المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده - المدخل إلي جامع الترمذي - جـ ١

[عبد الله السعد]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد:

فهذا كتاب "المدخل إلى جامع الترمذي"، جمعته لنفسي ولمن أراد أن يستفيد منه، وهو‌

‌ مقدمة

لكتابي "الغيث الوسمي في شرح جامع الترمذي"، أسأل المولى عز وجل أن يعينني على تمامه.

وقد جعلته في ثلاثة أبواب:

الباب الأول: وفيه فصول حول الترمذي.

الباب الثاني: وفيه فصول حول كتاب "الجامع".

الباب الثالث: وفيه فصول في تفسير مصطلحات الترمذي في الحكم على الأحاديث.

ولا يخفى أنه وقع اضطراب في معرفة مقصده من مصطلحاته، فادى عدم تحريرها إلى نسبته إلى التساهل في أحكامه، هذا فضلا عن البعد عن مقصوده منها، وعلى رأسها ما اشتهر به من استعماله لمصطلح "حسن صحيح"، حتى أن الحافظ ابن حجر عندما أراد أن يبين هذا المصطلح ذكر

ص: 5

قولا في غاية البعد

(1)

عن مراد أبي عيسى، فقال في "النخبة"

(2)

: (فإن جُمِعا فللتردد في الناقل حيث التفرد، وإلا فباعتبار إسنادين).

ويعني بذلك أن الخبر إذا كان له أكثر من إسناد، فيكون أحدها صحيحا، والثاني حسنا، وأما إذا لم يكن له إلا إسناد واحد، فحينئذ يكون الترمذي قد تردد في حكمه.

وقد سبقه إلى بعض ذلك ابن الصلاح في "مقدمته"

(3)

، وهذا غير صحيح، لذا قال الذهبي: (وأجيب عن هذا بشيء لا ينهض أبدا

الخ)

(4)

، وسوف يأتي بيان الصواب في ذلك.

وأكبر من هذا تحرير مصطلحه في الحديث "الحسن"، مع أن الحسن قد وقع في حده اضطراب غير قليل، لذا قال الذهبي:(ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك!)

(5)

.

والسبب في ذلك أن بعض أهل العلم - كأبي عيسى - يكون له اصطلاح خاص، فيأتي من يفسر هذا المصطلح باصطلاح غيره، فيقع في الخطأ، ومثله من يريد أن يفسر مصطلحات المتقدمين بالحدود التي وضعها

(1)

لذا الحافظ نفسه في "النكت"(ص: 279 - 283) لم يذكر ما ذكره هنا من أنه يحمل على تعدد أسانيد الخبر، نعم ذكر التردد، وأورد على هذا القول إشكالات، ولم يقبل ببعض الأجوبة عن هذه الإشكالات، وبالتالي لم يسلّم ببعض ما اختاره هنا تسليما كاملا، وإن ذكر أنه يميل إليه، وأن الجواب عن هذه الإشكالات ممكن.

(2)

ينظر: "نزهة النظر"(ص: 276).

(3)

(ص: 39).

(4)

"الموقظة"(ص: 29).

(5)

"الموقظة"(ص: 28).

ص: 6

المتأخرون، وهذا خلاف الصواب، بل الواجب الرجوع إلى تصرفاتهم وتتبع كلامهم

(1)

.

ولأجل هذا حرصت على تتبع كلام أبي عيسى وتصرفاته في بيان مصطلحاته، وخاصة فيما بَيَّن مقصوده فيه، وقد تبين لي بحمد الله كثير من مقاصده من هذه المصطلحات، وعلمت دقة أحكامه، وأنَّه ينبغي الوثوق بها إلا إذا دل الدليل على خلاف ذلك.

بل إن طالب العلم إذا أراد أن يتمكن من الصناعة الحديثية بفنونها فعليه أن يكثر من النظر في هذا الكتاب، ويحرص على فَهْم عبارات مؤلفه،

(1)

وقد نبه بعض أهل العلم إلى الاختلاف بين المتقدمين والمتأخرين في بعض المصطلحات، وأنَّه لا ينبغي تفسير مصطلحاتهم بما جاء عن المتأخرين، ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين"(2/ 66)، قال:(مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة -وهو اصطلاح المتأخرين-، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما: بتخصيص، أو تقييد، أو حَمْل مُطْلق على مُقَيد، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم لَيسمّون الاستثناء، والشرط والصفة نسخًا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو: بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومَنْ تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يُحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حملُ كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر).

وقال أيضا في موضع آخر (2/ 75): (وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورَّع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فَنَفَى المتأخرون التحريمَ عما أطلق عليه الأئمة الكراهة، ثم سَهُل عليهم لفظ الكراهة وخَفّتْ مؤنته عليهم؛ فحمَله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير جدًّا في تصرفاتهم، فحصل بسبجه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة، وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين يملك اليمين: أكرهه، ولا أقول: هو حرام. ومذهبه تحريمه، وإنما تورَّع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان).

ص: 7

وتتبع كلامه على الأحاديث تصحيحا وتضعيفا؛ فإنه سوف يحصل له مراده بإذن الله تعالى؛ لأن أبا عيسى قد استعمل في هذا الكتاب كل المصطلحات التي ذكرها أهل العلم، بل وزاد عليها مصطلحات كثيرة لم تذكر، وكل ذلك مقرون بالناحية العملية، والأمثلة التطبيقية، لذا كان هذا الكتاب جديرا بالعناية من قبل طلبة العلم، هذا فضلا عما فيه من الصناعة الفقهية، فهو قد احتوى على هاتين الصناعتين، وقد بينت شيئا من ذلك في أثناء هذا "المدخل".

وهذا ليس خاصا بأبي عيسى، بل غيره من الأئمة؛ ينبغي تتبع كلامهم، ودراسة مناهجهم، والاحتفاء بأحكامهم، ومن هذا: سكوت أبي داود والنسائي والبيهقي عن الحديث بعد تخريجه، وعدم تعليل الخبر بعد إيراده، فإنه يفيد صحته عندهم -غالبا-، كما نص أبو داود على ذلك، وعُلم هذا من تصرفات النَّسَائِي، وأما البيهقي فقد ذكر أنه لا يسكت عن حديث ضعيف

(1)

، وكذلك إخراج أحمد للحديث في "مسنده" يدل على قوته

(1)

قال البيهقي في "المدخل إلى علم السنن"(1/ 44): (ثم إني رأيت جماعة من علمائنا خرّجوا ما وجدوا من السنن على مسائل الفقه من غير تمييز منهم، صحيحها من سقيمها، ولا قويها من ضعيفها، حتى ينزل جميعها من ليس الحديث من شأنه منزلة واحدة، لا يهتدي إلى منازلها في السقم والصحة، فأشرت في كل حديث أوردته إلى منزلته عند أهل العلم به.

فإن كان مما أخرجه أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري رحمهما الله في كتابيهما، وهو الدرجة الأولى من الصحاح بينته، وإن كان مما أخرجه أحدهما دون الآخر، وبعضه دون الدرجة الأولى في الصحة، ذكرته.

وإن كان مما لم يخرّجاه ولا أحدهما، ولكن خرّجه أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني أو غيره من أئمة الحديث في كتابه محتجا به، وبعضه دون ما تقدم في القوة، ربما ذكرت المحتج به، وربما أطلقته. =

ص: 8

عنده من حيث الجملة، لذا قال أبو العباس ابن تيمية:(شرط أحمد في "مسنده" أجود من شرط أبي داود في سننه)

(1)

.

لذا كان الأصل في أحاديث "السنن" الأربعة و"مسند" أحمد و"صحيحي" ابن خزيمة وابن حبان = الصحة، على تفاوت بينهم في ذلك.

وعندئذٍ سوف يجد المتأمل في ذلك فوائد عظيمة، ومسائل مهمة، كان غافلا عنها، لا يجدها في مكان آخر، وسوف يعلم سبب إطلاق الأئمة الصحة على كتابي أبي داود والنسائي، كما أنه سوف تزول بعض الإشكالات التي يجدها الباحث في بعض أحكامهم، وخاصة في تعليلهم للخبر الذي ظاهر إسناده الصحة، فلا يردها كما يفعل بعض المتأخرين، أو لا يحتفل بها كما هو شأن بعض المعاصرين.

وأيضا سوف يجد الناظر في فصول هذا "المدخل" شيئا من التكرار؛ بعضه يُحتاج إليه، وبعضه بسبب إملاء الكتاب في أوقات متباعدة، كما أن بعض هذه المباحث يحتاج إلى زيادة بسط، وهذا يحتاج إلى مزيد من الوقت، فاكتفيت ببعضه عن كله.

= وإن كان في إسناده ضعف بانقطاع إسناده، أو ضعف بعض رواته، أو جهالته شرحته، وربما اكتفيت بشرحه في موضع عن تكريره في سائر المواضع، وربما أضفت الطعن فيه إلى قائله من أهل المعرفة بالحديث على طريق الإيجاز، ليكون من نظر فيه من أهل الفقه على بصيرة بما يحتج به أو يرجح به، وما يدعه من الأحاديث التي لا تقوم الحجة بأمثالها، لا نرد منها ثابتا، ولا نثبت ضعيفا).

وقال أيضا في "المدخل إلى دلائل النبوة"(1/ 47): (وعادتي في كتبي المصنّفة في الأصول والفروع الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة مما يقع الاعتماد عليه، لا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزا فيما اعتمد عليه أهل السنة من الآثار).

(1)

"الفتاوى"(1/ 250).

ص: 9

كما أنه قد كُتب عن الترمذي وكتابه الشيء الكثير فلم أرد إعادة ما ذكر واستقصاءه، وإنما أردت بيان بعض الأمور المهمة حول الترمذي وكتابه، والتي فيها إضافة على ما هو معروف ومشهور، مع التأكيد على بيان ذلك من خلال الكتاب نفسه، وبالله تعالى التوفيق.

وقد ساعدني في جمع المادة العلمية لهذا "المدخل" جمع من الإخوة، وعلى رأسهم: سامي بن محمد بن جاد الله، وعبد العزيز بن ناصر الخباني، وأَغْرون بن مِلَازم كرَاسنِيجى، وعبد العزيز بن زيد الشبانات، وعبد الحكيم الجبير، والدكتور فيحان بن نايف البصيص، ومعاذ بن محمد القعود، وعبد الرحمن الهليل، وإسلام بن محمد سلطان، وطارق بن عودة العنزي، ومحمود شحرور، فجزاهم الله خيرا، وبارك فيهم.

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وينفع به كما نفع بأصله.

أملاه

عبد الله بن عبد الرحمن السعد

16/ 5/ 1441

ص: 10

‌الباب الأول وفيه فصول حول الترمذي

الفصل الأول: في اسمه ونسبه وكنيته وولادته ووفاته.

الفصل الثاني: في رحلاته.

الفصل الثالث: في شيوخه وتلاميذه.

الفصل الرابع: في أهم ما تميز به.

الفصل الخامس: في أنه حامل علم البخاري.

الفصل السادس: في ورعه في الجرح والتعديل.

الفصل السابع: في مؤلفاته.

ص: 11

‌الفصل الأول في اسمه، ونسبه، وكنيته، وولادته، ووفاته

أما اسمه: فاختلف فيه على ثلاثة أقوال:

1 -

محمد بن عيسى بن سَوْرَة

(1)

بن موسى بن الضحاك.

كذا سماه تلميذه أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي

(2)

، وهو المشهور

(3)

.

2 -

محمد بن عيسى بن سَوْرَة بن شداد

(4)

.

3 -

محمد بن عيسى بن يزيد بن سَوْرَة بن السَّكَن

(5)

.

* * *

‌وأما نسبته:

القَيْسِيُّ السُّلَميُّ -بضم السين المهملة وفتح اللام-

(6)

.

أما القَيْسِيُّ، فنسبة إلى قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن

(1)

سَوْرَة: بفتح السين، وسكون الواو، بعدها راء مهملة. ينظر:"توضيح المشتبه"(5/ 203)، "تبصير المنتبه"(2/ 700).

(2)

انظر: "فهرسة ابن خير الإشبيلي"(ص: 99).

(3)

انظر: "الثقات" لابن حبان (9/ 153)، "رجال البخاري" للكلاباذي (1/ 390)، "الإكمال" لابن ماكولا (4/ 396)، "تاريخ دمشق"(2/ 414)، "التقييد" لابن نقطة (ص: 96)، ""وفيات الأعيان" (4/ 278)، "سير أعلام النبلاء" (13/ 270).

(4)

"الإرشاد" للخليلي (3/ 904)، "الأنساب"(3/ 42).

(5)

"تهذيب الكمال"(26/ 250)، "سير أعلام النبلاء"(13/ 270).

(6)

انظر: "الأنساب"(7/ 180).

ص: 13

عدنان، وإلى قيس تنتسب قبائل كثيرة، منها: غطفان وهوازن وباهلة وغيرهم، وقير هو أخو إلياس، وإليه تنتسب قريش وهذيل ومزينة وغيرهم.

وأما السُّلمي، فنسبة إلى سُليم بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَة بن قيس

(1)

، قبيلة مشهورة، حجازيةُ الإقليم، مساكنها بين مكة والمدينة منذ الجاهلية وإلى الآن، مع تغيرٍ بعضَ الشيء، وقد تفرَّق قسم منهم في البلاد، فمنهم من سكن الشام، ومنهم من سكن برقة وما حولها -أي: ليبيا الآن-، ولا زالوا يعرفون إلى الآن.

وقد خرج منها جَمْعٌ كبير من الصحابة والتابعين وهلمَّ جرًّا، فمن مشاهيرهم: عمرو بن عَبَسَة السلمي، وهو صحابي جليل قد تقدم إسلامه، فقد قال ابن سعد: (أخبرنا معن بن عيسى قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي يحيى سليم بن عامر، وضمرة، وأبي طلحة، أنهم سمعوا أبا أمامة الباهلي يحدث عن عمرو بن عبسة، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بعكاظ، قال: قلت: يا رسول الله، من معك في هذا الأمر؟ قال:"معي رجلان: أبو بكر وبلال"، قال: فأسلمت عند ذلك، قال: فلقد رأيتني ربع الإسلام، قال: فقلت: يا رسول الله، أمكث معك أم ألحق بقومي؟ قال:"الحق بقومك"، قال:"فيوشك الله تعالى أن يفي بمن ترى وبحيي الإسلام"، وهذا إسناد جيد.

ومنهم أيضا: الصحابي المشهور العرباض بن سارية السلمي، صاحب حديث: "عليكم بسنتي

"، ومنهم: العباس بن مرداس السلمي، وغيرهم من الصحابة، وغيرهم كثير من التابعين وأتباعهم.

(1)

وأخوه هوازن بن منصور، وهي قبيلة كبيرة تنسب إليها فروع كثيرة في الحجاز ونجد، منهم: بنو عامر بن صعصعة، وهم من أكثر العرب.

ص: 14

وأما بلاده: فهو ينسب البُوْغِيُّ التِّرمذي

(1)

.

البُوْغِيُّ: نسبة إلى بوغ، قال السمعاني:(بضم الباء الموحدة وسكون الواو وفي آخرها الغين المعجمة، هذه النسبة إلى "بوغ" وهي قرية من قرى "الترمذ" على ستة فراسخ)

(2)

.

التِّرْمِذِيُّ: نسبة إلى ترمذ، وقد اختلف في ضبطها على ثلاثة أقوال، قال السمعاني:(والناس مختلفون في كيفية هذه النسبة -أي: الترمذي-، بعضهم يقولون: بفتح التاء المنقوطة بنقطتين من فوق، وبعضهم يقولون: بضمها، وبعضهم يقولون: بكسرها، والمتداول على لسان أهل تلك البلدة -وكنت أقمت بها اثني عشر يوما- بفتح التاء وكسر الميم، والذي كنا نعرفه قديما فيه كسر التاء والميم جميعا، والّذي يقوله المتوقون وأهل المعرفة: بضم التاء والميم، وكل واحد يقول معنى لما يدعيه)

(3)

.

وقال مؤتمن الساجي: (سمعت عبد الله بن محمد الأنصاري -أبو إسماعيل الهروي- يقول: هو بضم التاء)

(4)

.

وقال ابن دقيق العيد: (وترمذ بالكسر، هو المستفيض على الألسنة حتى يكون كالمتواتر)

(5)

.

وقال أبو الفتح اليَعمُري: (ويقوله المتوقون وأهل المعرفة: بضم التاء والميم، والذي نعرفه بكسرها، وهي على نهر بلخ)

(6)

.

وقال الذهبي: (ترمذ: بفتح التاء، وقيل: بضمها، ويقال: بكسرها)

(7)

.

(1)

انظر: "وفيات الأعيان"(4/ 278)، "تاريخ الإسلام"(6/ 617).

(2)

"الأنساب"(2/ 361).

(3)

"الأنساب"(3/ 41).

(4)

"تذكرة الحفاظ"(2/ 154).

(5)

"تذكرة الحفاظ"(2/ 154).

(6)

"تاريخ الإسلام"(6/ 617).

(7)

"تاريخ الإسلام"(6/ 617).

ص: 15

وقال ابن عبد الهادي: (وترمذ بالكسر هو المشهور)

(1)

.

قلت: الراجح أنها بكسر التاء والميم، وذلك لأمرين:

الأول: ما قاله السمعاني هنا: (والذي نعرفه فيه -يعني في هذه البلدة- كسر التاء والميم جميعا)، فعلى هذا تسمية أهل هذه البلدة لبلدهم ترمذ بفتح التاء وكسر الميم هو حادث، وأنَّه قديما كانت بكسر التاء والميم كما تقدم.

الثاني: ما قاله ابن دقيق العيد - كما سبق -: (ترمذ بالكسر، وهو المستفيض على الألسنة حتى يكون كالمتواتر)، وما قاله ابن عبد الهادي:(بالكسر، هو المشهور).

وأما من قال بضم التاء والميم، فهذا لم أقف على أحد قاله إلا أبو إسماعيل الهروي، ويجاب عن هذا بما تقدم من قول السمعاني: (والذي كنا نعرفه قديما فيه

الخ).

والذي يظهر أن أجداد الترمذي رحلوا إلى هذه البلاد البعيدة لكونهم خرجوا في الجهاد، كما خرج غيرهم كثير لذلك، فأقاموا فيها، والله أعلم.

* * *

وأما كنيته: فأبو عيسى بالاتفاق.

وقال مغلطاي: (وزعم ابن دحية في الكتاب المسمى بـ "المستوفى في أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم " أنه يعرف - أي: الترمذي - بابن الدهان)

(2)

.

وهذا غريب، ولم أقف على من سبقه إلى ذلك، كما أنه لم يذكر من أين أخذ ذلك.

(1)

"طبقات علماء الحديث"(2/ 340).

(2)

"جامع الأصول"(1/ 193)، "إكمال تهذيب الكمال"(10/ 305).

ص: 16

‌وأما ولادته:

فذكر ابن الأثير أنه: (ولد سنة تسع ومئتين)

(1)

، وإن كان ابن الأثير لم يذكر دليله على ذلك، ولكن مثل ابن الأثير في مكانته العلمية لا يمكن أن يجزم بذلك إلا وقد وقف على نقل فيه، وأما قول الذهبي:(ولد سنة بضع ومئتين)

(2)

فهذا تقدير منه على حسب وفيات شيوخه الذين سمع منهم، لذا قال في موضع آخر:(ولد في حدود سنة عشر ومئتين)

(3)

.

وكان مبصرا، قال أحمد بن عبد الله بن داود:(سمعت أبا عيسى الترمذي يقول: كنت في طريق مكة، وكنت قد كتبت جزأين من أحاديث شيخ، فمر بنا ذلك الشيخ فسألت عنه فقالوا: فلان، فرحت إليه وأنا أظن أن الجزأين معي وإنما حملت معي في محملي جزأين غيرهما شبههما، فلما ظفرت به سألته السماع فأجاب، وأخذ يقرأ من حفظه، ثم لمح فرأى البياض في يدي، فقال: ما تستحيى مني؟! فقصصت عليه القصة، وقلت له: إني أحفظه كله، فقال: اقرأ، فقرأته عليه على الولاء، فقال: هل استظهرت قبل أن تجيء إلي؟ قلت: لا، ثم قلت له: حدثني بغيره، فقرأ عليَّ أربعين حديثا من غرائب حديثه، ثم قال: هات، فقرأت عليه من أوله إلى آخره، فقال: ما رأيت مثلك!)

(4)

.

لذا قال يوسف بن أحمد البغدادي الحافظ: (أضرَّ أبو عيسى في آخر عمره)

(5)

.

وقال عمر بن عَلَّك: (بكى حتى عمي، وبقي ضريرا سنين)

(6)

.

(1)

"جامع الأصول"(1/ 193).

(2)

"تاريخ الإسلام"(6/ 617).

(3)

"سير أعلام النبلاء"(13/ 271).

(4)

انظر: "التقييد" لابن نقطة (ص: 99).

(5)

"تهذيب التهذيب"(3/ 669).

(6)

"سير أعلام النبلاء"(13/ 273).

ص: 17

‌وأما وفاته:

ففيها أربعة أقوال:

1 -

سنة خمس وسبعين ومئتين. قاله السمعاني

(1)

.

2 -

سنة نيف وسبعين ومئتين. قاله السمعاني

(2)

.

وهذان القولان ليس بينهما اختلاف كما هو معلوم، فتكون وفاته عند السمعاني سنة خمس وسبعين.

3 -

ليلة الاثنين، لثلاث عشرة خلت من رجب، سنة تسع وسبعين ومئتين. كذا قال غنجار

(3)

، وأبو العباس جعفر بن المعتز المستغفري

(4)

، وابن ماكولا

(5)

، واقتصر عليه المزي

(6)

، وجزم به ابن الأثير

(7)

، وصححه ابن كثير

(8)

.

وأنا أذهب إلى هذا، وما خالفه من الأقوال فليس بصحيح.

4 -

مات بعد الثمانين ومئتين. قاله الخليلي

(9)

.

‌وأما مكان وفاته:

فقال غنجار: (في ترمذ)

(10)

، وقال السمعاني:(مات بقرية بوغ)

(11)

. ولا تعارض بينهما، فـ "بوغ" قرية من قرى "ترمذ".

(1)

"الأنساب"(2/ 362).

(2)

"الأنساب"(3/ 43).

(3)

"التقييد" لابن نقطة (ص: 97).

(4)

"تهذيب الكمال"(26/ 252).

(5)

"الإكمال"(4/ 396). "التقييد" لابن نقطة (ص: 97).

(6)

"تهذيب الكمال"(26/ 252).

(7)

"الكامل"(6/ 474).

(8)

"البداية والنهاية"(14/ 649).

(9)

"الإرشاد"(3/ 905).

(10)

"التقييد" لابن نقطة (ص: 97).

(11)

"الأنساب"(2/ 362).

ص: 18

‌الفصل الثاني في رحلاته

ارتحل أبو عيسى في طلب الحديث إلى عدة بلدان، فسمع بخراسان والعراق والحرمين، ولم يرحل إلى مصر والشام، كما تفيده بعض كتب التراجم.

‌أولًا: بداية رحلته:

في حاشية المزي عند ترجمته لأحمد بن عبيد الله بن سهيل أن رحلة الترمذي كانت بعد الأربعين ومئتين، قاد المزي:(ذكر أبو القاسم في "الشيوخ النبل" أن الترمذي روى عنه أيضا، وذلك وهم منه، إنما روى عن الذي بعده، وهو السليمي فإن رحلته كانت بعد الأربعين)

(1)

.

وهناك من تعقب المزي بأن للترمذي شيوخا قد توفوا قبل المائتين وأربعين، وبالتالي تكون رحلته قبل ذلك.

والجواب عن ذلك أن بعض من ذكر اختُلف في وفاته، وبعضهم ليس من شيوخه أصلا، كعلي بن الحسن بن سليمان الواسطي المتوفى سنة (237 هـ)، وأما البعض الآخر فإنهم وإن توفوا قبل المائتين وأربعين إلا أن بعضهم من (بلخ)، وبلخ قريبة من (ترمذ) فلا يكون الذهاب إليها رحلة منه، ويؤكد ذلك أنه لو رحل قبل الأربعين لسمع من جمع ممن توفي قبل ذلك، وليس الواحد أو الاثنين.

(1)

"تهذيب الكمال"(1/ 401).

ص: 19

نعم إسحاق بن إبراهيم بن راهويه من شيوخه المشهورين، وكانت وفاته قبل الأربعين، وكذلك أحمد بن محمد بن موسى السمسار المرُّوذي، فإن كان ثمة دليل على ما تقدم فهو هذا، ومع ذلك يبقى في النفس شيء لما تقدم، والله تعالى أعلم.

‌ثانيًا: البلدان التي رحل إليها:

1 -

بلخ: لأن جمعا من شيوخه منها.

2 -

خراسان: قال ابن نقطة في ذكره لسماع الترمذي: (

وبخراسان من علي بن حجر، ومحمد بن علي بن الحسن بن شقيق، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن يحيى النيسابوري، في خلق كثير)

(1)

.

‌ومن مدن خراسان:

3 -

مرو: لأن جمعا من شيوخه منها، كإسحاق بن راهويه، ومحمود بن غيلان.

4 -

والري: قال ابن نقطة في ذكره لسماع الترمذي: (

وبالري من أبي زرعة الرازي)

(2)

.

5 -

بخارى: لإكثاره عن البخاري، وملازمته له.

6 -

سمرقند: قرأ يوسف بن أحمد البغدادي بخط المؤتمن بن أحمد الساجي: (زاد أبو عيسى "العلل" بسمرقند)

(3)

.

وهذا ليس فيه دلالة على أنه ذهب إليها في رحلته.

7 -

البصرة، وواسط، والكوفة، وبغداد، والحجاز: قال ابن نقطة:

(1)

"التقييد" لابن نقطة (ص: 96).

(2)

المصدر السابق (ص: 96).

(3)

المصدر السابق (ص: 99)، أي: زادها على كتابه "الجامع" في آخره.

ص: 20

(سمع بالحجاز من محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، وبالبصرة من محمد بن بشار بندار، ومحمد بن المثنى، وعمرو بن علي بن بحر بن كثير الفلاس وغيرهم، وبواسط من أبي الشعثاء علي بن الحسن، وبالكوفة من أبي كريب، ومحمد بن عثمان بن كرامة، وعبيد بن أسباط، وعلي بن المنذر الطريقي، في آخرين، وببغداد من الحسن بن الصياح، وأحمد بن حسان بن ميمون، وأحمد بن منيع، ومحمد بن إسحاق الصاغاني)

(1)

.

‌ثالثًا: ما ذكر من البلدان التي لم يدخلها:

1 -

مصر والشام: قال الذهبي: (ارتحل، فسمع بخراسان، والعراق، والحرمين، ولم يرحل إلى مصر، والشام)

(2)

.

2 -

بغداد: قال أحمد شاكر: (لا أظنه دخل بغداد، إذ لو دخلها لسمع من سيد المحدثين وزعيمهم: الإمام أحمد بن حنبل، ولترجم له الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد)

(3)

.

ورد هذا الأستاذ أكرم ضياء العمري، وجزم بأن الترمذي دخل بغداد، واستدل على ذلك بقول ابن نقطة السابق، بالإضافة إلى روايته عن (ثمانية وثلاثين) شيخا من بغداد، وذكر أن كونه لم يرو عن الإمام أحمد فهذا لا يدل على عدم دخوله بغداد

(4)

، بل يدل على أن دخوله بغداد كان بعد وفاة الإمام أحمد، ويؤكد هذا أن كل من روى عنهم الترمذي من بغداد - وهم

(1)

"التقييد"(ص: 96).

(2)

"سير أعلام النبلاء"(13/ 271).

(3)

مقدمة تحقيق "جامع الترمذي"(1/ 83).

(4)

خاصة وأن الإمام أحمد قد امتنع من التحديث قبل وفاته بمدة، مع أنه ينبغي أن يعلم أن حديث أحمد في الكتب ليس كثيرا، ومثله يحيى بن معين وعلي بن المديني، مع كونهم سمعوا مئات الآلاف من الأخبار والآثار.

ص: 21

ثمانية وثلاثون - ليس فيهم من توفي سنة (241 هـ)، بل أقدم من روى عنهم من البغداديين توفوا سنة (243 هـ)، ويؤكده أيضا أن كل من توفي من البغدادين سنة (240 هـ) فإنه روى عنهم بواسطة، وعددهم ثمانية.

وأما كون الخطيب البغدادي لم يترجم له فإن الأغلب أنه ترجم له، ولكن ترجمته سقطت من الطبعة الحالية كما سقطت تراجم أخرى

(1)

.

(1)

"تراث الترمذي العلمي"(ص: 9 وما بعدها).

ص: 22

‌الفصل الثالث في شيوخه وتلاميذه

سمع أبو عيسى من جمع كبير، وقد أحصى بعض الباحثين شيوخه الذين روى عنهم فبلغوا أكثر من مائتين، ولا يخفى أنه لا يلزم من ذلك أن يكون فقط هؤلاء الذين سمع منهم، فقد قال ابن حبان:(ولعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ من إسبيجاب إلى الإسكندرية، ولم نرو في كتابنا هذا إلا عن مائة وخمسين شيخا أقل أو أكثر، ولعل معول كتابنا يكون على نحو من عشرين شيخا ممن أدرنا السنن عليهم، واقتنعنا برواياتهم عن رواية غيرهم)

(1)

.

قال المزي: (طاف -يعني: أبا عيسى- البلاد، وسمع خلقا كثيرا من الخراسانيين، والعراقيين، والحجازيين، وغيرهم، وقد سميناهم في مواضعهم من كتابنا هذا)

(2)

. ولم يذكرهم في ترجمته، وقد أفردهم بعض أهل العلم، ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن معاوية الأنصاري الدّروقي الأطروش، له جزء في تسمية شيوخ أبي عيسى التّرمذي في مصنّفه.

نقل ابن الأبَّار نصًّا نادرا من كتاب أبي محمد الدروقي في تسمية شيوخ الترمذي، أثناء الكلام عن شيخ للترمذي اسمه (عيسى بن أحمد)، قال الحافظ الدَّرَوْقِي الأطروش: (عيسى بن أحمد بن وردان، أبا يحيى البلخي، كذا سمَّاه أبو أحمد الحاكم في "الكنى" له، في باب أبي يحيى،

(1)

"صحيح ابن حبان"(1/ 215).

(2)

"تهذيب الكمال"(26/ 251).

ص: 23

أخبرني به أبو علي الصدفي)

(1)

قلتُ: (عيسى بن أحمد) من شيوخ الترمذي روى عنه في موضعين من "جامعه" برقم: (1413)(2077). يقول في كليهما: حدثنا عيسى بن أحمد قال: حدثنا ابن وهب.

وهؤلاء الشيوخ -كما سوف يأتي- فيهم الحفاظ الكبار، وفيهم من دون ذلك، وفيهم الفقهاء الأعلام، وفيهم من سوى ذلك، وإليك التفصيل في هذا:

‌أولا: أجلّ شيوخه:

إسحاق بن راهويه، وقتيبة بن سعيد، وأبو حفص الفلاس، والدارمي، والبخاري، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأبو زرعة الرازي، ومسلم بن الحجاج (روى له حديثا واحدا في كتابه "الجامع"، وسيأتي)، وأبو داود السجستاني - وهو من أقرانه، فليس بين ولادتيهما إلا بضع سنوات، ولكن أبا داود بكَّر بالسماع قبل أبي عيسى - (روى له في ثلاثة مواضع، أحدها مكرر، كما سيأتي).

‌ثانيا: شيوخه الذين استفاد منهم أكثر من غيرهم:

وهؤلاء يمكن أن يقسموا إلى قسمين من حيث الاستفادة:

الأول: الذين استفاد منهم بالإكثار من روايته عنهم، والسماع منهم، وسوف يأتي الكلام عنهم.

والثاني: الذين استفاد منهم في الصناعة الحديثية والنقد، وتخرج بهم، وعلى رأسهم البخاري والدارمي وأبو زرعة، وقد قال في "العلل الصغير": (وما كان فيه -أي: كتاب "الجامع"- من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ فهو ما استخرجته من كتاب "التاريخ"، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد بن إسماعيل، ومنه ما ناظرت به عبد الله بن عبد الرحمن، وأبا

(1)

"معجم أصحاب القاضي أبي علي الصدفي"(ص: 254).

ص: 24

زرعة، وأكثر ذلك عن محمد، وأقل شيء فيه عن عبد الله وأبي زرعة).

وأكثر من استفاد منه محمد بن إسماعيل، وقد قال:(ولم أر أحدا بالعراق، ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل)

(1)

.

وسوف يأتي فصل خاص بذلك.

‌واستفادته من هؤلاء الثلاثة تدل على أمرين:

الأول: أنه يرى أن هؤلاء الثلاثة من أعلم الناس بالصناعة الحديثية في عصرهم، وقد نص على هذا بالنسبة للبخاري.

الثاني: أن هذا يفيد كثرة ملازمته لهم، واختصاصه بهم.

ويلاحظ أنه اجتمع بغيرهم من كبار الحفاظ، ولكن لم يذكر أنه ذاكرهم في الصناعة الحديثية، كأبي حفص الفلاس، ومحمد بن يحيى الذهلي - وقد أكثر عنه، والجوزجاني، نعم روى عن أبي حفص الفلاس خبرا عن يحيى بن سعيد القطان، فقال:(حدثنا أبو حفص عمرو بن علي، قال: حدثني يحيى بن سعيد القطان، قال: أنبأنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: قال رجل: يا رسول الله أعقلُها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل". قال عمرو بن علي: قال يحيى: وهذا عندي حديث منكر)

(2)

.

ويلاحظ أنه مع اختصاصه بأبي زرعة لم يذكر أنه سمع من أبي حاتم الرازي، وكذلك لم يرو عن أبي بكر الأثرم، ولا يعقوب بن شيبة، ولا محمد بن مسلم بن وارة، وأحمد ابن أبي خيثمة، وغيرهم، مع أنهم من كبار الحفاظ.

(1)

(5/ 9).

(2)

"الجامع"(3/ 459). (2699).

ص: 25

ولم يرو كذلك عن العجلي، ولعل السبب في عدم روايته عنه أنه في فتنة خلق القرآن رحل إلى المغرب.

‌ثالثًا: أقدم شيوخه وفاةً:

والفائدة من ذلك معرفة متى بدأ أبو عيسى بالسماع هل بكر أو تأخر في طلبه للعلم، وغير ذلك من الفوائد كما سوف يأتي، مع ملاحظة أنه لا يلزم من قدم وفاة الشيخ أن يكون أكبر شيوخه، أو أول من سمع منه؛ لأنَّه قد تتقدم وفاة الشخص، ولا يكون كبيرا، وقد يعمر فتتأخر، وقد يبكر في السماع من أناس وتتأخر وفاتهم، وبالعكس فقد يتأخر سماعه من آخرين، وتتقدم وفاتهم.

1 -

صالح بن عبد الله بن ذكوان الترمذي (ت 231 هـ أو بعدها كما سوف يأتي).

2 -

أحمد بن محمد بن موسى السمسار المروزي (قيل توفي 235 هـ، وقيل بعد ذلك)

(1)

.

3 -

محمد بن عمرو السواق البلخي (ت 236 هـ).

4 -

إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، المعروف بابن راهويه (ت 238 هـ).

5 -

محمود بن غيلان المروزي (ت 239 هـ)، وقيل: سنة (249 هـ)، والخلاف قوي، فإذا قيل: إن الأول هو قول الجمهور، وإن البخاري والنسائي قد نصا على أن وفاته كانت في رمضان من سنة (تسع وثلاثين ومئتين)، فإن الثاني وإن كان تفرد به محمد بن حمدويه المروزي إلا أنه ذكر تفصيلا يدل على تأكده مما قال، ثم هو بلديه أيضا، فقال:(خرج محمود إلى الحج سنة ست وأربعين، ثم انصرف إلى مرو، وتوفي لعشر بقين من ذي القعدة سنة تع وأربعين ومائتين).

(1)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 45)، حاشية "تهذيب الكمال"(1/ 474).

ص: 26

6 -

يحيى بن موسى البلخي (ت 240 هـ).

7 -

محمد بن نجيح السندي، ابن أبي معشر (ت 247 هـ)، وهو معمر لأنَّه قد قارب المئة عندما توفي

(1)

.

أما صالح بن عبد الله بن ذكوان الترمذي فقد ذكر ابن حبان أنه توفي سنة (231 هـ)، ومثله عبد الباقي بن قانع، ولكن خالفهما من هو أولى منهما، فقد قال البخاري:(مات سنة بضع وثلاثين ومائتين أو نحوه بمكة)، وقال البغوي:(مات سنة تسع وثلاثين ومائتين)، ومثله أحمد بن محمد بن بكر.

وأما القول بأن محمد بن جعفر السمناني هو أقدمهم وفاةً، وأنَّه توفي سنة (220 هـ) فهذا اعتمادا على ما ذكره ابن حجر في "التقريب"، ويظهر أنه سبق قلم من الحافظ ابن حجر؛ لأنَّه موجود بخطه كذلك، لذا لما ترجم له في "تهذيب التهذيب" لم يذكر وفاته، ومثله المزي في "تهذيب الكمال"، وذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام" فيمن توفي ما بين (241 هـ) وبين (250 هـ).

والخلاصة أن أقدمهم وفاة هو محمد بن عمرو السواق البلخي؛ لأن أحمد بن محمد السمسار مختلف في وفاته كما تقدم، بخلاف السواق.

وبناء على ما تقدم فالذي يظهر أن الترمذي قد تأخر طلبه للعلم، وذلك لتأخر وفاة كبار شيوخه، بخلاف شيخه البخاري، فإنه بدأ بالطلب وعمره نحو عشر سنوات، فقد روى الخطيب البغدادي من طريق الفربري، عن محمد بن أبي حاتم الوراق، قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: (كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت

(1)

وهناك من ذكر أن من شيوخه علي بن الحسن بن سليمان الواسطي (ت 237 هـ)، وهو خطأ، فإن الترمذي لم يرو عنه، وإنما روى عنه مسلم وابن ماجه.

ص: 27

حفظ الحديث وأنا في الكتاب، قال: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقاد: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، وقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم. فقلت له: يا أبا فلان، إن أبا الزبير لم يروه عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأحكم كتابه، فقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة)

(1)

.

