفُ المَهْر المعين، ولها نصفُهُ؛ باتفاق الأئمة.
وأما غير المعيَّن، فنماؤه للزوج، وإن تَلِفَ فمِن ضمانه، وعليه زكاتُه.
مسألةٌ: الزَّوج هو الذي بيدِهِ عقدةُ النِّكاح عند الجمهور.
وقد رجع الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى عن القول بأنه الأبُ، وحجتُهُ: قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البَقَرَة: 237]، وعفوُ الزَّوج عن النصف الذي يستردُّهُ هو العفو الأقرب للتقوى؛ لتصرُّفه في ماله، وعفوُ الوليِّ عن صداق مَوْليَّته ليس أقربَ للتقوى، ولورودِه عن عليٍّ رضي الله عنه؛ رواه الدارَقُطْني، ورجاله ثقات، وكذا جُبَير بن مُطعِم؛ رواه الدارَقُطْني، ورجاله ثقات، وابن عبَّاسٍ رضي الله عنه؛ رواه الدارَقُطْني.
وعن الإمام أحمد: أنه الأب، واختاره الشيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله تعالى؛ وبه قال
الإمام مالك.
وحجتُهُ: أن الله جل جلاله خاطب الأزواجَ أولاً بقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [البَقَرَة: 237]، ثم الزَّوجاتِ بقوله تعالى:{إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} [البَقَرَة: 237]، ثم قال:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البَقَرَة: 237]؛ وهو الوليُّ.
فعلى القول الأول: الوليُّ ليس له أن يعفوَ عما وجب لابنتِه؛ لأنَّ الذي بيده عقدةُ النِّكاح هو الزَّوج؛ كما سبق.
وعند الإمام مالك، واختاره شيخ الإسلام: أن للوليِّ أن يعفوَ عن صداقِ ابنته؛ لأنَّ الذي بيده عقدةُ النِّكاح هو الوليُّ.
مسألةٌ: وإن اختلف الزَّوجانِ أو وليُّهما في قدر الصداق أو عينِه؛ كأن قال الزَّوج: أصدقتُكِ هذه السيارة، فقالت: بل السيارةَ الأخرى، أو اختلفا فيما يستقرُّ؛ بأن قالت: حصل وَطْءٌ أو خَلْوة، فقال: لم يحصل، أو اختلفا في جنس الصداقِ، فقال الزَّوج: أصدقتُكِ ثوبًا، فقالت: بل كتابًا: فقول الزَّوج بيمينه؛ لأنه مُنكِر، والأصل براءةُ ذمَّته، إلا مع وجود البيِّنة، أو القرائن.
مسألةٌ: إن اختلفا في قبضِهِ، فالقول قولها، أو قولُ وليِّها مع اليمين؛ حيث لا بيِّنة له؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ القبض، ما لم يكُنْ هناك قرائنُ؛ كالعادات، إن كانت العادة تقضي بتقديم معجَّل المَهْر إلى الزَّوجة قبل أن تُزَفَّ إلى زوجها، فلا تُصدَّق في إنكارها؛ لأنَّ العُرْفَ هنا يقوم مقام البيِّنة.
مسألةٌ: إن تزوَّجها على صداقينِ، فالمعتبَر ما اتفقا عليه؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المَائدة: 1]؛ لأنهما قد يتفقانِ على شيءٍ سرًّا، ويُظهِران للناس غيره؛ تجمُّلاً، فالمعتبَر ما اتفقا عليه في السِّر.
فصلٌ في أحكام المفوِّضة
التفويض لغة: مصدر فوَّض، يقال: فوَّضت إلى فلانٍ الأمرَ؛ أي: صيَّرته إليه، وجعلته الحاكم فيه، والتفويضُ لغةً: الإهمال.
واصطلاحًا: ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: تفويض البُضْعِ: أن يزوِّج الرجُلُ مَوْليَّته دون ذِكْرٍ للمهر؛ فيصحُّ؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البَقَرَة: 236].
ولحديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه في رجُلٍ تزوَّج امرأة ولم يَفرِضْ لها صداقًا، ولم يدخُلْ بها حتى مات، فقال:«لها صداقُ نسائها، لا وَكْسَ ولا شطَطَ، وعليها العِدَّة، ولها الميراث، فقام مَعقِل بن سنان الأشجعي، فقال: قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَعَ بنت واشقٍ بمثل ما قضيتَ» ؛ رواه التِّرمِذي وصحَّحه.
القسم الثاني: تفويض المَهْر؛ بأن يتزوَّجَها على ما شاء أحد الزَّوجين، أو يشاء غير الزَّوجين؛ كالأبِ أو الأم.
الأحكام المترتبة على التفويض:
الأول: صحةُ العقد باتفاق الأئمة؛ للآية السابقة.
الحكم الثاني: أنه يجب لها مهرُ المثل؛ لِما تقدم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
الحكم الثالث: أن لها طلَبَ فرض المَهْرِ؛ لأنَّ النِّكاح لا يخلو من المَهْرِ؛ فجاز لها المطالبة ببيانِ قدره.
الحكم الرابع: يَفرِض القاضي مهرَ المثل بقدره، بطلبِها؛ لأنَّ الزيادة عليه ميلٌ على الزَّوج، والنقص منه ميلٌ على الزَّوجة، وإن تراضيَا ولو على قليل، صحَّ؛ لأنَّ الحق لا يَعْدوهما، ويصحُّ إبراؤها للزوج من مهرِ المثل قبل فرضه؛ لأنه حقٌّ لها، فهي مخيَّرة بين إبقائه وإسقاطه، وسواءٌ في ذلك مفوِّضة البُضْعِ ومفوِّضة المَهْرِ.
فرعٌ: إن عفَتِ المرأةُ عن صداقها الذي لها على زوجها، أو عن بعضه، أو وهَبتْهُ إياه بعد قبضه، أو قبل قبضه، وهي جائزة التصرُّف في مالها: جازَ؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} [البَقَرَة: 237]، وقوله:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النِّسَاء: 4].
الحكم الخامس: مَنْ مات من الزَّوجين قبل الجماع والخَلْوة والفرض لمَهْر المِثل، وَرِثَهُ الآخَر؛ لأنَّ تركَ تسمية الصداق لا يَقدَحُ في صحة النِّكاح.
الحكم السادس: إذا مات أحدُ الزَّوجين قبل الدخول والفرض، فلها مهرُ المثل؛ لحديث مَعقِل بن سنان رضي الله عنه:«أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى في بَرْوَعَ بنتِ واشق، وكان زوجُها مات ولم يدخُلْ بها، ولم يَفرِضْ لها صداقًا، فجعل لها مهرَ نسائها، لا وَكْسَ، ولا شطَطَ» ؛ رواه أبو داود والتِّرمِذي وغيرهما، وصحَّحه التِّرمِذي.
ومَهْرُ المِثل: مهرُ مَنْ تساويها من نساءِ عصَبتها؛ كأختها، وعمَّتِها، وبنت أخيها وعمِّها، بمن هي مثلُ جمالها، ومالها، وشرَفها، وسنها، إما بالتراضي عليه أو بحكم القاضي.
مسألةٌ: هدية الزَّوج: إن كانت الفُرْقةُ أو الفَسْخ بسببٍ من الزَّوج، فالهديةُ للزوجة، ولا يجوز الرجوعُ فيها؛ إذ العائدُ في هبته كالكلبِ يقيء ثم يعود في قيئه.
وإن كان بسببٍ من المرأة لا من الزَّوج، فيجوز له الرجوعُ؛ لأنه إنما وهَبَها لكونها زوجةً، وما بُنِيَ على سببٍ، زال بانتفائه.
مسألةٌ: متعةُ المطلَّقة: اسمٌ للمال الذي يدفعه الرجُلُ لامرأته عند مفارَقته لها بطلاقٍ ونحوه، فإذا طُلِّقتِ المرأةُ قبل الدخول بها، وقبل أن يفرضَ لها مهر: فالمتعةُ لها واجبة؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ *} [البَقَرَة: 236]؛ فقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البَقَرَة: 236]: أمرٌ، والأمرُ يقتضي الوجوب، وقوله:{حَقًّا} [البَقَرَة: 241]: مِنْ آكَدِ ألفاظ الإيجاب، وقوله:{الْمُحْسِنِينَ} [آل عِمرَان: 134]: فجعَلَ المتعةَ شرطًا في الإحسان.
وفي غير الحالة السابقة فالمتعة مستحبة على الزوج.
والمتعة معتبَرة بحال الزَّوج؛ يسارًا وإعسارًا؛ لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البَقَرَة: 236]، ولوروده عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
وهي غير مقدَّرة، وإنما يُرجَع في تقديرها إلى العُرْفِ؛ لقوله تعالى:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البَقَرَة: 236]، وقوله تعالى:{مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البَقَرَة: 236]، فإن حصل خلافٌ، رجع إلى القاضي.
مسألةٌ: المَهْر يستقرُّ في مواضع؛ أي: يجب كلُّه للمرأة:
الأول: موتُ أحد الزَّوجين باتفاق الفقهاء؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق.
الثاني: الوطءُ؛ وهذا باتفاق الفقهاء؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البَقَرَة: 237]، ولحديث
عائشةَ رضي الله عنها: «ولها المَهْرُ بما استحلَّ مِنْ فَرْجِها» ؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وحسنه الترمذي، وقال ابن حجر في الفتح:(صححه أبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم).
الثالث: الخَلْوة؛ وهذا هو المذهب، ومذهب الحنفية؛ أن الخَلْوة تقرِّر الصداقَ؛ لقوله تعالى:{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النِّسَاء: 21]، قال الفرَّاء: الإفضاء الخَلْوة، ولما ورد عن عمرَ وعليٍّ رضي الله عنهما:«إذا أُجِيفَ الباب، وأُرخِيت الستورُ: فقد وجب المَهْر» ؛ رواه ابن أبي شَيْبة والبَيْهَقي بإسناد صحيح.
وعند الشافعية في الجديد: أن الخَلْوة لا تقرِّرُ الصداقَ؛ لظاهر الآية السابقة.
فرع: ضابط الخلوة التي يستقر بها المهر:
عند الحنفية: هي الخَلْوة التي لا يكون معها مانعٌ من الوطء؛ لا حقيقي، ولا شرعي، ولا طبعي.
وعند الحنابلة: أن ينفرد بها عن مميِّزٍ وبالغ مطلقًا.
الرابع: الاستمتاع بما دون الفَرْجِ، إذا أخذها فمسَّها وقبض عليها من غير أن يخلوَ بها، فلها الصداقُ كاملاً؛ إذ نال منها شيئًا لا يَحِلُّ لغيره؛ كما قال الإمام أحمد؛ لقوله تعالى:{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزَاب: 49]؛ وهذا مَسِيسٌ، ولما تقدم قريبًا عن عمر وعلي رضي الله عنهما.
مسألةٌ: باتفاق الفقهاء - في الجملة - أن مَنْ فارَقَ زوجته قبل الدخول بها، أو قبل ما يستقرُّ المَهْر مما تقدَّم، وقد سمَّى لها مهرًا: فيجب عليه نصفُ المَهْر المسمى؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البَقَرَة: 237].
فالقاعدة: أن المَهْرَ المسمى يتنصَّفُ بكل فُرْقة من قِبَل الزَّوج، قبل الدخول، أو ما يقرِّر الصداق؛ كإسلامه، وطلاقه، والفسخ لعيبه، ونحو ذلك.
ويسقط بكل فُرْقة من قِبَلها؛ باتفاق الأئمة الأربعة في الجملة؛ مثل: الفسخ لعيبها، وإسلامها، ونحو ذلك.
فرعٌ: إن طلق الزَّوجةَ بعد الدخول، فلا متعة لها، بل لها المَهْر؛ لقوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البَقَرَة: 236].
فأوجب اللهُ المتعةَ بشرطينِ: أن يكون الطلاقُ قبل الفرض، وقبل المَسِيس، ولم يوجد الشرطانِ.
ونوقش: بأن ذِكْرَ بعض أفراد العام بحُكْمٍ يوافق العامَّ لا يقتضي التخصيصَ.
وعن الإمام أحمد - وهو الجديد من قولَيِ الشافعي، واختاره شيخ الإسلام -: وجوبُ المتعة لكل مطلَّقة؛ لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *} [البَقَرَة: 241]؛ فالآية عامة لكل مطلَّقة، ولأنَّ المتعة إنما جُعِلتْ لِما لحقها من الابتذال والإيحاش بالطلاق، والمَهْرُ في مقابلة منفعة الوطء، وقد استوفاها.
فرعٌ: يجوز الدخولُ على المرأة قبل إعطائها شيئًا من المهر.
مسألةٌ: وإن افترَقا بعد الدخول في النِّكاح الفاسد أو الباطل، وجب المسمى لها في العقد؛ قياسًا على الصحيح.
مسألةٌ: إذا زنتِ المرأةُ، قال أبو حنيفةَ - واختاره شيخ الإسلام -: لا شيءَ لها من العوض، سواء كان الزنا بإكراه أو رضًا؛ لحديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«كسبُ الحَجَّام خبيث، ومَهْرُ البغيِّ خبيث، وثمَنُ الكلب خبيث» ؛ رواه أحمد وأبو داود والتِّرمِذي والنَّسَائي، وقال الترمذي:(حسن صحيح).
لكن الأظهر أنه يؤخذ المهر من الزاني ويتصدق به؛ لئلا يجمع له بين العوض والمعوض، ويستثنى من ذلك أرش البكارة فيكون للمرأة إذا أكرهت على الزنا؛ لما فيه من الإتلاف.
مسألةٌ: للمرأة قبل الدخول منعُ نفسها حتى تَقبِضَ صداقها الحالَّ؛ لأنَّه إذا تعذَّر استيفاءُ المَهْر عليها، لم يُمكِنْها استرجاعُ عِوضها، ولها النفقة زمَنَ منعِ نفسها.
فإن كان الصداقُ مؤجَّلاً، ولم يَحِلَّ: لم تَملِكْ منعَ نفسها؛ لأنها لا تَملِك الطلب به.
ولو أبى الزَّوجُ تسليمَ الصداق حتى تسلِّم نفسها، وأبت تسليم نفسها حتى يسلِّم الصداقَ: أُجبِرَ زوجٌ، ثم زوجتُه.
فرعٌ: إن أعسر الزَّوجُ بالمهر الحالِّ:
عند الحنفية: أنه لا فسخَ لها مطلقًا، بل هي كسائر الغرماء؛ لأنَّ المَهْر دَيْنٌ يثبُتُ في ذمة الزَّوج، ومن المتفَق عليه: أن النِّكاح لا يُفسَخ بالإعسار بدَيْنٍ غيرِ الصداق، فكذا الإعسار بالصداق، ولأنَّ الأصل في الفُرْقة ألا تكون إلا بيد الزَّوج، فلا تكون لغيره إلا بدليل.
باب وليمةِ العُرْسِ، وآداب الأكل والشُّرب
أصل الوليمة: تمامُ الشيء واجتماعه، ثم نُقِلتْ لطعام العرس خاصةً لاجتماع الرجل والمرأة.
ولوليمة العرس حِكَم، منها:
1 -
شكر الله تعالى على نعمة النكاح.
2 -
إعلان النكاح، وقال مالك: استحب الإطعام في الوليمة وكثرة الشهود ليشتهر النكاح وتثبت معرفته.
3 -
البر بالمرأة وقومها، وإكرامهم.
4 -
إطعام الطعام، وصلة الأرحام، وإكرام الأصدقاء والجيران، والصدقة على الفقراء.
مسألة: تُسَن الوليمة؛ وهذا بالاتفاق.
واختلَفوا في وجوبها: فقال الشافعي: واجبة؛ لأمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف؛ متفق عليه، ولوجوب إجابةِ دعوتها.
وعند الجمهور: عدمُ وجوبها؛ لأنها طعام لسرور حادث، فأشبَهتْ سائر الأطعمة.
فرع: وقتُ الوليمة موسَّع، من عقد النِّكاح إلى انتهاء أيام العُرْسِ؛ لصحة الأخبار في هذا، وكمال السرور.
قدرُها: وليمة العُرْسِ من النفقة التي لم يقدرها الشرع؛ فيُرجَع فيها
للعُرْف، فتُجزِئ ولو بالشيء القليل؛ كمُدَّين من شعير، ويسن ألا تنقُصَ عن شاة، والأَوْلى: الزيادة على الشاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف حين قال له: «تزوَّجتَ؟، أَوْلِمْ ولو بشاةٍ» ؛ رواه البخاري ومسلم، وأولَم النبي صلى الله عليه وسلم على صفيَّةَ بحَيْسٍ وضَعه على نِطَعٍ صغير؛ كما في الصحيحين عن أنس.
وعن أنس رضي الله عنه؛ أنه قال: «ما أولَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شيءٍ من نسائه ما أولَم على زينب؛ أولَم بشاةٍ» ؛ متفق عليه.
وجاء في البخاري: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أولَم على بعضٍ مِنْ نسائه بمُدَّين من شعير» .
ولا يجوز فيها الإسرافُ والخيلاء؛ لعموم النهيِ عن ذلك.
مسألةٌ: اختلف العلماءُ في إجابة دعوة وليمة العُرْس:
فقال أبو حنيفة: يستحبُّ إجابة دعوتها.
وقال مالك في المشهور عنه، والشافعيُّ في أظهر القولين، وأحمد في أظهر الروايتين: هي واجبةٌ، وقد روى الطحاويُّ عن أبي حنيفة مثلَ ذلك.
ودليل الوجوب: ما رواه أبو هُرَيرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «شرُّ الطعامِ طعامُ الوليمة؛ يُمنَعُها مَنْ يأتيها، ويُدْعى إليها مَنْ يأباها، ومَن لا يُجِبِ الدعوةَ، فقد عصى اللهَ ورسوله» ؛ رواه مسلِم.
ولما روى ابن عمرَ رضي الله عنهما: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أجيبوا هذه الدعوةَ إذا دُعِيتم لها، وكان ابنُ عمرَ يأتي الدعوة في العُرْسِ وغير العُرْس، ويأتيها وهو صائم» ؛ متفق عليه.
وفي لفظٍ: «مَنْ دُعِيَ إلى عُرْسٍ أو نحوه، فليُجِبْ» ؛ رواه مسلِم.
وذهب بعضُ الشافعية وبعض الحنابلة: أن الإجابةَ إلى الوليمة فرضُ كفاية؛ لأنَّ الإجابة إكرامٌ وموالاة؛ فهي كردِّ السلام؛ وأما قوله: «ومَن لا يُجِبِ الدعوة، فقد عصى اللهَ ورسوله» فموقوف، ولا يصحُّ رفعُهُ للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أقرب.
مسألة: شروطُ وجوب إجابة وليمة العُرْسِ عند القائلين بالوجوب:
الشرط الأول: أنه يجب أن يجيبَ الدعوة الأُولى إذا تكرَّرتْ؛ لأنها في المرة الثانية والثالثة يُخشَى مِنْ محذور الإسراف أو الخيلاء.
الشرط الثاني: أن يكون الداعي مسلِمًا، لما تقدم، ولحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «حقُّ المسلِم على المسلِم خمسٌ
…
وإذا دعاك فأجِبْهُ»؛ رواه مسلِم.
الشرط الثالث: أن يكون ممن يحرُمُ هجرُه، فإن كان لا يحرم هجرُهُ، فلا تجب إجابةُ دعوته؛ كصاحب بِدعة ينفع فيه الهجر.
الشرط الرابع: أن يعيِّنَه الداعي، فإن دعا العمومَ، فلا تتعين إجابته، وأصبحت مِنْ باب فروض الكفايات.
الشرط الخامس: ألا يكون هناك منكَر لا يَقدِر على تغييره؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعَام: 68].
الشرط السادس: ألا يخصَّ بها الأغنياء؛ لِما تقدم من حديث: «شر الطعام
…
».
الشرط السابع: ألا يحصل له بالحضور ضرَرٌ، أو مشقة وحرج؛ لقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحَجّ: 78]؛ مثل: السفر، والمطر، وشدة البَرْد، ونحو ذلك.
فرعٌ: الإجابة إلى غيرِ الوليمة من الدعوات مستحبَّة؛ وهو قول جمهور العلماء؛ لأن الأدلة الواردة في الذم إلى عدم إجابة الدعوة إنما تتوجه إلى وليمة العرس خاصة.
وقال عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: «كنا لا نأتي الختانَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نُدْعى إليه» ؛ رواه الإمام أحمد.
ولأنَّ التزويج يستحبُّ إعلانُه، وكثرة الجمع والتصويت والضرب بالدف، بخلافِ غيره.
وقال الزَّرْكشي: لو قيل بالوجوب، لكان متجِهًا؛ لحديث ابنِ عمر رضي الله عنهما مرفوعاً:«مَنْ دُعِيَ إلى عُرْسٍ أو غيره، فليُجِبْ» ؛ رواه مسلِم.
ولحديث البراء بن عازبٍ رضي الله عنه: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بإجابة الداعي» ؛ متفق عليه.
ولحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «حقُّ المسلِم على المسلِم ستٌّ» ، وفيه:«إذا دعاك، فأجِبْهُ» ؛ رواه مسلِم.
ولما روى ابن عمرَ رضي الله عنهما؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أجيبوا هذه الدعوةَ إذا دُعِيتم لها» ، وكان ابن عمرَ يأتي الدعوةَ في العُرْسِ وغير العُرْس، ويأتيها وهو صائم»؛ متفق عليه، وتقدَّمتْ شروط وجوب إجابة الدعوة.
والأقربُ: أن إجابةَ دعوة غير العُرْس: فرضُ كفاية، كإجابة العُرْس.
مسألةٌ: ومَن صومُهُ واجب - كنَذْرٍ وقضاء - إذا دُعِيَ للوليمة حضر؛ لإجابة دعوة المسلِم، ولم يأكل؛ لأنه يحرُمُ قطعُ العبادة الواجبة إلا لضرورة؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محَمَّد: 33]، ولحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه، يرفعه: «إذا دُعِيَ أحدكم فليُجِبْ، فإن كان صائمًا فليَدْعُ، وإن كان مفطِرًا
فليَطعَمْ»؛ أخرجه مسلِم.
ودُعِيَ ابن عمرَ رضي الله عنه إلى الوليمة، وقال:«كلوا؛ فإنِّي صائم» ؛ رواه ابن أبي شَيْبة والبَيْهَقي.
ودعا استحبابًا وانصرف؛ لحديث أبي هُرَيرة السابق.
والصائم المتنفِّل إذا دُعِيَ أجاب، ويُفطِر إن جبَرَ قلبَ أخيه المسلِم وأدخَلَ السرورَ عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لرجل اعتزل من القوم ناحية وقال إنِّي صائم:«دعاكم أخوكم، وتكلَّف لكم؛ أفطِرْ، ثم صُمْ مكانه إن شئتَ» ؛ أخرجه البَيْهَقي، عن أبي سعيد الخدري، وإسناده حسن.
قال شيخ الإسلام: (وأعدلُ الأقوال: أنه إذا حضَر الوليمة وهو صائم، إن كان ينكسِرُ قلبُ الداعي بترك الأكل، فالأكل أفضلُ، وإن لم ينكسر قلبُ الداعي، فإتمامُ الصوم أفضل، ولا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاحُ في تناول الطعام للمدعوِّ إذا امتنع؛ فإن كِلا الأمرين جائز، ولا ينبغي للمدعوِّ إذا رأى أنه يترتبُ على امتناعه مفاسدُ إن امتنع، فإن فِطْره جائز، فإن كان تركُ الجائز مستلزمًا لأمور محذورة، فينبغي أن يفعل ذلك الجائزَ، وربما يصير واجبًا
…
).
وإنْ أحبَّ إتمام الصوم، أخبرَهم بصيامه؛ كما فعل ابن عمرَ رضي الله عنهما ليَعلَموا عذره.
ولا يجب على مَنْ حضر الأكلُ، ولو مفطِرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«إذا دُعِيَ أحدكم فليُجِبْ، فإن شاء أكل، وإن شاء ترك» ؛ أخرجه مسلِم، ولأنَّ الواجب هو إجابةُ الدعوة، وقد حصل.
ويستحب الأكل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتقدم: «دعاكم
أخوكم، وتكلَّف لكم؛ أفطِرْ، ثم صُمْ مكانه إن شئتَ».
وفي قول للشافعية: أنه يجب الأكل، وأقلُّه لقمة؛ لحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه، وفيه:(وإن كان مفطِرًا، فليَطعَمْ).
فرعٌ: إباحة الأكل متوقِّفة على صريح إذنٍ، أو قرينة، والدعاء إلى الوليمة وتقديمُ الطعام: إذنٌ فيه، قال الشيخ عبدُ القادر في الغنية:(لا يحتاج بعد تقديمِ الطعام إذنًا، وإذا جرت العادةُ في ذلك البلد بالأكل بذلك، فيكون العُرْفُ إذنًا).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا دُعِيتَ، فقد أُذِنَ لك)؛ رواه البخاري في الأدب المفرَد، وصحَّحه الألباني.
فرعٌ: يجوز أكلُهُ من بيت قريبه أو صديقه، إذا لم يُحرِزْهُ، إذا لم يَكرَهْ ذلك؛ لقوله تعالى:{أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النُّور: 61].
مسألة: من دعاه اثنان، فإن قدر على الحضور إليهما لزمته الإجابة إن اتسع الوقت، فإذا لم يقدر على الجمع بينهما لزمته إجابة أسبقهما؛ لأن إجابته وجبت بدعوته، فلا تسقط بدعاء من بعده.
فإن استويا أجاب أقربهما بابًا؛ لأن أقربهما بابًا أقربهما جوارًا، فإن استويا في الجوار أجاب أقربهما رحمًا؛ لما في تقديمه من الصلة، فإن استويا في القرابة، أجاب أدينهما؛ لأنه الأكرم عند الله، فإن استويا أجاب من قرع منهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر؛ ولأن القرعة تميز المستحق عند استواء الحقوق؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:«قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلي أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابًا» رواه البخاري.
مسألة: إجابة دعوة غير المسلم، ومن في ماله كسب حرام.
تجوز إجابة غير المسلم، ومن في ماله كسب حرام إذا لم يكن محذور شرعي؛ لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «دعاه يهودي إلى خبز شعير وإهالة سَنِخَةٍ - أي متغيرة -» رواه أحمد، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها فقيل: ألا نقتلها؟ قال: «لا» رواه البخاري ومسلم.
فرعٌ: يُكرَه النِّثارُ، وإن ترتب عليه ضرَرٌ حرُمَ؛ لما روى عبد الله بن زيد رضي الله عنه:«أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن النُّهْبى والمُثْلة» رواه البخاري، ولما يحصل فيه مِنْ النُّهْبة والتزاحم، وأخذُهُ على هذا الوجهِ فيه دناءةٌ وسُخْفٌ.
ومن أخذ شيئًا من النِّثار، أو وقع في حَجْره منه شيء: فهو له؛ قصَدَ تملُّكَه أو لا؛ لأنَّه قد حازه، ومالكه قصد تمليكَهُ لمن حازه.
مسألةٌ: يسن إعلان النِّكاح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أعلِنوا النِّكاح» ، وفي لفظ:«أظهِروا النِّكاح» ؛ رواه التِّرمِذي وابن ماجَهْ؛ من حديث عائشة رضي الله عنها.
وله شاهد من حديث جابر، وإسناده حسن؛ أخرجه أحمد، وابن ماجَهْ.
وقال الزُّهْري: إن الإعلان فرض، حتى إنَّه إذا نكح سرًّا، وأشهد رجُلينِ، وأمرهما بالكتمان: وجب التفريقُ بين الزَّوجين؛ لظاهر الأمرِ، وللفرق بين النِّكاح والسِّفاح، وأوجبه شيخ الإسلام.
مسألةٌ: يباح الضربُ بالدفِّ في العُرْسِ، على الصفة التي جاء الدف صريحًا بإباحتها؛ وهي كما يلي:
1 -
! أن يكون الدفُّ من غير جلاجل.
2 -
أن يكون الضربُ للنساء دون الرجال.
لأنَّ الدف الذي وردت به السُّنة الدفُّ دون ذِكر الجلاجل، والتي كان يضرب بها النساء دون الرجال.
مسألةٌ: ويجوز ضربُ الدف أيضًا في مواطن:
1 -
عند الختان؛ لوروده عن عمرَ رضي الله عنه؛ رواه ابن أبي شَيْبة.
2 -
وعند قدوم الغائب لما رُوِيَ عن بُرَيدة رضي الله عنه، قال:«لما رجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بعض مغازيه، جاءت جاريةٌ سوداءُ، فقالت: يا رسول الله، إنِّي قد نذَرتُ إن ردَّك اللهُ سالمًا أن أضربَ بين يديك الدف» ؛ رواه التِّرمِذي وصحَّحه.
3 -
وفي العيد؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: " دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بُعَاث، وتضربان بالدف، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أبِمُزْمورِ الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا» ؛ رواه البخاري ومسلم.
مسألةٌ: يحرُمُ الغناء في عُرْسٍ وغيره؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمَان: 6]؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: «هو الغناءُ واللهِ الذي لا إله إلا هو)، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: (نزلت في الغناءِ وأشباهه» .
وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسرَاء: 64]؛ قال مجاهد: باللهوِ والغناء.
ولما روى أبو مالك الأشعري رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليكونَنَّ مِنْ أمَّتي أقوامٌ يستحلُّون الحِرَ والحريرَ، والخمر والمعازف» ؛ رواه البخاري.
وورد عن عمرَ رضي الله عنه: «أنه إذا سَمِع صوتَ الدف، بعَث فنظَر، فإن كان في وليمة سكَت، وإن كان في غيرها عمَد بالدِّرَّة» ؛ رواه ابن أبي شَيْبة.
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال:«الدفُّ حرام، والمعازف حرام، والمِزمار حرام، والكُوبة حرام» ؛ رواه البَيْهَقي، قال الهيثمي في المجمع:(وفيه محمد بن عمارة بن صبيح شيخ البزار، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح)، ومحمد بن عمارة بن صبيح الكوفي، ذكره ابن حبان في الثقات.
وعن إبراهيم النَّخَعي: (أن أصحابَ ابن مسعود كانوا يستقبلون الجواريَ في المدينة ومعهنَّ الدفوف فيشقونها)؛ رواه ابن أبي شَيْبة، وابن حزم.
مسائل: في جُمَلٍ من آداب الأكل والشُّرب
الأولى: تستحبُّ التسمية على الأكل والشُّرب بالإجماع.
واختلف العلماء في وجوبها؛ فجمهورُ أهل العلم على استحبابها؛ لوجود الصارفِ؛ وهو قصدُ الأدب والإرشاد.
وذهب بعضُ أهل العلم إلى الوجوب؛ كابن أبي موسى، وابن حزم؛ لحديث عمرَ بن أبي سلَمة رضي الله عنه، مرفوعًا:«يا غلامُ، سمِّ اللهَ، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك» ؛ متفق عليه.
ولحديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:«إذا أكل أحدُكم، فليذكُرِ اسم الله» ؛ رواه أبو داود، والتِّرمِذي وصحَّحه.
قال شيخ الإسلام: (ولو زاد الرحمن الرحيم عند الأكل، لكان حسَنًا؛ فإنَّه أكمل، بخلاف الذَّبْح؛ فإنَّه قد قيل: لا يناسب ذلك). اه.
ويسمِّي الطفلُ المميِّز، ويسمِّي عمن لا عقلَ له ولا تمييزَ غيرُه.
والتسمية تراد لعدم مشارَكة الشيطان.
والسُّنة أن تكون التسمية جهرًا؛ لكي ينبِّهَ غيره، ولحديث عمرَ بن أبي سلَمة مرفوعًا:«سمِّ اللهَ يا غلام» ؛ متفق عليه.
