المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الحمدَ لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ - المختصر في الجنايات والحدود والقضاء

[خالد المشيقح]

فهرس الكتاب

‌المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمدَ لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [آل عِمرَان: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا *} [النِّسَاء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا *} [الأحزَاب: 70 - 71].

أما بعد:

فهَذَا هو الجزءُ الرابعُ مِنْ مختصراتِ الفِقهِ (المختصرُ في الجِنَايَاتِ والحدُودِ والقَضَاءِ)، وقد بنَيْتُه على ما ثَبَتَ به الدَّليلُ مِنْ كِتابِ الله وسنَّةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وإجماعِ الأُمَّةِ، والقياسِ الصحيحِ، وآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بعبارَةٍ سهلةٍ ومعنىً واضح؛ لكي يكون في متناوَلِ الجميعِ، ويسهل تدارسه وتدريسه في الدروس العلمية للعامة والخاصة، أسألُ الله تعالى بمنِّهِ وكرمِهِ أن يبارِكَ وينفَعَ به؛ كما نفع بسابِقِه، إنه وليُّ ذلك والقادِرُ عليه، وصلَّى الله وسلَّم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 5

‌كتابُ الجناياتِ

حَقنُ الدِّماءِ، وتَعظيمُ أمرِ الاعتداءِ على الأَنفُسِ والأَعراضِ والأَموالِ مِنْ الضَّرورياتِ الخَمسِ التي اتَّفقَت عليها دعوةُ الأنبياءِ والرُّسلِ، عليهم الصلاةُ والسلامُ.

وقَد شرَعَ الإسلامُ لكلِّ واحدةٍ مِنْ هذه الضَّرورياتِ الخَمسِ أحكامًا تَكفُل إيجادَه وإقامتَه، وأحكامًا تَكفُل حِفظَه وصِيانتَه.

وتَواترَت النُّصوصُ في تَحريمِ العُدوانِ، ووَعدِ المُطيعِ بالرِّضا والرِّضوان، والعاصِي بالنِّيرانِ؛ فقال تعالى في تَحريمِ القَتلِ:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعَام: 151] إلى قولِه: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الإسرَاء: 33]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديثِ أَبي بَكْرَةَ: «إنَّ دِماءَكم وأَمْوالَكم وأَعْراضَكم عَلَيكم حَرامٌ كحُرْمَةِ يَومِكُم هذا، في شَهْرِكُم هذا، في بَلَدِكُم هذا). رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

وقال صلى الله عليه وسلم في حديثِ أَبي هُريرةَ رضي الله عنه: «اجْتَنِبوا السَّبعَ المُوبِقاتِ. قالوا: وما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقَتلُ النَّفسِ التي حَرَّم اللهُ إلا بالحقِّ

». الحديثَ، رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

وقال تعالى في عُقوبةِ القاتلِ في الآخرةِ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً *} [الفُرقان: 68 - 69].

وفي الآيةِ الأُخرَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} [النِّسَاء: 93].

ص: 6

والجِنايَاتُ: جَمعُ جِنَايةٍ، وهي لُغةً: التَّعدِّي على بَدَنٍ أو مالٍ أو عِرْضٍ.

واصطلاحًا: التَّعدِّي على البَدَنِ بما يُوجِب قِصاصًا أو مالاً أو كفَّارةً.

قال شيخ الإسلام كما في الاختيارات ص 416: "العُقوباتُ الشَّرعيَّةُ إنما شُرِعَت رحمةً مِنْ اللهِ تعالى بعِبادِه، فهِيَ صَادرةٌ عن رحمةِ الخَلقِ وإرادةِ الإحسانِ إليهم، ولهذا يَنبغِي لِمَنْ يُعاقِب الناسَ على ذُنوبِهم أنْ يَقصِد بذلك الإحسانَ إليهم، والرحمةَ لهم كَمَا يَقصِد الوالدُ تأديبَ وَلَده، وكما يَقصِد الطَّبيبُ مُعالجَةَ المريضِ".

وحِكمةُ القِصاصِ: زَجرُ النُّفوسِ عن العُدوانِ، وشِفاءُ غَيظِ المَجنيِّ عليه، وحِفظُ النُّفوسِ والأَطرافِ، وطُهْرةٌ للقاتِل، وعَدلٌ بين القاتلِ والمقتولِ، وحياةٌ للنوعِ الإنسانيِّ.

قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ} [البَقَرَة: 179]، أي: ولكُم في هذا الجِنسِ مِنْ الحُكمِ -الذي هو القِصاصُ- حياةٌ عظيمةٌ؛ لِمَنْعِه عَمّا كانوا عليه مِنْ قَتلِ جماعةٍ بواحدٍ متى اقتَدَرُوا، أو نوعٌ مِنْ الحياةِ وهو الحاصلُ للمَقتولِ والقاتلِ بالارتِداعِ عن القَتلِ؛ للعِلمِ بالاقْتِصاصِ.

وقالت العَربُ في جاهليَّتها: "القَتلُ أَنْفَى للقَتلِ، وبسَفْكِ الدماءِ تُحقَن الدماءُ"، وقال اللهُ عز وجل كلمةً أَبلغ:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ} [البَقَرَة: 179].

ص: 7

‌فصلٌ: في الجِنايةِ على النَّفْسِ.

القَتلُ المحرَّم: هو الاعتداءُ ظُلمًا وعُدوانًا على نَفسِ مَعصومِ الدَّمِ.

وقد دلَّ على حُرمتِه القرآنُ كما في قولِه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعَام: 151].

ولحديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلمٍ يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ إلاّ بإحدَى ثلاثٍ: النَّفسُ بالنَّفسِ، والثَّيِّبُ الزَّاني، والتَّاركُ لدِينِه المفارقُ للجماعةِ» متَّفَق عليه.

والإجماعُ منعقدٌ على ذلك.

ومَن قَتلَ مسلمًا عمدًا عُدوانًا فَسَق، وأَمرُه إلى الله، إنْ شاءَ عذَّبَه، وإنْ شاء غفَرَ له، وتَوبتُه مَقبولةٌ لقولِه تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً *إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *} [الفُرقان: 68 - 70]، ولقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاء: 48].

ولحديثِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «التوبةُ تَجُبُّ ما قَبلَها» . رواه مسلم، وقال ابنُ القَيِّمِ في الجوابِ الكَافي ص 102: "والتَّحقيقُ أنَّ القَتلَ تَتعلَّقُ به ثلاثةُ حُقوقٍ: حقٌّ للهِ، وحقٌّ للمَقتولِ، وحقٌّ للوَليِّ، فإذا

ص: 8

أَسلمَ القاتلُ نَفسَه طَوعًا إلى الوَليِّ، ونَدَمًا وخَوفًا مِنْ اللهِ، وتابَ توبةً نَصوحًا؛ سقَطَ حقُّ اللهِ بالتوبةِ، وحقُّ الأولياءِ بالاستِيفاءِ أو الصُّلحِ أو العَفوِ، وبَقِي حقُّ المقتولِ يُعوِّضُه اللهُ يومَ القيامةِ عن عَبدِه التائبِ، ويُصلِح بَينه وبَينه".

مسألة: القَتلُ يَنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

القسمُ الأولُ: العَمْدُ: أنْ يَقصِدَ مَنْ يَعلمُه آدميًّا مَعصومًا، فيَقتُلَه بما يَغلِبُ على الظَّنِّ مَوتُه به.

مِثلُ أنْ يَضرِبه بحَجَرٍ كَبيرٍ، أو سِكِّينٍ ونحوِه، أو بالسِّحرِ إذا كان مما يَقتل غالبًا بسؤالِ أهلِ المعرفةِ.

وأمّا القَتلُ بالعَينِ:

فقال ابنُ القيِّمِ في مَدارجِ السَّالكين (1/ 402): "إنْ كانَ ذلك بغَيرِ اختيارِه بل غَلبَ على نَفسِه؛ لم يُقتَصَّ منه وعليه الدِّيَةُ، وإنْ تَعمَّد وقَدَر على رَدِّه وعَلِم أنه يَقتُل به؛ ساغَ للوَليِّ أنْ يَقتُله بمِثلِ ما قَتلَ به، فيَعِينُه إن شاء كما عانَ هو المقتولَ، وأمّا قَتلُه بالسَّيفِ قِصاصًا فَلَا؛ لأنَّ هذا ليس مِمّا يَقتُل غالبًا، ولا هو مُماثلٌ لجنايتِه".

مسألة: القَتلُ العَمدُ ما توفَّر فيه شَرْطان:

أحدُهما: قَصدُ الجِنايةِ، والثَّاني: أنْ تكونَ الآلةُ ممّا يَقتُل في الغالِبِ.

القِسم الثَّاني: شِبْهُ العَمْدِ: أنْ يَقصِدَ جِنايةً لا تَقتُل غالبًا.

كمَن ضرَبَه في غيرِ مَقتَلٍ بسَوطٍ أو عصًا صغيرةٍ، أو لَكَزَه، ونحوِه؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما: «أَلَا إنَّ دِيَةَ الخَطَأِ وشِبهِ العَمْدِ ما كان

ص: 9

بالسَّوطِ والعَصَا: مائةٌ مِنْ الإبِلِ، منها أَربَعون في بُطونِها أَولَادهُا» رَواه أبو داودَ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَه، وصحَّحه ابنُ حِبَّانَ وابنُ القطَّان.

قال السَّرخسيُّ في المبسوطِ 26/ 65: "ثبَتَ شِبهُ العَمدِ عن صَحابةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، منهم: عمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ رضي الله عنهم، ولم يُنكِره أَحدٌ فكان إجماعًا "

القِسمُ الثَّالثُ: الخطأُ: أنْ يَفعلَ ما له فِعلُه، مِثلُ: أنْ يَرميَ صَيدًا، فيُصيبَ آدميًّا لم يَقصِدْه، ومنه عَمدُ الصَّبيِّ والمجنونِ؛ لأنه لا قَصدَ لهما، فهُما كالمكلَّفِ المُخطئِ.

مسألة: الفَرقُ بين قَتلِ العَمدِ، وشِبهِ العَمدِ، والخطأِ.

أولاً: الفَرقُ بين قَتلِ العَمدِ وشِبهِ العَمدِ:

يَتَّفق العَمدُ وشِبهُ العَمدِ في قَصدِ الجِنايةِ، والوقوعِ في الإثمِ، ووُجوبِ التَّوبةِ، ويَفترِقان فيما يَلي:

1 -

أنَّ الجِنايةَ في العَمدِ تَقتُل غالبًا، بخلافِ شِبهِ العَمدِ.

2 -

في الآلةِ في العَمدِ تَقتُل غالبًا، بخلافِ شِبهِ العَمدِ.

3 -

الدِّيَةُ في العَمدِ على القاتلِ، وفي شِبهِ العَمدِ على العاقِلَةِ.

4 -

العَمدُ لا تَجِبُ عليه الكفَّارة، وشِبهُ العَمدِ تَجِبُ عليه كفَّارة القَتلِ.

ثانيًا: الفَرقُ بين شِبهِ العَمدِ والخطأِ:

يَتَّفق شِبهُ العَمدِ والخطأِ في أمورٍ:

1 -

عدمِ قَصدِ القَتلِ.

ص: 10

2 -

أنَّ الدِّيَةَ على العاقِلَةِ.

3 -

تَجِبُ الكفَّارةُ في كلٍّ منهما.

ويَفترِقان في أمورٍ:

1 -

قَصدِ الجِنايةِ في شِبهِ العَمدِ، بخلافِ الخطأِ.

2 -

الوقوعِ في الإثمِ، ووُجوبِ التَّوبةِ، بخلافِ الخطأِ.

3 -

أنَّ الدِّيَةَ في شِبهِ العَمدِ مُغلَّظةٌ، بخلافِ الخطأِ فهي مخفَّفةٌ.

ثالثًا: الفَرقُ بين العَمدِ والخطأِ:

الفرقُ بين العَمدِ والخطأِ في أمورٍ:

1 -

أنَّ العَمدَ فيه قَصدُ الجِنايةِ والإثمِ، والخطأ ليس فيه قَصدُ الجِنايةِ ولا إثمَ فيه.

2 -

أنَّ العَمدَ الدِّيَةُ فيه على الجاني، والخطأ الدَّيَةُ فيه على عاقِلَتِه.

3 -

أنَّ العَمدَ الدِّيَةُ فيه مُغلَّظةٌ، والخطأ مُخفَّفةٌ.

4 -

أنَّ العَمدَ ليس فيه كفَّارةٌ، والخطأ فيه الكفَّارةُ.

مسألة: قَتلُ الجماعةِ بالواحدِ:

تُقتَل الجماعةُ بالواحدِ في حالتَين:

1 -

أنْ يَصلُح فِعلُ كلِّ واحدٍ لِلقتلِ لو انفرد، قال ابنُ قُدَامةَ في المُغْني 9/ 367:"وجُملَته أنَّ الجماعةَ إذا قَتلوا واحدًا فعلى كلِّ واحدٍ منهم القِصاصُ إذا كان كلُّ واحدٍ منهم لو انفرَدَ بِفِعلِه وَجَبَ عليه القِصاصُ".

ص: 11

ورَوَى سعيدُ بنُ المُسيَّبِ: " أنَّ عمرَ بنَ الخطَّابِ قَتلَ سَبعةً مِنْ أهلِ صَنعاءَ قَتلوا رجلاً وقال: لو تَمالَأَ عليه أهلُ صَنعاءَ لقَتلتُهم به جميعًا". قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في فَتحِ البَاري 12/ 327: "وهذا الأثرُ موصولٌ إلى عمرَ بأصحِّ إسنادٍ".

2 -

أو تَواطَؤُوا -اتَّفقوا- على قَتلِه قُتِلوا جَميعًا.

وإنْ سقَط القِصاصُ بالعفوِ عن القاتِلين أدَّوا دِيَةً واحدةً؛ لأنَّ القَتلَ واحدٌ فلا يَلزَمُ به أكثرُ مِنْ دِيَةٍ كما لو قَتلُوه خطأً.

مسألة: مَنْ أَكرَه مكلَّفًا على قَتلِ مُكافِئِه فَقَتلَه، فالقَوَدُ أو الدِّيَةُ عليهما؛ لأنَّ المُكرِه تَسبَّب إلى قَتلِه، والمُكرَه قَتلَه ظُلمًا.

مسألة: إنْ أَمرَ بالقَتلِ غَيرَ مُكلَّفٍ، كصغيرٍ أو مجنونٍ، فالقَوَدُ أو الدِّيَةُ على الآمِرِ؛ لأنَّ المأمورَ آلةٌ له لا يُمكِن إيجابُ القِصاصِ عليه، فوَجَب على المُتسبِّبِ به.

وإنْ أَمرَ مُكلَّفٌ بالقَتلِ مُكلَّفًا عالمًا تَحريمَ القَتلِ فالضَّمانُ عليه بالقَوَدِ أو الدِّيَةِ؛ لِمُباشرتِه القَتلَ مع عَدمِ العُذرِ، دونَ الآمِرِ بالقَتلِ فلا ضَمانَ عليه، لكن يُؤدَّب بما يَراه الإمام مِنْ ضَربٍ أو حَبسٍ، ومَن دَفَع إلى غيرِ مكلَّفٍ آلةَ قَتلٍ ولم يأمُرْه به فقَتَل، يُعزَّر الدَّافعُ.

مسألة: إنْ اشتَرَك في القتل اثنَان لا يَجِبُ القِصاصُ على أحدِهما، كأبٍ وقاتلٍ، فالقَوَدُ على الشَّريكِ؛ لأنه شارَكَ في القَتلِ العَمدِ العُدوانِ، وإنما امتَنَع القِصاصُ عن الأبِ ونحوِه لمعنًى يَختصُّ به.

فإن عَدَل وَليُّ المَجنيِّ عليه إلى طَلبِ المالِ؛ لَزِمَه نِصفُ الدِّيَةِ، كالشَّريكِ في إتلافِ مالٍ.

ص: 12

مسألة: شُروطُ وُجوبِ القِصاصِ أربعةٌ:

الشرط الأول: عِصمةُ المقتولِ بأنْ لا يَكونَ مُهدَرَ الدَّمِ، فلو قَتلَ مُسلمٌ كافرًا مُهدَرَ الدَّمِ لِكَونِه محارِبًا لِلمُسلمين، أو زانيًا مُحصَنًا وَجَب إقامةُ الحَدِّ عليه عند القاضِي؛ لم يَضمَنْه بقِصاصٍ ولا دِيَةٍ.

الشَّرطُ الثَّاني: أنْ يَكون القاتلُ بالغًا عاقلاً؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثةٍ، عن النَّائِمِ حتى يَستيقظَ، وعن الصَّبيِّ حتى يَبلُغَ، وعن الَمجنونِ حتى يُفيقَ» رواه أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرمذيُّ، وابنُ ماجَه، ولأنَّ القِصاصَ عُقوبةٌ مغلَّظةٌ، فلا يَجِبُ قِصاصٌ على صغيرٍ ولا مجنونٍ، ولا مَعتُوهٍ، ولا نائمٍ.

مسألة: مَنْ غُطِّيَ عقلُه بسُكْرٍ لا يَخلو مِنْ أَمرَين:

الأمرُ الأولُ: أنْ يَكونَ سُكرُه بِعُذرٍ، كما لو شَرِبَ مُسكِرًا يَظنُّه عصيرًا، فلا قِصاصَ عليه.

الأمرُ الثَّاني: أنْ يَكونَ لغَيرِ عذرٍ، كما لو شَرِبَ مُسكِرًا عالمًا متعمِّدًا.

جُمهورُ أَهلِ العِلمِ: وُجوبُ القِصاصِ على مَنْ زالَ عَقلُه بالسُّكرِ؛ لعُموماتِ أَدلَّةِ القِصاصِ، وللأَدلَّة على عَدمِ وقوعِ طَلاقِ السَّكرانِ.

ولأنه لو لم يَجِبْ القِصاصُ والحدُّ لأَفْضَى إلى أنَّ مَنْ أَرادَ أنْ يَعصِيَ اللهَ تعالى أن يشُربِ ما يُسكِرُه ثم يَقتل ويَزني ويَسرِق، ولا يَلزَمُه شيءٌ، ويَكونُ عِصيانُه سَببًا للتَّخفيفِ عنه.

ص: 13

وعند الشَّافعيَّةِ، وقولٌ للحنابلةِ، والظاهريَّةِ: أنَّ السَّكرانَ لا يَجِبُ عليه قِصاصٌ؛ لقولِه تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّسَاء: 43]. والسَّكرانُ لا يَعلمُ ما يَقول وما يَفعل.

ولقِصَّةِ ماعزٍ رضي الله عنه عندما أَقرَّ بالزِّنى، أَمرَ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَشَمُّه هل شَرِبَ خَمرًا، دلَّ ذلك على عَدمِ مؤاخَذةِ السَّكرانِ.

وللأدلَّةِ على عَدمِ وُقوعِ طَلاقِ السَّكرانِ.

ولأنه زائلُ العقلِ فلا يَجِبُ عليه قِصاصٌ قياسًا على المجنونِ.

ولِعَدمِ وجودِ القَصدِ منه.

الشَّرطُ الثالثُ: المُكافَأَة: بأنْ يُساويَه في الدِّينِ، فيُقتلُ المسلمُ بالمسلمِ، ولو اختَلفَا في العِلمِ، والنَّسبِ، والفَقرِ والغِنَى، والصِّحَّةِ والمرضِ، والكِبَرِ والصِّغَرِ، والعَقلِ والجنونِ، والذُّكورةِ والأُنوثةِ، وغيرِ ذلك، ويُقتلُ الكافرُ بالكافرِ، ويُقتلُ الكافرُ مطلقًا بالمسلمِ، بالإجماعِ.

واتَّفق أهلُ العلمِ على أنَّ المسلمَ لا يُقادُ بالكافرِ الحربيِّ -مَنْ بَينَنا وبينَه حربٌ-؛ لأنَّ المسلمَ مأمورٌ بقَتلِه، مُثابٌ على ذلك.

وعند جُمهورِ أهلِ العلمِ: أنَّ المسلمَ لا يُقتلُ بالذِّمِّيِّ؛ لحديثِ عليِّ بنِ أَبي طالبٍ رضي الله عنه، وفيه قولُه عليه الصلاة والسلام:«ولا يُقتَلُ مُسلمٌ بِكَافِرٍ» . رَواه البخاريُّ.

ولاِنتفاءِ المُساواةِ بين المؤمنينَ والكفَّارِ، قال تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ *} [السَّجدَة: 18]، ولقولِه تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحَشر: 20]، وغيرِ ذلك مِنْ الآياتِ الدَّالةِ لهذا المعنى.

ص: 14

ولِحَديثِ عليٍّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمِنونَ تَتكَافَأُ دِمَاؤُهُم وهُم يَدٌ على مَنْ سِوَاهُم، ويَسعَى بِذِمَّتِهِم أَدنَاهُم، ألَا لا يُقتَلُ مُؤمنٌ بِكَافرٍ ولا ذُو عَهدٍ في عَهدِه» . رَواه أَبو داودَ.

ولِحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذُو عَهدٍ في عَهدِه» . رَواه أحمدُ والتِّرمذيُّ وابنُ ماجَه.

لكنْ عند المالكيَّةِ واللَّيثِ بنِ سعدٍ: أنه يُقتل المسلمُ بالذِّمِّيِّ إذا قتله غِيلةً -وهو قَتلُ الرَّجُلِ خُفْيةً لأخذِ مالِه-؛ لقولِه تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المَائدة: 33]، ولأنَّ قَتلَ المسلمِ بالذِّمِّيِّ إذا قَتلَه غِيلةً ليس قِصاصًا وإنما هو حَدٌّ، كقتلِ المُحارِبِ.

مسألة: عند الحنفيَّةِ، وبه قال الثَّوريُّ، وقتادةُ: أنَّ الحُرَّ يُقتلُ بالعبدِ، إلاّ إنْ كان سيِّدًا له.

واستدلُّوا على قَتلِ الحُرِّ بالعبدِ: بعُموماتِ وُجوبِ القِصاصِ، كقولِه تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البَقَرَة: 178]، و {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المَائدة: 45]، و {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ} [البَقَرَة: 179].

وحديثِ ابنِ مسعودٍ المتقدِّم: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ إلاّ بإحدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفْسُ بالنَّفْسِ، والتَّاركُ لِدِينِه المُفارقُ للجَماعةِ» . متَّفق عليه.

وللحديثِ المتقدِّمِ: «المسلِمونَ تَتكافَأُ دِمَاؤُهُم» .

واستدلُّوا على أنه لا يُقتلُ السيِّدُ بعَبدِه: بقولِه تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسرَاء: 33]، ووَليُّ العبدِ هو مَولاهُ، فإذا كان هو الوَليَّ

ص: 15

لم يَثبتْ له قِصاصٌ على نَفسِه.

وبما وَردَ عن عمرَ رضي الله عنه أنه قال: "لو لم أَسمَع رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يُقادُ المملوكُ مِنْ مَولاهُ، ولا الوالدُ مِنْ وَلَدِه»؛ لَأَقَدْتُك منه". رَواه النَّسائيُّ.

الشَّرطُ الرابعُ: عَدمُ الوِلادَةِ: بأنْ لا يَكونَ المقتولُ ولَدًا للقاتلِ وإن نَزلَ، ولا لِبِنتِه وإن نزَلَتْ، فلا يُقتلُ أَحدُ الأَبوَين أو الأجدادِ أو الجدَّاتِ بالولدِ وإنْ سَفَلَ؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام:«لا يُقتل والدٌ بوَلدِه» أَخرجَه أحمدُ والتِّرمذيُّ، قال ابنُ عبدِ البَرِّ:"هو حديثٌ مشهورٌ عند أهلِ العِلمِ بالحجازِ والعراقِ، مُستَفِيضٌ عندهم"، وللنُّصوصِ التي أَوجَبَت بِرَّ الوالدَين، كقولِه تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسرَاء: 23]، وقولِه تعالى:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15].

ولِحديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: "قلتُ: يا رسولَ اللهِ أيُّ العملِ أحبُّ إلى اللهِ؟ فقال: «الصَّلاةُ على وَقتِها» قلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «بِرُّ الوَالِدَين» ، قلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: «الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ» . متَّفقٌ عليه.

ولِحديثِ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أنتَ ومَالُكَ لأِبِيكَ» . رَواه ابنُ ماجَه وغيرُه.

ولأنه وَردَ عن عمرَ رضي الله عنه: أنه قضَى على الأبِ بالدِّيَةِ المغلَّظةِ بِقَتلِ ابنِه ولم يَقتُلْه به.

والمشهورُ عند المالكيَّةِ: أنَّ الوالدَ إذا ظهَر منه قَصدُ العَمدِ في قَتلِ ولدِه بأنْ أَضجَعه على الأرضِ فذَبَحه بالسِّكِّين أو شَقَّ بَطنَه؛ قُتِل به؛ لأنَّ هذا العملَ لا يَحتَمِل قَصدَ التَّأديبِ، وإنْ قَتَله حَذفًا بالسَّيفِ ونحوِه لم يُقتَلْ به؛ لاحتمالِه قَصدَ التَّأديبِ.

ص: 16

ويُقتل الولدُ بكُلٍّ مِنْ الأبوَين وإنْ عَلَوَا؛ لعُمومِ قولِه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البَقَرَة: 178]، وخُصَّ منه ما تَقدَّم بالنَّصِّ.

مسألة: متَى وَرِثَ قاتلٌ أو ولدُه بعضَ دَمِ المقتول فلا قَوَدَ، فلَو قَتلَ أخَا زوجتِه فوَرِثَتْه، ثم ماتَت فوَرِثَها القاتلُ أو ولدُه فلا قِصاصَ؛ لأنَّ القصاص لا يَتبعَّضُ.

ص: 17

‌فصلٌ: في استِيفاءِ القِصاصِ.

وهو فِعلُ مَجنيٍّ عليه، أو فِعلُ وَليِّه بِجَانٍ مِثلَ فِعلِه أو شِبهَه.

يُشتَرط له ثلاثةُ شُروطٍ:

أحدُها: كَونُ مُستحِقِّه بالغًا عاقلاً فإنْ كان مُستحِقُّ القِصاصِ صَبيًّا أو مَجنونًا لم يُستَوفَ حتى يَبلُغَ الصَّغيرُ ويَعقِلَ المجنونُ؛ لأنَّ معاويةَ بنَ أَبي سُفيانَ حَبَس هُدْبَةَ بنَ خَشْرَمٍ حتى بَلَغ ابنُ القتيلِ، وذلك في عَصرِ الصَّحابةِ فلَم يُنكَرْ.

فإنْ كان بعضُ المستحِقِّين بالغًا عاقلاً، وبعضُهم صَغيرًا أو مَجنونًا، استُوفِيَ القِصاصُ بطَلَبِ البالغِ العاقلِ؛ للعُموماتِ الواردةِ في القَوَدِ، ومنها قولُه تعالى:{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المَائدة: 45]، وقولُه تعالى:{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البَقَرَة: 194]، وقولُه تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشّورى: 40].

ولأنَّ الحسنَ بنَ عليٍّ رضي الله عنه قتَلَ عبدَ الرَّحمنِ بنَ مُلجِمٍ قاتلَ أبيه ولم يَنتظرْ الصِّغارَ.

الشَّرطُ الثَّاني: اتِّفاقُ مستحِقِّي الدَّمِ على القِصاصِ، فإنْ عَفَا بعضُ الوَرَثةِ سقَطَ القِصاصُ؛ لقولِه تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البَقَرَة: 178]، فقوله تعالى:{شَيْءٍ} [البَقَرَة: 231] نَكِرةٌ في سِياقِ الشَّرطِ فتَعُمُّ، فتَشمَلُ الآيةُ كلَّ وَليٍّ، سواءٌ كان رَجُلاً أو امرأةً.

ولأنَّ القِصاصَ لا يَتجزَّأُ، فإذا عَفَا بعضُ الوَرَثةِ سقَطَ حقُّه، ولا يُمكن استيفاءُ نَصيبِ مَنْ لم يَعفُ دُونَ العَافِي.

ص: 18

وليس لِبعضِهم أنْ يَنفردَ به، فيَنتظِرُ الغائبَ؛ لأنه يَكون مُستوفيًا لحقِّ غيرِه بغيرِ إذنِه، ومَن ماتَ قامَ وارِثُه مَقامَه.

الشرط الثالثُ: أنْ يُؤمَن في الاستِيفاءِ أنْ يَتعدَّى الجانيَ؛ لقولِه تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسرَاء: 33].

فإذا وجَبَ على حامِلٍ لم تُقتَلْ حتى تضَعَ الولدَ وتَسقِيَه اللَّبَأَ، ثم إنْ وُجِدَ مَنْ يُرضِعُه، وإلاّ تُرِكَت حتى تَفطِمَه.

ولا يُقتَصُّ مِنْ الحامِلِ في طَرفٍ كاليَدِ والرِّجلِ حتى تَضعَ، والحدُّ بالرَّجمِ إذا زَنَت المُحصَنةُ الحاملُ في ذلك كالقِصاصِ، فلا تُرجَمُ حتى تَضعَ وتَسقِيَه اللَّبَأَ، ويوجدَ مَنْ يُرضِعُه، وإلاّ فحتَّى تَفطِمَه. لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للغامديَّةِ:«اِرْجِعِي حتَّى تَضعِي ما في بَطنِكِ» ، ثمَّ قال لَها:«اِرْجِعِي حتَّى تُرضِعِيه» . رَواه مسلمٌ.

مسألة: يُقتَصُّ مِنْ القاتلِ على الوجهِ الذي قَتلَ به القَتيلَ، فإنْ قَتَله بالإغراقِ قُتِلَ بالإغراقِ، وإنْ أَلْقاه مِنْ شاهقٍ أُلقِيَ مِنْ شاهقٍ، وإنْ مَنعَه مِنْ الطعامِ مُنِعَ مِنْ الطعامِ، ونحوُ ذلك.

لقولِه تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النّحل: 126] فدَلَّت الآيةُ على وُجوبِ المُمَاثَلةِ في القِصاصِ، ولقولِه تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البَقَرَة: 194].

ولِحديثِ أنسٍ رضي الله عنه في الجاريةِ التي رُضَّ رأسَها بين حَجرَين، فسُئِلَت مَنْ فعَلَ بكِ هذا؟ حتى ذَكرُوا اسمَ يهوديٍّ فأَوْمَأَت برأسِها أنْ نعم، فأمرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فرُضَّ رأسُه بين حَجرَين. متَّفق عليه.

ص: 19

مسألة: إذا حَصلَ القَتلُ بفِعلٍ محرَّمٍ:

يُقتَل الجانِي بفِعلٍ مباحٍ يُشبِه ما فَعلَه بالمَجنِيِّ عليه إذا أَمكَن، كما لو قَتلَه بَسَقْيِ الخَمرِ قُتِلَ بِسَقْيِه شرابًا مباحًا حتى يَموتَ، ونحوِ ذلك؛ لأَجْلِ المُمَاثلةِ.

ولا يَجوز تَبنِيجُ الجانِي قَبلَ القِصاصِ بحيثُ لا يَشعُر بأَلمٍ؛ لأنه قد آلَمَ القَتيلَ، فيَنبغي أنْ يَذوقَ ما أَذاقَه المجنيُّ عليه.

مسألة: العَفوُ عن القِصاصِ.

العَفوُ: التَّجاوُز عن الذَّنبِ وتَركُ العِقابِ عليه، وأصلُه المَحْوُ والطَّمسُ.

وكان القِصاصُ حَتمًا على اليهودِ ومُحرَّمٌ عليهم العفوُ والدِّيَةُ، وكانت الدِّيَةُ حَتمًا على النَّصارى وحرامٌ عليهم القِصاصُ، فخُيَّرَت هذه الأُمَّةُ تَخفيفًا ورَحمةً.

والأصلُ في العفوُ: الكتابُ، والسُّنةُ، والإجماعُ.

قال اللهُ تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البَقَرَة: 178].

ومِن السُّنةِ ما يأتي مِنْ حديثِ أَبي هريرةَ رضي الله عنه، وأَجمَع المُسلِمونَ على مَشروعيَّتِه.

وعفوُه مجَّانًا أفضلُ إنْ كان في العفوِ إصلاحٌ.

لقولِه تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البَقَرَة: 237]، ولِحديثِ أَبي هريرةَ مَرفوعًا:«ما عَفَا رَجُلٌ عن مَظْلَمَةٍ إلاّ زَادَه اللهُ بها عِزًّا» . رَواه مسلمٌ.

ص: 20

قال شيخُ الإسلامِ: "استِيفاءُ الإنسانِ حَقَّه مِنْ الدَّمِ عَدلٌ، والعفوُ إحسانٌ، والإحسانُ هُنا أَفضلُ، لكنَّ هذا الإحسانَ لا يَكونُ إحسانًا إلاّ بَعدَ العَدلِ، وهو ألَا يَحصُلَ بالعفوِ ضَرَرٌ، فإذا حصَلَ به ضَرَرٌ كان ظُلْمًا مِنْ العافِي إمّا لِنَفسِه وإمّا لِغَيرِه، فلا يُشرَع".

مسألة: يَجِبُ بالقَتلِ العَمدِ: القَوَدُ، أو الدِّيَةُ، فيُخيَّر الولِيُّ بينهما؛ لِحديثِ أَبي هريرةَ مرفوعًا:«مَنْ قُتِل له قَتيلٌ، فهو بِخَيرِ النَّظرَين، إمّا أنْ يُودَى وإمّا أنْ يُقادَ» . رَواه البخاريُّ ومسلم.

مسألة: حَقُّ العَفوِ لِجَميعِ الوَرَثةِ رِجالاً كانوا أو نِساءً، وَرِثُوا بالفَرضِ أو بالتَّعصيبِ.

وحُجَّتُهم: حديثُ أَبي هريرةَ رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ قُتِل له قَتيلٌ، فهو بِخَيرِ النَّظرَين، إمّا أنْ يُودَى وإمّا أنْ يُقَادَ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

مسألة: في القَتلِ غِيلَةِ.

اختلَفَ أهلُ العِلمِ في ضابطِ القَتلِ غِيلةً.

قال القَارِي: "الغِيلَةُ أنْ يُخدَع ويُقتَلَ في مَوضعٍ لا يَراه فيه أَحدٌ".

وقِيلَ: هو قَتلُ الرَّجُلِ خُفْيةً لِأَخْذِ مالِه.

وقال شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ: "أمّا إذا كان يَقتُل النُّفوسَ سِرًّا لأِخذِ المالِ، مِثلَ الذي يَجلس في خانٍ يَكْرِيه لأِبناءِ السَّبيلِ فإذا انْفرَد بِقَومٍ منهُم قَتَلهم، وأَخَذ أموالَهم، أو يَدْعو إلى مَنزلِه مَنْ يَستأجرُه لِخياطةٍ أو طِبٍّ، أو نحوِ ذلك، فيقتُلُه ويأخُذ مالَه، فهذا يُسمَّى القَتلَ غِيلةً".

وليس لِوُلاةِ الَمقتولِ أنْ يَعفُوا، بل ذلك إلى السُّلطانِ يَقتُل فيه القاتلَ.

ص: 21

لِقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المَائدة: 33]. قالوا: وقَتلُ الغِيلةِ مِنْ الحِرابَةِ.

ولِحَديثِ أنسٍ رضي الله عنه قال: "لمّا قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُرَيْنةَ وعُكْلٍ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم اجْتَوَوا المدينةَ، فشَكَوا ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم. فقال:«لَو خَرَجتُم إلى إِبِلِ الصَّدَقةِ فَشَرِبتُم مِنْ أَبوَالِها وأَلبَانِها» ، ففَعَلُوا، فلمّا صَحُّوا عَمَدُوا إلى الرُّعاةِ فقَتَلُوهم، واسْتَاقُوا الإِبِلَ، وحارَبُوا اللَه ورسولَه، فبَعثَ رسولُ اللهِ في آثارِهم فأُخِذُوا فقَطَع أَيدِيَهم وأَرجُلَهم، وسَمَلَ أَعيُنَهم، وأَلْقاهُم في الشَّمسِ حتى ماتُوا). رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

قال ابنُ القَيِّمِ: "وهذا الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ قَتلَ الغِيلةِ، يُوجبُ قَتلَ القاتلِ حَدًّا، فلا يُسقِطُه العفوُ".

ولِحَديثِ أنسٍ رضي الله عنه: (أنَّ يَهوديًّا رَضَّ رأسَ جارِيَةٍ بينَ حَجرَين، على أَوْضَاحٍ لها، أو حُلِيٍّ، فأُخِذ، واعْتَرفَ، فأمَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُرَضَّ رأسُه بينَ حَجرَين» -تقدَّم قريبًا-.

وظاهرُ الحديثِ: أنَّ قَتلَ الغِيلةِ لا يُشترَط فيه إِذنُ الولِيِّ، فإنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لم يَدفَعْه إلى أَولِيائِها، ولم يَقُلْ إنْ شِئتُم فاقتُلوه، وإنْ شِئتُم فاعفُوا، بل قَتلَه حَتمًا.

مسألة: يَجوزُ الصُّلحُ عن القِصاصِ إلى مالٍ، سَواءٌ كان هذا المالُ قَليلاً أو كَثيرًا؛ لقولِه تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البَقَرَة: 178]، قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: نَزلَت الآيةُ في الصُّلحِ عن دمِ القَتلِ العَمْدِ.

ص: 22

ولِحديثِ عبدِ اللِه بنِ عمرٍو رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَتلَ مُتعمِّدًا دَفعَ إلى أَولياءِ المَقتولِ فإنْ شَاؤُا قَتلُوا، وإنْ شَاؤُا أَخذُوا الدِّيَةَ، وهي ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ جَذَعَةً، وأَربَعُونَ خَلِفَةً، وذلك عَقْلُ العَمدِ، وما صالَحُوا عليه فهُو لَهُم، وذلك تَشديدُ العَقْلِ» . رَواه ابنُ ماجَه والتِّرمذيُّ، وفي نَصبِ الرَّايةِ 4/ 410: صَحيحٌ.

ولِما رُويَ مِنْ حَبسِ معاويةَ لِهُدبةَ بنِ خَشْرَمٍ في قِصاصٍ حتى بلَغَ ابنُ القَتيلِ، وقد بذَلَ الحَسنُ والحُسينُ وسَعيدُ بنُ العاصِ لاِبنِ القَتيلِ سَبعَ دِياتٍ ليَعفُوَ عنه، فأَبَى ذلك، وقتَلَه. قال ابنُ قُدامةَ:"لا أَعلمُ فيه خِلافًا".

مسألة: صُوَرُ العَفوِ:

الأُولى: أنْ يَعفوَ عن القِصاصِ فقط، فَلَه أَخذُ الدِّيَةِ، والصُّلحُ على أكثرَ منها.

الثانيةُ: أنْ يَعفوَ عن الدِّيَةِ فقط، فَلَه القِصاصُ، ولَه أَخذُ الدِّيَةِ، والصُّلحُ على أكثرَ منها.

الثالثةُ: أنْ يَعفوَ عن القِصاصِ والدِّيَةِ جميعًا فيَسقُطان.

فرع: إذا عفَا ثُمَّ قتَلَ:

إذا كان مَنْ له القِصاصُ شَخصًا واحدًا فعَفَا عن الجانِي، ثُم قتَلَ الجانِيَ الذي عفَا عنه، فأمرُه إلى أَولياءِ المقتولِ، إنْ أَحبُّوا قَتلُوا وإنْ أَحبُّوا عَفَوا.

لقولِه تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المَائدة: 94].

ص: 23

‌فصلٌ: الجِنايةُ على الأَطرافِ والمَنَافِعِ، والكُسُورُ، والجُروحُ.

الأطرافُ: جَمعُ طَرَفٍ، وهي أَعضاءُ الإنسانِ.

والمَنَافعُ: جَمعُ مَنفَعةٍ، وهي مَنَافعُ الإنسانِ كالسَّمعِ والبصرِ والشَّمِّ، وغيرِ ذلك.

والكُسورُ: جَمعُ كَسْرٍ، وهي كَسرُ العِظامِ، والجُروحُ: جَمعُ جُرْحٍ، وهو شَقُّ الجِلدِ واللَّحمِ.

والأصلُ في القِصاصِ فيها قولُ اللهِ عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المَائدة: 45]، فتُؤخَذ العَينُ بالعينِ، والأنفُ بالأنفِ، والأُذُنُ بالأذنِ، والسِّنُّ بالسِّنِّ، والجَفْنُ بالجَفْنِ وهكذا.

ضابطٌ: مَنْ اقتُصَّ منه في النَّفسِ يُقتَصُّ منه في الأَطرافِ والكُسُورِ والمنافعِ والجروحِ، ومَن لا فلا، فيُقتَصُّ مِنْ المسلمِ للمسلمِ إذا جَنَى على طَرفٍ مِنْ أطرافِه، كما لو قطَعَ إحدَى يَدَيه أو إحدَى أصابعِه، أو جرَحَه، أو كسَرَه، ولا يُقتَصُّ مِنْ مسلمٍ لكافرٍ؛ لأنه لا يُقتَل المسلمُ بالكافرِ.

مسألة: شَرطُ القِصاصِ في الأَطرافِ والجُروحِ والمنافعِ.

الشَّرطُ الأولُ: المُمَاثلةُ في الاسمِ والموضعِ، فلا تُؤخذُ يمينٌ بيسارٍ، ولا يسارٌ بيمينٍ، ولا خِنصَرٌ ببِنصَرٍ، وعَكسِه؛ لِعدَمِ المُساواةِ.

الشَّرطُ الثَّاني: اسْتواؤُهُما في الصِّحَّةِ والكَمَالِ، فلا تُؤخذُ صحيحةٌ بشَلَّاءَ، ولا كاملةٌ الأصابعِ بناقصةِ الأصابعِ، ويُؤخذُ عكسُه، فتُؤخذُ الشَلَّاءُ

ص: 24

بالصحيحةِ، وناقصةُ الأصابعِ بكامِلَتِها.

الشرط الثالث: الأمن من الحيض.

ضابطٌ: متى أَمكَن القِصاصُ في الكُسورِ، والجُروحِ، والمنافعِ؛ وَجَب.

ضابطٌ: سِرايةُ القَوَدِ مُهدَرَةٌ، وسِرايةُ الجِنايةِ مَضمونةٌ.

معنَى ذلك: أنه لو اقتُصَّ منه في اليدِ لِكَونِه قطَعَ يدًا فسَرَى إلى النَّفسِ؛ فلا ضمانَ، ولو جنَى على يَدِ شَخصٍ فسَرَت الجِنايةُ إلى النَّفسِ؛ ضَمِنَ.

مسألة: لا يُقتَصُّ مِنْ عضوٍ أو جُرحٍ ولا تُطلب له دِيَةٌ قَبلَ بُرْئِه؛ لِما روَى جابرٌ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يُستقادَ مِنْ الجارحِ حتَّى يَبْرَأَ المَجرُوحُ. رَواه أحمدُ، ولأنه يَحتمِل زيادةَ الجِنايةِ وسِرَايتَها.

مسألة: ما يُرجَى عَودُه مِنْ سِنٍّ أو مَنفعةٍ لا قِصاصَ على مَنْ جنَى عليها ولا دِيَةَ، بل يُعزَّر لكن إذا أُيِسَ مِنْ عَودِها بقولِ أهلِ الخِبرةِ؛ فإنها تُضمَن بقِصاصٍ أو دِيَةٍ.

فرع: لا يجوز شرعًا إعادة ما قطع في قصاص إلا برضى المجني عليه؛ لأن الحق له.

فرع: ليس للمجني عليه إلا ما توجبه الجناية عليه من عمد وخطأ؛ أما التعويض عن انقطاعه عن عمله؛ فليس له فيه شيء؛ إذ لم يرد في الشرع.

ص: 25

‌فصلٌ: في الدِّيَاتِ.

الديات: جَمعُ دِيَةٍ، وهي: المالُ المؤدَّى إلى مَجنِيٍّ عليه أو وَلِيِّه، بسبَبِ جِنايةٍ.

والأصلُ في مَشروعيَّةِ الدِّيَةِ، الكتابُ والسُّنةُ، والإجماعُ.

أمّا الكتابُ: فقولُه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّسَاء: 92].

وأما السُّنةُ: فحديثُ أَبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حَزمٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَتبَ لعمرِو بنِ حَزمٍ كتابًا إلى أهلِ اليَمنِ فيه الفَرائضُ، والسُّنَنُ، والدِّيَاتُ، وقال فيه:«وإنَّ في النَّفسِ المؤمِنَةِ مِائةً مِنْ الإِبِلِ» . ويَأتي.

وحديثُ أَبي هريرةَ مرفوعًا: «مَنْ قُتِلَ له قَتيلٌ فأَهلُه بين خَيرَين، إنْ أَحبُّوا قَتلُوا، وإنْ أَحبُّوا أَخذُوا العَقْلَ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

وأمّا الإجماعُ فقد أَجمعَ أهلُ العِلمِ على مَشروعيَّةِ الدِّيَةِ في الجُملةِ.

والحِكمةُ مِنْ شرعيَّةِ الدِّيَةِ: تَشفِّي الأَولياءِ، فبِها يَحصُل دَرْكُ غَيظِهم الذي يَكون في أَخذِه جَبرٌ للمُصيبةِ وتَهدئةٌ للثَّائرةِ.

وأيضًا التَّخفيفُ عن الأُمَّةِ في التَّشريعِ، قال تعالى:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البَقَرَة: 178]، قال أبو جعفرٍ الطبريُّ في قولِه تعالى:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البَقَرَة: 178] يَعني تعالى بقولِه: {ذَلِكَ} [البَقَرَة: 196] هذا الذي حَكمتُ به وسَنَنْتُه لكُم مِنْ إِبَاحَتي لكُم -أيَّتُها الأُمَّةُ- العفوُ عن القِصاصِ عن قاتلِ قَتيلِكم، على دِيَةٍ تَأخُذُونَها فتَملِكونَها مِلكَكُم سائِرَ أَموالِكُم التي مَنَعتُها

ص: 26

مَنْ قَبلَكُم مِنْ الأُمَمِ السَّالِفة. {تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البَقَرَة: 178] يَقولُ: تَخفيفٌ مِنِّي لكُم مِمَّا كُنْتُ ثَقَّلتُه على غَيرِكم، بِتَحريمِ ذلك عليهِم. {وَرَحْمَةٌ} [آل عِمرَان: 157] مِنِّي لكُم.

فعَن ابنِ عباسٍ: "كان مَنْ قَبلَكم يَقتُلون القاتلَ بالقَتيلِ، لا تُقبَل منهم الدِّيَةُ فأنزلَ اللهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البَقَرَة: 178] إلى آخِرِ الآيةِ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البَقَرَة: 178] يَقولُ خفَّفَ عنكُم، وكان على مَنْ قَبلَكُم أنَّ الدِّيَةَ لم تَكُنْ تُقبَلُ، والذي يَقْبَلُ الدِّيَةُ، ذلك منه عَفوٌ".

مسألة: كُلُّ مَنْ أَتلفَ إنسانًا بمُباشرةٍ أو سَببٍ -كأنْ حفَرَ بِئرًا مُحرَّمًا حَفرُه في طريقٍ ضيِّقٍ، أو وَضَعَ حَجَرًا، أو قِشرَ بِطِّيخٍ، أو ماءً بفِنائِه أو طريقٍ، ونحو ذلك-؛ لَزِمَتْه دِيَتُه؛ لقولِه تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّسَاء: 92].

مسألة: إذا اجتَمعَ مُباشرٌ ومُتسبِّبٌ، فلا يَخلُو من ثلاثة أقسام:

الأولُ: إذا اجتمعَ المُباشِرُ والمتسبِّبُ، ولم تَكُنْ المباشَرةُ مبنِيَّةً على السَّببِ فالضَّمانُ على المباشِرِ، مِثلُ: إذا حفَرَ بِئرًا عُدوانًا، فدفعَ آخَرُ فيها آدميًّا مَعصومًا أو مالاً لِمعصومٍ فتَلِفَ، فالضَّمانُ على المباشِرِ وَحْدَه.

الثَّاني: إذا اجتمعَت المباشَرَةُ والسَّببُ، وكانت المباشرةُ مبنِيَّةً على السَّببِ، ولم يَكُنْ مِنْ المباشرةِ عُدوانٌ؛ تعلَّقَت المسؤوليَّةُ بالسَّببِ، دونَ المباشرةِ، مِثلُ: إذا قَدَّم طعامًا مَسمومًا عالمًا به إلى مَنْ لا يَعلَم أنه مَسمومٌ فأَكلَه فمات، فالمسؤوليَّةُ على المتسبِّبِ وهو المُقدِّم للطَّعامِ، لأنَّ القَتلَ مَبنيٌّ على السَّببِ وهو تَقديمُ الطَّعامِ المسمومِ، وليس مِنْ المباشِرِ وهو الآكِلُ عُدوان.

ص: 27

الثالثُ: إذا اجتَمعَت المباشَرةُ والسَّببُ وكانَت المباشَرةُ مبنِيَّةً على السَّببِ، وكان مِنْ المباشَرةِ عُدوانٌ، كانَت المسؤوليَّةُ مشترَكةً بينها وبين السَّببِ، مِثلُ: إذا أَكرَه شَخصٌ آخَرَ على قَتلِ معصومٍ، فإنَّهما يَشتركان في المسؤوليَّةِ.

مسألة: إنْ كانَت الجِنايةُ عَمدًا مَحضًا فالدِّيَةُ في مالِ الجانِي؛ لأنَّ الأصلَ يَقتضِي أنَّ بَدلَ المُتلَف يَجِبُ على مُتلِفِه، وتَكون حالَّةً غيرَ مؤجَّلةٍ كما هو الأصلُ في بَدلِ المُتلَفاتِ. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا يَجنِي جَانٍ إلاّ على نَفسِه» ، وقال لِبَعضِ أَصحابِه حينَ رأَى معه وَلدَه:«ابنُكَ هذا؟» قال: نعم. قال: «أَمَا إنَّه لا يَجْنِي عليكَ ولا تَجْنِي عَلَيه» . قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعَام: 164].