ومثله أبو داود السجستاني، فإنه قد قال:(وصليت على عفان ببغداد سنة عشرين، وسمعت من أبي عمر الضرير مجلسا واحدا، ودخلت البصرة وهم يقولون: مات أمس عثمان المؤذن، وسمعت من سعدويه مجلسا واحدا، ومن عاصم بن علي مجلسا واحدا، وتبعت عمر بن حفص بن غياث إلى منزله ولم أسمع منه شيئا)

(2)

، لذا كان من أقدم شيوخه مسلم بن إبراهيم الأزدي (ت 224 هـ).

وإذا تقرر ذلك فقد يستفاد منه أنه لم يكن أحد من أسرته كان من أهل العلم، كأبيه أو إخوته - مثلا - ممن هم أكبر منه، وإلا لبكر في طلب العلم - والله تعالى أعلم -.

‌رابعًا: أكبر شيوخه سنا:

عبد الله بن معاوية الجمحي، قال موسى بن هارون: توفي سنة (243 هـ).

وقال ابن حبان: (مات سنة أربعين ومائتين، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل).

(1)

"تاريخ بغداد"(2/ 324).

(2)

"تاريخ بغداد"(10/ 75).

ص: 28

قال أبو عيسى الترمذي: (هو رجل صالح)، وقال:(وقال لنا عباس العنبري: اكتبوا عنه فإنه ثقة)

(1)

.

وقال الحسن بن أحمد بن الليث: (رأيت عبد الله بن معاوية الجمحي وكانت له مائة سنة، وزيادة على عشرة)

(2)

.

قلت: وهذا يفيد أنه ولد بعد سنة ثلاثين ومائة، والأقرب عندي أنه ولد نحو سنة أربعين ومائة أو بعدها؛ لأني لم أقف على أحد من شيوخه مات قبل الستين ومائة، وإنما بعدها، فلو ولد بعد الثلاثين ومائة لكان روى عمن مات قبل الستين ومائة، وإن كان هذا ليس بلازم، والله تعالى أعلم.

فهذا قد يكون أكبر شيوخ أبي عيسى سنًّا.

ومثله علي بن حجر السعدي، مات سنة أربع وأربعين ومائتين، وقد قارب المائة أو جاوزها، وعلى هذا تكون ولادته بعد الأربعين ومائة، ولكن قيل: إنه ولد سنة مائة وأربعة وخمسين، والله تعالى أعلم.

خامسًا: الشيوخ الذين أكثر من الرواية عنهم:

منهم: ابن أبي عمر، ومحمد بن بشار، وأحمد بن منيع، وعلي بن حجر المروزي، وإسحاق بن موسى الأنصاري.

ودون هؤلاء طبقة ثانية، منهم: محمد بن يحيى الذهلي، وعبد الله بن سعيد الأشج، وأبو كريب، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وأحمد بن محمد بن موسى السمسار، وأبو عمار الحسين بن حريث، ونصر بن علي الجهضمي.

(1)

"تهذيب التهذيب"(2/ 437)، وينظر: هامش التحقيق ط. دار التأصيل لـ"الجامع".

(2)

"تاريخ الإسلام"(5/ 1162).

(3)

"الجامع"(2/ 84)(695).

ص: 29

ودون هؤلاء طبقة ثالثة، منهم: الدارمي، وسفيان بن وكيع، ويحيى بن موسى، والحسن بن علي الخلال، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن حميد الرازي.

‌سادسًا: شيوخه الذين روى عنهم في كتابه "الجامع" وهم من أصحاب الكتب الخمسة:

على رأسهم البخاري، وقد روى عنه أحاديث عديدة.

وروى عن مسلم حديثا واحدا، فقال في باب ما جاء في إحصاء هلال شعبان لرمضان:(حدثنا مسلم بن حجاج، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحصوا هلال شعبان لرمضان")

(1)

.

وروى عن أبي داود ثلاثة أحاديث:

1 -

قال رحمه الله: (وروى مبارك بن فضالة، عن ثابت البناني، عن أنس، أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب هذه السورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . فقال: "إن حبك إياها يدخلك الجنة".

حدثنا بذلك أبو داود سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا مبارك بن فضالة بهذا)

(2)

.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجزي، قال: حدثنا قطن البصري، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع")

(3)

.

(1)

"الجامع"(26/ 4)(3141)، وهذا وقع في بعض النسخ دون بعض.

(2)

"الجامع"(4/ 436)(3949).

(3)

"الجمع"(4/ 526)(4134).

ص: 30

3 -

وقال أيضا: (حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي بحبي")

(1)

.

وأما من بقي وهما النَّسَائِي وابن ماجه فلم يرو عنهما شيئا؛ لأن النَّسَائِي أصغر منه، وأما ابن ماجه فقد ولد في نفس السنة التي ولد فيها أبو عيسى فهو من أقرانه.

‌سابعًا: جمعه بين قتيبة وهناد:

كثيرا ما يجمع أبو عيسى بين قتيبة بن سعيد وهناد بن السري، (ينظر حديث: 3، 5، 17، 38، 42، 46، 48، 49، 70، 74، 86، 99، 353، 513)، والحديث الأول ساقه أولًا عن قتيبة عن أبي عوانة، ثم ساقه عن هناد عن وكيع عن إسرائيل، كلاهما (أبو عوانة وإسرائيل) عن سماك به.

‌ثامنًا: شيوخه من ترمذ وبلخ:

وفائدة ذلك معرفة متى بداية سماعه الحديث، وطلبه للعلم. لأنَّه من المعلوم أن الشخص أول ما يبدأ بالسماع من أهل بلده، ثم من يليهم، كما أن كثرة شيوخه من بلده وما حوله يدل على اهتمامه بطلب العلم.

شيوخه من ترمذ: صالح بن عبد الله بن ذكوان الترمذي، والجارود بن معاذ السلمي، وأحمد بن الحسن بن الجنيدب الترمذي، وموسى بن حزام الترمذي، وهريم بن مسعر الأزدي الترمذي، ومحمد بن أحمد بن الحسين بن مدويه، ومحمد بن إسماعيل بن يوسف الترمذي، ومكتوم بن العباس أبو الفضل المروزي، ويقال: الترمذي.

(1)

"الجامع"(3/ 32).

ص: 31

‌شيوخه من بلخ:

محمد بن عمرو السواق البلخي، وأبو داود سليمان بن سلم البلخي، ومحمد بن أبان البلخي، وعبد الرحيم بن حازم البلخي، والحسين بن محمد الجريري البلخي.

وبلخ ليست بالبعيدة عن ترمذ، وقد كانتا من حواضر العلم.

‌تاسعًا: شيوخه المتكلم فيهم:

الغالب على شيوخ أبي عيسى أنهم ثقات، ولكنه قد روى عن بعض من تُكلِّم فيه، والسبب في تخريجه لهم أنه لم يقتصر في هذا الكتاب على الصحيح، وإنما أراد أن يبين المشهور من الغريب، والصحيح من المعلول، فلذا خرّج لهؤلاء الشيوخ، كما أنه خرّج لرواة قد اتهموا بالكذب، وأحاديث معلوم أنها باطلة، وكل ذلك داخل في مقصده من هذا الكتاب، وقد بين ذلك بيانا واضحا، فأبرأ ذمته، بخلاف النَّسَائِي مثلا؛ فإن كل شيوخه ثقات، وغالب أسانيده صحيحة؛ لأنَّه إنما قصد الصحيح.

‌وعلى رأس شيوخ أبي عيسى المتكلّم فيهم:

1 -

محمد بن حميد الرازي، وقد خرّج له في نحو من عشرين موضعا، وهو من الحفاظ، ولكنه قد اتُّهم:

أ - فكان يدّعي سماع ما لم يسمع.

ب - كما أنه كان يركب الأسانيد، نعم لم يضع متونا.

ج - وكان يكون في كتابه شيء منقول، فإذا قيل له: ليس هو هكذا، غَيَّره على ما قيل له.

والراجح في حاله أنه لا يحتج به، وأمره لم يخفَ على أبي عيسى، فقد قال:(وحين رأيته - يعني: البخاري - كان حسن الرأي في محمد بن حميد الرازي، ثم ضعفه بعد)

(2)

.

(1)

أي: حسن غريب.

(2)

"الجامع"(1/ 578)(521).

ص: 32

لذا لم يصحح شيئا مما خرّجه له من أحاديث، بل استغربها كلها، مع قوله في بعضها:(حسن)

(1)

، سوى حديثين أطلق الحكم بحسنهما، فقال: (حدثنا محمد بن حميد الرازي، والعباس بن محمد الدوري، قالا: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني أبو مرحوم، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب.

قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن)

(2)

.

ويلاحظ في هذا الخبر أنه قرن محمد بن حميد بالعباس الدوري، وهو ثقة حافظ.

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، عن عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اكتحلوا بالإثمد؛ فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر"، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له مكحلة يكتحل بها كل ليلة، ثلاثة في هذه، وثلاثة في هذه.

حدثنا علي بن حجر ومحمد بن يحيى، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، عن عباد بن منصور نحوه.

وفي الباب عن جابر، وابن عمر.

حديث ابن عباس حديث حسن، لا نعرفه على هذا اللفظ، إلا من حديث عباد بن منصور)

(3)

.

قلت: وهذا قد توبع عليه؛ ولكنها متابعة قاصرة.

وهناك حديث ثالث نقل قول البخاري فيه بأنه حسن، فقال: (حدثنا

(1)

"الجامع"(3/ 72)(1866، 1867).

(2)

"الجامع"(3/ 66)(1851).

(3)

"الجامع"(4/ 501)(4085).

ص: 33

محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن الصلت بن عبد اللّه بن نوفل، قال: رأيت ابن عباس يتختم في يمينه ولا إخاله إلا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه.

قال محمد بن إسماعيل: حديث محمد بن إسحاق، عن الصلت بن عبد الله بن نوفل حديث حسن)

(1)

.

قلت: هذا الحديث لم يتفرد به محمد بن حميد، لذا قال البخاري: حديث محمد بن إسحاق

الخ.

وفي بعض ما استغربه ليست الغرابة منه، إلا في خبرٍ نصَّ صراحة أنه تفرد به، فقال: (حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس، قال: أول من صلى علي.

هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه من حديث شعبة، عن أبي بلج إلا من حديث محمد بن حميد)

(2)

.

2 -

سفيان بن وكيع الرؤاسي، وهو صدوق، ولكنه ابتلي بوراق كان يدخل في حديثه ما ليس منه، فتُكلم فيه من أجل هذا

(3)

، وقد أكثر عنه في كتابه "الجامع"، حتى بلغ ما روى عنه نحو خمسين - أو ثلاثة وخمسين - حديثا، وقد تتبعت بعض هذه المرويات فوجدت بعضها مستقيما، لذا صحح أبو عيسى جزءا منها، والبعض الآخر العلة ليست منه، وهذا يفيد أن أبا عيسى كان ينتقي حديث شيوخه، لذا لم يخرّج عنه فيما يظهر إلا ما كان من حديثه، والله أعلم.

(1)

ينظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 231)، "الكامل" لابن عدي (5/ 651).

(2)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(4/ 366).

(3)

"الجامع"(3/ 15)(1749).

ص: 34

3 -

يحيى بن طلحة اليربوعي، قال عنه النَّسَائِي: ليس بشيء. وكذّبه علي بن الحسين بن الجنيد، وخطاه - يعني: يحيى بن طلحة - الصغاني. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يغرب عن أبي نعيم وغيره

(1)

.

قلت: ومثله لا يحتج به، وقد خرّج له حديثا واحدا، وجعل العلة منه، قال: (حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي الكوفي، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حميد، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القتل في سبيل الله يكفر كل خطيئة"، فقال جبريل: إلا الدين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إلا الدين".

وحديث أنس حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي بكر إلا من حديث هذا الشيخ. وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فلم يعرفه، وقال: أرى أنه أراد حديث حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس أحد من أهل الجنة يسرُّه أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد")

(2)

.

4 -

محمد بن يزيد، أبو هشام الرفاعي، روى عنه أبو عيسى أحاديث عديدة، وهو من أهل القرآن والفقه، ولكنه لا يحتج به في الحديث، بل ولا يكتب حديثه؛ لأنَّه اتهم بسرقة الحديث، وفي القراءات لا يحتج به أيضا، قال أبو عمرو الداني: أخذ القراءات عن جماعة، وله عنهم شذوذ كثير، فارق فيه أصحابه. لذا قال البخاري: رأيتهم مجتمعين على ضعفه

(3)

.

وصحح له الترمذي حديثين

(4)

أحدهما كرره مرتين، وهما حديثان صحيحان، أحدهما خرّجه البخاري ومسلم، والثاني خرّجه مسلم.

5 -

عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد الكوفي، الهمداني، نزيل

(1)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(3/ 735).

(2)

(2128)، وأخرجه مسلم (91). (2148، 4243)، وأخرجه البخاري (3818)، ومسلم (2345).

(3)

"الضعفاء" لأبي زرعة الرازي (2/ 519).

ص: 35

بغداد، كذبه يحيى بن معين، وذلك عندما حدث عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنا مدينة العلم وعلي بابها". كما في رواية عبد الله بن أحمد وابن الجنيد، وبنحو هاتين الروايتين ما جاء عن أبي زرعة عن ابن معين.

وقال النَّسَائِي: ليس بثقة متروك الحديث.

وقال الدارقطني: متروك.

وقال أبو حاتم والدارقطني - في رواية أخرى -: ضعيف.

وقال سعيد بن عمرو البرذعي، قال أبو زرعة: حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها"، كم من خلق قد افتضحوا فيه. ثم قال لي أبو زرعة: أتينا شيخًا ببغداد يقال له عمر بن إسماعيل بن مجالد فأخرج إلينا كراسة لأبيه فيها أحاديث جياد عن مجالد، وبيان، والناس فكنا نكتب إلى العصر، وقرأ علينا فلما أردنا أن نقوم قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش بهذا الحديث، فقلت له: ولا كل هذا بمرة، فأتيت يحيى بن معين، فذكرت ذلك له فقال: قل له: يا عدو الله، متى كتبت أنت هذا، عن أبي معاوية إنما كتبت أنت عن أبي معاوية ببغداد، متى روى، هذا الحديث ببغداد؟!

(1)

.

وأما الإمام أحمد فقال عنه: لا أراه إلا صدَق

(2)

.

(1)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(3/ 215).

(2)

ومما يلاحظ هنا أن أقدم من نقل كلام الإمام أحمد في عمر بن إسماعيل هو ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، فقال: (أخبرنا عبد اللّه بن أحمد فيما كتب إليّ، قال: سمعت يحيى بن مَعِين يقول: رأيت عُمر بن إسماعيل بن مُجَالِد، ليس بِشَيْء، كَذَّاب، رَجُلُ سُوْءٍ، خَبِيْث، حَدَّث عن أبي مُعَاوِية، عن الأَعْمش، عن مُجَاهِد، =

ص: 36

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عن ابن عبَّاس، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وهو حَديثٌ ليس له أَصْل. قال عبد الله: وسألت أبي عنه، فقال: ما أراه إلا صدق).

وفي بعض نسخ "الجرح والتعديل" الخطية: (ما أراه إلا صدوق).

والذي في "العلل" للإمام أحمد من رواية عبد الله (3905) -وهو مصدر ابن أبي حاتم- أن كلام الإمام أحمد جاء في حق إسماعيل والد عمر، وليس في عمر، قال عبد الله:(سألت يحيى بن معين عن إسماعيل بن مجالد بن سعيد فقال: قد كتبت عنه، كان يحدث عن الشيوخ عن أبي إسحاق وسماك وبيان، ليس به بأس، سألت أبي فقال: ما أراه إلا صدوقا).

ثم قال (3906): (سمعت يحيى يقول: قد كنت أرى ابنه هذا عمر بن إسماعيل بن مجالد شويطرا، ليس بشيء، كاذب، رجل سوء، خبيث، حدث عن أبي معاوية بحديث ليس له أصل، كذب عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: علي مدينة العلم. أو كلام هذا معناه).

وقد نقل هذا النص العقيلي في "الضعفاء" أيضا فقال: (حدثنا عبد الله بن أحمد قال: سمعت يحيى بن معين يقول: كتبت عن إسماعيل بن مجالد، وليس به بأس، وكنت أرى ابنه هذا عمر بن إسماعيل شويطرا، ليس بشيء، كذاب، رجل سوء، خبيث. حدثنا عن أبي معاوية بحديث ليس له أصل، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"). ولم يذكر كلام الإمام أحمد.

وأما الخطيب في "تاريخ بغداد" فلم يذكر كلام ابن معين في عمر بن إسماعيل من رواية عبد الله، وإنما ذكر تكذيبه له من رواية غيره، ولكنه ذكر الكلام في أبيه (إسماعيل) فقال (7/ 218):(أخبرنا عبيد الله بن عمر الواعظ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، ومكرم بن أحمد، قالا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألت يحيى بن معين عن إسماعيل بن مجالد بن سعيد، فقال: قد كتبت عنه، كان يحدث عن أبي إسحاق، وسماك، وبيان، ليس به بأس، قال عبد الله بن أحمد: وسألت أبي، فقال: ما أراه إلا صدوقا).

وعندما ترجم ابن أبي حاتم لإسماعيل، قال (2/ 200): (أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل -فيما كتب إلي- قال: سألت يحيى بن معين عن إسماعيل بن مجالد بن سعيد، =

ص: 37

وأنا أذهب إلى قول أحمد وأنَّه لا بأس به، وذلك:

أولا: لم ينكر عليه إلا هذا الحديث كما في ترجمته.

ثانيا: أن هذا الحديث لا شك أنه باطل؛ وذلك لأنَّه يخالف أصل الرسالة، فهو عليه الصلاة والسلام أرسِل لجميع الخلق من الإنس والجن، وأمِر أن يبلغهم عن ربه عز وجل البلاغ المبين، لذا كان صلى الله عليه وسلم في الاجتماعات العظيمة يستشهد الناس على تبليغه لهم، فهذا الحديث المزعوم يخالف ذلك؛ لأنَّه يفيد أن من أراد الوحي والدين فعليه أن يأتي إلى علي رضي الله عنه لأنَّه هو الباب، ومن المعلوم بالضرورة أنه عليه الصلاة والسلام لم يخص عليا بشيء إلا بنبذ عهود المشركين فقط، فكيف لا يكون التبليغ إلا من طريقه؟!

(1)

.

= فقال: قد كتبت عنه ليس به بأس). ولم يذكر كلام الإمام أحمد، مما يؤيد أن هناك إشكالا في نسخة ابن أبي حاتم من "العلل" في روايته عن عبد الله، وأن كلام أحمد في إسماعيل انتقل إلى ابنه عمر، والله أعلم.

ويبدو أن عمدة المزي -وتبعه ابن حجر- فيما نقله عن أحمد هو "الجرح والتعديل" فيما يظهر، قال المزي (21/ 276): (قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: رأيت عمر بن إسماعيل بن مجالد ليس بشيء، كذاب خبيث، رجل سوء، حدث عن أبي معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا مدينة العلم وعلي بابها" وهو حديث ليس له أصل.

قال عبد الله: وسألت أبي عنه، فقال: لا أراه إلا صدق).

ونقل نحو ذلك ابن حجر (7/ 427) باختصار.

ولكن قال المزي في ترجمة إسماعيل (3/ 185): (وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: ما أراه إلا صدوقا).

ونقل ذلك أيضا ابن حجر (1/ 327)، وهذا مصير منهما إلى أن أحمد قال هذا الكلام في إسماعيل وفي ابنه عمر، وهذا وارد، بل هو احتمال قوي، والله أعلم.

(1)

قال أبو العباس ابن تيمية - كما في "مجموع الفتاوى"(4/ 411) -: (وأما حديث =

ص: 38

ولكن الحمل على عمر فيه بعض الشيء؛ وذلك أنه قد توبع على هذا الحديث عن أبي معاوية، فرواه عنه: عبد السلام بن صالح الهروي، ومحمد بن جعفر الفيدي، وأحمد بن سلمة الكوفي، والحسن بن علي بن راشد

(1)

.

لذا فإن يحيى بن معين لم ينكر أن أبا معاوية حدث بهذا الحديث، وإنما أنكر أن يكون حدث به ببغداد كما سوف يأتي عنه.

والجواب عن هذا: أن عمر بن إسماعيل قال: (حدثا أبو معاوية)، وتقدم أن أحمد قال:(ما أراه إلا صدَق). وقد يكون شُبِّه له فأخطأ.

والذي يظهر أن أبا عيسى يقوِّيه، فقد خرّج له خمسة أحاديث

(2)

،

= "أنا مدينة العلم" فاضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات وإن كان الترمذي قد رواه، ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وبين أنه موضوع من سائر طرقه، والكذب يعرف من نفس متنه، لا يحتاج إلى النظر في إسناده: فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد، ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحدا؛ بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، ورواية الواحد لا تفيد العلم إلا مع قرائن، وتلك القرائن إما أن تكون منتفية، وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس أو أكثرهم فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة، بخلاف النقل المتواتر: الذي يحصل به العلم للخاص والعام. وهذا الحديث إنما افتراه زنديق، أو جاهل ظنه مدحا وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين إذ لم يبلغه إلا واحد من الصحابة، ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير طريق عليّ رضي الله عنه، أما أهل المدينة ومكة

)، ثم ذكر انتشار الصحابة رضي الله عنهم في الأقطار ونشرهم للعلم، وما اختص به كل واحد منهم دون الآخر.

(1)

ينظر: "الضعفاء" للعقيلي (3/ 9)، "الكامل" لابن عدي (7/ 505)، "تعليقات الدارقطني على المجروحين" (ص: 179)، "تاريخ بغداد"(13/ 39).

(2)

وهي: (2536) وقال: (حسن صحيح غريب)، (2685)، وقال:(حسن غريب)، (3517)، وقال:(حسن غريب)، (3735) وقال:(حسن صحيح)، (4019) وقال:(غريب).

ص: 39

صحح حديثين منها

(1)

، مع ملاحظة أن هذين الحديثين جاءا من طرف أخرى صحيحة.

وبهذا يجاب أيضا عمن جعل الحمل على عمر كأبي زرعة، والله تعالى أعلم.

ثالثا: أن باقي أحاديثه أو بعضها وصفت بأنها جياد.

6 -

إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل الحضرمي، روى عنه جمع من الحفاظ منهم الترمذي، روى له حديثا قال: (حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود".

هذا حديث حسن غريب

(2)

من هذا الوجه من حديث ابن مسعود، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل.

ويحيى بن سلمة يضعَّف في الحديث)

(3)

.

وإبراهيم ضعيف، بل لا يكتب حديثه، لقول ابن أبي حاتم:(سألت أبا زرعة عنه فقال: يذكر عنه أن كان يحدث عن أبيه بأحاديث، ثم ترك أباه فجعلها عن عمه؛ لأن عمه أحلى عند الناس)

(4)

.

(1)

(2536)، وينظر:"صحيح البخاري"(3728)، و"صحيح مسلم"(2966)، و (3735)، وينظر:"صحيح البخاري"(6312).

(2)

في بعض الطبعات و"تحفة الأشراف"(9352): (غريب).

(3)

"الجامع"(4/ 533)(4158).

(4)

"الجرح والتعديل"(2/ 84)، يلاحظ أن أبا زرعة لم يجزم بهذا وإنما قال:(يذكر).

ص: 40

ولقول أبي جعفر العقيلي -بعد أن ذكر حديثا رواه إبراهيم عن أبيه عن جده عن سلمة عنه إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود

- قال: (أما قصة الإداوة والطهور فجاء عن ابن مسعود من غير وجه، وأما ما عدا ذلك فجاء عن غير ابن مسعود، فأدخل إبراهيم حديثا في حديث، ولم يكن إبراهيم - هذا - يقيم الحديث)

(1)

.

قلت: إن صحت القصة الأولى والثانية عنه فلا شك أنه لا يكتب حديثه.

7 -

الوليد بن شجاع بن الوليد، تُكلم فيه، والراجح أنه لا بأس به، وخرّج له حديثا واحدا، فقال: (حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع بن الوليد البغدادي، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوة؟ قال:"وآدم بين الروح والجسد".

هذا حديث حسن صحيح غريب

(2)

من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)

(3)

.

8 -

يحيى بن أكثم التميمي، وقد تُكلم فيه، خرّج له في خمسة مواضع، ثلاثة منها مقرونا بغيره

(4)

، واثنين منفردا، قال: (حدثنا يحيى بن أكثم، قال: حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن

(1)

"الضعفاء"(1/ 180).

(2)

في بعض الطبعات وتحفة الأشراف (15397): (حسن غريب). وأخرجه الترمذي في "العلل الكبير"(684) من طريق الوليد به، وقال:(سألت محمدا عن هذا الحديث فلم يعرفه)، وقال أبو عيسى أيضا:(وهو حديث غرب من حديث الوليد بن مسلم، رواه رجل واحد من أصحاب الوليد).

(3)

"الجامع"(4/ 440)(3955).

(4)

وهي: (1514)(2080)(2163).

ص: 41

عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلح قبلتان في أرض واحدة، وليس على المسلمين جزية".

وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جرير، عن قابوس بهذا الإسناد نحوه.

وفي الباب عن سعيد بن زيد، وجد حرب بن عبيد الله الثقفي.

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس قد روي عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا)

(1)

.

وقال أيضا: (حدثنا يحيى بن أكثم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المرأة لتأخذ للقوم"، يعني: تجير على المسلمين.

وفي الباب عن أم هانئ.

وهذا حديث حن غريب

(2)

(

(3)

.

9 -

حسين بن يزيد الطحان الأنصاري الكوفي، روى عنه جمع من الحفاظ، وأخرج له الترمذي ستة أحاديث

(4)

.

قال الذهبي في "الكاشف"

(5)

وابن حجر في "التقريب"

(6)

: لين. تبعا

(1)

"الجامع"(2/ 54)(637).

(2)

في بعض الطبعات زيادة هنا، وهي:(وسألت محمدا، فقال: هذا حديث صحيح، وكثير بن زيد قد سمع من الوليد بن رباح، والوليد بن رباح سمع من أبي هريرة، وهو مقارب الحديث).

وهذا النص موجود في "العلل الكبير"(279).

(3)

"الجامع"(2/ 589)(1682، 1683).

(4)

وهي: (2735)(3370)(3894)(3956، 3957)(4230).

(5)

(1/ 337).

(6)

(ص: 169).

ص: 42

لقول أبي حاتم، فقد قال عنه ذلك

(1)

، وأما ابن حبان فذكره في "الثقات"

(2)

.

قلت: الأقرب أنه لا بأس به؛ وذلك أن كبار الحفاظ قد رووا عنه، ومنهم أبو زرعة وأبو داود، وقد عُلم عنهما أنهما لا يرويان إلا عن ثقة، كما أن مسلما روى عنه ولكن خارج "الصحيح".

وأما تليين أبي حاتم، فقد علم شدته في ذلك، بالإضافة إلى أنه جرح غير مفسّر.

10 -

حسين بن علي بن الأسود العجلي الكوفي، نزيل بغداد، قال أبو حاتم: صدوق، وقال أبو داود: لا ألتفت إلى حكايته أراها أوهاما. وقال ابن عدي: يسرق الحديث، وأحاديث لا يتابع عليها. وقال الأزدي: ضعيف جدا يتكلمون في حديثه

(3)

.

صحح له الترمذي حديثا - حسب بعض الطبعات

(4)

-، وهو قد جاء من وجه آخر.

11 -

عبد الرحمن بن واقد، روى عنه جمع من الحفاظ، وجاء عن يحيى بن معين ما يدل على قوته عنده، لكن قال ابن عدي: يحدث بالمناكير ويسرق الحديث، سمعت عبدان الأهوازي يقول في حديث "من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة":(هذا حديث دحيم عن ابن أبي فديك أنه سرقه)

(5)

.

(1)

"الجرح والتعديل"(3/ 67).

(2)

(8/ 188).

(3)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 425).

(4)

هو حديث رقم (1951)، واختلفت النسخ في الحكم عليه، ففي ط. التأصيل، والرسالة (1938):(حسن)، وفي ط شاكر وبشار (1833)، و"تحفة الأشراف" (11951):(حسن صحيح).

(5)

"تهذيب التهذيب"(2/ 563)، وينظر:"الكامل" لابن عدي (7/ 255).

ص: 43

وله ثلاثة أحاديث عند الترمذي أحدها مكرر

(1)

.

12 -

محمد بن موسى الحرشي، قال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عنه، فوهّاه وضعفه. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النَّسَائِي: صالح، وأرجو أن يكون صدوقا. وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات"

(2)

.

قلت: الراجح أنه لا بأس به، وأما الجواب عن قول أبي داود، فإنه قد يتشدد أحيانا.

وهناك شيوخ آخرون قد تُكلم فيهم بعض الشيء بما لا يؤثر كثيرا عليهم.

‌عاشرًا: شيوخه غير المشهورين:

روى أبو عيسى عن بعض الشيوخ غير المشهورين، ومنهم:

1 -

هريم بن مسعر الأزدي، ليس بالمشهور، روى عن أربعة، وروى عنه ثلاثة، وهم -بالإضافة إلى الترمذي-: جعفر بن محمد الفريابي، وأحمد بن عبد الله بن مالك بن إسماعيل.

وهو مقل كما يظهر من شيوخه والرواة عنه، لذا ليس فيه توثيق إلا أن ابن حبان ذكره في "الثقات"، إلا أنّ رواية الترمذي مع الفريابي عنه مما يقويه، مع تصحيح الترمذي له في موضع واحد

(3)

، على خلاف بين النسخ في ذلك، ولأجل ما تقدم وثقه الذهبي

(4)

، وأما ابن حجر فقال: مقبول

(5)

.

(1)

وهي: (2381)(3596)(4305).

(2)

ينظر: "تهذيب الكمال"(26/ 530).

(3)

(2813)، في ط. التأصيل، والرسالة (2800):(حسن صحيح)، وفي ط بشار (2613):(حسن)، وفي ط شاكر (2613):(صحيح غريب حسن).

(4)

"الكاشف"(2/ 335).

(5)

"تقريب التهذيب"(ص: 572).

ص: 44

2 -

حسين بن محمد الجريري البلخي، أخرج له خمسة أحاديث، وقرنه في اثنين منهما

(1)

، وصحح له حديثا منها

(2)

، وروى عنه حديثا في "الشمائل"

(3)

، وقد روى عنه بعض الحفاظ غير الترمذي، وهذا مما يقويه.

3 -

عبد الرحمن بن الأسود الهاشمي، أبو عمرو البصري، روى له ستة أحاديث

(4)

، صحح له حديثا منها

(5)

، ومما يقويه رواية بعض الحفاظ عنه، وخاصة النَّسَائِي

(6)

، فأقل ما يقال فيه: صدوق إن لم يكن ثقة.

4 -

عيسى بن عثمان بن عيسى التميمي، روى له حديثين وصححهما

(7)

، ويظهر أنه مقل؛ فلم يُذكر له شيخ إلا عمه، ولكن روى عنه جمع من الحفاظ، منهم النسائي، وقال: صالح

(8)

. فهو كما قال ابن حجر: صدوق.

5 -

أحمد بن محمد بن نِيزك بن حبيب البغدادي، أبو جعفر الطوسي، روى له حديثين

(9)

، ولم يصحح له، والعلة ليست منه، وقال عنه ابن عقدة: في أمره نظر. وذكره ابن حبان في "الثقات"

(10)

، وأنا أميل إلى قول ابن حبان؛ وذلك لأن ابن عقدة متكلم فيه، ثم لم يبين سبب جرحه له، والذي يظهر أنه مكثر؛ فقد روى عنه جمع، وفيهم عدة من الحفاظ، وعلى رأسهم أبو عيسى.

(1)

وهي: (2173)(2452)(2460)، وقرنه في:(760)(2897).

(2)

(2460).

(3)

(260).

(4)

وهي: (1080)(1496)(3061)(3560)(3771)، وواحد مقرون بغيره (846).

(5)

رقم (1080).

(6)

"المجتبى"(1469).

(7)

وهما: (3082)(4087).

(8)

ينظر: "الإغراب" للنسائي (189)، "المعجم المشتمل" لابن عساكر (211).

(9)

وهما: (2625)(3022).

(10)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 45).

ص: 45

6 -

علي بن عيسى بن يزيد البغدادي، انفرد الترمذي بالرواية عنه من بين أصحاب الكتب الستة، قال ابن حجر: مقبول.

قلت: الأقرب أنه لا بأس به إن لم يكن ثقة، وذلك لأربعة أمور:

1 -

أن الترمذي روى عنه خمسة أحاديث

(1)

، صحح أحدها

(2)

، وإن كان هذا الحديث من حيث الأصل صحيحا؛ لأنَّه جاء من أوجه أخرى، كما أنه نقل عنه في بيان معنى لحديث، وهذا يدل على أنه من أهل العلم.

2 -

أنه قد روى عنه بعض الحفاظ غير الترمذي، كابن خزيمة - في "التوحيد"

(3)

، وقد اشترط فيه الصحة -، والمحاملي

(4)

.

3 -

أن ابن حبان ذكره في "الثقات"

(5)

، وقال الخطيب: ما علمت من حاله إلا خيرا

(6)

.

4 -

أنه لم يتكلم فيه أحد فيما أعلم.

7 -

بشر بن آدم ابن بنت أزهر بن سعد السمان، وقد اختلف فيه، قال أبو حاتم والدارقطني: ليس بقوي. وقال النَّسَائِي: لا بأس به. وقال مسلمة -وغالبا ما يتابع النَّسَائِي-: صالح. وذكره ابن حبان في "الثقات"

(7)

،

(1)

وهي: (483)(474)(1914)(2131)، أما الحديث الخامس فلم يثبت في ط التأصيل، ينظر: الحاشية (2/ 603)، وهو مثبت في ط الرسالة (1701)، وط شاكر وبشار (1609).

(2)

(1914)، في ط. التأصيل، و"تحفة الأشراف" (11880):(صحيح)، وفي ط. الرسالة (1901)، وشاكر وبشار (1797):(حسن صحيح).

(3)

(658).

(4)

ينظر: "أمالي المحاملي"(53)(112)(520).

(5)

(8/ 474).

(6)

"تاريخ بغداد"(13/ 457).

(7)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 224).

ص: 46

وقال الذهبي في "المغني": ثقة

(1)

، وقال في "الكاشف"

(2)

: صدوق.

قلت: الأقرب أنه لا بأس به، والأصل في حديثه القبول، وذلك لأمور:

1 -

أن أبا حاتم مع شدته لم يقل عنه: ضعيف، وإنما قال: ليس بقوي. لذا روى عنه. ولأجل هذا وغيره لم يلتفت الذهبي إلى هذا التليين، وقواه كما تقدم.

2 -

أنه لم يُذكر له أحاديث منكرة فيما وقفت عليه.

3 -

أن ممن قواه - غير من تقدم - أبو عيسى الترمذي، فقد خرّج له أربعة أحاديث

(3)

، صحح ثلاثة منها

(4)

.

وأيضا قد روى عنه أبو زرعة، وهو غالبا لا يروي إلا عن ثقة، وابن خزيمة أيضا

(5)

.

تنبيه: نقل الذهبي في كتابه "الميزان"

(6)

و"المغني في الضعفاء"

(7)

عن النَّسَائِي أنه قال: ليس بقوي. وهذا النقل في نفسي منه شيء.

8 -

مكتوم بن العباس، أبو الفضل المروزي، ويقال: الترمذي، روى عن أبي صالح عبد الله بن صالح المصري، ومحمد بن يوسف الفريابي، روى عنه: الترمذي، قال الذهبي: لا يعرف

(8)

. وقال ابن حجر: مقبول

(9)

.

وخرّج له حديثا واحدا، قال: (حدثني أبو الفضل مكتوم بن العباس،

(1)

"المغني"(1/ 165).

(2)

(1/ 267).

(3)

وهي: (1056)(2464)(546)(4315).

(4)

وهي: (1056)(546)(4315).

(5)

ينظر: "صحيح ابن خزيمة"(2304).

(6)

(1/ 295).

(7)

"المغني"(1/ 165).

(8)

"ميزان الاعتدال"(4/ 378).

(9)

"تقريب التهذيب"(ص: 545).

ص: 47

قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيقول:"هل ترك لدينه من قضاء؟ "، فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال للمسلمين:"صلوا على صاحبكم"، فلما فتح الله عليه الفتوح، قام فقال:"أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين وترك دينا علي قضاؤه، ومن ترك مالا فهو لورثته".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، قد رواه يحيى بن بكير، وغير واحد، عن الليث بن سعد)

(1)

.

كما أنه روى من طريقه بعض أقوال سفيان الثوري، فقال: (فما كان فيه من قول سفيان الثوري فأكثره ما حدثنا به محمد بن عثمان الكوفى، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن سفيان.

ومنه ما حدثنى به أبو الفضل مكتوم بن العباس الترمذي، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، عن سفيان)

(2)

.

قلت: قد عرف أبو عيسى مكتوم بن العباس، والذي يظهر أنه يقويه، ويحتج بروايته، وقد تقدم أنه صحح له الحديث الذي خرّجه عنه، وإن كان هذا الحديث قد جاء من أوجه أخرى، كما ذكر أبو عيسى، ويؤيد ما تقدم أنه قد اعتمده في أقوال سفيان الثوري، فمثله أقلّ أحواله أن يكون صدوقا لا بأس به.

9 -

محمد بن الحسين بن أبي حليمة، ليس بالمشهور، لم يُذكر أن أحدا روى عنه سوى الترمذي، روى عنه حديثا مقرونا بغيره

(3)

.

(1)

"الجامع"(2/ 285)(1099).

(2)

"الجامع"(5/ 7).

(3)

(3986).

ص: 48

10 -

علي بن الحسن الكوفي، ليس بالمشهور، روى عنه الترمذي حديثين

(1)

، وليس فيه جرح ولا تعديل، لكن قال المزي: أظنه اللاني

(2)

. وهذا روى عنه النَّسَائِي

(3)

، وقال ابن حجر: صدوق

(4)

.

11 -

محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان الثقفي البصري، روى عنه الترمذي

(5)

، وليس فيه جرح ولا تعديل، ويحتمل أنه محمد بن عثمان بن أبي صفوان؛ وهذا صدوق.

12 -

محمد بن خليفة أبو عبيد الله البصري، روى عنه الترمذي حديثا واحدا

(6)

.

وقد سأل الحاكمُ الدارقطنيَّ: فمحمد بن خليفة؟ قال: ثقة

(7)

.

وهذا يحتمل أنه الديرعاقولي، ويحتمل أنه البصري، وهو الأقرب؛ لأنَّه تقدم أنه قال عن الأول: صدوق

(8)

، ولأن المزي -وأقره ابن حجر- لم ينقل عن الدارقطني في ترجمة الديرعاقولي إلا قوله: صدوق

(9)

.