وإذا نسي التسميةَ في أوَّلَه، فليقل:«بسم الله أوَّلَه وآخِره» ؛ رواه أحمد وأبو داود والتِّرمِذي، وحسَّنه، وابن ماجَهْ.
الثانية: يسنُّ الحمد إذا فرغ؛ لحديث أنس رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللهَ ليرضى عن العبد أن يأكُلَ الأَكْلةَ فيَحمَدَ اللهَ عليها، أو يَشرَبَ الشَّرْبةَ فيَحمَدَه عليها» ؛ رواه مسلِم.
فيسنُّ أن يقول ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رُفِعت المائدةُ بين يديه، قال:«الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غيرَ مَكْفيٍّ ولا مودَّع ولا مستغنًى عنه ربَّنا» ؛ رواه البخاري.
قوله: «غير مَكْفي» : أي غير مردود الطعام، ولا مقلوب، وقيل: الضمير راجعٌ إلى الله؛ فالله هو المطعِم الكافي، وغيرُ مطعَم ولا مَكْفي.
وقوله: «ولا مودَّع» : أي غير متروك الطلبُ إليه، والرغبةُ فيما عنده.
ولما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ مِنْ طعامه، قال:«الحمدُ لله الذي أطعمنا وسقَانا، وجعلنا مسلِمين» ؛ رواه أحمد وأبو داود والتِّرمِذي وابن ماجَهْ، إسناده ضعيف.
الثالثة: الطعام لا يخلو من أمرينِ:
الأول: أن يكون نوعًا واحدًا؛ فالسُّنة أن يأكلَ الإنسان مما يليه؛ لقوله
صلى الله عليه وسلم لعمرَ بن أبي سلَمة: «وكُلْ مما يليك» ؛ متفق عليه.
الثاني: أن يكون أنواعًا متعددة؛ فلا بأس أن يأكل مما لا يليه؛ لأنَّ (النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتتبَّعُ الدُّبَّاء)؛ رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه.
الرابعة: وجوب الأكل باليمين؛ لأنَّ الأكل بالشِّمال من عمل الشيطان، قال صلى الله عليه وسلم:«ولا تأكُلْ بالشِّمال؛ فإن الشيطانَ يأكل بالشمال» ؛ رواه مسلِم، واختاره ابن القيِّمِ.
والأكل باليدينِ جميعًا له ثلاثُ حالات:
الأُولى: أن يكون اعتماده على اليدينِ؛ فيُغلَّب جانبُ النهي.
الثانية: أن يكون اعتماده الأغلب على اليمين؛ فيغلب جانب الإباحة.
الثالثة: أن يكون اعتماده الأغلب على اليسار؛ فيحرُمُ.
ولو جعَل في يمينه خبزًا، وفي شِماله شيئًا يشربه، وجعل يأكل من هذا وهذا: فهذا مَنْهيٌّ عنه؛ كما هو ظاهر الخبر، ولأنه أكل بشِماله، ولما فيه من الشِّرَهِ.
الخامسة: يسن أكلُهُ بثلاث أصابع؛ لِما روى كعب بن مالك، قال:«كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرَغَ لَعِقَها» ؛ رواه مسلِم.
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح: "ولعل المراد - والله أعلم - ما لا يُتناوَل عادةً وعُرْفًا بإصبَع أو إصبَعين؛ فإن العُرْفَ يقتضيه، ودليل الكراهيَة منتفٍ عنه".
السادسة: يسنُّ تخليل ما عَلِقَ بأسنانه؛ لحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان يشُوصُ فاه بالسواك إذا استيقَظَ من نومه» ؛ متفق عليه،
ولأنَّ النوم مظنَّةُ تلويثٍ للأسنان والفم، وكذلك الطعام.
السابعة: يسن مسحُ الصَّحْفة؛ لما روى ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا أكل أحدُكم طعامًا، فلا يمسح يدَهُ حتى يَلعَقَها، أو يُلعِقَها» ؛ رواه البخاري.
وروى جابر رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمر بلَعْقِ الأصابع والصَّحْفة، وقال: إنكم لا تدرون في أيِّه البركة» ؛ رواه مسلِم.
الثامنة: يسن أكلُ ما تناثر؛ لما روى جابر رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقَعتْ لقمةُ أحدكم، فليأخُذْها، فليُمِطْ ما كان بها من أذىً، ثم ليأكُلْها ولا يدَعْها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يَلعَق أصابعه؛ فإنَّه لا يدري في أيِّ طعامه البركة» ؛ رواه مسلِم.
التاسعة: لا يُكثِر النظر إلى وجوه الآكِلين؛ لأنه مما يُحشِمُهم، ولا يتكلم على الطعام بما يُستقذَر من الكلام، ولا بما يُضحِكهم؛ خوفًا عليهم من الشَّرْقة، ولا بما يحزنهم؛ لئلا ينغِّصَ على الآكلين أكلهم.
العاشرة: يسن شُرْبُهُ ثلاثًا مصًّا، ويتنفس خارج الإناء؛ لحديث أنس رضي الله عنه:«أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثًا» ؛ متفق عليه، وروى أبو قتادة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إذا شَرِبَ أحدكم، فلا يتنفَّسْ في الإناء» ؛ رواه البخاري.
والمراد: التنفُّس وهو لا يزال يشرب، قال ابن الجوزي:(ولا يشربُ الماءَ أثناء الطعام؛ فإنَّه أجوَدُ في الطب، ثم يشرب منه مصًّا).
قال ابن القيِّمِ في مضار التنفس في الإناء: (منها: أن تردُّد أنفاسِ الشارب فيه يكسبه زهومةً ورائحة كريهة، ومنها: أنه ربما غلَب الداخلُ إلى جوفه من
الماء فتضرَّر به، ومنها: أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به، ومنها: أن الشُّرْب كذلك يملأ البطن من الهواء، فيَضِيق عن أخذ حقِّه من الماء).
الحادية عشر: يُكرَه شُرْبُهُ من فمِ السقاء؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقيةِ؛ أن يُشرَب مِنْ أفواهها» ، وفي رواية:«أن يُقلَب رأسُها ثم يُشرَبَ منه» ؛ متفق عليه.
الثانية عشر: إذا شرب الإنسانُ، فلا يخلو من أمرينِ:
الأول: أن يكون الإناء مشترَكًا يشرب منه أكثرُ من واحد، فالسُّنة لمن شرب أن يناول مَنْ على يمينه، ولو كان صغيرًا أو مفضولاً؛ لحديث أنس رضي الله عنه:«أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بلبَنٍ قد شِيب بماء، وعن يمينه أعرابي، وعن شِماله أبو بكر، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أعطى الأعرابيَّ، وقال: الأيمنَ فالأيمنَ» ؛ متفق عليه، وأيضًا حديث سهل بن سعد رضي الله عنه:«لما شرب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخُ بدر، فناوله النبيُّ صلى الله عليه وسلم للغلام» ؛ متفق عليه.
الثاني: أن يكون هناك عدةُ أوانٍ، فالساقي يعطي الأفضلَ، ثم يعطي مَنْ على يمينه؛ أي: الساقي.
الثالثة عشر: قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: (يستحب غسلُ اليدينِ قبل الطعام وبعده، وعنه: يُكرَه؛ اختاره القاضي، وقال مالك: لا يستحبُّ، إلا أن يكون على اليد أولاً قذَرٌ، أو يبقى عليها بعد الفراغ رائحة، وعن سلمانَ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال «بركةُ الطعام الوُضوء قبله وبعده»، قال مهنَّا: ذكرتُ هذا الحديثَ لأحمد، فقال: ما حدَّث به إلا قيسُ بن الربيع؛ وهذا منكَر الحديث).
الرابعة عشر: يُكرَه ردُّ شيء من فمه للإناء؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شرب أحدُكم، فلا يتنفَّسْ في الإناء» ؛ رواه البخاري.
ولحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، مرفوعًا:«نهى أن يتنفَّسَ في الإناء، أو ينفخَ فيه» ؛ رواه أبو داود والتِّرمِذي، وصحَّحه، وابن ماجَهْ؛ فالعلةُ هي الاستقذار.
الخامسة عشر: يُكرَه أكله حارًّا؛ لقولِ أبي هُرَيرة رضي الله عنه: «لا يؤكل طعامٌ حتى يَذهَبَ بخارُه» ؛ رواه البَيْهَقي، لكن إذا كانت حرارتُهُ شديدة تؤذي، فلا يُقتصَرُ على الكراهة، بل يحرُمُ؛ لِما فيه من الضرر.
باب عِشْرة النساء، والقَسْمِ، وما يتعلق بذلك
العِشرة في اللغة: اسم من المعاشَرة والتعاشر؛ وهي: المخالَطة.
والعشير: القريب والصديق، وعشير المرأة: زوجُها، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنِّي رأيتُكن أكثرَ أهل النار، فقلن: لمَ يا رسول الله؟ قال: تُكثِرْنَ اللعن، وتكفُرْنَ العشيرَ» .
واصطلاحًا في هذا الباب: ما يكون بين الزَّوجين من الأُلْفة والانضمام.
ضابطٌ: يلزم كلًّا من الزَّوجين معاشرةُ الآخرِ بالمعروف؛ مِنْ الصُّحْبة الجميلة، وكفِّ الأذى.
فلا يمطُلُهُ بحقِّه مع قدرته، ولا يتكرَّه لبذلِه، بل ببِشْرٍ وطَلاقة، ولا يُتبِعه أذًى ومِنة؛ لأنَّ هذا من المعروف المأمور به؛ لقوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19]؛ قال بعض أهل التفسير: معناه: (تتقون اللهَ فيهنَّ، كما عليهنَّ أن يتَّقِينَ اللهَ فيكم)، وقال آخرون:(معناه: لهنَّ من حُسْنِ الصحبة والعِشرة بالمعروف على أزواجهنَّ مثلُ الذي عليهنَّ لهم من الطاعة فيما أوجب اللهُ تعالى)، وقيل: طيِّبوا أقوالَكم لهنَّ، وحسِّنوا أفعالكم وهيئاتكم.
ولقوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النِّسَاء: 36]، قيل: هو كل واحد من الزَّوجين.
وفي حديث عائشةَ رضي الله عنها: «خيرُكم خيرُكم لأهله» ؛ رواه التِّرمِذي وصحَّحه.
وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البَقَرَة: 228]؛ قال ابن
قال ابن الجوزي: (معاشَرة المرأة بالتلطف لئلا تقعَ النُّفْرةُ بينهما، مع إقامة هيبته؛ لئلا تسقُطَ حُرْمته عندها، ولا ينبغي أن يُعلِمَها قدرَ ماله، ولا يفشي إليها سرًّا يخاف إذاعته، وليكُنْ غيورًا من غير إفراط؛ لئلا تُرمَى بالشرِّ من أجله).
وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العِشرة، دائم البِشر؛ فيُشرَع لكل واحدٍ من الزَّوجين أن يحسِّنَ خُلقه لصاحبه، وأن يرفُقَ به، وأن يتحمل أذاه؛ لما تقدم.
وينبغي إمساكُها مع كراهته لها؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 19]؛ أي: فعسى أن يكون صبرُكم مع إمساككم لهنَّ مع الكراهة: فيه خيرٌ كثير لكم في الدنيا والآخرة، فندب اللهُ تعالى إلى إمساك المرأة مع الكراهة؛ لأنَّ الإنسان لا يَعلَم وجوهَ الإصلاح؛ فرُبَّ مكروهٍ عاد محمودًا، أو محمود عاد مذمومًا، ولا تكاد تجد محبوبًا ليس فيه ما تكره، فليَصبِرْ على ما يَكرَه لِما يحب.
قال ابن عبَّاسٍ: «ربما رُزِقَ منها ولدًا، فجعل اللهُ فيه خيرًا كثيرًا» ؛ أخرجه ابن جَرير في تفسيره، وعزاه السُّيوطي لابن أبي حاتم.
وعن أبي هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَفرَكْ مؤمنٌ مؤمنة، إن سَخِطَ منها خُلُقًا، رضيَ منها آخَر» ؛ رواه مسلِم.
ولما روى أبو هُرَيرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرًا» ؛ متفق عليه.
ولما روى أبو هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجُدَ لأحد، لأمَرتُ المرأةَ أن تسجد لزوجها» ؛ رواه التِّرمِذي وحسنه، وابن حِبَّان والبَيْهَقي والحاكم.
فرع: يحرم مطلُ كلِّ واحد من الزَّوجين بما يلزمه للزوج الآخَر، والتكرُّه لبذل الواجب من الحقوق الواجبة، والمعاشرة بالمعروف؛ كأن يؤخِّر الزَّوجُ ما يجب عليه لزوجته من كسوة أو طعام وغير ذلك من الحقوق يومًا بعد آخرَ بلا عذر، أو يأتي به بنفسٍ متبرِّمة متثاقلة.
وكذلك الزَّوجة؛ لا يجوز لها أن تمطُلَ زوجها ما يجبُ له من حق الاستمتاع، والطاعة، وغير ذلك، يومًا بعد آخرَ بلا عذر، أو تأتيه متبرِّمة متثاقلة؛ لِما تقدم من الأدلة.
مسألةٌ: إذا تم عقدُ النِّكاح بشروطه وأركانه، وجب تسليمُ المرأة إلى الزَّوج، وتمكينه من الاستمتاع، كما تستحق المرأةُ العِوض؛ وهو المَهْر.
ويشترط لتسليم الزَّوجة أن تكون ممن يمكِن وطؤُها، فإن كانت لا يمكِن وطؤُها، فلا يجب تسليمها؛ لما قد يحمله فرطُ الشهوة على الجماع، فتتضرَّرُ به.
ولا يلزم بعد العقد تسليمُ مُحرِمة، ومريضة، وصغيرة، ولو قال: لا أطأ، لم يُقبَل قوله؛ لأنَّ هذه الأعذار تمنعُهُ الاستمتاع بها، ويُرجَى زوالها.
قال شيخ الإسلام: (لو شرَطَ الزَّوجُ أن يستلم الزَّوجة وهي صغيرة؛ ليُحصِنَها: فقياسُ المذهب - على إحدى الروايتينِ -: أنه يصحُّ هذا الشرط، كما لو اشترط في الأمَة التسليمَ ليلاً ونهارًا).
مسألةٌ: إذا طلب أحدُهما المُهْلة ليصلح أمره من الاغتسال، والتنظُّف، والخضاب: أُمهِلَ العادة وجوبًا؛ لأنَّه لا تقديرَ فيه، فيُرجَع للعادة.
مسألةٌ: الأصل في الاستمتاع بين الزَّوجين الحِلُّ، إلا ما جاء الشرعُ بمنعه؛ كالوطء في الدُّبُر، أو الحيض، وللزوج الاستمتاع بزوجته، ولو من جهة الدُّبُر في القُبُل؛ لما روى جابر رضي الله عنه قال:«قالت اليهودُ: إنما يكون الولَدُ أحولَ إذا أتى الرجُلُ امرأتَهُ من خلفها؛ فأنزل اللهُ جل جلاله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البَقَرَة: 223] مِنْ بين يديها وخلفها، ولا يأتيها إلا في المأتى» ؛ متفق عليه.
وله الجِماع بالمعروف دون تقدير بمدة أو عدد، ما لم يضُرَّ بها، أو يَشغَلْها عن فرض، ولو كانت على التنُّور، أو على ظَهْرِ قَتَبٍ؛ كما رواه الإمام أحمد وغيره.
قال العلماء: إذا زاد الرجُلُ على المرأة في الجماع، صولِحَ على شيءٍ منه.
وقال شيخُ الإسلام: (ويجب عليه وطءُ امرأته بقدر كفايتِها، مالم يُنهِكْ بدنَه، أو تَشغَله عن معيشته، غير مقدَّر بأربعة أشهر، كالأمَة، فإن تنازعا، فينبغي أن يَفرِضَه الحاكمُ؛ كالنفقة، وكوطئِه إذا زاد).
فرعٌ: لا يُكرَه الجماع في ليلة من الليالي، ولا يوم من الأيام، ولا يجوز للمرأة أن تطَّوَّعَ بصلاة ولا صوم وهو شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«لا يَحِلُّ لامرأة أن تصومَ وزوجُها شاهدٌ إلا بإذنه، ولا تأذَنَ في بيته إلا بإذنه» ؛ رواه البخاري.
مسألةٌ: للزوج السفرُ بالحُرَّة بلا إذنها، إذا كان الطريق والبلد الذي يريده غيرَ مَخُوف؛ لأنه عليه الصلاة والسلام وأصحابه كانوا يسافرون بنسائهم.
مسألةٌ: يحرم وطؤُها في الحيض بالإجماع، وكذا النِّفاس؛ لقوله تعالى:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البَقَرَة: 222]، وكذا بعده قبل الغسل؛ لقوله تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البَقَرَة: 222]؛ أي: اغتسَلن، أو تيممن؛ لعدمِ الماء، أو عَجْزٍ عن استعماله.
مسألة: يحرم في الدُّبُرِ بلا نزاع بين الأئمة، ولو تطاوعا على فعل ذلك، فُرِّقَ بينهما.
قال شيخ الإسلام: (الوطءُ في الدُّبُر حرامٌ في كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك عامةُ أئمة المسلِمين من الصحابة والتابعين وغيرهم؛ فإن اللهَ قال في كتابه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البَقَرَة: 223]، والحرثُ: موضعُ الزرع، والولد إنما يُزرَع في الفَرْجِ، لا في الدُّبُر، وأيضًا فهذا من جنس اللواط).
ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: «إن اللهَ لا يَستحي من الحقِّ؛ لا تأتوا النساءَ في أدبارهن» ؛ رواه أحمد، والنَّسَائي في الكبرى، وهو صحيح بشواهده.
مسألةٌ: يحرُمُ عزلٌ بلا إذن الزَّوجة؛ لأنه يمنع كمال الاستمتاع، وحقَّها في الولد.
مسألةٌ: للزوج أن يُجبِرَ زوجتَه على غسل الحيض والنفاس والنجاسة؛ لأنَّ ذلك يمنع الاستمتاعَ، أو كمالَهُ الذي هو حقٌّ له؛ فملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقَّه.
وله إجبارها على اجتناب محرَّمات؛ مِنْ تبرُّجٍ، واستماع لغناء، وغِيبة، ونميمة، وغير ذلك، وإزالة وسَخٍ، وأخذ ما تعافه النفسُ؛ مِنْ شعَر وغيره؛ كظُفُر، ومنعها مِنْ أكل ما له رائحةٌ كريهة؛ كبصل، وكرَّاث، وثُوم؛ لأنه يمنع كمالَ الاستمتاع، وسواءٌ كانت مسلِمةً أو كتابية.
مسألة: قال شيخ الإسلام: (ويجب على المرأة خدمةُ زوجِها بالمعروف، من مثلِها لمثله، ويتنوَّع ذلك بتنوُّع الأحوال؛ فخِدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة، وقاله الجُوزجاني مِنْ أصحابنا، وأبو بكر بن أبي شيبة)؛ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19]، ولأنَّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كنَّ يخدُمْنَ أزواجهنَّ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر نساءَه بخدمته، فقال:«يا عائشة أسقِينا، يا عائشة أطعِمينا» ؛ رواه أحمد وأبو داود، وقال:«يا عائشةُ، هلُمِّي الشَّفرة، واشحذَيها بحجَرٍ» ؛ رواه البخاري، وورد:«أن فاطمةَ أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الرَّحَى» ؛ رواه البخاري، وعن أسماء بنت أبي بكر:«أنها تقومُ على فرَسِ الزُّبَير، وتلتقط له النَّوى، وتحملُهُ على رأسها» ؛ متفق عليه.
وله منعُ زوجةٍ كتابية من دخول بِيعة أو كنيسة، فلا تخرج إلا بإذن الزَّوج، وله منعُها من تناول محرَّم، ولا تُكرَه على إفساد صومِها أو صلاتها أو سَبْتِها بوطءٍ، أو غير ذلك؛ لأنَّه يضُرُّ بها.
فصلٌ
في أحكام المبيت والجِماع ولزوم المنزل وغير ذلك
يجب على الزَّوج أن يَبِيتَ عند زوجته بالمعروف؛ وذلك بأن يبيتَ كل ليلة في فراشها، إلا لعُذْرٍ، أو لحاجته أحيانًا؛ لقوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19]، ولحديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«وإنَّ لزوجِك عليك حقًّا» متفق عليه، ولأنَّ هذا هو هديُ النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون بحسَبِ ما يطيِّبُ نفسَها، ويحصُلُ به الأُنس وزوالُ الوحشة؛ لقوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19]، وليس من المعروف أن يهجُرَها في الفراش.
وقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النِّسَاء: 34] مع قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يهجُرْ إلا في المَضجَع» ؛ رواه الإمام أحمد والتِّرمِذي-: دليلٌ على وجوب المبيت في المَضجَع، ودليل على أنه لا يهجُرُ المنزل إذا وجد سببه من المرأة وكان هذا أصلح.
مسألة: إن سافَرَ الزوج فوق نصف سنة في غير حجٍّ أو غزوٍ واجبينِ، أو طلبِ رزق يحتاجه، وطلبت قدومَه، وقدَرَ: لَزِمَهُ القدومُ.
وقال شيخ الإسلام: (وحصول الضرَرِ للزوجة بترك الوطءِ مقتضٍ للفسخ بكل حال، سواءٌ كان بقصد من الزَّوج أو بغير قصد، ولو مع قدرتِهِ وعجزه كالنفقة، والقولُ في امرأة الأسير والمحبوس ونحوها ممن تعذَّر انتفاعُ امرأته به إذا طلَبتْ فُرْقته: كالقول في امرأة المفقود بالإجماع؛ كما قاله أبو محمد المقدسي).
مسألةٌ: آداب الوطءِ:
أولاً: تسنُّ التسميةُ عند الوطء، وليست مختصةً بالرجل، وقولُ الواردِ؛ لحديث ابن عبَّاسٍ مرفوعًا:«لو أن أحدَكم حين يأتي أهله، قال: بسم الله، اللهمَّ جنِّبْنا الشيطانَ، وجنِّبِ الشيطانَ ما رزقتَنا، فوُلِدَ بينهما ولدٌ: لم يضُرُّهُ الشيطانُ أبدًا» ؛ متفق عليه.
ثانيًا: يُكرَه النزعُ قبل فراغها، ولأنه خلافُ المعاشَرة بالمعروف، والله جل جلاله يقول:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19]، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها:«خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي» ؛ رواه الإمام أحمد والتِّرمِذي وصححه، والنَّسَائي وابن ماجَهْ.
ثالثًا: يحرُمُ الوطءُ بمرأَى أحدٍ أو مَسمَعِه؛ أي: بحيث يراه أحدٌ أو يسمعه، أو التحدُّث بما جرى بينهما؛ لحديث بَهْزِ بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه، مرفوعًا:«احفَظْ عورتَك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» ؛ رواه أحمد وأبو داود والتِّرمِذي وحسَّنه، والنَّسَائي في الكبرى، وابن ماجَهْ، ولحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:«إن مِنْ أشرِّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة: الرجُلَ يُفضي إلى امرأته، وتُفضي إليه، ثم ينشُرُ سِرَّها» ؛ أخرجه مسلِم.
قال الشوكاني: (قيل: وهذا في التحريم إنما هو في نشرِ أمور الاستمتاع، ووصفِ التفاصيل الراجعة إلى الجماع، وإفشاء ما يجري بين المرأة من قولٍ أو فعل حال الوِقاع، وأما مجردُ ذِكر نفس الجماع، فإن لم يكُنْ فيه فائدة، ولا حاجة إليه: فمكروهٌ؛ لأنه خلاف المروءة، ومن التكلم بما لا يَعني، ومِن حُسْنِ إسلام المرء تركُهُ ما لا يَعنِيه، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخِر، فليقل خيرًا، أو ليصمُتْ» ، فإن كان إليه حاجة، أو
ترتَّب عليه فائدة: فلا كراهةَ في ذلك؛ وذلك نحو أن تُنكِرَ المرأة نكاحَ الزَّوج لها، وتدَّعيَ عليه العجزَ عن الجماع؛ كما رُوِيَ:«أن الرجُلَ الذي ادَّعتِ امرأته عليه العُنَّة، قال: يا رسول الله، إنِّي لأنفُضُها نَفْضَ الأديم» ، ولم ينكر عليه).
رابعًا: له الجمعُ بين وطء نسائه بغُسْلٍ واحد؛ لقول أنسٍ: «سكَبتُ لرسول صلى الله عليه وسلم مِنْ نسائه غُسْلاً واحدًا في ليلة واحدة» ؛ أخرجه البخاري ومسلِم.
مسألةٌ: يستحبُّ للزوج أن يُفرِد كل واحدة من نسائه بدار مستقلة؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أفرد كلَّ امرأة من نسائه بحجرة مستقلة؛ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزَاب: 53].
لكن اختلَف العلماء رحمهم الله فيما إذا جمع زوجتيهِ وأكثر في دار واحدة، والصحيح: أنه يجوزُ أن يجمع زوجتيهِ فأكثرَ، كل بمنزلٍ، إذا استقل بمنافعِهِ؛ من مطبخ، ومرحاض، ونحو ذلك، ولا يجوز في منزل واحد إلا برضاهنَّ؛ لأنه إذا استقل كلٌّ بمنزله بمنافعه، انتفى الضررُ عن الزَّوجات؛ لبُعْدِ بعضهنَّ عن بعض.
مسألةٌ: له منعُ زوجته من الخروج من منزله؛ إذ مِنْ حق الزَّوج على زوجته ألا تخرجَ من بيته إلا بإذنه؛ لقوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يُوسُف: 25]، فسمَّى الزَّوج سيدًا، والمرأةَ مسُودةً، وإذا كان كذلك، فلا بد من إذن السيدِ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرِو بن الأحوص رضي الله عنه:«وهنَّ عوانٍ عندكم» ؛ رواه التِّرمِذي وصحَّحه، وابن ماجَهْ؛ أي: أسيرات.
واستثنى العلماءُ مسائلَ لها الخروج:
منها: الخروج للمسجد للصلاة؛ لورود النهيِ عن منع الزَّوجة من المسجد.
ومنها: الخروج لحجِّ الفرض إذا وجدت مَحرَمًا تخرج معه.
ومنها: إذا احتاجت للخروج لأمرٍ لم يقُمِ الزَّوج به.
وأما زيارة أبويها أو رحمها، أو عيادتهما: فالله جل جلاله أمر بالمعاشَرة بالمعروف، وليس من المعروف أن يمنعَها من زيارة أبويها، وصلةِ رحمها.
فرع: تأجيرُ المرأةِ نفسَها له حالتانِ:
الأولى: أن تكون إجارة خاصة؛ وهي ما قُدِّر نفعها بالزمن؛ كأن تُؤْجِرَ نفسها من وقت كذا إلى كذا، فله منعُها؛ لما في ذلك من تفويت حقِّه من الاستمتاع ونحوه، إلا بالشرط لفظًا في العقد، أو عُرْفًا.
الثانية: أن تكون إجارةً مشتركة؛ وهي ما قُدِّر نفعها بالعمل؛ كأن تَقبَل أعمالاً من أناس؛ كخياطة وغيرها؛ فليس له منعُها إلا إن تضرَّر.
وله منعُها من إرضاع ولدها من غيره؛ لأنَّ الرَّضاع يفوِّت عليه الاستمتاعَ بها، إلا لضرورة الولد؛ بأن لم يَقبَلْ ثديَ غيرها؛ فليس له منعُها إذًا؛ لِما فيه من إهلاك نفسٍ معصومة، وقد قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاء: 29].
فصلٌ في القَسْمِ بين الزَّوجات
القَسْمُ لغة بفتح القاف: تفرقة الشيء وتجزئته، وبالكسر: النصيب والحظ.
واصطلاحًا: توزيعُ الزمان على زوجاته إن كنَّ ثِنْتينِ فأكثرَ.
يجب على الزَّوج أن يَقسِمَ لزوجاته أو زوجته؛ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19].
ولقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النِّسَاء: 34]، قال ابن حزمٍ:(فلم يُبِحِ اللهُ جل جلاله هجرانها في المضجع إلا إذا خاف نشوزها).
ولحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال:«أُخبِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنِّي أقول: لأقومَنَّ الليلَ، ولأصومَنَّ النهار ما عشتُ .. » ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«فإن لزوجِكَ عليك حقًّا، ولعينَيْكَ عليك حقًّا، ولجسدك عليك حقًّا» ؛ متفق عليه.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب للزوجة القسم لمَّا ذكَرَ عبدُ الله أنه يقوم الليل، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقسِمُ بين نسائه.
مسألة: يجب على الزَّوجِ أن يَعدِلَ بين زوجاته في القَسْمِ باتفاق الأئمة؛ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19]، وقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النِّسَاء: 3].
ولما روى أبو هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته» ؛ متفق عليه، والزَّوجاتُ رعيةُ الرجل، ومن الواجب: العدلُ بين الرعية.
ولما روى أبو هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كان له امرأتانِ، فمالَ إلى إحداهما: جاء يوم القيامة وشِقُّهُ مائل» ؛ رواه أحمد وأبو داود والنَّسَائي والتِّرمِذي وابن ماجَهْ، لكن لم يثبت مرفوعًا.
مسألةٌ: يجب القَسْمُ على كل زوج مميِّز مطلقًا، فيدخل في ذلك: الحر والعبد، وغير القادر على الوطء؛ كالخصيِّ ونحوه، والمجنون الذي يؤمن ضررُه، والمراهِق، والمميِّز؛ لعموم أدلة القَسْم، ولأنَّ القسم للصُّحبة والمؤانَسة.
وأقل القَسْمِ ليلة، ولا يَقسِم بعضَ الليلة، ولا ليلة وبعض الأخرى؛ لأنه خلافُ هديِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقسِم ليلةً ليلة، ولأنَّ الزيادة على الليلة تطويلٌ عليهنَّ إذا كنَّ أكثر من واحدة.
فرع: لا تفضيلَ بسبب اختلاف الدِّين باتفاق الأئمة، فيَقسِم للكتابية كما يَقسِم للمسلِمة؛ للعمومات.
مسألةٌ: مَنْ معاشُهُ النهار، فعِماد القسم له الليل باتفاق الأئمة؛ لأنَّ التسوية الواجبة في القسم تكون في البيتوتة، ولأنَّ الليل للسَّكَن والإيواء، والنهار وقت العمل والكسب؛ قال تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا *وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا *} [النّبَإِ: 10 - 11]، وقال تعالى:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القَصَص: 73]، والنهار يدخل في القسم تبَعًا لليل، ولما ورد عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت:«توفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي» ؛ رواه البخاري.
ومَن معيشتُهُ في الليل كحارسٍ يَقسِمُ بين نسائه بالنهار، ويكون النهار في حقِّهِ كالليل في حق غيره.
وله أن يأتِيَهُنَّ أو أن يدعوَهنَّ إلى محَلِّه.
مسألةٌ: يَقسِمُ لكل زوجة تُطِيقُ الوطءَ، وإن امتنع وطؤُها شرعًا أو حسًّا أو طبعًا؛ فدخل في ذلك الحرائر والإماء، والحائض والنفساء، والمُحرِمة، والمريضة، والمَعِيبة، والكتابية، والمجنونة المأمونة، والمُولَى والمُظاهَر منها؛ لعموم أدلة وجوبِ العدل، ولأنَّ الغرضَ من القَسْم الصحبةُ والمؤانَسة، والسكَن والإيواء، والتحرُّز عن التخصيص الموحِش، وحاجتُهنَّ جميعًا داعيةٌ إلى ذلك.