ودِيَةُ شِبهِ العَمدِ والخطأِ: على عاقِلَتِه، أي: عاقِلَةِ الجانِي؛ لِحديثِ أَبي هريرةَ رضي الله عنه: "اقتَتَلَت امرَأَتان مِنْ هُذَيلٍ، فرَمَت إحدَاهُما الأُخرَى بِحَجَرٍ، فقتَلَتْها وما في بَطنِها، فقَضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِدِيَةِ المرأَةِ على عاقِلَتِها". رَواه البخاريُّ، ومسلمٌ.

قال ابنُ قُدامةَ في المُغنِي 9/ 488: "ولا نَعلمُ بين أهلِ العِلمِ خِلافًا في أنَّ دِيَةَ الخطأِ على العاقِلَةِ. قال ابنُ المُنذِر: "أَجمعَ على هذا كُلُّ مَنْ نَحفظُ عنه مِنْ أهلِ العِلمِ".

ص: 28

‌فصلٌ: في مَقاديرِ دِياتِ النَّفسِ.

المَقاديرُ: جَمعُ مِقدَارٍ، وهو مَبلَغُ الشَّيء وقَدْرُه.

أولاً: دِيَةُ الحُرِّ المسلمِ: مائةُ بَعيرٍ، قال ابنُ قُدامةَ في المُغنِي 9/ 481:"أَجمعَ أهلُ العِلمِ على أنَّ الإِبِلَ أَصلٌ في الدِّيَةِ، وأنَّ دِيَةَ الحُرِّ المسلمِ مائةٌ مِنْ الإِبِلِ، وقد دلَّت عليه الأحاديثُ الواردةُ منها: حديثُ عمرِو بنِ حَزمٍ، وحديثُ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو في دِيَةِ خطأِ العَمدِ، وحديثُ ابنِ مسعودٍ في دِيَةِ الخطأِ".

وحديثُ سَهلِ بنِ أَبي حَثْمةَ رضي الله عنه في قصَّةِ قَتيلِ خَيبرَ عبدِ اللهِ بنِ سهلٍ، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وَدَاه بمائةٍ مِنْ الإبِلِ. رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ووَرَد عن عمرَ رضي الله عنه.

ولأنَّ الجنايةَ على ما دونَ النَّفسِ مِنْ الأطرافِ والجُروحِ وغيرِها قُدِّرَت بالإبِلِ.

ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فرَّقَ بين دِيَةِ العَمدِ والخطأِ، فغلَّظَ بعضَها وخفَّفَ بعضَها، ولا يَتحقَّقُ هذا في غيِر الإبِلِ.

مسألة: باتِّفاقِ الأئِمَّةِ: أنَّ دِيَةَ شِبهِ العَمدِ مُغلَّظةٌ كالعَمدِ؛ لِحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو مرفوعًا: «قَتيلُ الخطأِ شِبهِ العَمدِ، قَتيلُ السَّوطِ والعَصَا مائةٌ مِنْ الإبِلِ، أَربعُونَ خَلِفَةً في بُطونِها أَولادُها» .

ففِي قَتلِ العَمدِ وشِبهِه: خمسٌ وعِشرونَ بنتَ مَخَاضٍ، وخمسٌ وعِشرون بنتَ لَبُونٍ، وخمسٌ وعِشرون حِقَّةً، وخمسٌ وعِشرون جَذَعةً.

ص: 29

وعند الشافعيَّةِ، ورِوايةٌ عن أحمدَ: أنَّها ثلاثونَ حِقَّةً، وثلاثونَ جَذَعةً، وأربعونَ خَلِفَةً؛ لِما رَواه عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو مرفوعًا قال:«مَنْ قَتلَ متعمِّدًا رُفِعَ إلى أَولياءِ المقتولِ، فإنْ شاؤُوا قَتَلُوا، وإنْ شاؤُوا أَخذُوا الدِّيَةَ، وهي: ثلاثونَ حِقَّةً، وثلاثونَ جَذَعةً، وثلاثونَ خَلِفَةً» . رَواه أبو داودَ.

وفي الخطأِ مخففَّةً تَجِبُ أَخماسًا: عِشرونَ بنتَ مخاضٍ، وعِشرونَ بنتَ لَبونٍ، وعِشرونَ حِقَّةً، وعشرونَ جَذَعةً، وعِشرونَ مِنْ بَنِي مَخاضٍ؛ لِوُرودِه عن ابنِ مسعودٍ. أَخرجَه عبدُ الرَّزَّاق وابنُ أبي شَيبة.

وعن زيدِ بنِ ثابتٍ: أنها أرباعٌ: ثلاثونَ حِقَّةً، وثلاثون بنتَ لَبونٍ، وعشرون بنتَ مخاضٍ، وعشرون ابنَ لَبونٍ ذكَرٍ. رَواه أبو داودَ، وإسنادُه صحيحٌ.

ويُشترَط في الإبِلِ السلامةُ مِنْ العيوبِ؛ لأنَّ الإطلاقَ يَقتضي السَّلامةَ.

ثانيًا: دِيَةُ المرأةِ المسلمةِ على النِّصفِ مِنْ دِيَةِ الرجُلِ المسلمِ؛ لِما في حديثِ معاذٍ رضي الله عنه: «دِيَةُ المرأةِ على النِّصفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ» . أخرجَه البيهقيُّ. قال الحافظُ ابنُ حَجرٍ في التَّلخيصِ الحَبِير 24/ 4: "إسنادُه لا يَثبُت مِثلُه". قال ابنُ قُدامةَ في المُغنِي 9/ 528: "فأمّا دِياتُ نِسائِهم فعَلَى النِّصفِ مِنْ دِياتِهم، لا نَعلَم في هذا خلافًا. قال ابنُ المنذِرِ: "أَجمعَ أهلُ العِلمِ على أنِّ دِيَةَ المرأةِ نِصفُ دِيَةِ الرَّجُلِ".

ثالثًا: دِيَةُ الكافرِ نِصفُ دِيَةِ المسلمِ، ونِساؤُهم على النِّصفِ مِنْ دِيَةِ ذُكورِهم كالمسلمين؛ لِحديثِ عمرِو بنِ شُعيبٍ عن أَبيه عن جَدِّه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم:"قَضَى بأنَّ عَقلَ أَهلِ الكتابِ نِصفُ عَقلِ المسلمين". رَواه أحمدُ وأبو داودَ، الترمذيُّ، النسائيُّ، ابنُ ماجَه، وكذَا جِراحُه على النِّصفِ مِنْ جِراحاتِ المُسلِمين.

ص: 30

رابعًا: نساءُ الكفَّارِ على النِّصفِ مِنْ دِيَةِ ذُكرانِهم، كدِيَةِ نساءِ المُسلِمين؛ قال ابنُ قُدامةَ في المُغنِي 9/ 528:"فأمّا دِياتُ نِسائِهم فعَلَى النِّصفِ مِنْ دِياتِهم، لا نَعلم في هذا خلافًا. قال ابنُ المنذِرِ: أَجمعَ أهلُ العِلمِ على أنَّ دِيَةَ المرأةِ نِصفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، ولأنه لمَّا كان دِيَةُ نِساءِ المُسلِمين على النِّصفِ مِنْ دِياتِهم، كذلك نِساءُ أَهلِ الكتابِ على النِّصفِ مِنْ دِياتِهم".

مسألة: يَستوي الذَّكرُ والأُنثى إلى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فإن جاوزَ الثُّلثَ فعَلَى النِّصفِ، ففِي المُغنِي 9/ 532: "وتُساوي جراحُ المرأةِ جراحَ الرجلِ إلى ثُلثِ الدِّيَةِ، فإن جاوزَ الثُّلث فعلَى النِّصفِ، رُويَ هذا عن عمرَ وابنِ عمرَ وزيدِ بنِ ثابتٍ، وبه قال سعيدُ بنُ المسيَّبِ وعمرُو بنُ دينارٍ وعروةُ بنُ الزبيرِ والزُّهريُّ وقتادةُ والأعرجُ وربيعةُ ومالكٌ، وقال ابنُ عبدُ البَرِّ: وهو قولُ فقهاءِ المدينةِ السبعةِ وجُمهورِ أَهلِ المدينةِ، وحُكيَ عن الشافعيِّ في القديمِ؛ لِحديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أَبيه عن جَدِّه مرفوعًا:«عَقلُ المرأةِ مِثلُ عَقلِ الرَّجُلِ حتَّى تَبلُغَ الثُّلثَ مِنْ دِيَتِه» . أخرجَه النَّسائيُّ والدارقطنيُّ.

خامسًا: دِيَةُ القِنِّ قِيمتُه، قال ابنُ قُدامةَ في المُغنِي 12/ 58:"أَجمعَ أهلُ العِلمِ أنَّ في العبدِ الذي لا تَبلغ قيمتُه دِيَةَ الحُرِّ: قيمتُه، وإنْ بلغَت قيمتُه دِيَةَ الحُرِّ أو زادَت عليها فذهَبَ أحمدُ رحمه الله تعالى إلى أنَّ فيه قيمتَه بالغةً ما بلغَت، وعند أَبي حَنيفةَ: لا يَبلغ دية الحُرِّ".

وفي جِراحِ القِنِّ إنْ قُدِّر مِنْ حُرٍّ بقِسطِه مِنْ قيمتِه، ففِي يَدِه نِصفُ قيمتِه؛ لأنَّ في دِيَةِ يَدِ الحُرِّ نِصفُ دِيَةِ نَفسِه، وفي أنفِه قيمتُه كاملةً، وإنْ لم يُقدَّرْ مِنْ حُرٍّ ضُمِن بما نَقَصه بجِنايتِه بَعدَ البُرءِ أي: الْتِئامِ جُرحِه، كالجِنايةِ على غيرِه مِنْ الحيواناتِ.

ص: 31

سادسًا: يَجِبُ في الجَنينِ الحُرِّ ذكَرًا كان أو أُنثَى إذا سقَطَ ميِّتًا بجنايةٍ على أُمِّه عَمدًا أو خطأً غُرَّةٌ بالإجماع، أي: عَبدٌ أو أَمَةٌ، ما وقَع عليه اسمُ عبدٍ؛ لحديث أَبي هريرةَ، وفيه:"فرَمَت إحداهُما الأخرَى بحَجرٍ فأصابَت بطنَها، فقتَلَتها، فأَسقطَت جَنينًا، فقضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعَقلِها على عاقِلَةِ القاتلةِ، وفي جَنينِها غُرَّة، عبدٌ أو أَمةٌ". رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

وإنْ سقَط حيًّا لوقتٍ يَعيش لِمِثلِه، وهو نِصفُ سنةٍ فأكثرَ.، ففيه دِيَةُ النَّفسِ. قال ابنُ قُدامةَ في المُغنِي 9/ 551:"هذا قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ. قال ابنُ المنذرِ: أَجمعَ كلُّ مَنْ نحفظُ عنه مِنْ أهلِ العلمِ على أنَّ في الجنينِ يَسقُط حيًّا مِنْ الضَّربِ دِيَةٌ كاملةٌ".

ص: 32

‌فصلٌ: دياتُ الأعضاءِ ومَنافعِها.

ضابطٌ: مَنْ أَتلفَ ما في الإنسانِ منه شيءٌ واحدٌ، كالأنفِ واللِّسان والذَّكَرِ، ففِيه دِيَةُ النَّفسِ؛ لحديث عمرِو بنِ حَزمٍ مرفوعًا:«وفي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وفي الأنفِ إذا أُوعِبَ جَدْعًا الدِّيَةُ، وفي اللِّسانِ الدِّيَةُ» . أخرجَه النَّسائيُّ.

مسألة: لسانُ الأَخرسِ.

ذهبَ الجُمهورُ: إلى أنَّ فيه حُكومةٌ؛ لأنه لا تقديرَ فيه، والمقصودُ فيه المنفعةُ، وقد ذهبَ مُعظمُهما.

وذهبَ أحمدُ في الرِّوايةِ الثانيةِ عنه: إلى أنَّ فيه ثُلثَ الدِّيَةِ؛ لِما روَى عمرُو بنُ شعيبٍ عن أَبيه عن جَدِّه قال: "قضَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في العينِ القائمةِ السادَّةِ لِمكانِها بثُلثِ الدِّيَةِ، وفي اليدِ الشَّلَّاءِ إذا قُطعَت بثُلثِ دِيَتِها، وفي السِّنِّ السوداءِ إذا قُلعَت بثُلثِ دِيَتِها". رَواه النَّسائيُّ، وأبو داودَ.

مسألة: قَطعُ بعضِ اللِّسانِ.

إذا لم يَذهبْ مِنْ الكلامِ شيءٌ ففِيه بقَدْرِ ما ذهبَ منه؛ لأنَّ ما وَجبَت الدِّيَةُ فيه كاملةً وجَبَ منها بقَدْرِ الذَّاهبِ، فإذا قُطعَ رُبعُ اللِّسانِ ففِيه رُبعُ الدِّيَةِ، وهكذا.

وإذا ذهبَ مع القَطعِ بعضُ الكلامِ: ففِيه الأكثرُ مِمَّا قُطعَ منه، أو ما ذهبَ مِنْ كَلامِه؛ لوجوبِ الدِّيَةِ بتَفويتِ أَحدِهما، فوجَبَ فيه الأكثرُ مِمَّا ذهبَ منهما.

ص: 33

مسألة: قَطعُ الحَشَفَةِ.

الحَشَفَةُ هي: رأسُ الذَّكَرِ، التي تكونُ عليه الجِلْدةُ التي تُقطَع عند الخِتانِ.

تَجِبُ الدِّيَةُ كاملةً بقَطعِ الحَشَفةِ؛ لأنَّ مَنفعةَ الذَّكَرِ تَكمُل بالحَشَفةِ، كَما تَكمُل مَنفعةُ الكَفِّ بالأصابعِ. قال ابنُ قُدامةَ:"ولا نَعلمُ فيه مُخالفًا".

وإذا قَطَع جُزءًا مِنْ الحَشَفةِ وَجَب مِنْ الدِّيَةِ بقَدْرِ الذاهبِ.

وإذا كانَت الجِنايةُ على ذَكَرٍ قد ذَهبَت حشَفَتُه ففِيه حُكومةٌ.

مسألة: إذا قُطِع مِنْ الإنسانِ عُضوٌ ففِيه دِيَةُ ذلك العُضوِ دونَ المَنفعةِ، إلا الأُذُنَ والأَنفَ فإنَّهما إذا قُطِعَا وذهبَت مَنفعتُهما ففِيهِما دِيَةُ العُضوِ والَمنفعةِ؛ لأنَّ المنفعةَ خارجَ العُضوِ، فلا تَدخُل دِيَةُ أَحدِهما في الآخَرِ.

مسألة: إذا قُطِع عُضوٌ مَشلولٌ ففِيه حُكومةٌ، إلا الأنفَ والأُذنَ ففِيهِما دِيَةُ ذلك العُضوِ؛ لأنَّ المقصودَ الجمالُ، والمنفعةُ خارجٌ عنهما.

ضابطٌ: مَنْ أَتلفَ ما في الإنسانِ منه شَيئانِ، كالعَينَين، والأُذنَين، والشَّفتَين، واللَّحْيَين، وثَدْيَي المرأةِ، وثَنْدُوَتَيِ الرَّجُلِ، واليَدَين مِنْ الكُوعِ، والرِّجلَين مِنْ الكَعبِ، والأَلْيَتَين، والأُنثَيَين، وإِسْكَتَي المرأةِ -بكَسرِ الهمزةِ وفَتحِها وهُما اللَّحمَتان المُحيطَتان بالفَرْجِ مِنْ جانِبَيه إحاطةَ الشَّفَتَين- وهُما شَفْرَاها، ونحوِ ذلك، ففِيهِما الدِّيَةُ كاملةً، وفي أَحدِهما نِصفُها.

قال في الُمغنِي (9/ 586): "أَجمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ في العَينَين إذا أُصيبتَا خطأً الدِّيَةَ، وفي العينِ الواحدةِ نِصفَها؛ لحديثِ عمرِو بنِ حَزمٍ عن أَبيه عن جَدِّه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«وفي العَينَينِ الدِّيَةُ» . رَواه النَّسائيُّ. لِما جاء في كتابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمرِو بنِ حَزمٍ: «وفي الأُذُنِ خَمسونَ مِنْ الإِبِلِ» . لِما جاء في

ص: 34

كتابِ عمرِو بنِ حَزمٍ الذي كتبَه له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وفي الشَّفَتَينِ الدِّيَةُ» . تقدَّم قريبًا.

مسألة: اتَّفق أهلُ العلمِ على وجوبِ الدِّيَةِ في اسْتِئصالِ الثَّديَين؛ لأنَّ فيهما جَمالاً ومنفعةً، فوَجبَت فيهما الدِّيَةُ كاليَدَين والرِّجلَين.

مسألة: قَطعُ الحَلَمَتَين: تَجِبُ الدِّيَةُ فيهما كاملةً؛ لأنه أَذهبَ منهما ما تَذهبُ المنفعةُ بذَهابِه، فوَجبَت دِيَتُهما، كالأصابعِ مع الكَفِّ.

لِما وَرَد في كتابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمرِو بنِ حَزمٍ: «وفي اليَدِ خمَسُونَ مِنْ الإِبِلِ» . تقدِّم قريبًا.

مسألة: إذا قُلِع اللَّحْيان مع الأَسنانِ فلا تَدخُل دِيَةُ أَحدِهما في الآخَرِ؛ لأنَّهما جِنسانِ مُختلِفان.

ضابطٌ: مَنْ أَتلَف ما في الإنسان منه ثلاثةُ أَشياءَ ففِيه الدِّيَةُ، وفي أَحدِها ثُلثُ الدِّيَةِ، ففِي المَنْخِرَين ثُلثَا الدِّيَةِ، وفي الحاجزِ بينَهما ثُلثُها؛ لأنَّ المارِنَ يَشمَل ثلاثةَ أشياءَ: مَنْخِرَين وحاجزًا، فوجَبَ تَوزيع الدِّيَةِ على عَددِها.

ضابطٌ: مَنْ أَتلفَ ما في الإنسانِ منه أَربعةُ أَشياءَ ففِيه الدِّيَةُ، وفي أَحدِها رُبعُ الدِّيَةِ، ففِي الأَجفانِ الأربعةِ الدِّيَةُ، وفي كلِّ جَفنٍ رُبعُها.

مسألة: يَجِبُ في كلِّ واحدٍ مِنْ الشُّعورِ الأربعةِ الدِّيَةُ، وهي شعرُ الرأسِ، وشعرُ اللِّحيةِ، وشعرُ الحاجِبَين، وأَهدابُ العَينَين، ولأنه كلُّ واحدٍ مِنْ الشُّعورِ في البَدنِ منه شيءٌ واحدٌ، وفي حاجِبٍ نِصفُ الدِّيَةِ، وفي هُدْبٍ رُبعُها، وفي شاربٍ حُكومةٌ.

فإنْ عادَ الذَّاهبُ مِنْ تلك الشُّعورِ فنَبَت؛ سَقَط مُوجِبُه، فإنْ كان أَخذَ شَيئًا رَدَّه.

ص: 35

وإنْ ترك من لِحْيةٍ أو غيرِها ما لا جَمالَ فيه، فدِيَةٌ كاملةٌ.

وفي بعضِ ما تقدَّم بعضُه مِنْ الدِّيَةِ.

ضابطٌ: مَنْ أَتلَف ما في الإنسانِ منه عَشرةُ أَشياءَ ففِيه الدِّيَةُ، وفي أَحدِها عُشرُ الدِّيَةِ، ففِي أَصابعِ اليَدَين الدِّيَةُ، وفي أَصابعِ الرِّجلَين الدِّيَةُ، وفي كلِّ إِصبَعٍ مِنْ أَصابعِ اليَدَين أو الرِّجلَين عُشرُ الدِّيَةِ؛ لِما وَرَد في كتابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمرِو بنِ حَزمٍ:«وفي كُلِّ إِصبَعٍ مِنْ أَصابِعِ اليَدِ والرِّجْلِ عَشرٌ مِنْ الإِبِلِ» . وتقدَّم قريبًا؛ لِحديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا: «دِيَةُ أَصابِعِ اليَدَينِ والرِّجلَينِ عَشرٌ مِنْ الإبِلِ لكلِّ إِصبَعٍ» . أخرجَه التِّرمذيُّ، وابنُ حِبَّانَ، الدارَقطنيُّ، وصحَّحه الترمذيُّ. وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«هَذِه وهَذِه سَواءٌ» يعني الخِنْصِرَ والإبهامَ. صحيحُ البخاريِّ.

وفي كلِّ أُنمُلَةٍ مِنْ أَصابعِ اليَدَين أو الرِّجلَين ثُلثُ عُشرِ الدِّيَةِ؛ لأنَّ في كلِّ إِصبَعٍ ثلاثةُ مَفَاصِلَ والإبهامُ فيه مَفصِلان، وفي كلِّ مَفصِلٍ نِصفُ عُشرِ الدِّيَةِ، كَدِيَةِ السِّنِّ.

وفي كلِّ سِنٍّ، أو نابٍ، أو ضِرسٍ، ولو مِنْ صغيرٍ ولم يَعُدْ خَمسٌ مِنْ الإبِلِ؛ قال ابنُ قُدامةَ في الُمغنِي 9/ 612: "لا نَعلمُ بين أهلِ العلمِ خلافًا في أنَّ دِيَةَ الأسنانِ خَمسٌ في كلِّ سِنٍّ؛ لخبرِ عمرِو بنِ حَزمٍ مرفوعًا: «في السِّنِّ خَمسٌ مِنْ الإبِلِ» . رَواه النَّسائيُّ، ولقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما:«الأصابعُ سواءٌ، والأسنانُ سواءٌ، الثَّنِيَّةُ والضِّرسُ سواءٌ، هذه وهذه سواءٌ» رَواه أبو داودَ، وابنُ ماجَه.

وإذا جنَى على السِّنِّ فاضطرَبَت أو تغيَّرَ لونُها، فإنْ ذهبَت مَنفعتُها ففِيه دِيَةُ السِّنِّ، وإنْ بقيَت المَنفعةُ ففِيها حُكومةٌ.

ص: 36

‌فصلٌ: في دِيَةِ المَنافِعِ.

ضابطٌ: يَجِب في كلِّ مَنفعةٍ دِيَةٌ كاملةٌ، وهي السَّمعُ، والبصرُ، والشَّمُّ، والذَّوقُ، والكلامُ، والعقلُ، ومنفعةُ المشيِ، والأكلِ، والنكاحِ، وعدمِ استمساكِ البَولِ والغائطِ، ونحوِها.

ففِي كتابِ عمرِو بن حَزمٍ رضي الله عنه: «وفي المَشامِّ الدِّيَةُ» . تقدَّم قريبًا.

ولِقضاءِ عمرَ رضي الله عنه في رَجُلٍ ضرَبَ رَجُلاً، فذَهبَ سمعُه وبصرُه ونكاحُه وعقلُه: بأربعِ دِياتٍ والرَّجُلُ حيٌّ.

وإنْ كان الناقصُ يُمكن تَقديرُه بأنْ لا يُدرِكَ بأحدِ المذاقِ الخَمسِ، وهي: الحَلاوةُ والمَرارةُ والحُموضةُ والمُلُوحةُ والعُذُوبةُ، ويُدرِكَ بالباقي ففِيه خُمسُ الدِّيَةِ، وفي اثنينِ خُمساهَا (المُغنِي 12/ 125). لأنَّ في كلِّ واحدٍ مِنْ هذه مَنفعةً كبيرةً، ليس في البَدنِ مثلُها، كالسَّمعِ والبصرِ، وفي ذهابِ بعضِ ذلك قَدْرُه مِنْ الدِّيَةِ، ففِي نِصفِ المنفعةِ نِصفُ الدِّيَةِ، ففِي بعضِ الكلامِ بِحِسابِه، ويُقسَم على ثمانيةٍ وعِشرين حَرفًا، وإنْ لم يُعلَم قَدْرُ الذاهِبِ، فحُكومةٌ.

مسألة: يَجِب في عينِ الأعورِ الدِّيَةُ كاملةً، قضَى به عمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وابنُ عمرَ، رواها ابن أبي شيبة، ولم يُعرَف لهم مُخالفٌ مِنْ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، ولأنَّ قَلعَ عينِ الأعورِ يَتضمَّن إذهابَ البصرِ كلِّه؛ لأنه يَحصل بعَينِ الأعورِ ما يَحصل بالعَينَين.

إذا كانَ الجانِي أَعورَ، فإذا كانَت الجِنايةُ خطأً؛ فلا خِلافَ بين أهلِ العلمِ في أنَّ الذي يَجِب بهذه الجِنايةِ نِصفُ الدِّيَةِ.

ص: 37

وإذا كانَت الجنايةُ عَمدًا؛ فذهبَ الحنابلةُ إلى أنه لا قَوَدَ، وعليه دِيَةٌ كاملةٌ؛ لِما رُوي عن عمرَ، وعثمانَ رضي الله عنهما، أخرجَه عبدُ الرازق، في رَفعِ القَوَدِ عن الأعورِ وإيجابِ الدِّيَةِ كاملةً.

ولأنَّ القِصاصَ يُفضي إلى استيفاءِ جميعِ البصرِ مِنْ الأعورِ، وهو إنما أَذهَب بصرَ عينٍ واحدةٍ، وإن كانَ قَلَعَها خطأً فنِصفُ الدِّيَةِ.

وذهبَ مالكٌ إلى أنه إنْ شاءَ اقتَصَّ، وإنْ شاءَ أخذَ دِيَةً كاملةً كالمسلِمِ إذا قَتلَ ذِمِّيًّا.

وذهبَ أبو حنيفةَ، والشافعيُّ إلى أنه إنْ شاءَ اقتَصَّ، أو عَفَا، وليس له إلاّ نِصفُ الدِّيَةِ؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«وفي العَينِ الواحِدَةِ خَمسُونَ مِنْ الإِبِلِ» . مِنْ حديثِ عمرِو بنِ حَزمٍ، وتقدَّم قريبًا.

ويَجِب في قَطعِ يَدِ الأَقطَعِ أو رِجلِه ولو عَمدًا نِصفُ الدِّيَةِ، كغيرِ الأَقطَعِ؛ لأنه عضوٌ أَمكَن القِصاصُ مِنْ مِثلِه، فكان الواجبُ فيه القِصاصُ أو دِيَةُ مِثلِه.

ص: 38

‌فصلٌ: في الجُروحِ والكُسورِ.

في المُوضِحَةِ -وهي ما تُوضِحُ العَظمَ وتُبرِزُه-: خمَسةُ أَبعِرَةٌ؛ لحديثِ عمرِو بنِ حَزمٍ: «وفِي المُوضِحَةِ خَمسٌ مِنْ الإبِلِ» . وتقدَّم قريبًا.

الهاشِمةُ -وهي التي تُوضِحُ العَظمَ وتَهْشِمُه وتَكسِره- وفيها: عَشرةُ أَبعِرةٍ، رُوي عن زيدِ بنِ ثابتٍ، ولم يُعرَف له في عَصرِه مخالفٌ مِنْ الصحابةِ. أخرجَه عبدُ الرازق.

المُنقِّلةُ -وهي ما تُوضِح العَظمَ وتَهشِمه وتَنقُل عِظامَها- وفيها: خَمسَ عَشرةَ مِنْ الإبِلِ؛ لحديثِ عمرِو بنِ حَزمٍ في كتابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمرِو بنِ حَزمٍ: «وفِي المُنقِّلةِ خَمسَ عَشرةَ مِنْ الإبِلِ» . وتقدَّم قريبًا.

وفي كلِّ واحدةٍ مِنْ المَأمُومةِ -وهي التي تَصِل إلى جِلدَةِ الدِّماغِ- والدَّامِغَةِ -بالغَين المُعجمةِ، التي تَخرِقُ الجِلدَةَ-: ثُلثُ الدِّيَةِ؛ لحديثِ عمرِو بنِ حَزمٍ: «وفِي المأمُومَةِ ثُلثُ الدِّيَةِ» . والدَّامغةُ أَبلَغ، وهذه الجِراحاتُ الخَمسُ خاصَّةً في الرأسِ والوجهِ.

وفي الجائِفَةِ ثُلثُ الدِّيَةِ، وهي التي تَصِل إلى الجَوفِ، كبطنٍ -ولو لم تَخرِقْ أَمعاءَ- وظهرٍ، وصدرٍ، وحَلْقٍ، ومَثانَةٍ؛ لِما في كتابِ عمرِو بنِ حَزمٍ:«وفِي الجائِفَةِ ثُلثُ الدِّيَةِ» .

وإنْ أَدخَل السَّهمَ مِنْ جانبٍ فخرَج مِنْ آخَرَ: فجائِفَتَان.

وفي بقِيَّةِ الجِراحاتِ: حُكومةٌ.

ويَجِب في الضِّلعِ إذا جُبِر كما كانَ: بَعيرٌ.

ص: 39

ويَجِب في كلِّ واحدةٍ مِنْ التَّرْقُوَتَين: بَعيرٌ؛ لِما روَى سعيدٌ عن عمرَ رضي الله عنه: (فِي الضِّلعِ جَمَلٌ، وفي التَّرْقُوَةِ جَمَلٌ). أخرجَه مالكٌ، وعبدُ الرزاق، وابنُ أبي شيبةَ.

والتَّرقُوة: العَظمُ المستديرُ حَول العُنقِ مِنْ النَّحرِ إلى الكَتِفِ.

وإن انجَبَر الضِّلعُ، أو التَّرقُوةُ غيرَ مُستقيمَين فحُكومةٌ.

ويَجِب في كَسرِ الذِّراعِ، وهو: السَّاعِدُ الجامعُ لعَظمَي الزَّندِ والعَضُدِ، وفي الفَخِذِ، وفي السَّاقِ والزَّندِ إذا جُبِر ذلك مُستقيمًا بَعِيران؛ لِما روَى سعيدٌ عن عمرِو بن شعيبٍ: أنَّ عمرَو بنَ العاصِ كتبَ إلى عمرَ في أَحدِ الزَّندَينِ إذا كُسِر، فكتَب إليه عمرُ أنَّ فيه بَعِيرَين، وإذا كُسِر الزَّنْدان، ففِيهما أَربعةٌ مِنْ الإبِلِ، ولم يَظهرْ له مخالفٌ مِنْ الصَّحابةِ. أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة.

وما عَدَا ذلك المذكورَ مِنْ الجراحِ وكَسرِ العِظامِ كخَرَزَةِ صُلبٍ، وعُصعُصٍ، وعانةٍ: ففِيه حُكومةٌ.

والحُكومةُ: أنْ يُقوَّم المَجنِيُّ عليه كأنَّه عبدٌ لا جِنايةَ به، ثُم يُقوَّمُ والجِنايةُ به قد بَرِئَت، فما نَقصَ مِنْ القيمةِ فلِلمَجنِيِّ عليه مِثلُ نِسبَتِه مِنْ الدِّيَةِ.

فلو قَدَّرْنا أنَّ قيمةَ المجنِيِّ عليه لو كان عبدًا سَليمًا مِنْ الجِنايةِ: سِتُّون، وقيمتُه بالجِناية: خَمسُون؛ ففِي جُرحه: سُدسُ دِيَتِه، إلاّ أنْ تكونَ الحُكومة في مَحلٍّ له مقدَّرٌ مِنْ الشَّرعِ فلا يُبلَغ بالحُكومةِ المُقدَّرَ، كشَجَّةٍ دونَ المُوضِحَةِ لا تَبلُغ حُكومتُها أَرْشَ المُوضِحَةِ.

ص: 40

وإنْ لم تَنقُصْه الِجنايةُ حالَ بُرْءٍ؛ قُوِّم حالَ جَرَيان دَمٍ، فإنْ لم تَنقُصْه أيضًا، أو زادَتْه حُسنًا، فلا شيءَ فيها.

فرع: لا يجوز التخدير عند إقامة القصاص في النفس ودون النفس؛ لقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشّورى: 40].

ص: 41

‌فصلٌ: في العاقِلَةِ وما تَحمِلُه.

العاقلةُ: مِنْ عَقَلَ، والعَقلُ في اللُّغةِ له معانٍ كثيرةٌ، ومنها:

الحِجرُ، والنُّهَى ضدُّ الحُمقِ، والتَّثبُّت في الأمورِ، والحَبسُ، والدِّيَةُ.

واصطلاحًا: ذُكورُ عَصَباتِ القاتلِ، كالآباءِ، والأبناءِ، والإخوةِ وبَنِيهِم، والأعمامِ وبَنِيهِم، قَريبُهم، وبَعيدُهم، كابنِ ابنِ ابنِ عَمِّ جَدِّ الجانِي، حاضرُهم وغائبُهم، يًحملون الدِّيَةَ عن القاتلِ.

والأصلُ في ذلك: ما روَى أبو هريرةَ رضي الله عنه قال: "قضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في جَنينِ امرأةٍ مِنْ بَنِي لَحْيانَ سقَطَ مَيتًا بِغُرَّةٍ -دِيَةِ جَنينٍ- عبدِ أو أَمَةٍ، ثُم إنَّ المرأةَ التي قُضِي عليها بالغُرَّةِ تُوفِّيَت، فقضَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأنَّ مِيراثَها لِبَنِيها وزَوجِها، وأنَّ العَقْلَ على عَصَبَتِها". متَّفق عليه.

ولِما ورَد عن عمرَ أنه بعثَ إلى امرأةٍ، ففَزِعَت فأجهَضَت ذا بَطنِها، فاستشارَ الصَّحابةَ في ذلك فقال عليٌّ: إنَّ دِيَتَه عليك لأنَّك أَفزعتَها، فقال عمرُ: عَزمتُ عليكَ لَمَا قَسَمتَها على قومِكَ -أي: الدِّيَةَ- أخرجَه ابنُ أَبي شَيبةَ، وعبدُ الرَّزاقِ.

وحُكِي الإجماعُ على مشروعيَّةِ العاقلةِ.

شُروطُ العاقلةِ: يُشترط لِمَنْ يَحمل الدِّيَةَ عن القاتلِ شُروطٌ:

1 -

الحُرَّية، فلا عَقلَ على رَقيقٍ؛ لأنه لا يَملِك، ولو مَلَك فمِلكُه ضَعيفٌ.

2 -

التَّكليفُ، فلا عَقلَ على صَغيرٍ ومجنونٍ؛ لِما ورَد عن عليٍّ رضي الله عنه عن

ص: 42

النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «رُفِع القَلمُ عن ثَلاثةٍ:

وعن المجنونِ حتى يَعقِلَ». تقدَّم قريبًا. ولأنَّهما لَيسَا مِنْ أهلِ النُّصرةِ.

3 -

الغِنَى، فلا عَقلَ على فَقيرٍ؛ لأنه ليس مِنْ أهلِ المواساةِ.

4 -

الذُّكورةُ، فلا يَجِب العَقلُ على أُنثَى؛ لأنَّها ليسَت مِنْ أهلِ النُّصرةِ.

5 -

اتِّفاقُ الدِّينِ، فلا يَعقِل كافرٌ عن مسلمٍ، ولا يَعقِل مسلمٌ عن كافرٍ؛ لقولِ اللهِ تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفَال: 73]. ولأنَّ التَّعاقُل يَنبَنِي على المُوالاةِ والتَّناصُر، وذلك يَنعدِمُ عند اختلافِ الدِّينِ.

6 -

أنْ لا يَكونَ القَتلُ عَمدًا، فلا تَحمِل العاقلةُ عَمدًا مَحضًا؛ لِما روَى سليمانُ بنُ عمرِو بنِ الأحوصِ، قال: حدَّثَني أَبي أنه شَهِد حَجَّةَ الوَدَاعِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لا يَجنِي جَانٍ إلاّ على نَفسِه، لا يَجنِي والدٌ على وَلَدِه، ولا مَولودٌ على والدِه» . أخرجَه أحمدُ، الترمذيُّ، والنَّسائيُّ في الكُبرَى، وابنُ ماجَه، وقال التِّرمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ.

ولأنَّ العامِدَ غيرُ معذورٍ.

مسألة: تَحمِل العاقلةُ قَتلَ الخطأِ وشِبهِ العَمدِ؛ لِما رُوي عن أَبي هريرةَ رضي الله عنه قال: "اقتَتلَت امرَأَتان مِنْ هُذَيلٍ فرَمَت إحداهُما الأخرَى بحَجَرٍ، فقتَلَتها وما في بَطنِها، فقضَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ دِيَةَ جَنينِها غُرَّةٌ، عبدٌ أو وَلِيدةٌ، وقضَى بِدِيَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها". متَّفق عليه.

وقد أَجمعَ أَهلُ العِلمِ على أنَّ دِيَةَ جِنايةِ الخطأِ على العاقلةِ بلا خلافٍ (المُغنِي 7/ 650 - 651). قال ابنُ المنذِر (الاجماع له ص 151): "وأَجمعَ أهلُ العلمِ أنَّ دِيَةَ الخطأِ تَحمله العاقلةُ" لِما تقدَّم مِنْ الأدِلَّة في البابِ.

وعَمدُ الصَّبيِّ والمجنونِ حالَ جُنونِه على العاقلةِ؛ إذْ هو مِنْ الخطأِ.

ص: 43

7 -

أنْ تكونَ الجِنايةُ على نَفسٍ آدميَّةٍ، فلا تَحملُ قيمةَ مُتلَفٍ، ولا جنايةً على حيوانٍ.

8 -

ألاّ يكونَ الجاني قد اعترفَ بجِنايتِه، أو صالحَ عليها.

لا خِلافَ بين الفقهاءِ أنه إنْ اعترفَ الشخصُ بجِنايتِه الخطأِ أو شِبهِ العَمدِ، واعترَفَت معه العاقِلَةُ بذلك، أو صَدَّقَته فالدِّيَةُ عليها.

أمّا إذا لم تُصدِّقْه العاقلةُ في اعترافِه ولم تَعترفْ معَه: فإنْ كان متَّهمًا في إقرارِه فلا تَحملُ العاقلةُ دِيَةَ جِنايتِه؛ لِما ورَد عن عمر رضي الله عنه قال: "لا تَحملُ العاقلةُ عَمدًا، ولا عَبدًا، ولا صُلحًا، ولا اعترافًا، ولا ما دونَ الثُّلثٍ" أخرجَه الدارقطنيُّ، والبيهقيُّ، وإنْ كان عدلاً غيَر متَّهمٍ فتَحمل العاقلةُ دِيَةَ جِنايتِه؛ لِعمومِ الأدلَّةِ.

وقال ابنُ القيِّمِ في إعلامِ الموقِّعين (2/ 40): "وهو أنَّ المدَّعِي والمدَّعَى عليه قد يَتواطآن على الإقرارِ بالجنايةِ ويَشتركان فيما تَحمله العاقلةُ ويَتصالحان على تَغريمِ العاقلةِ، فلا يَسري إقرارُه ولا صُلحُه، فلا يَجوز إقرارُه في حقِّ العاقلةِ، ولا يُقبَل قولُه فيما يَجِب عليها مِنْ الغرامةِ، وهذا هو القياسُ الصَّحيحُ".

ولا خلافَ بينَ الفقهاءِ أنَّ العاقلةَ لا تَحملُ الجنايةَ بالصُّلحِ؛ لأثرِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، ولأن ما ثبَت في الصُّلحِ لم يَثبتْ بالجنايةِ، ولأنه إنّما يَثبُت بفعلِه واختيارِه، فلَم تَحملْه العاقلةُ، وذلك: أنْ يُدعَى عليه ويُصالَح عن ذلك.

مسألة: العاقلةُ لا تَحملُ دِيَةَ ما دونَ النَّفسِ، وتَحمل دِيَةَ النَّفسِ؛ لحديثِ أَبي هريرةَ رضي الله عنه، ولِعِظَمِ الغرامةِ، ولحُرمةِ النُّفوسِ. وقيل: وتحمل أيضا ثلث دية النفس فما فوق.

ص: 44

وتَعجيل الدِّيَةِ وتأجيلُها على العاقلةِ بحسَبِ الحالِ والمصلحةِ فإنْ كانوا مَياسِيرَ ولا ضررَ عليهم في التَّعجيلِ أُخذَت حالَّةً، وإنْ كان في ذلك مشقَّةٌ جُعلَت مؤجَّلةً حسَبَ ما يَراه القاضِي.

ويَجتهد الحاكمُ في تَحميلِ كلٍّ منهم ما يَسهُل عليه، ويَبدأ بالأَقربِ فالأَقربِ، وتُؤخذ مِنْ بعيدٍ لغَيبةِ قريبٍ، ويُؤخذ مِنْ الغنيِّ بقَدْرِه، ومِن دونِه بقَدْرِه على قَدْرِ طاقتِه في اليُسْرِ؛ لقولِه تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البَقَرَة: 185]، وقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البَقَرَة: 286].

لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كما في حديثِ أَبي هريرةَ قضَى بالدِّيَةِ على العاقلةِ، ولم يُحدِّد مِقدارًا معيَّنًا على كلِّ فردٍ منها، فوجَب أنْ يَحملَ كلُّ فردٍ ما يُطيق، وما كان هذا سَبيلَه، فالرُّجوع فيه إلى القاضِي، قال في الشَّرحِ الكبيرِ (9/ 661):"وجُملةُ ذلك أنه يَبدأ في قِسمةِ الدِّيَةِ بين العاقلةِ، الأقربُ فالأقربُ، فيَقسم على الإخوةِ وبَنِيهِم، والأعمامِ وبَنِيهِم، ثم أعمامِ الأبِ ثم بَنِيهِم، ثم أعمامِ الجَدِّ ثم بَنِيهِم، كذلك أبدًا، حتى إذا انقرَضَ النَّاسِبون، فعلى المَولَى المعتِقِ ثم على عَصَباتِه، ثم على مَولَى المَولَى، ثم على عَصَباتِه، الأقربُ فالأقربُ، كالميراثِ سَواءً، وإنْ قلنا الآباءُ والأبناءُ مِنْ العاقلةِ بُدِئَ بهم؛ لأنهم أقربُ، ومتى اتَّسعَت أموالُ قومٍ للعَقلِ لم يَعْدُهم إلى مَنْ بَعدَهم؛ لأنه حقٌّ يُستحَقُّ بالتِّعصيبِ، فقُدِّم الأقربُ فالأقربُ، كالميراثِ ووِلايةِ النِّكاحِ". مسألة: مَنْ لا عاقلةَ له، أو له وعَجَزَت، فإنْ كانَ كافرًا فالدِّيَةُ عليه، وإنْ كانَ مسلمًا فمِن بيتِ المالِ حالَّةً إنْ أَمكَن، فعَن سهلِ بنِ أَبي حَثْمةَ أَخبَر: "أنَّ نَفَرًا مِنْ قومِه انطلَقوا إلى خَيبرَ فتفرَّقوا فيها ووَجدُوا أحدَهم قَتيلاً

فكَرِه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ يُطَلَّ دُمَه، فوَدَاه مائةً مِنْ إبِلِ الصَّدقةِ". متَّفق عليه.

ص: 45

ونُوقش: أنَّ هذا قَتيلُ اليهودِ، وبيتُ المالِ لا يَعقِل عن الكفَّارِ بحالٍ، ففَعَله النبيُّ صلى الله عليه وسلم تفضُّلاً.

ولِما ورَد أنَّ أبا موسَى الأشعريَّ كتَب إلى عمرَ: "الرَّجُل يَموت بَينَنا ليس له رَحِمٌ، ولا مَولى، ولا عَصبةَ، فكتَب إليه عمرُ رضي الله عنه: "إنْ ترَك رَحِمًا فرَحِمٌ، وإلاّ فالمَولى، وإلاّ فلِبَيتِ مالِ المسلِمين، يَرِثُونه ويَعقِلون عنه". أخرجَه عبدُ الرزاقِ، وابنُ أَبي شيبةَ، ولِما ورَد أنَّ رجلاً قُتِل في زِحامِ الناسِ في زمنِ عمرَ، فلم يُعرفْ قاتلُه، فقال عليٌّ: "يا أميرَ المؤمِنين، لا يُطَلُّ دَمُ رجلٍ مسلمٍ"، فأدَّى دِيَتَه مِنْ بيتِ المالِ. أخرجَه عبدُ الرزاقِ، وابنُ أَبي شيبةَ.

فإنْ لم يُمكِن أَخذُ الدِّيَةِ مِنْ بيتِ المالِ وَجبَت على الجانِي؛ لِعموم قولِه تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّسَاء: 92].

ولأنَّ الأمرَ دائرٌ بين أنْ يُطَلَّ دَمُ المقتولِ، وبين إيجابِ دِيَتِه على المُتلِفِ، فلا يجوزُ الأولُ؛ لأنَّ فيه مخالفةَ الكتابِ والسُّنةِ، وقياسِ أصولِ الشَّريعةِ، فتَعيَّن الثَّاني.

ص: 46

‌فصلٌ: في كفَّارةِ القَتلِ.

الكَفَّارةُ في اللُّغةِ: مأخوذٌ مِنْ الكَفْرِ وهو السَّتْرُ والتَّغطِيةُ والجُحودُ، سُمِّيَت بذلك؛ لأنها تُغطِّي الإثمَ وتَستُره.

وفي الشَّرعِ: ما يُخرجه القاتلُ شِبهَ عَمدٍ أو خطأ مِنْ عتقٍ أو صيامٍ تَكفيرًا لِقَتلِه.

حُكمُها: الوجوبُ؛ لقولِه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النِّسَاء: 92].

وأما السُّنةُ: ما سيَأتي مِنْ الأحاديثِ.

وأما الإجماعُ: قال ابنُ قُدامةَ في المُغنِي (10/ 35): "وأَجمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ على القاتلَ خطأً كفَّارةٌ، سواءٌ كان المقتولُ ذكرًا أو أُنثَى".

قال ابنُ هُبَيرةَ في الإفصاحِ 2/ 224: "واتَّفَقوا على وجوبِ الكفَّارةِ في قَتلِ الخطأِ إذا كان المقتولُ حُرًّا مسلمًا".

تَجِب الكفَّارة بشُروطٍ:

الأولُ: أنْ تَكون النَّفسُ المقتولةُ مَعصومةً، حُرًّا أو عبدًا، فإنْ كان دَمُها مُهدَرًا، كالحربيِّ -الكافرِ الذي بَينَنا وبَينَه حربٌ-، والمُرتَدِّ والزَّانِي المُحصَنِ الذي ثَبَت عند القاضِي إقامةُ الحدِّ عليه؛ لم تَجِبْ الكفَّارةُ بقَتلِه.

وإنْ كان مَعصومَ الدَّمِ، كالذِّمِّيِّ والمُستأمَنِ؛ فتَجِب الكفَّارةُ بقَتلِه؛ لقولِه تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92]. ولأنه آدميٌّ مقتولٌ بغيرِ وَجهِ حَقٍّ،

ص: 47

فوَجبَت الكفَّارةُ على قاتِلِه كالمسلِمِ.

الشَّرطُ الثَّاني: أنْ يَكون القتلُ صادرًا مِنْ غيرِ المقتولِ، فإنْ صدَر مِنْ المقتولِ بأنْ قَتَل نفسَه فلا كفَّارةَ عليه؛ لِحديثِ سَلَمةَ بنِ الأَكوَعِ رضي الله عنه: أنَّ عامرَ بنَ الأَكوَعِ قَتَل نَفسَه". رَواه البخاريُّ. ولم يُوجِب عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كفَّارةً.

الشَّرطُ الثالثُ: أنْ يَكون الجنينُ نُفِخَت فيه الرُّوحُ إنْ كان القَتلُ لِجَنينٍ، لأنَّ القتلَ غيرُ مُتصوَّرٍ لمن لم تُنفَخ فيه الرُّوحُ.

الشَّرطُ الرابع: أنْ يَكون القتلُ خطأً، وهذا باتِّفاقِ الأئمَّةِ، قال ابنُ المنذرِ في الاجماعِ له ص 152.:"وأَجمعوا على أنَّ على القاتلِ خطأً: الكفَّارةُ ". وقال ابنُ حَزمٍ في مراتِب الإجماعِ ص 230: "واتَّفقوا على أنَّ على المسلِمِ البالغِ العاقلِ قاتلِ المسلمِ خطأً: الكفَّارةُ".

وقد دلَّ على هذا قولُه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92].

وإنْ كان القتلُ غيرَ خطأٍ فلا يَخلو مِنْ أمرَين:

الأولُ: أنْ يَكون شِبهَ العَمدِ:

عند جُمهورِ أَهلِ العلمِ: أنَّ الكفَّارةَ واجبةٌ بقَتلِ شِبهِ العمدِ؛ لأنه خطأٌ مِنْ حيثُ الجانِي؛ إذْ لم يَقصِد القتلَ، فيَدخلُ في عُمومِ قولِه تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92].

ولأنَّ شِبهَ العَمدِ مُلحَقٌ بالخطأِ في كثيرٍ مِنْ الأحكامِ، مِثلُ وجوبِ الدِّيَةِ على العاقلةِ، فكَذا الكفَّارةُ.

ولأنَّ عدَم إيجابِ الكفَّارةِ يَترتَّب عليه ألاّ يَجِب عليه شيءٌ؛ إذْ الدَّيَةُ على العاقلةِ.

ص: 48

الثاني: أنْ يَكون عمدًا:

عند جمُهورِ أهلِ العلمِ: عدمُ وجوبِ الكفَّارةِ بقَتلِ العَمدِ؛ لقولِه تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} [النِّسَاء: 93] ولم يَذكر كفَّارةً.