* * *

‌وأما تلاميذ أبي عيسى:

فعَدَّ المزي منهم قريبا من الثلاثين

(10)

.

ومن أشهر تلاميذه:

(1)

وهما: (536)(4009).

(2)

"تهذيب الكمال"(20/ 378).

(3)

ينظر: "المجتبى"(2324)(2428).

(4)

"تقريب التهذيب"(ص: 399).

(5)

(2520)(3584).

(6)

(3013).

(7)

"سؤالات الحاكم" للدارقطني (ص: 144).

(8)

"سؤالات الحاكم" للدارقطني (ص: 275).

(9)

ينظر: "تهذيب الكمال"(25/ 166)، "تهذيب التهذيب"(3/ 556).

(10)

"تهذيب الكمال"(26/ 251).

ص: 49

1 -

أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي المروزي راوية "الجامع"

(1)

.

قال الذهبي: وكانت رحلته إلى ترمذ للقي أبي عيسى في خمس وستين ومائتين، وهو ابن ست عشرة سنة

(2)

.

2 -

وأبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، صاحب "المسند" الكبير

(3)

، وراوي "الشمائل" عنه

(4)

.

واقتصر الذهبي في "الكاشف" على ذكرهما

(5)

.

وقال في "التاريخ": وآخر من روى حديثه عاليا أبو المنجى بن اللتي

(6)

.

(1)

انظر ترجمته في: "التقييد" لابن نقطة (ص: 48).

(2)

"سير أعلام النبلاء"(15/ 537).

(3)

"سير أعلام النبلاء"(15/ 359).

(4)

المصدر السابق (13/ 272).

(5)

"الكاشف"(2/ 208).

(6)

"تاريخ الإسلام"(6/ 617).

ص: 50

‌الفصل الرابع في أهم ما تميز به

لقد تميز أبو عيسى بعدة مزايا منها:

‌أولا: تفننه في التأليف مع حسن الترتيب وقوة العرض.

‌ثانيا: تيسير المعلومة وتوصيلها للقارئ،

حتى قال أبو إسماعيل الهروي: (كتاب أبي عيسى الترمذي عندي أفيد من كتاب البخاري ومسلم. قيل له: لم؟ قال: لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة، وهذا كتاب قد شرح أحاديثه، وبينها، فيصل إلى فائدته كل أحد من الناس من الفقهاء والمحدثين وغيرهما)

(1)

.

‌ثالثا: تمكنه من ناصية الفقه والحديث، وكتابه شاهد على ذلك.

‌رابعا: دفاعه عن معتقد أهل السنة والحديث،

وذلك من خلال عرضه لأقوالهم فيما أورده من نصوص ترجح مذهبهم، وعدم ذكره لأقوال مخالفيهم ممن انحرف عن السنة.

‌خامسا: ورعه في الجرح والتعديل.

‌سادسا: استخدامه لجميع المصطلحات الحديثية،

بل إنه استخدم مصطلحات لم تذكرها الكتب التي أُلفت في بيان فنّ مصطلح الحديث، لذا فإن طالب العلم إذا درس هذا الكتاب، وفهم مصطلحات الترمذي، تمكن من هذا الفن.

(1)

"شروط الأئمة الستة" لابن طاهر (101).

ص: 51

‌سابعا: حسن أدبه مع أهل العلم،

ويظهر هذا في عرضه لأقوال أهل العلم، فتجد أن بعضهم يقول قولا خلاف النص، فتجد أبا عيسى لا يجرح هذا القائل، وإنما يكتفي بقوله: وهذا أصح. أي: القول الموافق للحديث.

ثامنا: أنه حامل علم البخاري.

وسيأتي شرح هذه المزايا في الفصول القادمة.

ص: 52

‌الفصل الخامس في أنه حامل علم البخاري

مما تميز به أبو عيسى أنه نقل كثيرا من علم محمد بن إسماعيل البخاري بعده، فهو حامل علمه، وقد استخرج منه كلاما كثيرا في نقد الرواة والأحاديث، فليس هناك مصدر لكلام البخاري - بعد كتبه - أوسع من كتب الترمذي.

قال عمر بن علك: (مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد)

(1)

.

وما قاله عمر بن علك ظاهر، ففي "الجامع" و"العلل" لأبي عيسى كلام كثير منقول عن البخاري.

ولهذا ميزات كثيرة سيأتي بيانها وشرحها، ومن أهمها -كما سوف يأتي-: أن للبخاري أقوالا تخالف بعض ما ذكره في كتبه، فيعتبر ما نقله أبو عيسى هو القول المتأخر.

وسأذكر هنا بعض المباحث المتعلقة بهذا الموضوع:

* * *

‌أولا: رواية الترمذي عن البخاري، ونقله من كتبه:

نُقُول أبي عيسى عن البخاري بعضها من كتبه رواية عنه، وبعضها أخذها منه مشافهة.

(1)

"سير أعلام النبلاء"(13/ 273).

ص: 53

وقد روى أبو عيسى عن البخاري عدة أحاديث.

ومن كتبه التي صرح بذكرها الترمذي:

1 -

كتاب "الجامع الصحيح":

اطّلع أبو عيسى على كتاب "الجامع الصحيح"، وصرح بذكره في بعض المواضع من "جامعه"، ومن ذلك:

قال رحمه الله: (حدثنا هناد، وقتيبة، قالا: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته، فقال:"التمس لي ثلاثة أحجار"، قال: فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال:"إنها ركس".

قال أبو عيسى: وهكذا روى قيس بن الربيع هذا الحديث، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله نحو حديث إسرائيل.

وروى معمر، وعمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله.

وروى زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله.

وروى زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله.

وهذا حديث فيه اضطراب.

قال أبو عيسى: سألت عبد الله بن عبد الرحمن: أي الروايات في هذا عن أبي إسحاق أصح؟ فلم يقض فيه بشيء، وسألت محمدا عن هذا، فلم يقض فيه بشيء وكأنه رأى حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن

ص: 54

بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله أشبه، ووضعه في كتاب الجامع. . . الخ)

(1)

.

2 -

كتاب "التاريخ":

اطّلع الترمذي أيضا على كتاب "التاريخ" للبخاري، واستفاد منه، بل قال في "العلل الصغير":(وما كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ فهو ما استخرجته من كتاب "التاريخ")

(2)

.

قال ابن رجب: (فقد ذكر أن أكثر كلامه فيه استخرجه من كتاب تاريخ البخاري، وهو كتاب جليل لم يسبق إلى مثله - رحمه الله تعالى -، وهو جامع لذلك كله)

(3)

.

وذكره أيضا في "جامعه"، فقال:(وأبو لبابة هذا شيخ بصري، قد روى عنه حماد بن زيد غير حديث، ويقال اسمه: مروان. أخبرنا بذلك محمد بن إسماعيل في كتاب "التاريخ")

(4)

.

3 -

كتاب "الفوائد":

قال رحمه الله: (وسمعت محمد بن إسماعيل يحدث بهذا عن أبي كريب، ووضعه في كتاب "الفوائد")

(5)

.

وأما ما أخذه عن البخاري مشافهة فهو كثير جدا، وقد قال الترمذي في "العلل الصغير" آخر كتابه "الجامع":(وما كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ، فهو ما استخرجته من كتاب "التاريخ"، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد بن إسماعيل، ومنه ما ناظرت به عبد الله بن عبد الرحمن، وأبا زرعة، وأكثر ذلك عن محمد).

(1)

"الجامع"(1/ 285)(16).

(2)

"الجامع"(5/ 9).

(3)

"شرح علل الترمذي"(1/ 33).

(4)

"الجامع"(4/ 40).

(5)

"الجامع"(4/ 505).

ص: 55

ثم قال: (ولم أر أحدا بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبيرَ أحدٍ أعلم من محمد بن إسماعيل)

(1)

.

ويعتبر كتابا "الجامع" و"العلل"

(2)

للترمذي المصدر الثاني لأقوال البخاري بعد كتبه، فهو من نشر علمه، ويعتبر من أجلّ تلاميذه، حتى الإمام مسلم وهو من تلاميذ البخاري لم يَرو عنه ولا حديثا واحدا في كتابه.

* * *

‌ثانيا: ميزات نقول الترمذي عن البخاري:

1 -

أنّ في هذه السؤالات التي وجهها أبو عيسى الترمذي لشيخه البخاري كما كبيرا من المعلومات والفوائد فيما يتعلق بالعلل والصناعة الحديثية والحكم على الرواة، ولولا أن الله عز وجل يسر لأبي عيسى سؤال البخاري لما وصلتنا هذه الفوائد، كما تقدم

(3)

.

2 -

أن هذه الأقوال تعتبر آخر أقوال البخاري، فإذا وقع خلاف بين أقوال البخاري فإنه يؤخذ بما جاء في "الجامع" و"العلل؛ لأن هذا يعتبر القول الأخير له، لكن ينبغي أن يلاحظ أن لأقواله التي سطرها في كتبه ميزة على غيرها؛ وذلك لأن فيها أقواله المحررة.

وأحيانا ينبه الترمذي على بعض المسائل التي يكون للبخاري فيها أكثر من قول، ومن ذلك:

قال رحمه الله: (وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث

(4)

، فلم

(1)

"الجامع"(5/ 9).

(2)

مع ملاحظة أن العلل أكثره موجود في "الجامع".

(3)

له تصحيحات وتحسينات وتعليلات كثيرة في كتب الترمذي.

(4)

يشير إلى حديث: عكرمة، عن ابن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف قال: عبأنا النبي صلى الله عليه وسلم ببدر ليلا.

ص: 56

يعرفه، وقال: محمد بن إسحاق سمع من عكرمة، وحين رأيته كان حَسَن الرأي في محمد بن حميد الرازي، ثم ضعفه بعد)

(1)

.

‌وبناء على ما تقدم يمكن تقسيم أحوال البخاري بالنسبة إلى اجتهاداته واختياراته إلى ثلاثة أقسام:

الأول: قبل أن يلتقي به أبو عيسى، فإن له أقوالا تخالف أقواله بعدما التقى به، ومن ذلك ما سبق ذكره قريبا عندما سأله عن حديث ابن مسعود عندما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي له بثلاثة أحجار فأتى له بحجرين وروثة

الحديث، فهذا الحديث قد خرجه في كتابه "الجامع"، ولكن عندما التقى به أبو عيسى وسأله عن الراجح في الاختلاف الذي وقع فيه لم يحكم بشيء.

الثاني: عندما التقى به أبو عيسى.

والثالثة: بعد لقائه به إلى وفاته.

ويدل على الثانية والثالثة كلامه في محمد بن حميد الرازي المتقدم، فذكر قوله حين التقى به، وتغير قوله فيه بعد ذلك.

وهذا يفيد أن الإمام البخاري لم يزل جادا في طلب العلم ومجتهدا فيه إلى وفاته، وهذا كما حكي عن الإمام أحمد أنه قال: مع المحبرة إلى المقبرة.

لذا اشتهر عنه أنه ألف مؤلفاته ثلاث مرات، وهذا يفيد أنه في كل مرة قد يزيد وقد ينقص وقد يغير، وهذا يؤكد ما تقدم.

ومما يؤكد ذلك أنه ذكر في "التاريخ الكبير" وفيات بعض الذين ترجم لهم مع تأخرها.

(1)

"الجامع"(3/ 32).

ص: 57

3 -

أن هذه المادة العلمية تعتبر موثقة لأقواله التي وصلتنا من خلال كتبه، وهذا عند الاتفاق، وأما عند وجود الاختلاف فتعتبر هذه المادة كنسخة أخرى.

وقد تكون هذه النقول مما أخذه مشافهة عنه، ومن أمثلة ذلك:

قال أبو عيسى رحمه الله: (سمعت محمد بن إسماعيل يقول: قال بعض أهل الحديث: فقه هذا الحديث أن القراءة على العالم والعرض عليه جائز مثل السماع، واحتج بأن الأعرابي عرض على النبي صلى الله عليه وسلم، فأقر به النبي صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

قلت: وهذا قد بوب عليه البخاري في كتابه "الصحيح"

(2)

، فيكون ما نقله أبو عيسى تأكيدا لقوله وأنَّه لم يغير قوله في ذلك.

4 -

أن هذه المادة موضحة وشارحة لمنهج البخاري أكثر مما في كتابه "الجامع"، وذلك لأن منهج البخاري في كتابه إنما يؤخذ من تصرفاته وإشاراته، بينما هنا يؤخذ من نصوص أقواله، لذا كم من حديث نقل عنه أبو عيسى تصحيحه، أو تحسينه، أو تضعفيه، أو شرح، وبيان لتعليله؟

ومن الأمثلة على ذلك:

المثال الأول: مسألة السماع بين الراوي وشيخه، فقد أعل أحاديث بعدم السماع وردها بذلك، فكان كثيرا ما يقول: لا يعرف له سماع، وفي المقابل عندما يصحح الحديث في بعض الأحيان، من أجل تأكيد هذا التصحيح يقول: فلان سمع من فلان.

ومن ذلك:

(1)

"الجامع"(2/ 45).

(2)

ينظر: "صحيح البخاري"(1/ 22).

ص: 58

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا يحيى بن أكثم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المرأة لتأخذ للقوم"، يعني: تجير على المسلمين.

وفي الباب عن أم هانئ، وهذا حديث حسن غريب.

وسألت محمدا فقال: هذا حديث صحيح، وكثير بن زيد قد سمع من الوليد بن رباح، والوليد بن رباح سمع من أبي هريرة، وهو مقارب الحديث)

(1)

.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا الفضل بن موسى، حدثنا أبو فروة الرهاوي، عن معقل الكناني، عن عبادة بن نسي، عن أبي سعد الخير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يكتب على الليل الصيام فمن صام فليتعن ولا أجر له".

سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: أرى هذا الحديث مرسلا، وما أرى عبادة بن نسي سمع من أبي سعد الخير)

(2)

.

3 -

وقال أيضا: (حدثنا علي بن حجر، حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف، وجبة صوف، وكمة صوف، وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت".

سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: حميد بن علي الأعرج الكوفي منكر الحديث، وقد روى عنه عبيد الله بن موسى. قلت له: عبد الله بن الحارث

(1)

"الجامع"(2/ 589)، وينظر تعليق المحققين.

(2)

"العلل الكبير"(ص: 113)(196).

ص: 59

سمع من ابن مسعود؟ قال: قد روى عنه، ولا أعرف له سماعا منه)

(1)

.

4 -

وقال أيضا: (حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا مكة وله أربع غدائر.

سألت محمدا قلت له: مجاهد سمع من أم هانئ؟ قال: روى عن أم هانئ، ولا أعرف له سماعا منها)

(2)

.

5 -

وقال أيضا: (حدثنا واصل بن عبد الأعلى الكوفي، حدثنا محمد بن فضيل، عن الحسن بن عمرو، عن أبي الزبير، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم فقد تودع منهم".

سألت محمدا عن هذا الحديث قلت له: أبو الزبير سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: قد روى عنه، ولا أعرف له سماعا منه)

(3)

.

6 -

قال أبو عيسى: (قال محمد: قتادة لا أرى له سماعا من بشير بن نهيك، وبشير بن نهيك لا أرى له سماعا من أبي هريرة.

حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا وكيع، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، عن بشير بن نهيك، قال: أتيت أبا هريرة بكتاب، وقلت له: هذا حديث أرويه عنك؟ قال: نعم)

(4)

.

ونقل العلائي ما سبق عن البخاري، ثم قال: (وقد احتج هو ومسلم في كتابيهما بروايته عن أبي هريرة، والجمع بين ذلك أن وكيعا روى عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، عن بشير بن نهيك قال: أتيت أبا هريرة

(1)

"العلل الكبير"(ص: 285)(522).

(2)

"العلل الكبير"(ص: 294)(545).

(3)

"العلل الكبير"(ص: 382)(716).

(4)

"العلل الكبير"(ص: 207). (367، 368).

ص: 60

بكتاب، وقلت له هذا حديث أرويه عنك؟ قال: نعم. والإجازة أحد أنواع التحمل، فاحتج به الشيخان لذلك، وما ذكره الترمذي ليس فيه إلا نفي السماع فلا تناقض)

(1)

.

قلت: وما ذكره العلائي وجيه، إلا أنه يعكر على ذلك ما قاله البخاري في "تاريخه الكبير" أنه سمع

(2)

.

وعلى كلا القولين فإن تحمل بشير بن نهيك عن أبي هريرة صحيح، إما أن يكون سماعا أو إجازة.

المثال الثاني: أن البخاري حكم بـ"حسن" على بعض الأحاديث وخرّجها في "صحيحه".

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ} [الزخرف: 77].

سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن، وهو حديث ابن عيينة الذي ينفرد به)

(3)

.

2 -

وقال أيضا في ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد: (وسألت محمدا عن هذا الحديث فقال: حديث عبد الرحمن بن كعب، عن جابر بن عبد الله في شهداء أحد، هو حديث حسن)

(4)

.

(1)

"جامع التحصيل"(ص: 150).

(2)

"التاريخ الكبير"(2/ 105).

(3)

"العلل الكبير"(ص: 88)(143)، والحديث في "صحيح البخاري"(3230).

(4)

"العلل الكبير"(ص: 145 - 146)(251)، والحديث في "صحيح البخاري"(1343).

ص: 61

4 -

وقال أيضا في ما جاء في حد السكران: (قال محمد: وحديث أنس في هذا الباب حسن.

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت قتادة، يحدث عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي برجل قد شرب الخمر فضربه بجريدتين نحو الأربعين، وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف: كأخف الحدود، فأمر به عمر)

(1)

.

قلت: جميع هذه الأحاديث حسنها البخاري هنا، وخرجها في كتابه "الصحيح"، وليعلم أن المتقدمين يطلقون الحسن ويريدون به أشياء، وليس شيئا واحدا كما هو حال المتأخرين الذين يطلقونه على رواية الثقة الذي خف ضبطه، فمثلا الحديث الأول: يعني بالحسن هنا الغرابة، وأن ابن عيينة تفرد به.

وعلى هذا لا يكون الحكم بحسن الحديث مخالفا للحكم بصحته.

* * *

‌ثالثا: ما خالف فيه الترمذيُّ البخاريَّ، أو استدركه عليه:

قد يظن ظانٌّ أن الترمذي إنما يتابع شيخه البخاري في كل شيء، وهذا غير صحيح، بل الترمذي إمام مجتهد، وقد وافق البخاري في مسائل كثيرة، ولكنه خالفه أيضا في مسائل عديدة، واستدرك عليه مسائل أخرى، فمن المسائل التي خالفه فيها:

1 -

قال رحمه الله: (سألت محمد بن إسماعيل، عن محمد - يعني: ابن

(1)

"العلل الكبير"(ص: 231 - 232). (418 - 419)، وهو في "صحيح البخاري"(6773، 6776).

ص: 62

فضيل - ورشدين بن كريب أيهما أوثق؟ قال: ما أقربهما، ومحمد عندي أرجح.

وسألت عبد الله بن عبد الرحمن، عن هذا؟ فقال: ما أقربهما، ورشدين بن كريب أرجحهما عندي.

والقول عندي ما قال أبو محمد - يعني: الدرامي -، ورشدين أرجح من محمد وأقدم، وقد أدرك رشدين ابن عباس ورآه)

(1)

.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا يحيى بن أكثم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المرأة لتأخذ للقوم"، يعني: تجير على المسلمين.

وفي الباب عن أم هانئ، وهذا حديث حسن غريب.

وسألت محمدا فقال: هذا حديث صحيح، وكثير بن زيد قد سمع من الوليد بن رباح، والوليد بن رباح سمع من أبي هريرة، وهو مقارب الحديث)

(2)

.

3 -

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن أبي معمر، قال: قام رجل فأثنى على أمير من الأمراء، فجعل المقداد يحثو في وجهه التراب وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المدّاحين التراب.

وقال يزيد بن أبي زياد: عن مجاهد، عن ابن عباس، عن المقداد من حديث أبي أسامة، عن زائدة، عن يزيد.

سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: رواه جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد أن المقداد مرسل.

(1)

"الجامع"(4/ 255)، وينظر تعليق المحققين.

(2)

"الجامع"(2/ 589)، وينظر تعليق المحققين.

ص: 63

ويروى عن يزيد، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وروى حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن المقداد.

قال محمد: وحديث يزيد، عن مجاهد مرسلا أصح.

ويزيد بن أبي زياد صدوق ولكنه يغلط.

قال أبو عيسى: وحديث حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن المقداد هو عندي أصح من حديث يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد عن ابن عباس)

(1)

.

4 -

وقال أيضا: (حدثنا أبو السائب، حدثنا حفص بن غياث، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام.

فسألت محمدا عن هذا الحديث فقال: هذا حديث فيه نظر.

قال أبو عيسى: لا يعرف عن عبيد الله إلا من وجه رواية حفص، وإنما يعرف من حديث عمران بن حدير، عن أبي البزري، عن ابن عمر، وأبو البزري اسمه يزيد بن عطارد)

(2)

.

قلت: قال الترمذي في "الجامع": حسن صحيح غريب

(3)

.

5 -

وقال أيضا: (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".

(1)

"العلل الكبير"(ص: 330 - 331). (613).

(2)

"العلل الكبير"(ص: 310 - 311). (578).

(3)

"الجامع"(3/ 132). (2002)، وكذا هو في "تحفة الأشراف"(6/ 125)(7821).

ص: 64

قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق، عن محمد ابن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحديث أبي سلمة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما عندي صحيح؛ لأنَّه قد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وحديث أبي هريرة إنما صح؛ لأنَّه قد روي من غير وجه.

وأما محمد فزعم أن حديث أبي سلمة، عن زيد بن خالد أصح)

(1)

.

6 -

وقال أيضا: (فسألت محمدا عن هذا الحديث أيهما أصح فقال: حديث زيد بن خالد أصح.

قال أبو عيسى: وحديث أبي سلمة عن أبي هريرة عندي هو صحيح أيضا؛ لأن هذا الحديث معروف من حديث أبي هريرة وفي حديث أبي سلمة عن زيد بن خالد زيادة ما ليس في حديث أبي هريرة، وكلاهما عندي صحيح)

(2)

.

7 -

وقال أيضا: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا زكريا بن إسحاق قال: حدثني عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رجلا قال: يا رسول الله، إن أمي توفيت، أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال:"نعم"، قال: فإن لي مخرفا، فأشهدك أني قد تصدقت به عنها.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وبه يقول أهل العلم، يقولون: ليس شيء يصل إلى الميت إلا الصدقة والدعاء.

(1)

"الجامع"(1/ 290). (22).

(2)

"العلل الكبير"(ص: 31). (14).

ص: 65

وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا)

(1)

.

قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه"

(2)

، وحسنه الترمذي.

* * *

‌ومن أمثلة ما استدركه الترمذي على البخاري:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو الوليد، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: من يرثك؟ قال أهلي وولدي، فقالت: مالي لا أرث أبي؟ فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورَّث"، ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق عليه.

سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: لا أعلم رواه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مثل هذا إلا حماد بن سلمة.

قال أبو عيسى: قد رواه عبد الوهاب بن عطاء.

حدثنا علي بن عيسى بن يزيد البغدادي، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن فاطمة. . . الحديث)

(3)

.

* * *

‌رابعا: ما توقف فيه البخاري، ورجح فيه الترمذي:

هناك أشياء توقف فيها البخاري، وأما الترمذي فترجح له بعضها على بعض، ومن ذلك:

(1)

"الجامع"(2/ 74). (674).

(2)

(2770).

(3)

"العلل الكبير"(ص: 265). (484).

ص: 66

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن كثير العنبري، حدثنا علي بن المبارك، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني حية بن حابس التميمي، قال: حدثني أبي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا شيء في الهام، والعين حق، وأصدق الطيرة الفأل".

سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: روى علي بن المبارك وحرب ابن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن حية بن حابس التميمي، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى شيبان هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، عن حية بن حابس، عن أبيه، عن أبي هريرة.

قال: قلت له: كيف علي بن المبارك؟ قال صاحب كتاب، وشيبان صاحب كتاب، ولم أر محمدا يقضي في هذا الحديث بشيء.

قال أبو عيسى: وكأن حديث على بن المبارك أشبه لما وافقه حرب ابن شداد)

(1)

.

2 -

وقال: (حدثنا إبراهيم بن سعد الجوهري والحسين بن الحسن المروزي بمكة قالا: حدثنا الأحوص بن جواب، عن سعير بن الخمس، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليه معروفا فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء".

هذا حديث حسن جيد غريب

(2)

، لا نعرفه من حديث أسامة بن زيد إلا من هذا الوجه، وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

(1)

"العلل الكبير"(ص: 266). (486، 487).

(2)

هكذا هو في سائر نسخ الترمذي التي وقفت عليها، وفي "تحفة الأشراف" (1/ 51) (103):(حسن صحيح غريب).

ص: 67

وسألت محمدا عن هذا الحديث فلم يعرفه)

(1)

.

قلت: فالترمذي هنا عرف الحديث وحكم عليه.

وتوقُّفُ البخاري في إجاباته عن أسئلة الترمذي له أمثلة متعددة، ولعل من أسباب ذلك - والله أعلم - أن سؤاله كان شفهيا، وقد يكون من أسباب ذلك أيضا تحري البخاري وتورعه.

* * *

‌استفادة البخاري من تلميذه الترمذي، وروايته عنه:

قال أبو عيسى: (قال لي محمد بن إسماعيل: ما انتفعتُ بك أكثر مما انتفعتَ بي)

(2)

.

ومن أمثلة ما استفاده البخاري من الترمذي:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا أبو كريب، وأبو السائب، وحسين بن الأسود البغدادي، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد".

سألت محمدا، قال: هذا حديث أبي كريب.

فقلت له: حدثنا غير واحد عن أبي أسامة، فجعل يتعجب منه ولم يعرفه إلا من حديثه)

(3)

.

قلت: وهذا كما يدخل في الاستفادة، فإنه يدخل في الاستدراك أيضا.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

(1)

"الجامع"(3/ 200)(2166).

(2)

"تهذيب التهذيب"(3/ 669).

(3)

"العلل الكبير"(ص: 303 - 304)(565).

ص: 68

سئل عن الدجال فقال: "ألا إن ربكم ليس بأعور، ألا إن الدجال أعور عينه اليمنى كأنها عنبة طافية".

سألت مُحمدًا عن هذا الحديث فلم يعرفه من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. وقد رواه مالك وغير واحد، عن نافع، عن ابن عمر.

ما جاء في قتل عيسى ابن مريم عليه السلام الدجالَ.

حدثنا إبراهيم عن سعيد، حدثنا ريحان بن سعيد، عن عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيدرك رجال من أمتي عيسى ابن مريم ويشهدون قتال الدجال".

سألت مُحمدًا عن هذا الحديث فلم يعرفه واستحسنه جدا)

(1)

.

3 -

وقال أيضا: (حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، حدثنا محمد بن ثابت البناني، حدثني أبي، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".

وبهذا الإسناد عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيلكرم ضيفه. . ." الحديث.

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر".

سألت محمدا عن هذه الأحاديث فلم يعرف شيئا، وقال: لمحمد بن ثابت عجائب)

(2)

.

(1)

"العلل الكبير"(ص: 327). (604، 605).

(2)

"العلل الكبير"(ص: 313)(852 - 584).

ص: 69

‌وقد سمع البخاري من الترمذي بعض الأحاديث:

1 -

قال بعد أن أخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "يا علي، لا يحل لأحد يُجنِب في هذا المسجد غيري وغيرك"، قال:(هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد سمع محمد بن إسماعيل مني هذا الحديث فاستغربه)

(1)

.

2 -

وقال بعد أن أخرج حديث ابن عباس في قول الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} قال: اللينة النخلة. . . الخ، قال: (هذا حديث حسن غريب.

وروى بعضهم هذا الحديث عن حفص بن غياث، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير مرسلا ولم يذكر فيه عن ابن عباس.

حدثني بذلك عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا هارون بن معاوية، عن حفص بن غياث، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا)

(2)

.

في بعض النسخ زيادة: سمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث.

وقال في "العلل الكبير"

(3)

: (سألت محمدا عن هذا الحديث فلم يعرفه واستغربه وسمعه مني، وذاكرت بهذا الحديث عبد الله بن عبد الرحمن فقال: أخبرنا مروان بن معاوية، عن حفص بن غياث، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير نحو هذا الحديث، ولم يذكر فيه: عن ابن عباس).

* * *

(1)

"الجامع المختصر"(4/ 9). "الجامع"(4/ 499)(4079).

(2)

"الجامع"(4/ 269). (3608).

(3)

(ص: 358). (666).

ص: 70

‌الفصل السادس في ورعه في الجرح والتعديل

مما تميز به الترمذي ورعُه في باب الجرح واقتصاده في ذلك، والدليل على ذلك كلامه في هذا الباب كما سوف يأتي، ومن أجل ذلك ظن بعض الناس أنه متساهل في هذا الباب، وهذا ليس في نقد الرواة فقط وإنما أيضا في حكمه على الأحاديث، وسيأتي بإذن الله الجواب عن ذلك.

فتجد أنه إذا تكلم في راوٍ كثيرا ما ينص على أن هذا الكلام في حفظه وحسبُ، وليس في دينه وعدالته، فلا يطلق الضعف إلا ويقيده غالبا، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

عبد الله بن محمد بن عقيل، قال عنه:(هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه)

(1)

.

2 -

عبد الله بن عمر العمري، قال عنه:(يضعف من قبل حفظه)

(2)

، وقال في موضع آخر:(ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث)

(3)

.

3 -

إسماعيل بن مسلم المكي، قال عنه:(يضعف في الحديث من قبل حفظه)

(4)

، وقال في موضع آخر:(قد تكلموا فيه من قبل حفظه)

(5)

.

قلت: مع أن كلام الحفاظ في إسماعيل شديد، فبعضهم قال: منكر

(1)

"الجامع"(1/ 275).

(2)

"الجامع"(3/ 137).

(3)

"الجامع"(1/ 346).

(4)

"الجامع"(2/ 518).

(5)

"الجامع"(2/ 186)، وزيادة:(من قبل حفظه) في بعض النسخ.

ص: 71

الحديث، وبعضهم قال: متروك، وبعضهم قال: ليس بشيء، وبعضهم قال: واه جدا، فكلامهم فيه شديد، ولم يستثن الإمام أحمد من روايته إلا ما رواه عن الحسن في القراءات

(1)

.

4 -

حارثة بن أبي الرجال، قال عنه:(قد تكلم فيه من قبل حفظه)

(2)

.

5 -

أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي، قال عنه:(وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه)

(3)

.

قلت: وحارثة وأبو معشر قريبان من إسماعيل بن مسلم.

6 -

زيد بن جَبيرة، قال عنه:(وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه)

(4)

.

قلت: وهو متروك.

7 -

محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، قال عنه:(وقد تكلم بعض أهل العلم في ابن أبي ليلى من قبل حفظه)

(5)

.

8 -

إبراهيم بن يزيد الخوزي، قال عنه:(وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه)

(6)

.

قلت: هو متروك، ولا يخفى هذا على الترمذي، وإنما هذا من تورعه فيما يظهر، فقد قال عنه البخاري: سكتوا عنه

(7)

.

وربما قيد الضعف بأنه في الحديث، كما قال في موسى بن عبيدة

(1)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 167).

(2)

"الجامع"(1/ 427).

(3)

"الجامع"(3/ 253).

(4)

"الجامع"(1/ 485).

(5)

"الجامع"(1/ 493).

(6)

"الجامع"(2/ 152).

(7)

"التاريخ الكبير"(1/ 336).

ص: 72

الربذي، قال:(يضعف في الحديث من قبل حفظه، وهو صدوق)

(1)

.

قلت: أي صدوق في نفسه

(2)

.

وربما استخدم عبارة "يضعف في الحديث"، وهي عبارة لينة في حق بعض المتروكين، أو شديدي الضعف، ومن ذلك:

1 -

أشعث بن سعيد، قال عنه:(يضعف في الحديث)

(3)

.

2 -

عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال عنه:(يضعف في الحديث)

(4)

.

3 -

حسين بن قيس الرحبي، قال عنه:(يضعف في الحديث من قبل حفظه)

(5)

.

4 -

محمد بن عبيد الله العرزمي، قال عنه:(يضعف في الحديث من قبل حفظه)

(6)

.

قلت: وهؤلاء كلهم متروكون.

ومثل قوله: "يضعف في الحديث": (ليس بالقوي في الحديث)، وقد وجدت له أربعة رواة استعمل فيهم هذا الحكم، وهم:

1 -

بشر بن رافع، قال عنه:(ليس بالقوي في الحديث)

(7)

.

قلت: هو ضعيف الحديث، يحدث بأحاديث منكرة.

(1)

"الجامع"(2/ 345).

(2)

أحيانا قد يطلق الضعف، ولكن يذكر من قوى الراوي، أو أثنى عليه، ونحو ذلك، وهذا يدخل فيما تقدم التنبيه عليه.

(3)

"الجامع"(1/ 484)، (4/ 62).

(4)

"الجامع"(2/ 101).

(5)

"الجامع"(2416) ط. بشار.

(6)

"الجامع"(2/ 441).

(7)

"الجامع"(2/ 259).

ص: 73

2 -

أبو جناب يحيى بن أبي حية، قال عنه:(ليس هو بالقوي في الحديث)

(1)

.

3 -

سهيل بن عبد الله بن أبي حازم القطعي، قال عنه:(ليس بالقوي في الحديث)

(2)

.

4 -

عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير، قال عنه:(ليس هو بالقوي في الحديث)

(3)

.

قلت: وهو منكر الحديث، واهي الحديث، وقد حدث بحديث باطل، وهو حديث السوق.

هذا كل ما وجدت له من خلال البحث في الحاسوب ممن قال عنهم: "ليس بالقوي في الحديث".

ويلاحظ في هذه الأمثلة أن التقييد هو الأكثر، وهذا من ورعه كما تقدم، مع أنه يلاحظ على استعمالات الأئمة لهذه العبارة:(ليس بالقوي) أنهم يطلقونها ولا يقيدونها، وذلك لأن المقصود معروف، وهو عدم القوة في الحديث؛ فلذا لم يحتاجوا إلى تقييدها، وتقييد الترمذي لهذه العبارة إنما هو لورعه.

ويؤيد هذا أن بعض من قال عنهم ذلك من المتروكين أو ضعفهم ظاهر، كعمرو بن دينار قهرمان ابن الزبير، وبشر بن رافع.

ويوضح ما تقدم بصورة أوضح وأظهر قوله في "العلل الكبير"

(4)

عن صالح المري: (رجل صالح ثقة، تفرد بأحاديث عن الثقات، يخاف عليه الغلط).

(1)

"الجامع"(4/ 279).

(2)

"الجامع"(4/ 289).

(3)

"الجامع"(4/ 347).

(4)

(ص: 389).

ص: 74

وهذا تلطف منه في العبارة، وليس تساهلا، بدليل أنه نقل عن البخاري قبل ذلك أنه قال:(هو ضعيف الحديث ذاهب الحديث)، وهذا تضعيف شديد من البخاري له.

ويلاحظ أيضا أن أبا عيسى كثيرا ما ينسب الحكم إلى أهل العلم أو أهل الحديث أو بعض الحفاظ الذين ينقل عنهم، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

خارجة بن مصعب، قال عنه:(ليس بالقوي عند أصحابنا، وضعفه ابن المبارك)

(1)

.

2 -

الخليل بن مرة، قال عنه:(ليس بالقوي عند أصحاب الحديث، قال محمد بن إسماعيل: هو منكر الحديث)

(2)

.

3 -

حسين بن قيس، وهو أبو علي الرحبي، قال عن البخاري:(منكر الحديث، روى عنه، سليمان التيمي ويقول: عن حنش، وهو حنش ابن قيس، وهو أبو علي الرحبي، وضعفه جدا)

(3)

.

4 -

محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، نقل عن البخاري أنه قال عنه:(صدوق، إلا أنه لا يُدْرَى صحيح حديثه من سقيمه. قال: وضعف حديثه جدا)

(4)

.

5 -

سويد بن سعيد، نقل عن البخاري أنه ضعفه جدا

(5)

.

6 -

جابر الجعفي، نقل عن البخاري أنه ضعفه جدا

(6)

.

7 -

إسماعيل بن مسلم المكي، نقل عن البخاري أنه ضعفه جدا

(7)

.

(1)

"الجامع"(1/ 311).

(2)

"الجامع"(4/ 367).

(3)

"العلل الكبير"(ص: 391).

(4)

"العلل الكبير"(ص: 392).

(5)

"العلل الكبير"(ص: 394).

(6)

"العلل الكبير"(ص: 228).

(7)

"العلل الكبير"(ص: 237).

ص: 75

8 -

موسى بن عبيدة الربذي، قال عنه: يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد، وأحمد بن حنبل

(1)

.

بل إن أبا عيسى رحمه الله أحيانا ينقل عن الأئمة كلاما في بعض الرواة يقتصد فيه ويرويه بالمعنى، مع أن هذا الإمام قد جرح هذا الراوي جرحا شديدا، كقوله:(محمد بن القاسم تكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه، وليس بالحافظ)

(2)

.

قلت: وكلام الإمام أحمد في محمد بن القاسم شديد، قال عبد الله بن أحمد:(سمعتُ أَبي يقول: محمد بن القاسم، يكذب، أحاديثه أحاديث موضوعة، ليس بشيء)

(3)

. وقال المروذي: وذكر - أي الإمام أحمد - محمد ابن القاسم الأسدي، فقال:(ما يستأهل أن يحدث عنه بشيء، روى أحاديث مناكير)

(4)

.

والمقصود أن الغالب عليه الاقتصاد في الجرح، لذا نادرا ما يستعمل: منكر الحديث، لم يطلقها إلا على عدد قليل فيما وقفت عليه، وهم:

1 -

محمد بن أبي حميد، قال أبو عيسى:(محمد بن أبي حميد يضعف، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه، ويقال له: حماد بن أبي حميد، ويقال: هو أبو إبراهيم الأنصاري، وهو منكر الحديث)

(5)

.

2 -

إبراهيم بن عثمان أبو شيبة الواسطي، قال أبو عيسى:(منكر الحديث)

(6)

.

(1)

"الجامع"(4/ 109).

(2)

"الجامع"(1/ 490).

(3)

"العلل"(1899).

(4)

"العلل"(230) رواية المروذي.