مسألةٌ: لا يجوز للزوج السفرُ ببعض زوجاته واحدةً أو أكثرَ، إلا برضا سائرِهنَّ، أو بالقُرْعة، وإن سافر بإحداهنَّ بغير قُرْعة، أَثِمَ، وقضى للمتخلفات، سواءٌ كان السفر طويلاً أو قصيرًا؛ لحديث عائشةَ رضي الله عنها:«أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفَرًا، أقرعَ بين نسائه، وأيَّتُهنَّ خرج سهمُها، خرج بها» ؛ متفق عليه.
ولحديث عائشة رضي الله عنها: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا خرَجَ، أقرَعَ بين نسائه، فطارت القرعةُ لعائشة وحفصة» ؛ متفق عليه.
فرعٌ: إذا خرجت القرعةُ على إحداهنَّ، لم يجب عليه السفرُ بها، وله تركُها والسفرُ وحده؛ لأن القرعةَ لا توجب، وإنما تعيِّنُ مَنْ تستحق التقديم.
فإذا أراد السفر بغيرها، لم يجُزْ؛ لأنَّها تعيَّنتْ بالقرعة، فلم يجُزِ العدولُ عنها إلى غيرها، وإن وهبت حقَّها لغيرها جازَ، إذا رضيَ الزَّوج؛ لأنَّ الحق لها، فصحَّتْ هِبتُها لها، كما لو وهبتْ ليلتها في الحضر، ولا يجوز بغير رضاه، كما لو وهبتْ ليلتها في الحضر، وإن وهبته للزوجِ أو للجميع، جاز.
وإن امتنعت مِنْ السفر معه، سقَط حقُّها إذا رضيَ الزَّوج، وإن أبى فله
إكراهُها على السفر معه؛ لأنه حقٌّ له، فأُجبِرتْ عليه كسائر حقوقه، وإن رضيَ الزَّوج بامتناع من خرجت لها القرعةُ في السفر، استأنف القرعةَ بين البواقي.
فرع: تَكرار السفر: إذا أراد الزَّوج سفَرًا، فتقدم أنه يُقرِعُ بين نسائه، فيبدأ بمن خرجت قرعتُها.
وقد نصَّ الشافعية: على أنه إذا مضَتْ نوبةُ مَنْ خرجت قرعتها، أقرع بين الباقيات؛ أي: في السفر الثاني، ثم بين الأخيرتينِ.
فإذا تمَّتِ النوبةُ، راعى الترتيبَ، ولا حاجة إلى إعادة القرعة؛ ففي الدور الثاني يبدأ بمن خرجت قرعتُها أولاً، ثم من خرجت قرعتُها ثانيًا، وهكذا.
أما إذا خرج بإحداهنَّ بلا قرعة، فأراد سفرًا ثانيًا، فإنَّه يُقرِع بين الباقيات، فإذا تم الدورُ الأول، ابتدأ الدورَ الثاني بالقرعة بينهنَّ، فإذا تم الدور الثاني، راعى الترتيبَ في الدور الثالث؛ كما تقدم، ولا حاجة إلى إعادة القرعة.
مسألةٌ: الخروج في أثناء مدة القَسْم في نوبة إحدى الزَّوجات تحته أقسام:
القِسم الأول: أن يكون مما جرت به العادةُ؛ كالعمل بالتجارة - ونحو ذلك - إلى بعدِ غروب الشمس بزمن، ونحو ذلك: فلا بأسَ به؛ لجرَيان العُرْفِ بذلك من عهده صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: أن يكون الخروج مما لم تجرِ به العادة؛ كما لو خرج في أثناء الليل مما لم تجرِ العادةُ بالخروج في أثنائه، فإن لم يَلبَثْ وعاد لم يقضِ لمن خرج من عندها هذا الوقت؛ للمسامَحة به، ولأنه لا فائدةَ في قضائه؛ لقِصَره.
وإن طال زمنُ خروجه، فاختلف العلماء رحمهم الله في وجوب القضاء عليه، والأقرب أنه يقال: خروجُ الزَّوج ما لم تجرِ به العادة مع طولِه لا يخلو من أحوال:
الحال الأولى: أن يكون خروجُهُ لغير عذر، وإنما لتفويت حق صاحبةِ النوبة؛ فيجب عليه القضاء؛ ليحصُلَ التعديل، واستدراك الظلم.
ويحتمل أنه لا قضاءَ، وإنما يأثَمُ الزَّوج؛ لِما ذكره المالكية: من أننا إذا قلنا بالقضاء، نَظلِم صاحبة الليلة المستقبلة لسببٍ لا من جهتها.
الحال الثانية: أن يكون لعذرٍ؛ فلا يجب عليه القضاء، طال خروجه أو قصُر؛ لأنه ظاهر فعلِ النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إن خرج قبل نصف الليل ولم يرجع حتى استهلك نوبتَها من الليل والنهار، قضى، وإن رجعَ قبل ذلك، فلا قضاءَ؛ لأن الأكثرَ له حكمُ الكل.
الحال الثالثة: أن يكون خروجه نهارًا؛ فلا قضاءَ مطلقًا، طال أم قصُر؛ لأنَّ النهار ليس أصلاً في القَسْم، وإنما عِماد القسم الليلُ؛ لأنَّ العادة جرت في الانتشار في النهار أكثرَ من الليل.
القسم الثالث: الخروج للسفَر:
إذا سافر الزَّوج في نوبةِ إحدى الزَّوجات، فلا يخلو أمرُهُ من ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون سفرُهُ في أول النوبة؛ كما لو سافر في أول الليل مَنْ عِمادُ قسمِهِ الليلُ: فهذه يوفي نوبتها إذا قدم؛ لأنها لم تستوفِ حقها.
الثانية: أن يكون سفرُهُ آخرَ النوبة؛ كما لو سافر آخرَ الليل مَنْ عِمادُ قسمِهِ الليلُ: فلا شيء لها؛ لاستكمال حقِّها من القسم، والنهار تابع لليل، فيُتسامَح
فيه، ولأنَّ العادة جرت في الانتشار فيه أكثرَ من الليل.
الثالثة: أن يكون سفَرُهُ وسَطَ النوبة؛ كما لو سافر في منتصف الليل مَنْ عِمادُ قَسمِهِ الليلُ: فالأقرب أن يقال كما تقدم في المسألة السابقة؛ إن خرَجَ قبل منتصف الليل قضى لها، وإلا لم يقضِ، وعلى هذا، فإذا قَدِمَ من سفره، فإن قلنا: يقضي للتي سافَرَ في نوبتها، بدأ بها، وإلا بدأ بجارتها.
مسألةٌ: سفَرُ المرأة:
1 -
إن سافرت بلا إذنه، فلا قَسْمَ لها؛ لأنَّ سفرها بغير إذن الزَّوج نوعٌ من النشوز.
2 -
أن يكون بإذنه في حاجتها أو حاجته، أو حاجة غيره: فلا قَسْمَ لها أيضًا؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي القَسم؛ لأنَّ القسم فات، وقد امتنع بسببٍ من جهتها فقط.
مسألةٌ: الدخول على غيرِ صاحبة النوبة: لا يجوز الدخولُ على غير ذات النوبة ليلاً أو نهارًا إلا لضرورة، أو لقصدِ العدل؛ بأن يدخُلَ على غير صاحبة النوبة إذا دخل على ضَرَّتها في ليلتها أو يومها، فإذا دخل على هذه في غير نوبتها، دخل على الأخرى في غير نوبتها؛ للعدل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:«وكان إذا انصرَفَ من صلاة العصر، دخل على نسائه، فيدنو من إحداهنَّ» ؛ متفق عليه.
ولِما رواه أنس رضي الله عنه قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهنَّ إحدى عَشْرة، قال: قلتُ لأنس بن مالك: أوَكان يُطِيقه؟ قال: كنا نتحدَّثُ أنه أعطي قوةَ ثلاثين» ؛ رواه البخاري.
فالظاهر: أنه إذا دخل على غيرِ صاحبة النوبة لا يجب عليه القضاء، وإنما
يكافئ الأخرى بدخوله عليها، وعلى هذا يُحمَل فعلُهُ صلى الله عليه وسلم.
مسألةٌ: إذا دخل الزَّوجُ على غير صاحبة النوبة، واستمتع بما دون الفَرْجِ: جاز له عند جمهور أهل العلم، ولا يلزمه قضاءُ الاستمتاع؛ لحديث عائشةَ رضي الله عنها وفيه:«ويدنو من إحداهنَّ» ؛ متفق عليه.
مسألةٌ: سقوط القَسم: باتفاق الأئمة أن الزَّوجةَ الحرة لها أن تُسقِط قَسْمَها بلا عِوض؛ لِما روت عائشة رضي الله عنها: «أن سَوْدةَ بنت زمعة رضي الله عنها وهَبتْ يومها لعائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقسِم لعائشة يومها ويومَ سَوْدة» .
وإذا أسقطت الواهبةُ حقَّها من القسم، فلا يخلو من أمور:
1 -
أن تُسقِطه لزوجة معيَّنة: فيصحُّ؛ لِما تقدم من فِعل سَوْدة رضي الله عنها؛ بشرط رضا الزَّوج والواهبة، وسواءٌ كان بعِوض أو بغير عوض.
2 -
أن تُسقِطه لجميع الزَّوجات: فالقسم لجميع الزَّوجات؛ كما لو طلَّق الواهبة.
3 -
أن تُسقِطه للزوج فقط: فالزَّوج ليس له أن يخصَّ بهذه الليلة زوجة دون أخرى، بل تكون كالمعدومة؛ لعمومِ أدلة وجوب العدل بين الزَّوجات.
مسألةٌ: رجوع الواهبة في قَسمها لا يخلو من مسائل:
الأولى: أن يكون إسقاطُها بلا عوض: فيجوز رجوعها، ولها حقُّها في المستقبل دون الماضي باتفاق الأئمة؛ لأنَّها هبة تتجدد شيئًا فشيئًا، فما لم يتجدَّدْ لم يستوفَ؛ فجاز الرجوع فيه، فإن رجَعتِ الواهبةُ في بعض الليلة الموهوبة، كان على الزَّوج أن ينتقل إليها، فإن لم يَعلَمْ حتى أتم الليلَ، لم يقضِ لها شيئًا.
الثانية: أن يكون بعِوض ماليٍّ: يصحُّ إسقاط القسم بعِوض، ولا تَملِك الرجوع؛ لقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البَقَرَة: 229]، ولقوله تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النِّسَاء: 128]، وهذا يشمل الصلحَ بإسقاط القسم بعِوض، ولا يجوز لها الرجوع؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المَائدة: 1]، ومقتضى الإيفاء بالعقد: عدمُ رجوع الزَّوجة في قَسمها إذا كان تنازُلُها بعِوض.
الثالثة: أن يكون العِوض غير مالي: يجوز للزوجة أن تُسقِط حقها من القسم، كله أو بعضه، مقابل عِوض غير مالي؛ كأن تُسقِطه لأجل أن يمسكها فلا يطلِّقها، ونحو ذلك؛ لِما روت عائشة رضي الله عنها:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النِّسَاء: 128]: أُنزِلتْ في المرأة تكون عند الرجل، فتطول صحبتُها، فيريد طلاقها، فتقول: لا تطلِّقْني، وأمسِكْني، وأنت في حِلٍّ من النفقة عليَّ، والقسمِ لي؛ فذلك قوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النِّسَاء: 128]؛ متفق عليه، ولما تقدم من إسقاط سَوْدة لعائشة رضي الله عنها، ولا تملك الرجوع؛ لما تقدم.
مسألةٌ: العدل في الاستمتاع: لا يجب على الزَّوج أن يَعدِلَ بين نسائه في الوطءِ باتفاق الأئمة، ودواعيه؛ لقوله تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النِّسَاء: 129]؛ أي: في الحبِّ والجماع.
ولما روى عمرُو بن العاص رضي الله عنه، قال:«قلتُ: يا رسول الله، أيُّ النساء أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، قلت: يا رسول الله، مِنْ الرجال؟ قال: أبوها» ؛ رواه البخاري.
لكن نصَّ العلماء: أنه لا يجوز أن يَجمَع نفسه لإحدى الزَّوجات؛ كأن يرغب في الجِماع، ثم يؤخِّره للأخرى.
مسألةٌ: العدل في الهبة بين الزَّوجات: يجب التعديل بين الزَّوجات في الهبة؛ لأنَّ هذا من العِشرة بالمعروف، والله جل جلاله يقول:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19]، وكالأولاد.
مسألةٌ: إن تزوَّجَ بِكْرًا ومعه غيرها أقام عندها سَبْعًا، ثم دار على نسائه، وإن تزوَّج ثيِّبًا أقام عندها ثلاثًا، ثم دار؛ لحديث أبي قِلابة، عن أنس: (مِنْ السُّنة إذا تزوَّج البِكْرَ على الثيب أقام عندها سبعًا وقسَم، وإذا تزوج الثيِّب أقام عندها ثلاثًا، ثم قسم، قال أبو قِلابة: لو شئتُ لقلتُ: إن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم»؛ رواه البخاري ومسلِم.
والحكمةُ في التفريق بين البِكر والثيِّب: أن الحياء في البِكر أكثرُ؛ لعدم تجرِبتها للرجال، بخلاف الثيِّب؛ فقد جرَّبت الرجال، وزالت الحشمة بينهما، والثلاث مدة معتبَرة في الشرع، والسبع؛ لأنها أيام الدنيا، وما زاد عليها يتكرر، وحينئذ يقطع الدور.
وإن أقام عند الثيِّب سبعًا باختيارها، قضى للباقي سبعًا، وإن كان بغير اختيارها، قضى للباقي أربعًا؛ لحديث أم سلَمة رضي الله عنها: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما تزوَّجها أقام عندها ثلاثة أيام، وقال:«إنَّه ليس بكِ على أهلِك هوانٌ، فإن شئتِ سبَّعتُ لكِ، وإن سبَّعتُ لكِ سبَّعتُ لنسائي» ؛ رواه مسلِم.
وتجب الموالاة في السبع والثلاث.
فصلٌ في النُّشوز
النشوز في اللغة: مِنْ النَّشْزِ؛ وهو: المكان المرتفع من الأرض، وجمعه: نشوز، ونشَزتِ المرأة: استعصت على بعلها وأبغَضته؛ فأصل النشوز: الارتفاع والامتناع.
وفي الاصطلاح: معصيةُ المرأة لزوجها فيما فرَض اللهُ عليها من طاعته.
وحكمُ النشوز: محرَّم؛ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النِّسَاء: 34]؛ فالله جعل الهَجْر والضرب عقوبةً للناشز، ولا تكون هذه العقوبة إلا بفعلِ محرَّم، أو تركِ واجب.
مسألة: مراحلُ علاج نشوز المرأة:
إذا ظهر منها أماراتُهُ؛ أي: علامات النشوز؛ بألا تجيبَهُ إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرِّمة، متثاقلة، أو متكرِّهة فعلاجها بالآتي:
المرحلة الأولى: الوعظُ باتفاق الأئمة؛ لقوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} [النِّسَاء: 34]؛ أي: خوَّفَها من الله تعالى، وذَكر ما أوجب الله عليها من الحق والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه:«إذا باتت المرأةُ هاجرةً فراشَ زوجها، لعَنتْها الملائكةُ حتى تُصبِح» ؛ متفق عليه، وغير ذلك من الأحاديث الآمرةِ بطاعة الزَّوج، والقيام بحقه.
وذكَّرَها ما يسقُطُ من حقها من النفقة والكسوة، وما يباح له مِنْ هَجْرِها وضربها.
فإذا رجعت إلى الطاعةِ والأدب: حرُمَ الهَجْر والضرب؛ لزوال مُبِيحه.
المرحلة الثانية: فإن أصرَّتْ على النشوز بعد وعظِها، هجَرها في المضجع، باتفاق الأئمة؛ لقوله تعالى:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النِّسَاء: 34]، والهجر نوعان:
الأول: هجرٌ في المضجع، واختلف العلماء في كيفيتِهِ على أقوال، فقيل: لا يجامعُها، ولا يضاجعُها على فراشه، وقيل: لا يكلِّمها حال مضاجعته إياها، لا أن يترك جماعَها ومضاجعتها؛ لأنَّ ذلك مشترَكٌ بينهما، فيكون عليه من الضرر ما عليها، فلا يؤدِّبها بما يضرُّ نفسه، ويُبطِل حقه، وقيل: يفارقها بالمضجع، ويضاجع أخرى، إن كانت له أخرى، في قَسمها؛ لسقوط حقِّها بالنشوز.
وللزوج أن يهجُرَ ما شاء - لإطلاق الآيةِ - إلى أن ترجع.
الثاني: الهجرُ بالكلام: وقد اتفق الأئمة على جواز هجرِ الزَّوج لزوجته الناشزة؛ بترك الكلام، ومدة هجر الاصلاح لا تتقيَّد بمدة، بل بقدرِ الاصلاح؛ لفعله صلى الله عليه وسلم عندما هجر الثلاثةَ الذين خُلِّفوا أكثرَ من ثلاثة أيام.
المرحلة الثالثة: إن أصرَّتْ بعد الهجر المذكور، ضرَبها؛ وهذا باتفاق الأئمة؛ للآية:{وَاضْرِبُوهُنَّ} [النِّسَاء: 34]، لكن عند الشافعية: الأفضل تركُ الضرب مع جوازه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت:«ما ضربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً، ولا خادمًا قط، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن تُنتهَكَ محارمُ الله؛ فينتقِمَ لله» ؛ رواه مسلِم.
واشترط العلماء للضرب شروطًا:
الأول: أن يضربها ضربًا غير مبرِّح، والمبرِّح: ما تحصُلُ معه المشقة
والحرج، وغير المبرِّح؛ كنحو: لكزة بالسواك، أو ما يكون باليد؛ كالصفع على الظَّهْر.
وقال الإمام أحمد: غير مبرِّح: أي غير شديد.
وعلى هذا، فيقال: يضربها ضربًا يؤلم، لكن لا يضرُّ، ولا يَجرَح، ولا يشق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه:«لا يَجلِدْ أحدُكم امرأته جَلْدَ العبد، ثم يضاجعها في آخرِ اليوم» ؛ أخرجه البخاري ومسلِم.
الثاني: ألا يزيدَ على عشَرة أسواط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بردة رضي الله عنه: «لا يجلد أحدُكم فوق عشَرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله» ؛ متفق عليه.
الثالث: ألا يضربَ الوجه والمهالك؛ لأنَّ الغرض من الضرب التأديبُ، لا الإتلاف والتشويه، ولا يجوز ضربُ الوجه؛ لنهيِ النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
الرابع: أن يَقصِدَ التأديبَ، واتباع أمر الله جل جلاله وأمرِ رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الانتقام.
مسألة: وله تأديب زوجته على ترك الفرائض، سأل إسماعيلُ بن سعيد أحمدَ عما تُضرَب المرأة عليه، قال: على فرائضِ الله، وقال علي رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التّحْريم: 6]، قال:«علِّموهم وأدِّبوهم» ؛ رواه ابن جَرير في تفسيره.
فإن لم تصلِّ، فقد قال أحمد: أخشى ألا يَحِلَّ للرجُلِ أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا تغتسل من الجنابة، ولا تتعلم القرآن.
وقال أحمدُ في الرجل يضرب امرأته: لا ينبغي لأحدٍ أن يسأله، ولا أبوها: لمَ ضربتَها؟ لأنَّه قد يَضرِبُها لأجل الفراش، فإن أُخبِر بذلك استحى، وإن أَخبَر بغيره كذَب.
المرحلة الرابعة: بعثُ الحكَمينِ؛ وهما حكَمان؛ أي: قاضيانِ؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النِّسَاء: 35]؛ فإطلاق اسم الحكَمين: يدل على أن لهما الحُكْمَ على الزَّوجين، ولو كَرِهَا ذلك، كالحاكم، ولوروده عن عليٍّ رضي الله عنه؛ رواه عبد الرزاق.
وعلى القول بأنهما حكمانِ: إن رأيا الأصلح الطلاقَ بعِوض أو بغير عِوض، جاز، فيعملانِ ما هو الأصلح.
ويُشترط للحكَمينِ شروط:
الأول والثاني والثالث: الإسلام، والعقل، والبلوغ؛ وهذا باتفاق الأئمة.
الرابع: الذُّكورة، عند أكثر العلماء؛ لحديث أبي بكرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«ما أفلَحَ قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأةً» ؛ رواه البخاري، ولنقصِ عِلمها في الجملة عن الرجل.
وعند الحنفية: يجوز كونُ الحكَمينِ أُنثيينِ؛ لإطلاقٍ الآية.
الخامس: الأمانة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القَصَص: 26].
السادس: علمُ الحكَمينِ بالجمع والتفريق؛ لقوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القَصَص: 26]، والعلم: هو القوة.
السابع: كون الحكَمينِ من أهل الزَّوجين؛ للآية، ولأنَّ الأهل أعلمُ بحال الزَّوجينِ، وأشفقُ عليهما من الأجانب.
باب الخُلْعِ
الخلع في اللغة: النزع والإزالة.
وفي الاصطلاح: فِراق الزَّوجة بعِوض.
والأصل فيه: القرآن؛ كما في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البَقَرَة: 229].
ومن السُّنة: عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أن امرأةَ ثابت بن قيس أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابتُ بن قيس، ما أَعتِبُ عليه في خُلُق ولا دِين، ولكني أكره الكفرَ في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أترُدِّين عليه حديقتَه؟» ، قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اقبَلِ الحديقة، وطلِّقْها تطليقة» ؛ رواه البخاري.
وقال ابن حجَرٍ في الفتح: (أجمع العلماءُ على مشروعيته، إلا بكرَ بن عبد الله المُزَني التابعي المشهور).
مسألة: يُشترط لصحة الخلع شروط:
الأول: أن يكون ممن يصحُّ تبرُّعه؛ وهو: الحرُّ، الرشيد، غير المحجور عليه، فلا يصحُّ من رقيق؛ إذ لا يَملِك إلا بإذن سيده، ولا مِنْ سفيهٍ- لا يحسن التصرف في ماله -؛ لأنه محجور عليه، ولا من محجور عليه لفَلَسٍ؛ لتعلُّق حق الغرماء بأعيانِ ماله.
الثاني: وجود الحاجة إلى الخلع؛ وذلك بأن يخافَ عدمَ إقامة حدود الله بين الزَّوجين، فإذا كَرِهت المرأةُ خُلُقَ زوجها، أو خَلْقه - أي: صورته
الظاهرة - أو نقص دِينه: أبيح الخلع، فإن لم يكن حاجةٌ إلى الخلع: لم يصحَّ؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البَقَرَة: 229].
الثالث: وجود العِوض عند جمهور العلماء؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البَقَرَة: 229].
وذهب مالكٌ في رواية ابن القاسم، ورواية عن الإمام أحمد، وشيخ الإسلام: إلى جواز الخلعِ بلا عِوض تبذله الزَّوجة للزوج؛ لأنَّ الزَّوجَ يستفيد أمرينِ:
1 -
سقوط النفقة والسُّكنى عنه زمن العِدَّة.
2 -
عدم احتساب الطلقات عليه.
ولأنَّ الرجعةَ حقٌّ للزوجينِ، فإذا تراضيا على إسقاطها، سقَطتْ.
فرعٌ: عضلُ الزوج الزَّوجة للافتداء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون بحقٍّ؛ كما لو أخلَّتْ بعِرضها أو دِينها، أو ترَكتْ حقًّا من الحقوق الواجبة عليها للزوج؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النِّسَاء: 19].
القسم الثاني: أن يكون العَضْلُ بغير حق؛ فيحرُمُ، ولا يصحُّ الخلع؛ للآية السابقة.
فرعٌ: إذا كرهت المرأة زوجَها؛ لنقصِ دِينه، أو لخُلُقه، أو خَلْقه: أبيح لها الخلعُ، ومع محبته لها يسنُّ أن تصبر ولا تفتديَ نفسها؛ قال الإمام أحمد: (إن كانت المرأةُ تُبغِض زوجَها وهو يحبها، لا آمُرُها بالخلع، وينبغي
لها أن تصبر)؛ لقوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 19].
فرع: إن أرادت الخلعَ أو الطلاق مع تضرُّرها بالبقاء مع الزَّوج، وجَبتْ إجابتُها، والأفضل طلاقها؛ لحديث ابن عبَّاسٍ:«اقبَلِ الحديقةَ» ؛ وهذا أمرٌ، ولقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البَقَرَة: 231]؛ وهذا من الضرر.
فرعٌ: خلعُ الأجنبي: المراد به غيرُ الزَّوجة، أو وليُّ غيرِ المرأة الرشيدة، جائز باتفاق الأئمة من حيث الجملة، وينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يكون المقصودُ مصلحةَ الزَّوجين أو أحدِهما: فهذا جائز، بل هو من الإحسان، فإذا تضرَّرتِ المرأةُ أو الزوج بالبقاء مع الزوج الآخر، ولم تَجِدْ المرأة عِوضًا، فبذَله الأجنبيُّ: صح.
القسم الثاني: أن يكون المقصودُ مصلحةَ غير الزوجين: فهذا يحرُمُ، ولا يصحُّ؛ فإذا بذل الأجنبي العِوض للزوج ليطلِّق زوجتَه ويتزوجها: حرُمَ، ولم يصحَّ؛ لِما فيه من الإضرار، وهو شبيهٌ بفِعل السحرة، الذين يفرِّقون بين المرء وزوجه.
القسم الثالث: أن يكون لغير مصلحة: فيحرُمُ ولا يصحُّ؛ لِما تقدم.
مسألةٌ: ليس للخلع سنَّة ولا بدعة؛ فيصحُّ حالَ الحيض، وفي الطُّهْرِ الذي جامعها فيه؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصِلْ عن حال زوجة ثابت بن قيس رضي الله عنهما، ولأنَّ المقصودَ تخليصُ الزَّوجة من حِبال الزَّوج، وهذا على ضد طلاق البِدعة؛ لِما فيه من تطويل العِدَّة على الزَّوجة.
مسألةٌ: تصحُّ الجهالةُ في عِوض الخلع؛ إذ إن المقصودَ منه تخليصُ الزَّوجة من حبال الزَّوج دون المال.
مسألةٌ: الخلع بأيِّ لفظ كان - سواءٌ كان بلفظ الطلاق أو غيره - لا ينقُصُ به عددُ الطلقَات؛ ويدل على ذلك: أن اللهَ جل جلاله قال: {اَلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلَّاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البَقَرَة: 229]، ثم قال:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البَقَرَة: 230]، فذكَر اللهُ جل جلاله طلقتينِ والخلعَ، وتطليقةً، فلو كان الخلع طلاقًا، لكان رابعًا؛ كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما.
مسألةٌ: تَبينُ المرأة بالخلع بينونة صغرى باتفاق الأئمة الأربعة، فلا يَملِكُ معه الزَّوجُ الرجعةَ إلا بعقد جديد، تتوفر فيه شروطه؛ مِنْ الرضا، والوليِّ، وغير ذلك؛ لقوله تعالى:{فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البَقَرَة: 229]، ولا يكون فداءً إلا إذا خرَجتْ به عن عصمتِه وسلطانه، ولأنَّ المقصود من الخلع إزالةُ الضرر عن المرأة ببقائها مع الزَّوج، فلو جاز للزوجِ مراجعتُها، لعاد إليها الضرر.
وعليه: فليس عليها عدةٌ، وإنما يكفي الاستبراءُ، ولا يقع عليها طلاقٌ زمنَ الاستبراء.
مسألة: يباح الخلعُ بمثل الصداق، وبأكثرَ منه؛ لعموم قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} [البَقَرَة: 229].
ويُكرَه الخلعُ بأكثرَ مما أعطاها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: «اقبَلِ الحديقةَ» ، ولما ورد عن عليٍّ رضي الله عنه؛ أنه قال:«لا يأخُذْ منها فوق ما أعطاها» ؛ رواه عبد الرزَّاق، وورد أيضًا:«أن الرُّبيِّعَ بنتَ معوِّذ بن عفراء اختلَعتْ من زوجِها بكل شيء تَملِكُه، فخوصِمَ في ذلك إلى عثمانَ، فأجازه، وأمَره أن يأخُذَ عِقاصَ رأسِها فما دونه» .
فرعٌ: كل ما صحَّ مهرًا، صحَّ عِوضًا في الخلعِ من الأعيان والمنافع؛ لعموم قوله تعالى:{فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البَقَرَة: 229].
فرعٌ: للأب خلعُ زوجةِ ابنه غير الرشيد، وخلع بنتِهِ من مالها لمصلحة.
مسألةٌ: إذا علَّق طلاقَ زوجته على صفةٍ، ثم أبانها بفسخٍ أو غيره، فوُجِدت الصفةُ حال البينونة، ثم عقَدَ عليها مرة أخرى فوُجِدت الصفةُ بعد العقد الثاني: طَلَقتْ.
مثاله: إذا قال لزوجته: إن دخلتِ الدارَ فأنت طالق، ثم فسخها، فدخلت الدارَ حال البينونة، ثم عقد عليها، فدخلتِ الدارَ بعد العقد الثاني: طَلَقَتْ.
كتاب الطلاق
لغة: التخلية والإرسال، يقال: طلَقت الناقةُ: إذا سرَحتْ حيث شاءت.
وفي الاصطلاح: حلُّ قيدِ النِّكاح، أو بعضه.
والأصل فيه: الكتاب: قال تعالى: {اَلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البَقَرَة: 229].
ومن السُّنة: حديثُ ابن عمرَ رضي الله عنهما في تطليق زوجته المتفق عليه، وسيأتي.
والإجماع: حكاه ابن المنذِر رحمه الله تعالى، وغيرُه.
والأصل فيه: الكراهةُ؛ لقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} [البَقَرَة: 226 - 227]، وجه الدَّلالة: أنَّ الله تعالى ذيَّل الفَيْئة - وهي الرجوع إلى العِشرة الحسَنة - بالمغفرةِ والرحمة، وذيَّل الطلاق بالسمعِ والعِلم؛ ممَّا فيه تهديد، ويُشعِر بكراهيَة الطلاق، ولما يترتب عليه من تفويتِ مصالح النِّكاح العظيمة، التي تقدَّم بيانُ شيء منها في أول الكتاب.
ويباح للحاجةِ؛ كسُوء خُلُقِ المرأة، ويجب في صُوَر:
الأُولى: عند تضرُّر المرأة ببقاءِ حبل الزَّوجية.
الثانية: إذا ترَكتْ عفَّةً، أو فرَّطتْ في الصلاة؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(ويجب على الزَّوجِ أمرُ زوجته بالصلاة، فإن لم تصلِّ، وجَبَ عليه فِراقُها).
الثالثة: في الإيلاء؛ كما سيأتي.
الرابعة: عند شيخ الإسلام: إذا أمره أبوه بالطلاقِ، وكان عَدْلاً.
ويستحبُّ: إذا احتاجت المرأةُ إلى الطلاق، ولم تتضرَّرْ ببقاء حبل الزَّوجية؛ لئلا يُحوِجَها ذلك إلى المخالَعة.
ويحرُمُ للبدعة، سواءٌ كانت في الزمن؛ كما لو طلَّقها حال الحيض، أو للعَدَد؛ كما لو أوقع عليها أكثرَ من طلقة، ويأتي بيانُهُ إن شاء الله تعالى.
مسألةٌ: يصحُّ الطلاق إذا توفَّرتْ فيه شروط صحته الآتية:
الشرط الأول: أن يكونَ من زوجٍ، أو مَنْ يقوم مقامه؛ مِنْ وليِّ صغيرٍ ومجنون.
وعلى هذا: يخرُجُ صورتان:
الصورة الأولى: إذا طلَّق قبل الزواج؛ فإنَّه لا يصحُّ طلاقه؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزَاب: 49].
الصورة الثانية: إذا طلَّق زوجة غيره؛ فيصحُّ بالإجازة على الصحيح.