ولقولِه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البَقَرَة: 178]. ولم يَذكر كفَّارةً.

ولِما رُوي أنَّ سُويدَ بنَ الصامتِ قَتَل رجلاً، فأَوجَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه القَوَدَ، ولم يُوجبْ كفَّارةً. رَواه البيهقيُّ، وابنُ سعدٍ، والطَّبَرانيُّ، وهو ضعيفٌ جدًّا.

وعمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمْريُّ قَتَل رَجُلَين عَمدًا، فوَدَاهُما صلى الله عليه وسلم ولم يُوجبْ عليه كفَّارةً، رَواه ابنُ سعدٍ، وهو ضعيفٌ.

ولأنَّ الكفَّارةَ دائرةٌ بين العُقوبةِ والعبادةِ، فتَعيَّن أنْ يَكون سببُها دائرًا بين الَحظرِ والإباحةِ؛ لتعلُّقِ العبادةِ بالمباحِ، والعقوبةِ بالمحرَّمِ، وهذا المعنَى ليس موجودًا في العَمدِ.

الشَّرطُ السادسُ: أنْ يَكون القتلُ مباشرةً أو تسبُّبًا، فإنْ كان مباشرةً فتَجِب الكفَّارةُ باتِّفاقِ الأئمةِ.

وإنْ كان تسبُّبًا كما لو حَفَر بِئرًا محرَّمًا حفرُه: فعِندَ جُمهورِ أهلِ العلمِ: أنه تَجِب الكفَّارةُ بقَتلِ التَّسبُّبِ؛ لعُمومِ الآيةِ، ولأنَّ القَتلَ بالتَّسبُّبِ مُوجِبٌ للضَّمانِ، فكَذا الكفَّارةُ، ولأنه سَببٌ لإتلافِ الآدميِّ، يَتعلَّق به ضَمانُه، فتعلَّقَت به الكفَّارةُ، كما لو كان راكبًا فأَوطَأَ دابَّتَه انسانًا.

ص: 49

الشَّرطُ السابعُ: أنْ يَكون القاتلُ مكلَّفًا؛ لِحديثِ عليٍّ رضي الله عنه: «رُفِع القَلَمُ عن ثلاثةٍ، عن النَّائمِ حتى يَستيقظَ، وعن المجنونِ حتى يُفيقَ، وعن الصبيِّ حتى يَبلُغَ» . رَواه الترمذيُّ وأبو داودَ وغيرُهما. وإسنادُه حسنٌ، وتقدَّم.

ولأنَّ الكفَّارةَ شُرِعَت لسَترِ الذَّنبِ، وليس عليهما ذَنبٌ تَدعو الحاجةُ إلى سَترِه.

فرعٌ: لا يُشترط أنْ يَكون القاتلُ مسلمًا، فتَجِب على الكافرِ كما تَجِب على المسلمِ؛ لعمومِ الآيةِ، ولأنَّ الحُدودَ تَجِب على الكافرِ عقوبةً له، فوجَبَت عليه الكفَّارةُ قياسًا عليها، ولأنَّ عدَمَ إيجابِ الكفَّارةِ على الكافرِ يُفضي إلى عدَمِ وجوبِ شيءٍ عليه؛ إذْ الدِّيَةُ تَجِب على العاقلةِ.

ولا يُشترط أنْ يَكون القاتلُ حُرًّا، فتَجِب الكفَّارةُ على الرَّقيقِ.

مسألة: الكفَّارةُ عِتقُ رقبةٍ، فإنْ لم يَجِد فصيامُ شهرَين متَتابِعَين.

قال ابنُ هُبَيرةَ كما في الإفصاحِ 2/ 224: "اتَّفَقوا على أنَّ كفَّارةَ القتلِ الخطأِ: عِتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، فإنْ لم يَجِد فصيامُ شَهرَين متَتابِعَين".

وتقدَّم في أحكامِ الظِّهارِ ما يَتعلَّق بعِتقِ الرقبةِ مِنْ حيثُ دليلُها، ووجوبُها، وشُروطُ صِحَّةِ إعتاقِها. ما يَتعلَّق بصيامِ الشَّهرَين، ومتى يَجِب، وما يَقطَع التَّتابُع، وغيرُ ذلك.

ولا إطعامَ في كفَّارةِ القتلِ؛ لأنَّ اللهَ لم يَذكره في كفَّارةِ القتلِ، ولأنَّ الإطعامَ بدلٌ عن العتقِ والصيامِ، والأبدالُ لا مَدخلَ للقياسِ فيها.

ص: 50

مسألة: باتِّفاقِ العلماءِ: أنَّ الرَّقيقَ يُكفِّر بالصومِ، لكنْ اختلفُوا في تَكفيرِه بالعتقِ:

فعند جُمهورِ أهلِ العلمِ: أنه لا يُكفِّر بالعتقِ؛ لأنَّ العبدَ لا يَملكُ المالَ.

وقيل: يُكفِّر بالعتقِ، وعليه: إذا أَذِنَ له سيِّدُه تَحقَّقَ مِلكُه، فيكفِّر بالعتقِ.

مسألة: تَتعدَّد الكفَّارةُ بتعدُّدِ القتلِ، فإذا قَتَل شخصٌ جماعةً وجَبَت عليه عن كلِّ واحدٍ كفَّارةٌ مستقِلَّةٌ؛ لقولِه تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92]، وللقياسِ على الدِّيَةِ، فإنَّها تَتعدَّد باتِّفاقٍ، فكذلك الكفَّارةُ، ولقيامِ كلِّ قَتيلٍ بنَفسِه، وعدمِ تعلُّقِه بغيرِه. وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الأربعةِ.

تنبيهٌ: أحكامُ الكفَّاراتِ يَذكرها الفقهاءُ رحمهم الله في كتابِ الظِّهارِ، فيَذكرون هناك شُروطَ وجوبِ الإعتاقِ، وشُروطَ صِحَّةِ العتقِ في الكفَّارةِ، وصُوَرَ الانتقالِ مِنْ العتقِ إلى الإطعامِ، والتَّرتيبَ بين خِصالِ الكفَّارةِ، وما يُبطِل تتابُعَ الصيامِ والإطعامِ، وشُروطَ الُمطعَمِ، وجِنسَه، وقَدْرَه، وغيرَ ذلك.

فرع: حوادث السيارات، هذه الحوادث لا تخلو من أمرين:

الأمرُ الأولُ: أن تكون الإصابة في أحد الركاب الذين ركبوا باختيارِهم بإذن قائد السيارة، فهؤلاء قد ائتمنوه على أنفسهم وأموالهم، فهو أمين عليهم، وهذا لا يخلو من أحوال:

الأولى: أن يكون بتعدٍّ من القائدِ؛ كالسرعة الزائدة، وكصعود مرتفع خطر، ونحو ذلك.

الثاني: أن يكون بتفريطٍ من القائدِ، كأن يترك شَدَّ مسترخٍ يحتاج إلى شدٍّ، أو إصلاحِ ما يحتاج إلى إصلاحٍ، أو إغلاق ما يحتاج إلى إغلاقٍ.

ص: 51

ففي هاتين الحالتين يترتب على القائد:

1 -

الإثم.

2 -

كفارة القتل كما تقدم عن كل نفس معصومة.

3 -

ديات الأنفس على العاقلة.

4 -

ضمان الأموال.

الثالث: أن يكون بتصرفٍ من القائد يريد به السلامة من الخطر مثل:

أن يقابله ما يخشى الضرر بالاصطدام به، أو يخرج عليه من اليمين أو الشمال من لا يتمكن معه من الوقوف، فيحرف السيارة ليتفادى الخطر ونحو ذلك.

الحال الرابعة: أن يكون بغير سببٍ منه؛ مثل: أن ينفجر إطار عجلة السيارة، أو يسقط به جسر ونحو ذلك.

ففي هاتين الحالتين: لا يترتب عليه ضمان ولا كفارة؛ لأنه أمينٌ، ولم يحصل منه تعدٍّ ولا تفريط، بل هو محسن في الأُولى، وما على المحسنين من سبيل.

الأمر الثاني: أن تكون الإصابة في غير الركاب الذين معه، وتحته حالان:

الحال الأولى: أن يكون بسببٍ من المصاب، لا سبب لقائد السيارة فيه، مثل: أن تقابله سيارة في خط سيره لا يمكنه الخلاص منها، أو يرمي شخص نفسه أمامه لا يمكنه تلافي الخطر؛ ففي هذه الحالة: لا ضمان عليه؛ لأن المصاب هو الذي تسبب في إصابته، وعلى قائد السيارة المقابلة الضمان لتعديه.

ص: 52

الحال الثانية: أن يكون بسبب من المصيب، مثل: أن يتلف شخصًا يسير أمامه، أو يرجع إلى الوراء فيصيب شخصًا أو غيره: ففي هذه الحالة يضمن ما أتلفه من نفس أو مال، وعليه الكفارة عن كل نفس، ودية النفس على العاقلة إذا كان خطأ أو شبه عمد؛ كما تقدم في العاقلة. أفاده شيخنا ابن عثيمين.

ص: 53

‌بابُ القَسَامَةِ

وهي لُغةً: اسمُ القَسَمِ أُقيمَ مُقامَ المَصدَرِ، مِنْ قولِهم: أَقسَمَ إقسامًا وقَسَامةً، القَسَم -بالتَّحريك: اليمينُ، وتَقاسَم القومُ: تَحالَفُوا.

واصطلاحًا: أَيمانٌ مكرَّرةٌ في دَعوَى قَتلِ معصومٍ. روَى أحمدُ ومسلمٌ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَقرَّ القَسَامَةَ على ما كانَت عليه في الجاهليَّةِ".

فالقَسامةُ طريقٌ مِنْ طُرقِ نَفيِ القَتلِ عند العربِ في الجاهليَّةِ، وطريقٌ مِنْ طُرقِ إثباتِ القتلِ، واختُلف في أوَّلِ مَنْ قضَى بها في الجاهليَّةِ، فقيل: هي قَسامةُ أَبي طالبٍ في قَتيلِ بَنِي هاشمٍ، وقيل: أوَّلُ مَنْ قضَى بها في الجاهليَّةِ الوليدُ بنُ المُغِيرةِ. (صحيحُ البخاريِّ 4/ 236، مُغنِي المحتاجِ 4/ 109).

والأصلُ في القَسامةِ: السُّنةُ، فقد روَى سَهلُ بنُ أَبي حَثْمةَ ورافعُ بنُ خَديجٍ:"أنَّ مُحيِّصةَ بنَ مسعودٍ وعبدَ الله بنَ سَهلٍ انطلَقَا قَبلَ خَيبرَ فتفرَّقَا في النَّخلِ فقُتِل عبدُ اللهِ بنُ سَهلٍ فاتَّهموا اليهودَ، فجَاء إخوةُ عبدِ الرحمنِ بنِ سَهلٍ وأبناءُ عَمِّه حُويِّصةُ ومُحيِّصةُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتكلَّم عبدُ الرحمنِ في أمرِ أخيهِ وهو أصغرُ منهم، فقال الرسولُ صلى الله عليه وسلم: «الكُبْرَ الكُبْرَ»، أو قال: «لِيَبْدَأ الأَكبَرُ»، فتكلَّمَا في أَمرِ صاحبِهما، فقال صلى الله عليه وسلم: «يُقسِم خَمسُونَ مِنْكُمْ على رَجُلٍ منهم فيُدفع برُمَّتِه»، قالوا: أَمرٌ لم نَشهدْه كيف نَحلِفُ؟ قال: «فتُبْرِئُكم يَهودُ بأيمانِ خَمسينَ مِنهُم» قالوا: يا رسول الله قومٌ كفَّارٌ، قال: فوَدَاه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِه". رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

واتَّفق الأئمةُ الأربعةُ على القولِ بمَشروعيَّةِ القَسامةِ؛ لِما تقدَّم مِنْ الدليلِ.

ص: 54

شُروطُ صِحَّةِ القَسامةِ:

الشَّرطُ الأولُ: أنْ تَكون الدَّعوَى في قَتلِ نَفسٍ، فلا تَكون القَسامةُ في دَعوَى قَطعِ طرفٍ، ولا في دَعوَى جُرحٍ؛ لأنَّها ثبَتَت على خلافِ الأصلِ في النَّفسِ؛ لحُرمتِها فاختَصَّت بها، قال ابنُ قُدامةَ: بلا خلافٍ مِنْ شروطِ صِحَّةِ القَسامةِ.

الشَّرطُ الثَّاني: وجودُ اللَّوثِ، واللَّوْثُ في اللُّغةِ يُطلَق على معانٍ منها: القوَّةُ، وعَصْبُ العِمامةِ، والشَّرُّ، والجِراحاتُ، وغيرُ ذلك.

واصطلاحًا: اللَّوْثُ هو ما يَغلِبُ على الظَّنِّ صِحَّةُ الدَّعوَى.

ومِن صُوَرِ اللَّوْثِ التي ذَكرَها الفقهاءُ: قولُ القَتيلِ قتَلَني فلانٌ، ونحوُ ذلك.

ومِن صٌوَرِ اللَّوْثِ: ما لو وُجِد قَتيلٌ عند مَنْ معه مُحدَّدٌ كسِكِّينٍ وخِنجَرٍ مُلطَّخٍ بالدَّمِ، ولا يُوجد غيرُه ممّا يَغلِبُ على الظَّنِّ أنه قَتلَه، كسَبُعِ ضَارٍ، ونحوِ ذلك.

ومِن صُوَرِ اللَّوْثِ: أنْ يَزدحمَ الناسُ في مَضيقٍ أو مَسجدٍ ونحوِ ذلك، ثم يَتفرَّقون عن قَتيلٍ.

ومِن صُوَرِ اللَّوْثِ: أنْ تَقتَتِل طائِفَتان فيُوجدَ بينهما قَتيلٌ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَسأل الأنصارَ هل بِقَتيلِهم أثرٌ أم لا؟ مع أنَّ القتلَ يَحصل بما لا أثرَ له، كغَمِّ الوجهِ والخَنقِ.

ومِن صُوَرِ اللَّوْثِ: أنْ يَشهد بالقتلِ مَنْ لا تُقبَل شهادتُهم فيه، كما لو شَهِد بالقَتلِ صبيٌّ.

ص: 55

الشَّرطُ الثالثُ: أنْ يَكون القتيلُ آدميًّا، فلا قَسَامةَ في بَهيمةٍ؛ لأنَّ موضوعَ القَسامةِ حُرمةُ النَّفسِ وتَعظيمُها.

الشَّرطُ الرابعُ: دَعوَى القتلِ مِنْ أولياءِ القتيلِ؛ لأنَّ حقَّ الآدميِّ لا يَثبت بدونِ دَعوَاه.

الشَّرطُ الخامسُ: أنْ لا يَكون على القتلِ بَيِّنةٌ أو اعترافٌ.

الشَّرطُ السادسُ: أنْ يَتَّفق أولياءُ القتيلِ في دَعواهُم القتلَ، فإنْ تَناقضُوا، أو أَكذَبَ بعضُهم بعضًا قال بعضُهم قتَلَه، وقال بعضُهم لم يَقتلْه؛ لم تُقبل الدَّعوَى، وهذا باتِّفاقِ الأئمةِ.

الشَّرطُ السابعُ: أنْ يَكون المتَّهم بالقتلِ مُعيَّنًا، وهذا قولُ جُمهورِ أهلِ العلمِ، فلو قال بعضُ الوَرَثةِ: قَتلَه زيدٌ، وقال بعضُهم: قَتلَه عمرٌو، فلا قَسامةَ؛ لأنَّ الأيمانَ أُقيمَت مُقامَ البَيِّنةِ.

مسألة: مَنْ ادُّعِيَ عليه القتلُ لا يَخلو مِنْ أمرَين:

الأمرُ الأولُ: أنْ تَكون دَعوَى القتلِ مِنْ غيرِ لَوْثٍ، فيَحلفُ يَمينًا واحدةً ويَبرأُ حيثُ لا بَيِّنةَ للمُدَّعِي، كسائرِ الدَّعاوي، يَحلف المدَّعَى عليه يَمينًا ويَبرأ، فكَذا دَعوَى القتلِ بغيرِ لَوْثٍ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:«البَيِّنةُ على المُدَّعِي، واليمينُ على مَنْ أَنكَر» ، فإنْ نَكَل قُضِي عليه بالدِّيَةِ.

الأمرُ الثَّاني: أنْ تَكون دَعوَى القتلِ مع وجودِ اللَّوْثِ، فيَحلفُ أولياءُ القتيلِ خَمسينَ يَمينًا، فإنْ نَكلُوا عن الخَمسين يَمينًا، أو عن بعضِها حَلَف المدَّعَى عليه خَمسين يَمينًا وبَرِئ، فإنْ نَكَل قُضِي عليه بالدِّيَةِ.

وقيل: يُحبَس المدَّعَى عليه حتى يَحلف أو يَموت في السِّجنِ.

ص: 56

مسألة: يُقتَص مِنْ المدَّعَى عليه إذا تمَّت الشُّروطُ إذا كان القتلُ عَمدًا، وإنْ كان خطأً أو شِبهَ عَمدٍ فتَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِحديثِ سَهلِ بنِ أَبي حَثْمةَ، وفيه قولُه صلى الله عليه وسلم:«أَتحلِفُون وتَستحِقُّون دَمَ صاحبكُم» . رَواه مسلمٌ.

وفي رِوايةٍ: «يُقسِم خَمسونَ منكُم على رَجُلٍ منهم فيُدفَع بِرُمَّتِه» . رَواه مسلمٌ.

وقولُه صلى الله عليه وسلم: «يَحلف خَمسونَ منكُم على رَجُلٍ منهُم، فيُدفَع إليكم بِرُمَّتِه» . رَواه مسلمٌ، وفي لَفظٍ له:«ويُسلَم إليكُم» ، وثُبوت القَوَدِ بالقَسامةِ كالبَيِّنةِ.

مسألة: كَيفيَّةُ القَسامةِ: تُوجَّه أيمانُ القَسامةِ إلى أولياءِ الدَّمِ البالِغينَ العُقلاءِ مِنْ عَشيرةِ المقتولِ الوارِثينَ له، ولا خِلافَ بينهم في عَدمِ تَوجُّهِها إلى الصِّبيانِ والمجَانين؛ لأنَّ الصبيَّ ليس مِنْ أهلِ النُّصرةِ، وقولُ المجنونِ ليس صحيحًا، فلا قَسامةَ عليهما.

قال الشافعيُّ: فإذا كان للقتيلِ وارِثَان فامتَنَع أَحدُهما مِنْ القَسامةِ؛ لم يَمنع ذلك الآخَرَ مِنْ أنْ يُقسِم خَمسين يَمينًا، ويَستحِقُّ نَصيبَه مِنْ الميراثِ.

فيَحلِفون خَمسين يَمينًا، وتُوزَّع بينهم بقَدْرِ إِرثِهم مِنْ ذَوِي الفُروضِ والعَصَباتِ بقَدْرِ إِرثِهم منه.

لحديثِ ابنِ أَبي حَثْمةَ، وفيه:«أتَحلِفون وتَستحِقُّون دَمَ صاحِبِكم؟» ، قالوا: لا، قال:«فتَحلِفُ لكُم يَهودُ» ، قالوا: لَيسُوا مسلمِين، فوَدَاه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عندِه، فبَعَث إليهم بمائةِ ناقةٍ حتى أُدخِلَت عليهم الدَّارَ، قال سَهلُ:"لقد رَكضَتني منها ناقةٌ حمراءُ". رَواه مسلمٌ.

وإذا كُسِرَت اليمينُ يُكمَل على ذِي الأكثرِ مِنْ الكُسورِ ولو أقلَّهم نصيبًا مِنْ غيرِه، كابنٍ وبنتٍ: على الابنِ ثلاثةٌ وثَلاثون يَمينًا وثُلثٌ، وعلى البنتِ ستةَ

ص: 57

عَشَر وثُلثان، فيُجبَر كَسرُ اليمينِ على البنتِ؛ لأنَّ كَسرَ يَمينِها أكثرُ مِنْ كسرِ يَمينِ الابنِ، وإنْ كانَت البنتُ أقلَّ نصيبًا فتَحلف سَبعةَ عَشر يَمينًا، فإنْ تَساوَت الكُسورُ جَبرَ كلُّ واحدٍ كَسرَه، كثلاثةِ بَنينَ: فعَلَى كلِّ واحدٍ منهم سَتةَ عَشَر وثُلثان، فتُكمَل على كلٍّ، فيَحلف كلٌّ منهم سَبعةَ عَشَر يَمينًا.

وصِفةُ اليَمينِ بالنِّسبةِ للمدَّعِي: "والِله لقد قَتَل فلانُ بنُ فلانٍ الفلانيُّ فلانًا عَمدًا، أو شِبهَ عَمدٍ، أو خطأً، ونحوُ ذلك".

وبالنِّسبةِ للمدَّعَى عليه: ك"واللهِ ما قَتلتُه ولا شارَكتُ في قَتلِه".

وإذا تمَّت القَسامةُ: فالحقُّ حينئذٍ حتى في عَمدٍ لجميعِ الورَثَةِ؛ لأنه حقٌّ ثَبَت للميِّتِ، فصارَ لورَثَتِه كالدَّينِ.

مسألة: إذا لم يَرْضَ الورَثَةُ بيَمينِ المدَّعَى عليه كانَت دِيَةُ القتيلِ في بيتِ المالِ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وَدَى الأنصاريَّ لمَّا لم تَرْضَ الأنصارُ بيَمينِ اليهودِ؛ لأنه لم يَبْقَ سَبيلٌ إلى الثُّبوتِ، ولم يُوجَد ما يوجِبُ السُّقوطَ، فوَجَب الغُرمُ مِنْ بيتِ المالِ؛ لِئَلَّا يَضيعَ المعصومُ هَدرًا.

مسألة: مَنْ ماتَ في زَحمةٍ كجُمعةٍ وطوافٍ؛ يُفدَى مِنْ بيتِ المالِ نصَّ عليه الإمام أحمد، لِما رُوي عن عمرَ وعليٍّ، ومنه ما رَوَى سعيدٌ في سُنَنِه عن إبراهيمَ قال: قُتِل رَجُلٌ في زِحامِ الناسِ بعَرفَةَ، فجاءَ أهلُه إلى عمرَ فقال:"بَيِّنتُكم على مَنْ قَتلَه"، فقال عليٌّ:"يا أميرَ المؤمنينَ لا يُطَلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ، إنْ عَلِمتَ قاتِلَه، وإلا فأعطِ دِيَتَه مِنْ بيتِ المالِ".

ص: 58

‌بابُ الحُدودِ.

قال شيخُ الإسلامِ كما في الاختياراتِ 416: "العُقوباتُ الشرعيَّةُ إنَّما شُرِعَت رحمةً مِنْ اللهِ تعالى بعِبادِه، فهي صادرةٌ عن رَحمةِ الخلقِ وإرادةِ الإحسانِ إليهم، ولهذا يَنبغي لمَن يُعاقِب الناسَ على ذُنوبِهم أنْ يَقصدَ بذلك الإحسانَ إليهم والرَّحمةَ لهم كما يَقصِدُ الوالدُ تأديبَ ولدِه، وكما يَقصِدُ الطبيبُ معالجةَ المريضِ". قال ابنُ القيِّمِ في إعلامِ الموقِّعين (3/ 216): "وكذلك الحُدودُ جعلها اللُه تعالى زَوَاجرَ للنُّفوسِ وعقوبةً ونَكالاً وتَطهيرًا، فشَرعُها مِنْ أعظمِ مَصالحِ العبادِ في المعاشِ والمعادِ، بل لا تَتِمُّ سياسةُ مَلِكٍ مِنْ ملوكِ الأرضِ إلا بزَواجِرَ وعُقوباتٍ لأربابِ الجرائمِ، ومعلومٌ ما في التَّحيُّلِ لإسقاطِها مِنْ مُنافاةِ هذا الغَرضِ وإبطالِه، وتَسليطِ النُّفوسِ الشِّرِّيرةِ على تلك الجناياتِ".

والُحدودُ: جَمعُ حَدٍّ، وهو لُغةً: المَنْعُ، وحدودُ الله: مَحارمُه.

واصطلاحًا: عُقوبةٌ مُقدَّرةٌ شَرعًا في مَعصيةٍ لتَمنعَ الوقوعَ في مِثلِها.

والأصلُ في الحُدودِ: القرآنُ، كما في قولِه تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المَائدة: 38].

والسُّنةُ كما سيَأتي.

والإجماعُ: قال ابنُ حزمٍ في مَراتبِ الإجماعِ ص 96: "أَجمعُوا أنَّ مَنْ اجتمع عليه حَدُّ الزِّنَى والخَمرِ والقَذفِ والقَتلِ أنَّ القتلَ عليه واجبٌ، واختلَفُوا أيُقامُ عليه قَبلَ ذلك سائرُ الحُدودِ أم لا؟ ".

ص: 59

مسألة: شُروطُ وجوبِ الحَدِّ:

الأولُ: أنْ يَكون بالغًا عاقلاً؛ لحديثِ عليٍّ رضي الله عنه: «رُفِع القَلَمُ عن ثَلاثةٍ» ، وتقدَّم قريبًا، وفي قِصَّةِ ماعزٍ «أَبِكَ جُنونٌ؟» . رَواه مسلمٌ، ولأنه إذا سقَط عنه التَّكليفُ في العباداتِ، فالحدُّ أَولَى.

الثَّاني: أنْ يَكون مسلمًا أو ذِمِّيًا؛ لأنِّ الذِّمِّيَّ مُلتزِمٌ لأحكامِ المسلِمينَ في ضَمانِ النَّفسِ والمالِ والعِرضِ، بمُقتضَى عَقدِ الذِّمَّةِ لقولِه تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المَائدة: 49]، بخلافِ الحربيِّ والمستأمَنِ.

الثالثُ: أنْ يَكون عالمًا بالتِّحريمِ وإنْ جَهِل العقوبةَ؛ لقولِه تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسرَاء: 15]، ولقولِ عمرَ وعثمانَ وعليٍّ:"لا حدَّ إلاّ على مَنْ عَلِمَه". أخرجَه الشافعيُّ في المسنَدِ وعبد الرزاق.

الرابعُ: انتِفاءُ الشُّبهَةِ.

الشُّبهَةُ في اللُّغةِ: هي الالْتِباسُ.

وعُرِّفَت الشُّبهةُ عند الفقهاءِ: فقيل: ما يُشْبِه الثَّابتَ وليس بِثابتٍ.

وقيل: ما وُجدَت فيه صورةُ المُبيحِ ولم تَثبُت إباحتُه.

وقيل: التَّعارُض بين أدلَّةِ التَّحريمِ والتَّحليلِ.

وذهبَ الجُمهورُ: إلى دَرْءِ الحدودِ بالشُّبهاتِ؛ لحديثِ عائشةَ رضي الله عنها قالَت: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ادْرَؤُوا الحُدودَ بالشُّبهاتِ ما استَطعتُم» أخرجَه الترمذيٌّ، الدارقطنيُّ.

وما رُوي موقوفًا عن عمرَ رضي الله عنه: "لَأنْ أُعطِّلَ الحدودَ بالشُّبهاتِ أَحبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُقيمَها بالشُّبهاتِ" رواه ابنِ أبي شيبةَ.

ص: 60

وما رُوي موقوفًا عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه: "ادْرَؤُوا الحدودَ والقَتلَ عن عِبادِ اللهِ ما اسْتَطعتُم" رواه عبدِ الرزاق، وابنِ أبي شيبةَ.

قال ابنُ المنذرِ: "كلُّ مَنْ أَحفَظُ عنه مِنْ أهلِ العلمِ يَدرَأُ الحدَّ بالشُّبهةِ".

وعند الظَّاهريَّةِ: أنَّ الحدودَ لا تُدرَأُ بالشُّبهاتِ؛ لأدلَّةِ وجوبِ إقامةِ الحدِّ (المحلَّى 11/ 153).

مِثالُه: لو وَطِئَ أَمَةً مُشترَكةً بينَه وبينَ غيرِه فالوَطءُ محرَّمٌ، لكنْ يَسقط عنه الحدُّ عند الجُمهورِ؛ لِشُبهةِ المِلكِ، وعند الظاهريَّةِ: يُحَدُّ؛ لِحرمةِ الوَطءِ.

مسألة: يُقِيمُ الحدَّ الإمامُ أو نائبُه، باتِّفاقِ الأئمةِ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يُقِيم الحدودَ، ثُم خُلفاؤُه مِنْ بَعدُ، ويَقوم نائبُ الإمامِ مَقامَه؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ أَبي هريرةَ رضي الله عنه:«واغْدُ يا أُنَيسُ إلى امرأةِ هذا، فإنْ اعتَرَفَت فارْجُمها» . متَّفقٌ عليه، وأَمرَ برَجمِ ماعزٍ ولم يَحضُرْه.

وللسَّيدِ إقامةُ الحدِّ بالجَلْدِ فقط على رَقيقِه القِنِّ؛ لحديثِ أَبي هريرةَ رضي الله عنه: «إذا زَنَت الأَمَةُ فتَبيَّن زِنَاها فلْيَجلِدْها ولا يُثرِّبْ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

وعن عليٍّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَقِيموا الحدودَ على ما مَلكَت أَيمانُكم» . رَواه مسلمٌ.

مسألة: مَكانُ إقامةِ الحدِّ.

يُقام الحدُّ في غيرِ المسجدِ، ويَحرُم فيه؛ لحديثِ حَكيمِ بنِ حَزامٍ:"أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أنْ يُستَقادَ بالمسجدِ، وأنْ تُنشَد الأشعارُ، وأنْ تُقامَ فيه الحدودُ". أخرجَه أحمدُ وأبو داودَ.

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هذه المساجدَ لا

ص: 61

تَصلُح لشيءٍ مِنْ هذا البولِ، ولا القَذَرِ، إنَّما هي لذِكرِ اللهِ عز وجل، والصلاةِ وقراءةِ القرآنِ». رَواه مسلمٌ.

مسألة: تَحرُم شفاعةٌ وقَبُولُها في حَدِّ الله تعالى بَعدَ أنْ يَبلُغ الإمامَ أو نائبَه في البلدِ؛ لِما في الصَّحيحَين عن عائشةَ رضي الله عنها: "أنَّ قُريشًا أَهمَّهم شأنُ المخزوميَّةِ التي سَرقَت، فقالوا: مَنْ يُكلِّمُ فيها رسولَ اللهِ؟ فقالوا: ومَن يَجترئُ عليه إلاّ أسامةُ بنُ زيدٍ، قال:«يا أسامةُ أَتَشفَعُ في حدٍّ مِنْ حدودِ اللهِ؟ إنَّما هَلَك بَنُوا إسرائيلَ أنَّهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريفُ تَركُوه، وإذا سَرَق فيهم الضَّعيفُ أقامُوا عليه الحدَّ، والذي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِه لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمَّدٍ سَرقَت لَقَطَعتُ يَدَها» .

وقد أَجمعَ المسلِمونَ على أنَّ تَعطيل الحَدِّ بمالٍ يُؤخَذ أو غيرِه لا يَجوز، وأَجمعُوا على أنَّ المالَ المأخوذَ مِنْ الزِّاني والسَّارقِ والشاربِ والمحارِبِ وقاطعِ الطَّريقِ ونحوِ ذلك لِتَعطيلِ الحدِّ مالٌ سُحْتٌ خَبيثٌ.

مسألة: كَيفيَّةُ الجَلدِ.

يُضرَب الرَّجُل في الحدِّ قائمًا، والمرأةُ جالسةً، وتُشَدُّ عليها ثيابُها؛ لِما روَى السائبُ بنُ يَزيدَ قال:"كُنَّا نُؤتَى بالشاربِ في عَهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وإِمْرَةِ أَبي بكرٍ، وصَدْرًا مِنْ خِلافةِ عمرَ، فنَقومُ إليه بأَيدِينا ونِعالِنا وأَرْدِيَتِنا، حتى كان آخرُ إِمرَةِ عمرَ، فجَلَد أربعينَ، حتى إذا عَتَوا وفَسَقُوا جَلَد ثمانينَ". رَواه البخاريُّ.

ورَوَى عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِي بيهوديٍّ ويهوديَّةٍ قد زَنَيَا، فانطلَق رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى جاءَ يَهودَ

كنتُ في مَنْ رَجَمَهُما، فلقد رأيتُه يَقِيها مِنْ الحِجارةِ بنَفسِه". رَواه مسلمٌ. فدلَّ على أنَّ المرأةَ تُضرَب جالسةً.

ص: 62

ولِما روَى أبو داودَ مِنْ حديثِ عمرانَ رضي الله عنه: "فأمَر بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم فشُكَّت عليها ثِيابُها ثم أَمَر بها فرُجِمَت". وإسنادُه صحيحٌ.

مسألة: صِفَةُ السَّوطِ.

اتَّفق الأئمةُ على أنه يُجلَد الصَّحيحُ القويُّ في الحدودِ بسَوطٍ معتدِلٍ، ليس رَطبًا، ولا شديدَ اليُبُوسةِ، ولا خفيفًا لا يُؤلم، ولا غليظًا يَجرَح؛ لأنَّ الجديدَ يَجرحه، والخَلَقَ لا يُؤلِمُه.

والضابطُ: أن يكون الضرب مما يُؤلمه ولا يضرُّه. قال في المُغنِي 10/ 332: "لا يُمَدُّ ولا يُربَط، ولا نَعلمُ عنهم في هذا خلافًا

وجَلَد أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلَم يُنقَل عن أحدٍ منهم مَدٌّ ولا قَيدٌ ولا تَجريدٌ، ولا تُنزَعُ عنه ثيابُه بل يَكون عليه الثَّوب والثَّوبان، وإنْ كان عليه فَروٌ أو جُبَّةٌ محشُوَّةٌ نُزِعَت عنه؛ لأنه لو تُرِك عليه ذلك لم يُبالِ بالضَّربِ. قال أحمدُ: لو تُرِكَت عليه ثِيابُ الشِّتاءِ ما بالَى بالضربِ".

ولا يُبالِغ بضَربِه بحيثُ يَشُقُّ الجِلدَ؛ لأنَّ المقصودَ تَأديبُه لا إهلاكُه، ولا يَرفعُ ضاربٌ يدَه بحيثُ يَبدُو إِبْطُه؛ لأنَّ ذلك مبالغةٌ في الضربِ، وسُنَّ أنْ يُفرِّقَ الضربَ على بَدَنِه لِيأخُذَ كلُّ عُضوٍ منه حظَّه، ولأنَّ تَوالِي الضربِ على عضوٍ واحدٍ يُؤدِّي إلى القتلِ، ويُكثِر منه في مَواضعِ اللَّحمِ، كالأَلْيَتينِ والفَخِذَين، ويَضربُ مِنْ جالسٍ ظَهرَه وما قارَبَه.

ولا يَجوز أنْ يَضربَ الرَّأسَ والوجهَ والفَرْجَ والمَقاتِلَ، كالفؤادِ والخِصيَتَين؛ لِما روَى أَبو هُريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«إذا قاتَلَ أَحدُكم فليَجْتَنِب الوَجْهَ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ. ولأنه ربَّما أدَّى ضربُه على شيءٍ مِنْ هذه إلى قَتلِه، أو ذَهابِ مَنفعتِه.

ص: 63

ويُوالي بين الضربِ ولا يُفرِّق على الأيامِ إلا أنْ يَخشى مِنْ تَواليه هلاكَ المحدودِ.

مسألة: أَشدُّ الجَلدِ في الحُدودِ: جَلدُ الزِّنَى، ثم جَلدُ القَذفِ، ثم جَلدُ الشُربِ، ثم جَلدُ التَّعزيرِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى خَصَّ الزِّنَى بمزيدِ تأكيدٍ بقولِه:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النُّور: 2]، وما دُونَه أخفُّ منه في العَددِ، فلا يَجوزُ أنْ يَزيدَ عليه في الصِّفَةِ.

ضابطٌ: ما خفَّ في عَددِه خفَّ في صِفَتِه.

ضابطٌ: وجوبُ إقامةِ الحدِّ على الفورِ؛ لقِصَّةِ ماعزٍ رضي الله عنه حيثُ لم يُؤخِّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إقامةَ الحدِّ بعد اعترافِه. فلا يُؤخَّرُ لحَرٍّ أو بَردٍ إلا مع خَشيةِ الضَّررِ أو التَّلفِ، فيؤخَّرُ حتى تَزولَ المفسَدةُ.

مسألة: المريضُ لا يَخلو مِنْ حالتَين:

الأُولى: أنْ يُرجَى بُرؤُه فيؤخَّرُ؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للغامديَّةِ: «ارْجِعي حتَّى تَضعِي ما في بَطنِك» ، ثُم قال لها:«ارْجِعي حتَّى تُرضِعيه» . رَواه مسلمٌ.

ولأنَّ في تأخيرِه إقامةَ الحدِّ على الكمالِ مِنْ غيرِ إتلافٍ، فكان أَولَى.

الثانيةُ: أنْ لا يُرجَى بُرؤُه، فيُضربُ بسَوطٍ يُؤمَن معه التَّلفُ، فإنْ خِيفَ مِنْ السَّوطِ أُقيم بالعُثْكُولِ ونحوِه، كطَرَفِ ثَوبٍ.

فرع: لا يجوز شرعًا إعادة العضوِ المقطوعِ في الحدِّ؛ لأن المقصود من الحد هو إتلاف هذا العضو الفاسد.

فرع: يجوز التَّخديرُ عند إقامةِ الحدِّ؛ لأنَّه من الإحسان، إلا في الجلدِ؛ لأنَّ المقصود حصول الألم.

ص: 64

ضابطٌ: مَنْ مات في حَدٍّ -أي: بسَببِ إقامةِ الحدِّ- فالحقُّ قَتلَه، ولا شيءَ على مَنْ حدَّه؛ لأنه أَتَى به على الوجهِ المشروعِ، بأمرِ اللهِ وأمرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم.

ومَن تعدَّى فزادَ ولو جلدةً، أو بسَوطٍ لا يَحتمِلُه المَجلودُ فتَلِف المحدودُ؛ ضَمِنَه بِدِيَتِه.

مسألة: وهل يُحفَر للمرجومِ في الزِّنَى؟ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يَحفِر لليهوديَّين، ورَوَى بُرَيدةُ رضي الله عنه في قصَّةِ رَجمِ الغامديَّةِ: "

ثُم أَمَر بها فحُفِر لها إلى صَدرِها، وأَمَر الناسَّ فرَجمُوها

". رَواه مسلمٌ.

ورَوَى بُرَيدةُ أيضًا في قصَّةِ رَجمِ ماعزٍ رضي الله عنه: "فلمَّا كان الرابعةُ حُفِرَ له ثُم أُمِر به فرُجِم". رَواه مسلمٌ.

وفي حديثِ أَبي سعيدٍ رضي الله عنه في رَجمِ ماعزٍ رضي الله عنه: "

فواللهِ ما حَفَرْنا له ولا أَوثَقْناه، ولكنْ قامَ لنا فرَمَيْناه بالعظامِ والخِرَقِ". رَواه مسلمٌ.

وجُمِع: بأنه لم يُحفَر له أوَّلَ الأمرِ ثُم حُفِر له أخيرًا.

والأقربُ: رُجوعُ الأمرِ إلى اجتهادِ الإمامِ.

ويُسَنُّ أنْ يَشهد إقامةَ الحدِّ جماعةٌ مِنْ المؤمنين؛ لقولِه تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النُّور: 2].

فرعٌ: حُكمُ ما إذا اجتمَعَت الحدودُ: لا يَخلو مِنْ أمرَين:

الأولُ: أنْ يَكون فيها قتلٌ.

مِثلُ أنْ يَسرِقَ ويَزنِيَ وهو مُحصَنٌ، ويَشربَ الخَمرَ ويَقتُل في المُحارَبةِ: تَتَداخلُ الحدودُ، فيُقتلُ ويَسقُط سائرُ الحدودِ؛ لقولِ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم: "إذَا

ص: 65

اجْتَمَعَ حَدَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى، فِيهِمَا الْقَتْلُ أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ". ولأنَّ القتلَ أَقوى عقوبةٍ للزَّجرِ والرَّدعِ، ولا حاجةَ لِما سِواهُ مِنْ عقابٍ، فلا فائدةَ منه.

الثاني: ألاّ يَكونَ فيها قَتلٌ.

كما لو سَرَق وزَنَى غيُر المُحصَنِ، وشَرِب الخمرَ، فلا تَتَداخلُ ويُستوفَى جميعُها اتِّفاقًا.

فرعٌ: التَّداخُل بين عقوبةِ جِنايةِ الحدِّ والقِصاصِ.

1 -

اتَّفق الفقهاءُ على أنه إذا اجتَمَع على الجانِي حدُّ القذفِ والقِصاصُ بسبَبِ اعتِدائِه على ما دونَ النَّفسِ فإنَّها تُقام العُقوباتُ كلُّها؛ لأنَّ حقَّ الآدميِّ مبنيٌّ على الشُّحِّ والضِّيقِ فهو كالدُّيونِ، وحقُّ اللهِ تعالَى مَبنيٌّ على المُسامحةِ.

2 -

إذا اجتَمَع على الجانِي حدُّ القَذفِ والقِصاصُ في النَّفسِ يُقام عليه حدُّ القَذفِ أوَّلاً، ثم يُقتَصُّ منه؛ لأنَّ حقَّ الآدَميِّين واجبُ الأداءِ، فهو مَبنيٌّ على المُشاحَّةِ، بخِلافِ حقِّ اللهِ تعالى المبنيِّ على المُسامحةِ.

مسألة: رُجوعُ مَنْ عليه حدٌّ، لا يَخلو مِنْ أمرَين:

الأولُ: أنْ يَكون ثُبوت الحَدِّ بالتَّوبةِ: فإنْ كانَت التَّوبةُ بَعدَ الرَّفعِ إلى وليِّ الأمرِ أو نائبِه لم يُقبَل رُجوعُه؛ لقولِه تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المَائدة: 34]. ونَصُّه تعالَى على اعتبارِ تَوبةِ المُحارِبِ قَبلَ القُدرةِ عليه مِنْ بابِ التَّنبيهِ على اعتبارِ تَوبةِ غيرِه بِطَريقِ الأَولَى، فإذا دَفعَت تَوبتُه مع شِدَّةِ ضَررِه وتَعدِّيه فَلَأنْ تَدفَع تَوبةُ ما دَونَه بِطَريقِ الأَولَى.

وفي الصَّحيحَين في قِصَّةِ الذي قال: أَصبتُ حدًّا، فأَقِمْه عليَّ، قال:«أَلَيسَ قَدْ صَلَّيتَ مَعَنا؟» قال: نعم، قال:«فإنَّ اللَه قد غَفَر لك ذَنْبَك» . قد رَفَع اللهُ العقوبةَ عن التائبِ شَرعًا وقَدَرًا، فلَيس في شَرعِ اللهِ ولا في قَدَرِه

ص: 66

عقوبةُ تائبٍ ألبَتَّةَ، قال شيخُ الإسلامِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ (1/ 87): "ولِهذا اتَّفقَ العلماءُ -فيما أَعلمُ- على أنَّ قاطعَ الطريقِ واللِّصَّ ونحوَهُما إذا رُفِعوا إلى وليِّ الأمرِ ثم تابُوا بعد ذلك لم يَسقُط الحدُّ عنهم، بل تَجِبُ إقامتُه وإنْ تابُوا، فإنْ كانُوا صادِقِين في التوبةِ كان الحدُّ الكفَّارةَ لهم، وكان تَمكينُهم -وذلك مِنْ تَمامِ التوبةِ- بمَنزِلَةِ ردِّ الحقوقِ إلى أهلِها، والتمكينُ مِنْ استِيفاءِ القِصاصِ في حقوقِ الآدَميِّين

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [المَائدة: 34]، فاستَثنَى التائِبِين قَبلَ القُدرةِ عليهم فقَط، فالتَّائبُ بَعدَ القُدرةِ عليه باقٍ في مَنْ وَجَب عليه الحدُّ؛ للعُمومِ والمفهومِ والتعليلِ".

قال ابنُ القيِّمِ في إعلامِ الموقِّعين (3/ 173): "فإذا رُفِع إلى الإمامِ لم تُسقِط تَوبتُه عنه الحدَّ؛ لِئَلَّا يُتَّخذ ذلك ذَرِيعةً إلى تَعطيلِ حُدودِ اللهِ؛ إذْ لا يَعجِز كلُّ مَنْ وَجَب عليه الحدُّ أنْ يُظهِر التوبةَ لِيتخلَّص مِنْ العقوبةِ، وإنْ تابَ تَوبةً نَصوحًا؛ سدًّا لذَرِيعةِ السُّقوط بالكليَّةِ"، وذكَر قِصَّةَ توبةِ ماعزٍ.

الأمرُ الثَّاني: أنْ يَكون ثُبوتُ الحدِّ بالإقرارِ؛ فإنه إنْ جاء تائبًا قُبِل رُجوعِه عن الحدِّ، وإلاّ لم يُقبَل.

ص: 67

‌فصلٌ: في حَدِّ الزِّنَى.

الزِّنَى حرامٌ بالكتابِ والسُّنةِ والإجماعِ، ومِن أكبرِ الذُّنوبِ بَعدَ الشِّركِ والقَتلِ، قال أحمدُ:"لا أعلمُ بَعدَ القتلِ ذَنبًا أعظمَ مِنْ الزِّنَى".

ويَتفاوت، فزِنًى بذاتِ زَوجٍ أو مَحرَمٍ أَعظمُ، وإنْ كان زوجُها جارًا انضمَّ سوءُ الجِوارِ، أو قريبًا انضمَّ له قَطعُ الرَّحِم.

فالزِّنى مِنْ أعظمِ الجرائمِ، وكبارِ المعاصِي؛ لِما فيه مِنْ اختلاطِ الأَنسابِ الذي يَبطُل معه التَّعارُف والتَّناصُر على إحياءِ الدِّينِ، وفيه هلاكُ الحَرثِ والنَّسلِ، ولِذَا زُجِر عنه بالقتلِ أو الجَلْدِ ليَرتَدِع عن مِثلِ فِعلِه مَنْ يَهُمُّ به، فيَعودَ ذلك بعِمارةِ الدُّنيا، وصلاحِ العالَمِ الموصِلِ لإقامةِ العباداتِ. قال تعالى: {

وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً *} [الفُرقان: 68 - 69]، {أَثَامًا} [الفُرقان: 68] عقوبةً على فِعلِه، وعن أَبي هريرةَ، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يَزنِي الزَّانِي حينَ يَزنِي وهو مُؤمِنٌ، ولا يَسرقُ حينَ يَسرِقُ وهو مُؤمِنٌ، ولا يَشربُ حينَ يَشربُها وهو مؤمنٌ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

والزِّنى: فِعلُ الفاحشةِ في قُبُلٍ.

مسألة: عُقوبةُ الزَّاني.

إذا زَنَى المكلَّفُ المحصَنُ رُجِم حتَّى يَموتَ؛ لحديثِ أَبي هريرةَ وزيدِ بنِ خالدٍ الجُهنيِّ رضي الله عنهما، وفيه قولُه صلى الله عليه وسلم:«واغْدُ يا أُنَيسُ إلى امرأةِ هذا فإنْ اعتَرفَت فارْجُمها» . متَّفقٌ عليه، ولحديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ رضي الله عنه، وفيه:«البِكرُ بالبِكرِ جَلدُ مِائةٍ ونَفْيُ سَنَةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبُ جَلدُ مِائةٍ والرَّجمُ» . رَواه مسلمٌ.

ص: 68

ولِرَجمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لماعزٍ والغامديةِ واليهودِيَّين.

وقال عمرُ رضي الله عنه: "إنَّ اللهَ قد بَعَث محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بالحقِّ وأَنزَل عليه الكتابَ، فكانَ مِمَّا أَنزَل آيةُ الرَّجمِ

وإنَّ الرَّجمَ في كتابِ اللهِ حَقٌّ على مَنْ زَنَى إذا أُحصِن مِنْ الرِّجالِ والنساءِ إذا قامَت البَيِّنةُ أو الحَبَلُ أو الاعترافُ". متَّفق عليه.

والمُحصَن: مَنْ وَطِئَ امرَأتَه في نِكاحٍ صحيحٍ، لحديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ:"والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ جَلدُ مِائةٍ والرَّجمُ". رَواه مسلمٌ.

قال ابنُ المنذرِ في الإجماعِ 1/ 44 "أَجمعُوا على أنَّ المرءَ لا يَكون بعدَ النِّكاحِ مُحصَنًا حتَّى يَكون معه الوطءُ".

ولا يُجمَع بين الجَلدِ والرَّجمِ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَم ماعزًا والغامديَّةَ واليهوديَّين ولم يَجلِدْهم -وتقدَّمَت قريبًا-، ولحديثِ أَبي هريرةَ وزَيدِ بنِ خالدٍ الجهنيِّ رضي الله عنهما، وفيه قولُه صلى الله عليه وسلم:«واغْدُ يا أُنَيسُ إلى امرأةِ هذا فإنْ اعترَفَت فارْجُمها» . متَّفق عليه، ولم يَذكر الجَلدَ.

مسألة: وإذا زَنَى المكلَّفُ الحرُّ غيرُ المُحصَنِ؛ جُلِد مائةَ جَلدةٍ بالاتِّفاقِ؛ لقولِه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النُّور: 2].

وغُرِّب أيضًا -مع الجَلدِ- عامًا؛ لحديثِ عُبادةَ رضي الله عنه، وفيه قولُه صلى الله عليه وسلم:«البِكرُ بالبِكرِ جَلدُ مِائةٍ ونَفْيُ سَنَةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ جَلدُ مِائةٍ والرَّجمُ» . رَواه مسلمٌ، ولحديثِ أَبي هريرةَ وزيدِ بنِ خالدٍ الجهنيِّ رضي الله عنهما، وفيه قولُه صلى الله عليه وسلم:«وعلى ابنِكَ جَلدُ مِائةٍ وتَغريبُ عامٍ» . متَّفق عليه.