(5)

"الجامع"(1/ 563).

(6)

"الجامع"(2/ 262).

ص: 76

3 -

حميد بن علي الكوفي الأعرج، قال أبو عيسى:(منكر الحديث)

(1)

.

4 -

عبد الله بن ميمون، قال أبو عيسى:(منكر الحديث)

(2)

.

5 -

عمرو بن واقد، قال أبو عيسى:(منكر الحديث)

(3)

.

قلت: قال في موضع آخر: (عمرو بن واقد يضعف)

(4)

، وهذا مثال آخر يضاف إلى ما تقدم من أنه يقتصد غالبا في عباراته.

6 -

محمد بن الحارث، قال عنه:(بصري، منكر الحديث)

(5)

.

7 -

زهير بن محمد، قال عنه:(منكر الحديث)

(6)

.

قلت: وهذا لعله في رواية الشاميين عنه، بخلاف رواية أهل العراق عنه فإنها مستقيمة

(7)

.

نعم هناك رواهُ آخرون نقل الترمذي عن البخاري أنه قال فيهم: (منكر الحديث)

(8)

.

(1)

"الجامع"(3/ 63).

(2)

"الجامع"(3/ 263).

(3)

"الجامع"(3/ 368).

(4)

"الجامع"(4/ 549).

(5)

"العلل الكبير"(ص: 396).

(6)

المصدر السابق.

(7)

قال الترمذي في "العلل الكبير"(ص: 395): (قال محمد: أحاديث أهل العراق عن زهير بن محمد مقاربة مستقيمة، ولكن، الوليد بن مسلم وأبو حفص عمرو بن أبي سلمة وأهل الشام يروون عنه مناكير، قال محمد: وكان أحمد يقول: كأن ما يروي أهل الشام عن زهير بن محمد هو رجل آخر، وقد قلبوا اسمه).

(8)

منهم: الحسن بن علي الهاشمي (1/ 307)، وعمر بن عبد الله بن أبي خثعم (1/ 533)(4/ 23)، وعمران بن أنس المكي (2/ 258)، وأبو واقد الليثي، صالح بن محمد بن زائدة (2/ 519)، وصالح بن حسان (3/ 82)، وأبو سورة، ابن أخي أبي أيوب الأنصاري (3/ 473)، والخليل بن مرة (3/ 540)(4/ 367)، ومحمد بن زاذان (3/ 558).

ص: 77

وأما لفظة (كذاب) ونحوها من عبارات الجرح الشديدة، بل حتى (شديد الضعف) أو (متروك)، فلم أقف على أنه استعملها، نعم نقل عن البخاري أنه قال في محمد بن سعيد الشامي:(ترك حديثه)

(1)

، مع أن محمد بن سعيد وضّاع ومشهور بذلك، وقد صلبه المنصور على الزندقة ومع ذلك لم يقل:(متروك) وإنما قال: (ترك حديثه) وهي ألطف من الأولى من جهتين: الأولى: أنه قيد ذلك في باب الرواية، والثانية: أنه أضاف الترك إلى غيره، ولم ينسب الحكم لنفسه.

وكذلك قال أبو عيسى في الحكم بن ظهير: (قد ترك حديثه بعض أهل الحديث)

(2)

، والحكم متروك، وقد كذبه يحيى بن معين في رواية عنه، ويقال فيه كما قيل في الذي قبله، بل وزاد هنا أنه قيده ببعض أهل الحديث.

وكذلك قال في محمد بن السائب الكلبي، قال:(قد تركه أهل العلم بالحديث)

(3)

.

نعم قد ينقل عن غيره تكذيب أحد الرواة، ومن ذلك:

1 -

قال عن محمد بن القاسم الأسدي: (قلت لمحمد: كيف محمد ابن القاسم الأسدي؟ فقال: كان أحمد يرميه بالكذب)

(4)

.

2 -

ومثله أيضا كوثر بن حكيم، قال:(سألت مُحمدًا فقال: كوثر بن حكيم له مناكير، كان أحمد يرميه بالكذب)

(5)

.

* * *

(1)

"الجامع"(4/ 405)، وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 94):(محمد بن سعيد الشامي، ويقال: ابن أبي قيس، ويقال: ابن الطبري، ويقال: ابن حسان، أبو عبد الرحمن، كان صُلب، متروك الحديث، قتل في الزندقة).

(2)

"الجامع"(4/ 391).

(3)

"الجامع"(4/ 120).

(4)

"العلل الكبير"(ص: 394).

(5)

"العلل الكبير"(ص: 395).

ص: 78

وكما أن أبا عيسى يقتصد في حكمه على الرواة، فإنه يفعل ذلك أيضا في حكمه على الحديث، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا يحيى بن موسى وعبد بن حميد، قالا: حدثنا روح بن عبادة، عن موسى بن عبيدة، أخبرني مولى ابن سباع، قال: سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلت عليه هذه الآية:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا بكر، ألا أقرئك آية أنزلت علي؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال: فأقرأنيها، فلا أعلم إلا أني وجدت في ظهري انقصاما، فتمطأت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما شأنك يا أبا بكر؟ " قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، وأينا لم يعمل سوءا؟ وإنا لمجزيون بما عملنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون، فتجزون بذلك في الدنيا، حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة".

هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، موسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد، وأحمد بن حنبل، ومولى ابن سباع مجهول، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبي بكر، وليس له إسناد صحيح أيضا)

(1)

.

قلت: فهذا الحديث قد قال عنه: غريب وفي إسناده مقال، مع أن إسناده شديد الضعف؛ لأن موسى بن عبيدة واهي الحديث، وإن كان من أهل الفضل، وهذا لا يخفى على أبي عيسى بدليل نقله لكلام الحفّاظ فيه، وقد قال عنه أحمد بن حنبل - الذي نقل عنه أبو عيسى تضعيفه -: ما تحل

(1)

"الجامع"(4/ 109)(3306).

ص: 79

الرواية عندي عنه. ولا شك أن هذا تضعيف شديد، وقد اكتفى أبو عيسى بنقله عن الإمام أحمد تضعيفه، وهذا تلطف منه.

وقد ذكر أيضا أبو عيسى علة أخرى في الإسناد، وهي تجهيل مولى ابن سباع.

فأصبح الحديث شديد الضعف، وقد اكتفى من هذا كله بقوله: في إسناده مقال، مع أن المتأمل في كلامه يعلم أن أبا عيسى قد أشار إلى ذلك في أثناء كلامه على هذا الحديث، ولكنه تلطف.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا بكر بن نضر، عن عبيد الله ابن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام"، في مثل هذا أنزلت هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] إلى آخر الآية.

وفي الباب عن عمر بن الخطاب.

حديث أبي أمامة إنما نعرفه مثل هذا من هذا الوجه، وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه، وهو شامي)

(1)

.

قلت: وهذا الحديث منكر، وهذا لا يخفى على أبي عيسى بدليل أنه أعاد هذا الحديث في التفسير فقال:(هذا حديث غريب، إنما يروى من حديث القاسم، عن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث، قاله محمد بن إسماعيل)

(2)

.

قلت: والشاهد من هذا نقله عن البخاري أنه ضعف علي بن يزيد، ونصُّ عبارة البخاري فيه: منكر الحديث.

(1)

"الجامع"(2/ 412)(1336).

(2)

"الجامع"(4/ 208)(3493).

ص: 80

ويزيد هذا وضوحا ما نقله أبو عيسى نفسه عن البخاري في "العلل الكبير": (سألت محمدا عن إسناد هذا الحديث، فقال: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي بن يزيد ذاهب الحديث، والقاسم بن عبد الرحمن مولى ثقة، قال محمد: هو القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن، مولى عبد الرحمن بن خالد بن يزيد بن معاوية)

(1)

.

3 -

وقال أيضا: (حدثنا الحسين بن حريث، قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن يزيد بن أبان، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مؤمن إلا وله بابان: باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، فذلك قوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29] ".

هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وموسى بن عبيدة، ويزيد بن أبان الرَّقاشي يضعَّفان في الحديث"

(2)

.

قلت: فهنا جرى على عادته في التلطف في الحكم، ويزيد بن أبان الرقاشي متروك، وموسى تقدم الكلام عليه.

4 -

وقال أيضا: (حدثنا علي بن حجر، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن نجيح، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قال: قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولينا استبدلوا بنا ثم لم يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان، قال:"هذا وأصحابه، والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس".

(1)

"العلل الكبير"(ص: 190).

(2)

"الجامع"(4/ 243)(3558).

ص: 81

وعبد الله بن جعفر بن نجيح هو والد علي بن المديني، وقد روى علي بن حجر، عن عبد الله بن جعفر الكثير. وحدثنا عليّ بهذا الحديث، عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن جعفر بن نجيح. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن العلاء نحوه، إلا أنه قال:"معلق بالثريا")

(1)

.

قلت: وهذا الحديث قد يظن أن أبا عيسى لم يضعفه، أو يظن أكثر من هذا بأنه يقويه، ولكن الصواب أن أبا عيسى قد بين ضعف مثل هذا الإسناد في مكان آخر، فقد ذكر بعد أحاديث من هذا الحديث حديثا رواه فقال: (حدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة".

هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن جعفر، وقد ضعف يحيى بن معين وغيره عبد الله بن جعفر، وهو والد علي بن المديني)

(2)

.

قلت: فهنا بين ضعف هذا الحديث الذي في إسناده عبد الله بن جعفر بأنه غريب، وأن عبد الله بن جعفر ضعفه يحيى بن معين وغيره.

وقد قال ابن معين -في رواية- عن عبد الله بن جعفر: ليس بشيء.

(1)

"الجامع"(4/ 246 - 247)(3564، 3565).

وهذا الحديث منكر، والصواب: أن هذه القصة إنما جاءت في تفسير قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع يده على سلمان، وقال:"لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء"، كما ثبت في الصحيحين، "صحيح البخاري"(4897)، و"صحيح مسلم"(2546).

(2)

"الجامع"(4/ 515)(4116).

ص: 82

فتبين من هذا أنه يضعف الحديث السابق.

5 -

وقال أيضا: (حدثنا عبد الرحمن بن واقد أبو مسلم، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد".

هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم، عن زهير ابن محمد.

قال ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يُروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني: لِمَا يروون عنه من المناكير.

وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة)

(1)

.

قلت: وهذا الحديث قد قال عنه أبو عيسى: حديث غريب، وقد بين أبو عيسى بعد ذلك أنه حديث ضعيف عنده، بل قد يذهب إلى أنه منكر، وذلك فيما نقله من كلام الحفاظ في زهير بن محمد، ويؤيد هذا قوله عنه في "العلل الكبير":(منكر الحديث)

(2)

.

وحكم الترمذي هذا إنما هو على هذا الإسناد؛ لأن هذا الحديث قد جاء من وجه آخر، وقد قواه بعض أهل العلم بهذين الوجهين.

6 -

وقال أيضا: (حدثنا عبد القدوس بن محمد العطار البصري،

(1)

"الجامع"(4/ 261)(3596).

(2)

"العلل الكبير"(ص: 396).

ص: 83

قال: حدثنا عمرو بن عاصم، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن موسى ابن طلحة قال: دخلت على معاوية فقال: ألا نبشرك؟ قلت: بلى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه".

هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث معاوية إلا من هذا الوجه، وإنما روي هذا عن موسى بن طلحة، عن أبيه)

(1)

.

قلت: وهذا الإسناد ضعيف، بل لعله شديد الضعف؛ لأن إسحاق بن يحيى بن طلحة ذهب بعض الحفاظ إلى أنه متروك، ولكن أبو عيسى تلطف في العبارة، بدليل قوله عن إسحاق في موضع آخر:(ليس بذاك القوي عندهم، تُكلم فيه من قبل حفظه)

(2)

.

* * *

‌وأئمة النقد في هذا الباب على قسمين:

فقسم منهم على هذا المسلك، حتى إنهم أحيانا يكتفون بالإشارة عن العبارة، كأن يشير إلى لسانه بدل أن يقول: يكذب، أو كذاب.

والقسم الآخر هم الذين يحكمون على الراوي بحسب ما ظهر منه، ولا يكتفون بالإشارة أو بالاقتصاد في العبارة، وإنما يصفون الراوي بما يستحق، فإن كان كذابا قالوا ذلك، وإن كان ممن يتفرد ولا يتابع على ما رواه قالوا: منكر الحديث، ونحو ذلك من عبارات الجرح الشديدة.

فمن أمثلة القسم الأول:

الإمام البخاري، فتجد أشد العبارات عنده: فيه نظر

(3)

، أو سكتوا

(1)

"الجامع"(4/ 212)(3501).

(2)

"الجامع"(3/ 533).

(3)

معناها: أن لهذا الراوي - عنده - منكرات.

ص: 84

عنه، أو سكتوا عنه وعن رأيه وحديثه، ونادرا ما يستعمل: كذاب. لذا قال البخاري رحمه الله: (إني أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا)

(1)

.

قال الذهبي معلقا على العبارة السابقة: (قلت: صدق رحمه الله ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه، فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر، ونحو هذا. وقلَّ أَنْ يقول: فلان كذاب، أو كان يضع الحديث، حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه.

وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا، وهذا هو والله غاية الورع.

قال محمد بن أبي حاتم الوراق: سمعته - يعني: البخاري - يقول: لا يكون لي خصم في الآخرة، فقلت: إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب "التاريخ"، ويقولون: فيه اغتياب الناس، فقال: إنما روينا ذلك رواية لم نقله من عند أنفسنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"بئس مولى العشيرة" يعني: حديث عائشة)

(2)

.

وقال ابن حجر: (وللبخاري في كلامه على الرجال توقٍّ زائدٌ وتحرٍّ بليغٌ يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل؛ فإن أكثر ما يقول: سكتوا عنه، فيه نظر، تركوه، ونحو هذا، وقلّ أَنْ يقول: كذاب، أو وضاع، وإنما يقول: كذبه فلان، رماه فلان، يعني بالكذب)

(3)

.

وممن سار على هذا المنهج أبو زرعة، قال الذهبي:(يعجبني كثيرا كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل، يبين عليه الورع والمخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم، فإنه جراح)

(4)

.

(1)

"تاريخ بغداد" للخطيب (2/ 13).

(2)

"سير أعلام النبلاء"(12/ 439).

(3)

"هدى الساري"(481).

(4)

"سير أعلام النبلاء"(13/ 81).

ص: 85

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

سعيد بن المرزبان العبسي، أبو سعد البقال، قال أبو زرعة: لين الحديث ومدلس. قيل: هو صدوق؟ قال: نعم، كان لا يكذب

(1)

.

مع أن ابن معين قال: ليس بشيء لا يكتب حديثه

(2)

، وقال البخاري عنه: منكر الحديث

(3)

. وقال النَّسَائِي: ضعيف. وقال في موضع آخر: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه

(4)

.

2 -

سليمان بن أبي داود الحراني، قال أبو زرعة: لين الحديث

(5)

.

قلت: قال أبو حاتم: ضعيف الحديث جدا

(6)

، وقال البخاري: منكر الحديث

(7)

.

3 -

عمر بن راشد بن شجرة، قال أبو زرعة: لين الحديث

(8)

.

قلت: هو واهي الحديث.

4 -

عمر بن شبيب المسلي، قال أبو زرعة: لين الحديث

(9)

.

قلت: قال ابن معين: ليس بثقة. وفي رواية: ليس بشيء

(10)

، وقال

(1)

"الجرح والتعديل"(4/ 63).

(2)

"الكامل" لابن عدي (5/ 570).

(3)

"الكامل" لابن عدي (5/ 570).

(4)

"تهذيب الكمال"(11/ 55).

وهناك من وثق سعيدا ولكن ليس من أئمة الجرح والتعديل، وقد قال الساجي عن محمود بن غيلان قال: سئل وكيع عن أبي سعد البقال، فقال: أحمد الله، كان يروي عن أبي وائل، وأبو وائل ثقة. "الجرح والتعديل"(4/ 62).

قلت: وهذا تضعيف له من قبل وكيع، ولكنه تلطف في العبارة.

(5)

"الجرح والتعديل"(4/ 116).

(6)

المصدر السابق.

(7)

"التاريخ الكبير"(4/ 11).

(8)

"الجرح والتعديل"(6/ 107 - 108).

(9)

"الجرح والتعديل"(6/ 115).

(10)

"تاريخ ابن معين" - رواية الدوري - (3/ 405، 502).

ص: 86

يعقوب بن سفيان: ليس حديثه بشيء

(1)

، وقال الدارقطني: ضعيف الحديث، لا يحتج بروايته

(2)

.

وأبو زرعة لا يخفى عليه حاله فقد بين في موضع آخر أنه واهي الحديث.

5 -

سندل عمر بن قيس، قال أبو زرعة: لين الحديث

(3)

.

قلت: هو متروك الحديث، ولا يخفى على أبي زرعة أنه متروك، ولكن اقتصد في العبارة وتورّع.

وممن سار على هذا المنهج أيضا: أبو حاتم الرازي، فإنه يلاحظ على عباراته في الجرح أنه يقتصد فيها كثيرا، خاصة إذا كان الراوي من أهل الصلاح، حتى ولو كان مشهورا بالضعف، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

عبد الواحد بن سليم المالكي، قال عنه: شيخ

(4)

. مع أن الإمام أحمد والنسائي قد جرحاه جرحا شديدا

(5)

.

2 -

سعيد بن محمد الوراق، خرّج له الترمذي وابن ماجه، قال عنه أبو حاتم: ليس بقوي

(6)

. مع أن بعض الحفاظ قال عنه: ليس بثقة

(7)

.

(1)

"تهذيب الكمال"(21/ 393).

(2)

"سنن الدارقطني"(5/ 70)(4000)، وهناك من وافق قوله قول أبي زرعة كالنسائي، فقال: ليس بالقوي. "الضعفاء"(ص: 191).

(3)

"الجرح والتعديل"(6/ 129 - 130).

(4)

"الجرح والتعديل"(6/ 21).

(5)

قال الإمام أحمد في "العلل" -رواية عبد الله- (5433): (حديثه حديث منكر، أحاديثه موضوعة)، وقال النَّسَائِي في "الضعفاء والمتروكين" (ص: 163): (ليس بثقة).

(6)

"الجرح والتعديل"(4/ 59).

(7)

"الضعفاء والمتروكين" للنسائي (ص: 128).

ص: 87

3 -

أصبغ بن نباتة، قال عنه أبو حاتم: لين الحديث

(1)

. قلت: وهو متروك.

4 -

أبو حمزة الثمالي، قال عنه أبو حاتم: لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به

(2)

.

قلت: وهو ضعيف، وقد اتهم بالرفض.

5 -

حماد بن واقد، قال عنه أبو حاتم وأبو زرعة: لين الحديث

(3)

. قلت: وهو ضعيف.

6 -

حفص بن عمر العدني، قال عنه أبو حاتم: لين الحديث

(4)

. قلت: وهو ضعيف.

7 -

روح بن عطاء ابن أبي ميمونة، قال أبو حاتم: لين الحديث. قلت: ضعفه ابن معين

(5)

، وقال أحمد: منكر الحديث

(6)

.

8 -

الحكم بن عبد الملك القرشي البصري، قال عنه أبو حاتم: مضطرب الحديث جدا، وليس بقوي في الحديث

(7)

.

وقال ابن معين: ليس بثقة، وليس بشيء. وقال مرة: ضعيف الحديث. وكذا قال ابن خراش. وقال أبو داود: منكر الحديث. وقال النَّسَائِي: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: الأحاديث التي أمليتها للحكم عن قتادة، منه ما

(1)

"الجرح والتعديل"(2/ 320).

(2)

"الجرح والتعديل"(2/ 451).

(3)

"الجرح والتعديل"(3/ 150)، ونص كلام أبي حاتم:(حماد بن واقد ليس بقوي، لين الحديث، يكتب حديثه على الاعتبار، وهو بابة عثمان بن مطر، ويوسف ابن عطية).

(4)

"الجرح والتعديل"(3/ 182).

(5)

"تاريخ بن معين" - رواية الدوري - (4/ 200)(3947).

(6)

"العلل" - رواية عبد الله - (3/ 12)(3926).

(7)

"الجرح والتعديل"(3/ 123).

ص: 88

يتابعه عليه الثقات، ومنه ما لا يتابعه، وله غير ما ذكرت ولا أعلمه يروي عن غير قتادة إلا اليسير. وقال العقيلي: روى أحاديث لا يتابع عليها. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بما لا يتابع عليه. وقال يعقوب بن شيبة: ضعيف الحديث جدا، له أحاديث مناكير. وقال البزار: ليس بقوي. وقال العجلي: ثقة، روى عن قتادة، ما أدري أهو بصري أو كوفي

(1)

.

قلت: أما توثيق العجلي فلا يلتفت إليه، وأما البزار فهو ممن يقتصد في الجرح.

9 -

سعد بن عمران بن هند بن سعد بن سهل بن حنيف، قال عنه: هو شيخ مثل الواقدي في لين الحديث وكثرة عجائبه

(2)

.

قلت: ولا يخفى أن الواقدي متروك عند جمع من أهل العلم.

10 -

أبو بكر الهذلي: قال عنه أبو حاتم: ليس بقوي، لين الحديث، يكتب حديثه، ولا يحتج به

(3)

.

قلت: هو متروك.

11 -

الصلت بن دينار، قال عنه أبو حاتم: لين الحديث، إلى الضعف ما هو، مضطرب الحديث، يكتب حديثه

(4)

.

قلت: قال ابن معين: ليس بشيء

(5)

. وقال الفلاس: متروك الحديث، يكثر الغلط

(6)

.

(1)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 466).

(2)

"الجرح والتعديل"(4/ 92).

(3)

"الجرح والتعديل"(4/ 313).

(4)

"الجرح والتعديل"(4/ 438).

(5)

"تاريخ ابن معين" - رواية الدوري - (4/ 128)(3520).

(6)

"الجرح والتعديل"(4/ 438)، وفيه:(متروك الحديث يكثر الغلط).

ص: 89

12 -

طلحة بن عمرو الحضرمي، قال عنه أبو حاتم: ليس بالقوي، لين الحديث عندهم

(1)

.

قلت: وهو متروك.

13 -

عبد الله بن الزبير الأسدي، والد أبي أحمد، قال أبو حاتم: لين الحديث

(2)

.

قلت: قال إبراهيم بن موسى: سألت أبا نعيم عن عبد الله بن الزبير فقال: لا يكتب حديثه، ولا تخبر أبا أحمد بذلك.

قال أبو زرعة: كان أبو أحمد صديقا لأبي نعيم؛ فكره أن يسوءه في أبيه، وهو ضعيف الحديث

(3)

.

14 -

عقبة بن عبد الله الأصم، قال أبو حاتم: لين الحديث، ليس بقوي، وأبو هلال أحب إلينا منه، قال ابنه عبد الرحمن بعد أن نقل ذلك:(قيل لأبي: إن محمد بن عوف حكى عن أحمد بن حنبل أن عقبة الأصم ثقة، فقال: كيف بما يروي عن عطاء، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النظر في النجوم، وحديث آخر جميعا منكرين؟)

(4)

.

(1)

"الجرح والتعديل"(4/ 478).

(2)

"الجرح والتعديل"(5/ 56).

(3)

المصدر السابق.

(4)

"الجرح والتعديل"(6/ 314).

تنبيه: يلاحظ على أبي حاتم الرازي رحمه الله في باب التعديل وفي باب الجرح أنه يطيل العبارة في الحكم على الراوي بحيث يجمع أكثر من صفة في الحكم عليه، مثل قوله عن كثير من الرواة: ثقة صدوق، ومثله ابنه عبد الرحمن، وأحيانا يكثر من ذلك كقوله: ثقة صدوق رضا.

بينما كثير من الأئمة يكتفون بصفة واحدة في الحكم عليه، وأما هو فقد يذكر ثلاث صفات، بل قد يذكر أربعًا، أو أكثر من ذلك، ومن أمثلة ذلك:

1 -

إسماعيل بن مخراق، قال عنه - كما في "الجرح والتعديل" (2/ 201) -: منكر الحديث، مجهول.=

ص: 90

قلت: الراجح أنه واهي الحديث.

وقد قال أبو حاتم في جمع من الرواة الذين ذكرهم البخاري في "الضعفاء": يحول من كتاب "الضعفاء"، مع أنه لا يرى توثيقهم.

ومن أشد العبارات عنده: منكر الحديث.

ومع اقتصاده في العبارة في جانب الجرح وعدم تشدده، إلا أنه في باب التعديل شديد التزكية فقلما يوثق الراوي، وهذا مما ينبغي الانتباه إليه؛ لأنَّه قد يظن أنه شديد أيضا في باب الجرح كما أنه شديد في التعديل، ولكن الأمر بخلاف ذلك، لذا وصفه الأئمة بالتشدد، كالإمام ابن تيمية فقال:(وأبو حاتم شديد التزكية)

(1)

، وأبي عبد الله الذهبي، فقال:(هو جراح)

(2)

، وعبارة

= 2 - أيوب بن سيار الزهري، قال عنه - كما في "الجرح والتعديل" (2/ 248) -: ضعيف الحديث، منكر الحديث، ليس بالقوي.

3 -

أشعث بن سعيد، أبو الربيع السمان، قال عنه - كما في "الجرح والتعديل" (2/ 272): ضعيف الحديث، منكر الحديث، سيء الحفظ، يروي المناكير عن الثقات.

4 -

إبراهيم بن أبي حبيبة، قال عنه - كما في "الجرح والتعديل" (2/ 83) -: شيخ، ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث، دون إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وأحب إلي من إبراهيم بن الفضل.

5 -

الحجاج بن نصير الفساطيطي، قال عنه - كما في "الجرح والتعديل" (3/ 167) -: منكر الحديث، ضعيف الحديث، ترك حديثه، كان الناس لا يحدثون عنه.

6 -

رشدين بن سعد، قال عنه - كما في "الجرح والتعديل" (3/ 513) -: منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث، ما أقربه من داود بن المحبر، وابن لهيعة أستر، ورشدين أضعف.

7 -

زيد بن جبيرة، قال عنه -كما في "الجرح والتعديل" (3/ 559) -: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا، متروك الحديث، لا يكتب حديثه.

(1)

"مجموع الفتاوى"(21/ 93).

(2)

"سير أعلام النبلاء"(13/ 81). ولا يخفى أن الشرع قد جاء بنحو ذلك من عدم=

ص: 91

الإمام ابن تيمية أدق من عبارة الذهبي، يعلم هذا مما تقدم.

فقد قال أبو حاتم عن الإمام الشافعي وعمرو بن علي الفلاس ومسلم ابن الحجاج، قال عن كل واحد من هؤلاء:(صدوق)، مع أنهم من كبار الأئمة.

وقال ابنه عبد الرحمن: (سألت أبي عن عبد الرزاق: أحب إليك أو أبو سفيان المعمري؟ فقال: عبد الرزاق أحب إلي، قلت: فمطرف بن مازن أحب إليك أو عبد الرزاق؟ قال: عبد الرزاق أحب إلي، قلت: فما تقول في عبد الرزاق؟ قال: يكتب حديثه ولا يحتج به)

(1)

.

وقال أيضا عن عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري: (هو صدوق متقن، قوي الحديث، غير أنه لم يكن يحفظ، وكان له قدر عند أهل العلم).

قلت: محصل كلام أبي حاتم أنه ثقة متقن، ولكنه لم يصرح بهذا، بل ذكر من العبارات ما يظن معه أنه دون ذلك.

وأما قوله: (لم يكن يحفظ) فلعله يريد أنه لم يكن من كبار الحفاظ، بدليل أن أبا زرعة قال عنه: كان حافظا ثقة. قال ابن أبي حاتم: يعني أنه كان متقنا

(2)

.

وهذا التشدد في التعديل ليس دائما ولكنه كثير، فقد قال ابن أبي حاتم: وسألته عن علي بن نصر، فوثقه وأطنب في ذكره والثناء عليه

(3)

.

= الغلو في مدح الشخص وبالذات إذا كان حاضرا، وبعدم المبالغة في الذم، والمتأمل في حال الناس يجدهم بعكس ذلك، فمن أحبوه بالغوا في مدحه، ومن كرهوه بالغوا في ذمه، نعوذ بالله من ذلك.

(1)

"الجرح والتعديل"(6/ 39).

(2)

"الجرح والتعديل"(5/ 119).

(3)

"الجرح والتعديل"(6/ 207).

ص: 92

‌وممن سار على هذا المنهج أيضا إبراهيم الحربي،

فإذا أراد أن يجرح راويا قال: غيره أوثق منه، ومن أمثلة ذلك:

1 -

عبد الله بن عبد العزيز المدني، قال عنه: غيره أوثق منه

(1)

.

2 -

عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، قال عنه: غيره أوثق منه

(2)

.

3 -

عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال عنه: غيره أوثق منه

(3)

.

4 -

عبد المهيمن بن عباس الأنصاري، قال عنه: غيره أوثق منه

(4)

.

5 -

عبيس بن ميمون الرقاشي، قال عنه: معروف وغيره أوثق منه

(5)

.

6 -

يحيى بن العلاء البجلي، قال عنه: غيره أوثق منه

(6)

.

وهؤلاء ضعفاء وبعضهم متروك.

ومن ذلك قوله عن عمر بن قيس المكي سندل: (أمسكوا عنه)

(7)

، وهو متروك.

ومنهم أيضا البزار، فيستعمل عبارات لينة؛ قال عن محمد بن عبيد الله العرزمي: لين الحديث

(8)

.

قلت: وقد قال الساجي: صدوق منكر الحديث أجمع أهل النقل على

(1)

"تهذيب التهذيب"(2/ 377).

(2)

"تهذيب التهذيب"(2/ 507).

(3)

"تهذيب التهذيب"(2/ 508).

(4)

"تهذيب التهذيب"(2/ 630).

(5)

"تهذيب التهذيب"(3/ 47).

(6)

"تهذيب التهذيب"(4/ 380).

(7)

كذا في "تهذيب التهذيب"(3/ 248)، وفي "إكمال التهذيب" لمغلطاي (10/ 110):(كان فيه تسرع إلى الناس، فأمسكوا عنه، وألقوه).

(8)

"كشف الأستار عن زوائد البزار"(2/ 251).

ص: 93

ترك حديثه، وقال الحاكم في المدخل: متروك الحديث بلا خلاف

(1)

.

وهذا كثير في كلام البزار، وتتبع ذلك ومناقشته مما يطول.

ومنهم أبو أحمد الحاكم، فكثيرا ما يستعمل في حق من تكلم فيه الأئمة عبارة (ليس بالقوي عندهم) ونحوها، وفي أحيان أخرى يصرح بجرح الراوي، وإليك أمثلة على ذلك:

1 -

قال في إسماعيل بن يحيى - ويقال ابن يعلى - الثقفى: ليس بالقوي عندهم

(2)

.

2 -

وقال في تليد بن سليمان المحاربي: ليس بالقوي عندهم

(3)

.

3 -

وقال في أبي الأشهب جعفر بن الحارث النخعي: ليس بالقوي عندهم

(4)

.

4 -

وقال في إبراهيم بن يزيد الخوزي: يهِم في الشيء بعد الشيء، تركه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، روى عنه سفيان الثوري والمعتمر بن سليمان

(5)

.

قلت: وإبراهيم متروك الحديث.

5 -

وقال في محمد بن أبي حميد: ليس بالقوي عندهم

(6)

.

قلت: هو منكر الحديث، وهذا مما لا يخفى على أبي أحمد الحاكم فقد نقل هو في ترجمته عن يحيى بن معين أنه قال: ليس بشيء.

6 -

وقال في محمد بن القاسم الأسدي: ليس بالقوي عندهم

(7)

.

(1)

ينظر: "تهذيب التهذيب"(3/ 638).

(2)

"الأسامي والكنى"(1/ 225).

(3)

"الأسامي والكنى"(1/ 250).

(4)

"الأسامي والكنى"(1/ 282).

(5)

"الأسامي والكنى"(1/ 143).

(6)

"الأسامي والكنى"(1/ 167).

(7)

"الأسامي والكنى"(1/ 169).

ص: 94

قلت: وهو متروك، وقد نقل أبو أحمد عن الإمام أحمد أنه كذبه.

7 -

وكذلك عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي قال فيه: ليس بالقوي عندهم

(1)

.

قلت: وهو منكر الحديث، تكلم فيه جمهور الحفاظ مع صلاحه في نفسه وفضله.

8 -

وكذلك سليمان بن سلمة الخبائري، قال فيه: ليس بالقوي عندهم

(2)

.

قلت: وهو متروك.

9 -

وقال عن يحيى بن ميمون بن عطاء القرشي: سكتوا عنه

(3)

.

قلت: هو متروك وبعضهم كذبه، وهذا لم يخف على أبي أحمد، فإنه روى بإسناده عن عمرو بن علي أنه قال عن يحيى: كان كذابا، حدث عن علي بن زيد بأحاديث موضوعة.

10 -

وقال عن سليمان بن أبي داود الجزري: في حديثه بعض المناكير

(4)

.

قلت: ثم روى عن البخاري أنه قال عنه: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث جدا

(5)

، وقال أحمد: ليس بشيء

(6)

.

11 -

وقال عن متوكل بن فضيل الحداد: ليس بالقوي عندهم

(7)

.

(1)

"الأسامي والكنى"(1/ 182).

(2)

"الأسامي والكنى"(1/ 188).

(3)

"الأسامي والكنى"(1/ 192).

(4)

"الأسامي والكنى"(1/ 193).

(5)

"الجرح والتعديل"(4/ 116).

(6)

"تاريخ أبي زرعة الدمشقي"(ص: 455).

(7)

"الأسامي والكنى"(1/ 198).

ص: 95

ثم نقل عن مسلم أنه قال: عنده عجائب.

وكما ترى هناك فرق بين العبارتين.

12 -

وقال عن عبد الكريم بن أبي المخارق: ليس بالقوي عندهم

(1)

.

قلت: وهو مشهور الضعف.

وأحيانا يستعمل أبو أحمد الحاكم عبارة (ليس بالقوي)، و (ليس بالمتين) على بابها:

1 -

كقوله عن يزيد بن كيسان: (ليس بالمتين عندهم)

(2)

، وهو مختلف فيه، والأصل في حديثه الاستقامة.

2 -

وقوله في بكير بن عامر البجلي: (ليس بالمتين عندهم)

(3)

، وهو مختلف فيه أيضا.

3 -

وكذلك قوله في عطاء الخراساني: (ليس بالقوي عندهم)

(4)

.

قلت: وأنا أذهب إلى ذلك فقد تُكُلِّم فيه.

بل إنه أحيانا قد يقول مثل هذه العبارة في حق من لا يستحق ذلك:

1 -

كقوله في يزيد الرشك: (ليس بالمتين عندهم)

(5)

، فيزيد ثقة.

2 -

وقال عن أبي الأحوص مولى بني ليث: (ليس بالمتين عندهم)

(6)

، وهو ليس كذلك، إما أن يقال عنه: فيه جهالة، وإما أن يمشى حديثه.

ومنهم أيضا أبو بكر البيهقي، ويظهر ذلك لمن تتبع كلامه في الرواة في "السنن الكبرى" وغيرها.

(1)

"الأسامي والكنى"(1/ 223).

(2)

"الأسامي والكنى"(1/ 154).

(3)

"الأسامي والكنى"(1/ 159).

(4)

"الأسامي والكنى"(1/ 185).

(5)

"الأسامي والكنى"(1/ 269).

(6)

"الأسامي والكنى"(1/ 264).

ص: 96

وهناك أيضا غير من تقدم من الحفاظ.

ومعرفة مناهج النقاد في الاقتصاد في الجرح والتعديل في غاية من الأهمية في الحكم على الراوي، فقد يذهب البعض عند وقوفه على كلام هؤلاء الأئمة وهو لا يعرف منهجهم إلى أن هذا الراوي ليس بشديد الضعف، وبالتالي قد يتقوى بغيره، وهو ليس كذلك.

أو يظن أن هؤلاء الأئمة تساهلوا في حكمهم على هذا الراوي كما وُصف أبو عيسى بذلك، كما سوف يأتي، وهم في الحقيقة ليسوا كذلك، وإنما هذا من باب الورع والاقتصاد في الجرح، وأن الضرورة ألجأتهم إلى ذلك في سبيل الذب عن الدين والسنة، وإلا لما تكلموا، وأضرب مثالا على ذلك بثوير بن أبي فاختة، قال عنه أبو عيسى في "الجامع":(وثوير يكنى أبا جهم، وهو رجل كوفي، وقد سمع من ابن عمر، وابن الزبير، وابن مهدي كان يغمزه قليلا)

(1)

.

قلت: وثوير واهي الحديث، وقد لا يكتب حديثه.

وأما ما يتعلق بحكم ابن مهدي عليه، فقال عمرو بن علي الفلاس: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، وكان سفيان يحدث عنه

(2)

.

وقال الآجري عن أبي داود: ضرب ابن مهدي على حديثه

(3)

.

فإذا عرفنا منهج الترمذي وغيره ممن يقتصدون في الجرح حتى في نقلهم عن بعض الأئمة -مثل ما تقدم قبل قليل في كلام ابن مهدي في ثوير ابن أبي فاختة- يتبين لنا حكم هذا الراوي حقيقة، كما أنه يتيسر للباحث توجيه كلام هؤلاء الأئمة إذا وجد في الراوي، وأن هذا ليس من قبيل التساهل.

(1)

(4/ 108).

(2)

"الجرح والتعديل"(2/ 472).

(3)

"سؤالات الآجري"(1/ 336)(574).

ص: 97

ويتبين أيضا من هو مقتصد في كلامه ممن هو متساهل في نقده، فمثلا الحاكم قد قال عن هذا الراوي في كتابه "المستدرك":(لم ينقم عليه غير التشيع)

(1)

.

وهذا تساهل واضح

(2)

، لذا تعقبه الذهبي بقوله: بل هو واهي الحديث.

والخلاصة أن الغالب على منهج أبي عيسى في الجرح والتعديل هو الاعتدال والتوسط، مع اقتصاد في العبارة، وورع في النقد.

ومما يوضح ذلك أيضا قوله في آخر "الجامع": (قال علي - ابن المديني -: ولم يرو يحيى عن شريك، ولا عن أبى بكر بن عياش، ولا عن الربيع بن صبيح، ولا عن المبارك بن فضالة.