الشرط الثاني: أن يكون مكلَّفًا؛ فلا يصحُّ من صغيرٍ غير بالغ، ولا من مجنون ولا معتوهٍ، ولا من نائمٍ ولا مُغمًى عليه؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ القلمُ عن ثلاثة: عن النائمِ حتى يستيقظَ، وعن الصبي حتى يحتلِمَ، وعن المجنون حتى يَعقِل» ؛ رواه أحمد وأبو داود والتِّرمِذي والنَّسَائي بإسناد حسن، ولأنَّ الطلاق ضرَرٌ؛ فلا يَملِكه هؤلاء.
مسألةٌ: طلاق السَّكْران لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن يكون معذورًا بسُكْره: فلا يقع طلاقُهُ بالاتفاق.
الحالة الثانية: أن يكون غيرَ معذور بسُكْره؛ كأن يَشرَب المسكِر مختارًا
عالِمًا متعمِّدًا: فموضع خلاف، والصحيح أنه لا يقع؛ لقوله تعالى:{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّسَاء: 43]، والسكران لا يَعلَمُ ما يقول، ولحديث بُرَيدة في قصة ماعزٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أشَرِبَ خمرًا؟» ، فقام رجُلٌ فاستنكَهَهُ، فلم يجد منه ريحَ خمر؛ رواه مسلِم، فقوله:«أشرب خمرًا؟» : دليلٌ على عدم اعتبار قول السكران.
مسألةٌ: طلاق الغضبان: لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: ألا يغطِّيَ الغضب على عقله، ويَملِكَ نفسه: فهذا يقع طلاقُهُ بالاتفاق.
الحالة الثانية: أن يغطِّي الغضب على عقله، فلا يشعُرَ بما قال: فهذا لا يقع طلاقه بالاتفاق.
الحالة الثالثة: أن يكون بين ذلك؛ بألا يغطِّيَ على عقله، لكنه لا يستطيع أن يَملِكَ نفسه: فموضع خلاف، والأقرب: أنه لا يقع طلاقُه؛ لأنه مغلَقٌ عليه.
الشرط الثالث: أن يكون مختارًا، فإن كان مكرَهًا فلا يخلو:
1 -
أن يكون الإكراهُ بحق؛ كما لو أكرَهَ القاضي المُولِيَ بعد نهاية مدةِ التربُّص - مَنْ حلف على ترك وطءِ زوجته - على الطلاق، فيقع الطلاق بالإجماع.
2 -
أن يكون الإكراه بغير حق: فلا يقع طلاقه؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النّحل: 106]، ولحديث عمرَ رضي الله عنه:«إنما الأعمالُ بالنيات» متفق عليه، وهو لم يَنوِ.
فرعٌ: يشترطُ لصحة الإكراه الذي لا يقع معه الطلاق شروطٌ:
الأول: أن يكون المُكرِه قادرًا على إيقاع ما هدَّد به، فإن شكَّ الزوج في قدرته أو غلَب على ظنِّه عدمُ قدرته: وقَع الطلاق، وإن غلَب على ظنه أنه قادر: لم يقَعْ.
الثاني: حصول الإيلام للمكرَه؛ بضربٍ، أو خنقٍ، أو عصرٍ، ونحو ذلك، قال عمرُ رضي الله عنه:«ليس الرجُلُ أمينًا على نفسه إذا أَجَعْتَه، أو ضربتَه، أو أوثَقتَه» ؛ رواه عبد الرزاق والبَيْهَقي، صحَّحه ابن القيم في زاد المعاد.
فرعٌ: يكون الإكراهُ بالوعيد والتهديد، فلا يقعُ به الطلاق؛ كما يكون بالعقوبة.
ومِن الإكراه: السبُّ والشتم في حقِّ ذوي المروءات.
ويكون الإكراهُ بضرب ونحوه لكل من يشقُّ على المكره تعذيبه مشقة عظيمة من أصل؛ كوالدٍ، أو فرعٍ؛ كولد، أو قريب، ونحو ذلك.
وذكر شيخ الإسلام أنه لو سُحِرَ ليطلِّقَ، كان إكراهًا.
الثالث: أن يَغلِبَ على ظن المكرَه نزولُ الوعيد به إن لم يُجِبْهُ إلى طلبه، أو يستويَ عنده الأمران.
الرابع: أن يطلِّقَ دفعًا للإكراه؛ وهذا لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يَقصِدَ بطلاقه دفعَ الإكراه فقط: فلا يقع.
الحالة الثانية: أن يقصد بطلاقه إيقاعَ الطلاق دون رفع الإكراه: فيقع.
الحالة الثالثة: أن يقصد بطلاقه إيقاعَ الطلاق من أجلِ رفع الإكراه: فلا يقع.
مسألةٌ: طلاق الموسوس لا يقع؛ إذ هي من أثَرِ فعل الشيطان في القلب، ولأنَّ الموسوس مغلَقٌ عليه.
ومثله المريض مرضًا نفسيًّا، إذا أُغلِقَ عليه بسبب المرض، ودفَعه إلى الطلاق: فلا يقع.
الشرط الرابع: أن يكون قاصدًا ظاهرًا وباطنًا، فلا يقع طلاقُ المخطئ؛ وهو الذي لم يَقصِدِ اللفظ، وإنما سبق لسانُه إليه، كما لو أراد أن يقول: أنتِ طاهر، فقال: أنتِ طالق.
ولا يقع طلاقُ الهازل على الصحيح، وهو الذي قصَد اللفظ ظاهرًا، ولم يَقصِده باطنًا؛ لعدم وجود الرضا بالطلاق باطنًا.
الشرط الخامس: أن يكون النِّكاح صحيحًا، وعلى هذا فلا يخلو الأمرُ من ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون النِّكاح صحيحًا - وهو ما توفَّرتْ فيه شروطه، وانتفَتْ موانعُه -: فيقع فيه الطلاق.
القسم الثاني: أن يكون النِّكاح باطلاً - وهو ما أجمع العلماءُ على بطلانه؛ كنكاح المعتدَّة، أو ما زاد على أربعِ نِسْوة -: فلا يقع فيه الطلاق.
القسم الثالث: أن يكون النِّكاح فاسدًا - وهو ما اختلف العلماءُ في صحته؛ كالنِّكاح بلا وليٍّ: فيقع فيه الطلاق.
الشرط السادس: أن يتلفَّظَ بالطلاق، وتحته صورتان:
الصورة الأولى: أن يطلِّقَ بقلبه: فلا يقع طلاقه.
الصورة الثانية: أن يطلِّق بالكتابة: فإن نوى الطلاقَ وقع، وإن لم ينوِ أو
نوى غيرَ الطلاق، لم يقَعْ؛ لحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوَزَ لي عن أمَّتي ما وسوَستْ به صدورُها، ما لم تَعمَلْ أو تكلَّمْ» ؛ متفق عليه.
الشرط السابع: أن يكونَ طلاقَ سنَّة، وسيأتي بيانه.
فصلٌ في طلاق السُّنة والبِدعة
طلاق السُّنة: ما توفَّرتْ فيه شروط:
الشرط الأول: أن يطلِّقَها في طُهْرٍ، فإن طلقها حائضًا، فبِدعة لا يقع؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطّلَاق: 1]؛ قال ابن مسعودٍ: أي طاهراتٍ مِنْ غير جماع.
ولحديث ابن عمرَ رضي الله عنهما: أنه طلَّق امرأتَهُ وهي حائضٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مُرْهُ فليراجِعْها، ثم ليُمسِكْها حتى تطهُرَ، ثم تحيضَ ثم تطهُرَ، ثم إن شاء أمسك بعدُ، وإن شاء طلَّق قبل أن يمَسَّ؛ فتلك العِدَّةُ التي أمر اللهُ أن تُطلَّقَ لها النساءُ» ؛ متفق عليه.
الشرط الثاني: أن يكون في طُهْرٍ لم يجامِعْ فيه، ولو طال؛ لِما تقدم من الآية والحديث.
الشرط الثالث: أن يطلِّقها طلقةً واحدة، فإن طلقها أكثرَ من ذلك، لم يقع أكثرُ من واحدة؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان الطلاقُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتينِ من خلافة عمر، طلاقُ الثلاثِ واحدةً، فقال عمرُ بن الخطاب: إن الناس قد استعجَلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ، فلو
أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم»؛ رواه مسلِم، ولأنه لما تلفَّظ بالطلاق وقع عليه طلقةٌ، فإذا زاد في العدد، كان طلاقًا لم يصادِفْ عِدَّة؛ إذ أن الزَّوجة شرَعتْ في العِدَّة بمجرد تلفُّظه بالطلاق، والطلاق في العِدَّة طلاقُ بِدعة؛ كما سيأتي.
الشرط الرابع: ألا يُتبِعَها طلقةً في العِدَّة؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطّلَاق: 1]؛ أي: في قُبُلِ عِدتهنَّ؛ وذلك بأن يكون لكل طلقةٍ عدةٌ مستقلة.
فرعٌ: طلاق الحامل طلاقُ سنَّة؛ لحديث ابن عمرَ رضي الله عنهما، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فليطلِّقْها طاهرًا، أو حاملاً» ؛ رواه مسلِم.
فرعٌ: الصغيرة والآيِسة التي لا تحيض لصغر أو كبر، وغيرُ المدخول بها: يجوز طلاقُها في كل وقت، ولو حائضًا بالنسبة لغير المدخول بها، لكن لا يجوز أن يطلِّقَها أكثرَ من طلقة.
فصلٌ
صريحُ الطلاق: لفظ الطلاق وما تصرَّفَ منه؛ كقوله: أنت طالق، وطلَّقتُكِ، وأنت مطلَّقة.
وكناياته: ما احتمل الطلاقَ وغيره؛ مثل: أنت خَلِيَّة، وبَرِيَّة، وبائن، ونحو ذلك؛ فتُشترط له نيةُ الطلاق.
والمعتبَر في صريح الطلاق وكنايتِه: العُرْفُ.
مسألة: إذا قال لزوجته: أنت عليَّ محرَّمة، أو كالمَيْتة، أو الخِنزير، ونحوه، فلا يخلو من حالتين:
الأولى: فإن نوى الطلاق، فطلقةٌ؛ لورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، ولأنه داخلٌ في كنايات الطلاق.
الثانية: وإن نوى التحريم دون الطلاق، أو لم ينو شيئاً، أو نوى الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب، كما لو قال: إن لم أسافر فزوجتي علي حرام، أو إن لم يكن الخبر صدقًا فزوجتي عليَّ حرام، فكفَّارة يمين؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التّحْريم: 1 - 2]، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما:«الحرامُ يمينٌ» ؛ رواه البخاري ومسلِم.
مسألةٌ: من طلَّق عضوًا من أعضاء زوجته؛ كما لو قال: يدُكِ طالق، أو مشاعًا، كما لو قال: نصفُكِ طالق، أو طلَّق بعض طَلْقة، كما لو قال: أنت طالقٌ نصفَ طلقة: لم يقع به شيء.
مسألةٌ: يصحُّ التوكيل في الطلاق، للزوجة وغيرها؛ بدليل: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فوَّض أمرَ نسائه إلى أنفسِهن، والوكيل فيه لا يَملِكُ إلا طلاق السُّنة؛ إذ ما عداه لا يَملِكه الزَّوج؛ فوكيلُه كذلك.
ويَملِك الوكيل تطليقَ الزَّوجة، ما لم يوجد دليل الرجوع من الزَّوج، بالقول أو بالفعل.
مسألةٌ: يصحُّ الاستثناءُ من عَدد الطلاق والمطلَّقات بشروط:
الأول: أن يكون الاستثناء من الزَّوج.
الثاني: الموالاة بين المستثنى والمستثنى منه، ويستثنى من ذلك الفصلُ اليسير عُرْفًا.
الثالث: التلفُّظ بالاستثناء، ويصحُّ بالقلب من عَدد المطلَّقات، ما لم يصرِّحْ بالعدد؛ لأنَّ العام يأتي في اللغة ويراد به الخاص، فإذا قال: زَوْجاتي طوالقُ، ونوى إلا هندًا، صحَّ الاستثناء، وإذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدةً، صحَّ الاستثناء، وإن قال: أنت طالق ثلاثًا، ونوى إلا واحدةً: لم يصحَّ، وإن قال: زَوْجاتي الأربع طوالقُ، ونوى إلا هندًا: لم يصحَّ؛ لأنَّ اللفظَ هنا أقوى من النية.
فرعٌ: إن استثنى بمشيئة الله؛ كما لو قال: أنتِ طالق إن شاء الله، لم يقعِ الطلاق، إلا إن أراد التحقيق.
مسألة: إذا قال لزوجته: أنت طالقٌ أمسِ، أو قبل أن أتزوَّجك: لم يقَعْ، إلا إن نوى وقوعَهُ في الحال.
وإن قال: أنت طالقٌ قبل موتي، طَلَقَتْ في الحال.
وإن قال: أنت طالق مع موتي أو بعده، لم تطلق؛ لحصول البينونة بالموت.
وإن قال: أنت طالقٌ هذا اليوم، طَلَقَتْ في الحال، وإن قال: أنت طالق في غدٍ، طَلَقَتْ في أوله، ما لم يكن عُرْفٌ أو نِيَّة.
فصلٌ في تعليق الطلاق
يصحُّ تعليقُ الطلاق بالاتفاق، ولا يصحُّ التعليق إلا من زوجٍ.
وإذا علَّق طلاقَ زوجته، فلا يخلو من أمرينِ:
الأول: أن يعلِّقَهُ على شرطٍ محض: كما لو قال: أنت طالقٌ إذا طلعت الشمسُ، فتطلقُ إذا وُجِدَ المعلَّق عليه.
الثاني: أن يعلِّقه على شرطٍ غير محض: كما لو قال: أنت طالق إن خرَجت، أو إن لم أسافِرْ، فإن قصَد الطلاق: فطلْقةٌ إن وقع الشرطُ، وإن قصد الحثَّ أو المنع، أو التصديق أو التكذيب: فكفَّارةُ يمين؛ لورود ذلك عن الصحابة في النذر، وهو أشد نفوذًا من الطلاق.
فرعٌ: لا يتكرَّرُ الطلاق بتكرُّر المعلَّق عليه، إلا بنيَّةٍ أو قرينة، إلا مع (كلما) فيتكرر الطلاق، فإذا قال: كلما دخلت الدار فأنت طالق، يَتَكرَّر الطلاق بِتَكَرُّرِ الدخول.
فرعٌ: إذا قال: إن حِضْتِ فأنت طالق، طَلَقَتْ من أول طُهْرٍ من حيضٍ كامل، وإن قال: إن كنتِ حاملاً فأنت طالق، طَلَقَتْ إن ولدت لأقلَّ مِنْ ستة أشهر.
فرعٌ: إن علَّق الطلاق على فعلٍ أو تركٍ، ففعَله ناسيًا أو جاهلاً أو مكرَهًا: لم تُطلقْ، وكذا لو علَّقه على فعلِ الزَّوجة، ففعلت المعلَّق عليه ناسيةً، أو جاهلة، أو مكرَهة.
مسألة: مَنْ شك في أصل الطلاق: لم يَلزَمْهُ؛ لأنَّ النِّكاح متيقَّن، فلا يزول بالشكِّ، وإن شك في عددِه، أخَذ بالأقل.
مسألة: ومن قال لزوجتيه: إحداكما طالق، طَلَقَت المَنْويَّة، فإن لم ينوِ؛ أُقرِعَ بينهما، فإن تَبَيَّن أن المطلَّقةَ غيرُ التي قُرِعتْ، رُدَّتْ إليه، ما لم تتزوَّجْ، أو تكُنِ القرعة بحكمِ القاضي.
وإن قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق، طَلَقَتْ زوجته؛ لأنها محَلُّ الطلاق.
باب الرجعة
الرجعةُ في اللغة: الإعادة.
وفي الاصطلاح: إعادةُ مطلَّقةٍ غيرِ بائن إلى ما كانت عليه، بغيرِ عقد.
وهي ثابتة في الكتاب، والسُّنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البَقَرَة: 230].
وأما السُّنة: فحديث عِمران بن حصين، وفيه قوله لمن راجَعَ دون إشهاد:«راجعتَ لغير السُّنة» ؛ رواه أبو داود وابن ماجَهْ، وصححه ابن حجر.
والإجماع: حكاه ابن المنذِر.
مسألةٌ: يشترط لصحة الرجعة شروط:
الأول: أن يكون طلاقًا دون العَدَد، وعلى هذا:
- إن كان فسخًا، أو خلعًا، فلا يَملِك الرجعة؛ لأن الرجعة إنما وردت في الطلاق.
- وإن استكمل العَدَد، فلا تَحِلُّ له إلا بعد أن تتزوجَ إجماعًا؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البَقَرَة: 230].
الثاني: أن يكون الطلاق بلا عِوض، فإن كان بعِوَض فلا يَملِك رَجْعتَها إلا بعقد؛ لما تقدم في باب الخلع.
الثالث: أن يكون الطلاق بعد الدخول أو الخَلْوة، فإن كان قبلهما، فقد
بانت منه، فلا تَحِلُّ له إلا بعقد جديد؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزَاب: 49].
الرابع: أن تكون في نكاحٍ صحيح، فإن كان النِّكاح باطلاً؛ وهو ما أجمع العلماء على بطلانِه، أو فاسدًا؛ وهو ما اختلف العلماءُ في صحته؛ كالنِّكاح بلا وليٍّ: لم تصحَّ فيه الرجعة؛ إذ الأحكام تترتب على العقودِ الصحيحة.
الخامس: أن تكون الرجعةُ في زمن العِدَّة؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البَقَرَة: 228].
ويجوز مراجعتُها بعد طُهْرِها من الحيضة الثالثة قبل الاغتسال؛ لورودِ ذلك عن الصحابة؛ كعمرَ، وعليٍّ، وابن مسعود رضي الله عنهم، ولوجود أثَرِ الحيضِ المانع للزوج من الوطء.
السادس: أن يريدَ الإصلاح بالمراجَعة؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البَقَرَة: 228]، وعلى هذا إن أراد مراجعتَها لمضارَّتِها، لم تصحَّ المراجَعة.
فرعٌ: لا يشترط رضَا المرأة بالمراجعة؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البَقَرَة: 228]، ولأنها حقٌّ للزوج.
مسألةٌ: تحصُلُ الرجعة بأحد أمرينِ:
الأول: اللفظ؛ كقوله: راجعتُ زوجتي، أو ردَدتُها، أو أمسكتها، ونحو ذلك.
الثاني: الفعل؛ وذلك بالوطءِ مع النية دون مجرد الاستمتاع.
وتحصل بالكتابة مع النية.
فرعٌ: يسنُّ الإشهادُ على المراجعة؛ لِما ورد عن عِمران بن حصين رضي الله عنه: أنه سُئِلَ عن الرجل يطلِّق امرأته، ثم يقع بها، ولم يُشهِدْ على طلاقها، ولا على رجعتِها، فقال:«طلَّقتَ لغير سنَّة، وراجعتَ لغير سنَّة؛ أشهِدْ على طلاقها، وعلى رجعتِها، ولا تعُدْ» ؛ رواه أبو داود وابن ماجَهْ وصحَّحه الحافظ.
مسألةٌ: إذا طلق زوجتَهُ آخِرَ ما يَملِك من العَدد، لم تَحِلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره بالاتفاق؛ لقوله تعالى:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البَقَرَة: 230].
ويشترط لحِلِّ الزَّوجة المطلَّقة ثلاثًا لزوجها الأول شروط:
الأول: أن يكون النِّكاح صحيحًا: فإن كان النِّكاح باطلاً أو فاسدًا، لم تَحِلَّ له؛ لأنَّ الأحكام إنما ترتب على العقود الصحيحة.
الثاني: أن يكون نكاحَ رغبةٍ: فإن كان نكاحَ تحليل، لم يُعتدَّ به؛ لحديث ابن مسعود أنه قال:«لعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المحلِّلَ والمحلَّلَ له» ؛ رواه أحمد والتِّرمِذي والنَّسَائي وصحَّحه ابن القطَّان، وقد تقدَّم في الشروط الفاسدة المفسِدة من شروط النِّكاح.
الثالث: أن يطَأَها في هذا النِّكاح، وإن لم يحصُلْ إنزالٌ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: جاءت امرأةُ رفاعةَ القُرَظيِّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعةَ، فطلَّقني، فأبَتَّ طلاقي، فتزوَّجتُ عبدَ الرحمن بنَ الزبير، إنما معه مثلُ هُدْبةِ الثوب، فقال:«أتُريدين أن تَرجعي إلى رفاعةَ؟ لا، حتى تذُوقي عُسَيلته، ويذُوقَ عُسَيلتك» ؛ متفق عليه.
فلا تحصل المراجعةُ بالخَلْوة، أو مجرد المباشَرة.
الرابع: انتشار الذَّكَر؛ لِما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها، وذوقُ العُسَيلة لا يحصل إلا بانتشار الذَّكَر.
فرعٌ: لا تحصل المراجعةُ في وطءِ دُبُرٍ، أو وطء شبهة، أو وطءٍ محرَّم؛ كحالِ حيضٍ وإحرام.
مسألةٌ: الرجعية لها حكمُ الزَّوجات، إلا أنه لا قَسْمَ لها - أي لا يبيت معها في الفراش -؛ لأنَّ الله جل جلاله سمى المطلِّق بَعْلاً.
وعلى هذا، يباح له أن ينظر إليها، وأن يخلوَ بها، وأن تتجمل له، وأن يسافرَ بها، وتجب لها النفقةُ والكسوة والسُّكْنى مدةَ العِدَّة؛ كما سيأتي في باب النفقات.
باب الإيلاء
لغة: مصدرُ آلى يُولِي إيلاءً، وله معانٍ؛ منها: الحَلِف.
وفي الاصطلاح: حَلِفُ زوجٍ على ترك وطءِ زوجته أكثرَ من أربعة أشهر.
والأصل فيه: القرآن: كما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البَقَرَة: 226].
والإجماع: كما حكاه ابن المنذِر، وآثار الصحابة؛ كما سيأتي.
وهو محرَّمٌ؛ لأنه يمينٌ على ترك واجب.
مسألةٌ: يشترط لصحته شروط:
الأول: أن يكون مِنْ زوج يصحُّ طلاقُه؛ لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البَقَرَة: 226].
الثاني: أن يكون الحَلِفُ على زوجة، فإن حلف على أمَتِهِ لم يُعَدَّ مُولِيًا باتفاق الأئمة؛ للآية.
الثالث: أن تكون الزَّوجة ممن يمكِن وطؤُها، فإن لم يمكن وطؤها لم يكن مُولِيًا؛ لأنَّ الوطء متعذِّر بسببٍ آخرَ غيرِ الحلف.
الرابع: أن يكون الزَّوج قادرًا على الوطء، فإن كان غيرَ قادر كالمجبوب - مقطوع الذكر - لم يكن مُولِيًا؛ لأنَّ الزَّوج ترك الوطءَ بسببٍ غيرِ الحلف.
الخامس: أن يَحلِفَ على أكثرَ من أربعة أشهر، فإن حلف على أقلَّ من ذلك، فسيأتي.
فرعٌ: لا يُشترط أن يكون الحلفُ بالله، أو باسم من أسمائه، أو صفةٍ من صفاته، بل يكون مُولِيًا بسائر الأيمان، ومن ذلك: الأيمان الإلزامية؛ كالظِّهار، والنَّذْر، والتحريم، والطلاق، فمثلاً لو قال: إن وَطِئتُك، فأنت طالق: صار مُولِيًا.
وإن امتنع عن الوطء بلا يمين، فلا يكون مُولِيًا، بل يَلزَم: إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان.
كذلك أيضًا: لا يُشترط الإسلام؛ فيصحُّ الإيلاء من الكفار؛ لصحة أنكحتِهم.
فرعٌ: حكمُ إيلاء السكران والغضبان والمكرَه والنائم والمغمَى عليه: حكمُ طلاقِهم كما تقدم في باب الطلاق من التفصيل.
مسألةٌ: مدة الإيلاء:
إذا حلَف الزَّوجُ على ترك وطء زوجته مدة، فإن هذا لا يخلو من ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يَحلِفَ على أكثرَ من أربعة أشهر، فإنَّه يكون مُولِيًا بالاتفاق.
القسم الثاني: أن يحلف على أربعة أشهر.
القسم الثالث: أن يحلف على أقلَّ من أربعة أشهر.
ففي القسمين الأخيرين لا يكون مُولِيًا عند جمهور العلماء رحمهم الله تعالى.
مسألةٌ: إذا مضت المدةُ ولم يفِ - أي يرجع عن يمينه بترك وطء زوجته - أُمِر بالفَيْئة بالوطء، ولم يقع عليه طلاق بمضي المدة؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} [البَقَرَة: 227]، فلا بد من عزم الطلاق، وطلاق يسمع، ولا يوجد هذا بمضي المدة، وعن سليمان بن يسار قال:«أدركت بضعة عشر رجلاً من الصحابة كلهم يُوقِفُ المؤلي» يعني: بعد أربعة أشهر، رواه الدارقطني، وسعيد بن منصور في سننه، وابن أبي شيبة، وسنده صحيح.
مسألة: فإن امتنع من الفيئة أمِرَ بالطلاق بطلب المرأة، فإن أبى عَمِلَ القاضي الأصلحَ؛ مِنْ طلاق أو فسخ، فإن سبق للزوج طلقتانِ، فالأصلح الفسخ؛ ليتمكَّنَ من العقد عليها، وإلا فالأصلح الطلاق؛ ليتمكن من المراجعة.
فرعٌ: إذا آلَى من زوجتِهِ، ثم فاءَ قبل تمام المدة: لَزِمته كفارةُ يمين؛ مثاله: حلف أن لا يطأَ زوجتَهُ مدة خمسة أشهر، ثم وَطِئها قبل مضيِّ خمسة أشهر: فعليه كفارةُ يمين؛ لوجود الحِنْثِ منه، وإن مضت المدةُ، لم تَلزَمه الكفارةُ؛ لعدم حِنْثِه.
باب الظِّهار
لغة: مشتقٌّ من الظَّهْر، وخُصَّ به من بين سائر الأعضاء؛ لأنه موضعُ الرُّكوب، والركوب غالبًا إنما يكون على الظَّهْر.
ولفظ الظَّهْر يطلق لغةً على معانٍ؛ منها: البُروز بعد الخفاء، والغلَبة، والقوة.
فشبَّه ركوبَ الزَّوجة بركوبِ الأمِّ الذي هو ممتنِع، وهو استعارةٌ لطيفة، فكأنه قال: ركوبُكِ للنكاح حرامٌ عليَّ كركوب أمي.
وفي الاصطلاح: أن يشبِّهَ الرجُلُ زوجته بمن تحرُمُ عليه على التَّأبيد فيما يتعلق بالوطء.
مسألةٌ: ظِهار الجاهلية:
الظِّهار عند أهل الجاهليَّة كان طلاقًا؛ قال طاوس: (كان طلاقُ أهلِ الجاهليَّة الظِّهارَ)؛ رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح.
قال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: (سمعتُ مَنْ أرضى مِنْ أهل العلم بالقرآن يذكُرُ: أنَّ أهلَ الجاهليَّة كانوا يطلِّقون بثلاثٍ: الظِّهار، والإيلاء، والطلاق).
مسألةٌ: حكمُ الظِّهار: محرَّم، ولا يجوز؛ بدَلالة الكتاب، والسُّنة، والإجماع، وقد صرَّحَ بعضُ العلماء: بأنَّه من الكبائر.
قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجَادلة: 2]؛ فالآية دلَّتْ على أن قول: (أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمِّي محرَّمٌ) من أوجه؛ منها:
الأول: من جهة الإخبار بأنه زُور؛ أي: كَذِب؛ لأنَّ إخبارَه أن زوجته تُشبِهُ أمَّه كذب؛ لأنَّه شبَّه مَنْ هي في أقصى غايات الحِلِّ بمن هي في أقصى غايات الحُرْمة.
الثاني: من جهة الإنشاء: أنه منكَرٌ؛ لأنَّ الشرع لم يجعله سببًا للتحريم.
الثالث: قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجَادلة: 2]: مُشعِرٌ بقيام سببِ الإثم؛ فدلَّ على التحريم.
مسألة: الظهار صحيح، وتترتب عليه آثارُه وأحكامه، إذا توفَّرتْ فيه شروطُ صحته، وهي:
الشرط الأول: كون المظاهِر زوجًا، مسلِمًا كان أو غير مسلِم، ولو كان غيرَ قادر على الوطء، وعلى هذا فلا يصحُّ ظِهارُ السيد لأمَتِه؛ لقوله تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجَادلة: 2]؛ فاللهُ جل جلاله أناط حكمه بالنساءِ، ومطلَقُهُ ينصرف إلى الزَّوجات، وعمومُ الآية يشمل كل زوج.
الشرط الثاني: العقل؛ فلا يصحُّ ظِهارُ مَنْ زال عقلُه بجنون، ولا من غُطِّيَ على عقله بإغماء، أو نوم، أو سُكْرٍ، أو دواء، ولا مَنْ نقص عقله؛ كالمعتوه؛ وهذا باتفاق الأئمة؛ لحديث عائشةَ رضي الله عنها؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«رُفِعَ القلمُ عن ثلاثة: عن النائمِ حتى يستيقظَ، وعن الصغير حتى يَكبَرَ، وعن المجنون حتى يَعقِلَ» ؛ رواه أحمد وأبو داود والتِّرمِذي والنَّسَائي بإسناد حسن.
ولحديث سليمانَ بن بُرَيدة، عن أبيه، قال:«جاء ماعزُ بن مالك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، طهِّرني، قال: ممَّ أطهِّرُك؟ قال: من الزِّنا، فسأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَبِهِ جنونٌ؟ فأُخبِرَ أنه ليس بمجنون، فقال: أشَرِبَ خمرًا؟ فقام رجُلٌ فاستنكَهَهُ، فلم يَجِدْ منه ريحَ خمرٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أزنَيتَ؟ قال: نعم، فأمَرَ به فرُجمَ» ؛ رواه مسلِم.
وجه الاستدلال من الحديث: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بشمِّ ريحِ فمِ ماعز ليعلَمَ هل هو سكرانٌ أم لا؟ فإن كان سكران، لم يصحَّ إقرارُه، وكذا ظِهاره.
قال ابن قدامة: (ومَن لا يصحُّ طلاقُه، لا يصحُّ ظِهاره؛ كالطفل، والزائلِ العقلِ بجنون، أو إغماء، أو نوم، أو غيره؛ وبه قال الشافعيُّ وأبو ثَوْر، ولا
نعلم فيه خلافًا).
فرعٌ: حكمُ ظهار السكران والغضبان: حكمُ طلاقِهم كما تقدم في باب الطلاق من التفصيل في ذلك.
الشرط الثالث: البلوغ: فلا يصحُّ ظِهار الصبي؛ لحديث عائشةَ رضي الله عنها السابق.
الشرط الرابع: الاختيار: وعلى هذا فلا يصحُّ ظِهار المكرَه، والمخطِئ، والهازل؛ لحديث عمرَ رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنما الأعمالُ بالنيَّات» ، وجه الدَّلالة: أنَّ العملَ بلا نيَّةٍ باطلٌ لا عبرةَ به، والإكراهُ عملٌ بلا نيَّة.
ولحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال عند قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البَقَرَة: 286]، قال الله: قد فعلتُ، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البَقَرَة: 286]، قال اللهُ: قد فعلتُ، {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} [البَقَرَة: 286]، قال اللهُ: قد فعلتُ؛ رواه مسلِم.
ولأنَّ الهازل قصدَ اللفظَ في الظاهر دون الباطن.