مسألة: اختَلَف العلماءُ في كَيفِيَّةِ التَّغريبِ.

فعِند الشافعيَّةِ والحنابلةِ: أنَّ التَّغريبَ هو النَّفيُ؛ لِما تقدَّم مِنْ حديثِ

ص: 69

عُبادةَ رضي الله عنه، وفيه:«ونَفيُ سَنَةٍ» .

وعند أَبي حنيفةَ: التَّغريبُ أنْ يُحبَس في بلدِ الزِّنَى.

وعند مالكٍ: التَّغريبُ أنْ يُحبس في البلدِ الذي يُغرَّب إليه.

ولو كانَ المَجلودُ امرأةً فتُغرَّب مع مَحرمٍ وعليها أُجرَتُه.

وإذا زَنَى الرقيقُ جُلِد خَمسينَ جَلدةً؛ لقولِه تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النِّسَاء: 25] والعذابُ المذكورُ في القرآنِ: مِائةُ جَلدةٍ لا غيرُ.

مسألة: عُقوبةُ اللُّوطِيِّ.

اللِّوَاطُ: إِتيانُ الذَّكرِ الذَّكرَ في دُبُرِه.

وعُقوبتُه: القَتلُ حَدًّا مطلقًا، سواءٌ كان مُحصَنًا أو غيرَ مُحصَنٍ، فاعلاً أو مفعولاً، إذا كان كلٌّ منهما مكلَّفًا مُختارًا.

وأَجمع المسلِمون على أنَّ فِعلَ قَومِ لُوطٍ مُحرَّمٌ، ومِن كبائرِ الذُّنوبِ، وأنه مِنْ أَبشَعِ المنكَراتِ؛ لِما روَى ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ وجدتُموه يَعمل عملَ قومِ لوطٍ فاقتُلوا الفاعلَ والمفعولَ به» . رَواه أحمدَ، أبو داودَ، والترمذيُّ.

ووَرَد أنَّ خالدَ بنَ الوليدِ كتَب إلى أَبى بكرٍ الصديقِ رضي الله عنهما في خِلافتِه يَذكر له أنه وَجَد رَجُلاً في بعضِ نَواحِي العربِ يُنكَح كما تُنكَح المرأةُ، وأنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه جَمَع الناسَ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فسأَلَهم عن ذلك، فكان مِنْ أَشدِّهم يومئذٍ قَولاً عليُّ بنُ أَبى طالبٍ رضي الله عنه قال: "إنَّ هذا ذَنبٌ لم تَعصِ به أُمَّةٌ مِنْ الأُمَمِ إلاّ أُمَّةً واحدةً صَنَع اللهُ بها ما قد عَلِمتُم، نَرَى أنْ نُحرقَه بالنَّارِ،

ص: 70

فاجتَمَع رأيُ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أنْ يُحرقَه بالنارِ، فكتَبَ أبو بكرٍ رضي الله عنه إلى خالدِ بنِ الوليدِ يأمُره أنْ يُحرقَه بالنارِ" رَواه البيهقيُّ في السُّننِ الكبرَى.

مسألة: وَطءُ المَيِّتةِ:

لا خلافَ بين الفقهاءِ في حُرمةِ وَطءِ المَيتةِ، سواءٌ أكانَت في حياتِها زوجتَه أم أجنبيَّةً عنه، وعدَّه ابنُ حَجرٍ الهَيتميُّ مِنْ كبائرِ الإثمِ والفواحشِ.

ويَجِب الحدُّ بوَطءِ الميِّتةِ؛ لأنه وَطءٌ في فَرجِ آدميَّةٍ، فأَشبَه وطءَ الحيَّةِ، ولأنه أَعظمُ ذنبًا وأكبُر إثمًا؛ لِضَمِّه إلى الفاحشةِ هَتْكَ حُرمةِ الميِّتِ.

مسألة: وَطءُ البَهيمةِ.

اتَّفق الأئمةُ على حُرمةِ وَطءِ البَهيمةِ؛ لدخولِه تحتَ عمومِ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *} [المؤمنون: 5 - 7].

ولِما روَى أبو هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: «مَلعونٌ مَنْ أَتى شيئًا مِنْ البَهائِمِ» أخرجَه الطبرانيُّ في الأوسط.

قال الفَخرُ الرازيُّ: أَجمعَت الأُمَّةُ على حُرمةِ إتيانِ البَهائمِ. ونصَّ جَمعٌ مِنْ الفقهاءِ على أنه مِنْ كبائرِ الإثمِ والفواحشِ، ولا يَجِب الحدُّ بوَطئِها، ويُبالَغ في تَعزيرِه؛ لأنه قد أَتى منكَرًا، واللهُ تعالى يقول:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعَارج: 29 - 30]، ولم يَصِحَّ في وجوبِ الحدِّ بوَطئِها شيءٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كحديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا:«مَنْ أَتى بَهيمةً فاقتُلوه واقتُلُوهَا مَعَه» . أخرجَه أبو داودَ.

ص: 71

ويَجِب قتلُ البهيمةِ، سواءٌ أكانَت مملوكةً للفاعلِ أم لغيرِه، مأكولةً أم غيرَ مأكولةٍ، للحديثِ السابقِ وإن كان ضعيفًا، ولأنَّ في بقائِها تَذكارًا للفاحشةِ، فيُعيَّرُ بها.

وعلى القولِ بقتلِ البهيمةِ المَوطوءَةِ أو نَدبِه فإنَّها إنْ كانَت للفاعلِ ذَهبَت هَدرًا؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَضمَن مالَ نَفسِه، وإنْ كانَت لغيرِ الواطِئِ يَجِب ضَمانُها على الفاعلِ؛ لأنَّها أُتلفَت بسَببِه، أَشبَه ما لو قَتَلها.

ويَحرم أَكلُها، وذلك لأنَّها حيوانٌ يَجِب قتلُه لحقِّ اللهِ تعالى، فلَم يَجُز أَكلُه كسائرِ المقتولاتِ لحقِّ اللهِ تعالى.

وعن أَبي حنيفةَ -وبه قال المالكيَّةُ، والشافعيَّةُ-: جوازُ أَكلِها مع عدمِ الكراهةِ.

وذلك لقولِه تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المَائدة: 1]، حيثُ جاء ذِكرُ الحِلِّ في الآيةِ مطلقًا، ولم يُفصَل بين الموطوءَةِ وغيِرها.

ولأنَّها لم تُذكَر مع المحرَّماتِ في قولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المَائدة: 3]، ولأنَّها حيوانٌ مِنْ جنسٍ يَجوز أكلُه، ذبَحَه مَنْ هو مِنْ أهلِ الذَّكاةِ فحَلَّ أكلُه، كما لو لم يُفعَل به هذا الفعلُ.

مسألة: لا يَجِب الحدُّ إلا بالشُّروطِ السابقةِ العامَّةِ لكلِّ حَدٍّ، وأيضًا يُشترَط شَرْطان:

أحدُهما: تَغيِيبُ الزَّانِي حَشَفتَه الأصليَّةَ كلَّها في الفرجِ المحرَّمِ.

الشَّرطُ الثَّاني: ثُبوتُ الزِّنى.

ولا يَثبُت إلا بأحدِ أمورٍ:

ص: 72

أحدُها: أنْ يُقِرَّ به، اتَّفق الفقهاءُ على ثُبوتِ الزِّنَى بالإقرارِ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَم ماعزًا والغامديَّةَ بإقرارَيهِما.

ويَكفِي لإقرارٍ مَرَّةٌ واحدةٌ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اكتَفَى مِنْ الغامديَّةِ بإقرارِها مرَّةً واحدةً.

ويُشترَط في الإقرارِ أنْ يَكون مفصَّلاً مبيِّنًا لحقيقةِ الوَطءِ؛ لِتَزولَ التُّهَمةُ والشُّبهةُ، ولقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لماعزٍ:«لعلَّك قَبَّلتَ أو غَمَزتَ أو نَظَرتَ؟» قال: لا يا رسولَ اللهِ، قال:«أَنِكتَها؟» ، لا يَكْنِي، فعِند ذلكَ أَمَر برَجْمِه.

وفي روايةٍ: قال: «حتَّى غابَ ذلكَ مِنْكَ في ذلكَ مِنها؟» قال: نعَم، قال:«كَمَا يَغِيب المِرْوَدُ في المُكْحُلةِ والرِّشاءُ في البِئرِ؟» قال: نعم. قال: «فهل تَدرِي ما الزِّنَى؟» قال: نعَم، أَتيتُ منها حرامًا ما يَأتي الرَّجُل مِنْ امرأتِه حَلالاً. أخرجَها أبو داود، والنسائيُّ.

ويَأتي ما يتعلَّق بشُروطِ الإقرارِ في آخِرِ الكتابِ.

الأمرُ الثَّاني: مِمّا يَثبُت به الزِّنَى: الشَّهادةُ بالإجماعِ.

وذلك أنْ يَشهد عليه بزِنًى واحدٍ أربعةٌ يَصِفُونه؛ لقولِه تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النُّور: 4]، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمّا أقرَّ عندَه ماعزٌ، قال له:«أَنِكتَها؟» ، لا يَكْنِي، قال: نعَم، قال:«كمَا يَغِيب المِرْوَدُ في المُكْحُلَةِ، والرِّشاءُ في البِئرِ؟» قال: نعَم. وتقدَّم قريبًا.

ولقولِه صلى الله عليه وسلم لهلالِ بنِ أُميَّةَ: «ائْتِ بأربعةِ شُهداءَ يَشهدون على صِدقِ مَقالَتِك، وإلاّ فحدٌّ في ظَهرِك» . رَواه البخاريُّ. وعند ابنِ حَزمٍ: أنه يُقبَل في الزِّنَى امرَأَتان مُسلِمَتان عَدلَان، فيَكونُ الشُّهودُ ثلاثةَ رجالٍ وامرَأَتَين، أو رَجُلَين وأربعَ نِسوةٍ، أو رَجُلاً وستَّ نِسوةٍ،

ص: 73

أو ثَمانِيَ نِسوةٍ فقَط؛ لأنَّ النِّساءَ مِنْ أهلِ الشَّهادةِ في الجُملةِ؛ لقولِه تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البَقَرَة: 282]، سواءٌ أَتَوا القاضيَ جُملةً، أو مُتفرِّقين.

الثالثُ: القَرائِنُ، كأنْ تَحمِل امرأةٌ لا زوجَ لها ولا سيِّدَ، فقَرينةٌ على الزِّنَى؛ لقولِ عمرَ رضي الله عنه:"والرَّجمُ في كتابِ اللهِ حَقٌّ على مَنْ زَنَى إذا أُحصِن، مِنْ الرِّجالِ والنِّساءِ، إذا قامَت البيِّنةُ أو كان الحَبَلُ أو الاعتِرافُ". متَّفق عليه.

وقال شيخُ الإسلامِ كمَا في السِّياسةِ الشرعيَّةِ (1/ 133): "هو المَأثورُ عن الخُلفاءِ الراشِدِين، وهو الأَشبَهُ بالأصولِ الشرعيَّةِ، ومَذهبِ أهلِ المدينةِ، فإنَّ الاحتِمالاتِ النادرةَ لا يُلتفَت إليها، كاحتمالِ كَذِبِها وكَذِبِ الشُّهودِ".

ما لم تَدَّعِ شُبهةً، بأنْ ادَّعَت أنَّها مُكرَهةٌ، أو وُطِئَت بشُبهَةٍ يُمكن تَصديقُها؛ لِما ورَد أنَّ عمرَ رضي الله عنه "أُتِي بامرأةٍ حامِلٍ غيرِ ذاتِ زَوجٍ فسَأَلها عنه، فقالَت: لم أُحِسَّ حتى رَكِبَني رَجُلٌ فقَذَف فيَّ مِثلَ الشِّهابِ، فقالَ عمرُ: دَعُوها فإنَّها تائبةٌ". رَواه البيهقيُّ.

ص: 74

‌فصلٌ: في حَدِّ القَذفِ.

القَذفُ لُغةً: الرَّميُ مطلقًا، والتَّقاذُف: التَّرامِي.

واصطلاحًا هو: الرَّميُ بزِنًى أو لِواطٍ.

القَذفُ: محرَّمٌ ومِن كبائِرِ الذُّنوبِ، والأصلُ في تَحريمِه القرآنُ، كما في قولِه تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [النُّور: 4].

والسُّنةُ، لِما روَى أبو هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «اجتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ» ، قالُوا يا رسولَ اللهِ وما هي؟ قال:«الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقَتلُ النَّفسِ الَّتِي حَرَّم اللهُ إلا بالحقِّ، وأكلُ الرِّبَا، وأكلُ مالِ اليَتيمِ، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ، وقَذفُ المُحصَناتِ المُؤمِناتِ الغَافِلاتِ» . متَّفق عليه.

والإجماعُ قائمٌ على تَحريمِه، وأنه مِنْ الكبائرِ.

والحِكمةُ مِنْ مَشروعيَّتِه: الدَّرْءُ عن أَعراضِ المَعصُومِين، وعُقوبةُ المُعتدِين، وطُهْرةُ الجَانِين.

مسألة: يَجِب القَذفُ إذا رأَى زوجتَه تَزنِي في طُهرٍ لم يَطَأْها فيه، ثم تحمل فيَعتزلُها إلى أن تَلِد ما يُمكِن كَونُه مِنْ الزَّانِي فيَلزمُه قَذفُها لِنَفيِ الوَلدِ باللِّعانِ؛ إذْ لم يُمكن نَفيُه إلا باللِّعانِ.

مسألة: يُباح القَذفُ إذا رأَى زوجتَه تَزنِي ولم تَلِد ما يَلزمُه نَفيُه، بأنْ لم تَلِد، أو وَلدَت ما لا يَغلِب على ظَنِّه أنه مِنْ زانٍ.

ص: 75

فرعٌ: إنْ عَلِم المقذوفُ بالقَذفِ فيَجِب إخبارُ المقذوفِ واستِحلالُه؛ لحديثِ أَبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كانَت عندَه مَظلَمةٌ لأَحدٍ مِنْ عِرضٍ أو شَيءٍ فلْيَتحلَّلْه اليومَ قَبلَ ألاّ يَكونَ دينارٌ ولا دِرهمٌ» . رَواه البخاريُّ.

وإنْ لم يَعلم؛ لا يَجِب إخبارُ المقذوفِ واستِحلالُه، بل تَكفي التوبةُ مع الاستغفارِ والدعاءِ، والثناءِ عليه؛ لقولِه تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هُود: 114]، ولقولِه صلى الله عليه وسلم:«وأَتبِع السيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُها» . رَواه أحمدُ والترمذيُّ وصحَّحه، ولأنَّ إخبارَ المقذوفِ تَترتَّب عليه فِتنةٌ وعداوةٌ.

مسألة: العُقوباتُ المترتِّبةُ على القذفِ:

1 -

الجَلدُ: إذا قذفَ المكلَّفُ المختارُ مُحصَنًا؛ جُلِد ثَمانينَ جَلدةً؛ لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النُّور: 4].

2 -

الحكم عليه بالفِسْق.

3 -

ردُّ الشَّهادةِ، ورَدُّ الشهادةِ يَسقُط بالتوبةِ؛ للآيةِ الآتيةِ.

مسألة: شُروطُ الإحصانِ في القَذفِ.

الشَّرطُ الأولُ: الإسلامُ، فمَن قَذَف غيرَ مسلمٍ لم يُحَدَّ، وإنَّما يُؤدَّب باتِّفاقِ الأئمةِ، قال ابنُ المنذِرِ:"وجُملةُ العلماءِ مُجمِعون، وقائِلُون بهذا القولِ، ولم أُدرِك أَحدًا ولا لَقِيتُه يُخالِف ذلك"؛ لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النُّور: 4 - 5].

الشَّرطُ الثَّاني: العَقلُ، باتِّفاقِ الأئمةِ، فلا يُحَدُّ مَنْ قَذَف مَجنونًا، ولكنْ

ص: 76

يُعزَّر؛ لِعَدمِ لُحوقِ المَعرَّة بقَذفِه، ولأنه لا يَجِب عليه حَدُّ الزِّنَى لو زَنَى.

الشَّرطُ الثالثُ: العِفَّةُ، باتِّفاقِ الأئمةِ للآيةِ والحديثِ السابقَين، وقولِه:{الْغَافِلَاتِ} [النُّور: 23] أي: عن الزِّنَى.

الشَّرطُ الرابعِ: البُلوغُ، فلا يُحَدُّ مَنْ قَذَف صبيًّا؛ لأنه أَحدُ شَرطَي التَّكليفِ فأَشبَه العقلَ، ولأنَّ زِنَى الصَّبيِّ لا يُوجِب حدًّا فلا يَجِب الحدُّ بالقَذفِ به، كزِنَى المجنونِ.

وإنْ قَذَف غيرَ المُحصَنِ، وهو مَنْ تَخلَّف في شَرطٍ مِنْ شروطِ الإحصانِ السابقةِ، كذِمِّيٍّ وصغيرٍ، فيَجِب التَّعزيرُ على القاذفِ؛ لارتِكابِه المعصيةَ.

مسألة: حَدٌّ القذفِ حقٌّ للمقذوفِ، وفيه حقٌّ للهِ؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ دِمائَكُم، وأَموالَكُم، وأَعراضَكُم عَلَيكُم حَرامٌ» . متَّفق عليه، فأضافَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم العِرْضَ إلى الشَّخصِ، فيَسقُط بعَفوِه، ولا يُقام إلا بطَلَبِه، لكنْ لا يَستَوفِيه بنَفسِه.

وإنْ ماتَ المقذوفُ فإنَّ حَدَّ القَذفِ يُورَث مطلقًا؛ لأنه حقٌّ مِنْ حُقوقِ المقذوفِ، فكان للوارِثِ القيامُ به اعتبارًا بسائِرِ حُقوقِه.

لكنْ إنْ سَقَط الحَدُّ بعفوِ المقذوفِ؛ عُزِّر لحقِّ اللهِ تعالى.

مسألة: صِيغةُ القَذفِ:

ألفاظُ القَذفِ تَنقسِم إلى:

1 -

صَريحٍ: وهو ما لا يَحتمل غيَر القَذفِ، والمَرجعُ في ذلك العُرفُ، كقولِ القاذفِ:«يا زانِي» ، «يا لُوطِيّ»؛ لأنَّ اللُّوطِيَّ في العُرفِ: مَنْ يَأتي الذُّكورَ.

ص: 77

وإنْ قال: أَردتُ ب «زانِي» : زَانِيَ العَينِ، ونحوَه، أو: أنَّك مِنْ قومِ لُوطٍ، أو: أنَّك تَعملُ عَملَهم غيرَ إتيانِ الذُّكورِ؛ لم يُقبَل.

وك «يا عاهِرُ» ، أو «قد زَنَيت» ، أو «زَنَى فَرجُك» ، و «يا مَنْيُوكُ» ، و «يا مَنْيُوكَةُ» .

2 -

كِنايةُ القَذفِ، وهو ما يَحتمِل القَذفَ وغيرَ القَذفِ، والمَرجعُ في ذلك العُرفُ، كقولِ القاذفِ:«يا قَحْبَةُ» ، و «يا فاجِرَةُ» و «يا خَبِيثَةُ» و «فَضَحتِ زَوجَك» ، أو «نَكَّستِ رَأسَه» ، ونحوُ ذلك.

وإنْ فسَّرَه بغيرِ القَذفِ؛ قُبِل مع يَمينِه؛ لأنه يَحتملُ غيرَ الزِّنَى، وعُزِّر؛ لارْتِكابِه المَعصيةَ.

مسألة: قولُه: «يا كافرُ، يا فاسقُ، يا فاجرُ، يا حمارُ» ، ونحوُه: يُعزَّر.

وقال بعضُ العلماءِ: يَقولُ له مِثلَ ما قالَ.

مسألة: إذا قَذَف جماعةً بكَلِماتٍ، بأنْ قال لكلِّ واحدٍ:«يا زانٍ» فلكُلِّ واحدٍ حَدٌّ؛ لأنَّها حُقوقٌ لآِدمِيِّين فلَم تَتَداخَل، كالدُّيُون.

وأمّا إذا قَذفَهم بكَلِمةٍ واحدةٍ فعَلَيه حَدٌّ واحدٌ؛ لقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النُّور: 4]، ولم يُفرِّق بين قَذفِ واحدٍ أو جماعةٍ.

ولأنَّ الحدَّ إنَّما وَجَب بإدخالِ المَعرَّةِ على المقذوفِ بقَذفِه، وبِحَدٍّ واحدٍ يَظهَر كَذِبُ هذا القاذفِ وتَزولُ المَعرَّةُ فوَجَب أنْ يُكتفَى به.

مسألة: إذا قَذَف جماعةً لا يَجوز أنْ يَكونوا كُلُّهم زُناةً عادةً -كأهلِ بلدٍ مثلاً- لم يَجِب الحدُّ؛ لأنَّ الحدَّ إنَّما يَجِب لِنَفيِ العارِ، ولا عارَ على

ص: 78

المَقذوفِ لأنَّا نَقطع بكَذِبِه، ويُعزَّر للكَذِبِ، وقيل: يُحَدُّ لِوُجودِ القذفِ.

ومَن قَذَف مَيِّتًا حُدَّ بطَلبِ وارثٍ.

ومَن قَذَف نَبِيًّا كَفَر وقُتِل، أو قَذَف أُمَّ النبي كَفَر؛ لأنه رِدَّةٌ عن الإسلامِ وخُروجٌ عن المِلَّةِ، وكذلك السَّبُّ بغَيرِ القذفِ يُسقِط الإسلامَ.

قال شيخُ الإسلامِ في مَجموعِ الفَتاوَى (32/ 119): "ولهذا كان مَنْ قَذَف أُمَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُقتَل؛ لأنه قَدَح في نَسبِه، وكذلك مَنْ قَذَف نِساءَه يُقتَل؛ لأنه قَدَح في دِينِه، وإنَّما لم يَقتُلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم تَكلَّموا بذلك قَبلَ أنْ يَعلم بَراءَتها".

ولو تابَ أو كان كافرًا فأَسلَم لم يَسقُط؛ لأنه حدُّ قَذفٍ، فلا يَسقُط بالتوبةِ أو الإسلامِ.

ص: 79

‌فصلٌ: في عُقوبةِ المُسكِرِ.

أيْ: الذي يَنشأُ عنه السُّكرُ، وهو اختِلاطُ العَقلِ.

والخَمرُ أُمُّ الخبائِثِ؛ لأنَّها تُفسِد العقولَ والأبدانَ والأخلاقَ والأَنفُسَ والمُجتَمعاتِ، قال شيخُ الإسلامِ كما في مَجموعِ الفتاوَى 20/ 336:(وتَحريمُ الخَمرِ أَشدُّ مِنْ تَحريمِ اللُّحومِ الخبيثةِ، فإنَّ الخَمرَ يَجِب اجتنابُها مطلقًا)، ولا يَجوز اقتِناؤُها، ويَحرُم بَيعُها وشِراؤُها والمساهمةُ فيها؛ لأنَّ المَفاسدَ الناشِئَةَ عنها أَعظمُ مِنْ مَفاسدِ الأَطعمةِ الخبيثةِ. قال تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المَائدة: 90].

وعن عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ شَرِب الخَمرَ في الدُّنيا، ثُم لم يَتُب مِنها، حُرِمَها في الآخِرةِ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ. وعن أَبي هريرةَ، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يَزنِي الزَّاني حينَ يَزنِي وهو مُؤمِنٌ، ولا يَسرِقُ حينَ يَسرِقُ وهو مُؤمِنٌ، ولا يَشربُ حينَ يَشربُها وهو مُؤمِنٌ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

وقال ابنُ القيِّمِ في الهَديِ 4/ 141: "إنَّما حَرَّم اللهُ على هذه الأُمَّةِ ما حَرَّم لِخُبثِه، وتَحريمُه له حِميةٌ لهُم، وصِيانةٌ عن تَناوُلِه

وهو يُكسِب الطَّبيعةَ والرُّوحَ صِفةَ الخُبثِ

".

قال ابنُ هُبَيرةَ في الإفصاحِ 2/ 268: "واختَلَفوا في حَدِّ السُّكرِ، فقال أبو حنيفةَ: هو ألاّ يَعرف السماءَ مِنْ الأرضِ، ولا المرأةَ مِنْ الرَّجلِ، وقال مالكٌ: إذا استَوى عنده الحَسَنُ والقبيحُ فهو سَكْرانُ، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: هو أنْ يُخلِّط في كلامِه خلافَ عادَتِه".

ص: 80

مسألة: كلُّ شَرَابٍ أَسكَر كثيرُه: فقَليلُه حرامٌ وفيه العُقوبةُ؛ لحديثِ جابرٍ رضي الله عنهما، وفيه قولُه صلى الله عليه وسلم:«ما أَسكَر كثيرُه فقَليلُه حرامٌ» . رَواه أبو داودَ، والترمذيُّ، وابنُ ماجَه، وفي التَّلخيصِ الحَبيرِ 4/ 201: حسَّنَه الترمذيُّ، ورجالُه ثقاتٌ.

مسألة: ضابطُ الخمرِ.

الخمرُ يُطلَق على كلِّ مُسكرٍ مِنْ أيِّ مادةٍ؛ لحديثِ أنسٍ رضي الله عنه قال: "حُرِّمَت الخمرُ علينا حينَ حُرِّمَت، وما نَجِد -يَعني بالمدينةِ- خمرَ الأَعنابِ إلا قليلاً، وعامَّةُ خَمرِنا البُسْرُ والتَّمْرُ". رَواه البخاريُّ.

ولحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ مُسكِرٍ خَمرٌ، وكلُّ خَمرٍ حرامٌ» . رَواه مسلمٌ.

وقال عمرُ رضي الله عنه: "الخمرُ ما خامَر العَقلَ". متَّفق عليه.

وقيل لأنسٍ رضي الله عنه: "الخمرُ مِنْ العِنَبِ أو مِنْ غيرِها؟ قال: ما خَمَّرتَ مِنْ ذلك فهُو الخَمرُ". رَواه ابنُ أَبي شيبةَ بسندٍ صحيحٍ.

قال شيخُ الإسلامِ في الفتاوَى 28/ 340: "والحَشيشةُ المصنوعةُ مِنْ ورقِ العِنَبِ حرامٌ أيضًا يُجلَد صاحبُها كما يُجلَد شاربُ الخمرِ، وهي أَخبَث مِنْ الخمرِ مِنْ جهةِ أنَّها تُفسِد العقلَ والمِزاجَ حتى يَصيرَ في الرَّجُلِ تَخنُّثٌ ودِياثَةٌ وغيرُ ذلك مِنْ الفسادِ، والخمرُ أَخبَثُ مِنْ جهةِ أنَّها تُفضي إلى المخاصمةِ والمقاتلةِ، وكِلاهُما يَصُدُّ عن ذِكرِ اللهِ تعالى وعن الصلاةِ".

مسألة: لا يُباح شُربُ ما يُسكِر كثيُره لِتَداوٍ؛ لِما روَى طارقُ بنُ سُويدٍ الجُعفيُّ رضي الله عنه: سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الخمرِ؟ فنَهَاه عنها، أو كَرِه أنْ يَصنَعها، فقال: إنَّما أَصنعُها للدَّواءِ، فقال:«إنَّها لَيسَت بِدَوَاءٍ ولكنَّها داءٌ» . رَواه مسلمٌ.

ص: 81

وعن أَبي هريرةَ رضي الله عنه قال: "نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الدَّواءِ الخبيثِ". رَواه مسلمٌ، ولعُموماتِ أدلَّةِ النَّهيِ عن التَّداوِي بالمحرمات.

ولا يباح أيضاً شربها لعطش؛ لأنَّها لا تُسَكِّن العطشَ بل تَزيدُه، ولا غير ذلك، إلا لِدَفعِ لُقمةٍ غَصَّ بها، ولم يَحضُره غيرُه، بل يَجِب عليه ذلك مُحافظةً على حياتِه؛ لأنه مُضطرٌّ.

مسألة: عُقوبةُ شُربِ المُسكرِ: أَربعون جَلدةً، ولو رأَى الإمامُ بُلوغَه ثَمانينَ جازَ، والزيادةُ على الأَربعين تَكون تعزيرًا.

بِدَليلِ: أنَّ عليًّا جَلَد الوليدَ بنَ عُقبةَ أَربعينَ، ثم قال:"جَلَد النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أَربعينَ، وجَلَد أبو بكرٍ أَربعينَ، وعمرُ ثَمانينَ، وكلٌّ سُنَّةٌ، وهذا أَحبُّ إليَّ". أخرجَه مسلمٌ.

وعن أنسِ بنِ مالكٍ قال: إنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَلَد في الخمرِ بالجَريدِ والنِّعالِ، ثم جَلَد أبو بكرٍ أَربعينَ، فلمَّا كان عمرُ ودَنَا الناسُ مِنْ الرِّيفِ والقُرَى قال: ما تَرَون في جَلدِ الخمرِ؟ فقال عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ: أَرَى أنْ تَجعلَها كأَخفِّ الحدودِ. قال: فجَلَد عمرُ ثَمانينَ". أخرجَه مسلمٌ.

ولِما روَى عُبيدُ بنُ عميرٍ قال: "كان الذي يَشرب الخمرَ يَضرِبونه بأَيدِيهِم ونِعالِهم ويَصكُّونه، فكانَ ذلك على عَهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأَبي بكرٍ وبعضِ إمارةِ عمرَ، ثُم خَشِي أنْ يُغتالَ الرَّجُلُ فجَعَله أَربعينَ سَوطًا، فلمَّا رَآهم لا يَتَناهَون جَعَله سِتِّين، فلمَّا رَآهم لا يَتَناهَون جَعَله ثَمانينَ"، ثم قال:«هذا أدنى الحدود» رَواه عبدُ الرزاقِ، وصحَّحه ابنُ حزمٍ في المحلَّى.

ويُعزَّر مَنْ حَضَر شُربَها.

ص: 82

مسألة: مَنْ شَرِب ما خُلِط به ولم يُستَهْلَك فيه، أو أَكَل عَجينًا لُتَّ به عُوقِب بما تقدَّم.

مسألة: إذا تَكرَّر منه شُربُ الخمرِ.

إذا تكرَّر مِنْ الشَّخصِ شُربُ الخمرِ فلِلإمامِ أنْ يَقتُله تَعزيرًا بحسَبِ المصلحةِ، فإذا أَكثَر الناسُ مِنْ الخمرِ ولم يَنزجِروا بالحدِّ فرَأَى الإمامُ أنْ يَقتُل فيه قَتَل، ولهذا كان عمرُ رضي الله عنه يَنفِي فيه مرَّةً، ويَحلِق الرَّأسَ مرَّةً، وجَلَد فيه ثَمانينَ، وقد جَلَد فيه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ أَربعينَ، فقَتلُه في الرابعةِ ليس حدًّا وإنَّما هو تَعزيرٌ بحسَبِ المصلحةِ.

ولحديثِ أَبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذا سَكِر فاجْلِدُوه، ثُم إنْ سَكِر فاجْلِدُوه، ثُم إنْ سَكِر فاجْلِدُوه، فإنْ عادَ في الرَّابعةِ فاقْتُلوه» . رَواه أحمدُ وأبو داودَ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَه.

ولحديثِ عبدِ الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذا شَرِب الخمرَ فاجْلِدُوه، فإنْ عادَ فاجْلِدُوه، فإنْ عادَ فاجْلِدُوه فإنْ عادَ فاقْتُلُوه» . رَواه أحمدُ، وصحَّح ابنُ حزمٍ في المحلَّى هذَين الحديثَين.

مسألة: تثبُت عُقوبةُ شُربِ الخمرِ:

1 -

بإقراره مرَّةً، لِما تقدَّم في بابِ حدِّ الزِّنَى أنه يَكتفي بمرَّةٍ واحدةٍ في الإقرار.

2 -

أو بالشَّهادةِ، لقولِه تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البَقَرَة: 282].

3 -

أو بالقَرائِنِ، فيُقام حدُّ الشُّربِ بالقَرائِن: كالرَّائحةِ، والقَيءِ؛ لِما روَى السَّائبُ بنُ يَزيدَ: أنَّ عمرَ رضي الله عنه قال: "وجدتُ مِنْ فلانٍ رِيحَ شَرابٍ،

ص: 83

وزَعَم أنَّه شَرِب الطِّلاءَ، وأنا سائلٌ عنه فإنْ كان يُسكِر جَلَدتُه"، فسأَل فقيل: إنه يُسكِر، فجَلَده عمرُ الحدَّ تامًّا". رَواه النَّسائيُّ ومالكٌ والشافعيُّ وغيرُهم.

ولِما روَى علقمةُ قال: "كُنَّا بحِمْصَ فقرأَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه سورةَ يوسفَ، فقال رجلٌ: ما هكذا أُنزِلَت، فقال: قرأتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: «أَحسنتَ»، ووَجَد منه رِيحَ الخمرِ، فقال: أَتجمَع أنْ تُكذِّب بكتابِ اللهِ وتَشربَ الخمرَ؟! فضَرَبه الحدَّ". متَّفق عليه.

ولحديثِ ساسانَ في قصَّةِ جَلدِ الوليدِ بنِ عُقبةَ: فشَهِد عليه الآخَرُ أنه رآه يَتقيَّؤُها، فقال عثمانُ رضي الله عنه: إنه لم يَتقيَّأْها حتَّى شَرِبها، وأَمَر بجَلدِه ". رَواه مسلمٌ.

ولقول أبو هريرةَ رضي الله عنه في قصَّةِ إقامةِ الحدِّ على قُدامةَ بنِ مَظعونٍ -وكان أَحَد الشَّاهِدَين-: "لم أَرَه شَرِب، ولكنْ رأيتُه سَكرانَ يَقِيء". رَواه البيهقيُّ.

وقال ابنُ القيِّمِ في الطُّرقِ الحُكميَّةِ ص 8: "وحَكَم عمرُ وابنُ مسعودٍ ولا يُعرف لهمُا مخالفٌ بوُجوبِ الحدِّ برائحةِ الخمرِ مِنْ فِي الرَّجُلِ، أو قَيئِه خمرًا، اعتمادًا على القَرينةِ الظاهرةِ".

مسألة: العَصيرُ: ماءُ العِنَبِ أو التَّمرِ أو البُرتُقالِ، وسائرِ الفَواكِه بَعدَ عَصرِها.

والنَّبيذُ: هو ما يُنبَذ في الماءِ مِنْ تَمرٍ أو زَبيبٍ أو مِشمِشٍ أو غيرِ ذلك لِيَحلُوَ به الماءُ، ثم يُشرب قَبلَ أنْ يَشتدَّ.

يَجوز شُربُهما ما لم يَغلِيَا أو يُصبِحَا مُسكِرَين؛ لِما روَى ابنُ عمرَ رضي الله عنهما قال: "سأَل رجلٌ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الأَشربةِ، فقال:«اجتَنِبْ كلَّ مُسكِرٍ يَنِشُّ» رَواه النسائيُّ.

ص: 84

فرعٌ: لو خُلِط نَوعان مِنْ غيرِ هذه الأصنافِ، كنَبِيذِ التِّينِ والمِشمِشِ والعَسلِ وعصيرِ العِنَبِ:

فالجُمهورُ على إباحةِ ذلك؛ لِعدمِ وُرُودِ النَّهيِ إلاّ عن خَمسةِ أصنافٍ: البُسرِ، والتَّمرِ، والزَّهوِ، والرُّطَبِ، والزَّبيبِ. لما روَى أبو قتادةَ رضي الله عنه قال:"نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُجمَع بين التَّمرِ والزَّهوِ، والتَّمرِ والزَّبيبِ، وليُنبذْ كلُّ واحدٍ منهما على حِدَةٍ ". متَّفق عليه.

ولحديثِ أَبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَرِب النَّبيذَ منكم فليَشرَبْه زَبيبًا فردًا، أو تَمرًا فردًا» . رَواه مسلمٌ.

ص: 85

‌فصلٌ: في التَّعزيرِ.

وهو لغةً: المَنعُ، ومنه التَّعزيرُ بمعنى النُّصرةِ؛ لأنه يَمنع المُعاديَ مِنْ الإيذاءِ.

واصطلاحًا: التأديبُ على ذَنبٍ لم تُشرَع له عُقوبةٌ ولا كفَّارةٌ.

والأصلُ في التَّعزيرِ القرآنُ، كما في قولِه تعالى:{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النِّسَاء: 34].

وأمَّا السُّنةُ: فلِما يَأتي مِنْ الأحاديثِ، ولحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«مُرُوا أَولادكُم بالصلاةِ وهُم أبناءُ سَبعِ سِنينَ، واضرِبُوهُم عليها وهُم أبناءُ عَشرٍ» . رَواه أحمدُ وأبو داودَ.

قال شيخُ الإسلامِ في مَجموعِ الفتاوَى 35/ 402: "واتَّفق العلماءُ على أنَّ التَّعزيرَ مَشروعٌ في كلِّ مَعصيةٍ ليس فيها حدٌّ".

حُكمُه: التَّعزيرُ واجبٌ في كلِّ مَعصيةٍ، لا حدَّ فيها ولا كفَّارةَ.

مِثالُه: الاستمتاع بأجنبيَّةٍ كمُباشرةٍ دونَ فَرجٍ، وسَرِقةٍ لا قَطعَ فيها؛ لِكَونِ المَسروقِ دُونَ نِصابٍ، أو غيرَ مُحرَزٍ، وكإتيانٍ المرأةِ المرأةَ، وكالاستِمناءِ باليدِ إنْ لم يَخَف على نَفسِه المرضَ أو الزِّنَى.

قال ابنُ القيِّمِ في إعلامِ الموقِّعِين (1/ 383): "الجِنايةُ على العِرضِ: فإنْ كان حرامًا في نَفسِه كالكَذِبِ عليه وقَذفِه وسَبِّ والِدَيه؛ فلَيس له أنْ يَفعل به كمَا فَعَل به اتَّفاقًا، وإنْ سَبَّه في نَفسِه أو سَخِر به أو هَزِئَ به أو بَالَ عليه أو

ص: 86

بَصَق عليه أو دَعَا عليه؛ فلَه أنْ يَفعل به نَظيرَ ما فَعَل به مُتحرِّيًا للعدلِ، وكذلك إذا كَسَعَه أو صَفَعَه؛ فلَه أنْ يَستوفيَ منه نَظيرَ ما فَعَل به سواءً، وهذا أَقربُ إلى الكتابِ والميزانِ وآثارِ الصحابةِ مِنْ التَّعزيرِ المخالِفِ للجنايةِ جنسًا ونوعًا وقَدْرًا وصفةً، وقد دلَّت السُّنةُ الصَّحيحةُ الصريحةُ على ذلك، فلا عِبرةَ بخِلافِ مَنْ خالَفَها".

وقال شيخُ الإسلامِ كمَا في الاختياراتِ 441: "ومَن دُعِيَ عليه ظُلمًا له أنْ يَدعوَ على ظالِمِه بمِثلِ ما دَعَا به عليه، نحوُ: أَخزاكَ اللهُ، أو لَعنكَ، أو يَشتُمه بغيرِ فَرْيةٍ، نحوُ: يا كلبُ يا خِنزيرُ؛ فلَه أنْ يقولَ له مِثلَ ذلك".

مسألة: أنواعُ التَّعزيرِ:

1 -

التَّعزيرُ بالتَّوبيخِ والزَّجرِ؛ لحديثِ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه: قال لِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَه بأُمِّه؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فيكَ جاهليَّةٌ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

2 -

التَّعزيرُ بالحَبسِ، قال ابنُ القيِّمِ في مَدارجِ السَّالكينَ (1/ 401): "وإذا عُرِف الرَّجُلُ بالأَذَى بالعَينِ ساغَ، بل وَجَب حَبسُه وإفرادُه عن الناسِ، ويُطعَم ويُسقَى حتَّى يَموتَ، ذكر ذلك غيرُ واحدٍ مِنْ الفقهاءِ، ولا يَنبغي أنْ يَكون في ذلك خلافٌ؛ لأنَّ هذا مِنْ نصيحةِ المسلِمينَ ودَفعِ الأَذَى عنهم، ولو قيلَ فيه غيرُ ذلك لم يَكُنْ بعيدًا مِنْ أصولِ الشَّرعِ.

3 -

التَّعزيرُ بالجَلدِ، ولا حدَّ لأكثرِ الجَلدِ ولا لأِقلِّه، وإنَّما هو حسَب اجتهادِ الحاكمِ على قَدْرِ الذَّنبِ؛ لِوُرودِ الزِّيادةِ عن عمرَ رضي الله عنه في عُقوبةِ الخمرِ.

4 -

التَّعزيرُ بالعَزلِ عن المَنصِبِ، فعَن جابرِ بنِ سَمُرةَ، قال:"شَكَا أهلُ الكوفةِ سعدًا إلى عمرَ رضي الله عنه، فعَزَله، واستَعمَل عليهِم عمَّارًا". رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ص: 87

5 -

التَّعزيرُ بأخذِ المالِ وإتلافِه، بدَليلِ أَقضِيَتِه صلى الله عليه وسلم، وأَقضِيَةِ خُلفائِه رضي الله عنهم، كإباحتِه سَلْبَ مَنْ يَصيد في حَرمِ المدينةِ. رَواه مسلمٌ، وأَمرِه بكَسرِ دِنَانِ الخمرِ وشَقِّ ظُرُوفِها، وأَمرِه عبدَ اللهِ بنَ عمرَ رضي الله عنهما بحَرقِ الثَّوبَين المُعَصْفَرَين، وتَضعيفِه الغَرامةَ على مَنْ سَرَق مِنْ غيرِ حِرزٍ، ومَن سَرَق ما لا قَطعَ فيه مِنْ الثَّمرِ والكَثَرِ، وأَقضِيَةِ الخُلفاءِ الرَّاشدِين مِثلِ أَمرِ عمرَ وعليٍّ رضي الله عنهما بتَحريقِ المكانِ الذي يُباع فيه الخمرُ.

6 -

التَّشهيرُ به، قال تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النُّور: 2].

7 -

التَّعزيرُ بالقتلِ كمَا تقدَّم في قَتلِ مَنْ تكرَّر منه شُربُ الخمرِ.

وقال شيخُ الإسلامِ في الاختياراتِ 432: "إذا كان المَقصودُ دَفعُ الفسادِ ولم يَندفع إلاّ بالقتلِ؛ قُتِل، وحينئذٍ فمَن تكرَّر منه فِعلُ الفسادِ ولم يَرتدِع بالحُدودِ المقدَّرةِ، بل استمرَّ على الفسادِ فهو كالصَّائلِ الذي لا يَندفع إلا بالقتلِ فيُقتلُ".

وما اقتَضَتْه المصلحةُ فيَجوز، مِثلُ قَتلِ الجاسوسِ المسلمِ، والمفرِّقِ لجماعةِ المسلِمينَ، والداعِي إلى غيرِ كتابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبيِّه، وغيرِ ذلك ممَّا لا يَندفع إلا بالقتلِ.

والتَّعزيرُ ليس مقدَّرًا، فيُرجعُ فيه إلى اجتهادِ الحاكمِ؛ وذلك لِتفاوتِ الجرائمِ بالشِّدَّةِ والضَّعفِ، واختلافِ الأحوالِ والأزمانِ، فجُعلَت العقوباتُ على بعضِ الجرائمِ راجعةً إلى اجتهادِ الأئمةِ ووُلاةِ الأمورِ بحسَبِ الحاجةِ والمصلحةِ، ولا تَخرج عمَّا أمرَ اللهُ به ونَهَى عنه.

مسألة: يَحرُم تعزيرٌ بحَلقِ لِحْيَةٍ؛ للنَّهي عنه، ولأنه مُثْلةٌ ومحرَّمٌ لِذاتِه، كقَطعِ إِصبعٍ، ولا يَجوز أنْ يُعزَّر بحرامٍ كسَقيِه خمرًا، وقَطعِ طرفٍ، أو جَرحٍ؛ لأنه مُثْلةٌ أيضًا.

ص: 88

‌فصلٌ: في القَطعِ في السَّرِقَةِ.

السَّرقةُ لُغةً: أَخذُ شيءٍ مِنْ غيرِه على وجهِ الخُفيةِ.

واصطلاحًا: سَرِقةُ نِصابٍ مِنْ حِرْزِه.

والأصلُ في تحريمِ السَّرِقَةِ، ووجوبِ القَطعِ إذا تَوافرَت شُروطُه: القرآن، قولُه تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [المَائدة: 38].

والسُّنةُ: كمَا في حديثِ أَبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَعَن اللهُ السارقَ، يَسرِق البَيضةَ فتُقطَعُ يَدُه، ويَسرِقُ الحَبْلَ فتُقطعُ يَدُه» . متَّفق عليه.

واختُلِف في المرادِ بالحديثِ على أقوالٍ:

1 -

أنَّ المرادَ بالبَيضةِ بَيضةُ الحديدِ التي يَجعلها المحارِبُ على رأسِه، وبالحَبلِ حَبلُ السَّفينةِ، وهذه لها قِيمةٌ.

2 -

أنَّ الحديثَ خَرَج مَخرَج التحذيرِ بالقليلِ عن الكثيرِ.

3 -

أنَّ المرادَ بالحديثِ تَحقيرُ شأنِ السارقِ، والتنفيرُ مِنْ السرقةِ.

4 -

قال النَّوويُّ في شرحِ مسلمٍ 11/ 183: "والصَّوابُ: أنَّ المرادَ التنبيهُ على عظيمِ ما خَسِر -وهي يَدُه- في مقابلةِ حقيرٍ مِنْ المالِ -وهو رُبعُ دينارٍ- فإنه يُشارِك البيضةَ والحبلَ في الحقارةِ، أو أرادَ جِنسَ البيضِ وجِنسَ الحبالِ، أو أنه إذا سَرَق البيضةَ فلَم يُقطَع جرَّه ذلك إلى سَرِقةِ ما هو أكثرُ منها فقُطِع فكانَت سَرِقةُ البيضةِ هي سَببَ قَطعِه، أو أنَّ المرادَ به قد يَسرِقُ البيضةَ أو الحبلَ فيَقطعُه بعضُ الوُلاةِ سياسةً لا قَطعًا جائزًا شرعًا، وقيل: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم

ص: 89

قال هذا عندَ نُزولِ آيةِ السَّرقةِ مُجمَلةً مِنْ غيرِ بيانِ نِصابٍ، فقالَه على ظاهرِ اللَّفظِ. واللهُ أعلمُ".

والإجماعُ على حرمةِ السرقةِ، وعلى وجوب القَطعِ إذا توفَّرت شَروطُ القطعِ.

مسألة: شُروطُ القَطعِ في السرقةِ:

يُشترط للقَطعِ في السرقةِ شُروطٌ:

الأولُ: وجودُ السَّرقةِ، وهو أخذُ المالِ على وجهِ الاختِفاءِ، فلا قَطعَ على مُنتَهِبٍ، وهو الذي يأخذُ المالَ مُجاهرةً بالقوَّةِ، ولا مُختلِسٍ، وهو الذي يأخذُ المالَ بسُرعةٍ جَهرًا، ولا غاصبٍ، وهو الذي يأخذُ المالَ قهرًا.

لكنْ يُستثنَى مِنْ ذلك جاحدُ العاريَّةِ فيُقطَعُ؛ لحديثِ عائشةَ رضي الله عنها قالَت: " كانَت امرأةٌ تَستعير المَتَاعَ وتَجحدُه، فأمَر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقَطعِ يَدِها ". رَواه مسلمٌ، فهي سُنَّةٌ مُستقِلَّةٌ.

قال ابنُ القيِّمِ في إعلامِ الموقِّعِين (2/ 89): "مُوافقتُه للقياسِ والحكمةِ والمصلحةِ -أيْ قَطع جاحدِ العاريَّةِ- ظاهرةٌ جدًّا، فإنَّ العاريَّةَ مِنْ مصالحِ بَنِي آدمَ الَّتي لابُدَّ لهُم منها ولا غِنَى لهُم عنها، وهي واجبةٌ عند حاجةِ المُستعيرِ وضرورتِه إليها، إمَّا بأُجرةٍ أو مَجَّانًا، ولا يُمكِن المُعيرَ كلَّ وقتٍ أنْ يُشهِد على العاريَّةِ، ولا يُمكِن الاحترازُ بمَنعِ العاريَّةِ شَرعًا وعادةً وعُرفًا، ولا فَرقَ في المعنَى بين مَنْ تَوصَّل إلى أخذِ مَتاعِ غيرِه بالسرقةِ وبين مَنْ تَوصَّل إليه بالعاريَّةِ وجَحدِها، وهذا بخلافِ جاحدِ الوَديعةِ، فإنَّ صاحبَ المَتاعِ فَرَّط حيثُ ائْتَمنَه".

الثاني: أنْ يَكون المسروقُ مالاً محترَمًا؛ لأنَّ ما ليس بِمالٍ لا حُرمةَ له، ومالُ الكافرِ الذي بَينَنا وبينَه حربٌ تَجوز سَرِقتُه؛ لأنه ليس بمُحترَمٍ، ولا قَطعَ

ص: 90

بسرقةِ مُحرَّمٍ كالخمرِ والصَّليبِ، وكُتبِ البِدَعِ، والخنزيرِ، وآلاةِ اللَّهوِ، وغيرِ ذلك.

الشَّرطُ الثالثُ: أنْ يَكون المسروقُ نِصابًا، رُبعُ دينارٍ، أي: مِثقالٌ وإنْ لم يُضرب، أو ما قِيمتُه رُبعُ دينارٍ مِنْ الأطعمةِ والأَلبِسَةِ وغيرِ ذلك مِنْ بقيَّةِ الأموالِ، لِما ثبَت في الصَّحيحَين مِنْ حديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما:"أنه قَطَع في مِجَنٍّ قيمتُه ثلاثةُ دراهمٍ".