قال أبو عيسى: وإن كان يحيى بن سعيد قد ترك الرواية عن هؤلاء، فلم يترك الرواية عنهم أنه اتهمهم بالكذب، ولكنه تركهم لحال حفظهم، وذكر عن يحيى بن سعيد أنه كان إذا رأى الرجل يحدث عن حفظه مرة هكذا ومرة هكذا لا يثبت على رواية واحدة تركه.

وقد حدث عن هؤلاء الذين تركهم يحيى بن سعيد القطان: عبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من الأئمة)

(3)

.

* * *

(1)

(3922).

(2)

ينبغي أن يفرق بين منهج الحاكم في كتبه القديمة، وبين منهجه أخيرا في كتابه "المستدرك"، فالتساهل الذي وصف به الحاكم في نقده للرواة وحكمه على الأحاديث إنما هو في "المستدرك"، وأما في كتبه القديمة فليس كذلك.

(3)

"الجامع" - العلل الصغير - (5/ 16).

ص: 98

‌الفصل السابع في مؤلفاته

ألف أبو عيسى عدة مؤلفات، منها:

1 -

"الجامع"

(1)

، وسيأتي الكلام عليه.

2 -

"أسماء الصحابة"

(2)

، وهو مطبوع.

3 -

"الأسماء والكنى"

(3)

، وبعضهم يجعله هو نفس كتابه "أسماء الصحابة".

4 -

"التاريخ"، نقل ابن نقطة من "تاريخ بخارى" لغنجار قوله:(وهو صاحب "الجامع" و"التاريخ")

(4)

.

وقال ابن نديم: (وله من الكتب: "كتاب التاريخ")

(5)

.

5 -

"التفسير"، ذكره الخزرجي في "خلاصة تذهيب تهذيب الكمال"

(6)

، فقال:(أحد الأئمة الأعلام، وصاحب "الجامع" و"التفسير").

وقول الخزرجي يحتمل أنه أفرد كتابا في التفسير، ويحتمل أنه يقصد كتاب التفسير الذي في "جامعه"، وهذا هو الأقرب.

(1)

"التقييد" لابن نقطة (ص: 97)، "وفيات الأعيان"(4/ 278)، "ميزان الاعتدال"(3/ 678)، "تهذيب الكمال"(26/ 250)، "البداية والنهاية"(14/ 647)، "جامع الأصول"(1/ 193).

(2)

"البداية والنهاية"(14/ 647).

(3)

"تهذيب التهذيب"(3/ 669).

(4)

"التقييد" لابن نقطة (ص: 97).

(5)

"الفهرست" لابن النديم (1/ 285).

(6)

(ص: 355).

ص: 99

6 -

"الزهد"، قال ابن حجر:(ولأبي عيسى كتاب "الزهد" مفرد لم يقع لنا)

(1)

.

7 -

"الشمائل"

(2)

، وهو مشهور جدا، ولعله أول من أفرد ذلك بالتصنيف.

قال ابن كثير عن كتابه هذا: (قد صنف الناس في هذا قديما وحديثا كتبا كثيرة مفردة وغير مفردة، ومن أحسن مَنْ جمع في ذلك فأجاد وأفاد الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي رحمه الله، أفرد في هذا المعنى كتابه المشهور بـ "الشمائل")

(3)

.

8 -

"العلل الصغير"، وهو مطبوع، وهو الذي في آخر "الجامع"

(4)

.

9 -

"العلل الكبير"

(5)

، والموجود منه بترتيب أبي طالب القاضي، وأغلبه موجود في "الجامع"، وليس كله

(6)

.

10 -

الكتاب الذي فيه الموقوف، ذكره الترمذي في العلل آخر "الجامع"، فقال: (

وقد بينا هذا على وجهه في الكتاب الذي فيه الموقوف)

(7)

.

(1)

"تهذيب التهذيب"(3/ 669).

(2)

"فهرسة ابن خير الإشبيلي"(ص: 128).

(3)

"البداية والنهاية"(8/ 385).

(4)

"سير أعلام النبلاء"(13/ 270).

(5)

"الفهرست" لابن النديم (1/ 285)، "إكمال تهذيب الكمال"(3/ 320).

(6)

وقد أكثر البيهقي من النقل عن الترمذي بلاغا، وكثير مما نقله موجود في "العلل الكبير"، والذي دلت عليه كتبه أنه لم يقع له "جامع أبي عيسى الترمذي" بالرواية، ولا "سنن النَّسَائِي"، بدليل عدم وجود ذلك في مصنفاته، لذا يقول في النقل عن البخاري مما نقله عنه الترمذي: بلغني.

وأما كونه يروي عن الحاكم عن أبي العباس المحبوبي عن أبي عيسى الترمذي بعض الأحاديث لا يعني هذا أنه قد سمع كتاب "الجامع" كله، وإنما سمع منه بعض الأحاديث من طريق شيخه الحاكم.

(7)

"الجامع المختصر"(5/ 9).

ص: 100

قال ابن رجب: (كأنه رحمه الله له كتاب مصنف أكبر من هذا

(1)

، فيه الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة، مذكورة كلها بالأسانيد)

(2)

.

وهذا يدل على أنه لم يقف عليه.

* * *

(1)

يعني: كتابه "الجامع".

(2)

"شرح علل الترمذي"(1/ 32).

ص: 101

‌الباب الثاني وفيه فصول حول كتاب "الجامع"

الفصل الأول: في الاسم الصحيح للكتاب.

الفصل الثاني: في أسانيد الترمذي من حيث العلو وعدمه.

الفصل الثالث: في مصادره.

الفصل الرابع: في اختلاف نسخه.

الفصل الخامس: في تفنن المؤلف في كتابه.

الفصل السادس: في عقيدته.

الفصل السابع: في منهجه في الفقه.

الفصل الثامن: في منهجه في التمييز بين الصحيح والمعلول.

الفصل التاسع: في الرجال الذين خرّج لهم وقد وصفوا بالترك.

ص: 103

‌الفصل الأول في الاسم الصحيح للكتاب

اختلف في اسم هذا الكتاب، ويرجع سبب هذا الاختلاف إلى أمرين:

الأول: اختلاف النسخ الخطية في اسمه

(1)

.

الثاني: اختلاف أهل العلم في تسميته، فقد سموه بعناوين متعددة، منها:

1 -

"الجامع"، وممن سماه بذلك: الإدريسي

(2)

، وغنجار

(3)

، والسمعاني

(4)

، والمزي

(5)

، والذهبي

(6)

، وابن كثير

(7)

، وغيرهم.

2 -

"الجامع الكبير"، ممن سماه بذلك: ابن الأثير الجزري في "أسد الغابة"

(8)

، وغيره.

وذكر ابن الأثير في "جامع الأصول" إسناده إلى كتاب الترمذي من طريق المحبوبي قال: أخبرنا الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي بكتاب "الجامع الكبير"

(9)

.

(1)

ينظر: مقدمة "الجامع"، طبعة دار التأصيل.

(2)

"شروط الأئمة الستة" لابن طاهر المقدسي (ص: 103).

(3)

"التقييد" لابن نقطة (ص: 97).

(4)

"الأنساب"(3/ 42).

(5)

"تهذيب الكمال"(26/ 250).

(6)

"ميزان الاعتدال"(3/ 678).

(7)

"البداية والنهاية"(14/ 647).

(8)

(1/ 117).

(9)

(1/ 203). وانظر: "الكامل في التاريخ"(6/ 474).

ص: 105

3 -

"الجامع الصحيح"، وممن سماه بذلك: الحاكم

(1)

، والبرقاني

(2)

، والخطيب البغدادي

(3)

، وغيرهم.

وهناك من اقتصر على تسميته بـ "الصحيح"، ومنهم: ابن النديم

(4)

، وياقوت الحموي

(5)

، وابن الأثير

(6)

.

4 -

"الجامع الكبير المختصر في السنن المسندة"، سماه بذلك التجيبي

(7)

، وغيره.

5 -

"السنن"، وممن سماه بذلك: الخليلي

(8)

.

6 -

"المسند الجامع"، كذا سماه الإسعردي

(9)

.

7 -

"المسند الصحيح"، روى ابن نقطة بإسناده من طريق نجيب بن ميمون الواسطي الهروي، عن أبي علي منصور بن عبد الله بن خالد الذهلي، عن أبي عيسى الترمذي قال: (صنفت هذا الكتاب - يعني "المسند الصحيح" - فعرضته على علماء الحجاز

)

(10)

.

8 -

"الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل"، سماه بذلك ابن خير الإشبيلي

(11)

، وصوبه عبدالفتاح أبو غدة

(12)

.

(1)

"معرفة أنواع الحديث" لابن الصلاح (ص: 40).

(2)

"تاريخ بغداد"(6/ 231).

(3)

المصدر السابق.

(4)

"الفهرست" لابن النديم (1/ 285).

(5)

"معجم البلدان"(1/ 510).

(6)

"جامع الأصول"(1/ 193).

(7)

"برنامج التجيبي"(ص: 99).

(8)

"الإرشاد"(3/ 905).

(9)

"فضائل الكتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي"(ص: 38).

(10)

"التقييد" لابن نقطة (ص: 97)، وأما يتعلق بالنسخ الخطية وما جاء فيها من تسمية الكتاب فانظر مقدمة "الجامع" طبعة دار التأصيل.

(11)

"فهرسة ابن خير الإشبيلي"(ص: 98).

(12)

"تحقيق اسمي الصحيحين والجامع"(ص: 66 - 88).

ص: 106

وهذا الاسم الأخير هو الصحيح، وذلك لأمور ثلاثة:

الأمر الأول: أن هذا الاسم جاء في عدة نسخ، وهي نسخ قديمة نسبيا، وهذه النسخ قد رويت من أكثر من طريق عن أبي عيسى الترمذي، كما سيأتي.

والأمر الثاني: أن هذا الاسم مطابق للمسمى، وذلك أن الترمذي قد جعل هذا الكتاب شاملا لأبواب الشريعة، ولم يجعله خاصا لأحاديث الأحكام، وأضاف إلى ذلك كلام الفقهاء من الصحابة والتابعين وهلم جرا، وضم إلى ذلك كلام الحفاظ على الأحاديث والرجال، فهو بهذه الصفة يكون جامعا، لذا سمي بـ"الجامع".

قال أبو سليمان الخطابي: (وكان تصنيف علماء الحديث قبل زمان أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوهما، فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارا، وقصصا، ومواعظَ، وآدابا

)

(1)

.

فما قاله الخطابي في "وصف الجوامع" منطبق على كتاب أبي عيسى لأنه لم يقتصر على السنن المتعلقة بالاْحكام، وإنما جمع إلى ذلك ما يتعلق بالإيمان والعلم والمناقب والفضائل والتفسير والزهد وصفة القيامة والجنة وجهنم

الخ، فهو بهذه المثابة كتاب جامع.

ويؤيد تسميته بـ"الجامع" أن بعض شيوخ الترمذي سموا كتبهم بهذه التسمية، فالبخاري قد سمى كتابه "الصحيح" بـ "الجامع"، وقد قال أبو عيسى في باب الاستنجاء يالحجرين: (وسألت محمدا - أي: البخاري - عن هذا الحديث

(2)

فلم يقض فيه بشيء، وكأنه رأى حديث زهير، عن أبي

(1)

"معالم السنن"(1/ 7).

(2)

أي: حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لحاجته فقال: "التمس لي ثلاثة أحجار

" الحديث.

ص: 107

إسحاق، عن عبدالرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله أشبه، ووضعه في كتاب "الجامع")

(1)

.

قلت: ومن المعلوم العلاقة الوثيقة بين الترمذي وشيخه البخاري.

وأما وصفه بالمختصر: فهو وصف مطابق لحال كتاب أبى عيسى، ويدل لهذا أمور:

1 -

أنه لم يمسند جميع الأحاديث التي في الباب، لذا يقول اختصارا: وفي الباب عن فلان وفلان .. حتى أنه فى بعض الأحيان يذكر ثمانية عشر راويا أو أكثر

(2)

.

2 -

أنه يختصر الحديث نفسه، فكثيرا ما يقول: وفي الحديث قصة، اختصارا للحديث ولا يسوقه مطولا، وإنما يذكر موضع الشاهد.

3 -

أن لأبي عيسى كتابا أكبر من ذلك ذكر فيه الآثار الموقوفة، قال في كتابه "العلل الصغير": (

وقد بينا هذا على وجهه في الكتاب الذي فيه الموقوف)

(3)

.

فيعتبر كتاب "الجامع" بالنسبة لهذا الكتاب الذي أشار إليه مختصرا.

وقال أيضًا في آخر "الجامع": (وقد وضعنا هذا الكتاب على الاختصار لما رجونا فيه من المنفعة)

(4)

.

قال ابن رجب: (وقد ذكر الترمذي رحمه الله أنه إنما وضع كتابه هذا على الاختصار، لما رجا فيه من المنفعة، وهو تقريبه على طلبة العلم، وكان قد وعد بكتاب أكبر منه يستوعب فيه الأحاديث والآثار)

(5)

.

(1)

(1/ 286).

(2)

ينظر مثلا: باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر (183)، وباب ما جاء في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2660).

(3)

(5/ 9).

(4)

(5/ 38).

(5)

"شرح العلل"(1/ 462).

ص: 108

وقال أبو عمر ابن عبدالبر: (ثلاثة كتب مختصرة في معناها، أُوثِرُها وأُفَضِّلُها: مصنف أبي عيسى الترمذي في السنن، و"الأحكام في القرآن" لابن بكير، و"مختصر ابن عبدالحكم")

(1)

.

وأما قوله: (من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأن النصوص التي أوردها كلها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي سنن.

وأما قوله: (ومعرفة الصحيح والمعلول) لأنه قد بين في هذا الكتاب صحة كثير من الأحاديث، كما أنه ساق أحاديث كثيرة وبين ضعفها وعلتها، ووجه تعليلها، فهو كتاب علل، لذا جلّ مادة كتاب "العلل الكبير" له موجودة في كتابه "الجامع" مفرقة على الأبواب.

وقال أبو عيسى في كتابه "العلل الصغير": (وما كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ فهو ما استخرجته من كتاب "التاريخ").

قال ابن رجب في "شرح علل الترمذي"

(2)

: (والذين صنفوا منهم من أفرد الصحيح كالبخاري ومسلم، ومن بعدهما كابن خزيمة وابن حبان، ولكن كتابهما لا يبلغ مبلغ كتاب الشيخين.

ومنهم من لم يشترط الصحة، وجمع الصحيح، وما قاربه، وما فيه بعض لين وضعف، وأكثرهم لم يثبتوا ذلك، ولم يتكلموا على التصحيح والتضعيف.

وأول من علمناه بين ذلك أبو عيسى الترمذي رحمه الله، وقد بين

أنه لم يسبق إلى ذلك، واعتذر بأن هؤلاء الأئمة الذين سماهم صنفوا ما لم يسبقوا إليه، فإذا زيد في التصنيف بيان العلل ونحوها كان فيه تأس بهم في تصنيف ما لم يسبق إليه.

(1)

"فهرسة ابن خير الإشبيلي"(ص: 160).

(2)

(1/ 40 - 41).

ص: 109

وقد صنف ابن المديني ويعقوب بن شيبة مسانيد معللة، وأما الأبواب المعللة فلا نعلم أحدًا سبق الترمذي إليها

(1)

.

وقال في موضع آخر

(2)

: (وقد اعترض على الترمذي رحمه الله بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالبا، وليس ذلك بعيب، فإنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل، ثم يبين الصحيح في الإسناد، وكان قصده رحمه الله ذكر العلل).

وأما قوله: (وما عليه العمل) فلأنه كثيرا ما يبين ذلك عندما يسوق الحديث، فيقول بعده: والعمل على هذا، لذا قال في كتابه "العلل الصغير"

(3)

: (جميع ما في هذا الكتاب - أي: "الجامع" - من الحديث معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين).

والأمر الثالث: أن التسميات الأخرى جميعها فيها نظر؛ فمثلا:

1 -

تسميته بالجامع الصحيح: فهذا غير صحيح؛ لأنه لم يشترط الصحة في كتابه هذا، كيف وقد بين ضعف كثير من الاْحاديث وشرح عللها؟!

2 -

وأما تسميته بالجامع الكبير: فهذا بعيد، وذلك أن كتاب أبي عيسى مختصر كما تقدم ذكره، ويضاف إلى ما سبق أن كتاب البخاري وهو أكبر منه سماه رحمه الله: "الجامع المسند الصحيح المختصر

"، ومثله مسلم في بعض التسميات: "المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(1)

وأما ابن أبي حاتم فعمله في كتاب "العلل" متأخر عن أبي عيسى الترمذي كما هو معلوم.

(2)

"شرح علل الترمذي"(1/ 411).

(3)

(1/ 4 - شرحه).

ص: 110

وحتى كتاب أبي داود بين أنه قد اختصره، فقال في "رسالته إلى أهل مكة"

(1)

: (ولم أكتب في الباب إلا حديثا أو حديثين وإن كان في الباب أحاديث صحاح فإنه يكثر، وإنما أردت قرب منفعته

وربما اختصرت الحديث الطويل لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه ولا يفهم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك).

ومثله ابن خزيمة، فقد سمى كتابه:"مختصر المختصر من المسند الصحيح"، وكتابه أكبر من كتاب الترمذي؛ لأن القطعة الموجودة وهي ربع الكتاب فيها أكثر من (3000) حديث.

وبناء على ما تقدم يبعد أن يسمي الترمذي كتابه بـ "الجامع الكبير".

3 -

وأما تسميته بـ "السنن": فهذا من باب التوسع، والتسمية بالمعنى، وقد مضى القول في هذا.

* * *

نقل بعض كلام أهل العلم في تسمية كتاب الترمذي بـ "الجامع":

1 -

قال محمد بن عبدالرحمن الإدريسي - كما في "فضائل الكتاب الجامع" للإسعردي

(2)

-: (صنف كتاب "الجامع").

2 -

وقال ابن خير الإشبيلي في "فهرست شيوخه"

(3)

: (مصنف الإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، الحافظ، وهو "الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل"

الخ).

3 -

وسماه بـ"الجامع" الإسعردي في جزئه "فضائل الكتاب الجامع

(1)

(ص: 23 - 24).

(2)

(ص:31).

(3)

(ص:107).

ص: 111

لأبي عيسى الترمذي"، وقال في مقدمته

(1)

: (

فجمعت في هذه الأوراق فضائل جامعه). وقال أيضًا

(2)

: (مما صنف أبو عيسى غير "المسند الجامع": "العلل"

الخ).

4 -

وقال ابن خلكان في ترجمة الترمذي من "وفيات الأعيان"

(3)

: (صنف كتاب "الجامع").

5 -

وقال الحافظ المزي في "تهذيب الكمال"

(4)

: (وعلامة ما أخرجه الترمذي في "الجامع": ت). وقال في ترجمة الترمذي

(5)

: (صاحب "الجامع").

6 -

وقال الذهبي في ترجمة الترمذي من "السير"

(6)

: (مصنف "الجامع"

(7)

.

6 -

وقال صاحب "كشف الظنون"

(8)

: (نقل عن الترمذي أنه قال: صنفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته فكأنما في بيته نبي يتكلم، وقد اشتهر بالنسبة إلى مؤلفه، فيقال: "جامع الترمذي"، ويقال له: "السنن" أيضًا، والأول أكثر).

وغير هذا كثير، ولعبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى كلام جميل في ترجيح ما تقدم ذكره من تسمية كتاب أبي عيسى ومناقشة المسميات الأخرى وبيان ضعفها، فقال في كتابه "تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي"

(9)

:

(1)

(ص: 30).

(2)

(ص: 38).

(3)

(4/ 270).

(4)

(1/ 150).

(5)

(26/ 250).

(6)

(13/ 270).

(7)

يلاحظ أن بعض ما ذكرته من كلام أهل العلم في تسمية هذا الكتاب إما بأن يُذكر العنوانُ تاما، أو يُكتفى بطرفٍ منه على سبيل الاختصار.

(8)

(1/ 559).

(9)

(ص:53 - 59).

ص: 112

(لم يكن شأن "جامع الترمذي" أحسن من شأن "الصحيحين" في إغفال اسمه عليه، فقد طبع طبعات كثيرة متعددة في بلاد مصر والشام والهند وغيرها، ولم يثبت على وجه طبعة منه اسمه العلمي الذي سماه به مؤلفه الإمام الترمذي رحمه الله تعالى.

وتبدو أهمية إثبات اسمه التام الكامل عليه أكثر من أهمية إثبات اسم "الصحيحين" عليهما، لشهرتهما بالصحة وتأليفهما لجمع الحديث الصحيح، فغياب اسمهما الكامل من الذكر على وجهيهما لا يؤثر مئل ما يؤثر غياب اسم "جامع الترمذي"، ويزيد الأمر ضغثا على إبالة أنه أُثبت على "جامع الترمذي" اسم يخالف مضمونه وما أسس تأليفه عليه، فقد أثبت على وجه المطبوع منه بالقاهرة ثم في بيروت "صحيح الترمذي بشرح الإمام ابن العربي"، وهو خطأ فليس هو مسمى بالصحيح.

والعجب أن شيخنا العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى، حينما شرح كتاب الترمذي أثبت على وجهه "الجامع الصحيح، وهو سنن الترمذي". انتهى، فالجزء الثاني من هذا الاسم:(وهو سنن الترمذي)، من باب رعاية المعنى والمضمون للكتاب، فلا مانع منه، على أنه قد سمي في بعض الأثبات والفهارس باسم "السنن"، كما في "فهرست ابن عطية".

وقد اشتهر به أيضًا - تغليبا في ضمه إلى كتب السنن الثلاثة - كما أشار إليه صاحب "كشف الظنون"، أما الجزء الأول من هذا الاسم وهو (الجامع الصحيح)، فهذا الوصف:(الصحيح) ما كان ينبغي له إثباته على وجه الكتاب، وقد أثبته غير مرة: في وجه الجزء الأول، وفي صفحة 90 من المقدمة، وفي وجه أول الكتاب بعد المقدمة، وفي وجه الجزء الثاني، من طبعة مصطفى البابي الحلبي.

وتابع شيخنا في هذا: من تساهل في إطلاق هذا الوصف على كتاب

ص: 113

الترمذي، فقد أطلق الحاكم عليه اسم (الجامع الصحيح)، وأطلق الخطيب عليه أيضًا اسم (الصحيح)، كما حكاه عنهما الحافظ ابن الصلاح في "مقدمته"، بآخر (النوع الثاني: الحسن)، وتعقبه بقوله: وهذا تساهل، لأن فيها - أي في الكتب المعدود فيها كتاب الترمذي - ما صرحوا بكونه ضعيفا أو منكرا أو نحو ذلك من أوصاف الضعيف. انتهى.

وقال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الترمذي: في "الجامع" علم نافع، وفوائد غزيرة، ورؤوس المسائل، وهو أحد أصول الإسلام، لولا ما كدره بأحاديث واهية، بعضها موضوع، وكثير منها في الفضائل. انتهى. وقال الذهبي أيضًا: انحطت رتبة "جامع الترمذي" عن "سنن" أبي داود والنسائي، لإخراجه حديث المصلوب والكلبي وأمثالهما. نقله السيوطي في "تدريب الراوي"، في أوأخر الكلام على (الحديث الحسن). فوصف "جامع الترمذي" بلفظ (الصحيح) غير صحيح، فلا يسوغ إثباته عليه.

وسماه الحافظ أبو القاسم الإسعردي، المتوفى سنة 692 رحمه الله تعالى، في جزئه "فضائل الكتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي":(المسند الجامع). وهذا لائق به.

وسماه قبله الحافظ ابن خير الإشبيلي، المتوفى سنة 575 رحمه الله تعالى، في "فهرست ما رواه عن شيوخه"، بقوله:(الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل).

وهذا الاسم مطابق لمضمون الكتاب، ووقفت عليه بعينه مثبتا على مخطوطتين قديمتين، كتبت إحداهما قبل سنة 479، وقبل ولادة الحافظ ابن خير بأكثر من عشرين سنة، فقد ولد سنة 502، والنسخة الأخرى كتبت في سنة 582

ص: 114

وقد دعيت إلى المشاركة في ندوة أقامها البنك الإسلامي للتنمية في جدة، بعنوان (استخدام الحاسوب في العلوم الشرعية)، وعقدت في 24/ 4/ 1411، فلبيت الدعوة وشاركت فيها، وكان من الأساتذة المشاركين فيها الأستاذ الفاضل الدكتور محمد مصطفى الأعظمي.

فذكرت له في حديث خاص بيننا أن كتب السنة (الستة) تحتاج في إخراجها ونشرها إلى مزيد عناية خاصة، تواكب تقدم الطباعة وارتقاءها، وذكرت له أن بعضها مثل "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم" و"جامع الترمذي": لم تثبت عليها أسماؤها العلمية التي وضعها لها مؤلفوها، لتدل على مضمون كتبهم وتحديد منهجهم في جمعها وتصنيفها، بل قد أُثبت على الترمذي اسم مخالف لمضمونه كل المخالفة، وهو "الجامع الصحيح"!

وقلت له: إني تعرضت لهذا الموضوع في رسالتي المسماة "الإسناد من الدين"، التي قدمتها إلى المطبعة من السنة الماضية، وحققت فيها اسم صحيح الإمام البخاري، واسم جامع الإمام الترمذي، وسميت له الاسم العلمي الذي وضعه الإمام الترمذي لكتابه، وهو "الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل"، وكانت تجارب التصحيح لطباعة هذه الرسالة معي، فأطلعته على ما كتبته في هذا الصدد فسُرَّ به، وذكر لي أن لديه مخطوطة قديمة من كتاب الترمذي، عليها هذا الاسم بعينه كما يظن.

فرجوت منه أن يسعفني بصورة من صفحة العنوان، لأعزز بها ما ذكرته، ولأنشرها في آخر الرسالة، فتكرم بذلك فقدم لي صورة من عنوان نسخة مكتبة فيض الله أفندي، التي سأتحدث عنها بعد قليل، ولم يكتف بهذا فأرسل إلى مقره في أمريكا، وطلب لي سورة من نسخة ثانية قديمة لكتاب الترمذي، تملكها من قريب وعليها العنوان الذي ذكرته، ثم جاءت

ص: 115

الصورة فكان العنوان فيها مطابقا لنسخة فيض الله أفندي، ومطابقا للعنوان الذي أثبته في رسالتي "الإسناد من الدين".

وقدم لي أيضًا صورتين لوجه نسختين قديمتين من "صحيح الإمام البخاري"، أثبت عليهما اسم "صحيح البخاري" كما ذكرته في رسالة "الإسناد من الدين"، فتعزز عندي الجزم بصحّة ما كتبته في اسمي هذين الكتابين:"صحيح البخاري"، و"جامع الترمذي"، والحمد والفضل لله تعالى

والغريب كل الغرابة أن من خدم "جامع الترمذي" من العلماء المعاصرين: تحقيقا وتقويما لمتنه، أو شرحا وبيانا لمعانيه وأحاديثه، أو ضبطا وتفصيلا لشرحه، كشيخ شيوخنا العلامة محمد يحيى الكاندهلوي، في شرحه المسمى "الكوكب الدري على جامع الترمذي"، وكالعلامة عبدالرحمن المباركفوري، في شرحه "تحفة الأحوذي"، وشيخنا العلامة أحمد شاكر، في تحقيقه لمتن كتاب الترمذي وشرحه الذي لم يتم، وشيخنا العلامة محمد يوسف البنوري، في شرحه المسمى "معارف السنن" الذي لم يكتمل، وصديقنا العلامة الشيخ أحمد معبد، في تحقيقه لكتاب "النفح الشذي"، التي تصلح أن تكون كتابا مستقلا لغزارة علمها وبالغ طولها، لم يتعرضوا بالمرة لذكر اسم الكتاب العلمي.

وأغرب من هذا أن من خصص دراسة خاصة واسعة عن الإمام الترمذي و"جامعه"، كالأستاذ الفاضل الدكتور نور الدين عتر في كتابه "الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين"، لم يتعرض لذكر اسم الكتاب هذا فيه، وإنما ذكر في ص 44 جملة من الأسماء المختصرة المختزلة له، فكأنه لم يمر بخاطره هذا الموضوع بالمرة، وإلا لكان بحثَه واستكشفه من النسخ المخطوطة القديمة، فإنه من أهم المباحث وأولها عناية لدارس كتاب "جامع الترمذي".

ص: 116

وكذلك لم يتعرض لاسم "جامع الترمذي" الأستاذ الدكتور أكرم العمري

وقد وقع نحو هذا للشيخ ناصر الألباني

بل إن شيخ شيوخنا الإمام محمد بن جعفر الكتاني لم يتعرض لاسم الكتاب في كتابه الحافل المفيد "الرسالة المستطرفة

"، وكذلك قبله العلامة حاجي خليفة في كتابه العظيم "كشف الظنون

".

بل إن الذين ترجموا للإمام الترمذي من كبار الأئمة المتأخرين، كالحافظ المزي في "تهذيب الكمال"، والحافظ الذهبي في "تذكرة الحفاظ"، و"سير أعلام النبلاء"، و"العبر"، والحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب": لم يتعرضوا أيضًا لذكر اسم الكتاب، وذلك مما جعل اسم الكتاب مجهولا خفيا، ولعل الباعث لهم على ذلك طول اسم الكتاب بعض الشيء، فهم يختصرونه بأقل ما يدل عليه، وهذا عذر مسوغ مقبول عند الإحالة إليه والنقل منه، لكثرة ترداد اسمه، أما عند الحديث عن الكتاب فيتعين صناعة ذكر اسمه وعنوانه الذي وضعه المؤلف، لتعرف خطته ونهجه فيه بجلاء ووضوح

).

إلى أن قال (ص 76): (تعزيز صحة اسم جامع الترمذي: ذكرت فيما تقدم كلمة عن اسم "جامع الترمذي" الذي سماه به مؤلفه الإمام الترمذي، وأنه "الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل".

وتعزيزا وتوكيدا لثبوت أن هذا الاسم لكتاب الترمذي هو الذي سماه به مؤلفه، بحثت عن بعض النسخ المخطوطة القديمة منه، فوقفت على نسختين نفيستين جدا، جاء فيهما اسم الكتاب كما ذكرته تماما.

وأورد هنا صورتين لوجهي هاتين النسختين، زيادة في الطمأنينة إلى أن الاسم المذكور هو من صنيع الإمام الترمذي نفسه.

ص: 117

وفي شهر هذا الاسم واشتهاره لكتاب الإمام الترمذي نفع كبير جدا، لذا يجب على من يطبع هذا الكتاب بعد الآن أن يثبت هذا الاسم عليه أمانة وصناعة، ومن يخالف فقد خان الأمانة وأضاع هوية الكتاب، فالله حسيبه.

ويتبدّى من دراسة هذا العنوان الدقيق المتين، إمامة الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في فقهه ومعرفته بمذاهب الفقهاء والمجتهدين، إلى جانب إمامته الفذة في الحديث وعلومه، وعلله ورجاله ورواياته

).

ثم قال بعد ذلك (ص 78): (لكتاب "جامع الترمذي" نسخ مخطوطة كثيرة منتشرة هنا وهناك، ولكن قلّ أن تجد نسخة منها عليها اسم الكتاب كاملا تاما، كما سماه به مؤلفه، وأغلب النسخ يذكر فيها اسم الكتاب مختصرا بلفظ (الجامع للإمام الترمذي)، أو (جامع الترمذي)، أو نحو هذا وذاك.

وقد عثرت على نسختين خطيتين قديمتين، جاء اسم الكتاب عليهما تاما غير منقوص، كما نقله الإمام الحافظ المحدث الضابط المتقن أبو بكر محمد بن خير الإشبيلي رحمه الله تعالى، في "فهرست ما رواه عن شيوخه"

وهو (الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل)، وإليك كلمة عن هاتين النسختين:

النسخة الأولى: هذه النسخة دخلت في تملك الأستاذ محمد مصطفى الأعظمي

وهي في مجلد واحد، وفيها نقص بآخرها يبلغ ثلاثة أوراق، وتبلغ صفحاتها 648 صفحة، والترقيم حديث.

وكلها بخط مشرقي فصيح جميل، ولم يذكر عليها اسم كاتبها، كتبت قبل سنة 480، إذ عليها سماعات متعددة، أقدمها سماع في رمضان سنة 479، وعورض الأصل بنسخة ابن خلاد الرامهرمزي - صاحب كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي"-، فهي أقدم كتابة من النسخة الثانية

ص: 118

التي سيأتي الحديث عنها قريبا، بأكثر من مائة سنة، ومكتوبة قبل ولادة الحافظ ابن خير بأكثر من عشرين سنة، فقد ولد سنة 502، وتوفي سنة 575 رحمه الله تعالى.

وسند هذه النسخة إلى المؤلف يختلف عن سند النسخة الثانية اختلافا تاما، واتفقت النسختان في العنوان على عبارة واحدة، وهي:(الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل)، إلا أن هذه النسخة الأولى نقص فيها لفظ (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، كما يراه الناظر في سورة كل من النسختين

(1)

.

وأثبت هنا سورة الجزء التاسع من النسخة الأولى، لا الجزء الأول كما هو المعتاد، لوضوح الخط ونضارته في هذا الجزء دون الجزء الأول، وهذا مثال ما جاء في الصفحة المصورة من المخطوطة في الموضع المذكور، وفيه السند من سامع هذه النسخة إلى المؤلف الإمام الترمذي رحمه الله تعالى:

(الجزء التاسع من كتاب الجامع المختصر من السنن ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل. تصنيف أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الحافظ الترمذي رحمه الله. سماعا لداود بن محمد بن عبد الله بن يوسف نفعه الله بالعلم.

حدثه به أبو القاسم عبدالرحمن بن الحسن الشافعي في المسجد الحرام، عن أبي بكر أحمد بن إبراهيم المروزي الفقيه، عن أبي زيد محمد ابن أحمد المروزي الفقيه، عن أبي حامد أحمد بن عبد الله المروزي، عن أبي عيسى الحافظ الترمذي.

(1)

ذكر أبو غدة هنا في الحاشية "أسانيد ابن خير لجامع الترمذي".

ص: 119

وحدثه به أيضًا عن أبي يعقوب يوسف بن أحمد العطار، عن أبي ذر محمد بن إبراهيم الترمذي، عن أبي عيسى الترمذي).

النسخة الثانية: هذه النسخة محفوظة في مكتبة فيض الله أفندي رحمه الله تعالى في إسطنبول، برقم 344، في مجلد واحد، وهي نسخة تامة في 267 ورقة بخط مغربي فصيح، فرغ من نسخها في شوال من سنة 582، ولم يذكر عليها اسم كاتبها، وعلى الزاوية اليسرى العليا من الصفحة السابقة لصفحة العنوان تملك لها بخط مالكها فيض الله أفندي جاء فيه ما يلي:(من كتب الفقير السيد فيض الله المفتي في السلطنة العلية العثمانية عفي عنه).

وهذا نص ما جاء على وجه هذه النسخة: (الكتاب الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل. تصنيف الإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي رحمة الله عليه، ومغفرته ورضوانه لديه).

وسند سامع هذه النسخة إلى المؤلف مكتوب في أول الكتاب كما يلي: (قال محمد بن علي بن حسنون: أخبرنا الفقيه الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي المعافري رضي الله عنه قراءة عليه وأنا أسمع.

قال: أخبرنا الشيخ الصالح أبو الحسين المبارك بن عبدالجبار بن أحمد بن القاسم الصيرفي رضي الله عنه قراءة عليه وأنا أسمع، فأقر به في شوال سنة تسعين وأربع مائة.

قال: أخبرنا أبو يعلى أحمد بن عبدالواحد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن جعفر قراءة عليه فأقر به.

قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد بن شعبة المروزي السنجي قراءة من أصله في منزله في المحرم سنة إحدى وتسعين وثلاث مائة.

ص: 120

قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد بن محبوب، قال: قرئ على أبي عيسى محمد بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الحافظ وأنا أسمع، قال أبو عيسى: كان جدي مروزيا، انتقل من مرو أيام الليث بن سيار.

قال: حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد

).

ثم أورد عبد الفتاح أبو غدة الصور التالية:

ص: 121

وجهُ النسخة الأولى من كتاب جامع الترمذي

ص: 122

وجهُ النسخة الثانية من كتاب جامع الترمذي

ص: 123

ثم قال عبد الفتاح أبو غدة (ص 88): (وبهذا العنوان الواضح الصريح الذي رأيناه، تتبين معالم كتاب الإمام الترمذي رحمه الله تعالى، وتتبين أيضًا دقة مداركه ومقاصده الحديثية والفقهية، في تأليفه الكتاب على هذا الوجه الذي رسمه وربط فيه بين جوانبه وأحاديثه.

فهو قد قصد أن يدون فيه الصحيح والمعلول -أي: الضعيف- قصدا أساسيا، وأصدر الحكم من الجمع بينهما في كثير من الأبواب، وقصد أن يذكر فيه أيضًا: ما عليه العمل، إكمالا للفائدة، فإن هذا الجانب قد يبدو أنه فقهي، والحق أنه فقهي وحديثي أيضًا، لأن العمل بالحديث عند العامل به من ذوي العلم محدثا كان أو فقيها: دليل على صحته عنده، ما لم يكن ضعيفا ويرى العمل به في فضائل الأعمال، كما هو مقرر في موضعه من كتب الأصول والفقه والمصطلح، أو قام لديه ما يدعوه إلى الأخذ به.

فكتاب "الجامع" للإمام الترمذي كتاب فذ في بابه، وقد تتابعت وكثرت كلمات الثناء عليه من كبار الأئمة المحدثين والنقاد، من أجل كثرة مزاياه وفوائده وعلومه الحديثية) ا. هـ كلام عبدالفتاح أبو غدة.

* * *

ص: 124

‌الفصل الثاني في أسانيد الترمذي من حيث العلو وعدمه

أقدم ما عند الترمذي حديث مالك، والحمادين، والليث بن سعد، وقيس بن الربيع، وينزل حتى أنه أكثر عن البخاري، وأصحاب هشام بن عمار، ونحوه. قاله الذهبي في "السير"

(1)

.

قلت: يعني أنه يروي عن مالك والحمادين والليث وقيس بواسطة شخص واحد عنهم، فهو يروي عن تلاميذهم.

وقوله: (ينزل حتى أكثر عن البخاري) لأنه وإن كان البخاري من شيوخه إلا أنه قد شاركه في جمع من شيوخه، لذا قال الذهبي هنا:(وينزل).