فرعٌ: لا يُشترط تكليف الزَّوجة، ولا إسلامها، ولا حريتها، ولا طهارتُها من الحيض والنفاس، ولا الدخول بها؛ فيصحُّ الظِّهار من الصغيرة، والمجنونة، والكتابيَّة، والأمَة، وغير المدخول بها، ومَن لا يمكن وطؤها، وكذا الحائض، والنفساء.
وكذا يصحُّ الظِّهار من الرجعية، والمُحرِمة بحج أو عمرة؛ باتفاق الأئمة الأربعة، ودليل ذلك: عموم آية الظهار.
فصل في صِيَغِ الظِّهار
تشبيهُ الزَّوجة بمن تحرُمُ عليه له صِيَغ:
الصيغة الأولى: أن يقول لزوجته: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمي، وهذا ظهارٌ بالإجماع.
ونحو ذلك لو قال: جسمُك ونفسك عليَّ كظَهْر أمي.
الصيغة الثانية: تشبيه الزَّوجة بظَهْر مَنْ تحرُمُ عليه على التأبيد من أقاربه غير الأم؛ كجَدَّته، وعمَّته، وخالته، وأخته، ونحو ذلك: فظِهارٌ؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجَادلة: 3]؛ فظاهر الآية يقتضي صحةَ الظِّهار بتشبيه كل ذات مَحرَم؛ إذ لم تخصص الأم دون غيرها.
الصيغة الثالثة: تشبيه الزَّوجة بظهر من تحرُمُ عليه على التأبيد سوى الأقارب؛ كالأمهات المرضِعات، والأخوات من الرضاعة، وحلائل الآباء والأبناء، ونحو ذلك: فظهار؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجَادلة: 2]، وهؤلاء محرَّمات بالتأبيد؛ فأخَذْنَ حكمَ الأم.
الصيغة الرابعة: إذا شبَّه الزَّوجة بمن تحرُمُ عليه على التأقيت؛ كأخت امرأته، أو عمَّتها، أو الأجنبية، ونحو ذلك: فليس بظِهار؛ لأنَّ المحرَّمة إلى أمدٍ ليست أمًّا، ولا في معنى الأم.
لكن إن نوى الظِّهارَ أو التحريم أو لم ينو شيئًا: فكفَّارةُ يمين، وإن نوى الطلاق فطلاق؛ إذ تشبيهُ الزَّوجة بالمحرَّمة تأقيتًا إذا لم يكن ظِهارًا، فلا يخرج عن كنايات الطلاق، والطلاقُ يقع بالكناية مع النيَّةِ.
الصيغة الخامسة: تشبيه الزَّوجة بظَهْر ذَكَرٍ؛ مثل أن يقول لزوجته: أنت عليَّ كظَهْر أبي، أو ابني، أو غيرهما من الرجال: فليس بظِهار؛ لأنَّ ظَهْرَ الأبِ والابن ليس أمًّا، ولا في معناها.
لكن إن نوى بهذا اللفظ الظِّهارَ أو التَّحريمَ: فكفَّارةُ يمينٍ، وإن نوى الطَّلاقَ فطلقة؛ لِما تقدم، ويأتي قريبًا أن تحريم الزوجة يأخذ حكم اليمين.
الصيغة السادسة: تشبيه عضوٍ من أعضاء الزَّوجة بظَهْر الأم، أو بعضوٍ من أعضائها: فلا يكون مظاهِرًا حتى يشبِّهَ جملةَ زوجته.
لكن يظهر أنَّ عليه كفَّارةَ يمينٍ إن نوى الظِّهارَ، أو التحريمَ؛ لما يأتي قريبًا من أنَّ تحريمَ الزَّوجة فيه كفَّارةُ يمين، وقد يستثنى من ذلك: ما إذا شبَّه عضوًا يفيد تشبيهَ جماع الزَّوجة بجماع الأم في الحرمة، كالفَرْج: فظهارٌ، والله أعلم.
الصيغة السابعة: تشبيه الزَّوجة بالأم بحذف لفظ الظَّهْر، أو قال: أنت أمي.
كأن يقول الزَّوج لزوجته: أنت عليَّ كأمي، أو مثل أمي، ولم يذكر الظَّهْر، أو أنت كأمي، أو مثل أمي، أو أنتِ أمي، فله حالات:
الأولى: أن ينويَ أنها مثلها في الكرامة والتوقير، أو أنها مثلها في الصفة ونحو ذلك: فلا يكون ظِهارًا باتفاق الأئمة؛ لقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجَادلة: 2].
وهذا لم يَقصِدِ الظِّهار بهذا اللفظ، ولأنَّ هذا اللفظ لا يتعيَّن للظِّهار؛ لا عُرْفًا، ولا لغةً، إلا لقرينةٍ تدلُّ على قصده.
الثانية: أن ينويَ الظِّهار: فإنَّه يكون مظاهِرًا باتفاق الأئمة الأربعة؛ لقوله
تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجَادلة: 2]، وإذا قال الزَّوج لزوجته: أنتِ عليَّ مثل أمي، ونوى به الظِّهار، كان في معنى قوله: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمي؛ لدخول الظَّهْر في جملة الأم.
الثالثة: أن يُطلِقَ فلا ينوي ظهارًا، ولا غيره: فلا يكون ظهارًا؛ لأنَّ هذا اللَّفظ يُستعمل في الكرامة أكثرَ مما يُستعمل في التحريم؛ فلم ينصرف إليه بغير نيةٍ؛ ككنايةِ الطلاق.
الصيغة الثامنة: أن يقول: أنتِ عليَّ حرام، ومثله لو قال: أنت عليَّ كالميتة، أو الدمِ، أو البهيمة، فإن نوى الطلاقَ فطلْقة؛ إذ إنَّه من الكنايات، ولما يأتي عن الصحابة رضي الله عنهم، وإن نوى التحريم، أو أطلق، أو الظهار: فكفَّارةُ يمين، ولا يكون ظهارًا؛ لعدم وجود التشبيه القبيح، وهو أن يشبِّهَ أحَلَّ الناس له بأحرَمِ الناس عليه.
وإن نوى الحثَّ أو المنع، أو التصديق أو التكذيب: فكفارة يمين؛ كما لو قال: إن خرجتِ فأنتِ عليَّ حرام، يَقصِد المنع.
لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التّحْريم: 1 - 2].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه قال: «نيَّتُهُ في الحرام ما نوى، إن لم يكُنْ نوى طلاقًا، فهي يمين» ؛ رواه ابن أبي شَيْبة وعبد الرزاق بإسناد صحيح، وعنه قال:«الحرام: إن نوى يمينًا فهي يمينٌ، وإن نوى طلاقًا فطلاق» ؛ رواه البَيْهَقي.
وعن قَبيصة بن ذُؤَيب، قال: سألتُ زيد بن ثابت وابن عمرَ رضي الله عنهما عمَّن قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام؟ فقالا جميعًا: «عليه كفارةُ يمين» ؛ رواه حربٌ الكرماني في مسائله، وقال الحافظ: إسناده صحيح.
وعن سعيد بن جبير؛ أنه سمع ابن عبَّاسٍ يقول: (إذا حرَّم الرجلُ عليه امرأته، فهي يمينٌ يكفِّرها)؛ رواه البخاري.
مسألةٌ: إذا قالت الزَّوجة لزوجها: (أنتَ عليَّ كظهر أبي)، فليس ظِهارًا، وهو قولُ جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة، ودليل ذلك: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجَادلة: 2]، فخصَّ الرجالَ بذلك.
وعليها كفارة يمين؛ قال الإمام أحمد: (قد ذهب عطاءٌ مذهبًا حسنًا، جعله بمنزلة مَنْ حرَّم على نفسه شيئًا مثلَ الطعام وما أشبهه).
مسألةٌ: إذا ظاهر مِنْ نسائه بكلمات: كأن يقول لكل امرأةٍ من نسائه: أنتِ عليَّ كظَهْرِ أمي: فجمهور أهل العلم: تَلزَمه كفاراتٌ؛ للآية، فأوجب اللهُ جل جلاله كفارة الظِّهار في العَوْد، وقد تكرر ذلك، فتكررت الكفارة.
وإذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة؛ بأن قال لنسائه: أنتُنَّ عليَّ كظَهْر أمي: فتلزمه كفَّارةٌ واحدة؛ للآية؛ لأنه ظهارٌ واحد؛ وهو قول عمرَ وعليٍّ رضي الله عنهما.
مسألةٌ: تعليق الظِّهار على مشيئة الله تعالى؛ كأن يقول: أنتِ عليَّ كظهر أمي إن شاء اللهُ تعالى، لا يكونُ ظهارًا؛ وهو قول جمهور العلماء؛ والدليل: ما روى مالك، عن نافع، عن ابن عمرَ رضي الله عنهما أنه كان يقول:(مَنْ قال: والله، ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يفعل الذي حلف عليه: لم يَحنَثْ).
مسألة: إذا علَّق ظِهارَهُ على امرأةٍ أجنبيَّة؛ كقوله: (أنتِ عليَّ كظهر أمي إن تزوَّجتك): لا يكون ظهارًا؛ والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجَادلة: 3]، والأجنبيةُ ليست من نسائه.
مسألةٌ: إنْ وقَّت الظهارَ؛ مثل أن يقول: أنتِ عليَّ كظهر أمي شهر رمضان، فيصح، فإن وَطِئها خلال مدة الظِّهار، لزمته الكفارة، وإن انقضت
المدة قبل وطئه، لم يَلزَمه شيء.
مسألةٌ: ما يترتب على المتلفِّظ بالظِّهار:
1 -
يجبُ المبادرةُ بالتوبة؛ إذ التوبة تجب على الفور؛ لعموم أدلَّة الأمر بالتوبة؛ كقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النُّور: 31]، وقوله سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التّحْريم: 8]، إلى آخرِ أدلةَّ التوبة، بل حكمَ بعض العلماء بأن الظِّهار من الكبائر.
2 -
تجب الكفَّارة على المظاهِر بالإجماع؛ ويدل على هذا: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *} [المجَادلة: 3].
3 -
يحرُمُ الوطءُ على المظاهر قبل أداء الكفَّارة إذا كان تكفيرهُ بالعتق، أو الصيام، أو الإطعام؛ لقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} [المجَادلة: 3]، ثم قال:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} [المجَادلة: 4].
وجه الدَّلالة: أنَّ الله عز وجل اشترطَ للتكفير بالصيام أن يكون قبل المسيسِ مع تطاوُلِ زمنه؛ فاشتراطُهُ مع الإطعام الذي لا يطُولُ زمنُهُ أولى.
وأما الاستمتاعُ بما دون الفَرْج: فجائز، إلا إذا ظنَّ أو عَلِمَ أنه سيؤدي ذلك إلى الجماع؛ لأنَّ التلذُّذَ يؤدي إلى الوطء، وهو حرام على المظاهر، وما كان مؤدِّيًا إلى الحرام فهو حرام.
فصل في كفارة الظِّهار
كفارة الظهار: واجبة بالكتاب، والسُّنة، والإجماع.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *} [المجَادلة: 3]
ولحديث سلمة بن صخر رضي الله عنه السابق.
قال ابنُ قدامة: (أجمع أهلُ العلم على أنَّ المظاهِرَ إذا لم يجد رقبةً: أنَّ فرضه صيامُ شهرينِ متتابعين، وأجمعوا على أنَّ من وجد رقبةً فاضلةً عن حاجته، فليس له الانتقالُ إلى الصيام).
مسألة: وقت وجوب الكفارة: تجب الكفارة بالعود، المراد بالعَوْد: العزمُ على الجماع؛ بأن ينوي استحلالها استحلاالاً لا يكون لأمِّه.
مسألة: وقت إخراج كفارة الظهار: قبل الوطء؛ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} [المجَادلة: 3].
مسألةٌ: لا يصحُّ تكفير الذِّمي بالصوم؛ لأنَّ الصومَ عبادة محضة، والكافر ليس من أهلها، ولأنه لا يصحُّ منه الصوم في غير الكفارة، فلا يصحُّ منه فيها، وإذا كان الصومُ لا يصحُّ في حقه، فإنَّه يكفِّر بالعِتق أو الإطعام؛ لأنه يصحُّ منه ذلك في غير الكفارة، فصحَّ منه فيها.
خصال الكفارة:
المرتبة الأولى: التكفير بالعتق
مسألة: يُشترط لوجوب التكفير بالعتق ما يلي:
الشرط الأول: أن يكون واجدًا للرقبة، أو لثمَنِها الذي يتمكن به من الشراء، ودليل ذلك: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *} [المجَادلة: 3]؛ فدَلَّ على أنه إذا كان مستطيعًا للإعتاق، وجب عليه، ولم يجُزْ أن ينتقل إلى الصيام إلا مع عدم الاستطاعة.
ولما تقدم من حديثَيْ سلَمةَ وخَوْلة؛ قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وإن وجد ثمَنَ الرقبة، ولم يجد رقبةً يشتريها: فله الانتقال إلى الصيام؛ كما لو وجد ثمن الماء، ولم يَجِدْ ما يشتريه).
فرعٌ: إن وُهِبتْ له رقبةٌ، لم يَلزَمه قَبولُها؛ لأنَّ عليه مِنَّةً في قَبولها، وذلك ضرَرٌ في حقِّه.
الشرط الثاني: أن تكون فاضلةً عن حاجته، فإن كانت عنده رقبةٌ أو ثمنها من دراهم ودنانير، ولا يستغني عنها؛ لخدمتِهِ؛ لكِبَر أو مرض، أو يكون ممن لا يخدم نفسه في العادة، ولا يجد رقبةً فاضلة عن خدمته: فلا يلزمه الإعتاق، وعليه الانتقال إلى الصوم.
الشرط الثالث: أن تكون بثمَنِ مثلها إن كان واجدًا للثمن دون الرقبة.
الشرط الرابع: أن يكون واجدًا للنفقات الشرعية من الطعام والكساء والسكن: قدر نفقةِ سنةٍ له ولمن يمُونُه.
الشرط الخامس: أن يكون واجدًا للحوائج الأصلية؛ كالبيت الذي يسكُنُه، والسيارة التي يَركَبُها، والأواني التي يستعملها، والكتب التي يحتاجها إذا كان طالبَ علم.
مسألةٌ: شروط صحة إعتاق الرقبة:
يُشترط لصحة إعتاق الرقبة المخرَجة في كفارة الظهار وغيرها ما يلي:
الشرط الأول: أن تكون مؤمِنة؛ لقوله تعالى في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92]، وقال تعالى في كفارة الظِّهار:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} [المجَادلة: 3]، فيُحمَل المطلَق على المقيَّد؛ لأنَّ الحكم واحد؛ وهو إعتاقُ رقبة في كفارة، والسبب مختلِف؛ ففي الآية الأُولى قتلُ خطأ، والثانية ظِهار، وأكثر الأصوليِّين على أنه يُحمَل المطلَق على المقيَّد إذا اتحد الحكمُ، واختلف السبب.
فرعٌ: إذا أعتق نصفَيْ عبدينِ، وكان الباقي حرًّا: أجزأه، وإن كان الباقي مملوكًا، لم يُجزِئْهُ.
الشرط الثاني: أن تكون الرقبةُ المعتَقة سليمةً من الأمراض المُهلِكة، أو الأسباب المؤدية إلى الموت، فلا يجزئ إعتاق الجاني إن أحاطت الجنايةُ بدمِهِ؛ لأنَّ وجوده كعدَمِه، وإلا أجزأ.
الشرط الثالث: ألا تكون الرقبةُ حَمْلاً، وعلى هذا فلا يجزئ إعتاقُ الجنين؛ لقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النِّسَاء: 92] الآية؛ فالمأمورُ به هو تحرير رقبة، والجنين لا يسمى رقبةً.
الشرط الرابع: أن تكون الرقبةُ مقدورًا على تسليمها، وعلى هذا فلا يجزئ إعتاقُ المغصوبِ؛ لأنه خارج عن حوزته.
الشرط الخامس: ألا يتعلق بالرقبة حقٌّ للغير؛ فلا يجزئ إعتاق المرهون؛ لِما في ذلك من إبطال حق المرتهِن.
الشرط السادس: أن ينويَ الإعتاق عن الكفارة الواجبة عليه، فينوي بإعتاقه كفارةَ الظِّهار؛ لما روى عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنما الأعمالُ بالنيَّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى» .
المرتبة الثانية: التكفير بالصيام
إذا قدَرَ على الإعتاق، بتوفُّر شروط وجوبه المتقدمة: لم يجُزْ له الانتقالُ إلى الصيام، وإن لم تتوفر شروطُ وجوب العتق كلها أو بعضها، انتقل إلى الصيام؛ للآية.
فرعٌ: يُشترط التتابع في صيام كفارة الظِّهار بالإجماع؛ لِما تقدم من الأدلة السابقة.
فرع: إن أفطر لغير عذر، انقطع صيامُهُ بالإجماع؛ وإن أفطر لعُذْرٍ شرعيٍّ؛ كالمرض، والسفَر، والحيض، والنفاس، والإفطار لعذر الجهل، أو النسيان، أو الإكراه؛ لم ينقطع التتابع، لقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزَاب: 5]، وقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البَقَرَة: 286].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» رواه البخاري ومسلم.
فرع: إذا بدأ بصيام الشهرين من أول الشهر فإنه يصوم شهرين سواء كانا تامَّيْنِ أو ناقصين، وإن بدأ في أثناء الشهر فإنه يكمل الشهر الأول، ثم يصوم الشهر التالي سواء تامًّا أو ناقصًا، ثم يصوم عدد الأيام التي أفطرها من الشهر الأول.
المرتبة الثالثة: التكفير بالإطعام
كفارة الظِّهار تجب على الترتيب بالإجماع؛ كما تقدم، فلا ينتقل إلى الإطعامِ إلا بشرط عدم استطاعة الصيام؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجَادلة: 4]، وعدم الاستطاعة له صُوَرٌ:
الصورةُ الأولى: أن يَعجِزَ عن الصيام؛ لكِبَرِ سنٍّ، أو مرَضٍ لا يرجى بُرؤه؛ فهذا ينتقل إلى الإطعام باتفاق الأئمة؛ لِما تقدم من الآية، ولحديث المظاهر، وفيه:(أنَّه شيخ كبير .. ).
وزاد المالكيَّةُ: ضعيفَ البنية، والمستعطش، فمن كان ضعيفَ البنية لا يستطيع معها الصَّوم، أو كان مستعطشًا؛ أي: قويَّ العطَشِ؛ بحيث يضرُّ به الصَّوم: جازَ له العدولُ عن الصومِ إلى الإطعام.
الصورةُ الثانية: أن يَعجِزَ عن الصيام لمرض يُرجى زواله؛ فاختلف العلماءُ في جواز الانتقال إلى الإطعام على قولينِ:
القول الأول: أنه لا يجوز له الانتقال، وهو قولُ جمهور أهل العلم؛ ودليلهم: قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجَادلة: 4]، والمريض الذي يُرجَى زوالُ
مرَضه: مستطيعٌ.
القول الثاني: أنه يجوز له أن ينتقل إلى الإطعام، وهو مذهب الحنابلة؛ للآية.
والراجحُ - والله أعلم -: ما ذهب إليه جمهورُ أهل العلم؛ إذ هذا المناسب للتغليظ.
الصورة الثالثة: المشقة الشديدة:
إذا كان المظاهِر يَقدِر على الصيام لكن تلحقه مشقة:
فإن كانت يسيرةً، فلا يجوز له الانتقال إلى الإطعام؛ باتفاق الأئمة.
وإن كانت غير يسيرة، فاختلف العلماء في اعتبار المشقة عذرًا في الانتقال إلى الإطعام على قولين:
القول الأول: أنه عذرٌ في الانتقال إلى الإطعام، وهو مذهب الحنابلة، فقد نصَّ الحنابلةُ رحمهم الله على أنَّ الصيامَ إذا كان يُضعِفُهُ عن طلب المعيشةِ، أو كان به شبَقٌ لا يستطيع معه الصبرَ عن زوجته شهرينِ متتابعين، وليس له زوجة أخرى: فله أن ينتقل إلى الإطعام، وكذا لو خاف زيادة المرَضِ، أو تأخُّرَه.
ودليلُهم: عموماتُ أدلة رفع الحرج عن هذه الشريعة؛ كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحَجّ: 78].
وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا} [البَقَرَة: 286].
ولما روى البخاري عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غلَبَه» رواه البخاري.
فرعٌ: شروط المُطعَم:
هناك شروطٌ لا بدَّ من توافرها فيمن يُطعَمُ في الكفارة؛ وهي كما يلي:
الشرط الأول: الإسلام، فلا تُدفَع للكافر الحربيِّ الكفَّارةُ بالاتفاق.
الشرط الثاني: أن يكون مسكينًا.
لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجَادلة: 4]، والمراد به: من يجوز دفعُ الزكاة إليه لحاجته؛ كالفقراء والمساكين.
الشرط الثالث: أن يكون حرًّا؛ إذ إنَّ كفايةَ الرقيقِ واجبةٌ على سيده، فلم يكُنْ محتاجًا.
الشرط الرابع: ألا يكون من تُدفَعُ إليه الكفارةُ ممن تجب نفقتُه على المكفِّر؛ كأب المكفر وابنه ونحو ذلك؛ لاستغنائه بالنفقة عن الكفارة.
مسألة: يجزئ في التكفير بالإطعام كل ما كان من قوت البلد؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجَادلة: 4] فذكر الإطعام ولم يذكر جنس الطعام؛ فيرجع في ذلك إلى العرف، ولقوله تعالى في كفارة اليمين:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المَائدة: 89].
فرع: قدر الطعام: يرجع فيه إلى العرف، من غير تقدير ولا اشتراط تمليك، وعلى هذا فالإطعام له صورتان:
الصورة الأولى: أن يعمل طعامًا ويعشي المساكين أو يغديهم بما يشبعهم عرفًا؛ لإطلاق الآية، وورد عن ابن عمر رضي الله عنهما:«من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتمر، والخبز والسمن، والخبز والزيت، ومن أفضل ما تطعمهم» . رواه ابن جرير بسند صحيح.
وفي صحيح البخاري: «أن أنسًا أطعم فدية الصيام» .
وفي مصنف عبد الرزاق أن أبا موسى: «كفر عن يمين فعجن وأطعم» .
الصورة الثانية: أن يُملكهم حبًّا من غالب قوت البلد، والأحسن لكل مسكين مدان، وقدره كيلو وعشرون غرامًا.
فقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال في كفارة اليمين: «صاع من شعير، أو صاع من تمر، أو نصف صاع من قمح» ؛ رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح.
وورد عن علي رضي الله عنه قال: «كل مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر» ؛ رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: «مدان من حنطة لكل مسكين» ، وورد عن ابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم:«مد من حنطة لكل مسكين» ، رواها عبد الرزاق وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة.
فرعٌ: لا يلزمه مع الإطعام إدامٌ، بل يُستحب، إلا إن كان يُطعِم أهلَه بإدام، أطعم المساكينَ بإدام؛ لما تقدم عن الصحابة إخراج الحب في كفارة اليمين.
مسألةٌ: يجب استيعاب العدد المنصوص عليه في الإطعام؛ لأن الآيةَ اشترطت العَدَدَ، وهو ستُّون، ومَن أطعَمَ واحدًا أو اثنينِ، لم يُطعِمْ العدد، فلم يكُنْ ممتثلاً للأمر.
فرع: لا يجزئُ إخراج القيمة بدل الطعام؛ لأن الله تعالى نص على الطعام بقوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجَادلة: 4]، ولقوله تعالى في كفارة اليمين:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المَائدة: 89] ولما تقدَّمَ مِنْ حديث سلَمةَ بن صخر: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فرضَها طعامًا، وإخراج القيمة خلافُ ما فرضه النبيِّ
صلى الله عليه وسلم، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرُ الله ولا أمر رسوله: فهو رَدٌّ.
لكن إذا كان في بلد لا يأخذون الطعام، فيتوجَّهُ القولُ بإجزاء القيمة.
كتاب اللِّعان
لغة: مشتقٌّ من اللَّعْن؛ لأنَّ كل واحد من الزَّوجين يَلعَن نفسَه في الخامسة إذا كان كاذبًا.
واصطلاحًا: شهادات مؤكَّدات بأيمانٍ من الجانبينِ، مقرونة باللَّعْنِ وغضبِ الله سبحانه وتعالى.
وقد توعَّدَ الله تعالى على القذف - وهو رمي البريء بفعل الفاحشة- بأشدِّ الوعيد؛ فقال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [النُّور: 24].
ويجب جَلْدُ القاذف إذا لم يُقِمِ البينةَ - وهي أربعة شهود يَشهَدون بصحة ما قال - ثمانينَ جلدةً، ويُعَدُّ فاسقًا لا تُقبَل شهادته، إلا إن تاب وأصلح؛ قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [النُّور: 4 - 5].
فإذا قذف رجُلٌ امرأتَهُ بالزنا، ولم يستطع إقامة البينةَ؛ فله إسقاطُ حدِّ القذف عنه أو التعزير بالملاعنة؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ *وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ *وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ *} [النُّور: 6 - 9].
والدليلُ من السُّنة على مشروعية اللِّعان: ما اتفَق عليه الشيخانِ عن ابن عمر أنه لما سُئِلَ عن المتلاعنينِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: «سبحان الله! نعم، إن أولَ مَنْ سأل عن ذلك فلانُ بن فلان، قال: يا رسول الله، أرأيتَ لو وجد أحدُنا امرأتَهُ على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك، قال: فسكت النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ.
فلما كان بعد ذلك، أتاه فقال: إن الذي سألتُك عنه ابتُلِيتُ به؛ فأنزل اللهُ جل جلاله هذه الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النُّور: 6]، فتلاهنَّ عليه، ووعَظَهُ، وذكَّره، وأخبره أن عذابَ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق نبيًّا، ما كذَبتُ عليها، ثم دعاها، ووعَظَها، وأخبَرَها أن عذابَ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، قالت: لا والذي بعثك بالحق نبيًّا، إنه لكاذب، فبدأ بالرجُلِ، فشَهِدَ أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أنَّ لعنةَ الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنَّى بالمرأة، فشَهِدتْ أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أنَّ غضبَ الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرَّق بينهما».
والإجماع قائم على مشروعية اللعان في الجملة.
مسألة: يحتاج الزَّوج إلى اللِّعان إذا رأى امرأته تَزني، ولا يُمكِنه إقامة البينة، أو قامت عنده قرائنُ قويةٌ على فعلها الزنا؛ كما لو رأى رجلاً يُعرَفُ بالفجور يدخل عليها.
والحكمةُ في مشروعية اللِّعان للزوج: أن العارَ يَلحقه بزِناها، ويُفسِد فِراشه، ولئلا يَلحَقه ولدُ غيره.
مسألة: يُشترط لصحة اللعان:
1 -
أن يكون بين زوجينِ مكلَّفين، وعلى هذا إن قذف صغيرة لم تبلغ انتظر حتى تبلغ ثم تلاعن، وإن قذف مجنونة فلا لعان.
2 -
وأن يَقذِفها بزنًا.
3 -
وأن تكذِّبَهُ في ذلك، ويستمر تكذبيها له إلى انقضاء اللِّعان.
4 -
وأن يتم بحُكْمِ قاض.
5 -
أن يبدأ الزوج باللعان أولاً.
6 -
أن يأتي كل من الزوجين بالجمل الخمس وأن يُوَاليَ بينها.
مسألة: كيفية اللعان: يبدأ الزوج أولاً فيقول بحضرة القاضي أو نائبه أربعَ مرات: أشهد بالله لقد زنَتْ زوجتي هذه، ويشير إليها إن كانت حاضرةً، ويسمِّيها إن كانت غائبةً بما تتميز به، ويَزيد في الشهادة الخامسةِ: أنَّ لعنةَ الله عليه إن كان مِنْ الكاذبينَ، ثم تقول هي أربعَ مرات: أشهد بالله لقد كذَبَ فيما رماني به من الزنا، ثم تقول في الخامسةِ: وأنَّ غضَبَ الله عليها إن كان من الصادقين، وخُصَّتْ بالغضب؛ لأنَّ المغضوبَ عليه هو الذي يَعرِف الحقَّ ويَجحَدُه.
فإذا تم اللِّعانُ على الصفة التي ذكرنا، مستوفيًا لشروط صحته، فإنَّه يترتب عليه:
أولاً: سقوط حدِّ القذف عن الزَّوج إن كانت محصنة، أي بالغة عاقلة مسلمة عفيفة عن الزنا، والتعزير إن كانت غير محصنة كالمجنونة.
لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» ؛ رواه البخاري.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا» ؛ رواه أبو داود.
ثانيًا: ثبوت الفُرْقة بينهما، وتحريمها عليه تحريمًا مؤبدًا.
ثالثًا: انتفاء الولد، وهذا لا يخلو من أحوال:
أ-أن تكون حاملاً وعلم أنها زنت وهي حامل منه، فالولد له قطعًا، ولا ينتفي عنه بلعانه.
ب- إن لم تكن حاملاً وجاءت به لأقلَّ من ستة أشهر من الزنى فالولد له، ولا ينتفي عنه بلعانه.
ج- إن لم تكن حاملاً وولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى؛ فإن كان استبرأها - أي بعد أن حاضت لم يطأ حتى زنت - انتفى الولد عنه بمجرد اللعان، سواء نفاه أو لم ينفه، وإن لم يستبرئها فهاهنا أمكن أن يكون الولد منه، وأن يكون من الزاني، فإن نفاه في اللعان انتفى، وإلا لحق به؛ لأنه أمكن كونه منه، ولم ينفه.
رابعا: أنه لا نفقة لها ولا سكنى؛ لأنها بانت منه.
خامسا: أنها لا ترمى ولا يرمى ولدها بالزنى.
فرع: إذا احتاج الزوج إلى نفي الولد، مثل: أن يرى امرأته تزني في طهر لم يصبها فيه، أو تقر بالزنا فيصدقها فيعتزلها، ثم تلد ما يمكن أنه من الزاني، فله أن يلاعن لنفي الولد.
باب العِدَد
العِدَد لغةً: جمعُ عِدَّة، مِنْ العدِّ؛ وهو الحساب.
واصطلاحًا: التربُّص المحدود شرعًا؛ بسبب موتٍ، أو فُرْقةِ نكاح.
والأصل في العِدَّة: القرآن في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البَقَرَة: 228].
وأما السُّنة: فحديث سُبَيعة الأَسْلمية، وسيأتي.
والإجماع: حكاه ابن المنذِر وابن قُدَامة رحمهما الله.
مسألةٌ: الحكمة من مشروعية العِدَّة:
1 -
تعظيمُ حقِّ الله؛ بالاستجابة لأمرِه.
2 -
تعظيم حق الحمل، فيما لو كانت المفارَقةُ حاملاً، واستبراء رَحِمِ المرأة من الحَمْلِ؛ لئلا يحصل اختلاطُ الأنساب.
3 -
تعظيم حق الزَّوج المطلِّق بتمكين الزوج المطلِّق ليراجع، إذا ندم وكان الطلاقُ رجعيًّا.
1 -
! تعظيمُ عقدِ النِّكاح، وأن له حُرْمةً.
5 -
! تعظيم حق المرأة بإيجاب النفقة والكسوة والسكنى مدة العدة إذا كانت رجعية.
مسألة: العِدَّة واجبةٌ في مواضع:
الموضوع الأول: من مات عنها زوجها بالإجماع، قال الله جل جلاله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البَقَرَة: 234]، وورَدَ عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه سئل: عن رجُلٍ تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود:«لها مثلُ صداق نسائها، لا وَكْسَ ولا شطَطَ، وعليها العِدَّة، ولها الميراث» ، فقام مَعقِل بن سِنان الأشجعي، فقال:«قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَعَ بنت واشق -امرأةٍ منا- بمثلِ ما قضيتَ» ؛ رواه التِّرمِذي والنَّسَائي، وصحَّحه الترمذي.