ولحديثِ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُقطَع اليدُ إلا في رُبعِ دينارٍ فصاعدًا» . رَواه مسلمٌ، وكان رُبعُ الدينارِ يومئذٍ ثلاثةَ دراهمٍ، والدينارُ اثنَا عشرَ درهمًا.

فرعٌ: اختُلِف في وَزنِ الدينارِ، وتقدَّم في الزكاةِ أنَّ الراجحَ أنَّ وَزنَه:4. 25 مِنْ الغِراماتِ، وعلى هذا يُنظر كم قيمةُ رُبعِها بالعُملةِ الموجودةِ وقتَ السرقةِ.

مسألة: الوقتُ المعتبَرُ لتحقُّقِ قَدْرِ النِّصابِ هو وقتُ إخراجِ المسروقِ مِنْ حِرْزِه؛ لأنه وقتُ السرقةِ، فإذا نَقصَت قيمةُ المسروقِ بعدَ إخراجِه لم يَسقُط القطعُ؛ لأنَّ النُّقصانَ وُجِد في العينِ بعدَ سَرِقَتِها.

وكذا لو مَلَك السارقُ العينَ المسروقةَ ببَيعٍ أو هِبَةٍ أو غيرِهما بعدَ إخراجِ المسروقِ مِنْ حِرْزِه لم يَسقط القَطعُ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُسقِط القطعَ عن سارقِ الرِّداءِ بعدَما وَهَبَه إيَّاه صفوانُ.

مسألة: تُعتَبر قيمةُ العينِ المسروقةِ وقتَ إخراجِها مِنْ الِحرْزِ؛ لأنه وقتُ السرقةِ التي وَجَب بها القطعُ، فلَو ذَبَح في الحِرزِ كَبشًا فنَقصَت قيمتُه، أو شَقَّ فيه ثوبًا، فنَقصَت قيمتُه عن نِصابِ السرقةِ ثُم أَخرجَه مِنْ الحِرزِ، فلا قطعَ؛

ص: 91

لأنه لم يُخرِج مِنْ الحِرزِ نِصابًا.

الشَّرطُ الرابعُ: السرقةُ مِنْ الحِرز -موضعِ الحِفظِ-، فإنْ سَرَقه مِنْ غيرِ حِرزٍ كمَا لو وَجَد بابًا مفتوحًا فلا قَطعَ، وإنْ كان في البَيتِ خَزائنُ مُغلَقةٌ فالخزائنُ حِرزٌ لِما فيها؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا قَطعَ في ثمرٍ معلَّقٍ ولا حَرِيسةِ جَبَلٍ، فإذا آوَاهُ المُراحُ أو الجَرينُ فلا قَطعَ فيما بَلَغ ثَمنَ المِجَنِّ» . أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، إسناده حسن.

مسألة: حِرز المال: ما جرت العادةُ حِفظُه فيه؛ إذْ الحِرزُ معناهُ الحفظُ، ومنه: احتَرزَ أيْ: تَحفَّظ.

ويَختلفُ الحِرزُ باختلافِ الأموالِ، والبُلدانِ، وعَدلِ السُّلطانِ وجَورِه، وقوَّتِه وضَعفِه، فإنَّ العدلَ القويَّ يُقيمُ الحدودَ فتَقِلُّ السُّرَّاقُ خوفًا مِنْ الرفعِ إليه فيَقطعَ، فلا يَحتاجُ الإنسانُ إلى زيادةِ حِرزٍ، وضَعفُه بالعكسِ، وجَورُه يُشارك مَنْ الْتجَأَ إليه ويَذُبُّ عنه، فتَقوَى صَولتُهم، فيَحتاج أربابُ الأموالِ إلى زيادةِ التحفُّظِ.

فحِرزُ النُّقودِ والجواهرِ في الخزائنِ المُعدَّةِ لذلك، وحِرزُ الثِّيابِ في الدُّولابِ المُعدِّ لحفظِها، وحِرزُ الكُتبِ في المكتبةِ، وحِرزُ الماعونِ في المطبخِ، مع إغلاق بابِ البيتِ، وصُندوقٌ بسُوقٍ وثَم حارسُ حِرزٍ، وحِرزُ المواشِي حظيرةُ الغنمِ، وحِرزُها في المَرعَى بالراعِي ونَظرِه إليها غالبًا، فمَا غابَ عن مُشاهدتِه غالبًا فقد خَرَج عن الحِرزِ، وحِرزُ سُفُنٍ في شَطٍّ برَبطِها، وحرز السيارة كونها داخل البيت، أو إقفالها خارجه، وهكذا.

ص: 92

مسألة: يُقام الحدُّ على كلِّ مَنْ اشتَركَ في السرقةِ، كالإرشادِ إلى مكانِ المسروقِ، وكمَن دَخَل الحِرزَ مع السارقِ لتَنبيهِه إذا انكشَفَ أمرُه؛ لأنَّ فِعلَ السرقةِ يُضاف إلى كلِّ واحدٍ منهم، والشريكُ مَنْ يُعِين السارقَ بفِعلٍ داخلَ الحِرزِ أو خارجَه، فإذا بَلغَت قيمةُ المسروقِ نصابًا واحدًا قُطِعُوا جميعًا.

الشَّرطُ الخامسُ: عَدمُ الولادةِ، بأنْ لا يَكون السارقُ والدًا للمسروقِ، فلا يُقطَع الأبُ ولا الأمُّ ولا الجدُّ ولا الجدَّةُ بمالِ الولدِ أو ولدِ الولدِ؛ لأنَّ الولدَ وما مَلَك لأبيه؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ جابرٍ رضي الله عنه:«أنتَ ومالُكَ لِأَبيكَ» . رَواه ابنُ ماجَه، وإسنادُه صحيحٌ.

والجدُّ أبٌ، والجدَّةُ أمٌّ، والأمُّ تُلحَق بالأبِ.

ويُقطَع كلُّ قريبٍ بسرقةِ مالِ قَريبِه ولو كان أخًا؛ لِعُموماتِ أدِلَّةِ السرقةِ.

ويُقطًع أحدٌ مِنْ الزَّوجَين بسرقتِه مِنْ مالِ الآخَرِ، إذا كان مُحَرزًا عنه، أو سَرَق حرٌّ مسلمٌ مِنْ بَيتِ المالِ؛ للعُموماتِ.

الشَّرطُ السادسُ: ثُبوتُ السرقةِ، بواحدِ مِنْ أمورٍ ثلاثةٍ:

1 -

الشَّهادةُ، ويَصِف الشاهدُ السرقةَ.

2 -

أو إقرارُ السارقِ بالسرقةِ ولو مرَّةً كمَا تقدَّم في حدِّ الزِّنَى.

3 -

القرائنُ، وتقدَّم في حدِّ الزِّنَى، قال ابنُ القيِّمِ في الطُّرقِ الحكميَّةِ ص 8:"ولم تَزَل الأئمةُ والخلفاءُ يَحكُمون بالقطعِ إذا وُجِد المالُ المسروقُ مع المُتَّهَم، وهذه القرينةُ أَقوَى مِنْ البيِّنةِ والإقرارِ، فإنَّهما خَبَران يَتطرَّق إليهِما الصِّدقُ والكَذِبُ، ووُجودُ المالِ معه نَصٌّ صريحٌ لا يَتطرَّقُ إليه شُبهةٌ".

ص: 93

مسألة: إذا وَجَب القطعُ؛ لاِجتماعِ شُروطِه قُطِعَت يَدُه اليمنَى بالاتِّفاق؛ لِقراءةِ ابنِ مسعودٍ: «فاقطعوا أيمانهما» أخرجَه الطبريُّ في تفسيره، مِنْ مَفصِل الكَفِّ؛ لقولِ أِبي بكرٍ وعمرُ:(تُقطَع يمينُ السارقِ مِنْ الكُوعِ)، ولا مُخالِفَ لهُما مِنْ الصحابة. عَزَاه الحافظُ في التلخيصِ الحَبيرِ 71/ 4 لأبي الشيخِ في كتابه الحدود.

وخِيطَت أَفواهُ العُروقِ لِتَستدَّ، فيَنقطعَ الدَّمُ.

فإنْ عاد قُطِعَت رِجلُه اليسرَى مِنْ مَفصِل كَعبِه بتَركِ عَقِبٍ يَمشي عليه، لقولِه تعالى:{أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المَائدة: 33]، وإذا ثَبَت ذلك في المحارَبةِ ثَبَت في السرقةِ قِياسًا عليها.

وأَجمَعوا على أنَّ مَنْ لم يَكُنْ له الطَّرَفُ المستحِقُّ قَطعُه قُطِع ما بعدَه، وكذلك إنْ كان أَشَلَّ مِنْ الطَّرَفِ المستحِقِّ قَطعُه بحيثُ لا يُقطَع فيه قُطِع ما بعدَه.

وهل يُقطَع في الثالثةِ؟ روَى ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما قال: "رأيتُ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه قَطَع يَدِ رَجُلٍ بعدَ يَدِه ورِجلِه" مصنَّفُ ابنِ أبي شَيبةَ، مصنَّفُ عبدِ الرزاقِ، سُننُ الدَّارَقطنيِّ، ولِما ورَد عن عمرَ رضي الله عنه أنه أُتي برَجُلٍ قد سَرَق فقَطَعه، ثم أُتي به الثانيةَ فقَطَعه، ثم أُتي به الثالثةَ فأَراد أنْ يَقطَعه، فقال له عليٌّ رضي الله عنه:"لا تَفعَل، إنَّما عليه يَدٌ ورِجلٌ، ولكنْ احبِسْ". مصنَّفُ عبدِ الرزاقِ، وذكرَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في الفتحِ 12/ 100 أنَّ سَندَ عبدِ الرزاقِ حسنٌ.

ولِما رُوي أنَّ نَجْدةَ بنَ عامرٍ كَتَب إلى ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما يَسألُه عن السارقِ، فكَتَب إليه بمِثلِ قولِ عليٍّ رضي الله عنه. رواه ابنِ أبي شَيبةَ.

ص: 94

فقَطعُه بعدَ الثَّانيةِ يُرجَع فيه إلى اجتهادِ القاضِي.

مسألة: مَنْ سَرَق شيئًا مِنْ غيرِ حِرزٍ ضَمِنه بعِوَضِه مَرَّتَين؛ فعَن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن الثَّمرِ المعلَّقِ فقال: «مَنْ أَصابَ بِفِيه مِنْ ذِي حاجَةٍ غيرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فلا شيءَ عَلَيه، ومَن خَرَج بشيءٍ منه فعَلَيه غَرَامةُ مِثلَيه والعُقوبةُ، ومَن سَرَق منه شيئًا بَعدَ أنْ يُؤوِيَه الجَرِينُ فبَلَغ ثَمَنَ المِجَنِّ فعَلَيه القَطعُ» . أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، إسناده حسن.

ولا قَطعَ؛ لِفوَاتِ شَرطِه، وهو الحِرزُ.

ص: 95

‌فصلٌ: في حَدِّ قُطَّاعِ الطَّريقِ.

المُحارَبةُ ليسَت خاصَّةً بالأموالِ، بل تَتعدَّاها إلى الأعراضِ والأَنفُسِ؛ لقولِه تعالى:{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المَائدة: 64]، وهذا مِنْ الفسادِ في الأرضِ؛ لأنَّ الاعتداءَ على الأَعراضِ والأنَفُسِ أَشدُّ جريمةً مِنْ الاعتداءِ على الأموالِ.

قاطِعُ الطريقِ اصطلاحًا: مَنْ أَخذَ المالَ أو اعتَدَى على العِرضِ عن طَريقِ السِّلاحِ.

ولو كانَ السلاحُ عصًا أو حَجَرًا أو خَشَبًا؛ لأنه سِلاحٌ يَأتي على النَّفسِ والأطرافِ، أَشبَه الحديدَ.

وسواءٌ في الصحراءِ أو البُنيانِ أو البَحرِ.

ومِثلُه إذا كان يَقتُل النُّفوسَ سِرًّا لأَخذِ المالِ، مِثلَ الذي يَجلس في خانٍ يَكْرِيه لأبناءِ السَّبيلِ، فإذا انفَرَد بقَومٍ منهم قَتَلهم وأَخَذ أموالَهم، أو يَدعُو إلى مَنزلِه مَنْ يَستأجرُه لِخياطةٍ أو طِبٍّ أو نحوِ ذلك، فيَقتلُه ويأخذُ مالَه، وهذا يُسمَّى: القتلَ غِيلَةً،

أنَّهم كالمُحارِبين؛ لأنَّ القَتلَ بالحيلةِ كالقتلِ مجاهرة، كِلاهُما لا يُمكن الاحترازُ منه، بل قد يَكون ضَررُ هذا أَشدَّ؛ لأنه لا يُدرَى به؛ لحديثِ أنسٍ رضي الله عنه: "أنَّ يَهوديًّا قَتَل جاريةً على أَوضاحٍ لها

فقَتَله النبيُّ صلى الله عليه وسلم بحَجَرَين". رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ولحديثِ أنسٍ رضي الله عنه: "أنَّ نَفرًا مِنْ عُكْلٍ ثمانيةً، قَدِمُوا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبايَعُوه على الإسلامِ، فاسْتَوخَمُوا الأرضَ، فشَكَوا ذلك إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:«أَلَا تَخرُجُونَ مع رَاعِينا في إِبِلِه، فتُصِيبونَ مِنْ أَبوَالِها وأَلبَانِها» ،

ص: 96

فقالُوا: بَلى، فخَرَجُوا، فشَرِبُوا مِنْ أَبوَالِها وأَلبَانِها، فصَحُّوا، فقَتَلُوا الرَّاعيَ وطَرَدُوا الإِبِلَ، فبَلَغ ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبَعَث في آثَارِهِم، فأُدرِكُوا، فجِيءَ بِهِم، فأَمَر بِهِمْ فقُطِعَت أَيدِيهم وأَرجُلُهم، وسَمَر أَعيُنَهم، ثم نُبِذُوا في الشَّمسِ حتَّى ماتُوا". رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

مسألة: ثُبوتُ حدِّ قُطَّاعِ الطَّريقِ.

يَثبُت بالبَيِّنةِ، أو الإقرارِ، أو القَرائنِ، كمَا في حدِّ السرقةِ.

ولا يُشتَرط الحِرزُ، ونِصابُ السَّرقةِ؛ لِعمومِ آيةِ الحِرابةِ؛ لأنَّها لم تُعلِّق جزاءَ القَطعِ على نِصابٍ مُعيَّنٍ أو حِرزٍ، ولأنَّ الحِرابةَ حُكمٌ مُستقِلٌّ بِذاتِه.

ويُقتَل الأبُ والحرُّ بالولدِ والعبدِ، ويُقتَل المسلِمُ بالكافرِ؛ للآيةِ، ولأنَّه حدٌّ للهِ تعالى فلَا تُعتَبر المكافأةُ كالزِّنَى والسَّرقةِ.

مسألة: حَدُّ قُطَّاعِ الطَّريقِ لا يَخلُو مِنْ أُمورٍ:

1 -

إنْ قَتَل وأَخَذ المالَ قُتِل وُجوبًا لِحقِّ اللهِ تعالى، يَقتُله الإمامُ حدًّا، لا يَجوز العَفوُ عنه بحالٍ بإجماعِ العلماءِ، وصُلِب حتَّى يَشتهِر أمرُه، ويَحصُلَ بذلك الرَّدعُ والزَّجرُ، وقيل: يُصلَب ثلاثةَ أيَّامٍ، ويُغسَل ويُصلَّى عليه.

الصَّلْبُ هو: الشَّدُّ على خَشبةٍ أو جِذعِ شَجرةٍ أو نحوِ ذلك.

2 -

وإنْ قَتَل المحاربُ ولم يَأخُذ المالَ قُتِل حَتمًا، ولم يُصلَب؛ لأنه لم يُذكَر في خبرِ ابنِ عباسٍ الآتِي.

3 -

إنْ جَنَوا بما يُوجِب قَوَدًا في الطَّرَفِ، كقَطعِ يَدٍ أو رِجلٍ ونحوِهما؛ وَجَب استِيفاؤُه كالنَّفسِ، ولَو عَفَا المَجنِيُّ عليه؛ لأنه حدٌّ.

4 -

إنْ أَخَذُوا المالَ ولم يَقتُلوا؛ قُطِع مِنْ كلِّ واحدٍ يَدُه اليُمنَى، ورِجلُه

ص: 97

اليُسرَى في مَقامٍ واحدٍ وجوبًا.

5 -

إنْ لم يُصِيبُوا نَفسًا ولا مالاً؛ نُفُوا مِنْ الأماكنِ الَّتي يَكون فيها الناسُ بأنْ يُشرَّدُوا متفرَّقِين فلا يُترَكون يَأْوُون إلى بَلدٍ حتَّى تَظهَر تَوبتُهم؛ لقولِه تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المَائدة: 33] وقِيل: المُرادُ بالنَّفيِ الحَبسُ.

قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "إذا قَتلُوا وأَخذُوا المالَ؛ قُتِلوا وصُلِبوا، وإذا قَتلُوا ولم يَأخُذوا المالَ؛ قُتِلوا ولم يُصلَبوا، وإذا أَخذُوا المالَ ولم يَقتُلوا؛ قُطِعَت أَيدِيهم وأَرجُلهم مِنْ خلافٍ، وإذا أَخافُوا السَّبيلَ ولم يَأخُذوا مالاً؛ نُفُوا مِنْ الأرضِ". رَواه الشافعيُّ في المسندِ.

وقِيل في عُقوبةِ المحارِبِ: الإمامُ فيه مُخيَّرٌ بين أَربعةِ أُمورٍ: القَتلِ، والصَّلبِ، والقَطعِ مِنْ خلافٍ، والنَّفيِ، فيَختارُ الإمامُ ما يَراه مُناسِبًا؛ لآيةِ الحِرابةِ، فقَد ذَكرَت الآيةُ الكريمةُ الأَجْزِيَةَ مَعطوفةً على بَعضِها بحَرفِ (أو) الَّتي ظاهِرُها التَّخيِيرُ، كما في جَزاءِ الصَّيدِ، وكفَّارةِ اليَمينِ، وكفَّارةِ التَّرفُّه.

مسألة: لا تُشتَرط المباشرةُ في الحِرابةِ؛ فحُكمُ الرِّدْءِ حُكمُ المباشِرِ؛ لأنه حُكمٌ يَتعلَّق بالمحارَبةِ فاسْتَوَى فيه الرَّدْءُ وكذا الطَّلِيعُ كالمباشِرُ؛ لِما تقدَّم مِنْ الأدلَّةِ على قَتلِ الجماعةِ بالواحدِ.

6 -

مَنْ تابَ مِنْ المحارِبينَ قَبلَ أنْ يُقدَر عليه؛ سَقَط عنه ما كان واجبًا للهِ تعالى مِنْ نَفيٍ وقَطعِ يَدٍ ورِجلٍ وصَلبٍ؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [المَائدة: 34]، وتَحتَّم قَتلٌ، وأخذٌ بِما للآدَمِيِّين مِنْ نَفسٍ وطَرَفٍ ومالٍ، إلاّ أنْ يُعفَى له عنها مِنْ مُستحِقِّها.

ص: 98

مسألة: حُكمُ الصَّائِلِ.

الصِّيَالُ في اللُّغةِ: مَصدرُ صَالَ يَصُولُ، وهو الاسْتِطالَةُ والوُثُوبُ والاسْتِعلاءُ على الغَيرِ.

وفي الاصطلاحِ: الصِّيَالُ: الاسْتِطالةُ والوُثُوبُ على الغَيرِ بغَيرِ حَقٍّ.

مَنْ صالَ على نَفسِه أو حُرمَتِه كأُمِّه وبِنتِه وأُختِه وزَوجتِه أو مالِه، آدَميٌّ أو بَهيمةٌ فلِلمَصُولِ عليه الدَّفعُ عن ذلك بأَسهَلِ ما يَغلِب على ظَنِّه دَفعُه به فإذا انْدَفَع بالأَسهلِ حَرُم الأَصعَب؛ لِعَدمِ الحاجةِ إليه فإنْ عَلِم أنه يَخرُج بالعَصَا لم يَكُنْ له ضَربُه بالحديدِ، لقولِه تعالى:{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النِّسَاء: 34]، فشَرَع اللهُ دَفعَ نُشوزِ الزوجةِ بالأَسهلِ فالأَسهلِ فإنْ خافَ أنْ يَبْتَدِرَه بالأَصعبِ أو القتلِ فلَه أنْ يَبدُرَه بالأَصعبِ أو القتلِ، فإنْ لم يَندفِع الصائلُ إلا بالقتلِ فلِلمَصُولِ عليه قتلُ الصَّائِلِ، ولا ضَمانَ عليه؛ لأنه قَتَله لدَفعِ شَرِّه، وإنْ قُتِل المصولُ عليه فهُو شَهيدٌ؛ فعَن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضي الله عنهما، قال: سَمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ قُتِل دونَ مالِه فهُو شَهيدٌ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ. ولمسلمٍ عن أَبي هريرةَ: جاءَ رجلٌ فقال يا رسولَ اللهِ: أَرأَيتَ إنْ جاءَ رجلٌ يُريد أَخذَ مَالِي؟ قال: «فَلَا تُعْطِه» ، قال: أَرأَيتَ إنْ قاتَلَني؟ قال: «قَاتِلْه» ، قال: أَرأَيتَ إنْ قتَلَني؟ قال: «فَأَنْتَ شَهيدٌ» ، قال: أَرأَيتَ إنْ قَتَلتُه؟ قال: «هُو فِي النَّارِ» .

مسألة: يَلزَم المُعتَدَى عليه الدَّفعُ عن نَفسِه، وما دونَ النَّفسِ مِنْ الأطرافِ، وكذَلكَ يَجِب الدَّفعُ عن نَفسِ غيرِه المحترَمةِ؛ لقولِه تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البَقَرَة: 195]، فالاسْتِسلامُ للصَّائلِ إلقاءٌ بالنَّفسِ

ص: 99

للتَّهلُكةِ، لِذَا كان الدِّفاعُ عنها واجبًا.

ولقولِه تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفَال: 39].

ولأنه كمَا يَحرُم على المَصُولِ عليه قَتلُ نَفسِه، يَحرُم عليه إباحةُ قَتلِها، ولأنه قَدَر على إحياءِ نَفسِه، فوَجَب عليه فِعلُ ذلك، كالمُضطَرِّ لأكلِ المَيتةِ ونحوِها.

ويُستثنَى حالَتان مِنْ وُجوبِ الدَّفعِ:

الأُولى: في حالِ فِتنةٍ؛ فلا يَجِب الدَّفعُ عن نَفسِه، لقولِه صلى الله عليه وسلم في حديثِ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه:«فإنْ خَشِيتَ أنْ يَبهَرَك شُعاعُ السَّيفِ، فأَلْقِ ثَوبَك على وَجهِك» . رَواه أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجَه، ولأنَّ عثمانَ رضي الله عنه تَرَك القتالَ على مَنْ بَغَى عليه مع القُدرَةِ عليه، ومَنَع غيَره قِتالَهم، وصَبَر على ذلك. ولو لم يَجُز لأَنكرَ الصحابةُ عليه ذلك.

الثَّانيةُ: إذا كان الدَّفعُ لا يُجدِي ولا يُفِيدُ.

مسألة: يَجِب دَفعُ الصَّائِلِ على عِرْضِه أو عِرْضِ غَيرِه؛ لأنه لا سَبيلَ إلى إباحَتِه، ومِثلُ الزِّنَى بالبُضعِ في الحُكمِ مُقدِّماتُه في وُجوبِ الدَّفعِ حتَّى لو أَدَّى إلى قتلِ الصَّائلِ فلا ضَمانَ عليه

بل إنْ قُتِل الدَّافعُ بسبَبِ ذلك فهُو شَهيدٌ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِل دونَ أَهلِه فهُو شَهيدٌ» .

إلاّ إذا كان الدَّفعُ لا يُجدِي ولا يُفِيدُ.

ويُشترَط عند الشافعيَّةِ لوُجوبِ الدِّفاعِ عن عِرْضِه وعَرْضِ غيرِه: أنْ لا يَخاف الدَّافعُ على نَفسِه، أو عُضوٍ مِنْ أَعضائِه، أو على مَنفعةٍ مِنْ مَنافِعِ أعضائِه.

ص: 100

أمَّا المرأةُ المَصولُ عليها مِنْ أجلِ الزِّنَى بِها، فيَجِب عليها أنْ تَدفَع عن نَفسِها إنْ أَمكَنها ذلك؛ لأنَّ التَّمكيَن مِنها مُحرَّمٌ.

مسألة: يَجِب الدَّفعُ عن مالِه ومالِ غَيرِه؛ لوُجوبِ حِفظِه عن الضَّياعِ؛ لحديثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعبةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عن إِضاعَةِ المالِ". رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

وإنْ قُتِل صاحبُ المالِ فهُو شَهيدٌ، وإنْ قَتَل الصَّائلَ فلا ضَمانَ بقَتلِه؛ لِما تقدَّم مِنْ حديثِ أَبي هريرةَ رضي الله عنه.

ويُستثنَى مِنْ وُجوبِ الدَّفعِ: إذا كان في فِتنةٍ، أو كانَت المُدافَعةُ لا تُفِيد شَيئًا أو خَشِيَ على نَفسِه أو عُضوٍ مِنْ أعضائِه أو مَنفَعةٍ مِنْ مَنافعِه.

مسألة: مَنْ دَخَل مَنزِلَ رَجُلٍ مُتلصِّصًا يُدفَع بالأَسهلِ فالأَسهلِ، فإنْ أَمرَه بالخُروجِ فخَرَج لم يَضرِبه؛ لاندفاعِ شَرِّه بدُونِ ضَربِه بشيءٍ، وإلاّ فلَه ضَربُه بأَسهلِ ما يَندَفِع به مِمَّا يَغلِب على ظَنِّه دَفعُه به، فإنْ خَرَج بالعَصَا لم يَضرِبه بالحَديدِ. وهذا ما لم يَخَفْ أنْ يَبدُرَه المُتلَصِّصُ بالقتلِ؛ فإنْ خافَ فلَه أنْ يَبدُرَ المُتلَصِّصَ بالقتلِ.

مسألة: مَنْ قَصَد النَّظرَ إلى مكانٍ لا يَجوز له النَّظرُ إليه جازَ للمَنظورِ إلى مَكانِه أنْ يَفقَأ عينَ النَّاظرِ، ولا قِصاصَ ولا دِيةَ، عن سَهلِ بنِ سَعدٍ، قال: "اطَّلعَ رَجُلٌ مِنْ جُحرٍ في حُجَرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومع النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرَى يَحُكُّ به رَأسَه، فقال:«لَو أَعلَمُ أَنَّكَ تَنظُرُ، لَطَعنْتُ بِه فِي عَيْنِكَ، إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَرِ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ص: 101

‌فصلٌ: في قِتالِ أَهلِ البَغْيِ.

البَغْيُ لُغةً: مَصدرُ بَغَى، يُقال: بَغَى يَبْغِي بَغْيًا أيْ: تَعدَّى واسْتَطالَ وعَلَا وظَلَم وعَدَل عن الحَقِّ.

والبَغيُ اصطلاحًا: هو الخروجُ على الإمامِ بتَأويلٍ سائِغٍ مِمَّن لهُم شَوكةٌ ومَنَعةٌ.

والأصلُ فيه: الكتابُ والسُّنةُ والإجماعُ.

قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحُجرَات: 9] فأَوجَب تعالَى قِتالَ البَاغِينَ على أهلِ الإيمانِ.

ورَوَى عبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو قال: سَمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: «مَنْ أَعطَى إمامًا صَفقةَ يَدِه وثَمرَةَ قَلبِه فليُطِعْه ما استَطاعَ، فإنْ جاءَ أَحدٌ يُنازِعُه فاضْرِبُوا عُنقَ الآخرِ» . رَواه مسلمٌ.

فكلُّ مَنْ ثَبتَت إمامتُه وَجبَت طاعتُه وحَرُم الخروجُ عليه وقِتالُه؛ لقولِ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 59].

وأَجمعَت الصحابةُ رضي الله عنهم على قِتالِ البُغاةِ، فإنَّ أبَا بكرٍ رضي الله عنه قاتَلَ مانِعِي الزَّكاةِ، وعليٌّ رضي الله عنه قاتَلَ أهلَ الجَملِ وأهلَ صِفِّينَ وأهلَ النَّهرَوَانِ.

مسألة: الإمامُ الأعظمُ لا يَخلُو مِنْ أمورٍ:

1 -

أنْ يَكون عادلاً، فيَحرُم الخُروجُ عليه بالإجماعِ.

2 -

أنْ يَكون فاسقًا، فيَحرُم الخروجُ عليه عند أَهلِ السُّنةِ والجماعةِ، بل يُناصَح ويُخوَّف باللهِ عز وجل.

ص: 102

3 -

أنْ يَكون كافرًا فهذا لا يُمكَّن مِنْ التَّولِّي على المسلِمينَ، بشَرطِ: القُدرةِ على تَنحِيَتِه، وأنْ لا يَترتَّب على عَزلِه مَفسدةٌ مِنْ سَفكِ الدِّماءِ وإتلافِ الأموالِ أَعظمَ مِنْ مَفسدةِ بَقائِه.

مسألة: شُروطُ البُغاةِ:

1 -

أنْ يَكون لهُم شَوكةٌ ومَنَعةٌ وقُوَّةٌ.

2 -

أنْ يَكون لهُم شُبهةُ تأويلٍ سائغٍ، كمَا لو قالُوا المسألةُ الفُلانيَّةُ مُحرَّمةٌ، فهُم بُغاةٌ ظَلَمةٌ؛ لِعُدولِهِم عن الحقِّ وما عليه أَئِمةُ المسلِمينَ، فإنَّ الحقَّ عدمُ الخروجِ على الإمامِ ولو كانَ فاسقًا، بل يُناصَح، فإنْ كانُوا جَمعًا يَسيرًا لا شَوكةَ لهُم، أو لم يَخرُجوا بتأويلٍ، أو خَرجُوا بتأويلٍ غيرِ سائغٍ، فقُطَّاعُ طَريقٍ، تَجرِي عليهم أَحكامُ قُطَّاعِ الطَّريقِ.

مسألة: نَصبُ الإمامِ فَرضُ كِفايةٍ؛ لأنَّ بالناسِ حاجةً إلى ذلك؛ لِحمايةِ الدِّينِ والدِّماءِ والأعراضِ والأموالِ، والذَّبِّ عن البَلدِ، وإقامةِ الحدودِ واستِيفاءِ الحُقوقِ، والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ.

قال شيخُ الإسلامِ في السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ (4/ 20): "يَجِب أنْ يَعرِف أنَّ وِلايةَ الناسِ مِنْ أعظمِ واجباتِ الدِّينِ، بل لا قِيامَ للدِّينِ إلا بها، فإنَّ بَنِي آدمَ لا تَتِمُّ مَصلَحتُهم إلاّ بالاجتماعِ لِحاجةِ بَعضِهم إلى بعضٍ، ولا بُدَّ لهُم عند الاجتماعِ مِنْ رأسٍ، حتَّى قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إذا خَرَج ثلاثةٌ في سَفرٍ فليُؤمِّرُوا أَحدَهم» . رَواه أبو داودَ مِنْ حديثِ أَبي سعيدٍ وأَبي هريرةَ.

ورَوى الإمامُ أحمدُ في المُسندِ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَحِلُّ لِثلاثةٍ يَكونون بِفَلَاةٍ مِنْ الأرضِ إلاّ أَمَّرُوا عليهم أَحدَهم» .

فأَوجَب صلى الله عليه وسلم تَأمِيرَ الواحدِ في الاجتماعِ القَليلِ العارِضِ في السَّفرِ تنبيهًا

ص: 103

على سائرِ أَنواعِ الاجتماعِ، ولأنَّ اللهَ تعالى أَوجَب الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ، ولا يَتِمُّ ذلك إلا بقُوَّةٍ وإمارةٍ، وكذلك سائرُ ما أَوجَبه مِنْ الجهادِ والعدلِ وإقامةِ الحجِّ والجُمَعِ والأعيادِ ونَصرِ المظلومِ، وإقامةُ الحدودِ لا تَتِمُّ إلا بالقُوَّةِ والإمارةِ، ولهذا رُوِي:«إنَّ السُّلطانَ ظِلُّ اللهِ في الأرضِ» ويُقال: سِتُّون سنةً مِنْ إمامٍ جائرٍ أَصلَحُ مِنْ ليلةٍ بِلَا سُلطانٍ، والتَّجرِبَةُ تُبيِّنُ ذلك".

وقال في مِنهاجِ السُّنةِ النبويَّةِ (1/ 547): "ومِن المعلومِ أنَّ الناسَ لا يَصلُحون إلاّ بوُلاةٍ، وأنه لو تَولَّى مَنْ هو دُونَ هؤلاءِ مِنْ الملوكِ الظَّلَمةِ لَكانَ ذلك خيرًا مِنْ عَدَمِهم، كمَا يُقال: "سِتُّونَ سَنةً مع إمامٍ جائرٍ خيرٌ مِنْ ليلةٍ واحدةٍ بلا إمامٍ"، ويُروَى عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: "لا بُدَّ للناسِ مِنْ إمارةٍ، بَرَّةً كانَت أو فاجرَةً"، قِيل له: هذه البَرَّةُ قد عَرَفْناها، فما بالُ الفاجرةِ، قال: "يُؤمَّنُ بها السَّبيلُ ويُقام بها الحدودُ، ويجاهَدُ بها العدوُّ ويُقسَم بها الفَيءُ". ذكَرَه عليُّ بنُ مَعبدٍ في كتابِ الطاعةِ والمعصيةِ.

يَشترِطُ الفقهاءُ للإمامِ شُروطًا، منها ما هو متَّفقٌ عليه، ومنها ما هو مُختَلَفٌ فيه:

شُروطُ الإمامةِ:

أ- الإسلامُ: قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النِّسَاء: 141]، والإمامةُ كمَا قال ابنُ حزمٍ: أَعظمُ السَّبيلِ، ولِيُراعيَ مَصلَحةَ المسلِمينَ.

ب- التَّكليفُ: ويَشملُ العقلَ، والبُلوغَ، فلا تَصِحُّ إمامةُ صَبيٍّ أو مجنونٍ؛ لأنَّهما في وِلايةِ غيرِهما، فلا يَلِيانِ أَمرَ المسلِمينَ.

ج- الذُّكورةُ: فلا تَصِحُّ إمارةُ النِّساءِ؛ لحديثِ أَبي بَكرَةَ رضي الله عنه: «لَنْ يُفلِحَ

ص: 104

قَومٌ وَلَّوا أَمرَهُم امرأةً». رَواه البخاريُّ.

د- الكِفَايةُ، القوَّةُ والأمانةُ، والقوَّةُ: هي الجُرأةُ والشَّجاعةُ والنَّجدةُ، بحيثُ يَكون قَيِّمًا بأمرِ الحربِ والسياسةِ وإقامةِ الحدودِ والذَّبِّ عن الأُمَّةِ. والأمانةُ، أيْ: على وَظَائِفِه.

هـ- الحُرِّيةُ: فلا يَصِحُّ عَقدُ الإمامةِ لِمَنْ فيه رِقٌّ؛ لأنه مَشغولٌ في خِدمةِ سَيِّدِه.

و- سَلامةُ الحواسِّ والأعضاءِ مِمَّا يُمكِنه مِنْ القيامِ بوَظَائفِه.

مسألة: العَملُ مع البُغاةِ.

يَجِب على الإمامِ أن يُراسِل البُغاةَ فيَسأَلَهم عمَّا يَنقِمُون منه، فإنْ ذَكرُوا مَظلمةً أَزَالَها، وإنْ ادَّعَوا شُبهةً كَشَفَها؛ لقولِه تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحُجرَات: 9]، والإصلاحُ إنَّما يَكون بذلك كمَا فَعَل عليٌّ رضي الله عنه، فإنه بَعَث ابنَ عباسٍ إلى الخوارجِ لمَّا تَظاهَرُوا بالعبادةِ والخشوعِ وحَملِ المَصاحِفِ لِيَسألَهم عن سَببِ خُروجِهِم، وبيَّن لهُم الحُجَّةَ الَّتي تَمسَّكُوا بها، فإنْ فاؤُوا أيْ: رَجَعُوا عن البَغيِ وطَلَبِ القتالِ تَرَكَهم؛ لأنَّ المقصودَ كَفُّهُم ودَفعُ شَرِّهِم لا قَتلُهم، وإلاّ يَرجِعُوا قاتَلَهم وجوبًا؛ لقولِه تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحُجرَات: 9].

ولقولِه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتاكُم وأَمرُكم جميعٌ على رَجُلٍ واحدٍ يُريدُ أنْ يَشُقَّ عَصَاكُم أو يُفرِّقَ جَماعتَكُم فاقتُلُوه» . صحيحُ مسلمٍ.

وإجماعِ الصحابة، حيثُ أَجمَعوا على قِتالِ الخارِجِين على أَبي بكرٍ رضي الله عنه مِنْ مُرتَدِّين وبُغاةٍ، وعلى رَعيَّتِه مَعُونتُه؛ لقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا

ص: 105

اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 59].

ويَحرُم قِتالُهم بِما يَعُمُّ إتلافَهُم، وقَتلُ ذُرِّيَّتِهم، ومُدْبِرِهِم وجَرِيحِهِم، ومَن تَرَك القتالَ منهم.

واتَّفق الأئمةُ رحمهُم اللهُ تعالى على أنَّ البُغاةَ لا تُقسَم لهُم أموالٌ، ولا تُسبَى لهُم نساءٌ؛ لِما روَى أبو أُمَامةَ رضي الله عنه قال:"شَهِدتُ صِفِّينَ، فكانُوا لا يُجهِزُونَ على جَريحٍ، ولا يَقتُلون مُولِّيًا، ولا يَسلُبُون قَتيلاً". رواه الحاكمِ وصحَّحه، والبيهقيِّ في الكبرى.

ولقولِ أميرِ المؤمِنينَ عليٍّ رضي الله عنه في المُحارِبين الخارِجِين عليه: "لا يُتبَع مُدبِرٌ، ولا يُذفَّفُ على جَرِيحٍ، ولا يُقتَلُ أَسِيرٌ". رواه البيهقيِّ في الكبرى مِنْ عِدَّةِ طُرقٍ بألفاظٍ مُختلِفةٍ، والحاكمِ وصحَّحه.

وإذا انقَضَت الفِتنةُ فمَن وَجَد منهم مالَه بِيَدِ غيرِه أَخَذه؛ لأنَّ أَموالَهم كأموالِ غيرِهم مِنْ المسلِمينَ لا يَجوزُ اغتِنامُها؛ لِبقاءِ مِلكِهم علَيها، وما تَلِف حال حَربٍ غيرُ مَضمونٍ، قال الزُّهريُّ:"هاجَت الفِتنةُ، وأصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُون، فأَجمَعوا أنه لا يُقادُ أَحدٌ ولا يُؤخَذُ مالٌ على تأويلِ القرآنِ إلاّ ما وُجِد بعَينِه".

مسألة: إنْ اقتَتَلَت طائِفَتان لِعَصبيَّةٍ ضَمِنَت كلُّ واحدةٍ مِنْ الطَّائِفَتَين ما أَتلَفَت على الأُخرَى.

ص: 106

‌حُكمُ المُرتَدِّ

وهو لُغةً: الرَّاجعُ. قال تعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المَائدة: 21].

واصطلاحًا: الذي يَكفُر بَعدَ إسلامِه.

نَواقضُ الإسلامِ:

نَواقِضُ الإسلامِ هي: كلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو فِعلٍ يُناقِضُ أَصلَ الإيمانِ، ولا يَجتمِعُ معه.

وههُنا مسائلُ:

المسألةُ الأُولى: الشِّركُ الأكبرُ.

الشِّركُ في اللُّغةِ: خِلافُ الانفِرادِ، ويُطلَقُ على مَعنَى النَّصِيبِ والحِصَّةِ.

الشِّركُ الأكبرُ: تَسوِيةُ غيرِ اللهِ باللهِ في شيءٍ مِنْ خَصائِصِ اللهِ.

والدليلُ قولُه تعالى: {تاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الشُّعَرَاء: 97 - 98]، وقولِه تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعَام: 1].

وما رَواه النَّسائيُّ بإسنادٍ حَسنٍ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رَجُلاً دَخَل على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: ما شاءَ اللهُ وشِئتَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَجعَلْتَني للهِ نِدًّا؟ بَلْ ما شاءَ اللهُ وَحْدَه» .

وما رَواه ابنُ أَبي حاتمٍ بإسنادٍ حَسنٍ عن ابنِ عباسٍ أيضًا في قولِه تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البَقَرَة: 22]، قال: "الأَندادُ هو

ص: 107

الشِّركُ، أَخفَى مِنْ دَبِيبِ النَّملِ على صفاةٍ سَوداءَ في ظُلْمةِ اللَّيلِ، وهو أنْ يقولَ: واللهِ، وحَياتِك يا فلانُ، وحَياتِي، وقولُ: لَولَا كُلَيبةُ هذا لَأتانَا اللُّصوصُ، ولَولا البَطُّ في الدَّارِ لَأتانَا اللُّصوصُ، وقولُ الرَّجلِ: لَولا اللهُ وفُلانٌ، لا تَجعلْ فُلانًا، هذا كُلُّه به شِركٌ".

فرعٌ: إذا كانَت التَّسويةُ في الاعتقادِ، فهِي شركٌ أَكبرُ، وذلك: بأنْ يَعتقدَ أنه يُساوِي اللهَ عز وجل في التَّعظيمِ والتَّدبيرِ والمشِيئةِ والتَّوكُّلِ.

فرعٌ: إذا كانَت التَّسويةُ في اللَّفظِ لا في الاعتقادِ فهِي شركٌ أَصغرُ؛ لِما رَواه الشَّيخانِ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: أنه أَدرَك عمرَ بنَ الخطابِ في رَكبٍ وهو يَحلِف بأَبِيه، فناداهُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا إنَّ اللهَ يَنهاكُم أنْ تَحلِفوا بآبائِكُم، فمَن كان حالِفًا فَلْيَحلِفْ باللهِ، وإلَّا فَلْيَصمُت» . رَواه مسلمٌ.

وجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الحَلِفَ بغَيرِ اللهِ لو كان شِركًا أكبرَ لَمَا أَخَّر رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَعليمَه الصحابةَ، ولَمَا وَقَع فيه مِثلُ: عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه. إلاّ إنْ اعتَقَد أنَّ المَحلوفَ به مُعظَّمٌ كتَعظيمِ اللهِ تعالى فشِركٌ أكبرُ.

الفَرقُ بين الشِّركِ والكفرِ:

أنَّ كلَّ شِركٍ كُفرٌ، وليس كلُّ كُفرٍ شِركًا، فالكُفرُ ضِدُّ الإيمانِ والإسلامِ، والشِّركُ ضِدُّ التوحيدِ، فيُخَصُّ الشِّركُ بقَصدِ الأَوثانِ ونحوِها، فيكونُ الكفرُ أَعمَّ.

إذْ في اللُّغةِ بينهما فَرقٌ، فمِن ثَمَّ يكونُ في الشَّرعِ؛ لأنَّه نَزَل بلُغةِ العَربِ.

ولقولِه تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ *} [البَيّنَة: 1]. وجهُ الدَّلالةِ: أنه عَطَف أهلَ الكتابِ على المشرِكينَ، والعَطفُ يَقتضِي المُغايَرةَ.

ص: 108

‌حُكمُ الشِّركِ الأكبرِ.

الشِّركُ الأكبرُ: أَعظمُ ذَنبٍ عُصِي اللهُ به، فهُو أكبرُ الكبائِرِ، وأعظمُ الظُّلمِ؛ لأنَّ الشِّركَ صَرفُ خالِصِ حقِّ اللهِ تعالى -وهُو العبادةُ- لغَيرِه، أو وَصفُ أَحدِ خَلقِه بشيءٍ مِنْ صِفاتِه الَّتي اختَصَّ بها عز وجل، قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمَان: 13]، ولِذلك رَتَّب الشرعُ عليه عُقوباتٍ عظيمةً، أَهمُّها:

• أنَّ اللهَ لا يَغفِره إذا ماتَ صاحبُه ولم يَتُب منه، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاء: 48].

• أنَّ صاحبَه خارجٌ عن مِلَّةِ الإسلامِ، حَلالُ الدَّمِ والمالِ، قال عز وجل:{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التّوبَة: 5]. ويُعادَى ويُبغَضُ ولا يُحَبُّ.

• أنَّ اللهَ تعالى لا يَقبَلُ مِنْ الُمشرِكِ عملاً، وما عَمِلَه مِنْ أعمالٍ سابِقةٍ تكونُ هباءً مَنثُورًا، كمَا قال تعالى عن المشركين:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *} [الفُرقان: 23]، وقال سبحانه:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزُّمَر: 65].

• يَحرُم أنْ يَتزوَّج المُشرِكُ بمُسلِمةٍ، كمَا يَحرُم أنْ يَتزوجَ المسلمُ مُشركةً، كمَا قال تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البَقَرَة: 221].

• إذا ماتَ المُشرِكُ فلا يُغسَّلُ، ولا يُكفَّنُ، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفَنُ في مَقابرِ المسلِمينَ، وإنَّما يُحفَر له حُفرةٌ بعيدةٌ عن الناسِ، ويُدفَنُ فيها؛ لِئلاَّ

ص: 109

يُؤذِيَ الناسَ برائحتِه الكريهةِ.

ومِن الأحكامِ الآخرُويَّةِ:

أنَّ دخولَ الجنَّةِ عليه حرامٌ، وهو مُخلَّدٌ في نارِ الجحيمِ، نَسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ، كمَا قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المَائدة: 72].

مسألة: اتَّفق العلماءُ على أنَّ المشرِكينَ الأَصلِيِّين يُسمَّون مُشرِكين؛ لقولِه تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التّوبَة: 6]، وقولِه تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التّغَابُن: 2].

ومَجانِينُهم وأَطفالُهم يُسمَّون كفَّارًا وإنْ لم تَقُم عليهم الحُجَّةُ، لكنْ مَنْ لم تَبلُغْه الدَّعوةُ حُكمُه في الدُّنيا كمَا سَبَق، وفي الآخرةِ يُمتَحن يومَ القيامةِ، ومَن بَلغَتْه الدَّعوةُ أَخَذ أَحكامَ المشرِكينَ السَّابقةَ في الدُّنيا والآخرةِ.

مسألة: حُكمُ المُسلِم الذي طَرأَ عليه الشِّركُ.

المسلمِ الذي طَرأَ عليه الشِّركُ مِنْ حيثُ الاسمُ هُو مُشرِكٌ، ومِن حيثُ الحكمُ: لا تَحِلُّ ذَبِيحتُه، ولا الزَّواجُ منه، ولا يُغسَّلُ، ولا يُكفَّنُ، ولا يُصلَّى عليه إذا ماتَ.

وأمَّا مِنْ حيثُ العذابُ بالقتالِ والقتلِ وعذابِ الآخرةِ فهذا يَكون بعدَ قِيامِ الحُجَّةِ عليه.

قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسرَاء: 15]، وقال تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاء: 165].

ص: 110

مسألة: هل يُعذَر المُشرِكُ بجَهلِه؟

يُفرَّق بين المسائِلِ الظَّاهرةِ والمسائلِ الخَفيَّةِ، فيُعذَر بالمسائلِ الخفيَّةِ دونَ المسائلِ الظَّاهرةِ.

وضابطُ الظَّاهرةِ: ما يُعلَم مِنْ الدِّينِ بالضَّرورةِ مِمَّا يَعرِفه الخاصُّ والعامُّ مِنْ المسلِمين، كالشِّركِ الذي يُناقِض أَصلَ التوحيدِ، والكُفرِ الذي يُناقِض أَصلَ الإيمانِ، والاستِهزاءِ باللهِ عز وجل، أو رسولِه صلى الله عليه وسلم أو كتابِه، أو وجوبِ الصلاةِ، أو تَحريمِ الزِّنَى، ونحوِ ذلك.

أمَّا المسائلُ الخفيَّةُ: فهِي ما يَخفَى على مِثلِه، كمسائلِ القَدَرِ والإرْجاءِ، ونحوِ ذلك.

ومِن ذلك أنْ يَكون التَّأويلُ له مَساغٌ في اللُّغةِ، كتأويلِ اليَدِ بالنِّعمةِ عندَ قولِ اللهِ عز وجل:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المَائدة: 64]، والمسائلُ الخفيَّةُ تَختلِف مِنْ حيثُ الزَّمانُ والمكانُ، بحَسَبِ قِيامِ الحُجَّةِ وانتِشارِها، فيُعذَر مَنْ كانَ في باديةٍ بَعيدةٍ عن بلادِ الإسلامِ، أو نَشَأ في بلادِ الكفارِ، ونحوُ ذلك.

فالشِّركُ الأكبرُ لا يَخفَى على مُوحِّدٍ؛ لأنَّ الشِّركَ والتوحيدَ مُتَناقِضَان لا يَجتمِعان ولا يَرتَفِعان.

تَعريفُ الشِّركِ الأصغرِ: كلُّ ما كان ذَريعةً للشِّركِ الأكبرِ، وجاءَ في النُّصوصِ تَسميتُه شِركًا.

وأمَّا حُكمُه فيَتلخَّص فيما يَلي:

الأولُ: أنه يُخالِف الشِّركَ الأكبرَ في جَميع ما مَضَى مِنْ الأحكامِ.