وكذا هشام بن عمار فقد روى عنه بواسطة، وهذا يعتبر نزولا؛ لأن هشام تأخرت وفاته إلى سنة خمس وأربعين ومائتين، وجمع من شيوخ الترمذي قد توفوا قبل ذلك، فروايته عنه تعتبر بنزول.

فأعلى أسانيده رباعي، نعم له حديث واحد ثلاثي:

قال رحمه الله: (حدَّثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ابن ابنة السدي الكوفي، قال: حدَّثنا عمر بن شاكر، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان، الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر".

(1)

(13/ 271).

ص: 125

هذا حديث غريب من هذا الوجه، وعمر بن شاكر روى عنه غير واحد من أهل العلم، وهو شيخ بصري)

(1)

.

قلت: وهذا إسناد ضعيف، بل هو منكر؛ من أجل عمر بن شاكر وهو ضعيف، وقد أشار أبو عيسى إلى هذا، وأبو حاتم أيضًا بقوله: ضعيف يروي عن أنس المناكير

(2)

. وقال ابن عدي: يروي عن أنس بنسخة قريبا من عشرين حديثا غير محفوظة

(3)

.

قال أبو الحجاج المزي في "تهذيب الكمال"

(4)

: وليس في كتاب الترمذي حديث ثلاثي غير هذا الحديث.

* * *

(1)

"الجامع"(3/ 330). (2426)، وذكر في "العلل الكبير" (ص: 329) أنه سأل البخاري عن عمر بن شاكر فقال: (مقارب الحديث، روى عنه عثمان الكاتب وغير واحد).

(2)

"الجرح والتعديل"(6/ 115).

(3)

"الكامل"(5/ 55).

(4)

(21/ 385).

ص: 126

‌الفصل الثالث في مصادره

صرّح الترمذي بمصادره في "العلل" آخر "الجامع" فقال: (وما ذكرنا في هذا الكتاب من اختيار الفقهاء؛ فما كان فيه:

1 -

من قول سفيان الثوري:

فأكثره ما حدثنا به محمد بن عثمان الكوفي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن سفيان.

ومنه ما حدثني به أبو الفضل مكتوم بن العباس الترمذي، حدثنا محمد ابن يوسف الفريابي، عن سفيان.

2 -

وما كان من قول مالك بن أنس:

فأكثره ما حدثنا به إسحاق بن موسى الأنصاري، قال: حدثنا معن بن عيسى القزاز، عن مالك بن أنس.

وما كان فيه من أبواب الصوم، فأخبرنا به أبو مصعب المديني، عن مالك بن أنس.

وبعض كلام مالك ما أخبرنا به موسى بن حزام، قال: أخبرنا عبد الله ابن مسلمة القعنبي، عن مالك بن أنس.

3 -

وما كان فيه من قول ابن المبارك:

فهو ما حدثنا به أحمد بن عبدة الآملي، عن أصحاب ابن المبارك، عنه.

ص: 127

ومنه ما روي عن أبي وهب، عن ابن المبارك.

ومنه ما روي عن علي بن الحسن، عن عبد الله بن المبارك.

ومنه ما روي عن عبدان، عن سفيان بن عبد الملك، عن عبد الله بن المبارك.

ومنه ما روي عن حبان بن موسى، عن ابن المبارك.

ومنه ما روي عن وهب بن زمعة، عن فضالة النسوي، عن عبد الله بن المبارك.

وله رجال مسمون سوى من ذكرنا عن ابن المبارك.

4 -

وما كان فيه من قول الشافعي:

فأكثره ما أخبرني به الحسن بن محمد الزعفراني، عن الشافعي.

وما كان من الوضوء والصلاة، حدثنا به أبو الوليد المكي، عن الشافعي.

ومنه ما حدثنا أبو إسماعيل، قال: حدثنا يوسف بن يحيى القرشي البويطي، عن الشافعي.

وذكر فيه أشياء عن الربيع عن الشافعي، وقد أجاز لنا الربيع ذلك، وكتب به إلينا.

5 -

وما كان فيه من قول أحمد بن حنبل واسحاق بن إبراهيم:

فهو ما أخبرنا به إسحاق بن منصور، عن أحمد وإسحاق، إلا ما في أبواب الحج والديات والحدود فإني لم أسمعه من إسحاق بن منصور، أخبرني به محمد بن موسى الأصم، عن إسحاق بن منصور، عن أحمد، وإسحاق.

ص: 128

وبعض كلام إسحاق أخبرنا به محمد بن فليح، عن إسحاق.

وقد بينا هذا على وجهه في الكتاب الذي فيه الموقوف.

6 -

وما كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ:

فهو ما استخرجته من كتاب التاريخ، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد بن إسماعيل.

ومنه ما ناظرت عبد الله بن عبد الرحمن، وأبا زرعة.

وأكثر ذلك عن محمد، وأقل شيء فيه عن عبد الله وأبي زرعة.

ولم أر أحدا بالعراق، ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل)

(1)

.

* * *

(1)

"الجامع"(5/ 7 - 9).

ص: 129

‌الفصل الرابع في اختلاف نسخه

اعلم علمك الله تعالى أن نسخ "جامع الترمذي" متفقة فيما بينها، ومتطابقة في مادتها وأحكامها، وأما الاختلاف الواقع بينها فهو يسير جدا

(1)

، وأغلبه في أمرين:

الأول: اختلاف في أحكام الترمذي على الأحاديث، أو شيء من كلامه عليها.

والثاني: انفراد بعض النسخ بزيادة بعض الأحاديث، أو الرواة والكلمات، وأحيانا يكون الاختلاف في مسمى الباب، أو ذكره وعدم ذكره.

أما الأول - وهو الغالب في الاختلاف -: فهناك أحاديث وقع اختلاف بين النسخ في حكمه عليها، فمثلا: هل صححه أو اقتصر على تحسينه؟ أو: هل استغربه فقط، أو قال: حسن غريب؟

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا أحمد بن منيع، وعلي بن حجر، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لأهل جعفر طعاما؛ فإنه قد جاءهم ما يشغلهم".

هذا حديث حسن).

(1)

وهكذا الأمر في سائر مصادر السنة الأخرى.

ص: 131

قلت: هكذا وقع في طبعة بشار

(1)

، و"تحفة الأشراف"

(2)

، وكذلك حكم عليه البغوي

(3)

.

ووقع في طبعة الرسالة

(4)

، وطبعة التأصيل

(5)

، و"تحفة الأحوذي"

(6)

: (حسن صحيح)، وهو موافق لما نقله المنذري في "مختصر السنن"

(7)

.

2 -

وقال أيضًا: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا قران بن تمام، ومروان بن معاوية، ويزيد بن هارون، عن سعيد بن عبيد الطائي، عن علي ابن ربيعة الأسدي، قال: مات رجل من الأنصار يقال له: قرظة بن كعب، فنيح عليه، فجاء المغيرة بن شعبة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال النوح في الإسلام؟ أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نيح عليه عذب ما نيح عليه".

حديث المغيرة حديث حسن صحيح).

قلت: هكذا وقع في طبعة بشار

(8)

، ووقع في طبعة الرسالة

(9)

وطبعة التأصيل

(10)

: (غريب حسن صحيح)، وهكذا في "تحفة الأحوذي"

(11)

ونسخة دار الكتب العلمية

(12)

، وأما "تحفة الأشراف" ففيها:(حسن صحيح)

(13)

.

3 -

وقال أيضًا: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا أبو صفوان، عن أسامة ابن زيد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على

(1)

(998).

(2)

(5217).

(3)

"شرح السنة"(1552).

(4)

(1019).

(5)

"الجامع"(1022).

(6)

(4/ 53).

(7)

(2/ 374).

(8)

(1000).

(9)

(1021).

(10)

(1024).

(11)

(4/ 56).

(12)

(1000).

(13)

(11520).

ص: 132

حمزة يوم أحد، فوقف عليه فرآه قد مثل به، فقال:"لولا أن تجد صفية في نفسها، لتركته حتى تأكله العافية، حتى يحشر يوم القيامة من بطونها".

حديث أنس حديث غريب، لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه).

قلت: هكذا في طبعة بشار

(1)

و"تحفة الأشراف"

(2)

، وكذا نقله المنذري في "مختصر السنن"

(3)

، وأما في الرسالة

(4)

والتأصيل

(5)

و"تحفة الأحوذي"

(6)

: (حسن غريب).

والأمثلة على هذا كثيرة، وقد ورد في هذا "المدخل" شيء منها في مواضع متفرقة.

وأما الثاني - وهو انفراد بعض النسخ بزيادة بعض الأحاديث، أو الرواة والكلمات، ونحو ذلك - فمن أمثلته:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا يحيى بن موسى، قال: أخبرنا عمرٍو بن عون، قال: أخبرنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِيَنْظُر أحدكم ما الذي يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته".

هذا حديث حسن)

(7)

.

قلت: الصواب أنه عن أبي هريرة، وأن ذكره قد سقط من الإسناد؛ بدليل أن كل من رواه سوى الترمذي رواه بذكره، وقد وقفت على ثمانية من الرواة كلهم رواه عن أبي عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة.

(1)

(1016).

(2)

(1477).

(3)

(2/ 375).

(4)

(1037).

(5)

"الجامع"(1040).

(6)

(4/ 73).

(7)

"الجامع"(3947).

ص: 133

فقد أخرجه أحمد

(1)

، وأبو داود الطيالسي

(2)

، والبخاري في "الأدب المفرد"

(3)

، وأبو يعلى

(4)

، وابن أبي الدنيا في "المتمنين"

(5)

، والبيهقي في "الشعب"

(6)

، والقضاعي في "مسند الشهاب"

(7)

، وابن عدي في "الكامل"

(8)

، من طريق أبي عوانة.

والذي يظهر أن هذا السقط قديم؛ بدليل أن المزي ذكر هذا الخبر عن الترمذي مرسلا، وكذا ذكره في قسم المراسيل من "التحفة"

(9)

.

وهكذا المباركفوري في "الشرح"، قال: مرسل

(10)

.

ومما يؤكد ما تقدم أن الترمذي لو رواه مرسلا لقال: مرسل، كعادته.

ويؤيده أيضًا أنه وقع في نسخة (س) - من النسخ التي اعتمدت في طبعة الرسالة - مسندا بذكر أبي هريرة.

2 -

وقال أيضًا: (حدثنا الحسين بن حريث، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: توفي عبد الرحمن ابن أبي بكر بالحُبْشِي قال: فحمل إلى مكة، فدفن، فلما قدمت عائشة أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر، فقالت:

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

وعشنا بخير في الحياة وقبلنا

أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

(1)

"المسند"(8689).

(2)

"المسند"(2462).

(3)

(794).

(4)

"المسند"(5925، 5925).

(5)

(151).

(6)

(6890).

(7)

(768).

(8)

(11295).

(9)

(19577).

(10)

"تحفة الأحوذي"(10/ 73).

ص: 134

ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك)

(1)

.

قلت: هذا الحديث لم نجده في "تحفة الأشراف"، فهل سقط من بعض نسخ "التحفة" أو من الطابِع غفلة، أم أن المزي لم يقف عليه في النسخ التي بين يديه، أو وقف عليه ولكن سها عنه؟

ومن أمثلة زيادة باب في إحدى النسخ:

وقع في طبعة أحمد شاكر: (باب ما ذكر في مسح النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول المائدة

(2)

.

حدثنا قتيبة، حدثنا خالد بن زياد، عن مقاتل بن حيان، عن شهر بن حوشب، قال: رأيت جرير بن عبد الله توضأ ومسح على خفيه، قال: فقلت له في ذلك، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح على خفيه، فقلت له: أقبل المائدة أم بعد المائدة؟ قال: ما أسلمت إلا بعد المائدة

(3)

.

حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا نعيم بن ميسرة النحوي، عن خالد بن زياد نحوه

(4)

.

(1)

"الجامع"(1084).

(2)

قال أحمد شاكر: (هذا الباب كله رقم (431) زيادة من "ع" ولم يذكر في سائر النسخ).

(3)

قال أحمد شاكر: (تقدم هذا الحديث بهذا الإسناد (رقم 94 ج 1 ص 156، 157) وبينّا هناك أنه إسناد صحيح).

(4)

قال أحمد شاكرة (هذا الإسناد الثاني لم يتقدم مع الأول، ويظهر أنهما في نسخ قليلة من "السنن"، ولذلك لم يشر إليهما العلامة عبد الغني النابلسي في "ذخائر المواريث"، حين ذكر حديث جرير هذا (رقم 1643 من "الذخائر" ج 1 ص 181) ونسبه للترمذي عن هناد، وهو الحديث (93) من الترمذي، ولم يذكر غيره).

ص: 135

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث مقاتل بن حيان، عن شهر بن حوشب)

(1)

.

وقال بشار عواد معروف: (أضاف العلامة أحمد شاكر، بعد هذا بابا من نسخة السندي، ساق فيه طريقين لحديث جرير بن عبد الله، في المسح على الخفين، احتلا الرقمين (611 و 612)، وقد تقدم هذا الحديث برقم (94)، وصرح العلامة بأن هذا الباب لم يرد في شيء من النسخ، وهو كذلك، فالصواب حذفه، لأن الترمذي لم يذكره في هذا الموضع، ولا أشار إلى ذلك أحد ممن نقل عنه).

قلت: أسلوب هذا الباب يشبه أسلوب الترمذي، ولم يتقدم هذا الباب بهذا المسمى، وإنما الذي تقدم (باب في المسح على الخفين) وذكر فيه هذا الحديث بالإسناد الأول فقط، ولكنه قدم المتن وأخر الإسناد، ثم قال: وروى بقية عن إبراهيم بن أدهم عن مقاتل بن حيان عن شهر بن حوشب عن جرير.

ثم قال: وهذا حديث مفسر

الخ.

والخلاصة أنه لم يتقدم هذا الباب بأكمله، وإنما الذي تقدم بعض ما ذكر هنا، وهذا مما يقوي أنه من صنيع الترمذي، خاصة أنه ذكرها ضمن أبواب كأن فيها استدراكا لأبواب لم يذكرها في الطهارة والصلاة وكان من المناسب أن تذكر فيهما.

قال أحمد شاكر في التعليق على باب ما ذكر في الاغتسال عندما يسلم الرجل - رقم (425) -: (هذا الباب والأبواب بعده إلى آخر الباب رقم (432) كلها في الطهارة، ذكرها الترمذي في أواخر الصلاة كما ترى،

(1)

"الجامع" - طبعة أحمد شاكر - (611، 612). وينظر: حاشية ط التأصيل (2/ 39).

ص: 136

والظاهر أنه نسي أن يذكرها في موضعها، ولم يرد أن يخلي كتابه منها، فكتبها أو أملاها هنا).

وكونه لم يأت في أكثر النسخ لا يعني عدم صحة هذه الزيادة، وأيضا كون المزي في "تهذيب الكمال" عندما ترجم لنعيم بن ميسرة النحوي لم يذكر من ضمن شيوخه خالد بن زياد، وذلك لأنه لم يقف على هذه الزيادة أصلا، والدليل على ذلك أنه لم يذكرها في تحفة الأشراف.

3 -

مثال آخر: قال الترمذي في (باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور): (حدثنا أبو بكر محمد بن زنجويه البغدادي، وغير واحد قالوا: حدثنا الحسين بن محمد قال: حدثنا سليمان بن قرم، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء").

قلت: حديث جابر رضي الله عنه، لم يثبت في ط التأصيل (1/ 276)، وهو مثبت في بقية الطبعات: أحمد شاكر، وبشار، وعصام هادي، والرسالة

(1)

.

وقال محققو ط التأصيل: (بعده - أي بعد قول الترمذي: وفي الباب عن جابر وأبي سعيد - في حاشيتي الأصل، (س) بخط مغاير فيهما: "حدثنا أبو بكر بن محمد بن زنجويه .... ) فذكروا الحديث ثم قالوا: (وقال في حاشية الأصل: "ليس في رواية الشيخ"، ونسبه في حاشية الآخر لنسخة، وقال المزي في "تحفة الأشراف" (2576): "ليس في السماع، ولم يذكره أبو القاسم"، والحديث ثابت في (ف 6/ 2)، وفي (ف 1/ 2)، ووقع في (خ/ 1) بعد قوله: "من قبل حفظه"، ورقم على أوله "لا"، وعلى آخره "إلى"، والحديث وإن كان في (ف 6) وهي من رواية السنجي، عن المحبوبي، إلا أنها لم يتابعها على إثباته نسخة أخرى من رواية المحبوبي،

(1)

الحديث رقم (4).

ص: 137

لذا وضعناه في الحاشية، لا سيما وقد قال العراقي في "تخريج الإحياء" (1/ 147):"هو عند الترمذي، لكن ليس داخلا في الرواية"، ولم يرد عند ابن الأثير في كتابه "جامع الأصول"، ولا عند ابن العربي في "عارضة الأحوذي"، ولا عند المباركفوري في "تحفة الأحوذي".

أما في الرسالة فقال محققوه قولا قريبا مما سبق بعد أن أثبتوا الحديث قالوا:

(تنبيه: هذا الحديث اختلفت النسخ في إيراده وحذفه، فقد ورد في نسخة (س) و (ل)، ونسخة في هامش (د)، وجاء في نسخة (ب) على هامشها دون تصحيح أو إشارة إلى نسخة أخرى، واستدركه الحافظ المزي في "تحفة الأشراف" 2/ 264 على الحافظ أبي القاسم ابن عساكر، وقال: ليس في السماع، ولم يذكره أبو القاسم. ونسبه الحافظ ابن حجر في "التلخيص" 1/ 216 إلى الترمذي، وقال العراقي في "تخريج الإحياء" 1/ 147: هو عند الترمذي، ولكن ليس داخلا في الرواية.

ولم يرد هذا الحديث في نسخة (ب) وهي نسخة مقروءة عليها سماعات، وكذا لم يرد عند ابن الأثير في كتابه "جامع الأصول"، ولا عند ابن العربي في "عارضة الأحوذي"، ولا عند المباركفوري في "تحفة الأحوذي").

وقال أحمد شاكر بعد أن أثبت الحديث: (الزيادة من (ع) ويؤيد صحتها أن الحافظ ابن حجر في التلخيص (ص 80) نسبه إلى الترمذي).

وذكر بشار عواد أنه مثبت في بعض النسخ دون بعض، وذكر قول المزي، وعزو الحافظ ابن حجر الحديث للترمذي.

والأمثلة على ذلك كثيرة.

* * *

ص: 138

‌أسباب الاختلاف بين النسخ:

مرد هذا الاختلاف إلى أسباب، منها:

السبب الأول: أن المصنف غالبا إذا صنف كتابه فإنه لا يزال يزيد فيما صنف أبوابا، أو أحاديث، أو يحذف بعض الأحاديث أو الأبواب، ولهذا يحصل تباين بين نسخ الكتاب

(1)

، ومن المعلوم أن الرواة الذين سمعوا هذه الكتب كثر، فبعضهم يتلقى النسخة المتقدمة، وبعضهم يحضر العرض الأخير للكتاب، فتختلف الروايات لذلك، وهذا ما وقع في موطأ مالك، وصحيح البخاري، وسنن أبي داود، وجامع أبي عيسى، وغيرها من كتب السنة المشهورة.

قال القاضي عياض: (قال عتيق الزبيري: وضع مالك الموطأ على نحو من عشرة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه سنة، ويسقط منه، حتى بقي هذا، ولو بقي قليلًا لأسقطه كله.

وقال القطان: كان علم الناس في زيادة، وعلم مالك في نقصان، ولو عاش مالك لأسقط علمه كله، يعني: تحريًا.

وقال سليمان بن بلال: لقد وضع مالك الموطأ وفيه أربعة آلاف حديث -أو قال أكثر-، فمات وهي ألف حديث ونيف، يلخصها عامًا عامًا بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين، وأمثل في الدين)

(2)

.

(1)

ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في "الفهرست" لابن النديم (ص: 91)، في كلامه عن كتاب "لجمهرة في علم اللغة" لابن دريد، قال:(مختلِف النسخ، كثير الزيادة والنقصان؛ لأنه أملاه بفارس، وأملاه ببغداد من حفظه، فلما اختلف الإملاء زاد ونقص، ولما أملاه بفارس على غلامه تعلم من أول الكتاب، والباقية التي عليها المعول هي النسخة الأخيرة، وآخر ما صح من النسخ نسخة أبي الفتح عبد الله بن أحمد النحوي، لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه).

(2)

"ترتيب المدارك"(2/ 73).

ص: 139

وقال ابن حزم: (آخر ما روي عن مالك موطأ أبي مصعب، وموطأ حذافة، وفيهما زيادة على الموطآت نحو من مائة حديث)

(1)

.

(1)

"تذكرة الحفاظ" للذهبي (2/ 52).

قال بشار عواد في مقدمة تحقيقه لهذه الرواية (ص 41 - 42): (وتمتاز رواية أبي مصعب عن غيرها بميزات عدة منها:

الأولى: أنها آخر رواية نقلت عن الإمام مالك، رواها ثقة من أصحابه، فهي تمثل إذا النشرة الأخيرة التي ارتضاها مالك لكتابه.

الثانية: أنها الرواية المدنية الوحيدة التي وصلت إلينا كاملة، وفى هذا أهمية كبيرة لأنها أخذت عنه ودونت في المدينة، ومنها انتشرت في الآفاق.

الثالثة: أنها واحدة من الروايات التي كانت متداولة بين أهل العلم إلى عصور متأخرة في حين أهمل الكثير من الروايات الأخرى مما يدل على أهميتها.

الرابعة: أن فيها زيادات لا نجدها في غيرها من الموطآت. وقد نقلنا قبل قليل قول ابن حزم في الزيادات الحي احتوتها، ولكنه أمر يحتاج إلى توضيح وبيان واستدراك، وكما يأتي:

1 -

إن الزيادات التي وقفنا عليها في رواية أبي مصعب من الأحاديث المسندة ومن غير الموجودة في رواية يحيى بن يحيى المصمودي هي خمسة عشر حديثا فقط.

2 -

كما وقفنا على حديثين مرسلين عند يحيى وهما متصلان في رواية أبى مصعب.

3 -

ووقفنا على بلاغ في رواية يحيى هو متصل في رواية أبي مصعب.

4 -

وفي رواية أبي مصعب ستة أحاديث مرسلة، ولا ذكر لها في رواية يحيى أيضًا.

فهذه أربعة وعشرون حديثا متصلة لم ترد أصلا، أو لم ترد متصلة في رواية يحيى.

5 -

لكن نلاحظ في الوقت نفسه أن رواية أبي مصعب تضمنت تسعة أحاديث مرسلة، وبلاغا واحدا جاءت في رواية يحيى متصلة.

6 -

ووقفنا في رواية أبي مصعب على بلاغ واحد لم يرد في رواية يحيى.

7 -

وزادت رواية أبي مصعب على رواية يحيي باثنين وثلاثين نصا من موقوفات الصحابة.

8 -

كما زادت رواية أبي مصعب على رواية يحيى بسبعة عشر نصا من أقوال التابعين وأفعالهم. =

ص: 140

وقال ابن العربي: (ذكر القاضي ابن المنتاب أن مالكا روى مائة ألف حديث، جمع منها في موطئه عشرة آلاف، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويختبرها بالاعتبار والآثار حتى عادت إلى خمسمائة)

(1)

.

قلت: وهذا فيه نظر، قال البخاري عن ابن المديني: له - أي: مالك - نحو ألف حديث

(2)

. يعني بذلك: الأحاديث المرفوعة دون الآثار، والآثار نحو ذلك، فما نقل عن ابن المنتاب لا شك أنه غير صحيح، وقد يكون وقع في هذا النقل خطأ أو تصحيف.

وإنما ذكرت "الموطأ" دون غيره؛ لأن الاختلاف فيه أكثر بكثير من غيره، وبدراسة هذا الاختلاف يتبين أنه ليس بمؤثر، لأن مؤلف أي كتاب له الحق أن يزيد بعض الأشياء كأحاديث أو تبويبات أو غيرها، أو يحذف بعض ما ذكره، كما أن بعض الزيادات مرجعها إلى تلاميذ المؤلف، فبعض التلاميذ يعتني بأقوال شيخه في حكمه على الحديث - كما في رواية ابن العبد لسنن أبي داود - أو أقواله الفقهية - كما في رواية أبي مصعب الزهري

(3)

فيضمها إلى الكتاب.

وأما الاختلاف بين متون الأحاديث وألفاظها فهذه لا تكاد توجد، فالألفاظ واحدة، وإذا أردت أن تتأكد من ذلك فانظر إلى النسخة اليونينية لصحيح البخاري فإنه قد بذل جهدا كبيرا في استقصاء الاختلافات بين

= 9 - ثم امتازت رواية أبي مصعب بأن تضمنت ثمانية وستين قولا لمالك لم ترد في رواية يحيى بن يحيى المصمودي).

(1)

"القبس في شرح الموطأ"(1/ 332).

(2)

"تهذيب الكمال"(27/ 110).

(3)

سبق في كلام بشار عواد أن في رواية أبي مصعب ثمانية وستين قولا لمالك لم ترد في رواية يحيى بن يحيى المصمودي.

قلت: وقد يكون هناك في رواية يحيى بن يحيى زيادات لم يذكرها أبو مصعب.

ص: 141

روايات البخاري، فتبين أن معظمها في زيادة بعض الأحرف، أو حذفها، كالواو والفاء ونحو ذلك، واذا أردت أن تتأكد زيادة على ما تقدم فانظر في شرح ابن حجر على البخاري المسمى "فتح الباري"؛ فإنه اعتنى بالاختلاف الموجود بين الروايات اعتناء بالغا، فسوف تجد أن محصلها هو ما تقدم، نعم قد يقع الاختلاف في كلمة - ويكون المعنى واحدا -، أو في راوي الحديث.

وأحيانا يكون سبب الاختلاف من المصنف نفسه، وذلك عندما لا يذكر اسم شيخه كاملا وإنما يقتصر على اسمه الأول، كما يقع للبخاري كثيرا، وقد يكون له أكثر من شيخ يشتركون في هذا الاسم، فيختلف الشراح وغيرهم في تعيين اسم هذا الراوي.

وقد عقد ابن حجر في "مقدمة الفتح" فصلا طويلا في تبيين الأسماء المهملة التي يكثر اشتراكها، وقد ذكر ما جاء من الاختلاف بين أهل العلم في تعيين هؤلاء الرواة.

وهذه بعض الأمثلة على ما سبق:

أولا: أمثلة على الاختلاف في راوي الحديث:

1 -

قال الإمام البخاري (3438): (حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى، فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط".

قال ابن حجر: (قوله (عن ابن عمر) كذا وقع في جميع الروايات التي وقعت لنا من نسخ البخاري، وقد تعقبه أبو ذر في روايته فقال: كذا وقع في جميع الروايات المسموعة عن الفربري "مجاهد عن ابن عمر"، قال: ولا أدري أهكذا حدث به البخاري أو غلط فيه الفربري؛ لأني رأيته في

ص: 142

جميع الطرق عن محمد بن كثير وغيره عن مجاهد عن ابن عباس، ثم ساقه بإسناده إلى حنبل بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن كثير، وقال فيه: ابن عباس، قال: وكذا رواه عثمان بن سعيد الدارمي عن محمد بن كثير قال: وتابعه نصر بن علي عن أبي أحمد الزبيري عن إسرائيل، وكذا رواه يحيى ابن زكريا بن أبي زائدة عن إسرائيل. انتهى.

وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبراني، عن أحمد بن مسلم الخزاعي، عن محمد بن كثير، وقال: رواه البخاري عن محمد بن كثير فقال: مجاهد عن ابن عمر، ثم ساقه من طريق نصر بن علي، عن أبي أحمد الزبيري، عن إسرائيل فقال: ابن عباس. انتهى.

وأخرجه ابن منده في "كتاب الإيمان" من طريق محمد بن أيوب بن الضريس وموسى بن سعيد الدنداني، كلاهما عن محمد بن كثير فقال فيه: ابن عباس، ثم قال: قال البخاري، عن محمد بن كثير، عن ابن عمر، والصواب عن ابن عباس.

وقال أبو مسعود في "الأطراف": إنما رواه الناس عن محمد بن كثير فقال: مجاهد عن ابن عباس، ووقع في البخاري في سائر النسج: مجاهد عن ابن عمر وهو غلط، قال: وقد رواه أصحاب إسرائيل منهم: يحيى بن أبي زائدة، وإسحاق بن منصور، والنضر بن شميل، وآدم بن أبي إياس، وغيرهم، عن إسرائيل فقالوا: ابن عباس، قال: وكذلك رواه ابن عون، عن مجاهد، عن ابن عباس.

ورواية ابن عون تقدمت في ترجمة إبراهيم عليه السلام، ولكن لا ذكر لعيسى عليه السلام فيها، وأخرجها مسلم عن شيخ البخاري فيها وليس فيها لعيسى ذكر، إنما فيها ذكر إبراهيم وموسى حسب، وقال محمد بن إسماعيل التيمي: ويقع في خاطري أن الوهم فيه من غير البخاري؛ فإن الإسماعيلي أخرجه

ص: 143

من طريق نصر بن علي عن أبي أحمد وقال فيه: عن ابن عباس، ولم ينبه على أن البخاري قال فيه: عن ابن عمر، فلو كان وقع له كذلك لنبه عليه كعادته، والذي يرجح أن الحديث لابن عباس لا لابن عمر ما سيأتي من إنكار ابن عمر على من قال: إن عيسى أحمر وحلفه على ذلك، وفي رواية مجاهد هذه "فأما عيسى فأحمر جعد"، فهذا يؤيد أن الحديث لمجاهد عن ابن عباس لا عن ابن عمر، والله أعلم)

(1)

.

2 -

وقال البخاري أيضًا (40): (حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال أخواله من الأنصار، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا

) الحديث.

قال ابن حجر: (قوله "حدثنا عمرو بن خالد" هو بفتح العين وسكون الميم، وهو أبو الحسن الحراني نزيل مصر، أحد الثقات الأثبات، ووقع في رواية القابسي، عن عبدوس، كلاهما عن أبي زيد المروزي، وفي رواية أبي ذر، عن الكشميهني: "عمر بن خالد" بضم العين وفتح الميم، وهو تصحيف نبه عليه من القدماء أبو على الغساني، وليس في شيوخ البخاري من اسمه عمر بن خالد، ولا في جميع رجاله، بل ولا في أحد من رجال الكتب الستة)

(2)

.

3 -

قال البخاري (68): (حدثنا محمد بن يوسف، قال: أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة علينا).

قال ابن حجر: (قوله: "سفيان" هو الثوري، وقد رواه أحمد في

(1)

"فتح الباري"(8/ 66 - 76).

(2)

"فتح الباري"(1/ 177).

ص: 144

مسنده عن ابن عيينة، لكن محمد بن يوسف الفريابي، وإن كان يروي عن السفيانين، فإنه حين يطلق يريد به الثوري، كما أن البخاري حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلا الفريابي، وإن كان يروي عن محمد بن يوسف البيكندي أيضًا، وقد وهم من زعم أنه هنا البيكندي)

(1)

.

ثانيا: أمثلة على الاختلاف في الكلمة ويكون المعنى واحدا أو متقاربا:

1 -

قال البخاري (3424): (

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة

) الحديث.

قال ابن حجر: (قوله: "قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة" في رواية الحموي والمستملي "لأطيفن" وهما لغتان، طاف بالشيء وأطاف به: إذا دار حوله وتكرر عليه، وهو هنا كناية عن الجماع)

(2)

.

2 -

وقال أيضًا (13): (

عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه").

قال ابن حجر: (قوله: "لا يؤمن" أي: من يدعي الإيمان، وللمستملي: "أحدكم"، وللأصيلي: "أحد"، ولا بن عسا كر: "عبد"، وكذا لمسلم عن أبي خيثمة)

(3)

.

3 -

وقال أيضًا (20): (

عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا").

قال ابن حجر: (قوله: "أنا أعلمكم" كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه، وفي رواية الأصيلي:"أعرفكم"،

(1)

"فتح الباري"(1/ 286).

(2)

"فتح الباري"(8/ 36).

(3)

"فتح الباري"(1/ 113).

ص: 145

وكأنه مذكور بالمعنى حملا على ترادفهما هنا، وهو ظاهر هنا وعليه عمل المصنف)

(1)

.

وقد يكون الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في لفظ الحديث، ومن أمثلة ذلك:

1 -

عن أبي أيوب أنه قال - وهو في أرض الروم -: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال غدوة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، وكن له بقدر عشر رقاب، وأجاره الله من الشيطان، ومن قالها عشية كان له مثل ذلك"

(2)

.

عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال إذا صلى الصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كن كعدل أربع رقاب، وكتب له بهن عشر حسنات، ومحي عنه بهن عشر سيئات، ورفع له بهن عشر درجات، وكن له حرسا من الشيطان حتى يمسي، وإذا قالها بعد المغرب فمثل ذلك"

(3)

.

2 -

قال الشافعي: (قال لي قائل: قد اختلف في التشهد، فروى ابن مسعود عن النبي: أنه كان يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، فقال في مُبْتَدَاه ثلاث كلمات:"التحيات لله"، فبأي التشهد أخذت؟

فقلت: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عبد الرحمن ابن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب يقول على المنبر، وهو يعلم الناس التشهد، يقول: قولوا: "التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات

(1)

"فتح الباري"(1/ 134).

(2)

"عمل اليوم والليلة"(24).

(3)

"مسند أحمد"(23518).

ص: 146

الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".

قال الشافعي: فكان هذا الذي علمنا من سبقنا بالعلم من فقهائنا صغارا، ثم سمعناه بإسناد وسمعنا ما خالفه، فلم نسمع إسنادا في التشهد - يخالفه ولا يوافقه - أثبت عندنا منه، وإن كان غيره ثابتا.

فكان الذي نذهب إليه أن عمر لا يعلم الناس على المنبر بين ظهراني أصحاب رسول الله إلا على ما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما انتهى إلينا من حديث أصحابنا حديث يثبته عن النبي صرنا إليه، وكان أولى بنا.

قال: وما هو؟ قلت: أخبرنا الثقة - وهو حي بن حسان - عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير المكي، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن، فكان يقول:"التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله".

قال الشافعي: فقال: فأنَّى ترى الرواية اختلفت فيه عن النبي؟ فروى ابن مسعود خلاف هذا، وروى أبو موسى خلاف هذا، وجابر خلاف هذا، وكلها قد يخالف بعضها بعضا في شيء من لفظه، ثم علم عمر خلاف هذا كله في بعض لفظه، وكذلك تشهّد عائشة، وكذلك تشهّد ابن عمر، ليس فيها شئ إلا في لفظه شئ غير ما في لفظ صاحبه، وقد يزيد بعضها الشيء على بعض؟

ص: 147

فقلت له: الأمر في هذا بين، قال: فأبنه لي، قلت: كل كلام أريد به تعظيم الله، فعلمهم رسول الله، فلعله جعل يعلمه الرجل فيحفظه، والآخر فيحفظه، وما أُخذ حفظا فأكثر ما يحترس فيه منه إحالة المعنى، فلم تكن فيه زيادة ولا نقص ولا اختلاف شئ من كلامه يحيل المعنى فلا تسع إحالته، فلعلّ النبي أجاز لكل امرئ منهم كما حفظ، إذ كان لا معنى فيه يحيل شيئا عن حكمه، ولعل صن اختلفت روايته واختلف تشهده إنما توسعوا فيه فقالوا على ما حفظوا، وعلى ما حضرهم وأجيز لهم

)

(1)

.

ثالثا: مثال على الاختلاف بين النسخ في صيغ التحمل:

قال البخاري (24): حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار، وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعه فإن الحياء من الإيمان".

قال ابن حجر: (قوله: "حدثنا عبد الله بن يوسف" هو التنيسي نزيل دمشق، ورجال الإسناد سواه من أهل المدينة. قوله: "أخبرنا" وللأصيلي: حدثنا مالك)

(2)

.

قلت: والصواب "أخبرنا" لأن هذا هو الذي يستعمله عبدالله بن يوسف في روايته عن مالك، كما علم بالتتغ.

رابعا: مثال على زيادة حديث في بعض النسج:

قال ابن حجر: (تنبيه: وقع في النسخة البغدادية التي صححها العلامة أبو محمد بن الصغاني اللغوي بعد أن سمعها من أصحاب أبي الوقت،

(1)

"الرسالة" للشافعي (ص: 268 - 272).

(2)

"فتح الباري"(1/ 141).

ص: 148

وقابلها على عدة نسخ، وجعل لها علامات، عقب قوله: رواه موسى وعلي ابن عبد الحميد، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت ما نصه: حدثنا موسى ابن إسماعيل، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت، عن أنس، وساق الحديث بتمامه، وقال الصغاني في الهامش: هذا الحديث ساقط من النسخ كلها إلا في النسخة التي قرئت على الفربري صاحب البخاري وعليها خطه. قلت: وكذا سقطت في جميع النسخ التي وقفت عليها، والله تعالى أعلم بالصواب)

(1)

.

خامسا: مثال على الاختلاف بين النسخ في ذكر بعض الأحاديث:

قال علي بن المفضل المقدسي: (قرأت على أبي طاهر أحمد بن محمد بن سلفة الأصبهاني، أخبركم أبو محمد هبة الله بن أحمد بن محمد الأكفاني بدمشق قراءةً عليه، وأنت تسمع فأقر به، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ فيما أذن لنا فيه، أخبرنا أبو طاهر حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق الحافظ بقراءتي عليه، عن أبي مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي الحافظ فيما رواه عنه من "رسالته التي أجاب بها أبا الحسن الدارقطني الحافظ عن الأحاديث التي غلط فيها مسلم بن الحجاج" قال: أخبرنا أبو عمرو بن حمدان، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تصحب الملائكة رفقةً فيها جرسٌ".

قال الشيخ أدام الله كفايته: حديث أبي هريرة هذا أخرجه مسلم بن الحجاج من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، فرواه عن زهير، عن جرير عنه، وزاد في آخره:"أو كلب".

(1)

"فتح الباري"(1/ 272).

ص: 149

أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا أبو محمد بن الأكفاني، أنبأنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا حمزة بن محمد الدقاق قال: قال أبو مسعود الدمشقي، قال أبو الحسن الدارقطني: أخرج مسلمٌ من حديث غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد بن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع الأجراس، قال: وليس هذا عند شعبة، إنما هو سعيد هكذا كتبه بخطه وبيّض بين سعد والنبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو مسعود: (وهذا حديثٌ لم يخرجه مسلمٌ أصلًا بحال، وقد أخرج هذا الباب في كتاب اللباس، وأخرج حديث سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تصحب الملائكة رفقةً فيها كلبٌ ولا جرسٌ"، وأخرج في عقبه حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الجرس مزامير الشياطين"، وأخرج في عقبه حديث أبي بشير الأنصاري: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يبقين في رقبة بعيرٍ قلادةٌ من وتر إلا قطعت".