الموضع الثاني: من طلقها بعد الدخول بها -أي الوطء- بالإجماع، قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البَقَرَة: 228].
الموضع الثالث: من خلا بها وهي مطاوِعةٌ، مع علمِه بها، وقدرتِه على وطئها، وسواءٌ كانت بالغة أو صغيرة يُوطَأ مثلُها؛ لما ورد عن عمرَ وعليٍّ رضي الله عنهما:«إذا أُجِيفَ الباب، وأُرخِيت الستورُ: فقد وجب المَهْر» ؛ رواه ابن أبي شَيْبة والبَيْهَقي بإسناد صحيح.
فإن لم يكُنْ وطءٌ أو خَلْوة، فلا تجب العِدَّة؛ قال الله جل جلاله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزَاب: 49].
فصل أقسام المعتدَّات
الأُولى: الحامل، ولو متوفًّى عنها زوجها، وعِدَّتها: وضعُ كل الحملِ؛ بشرطِ أن يتبين فيه خَلْقُ إنسان، ولو خفيًّا؛ ودليله: قول الله جل جلاله: {وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطّلَاق: 4].
الثانية: المتوفَّى عنها زوجُها بلا حمل منه، فعِدَّتها أربعة أشهر وعشَرة أيام، ولو لم يكن هناك دخول أو خَلْوة؛ قال الله جل جلاله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البَقَرَة: 234]، وعن أم سلمة قالت:«إن سُبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، وإنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تتزوج» رواه البخاري ومسلم.
فرعٌ: إن مات زوجُ رجعية -وهي مَنْ طلَّقها زوجُها طلقة، أو الطلْقة الثانية بلا عِوَض- ابتدأت عدةَ وفاةٍ؛ لأنَّ الرجعية زوجةٌ؛ قال الله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البَقَرَة: 228]؛ فسمى اللهُ جل جلاله المطلَّقة زوجة.
وإن مات زوجُ مَنْ طلقها آخرَ الطلقات الثلاثة، بنَتْ على عِدَّتها، ولم تنتقل؛ لأنها أجنبيةٌ منه.
الثالثة: ذات الحيضِ، وعِدَّتها ثلاثُ حِيَضٍ؛ قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البَقَرَة: 228]. والقَرء الحيض؛ لحديث عن عائشة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة:«اجلسي أيام أقرائك، ثم اغتسلي» رواه أحمد، وهي إنما تجلس عن الصلاة أيام الحيض.
الرابعة: من طلَّقها زوجُها ولم تَحِضْ -إما لصِغَرٍ أو لكِبَرٍ- فعِدَّتُها ثلاثة أشهر؛ قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ
أَشْهُرٍ} [الطّلَاق: 4]، ومثل ذلك: مَنْ أَيِستْ من الحيض؛ لاستئصال رحمها.
الخامسة: من ارتفع حيضُها، فعِدَّتها سنة، تسعةُ أشهر للحمل، وثلاثة أشهر للعِدَّة؛ لقضاء عمرَ رضي الله عنه.
السادسة: المستحاضة التي نسيت موضعَ حيضها، والتي أصابها الدمُ لأولِ مرة: فعِدَّتها ثلاثة أشهر.
مسألة: من فارقت زوجها بفسخ؛ لوجود عيب أو فوات شرط، والمخالعة، والمسبية، والمهاجرة، والأمة التي انتقل فيها الملك؛ فعليها الاستبراء، وهو وضع الحمل إن كانت حاملاً، فإن لم تكن فحيضة، فإن كانت آيسة أو صغيرة فشهر.
ودليل ذلك حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» ؛ رواه أحمد وأبو داود والحاكم، قال الحافظ في التلخيص:(وإسناده حسن).
فصل: في الإحداد.
الإحداد في اللغة: المنع.
وفي الاصطلاح: منع المتوفى عنها زوجها مدة العدة ما يدعو إلى نكاحها والنظر إليها.
مسألة: حكم الإحداد على الزوجة لوفاة الزوج واجب، ودليله: حديث أم عطية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحَدَّ على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا» ؛ رواه البخاري، فقوله صلى الله عليه وسلم:«تُحَدُّ» خبر بمعنى الأمر أي: لتَحُدَّ، ولأن الحادة منعت
من أشياء خاصة، وهذا يدل على وجوب الإحداد لتحريم هذه الأشياء عليها، والمحرم يجب تركه.
مسألة: وقت الإحداد: هو وقت العدة بالاتفاق؛ لما تقدم من حديث سُبيعة الأسلمية، وحديث أم عطية.
مسألة: ما تمنع منه الحادة:
1 -
الكحل وكل ما يتعلق بتجميل البدن من التحمير والتصفير، لما يأتي من حديث أم عطية.
2 -
الطيب، فلا يجوز لها أن تتطيب في بدنها ولباسها وفراشها وطعامها، كما لو شربت زعفرانًا؛ لما يأتي من حديث أم عطية، إلا إذا طهرت من حيضتها فإنها تطيب مكان الحيض؛ لحديث أم عطية رضي الله عنها:«وقد رُخِّص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نُبْذةٍ من كُستِ أظفار، وكنا نُنهى عن اتباع الجنائز» ؛ رواه البخاري ومسلم، قوله:(نُبذة) قطعة صغيرة، وقوله:(كُسْتِ أظفار) نوع من العطر والطيب القطعة منه على شكل الظفر، وقيل الصواب (كست أظفار) نسبة إلى مدينة على ساحل اليمن.
3 -
لباس الزينة، فلا يجوز لها أن تلبس ما أعد للزينة عرفًا من ثياب التجمل، ولها أن تلبسَ ما شاءت من الثياب دون أن يخص بلون معين؛ عن أم عطية قالت:«كنا ننهى أن نُحدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا نكتحلَ ولا نتطيبَ ولا نلبَسَ ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوبَ عصبٍ، وقد رُخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نُبْذَةٍ من كُسْتِ أظفار، وكنا نُنهى عن اتباع الجنائز» ؛ رواه البخاري ومسلم، قوله:(ثوبَ عصبٍ) نوع من الثياب اليمنية يعصب غزلها - أي يجمع - ويصبغ قبل أن ينسج.
4 -
الحلي: فيحرم عليها أن تلبَس أي نوع من أنواع الحلي في أي موضع من بدنها، ولو كان معتادًا يجب عليها نزعه، لحديث أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» ؛ رواه أبو داود والنسائي في المجتبى وابن حبان والبيهقي؛ قال ابن الملقن في البدر المنير: (حسن).
5 -
الخروج من المنزل الذي توفي زوجها وهي ساكنة فيه، فلا تخرج إلا لحاجة أو ضرورة؛ لما روت فريعة بنت مالك أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي; فإن زوجي لم يترك لي مسكنًا يملكه ولا نفقة، فقال:«نعم» ، فلما كنت في الحجرة ناداني، فقال:«امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» ، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فقضى به بعد ذلك عثمان؛ أخرجه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي والذهلي وابن حبان والحاكم وغيرهم.
فرع: يجوز للحادة أن تغتسل، وأن تمشط شعرها، وأن تغسل بدنها بمواد التنظيف؛ لأن الأصل الحل، وأن تأخذ سنن الفطرة من تقليم الأظفار، ونتف الإبْط، ونحو ذلك؛ لأدلة سنن الفطرة.
مسألة: يجب الإحداد على المتوفى عنها زوجها ولو كانت صغيرة أو غير مسلمة؛ لعموم الآية، فيمنع الولي الحادة الصغيرة والمجنونة مما تمنع منه الكبيرة العاقلة، كما يمنعها من سائر المحرمات.
فرع: إن تركت الحادة الإحداد أثمت، وتمت عدتها بمضي الزمان؛ لوجوب الإحداد مدة العدة وقد مضى.
باب الرَّضاعِ
الرضاع لغة: مَصُّ اللبَنِ من الثَّدْي.
وشرعًا: مَصُّ مَنْ دونَ الحولينِ لبَنَ امرأةٍ آدمية.
والأصل في الرَّضاع: القرآن؛ كما في قوله تعالى: {وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النِّسَاء: 23]. والسُّنة: كما في حديث عائشةَ رضي الله عنها مرفوعاً: «يحرُمُ مِنْ الرَّضاع ما يحرُمُ مِنْ الولادة» ؛ رواه البخاري ومسلِم.
والإجماع: حكاه ابن المنذِر والنوَويُّ رحمهما الله تعالى.
مسألةٌ: يُشترط للرَّضاع المحرِّم شروط:
1 -
أن يكون خَمْسَ رضَعاتٍ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: «كان فيما أُنْزِلَ من القرآن: عَشْرُ رضَعاتٍ معلومات يُحرِّمْنَ، ثم نُسِخْنَ بخَمْسِ رضَعاتٍ معلومات» ؛ رواه مسلِم.
ضابط الرضعة: الرضعة فَعْلة من الرضاع، فهي مرة منه، كضَرْبة وجَلْسة وأَكْلة، فمتى التقم الثدي، فامتص منه، ثم تركه باختياره من غير عارض، كان ذلك رضعة؛ لأن الشرع ورد بذلك مطلقًا، فحمل على العرف، والعرف هذا، والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيرة، أو لشيء يلهيه، ثم يعود عن قرب، لا يخرجه عن كونه رضعة واحدة، كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك، ثم عاد عن قريب لم يكن ذلك أكلتين بل واحدة.
2 -
أن يكون في الحَولينِ عند جمهور العلماء؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البَقَرَة: 233].
وعند شيخ الإسلام: المعتبَرُ انتشارُ التحريم إلى انفطام الطفل؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام» ؛ أخرجه الترمذي وصححه.
3 -
أن يكونَ مِنْ مَنفَذٍ معتاد؛ كالفم والأنف، وسواء شربه مباشرة من الثدي، أو من أنبوب أو إناء.
4 -
أن يكون لبن آدمية.
مسألةٌ: أكلُ ما جبِّنَ أو خُلِط بالماء وصفاتُهُ باقيةٌ: ينشُرُ التحريمَ، وكذا لبنُ الميِّتة.
وكذا لبن الموطوءة بعقدٍ باطل، أو زنًا؛ لكن ينشر التحريم من جهة الأم فقط.
مسألةٌ: الأحكام المترتبة على الرَّضاع:
الأولى: تحريم النِّكاح، وضابطُ انتشار التحريم: ينتشر إلى أصول المرضِعة؛ أمَّهاتها وإن علَوْن، وفروعها: بنتها، وبنات أولادها، وحواشيها؛ عمتها وخالتها، وإن علَوْن، دون فروع الحواشي؛ كبنت العمة والخالة.
وأمَّا صاحب اللبَن: فينتشر التحريم إلى أصوله؛ أمهاته وإن علون، وفروعه: بنته وبنات أولاده، وحواشيه؛ عمته وخالته وإن علون، دون فروع الحواشي؛ كبنتِ العمة والخالة.
وينتشر إلى فروع المرتضِع؛ أولاده، وأولاد أولاده، دون أصولِه وحواشيه.
الثانية: إباحة النظر والخلوة، فيجوز للمرتضع أن ينظر ويخلو إلى المرضعة وأمهاتها وبناتها وأخواتها وعماتها دون بنات الأخوات والعمات، وأن ينظر ويخلو بأمهات أبيه من الرضاع، وإن علون، وبنات أبيه من الرضاع وإن نزلن، وأخوات وعمات أبيه من الرضاع دون بناتهن.
الثالثة: المحرمية في السفر، فيكون المرتضع مَحرَمًا للمرضعة وأمهاتها وبناتها وأخواتها وعماتها دون بنات الأخوات والعمات، ومَحرَمًا لأمهات أبيه من الرضاع وإن علون، وبنات أبيه من الرضاع وإن نزلن، وأخوات وعمات أبيه من الرضاع دون بناتهن.
فرعٌ: مَنْ شك في الرَّضاع أو عدَدِه، بنى على اليقينِ؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ التحريم.
مسألةٌ: يجب على الأبِ أن يستأجر لولَدِه من يُرضِعه، إلا إذا كانت أمُّه في حبال الزَّوج؛ فيجب عليها، فإن لم تكن في حباله، فلها طلبُ أجرة رَضاعه، ويَلزَمها عند الضرورة.
مسألةٌ: يثبُتُ الرَّضاعُ بشهادة امرأةٍ مَرْضيَّة في دِينها؛ لما روى عقبة بن الحارث، أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أَمَةٌ سوداء، فقالت: قد أرضعتكما، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، قال:«وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما! فنهاه عنها» ؛ رواه البخاري ومسلم.
مسألة: رضاع الكبير، عن عائشة رضي الله عنها أن سالمًا مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت - تعني ابنة سهيل - النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعَقَل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة» ، فرجعت فقالت: إني قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة؛ رواه البخاري ومسلم.
فرضاع الكبير رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه، فلا يؤثر إلا رضاع الصغير.
باب النَّفَقات
النفقات في اللغة: جمع نفقة، والنفقة مشتقةٌ في الأصل من النُّفوق؛ وهو الهلاك، وكذلك تُطلَق على الدراهم.
وأما في الاصطلاح: فهي كفايةُ مَنْ يمُونُه؛ طعامًا وشرابًا وسكَنًا، وكسوةً ونكاحًا.
والأصل في النفقة القرآن: قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [البَقَرَة: 233].
والسُّنة: حديث عائشةَ رضي الله عنها في الصحيحين؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لهندٍ: «خُذِي ما يكفيكِ وولَدَكِ بالمعروف» .
والإجماع منعقِدٌ على ذلك.
مسألة: النفقة واجبة؛ لأن الله تعالى أمر بها؛ قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطّلَاق: 7]، كما أنها سببٌ لحفظِ النفس، وما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجبٌ.
مسألة: النفقةُ لها ثلاثة أسباب ثلاثة: النِّكاح، والقَرابة، والمِلْك.
وأقوى هذه الأسباب: هو النِّكاح؛ ولهذا يرى بعض العلماء أن النفقةَ في النِّكاح من قَبيل المعاوَضة، والعلماء يتفقون على وجوبِ نفقة الزَّوجة؛ لقول الله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطّلَاق: 7]، ولما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها، ولأنَّ الزَّوجةَ محبوسةٌ لمصلحة الزَّوج؛ فيجبُ عليه أن يُنفِقَ عليها.
والطعام والكسوة: داخلةٌ في النفقة، وكذلك السُّكْنى.
مسألةٌ: الزَّوجان لا يخلوانِ من أمرين:
الأمر الأول: أن يتفقا على شيءٍ من النفقة؛ سواءٌ اتفقا على دراهمَ، أو اتفقا على أن يأتيها بالطعام كما هو عُرْفُ الناس، فجائز؛ لأن الأمر راجعٌ إليهما.
الأمر الثاني: ألا يتفقا؛ بأن يحصُلَ بينهما نزاعٌ وشِقاق:
فالمعتبَرُ هو حال الزَّوج؛ وبه قال الشافعيُّ رحمه الله تعالى، وعلى هذا إذا كان الزَّوج غنيًّا، فإنَّه تجب عليه نفقةُ أغنياء، وإن كان فقيرًا تجب عليه نفقة فقراء؛ ودليله: قول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطّلَاق: 7].
فيُفرَض للزوجة تحت الموسر قدرُ كفايتها مِنْ أرفع أكل أهل البلد وكسوتهم وسكنهم، ولمن زوجها فقير أدنى نفقة أهل البلد.
مسألةٌ: نفقة علاج الزَّوجة:
القاعدة في باب النفقة: قول الله جل جلاله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19]، وليس من المعاشَرة بالمعروف أن لا يشتري لها علاجًا، وهذا يختلف باختلاف حال الزَّوج، إذا كانت نفقةُ العلاج من الأمور الميسَّرة للزوج، فيجب على الزَّوج أن يقوم بها، أما إذا كانت نفقةُ العلاج تحتاج إلى تكاليفَ مالية كبيرة، ونحو ذلك: فالذي يظهر أن الزَّوج لا يُلزَم بها، لكن إن التزم بها للزوجة: فهذا من حُسْنِ العِشرة للزوجة.
مسألةٌ: أدوات التجميل مِنْ الأمور التي تحتاجها النساء؛ من التحمير والتصفير؛ القاعدة كما تقدم: أنه يُرجَع إلى النفقةِ بالمعروف، وليس من
المعروف أن يَحرِمَها مثل هذه الأشياء إن كانت لا تشق عليه؛ لأنها أمور ميسورة في يد الزَّوج، ولأنَّ المرأة جُبِلتْ على حب مثل هذه الأشياء؛ من التجمُّل، ونحو ذلك، والله جل جلاله قال:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ *} [الزّخرُف: 18].
مسألةٌ: نفقة المفارَقة بطلاق أو غيره لا تخلو من ثلاثِ حالات:
الحال الأولى: أن تكون رجعيةً؛ يعني طلقها زوجُها دون ما يَملِك من العَدَد بلا عِوض، فحكمُها حكم الزَّوجة؛ تجب لها النفقةُ؛ من طعام وشراب، وكساء وسُكْنى، حتى تنتهي العِدَّة.
ويدلُّ على ذلك قولُ الله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البَقَرَة: 228]، والله جل جلاله قال:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يُخْرَجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطّلَاق: 1].
الحال الثانية: أن تكون بائنًا؛ إما بينونةً صغرى، أو بينونة كبرى، البينونة الكبرى: هي التي طلَّقها زوجُها آخِرَ ما يَملِك من العَدَد، والبينونة الصغرى: مثل المختلِعة أو المفسوخة، إن كانت حاملاً فلها نفقة، وإن لم تكن حاملاً فلا نفقةَ لها.
ويدل على ذلك: حديثُ فاطمةَ بنت قيس رضي الله عنها: أن زوجَها أبا عمرو بن حفص طلَّقها البتةَ وهو غائب، فأرسل لها وَكِيلُه بشعيرٍ، فسَخِطتْهُ، فذهَبتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لكِ عليه نفقةٌ» ؛ رواه البخاري ومسلم، وفي صحيح مسلِم: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا نفقةَ لكِ ولا سُكْنى» ، وفي سنن أبي داود:«لا نفقةَ لكِ إلا أن تكوني حاملاً» ، وفي سنن النَّسَائي:«إنما النفقةُ والسُّكْنى للمرأة إذا كان لزوجِها عليها رَجْعةٌ» .
الحال الثالثة: المتوفَّى عنها زوجها: لا نفقةَ لها ولا سكنى؛ ويدلُّ على ذلك قولُ الله جل جلاله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّسَاء: 12]، ولو قُلْنا: إن النفقةَ تجبُ لها، لكان لها أكثرُ من الرُّبع، وأكثر من الثُّمن.
مسألةٌ: إذا نشَزتِ المرأة فإن نفقتَها تسقط؛ والنشوز: هو أن تمتنع الزَّوجة من بذلِ حقِّ الزَّوج؛ إذ لا تستحق النفقة لعدم بذلها المعوض.
مسألةٌ: إذا شرعت الزَّوجة بحجٍّ أو صومٍ واجبين بلا إذن الزَّوج، فإن النفقةَ لا تسقط في هذه الحال؛ لأن الشرع أذن لها في أداء ما عليها من واجب، وأما غير الواجب لا بد من إذن الزوج.
مسألةٌ: إذا لم ينفق الزوج مدة، ثم طالبته الزوجة، فالنفقةَ تسقط بمضيِّ الزمان؛ لحديث عائشةَ رضي الله عنها في قصة هند؛ فإن هندًا أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وذكَرتْ له أن أبا سفيان رجُلٌ شحيح، وأنه لا يعطيها من النفقة ما يكفيها وبَنِيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«خُذِي ما يكفيكِ وولَدَكِ بالمعروف» ، ولم يَفرِضْ لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفقةَ ما مضى؛ وهذا القول هو الصواب، والله أعلم.
لكن إن قَدَرَت على شيء من ماله، فلها أن تأخذ قدر النفقة بالمعروف، وإن استدانت للنفقة رجعت عليه في قضاء الدين.
مسألةٌ: إذا غاب الزَّوج ولم يدَعْ لزوجته نفقةً، فهل يحقُّ للزوجة الفسخ؟
إذا غاب الزَّوج، فله أربعُ أحوال:
الأولى: أن يدَعَ لها نفقة؛ فليس لها حقُّ الفسخ.
الثانية: أن تتمكن من أخذِ النفقة من ماله؛ فليس لها حق الفسخ.
الثالثة: أن تتمكن من الاستدانة في ذمَّة الزَّوج؛ فليس لها حق الفسخ.
الرابعة: إذا لم تتمكن من شيءٍ مما سبق، يعني لم يترك لها نفقةً، ولم تتمكن من أخذِ شيءٍ من ماله، ولم تتمكن من الاستدانة: ففي هذه الحال يحق لها الفسخُ؛ وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، المالكية.
أما الشافعية والحنفية فلا يرون حقَّ الفسخ للزوجة في هذه المسألة؛ وهذا القول هو الصوابُ، والله أعلم.
مسألةٌ: هل يجب على الزَّوج أن يوفِّرَ خادمًا لزوجته؟
الأمر في ذلك راجع إلى العرف؛ فإذا كان مثلُها يُخدَم، فيجب أن يأتيَ بمن يخدُمُها، وإذا كان مثلُها لا يُخدَم فلا يجب.
السبب الثاني من أسباب النفقة القرابة، فتجب:
1 -
للأصول: الآباء والأمهات والأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأب أو الأم مطلقًا، لقوله تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النِّسَاء: 36]، ومن الإحسان الإنفاق عليهما، وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ابدأ بنفسك فتصدق عليه، فإن فَضَلَ شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» رواه مسلم.
2 -
الأولاد: الأبناء والبنات وأولادهم وإن نزلوا مطلقًا؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البَقَرَة: 233].
3 -
الحواشي، وهم الإخوة وأولادهم، والأعمام وأولادهم، وإن نزلوا؛ لما تقدم من حديث جابر رضي الله عنه؛ بشرط أن يكون المنفِق وارثًا للمنفق عليه لقوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البَقَرَة: 233]، ومع غنى المنفق وفقر المنفق عليه.
السبب الثالث: الملك، فتجب النفقة:
1 -
للرقيق بالمعروف، بأن يُطعمه مما يَطْعَم الرقيقُ في زمانه عرفًا، والأفضل أن يُطعمه مما يَطعَمُ السيد؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يُطيق» ؛ رواه مسلم.
وعن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليُطعمه مما يأكل، ولْيُلبِسُه مما يَلْبَس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» ؛ رواه البخاري ومسلم.
2 -
البهائم: فتجب لبهائمه طعامٌ، ووقاية عن الحر والبرد بالمعروف، فعن أبي هريرة مرفوعًا:«عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» ؛ رواه البخاري ومسلم.
فإن عَجَزَ مالك البهيمة عن نفقتها أُجبر على بيعها، أو إجارتها، أو ذبحها إن أُكِلَت؛ لأن بقاءها في يده مع ترك الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته.
3 -
بقية ماله، كشجره وزرعه وعَقاره وآلاته مما يحتاج إلى نفقة وصيانة إذا كان فيه مصلحة ولم يلحقه مضرة؛ للنهي عن إضاعة المال؛ روى المغيرة بن شعبة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» ؛ رواه البخاري ومسلم.
باب في أحكام الحضانة
الحضانة لغة: مصدرُ حضَن، ومنه: حضَن الطائرُ بيضَه: إذا ضمَّه إلى نفسه تحت جَناحَيه.
وشرعًا: هي حفظُ مَنْ لا يستقل بأموره، وتربيتُه بما يُصلِحه.
والأصل فيها من القرآن: قول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البَقَرَة: 195] وقول الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاء: 29]، وتركها يؤدي إلى هلاك المحظون.
ومن السنة: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنتِ أحقُّ به ما لم تَنْكِحِي» ؛ رواه أبو داود وأحمد، وإسناده حسن.
ومن الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعيتها في الجملة، قال في ابن هبيرة في الإفصاح:(واتفقوا أن الحضانة للأم مالم تتزوج).
مسألة: الحضانة واجبةٌ شرعًا؛ لأنَّ المحضون قد يَهلِكُ أو يتضرَّرُ بتركِ الحفظ.
ضابط: مدار الحضانة على مصلحة المحضون فلا يقر بيد من لا يصونه ولا يصلحه، قال ابن القيم: (الولاية على الطفل نوعان: نوع يقدم فيه الأب على الأم ومن في جهتها، وهي ولاية المال والنكاح، ونوع تقدم فيه الأم على الأب، وهي ولاية الحضانة والرضاع، وقدم كل من الأبوين فيما جعل له من ذلك لتمام مصلحة الولد، وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه، وتحصل به كفايته، ولما كان النساء أعرف بالتربية، وأقدر عليها، وأصبر
وأرأف وأفرغ لها؛ لذلك قدمت الأم فيها على الأب، ولما كان الرجال أقوم بتحصيل مصلحة الولد والاحتياط له في البضع، قدم الأب فيها على الأم، فتقديم الأم في الحضانة من محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال، والنظر لهم، وتقديم الأب في ولاية المال والتزويج كذلك).
مسألة: يشترط للحاضن شروطًا:
الأول: أن يكون بالغًا عاقلاً؛ لأن غير البالغ العاقل يحتاج من ينظر له، فلا ينظر لغيره.
الثاني: الإسلام، فلا حضانة لكافر على مسلم؛ لقول الله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النِّسَاء: 141].
الثالث: القوة والأمانة، فيشترط قدرة الحاضن على حفظ المحضون، وأمانته في رعايته وتربيته حسب الشرع؛ لقول الله تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القَصَص: 26].
الرابع: عدم تضرر المحضون، والعمل على مصلحته، فلو كان في الحاضن مرضٌ مُعْدٍ يتعدى ضرره إلى المحضون، أو كان الحاضن في مكان غير آمن، فلا حضانة له، إذ مدار الحضانة على حفظ المحضون.
مسألة: الأحق بالحضانة: الحضانة حق للشخص وحق عليه، فإذا تشاح أهلها في القيام بها فترتيبهم على درجات:
الأولى: الأب والأم، فالأحق بها الأم؛ لحديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أنت أحق به ما لم تنكحي» رواه أحمد وأبو داود إسناده حسن.
الثانية: أن يتساويا في الجهة والدرجة، أي في جهة الأبوة أو الأمومة، فالمقدم الأنثى منهما، مثل: لو اجتمع أخ وأخت، أو عم وعمة، أو خال وخالة.
الثالثة: أن يتساويا في الجهة ويختلفا في الدرجة، مثل: أخت وبنت أخت، أو عمة وبنت عمة، أو أخ وابن أخ، فالمقدم الأقرب درجة.
الرابعة: أن يختلفا في الجهة، فالمقدم جهة الأبوة على جهة الأمومة، فتقدم العمة على الخالة، والجدة من قبل الأب على الجدة من قبل الأم، والعم على الخال، ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام: " أقرب ما يضبط به باب الحضانة أن يقال: لما كانت الحضانة ولاية تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة، كان أحقُّ الناس بها أقومَهم بهذه الصفات، وهم أقاربه، يقدم منهم أقربهم إليه وأقومهم بصفات الحضانة، فإن اجتمع منهم اثنان فصاعدًا، فإن استوت درجتهم قدم الأنثى على الذكر، فتقدم الأم على الأب، والجدة على الجد، والخالة على الخال، والعمة على العم، والأخت على الأخ، فإن كانا ذكرين أو أنثيين، قدم أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما.
وإن اختلفت درجتهما من الطفل، فإن كانوا من جهة واحدة قدم الأقرب إليه، فتقدم الأخت على ابنتها، والخالة على خالة الأبوين، وخالة الأبوين على خالة الجد، والجدة والجد أبو الأم على الأخ للأم".
مسألة: تسقُطُ الحضانة بوجودِ مانع منها، أو زوالِ شرطٍ من شروطِ استحقاقِها؛ كأن تتزوج الحاضنةُ بأجنبي عن المحضون، أو يصاب الحاضن بآفةٍ؛ كالجنون والعَتَهِ، أو مرَضٍ مُعْدٍ يضرُّ بالمحضون.
مسألة: إذا تزوجت الأم بشخص ليس من عصبات المحضون سقطت الحضانة؛ لما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولقول أبي بكر رضي الله عنه:«هي أحق بولدها ما لم تتزوج» رواه عبد الرزاق.
أما إن تزوَّجتِ الأمُّ بقريبٍ للمحضون، فإن حقَّها باقٍ؛ كأن تتزوجَ بعمِّ البنت.
ولو تزوجت بأجنبي، ورضي الأجنبي أن يبقيَ الطفل عنده: فلا تسقُطُ حضانةُ الأم.
مسألة: إذا بلغ الغلام التمييز فإنه يخير بين أبويه؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلامًا بين أبيه وأمه» ؛ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.
وإذا اختار أحد الأبوين لم يمنع من زيارة الآخر بالمعروف.
وأما الأنثى فإنها تكون عند أمها حتى يتسلمها زوجها، قال ابن القيم:"فهي محتاجة إلى تعلم ما يصلح للنساء من الغزل والقيام بمصالح البيت، وهذا إنما تقوم به النساء لا الرجال، فهي أحوج إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة، وفي دفعها إلى أبيها تعطيل هذه المصلحة، وإسلامها إلى امرأة أجنبية تعلمها ذلك، وترديدها بين الأم وبينه، وفي ذلك تمرين لها على البروز والخروج، فمصلحة البنت والأم والأب أن تكون عند أمها، وهذا القول هو الذي لا نختار سواه".
مسألة: إذا أراد أحد الأبوين سفرًا للسكنى أو غيرها روعي مصلحة الطفل.
كتاب الأَيْمان
اليمين لغة: جمعها أيمان، وتُجمَع أيضًا على: أيمُن ويمائن، تذكَّر وتؤنَّث، وتصغَّر على:(يُمَيِّن) بالتَّشديد.
واصطلاحًا: تأكيد حكمٍ بذِكر اسم الله تعالى، أو صِفته، وما يلحق بذلك، على وجهٍ مخصوص.
والآيات في اليمين كثيرة؛ منها:
قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} [المَائدة: 89].
ومن السُّنة: حديثُ أبي موسارضي الله عنه؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنِّي واللهِ إن شاء الله لا أَحلِفُ على يمينٍ، فأرى غيرَها خيرًا منها، إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ منها، وكفَّرتُ عن يميني» ؛ رواه البخاري ومسلِم.
وأمَّا الإجماع: فحكاه ابن المنذِر رحمه الله تعالى؛ قال: (وأجمعوا على أنه مَنْ قال: واللهِ، أو بالله، أو تالله، فحَنِثَ: أن عليه الكفارةَ).
مسألة: المشروع حفظُ اليمين، وعدمُ الإكثار منها، ما لم تكُنْ مصلحة شرعية؛ لقول الله تعالى:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المَائدة: 89]، وحفظ اليمين يتضمنُ ثلاثةَ معانٍ:
الأول: حِفظها ابتداءً؛ وذلك بعدم كثرة الحَلِف.
الثاني: حِفظها وسَطًا؛ وذلك بعدم الحِنْثِ فيها، إلا إذا كان الحِنْثُ مشروعًا.
الثالث: حفظها انتهاءً؛ في إخراج الكفارة بعد الحِنْثِ.
وقد نص الحنابلةُ رحمهم الله على أنه يُكرَه الإكثارُ من اليمين، بحيث يصل إلى حدِّ الإفراط؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ *} [القَلَم: 10].
مسألةٌ: بيان حروف القَسَم، نص كثيرٌ من الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن حروفَ القسَمِ ثلاثةٌ فقط؛ وهي: الباء، والواو، والتاء، وألحَقَ بعض الحنفية: اللامَ بهذه الثلاثة.
مثال الباء: قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ *} [المعَارج: 40].
ومثال الواو: قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *} [النّجْم: 1].