الثَّاني: أنه كبيرةٌ مِنْ كبائرِ الذُّنوبِ، بل هو مِنْ أكبرِ الذُّنوبِ بعدَ نَوَاقضِ التوحيدِ.

ص: 111

الثالثُ: أنَّ هذا الشِّركَ قد يَعظُم حتَّى يَؤُولَ بصاحبِه إلى الشِّركِ الأكبرِ المُخرِجِ مِنْ مِلَّةِ الإسلامِ، فصاحبُه على خطرٍ عظيمٍ.

الرابعُ: أنَّ مَنْ ماتَ على الشِّركِ الأصغرِ، فمَوضِعُ خلافٍ هل يَكون داخلاً تحتَ المَشِيئةِ، أو لا؟ فذهبَ بعضُ العلماءِ كعبدِ الرحمنِ بنِ حسنٍ، وصِدِّيقِ حسنٍ خان، وعبدِ الرحمنِ بنِ قاسمٍ إلى أنه لا يُغفَر، بل قد يُؤخَذ مِنْ حسناتِه، أو يُعذَّب في قَبرِه، ونحوُ ذلك، وذهبَ غيرُهم إلى أنه تحتَ المَشِيئةِ.

الخامسُ: أنه إذا صاحبَ العملَ الصالحَ أَبطَل ثَوابَه كمَا في الرِّياءِ، وإرادةُ المسلمِ بعَملِه الصالحِ الدُّنيا وَحْدَها، والدَّليلُ قولُه صلى الله عليه وسلم فيما يَروِيه عن رَبِّه جلَّ وعَلَا فيمَا رَواه مسلمٌ عن أَبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قال اللهُ تبارك وتعالى: «أَنا أَغنَى الشُّرَكاءِ عن الشِّركِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشرَكَ فِيه مَعِيَ غَيرِي تَرَكتُه وشِرْكَه» .

قاعدةٌ: ما ثَبَت أنه عِبادةٌ فصَرْفُه لغَيرِ اللهِ شِركٌ أكبرُ، ولا يَكون شِركًا أَصغرَ؛ إذْ العبادةُ خاصَّةٌ باللهِ تعالى، والدَّليلُ قولُه تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *} [الجنّ: 18]. وما رَواه الشَّيخانِ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ماتَ وهُو يَدعُو مِنْ دونِ اللهِ نِدًّا دَخَل النَّارَ» .

ومن أمثلته:

1 -

الدعاءُ عبادةٌ مِنْ أَجلِّ العباداتِ، قال اللهُ عز وجل:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *} [الجنّ: 18]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رضي الله عنه:«الدعاءُ هو العبادةُ» . رَواه أحمدُ والبخاريُّ.

ص: 112

فصرفها لغير الله شرك؛ ومن ذلك: أن يدعو غير الله في أمر لا يَقدِر عليه إلاّ اللهُ عز وجل، مِثلُ أنْ يَطلب مِنْ أَحدٍ إنزالَ الغَيثِ، وغُفرانَ الذُّنوبِ، وغيرَ ذلك، فهذا شِركٌ أكبرُ.

أو في طريقةِ الطَّلبِ، بأنْ يَكون بكَمالِ الذُّلِّ، وبكِمالِ المحبَّةِ، أو برَغبةٍ ورَهبةٍ لا تُصرَف إلاّ للهِ فهذا شركٌ أكبرُ، لصَرفِه شيئًا مِنْ خَصائصِ الأُلوهيَّةِ لغَيرِ اللهِ عز وجل.

أو يَكون المدعوُّ بعيدًا عن الداعِي، فإنَّ دعاءَ مِثلَ هذا شِركٌ؛ لأنَّ اتِّساعَ السَّمعِ لِسَماعِ البعيدِ خاصٌّ باللهِ سبحانَه، ولأنه يَعتقِد في مِثلِ هذا أنه يَعلَم الغَيبَ، وأنه له تَصرُّفٌ في الكَونِ.

أو يَدعوَ الغَيرَ مع اعتقادِ أنه يَستقِلُّ في إيجادِ المطلوبِ مِنْ دونِ اللهِ، فشِركٌ أكبرُ، فإنَّ إيجادَ الشيءِ استقلالاً خاصٌّ باللهِ عز وجل.

أو يَطلب مِنْ الميِّتِ شِفاءَ مَريضِه، وكَشفَ السُّوءِ عنه، ونحوَ ذلك، فهذا شِركٌ أكبرُ.

وقد يقولُ قائلٌ: إنَّ هذه الأفعالَ مِنْ كَشفِ السُّوءِ، وشفاءِ المريضِ لَيسَت خاصَّةً باللهِ، بل يَقوم بها بَعضُ المخلُوقِين كالطِّبيبِ مثلاً.

فجوابُ ذلك أنْ يُقال: إنَّ إيجادَ المُسبِّباتِ دونَ مُباشرةِ السَّببِ لا يَكون إلاّ للهِ سبحانَه، فهُو خاصٌّ به؛ إذْ هو يُوجِد المسبِّباتِ بالأمرِ الكَونيِّ؛ لقولِه تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [يس: 82].

فطلبُ الأفعالِ مِنْ الميِّتِ شِركٌ أكبرُ؛ لأنه يَلزمُ مِنْ هذا أنه يُوجِد المسبِّباتِ بدونِ مُباشَرةِ السبَبِ، ففيه صَرفٌ لشيءٍ اختَصَّ به الخالقُ دونَ المخلوقِ.

ص: 113

2 -

طلبُ الحيِّ مِنْ الميِّتِ أنْ يَشفَع له عندَ اللهِ عز وجل.

فهذا شِركٌ أكبرُ؛ لأنَّ الأصلَ في الأمواتِ أنَّهم لا يَسمعونَ نِداءَ مَنْ ناداهُم، ولا يَستجيبونَ دعاءَ مَنْ دعاهُم.

قال تعالى: {

وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ *} [فَاطِر: 13 - 14]، وقال تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فَاطِر: 22].

3 -

الاستعانةُ، والاستغاثة، والاستعاذة عبادات وحُكمُها حُكمُ الدعاءِ، كمَا تقدَّم تَفصيلُه.

4 -

المحبَّةُ: عبادة من أجل العبادات فصرفها لغير الله شرك أكبر؛ ومن ذلك: عبادةَ المحبوبِ مع اللهِ، كمحبَّةِ الخُرافِيِّين لِمَنْ يَدعُونَهم أولياءَ، أو أنْ يُسوِّيَ غيرَ اللهِ باللهِ في المحبَّةِ الخاصَّةِ باللهِ، بأنْ يُحِبَّ مِنْ غيرِ اللهِ أنْ يُدخِلَه الجنَّةَ، أو أنْ يَجعَل لغَيرِ اللهِ كمَالَ المحبَّةِ، أو يُحِبَّ المخلوقَ كمحبَّةِ اللهِ، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البَقَرَة: 165].

وقد تَكون شِركًا أصغرَ: وذلك أنْ يَتعلَّق القلبُ بمَحبُوبِه رِضًا وسَخَطًا، لا يَرضَى إلاّ للمالِ ولا يَسخَط إلاّ له، فسمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَبْدَ الدِّرهَمِ، وعَبْدَ الدِّينارِ، وعَبْدَ القَطِيفَةِ، وعَبْدَ الخَمِيصَةِ» . إلى أنْ قال وقد وَصَف ذلك بأنه: «إذا أُعطِيَ رَضِيَ، وإذا مُنِعَ سَخِطَ» . رَواه البخاريُّ مِنْ حديثِ أَبي هريرةَ رضي الله عنه.

ص: 114

ومَن صُوَرِ الشِّركِ الأصغرِ: الغُلوُّ في المحبَّةِ الَّتي أَصلُها شرعيٌّ، أو طبيعيٌّ إذا لم تَصِل إلى حدِّ العبادةِ. ومِن أَمثِلةِ ذلك:

المثالُ الأولُ: الغُلوُّ في محبَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غُلوًّا لم يَصِل إلى درجةِ محبَّةِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ لِما رَواه البخاريُّ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: أنه سَمِع عُمرَ رضي الله عنهم يقولُ على المِنبَرِ: سَمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «لا تُطرُونِي كمَا أَطرَت النَّصارَى ابنَ مَريمَ، فإنَّما أنا عَبدُه، فقُولُوا عبدُ اللهِ ورَسُولُه» .

المثالُ الثَّاني: الغُلوُّ في محبَّةِ المؤمنين بأنْ تَتجاوَزَ هذه المحبَّةُ حُدودَها الشرعيَّةَ، فتَتعدَّى كَونَها محبَّةً للهِ إلى كَونِها محبَّةً مع اللهِ، كالاعتمادِ على المحبوبِ، ورَجائِه في حُصولِ مَرغوبٍ أو دَفعِ مَرهوبٍ.

ومِثلُ ذلك: لو تَرتَّب على هذه المحبَّةِ طاعةٌ للمحبوبِ في مَعصِيةِ اللهِ بجَعلِ الحرامِ حَلالاً، أو الحلالِ حرامًا.

المثالُ الثالثُ: الغُلوُّ في المحبَّةِ الطَّبيعيَّةِ.

ومِن أَمثِلَتِه: العِشقُ، وهو أَعلَى درجاتِ المحبَّةِ؛ لأنَّ الحبَّ الذي استَحكَم بصاحبِه لا بُدَّ أنْ يَستَحكِم فيه الذُّلُّ، وهذه هي العبوديَّةُ.

5 -

الخوفُ: عبادة من أجل العبادات فصرفها لغير الله شرك أكبر؛ ومن ذلك:

أنْ يَخاف مِنْ غيرِ اللهِ أنْ يُصِيبَه المَخُوفُ منه بمَشِيئتِه وإرادتِه دونَ اللهِ عز وجل، أيْ: يَستقلُّ بذلك، فهذا شِركٌ أكبرُ، قال تعالى:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزُّمَر: 36]، ولأنه لا أَحدَ يُوجِد المسبِّباتِ دونَ مُباشرةِ الأسبابِ إلاّ اللهُ عز وجل، فهُو الذي يَقول للشَّيءِ كُنْ فيَكونُ.

ص: 115

أو أنْ يُسوِّي غيرَ اللهِ باللهِ في الخوفِ الخاصِّ باللهِ؛ كأنْ يَخاف مِنْ أَحدٍ أنْ يُدخِله النَّارَ، أو أنْ يَخاف مِنْ غيرِ اللهِ خَوفَ تَعبُّدٍ بكَمالِ ذُلٍّ ومحبَّةٍ.

وقد يكون شِّركُا أصغر: كأنْ يَترك واجبًا، أو يَفعلَ مُحرَّمًا خوفًا مِنْ غيرِ اللهِ عز وجل، قال الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العَنكبوت: 10].

وقد يكون بِدعِيًّا: وهو الخوفُ الذي يُؤدِّي بالمسلِمِ إلى اليَأسِ والقُنوطِ مِنْ رحمةِ اللهِ.

6 -

الخَشيةُ، والرَّهْبةُ، والرغبة، والرجاء: عبادات لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل وحُكمُها حُكمُ الخوفِ على ما تقدَّم تَفصيلُه.

7 -

التَّوكُّلُ: عبادة من أجل العبادات فصرفها لغير الله شرك أكبر؛ ومن ذلك:

التوكُّلُ على غيرِ اللهِ في الأمورِ الَّتي لا يَقدِر عليها إلاّ اللهُ، كمَغفِرَةِ الذُّنوبِ أو شِفاءِ المَرضَى بدونِ فِعلِ الأسبابِ، أو الحصولِ على وَلدٍ، والشَّفاعةِ، فهذا شِركٌ أكبرُ، ومِن ذلك التوكُّلُ على الأمواتِ.

وقد يكون شركًا أصغر: وهو التوكُّلُ على غيرِ الله فيما يَقدِر عليه، كمَن يتوكَّلُ على أميرٍ أو سلطانٍ فيما جَعلَه اللهُ بيَدِه مِنْ الرِّزقِ، أو دَفعِ الأذَى ونحوِ ذلك، فهذا شركٌ أصغرُ.

8 -

التَّوبةُ: وهي عبادةٌ أَمَر اللهُ بها في الكتابِ والسُّنةِ، قال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النُّور: 31] وحُكمُها حُكمُ الخوفِ على ما تقدَّم تَفصيلُه.

ص: 116

9 -

الذَّبحُ: وهو عبادةٌ مِنْ أجلِّ العباداتِ، قال الله عز وجل:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الأنعَام: 162]، وقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *} [الكَوثَر: 2]. ويَكون شِركًا أكبرَ:

وهو أنْ يَصرِف عبادةَ الذبحِ لغَيرِ اللهِ مُتقرِّبًا له، كأنْ يَذبَح للجِنِّ، أو للأمواتِ، أو للأحياءِ، وغيرِهم.

ويكون بدعيًّا: بأنْ يَتقرَّب إلى اللهِ بإزهاقِ الرُّوحِ بإراقةِ الدَّمِ، ويَصحبُ فِعلَه أمرٌ مُحدَثٌ كأنْ يَتقرَّب بجِنسٍ لم تَرِدْ به الشريعةُ، مِثلُ: الدَّجاجِ، أو أنْ يُلازِم مَكانًا مُعيَّنًا لاعتقادِ البركةِ، كأنْ يَذبَح للهِ عندَ قَبرِ رجلٍ صالحٍ أو غيرِه، وهكذا.

المسألةُ الثانيةُ: الكُفرُ باللهِ عز وجل.

الكُفرُ في اللُّغةِ: السَّترُ والتَّغطيةُ.

وفي الاصطلاحِ: الكُفرُ: عدمُ الإيمانِ.

والكُفرُ الأكبرُ هو: تَكذيبٌ، أو استِحلالٌ، أو استكبارٌ، أو إعراضٌ، أو شكٌّ في شيءٍ مِمَّا جاءَ به الشَّرعُ المطهَّرُ، فالكفرُ الأكبرُ يَكون بالاعتقادِ، ويَكون أيضًا بالقولِ، ويَكون كذلك بالفِعلِ، ولو لم يَكُنْ مع أيٍّ منهما اعتقادٌ.

وحُكمُه هو حُكمُ الشركِ الأكبرِ كمَا سَبَق بَيانُه.

وله أنواعٌ كثيرةٌ أهمُّها:

كُفرُ الإنكارِ والتكذيبِ، وهو أنْ يُنكِر المكلَّفُ شيئًا مِنْ أصولِ الدِّينِ، أو أَحكامِه أو أَخبارِه الثابتةِ ثُبوتًا قَطعيًّا.

ص: 117

ومِن أمثلةِ هذا النوعِ مِنْ الكفرِ الأكبرِ:

أنْ يُنكِر شيئًا مِنْ أركانِ الإيمانِ أو غيرِها مِنْ أصولِ الدِّينِ، أو يُنكِر شيئًا مِمَّا أَخبَر اللهُ عنه في كتابِه، أو وَرَد في شأنِه أحاديثُ مُتَواترةٌ، وأَجمَع أهلُ العِلمِ عليه إجماعًا قَطعيًّا.

كأنْ يُنكِر أُلوهيَّةَ أو رُبوبيَّةَ اللهِ تعالى، أو يُنكِر اسمًا، أو صفةً للهِ تعالى مِمَّا أُجمَع عليه إجماعًا قَطعيَّا؛ كأنْ يُنكِر صفةَ العِلمِ.

أو يُنكِر وُجودَ أحدٍ مِنْ الملائكةِ المُجمَعِ عليه كجِبريلَ ومِيكائيلَ عليهما السلام.

أو يُنكِر كتابًا مِنْ كُتبِ اللهِ المُجمَعِ عليها، كأنْ يُنكِر الزَّبُورَ أو التَّوراةَ أو القرآنَ.

أو يُنكِر نَبيًّا مِنْ الأنبياءِ المُجمَعِ عليهم، كأنْ يُنكِر رسالةَ نوحٍ، أو إبراهيمَ، أو هودٍ عليهم السلام.

أو يُنكِر البَعثَ للأجسادِ والأرواحِ، أو يُنكِر الحسابَ أو الجنَّةَ أو النارَ، أو يُنكِر نَعيمَ القبرِ أو عذابَه.

أو يُنكِر أنَّ اللهَ سبحانَه قَدَّر جميعَ الأشياءِ قَبلَ حُدوثِها.

ومنه أنْ يُصحِّح أَديانَ الكُفَّارِ، كاليهودِ أو النَّصارَى أو غيرِهم، أو لا يُكفِّرَهم.

ومنه أنْ يَنسُب نَفسَه إلى غيرِ دِينِ الإسلامِ.

ومنه أنْ يُنكِر صُحبةَ أَبي بكرٍ، أو يَقولَ برِدَّةِ الصحابةِ أو أَكثرِهم، أو يَقولَ بفِسقِهم كلِّهم، أو يُنكِر وُجودَ الجِنِّ، أو يُنكِر إغراقَ قَومِ نوحٍ.

ص: 118

ومنه أنْ يُنكِر تَحريمَ المحرَّماتِ الظاهرةَ المُجمَع على تَحريمِها، كالسَّرِقةِ، وشُربِ الخَمرِ، والزِّنَى والتبرُّجِ، والاختلاطِ بين الرجالِ والنِّساءِ، ونحوِ ذلك.

أو يَعتقدَ أنَّ أحدًا يَجوز له الخروجُ عن شريعةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فلا يَجِب عليه الالتزامُ بأَحكامِها فيَجوزُ له تَركُ الواجباتِ وفِعلُ المحرَّماتِ.

أو يَعتقدَ أنَّ أَحدًا يَجوز له أنْ يَحكُم أو يَتحاكمَ إلى غيرِ شَرعِ اللهِ تعالى.

ومنه أنْ يُنكِر حِلَّ المباحاتِ الظاهرةِ المُجمَعِ على حِلِّها، كأنْ يَجحَد حِلَّ أكلِ لُحومِ بَهيمةِ الأنعامِ، أو يُنكِر حِلَّ تَعدُّدِ الزوجاتِ، أو حِلَّ أَكلِ الخُبزِ، ونحوِ ذلك.

ومنه: أنْ يُنكِر وُجوبَ واجبٍ مِنْ الواجباتِ المُجمَعِ عليها إجماعًا قَطعيًّا، كأنْ يُنكِر وجوبَ رُكنٍ مِنْ أركانِ الإسلامِ، أو يُنكِر أصلَ وجوبِ الجهادِ، أو أصلَ وُجوبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ.

ومنه أنْ يُنكِر سُنِّيةَ سُنَّةٍ مِنْ السُّننِ، أو النوافلِ المُجمَعِ عليها إجماعًا قَطعيًّا، كأنْ يُنكِر السُّننَ الرواتبَ، أو يُنكِر استحبابَ صِيامِ التطوُّعِ، أو حجِّ التطوُّعِ أو صدقةِ التطوُّعِ ونحوِ ذلك.

النوعُ الثَّاني: كفرُ الشكِّ:

وهو أنْ يَتردَّد المسلمُ في إيمانِه بشيءٍ مِنْ أصولِ الدِّينِ المُجمَعِ عليها، أو لا يَجزِمَ في تَصديقِه في خبرٍ أو حُكمٍ ثابتٍ معلومٍ مِنْ الدِّينِ بالضَّرورةِ.

ومِن الأمثلةِ لهذا النوعِ:

أنْ يَشكَّ في صِحَّةِ القرآنِ، أو يشكَّ في ثُبوتِ عذابِ القبرِ، أو يَتردَّد في أنَّ جِبريلَ عليه السلام مِنْ ملائكةِ اللهِ، أو يشكَّ في تحريمِ الخمرِ، أو يشكَّ

ص: 119

في وجوبِ الزكاةِ، أو يشكَّ في كفرِ اليهودِ أو النَّصارَى، أو يشكَّ في سُنيَّةِ السُّننِ الراتبةِ، أو يشكَّ في أنَّ اللهَ تعالى أَهلَك فرعونَ بالغَرقِ، أو يشكَّ في أنَّ قارونَ كان مِنْ قومِ موسَى، وغيرِ ذلك مِنْ الأصولِ والأحكامِ والأخبارِ الثَّابتةِ المعلومةِ مِنْ الدَّينِ بالضَّرورةِ، والَّتي سَبَق ذِكرُ أمثلةٍ كثيرةٍ لها في النوعِ الأولِ.

النوع الثالثُ: كفرُ الامتناعِ والاستكبارِ:

وهو أنْ يُصدِّق بأصولِ الإسلامِ وأحكامِه بقلبِه ولسانِه، ولكنْ يَرفُض الانقيادَ بجَوارِحِه لحُكمٍ مِنْ أحكامِه استكبارًا وترفُّعًا.

ومِن أمثلةِ هذا الكفرِ:

أنْ يَرفُض شخصٌ أنْ يصلَّيَ صلاةَ الجماعةِ ويترفَّعَ عنها لأنَّها تُسوِّي بينَه وبينَ الآخَرِينَ.

ومِن أَمثِلتِه أيضًا: أنْ يَمتنعَ شخصٌ عن لُبسِ لِباسِ الإحرامِ؛ لأنه في زَعمِه لِباسُ الفقراءِ ولا يليقُ به، ونحوِ ذلك.

النوعُ الرابعُ: كفرُ السَّبِّ والاستهزاءِ:

وهو أنْ يَستهزئَ المسلمُ، أو يَسُبَّ شيئًا مِنْ دينِ الله تعالى مِمَّا هو معلومٌ مِنْ الدِّينِ بالضَّرورةِ، أو مِمَّا يَعلَم هو أنه مِنْ دِينِ اللهِ تعالى، وذلك بأنْ يَستهزئَ بالقولِ أو الفعلِ باللهِ تعالى، أو باسمٍ مِنْ أسمائِه، أو صِفَةٍ مِنْ صفاتِه، أو يَصِفَ اللهَ تعالى بصِفَةِ نَقصٍ، أو يَسُبَّ اللهَ تعالى، أو يَسُبَّ دِينَ اللهِ تعالى، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *} [التّوبَة: 65 - 66].

ص: 120

مسألة: سابُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يَكفُر بالاتِّفاقِ، وأيضًا الاتِّفاقُ مُنعقِدٌ على كفرِ مَنْ لم يُكفِّرْه.

النوعُ الخامسُ: كفرُ البُغضِ:

وهو أنْ يَكرَه دِينَ الإسلامِ، فقد أَجمَع أهلُ العلمِ على أنَّ مَنْ أَبغَض دِينَ اللهِ تعالى كَفَر؛ لقولِه تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ *} [محَمَّد: 9].

ولأنه حينئذٍ يَكون غيرَ معظِّمٍ لهذا الدِّينِ، بل إنَّ في قلبِه عداوةً له، وهذا كلُّه كفرٌ.

النوعُ السادسُ: كفرُ الإعراضِ:

والإعراضُ عن دِينِ اللهِ تعالى قِسمان:

الأولُ: الإعراضُ المكفِّرُ:

وهو أنْ يَتركَ المرءُ دِينَ اللهِ ويَتولَّى عنه بقلبِه، ولسانِه، وجَوارِحِه، أو أنْ يَترُكَه بجَوارِحِه مع تَصديقِه بقلبِه ونُطقِه بالشَّهادتَين.

وهذا القِسمُ له ثلاثُ صُوَرٍ:

الأُولَى: الإعراضُ عن الاستماعِ لأوامرِ اللهِ عز وجل، كحالِ الكفارِ الذين هُمْ باقُونَ على أديانِهم المحرَّفةِ، أو الذين لا دِينَ لهُم، ولم يَبحثُوا عن الدِّينِ مع قيامِ الحُجَّةِ عليهم.

الثانيةُ: الإعراضُ عن الانقيادِ لدِينِ اللهِ الحقِّ، وعن أوامرِ اللهِ تعالى بعد استماعِها ومعرفتِها، وذلك بعَدمِ قَبولِها، فيتركُ ما هو شَرطٌ في صِحَّةِ الإيمانِ، وهذا كحالِ الكفارِ الذين دَعاهُم الأنبياءُ وغيرُهم مِنْ الدُّعاةِ إلى

ص: 121

الدِّينِ الحقِّ أو عَرفوا الحقَّ بأنفُسهِم، فلَم يُسلِموا وبَقُوا على كُفرِهم، قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3].

الثالثةُ: الإعراضُ عن العملِ بجَميعِ أحكامِ الإسلامِ وفَرائِضِه بعدَ إقرارِه بقَلبِه بأركانِ الإيمانِ، ونُطقِه بالشَّهادتَين، فمَن تَرَك جِنسَ العملِ بأحكامِ الإسلامِ فلَم يَفعل شيئًا مِنْ الواجباتِ لا صلاةٌ، ولا صيامٌ، ولا زكاةٌ، ولا حجٌّ، ولا غيرُها فهو كافرٌ كفرًا أكبرَ بإجماعِ السَّلفِ؛ لقولِه تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ *} [آل عِمرَان: 32].

القِسمُ الثَّاني: الإعراضُ غيرُ المكفِّرِ:

وهو أنْ يَترك المسلمُ بعضَ الواجباتِ الشرعيَّةَ غيرَ الصلاةِ، ويُؤدِّي بعضَها؛ كأنْ يَترك إخراجَ الزكاةِ، أو صومَ رمضانَ، ونحوِ ذلك.

النوعُ السابعُ: كفرُ النِّفاقِ:

النِّفاقُ لُغةً: إخفاءُ الشيءِ وإغماضُه.

واصطلاحًا: هو أنْ يُظهِر الإيمانَ ويُبطِن الكُفرَ.

والنفاقُ يَنقسم إلى قِسمَين:

القِسمُ الأولُ: النفاقُ الأكبرُ الاعتقاديُّ:

أنْ يُظهِر الإنسانُ الإيمانَ باللهِ، وملائكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه، واليومِ الآخِرِ، ويُبطِنَ ما يُناقِضُ ذلك كلَّه أو بعضَه، وذلك بأنْ يَكون في الظاهرِ أمامَ الناسِ يَدِّعِي الإسلامَ ويُظهِرُ لهُم أنه مسلمٌ، وربَّما يَعمل أمامَهم بعضَ العباداتِ كالصلاةِ والصيامِ والحجِّ وغيرِها، ولكنَّ قَلبَه -والعياذُ بالله- لا يُؤمِن بتَفرُّدِ اللهِ تعالى بالأُلوهيَّةِ، أو الرُّبوبيَّةِ، أو لا يُؤمِن برسالةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو يُبغِضه أو لا يُؤمِن بكُتبِ اللهِ المُنزلةِ، أو لا يُؤمِن بعذابِ القبرِ، أو أنْ لا

ص: 122

يُؤمِنَ بالبعثِ، أو يَعتقدَ أنَّ دِينَ النَّصارَى، أو دِينَ اليهودِ صحيحٌ.

أمَّا حُكمُ المنافقِ فهُو الكفرُ؛ لأنَّ المنافِقينَ أسوأُ حالاً مِنْ سائرِ الكفارِ، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا *} [النِّسَاء: 145].

النوعُ الثَّاني: النفاقُ الأصغرُ:

وهو أنْ يُظهِرَ الإنسانُ أمرًا مشروعًا، ويُبطِنَ أمرًا محرَّمًا يُخالفُ ما أَظهَره، ويُسمِّيه بعضُ أهلِ العلمِ: النفاقَ العمليَّ.

ومِن صُوَرِه:

أنْ يَكذِب في حَديثِه متعمِّدًا، أو أنْ يُبغِضَ الأنصارَ، أو يُبغِضَ الخليفةَ الراشدَ عليًّا رضي الله عنه.

تَعريفُ الكفرِ الأصغرِ: كلُّ ما أَطلَق عليه الكتابُ والسنَّةُ كفرًا، ولم يَصِل إلى حَدِّ الكفرِ الأكبرِ.

وهذا النوعُ مِنْ الكفرِ يَجتمع مع أصلِ الإيمانِ، فيقال مسلمٌ وعندَه كفرٌ أصغرُ، وحُكمُه كحُكمِ الشِّركِ الأصغرِ.

وله صُورٌ كثيرةٌ منها:

قتالُ المسلمِ لأِخِيه المسلمِ، ففِي الصَّحيحَين مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه مرفوعًا:(سبابُ المسلمِ فُسوقٌ، وقتالُه كفرٌ).

ومنه الطَّعنُ في أنسابِ الآخَرِين، والنِّياحةً على الميِّتِ، والاستسقاءُ بالنجومِ، كمَا جاءَ في صحيحِ مسلمٍ عن أَبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ،

ص: 123

وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ».

المسألة الثَّالثةُ: نَفيُ صِفَةٍ مِنْ الصفاتِ الثابتةِ بالكتابِ والسُّنةِ:

جحد الصفات ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: جحد تأويل وهو أن يتأولها إلى معنى يخالف ظاهرها، فإن كان له مساغ في اللغة فليس كفراً؛ لأن التأويل من موانع التكفير إلا إذا تضمن التأويل نقصا لله عز وجل فإنه يكفر، لأن النقص سب لله عز وجل، وإن لم يكن له مساغ في اللغة فهو كفر. فمثلاً اليد:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المَائدة: 64]، قال: المقصود باليد هنا النعمة، هذا له مساغ في اللغة، لكن لو قال: إن المقصود باليد: السماء، ليس له مساغ في اللغة، هذا هو جحد التأويل فيكون تكذيبا.

القسم الثاني: جحد إنكار، وهذا كفر؛ كمن أنكر اسم من أسماء الله أو صفة من صفاته الثابتة بالكتاب والسنة كأن يقول ليس لله يد أو لم يستو على عرشه فهو كفر بالإجماع؛ لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر.

ولا يَخلُو مِنْ أحدِ ثلاثِ أحوالٍ:

أحدُها: أنْ يَكونَ النَّافِي عالمًا بالنصِّ الذي ثَبتَت به الصفةُ المنفيَّةُ كتابًا كان أو سنَّةً، ولا تُوجَد لديه شُبهاتٌ قد تًغيِّر مفهومَه للنصِّ، وإنَّما نَفَى لعِنادِه وفسادِ قَصدِه ومَرضِ قلبِه ومُشاقَّتِه للرسولِ مِنْ بعدِ ما تبيَّنَ له الحقُّ، فهذا كافرٌ؛ لتَكذيبِه كلامَ اللهِ أو كلامَ رسولِه صلى الله عليه وسلم.

الثَّاني: أنْ يَكون النَّافِي مُجتهدًا في طلبِ الحقِّ معروفًا بالنَّصيحةِ والصِّدقِ، ولكنَّه أخطأَ وتأوَّلَ لجهلِه بالنصِّ، أو لعدمِ عِلمِه بالمفهومِ

ص: 124

الصَّحيحِ، فحُكمُه أنه مَعذورٌ، وخطؤُه مغفورٌ؛ لأنَّ نَفيَه ناتجٌ عن تأويلٍ لا عن عنادٍ وفسادِ قَصدٍ.

الثَّالثُ: أنْ يَكون النَّافِي متبِّعًا لهواهُ، مقصِّرًا في طلبِ الحقِّ، متكلِّمًا بلا علمٍ، لكنَّه لا يَقصِد مُشاقَّةَ الرسولِ، ولم يَتبيَّن له الحقُّ تمامًا، فحُكمُه أنه عاصٍ مُذنِبٌ، وقد يَكون فاسقًا.

المسألة الرابعةُ: الولاءُ الكفريُّ للكفارِ:

الولاءُ منه ما هو كفرٌ، ومنه ما ليس كفرًا كمَا سَبَق، والذي يَظهَر في ضابطِ الولاءِ الكفريِّ هو: محبَّةُ الكفارِ لأجلِ دِينِهم، أو نُصرتُهم على المسلِمينَ بالقتالِ معهم، أو بإعانَتِهم بالمالِ والسِّلاحِ، أو بالتجسُّسِ لهُم على المسلِمينَ محبَّةً لهُم ورَغبةً في ظُهورِهم على المسلِمينَ، فهذه الإعانةُ كفرٌ مُخرِجٌ من المِلَّةِ، وقد حكَى غيرُ واحدٍ مِنْ أهلِ العلمِ إجماعَ العلماءِ على ذلك.

وإنْ كان الحاملُ له على ذلك مَصلحةٌ شخصيَّةٌ، أو خوفٌ، أو عداوةٌ دُنيويَّةٌ بينَه وبينَ مَنْ يُقاتِلُه مِنْ الكفارِ على المسلِمينَ، فهذه الإعانةُ محرَّمةٌ وكبيرةٌ مِنْ كبائرِ الذُّنوبِ، ولكنَّها لَيسَت مِنْ الكفرِ المُخرِجِ مِنْ المِلَّةِ.

ودليلُ ذلك: ما حكَاه الإمامُ الطَّحاويُّ مِنْ إجماعِ أهلِ العلمِ على أنَّ الجاسوسَ المسلمَ لا يَجوز قَتلُه، ومُقتضَى ما حكَاه الطَّحاويُّ أنه غيرُ مُرتدٍّ، ويدلُّ لهذا ما رَواه أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ والنَّسائيُّ مِنْ حديثِ عليِّ بنِ أَبي طالبٍ رضي الله عنه في قصَّةِ حاطبِ بنِ أِبي بَلْتَعَةَ إذْ أَرسَل الرسالةَ إلى قريشٍ يُخبِرهم بقُدومِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«يا حَاطِبُ ما هَذا؟» قال: لا تَعجَلْ عليَّ يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ امرأً مُلصَقًا في قريشٍ ولم أَكُنْ

ص: 125

مِنْ أَنفُسِها، وكان مَنْ معَك مِنْ المهاجِرينَ لهُم قَراباتٌ يَحمُون بها أَهلِيهم وأَموالَهم بمكَّةَ، فأَحبَبتُ إذْ فاتَني ذلك مِنْ نَسبٍ فيهم أنْ أَتَّخِذ فيهم يَدًا يَحمُون بها قَرابَتي، وما فَعلتُ ذلك كفرًا ولا ارْتِدادًا عن دِيني ولا رِضًا بالكفرِ بعدَ الإسلامِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَكُم» . فكلامُ حاطبٍ مع إقرارِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صريحٌ في أنَّ مُجرَّدَ فِعلِ حاطبٍ ليس كفرًا؛ لذا قال لم أَفعَلْه كفرًا ولا رِدَّةً عن الدِّينِ.

فرعٌ: الرِّضَا بكفرِ الكافرينَ، أو عدمُ تَكفيرِهم، أو الشكُّ في كُفرِهم أو تَصحيحُ أيِّ مَذهبٍ مِنْ مَذاهِبِهم الكافرةِ، فهذا كفرٌ، ومِن ذلك الدعوةُ إلى وَحدَةِ الأديانِ، أو التَّقريبِ بين الأديانِ، أو ما يُسمَّى بالمِلَّةِ الإبراهيميَّةِ؛ إذْ مِنْ اعتقدَ أنَّ دِينًا غيرَ دِينِ الإسلامِ صحيحٌ، فإنه كافرٌ، لقولِه تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [آل عِمرَان: 85]، ولقولِه تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [آل عِمرَان: 19].

المسألة الخامسةُ: الحُكمُ بغيرِ ما أَنزَل اللهُ عز وجل.

الحُكمُ بغيرِ ما أَنزَل اللهُ عز وجل يَنقسِم إلى أقسامٍ:

1) أنْ يَجحَد الحاكمُ حُكمَ اللهِ سبحانه وتعالى، ومعنَى الجُحودِ: أنْ يَكذِب ويُنكِر أنَّ هذا حُكمُ اللهِ عز وجل، وهذا كفرٌ بالاتِّفاقِ، قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمل: 14].

2) أنْ يُجوِّز الحاكمُ الحُكمَ بغيرِ ما أَنزَل اللهُ، فهذا هو الاسْتِحلالُ وهو كُفرٌ بالاتِّفاقِ، ومِمَّا يدلُّ على أنَّ الاسْتِحلالَ كفرٌ قولُه تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ

ص: 126

الْكَافِرِينَ *} [التّوبَة: 37].

3) أنْ يُسوِّي الحاكمُ حُكمَ غيرِ ما أَنزَل اللهُ بحُكمِ اللهِ جل جلاله، وهذا كفرٌ مُخرِجٌ مِنْ المِلَّةِ، قال تعالى:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ *} [النّحل: 74]، وقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشّورى: 11].

4) أنْ يُفضِّل حُكمَ غيرِ اللهِ على حُكمِ اللهِ سبحانَه، وهذا كفرٌ مُخرِجٌ مِنْ المِلَّةِ مِنْ باب أَولَى، فهو تَكذيبٌ لكتابِ اللهِ، قال تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ *} [المَائدة: 50].

5) إذا حَكَم الحاكمُ بغيرِ ما أَنزَل اللهُ هَوًى وشَهوَةً فإنْ كان ذلك في أَفرادِ المسائِلِ فهذا فِسقٌ، وإنْ كان ذلك في عُمومِ المسائِلِ بأنْ يَضَع قَوانينَ مِنْ نَفسِه، أو يَتبَنَّى قَوانينَ وُضِعَت قَبلَه مع اعترافِه بالعِصيانِ ومُخالَفةِ أمرِ الرحمنِ؛ فهَل مِثلُ هذا الحاكمِ يكونُ كافرًا مُرتدًّا عن الدِّينِ؟ وهو مَوضعُ خلافٍ بين أَهلِ العلمِ.

المسألة السَّادسةُ: السِّحرُ:

السِّحرُ في اللُّغةِ: ما خَفِي ولَطُفَ سَبَبُه.

وفي الاصطلاحِ يَشمَل أَمرَين:

الأولُ: عُقَدٌ ورُقَى، أيْ: قِراآتٌ ورُقَى وطَلَاسِمُ يَتوصَّلُ بها السَّاحرُ إلى استِخدامِ الشَّياطينِ فيما يُريدُ به مِنْ ضَررِ المسحورِ.

الثَّاني: أدويةٌ وعَقاقيرُ تُؤثِّر في بَدنِ المسحورِ وعَقلِه وإرادَتِه، فتَجِدُه يَنصرِفُ ويَميلُ، وهو ما يُسمَّى بالصَّرفِ والعَطفِ.

ص: 127

كفرُ السَّاحرِ:

يُقال للساحرِ: صِف لنا سِحرَك؟ فإنْ وَصَف ما يُوجِب الكفرَ؛ كَفَر، وإلاّ فلا، لِما وَرَد عن عائشةَ رضي الله عنها:" أنَّها لم تَقتُلْ جاريةً لها سَحَرَتها ". رَواه عبدُ الرزاق، والبَيهقيُّ، وابنُ حزمٍ بسندٍ صحيحٍ، فعَدمُ قَتلِها يدلُّ على عدمِ كفرِها، ولأنَّ الأصلَ بقاءُ الإسلامِ.

وعلى هذا فالسِّحرُ يَنقسِم إلى قِسمَين:

الأولُ: ما هو كفرٌ: وهو ما كان بواسطةِ الشَّياطينِ، لأنَّ الساحرَ يَتقرَّب للشَّياطينِ بما يُريدون مِنْ الكفرِ غالبًا. والدليلُ قولُه تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البَقَرَة: 102]، فهذا يدلُّ على أنَّ الساحرَ يَكفُر.

الثَّاني: ما هو مِنْ كَبائرِ الذُّنوبِ: وهو ما كان بواسطةِ العَقاقيرِ والأَدويةِ.

قتلُ الساحرِ:

عند مالكٍ وأحمدَ: أنه يُقتَل وهو الراجح، سواءٌ قُلنا إنَّ سِحرَه كفرٌ أو إنه مِنْ كَبائرِ الذُّنوبِ، لما ورَد عن جُندُبٍ رضي الله عنه عند الترمذيِّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«حَدُّ السَّاحرِ ضَرْبُه بالسَّيفِ» . أخرجَه الترمذيُّ، لكنَّه ضعيفٌ، وكذلك حديثُ بَجَالَةَ قال:"أَتانَا كتابُ عُمرَ قَبلَ مَوتِه بِسَنَةٍ أنْ اقْتُلُوا كلَّ ساحرٍ، فقَتَلْنَا ثَلاثَ سَوَاحِرٍ". رَواه البخاريُّ، لكنَّ لَفظةَ:"أنْ اقْتُلُوا كلَّ ساحرٍ" في مُسنَدِ الإمامِ أحمدَ ولَيسَت في البخاريِّ.

ووَرَد عن حَفْصةَ رضي الله عنها أنَّها قَتلَت جاريةً لها سَحرَتها. أخرجَه مالكٌ في الُموطَّأِ.

ص: 128

حَلُّ السِّحرِ:

حلُّ السِّحرِ عن المسحورِ قَسَّمه العلماءُ إلى قِسمَين:

الأولُ: أنْ يَكون ذلك بالقرآنِ والأدعيةِ والقِراءاتِ المباحةِ، فهذا جائزٌ ولا بأسَ به؛ لعُموماتِ الأدلَّةِ الدالَّةِ على الرُّقْيةِ، كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا بَأسَ بالرُّقَى ما لم تَكُنْ شِرْكًا» . رَواه مسلمٌ.

وقولِه صلى الله عليه وسلم: «لا رُقْيَةَ إلاّ مِنْ عَينٍ أو حُمَةٍ» . أخرجَه أبو داودَ.

وقولِه صلى الله عليه وسلم: «أُنْزِلَ عَلَيَّ اللَّيلَةَ سُورَتانِ لم يُتعوَّذْ بِمِثلِهِما: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» . أخرجَه النَّسائيُّ.

وكالمأثُورِ عنه صلى الله عليه وسلم في رُقْيةِ المريضِ: «رَبَّنا الَّذي في السَّماءِ تَقدَّسَ اسْمُكَ

». أخرجَه أبو داودَ.

الثَّاني: حلُّ السِّحرِ عن المسحورِ بسِحرٍ مِثلِه، لا يَجوزُ مُطلقًا؛ للعُموماتِ: مِثلِ حديثِ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فصَدَّقَه بِما يَقولُ لم تُقبَلْ صَلاتُه أَربعينَ ليلةً» .

وكذلك: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أو كاهِنًا فصَدَّقَه بِما يَقولُ فقَد كَفَر بِما أُنْزِلَ على مُحمَّدٍ» .

ولحديثِ جابرٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «النُّشْرَةُ مِنْ عَمَلِ الشَّيطانِ» . رَواه أحمدُ وغيرُه، واختُلِف في وَقفِه ورَفعِه، ووَرَد عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه مَوقوفًا نحوُه. رَواه الطبرانيُّ في المُعجَمِ الكبيرِ، والبَيهقيُّ.

وكذلك استدلُّوا بالعُموماتِ الدالَّةِ على النَّهيِ عن التَّداوِي بالمحرَّماتِ.

ص: 129

إتيانُ السَّحَرةِ على أقسامٍ:

1 -

الإتيانُ مع التَّصديقِ لهُم في أمرٍ غَيبِيٍّ مُطلَقٍ، أو في أَمرٍ غَيبِيٍّ غيرِ مُطلَقٍ، كالعلمِ بمكانِ السِّحرِ والضالَّةِ ونحوِ ذلك، لكنْ بدونِ اعتقادِ أنَّ الشياطينَ تُخبِرُهم، فهذا كفرٌ أكبرُ مُخرِجٌ مِنْ المِلَّةِ؛ لأنَّ عِلمَ الغَيبِ خاصٌّ بالله، قال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعَام: 59]، وقال تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النَّمل: 65]. وقال المنَاوِي: "إنَّ مُصدِّقَ الكاهِنِ إنْ اعتَقدَ أنه يَعلم الغَيبَ كَفَر، وإنْ اعتَقدَ أنَّ الجِنَّ تُلقِي إليه ما سَمِعَته مِنْ الملائكةِ وأنه بإلهامٍ فصَدَّقَه مِنْ هذه الجِهَةِ لا يَكفرُ".

2 -

الإتيانُ مع التَّصديقِ لهُم في أمرٍ غَيبيٍّ نِسبيٍّ، كمَكانِ السِّحرِ والضالَّةِ، ونحوِ ذلك، مع اعتقادِ أنَّ الشياطينَ تُخبِرُهم، فهذا له عُقوبَتان:

أ) لم تُقبَلْ له صلاةٌ أربعينَ يومًا.

ب) كَفَر بمَا أُنزِل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم: الكفرَ الأصغرَ.

3 -

الإتيانُ المجرَّدُ بدونِ تَصديقٍ، فهذا محرَّمٌ مِنْ بابِ سَدِّ الذَّرائِعِ، والدليلُ على ذلك ما رَواه الإمام مسلمٌ عن مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ قال: قلتُ: "يا رسولَ اللهِ: إنَّ مِنَّا رجالاً يأتونَ الكُهَّانَ. قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فَلَا تَأْتِهِم» .

4 -

الإتيانُ إليهم مِنْ أَجلِ سُؤالهِم امتحانًا لهُم، واختبارًا لِباطنِ أَمرِهم، وعندَه ما يُميِّز به صِدقَه مِنْ كَذِبِه، فهذا جائزٌ كمَا ثَبَت في الصَّحيحينِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: سأَلَ ابنَ صَيَّادٍ فقال: «ما يَأتيكَ؟» فقال: يَأتِيني صادقٌ وكاذبٌ، قال:«مَا تَرَى؟» قال: أَرَى عَرشًا على الماءِ، قال:«فإِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لكَ خَبْأً» ،

ص: 130

قال: الدُّخُّ الدُّخُّ قال صلى الله عليه وسلم: «اخْسَأْ فلَن تَعدُوَ قَدْرَكَ، فإِنَّما أَنْتَ مِنْ إخوانِ الكُهَّانِ» .

مسألة: المُنَجِّمُ، وهو: مَنْ يَنظُر في النُّجومِ يَستدلُّ بها على الَحوادِثِ.

والعرَّافُ وهو: الذي يَحدِس ويَخرُص، وضاربُ بحَصًى، ونحوِه.

فإنْ ادَّعَى أنه يَعلم به الأمورَ المُغيَّبةَ فكُفرٌ أكبرُ، وإلاّ فكُفرٌ أصغرُ؛ قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجنّ: 26 - 27].

قواعدُ مُهمَّةٌ في مَعرفةِ أنواعِ الكفرِ:

1 -

الكُفرُ اصطلاحٌ وحُكمٌ شرعيٌّ مَحْضٌ مَردُّه إلى اللهِ في كتابِه، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِه الصَّحيحةِ الثابتةِ عنه، وليس مَبْنَاه على الهَوَى والتَّشهِّي وسوءِ الظَّنِّ أو فاسدِ الفهمِ.

2 -

أنَّ الكفرَ كالإيمانِ له شُعَبٌ كثيرةٌ، فكمَا صحَّ في الصَّحيحَين مِنْ حديثِ أِبي هريرةَ رضي الله عنه يَرفعُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الإيمانُ بِضْعٌ وسَبعونَ شُعْبةً، أَعْلاها قَولُ لا إلهَ إلاّ اللهُ، وأَدْناها إمَاطَةُ الأَذَى عن الطَّريقِ، والحيَاءُ شُعبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ» .

3 -

أنه هناك علاقةٌ بين الكفرِ الأكبرِ والشِّركِ الأكبرِ، وهي علاقةُ عُمومٍ وخُصوصٍ، فكلُّ شِركٍ كُفرٌ، وليس كلُّ كُفرٍ شِركًا، وتقدَّم.

4 -

أنَّ الكفرَ وَرَد في مَوَارِدِه المُعتبَرَةِ في نُصوصِ الوَحيَين الشَّريفَين: كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم يَرِدُ على صُورتَين:

أ- مُعرَّفًا بالألِفِ واللامِ، فالمرادُ به الكفرُ المعهودُ أو المستَغرِقُ في الكفرِ، وهو المُخرِجُ مِنْ المِلَّةِ.

ص: 131

ب- ويأتي مُنكَّرًا غيرَ مُعرَّفٍ لا بالألِفِ واللامِ، ولا بالإضافةِ والتَّخصيصِ، فلا يُعَدُّ بالصورةِ الثانيةِ كُفرًا أكبرَ؛ بل الأصلُ فيه أنه كُفرٌ أصغرُ لا يُخرِجُ مِنْ المِلَّةِ.

5 -

أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ يُعظِّمون لفظَ التكفيرِ جدًّا، ويَجعلونَه حقًّا للهِ ولرسولِه صلى الله عليه وسلم فقَطْ، فلا يَجوزُ ولا يَسوغُ عندهم تَكفيُر أَحدٍ إلاّ مَنْ كفَّرَه اللهُ أو كفَّرهُ رسولُه.

ولِذَا يَقول الطَّحاويُّ في عَقيدتِه المشهورةِ المُتداوَلَةِ: "ولا نُكفِّرُ أَحدًا مِنْ أهلِ القِبلةِ بذَنبٍ ما لم يَستَحِلَّه، ولا نَقول لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذَنبٌ لِمَنْ عَمِلَه".

6 -

أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ يُفرِّقون بين الكفرِ المُطلَقِ والكفرِ المُعيَّنِ، ولهُم شروطٌ وضوابطُ وتَورُّعٌ ودِيانةٌ في إيقاعِه على المُعيَّنِين، فإنَّهم يَرَون كُفرَ المُعيَّنِ يَقَع عليه بنَفسِه، وأهمُّ هذه الشُّروطِ في إيقاعِ الكفرِ الأكبرِ عليه: بُلوغُ الحُجَّةِ عليه، واندفاعُ الشُّبهةِ عنه، ومِمَّن اعتَنَى بهذه المسألةِ تَفصيلاً أئمةُ الدَّعوةِ النَّجديَّةِ مِنْ الشيخِ محمدِ بنِ عبدِ الوهابِ، فأبنائِه وتَلامِيذِهم، فإنَّهم أَجْلَوها وحقَّقُوها تحقيقًا لا تكادُ تَجِده عند غَيرِهم، ويَضيقُ المَقامُ -في الواقع- عن تَتبُّع كَلامِهم وجَمعِه هنا، فالحمدُ لله.