هذا جميع ما خرّج في هذا الباب، ولم يخرّج حديث قتادة عن زرارة بحال لا في هذا الموضع ولا في غيره.

قال أبو مسعود: وهذا حديثٌ اختلف فيه على قتادة، فرواه محمد بن بكر، وخالد بن الحارث، وغندر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد، عن عائشة، وتابع الجماعة: سعيد بن بشير، عن قتادة في إسناده مثله، ورواه الأنصاري عن أبي عروبة، عن قتادة، عن زرارة، عن أبي هريرة، ورواه هشام الدستوائي، عن قتادة، عن زرارة، عن أبي هريرة، تابع فيه الأنصاري، عن سعيد، وقفه العقدي عن هشام، وأسنده عبد الصمد، عن هشام.

قال الشيخ أمده الله بتوفيقه: قال لنا الحافظ السلفي، يحتمل أن هذا الحديث يعني حديث غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد بن

ص: 150

هشام، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان في كتاب مسلم فأسقطه مثل ما فعل في غيره، والى هذا أشار الدارقطني.

والعذر عنه أن يقال: "سعيد" قد يتصحف "لشعبة" من حيث الكتابة، خصوصًا وقد اشتركا في قتادة، وروى غندر عنهما جميعًا، ولعله كان في كتاب مسلم القديم الذي كتبه عن شيخه مشكلًا غير مشكول، فذهب عليه حالة نقله إلى تخريجه، إذ الغالب على غندر الرواية عن شعبة، فحين نظر رحمه الله إلى الاختلاف الذي فيه على قتادة أسقطه من "صحيحه" ثم لم ينعم النظر فيه مرة أخرى، كما فعل في غيره من الأحاديث المنقحة، فبقي مشكولًا على حاله، والحق مع الدارقطني رحمه الله، إذ حكى ما رأى، والله أعلم.

قال الشيخ أيده الله: انتهى كلام السلفي، ولا نظن بالدارقطني بعد أن قال هكذا كتبه "بخطه" - يعني مسلمًا - إلا وقد وقف عليه كذلك، وتحقق أنه خطه، اللهم إلا أن يكون رآه في النسخة القديمة التي أسقط منها ما أسقط، ولم يتأمل الجديدة التي ليس هو الآن فيها، كما ذكر أبو مسعود، فلا يصح النقد عليه فيما تنبه لعلته فأسقطه، والله أعلم)

(1)

.

‌سادسا: ومن أمثلة الاختلاف بين النسخ:

قال الحافظ ابن حجر: (قوله: "باب" كذا هو في روايتنا بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلا، فحديثه عنده من جملة الترجمة التي قبله، وعلى روايتنا فهو متعلق بها أيضًا؛ لأن الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء)

(2)

.

(1)

"الأربعين المرتبة على طبقات الأربعين"(ص: 440 - 444).

(2)

"فتح الباري"(1/ 124).

ص: 151

وقد يقع الاختلاف المؤثر ولكنه نادر، ومن أمثلة ذلك:

حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة

".

قال ابن حجر: (قوله: "على سبعين امرأة" كذا هنا من رواية مغيرة، وفي رواية شعيب كما سيأتي في الأيمان والنذور "فقال تسعين"، وقد ذكر المصنف ذلك عقب هذا الحديث، ورجح تسعين بتقديم المثناة على سبعين، وذكر أن ابن أبي الزناد رواه كذلك.

قلت: وقد رواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد فقال: "سبعين" وسيأتي في كفارة الأيمان من طريقه، ولكن رواه مسلم عن ابن أبي عمر، عن سفيان، فقال:"سبعين" بتقديم السين، وكذا هو في "مسند الحميدي" عن سفيان، وكذا أخرجه مسلم من رواية ورقاء، عن أبي الزناد، وأخرجه الإسماعيلي، والنسائي، وابن حبان، من طريق هشام بن عروة، عن أبي الزناد، قال:"مائة امرأة"، وكذا قال طاوس عن أبي هريرة كما سيأتي في الأيمان والنذور من رواية معمر، وكذا قال أحمد عن عبد الرزاق من رواية هشام بن حجير عن طاوس:"تسعين"، وسيأتي في كفارة الأيمان، ورواه مسلم عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق فقال:"سبعين"، وسيأتي في التوحيد من رواية أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة:"كان لسليمان ستون امرأة"، ورواه أحمد، وأبو عوانة، من طريق هشام عن ابن سيرين فقال:"مائة امرأة"، وكذا قال عمران بن خالد عن ابن سيرين عند ابن مردويه، وتقدم في الجهاد من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج فقال:"مائة امرأة أو تسع وتسعون" على الشك، فمحصل الروايات ستون وسبعون وتسعون وتسع وتسعون ومائة، والجمع بينها أن الستين كن حرائر وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمائة فكن دون المائة وفوق التسعين، فمن قال:"تسعون" ألغى الكسر،

ص: 152

ومن قال: "مائة" جبره، ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر، وأما قول بعض الشراح: ليس في ذكر القليل نفي الكثير، وهو من مفهوم العدد، وليس بحجة عند الجمهور، فليس بكاف في هذا المقام، وذلك أن مفهوم العدد معتبر عند كثيرين، والله أعلم)

(1)

.

وإليك دراسة معاصرة للاختلافات بين بعض روايات "الموطأ" في متون الأحاديث واختلاف ألفاظها توصل إلى نفس النتيجة المتقدمة، قال محمد مصطفى الأعظمي رحمه الله: (ترتيب المواد في كتاب الموطأ:

يتوقع الباحث عندما يقارن بين المخطوطات المختلفة لكتاب واحد برواية واحدة، أن يكون ترتيب الكتاب على نسق واحد، وأحيانًا يحصل الاختلاف في تقديم كتاب أو تأخير كتاب.

لكنني عند المقارنة بين مختلف النسخ - القديمة نسبيًا - من كتاب الموطأ وبين ما هو مطبوع وجدت اختلافًا شديدًا في ترتيب الكتب، أما الأبواب والأحاديث في داخل الكتاب فيكاد يكون الاتفاق بينها تامًا.

وعندما نقارن ترتيب الكتب والأبواب في المخطوطات القديمة للموطأ نجدها هي الأخرى تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا)

(2)

.

وقال أيضًا: (بشار عواد والإمام مالك:

لقد ادّعى الدكتور بشار عوّاد بأن الإمام مالكًا، ولو أنه قد بلغ الغاية في الدقة والضبط والإتقان والإمامة والديانة، وهو إمام في الحديث قلّ نظيره، على الرغم من ذلك فإن "الموطأ" من الأمثلة الواضحة على رواية الحديث بالمعنى، وعدم الالتزام الكامل بالألفاظ وتسلسلها بين رواية وأخرى، فالملاحظ أن الاختلاف بين الموطآت في ألفاظ الحديث كثير إلى

(1)

"فتح الباري"(8/ 36 - 37).

(2)

"مقدمة تحقيق موطأ مالك"(1/ 352).

ص: 153

حد يصعب حصره في التعليق على أية رواية من هذه الروايات، وقد جربنا ذلك مثلًا بين رواية يحيى المصمودي ورواية أبي مصعب الزهري، أو محاولة إثبات الخلاف في ألفاظ الحديث بين رواة الحديث عند مالك، فوجدنا أن الأمر يحتاج إلى تسويد مئات الصفحات من الحواشي لتوضيح هذه الاختلافات".

وأقول: بأنه من جانب آخر يَنقل عن الإمام مالك تلامذته قوله: "كل حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يؤدى على لفظه، وعلى ما روي، وما كان عن غيره فلا بأس إذا أصاب المعنى".

ونقل معن عن الإمام مالك قوله: "أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدّه كما سمعته، وأما غير ذلك فلا بأس بالمعنى".

حتى قال معن: "كان مالك يتقي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الياء والتاء ونحوهما". وروى عنه ابن عمير مثله.

ولحسم هذا الاختلاف أجريت هذه الدراسة التي يضمنها هذا الملحق، بين رواية يحيى بن يحيى الليثي وأبي مصعب الزهري، لمعرفة مقدار الاتفاق والاختلاف بين روايتيهما علمًا بأن كلتا الروايتين مأخوذتان من المخطوطات المتأخرة، وليستا أصول يحيى الليثي أو أبي مصعب الزهري. وبمرور الزمن يحصل الاختلاف في النسخ جراء أخطاء النساخ. والدليل على ذلك أن يحيى الليثي لم يسمع الموطأ من الإمام مالك إلا مرة واحدة، وقد فاته بعض الأبواب، وعلى هذا فإنه لا يمكن أن أصله كان يشتمل على كل هذه الاختلافات التي نجدها في موطأ يحيى بين رواية عبيد الله، وابن وضاح، وابن فطيس، والوقشي، وتوزري وآخرين، إذن هذه الاختلافات مصدرها الرواة المتأخرون، والنساخ، وليست من أصل رواية الإمام مالك.

ص: 154

وعلى هذا يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذه النقطة حين ننظر في هذا الملحق بحثًا عن مواضع الاختلافات بين الروايتين.

ملحوظة: الرقم في بداية الحديث يشير إلى رقم الفقرة في هذه الطبعة، والرقم الآخر يدل على الرقم في طبعة الدكتور بشار عواد لموطأ أبي مصعب الزهري. وما كتب باللون الغامق هو رواية يحيى، وأما ما كتب باللون الفاتح فلرواية الزهري)

(1)

.

وذكر الأعظمي عدة صفحات في المقارنة بين الروايتين يحسن الاطلاع عليها لمن أراد ذلك، ثم قال: (وبعد، فأكتفي بهذا القدر من المقارنة بين روايتي يحيى الليثي وأبي مصعب الزهري، وقد استغرقت 36 صفحة من هذه الطبعة.

وعلى القارئ أن يحكم بنفسه - في ضوء ما هو موجود أمامه - على ادعاء الدكتور بشار عواد. والله الهادي إلى الطريق المستقيم)

(2)

.

السبب الثاني: أن بعض الطلاب لا يسمع الكتاب كاملا، بل قد يفوته بعض الأبواب منه، فإما أن يقتصر على ما سمع، فيحصل عنده نقص في روايته، وبعضهم يستدرك ما فاته بالإجازة، فيروي الفوت بالإجازة، أو يحمله عن غيره من الطلاب عن المصنف.

السبب الثالث: أن النساخ متباينون من حيث الضبط والإتقان والعلم، فمن لم يكن ضابطا متقنا قد يسقط منه بعض الأحاديث، أو بعض الأبواب، كما أن منهم من قد يصحف بعض الكلمات، ولا تقابل هذه النسخة مقابلة دقيقة فيحصل التباين بين النسخ.

والذي يقرب لك هذا الأمر أن الكتب المصنفة في هذا الوقت قد يزيد المصنف في طبعة أخرى على الطبعة السابقة، أو يغير فيها ما كتبه في

(1)

"موطأ مالك"(1/ 409 - 410).

(2)

"موطأ مالك"(1/ 447).

ص: 155

الطبعة الأولى، كما أنه في أثناء إعداد الكتاب للطبع قد يقع بعض الخطأ أو السقط في الكتاب.

وخلاصة ما تقدم: أن الاختلاف الذي يقع بين الروايات أو النسخ هو أمر يسير مرجعه إلى ما تقدم تقريره، والذي أحب أن أنبه عليه هنا هو أن بعض محققي الكتب إذا وجد أدنى اختلاف ظن أنه وقف على أمر كبير، وشيء عظيم، وبالتالي -حسب نظره- أن هذا الكتاب يحتاج إلى أن يحقق مرة أخرى، وأن في تحقيقه زيادات مهمة على الطبعات الأخرى للكتاب، بينما الأمر خلاف ذلك، وأن الاختلافات لا تعدو أن تكون في أشياء يسيرة أو أمور شكلية، وأنه يمكن التنبيه عليها دون إعادة تحقيق للكتاب

كما أنه لا يلزم عند إرادة طبع الكتاب -وأعني: دواوين السنة المشهورة- جمع أكبر عدد من النسخ، كما هو الجاري الآن، لذا كان أغلب ما صدر منها لم يأت محققون بشيء جديد، وذلك أن هذه الكتب لم يزل علماء المسلمين منذ أن ألفت وهم يقرؤونها في المحافل العامة، ويتلونها في المجامع الكبيرة، فيحققون ما فيها من إشكال، ويزيلون ما فيها من لبس، ويصوبون ما فيها من خطأ، وبالتالي يكفي في ذلك الرجوع إلى بعض النسخ الصحيحة.

ولو وُجّه هذا الجهد إلى أمور أخرى تتعلق بالكتاب، من شرح، أو إخراج فوائد، أو بيان منهج، لكان أولى.

ومما ينبغي الانتباه له أيضا أنه في بعض كتب السنة تجد الحديث الواحد قد يكرر في أكثر من موضع فتختلف نسخ الكتاب في هذه المواضع؛ فمثلا في بعضها يذكر ثلاث مرات، وفي بعضها خمس، أو أقل أو أكثر، فبعض المحققين يجعل هذا التكرار زوائد، وأن طبعته تفردت بزيادة هذه الأحاديث التي خلت عنها الطبعات السابقة، بينما هو حديث

ص: 156

واحد اختلفت النسخ في تكراره، كما ذكر بعض من طبع "المسند" أن نسخته قد زادت على بعض النسخ بمائة حديث، وعند التحقيق تبين أنها أقل من ذلك بكثير، بل هي بضعة أحاديث، وبعضها إنما لم يتكرر في بعض النسخ، ولا شك أن مثل هذا لا يدعو إلى إعادة طبع الكتاب بأكمله، خاصة مثل كتاب "المسند" الذي فيه نحو ثلاثين ألف حديث، وإنما تستدرك في طبعة أخرى أو تطبع مفردة، وبالله تعالى التوفيق.

* * *

ص: 157

‌الفصل الخامس في تفنن المؤلف في كتابه

لقد تفنن أبو عيسى في هذا الكتاب أيما تفنن، فقد جمع فيه بين الصناعتين الحديثية والفقهية، أما الحديثية فكل المصطلحات المتعلقة بهذا الأمر موجودة فيه، وليس بين أيدينا اليوم

(1)

كتاب يجمع هذه المصطلحات سواه، من الصحيح بأنواعه، والحسن بأقسامه، والغريب بصوره الكثيرة، والمعلول مع شرح علته، والمشهور وما يقابله من الفرد، إلى غير ذلك، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.

وأما الصناعة الفقهية فهي ظاهرة في هذا الكتاب أيضا، ففيه بيان فقه النصوص التي أوردها مع ذكر الخلاف العالي بين أهل العلم إذا وجد فيها، مع ذكر ما أجمعوا عليه مما اختلفوا فيه، مع تفسير ما أشكل من النصوص، والجمع بينها وبين ما يخالفها في الظاهر، إلى غير ذلك.

وإليك بيان بعض ما تقدم في النقاط التالية:

‌أولا: في الصناعة الحديثية:

1 -

تفننه في انتخاب أحاديث "الجامع".

2 -

تكملة ذلك بالإشارة إلى ما جاء في الأبواب التي عقدها في هذا

(1)

هناك أئمة سبقوا أبا عيسى في هذا الجانب كعلي بن المديني، ويعقوب بن شيبة، وغيرهما من كبار الحفاظ، ولكن كتبهم ليست موجودة بين أيدينا اليوم، وإنما وجد منها شيء يسير جدا.

ص: 159

الكتاب من الأحاديث، ولا تخفى الكتب التي ألفت في استخراجها وتخريجها.

3 -

حكمه على كل حديث أودعه في كتابه "الجامع" غالبا، لذا كانت الأحاديث التي لم يحكم عليها قليلة أو نادرة، وبهذا أصبح كتابه أوسع كتاب بين أيدينا من كتب الأئمة المتقدمين في الحكم على الأخبار صحة وضعفا حتى أنه في بعض الأحيان يحكم على الأحاديث التي أشار إليها في الباب ولم يخرّجها.

4 -

تفننه في أحكامه على الآثار التي أوردها، ويظهر هذا عند أدنى تأمل، فمثلا في الحديث الغريب كتابه من أوسع الكتب فيه، لا في الكتب التي جمعت الأحاديث، ولا في الكتب التي تحدثت من الناحية الاصطلاحية عن الغريب، ففي كتابه "العلل الصغير" -الذي كان المقصود منه بيان المصطلحات التي استخدمها في "الجامع"، وبعض المسائل المتعلقة به- قسم الغريب إلى خمسة أقسام مع التمثيل لكل قسم منها، وهذا لا يوجد فيما أعلم في كتاب سواه.

نعم أبو بكر البزار اعتنى بهذا الجانب اعتناء كبيرا، وأكثر من بيان التفرد والغرابة الواقعة في الأحاديث التي خرجها، ولكن تميز عليه أبو عيسى بأمرين: إكثاره من ذلك، وتفننه في بيان أنواع الغريب، مع ملاحظة أنه أقدم منه، ولكن ما ذكره البزار هو في غاية من الأهمية، وخاصة في بيان معرفة درجة الحديث.

ومن الأمثلة على الأحاديث التي وصفها البزار بالغرابة وفيها بيان لمنهجه ما يلي:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا محمد بن المثنى بن عبيد، قال: نا أبو معاوية عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء،

ص: 160

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلك على خير من كثير من الصلاة والصدقة؟ " قالوا: بلى. قال: "إصلاح ذات البين".

وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل أحسن من هذا الإسناد لهذا الكلام، وإسناده صحيح، وكلامه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غريب)

(1)

.

2 -

وقال أيضًا: (حدثنا محمد بن عبد الملك، قال: نا بشر بن المفضل، قال: أنا الحسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد".

وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد إلا في هذا الحديث، وإنما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه في صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وإسناده حسن)

(2)

.

3 -

وقال أيضًا: (حدثنا محمد بن عمارة بن صبيح، قال: نا إسماعيل بن أبان، قال: نا عبد الله بن مسلم الملائي، عن أبي الجحاف، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تذهب الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي".

وهذا الحديث غريب، لا نعلمه يروى عن أبي الجحاف، عن عاصم إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أسند أبو الجحاف، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله إلا هذا الحديث.

حدثنا علي بن المنذر، قال: نا محمد بن فضيل، قال: نا عثمان بن

(1)

"مسند البزار"(4109).

(2)

"مسند البزار"(3513).

ص: 161

شبرمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحو من حديث الثوري، عن عاصم.

وهذا الحديث لا نعلم رواه عن عثمان بن شبرمة، إلا محمد بن فضيل، وقد روى هذا الكلام عن عاصم جماعة منهم: فطر، وزائدة، وحماد بن سلمة، وغيرهم)

(1)

.

4 -

وقال أيضًا: (حدثنا محمد بن موسى القطان، قال: نا إسماعيل ابن أبان، قال: نا حفص بن عمران، عن سماك، عن الحسن، عن عمران ابن حصين، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة في معصية الله".

وهذا الحديث قد روي عن عمران من غير وجه، فذكرنا هذا الحديث من هذا الطريق عن عمران؛ لأنه كان أعز مخرجا يروى في ذلك عن عمران، ولا نعلم روى هذا الحديث عن سماك إلا حفص بن عمران، وهو رجل من أهل الكوفة، ولا نعلم رواه عن حفص إلا إسماعيل بن أبان وهو رجل يتشيع، وقد روى عنه أهل العلم واحتملوا حديثه، ولا نعلم روى سماك، عن الحسن، عن عمران إلا حديثين هذا أحدهما، وهو غريب، والآخر مشهور)

(2)

.

5 -

وقال أيضًا: (حدثنا حميد بن الربيع، قال: حدثنا حسين بن علي، قال: نا زائدة، عن سليمان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن سويد بن غفلة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة".

وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه

(1)

"مسند البزار"(1807، 1808).

(2)

"مسند البزار"(3511).

ص: 162

إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وهو حسن الإسناد، من غريب حديث الأعمش، متصل الإسناد)

(1)

.

6 -

وقال أيضًا: (حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، قال: نا إسحاق ابن إدريس، قال: نا أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، بنحوه.

وهذا الحديث عن ثوبان لا نحفظه إلا من هذا الطريق الذي ذكرناه، ولا نعلم رواه عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، إلا عباد بن منصور، ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد، ولا نعلم حدث بحديث أبان إلا إسحاق بن إدريس، وهو غريب عن أيوب وعن يحيى بن أبي كثير، وهذا الحديث فمتنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معروف إلا من هذا الوجه)

(2)

.

7 -

وقال أيضًا: (حدثنا عبد الله بن الوضاح الكوفي، قال: نا يحيى ابن اليمان، عن عائذ بن نسير، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه ذكر الحوض فقال:"ترى فيه أباريق عدد نجوم السماء".

وفيه كلام غير هذا، وهو حديث غريب)

(3)

.

8 -

وقال أيضًا: (حدثنا زكريا بن يحيى، نا شبابة بن سوار، حدثنا مغيرة بن مسلم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى مصابا فقال: الحمد لله

".

وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر إلا المغيرة بن مسلم، والمغيرة ليس به بأس، بصري مشهور، والحديث غريب)

(4)

.

(1)

"مسند البزار"(4153).

(2)

"مسند البزار"(4170).

(3)

"مسند البزار"(4381).

(4)

"مسند البزار"(5838).

ص: 163

9 -

وقال أيضًا: (

وحدثناه عمر بن الخطاب والعباس بن عبد الله، قالا: نا محمد بن كثير، نا الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين

وهذا الحديث غريب عن أيوب بن موسى، وليس هو عند عبيد الله)

(1)

.

10 -

وقال أيضًا: (حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا عمر بن سهل، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد اهتز العرش لموت سعد بن معاذ".

وهذا الحديث لا نعلم رواه عن مبارك، عن الحسن، عن أنس إلا عمر بن سهل، وعمر بن سهل بصري لا باْس به، انتقل عن البصرة إلى مكة ومات بها، وهو حديث غريب)

(2)

.

11 -

وقال أيضًا: (حدثنا نصر بن علي، أنا عبد المؤمن بن عباد، نا أيوب، عن محمد، عن أنس، قال: كان يكتبون صدور وصاياهم: هذا ما أوصى به فلان بن فلان

وهذا الحديث لا نعلم رواه عن أيوب إلا عبد المؤمن بن عباد، وهو رجل من أهل البصرة لا بأس به، وقد رواه هشام، عن محمد عن أنس، وهو غريب من حديث أيوب، تفرد به نصر عن عبد المؤمن)

(3)

.

12 -

وقال أيضًا: (حدثنا الحسين بن محمد الذراع، نا عمرو بن النعمان -ثقة-، عن ابن عون، عن محمد، عن أنس، قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليلاطفنا حتى إن كان ليقول لأخ لي صغير: "أبا عمير، ما فعل النغير".

(1)

"مسند البزار"(5874).

(2)

"مسند البزار"(6680).

(3)

"مسند البزار"(6720).

ص: 164

وهذا الحديث لا نعلمه يروى من حديث ابن عون، عن محمد، عن أنس إلا بهذا الإسناد، وهو غريب من حديث ابن عون)

(1)

.

13 -

وقال أيضًا: (حدثنا محمد بن عبد الرحمن، ومحمد بن أبي غالب، قالا: حدثنا سعيد بن سلييان، حدثنا عباد، يعني ابن العوام، عن ابن عون، عن محمد، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر

وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن ابن عون، عن محمد، عن أنس، إلا من حديث عباد، عن ابن عون، وهو غريب عن ابن عون)

(2)

.

14 -

وقال أيضًا: (حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، نا محمد بن سلمة الحراني، نا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس، قال: جيء بأبي قحافة يوم فتح مكة

وهذا الحديث لا نعلم رواه عن هشام بن حسان، عن محمد، عن أنس، إلا محمد بن سلمة، وهو غريب عن محمد، عن أنس، ولم يكن بالبصرة)

(3)

.

15 -

وقاد أيضًا: (حدثنا عيسى بن موسى السامي، نا يحيى بن أبي بكير، نا كنانة بن جبلة، عن سهيل بن أبي حزم، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سجد آدم قال الشيطان

".

وهذا الحديث لا نعلم رواه عن لسهيل إلا كنانة بن جبلة، ولا نعلمه يروى عن أنس من غير هذا الوجه، وهو غريب عن أنس)

(4)

.

16 -

وقال أيضًا: (حدثنا محمد بن مرزوق، نا حرمي بن حفص، نا

(1)

"مسند البزار"(6723).

(2)

"مسند البزار"(6724).

(3)

"مسند البزار"(6737).

(4)

"مسند البزار"(6938).

ص: 165

الضحاك بن نبراس -ليس به بأس- نا ثابت، عن أنس، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه، إذ جاءه رجل عليه ثياب السفر

وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أنس إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، والضحاك بن نبراس قد روى عن ثابت غير حديث وليس به بأس، غريب من حديث أنس)

(1)

.

17 -

وقال أيضًا: (حدثنا الفضل بن يعقوب الرخامي، نا زيد بن يحيى بن عبيد الدمشقي، نا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الخلق أعجب إيمانا؟

".

غريب من حديث أنس)

(2)

.

* * *

ومثل البزار في العناية بهذا الجانب أبو القاسم الطبراني، ولكن ليس مثل تفنن البزار ودقته، مع أن ما ذكره في غاية من الأهمية، والأمثلة التي سأذكرها تبين ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا أحمد بن زهير قال: نا عبد الرحمن بن عنبسة البصري قال: نا موسى بن داود الضبي، عن المطلب بن زياد، عن عبيد المكتب، عن المسيب بن نجبة، عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المستشار مؤتمن، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه".

لم يروه إلا عبد الرحمن بن عنبسة، وهو حديث غريب)

(3)

.

2 -

وقال أيضًا: (حدثنا إسحاق بن جميل الأصبهاني قال: نا محمد

(1)

"مسند البزار"(6723).

(2)

"مسند البزار"(7294).

(3)

"المعجم الأوسط"(2195).

ص: 166

ابن عمرو بن العباس الباهلي قال: نا عبد الملك بن عمرو أبو عامر، عن عبد الله بن بديل الخزاعي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".

هكذا رواه عبد الله بن بديل بن ورقاء، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس. ورواه أصحاب الزهري، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب. وعن الزهري، عن أنس بن مالك، فإن كان عبد الله بن بديل حفظه فهو حديث غريب، ولا يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه)

(1)

.

3 -

وقال أيضًا: (حدثنا علي بن الحسين الصوفي البغدادي، قال: نا يوسف بن واضح قال: نا قدامة بن شهاب، عن برد بن سنان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن زر بن حبيش، عن الضبي بن معبد، أنه أهل بحج وعمرة، فذكر ذلك لعمر، فقال: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.

لم يَرو هذا الحديث عن برد بن سنان، إلا قدامة بن شهاب، وخالف بردُ بن سنان، سفيانَ بن عيينة؛ لأن سفيان بن عيينة رواه عن عبد الله بن أبي عامر، عن أبي وائل، عن الضبي، فإن كان برد حفظه فهو غريب عن زر)

(2)

.

4 -

وقال أيضًا: (حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خيثمة قال: نا الفضل بن سهل الأعرج قال: نا أبو الجواب قال: نا شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي جميلة، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم".

لم يَرو هذا الحديث عن عطاء بن السائب إلا شريك، تفرد به أبو الجواب، فإن كان أبو الجواب حفظه، فهو حديث غريب من حديث عطاء

(1)

"المعجم الأوسط"(3030).

(2)

"المعجم الأوسط"(3030).

ص: 167

ابن السائب؛ لأن الناس رووه عن شريك، عن عبد الأعلى الثعلبي، وعن ابن أبي جميلة، عن علي رضي الله عنه)

(1)

.

5 -

وقال أيضًا: (حدثنا محمد بن يحيى، ثنا القاسم بن دينار، نا حسين بن علي الجعفي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا ابن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رجلًا كان يسب أبا بكر عند النبى صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر ساكت

لم يَرو هذا الحديث عن علي بن زيد إلا سفيان بن عيينة، ولا رواه عن سفيان إلا حسين الجعفي، تفرد به القاسم بن دينار، ورواه الناس عن سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فإن كان حسين الجعفي حفظه فهو غريب من حديث علي بن زيد، عن ابن المسيب)

(2)

.

6 -

وقال أيضًا: (حدثنا محمد بن أبان، ثنا علي بن حسان العطار، ثنا يحيى بن سعيد القطان، ثنا قرة بن خالد، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه -وافد بني المنتفق- أنه أتى عائشة هو وصاحب له يطلبان النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجداه

لم يَرو هذا الحديث عن قرة بن خالد إلا يحيى بن سعيد، تفرد به علي بن حسان، فإن كان علي بن حسان حفظه فهو غريب من حديث قرة ابن خالد؛ لأن غير علي بن حسان رواه عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن كثير)

(3)

.

* * *

(1)

"المعجم الأوسط"(5376).

(2)

"المعجم الأوسط"(7239).

(3)

"المعجم الأوسط"(7446).

ص: 168

ومثل الطبراني والبزار أيضًا أبو أحمد عبدالله بن عدي، مع ملاحظة أن ابن عدي نقل أشياء عن أبي عيسى الترمذي من كتابه "العلل الصغير" و"الجامع" في الجرح والتعديل، وبعضها في الغرابة، ومن ذلك:

قوله: (حدثنا حسين بن يوسف الفربري، ثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا أبو كريب، وأبو هشام الرفاعي، وأبو السائب وحسين بن الأسود قالوا: حدثنا أبو أسامة نحوه بإسناده.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه من قبل إسناده، وقد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وإنما يستغرب من حديث أبي موسى، قال: سألت محمد بن غيلان عنه فقال: هذا حديث أبي كريب، وسألت محمد ابن إسماعيل البخاري عنه فقال: هذا حديث أبي كريب، ثم لم يعرفه إلا من حديثه، فقلت له: حدثنا غير واحد، عن أبي أسامة بهذا، فجعل يتعجب، وقال: ما علمت أن أحدا حدث بهذا غير أبي كريب، قال البخاري: وكنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة.

قال الشيخ -أي: ابن عدي-: وهذا الحديث قد ذكره أبو عيسى الترمذي عن جماعة عن أبي أسامة، بعد أن حكموا أنه حديث أبي كريب، عن أبي أسامة، وغير من ذكر أبو عيسى قد رواه عن أبي أسامة)

(1)

.

* * *

ومثلهم أيضًا الدارقطني -كما في أطراف الغرائب لابن طاهر-، ومن الأمثلة على ذلك:

(حديث: بينا أنا جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل قد توضأ وبقي على ظهر قدمه مثل الظفر

الحديث.

(1)

"الكامل" لابن عدي (2/ 510 - 511)، وكلام الترمذي في "العلل الصغير" في آخر "جامعه"(5/ 34 - 35).

ص: 169

غريب من حديث سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جده، عن أبي بكر، تفرد به الوازع بن نافع عنه، وتفرد به المغيرة بن سقلاب عن الوازع.

حديث: أنه قام خطيبا، فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام فينا عام أول

الحديث. غريب من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن عبد الله بن عباس، عن عمر عن أبي بكر.

وغريب من حديث سليم بن حيان، عن قتادة، عنه، تفرد به الأصمعي عبد الملك قُريب عنه، وتفرد به بحر بن سويد الحنفي عن الأصمعي، وتفرد به حاتم عن بحر.

ورواه في موضع آخر وقال: تفرد به الأصمعي عن سليم وصله عن ابن عباس)

(1)

.

* * *

ومثلهم أيضًا أبو نعيم الأصبهاني، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها:

قوله: (حدثنا علي بن هارون، ثنا جعفر الفريابي، ثنا هريم بن مسعر الترمذي، ح وحدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، ثنا إبراهيم بن سلام، قالا: ثنا فضيل بن عياض، عن زياد بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة".

غريب من حديث الفضيل وزياد، صحيح مشهور من حديث عمرو، رواه عنه الجم الغفير)

(2)

.

* * *

(1)

"أطراف الغرائب والأفراد"(1/ 33 - 34).

(2)

"حلية الأولياء"(8/ 138).

ص: 170

ومع ذلك فهؤلاء الحفاظ -أعني: البزار، والطبراني، وابن عدي، والدارقطني، وأبا نعيم- لم يتفننوا كما فعل أبو عيسى في بيان أنواع الغريب، والجمع بين الصحة والغرابة، والتحسين مع الغرابة، أو الغرابة فقط كما تقدم، وإنما في الغالب يقولون: هذا الحديث لم يروه إلا فلان، أو تفرد به فلان، ونحو ذلك.

ويلاحظ أن هذه التقسيمات للحديث الغريب لم تذكر في كتب المصطلح حتى الموسعة منها، نعم قال ابن طاهر المقدسي في مقدمة كتابه "أطراف الغرائب والأفراد"

(1)

: (اعلم أن الغرائب والأفراد على خمسة أنواع

) ثم ذكرها، ولكنْ أبو عيسى قد سبقه إلى تقسيم الغرائب وتنويعها، ولعل ابن طاهر استفاد فيما ذكره من الترمذي، مع ملاحظة أن ابن طاهر اقتصر على نقل كلام الدارقطني في بيان الغرابة والتفرد الواقع في هذه الأحاديث.

مع أن كتاب أبي عيسى لم يختص بهذه المسألة فقط، ومثل ذلك بيانه للحديث الحسن وتنويعه له إلى أنواع متعددة، منها: ما اشتهر به من قوله: (حسن صحيح)، و (حسن صحيح غريب)، و (حسن) فقط، و (حسن غريب)، وأحيانا يقول:(صحيح حسن غريب)، أو (غريب حسن)، أو (حسن غريب صحيح)، أو (غريب حسن صحيح).

وسيأتي أن أنواع الحسن عنده يمكن أن تقسم إلى ثمانية أقسام، وهذا الذي لم يقرنه مع الصحيح، فتبين أن الحسن أنواعه كثيرة عند أبي عيسى، وهذا مما يشهد على تفننه، وما قيل في "الحسن" يقال في "الصحيح" أيضًا، سواء بسواء، فهو أيضًا أنواعه كثيرة عنده، هذا مع بيان علل الأحاديث

(1)

(1/ 29).

ص: 171

والأخبار التي أوردها في كتابه، وهو كثير، وسوف يأتي الكلام على منهجه في التعليل، ومنهجه في الحديث المنكر والمضطرب، وغير ذلك.

ومن تفننه أيضًا: أن كتابه مليء بالجرح والتعديل، فقد عدل رواة كثرًا، كما جرح آخرين، كما أنه اعتنى بالتمييز بين الرواة عند اتفاقهم في الأسماء، مع اهتمامه بالكنى فبين أسماء الرواة الذين ذكروا بكناهم، كما أنه بين كنية رواة آخرين.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (وأبو صالح والد سهيل هو أبو صالح السمان، واسمه: ذكوان، وأبو هريرة اختلفوا في أسمه، فقالوا: عبد شمس، وقالوا: عبد الله بن عمرو، وهكذا قال محمد بن إسماعيل، وهذا الأصح

والصُّنَابحي الذي روى عن أبي بكر الصديق، ليس له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة

والصُّنابح بن الأعسر الأَحْمَسي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، يقال له: الصُّنَابحي أيضًا)

(1)

.

2 -

وقال أيضًا: (وأبو حميد الساعدي اسمه عبد الرحمن بن سعد بن المنذر.

واسم أبي أسيد: مالك بن ربيعة.

وأبو حَصِين: عثمان بن عاصم الأسدي.

وأبو عبد الرحمن السلمي: عبد الله بن حبيب.

(1)

"الجامع"(1/ 273).

ص: 172

وأبو يعفور: عبد الرحمن بن عبيد بن نِسْطاس.

وأبو يعفور العبدي: واقد، ويقال: وَقْدَان، وهو الذي روى عن عبد الله بن أبي أوفى، وكلاهما من أهل الكوفة)

(1)

.

3 -

وقال أيضًا: (وقد روى محمد بن يوسف هذا عن سفيان، فقال: عن أبي عروة، عن أبي الخطاب، عن أنس.

وأبو عروة هو: معمر بن راشد، وأبو الخطاب: قتادة بن دعامة)

(2)

.

4 -

وقال أيضًا: (وأبو المتوكل اسمه: على بن داود، وأبو سعيد الخدري اسمه: سعد بن مالك بن سنان)

(3)

.

5 -

وقال أيضًا: (وأبو سِنَان اسمه: ضرار بن مرة، وأبو سِنَان الشيباني اسمه: سعيد بن سِنَان، وهو بصري، وأبو سِنَان الشامي اسمه: عيسى بن سِنَان هو القَسْمَلي)

(4)

.

6 -

وقال أيضًا: (والجريري اسمه: سعيد بن إياس يكنى أبا مسعود، وقد روى هذا غيره أيضًا عن أبي نضرة، وأبو نضرة العبدي اسمه: المنذر بن مالك بن قطعة)

(5)

7 -

وقال أيضًا: (وأبو سعد اسمه: محمد بن ميسر، وأبو جعفر الرازي اسمه: عيسى، وأبو العالية اسمه: رفيع، وكان عبدا أعتقته امرأة سائبة)

(6)

.

8 -

وقال أيضًا: (وأبو الزعراء اسمه: عبد الله بن هانئ، وأبو الزعراء الذي روى عنه شعبة، والثوري، وابن عيينة، اسمه: عمرو بن

(1)

"الجامع"(1/ 435 - 436).

(2)

"الجامع"(1/ 365).

(3)

"الجامع"(1/ 366).

(4)

"الجامع"(3/ 474).

(5)

"الجامع"(3/ 553).

(6)

"الجامع"(4/ 311).

ص: 173

عمرو، وهو ابن أخي أبي الأحوص صاحب عبد الله بن مسعود)

(1)

.

* * *

‌ثانيا: ما يتعلق بالناحية الفقهية وتفننه في ذلك

ويتبين في الأمور الآتية:

أولا: اهتمامه بفقه السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم.

ثانيا: نقله لإجماعهم إذا أجمعوا، ولاختلافهم إذا اختلفوا، حتى أنك قد لا تجد أقوال بعض الأئمة في غير كتاب أبي عيسى، وبذلك كان كتابه من أهم المصادر في ذلك، وبهذا أصبح أيضًا من أقدم من ينقل الإجماع، وخاصة إجماع الصحابة، فلا يخفى أنه قبل ابن جرير، وابن المنذر، وابن حزم، وابن عبدالبر، وغيرهم ممن عرفوا بنقل الإجماع.