ومثال التاء: قوله تعالى: {وَتاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ *} [الأنبيَاء: 57].
ومثال اللام: (للهِ، لا يؤخَّرُ الأجَلُ).
مسألةٌ: الحَلِفُ بأسماء الله تعالى، أسماء الله جل جلاله تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القِسم الأول: ما كان مختصًّا به سبحانه، لا يُسمَّى به غيرُه؛ مثل: الله، والإله، والرحمن، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، ونحو ذلك؛ فالحَلِفُ بهذا الاسم يمينٌ بكل حال، قال ابن المنذِر: (وأجمعوا على أنه من قال: واللهِ، أو بالله، أو تالله، فحَنِثَ: أن عليه الكفارةَ، وأجمعوا على أن مَنْ
حلف باسمٍ من أسماء الله تعالى ثم حَنِثَ: أن عليه الكفارة).
القسم الثاني: ما يُسمَّى به اللهُ جل جلاله وغيرُه، لكن يَغلِب إطلاقه على الله جل جلاله؛ مثل: الجبَّار، والرزَّاق، والمَلِك، ونحو ذلك.
فهذا إن نوى اسمَ الله تعالى، أو أطلق: فهو يمينٌ؛ لأنَّ هذا الاسمَ بإطلاقه ينصرف إلى الله جل جلاله، وإن نوى به غيرَ الله تعالى: لم يكن يمينًا؛ لأنه يُطلَق على غيره، وهذا قولُ جمهور أهل العلم.
القسم الثالث: ما يُسمَّى به اللهُ وغيره، ولا يَغلِب إطلاقه على الله؛ مثل: الحي، والعزيز، والكريم، والمؤمن، ونحو ذلك: فهذا القسم اختلف العلماءُ في حكمِ الحَلِفِ به على قولين، والأقرب: أنه يمين، وتجب الكفارةُ بالحِنْثِ فيها إذا قصد الحلفَ بالله جل جلاله، فإن أطلق أو قصَدَ غيرَ الله تعالى: لم تكن يمينًا.
مسألة: يجوز الإقسامُ بصفات الله تعالى، سواءٌ كانت ذاتيةً أو فعلية؛ فعن عبد الله بن هشام، قال: كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو آخِذٌ بيدِ عمرَ بن الخطاب، فقال له عمرُ: يا رسول الله، لأنت أحَبُّ إليَّ من كل شيء، إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحَبَّ إليك من نفسك» ، فقال له عمرُ: الآن، والله، لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«الآن يا عمرُ» ؛ أخرجه البخاري، ومن الحلف بصفات الله: الحلف بعهد الله وأمانته.
مسألة: يجوز الحلف بالقرآن، أو بالمصحف، أو بسورة، أو آية منه، أو بالتوراة، أو الإنجيل، أو الزبور، أو صحف إبراهيم أو موسى؛ لأنه حلف بصفة من صفات الله.
مسألة: الحلف بآيات الله جل جلاله، آيات الله جل جلاله تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الآيات الكونية: ويراد بها ما خلَقَهُ اللهُ وقدَّره في هذا الكون؛ كالليل والنهار، والشمس والقمر، والجبال والأشجار، والمصائب والحوادث، ونحو ذلك.
فهذه لا يجوزُ الحَلِفُ بها؛ لأنَّها حَلِفٌ بمخلوق.
القسم الثاني: الآيات الشرعية؛ وهذه على نوعينِ:
الأول: أن يراد بها وحيُ الله، المنزَّلُ على عباده: فهذه يجوز الحلفُ بها.
الثاني: أن يراد بها ما أمر اللهُ به عباده، أو نهاهم عنه، مما هو صفةٌ لهم؛ كالصلاة والصيام، والزكاة والحج، وتركِ الرِّبا والزِّنا، ونحو ذلك؛ فهذا محرَّمٌ؛ لأنَّه قسَمٌ بمخلوق.
مسألة: الحلف بغير الله جل جلاله: محرَّم، ولا يجوز؛ لحديث ابن عمرَ رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال:«ألا إنَّ اللهَ ينهاكم أن تَحلِفوا بآبائكم؛ مَنْ كان حالفًا، فليحلِفْ بالله، أو ليصمُتْ» ؛ رواه البخاري ومسلم.
والحلفُ بغير الله: شِرْكٌ؛ لِما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 22] قال: (الأنداد: هو الشِّركُ أخفى مِنْ دَبيب النمل على صَفاةٍ سوداءَ، في ظُلْمة الليل، وهو أن يقولَ: والله، وحياتِكِ يا فلانةُ، وحياتي، ويقول: لولا كلبةُ هذا لأتانا اللصوص، ولولا البطُّ في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجُلِ لصاحبه: ما شاء الله وشئتَ، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانًا؛ فإن هذا كلَّه به شِرْكٌ)؛ إسناده حسَن.
وهذا الشِّرك لا يخلو من أمرينِ:
الأول: شِرْكٌ أكبرُ؛ وذلك إذا اعتقد أن المحلوفَ به مساوٍ لله تعالى في التعظيم؛ وذلك لصرفِهِ خَصِيصةً مِنْ خصائص الخالق للمخلوق.
الثاني: شرك أصغرُ؛ وهو مجردُ الحلفِ بغير الله؛ وذلك أن العِبرة في الألفاظ الشِّرْكية بمجردِ اللفظ، وليس المقصد، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم سمَّى الحلفَ بغير الله شِرْكًا، وعليه فهو شِرك دون حاجةٍ إلى البحث في القصد.
ثم يُغلَّظُ الحكمُ بحسَب المقصد حتى يصل إلى مرتبة الشِّرك الأكبر؛ وذلك إذا قصَدَ بحَلِفه تعظيمَ المحلوف به؛ كتعظيم الله جل جلاله.
فرع: كفَّارة الحلف بغير الله تعالى: التوبةُ، وأن يقول: لا إله إلا الله؛ فعن أبي هُرَيرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حلَفَ منكم، فقال في حَلِفِهِ: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا اللهُ، ومَن قال لصاحبه: تعالَ أقامِرْك، فليتصدَّقْ» ؛ رواه البخاري.
ولما رواه أحمد؛ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: حلَفتُ باللات والعزى، فقال أصحابي: قد قُلتَ هُجْرًا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن العهدَ كان قريبًا، وإنِّي حلَفتُ باللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قل: لا إلهَ إلا اللهُ وحده ثلاثًا، ثم انفُثْ عن يسارك ثلاثًا، وتعوَّذْ، ولا تعُدْ» .
مسألةٌ: الحَلِف بالذِّمة: إذا قال: بذِمَّتي، لأفعلنَّ كذا: فإن أراد به القسمَ بغير الله تعالى، فهذا لا يجوز؛ لأنه حَلِفٌ بغير الله تعالى؛ إذ ذمَّةُ المخلوق مخلوقة، وإن أراد بالذِّمة العهدَ والمسؤولية؛ أي: إن هذا على عهدي ومسؤوليتي: فهذا ليس قسَمًا؛ فجائزٌ.
ومثلُهُ قول: (لعَمْري)، يقال: إنْ قصَدَ اليمين؛ حرُمَ؛ لأنه حلفٌ
بمخلوق، وتقدم حكمُ الحلف بالمخلوق، وإلا جاز؛ لأنه مما يجري على اللسان بغير قصد؛ ويدل عليه: ما رواه مسلِم عن عروة قال: قلتُ لعائشة: ما أرى عليَّ جُناحًا أن لا أتطوَّفَ بين الصفا والمروة، قالت:«فلَعَمْري، ما أتمَّ اللهُ حجَّ مَنْ لم يطُفْ بين الصفا والمروة» .
ومن ذلك الحلف بالأمانة لا يجوز؛ لأنه حلف بمخلوق.
مسألةٌ: الحلفُ بالكفر بالله جل جلاله، مثال ذلك: أن يقول: إن فعَلَ كذا، أو: إن لم يفعل كذا، فهو يهوديٌّ أو نصراني، أو بَرِئَ من القرآن، أو يستحل الخمر، أو الزنا، ونحو ذلك، فهذا محرَّمٌ، ومعصية لله جل جلاله، وتجب الكفارةُ بالحِنْثِ به.
ودليل ذلك: ما رواه البخاري ومسلِم، عن ثابت بن الضحَّاك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«مَنْ حلَفَ بملةٍ غير الإسلام كاذبًا متعمِّدًا، فهو كما قال، ومَن قتل نفسَهُ بحديدةٍ، عُذِّبَ به في نار جهنَّمَ» ، فسماه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حَلِفًا.
مسألة: حكمُ الحلف بالطلاق والعَتاق والنَّذْرِ:
أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالحلفِ بالله أو الصمت، وهذا يقتضي النهيَ عن الحلف بغير الله، والنهيُ يقتضي التحريمَ، فإذا حلف الإنسانُ بالعَتاق والطلاق والنَّذْر والظِّهار، مما يَقصِد به الحث أو المنع، أو التصديق أو التكذيب، ولم يَقصِدِ التعليقَ المحض؛ كأن يقول: إن لم أسافِرِ اليوم إلى مكةَ، فزوجتي طالق، أو عبدي حرٌّ، أو عليَّ صيام شهر، أو زوجتي كظَهْرِ أمي، يَقصِد بذلك الحثَّ، ونحو ذلك، فهذا في حكمِ اليمين؛ ويدل عليه قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} [المَائدة: 89]، قال ابن القيِّمِ:(فهذا صريح في أن كلَّ يمينٍ منعقدةٍ، فهذه كفَّارتُها).
وصحَّ عن ابن عمرَ، وعائشة، وأم سلَمةَ رضي الله عنهم:(أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء - كلُّ مملوكٍ لها حرٌّ، وكل مال هَدْيٌ، وهي يهودية ونصرانية، إن لم تطلِّقِ امرأتك -: كفارةَ يمينٍ واحدة).
مسألةٌ: أقسام اليمين:
الأول: اليمين اللَّغو:
وهي أنواع:
1 -
ما يجري على لسان المتكلِّم بلا قصد؛ لما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} [البَقَرَة: 225]، قالت:«أُنزِلتْ في قوله: لا والله، بلى والله» .
2 -
اليمين التي يَحلِفُها يظن صِدق نفسه؛ لحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه في قصة المُجامِع في نهارِ رمضان، وفيه قول المُجامِع للنبي صلى الله عليه وسلم:«واللهِ، ما بين لابتَيْها أهلُ بيتٍ أفقَرُ مني» ؛ متفق عليه، فيمينُ المجامع هنا على غلَبة الظن، وأقَرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك.
3 -
عند شيخ الإسلام: إذا حلف على شخصٍ، فخالَفه: فلا يَحنَثُ إذا قصد الحالفُ إكرامَه، لا إلزامَه، ويدل عليه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: «أمر أبا بكرٍ بالوقوف في الصفِّ، ولم يقف» ؛ أخرجه البخاري ومسلِم، واليمين كالأمر؛ لأنَّ المقصودَ منها الحضُّ والمنع، والأمر إذا فُهِمَ منه الإكرام لم يجب.
الثاني: اليمين الغَموس:
وهي مِنْ كبائر الذُّنوب، وسميت بذلك؛ لأنَّها تَغمِسُ صاحبَها في الإثم، ثم النار؛ لما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما الكبائرُ؟ قال:«الإشراك بالله» ، قال: ثم ماذا؟ قال: «ثم عقوقُ الوالدينِ» ، قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغَمُوس» ، قلتُ: وما اليمين الغموس؟ قال: «الذي
يقتطع مالَ امرئٍ مسلِم، هو فيها كاذبٌ».
وقد نصَّ فقهاءُ الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وابن حزم، وشيخ الإسلام رحمهم الله: على أن المرادَ باليمين الغموس: اليمينُ التي يَحلِفُها على أمر ماضٍ كاذبًا عالِمًا.
ويدخُلُ في ذلك من بابِ أَوْلى: اليمينُ التي يحلفها كاذبًا ليقتطع بها مالَ امرئ مسلِم، أو يظلم غيره، ولا تنعقدُ ولا تجب فيها كفارة؛ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} [المَائدة: 89]، وعقدُ اليمين: ما التزم فعلاً مستقبَلاً، يتردد بين حِنْثٍ وبِرّ، فخرجت اليمينُ الغموس من الأيمان المعقودة؛ فلم تَجِبْ فيها كفارة.
الثالث: اليمين المكفَّرة: هي اليمين المنعقِدة التي تجب فيها الكفارة، وهي التي يَحلِفُها على أمرٍ من المستقبل؛ أن يفعله، أو أن لا يفعله، قال ابن هُبَيرة:(وأجمعوا على أن اليمينَ المنعقِدة: هو أن يَحلِفَ على أمرٍ من المستقبل؛ أن يفعله أو لا يفعله، فإذا حَنِثَ، وجَبتْ عليه الكفارةُ).
مسألةٌ: شروط كفارة اليمين:
الشرط الأول: العقلُ
؛ فلا تنعقد يمينُ المجنون.
الشرط الثاني: البلوغ
؛ فلا تنعقد يمينُ الصغير؛ لحديث عائشةَ رضي الله عنها مرفوعًا: «رُفِعَ القلمُ عن ثلاثٍ: عن النائم حتى يستيقظَ، وعن الصغير حتى يَكبَرَ، وعن المجنون حتى يَعقِلَ أو يُفِيق» ؛ رواه أحمد وأبو داود والتِّرمِذي والنَّسَائي إسناده حسن.
الشرط الثالث: الاختيار
؛ فلا تنعقد يمين المكره.
وكذا لو أُكرِهَ على الحِنْثِ لم يَحنَثْ؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النّحل: 106]، فإذا كان المُكرَه على الكفر لا يترتَّبُ على إكراهه أثَرٌ، فكذا المُكرَه على الحِنْثِ.
الشرط الرابع: الذِّكْرُ؛ فلو حلف ناسيًا، لم تنعقد يمينُه، وكذلك لو حنث ناسيًا؛ لم يحنث؛ لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البَقَرَة: 286].
الشرط الخامس: أن يكون المحلوف عليه ممكِنًا؛ فلو حلف على مستحيل، لا تنعقد يمينُه.
مسألةٌ: يمين الغضبان،
الغضبُ ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يُزِيل العقل؛ فلا يشعُرُ صاحبه بما قال؛ فهذا لا تنعقد يمينه؛ لِما تقدم من الأدلة.
الثاني: أن يكون في مبادئه؛ بحيث لا يَمنَع صاحبَهُ مِنْ تصوُّر ما يقول وقصدِه؛ فهذا تنعقدُ يمينه.
الثالث: أن يستحكمَ الغضب ويشتد به، فلا يُزِيل عقله بالكلية، ولكن يحُولُ بينه وبين نيته؛ بحيث يندم على ما فرَطَ منه إذا زال غضَبُه؛ فلا تنعقد يمينه؛ لأنه مغلق عليه.
مسألة: يسن الحنث في اليمين إذا كان الحنث خيرًا، كمن حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب.
مسألةٌ: صرَّح الحنفية باستحباب الاستثناء في اليمين؛ ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا *} [الكهف: 23]، وحديث أبي موسى رضي الله عنه؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنِّي واللهِ إن شاء الله لا أَحلِفُ على يمينٍ، فأرى غيرَها خيرًا منها، إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ منها، وكفَّرتُ عن
يميني»؛ رواه البخاري ومسلِم، والاستجابة لأمر الله، والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، وأيضًا تيسيرُ أمر الإنسان.
وإذا استثنى في يمينه ثم حنث؛ لم تلزمه الكفارة.
مسألة: تَكْرار اليمين له صُوَر:
الأولى: تكرار اليمين على شيء واحد: فتلزمُهُ كفارة واحدة؛ وصورة ذلك: والله، لا آكُلُ هذا الخبز، والله، لا آكُلُ هذا الخبز.
الثانية: تكرار اليمين على أشياءَ مختلفة؛ وصورة ذلك أن يقول: واللهِ لا آكل اليوم، والله لا أشرب اليوم، والله لا أسافر اليوم؛ فعن كل يمينٍ كفارةٌ، قال ابن قُدَامة:(لا أعلم فيه خلافًا).
الثالثة: حلف يميناً واحدة على أشياء مختلفة؛ فكفارة واحدة، كما لو قال: والله لا أشرب ولا آكل ولا أسافر.
مسألةٌ: التَّوْرية في اليمين
تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يكون الحالف ظالمًا؛ مثل: أن يحلف على حقٍّ للغير، فهنا لا تنفعُهُ التورية، وتكون يمينه على نيةِ المستحلِف، وقد حُكِيَ الإجماعُ على هذا؛ قال النوويُّ رحمه الله تعالى:((فإذا ادعى رجُلٌ على رجل حقًّا، فحلَّفه القاضي، وورَّى، فنوَى غيرَ ما نوى القاضي: انعقَدتْ يمينُهُ على ما نواه القاضي، ولا تنفعه التورية؛ وهذا مُجمَعٌ عليه))؛ ودليله: ما رواه أبو هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «يمينُك على ما يصدِّقُك به صاحبُك» ؛ رواه مسلم.
القسم الثاني: أن يكون الحالف مظلومًا؛ مثل: أن يَحلِفَ أمام ظالم يريد أن يَظلِمَه في بدَنه، أو عِرضه، أو ماله، أو يظلم غيره؛ فيورِّي في يمينه؛
فتَنفَعه التورية.
أو يترتب على التورية ضرورةٌ أو مصلحة متعدية: كالتوريةِ لإنجاء معصومٍ، أو لإصلاحٍ بين متخاصمينِ، أو زوجينِ، أو في حال الحرب، ونحو ذلك؛ فيورِّي؛ فتنفعه التورية.
والدليل على ذلك: قوله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ *فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ *فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ *} [الصَّافات: 88 - 90]، وهذا توريةٌ من إبراهيم عليه السلام؛ إذ لم يكُنْ مريضًا حقيقةً؛ بدليل أنه كسَّر الأصنام بعد خروج قومه إلى عيدهم.
وقال أنسٌ رضي الله عنه: «أقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مُردِفٌ أبا بكر، وأبو بكر شيخٌ يُعرَفُ، ونبي الله شابٌّ لا يُعرَف، قال: ويتلقى الرجُلُ أبا بكر، فيقول: يا أبا بكرٍ، مَنْ هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجُلُ يَهدِيني السبيلَ، فيَحسَب الحاسبُ أنه إنما يعني الطريقَ؛ وإنما يعني سبيلَ الخير» ؛ أخرجه البخاري، قال الشوكاني:(وفي هذا التعريض الواقعِ من أبي بكر غايةُ اللطافة).
القسم الثالث: إذا لم يكُنِ الحالف ظالمًا، ولا مظلومًا، ولم تترتب على التوريةِ ضرورةٌ أو مصلحة متعدِّية: فلا تجوز التوريةُ في اليمين؛ لحديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «يمينُك على ما يصدِّقُك به صاحبُك» .
مسألةٌ: إبرارُ القسم واجبٌ إذا لم يكُنْ ضرَرٌ؛ لِما رواه البخاري ومسلِم عن البراءِ بن عازب رضي الله عنه، قال:«أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسَبْعٍ: بعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسَم أو المقسِم، ونصرِ المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام» .
مسألةٌ: كفارة اليمين، الكفارة لغةً: مشتقَّة من الكَفْر بالفتح؛ وهو: السَّتْر والتغطية، وفي الشرع: ما يُخرِجه الحانثُ في يمينه؛ من إطعام، أو كسوة، أو عتقٍ؛ تكفيرًا لحِنْثِهِ في يمينه.
مسألةٌ: حكم كفارة اليمين:
الوجوب حين الحِنْثِ على الفور، وقد دل على ذلك الكتابُ، والسُّنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المَائدة: 89]، ومِن حفظِ اليمين: التكفيرُ بعد الحِنْثِ.
قال ابن المنذِر: (وأجمعوا على أن مَنْ حلف باسمٍ من أسماء الله تعالى، ثم حَنِثَ: أن عليه الكفارةَ).
مسألة: يجوز أن يكفِّر الحالف قبل أن يَحنَثَ
؛ لحديث أبي موسى الأشعري؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإنِّي إن شاء الله لا أَحلِفُ على يمين، ثم أرى خيرًا منها، إلا كفَّرتُ عن يميني، وأتيتُ الذي هو خيرٌ» .
مسألة: كفارة اليمين على التخيير بين الإعتاق، والإطعام، والكساء، فإن لم يَجِدْ، ينتقِل إلى الصيام، ففي العتق والإطعام، والكسوة تخيير، وما بين هذه الأصناف الثلاثة والصيام ترتيب، فلا ينتقل للصيام حتى يَعْجِزَ عن الأصناف الثلاثة الأول، وقد بيَّن اللهُ تعالى ذلك بقوله:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المَائدة: 89].
وقد تقدم في باب الظهار بيان ما يتعلق في الكفارة من أحكام العتق والصيام والإطعام، كشروط صحة الإعتاق، والانتقال إلى الصيام، وغير ذلك، وما يتعلق بشروط التكفير بالمال، وشروط المطعم، وجنس الطعام
وقدره تقدم في كفارة الظهار.
مسألة: الكسوة: تقدم أن من خصال كفارة اليمين الكسوة، وأنها على التخيير بين الإعتاق، والإطعام، والكساء، فإن لم يَجِدْ، ينتقِل إلى الصيام.
وأقل ما يجزئ من الكسوة ما يستر في الصلاة للرجل والمرأة؛ لأن الكفارة عبادة تعتبر فيها الكسوة، فلم يجز أقل مما يستر في الصلاة كالصلاة.
فرع: اشترط العلماء في الواجب من الكسوة ما يلي:
1 -
أن يكون مما ينتفع به عرفاً، سواء كان جديداً أو لَبيساً.
2 -
أن لا يكون مَعيباً إلا اليسير من العيب فيعفى عنه.
3 -
أن يكون مما يلبسه هو وأهله.
4 -
أن يكون مباحاً، فلا يجزئ ما فيه تصاوير.
5 -
أن يكون طاهر العين، فلا يجزئ ما صنع من جلد ميتة لم يدبغ، فإن كان طاهر العين وطرأت عليه نجاسة أجزأ، لكن يخبر المسكين بالنجاسة.
6 -
يعتبر التمليك في الكسوة بخلاف الإطعام.
ولا يشترط أن يكون مَخِيطاً، كما لا يشترط في الطعام أن يكون مطبوخاً.
مسألة: مرجع اليمين:
أولاً: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتمل لفظ الحالف نيته، فتتعلق يمينه بما نواه، دون ما لفظ به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر رضي الله عنه:«وإنما لكل امرئ ما نوى» فإذا قال: والله لأنامَنَّ تحت السقف، فنام تحت السماء، وقال: أردت السقف السماء، قُبل قوله، وقدمت نيته على عموم لفظه؛ لاحتمال اللفظ للنية.
مثال آخر: قال: لأنامن على الفراش، فنام على الرمل، وقال: أردت بالفراش الأرض قُبل قوله، فإن لم يحتمل اللفظ النية لا يرجع إليها، كما لو قال: والله لآكلن تفاحة فأكل خبزًا، وقال: أردت بالتفاحة الخبزة لا يرجع للنية.
ثانيًا: إن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها؛ لدلالة ذلك على النية، فمن حلف ليقضين زيدًا حقه غدًا، فقضاه قبله، لم يحنث إذا اقتضى السبب أنه لا يتجاوز غدًا، ومثله لو حلف لا يدخل بيت زيد لوجود منكر فيها، فإذا زال المنكر ودخلها لم يحنث.
ثالثًا: إن عدم ذلك رجع إلى التعيين، فإذا حلف لا لبست هذا القميص، فجعله سراويل ولبسه، أو لا كَلَّمت هذا الصبي، فصار شيخًا، أو زوجةَ فلان هذه، فزالت الزوجية، ثم كلمهم، حنث؛ لأنه قصد عين المحلوف عليه، إلا أن ينوي ما دام على تلك الصفة فلا يحنث لتغير الصفة.
رابعًا: إن عدم ذلك رجع إلى ما يتناوله الاسم، وهو ثلاثة: شرعي، وحقيقي، وعرفي.
أما الشرعي من الأسماء ما له موضوع في الشرع وموضوع في اللغة؛ كالصلاة، فهي في اللغة: الدعاء وفي الاصطلاح: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، والصوم، والزكاة، والحج، والبيع، والإجارة، فإذا حلف لا يبيع، أو لا ينكح، فعقد عقدًا فاسدًا من بيع أو نكاح لم يحنث؛ لأن البيع والنكاح لا يتناول الفاسد.
وإذا حلف لا يصلين، لم تبرأ ذمته إلا بصلاة صحيحة مكتملة الشروط والأركان.
وأما الحقيقي: فهو الاسم الباقي على حقيقته كاللحم، فإذا حلف لا يأكل اللحم، فأكل شحمًا أو مخًّا أو كبدًا أو نحوه، لم يحنث؛ لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناول شيئًا من ذلك إلا بنية اجتناب الدسم، وإن حلف لا يلبَس شيئًا، فلبس ثوبًا أو درعًا أو نعلاً حنث؛ لأنه ملبوس حقيقةً وعرفًا.
وإن حلف لا يكلم إنسانًا، حنث بكلام كل إنسان، ولا يفعل شيئًا، فوكل من فعله، حنث إلا أن ينوي مباشرته بنفسه.
وأما العرفي: فما غلب فيه العرف على الأصل، كالراوية في العرف: للمزادة، وفي الحقيقة: الجمل الذي يستقى عليه، والغائط في العرف: للخارج المستقذر، وفي الحقيقة: لفناء الدار وما اطمأن من الأرض، فتتعلق اليمين بالعرف دون الحقيقة؛ لأن الحقيقة في نحو ما ذكر صارت كالمهجورة، ولا يعرفها أكثر الناس.
والأقرب أن يقال بالتفصيل الآتي:
1 -
إن كانت اليمين على عبادة أو عقد، قدمت الحقيقة الشرعية، ما لم تكن نية أو سبب، فمثلاً: لو حلف على فعل عبادة أو عقد، لم تبرأ ذمته إلا بفعل عبادة وعقد صحيحين.
2 -
وإن كانت على عمل أو زمن أو عين، قدمت الحقيقة اللغوية، ما لم تكن نية أو سبب أو عرف يقتضي خلاف ذلك، فمثلاً: لو حلف أن يأكل فاكهة رجع إلى تفسير الفاكهة عند أهل اللغة، ولا تبرأ ذمته إلا بهذا مالم يكن عرف.
كتاب النَّذْرِ
النَّذْرُ لغة: يطلق على معانٍ؛ منها: الإيجابُ، والتخويف.
واصطلاحًا: إيجاب المكلَّفِ على نفسه عبادةً غير واجبة عليه بأصل الشرع.
وقد دل عليه الكتابُ؛ كما في قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحَجّ: 29].
ومن السُّنة: عن عائشة رضي الله عنها؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نذَرَ أن يُطِيعَ الله، فليُطِعْهُ، ومَن نذر أن يعصيَهُ، فلا يَعصِهِ» ؛ رواه البخاري.
وقال ابن قُدَامة: (أجمع المسلِمون على صحة النَّذْر في الجملة، ولزومِ الوفاء به).
مسألة: النَّذْر: نوعٌ من أنواع العبادة، لا يجوز صرفُهُ لغير الله تعالى، فمَن نذَرَ لغير الله تعالى مِنْ قبرٍ، أو مَلَك، أو نبي، أو وليٍّ: فقد أشرك بالله الشركَ الأكبر المُخرِجَ من الملة؛ لأنه بذلك قد عبَدَ غيرَ الله.
فالذين يَنذِرون لقبور الأولياء والصالحين اليوم قد أشرَكُوا باللهِ الشركَ الأكبر والعِياذ بالله! فعليهم أن يتوبوا إلى الله، ويَحذَروا من ذلك، وليُنذِروا قومَهم لعلهم يحذرون من ذلك.
مسألة: حكمُ النذرِ ابتداءً:
إذا كان النذر معلقًا على حصول نعمة، أو اندفاع نقمة، كره النذر، وقد حرَّمه طائفةٌ من العلماء؛ لِما روى ابن عمر
رضي الله عنهما؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن النَّذْرِ، وقال:«إنَّه لا يرُدُّ شيئًا، وإنما يُستخرَجُ به من البخيلِ» ؛ رواه البخاري ومسلِم، وإن كان نذر العبادة مطلقًا كما لو نذر صلاة أو صيامًا فيستحب؛ لأن الله مدح الموفين بالنذر، إلا إن كان شاقًا فيكره؛ لأنَّ الناذر يُلزِم نفسه بشيءٍ لا يَلزَمه في أصل الشرع، فيُحرِجُ نفسَهُ ويُثقِلها بهذا النذر.
مسألةٌ: أقسام النذر:
القسم الأول: النذرُ لغير الله جل جلاله؛ كأن يقول: للوليِّ الفلاني، أو للقبر الفلاني نذر أن أتصدَّقَ، أو أذبح، ونحو ذلك؛ فهذا شركٌ أكبرُ؛ فإن النذر عبادةٌ مدح اللهُ الموفِينَ به.
القسم الثاني: نذر المستحيل؛ نذرُ ما يُحِيلُ العقلُ أو الشرع تحقُّقَه، مثاله: نذر صيام أمس، ونذر صيام أيام الحيض، أو صيام الليل، فلا ينعقدُ هذا النذر؛ لِما روى عِمران بن حُصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا وفاءَ لنَذْرٍ في معصية، ولا فيما لا يَملِكُ العبدُ» ؛ رواه مسلِم، ونذرُ المستحيل لا يَملِكه ابنُ آدم.
القسم الثالث: نذر اليمين، أو نذر اللَّجَاج والغضَبِ، وهو تعليق النذر بشرطٍ يَقصِدُ الناذرُ المنعَ من المعلَّق عليه، أو الحث عليه، أو التصديق به إذا كان خبرًا؛ كقوله: إنْ كلَّمتك، أو إن لم أضربك: فعليَّ الحج، أو صومُ سنة، أو عتقُ عبدي، أو مالي صدقة، أو إن لم أكن صادقًا: فعليَّ صومُ كذا؛ فهذا يتخيَّرُ بين الوفاء بما نذَر، أو يكفِّرُ عنه كفارةَ يمين إذا وُجِدَ الشرط؛ لأن هذا هو الواردُ عن الصحابة رضي الله عنهم في قصة ليلى بنت العجماء.
القسم الرابع: نذرُ عبادةٍ من العبادات، وهو نذرُ ما جاء في كتاب الله،
أو سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم التعبُّدُ به من الأعمال، والعبادة - كما عرَّفها شيخُ الإسلام رحمه الله تعالى -: اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه؛ من الأعمال والأقوال، الظاهرة والباطنة؛ كالصلاة، والصدَقة، والصيام، والاعتكاف، والذَّبْحِ، وغير ذلك، وهو على قسمينِ:
الأول: نذر العبادة ابتداءً؛ كأن يقولَ: لله عليَّ نذرٌ أن أصلِّيَ ركعتين، أو أن أحُجَّ، أو أن أعتمر، ونحو ذلك.
الثاني: نذر العبادة المعلَّق على وجود نعمة، أو اندفاع نِقْمة، مثال ذلك: أن يقول: إن شفى اللهُ مريضي، فللَّه عليَّ أن أصوم شهرًا، وكأن يقول: إن رَبِحتُ في هذه التجارة، فللَّه عليَّ أن أتصدَّقَ بكذا وكذا.
فهذان القسمان منعقِدان، ويجب الوفاءُ بهما؛ لعموم الآيات الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحَجّ: 29]، الدالة على الوفاء بالنَّذْر مطلقًا.