جماهيرُ السَّلفِ على عَدمِ تَكفيرِ أعيانِ طَوائفِ الأُمَّةِ الثلاثِ والسَّبعين فِرقةً حتَّى تُقام عليهم الحُجَّةُ، وإنْ كان في اعتِقاداتِهم وأقوالِهِم ما هو كفرٌ بالاتِّفاقِ، فالإمامُ أحمدُ لم يُكفِّر أعيانَ المُعتَزِلةِ.

وههُنا أمرٌ مهمٌّ لا بُدَّ مِنْ التَّفطُّنِ له، وهو أنَّ ثَمَّةَ فَرْقًا بين مَراحلَ ثلاثٍ في الكفرِ المُخرِجِ عن المِلَّةِ والمُوجِبِ للرِّدَّةِ، وهي:

ص: 132

أ- تَعيينُ أنَّ هذا الجُرمَ مِنْ الكفرِ الأكبرِ بالدَّلائلِ الشرعيَّةِ.

ب- ثُم مَرحلةُ تَكفيرِ المُعيَّنِ المُواقِعِ لهذا الجُرمِ؛ باجتماعِ الشُّروطِ فيه وانتفاءِ المَوانعِ عنه، وهو مُنَاطٌ بالقُضاةِ الشَّرعِيِّين أَصالةً.

ج- ثُم مَرحلةٌ ثالثةٌ بعَدمِ القَطعِ له بعدَ الموتِ بالخُلودِ في النارِ، مع إجراءِ أحكامِ الكفرِ عليه في أحكامِ الدُّنيا، واللهُ أعلمُ.

التَّفريقُ بين التَّكفيرِ المُطلَقِ وتَكفيرِ المُعيَّن:

مِنْ أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: التفريقُ بينَ التكفيرِ المُطلَقِ وتَكفيرِ المُعيَّنِ؛ لأنَّ مِنْ المُمكِن أنْ يَقولَ المسلمُ قَولاً أو يَفعلَ فِعلاً قد دلَّ الكتابُ والسُّنةُ وإجماعُ الأُمَّةِ على أنه كُفرٌ ورِدَّةٌ عن الإسلامِ، ولكنْ لا تَلازُمَ عندهم بينَ القولِ بأنَّ هذا كفرٌ، وبين تكفيرِ الشَّخصِ بعَينِه؛ فليسَ كلُّ مَنْ فَعَل مُكفِّرًا يُحكَم بكُفرِه؛ لأنَّ هناكَ شُروطًا ومَوانعَ يَجِب مُراعاتُها واعتبارُها، فأهلُ السُّنةِ يَقولون: مَنْ قال هذا فهو كافرٌ، ومَن فَعَل كذا فهو كافرٌ، وعندما يَتعلَّق الأمرُ بالشَّخصِ المُعيَّنِ الذي قالَه أو فَعلَه، لا يَحكمون بكفرِه حتَّى تَجتمِعَ فيه الشُّروطُ وتَنتفِيَ عنه المَوانعُ، فعِندئذٍ تَقوم عليه الحُجَّةُ الَّتي يَكفُر تاركُها.

وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ يَتميَّزون بها عن غيِرهم؛ لأنَّ التكفيرَ ليس حقًّا لأَحدٍ، يَحكُم به على مَنْ يشاءُ على وَفقِ هواهُ؛ بل التكفيرُ حُكمٌ شرعيٌّ يَجِب الرُّجوعُ في ذلك إلى ضوابطِ الشَّرعِ؛ فمَن كفَّرَه اللهُ تعالى أو رسولُه صلى الله عليه وسلم وقامَت عليه الحُجَّةُ؛ فهو الكافرُ.

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ رحمهُ اللهُ تعالى: "إنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا فَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ صَاحِبِهِ، وَيُقَالُ: مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي قَالَهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا،

ص: 133

وَهَذَا كَمَا فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ، فَإِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَقُولُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} [النِّسَاء: 10] فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ حَقٌّ لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ لَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ، فَلَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّنِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِالنَّارِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ ثُبُوتِ مَانِعٍ".

وقال أيضًا: "وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ، وَمَنْ ثَبَتَ إسْلَامُهُ بِيَقِينٍ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلاَّ بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ".

موانعُ التَّكفيرِ:

التكفيرُ عند أهلِ السُّنةِ والجماعةِ له مَوانعُ تَمنع مِنْ تَنزيلِ الحُكمِ على الشَّخصِ بعَينِه إلاّ بعدَ تَوفُّرِ الشُّروطِ، وانتِفاءِ المَوانعِ الَّتي تَمنع تَكفيرَ المُعيَّنِ، ومِن هذه المَوانعِ وأَهمِّها:

• الجَهلُ: مِنْ شرطِ الإيمانِ عندَ أهلِ السُّنةِ، وُجودُ العِلمِ والمعرفةِ عندَ الشَّخصِ المؤمِنِ به؛ لِذَا فمَن أَنكَر أمرًا مِنْ أمورِ الشَّرعِ جاهلاً به، ولم يَبلُغْه ما يُوجِب العلمَ بِما جَهِلَه؛ فإنه لا يُكفَّر؛ حتَّى لو وَقَع في مَظهَرٍ مِنْ مَظاهِرِ الشَّركِ أو الكفرِ، فمِثلُ هذا لا يَستحِقُّ العُقوبةَ حتَّى تُقام عليه الحُجَّةُ.

• الخَطأُ: الخطأُ مِنْ مَوانعِ التَّكفيرِ في المسائلِ العلميَّةِ والعمليَّةِ إذا كان اجتهادًا لِطلَبِ الحقِّ ومُتابعةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وغيرَ مقصودٍ لِمُخالَفةِ الشرعِ؛ لقولِه تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزَاب: 5].

• الإِكْراهُ: الإكراهُ على الكفرِ بضوابِطهِ الشرعيَّةِ يُعتبَر مِنْ مَوانعِ التكفيرِ

ص: 134

في حقِّ المُعيَّنِ.

وذلك بالضَّربِ والقَتلِ والتَّعذيبِ، أو قَطعِ عُضوٍ مِنْ أَعضائِه، بالفِعلِ لا بُمجرَّدِ التهديدِ اللَّفظيِّ، ويَغلِب على ظَنِّه أنه إذا امتَنَع أُوقِع به ذلك فَورًا لا مُحالاً، فيُباح إظهارُ ما يُخالِف الدِّينَ ولا يَأثمُ إنْ نَطَق بالكفرِ أو فَعَل؛ لانتفاءِ الرِّضا والإرادةِ، لقولِه تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [النّحل: 106].

ص: 135

‌فصل

فمَن ارتَدَّ عن الإسلامِ، وهو مُكلَّفٌ مُختارٌ دُعِيَ إلى الإسلامِ، واستُتِيبَ، وضُيِّقَ عليه وحُبِس؛ لقولِه سبحانه وتعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ *} [الأنفَال: 38]، أَمَر اللهُ رسولَه أنْ يُخبِر جميعَ الذينَ كفرُوا أنَّهم إنْ انتَهَوا غُفِر لهُم ما سَلَف، وهذا معنَى الاستِتابَةِ، والمرتَدُّ مِنْ الذين كفرُوا.

روَى الإمامُ أحمدُ، عن أنسِ بنِ مالكٍ قال:"لَمَّا افتَتَحْنا تُسْتَرَ، بَعثَنِي الأَشعريُّ إلى عمرَ بنِ الخطابِ، فلمَّا قَدِمْتُ عليه قال: ما فَعَلَ البَكريُّونَ، حُجَينةُ وأصحابُهُ؟ قال: فأَخَذتُ به في حديثٍ آخَرَ، قال: فقال: ما فَعَلَ النَّفَرُ البَكريُّونَ؟ قال: فلمَّا رأيتُهُ لا يُقلِعُ، قلتُ: يا أميرَ المؤمِنينَ، ما فَعَلوا! إنَّهم قَتَلوا، ولَحِقُوا بالمُشركِينَ، ارتَدُّوا عن الإسلامِ، وقاتَلوا مع المُشركِينَ حتَّى قُتِلوا. قال: فقال: لأنْ أَكونَ أَخذتُهُم سِلمًا، كان أحبَّ إليَّ مِمَّا على وجهِ الأرضِ مِنْ صفراءَ أو بيضاءَ. قال: فقلتُ: وما كان سَبيلُهُم لو أَخذتَهُم سِلمًا؟ قال: كُنْتُ أعرِضُ عليهم البابَ الذي خَرَجُوا منه، فإنْ أَبَوا استَودعتُهُم السِّجنَ". أخرجَه الخلاَّل في «الجامعِ لأحكامِ أهلِ المِلَلِ» ، وصحَّحه ابنُ حزمٍ في المحلَّى.

وعن عبدِ اللهِ بنِ عُتْبةَ قال: أَخَذ ابنُ مسعودٍ قومًا ارتَدُّوا عن الإسلامِ مِنْ أهلِ العراقِ قال: فكَتَب فيهم إلى عثمانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه، فكَتَب إليه أنْ اعرِضْ عليهم دِينَ الحقِّ وشهادةَ أنْ لَا إله إلاّ اللهُ، فإنْ قَبِلُوا فخَلِّ عنهم، وإن لم يَقبَلُوا فاقتُلهُم، فقَبِلَها بعضُهم فتَرَكه، ولم يَقبَلْها بعضُهم فقَتَله. رَواه الإمامُ أحمدُ بسندٍ صحيحٍ.

ص: 136

فإنْ أَسلَم لم يُعزَّر، وإنْ لم يُسلِم قُتِل بالسَّيفِ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:«إذا قَتَلْتُم فأَحسِنُوا القِتلَةَ» . رَواه مسلمٌ مِنْ حديثِ شدَّادِ بنِ أوسٍ رضي الله عنه.

ولا يُحرَق بالنارِ؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام: «مَنْ بدَّل دِينَه فاقتُلُوه، ولا تُعذِّبُوه بعذابِ اللهِ» . يَعني النارَ. أخرجَه البخاريُّ.

ولا يَقتُله إلا الإمامُ أو نائبُه، ما لم يَلحَقْ بدارِ الكفارِ الَّتي بَينَنَا وبَينَهم حربٌ، فلِكُلِّ أَحدٍ قَتلُه، وأَخذُ ما معَه.

مسألة: تُقبَل توبةُ كلِّ مرتَدٍّ في الدُّنيا.

فتُقبَل توبةُ مَنْ سَبَّ اللهَ تعالى، ومَن سَبَّ رسولَه صلى الله عليه وسلم، وتُقبَل توبةُ مَنْ تَكرَّرَت رِدَّتُه، والمنافِقُ، والساحرُ؛ لعُموماتِ أَدلَّةِ التوبةِ، ولقولِه تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفَال: 38]، لكنْ لا بُدَّ أنْ يَظهَر منه ما يدلُّ على صِدقِ تَوبتِه وصلاحِ سَريرتِه.

وأيضًا مَنْ سَبَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعاقَب بحقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيُقتَل؛ لِقَتلِ محمدِ بنِ مَسْلَمةَ كَعبَ بنَ الأَشرفِ بإذنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يَهجُو رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. رَواه مسلمٌ.

ولحديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قصَّةِ الأَعمَى الذي له أمُّ ولدٍ تَقَع بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقَتَلها. رَواه أبو داودَ.

ولأنَّ سَبَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حقُّ آدميٍّ، وحقُّ الآدميِّ لا يَسقُط بالتوبةِ، كحَدِّ القَذفِ.

مسألة: توبةُ المرتَدِّ وكلِّ كافرٍ: إسلامُه، بأنْ يَشهدَ أنْ لَا إلهَ إلاّ اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ؛ لحديثِ ابنِ مسعودٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَل الكَنِيسةَ، فإذا هو بيهوديٍّ يَقرأ عليهم التوراةَ فَقَرأ حتَّى أَتَى على صِفَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِه، فقال:

ص: 137

هذه صِفَتُك وصِفَةُ أُمَّتِك، أَشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنَّكَ محمدٌ رسولُ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«آوُوا أَخاكُم» . رَواه أحمدُ.

مسألة: مَنْ كان كُفرُه بجَحدِ فَرضٍ ونحوِه، كتحليلِ حرامٍ، أو تَحريمِ حلالٍ مُجمَعٍ عليه، أو جَحدِ نبيٍّ أو كتابٍ مِنْ كُتبِ اللهِ، أو آيةِ مِنْ كتابِ اللهِ، أو مَلَكٍ مِنْ ملائكتِه الذين ثَبَت أنَّهم ملائكةُ اللهِ، فتَوبتُه -مع إتيانِه بالشَّهادتَين-: إقرارُه بالمَجحُودِ به مِنْ ذلك؛ لأنه كَذَّب اللهَ سبحانَه بمَا اعتَقَدَه مِنْ الجَحدِ، فلا بُدَّ في إسلامِه مِنْ الإقرارِ بمَا جَحَده.

ولو قالَ كافرٌ: أَسلَمتُ، أو: أنا مسلمٌ، أو: أنا مؤمنٌ؛ صار مسلمًا، وإنْ لم يَلفُظ بالشَّهادتَين؛ لِما روَى المِقدادُ أنه قال: يا رسولَ اللهِ أَرأيتَ إنْ لَقِيتُ رجلاً مِنْ الكفارِ فقاتَلَني فضَرَبَ إحدَى يَديَّ بالسَّيفِ فقَطَعَها ثم لاذَ مِنِّي بشَجَرةٍ فقال أَسلَمتُ، أَفأَقتُلُه يا رسولَ اللهَ بعدَ أنْ قالَها؟ قال:«لا تَقْتُلْهُ» . رَواه مسلمٌ.

ويُمنع المرتَدُّ مِنْ التصرُّفِ في مالِه؛ لأنه مَحجورٌ عليه لِحَقِّ المسلِمينَ، وتُقضَى منه دُيونُه، ويُنفَق منه عليه وعلى مَنْ تَلزمُه نَفقتُه.

فإنْ أَسلَم أَخَذ مالَه أو بَقيَّتَه، ونَفَذ تَصرُّفُه، وإلاّ صارَ فَيئًا لِبَيتِ المالِ مِنْ مَوتِه مرتَدًّا.

ص: 138

‌كتابُ القضاءِ

لُغةً: إحكامُ الشيءِ، والفراغُ منه، ومنه:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فُصّلَت: 12].

واصطلاحًا: تَبيِينُ الحُكمِ الشَّرعيِّ، والإلزامُ به، وفَصلُ الخصومات.

والأصلُ فيه الكتابُ والسُّنةُ، كمَا في قولِه تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقولِه تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البَقَرَة: 213].

ومِن السُّنةِ: حديثُ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجْتَهَدَ الحاكِمُ فَأصَابَ فَلَهُ أَجْرانِ، وإذا اجْتَهَدَ فَأخْطَأَ فَلَهَ أَجْرٌ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ومِن الإجماعِ: قالَ ابنُ قُدامةَ في المُغنِي 9/ 34: "وأَجمَع المسلِمونَ على مشروعيَّةِ نَصبِ القضاءِ، والحُكمِ بين الناسِ".

وهو فَرضُ كفايةٍ: فهو فرضٌ لوجوبِ رَفعِ الظُّلمِ وفَصلِ الخُصوماتِ وأَخذِ الحَقِّ وإقامةِ العدلِ، وعلى الكفايةِ لأنَّ المطلوبَ هو تَحصيل هذا العَملِ، فإذا قامَ به البَعضُ حَصَل الفرضُ وتَحقَّق المطلوبُ.

وتَولِّي القضاءِ ونحوِه مِنْ الوِلاياتِ تَعتَريه الأحكامُ الخمسةُ:

فيَكون واجبًا: إنْ كان مَنْ يَتولاَّه أهلاً للقضاءِ ولم يُوجَد سِواه.

ويَكون مَندوبًا: لصاحبِ علمٍ لا يَعرِفُه الناسُ، ووُجِدَت فيه شُروطُ

ص: 139

القاضِي؛ وذلك ليُشهِر عِلمَه للناسِ فيُنتَفَع به.

ويَكون حرامًا: لفاقدِ أهليَّةِ القضاءِ، إمَّا لجَهلِه أو لجَورِه، لِما ورَد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن بُرَيدَةَ رضي الله عنه أنه قال:«القُضاةُ ثلاثةٌ: قاضِيانِ في النارِ، وقاضٍ في الجنَّةِ، رجلٌ قضَى بغيرِ الحقِّ فعَلِم ذاكَ، فذاكَ في النارِ، وقاضٍ لا يَعلَم فأَهلَكَ حُقوقَ الناسِ فهو في النارِ، وقاضٍ قضَى بالحقِّ فذلكَ في الجنَّةِ» . رَواه أبو داودَ، والترمذيُّ، وابنُ ماجَه، والنَّسائيُّ في الكبرَى.

ولأنَّ مَنْ لا يُحسِنه لا يَقدِر على العدلِ فيه، فيأخُذ الحقَّ مِنْ مُستحِقِّه فيَدفعُه إلى غيرِه.

ويَكون مكروهًا: لِمَنْ يَخاف العَجزَ عنه، وعدمَ القيامِ به.

ويَكون مباحًا: للصَّالحِ للقضاءِ الذي يَثِق بنَفسِه أنْ يُؤدِّيَ فَرضَه، ولا يَتعيَّن عليه لوجودِ غيرِه مِثلَه.

قال شيخُ الإسلامِ كمَا في الاختياراتِ 480: "والواجبُ اتِّخاذُه وِلايةَ القضاءِ دِينًا وقُربَةً، فإنَّها مِنْ أَفضلِ القُرُباتِ، وإنَّما فَسَد حالُ الأكثرِ؛ لِطَلبِ الرِّئاسةِ والمالِ بها، ومَن فَعَل ما يُمكِنه لم يَلزَمْه ما يَعجِزُ عنه

، ويَجِب العملُ بمُوجَبِ اعتِقادِه فيما له وعلَيه إجماعًا، والوِلايةُ لها رُكنانِ: القوَّةُ والأمانةُ، فالقوَّةُ في الحُكمِ تَرجِع إلى العلمِ بالعدلِ بتَنفيذِ الحُكمِ، والأمانةُ تَرجع إلى خَشيةِ اللهِ تعالى".

مسألة: يَلزم الإمامَ أنْ يَنصِب مِنْ القُضاةِ بقَدْرِ حاجةِ الناسِ؛ لأنَّ الإمامَ لا يُمكِنه أنْ يُباشِرَ الخُصوماتِ في جميعِ البُلدانِ بنَفسِه.

ويَختارُ لنَصبِ القضاءِ أفضلَ مَنْ يَجِد عِلمًا ووَرَعًا؛ لأنَّ الإمامَ ناظِرٌ للمُسلِمين، فيَجِب عليه اختيارُ الأَصلَحِ لهُم.

ص: 140

ويأمُرُه بتَقوَى اللهِ؛ لأنَّ التَّقوَى رأسُ الدِّين، وأنْ يَتحرَّى العدلَ، أي: إعطاءَ الحقِّ لمُستحِقِّه مِنْ غيرِ مَيلٍ، ويَجتهِد القاضِي في إقامةِ العدلِ بين الأَخصامِ.

مسألة: يُشتَرط في القاضِي عَشرُ صِفاتٍ:

1 -

أنْ يَكون بالغًا عاقلاً؛ لأنَّ غيَر المُكلَّفِ تَحتَ وِلايةِ غيرِه، فلا يَكون واليًا على غيرِه.

2 -

ذَكَرًا؛ لحديثِ أَبي بَكرةَ رضي الله عنه، وفيه قولُه عليه الصلاة والسلام:«ما أَفلَح قَومٌ وَلَّو أَمرَهُم امرأةً» . رَواه البخاريُّ.

3 -

مُسلمًا، بالإجماعِ؛ ولقولِه تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النِّسَاء: 141].

4 -

أَمينًا؛ لقولِه تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القَصَص: 26].

5 -

سَميعًا؛ لأنَّ الأَصمَّ لا يَسمع كلامَ الخَصمَين، وللمَشقَّةِ، لكنْ تَصِحُّ تَولِيةُ الأَصمِّ في بعضِ الأَقضِيةِ الخاصَّةِ لا على سَبيلِ العُمومِ؛ للعُموماتِ، ولأنه يُمكِن أنْ يَعتاضَ عن السَّمعِ بالكتابةِ.

وتَصِحُّ وِلايةُ الأَعمَى للقضاءِ؛ لأنَّ شُعَيبًا كان غيرَ مُبصِرٍ، وللعُموماتِ.

6 -

مُتكلِّمًا؛ للمَشقَّةِ، ولا يَفهم جميعُ الناسِ إشارَتَه، لكنْ تَصِحُّ تَولِيةُ الأَخرسِ في بعضِ الأَقضِيةِ الخاصَّةِ لا على سَبيلِ العُمومِ؛ لأنَّ النُّطقَ وسيلةٌ، فإذا أَمكَن مَعرفةُ إشارةِ القاضِي حَصلَت الوسيلةُ.

وهذه الشُّروطُ تُعتَبر حسَبَ الإمكانِ، وتَجِب وِلايةُ الأَمثلِ فالأَمثلِ، فيُولَّى

ص: 141

لعَدمِ العدلِ: الأَنفعُ مِنْ الفاسِقَين، وأَقلَّهما شرًّا، وأَعدَل المُقلِّدَين، وأَعرَفَهما بالتَّقليدِ.

مسألة: إذا حكَّم اثنانِ فأكثرَ بَينَهما رجُلاً يَصلُح للقضاءِ فحَكَم بَينَهما؛ نَفَذ حُكمُه في كلِّ ما يَحكُم به القاضِي؛ لأنَّ عمرَ وأُبيًّا تَحاكَمَا إلى زيدِ بنِ ثابتٍ، وتَحاكَم عثمانُ وطَلحةُ إلى جُبيرِ بنِ مُطعِمٍ، أخرجَها وكيعٌ في أخبارِ القُضاةِ، ولم يَكُنْ أحدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنا قاضيًا، ولحديثِ أَبي شُرَيحٍ: "إذا اختَلَفُوا في شيءٍ أَتَوني فحَكَمتُ بينَهم فرَضِي كِلَا الفَريقَين، قال:«ما أَحسَنَ هَذا» .

مسألة: أخلاقُ القاضِي الَّتي يَنبغي له التَّخلُّق بها:

1 -

أنْ يَكون قويًّا على ما هو فيه، وعلى مَعرفتِه، مُستظهِرًا مُضطَلِعًا بالعلمِ، مُتمكِّنًا منه.

2 -

لَيِّنًا مِنْ غيرِ ضَعفٍ؛ لِئلَّا يَهابَه صاحبُ الحقِّ.

3 -

حَليمًا؛ لِئلَّا يَغضبَ مِنْ كلامِ الخصمِ، ذا أَنَاةٍ، أي: تُؤَدةٍ وتَأَنٍّ؛ لِئلَّا تُؤدِّي عَجلتُه إلى ما لا يَنبغي.

4 -

ذا فِطْنَةٍ؛ لِئلَّا يَخدعَه بعضُ الأخصامِ، بصيرًا بأحكامِ مَنْ قَبلَه، له مَعرفةٌ بالناسِ ومُجتمَعهم وأحوالِهم.

5 -

مَجلِسه في وَسَطِ البلدِ إذا أَمكَن؛ ليَستويَ أهلُ البلدِ في المُضِيِّ إليه، فَسيحًا لا يَتأذَّى فيه بشيءٍ مِنْ حرٍّ أو بردٍ، ولا يُكره القضاءُ في الجامعِ.

مسألة: يَجِب أنْ يَعدلَ بين الخَصمَين في لَحْظِه -نَظرِه إليهما-، ولَفظِه، ومَجلِسِه -جُلوسِهما بين يَدَيه-، ودخولِهِما عليه.

قال ابنُ القيِّمِ في إعلامِ المُوقِّعين 3/ 173: "الحاكمُ مَنهيٌّ عن رَفعِ أَحدِ

ص: 142

الخَصمَين على الآخَرِ، وعن الإقبالِ عليه دونَه، وعن مُشاوَرتِه والقيامِ له دون خَصمِه؛ لِئلَّا يَكون ذَريعةً إلى انكسارِ قَلبِ الآخَرِ وضَعفِه عن القيامِ بحُجَّتِه وثِقَلِ لِسانِه بها".

وإنْ سلَّم أَحدُهما رَدَّ، ولم يَنتظِر سلامَ الآخَرِ، ويَحرُم أنْ يُسارَّ أَحدَهما، أو يُلقِّنَه حُجَّتَه، أو يُضِيفَه؛ لأنه إعانةٌ له على خَصمِه، وكَسرٌ لقَلبِه، أو يُعلِّمَه كيف يَدَّعي، إلا أنْ يَترك ما يَلزَمُه ذِكرُه في الدَّعوَى.

مسألة: لا يَجوز للقاضِي أنْ يَقضِيَ مع وجودِ مُشوِّشٍ للفِكرِ، كالغضبِ، ومِثلُه إذا كان حاقِنًا، أو في شدَّةِ جوعٍ، أو عطشٍ، أو هَمٍّ، أو مَلَلٍ، أو كسلٍ، أو نُعاسٍ، أو بَردٍ مؤلمٍ، أو حَرٍّ مزعجٍ؛ لأنَّ ذلك كلَّه يَشغل الفِكرَ الذي يَتوصَّل به إلى إصابةِ الحقِّ.

ولا يَخلُو الغضب مِنْ أَمرَين:

الأولُ: أنْ يَكون الغضبُ يَسيرًا لا يَمنع مِنْ فهمِ القضيَّةِ وتَصوُّرِها: فيَجوز القضاءُ؛ لِما روَى الزُّبَيرُ رضي الله عنه: "أنَّه اختَصَم مع رجلٍ مِنْ الأنصارِ في شِرَاجِ الحَرَّةِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للزُّبَيرِ:«اسْقِ ثُم أَرسِل الماءَ إلى جارِكَ» ، فقال الأنصاريُّ: أنْ كانَ ابنَ عَمَّتِك؟ فغَضِبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقال للزُّبَيرِ:«اسْقِ ثُم احْبِسِ الماءَ حتَّى يَبلُغَ الجَدْرَ» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ. فحَكَم في حالِ غَضَبِه.

الثَّاني: أنْ يَكون الغضبُ كثيرًا، فلا يَجوز القضاءُ في هذه الحالِ؛ لأنَّ الكثيرَ يَشغَل الفِكرَ؛ لخبرِ أَبي بَكرةَ مَرفوعًا:«لا يَقضِيَنَّ حاكمٌ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ» . أخرجَه البخاريُّ، ومسلمٌ.

ص: 143

مسألة: يَحرم على القاضِي قَبولُ رِشْوَةٍ، والرِّشوةُ: أنْ يأخذَ مِنْ أَحدِ الخَصمَين ليَحكُمَ له بباطلٍ، أو يَمتنعَ مِنْ الحُكمِ بالحقِّ للمُحِقِّ حتَّى يُعطيَه، وهو مِنْ أَعظمِ الظُّلمِ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ قال:"لَعَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ والمُرْتَشِيَ". أبوداودَ، والترمذيُّ، وابنُ ماجَه. وإسنادُه حسنٌ، وصحَّحه الترمذيُّ، وابنُ حِبَّانَ، والحاكمُ، وأقرَّه الذهبيُّ.

وكذا يَحرم على القاضِي قَبولُ هَديَّةٍ؛ لحديثِ أِبي هريرةَ رضي الله عنه، وفيه قولُه عليه الصلاة والسلام:«هَدَايَا العُمَّالِ غُلُولٌ» أخرجه أحمد، ووُرُودِه عن الصحابةِ رضي الله عنهم.

الهديَّةُ لا تَخلُو مِنْ أحوالٍ:

الأُولى: أنْ يَكون الغرضُ مِنْ الإهداءِ أنْ يَحكمَ القاضِي له جَورًاً، فهذه محرَّمةٌ؛ إذْ هي مِنْ الرِّشوةِ.

الثَّانية: أنْ تَكون الهديَّةُ مِمَّن له خُصومةٌ عند القاضِي، فهذه تَحرم أيضًاً وإنْ كان بينَهما قرابةٌ.

الثالثةُ: أنْ تَكون الهديَّةُ مِمَّنْ جَرَت عادتُه بمُهاداةِ القاضِي، وليس له خُصومةٌ، فهذه يَجوز للقاضِي أَخذُها ما لم تَزِدْ على ما كان يُهديه مِنْ قَبلُ.

الرابعةُ: أنْ تَكون الهديَّةُ مِمَّن جَرَت عادتُه بمُهاداةِ القاضِي وليس له خُصومةٌ، لكنْ أَحسَّ القاضِي أنه يُقدِّمها بين يَدَي الخُصومةِ، فهذه يَجِب على القاضِي رَدُّها.

الخامسةُ: أنْ تَكون الهديَّةُ مِمَّن لم تَجرِ عادتُه بمُهاداةِ القاضِي، وليس له خُصومةٌ:

ص: 144

فذهَبَ الجُمهورُ: إلى أنه لا يَجوز للقاضِي قَبولُ هديَّةِ مِنْ لم تَجرِ عادتُه بمُهاداتِه، وإنْ كان ليس له خُصومةٌ؛ لحديث أَبي حُميدٍ السَّاعِديِّ رضي الله عنه، وفيه قولُه صلى الله عليه وسلم:«ما بالُ عاملٍ أَبعَثُه فيقولُ: هذا لكُم، وهذا أُهدِيَ لِي، أَفَلا قَعَدَ في بيتِ أَبيه وأُمِّه حتَّى يَنظُر أَيُهدَى إليه أم لا» متَّفق عليه.

مسألة: يُكرَه للقاضِي أنْ يَتولَّى البيعَ والشِّراءَ بنَفسِه، سواءٌ كان البيعُ في مَجلسِ القضاءِ أو خارجَه، إلاّ أنْ يَحتاجَ مُباشرَتَه ولم يَكُنْ له مَنْ يَكفيه، فيَجوز له ذلك حينئذٍ مَنْ غيرِ كَراهةٍ، ويَنبغي أنْ يُوكِّلَ في ذلك مَنْ لا يُعرَف أنه وَكيلُه؛ لِئلَّا يُحابَى.

مسألة: يُستحَبُّ للقاضِي ألاّ يّحكُم إلاّ بحَضرةِ الشُّهودِ؛ ليَستَوفيَ بهم الحقَّ.

مسألة: يَنفُذ حُكمُه لِمَنْ لا تُقبَل شَهادتُه له، كوالِدِه، ووَلَدِه، وزَوجتِه، وعلى عدُوِّه بالبيِّنةِ؛ لأنَّ القاضِيَ أَسيرُ البيِّنةِ، فلا تَظهَر منه تُهَمةٌ.

ولا يُنقَض مِنْ حُكمِ القاضِي، إلاّ ما خالفَ نصَّ كتابِ اللهِ أو سُنَّةَ رسولِه، كقَتلِ مُسلمٍ بكافرٍ، أو إجماعًاً قَطعيًّا، أو ما يَعتقدُه، فيَلزَم نَقضُه.

مسألة: لا يَلزَمُ إحضارُ المريضِ ونحوِه المدَّعَى عليه؛ للمشقَّةِ، ويُؤمَر أنْ يُوكِّل، فإنْ وَجبَت عليه يَمينٌ بَعَث إليه القاضِي مَنْ يُحلِّفه.

ص: 145

‌فصلٌ: في كَيفيَّةِ القضاءِ.

الدَّعوَى لُغةً: الطَّلبُ، قال تعالى:{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ *} [يس: 57] أي: يَطلُبون.

واصطلاحًا: إضافةُ الإنسانِ إلى نَفسِه استِحقاقَ شيءٍ في يَدِ غَيرِه، أو ذِمَّتِه.

المُدَّعِي: مَنْ إذا سَكَت عن الدَّعوَى تُرِك.

والمدَّعَى عليه: مَنْ إذا سَكَت لم يُترَك، فهو المُنكِرُ.

إذا حَضَر الخَصمانِ للقاضِي سَألَهما القاضِي: أيُّكما المدَّعِي؟ لأنَّ سُؤالَه عن المدَّعِي مِنهما لا تَخصيصَ فيه لواحدٍ منهما، وإنْ شاء القاضِي سَكَت حتَّى يَبدأَ الخصمُ.

فإذا ذَكَر المدَّعِي دَعوَاه، فالمدَّعَى عليه لا يَخلُو مِنْ ثلاثِ حالاتٍ: إمَّا أنْ يُقِرَّ، أو يَسكتَ، أو يُنكرَ.

فإنْ أَقرَّ المدَّعَى عليه للمدَّعِي؛ حُكِم له عليه.

وإنْ أَنكَر المدَّعَى عليه، أو سَكَت المدَّعى عليه ولم يُجِب -فهو كالمنُكِرِ-؛ قال القاضِي للمدَّعِي: إنْ كان لكَ بَيِّنةٌ فأَحضِرْها إنْ شِئتَ، فإنْ أَحضَرَها سَمِعَها وحَكَم بها، إذا اتَّضَح له الحُكمُ، فإنْ لم يَتَّضِح له الحُكمُ أَخَّرَه حتَّى يَتَّضِحَ له.

فإنْ لم يَكُنْ للمدَّعِي بيِّنةٌ، فعَلَى المدَّعَى عليه اليمينُ، فإذا حَلَف المدَّعَى عليه بَرِئَ، وإنْ أَبَى أنْ يَحلِف حَكَم عليه القاضِي؛ لِما روَى وائلُ بنُ حُجرٍ

ص: 146

الحَضرميُّ أنَّ رَجُلَين اختَصَمَا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حَضْرميٍّ وكِندِيٍّ، فقال الحضرميُّ: يا رسولَ اللهِ إنَّ هذا غَلَبَني على أرضٍ لي، فقال الكِندِيُّ: هي أَرضِي وفي يَدِي، وليسَ له فيها حقٌّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للحَضرميِّ:«أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» قال: لا، قال:«فَلَكَ يَمِينُه» . رَواه مسلمٌ.

ولحديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو يُعطَى الناسُ بدَعْوَاهُم لادَّعَى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأَموالَهم، ولكنَّ اليمينَ على المدَّعَى عليه» . متَّفق عليه.

فإنْ حَلَف المُنكِرُ وخَلَّى الحاكمُ سَبيلَه، ثُم أَحضَر المدَّعِي بيِّنةً عليه حَكَم القاضِي بها، ولم تَكُنْ اليمينُ مُزيلةً للحقِّ.

وللقاضِي أنْ يَرُدَّ اليمينَ على المدَّعِي إذا رَأَى ذلك بأنْ كان المدَّعِي عالماً بما يَدَّعِيه مِنْ صِدقِ نَفسِه وصِحَّةِ دَعوَاه، فيَجوز رَدُّ اليمينِ عليه ويُحكَم له بِما يَدَّعِيه، فإنْ امتَنَع سَقطَت دَعوَاه.

وإنْ كان الذي يَنفرِد بمَعرفةِ الأمرِ هو المدَّعَى عليه ولا يُشارِكُه في ذلك المدَّعِي، فيَجِب على المدَّعَى عليه أنْ يَحلِف وليس له أنْ يَرُدَّ اليمينَ، وإنْ امتَنَع حُكِم عليه؛ لأنَّ هذا ما ثَبَت عن الصحابةِ رضي الله عنهم.

مسألة: البيِّنةُ في اللُّغةِ: وُضوحُ الشيءِ وانكِشافُه.

واصطلاحًاً: اسمٌ لكُلِّ ما يُبيِّن الحقَّ ويُظهِره لقولِه تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحَديد: 25] والمرادُ الحُجَّةُ والدَّليلُ والبُرهانُ.

وعن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ: "أنَّ رجلاً سألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن اللُّقَطَةِ قال: «عَرِّفْها سَنةً، ثُم اعرِفْ وِكَاءَها وعِفَاصَها، ثُم اسْتَنْفِقْ بِها، فإنِ جاءِ رَبُّها فأَدِّها إليه» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ص: 147

والرسولُ صلى الله عليه وسلم جَعَل وَصْفَ اللُّقَطَةِ بيِّنةً على صِدقِ طالِبِها أنَّها له.

وعلى هذا تَشمَل البيِّنةُ الشَّهادةَ، والوَثائِقَ، والقَرائِنَ، وغيرَ ذلك.

مسألة: لا يَحكُم القاضِي بعِلمِه؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لو رَجَمتُ أَحدًا بغَيرِ بَيِّنةٍ، رَجَمتُ هَذِه» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ، ولأنَّ تَجويزَ القضاءِ بعِلمِ القاضِي يُفضِي إلى تُهَمَتِه، وحُكمِه بما يَشتَهِي.

قال ابنُ القيِّمِ في الطُّرقِ الحُكمِيَّةِ ص 291: "وقد ثَبَت عن أَبي بكرٍ وعمرَ وعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ وابنِ عباسٍ ومعاويةَ المنعُ مِنْ ذلك، ولا يُعرَف لهُم في الصحابةِ مُخالفٌ".

ويَجوز الحُكمُ بعِلمِه في أمور:

1 -

فيما يَحدُث في مَجلسِ حُكمِه كإقرارِ الخَصمِ.

2 -

أنَّ له الحُكمَ بعِلمِه في التَّجريحِ والتَّعديلِ للشُّهودِ.

ص: 148

3 -

يَحكُم بعِلمِه في حقِّ اللهِ تعالى على وَجهِ الحِسبَةِ، كأنْ يَسمَعَ مَنْ يُطلِّق زَوجَته طلاقًا بائنًا ثُم يَدَّعي الزَّوجيَّةَ بعدَ ذلك.

وإنْ جَرَح الخصمُ الشُّهودَ كُلِّف البيِّنةَ بالجَرحِ، وإنْ شَكَّ في الشُّهودِ سَألَهم القاضِي كيفَ تَحمَّلُوا الشهادةَ؟ وأينَ تَحمَّلُوها؟

فإنْ لم يَأتِ مدَّعِي الجَرحِ ببيِّنةٍ حُكِم عليه؛ لأنَّ عَجزَه عن إقامةِ البيَّنةِ على الجَرحِ دَليلٌ على عدمِ ما ادَّعاه.

مسألة: القاضِي بالنِّسبةِ للبيِّنةِ لا يَخلُو مِنْ ثلاثِ حالاتٍ:

1 -

أنْ يَعلمَ عَدالَتَهم فيَحكُمَ بها.

2 -

أنْ يَعلمَ جَرحَهم فيَرُدَّها.

3 -

أنْ يَجهلَ القاضِي حالَ البيِّنةِ، فيَطلُبُ مِنْ المدَّعِي تَزكِيَتَهم لتَثبُتَ عَدَالَتُهم فيَحكُمَ له، ويَكفي في التَّزكِيَةِ واحدٌ يَشهدُ بعَدَالةِ الشَّاهدِ.

مسألة: إنْ احتاجَ القاضِي مَنْ يُترجِم له كلامَ أَحدِ الخُصومِ أو الشُّهودِ، يَكفي واحدٌ في التَّرجمةِ، وكذا في التَّزكيةِ للشاهدِ، والجَرحِ للشاهدِ، والتعريفِ للمَشهودِ عليه والمشهودِ له والمشهودِ به، وتعريفِ المحكومِ له، والمحكومِ عليه، والمحكومِ به، أمينٌ واحدٌ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَر زيدَ بنَ ثابتٍ أنْ يَتعلَّم كتابَ يَهودَ، قال:"فكُنتُ أَكتُب له إذا كَتَب إليهم، وأَقرَأ له إذا كَتبُوا". رَواه البخاريُّ معلَّقًا، ووَصَله ابنُ حَجرٍ في التَّغلِيقِ.

مسألة: الحُكمُ على الغائبِ.

يَجوز الحُكمُ على الغائبِ؛ لقولِه تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24].

للغائِب ثلاثُ حالاتٍ:

الأُولى: أنْ يَكون غائبًا عن مَجلسِ الحُكمِ، حاضرًا في البلدٍ وغيرَ مُستَتِرٍ، فلا يَجوز الحُكمُ عليه؛ لأنه يُمكِن سُؤالُه، فلَم يَجُزْ الحُكمُ عليه قَبلَه.

الثانيةُ: أنْ يَكون غائبًا عن مَجلسِ الحُكمِ حاضرًا في البلدِ لكنَّه مُستَتِرٌ.

الثالثةُ: أنْ يَكون غائبًا عن البلدِ. فيَجوزُ الحُكمُ في هاتَين الحالتَين، ثُم إذا حَضَر الغائبُ فهُو على حُجَّتِه.

لِما جاءَ في قصَّةِ قَتيلِ خَيبرَ حيثُ حَكَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على اليهودِ وهُم -غُيَّبٌ- بأنْ يَحلِفَ خَمسونَ منهم أنَّهم ما قَتلُوه ويَبرَؤُون، وتقدَّم. رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ص: 149

ولحديثِ هندٍ، قالت: يا رسولَ اللهِ إنَّ أبَا سُفيانَ رجلٌ شَحيحٌ، وليس يُعطينِي مِنْ النَّفقةِ ما يَكفِيني ووَلَدِي، قال:«خُذِي ما يَكفيكِ ووَلَدَكِ بالمعروفِ» . متَّفق عليه.

قال شيخُ الإسلامِ في الفتاوَى الكبَرى 5/ 559: "وإنْ أَمكَن القاضِيَ أنْ يُرسِلَ إلى الغائبِ رَسولاً ويَكتبَ إليه الكتابَ والدَّعوَى ويُجابَ عن الدَّعوَى بالكتابِ والرسولِ فهذا هو الذي يَنبغي كمَا فَعَل النبيُّ بمكاتبةِ اليهودِ لَمَّا ادَّعَى الأنصاريُّ عليهم قَتْلَ صاحبِهِم وكاتَبَهم ولم يَحضُروه".

ص: 150

‌فصلٌ: في كتابِ القاضِي إلى القاضِي.

ما يَكتُبه القاضِي إلى قاضٍ آخَرَ في كلِّ ما يُحتاج إليه لأَجْلِ الحُكمِ.

أَجمَعَت العلماءُ على قَبولِ كتابِ القاضِي إلى القاضِي؛ لقولِه تعالى: حكايةً عن بَلقِيسَ: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النَّمل: 29]، ولأنه صلى الله عليه وسلم كَتَب إلى النَّجاشِيِّ، وإلى قَيصَرَ، وإلى كِسرَى يَدعُوهم إلى الإسلامِ، وكاتَبَ وُلَاتَه وعُمَّالَه، وسُعاتَه.

وحكَى الإجماعَ عليه غيرُ واحدٍ، قال في الشرحِ الكبيرِ لابنِ قُدامةَ (11/ 467):"وأَجمَعَت الأُمَّةُ على كتابِ القاضِي إلى القاضِي، ولأنَّ الحاجةَ إلى قَبولِه داعيةٌ، فإنَّ مَنْ له حقٌّ في بلدٍ غيرِ بلدِه لا يُمكنُه إثباتُه والمطالَبةُ به إلا بكتابِ القاضِي فوَجَب قَبولُه".

مسألة: يُقبَل كتابُ القاضِي إلى القاضِي في كلِّ حقٍّ لآدميٍّ، كالقَرضِ، والبيعِ، والإجارةِ، وحقٍّ للهِ عز وجل، كحَدِّ الزِّنَى، وشُربِ الخمرِ، ونحوِ ذلك.

مسألة: يُقبَل كتابُ القاضِي إلى القاضِي في كلِّ ما يَحتاج الكتابةَ إليه لأَجْلِ الحُكمِ؛ كمَا لو حَكَم القاضِي بحُكمٍ فكَتَب إلى قاضٍ آخَرَ ليُنفِذَه القاضِي الآخَرُ، وكمَا لو ثَبَت عندَه ليَحكُمَ به المكتوبُ إليه.

ص: 151

‌فصلٌ: في القِسمَةِ.

مِنْ قَسَمتَ الشيءَ، إذا جَعَلتَه أقسامًا، والقِسمُ بكَسرِ القافِ: النَّصيبُ.

وهي تَميِيزُ بَعضِ الأَنْصِبَاءِ مِنْ بَعضٍ وإفرازُها عنها.

الأصلُ فيها: الكتابُ، والسُّنةُ، والإجماعُ:

مِنْ الكتابِ قولُه تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ *} [القَمَر: 28]، وقولُه تعالى:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النِّسَاء: 8].

ومِن السُّنةِ: ما روَى جابرٌ رضي الله عنهما: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قضَى بالشُّفْعَةِ فِيما لم يُقسَم، فإذا وَقعَت الحُدودُ وصُرِّفَت الطُّرقُ فلا شُفعَةَ". رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

وقَسَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم غَنائِمَ خَيبرَ على ثمانيةَ عشرَ سَهمًا، وكان يَقسِم الغَنائِمَ بين الغانِمِين.

وأَجمَعَت الأُمَّةُ على جوازِ القِسمَةِ.

والقِسمَةُ نَوعان:

الأولُ: قِسمةُ التَّراضِي: وهي ما لا يَنقسِم إلاّ بضَرَرٍ، أو لا تَنقسِم إلاّ بِرَدِّ عِوَضٍ مِنْ أَحدِهِما على الآخَرِ إلاّ برِضَا الشُّرَكاءِ؛ مِثلُ الأرضِ الصَّغيرةِ، والبيتِ الصَّغيرِ، ونحوِ ذلك.

لقاعدةِ: «لا ضرَرَ ولا ضِرارَ» ، فهذه القِسمةُ بَيعٌ فِيما يُقابِل المَردُودَ -تَثبُت له أحكامُ البيعِ-، وإفرازٌ فِيما عَدَاه؛ لأنَّ المُعاوَضةَ وَقعَت في مُقابِلِ الجزءِ الزائدِ فيَقتَصِر مَعنَى المُعاوَضةِ عليه، وكذا إفرازٌ إنْ وَقعَت بإجبارِ القاضِي.

ص: 152

ولا يُجبَر مَنْ امتَنَع مِنْ قِسمَتِها؛ لأنَّها مُعاوَضةٌ، ولِما فيها مِنْ الضَّررِ، ومَن دَعَا شَريكَه فيها إلى بَيعٍ أو إجارةٍ أُجبِر، فإنْ أَبَى باعَه الحاكمُ عليهما وقَسَم الثَّمَنَ بَينَهما على قَدْرِ حِصَصِهما.

والضَّررُ المانعُ مِنْ قِسمةِ الإجبارِ: نَقصُ القِيمةِ بالقِسمةِ.

الثَّاني: قِسمةُ إجبارٍ، وهي: ما لا ضَررَ، ولا رَدَّ عِوَضٍ في قِسمَتِه. كالدَّارِ الكبيرةِ، والأرضِ الواسعةِ، والمَكِيلِ، والمَوزونِ كالأَدهانِ والأَلبانِ ونحوِها، إذا طَلَب الشَّريكُ قِسمتَها أُجبِر شَريكُه عليها إنْ امتَنَع مِنْ القِسمةِ مع شَريكِه.

وهذه القِسمةُ إفرازٌ لِحَقِّ أَحدِ الشَّريكَين مِنْ الآخَرِ، لا بَيعٌ؛ لأنَّها تُخالفُه في الأحكامِ.

مسألة: يَجوز للشُّرَكاءِ أنْ يَتقاسمُوا بأنفُسِهم، وبقاسِمٍ يَنصِبُونه، أو يَسأَلُوا القاضِيَ نَصْبَه، وأُجرَتُه على قَدْرِ الأَمْلاكِ، فإذا اقْتَسمُوا أو اقْتَرعُوا لَزِمَت القِسمةُ، وكيفَ اقْتَرَعُوا جازَ.

ويُشترَط في القاسِمِ القوَّةُ والأمانةُ؛ لقولِه تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القَصَص: 26].

وإنْ ظَهَر فيها غَبنٌ فاحشٌ ثَبَت فيها الِخيارُ.

مسألة: كيفيةُ القِسمةِ:

تُعدَّل السِّهامُ بالأجزاءِ إنْ تَساوَت كالمَكِيلاتِ والمَوزُوناتِ غيرِ المُختلِفَةِ، وبالقِيمةِ إنْ اختَلفَت بأنْ كانَت تَحتاج إلى تَقويمٍ كالأرضِ المُختلِفةِ الأجزاءِ، فإنَّها لا تَخلُو مِنْ ثلاثةِ أقسامٍ:

ص: 153

أَحدُها: أنْ تَكون السِّهامُ مُتساويةً وقيمةُ أجزاءِ المقسومِ مُختلِفةٌ، كأرضٍ بين سِتَّةِ أشخاصٍ لكلِّ واحدٍ سُدسُها، فهذه تُعدَّل بالقِيمةِ وتُجعَل سِتَّةَ أَسهُمٍ مُتساويةَ القِيمةِ، ثم يُقرَع بينهم، وكَيفما قُرِع جازَ.

الثَّاني: أنْ تَكون السِّهامُ مُختلِفةً وقيمةُ أجزاءِ المقسومِ مُتساويةٌ، مِثلُ أرضٍ بين ثلاثةٍ لأَحدِهم نِصفُها، وللثاني ثُلثُها، وللثالث سُدسُها، وأَجزاؤُها مُتساويةُ القِيمةِ، فإنَّها تُجعَل سِهامًا بقَدْرِ أَقلِّها وهو السُّدسُ، فتُجعَل سِتَّةَ أَسهُمٍ، وتُعدَّل بالأجزاءِ، ويُكتَب ثلاثُ رِقاعٍ بأَسمائِهم، ويُخرَج رِقعةٌ على السَّهمِ الأوَّلِ، فإنْ خَرجَت لصاحبِ السُّدسِ أَخذَه، ثم يُخرَج أُخرَى على الثَّاني، فإنْ خَرجَت لصاحبِ الثُّلثِ أَخَذ الثَّانيَ والثالثَ، وكانَت الثلاثةُ الباقيةُ لِصاحِبِ النِّصفِ بغيرِ قُرْعةٍ، وإنْ خَرجَت القُرْعةُ الثانيةُ لِصاحِبِ النِّصفِ أَخَذ الثَّانيَ والثَّالثَ والرابعَ، وكان الخامسُ والسَّادسُ لِصاحبِ الثُّلثِ.