القسم الخامس: نذرُ المعصية:
مثاله: نذر شُرْبِ الخمر، أو الدُّخَان، أو الصيام حال الحيض، ونحو ذلك، قال ابن قُدَامة:(فلا يَحِلُّ الوفاء به إجماعًا)، لما رواه مسلِم عن عِمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا وفاءَ لنَذْرٍ في معصيةٍ، ولا فيما لا يَملِكُ العبدُ» ؛ رواه مسلِم.
القسم السادس: نذر المباح: وهو نذرُ ما لم يَرِدْ فيه أمرٌ ولا نهيٌ مِنْ قِبَل الشارع لذاته؛ كالأكل، والشُّرب، وركوب الدابَّة، والقيام، والقعود، والنوم، ونحو ذلك، فنذرُهُ صحيح، إلا أنه لا يَلزَمه الوفاء به، بل يُخيَّر فيه بين الفعل والتَّرْك، ولا كفارةَ عليه؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: بَيْنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب
إذ هو برجُلٍ قائم، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيلَ، نذَرَ أن يقوم ولا يقعُدَ، ولا يستظل، ولا يتكلَّم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«مُرُوهُ فليتكلَّمْ، وليستظِلَّ، وليقعُدْ، وليُتِمَّ صومَه» .
القسم السابع: النذر المكروه، مثاله: كما لو نذر طلاقَ زوجته، أو السفر وحده، أو أكل الثُّومِ، ونحو ذلك، فهذا يكره الوفاء به، ولا كفارة عليه.
القسم الثامن: النذر المبهَم، وهو النذر الذي لم يُسَمِّ ما أوجب فيه المكلَّفُ على نفسه ما نذره، قال البهوتي في كشاف القناع:(المطلَق: كعلَيَّ نذرٌ، أو لله عليَّ نذر، سواءٌ أطلق أو قال: إن فعلتُ كذا، وفعَله ولم ينوِ بنذره شيئًا معينًا).
والنذر المبهَم منعقِد، وتجب فيه كفارةُ يمين؛ لحديث عقبةَ بن عامر رضي الله عنه؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:«كفارةُ النذرِ: كفارةُ اليمين» ؛ رواه مسلم.
مسألةٌ: مشروعية الاستثناء في النَّذْر،
إذا نذَر المسلِم فإنَّه يُشرَع له أن يستثني في نذره بالمشيئة، فيقول مثلاً: إنْ شفى اللهُ مريضي، فللَّه عليَّ إن شاء الله أن أصوم يومًا، وبهذا يستفيد فائدتينِ:
الفائدة الأولى: الاستجابةُ لأمر الله، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ كما تقدم في أحكامِ اليمين.
الفائدة الثانية: أنه إذا تحقَّق ما علَّق عليه مِنْ النذر، فإنَّه لا يَلزَمه شيء.
وقد تقدم دليلُ ذلك في الاستثناء بالمشيئة في اليمين.
ضابط: الواجب بالنذر كالواجب بالشرع، وعلى هذا إذا نذر صلاة أو صومًا ونحو ذلك اشترط فيه ما يشترط في الواجب بالشرع.
مسألة: إذا نذر صوم شهر لزمه التتابع إن كان معينًا أو شرط التتابع أو نواه وكذا أن نذر صوم سنة أو أيام.
مسألة: إن نذر اعتكاف يوم دخل مُعتَكفه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإن نذر اعتكاف ليلة دخل مُعتكفه من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
مسألة: من نذر عبادة وعَجَزَ عنها فله أحوال:
الحال الأولى: أن يكون لعذر لا يرجى زواله، فينتقل إلى بدلها، كما لو نذر صيامًا وعجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى زواله، فيُطعِم عن كل يوم مسكينًا كالواجب بالشرع.
الحال الثانية: إذا نذر عبادة وعجز عنها لعذر ولم يكن لها بدل فتسقط كما لو نذر اعتكافًا وعَجَز عنه؛ لأن الواجب بالنذر كالواجب بالشرع.
الحال الثالثة: إذا نذر عبادة وعَجَزَ عنها وأمكن النيابة فيها، أناب غيره فيها، كالحج والعمرة.
الحال الرابعة: إذا نذر عبادة وعَجَزَ عنها لعذر يرجى زواله، قضاها بعد زوال العذر، كما لو نذر صلاة أو قراءة في وقت معين ثم نام عنها.
الحال الخامسة: إذا عَجَزَ عن بعض العبادة وقدر على بعضها فعل ما قدر عليه، كما لو نذر أن يقرأ القرآن مصليًا وعَجَزَ عن قراءته حال الصلاة، فيقرؤه خارجه؛ لقول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التّغَابُن: 16].
فرع: إذا نذر عبادة وغير عبادة وجب الوفاء بالعبادة؛ لحديث ابن عباس، قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه» رواه البخاري، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتم صيامه؛ لأنه عبادة، ونذر القيام وعدم القعود وعدم الاستظلال فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتمه؛ لأنه ليس عبادة، فيأخذ حكم النذر المباح أو المحرم.
مسألة: من نذر عبادة ثم مات قبل فعلها، فإن لم يتمكن من فعلها حتى مات فلا شيء،
عليه كما لو نذر أن يصوم في شعبان فمات قبله، وإن تمكن من فعلها استحب قضاؤها عنه إن كانت بدنية.
وإن كانت مالية، أو لها بدل مالي، كما لو نذر الصيام، أو تصح النيابة فيها كالحج؛ وجب قضاؤها عنه إن خَلَّفَ تركةً، فيطعم عن الصيام، ويحج عنه، وإلا استحب كما لو نذر حجًّا وتمكن منه ولم يفعله حتى مات، فإن خَلَّفَ تركةً وجب فعله وإلا فلا؛ وكما لو نذر صدقة وتمكن منها فمات ولم يفعلها وخَلَّفَ تركةً وجب إخراجها من تركته، وإلا استحب؛ لأن الواجب بالنذر كالواجب بالشرع.
كتاب الأطعمةِ
الطعامُ في اللغة:
يقعُ على كلِّ ما يُطعَمُ، حتى الماء؛ قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البَقَرَة: 249].
وقوله صلى الله عليه وسلم في ماء زمزم: «إنَّها طعامُ طُعْمٍ» ؛ رواه مسلِم.
مسألة: الأصل في الأطعمة:
الحِلُّ؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البَقَرَة: 29]، وقوله تعالى:{كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا} ، [البَقَرَة: 168] وقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المَائدة: 4]، فكلُّ مأكولٍ ومشروب الأصلُ فيه الحِلُّ.
مسألة: يحرُمُ مِنْ الطعام ما يلي:
الضابط الأول: كل مضرٍّ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البَقَرَة: 195]، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاء: 29].
فرعٌ: حكمُ تناوُلِ السمِّ، إن كانت نسبتُهُ يسيرةً، وفيه مصلحة: جاز ولا مضرة، كاستعماله في الأدوية، والحكمُ يدور مع علَّتِه؛ وجودًا وعدَمًا.
الضابط الثاني: كل نجسٍ محرَّم، والنجاسة تنقسم إلى قسمين:
أ-نجاسة عينيَّة؛ أي: ذاتها نجس كالميتة والدم المسفوح.
ب-نجاسة حُكْمية؛ وهي: التي أصلها طاهرٌ، ثم طرأت عليها النجاسةُ؛ كما لو وقَعَ بول على طعام؛ فيحرُمُ، إلا إن طُهِّر.
والدليل على أن كلَّ نجس محرَّم: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المَائدة: 3]، وقوله صلى الله عليه وسلم في الخمر:«أكفِئُوها؛ فإنَّها رِجْسٌ» .
الضابط الثالث: الحُمُر الأهلية محرَّمة؛ وهذا هو قولُ الجمهور رحمهم الله تعالى؛ خلافًا للإمام مالك رحمه الله تعالى.
والدليل: حديثُ جابرٍ رضي الله عنه: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى يوم خَيْبَرَ عن لحوم الحُمُر الأهلية، وأَذِنَ في لحوم الخيل» ؛ متفق عليه، قال ابن عبد البَرِّ رحمه الله تعالى:(لا خلاف اليوم في تحريمِها).
الضابط الرابع: كل ذي نابٍ مِنْ السباع محرَّمٌ؛ مثل: الأسَد، والنَّمِر، والذئب، والفهد، والهر، ونحو ذلك.
والدليل على ذلك: حديثُ أبي ثَعْلبة الخُشَني رضي الله عنه: «نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أكلِ كلِّ ذي ناب من السِّباع» ؛ متفق عليه، قال ابن عبد البر:(لا أعلم خلافًا في أن القِرْدَ لا يؤكَلُ، ولا يجوز بيعُه)، وذكَرَ ابن القيِّمِ أنَّ ذا النابِ لا يحرُمُ إلا إذا كان يعدو بنابه.
الضابط الخامس: كلُّ ذي مِخلَبٍ من الطير يَصِيد بمِخلَبه؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أكلِ كلِّ ذي نابٍ من السِّباع، وكل ذي مِخلَبٍ من الطير» ؛ رواه مسلم، مثل: العُقَاب، والباز، والصَّقر، والشاهين، والحِدَأة، والبُومة، ونحو ذلك.
الضابط السادس: ما أمَر الشارعُ بقَتْلِه، فإنَّه محرَّم؛ مثل: الوَزَغ، والغُرَاب الأبقع، والفأرة، والحيَّة، والعَقْرب، والكلب العقور؛ لأن الله تعالى أمر بقتلها، ولو كانت مباحة لأمر بتذكيتها.
الضابط السابع: ما نهى الشارعُ عن قتلِه؛ لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قتلِ أربعٍ من الدوابِّ: النملة، والنَّحْلة، والهُدْهد، والصُّرَد» ؛ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجَه.
الضابط الثامن: ما كان مستخبَثًا، ويمثِّلُ له العلماءُ -رحمهم الله تعالى- بالحشراتِ، كالصراصير والذباب ونحوها؛ وهذا رأيُ الجمهور رحمهم الله تعالى؛ لأن الله تعالى أحَلَّ لنا الطيِّبات، وحرَّم علينا الخبائث.
قال شيخُ الإسلام رحمه الله تعالى: (الطِّيب والخُبْث: وصفٌ قائمٌ بالأعيان، وليس المراد مجردَ التلذُّذ؛ فإن الإنسان قد يتلذَّذُ بما يضُرُّ من السُّموم؛ فالطيِّبات: المطاعمُ النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث: الضارةُ للعقول والأخلاق).
وعلى هذا، لا عِبْرةَ لاستقباح الناس واستطابتهم؛ لأنَّ منهم مَنْ يستطيب القبيحَ؛ فالحشرات تحرُمُ إذا كانت مُضرَّةً، وتدخل في القسم الأول.
الضابط التاسع: ما تولَّد مِنْ مباحِ الأكل ومحرَّم الأكل، مثل: البغل: متولد بين الفرس والحمار، والسِّمْع: متولِّد بين الذئبِ والضَّبُع، لأنه إذا اجتمع مبيح وحاظر؛ غلب جانب الحظر.
الضابط العاشر: الجلاَّلة: وهي التي علَفُها النجاسةُ؛ ودلَّ على ذلك حديثُ ابن عمرَ رضي الله عنهما: «نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أكلِ الجلاَّلة، وألبانها» ؛ رواه أحمد وأبو داود.
وقيل في تطهيرها: تُحبَسُ ثلاثًا وتطعم الطاهر؛ كما ورد عن ابن عمرَ رضي الله عنهما في مصنَّفِ ابن أبي شَيْبة رحمه الله تعالى، فإذا ظهر أثر النجاسةُ في دَمِها، أو رائحتها، أو كان يسبِّبُ أكلُها ضررًا حرمت وإلا كانت مباحة؛ لأن الأصل أن النجاسةَ تُطهَّرُ بالاستحالة.
فرع: يباحُ أكلُ لحمِ الخيل؛ قالت أسماءُ رضي الله عنها: «نحَرْنا فرَسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكَلْناه ونحن بالمدينةِ» ؛ متفق عليه.
فرع: يباحُ أكلُ الضَّبُعِ؛ وهو رأيُ الجمهور رحمهم الله تعالى، ويدل عليه: أنه صلى الله عليه وسلم جعل فيها جزاءً لمن قتَلَها وهو مُحرِمٌ؛ مما يدلُّ على أنها صيد يؤكل.
فرع: يباحُ كل ما في البحرِ؛ وهو كلُّ ما لا يعيشُ إلا في الماء؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المَائدة: 96]، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «هو الطَّهُورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيْتتُه» ؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصحَّحه التِّرمِذي.
فرع: البَرمائي: وهو ما يعيش في البَرِّ والبحر، يأخذ حكمَ حيوان البَرِّ؛ تغليبًا لجانب البر احتياطًا، وعليه فالأصلُ فيه: الحِلُّ، إلا ما دخل في ضوابطِ التحريم السابقة.
مسألة: له أن يأكلَ في حال الضرورة ما يحرُمُ،
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (يجب على المضطرِّ أن يأكل ويَشرَبَ ما يُقِيمُ نفسه، ومن اضطُرَّ ولم يأكُلْ أو يَشرَبْ، دخل النارَ).
فرع: الأكلُ من المحرَّمِ له شروط:
1 -
أن يأكل ما يسُدُّ رمَقَه؛ أي: ما يُمسِك حياتَه، والضرورة قسمانِ:
أ-أن تكون مستمرةً؛ كما في حال المجاعةِ؛ فله أن يَشبَع.
ب-أن لا تكون مستمرةً، بل طارئة؛ فيأكل ما يسُدُّ رمَقَه.
2 -
وجود حقيقة الضرورة.
3 -
أن لا يكون في سفَرٍ محرَّم؛ وهذا رأيُ الجمهور؛ ودليلُهم: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البَقَرَة: 173].
والرأي الآخَرُ لأبي حنيفةَ، واختيار شيخ الإسلام رحمهم الله تعالى: أنَّ له ذلك؛ وهو الأقربُ؛ لأن الشارع أطلق الإباحة حال الضرورة، وهذا يشمل حال الطاعة وغيرها، وأما الآية: فالمراد بالباغي: من يبغي الحرام مع قدرته على الحلال، وبالعادي: الذي يأكل أكثر من حاجته.
4 -
أن لا تندفع حاجتُهُ إلا بهذا المحرَّمِ.
مسألةٌ: إذا اضطُرَّ إلى مال الغير،
فهذا ينقسمُ إلى قسمين:
القسم الأول: أن يُضطَرَّ إلى عينِ مال الغير؛ مثل: أن يضطرَّ إلى أكلِ خبزِ زيد؛ وهذا القسمُ لا يخلو:
أ-أن يكون صاحبُهُ مضطرًّا إليه، فقيل: لا يجوز للمالك بَذْلُهُ لغيره وهو مضطرٌّ، واختار ابن القيِّمِ: جوازَ ذلك، وأنه غايةُ الجُود والسَّخاء؛ والدليل: قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحَشر: 9].
ب-أن يكون صاحبُهُ غيرَ مضطر؛ فيجب عليه أن يبذُلَه له.
فرع: إذا اضطر إلى أكل مال غيره جاز له الأكل منه ولو بلا إذن؛ دفعًا للضرورة، وهل عليه ضمانٌ إذا أكل؟
ذهب الجمهورُ: إلى أن عليه الضمان.
وعند المالكية: إذا أكل ما يسُدُّ رمَقَهُ، لا ضمانَ عليه.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أنه يُفرَّقُ بين الغني فيضمن، والفقير فلا يضمن؛ وهذا هو الأقرب.
القسم الثاني: أن يُضطَرَّ إلى نفعِ مال الغير؛ مثل: أن يحتاج أخذَ الثوب لشِدَّة البَرْد، أو السيارة للركوب، ونحو ذلك: فيجب بَذْلُهُ؛ لأنَّه تعالى ذَمَّ مَنْعَهُ بقولِهِ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ *} [المَاعون: 7].
فإن احتاج ربُّه إليه، فهو أحقُّ به من غيره؛ لتميُّزه بالمِلك.
مسألة: يجوز أن يأكل من ثمار وزروع المزارع
؛ لورودِ ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، لكن بشرطِ: ألا يَحمِلَ معه شيئًا، ولا يرمي الشجر، وألا يكون هناك ناظرٌ أو حائط، وألا يأكل مِنْ المجموع.
مسألة: تجب ضيافةُ المسلِم على المسلِم،
والدليل على ذلك: حديثُ عُقْبةَ بن عامر رضي الله عنه: قلت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنك تَبعَثُنا، فننزل بقومٍ لا يَقْرُوننا، فما ترى؟ فقال: إن نزَلتُم بقوم، فأُمِرَ لكم بما ينبغي للضيف: فاقبَلوا، وإن لم يفعلوا، فخُذوا منهم حقَّ الضَّيف الذي ينبغي له» ؛ متفق عليه، ولو لم تَجِبِ الضيافةُ، لم يأمُرْهم بالأخذ.
فرع: يلزم إيواءُ الضيف، سواءٌ في بيته، أو يستأجر له.
فرع: مدة الضيافة الواجبة: يومٌ وليلة، والأفضل: ثلاثة أيام؛ لحديث أبي شُريح الكعبي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه» رواه البخاري.
كتاب اللباس.
الأصل في اللباس الطهارة ولو لكافر
؛ لقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البَقَرَة: 29].
مسألة: ويستحب البياض،
لحديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البسوا ثياب البياض، فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم» رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وصححه الحافظ ابن حجر.
مسألة: ويكره الأحمر ونحوه، روى علي رضي الله عنه:«نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب - إلى أن قال - وعن لباس المعصفر» رواه مسلم.
ويباح ما عداه؛ لحديث أبي رِمْثَة قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وحسنه الترمذي، ولحديث عائشة قالت:«خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود» رواه مسلم.
مسألة: وتحرم الخيلاء في ثوب وغيره
؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم.
مسألة: ويحرم لبس ما فيه صورة حيوان أو صليب،
ونحو ذلك؛ لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون» رواه البخاري ومسلم، ولحديث عائشة رضي الله عنها:«أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليبُ إلا نقضه» ؛ رواه البخاري.
مسألة: ويحرم على ذكر: لُبْسُ ذهبٍ خالص
دون يسير تابع؛ لحديث البراء بن عازب رضي الله عنها قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع -إلى أن قال-: ونهانا عن خواتيم -أو عن تختم- بالذهب، وعن شرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القَسِّيِّ، وعن لُبْسِ الحرير والإستبرق والديباج» رواه البخاري ومسلم.
ولُبس حريرٍ إلا لحاجة، أو علمًا أربعة أصابع فما دون في الموضع الواحد، فإذا كان علم حرير قدره ثلاثة أصابع يكون علم القطن أو الصوف ونحو ذلك أربعة أصابع ونحو ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر رضي الله عنه:«لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» متفق عليه، ولحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:«نهى نبي الله عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع» أخرجه مسلم.
فرع: يباح للذكر من الحلي: الخاتم من غير الذهب؛ لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتخذ خاتمًا من ذهب، وجعل فَصَّه مما يلي كفه، فاتخذه الناس، فرمى به واتخذ خاتمًا من ورق أو فضة» رواه البخاري ومسلم.
وجعله بخنصر يسار أفضل، ويكره في الوسطى والسبابة، ويباح فيما عداهما؛ لما روى علي رضي الله عنه:«نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في إصبعي هذه أو هذه. قال: فأومأ إلى الوسطى والتي تليها» رواه مسلم.
مسألة: ويباح للنساء ما جرت عادتهن بلبسه
؛ لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ *} [الزّخرُف: 18].
فرع: يكره أن يمشي في نعل واحدة ولو يسيرًا، ولو لإصلاح الأخرى، مالم يكن هناك حاجة، للنهي عن ذلك في الصحيحين، ويحرم إسبال الثوب وغيره أو لبس الذكر ما يختص بالأنثى، أو بالعكس، أو لبس ثوب شهرة؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار» رواه البخاري.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبَس لبسةَ المرأة، والمرأة تلبس لِبسةَ الرجل» ؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى، وإسناده حسن.
مسألة: ومن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحتفي أحياناً،
فعن ابن عمر في عيادته صلى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة قال: «فقام وقمنا معه، ونحن بضعة عشر ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص نمشي في السباخ» ؛ رواه مسلم.
كتاب الذَّكاة
الذكاة لغةً: تمامُ الشيء؛ ومنه: الذكاء في الفَهْم، إذا كان تامَّ العقل.
واصطلاحًا: ذبحُ أو نحرُ الحيوان المأكول، البرِّي، المقدور عليه.
والأصل فيها: القرآن، والسُّنة، والإجماع.
فمِن القرآن: قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المَائدة: 3].
ومن السنة ما يأتي.
والإجماع منعقِدٌ على ذلك.
والحكمة من الذكاة: أن الحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب؛ لأنه يسارع إليه التجفيف، فإن الميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات، وإلا فالموت لا يقتضي التحريم، فإنه حاصل بالذكاة كما يحصل بغيرها، وإذا لم يكن في الحيوان دم وفضلات تزيلها الذكاة لم يحرم بالموت ولم يشترط لحله كالجراد.
وحرمت الميتة أيضًا؛ لافتقادها ذكر اسم الله عليها الذي يؤثر ذكره على المذكاة طيبًا، ويطرد الشيطان عنها، فالذكاة تطيب الحيوان حِسًّا بإخراج الدم منه، ومعنوياً بذكر اسم الله يطرد الشيطان عنها.
مسألة: ما لا يعيش إلا في الماء يباحُ بدون تذكيةٍ
؛ وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان: الجراد والحيتان، والكبد، والطحال» ؛ رواه البيهقي، وإسناده صحيح.
مسألةٌ: شروط الذَّكاة:
أولاً: كونُ المُذكِّي ممن يمكِنُ منه قصدُ التذكية؛ وهو العاقل المميِّز؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المَائدة: 3]، فدل على قصد التذكية.
ثانيًا: أن يكون المذكي مسلمًا أو كتابيًّا؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البَقَرَة: 29]، وأما المسلم فبالإجماع، قال ابن هبيرة في الإفصاح:(وأجمعوا على أن ذبائح الكفار من غير أهل الكتاب غير مباحة).
فرعٌ: يشترط لحِلِّ ذبيحة الكتابي ما يشترط لحِلِّ ذبيحة المسلِم؛ وهو رأي الجمهور.
مسألة: شروط التذكية:
أولاً: الآلة: فيَحِلُّ الذَّبْحُ بكل محدد يَنهَرُ الدمَ، غيرَ السِّنِّ والظُّفُر؛ لحديثِ رافع بن خَدِيجٍ رضي الله عنه، مرفوعًا:«ما أنهَرَ الدَّمَ فكُلْ؛ ليس السِّنَّ والظُّفُرَ» ؛ متفق عليه.
ثانيًا: قطعُ الحُلْقوم، والمَرِيء، والوَدَجينِ، وعند شيح الإسلام رحمه الله تعالى: يكفي قطعُ ثلاثةٍ من أربعة؛ وهو مذهب الحنفية.
والحُلْقوم: مجرى التنفُّس، والمَرِيء: مَجرَى الطعام، والوَدَجانِ: عِرْقان مُحيطانِ بالحُلْقوم؛ لما تقدم من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
ثالثًا: أن يكونَ في الحيوان حياةٌ مستقرة؛ وهو الذي إذا ذُكِّيَ سال منه الدمُ الحارُّ.
رابعًا: قول: باسمِ الله؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعَام: 121]، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خَدِيجٍ رضي الله عنه:«ما أنهَرَ الدَّمَ، وذُكِرَ اسمُ الله عليه: فكُلْ» ، ولا تسقُطُ سهوًا، وتكون التسمية عند حركة اليد بالذبح، ويجزئ إن تقدمت بيسير.
فرع: تجزئُ التسميةُ بلفظ الجلالة (الله) وبغيره من الأسماء المختصة بالله جل جلاله، وتكون عند حركة الذابح بالذَّبْح، ولا بد مِنْ النُّطْق بها، إلا العاجزَ، وتُجزِئ عنه الإشارة.
والحكمةُ من التسمية: أنها تطيِّبُ الذبيحةَ، وتطرُدُ الشيطان.
خامسًا: أن يَقصِدَ الأكل، فإن ذبَحَها ليُبرِئَ يمينَه، أو ليتعلَّمَ، أو ليُرِيحَها من مرض ونحو ذلك، فلا تَحِلُّ؛ وهذا اختيارُ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى؛ ودلَّ عليه: حديثُ عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: «ما مِنْ إنسانٍ يقتُلُ عصفورًا فما فوق بغيرِ حقِّها، إلا سأله اللهُ عنها، قيل: فما حَقُّها؟ قال: أن تَذبَحَها فتأكلَها، ولا تَقطَعَ رأسها فتَرمِيَها» ؛ أخرجه النَّسَائي.
سادسًا: ألا يُهِلَّ به إلا لله تعالى؛ لقول الله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البَقَرَة: 173]
فرع: ذكاة ما عجز عنه من الصيد والنعم المتوحشة الشاردة، جَرْحُه في أي موضع كان من بدنه، لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال:«ند بعير، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما ند عليكم فاصنعوا به هكذا» ؛ متفق عليه.
فرع: المنخنقة: بحبل ونحوه، والموقوذة: المضروبة بحجر ونحوه، والمتردية: الساقطة من علو، وأكيلة سبع: إذا ذكيت وفيها حياة مستقرة -إذا
ذكيت خرج منها الدم الأحمر الحار- حلت؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المَائدة: 3].
فرع: ذكاةُ الجنينِ: ذكاةُ أمِّه، ما لم يخرُجْ حيًّا وهو حي حياة مستقرة؛ فلا بد مِنْ ذَبْحه؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الجنين:«ذكاته ذكاة أمه» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححة ابن حبان وابن دقيق العيد، وحسنه الترمذي، قال ابن المنذر:(لم يرد عن أحد من الصحابة وسائر العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه إلا ما روي عن أبي حنيفة).
مسألة: آداب الذَّكاة:
1 -
يُسَنُّ توجيهُها إلى القِبلة؛ لحديث جابر رضي الله عنه رواه أحمد، وأبوداود، وفيه ضعف، ولأن الكعبة قبلة المسلمين.
2 -
يسن أن يُسرِعَ في ذبحها.
3 -
يحرم أن يذبح بآلةٍ كالَّةٍ، أو أن يكسر عنق ما ذبح، أو يسلخه قبل زهوق نفسه.
4 -
يكره أن يذبح وأختُها تنظُرُ إليها؛ لحديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحِدَّ أحدُكم شفرته، وليُرِحْ ذبيحته» ؛ رواه مسلم.
5 -
أن يواريَ المُدْيةَ عنها.
كتاب الصيدِ
الصيد: اقتناصُ حيوانٍ حلال متوحِّش طبعًا غير مقدورٍ عليه.
والأصل فيه: الكتاب: قالُ الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المَائدة: 2].
ومن السُّنَّة: حديثُ عديٍّ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
والإجماع منعقِدٌ عليه، إذا توفَّرتْ شروطه.
مسألة: الأصل في الصيدُ أنه مباحٌ،
ويُكرَه إذا شغَلَ عن مهم، أو من أجلِ اللَّهْوِ، ويحرُمُ إذا آذى الناسَ في حُرُوثهم وماشيتهم.
مسألة: مَنْ صادَ صيدًا وأدركه ميتًا،
حَلَّ بشروط:
الأول: أن يكون الصائدُ أهلاً للذَّكاة، وقد تقدم.
الثاني: الآلة؛ وهي نوعانِ:
1 -
ما له حدٌّ يُجرَح به؛ كسيفٍ، وسِكِّين، وسهم؛ فلا بد أن يَجرَحَه، ولا يقتُلَه بثِقله؛ لحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المِعراض قال: «إذا أصبت بحده فكُلْ، وإذا أصبت بعَرْضه فلا تأكل، فإنه وقيذ» ؛ متفق عليه، والمعراض: عصًا رأسها محدد.
2 -
جارحة معلَّمة؛ سواءٌ يَصِيدُ بِنابه كالكلب والفهد، أو بمِخلَبِهِ كالصقر والبازي؛ لقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المَائدة: 4]، ولها شروط:
الأول: أن يسترسِلَ إذا أُرسِل؛ لحديث عدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلت كلبَك المُعلَّم، وذكرت اسم الله عليه، فكُلْ، وإن وجدت معه غيره
فلا تأكل، فإنك إن سميت على كلبك ولم تسم على غيره»؛ متفق عليه.
الثاني: أن ينزجِرَ إذا زُجِرَ؛ أي: إذا طُلِبَ منه زيادةُ العَدْوِ، زاد في عَدْوِه.
الثالث: ألا يأكلَ إذا أمسَك؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المَائدة: 4]، وإذا أكل أمسك لنفسه، ولحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» متفق عليه.
الرابع: قصدُ الفعل؛ بأن يُرسِلَ الآلةَ لقصدِ الصيد؛ لحديث عدي رضي الله عنه السابق.
الخامس: التسميةُ عند إرسال الجارحة، أو رميِ سلاحه؛ لحديث عدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل» ؛ متفق عليه، ولا يضر إن تقدمت التسمية يسيرًا، ولو سمى على صيد فأصاب غيره حل، ويسن أن يقول مع باسم الله: الله أكبر.
السادس: قصدُ الأكل، وقد تقدَّم.
السابع: ألا يكونَ في الحرَمِ، أو حال الإحرام؛ لقوله تعالى:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المَائدة: 95]
مسألةٌ: إذا رمى صيدًا فوجَده بعد يومٍ أو يومينِ وقد مات، فإن لم يَجِدْ فيه إلا أثَرَ سهمِه، حَلَّ
؛ لحديث عديٍّ رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:«إذا رمَيتَ الصيدَ فوجَدتَهُ بعد يومٍ أو يومينِ، وليس به إلا أثَرُ سهمِك: فكُلْ، وإن وقع في الماءِ، فلا تأكُلْ» ؛ رواه البخاري.
فرع: إذا رمى الصيد فوقع في ماء يقتله ونحو ذلك، فلا يخلو من حالين:
الأول: إن كان جرحه قاتلاً فيحل ولو وقع في ماء، أو تردى من جبل.
الثاني: وإن كان جرحه غير قاتل فلا يحل؛ لعموم حديث عدي، وفيه «وإن وقع في الماء فلا تأكل» .
مسألةٌ: إذا أرسل كلبَهُ إلى صيدٍ، فوجده ميتًا، ومعه كلبٌ آخَر، فإن كان الكلبُ الآخَر معلَّمًا: حَلَّ،
وإن كان مجهولاً، لم يَحِلَّ؛ لحديث عديٍّ رضي الله عنه:«إذا أرسَلتَ كلبَك، ووجَدتَ معه كلبًا آخَرَ، لا تدري أيُّهما أخَذه: لا تأكُلْ؛ فإنما سمَّيتَ على كلبِك، ولم تُسَمِّ على غيرِه» ؛ رواه البخاري.
فرع: الصيدُ بالبُنْدُق: إن كانت بالرَّصاصِ: فهي حلالٌ، وإن كانت البُنْدُق عبارةً عن طِينٍ يُحجَّرُ ويدور: فلا يَحِلُّ؛ لأنه يقتُلُ بثِقله.
مسألةٌ: ذبائحُ أهل الكتاب
ثلاثةُ أقسام:
الأول: الذبائح التي توفَّرتْ فيها الشروطُ الشرعية: هذه حلال.
الثانية: الذبائح التي لم تتوفَّرْ فيها الشروطُ الشرعية: هذه محرَّمة.
الثالثة: ما شُكَّ فيه، الأصل فيها: أنها حلالٌ؛ لأنَّ الفعلَ الصادر مِنْ أهله يُحمَلُ على الصحة، إلا إذا قامت القرائنُ التي تقوِّي الظاهر على الأصل أنَّ هؤلاء لا يُعنَوْنَ بشروطِ الذَّكاة: فهنا يُغلَّبُ الظاهرُ على الأصل.
والحمد لله رب العالمين