الثالثُ: إذا اختَلفَت السِّهامُ والقِيمةُ، فإنَّ القاسمَ يُعدِّل السِّهامَ بالقِيمةِ ويَجعلُها سِتَّةَ أَسهُمٍ مُتساويَةَ القِيَمِ، ثم يُخرِج الرِّقاعَ فيها الأسماءُ على السِّهامِ كمَا في القِسمِ السابقِ سواءً، إلاّ أنَّ التَّعديلَ هَهُنا بالقِيَمِ، وفي الَّتي قَبلَها بالمِساحَةِ.

مسألة: مَنْ ادَّعَى غَلَطًا فالقِسمةُ تُنقَض إنْ قامَت البيِّنةُ على الغَلطِ، أو نَكَل المدَّعَى عليه عن اليمينِ؛ لأنَّ مُدَّعِي الغلطِ دَعوَاه بالحُجَّةِ فتُعادُ القِسمةُ بينَهم.

مسألة: إنْ خَرَج في نَصيبِ أَحدِهما عَيبٌ فلَه فَسخُ القِسمةِ إنْ كان جاهلاً بالعَيبِ، وله الإمساكُ مع الأَرْشِ للعَيبِ؛ لأنَّ ظُهورَ العَيبِ في نَصِيبِه نَقصٌ، فُخيَّرُ بين الأَرْشِ والفَسخِ، كالمُشتَري.

ص: 154

‌فصلٌ في: الشَّهاداتِ.

الشَّهادةُ في اللُّغةِ: تُطلَق على معانٍ منها: العِلمُ والبَيانُ، والحُضورُ، والحَلِفُ، والإخبارُ.

والأصلُ في الشهادةِ: الكتابُ، كمَا في قولِه تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطّلَاق: 2].

والسُّنةُ: ما روَى مسلمٌ عن أَبي هريرةَ أنَّ سَعدَ بنَ عُبادةَ رضي الله عنه قال: يا رسولَ اللهِ إنِّي وَجَدتُ مع امرَأتِي رجلاً أُمهِلُه حتَّى آتيَ بأربعةِ شُهداءَ؟ قال: «نَعَم» .

والإجماعُ، والاعتبارُ؛ لدعاءِ الحاجةِ إليها.

مسألة: تَحمُّل الشَّهادةِ في حُقوقِ الآدَميِّين: فرضُ كفايةٍ، فإذا قامَ به مَنْ يَكفي سَقَط عن بَقيَّةِ المسلِمين، وإنْ لم يُوجَد إلاّ مَنْ يَكفي تَعيَّن عليه بشَرطِ عَدمِ الضَّررِ لِمَنْ تَحمَّل.

وأمَّا حُقوقُ اللهِ عز وجل فتَنقسِم إلى قِسمَين:

القِسم الأولُ: ما لا يُستَدام فيه التَّحريمُ، كالزِّنَى وشُربِ الخمرِ، فلا يَجِب التَّحمُّل، اللَّهُمَّ إلاّ إنْ كان مَشهورًا بالفِسقِ.

القِسمُ الثَّاني: ما يُستَدام فيه التَّحريمُ، كالعِتقِ، والطَّلاقِ، والخُلعِ، والظِّهارِ، فهذا يَجِب فيه التَّحمُّل والأَداءُ؛ وذلك لِحِمايةِ حُقوقِ اللهِ تعالى، ولِمَنعِ انْتِهاكِ حُرُماتِه.

ص: 155

لقولِه تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البَقَرَة: 282]، قال ابنُ عباسٍ وغيرُه: المرادُ به التَّحمُّل للشَّهادةِ، وإثباتُها عندَ الحاكمِ. أخرجَه ابنُ جريرٍ الطبريُّ في تفسيره.

ولأنَّ الحاجةَ تَدعُو إلى ذلك؛ لإثباتِ الحُقوقِ والعُقودِ، فكان واجبًا، كالأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ.

مسألة: أداءُ الشَّهادةِ فرضُ عينٍ على مَنْ تَحمَّلها متَى دُعِيَ إليه؛ لقولِه تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البَقَرَة: 283]، إنْ قَدَر على أَدائِها بلا ضَررٍ يَلحَقه في بَدَنِه أو عِرضِه أو مالِه أو أَهلِه؛ لقوله تعالى:{وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البَقَرَة: 282].

ولا يَحِلُّ كِتمانُ الشَّهادةِ؛ لقولِه تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البَقَرَة: 283]، وهذا وَعيدٌ يُوجِب عدمَ الكِتمانِ مع انتفاءِ الضَّررِ، ومتَى وَجبَت الشَّهادةُ لَزِم كِتابتُها إذا خَشِيَ نِسيانَها، ويَحرُم أَخذُ الأجرةِ، إلاّ مع الحاجةِ، لكنْ إنْ عَجَز عن المَشْيِ، أو تأَذَّى به، فلَه أُجرةُ مَركوبٍ، والنَّفقةُ.

ولا يَحِلُّ أنْ يَشهَد أَحدٌ إلاّ بِما يَعلمُه، قال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسرَاء: 36]، وقال:{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزّخرُف: 86]، أي: يَعلمُ ما شَهِد به عن بَصيرةٍ وإيقانٍ.

والعلمُ إمَّا برُؤيةٍ أو سماعٍ مِنْ مَشهودٍ عليه، كبَيعٍ، وطلاقٍ، وغيرِ ذلك، أو سماعٍ باستِفاضةٍ فِيما يَتعذَّر عِلمُه غالبًا بِدُونِها، كنَسَبٍ، وموتٍ، ومِلكٍ مُطلَقٍ، ونكاحٍ عَقدِه ودَوامِه، ووَقفٍ، ونحوِها، كعِتقٍ وخُلعٍ.

ولا يَشهدُ باستِفاضةٍ إلاّ عن عَددٍ يَقَع بهم العلمُ.

ص: 156

وذَهَب أبو يوسفَ، ومحمدُ بنُ الحسنِ مِنْ الحنفيَّةِ، والمتأخِّرون مِنْ أصحابِ الشافعيِّ إلى أنَّ المرادَ بالتَّسامُعِ: حُصولُ الشُّهرةِ ولو بخَبرِ عَدلَين، أو رَجلٍ وامرَأتَين بحَيثُ يَحصُل للشَّاهدِ مِنْ خَبرِهم نوعُ علمٍ، وفي هذه الحالةِ يُشتَرط أنْ يَكون الإخبارُ بلَفظِ الشَّهادةِ؛ لأنَّها تُوجِب زيادةَ عِلمٍ لا يُوجِبُها لَفظُ الخبريَّةِ، ولأنَّ الحُقوقَ تَثبُت بقولِ اثنَين.

واختارَ المَجدُ وشيخُ الإسلامِ: أو واحدٌ يَسكُن إليه.

ضابطٌ: يَجِب أنْ يَذكُر الشَّاهدُ ما يُشتَرط للحُكمِ، ويَختلِفُ الحُكمُ به في كلِّ ما يَشهَد فيه.

ص: 157

‌فصلٌ

شروطُ مَنْ تُقبَل شَهادتُهم:

سِتَّةٌ:

أَحدُها: البُلوغُ، فلا تُقبَل شهادةُ الصِّبيانِ، إلاّ شهادةَ الصِّبيانِ بَعضِهم على بَعضٍ إذا دَعَت الحاجةُ إليها، وذلكَ في القَتلِ، والجِراحِ فقَط بحَيثُ يَتِّفق اثنانِ فصاعدًا في الشَّهادةِ قَبلَ أنْ يَتفرَّقُوا، وألاّ يَكون معهم كبيرٌ؛ لِما ورَد عن الشَّعبيِّ عن مَسروقٍ أنَّ سِتَّةَ غِلمانٍ ذَهبُوا يَسبَحون فغَرِقَ أَحدُهم، فشَهِد ثلاثةٌ على اثنَينِ أنَّهما غَرَّقاه، وشَهِد اثنانِ على ثلاثةٍ أنَّهم غَرَّقُوه، فقَضَى عليُّ بنُ أَبي طالبٍ رضي الله عنه على الثلاثةِ خُمسَي الدِّيَةِ، وعلى الاثنَينِ ثلاثةُ أخماسِ الدِّيَةِ. رَواه ابنُ أبي شَيبةَ، وابنُ حزمٍ في المحلَّى، واحتَجَّ به.

ولِما صَحَّ عن ابنِ الزُّبيرِ رضي الله عنهما أنه قال عن شَهادةِ الصِّبيانِ: "إذا جِيءَ بهم عندَ المُصيبةِ جازَت شَهادتُهم". قال ابنُ أَبي مُلَيكَةَ: فأَخَذ القُضاةُ بقولِ ابنِ الزُّبَير. رواه البيهقي في الكبرَى.

وقد دلَّ على قَبولِ شَهادةِ الصِّبيانِ: أنَّ الشارعَ نَدَب إلى تَعليمِهم الرَّميَ والصِّراعَ، وسائرَ ما يُدرِّبُهم، ويُعلِّمُهم البَطْشَ، ومَعلومٌ أنَّهم في غالبِ أَحوالِهم يَجنِي بَعضُهم على بعضٍ، ولو لم يُقبَل قَولُ بَعضِهم على بعضٍ لأُهدِرَت دِماؤُهم مُطلقًا ولو شَهِد بَعضُهم على بعضٍ.

الثَّاني: العَقلُ، فلا تُقبَل شهادةُ مَجنونٍ، ولا مَعتوهٍ، وتُقبَل الشَّهادةُ مِمَّن يُخنَق أحيانًا إذا تَحمَّل وأَدَّى في حالِ إفاقتِه؛ لأنَّها شهادةٌ مِنْ عاقلٍ.

الثالثُ: الإسلامُ؛ لقولِه تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطّلَاق: 2]، فلا تُقبَل مِنْ كافرٍ إلاّ في مَوضعِ ضَرورةٍ، لقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ

ص: 158

بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ

*} [المَائدة: 106].

ولِما روَى البخاريُّ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: "خَرَج رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهمٍ مع تَميمٍ الداريِّ وعَديِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهميُّ بأرضٍ ليسَ بها مسلمٌ، فلمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِه فَقَدُوا جامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فأَحلَفَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم وُجِدَ الجامُ بمكةَ، فقالوا: ابْتَعْناهُ مِنْ تميمٍ وعَديٍّ، فقامَ رَجُلان مِنْ أَولِيائِه فحَلَفَا لَشَهادَتُنا أَحقُّ مِنْ شَهادَتِهما، وأنَّ الجامَ لِصاحِبِهم، قال: وفيهِم نَزلَت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ

*} [المَائدة: 106].

وتُقبَل شهادةُ الكفارِ بَعضِهم على بعضٍ.

الرابعُ: الحِفظُ، فلا تُقبَل مِنْ مُغفَّلٍ، ومَعروفٍ بكَثرةِ سَهوٍ وغَلطٍ؛ لأنه لا تَحصُل الثِّقةُ بقَولِه، وتُقبَل مِمَّن يَقِلُّ منه السَّهوُ والغَلطُ، والنِّسيانُ؛ لأنه لا يَسلَم منه أَحدٌ.

الخامسُ: العَدَالةُ، وهي لُغةً: الاستقامةُ، مِنْ العَدلِ ضِدِّ الجَورِ.

وشرعًا: هيئةٌ راسخةٌ في النَّفسِ تَحُثُّ على مُلازَمةِ التَّقوَى باجتِنابِ الكبائِرِ، وتَوقِّي الصَّغائِرِ، والتَّحاشِي عن الرَّذائِلِ المُباحةِ.

وعرَّف ابنُ حزمٍ العَدلَ بأنه: مَنْ لم تُعرَف له كَبيرةٌ، ولا مُجاهرةٌ بصغيرةٍ.

العدالةُ هنا في بابِ الشَّهادةِ تَرجِع إلى رِضَى الناسِ عن الشَّاهدِ، ومَعرفتِه بالصِّدقِ في الأقوالِ والأخبارِ، وعدمِ مَعرفتِه بالغَفلةِ والنِّسيانِ، قال عمرُ رضي الله عنه:"المسلِمونَ عُدُولٌ بعضُهم على بعضٍ، إلا مَجلودًا في حَدٍّ، أو مُجرَّبًا في شَهادةِ زُورٍ، أو ظَنِينًا -أي: مُتَّهمًا- في وَلاءٍ أو قَرابةٍ". رَواه البيهقيُّ، وفي الإرواءِ 8/ 293: ثَبَت في كتابِ عمرَ إلى أَبي موسَى.

ص: 159

ولأنَّ اللهَ تعالى لم يَأمُرْ برَدِّ خبرِ الفاسِقِ، بل أَمَر بالتَّثبُّتِ منه هل هو صادقٌ أو كاذبٌ؟ فإنْ كان صادقًا قُبِل قَولُه وعُمِل به، وفِسقُه عليه، وإنْ كان كاذبًا رُدَّ خَبرُه ولم يُلتَفَت إليه.

فرعٌ: تُقبَل شهادةُ الأخرسِ، إذا فُهِمَت إشارتُه؛ لأنَّ الشَّهادةَ يُعتَبر فيها اليَقينُ، أو أَدَّاها الأخرسُ بخَطِّه فتُقبَل؛ لقولِه تعالى:{قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} [آل عِمرَان: 41]، والرَّمزُ في هذه الآيةِ مُستَثنى مِنْ الكلامِ استِثناءً مُتَّصِلاً، ومِن المُقرَّرِ أنَّ المُستَثنَى مِنْ جِنسِ المُستَثنَى منه، فدلَّ ذلك على أنَّ الرَّمزَ وهو الإشارةُ مِنْ الكلامِ، فيُعطَى حُكمَ الكلامِ.

ولِما روَى البخاريُّ عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّها قالَت: "صلَّى رسولُ اللِه صلى الله عليه وسلم في بَيتِه وهو شاكٌّ فصلَّى جالسًا وصلَّى وَراءَه قومٌ قيامًا، فأشارَ إليهم أنْ اجْلِسوا". رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

فدلَّ على أنَّ الإشارةَ طَريقٌ يَحصُل به العلمُ.

وتُقبَل شَهادةُ الأَعمَى فِيما طريقُه السَّماعُ مُطلَقًا؛ لِعُمومِ آياتِ الشَّهادةِ، ومنها قولُه تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البَقَرَة: 282].

ولِما روَى البخاريُّ ومسلمٌ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ بِلالاً يُؤذِّن بِلَيلٍ، فكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يُؤذِّنَ» ، أو قال:«حتَّى تَسمعُوا أذانَ ابنِ أمِّ مَكتومٍ» .

فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَر بالإمساكِ اعتمادًا على سَماعِ أَذانِ ابنِ أمِّ مَكتومٍ وهو رَجلٌ ضَريرٌ.

ولا تُشتَرطُ الحُريَّةُ فتُقبَل شَهادةُ عبدٍ وأَمَةٍ في كلِّ ما يُقبَل فيه حُرٌّ وحُرَّةٌ.

مسألة: تُقبَل شَهادةُ عَمودَي النَّسبِ، وهُم: الآباءُ وإنْ عَلَوا، والأَولادُ

ص: 160

وإنْ سَفَلُوا بَعضُهم لِبَعضٍ إلاّ مع التُّهَمةِ؛ لِلعُموماتِ، ولِما تَقدَّم عن عمرَ رضي الله عنه.

ولِما رُوِي عن الزُّهريِّ أنه قال: "لم يَكُنْ يُتَّهم سَلفُ المسلِمينَ الصالحُ في شَهادةِ الوالدِ لوَلَدِه، ولا الولَدِ لوالِدِه، ولا الأخِ لأَخِيه، ولا الزَّوجِ لامرَأتِه، ثم دَخَل الناسُ بعدَ ذلك فظَهَرَت منهم أُمورٌ حَملَت الوُلَاةَ على اتِّهامِهم، فتُرِكَت شهادةُ مَنْ يُتَّهم إذا كانَت مِنْ قرابةٍ".

قال ابنُ حزمٍ: "وهذا إخبارٌ عن إجماعِ الصحابةِ رضي الله عنهم، فكَيفَ استَجازُوا خِلافَهم لِظَنٍّ فاسدٍ مِنْ المتأخِّرينَ". وقال عمرُ: "أو ظَنِينًا في وَلاءٍ أو قَرابةٍ"، والظَّنِينُ: المُتَّهمُ، والشَّهادةُ تُرَدُّ بالتُّهَمةِ، ودلَّ هذا على أنَّها لا تُرَدُّ بالقَرابةِ، وإنَّما تُرَدُّ بتُهَمَتِها.

قال ابنُ القيِّمِ في إعلامِ الموقِّعين: "وكذلك شَهادةُ القريبِ لِقَريبِه لا تُقبَل مع التُّهَمةِ وتُقبَل بدُونِها، هذا هو الصَّحيحُ".

وقال: "الصَّحيحُ أنَّها تُقبَل شَهادةُ الابنِ لأَبِيه، والأبِ لابنِه فِيما لا تُهَمةَ فيه، نصَّ عليه، والتُّهَمةُ وَحدَها مُستَقِلَّةٌ بالمنعِ سواءٌ كان قَريبًا أو أَجنبيًّا، فشَهادةُ القَريبِ لا تُرَدُّ بالقَرابةِ وإنَّما تُرَدُّ تُهَمَتُها، ولا رَيبَ في دُخولِهم في قولِه تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطّلَاق: 2]، وقال: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المَائدة: 106]، هذا مِمَّا لا يُمكِن دَفعُه، ولم يَستَثنِ اللهُ ولا رسولُه مِنْ ذلك لا أبًا ولا وَلدًا، ولا أخًا ولا قَرابةً، ولا أَجمَع المسلِمونَ على استِثناءِ أَحدٍ مِنْ هؤلاءِ، وإنَّما التُّهَمةُ هي الوَصفُ المؤثِّرُ في الحُكمِ، فيَجِب تَعليقُ الحُكمِ به وُجودًا وعَدَمًا".

مسألة: في عَددِ الشُّهودِ.

ص: 161

1 -

لا يُقبَل في الزِّنَى إلا أَربعةُ شُهودٍ؛ لقولِه تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 15].

ولِما أَخرَج مسلمٌ عن أبي هريرةَ أنَّ سَعدَ بنَ عُبادةَ رضي الله عنه قال: يا رسولَ اللهِ إنِّي وَجَدتُ مع امرَأتِي رَجُلاً، أُمهِلُه حتَّى آتِيَ بأَربعةِ شُهداءَ؟ قال:«نَعَم» .

وعندَ الظَّاهريَّةِ: أربعةُ رجالٍ عُدولٍ مُسلِمين، أو مَكانَ كلِّ رَجُلٍ امرَأَتان مُسلِمَتان عدلان، فيَكون ذلك ثلاثةَ رِجالٍ وامرَأَتان، أو رَجُلَين وأربعُ نِسوةٍ، أو رَجُلٌ واحدٌ وسِتُّ نِسوةٍ، أو ثَمانِ نِسوةٍ فقَطْ.

ولِما ورَد عن أَبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَلَيسَ شَهادةُ المرأةِ مِثلَ نِصفِ شَهادةِ الرَّجُلِ؟» قُلْنَ: بَلَى، قال:«فذلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِها» . رَواه البخاريُّ ومسلمٌ.

2 -

يُقبَل في اللِّواطِ وبَقيَّةِ الحُدودِ كالقَذفِ، والشُّربِ، والسَّرِقةِ، وقَطعِ الطَّريقِ، والقِصاصِ، وما ليس بعُقوبةٍ، ولا مالٍ، ولا يُقصَد به المالُ، ويَطَّلِع عليه الرِّجالُ غالبًا، كنِكاحٍ، وطَلاقٍ، ورَجعةٍ، وخُلعٍ، ونَسَبٍ، ووَلاءٍ، وإيصاءٍ إليه: يُقبَل فيه رَجُلانِ؛ لقولِه تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطّلَاق: 2].

يَجوز قَبولُ شَهادةِ النِّساءِ وَحْدَهُنَّ أو مع الرَّجُلِ، فيَكفي أَربعُ نِسوةٍ، أو رَجُلٌ وامرَأَتان في سائِرِ الحُقوقِ مِنْ الحُدودِ والدِّماءِ، وما فيه القِصاصُ، والنِّكاحِ، والطَّلاقِ، والرَّجعةِ، والأَموالِ؛ لقولِه تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البَقَرَة: 282]، وهذا مُطلَقٌ.

ولحديثِ أَبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَليسَ شَهادةُ المَرأةِ مِثلَ نِصفِ شَهادةِ الرَّجُلِ؟» قُلْنَ: بَلَى، قال: «فذلِكَ مِنْ نُقْصَانِ

ص: 162

عَقْلِها». رَواه البخاريُّ، ومسلمٌ.

ولِما رُوِي عن يَحيَى بنِ عُبَيدِ اللهِ عن أَبيه: أنَّ رَجُلاً مِنْ عُمانَ تَملَّأَ مِنْ الشَّرابِ فطَلَّقَ امرَأَته ثلاثًا، فشَهِد عليه نِسوةٌ، فكَتَبَ في ذلكَ إلى عمرَ بنِ الخطَّابِ فأَجازَ شَهادةَ النِّسوةِ وأَبَتَّ عليه الطَّلاقَ.

3 -

مَنْ عُرِف بغِنًى وادَّعَى أنه فَقيرٌ ليَأخُذَ مِنْ الزَّكاةِ لم يُقبَل إلا ثَلاثةُ رِجالٍ؛ لِما رَواه مسلمٌ وغيرُه عن قَبِيصةَ بنِ مُخارِقٍ الهلاليِّ قال: تَحمَّلتُ حَمَالةً فأَتَيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسألُه فيها، فقال:«أَقِمْ حتَّى تَأتِيَنا الصَّدقةُ فنَأمُرَ لكَ بها» ، قال: ثُم قال: «يا قَبِيصةُ إنَّ المَسألَةَ لا تَحِلُّ إلاّ لأَحدِ ثلاثةٍ:

ورَجُلٍ أَصابَتْهُ فَاقَةٌ حتَّى يَقومَ ثَلاثةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَى مِنْ قَومِه فيَقولونَ: لقَدْ أَصابَت فُلانًا فَاقَةٌ».

4 -

يُقبَل في المالِ، وما يُقصَد به المالُ كالبَيعِ، والأَجَلِ، والخِيارِ في البَيعِ والقَرضِ، والرَّهنِ، والغَصبِ، والإجارةِ، والشَّرِكةِ، والشُّفْعَةِ، وضَمانِ المالِ، وإتلافِه، والعِتقِ، والكِتابةِ، والتَّدبيرِ، والوصيَّةِ بالمالِ: رَجُلان أو رَجُلٌ وامرَأَتان؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البَقَرَة: 282]، وسِياقُ الآيةِ: أو رَجُلٌ ويَمينُ المُدَّعِي؛ لقولِ ابنِ عباسٍ: "إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى باليمينِ مع الشَّاهدِ". رِواه مسلمٌ.

أو أَربعُ نِسوةٍ، أو امرَأَتان ويمينُ المُدَّعِي وإنَّما جُعِلَت المرأةُ فيها على النِّصفِ مِنْ الرَّجُلِ لحِكمةٍ أشارَ إليها العزيزُ الحكيمُ في كتابِه وهي: أنَّ المرأةَ ضَعيفةُ العَقلِ قليلةُ الضَّبطِ لِما تَحفظُه، وقد فَضَّل اللهُ الرِّجالَ على النِّساءِ في العُقولِ والفَهمِ والحِفظِ والتَّميِيزِ، فلا تَقومُ المرأةُ في ذلك مَقامَ الرَّجُلِ، وفي مَنعِ قَبولِ شَهادَتِها بالكُليَّةِ إضاعةُ لكثيرٍ مِنْ الحقوقِ وتَعطيلٌ لها، فكان مِنْ أحسنِ الأُمورِ وأَلصَقِها بالعقولِ أنْ ضَمَّ إليها في قَبولِ الشَّهادةِ نَظِيرتَها لِتُذكِّرَها

ص: 163

إذا نَسِيَت، فتَقومُ شَهادةُ المرأَتَين مَقامَ شَهادةِ الرَّجُلِ، ويَقَع مِنْ العلمِ أو الظِّنِّ الغالبِ بشَهادَتِهما ما يَقَع بشَهادةِ الرَّجُلِ الواحدِ.

5 -

وما لا يَطَّلِع عليه الرِّجالُ، كعُيوبِ النِّساءِ تَحتَ الثِّيابِ، والبَكارةِ، والثُّيُوبَةِ، والحَيضِ، والوِلادةِ، والرَّضاعِ، والاسْتِهلالِ، ونحوِه تُقبَل فيه شَهادةُ امرأةٍ عَدلٍ، والرَّجلُ فيه كالمَرأةِ؛ لِما روَى البخاريُّ عن عُقبةَ بنِ الحارثِ:"أنه تَزوَّج أمَّ يَحيَى بِنتَ أَبي إهابٍ قال: فجاءَت أَمَةٌ سَوداءُ فقالَت: قَدْ أَرضَعْتُكُما، فذَكَرتُ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فأَعرَض عَنِّي، قال: فتَنَحَّيتُ، فذَكَرتُ ذلكَ له، قال: «كيفَ وقَد زَعمَت أنَّها قَدْ أَرضَعَتْكُما؟»، فنهاه عنها".

6 -

يُقبَل في داءِ دابَّةٍ، ومُوضِحَةٍ: طَبيبٌ وبَيطارٌ واحدٌ مع عَدمِ غَيرِه في مَعرفةِ الدَّاءِ؛ لأنه يُخبِر به عن اجتهادِه.

فرعٌ: القَضاءُ بشَهادةِ الشَّاهدِ الواحدِ:

عندَ ابنِ القيِّمِ، والقاضِي شُرَيحٍ، وزُرارَةَ بنِ أَوفَى: أنه يَجوزُ القضاءُ بشَهادةِ الشَّاهدِ الواحدِ حيثُ لا يَلزمُ التَّقيُّدُ بعَددٍ مُعيَّنٍ مِنْ الشُّهودِ إلاّ في الزِّنَى فقَطْ.

لقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *} [الحُجرَات: 6].

ووَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللهَ تعالى أَمرَنا في هذه الآيةِ بالتَّبيُّنِ والتَّثبُّتِ مِنْ خبرِ الفاسقِ الواحدِ ولم يَأمُر برَدِّه.

ولِما روَى أبو داودَ، والنَّسائيُّ، وأحمدُ، والبيهقيُّ عن عُمارةَ بنِ خُزَيمةَ: "أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعرابيٍّ

فقال الأَعرابيُّ: لا، واللهِ ما بِعتُكَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«بَلَى قَدْ ابْتَعْتُه مِنْكَ» ، فطَفِقَ الأَعرابيُّ يَقول: هَلُمَّ

ص: 164

شَهيدًا، فقال خُزَيمةُ بنُ ثابتٍ: أَنا أَشهدُ أنَّكَ قَدْ بَايَعْتَه، فأَقْبَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على خُزَيمةَ، فقال:«بِمَ تَشهَدُ؟» فقال: بتَصدِيقِكَ يا رسولَ اللهِ، فجَعلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهادةَ خُزَيمةَ بشَهادةِ رَجُلَين".

وقد أَجمَع المسلِمونَ على قَبولِ أذانِ المُؤذِّنِ الواحدِ، وهو شَهادةٌ منه بدُخولِ الوقتِ، وخبرٌ عنه يَتعلَّق بالمُخبِرِ وغَيرِه. (إعلامُ المُوقِّعين 1/ 104). قال ابنُ القيِّمِ:"ومِن ذلك أنه يَجوز للحاكِمِ الحُكمُ بشَهادةِ الرجلِ الواحدِ إذا عَرَف صِدقَه في غيرِ الحُدودِ، ولم يُوجِب اللهُ على الحُكامِ ألاّ يَحكُموا إلاّ بشاهِدَين أصلاً، وإنَّما أَمَر صاحبَ الحقِّ أنْ يَحفَظ حَقَّه بشاهِدَين أو بشاهدٍ وامرَأتَين، وهذا لا يدلُّ على أنَّ الحاكمَ لا يَحكُم بأقلَّ مِنْ ذلك، بل قد حَكَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالشاهدِ واليمينِ وبالشاهدِ فقَطْ".

فرع: الآلات الحديثة؛ كآلات التصوير، وقرائن البصمات، والشعر، والدم وغير ذلك من القرائن المختلفة، يرجع فيها إلى أهل الخبرة في إمكان الاستدلال به على ثبوت الحدِّ أو القصاص، أو لا يمكن الاستدلال به؛ لما يدخله من الغش والتدليس، فيختلف باختلاف تلك القرائن قوَّةً وضعفًا.

ص: 165

‌فصلٌ: في الشَّهادةِ على الشَّهادةِ.

تُقبَل الشَّهادةُ على الشَّهادةِ في كلِّ حقٍّ للهِ أو حُقوقِ الآدَميِّين، ولا يُحكَم بالشَّهادةِ على الشَّهادةِ إلاّ أنْ تَتعذَّر شَهادةُ الأصلِ بموتٍ، أو مرضٍ، أو ضَررٍ، أو مَشقَّةٍ ظاهرةٍ؛ لأنه إذا أَمكَن الحاكمَ أنْ يَسمَع شَهادةَ شاهِدَي الأصلِ استَغْنَى عن البحثِ عن عدالةِ شاهِدَي الفَرعِ، وكان أَحوطَ للشَّهادةِ، ولا بُدَّ مِنْ دوامِ عُذرِ شُهودِ الأصلِ إلى حُكمِ القاضِي.

ولا بُدَّ أيضًا مِنْ ثُبوتِ عَدالةِ شاهِدَي الأصلِ، وشاهِدَي الفَرعِ إلى صُدورِ الحُكمِ، ودَوامِ عَدالَتِهم.

مسألة: إذا رَجَع الشُّهودُ لا يَخلُو مِنْ قِسمَين:

الأولُ: أنْ يَكون قَبلَ الحُكمِ بشَهادَتِهم فإنِّها تَسقُط، ولا يَجوز للقاضِي القضاءُ بها؛ لأنه حَصَل تَناقضٌ في كلامِ الشُّهودِ، والقاضِي لا يَقضِي بالمُتناقِضِ.

ولا ضمانَ على الشُّهودِ عندَ رُجوعِهم عن شَهادَتِهم قَبلَ الحُكمِ لأَحدِ الخَصمَين؛ لأنه لا يَثبُت الحقُّ بالشَّهادةِ إلا القضاءِ، ويُعاقَبون بالتَّعزيرِ وذلك في غَيرِ الزِّنَى، وأمَّا في الزِّنَى فإنَّ رُجوعَهم قَبلَ القضاءِ يَنعقِد قَذْفًا لا شَهادةً.

الثَّاني: أنْ يَكون بعدَ الحُكمِ وقَبلَ الاستِيفاءِ، فنَوعان:

النَّوعُ الأولُ: أنْ يَكون في الحُدودِ، والقِصاصِ فلا يَجوز الاستِيفاءُ؛ لِعِظَمِ حُرمَةِ الدِّماءِ.

النَّوعُ الثَّاني: أنْ يَكون المحكومُ به مالاً أو غيرَه مِنْ الحُقوقِ، فقَد اختَلَف

ص: 166

الفقهاءُ في نَقضِ الحُكمِ على قَولَين:

الأولُ: أنه يَجِب نَقضُه.

وبهذا قال الحسنُ البَصْريُّ، وحَمَّادُ، والأَوزاعيُّ، وسعيدُ بنُ المُسيَّبِ، وابنُ حَزمٍ؛ لأنَّ الحُكمَ إنَّما ثَبَت بشَهادةِ الشُّهودِ، فإذا رَجَعوا عنها زالَ ما ثَبَت به الحُكمُ، فيَجِب نَقضُه كمَا لو كانا كافِرَين.

الثَّاني: أنه لا يُنقَض الحُكمُ.

وبهذا قال جُمهورُ الفقهاءِ؛ لأنَّ كلامَ الشُّهودِ مُتناقِضٌ، فكمَا لا يُحكَم بالمتناقِضِ لا يُنقَض الحُكمُ بالمتناقِضِ؛ لأنَّ الكلامَ المتناقِضَ ساقطُ العِبرَةِ عَقلاً وشَرعًا.

وأمَّا ما يَتعلَّق بالضَّمانِ: فيَضمَن الشُّهودُ بعدَ صُدورِ الحُكمِ؛ لأنَّ الحقَّ ثَبَت للمشهودِ له على المشهودِ عليه فكان له استِيفاؤُه كمَا لو لم يَرجِعوا عن الشَّهادةِ.

وإذا كان الرُّجوعُ عن قِصاصٍ أو حَدٍّ فيُقتَصُّ مِنْ الشُّهودِ عندَ رُجوعِهم؛ لِما روَى الشَّعبيُّ: "أنَّ رَجُلَين شَهِدَا عندَ عليٍّ رضي الله عنه على رَجُلٍ أنه سَرَق فقَطَعَه، ثم أَتيَاه برَجُلٍ آخَرَ فقالَا: أَخطَأْنا بالأولِ وهذا السَّارقُ، فأَبطَل شَهادَتَهما على الآخَرِ وضَمَّنَهما دِيَةَ يَدِ الأولِ، وقال: لو أَعلَم أَنَّكُما تَعمَّدتُما لقَطَعْتُكما". رَواه البخاريُّ.

ولا مُخالِف له مِنْ الصحابةِ، فيَكون إجماعًا.

مسألة: المسائلُ الَّتي يُستَحلَف فيها:

1 -

حُقوقُ اللهِ تعالى غيرُ الماليَّةِ كالحُدودِ، والعِباداتُ كالصلاةِ والصيامِ

ص: 167

ونحوِ ذلك، فقَد اتَّفقَت المذاهبُ الأربعةُ على أنه لا يُستَحلَف فيها.

2 -

حُقوقُ اللهِ تعالى الماليَّةُ، كالزَّكاةِ والكَفَّاراتِ والنُّذورِ، يُستَحلَف المُنكِرُ لذلك؛ لأنه حقٌّ ماليٌّ.

3 -

حُقوقُ الآدَميِّين يُستًحلًف فيها.

واليمينُ المشروعةُ: هي اليمينُ باللهِ تعالى، أو صِفَةٍ مِنْ صِفاتِه.

ولا يَجوز الحَلِف بغيرِ اللهِ؛ لِما روَى ابنُ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ يَنْهاكُم أنْ تَحلِفُوا بِآبائِكُم، فمَن كانَ حالِفًا فَلْيَحلِفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ» . متَّفق عليه.

مسألة: لا تُغلَّظُ اليمينُ إلاّ فِيما له خَطرٌ إذا رَآه القاضِي؛ فتُغلَّظُ باللَّفظِ؛ لِما رُوِي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لليهوديِّ: «أَنْشُدُكَ باللهِ الَّذي أَنْزَلَ التَّوراةَ على مُوسَى أَهكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَى في كِتابِكُم؟» قال: لا، ولَولا أنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهذا ما أَخبَرتُكَ". رَواه مسلمٌ.

وتُغلَّظُ بالزَّمانِ: أنْ يَحلِف بعدَ العَصرِ، أو بينَ الأذانِ والإقامةِ؛ لقولِه تعالى:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المَائدة: 106].

وتُغلَّظُ بالمكانِ بمَكةَ، بينَ الرُّكنِ والبابِ، وبالمدينةِ بالرَّوضةِ، وبَقيَّةِ البلادِ عندَ مِنبَرِ الجامعِ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلَف على مِنْبَري هذا يَمِينًا آثِمَةً فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَه مِنْ النَّارِ» . رَواه أحمدُ، وأبو داودَ مِنْ حديثِ جابرٍ، وصحَّحه الحاكمُ.

ص: 168

‌كتابُ الإقرارِ

وهو: الاعتِرافُ والإثباتُ.

واصطلاحًا: أنْ يُضِيفَ حَقًّا لغَيرِه على نَفسِه.

والشَّهادةُ: أنْ يُضِيفَ حَقًّا لغَيرِه على غَيرِه.

والدَّعوَى: أنْ يُضِيفَ حَقًّا لنَفسِه على غَيرِه.

والأصلُ فيه الكتابُ والسُّنةُ والإجماعُ.

أمَّا الكتابُ: فقولُ اللهِ تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عِمرَان: 81] إلى قولِه: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عِمرَان: 81].

وأمَّا السُّنةُ: فمَا وَرَد أنَّ ماعزًا أَقرَّ بالزِّنَى، فرَجَمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

وأمَّا الإجماعُ: فالأُمَّةُ أَجمَعَت على صِحَّةِ الإقرارِ.

قال ابنُ هُبَيرةَ في الإفصاحِ 2/ 14: "واتَّفَقُوا على أنَّ الحُرَّ البالغَ إذا أَقرَّ بحَقٍّ مَعلومٍ مِنْ حُقوقِ الآدَميِّين لَزِمَه إقرارُه، ولم يَكُنْ له الرُّجوعُ فيه".

‌شُروطُ الإقرارِ:

1 -

البُلوغُ، فلا يَصِحُّ إقرارِ الصَّبيِّ، إلاّ إنْ أُذِن له بالبَيعِ والشِّراءِ ونحوِه فيَصِحُّ إقرارُه في قَدْرِ ما أُذِنَ له فيه، وكذا إقرارُه بالجنِايةِ؛ لِما تقدَّم مِنْ صِحَّةِ شَهادَتِهم في الجِنايةِ؛ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ عليٍّ رضي الله عنه:«رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلاثَةٍ: عن النَّائمِ حتَّى يَستَيْقِظَ، وعن الصَّبيِّ حتَّى يَحْتَلِمَ، وعن المَجنُونِ حتَّى يَعْقِلَ» . رَواه البخاريُّ موقوفًا معلَّقًا بصِيغةِ الجَزمِ، وأبو داودَ، والترمذيُّ، والنَّسائيُّ، وابنُ حِبَّانَ.

ص: 169

2 -

أنْ يَكون المُقِرُّ عاقلاً، فلا يَصِحُّ إقرارُ الصَّبيِّ غيرِ المُميِّزِ، والمجنونِ، والمَعتُوهِ، والنائمِ بالاتِّفاقِ، والسَّكرانِ على الصَّحيحِ؛ لقولِه تعالى:{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّسَاء: 43] والسَّكرانُ لا يَعلم ما يقول؛ لِما جاءَ في حديثِ بُرَيدةَ رضي الله عنه في قِصَّةِ ماعزٍ لَمَّا أَقرَّ بالزِّنَى، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم له:«أَشَرِبْتَ خَمْرًا؟» قال: لا، فقامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فلَم يَجِدْ فيهِ رِيحَ خَمْرٍ". رَواه مسلمٌ.

3 -

الاختيارُ، ويَأتي حُكمُ إقرارِ المُكرَه.

لقولِه تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النّحل: 106].

مسألة: ذَهَب الحسنُ بنُ زِيادٍ، وأَشهَبُ مِنْ المالكيَّةِ، وابنُ تَيمِيَّةَ، وابنُ القيِّمِ: إلى صِحَّةِ إقرارِ المُتَّهَمِ، إذا صَدَر بعدَ الإكراهِ بشَرطِ وُجودِ القَرينةِ على صِحَّةِ إقرارِه؛ لِما رَوَى ابنُ عمرَ رضي الله عنهما: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قاتَلَ أهلَ خَيبَر

فصَالَحُوه على أنْ يُجلَوا منها ولهُم ما حَمَلَت رِكابُهم ولرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّفراءُ والبَيضاءُ فغَيَّبُوا مَسْكًا فيه مالٌ وحُليًّا لِحُيَيِّ بنِ أَخْطَبَ فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّ حُيَيٍّ: «ما فَعَل مَسْكُ حُيَيٍّ؟» ، فقال أَذْهَبَتْه النَّفقاتُ والحُروبُ، فقال:«العَهدُ قَريبٌ والمالُ أَكثرُ مِنْ ذلكَ» ، فدَفَعَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى الزُّبَيرِ فمَسَّهُ بعذابٍ فقال: رَأيتُ حُيَيًّا يَطوفُ في خَرِبَةٍ هَهُنا فوَجَدُوا المَسْكَ في الخَرِبَةِ". رَواه البيهقيُّ وصحَّحه ابنُ حِبَّانَ.

وعن أنسٍ قال: "فانْطَلَقوا حتَّى نَزَلُوا بَدرًا، ووَرَدَت عليهم رَوَايَا قُرَيشٍ، وفيهم غلامٌ أسودُ لِبَنِي الحَجَّاجِ، فأَخذُوه، فكان أَصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسألُونه عن أَبي سُفيانَ وأصحابِه، فيَقولُ: ما لِي عِلمٌ بأَبي سُفيانَ، ولكنْ هذا أبو جَهلٍ، وعُتبَةُ، وشَيبَةُ، وأُميَّةُ بنُ خَلفٍ، فإذا قال ذلكَ ضَربُوه، فقال: نَعَم، أنا أُخبِرْكم، هذا أبو سُفيانَ

". رَواه مسلمٌ.

ص: 170

قال ابنُ حزمٍ في الُمحلَّى 13/ 42: "فإنْ استَضافَ إلى الإقرارِ أمرٌ يَتحقَّقُ به يَقِينًا صِحَّةَ ما أَقرَّ به -ولا يُشكُّ في أنه صاحبُ ذلكَ- فالواجبُ إقامةُ الحَدِّ عليه

".

وقال شيخُ الإسلامِ في مَجموعِ الفتاوَى 34/ 154: "وأمَّا ضَربُه لِيُقِرَّ فلا يَجوز إلاّ مع القرائِنِ الَّتي تدلُّ على أنه قَتَله، فإنَّ بَعضَ العلماءِ جَوَّز تَقريرَه بالضَّربِ في هذه الحالِ، وبعضُهم مَنَع مِنْ ذلك مُطلقًا".

وقال ابنُ القيِّمِ في الطُّرقِ الحُكميَّةِ ص 13: "وفي ذلك دَليلٌ على صِحَّةِ إقرارِ المُكرَهِ إذا ظَهَر معه المالُ، وأنه إذا عُوقِبَ على أنْ يُقِرَّ بالمالِ المَسروقِ، فأَقرَّ به وظَهَر عنده: قُطِعَت يَدُه، وهذا هو الصَّوابُ بلا رَيبٍ، وليس هذا إقامةً للحَدِّ بالإقرارِ الذي أُكرِهَ عليه، ولكنْ بوُجودِ المالِ المسروقِ معه الذي تُوصِّلَ إليه بالإقرارِ".

وقال أيضًا: "قال شيخُنا ابنُ تَيميَّةَ -رحمه الله تعالى-: وما عَلِمتُ أَحدًا مِنْ أئمةِ المسلِمينَ يقول: إنَّ المدَّعَى عليه في جَميعِ هذه الدَّعاوَى يَحلِف، ويُرسَل بلا حَبسٍ ولا غيرِه، فلَيس هذا -على إطلاقِه- مَذهبًا لأَحدٍ مِنْ الأئمةِ الأربعةِ ولا غيرِهم مِنْ الأئمةِ، ومَن زَعَم أنَّ هذا -على إطلاقِه وعُمومِه- هو الشَّرعُ: فقد غَلِط غَلطًا فاحِشًا مُخالِفًا لنُصوصِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولإجماعِ الأُمَّةِ".

4 -

أنْ يَكون غيرَ مُتَّهمٍ في إقرارِه؛ لأنَّ إقرارَ الإنسانِ على نَفسِه شَهادةٌ، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النِّسَاء: 135]، والشَّهادةُ على نَفسِه إقرارٌ، والشَّهادةُ تُرَدُّ بالتُّهَمةِ.

ص: 171

5 -

العِلمُ بالمُقَرِّ له، باتِّفاقِ الأئمةِ على أنَّ الجَهالةَ الفاحِشَةَ بالمُقَرِّ له لا يَصِحُّ معها الإقرارُ، لأنَّ المَجهولَ لا يَصلُح مُستَحِقًّا؛ إذْ لا يُجبَر المُقِرُّ على البيانِ مِنْ غيرِ تَعيِينِ المُستَحَقِّ، فلا يُفِيد الإقرارُ شيئًا.

وأمَّا إذا كانَت الجَهالةُ غيرَ فاحشةٍ بأنْ قال: عليَّ ألفٌ لأَحدِ هذَين، أو لأَحدِ هَؤلاءِ العَشرةِ، أو لأَحدِ أَهلِ البلدِ وكانُوا مَحصُورِين، فالإقرارُ صَحيحٌ؛ لأنه قَدْ يُفِيد وُصولَ الحقِّ إلى المستَحِقِّ بتَحليفِ المُقِرِّ لكلِّ مَنْ حَصَرَهم، أو بِتَذكُّرِه.

مسألة: يَصِحُّ إقرارُ المريضِ للوارِثِ إذا لم يَكُنْ هناك تُهَمةٌ، وعدمُ قَبولِه مع التُّهَمةِ؛ لأنه في حالةِ عَدمِ وُجودِ التُّهَمةِ يَكون الإقرارُ صادرًا مِنْ مُكلَّفٍ، فيُقبَل كمَا يُقبَل إقرارُه للأَجنبيِّ الذي لا تُهَمةَ فيه؛ ولأنَّ العِلَّةَ مِنْ مَنعِ قَبولِ الإقرارِ للوارِثِ هي التُّهَمةُ فيَختَصُّ المنعُ بمَوضِعِها؛ لقولِه تعالى:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البَقَرَة: 282]، وهذا عامٌّ.

ضابط: يَصِحُّ الإقرارُ بِكُلِّ ما أَدَّى مَعنَاه، ك: صَدَقتَ، أو: نَعَم، أو: أنا مُقِرٌّ بدَعوَاكَ، أو: أنا مُقِرٌّ. فقَطْ، أو: خُذْها، أو: اقْبِضْها، ونحوِه، قال اللهُ تعالى:{فَهَلْ وَجَدْتُّمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعرَاف: 44].

ضابطٌ: لا يُقبَل رُجوعُ المُقِرِّ عن إقرارِه إلاّ ما كان حَدًّا للِه تعالى، وتقدَّم في بابِ الحُدودِ حُكمُ الرُّجوعِ عن الحَدِّ.

مسألة: إنْ قال: كان له عليَّ كذا وقَضَيتُه، أو: بَرِئتُ منه، فقَولُ المُقِرِّ بيَمِينِه، ولا يَكون مُقِرًّا، فإذا حَلَف خُلِّيَ سَبيلُه؛ لأنه رَفَع ما أَثْبَتَه بدَعوَى القضاءِ مُتَّصِلاً، فكان القولُ قولَه، ما لم تَكُنْ عليه بَيِّنةٌ فيُعمَلُ بها.

ص: 172

مسألة: إذا أَقرَّ بشيءٍ واستَثنَى بَعضَه فلا يَخلُو مِنْ ثلاثِ حالاتٍ:

الحالُ الأُولى: أنْ يَكون المستَثنَى أَقلَّ مِنْ المستَثنَى منه، كمَا لو أَقرَّ بعَشَرةٍ إلاّ ثلاثةً: فجائزٌ باتِّفاقِ الأئمةِ.

وله هذه الدَّارُ ولِي هذا البيتُ، يَصِحُّ ويُقبَل ولو كان أَكثرَها.

الحالُ الثانيةُ: أنْ يَكون المستَثنَى مُساويًا للمستَثنَى منه فباطلٌ باتِّفاقِ الأئمةِ، كمَا لو أَقرَّ بخَمسةٍ إلاّ خَمسةً؛ لأنًّ مُقتَضاه الرُّجوعُ عن الإقرارِ، والأصلُ إعمالُ كلامِ المُكلَّفِ لا إهمالُه.

الحالُ الثالثةُ: أنْ يَكون المستَثنَى أكثر مِنْ المستَثنَى منه؛ كما لو أَقرَّ له بعَشَرةٍ إلاّ ثمانيةً، فالمَذهَبُ عند الحنابلة عَدمُ صِحَّةِ الاستِثناءِ؛ لِمُخالَفَتِه مُقتَضَى اللُّغةِ، وعندَ الحنفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشافعيَّةِ صِحَّةُ الاستثناءِ؛ لأنَّ استِثناءَ الأكثرِ يَصِحُّ في الكَيفِ فيَصِحُّ في الكَمِّ، قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ *} [الحِجر: 42]، والغاوُوُنَ أَكثرُ مِنْ المُهتَدِين.

وتقدَّم بَقيَّةُ شُروطِ الاستِثناءِ في كتابِ الطَّلاقِ والأَيمانِ.

ضابطٌ: يَصِحُّ الاستِثناءُ مِنْ غيرِ جِنسٍ على الإطلاقِ، كمَا لو قال له مائةُ دِرهَمٍ إلا دِينارًا.

ضابطٌ: إنْ أَقرَّ بمُجمَلٍ كقولِه: له عليَّ شيءٌ، أو حَقٌّ، ونحوِ ذلك، طُلِب منه تَفسيرُه؛ لوُجوبِ تَفسيرِه عليه، فإنْ أَبَى حُبِس حتَّى يُفسِّرَه.

ويُقبَل تَفسيرُه بِما يُوافِق الظَّاهرَ وعُرْفَ المُقِرِّ؛ لِقاعدةِ العُرفِ، والعادةُ محكَّمةٌ.

ص: 173

ضابطٌ: إنْ أَقرَّ بشيءٍ كان إقرارًا به وبِما هو تابعٌ له عُرفًا.

مسألة: إنْ قال المُقِرُّ عن إنسانٍ: له عليَّ ما بينَ دِرهمٍ وعَشرةٍ، لَزِمه ثمانيةٌ؛ لأنَّ ذلك هو مُقتَضَى لَفظِه، وإنْ قال: له عليَّ ما بينَ دِرهمٍ إلى عَشرةٍ، أو قال: له عليَّ مِنْ دِرهمٍ إلى عَشرةٍ، لَزِمه تِسعةٌ؛ لعَدمِ دُخولِ الغايةِ.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 174