ثالثا: بيانه لما عليه العملى وما ليلى عليه العمل.

رابعا: أن ما تقدم ذكره هو ما اطلع عليه أبو عيسى من أقوالهم ثم لخصه لنا بما بثه في كتابه، وأعني بذلك أنه لم يسق الأسانيد إليهم، وإنما يسوق أقوالهم مجردة على وجه التفصيل أو الإجمال مبينا أقوالهم واختلافهم، وذلك لأنه صنع كتابه "الجامع" على وجه الاختصار، فهو ليس مثل عبد الرزاق أو سعيد بن منصمور أو ابن أبي شيبة في نقلهم لأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم بالإسناد إليهم مبينا فيها ألفاظهم، لأنه قد فعل ذلك في كتاب آخر كما قال في كتابه "العلل الصغير":(وقد بينا هذا على وجهه في الكتاب الذى فيه الموقوف).

ومن الاختصار والتلخيص الذي فعله في كتابه "الجامع" أيضًا أن

(1)

"الجامع"(4/ 534).

ص: 174

أقوال الأئمة في المسائل والأحكام كقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وابن إسحاق ذكرها بدون أسانيد، ولكنه بين في كتابه العلل الصغير أسانيده إليهم فيها على وجه الإجمال.

خامسا: أن هذا كله بناء على ما فهمه من كلامهم، وهذا مهم، وذلك لأن الفهوم قد تتباين كما هو معلوم، كما أنه ليس كل شيء يسهل تلخيصه، فهذا الذي فعله مقرونٌ بفهمه.

سادسا: من تفننه تنبيهه على المدارس الفقهية كأهل الحديث وغيرهم، كما أنه ينص في بعض الأحيان على قول فقهاء أهل بلد معين، كأهل الكوفة مثلا، وفي بعض الأحيان يذكر مذهب أهل مكة والمدينة.

ويستفاد مما نقله أبو عيسى أن علماء الناس في الغالب كانوا في الحجاز والعراق، ثم بعد ذلك انتشر العلم إلى باقي الأمصار، لذا لم أجد في "كتابه" أنه عزى قولا في مسائل الأحكام إلى أهل الشام أو مصر أو خراسان، وانما إلى أفراد كالأوزاعي في الشام، وابن المبارك في خراسان.

وليس معنى هذا أن هذه البلاد ليس فيها علماء، كيف وقد نزلها الصحابة وهلم جرا؟! ولكن المقصود أن اشتهار العلم في البلاد التي ذكرت كان أكثر وأشهر، ومما يدل على أهمية ذلك أن ابن حبان ألف كتابا سماه "مشاهير فقهاء الأمصار"، وألف الذهبي كتابًا سماه:"الأمصار ذوات الآثار"

(1)

.

وسيأتي ذكر الأمثلة على ذلك في الكلام على منهجه في الفقه.

(1)

قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"(20/ 300 - 301): (فإن الأمصار الكبار التي سكخها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخرج منها العلم والإيمان خمسة: الحرمان والعراقان والشام؛ منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام).

ص: 175

لذا قال أبو بكر ابن العربي: (وليس في قدر "جامع" أبي عِيسَى مثله حلاوة مقطع، ونفاسة مَنْزَع، وعذوبة مَشْرع، وفيه أربعة عشر عِلْمًا فرائد: صنَّف، ودلّل، وأسند، وصحّح وأشهر، وعدّد الطُّرُق، وجرّح وعدّل، وأسمى وأكنى، ووصل وقطع، وأوضح المعمول به والمتروك، وبيّن اختلاف العلماء في الإسناد والتأويل، وكل علم منها أصل في بابه، فرد في نصابه، فالقارئ له لا يزال في رياض مونقة، وعلوم متفقة متسقة، وهذا شيء لا يعمه إلا العلم الغزير، والتوفيق الكثير، والفراغ والتدبير)

(1)

.

وهناك ميزات أخرى لم يذكرها تقدم ذكرها.

* * *

(1)

"تاريخ الإسلام" للذهبي (6/ 620)، وهو في "عارضة الأحوذي"(1/ 1)، ولكن وقع فيه بعض التحريف والتصحيف.

ص: 176

‌الفصل السادس في عقيدته

أبو عيسى الترمذي من أئمة الإسلام الكبار، وكتابه "الجامع" من دواوين الإسلام المعروفة، بل من الكتب الستة المشهورة، وكان رحمه الله على عقيدة الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة من أئمة المسلمين، وهي عقيدة أهل الحديث، أهل السنة والجماعة، وليعلم أن عقيدتهم تعرف من طريقين:

1 -

من خلال نصوصهم وتبويباتهم التي وضعوها في ثنايا كتبهم على الأحاديث المتعلقة بالاعتقاد، كقول النسائي في كتابه السنن:(كتاب النعوت)، وأحيانا ينكرون على من خالف ظاهر هذه النصوص، ويردون عليه مقالته كما قال أبو داود:(باب في الرد على الجهمية).

2 -

من خلال إيرادهم لهذه الأحاديث وترتيبها وجمع النظير إلى ما يماثله، وبذلك يتبين معتقدهم فيها، ومقصودهم من ذكرها، قال ابن القيم: (مسلم بن الحجاج يعرف قوله في السنة من سياق الأحاديث التي ذكرها ولم يتأولها، ولم يذكر لها تراجم كما فعل البخاري

الخ)

(1)

.

وأما ما يتعلق ببيان عقيدة أبي عيسى الترمذي فأقول وبالله تعالى التوفيق: إن ذلك يعرف من جهتين -إجمالًا وتفصيلًا-:

الجهة الأولى: جهة الإجمال، ويعرف ذلك من خلال الأمور الآتية:

(1)

"اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية"(1/ 367).

ص: 177

1 -

بيانه لمذهب أهل السنة والجماعة، وقد قرر أبو عيسى ذلك في كتابه تقريرا ظاهرا بينا، بل ونص على انتسابه إليهم وذلك في ثنايا الأبواب، فقال في بيان مذهب أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن أتى من بعدهم من علماء المسلمين في صفات الله عز وجل: (وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث

(1)

وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا ويُؤْمَن بها، ولا يُتوهم، ولا يُقال: كيف؟ هكذا روي عن مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمِرُّوها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة)

(2)

.

وقال في موضع آخر -بعد أن ذكر حديثا فيه رؤية الله عز وجل، ثم ذكر أن مذهب أهل العلم في ذلك الإيمان بالرؤية وغيرها من صفات الله عز وجل -ثم قال:(وهذا الذي اختاره أهل الحديث)

(3)

، وسوف يأتي كلامه بتمامه في موضعه.

2 -

ذكرُ العلماء له ضمن أهل السنة، ومنهم أبو القاسم اللالكائي، فقد قال: (باب سياق ذكر من رسم بالإمامة في السنة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة .... إلى أن قال: ومن أهل خراسان:

أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي)

(4)

.

(1)

يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}، و {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} ".

(2)

"الجامع"(2/ 70).

(3)

"الجامع"(3/ 483).

(4)

"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"(1/ 31 - 53).

ص: 178

وذكره الذهبي أيضًا ضمن الأئمة الذين ذكر أقوالهم في كتابه "العلو"

(1)

.

3 -

كتابه "الجامع"، فإنه يشهد بذلك أيضًا، فكل أحاديث الكتاب وتبويباته بيان للوحي الذي أنزله الله على رسوله، وما أوجبه على عباده، فسائر أبواب الشريعة مذكورة في هذا الكتاب، لذا قال رحمه الله:(من كان هذا الكتاب -يعني: "الجامع"- في بيته، فكأنما في بيته نبي يتكلم)

(2)

.

لذا كان يقول أيضًا في مفتتح كل كتاب: (أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

، (أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(4)

، (أبواب الزكاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(5)

.... وهلم جرّا.

بل سمى كتابه: (الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل)

(6)

.

الجهة الثانية: جهة التفصيل:

فأقول وبالله تعالى التوفيق: إن أبا عيسى شرح ذلك وبينه في كتابه بيانا واضحًا، وسوف أذكر بعض ذلك:

فقد روى في كتابه حديث عمر المسمى بحديث جبريل

(7)

، وفيه بيان مراتب الدين، بذكر أركان الإسلام والإيمان والإحسان.

قال القاضي عياض: (هذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع

(1)

(ص: 197).

(2)

"التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد"(ص: 247)، "فضائل سنن الترمذي" (ص: 32)، "سير أعلام النبلاء"(13/ 274).

(3)

"الجامع"(1/ 273).

(4)

"الجامع"(1/ 371).

(5)

"الجامع"(2/ 43).

(6)

ينظر: "فهرسة ابن خير"(ص: 156).

(7)

"الجامع"(2807).

ص: 179

وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعةٌ إليه، ومتشعبة منه

إذ لا يشذ شيء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاث)

(1)

.

وقال أبو العباس القرطبي في شرح هذا الحديث: (وقوله: "أتاكم يعلمكم دينكم" أي: قواعد دينكم أو كليات ديتكم، قال القاضي:

) ونقل كلامه السابق، ثم قال:(فيصلح هذا الحديث أن يقال فيه: إنه أم السنة؛ لما تضمنه من جمل علم السنة، كما سميت الفاتحة: أم الكتاب؛ لما تضمنته من جمل معاني القرآن)

(2)

.

وقال الحافظ ابن رجب: (وهو حديث عظيم جدا، يشتمل على شرح الدين كله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخره: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" بعد أن شرح درجة الإسلام، ودرجة الإيمان، ودرجة الإحسان، فجعل ذلك كله دينا)

(3)

.

* * *

ثم فصل أبو عيسى ذلك في كتابه، موضحًا هذه المراتب الثلاث:

فأما ما يتعلق بالمرتبة الأولى، وهي مرتبة الإسلام، فذكر حديث ابن عمر:"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وواشاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"

(4)

، وفيه بيان الدرجة الأولى من درجات الدين وهي الإسلام، وتضمن ذكر أركانه الخمسة.

(1)

"إكمال المعلم"(1/ 204 - 205).

(2)

"المفهم"(1/ 152).

(3)

"جامع العلوم والحكم"(ص: 53).

(4)

"الجامع"(2805).

ص: 180

وعقد أبوابًا فيها تفصيل هذه الأركان الخمسة، فذكر ما يتعلق بالشهادتين في ثنايا الكتاب، وليست مجموعة في أبواب معينة، بل كل ما في الكتاب هو شرح لها، لأن جميع الدين يعود إليها، وسوف يأتي بيان شيء من ذلك في الدرجة الثانية. وأما الركن الثاني وهو الصلاة فافتتح كتابه بالحديث عنها وأركانها وشروطها، لذا ابتدأ بالطهارة وما يتعلق بها، ثم الصلاة وصفتها وأنواعها، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج

(1)

، وأطال النفس في ذلك

(2)

.

* * *

وأما المرتبة الثانية، وهي مرتبة الإيمان، وأركانه ستة:

فأما الركن الأول وهو الإيمان بالله عز وجل، فقد عقد أبو عيسى كتابا لذلك ضمن "جامعه"، فقال:(أبواب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

.

وما في هذا الكتاب من أحاديث وآثار هو بيان للإيمان بالله، فكان الباب الأول من أبواب الإيمان:(باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس يقولوا لا إله إلا الله)، ثم ذكر حديث أبي هريرة:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"

(4)

.

(1)

سبقت الإشارة إلى مواضع أبوأب الطهارة والصلاة والزكاة، وأما الصيام فهو في (2/ 81)، والحج في (2/ 149).

(2)

مع ملاحظة أنه أَخَّر أبواب الجنائز فجعلها بعد الحج؛ لأن فيها أحكاما لا تتعلق بالصلاة فقط، بل فيها ما يتعلق بالمرض وما فيه من أحكام، من عيادة المريض، والنهي عن تمني الموت

ونحو ذلك.

(3)

"الجامع"(3/ 507).

(4)

المصدر السابق.

ص: 181

ثم ذكر في الباب الثاني: (باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة)، ثم ذكر حديث أنس -وهو تأكيد للأول وتفسير له-:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"

(1)

.

وفي الباب الثالث: (باب ما جاء بني الإسلام على خمس)

(2)

، وذكر حديث ابن عمر الذي فيه ذكر الأركان الخمسة، الذي تقدم ذكره، وفيه أيضًا أن من تركها أو بعضها فإنه يقاتل على ذلك

(3)

؛ لأن الإسلام مبني عليها، وقد جاء النص على ذلك صريحا كما في حديث أبي هريرة السابق، ففيه:(إلا بحقها) ومن حقها الزكاة كما في الصلاة، لذا قال أبو بكر رضي الله عنه:(والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه)

(4)

، وكذلك في حديث أنس السابق فإن فيه: أن من امتنع من أكل ذبائح المسلمين فإنه يقاتل.

ثم ذكر بابا في بيان صفة الإيمان والإسلام (باب ما وصف جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام) فذكر حديث عمر المسمى بحديث جبريل

(5)

.

ثم عقد بابا في أن الأعمال من الإيمان، فقال:(باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان)

(6)

.

ثم عقد بابا في (استكمال الإيمان والزيادة والنقصان)، وذكر ما يدل

(1)

"الجامع"(3/ 508).

(2)

"الجامع"(3/ 508).

(3)

هذا إذا كانوا أهل شوكة.

(4)

"الجامع"(2803).

(5)

"الجامع"(3/ 509).

(6)

"الجامع"(3/ 511).

ص: 182

على ذلك من الأحاديث، ومنها حديث أبي هريرة في بيان شعب الإيمان

(1)

.

ثم عقد أبوابا أخرى كثيرة تتعلق بهذا الأمر العظيم، وهي:

(باب ما جاء "الحياء من الإيمان")، (باب ما جاء في حرمة الصلاة)، (باب ما جاء في ترك الصلاة)، (باب "لا يزني الزاني وهو مؤمن")، (باب ما جاء "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده")، (باب ما جاء "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا")، (باب في علامة المنافق)، (باب ما جاء "سباب المؤمن فسوق")، (باب فيمن رمى أخاه بكفر)، (باب فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله)، (باب افتراق هذه الأمة)

(2)

.

* * *

ومن الإيمان بالله تعالى: الإيمان بربوبيته عز وجل وأسمائه وصفاته، ونعوت كماله، وقد اعتنى أبو عيسى ببيان ذلك في عدة مواضع من كتابه، ومن ذلك:

1 -

قوله: (باب في نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة)

(3)

.

وهذا فيه إثبات هذه الصفة العظيمة وهي نزوله عز وجل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة.

2 -

وقوله: (باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن)

(4)

.

3 -

وقوله أيضًا: (باب ما جاء في رحمة الناس)

(5)

.

(1)

"الجامع"(3/ 512 - 514).

(2)

"أبواب الإيمان"(3/ 514 - 528).

(3)

"الجامع"(1/ 537).

(4)

"الجامع"(3/ 260).

(5)

"الجامع"(3/ 151).

ص: 183

وفي هذا الإشارة إلى أنها غير رحمة الله التي هي صفة من صفاته، لذا ذكر حديث جرير وفيه:"من لم يرحم الناس لا يرحمه". وذكر أيضًا حديث عبد الله بن عمرو: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

في هذه الأحاديث رحمتان: رحمة تتعلق بالله، ورحمة تتعلق بالناس، وأن من رحم الناس فإن الله يرحمه.

4 -

وقال أيضًا: (وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا، ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس يرون ربهم، وذكر القَدَم وما أشبه هذه الأشياء.

والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل لسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء، وقالوا: تُروى هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث، أن يرووا هذه الأشياء كما جاءت ونؤمن بها، ولا تفسر، ولا تتوهم، ولا يقال: كيف؟ وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه)

(1)

.

5 -

وقال أيضًا في موضع آخر: (وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال: كيف؟

هكذا روي عن مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمِرُّوها بلا كيف، وهكذا قول أهل

(1)

"الجامع"(3/ 483).

ص: 184

العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه.

وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إنما معنى اليد هاهنا القوة.

وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا التشبيه.

وأما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11])

(1)

.

* * *

كما أنه بين في مواضع من "جامعه" أن العبادة حق لله وحده لا شريك له، وهذا يكون بإخلاص العبادة له عز وجل، فذكر حديث:"إنما الأعمال بالنية" وبوب عليه: (باب ما جاء من يقاتل رياء وللدنيا)

(2)

.

وعقد بابا أيضًا فقال: (باب ما جاء في الرياء والسمعة)، وذكر تحته أحاديث في ذلك

(3)

.

ثم عقد بعد ذلك بابين آخرين في بيان هذا الأمر

(4)

، فذكر في الأول

(1)

"الجامع"(2/ 70 - 71).

(2)

"الجامع"(3/ 18).

(3)

"الجامع"(3/ 388).

(4)

"الجامع"(3/ 390 - 391) تحت عنوان (باب) لكل منهما.

ص: 185

منهما: وعيد القراء المراؤون باعمالهم، وذكر في الثاني: حديث من أسر عمله، ثم علم هذا العمل فأعجبه ذلك، ثم قال: (وقد فسر بعض أهل العلم هذا الحديث: إذا اطُّلع عليه فأعجبه إنما معناه: أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم شهداء الله في الأرض"، فيعجبه ثناء الناس عليه لهذا، لما يرجو بثناء الناس عليه، فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير ويكرم ويعظم على ذلك فهذا رياء.

وقال بعض أهل العلم: إذا اطلع عليه فأعجبه رجاء أن يعمل بعمله فيكون له مثل أجورهم، فهذا له مذهب أيضًا).

ثم أشار إلى هذا في موضع آخر أيضًا فقال: (باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر)، وذكر حديث أبي كبشة الأنماري، وفيه: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء

"

(1)

.

ثم ذكر (باب ما جاء في هَمِّ الدنيا وحبها)

(2)

، وذكر حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل"، وذكر حديثين آخرين، وهذا فيه أن الواجب على العبد التعلق بالله وإفراده بذلك.

وذكر أيضًا إحسان العبد الظن بربه عز وجل، فقال:(باب في حسن الظن بالله)

(3)

، وذكر حديث أبي هريرة: "أنا عند ظن عبدي بي

" الحديث.

(1)

"الجامع"(3/ 361 - 362).

(2)

"الجامع"(3/ 362).

(3)

"الجامع"(3/ 393).

ص: 186

وذكر في أواخر أبواب الإيمان: (باب فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله)

(1)

، فذكر حديث عبادة بن الصامت:"من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه النار"، وهذا فيه إشارة إلى الموت على التوحيد.

وذكر أيضًا أن الحلف لا يكون إلا بالله، لذا بوب:(باب في كراهية الحلف بغير الله) وذكر حديث ابن عمر قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر وهو يقول: وأبي، وأبي، فقال:"ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، فقال عمر:(فوالله ما حلفت به بعد ذلك ذاكرًا ولا آثرًا)

(2)

.

وعقد أيضًا أبوابا تتعلق بالولاء والبراء، فقال:(باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين)

(3)

، وقال أيضًا:(باب ما جاء في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب)

(4)

.

* * *

وأما الركن الثاني، وهو الإيمان بالملائكة:

فذكر رحمه الله أبوابًا كثيرة تتعلق بالملائكة، منها ما يتعلق بأصل وجودهم، ومنها ما يتعلق بصفاتهم وأعمالهم، وبعض الأحكام الخاصة بهم.

فأما ما يتعلق بالأمر الأول، وهو أصل وجودهم: فقد تقدم حديث عمر في مراتب الدين، وفيه:"وأن تومن بالله وملائكته".

وقال أيضًا: (باب سورة الملائكة)

(5)

، وهذا أيضًا يتعلق بالإيمان بهم.

(1)

"الجامع"(3/ 525).

(2)

"الجامع"(2/ 561).

(3)

"الجامع"(2/ 601).

(4)

"الجامع"(2/ 602).

(5)

"الجامع"(4/ 225)، وسورة الملائكة هي: سورة فاطر.

ص: 187

وهذا الأمر أكثر من أن يحصى في "جامعه"، وما سوف يأتي مما يتعلق بصفاتهم وأعمالهم يدخلى في ذلك أيضًا.

أما ما يتعلق بصفاتهم الخلقية:

فقد ذكر أبو عيسى عدة أحاديث متعلقة بذلك، ومنها:

1 -

فذكر حديث جابر، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "

ورأيت جبريل فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية"

(1)

.

2 -

وفي (باب ما وصف جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام) ذكر حديث عمر في مراتب الدين، وفيه: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فألزق ركبته بركبته .... وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:"ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"

(2)

.

3 -

وفي (باب من سورة الأنعام) ذكر حديث مسروق، قال: كنت متكئًا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم الفرية على الله: من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، والله يقول:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، وكنت متكئًا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، أليس يقول الله:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]، {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23] قالت: أنا أول من سأل عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما ذاك جبريل، ما رأيته في الصورة التي خلق فيها كير هاتين المرتين،

(1)

"الجامع"(3997).

(2)

"الجامع"(2807).

ص: 188

رأيته منهبطًا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض"

الحديث

(1)

.

4 -

وفي (باب ما جاء في فتنة الدجال)

(2)

ذكر حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وفيه: "

فبينما هو كذلك إذ هبط عيسى ابن مريم بشرقي دمشق عند المنارة البيضاء بين مَهْرُودَتَين واضعا يديه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، قال: ولا يجد ريح نفسه -يعني: أحدًا- إلا مات، وربح نفسه منتهى بصره"

(3)

.

وأما ما يتعلق بأعمالهم:

1 -

فقد قال: (باب ما جاء إن لله ملائكة سياحين في الأرض)

(4)

وذكر فيه حديث أبي صالح عن أبي هريرة -أو عن أبي سعيد الخدري-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض فُضْلًا عن كُتَّاب الناس، فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى بغيتكم

".

2 -

وفي باب: (باب ما جاء في فضل التأمين)

(5)

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملاثكة غفر له ما تقدم من ذنبه".

3 -

وفي باب: (باب ما جاء في التبكير إلى الجمعة)

(6)

ذكر حديث أبي هريرة، وفيه:"فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".

(1)

"الجامع"(3340).

(2)

"الجامع"(3/ 314).

(3)

"الجامع"(2405).

(4)

هذا الباب لا يوجد في طبعة التأصيل (4/ 428)، وهو ثابت في بعض الطبعات الأخرى.

(5)

"الجامع"(1/ 431).

(6)

"الجامع"(1/ 569).

ص: 189

4 -

وفي (باب ما جاء في التعوذ للمريض)

(1)

ذكر حديث أبي سعيد: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال: "نعم"، قال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، وعين حاسدة، باسم الله أرقيك، والله يشفيك.

5 -

وفي (باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له عنده)

(2)

ذكر حديث أم سلمة قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرتم المريض -أو الميت- فقولوا خيرا، فإن الملائكة يومنون على ما تقولون

") الحديث.

6 -

وفي (باب ما جاء في إشارة الرجل على أخيه بالسلاح)

(3)

ذكر حديث أبي هريرة: "من أشار على أخيه بحديدة لعنته الملائكة".

وأما الأحكام المتعلقة بهم، فمن ذلك:

1 -

قوله: (باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة ولا كلب)

(4)

، ذكر فيه حديث ابن عباس عن أبي طلحة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل"، وذكر كذلك حديث أبي هريرة: "إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان في البيت قرام ستر فيه تمائيل، وكان في البيت كلب

".

2 -

وفي (باب ما يقول إذا سمع نهيق الحمار)

(5)

ذكر حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله،

(1)

"الجامع"(2/ 234).

(2)

"الجامع"(2/ 237).

(3)

"الجامع"(3/ 272).

(4)

"الجامع"(3/ 603).

(5)

"الجامع"(4/ 360).

ص: 190

فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانًا".

وأما ذكر أسمائهم، فمن ذلك:

1 -

أنه ذكر عدة أحاديث فيها ذكر جبريل عليه السلام، وقد سبق بعضها

(1)

.

2 -

وفي (باب ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة بالليل)

(2)

ذكر حديث أبي سلمة قال: سألت عائشة، بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته، فقال:"اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك على صراط مستقيم".

قلت: وهذا فيه ذكر ثلاثة من الملائكة باسمائهم، وهم من أكابرهم.

3 -

وفي (باب ما جاء في عذاب القبر)

(3)

ذكر حديث عبد الرحمن ابن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قبر الميت، -أو قال: أحدكم-، أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، ولآخر: النكير

". الحديث.

قلت: الأخبار التي فيها تسمية الملكين بمنكر ونكير لا تخلو من كلام، وفيها حديثان:

الأول: حديث أبي هريرة هذا، وفيه عبدالرحمن بن إسحاق، وهو المدني، وفيه بعض الكلام.

(1)

"الجامع" (150، 847، 2068، 2750، 2848، 2901،

).

(2)

"الجامع"(4/ 339).

(3)

"الجامع"(2/ 286).

ص: 191

وأما الثاني: فاخرجه الطبري

(1)

، والبيهقي

(2)

من طريق عيسى بن المسيب، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، وعيسى ضعيف

(3)

.

* * *

وأما الركن الثالث، وهو الإيمان بالكتب:

فقد تقدم حديث جبريل في الإيمان بالكتب على وجه الإجمال، وأما على وجه التفصيل:

1 -

فأما ما يتعلق بالقرآن العظيم: فقد عقد أبوابًا كثيرة تتضمن ذلك، فقال:(أبواب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(4)

، ثم قال:(أبواب القراءات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(5)

، ثم قال:(أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(6)

، وقد أطال النفس في ذلك.

ولا يخفى أن الإيمان بالقرآن يتضمن الإيمان بالكتب التي أنزلها الله عز وجل قبله؛ لأنها قد ذكرت فيه، وقد جاء أيضًا في أثناء الكتاب ضمن الأحاديث التي أوردها ذكر هذه الكتب، ومن ذلك:

2 -

في (باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب)

(7)

ذكر حديث أبي هريرة، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كسب: "تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها؟ " قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كيف تفرأ في الصلاة؟ " قال: فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده

(1)

"تهذيب الآثار" مسند عمر (723).

(2)

"شعب الإيمان"(390، 391).

(3)

وينظر: "إثبات عذاب القبر" للبيهقي (103، 104، 105، 116، 229).

(4)

"الجامع "(4/ 15).

(5)

"الجامع"(4/ 43).

(6)

"الجامع"(4/ 56).

(7)

"الجامع"(4/ 15).

ص: 192

ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته".

3 -

وفي (باب ما جاء في ذهاب العلم)

(1)

ذكر حديث أبي الدرداء، قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: "هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء"، فقال زياد ابن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال:"ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟! ".

* * *

وأما الركن الرابع، وهو الإيمان بالرسل:

وقد تقدم في حديث جبريل ذكر الإيمان بالرسل إجمالًا، وأما تفصيلًا:

أ- فأما الإيمان برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكتاب "الجامع" كله من لوازم الإيمان به، وبما جاء عنه، لذا كان ينص في الأبواب التي يعقدها على ذلك -كما سبق-، كقوله في أول الكتاب:(أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي الصلاة:(أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهلم جرا.

وذكر في أبواب المناقب ما يتعلق: بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أيده الله به من آيات، وما يتعلق بصفته عليه الصلاة والسلام، وكيفية نزول الوحي عليه، وما يتعلق بخاتم النبوة

(2)

.

(1)

"الجامع"(3/ 532).

(2)

"الجامع"(4/ 445 - 459).

ص: 193

وقد عقد أبوابا (في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

، وبابا في (ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

، وبابا (في الأخذ بالسنة واجتناب البدع)

(3)

، وبابا آخر (في الانتهاء عما نهى عه رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(4)

.

2 -

وأما بالنسبة للأنبياء الآخرين عليهم الصلاة والسلام فلا يخفى أن الإيمان به صلى الله عليه وسلم يلزم منه الإيمان بهم، وقد ذكر بعضهم في أثناء الأحاديث التي أوردها كأحاديث الإسراء والمعراج.

* * *

وأما الركن الخامس، وهو الإيمان باليوم الآخر:

فقد تقدم أيضًا في حديث جبريل على وجه الإجمال، وأما على وجه التفصيل: فإنه قد عقد أبوابا كثيرة تتعلق بذلك:

1 -

منها ما يتعلق بأشراط الساعة

(5)

، ومن جملة الأبواب التي بوب بها في كتاب الفتن:(باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين" يعني: السبابة والوسطى)

(6)

، و (باب ما جاء في المهدي)

(7)

، (باب ما جاء في نزول عيسى بن مريم)

(8)

، و (باب ما جاء في الدجال)، وذكر أبوابًا أخرى تتعلق بصفته وغير ذلك

(9)

.

2 -

ثم بعد ذلك ما يتعلق بقيام الساعة، والحساب

(10)

،

(1)

"الجامع"(3/ 536).

(2)

"الجامع"(3/ 538).

(3)

"الجامع"(3/ 544).

(4)

"الجامع"(3/ 547).

(5)

"الجامع"(3/ 297).

(6)

"الجامع"(3/ 301).

(7)

"الجامع"(3/ 309).

(8)

"الجامع"(3/ 310).

(9)

"الجامع"(3/ 311 - 320).

(10)

"الجامع"(3/ 406).

ص: 194

والحشر

(1)

، والعرض

(2)

، والنفخ في الصور

(3)

، ثم الصراط

(4)

، والشفاعة

(5)

، والحوض

(6)

.

3 -

وقد ذكر في أبواب الجنائز ما يتعلق بالموت والقبر من نعيم وعذاب

(7)

، وذكر أبوابًا أخرى كثيرة.

4 -

وقد بين أبو عيسى في كتابه "الجامع" ما يتعلق بصفة الجنة، وصفة النار، كما جاء في الكتاب والسنة، وساف الأحاديث الكثيرة المتعلقة بذلك

(8)

.

5 -

وفي باب ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار

(9)

، ذكر حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين، فيقول: ألا يتبع كل إنسان ما كانوا يعبدون، فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون فيطلع عليهم رب العالمين، فيقول: ألا تتبعون الناس؟ فيقولون: نعوذ بالله منك، ونعوذ بالله منك، الله ربنا، وهذا مكاننا حتى نرى ربنا، وهو يأمرهم وبثبتهم، ثم يتوارى ثم يطلع فيقول: ألا تتبعون الناس؟ فيقولون: نعوذ بالله منك، نعوذ بالله منك، الله ربنا، وهذا مكاننا حتى نرى ربنا، وهو يأمرهم ويثبتهم". قالوا: وهل نراه يا رسول الله؟ قال: "وهل تضارون في رؤية

(1)

"الجامع"(3/ 411).

(2)

"الجامع"(3/ 412).

(3)

"الجامع"(3/ 415).

(4)

"الجامع"(3/ 416).

(5)

"الجامع "(3/ 416).

(6)

"الجامع"(3/ 421).

(7)

"الجامع"(2/ 286).

(8)

ينظر: "الجامع" أبواب صفة الجنة (3/ 462)، وأبواب صفة النار (3/ 490).

(9)

"الجامع"(3/ 481).

ص: 195

القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا، يا رسول الله، قال: "فإنكم لا تضارون في رؤيته تلك الساعة، ثم يتوارى ثم يطلع فيعرفهم نفسه .. ") الحديث.

قلت: هذا يدل على ما أجمع عليه أهل السنة من كون الجنة والنار باقيتين ولا تفنيان، نعم جاء عن بعض السلف أن النار تفنى، ولكن الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة هو بقاؤها، وإنما التي تفنى نار عصاة الموحدين، وأما نار الكفار فالمشهور عند أهل السنة والجماعة بقاؤها.

وفيه أيضًا مسألة الرؤية، وسبق ذكر كلام أبي عيسى في بيان مذهب أهل العلم فيها.

6 -

ومن الأبواب المتعلقة بالجنة والنار التي ذكرها أبو عيسى: (باب ما جاء في احتجاج الجنة والنار)

(1)

، ثم ذكر حديث أبي هريرة في ذلك، وقال: حسن صحيح.

فتبويبه المتقدم يدل على أن هذا الخبر على ظاهره، وأن الجنة والنار قد تحاجّتا حقيقة، وليس مجازًا.

* * *

وأما الركن السادس، وهو الإيمان القدر:

فقد سبق أيضًا في حديث جبريل ذكر الإيمان بالقدر إجمالا، وقد أورد الترمذي سبب تحديث ابن عمر بهذا الحديث، فقال: (حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث الخزاعي، قال: أخبرنا وكيع، عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: أول من تكلم في القدر

(1)

"الجامع"(3/ 484).

ص: 196

معبد الجهني، قال: خرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حتى أتينا المدينة، فقلنا: لو لقينا رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما أحدث هؤلاء القوم، قال: فلقيناه -يعني عبد الله بن عمر-، وهو خارج من المسجد قال: فاكتنفته

(1)

أنا وصاحبي، قال: فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن قوما يقرءون القرآن ويتقفرون

(2)

العلم، ويزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف

(3)

، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء، والذي يحلف به عبد الله، لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهبا ما قبل ذلك منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، قال: ثم أنشأ يحدث فقال: قال عمر بن الخطاب: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فألزق ركبته بركبته ثم قال: يا محمد ما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره،

") الحديث

(4)

.

وأما من جهة التفصيل، فقد عقد كتابًا خاصًا بالقدر، وذكر فيه أبوابا كثيرة تتعلق به، منها:

1 -

(باب ما جاء أن الإيمان بالقدر خيره وشره)

(5)

.، ثم ذكر أبوابًا أخرى تتعلق بإثبات قدر الله السابق.

(1)

أي: أحطنا به من جانبيه. "النهاية"(4/ 205).

(2)

أي: يتطلبونه. "النهاية"(4/ 90).

(3)

أي: مستأنف استئنافًا من غير أن يكون سبق به سابق قضاء وتقدير، وإنما هو مقصور على اختيارك ودخولك فيه. "النهاية"(1/ 75).

(4)

"الجامع"(2807).

(5)

"الجامع"(3/ 263).

ص: 197

2 -

ثم بوب بابًا في الرد على من أنكر ذلك، فقال:(باب ما جاء في القدرية)

(1)

، أي: في ذمهم.

3 -

وقال أيضًا: (باب ما جاء في الرضا بالقضاء)

(2)

.

* * *

وأما المرتبة الثالثة: وهي مرتبة الإحسان، وهي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا معناه مراقبة الله عز وجل، وأن الله عز وجل ناظر إليه ومطلع عليه، وعلى ما في قلبه، وسره وجهره، ولا يخفى أن بعض الأبواب التي تقدمت تدل على ذلك، ويدل عليه أيضًا ويدعو العبد إلى التحقق به الأبواب التي تتعلق بشأن يوم القيامة، من الحساب والحشر والعرض، وما يتعلق بالجنة وصفتها وجهنم، والأبواب التي عقدت في بيان شدة عذابها، ومن ذلك بعض الأبواب التي عقدها في الزهد، ومنها:(باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس)

(3)

، (باب ما جاء من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)

(4)

، و (باب ما جاء في قصر الأمل)

(5)

، و (باب في التوكل على الله)

(6)

، و (باب عمل السر)

(7)

، (باب في حسن الظن بالله)

(8)

، وغير ذلك من الأبواب المتعلقة بالزهد.

ويدخل في ذلك أيضًا بعض الأبواب التي عقدها في الدعوات، من

(1)

"الجامع"(3/ 265).

(2)

"الجامع"(3/ 267).

(3)

هذا الباب لا يوجد في طبعتي التأصيل، وهو موجود في بعض الطبعات الأخرى (2305).

(4)

"الجامع"(3/ 354).

(5)

"الجامع"(3/ 365).

(6)

هذا الباب لا يوجد في طبعة التأصيل، وهو في بعض الطبعات الأخرى (2498).

(7)

هذا الباب لا يوجد في طبعة التأصيل، وهو فى بعض الطبعات الأخرى (2384).

(8)

"الجامع"(3/ 393).

ص: 198

الإكثار من ذكر الله في جميع أوقاته، والإكثار من دعائه

(1)

.

* * *

وذكر أبو عيسى في كتابه أيضًا مسائل أخرى تتعلق بالاعتقاد، وهي راجعة إلى ما سبق، لكن اعتنى العلماء بإفرادها لأهميتها، والحاجة إليها، ومن ذلك:

المسألة الأولى: ما يتعلق بفضل الصحابة رضي الله عنهم.

ذكر في أبواب المناقب فضائل الصحابة رضي الله عنهم مبتدئًا بأبي بكر الصديق

(2)

، ثم عمر

(3)

، ثم عثمان

(4)

، ثم عليّ

(5)

، ثم بقية العشرة

(6)

، ثم آل بيته عليه الصلاة والسلام

(7)

، ثم بقية الصحابة، ثم بعد ذلك عقد بابًا فيمن سبهم فقال:(باب فيمن يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)

(8)

، وهذا فيه تحذير لمن يتكلم عليهم أو يطعن فيهم، ثم بعد ذلك عقد أبوابًا تتعلق بفضائل زوجاته صلى الله عليه وسلم، فابتدأ بذكر خديجة، ثم عائشة، ثم بقية زوجاته

(9)

، وهذا الترتيب فيه دلالة -والله أعلم- على أنه يرى أن خديجة أفضل من عائشة ثم عائشة ثم بقية زوجاته، ولا يخفى أن أهل العلم اختلفوا في المفاضلة بين خديجة وعائشة

(10)

.

(1)

"الجامع"(4/ 314 - 318).

(2)

"الجامع"(4/ 463).

(3)

"الجامع"(4/ 475).

(4)

"الجامع"(4/ 483).

(5)

"الجامع"(4/ 491).

(6)

"الجامع"(4/ 503 - 512).

(7)

"الجامع"(4/ 524).

(8)

"الجامع"(4/ 556).

(9)

كذا في سائر الطبعات عدا ط. التأصيل، فوقع فيها تقديم فضل عائشة على فضل خديجة رضي الله عنهما "الجامع"(4/ 562 - 570).

(10)

ينظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية"(4/ 393) وما بعدها، "منهاج السنة النبوية"(4/ 301) وما بعدها، "فتح الباري"(7/ 109، 139).

ص: 199

والمسألة الثانية: ما يتعلق بطاعة ولاة الأمور:

فقد عقد في "الجامع": (باب ما جاء في الإمام)

(1)

وذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنه: "ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، ومسئول عن رعيته

".

وبعده: (باب ما جاء في طاعة الإمام)

(2)

، وذكر فيه حديث أم الحصين الأحمسية، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وعليه برد قد التفع به من تحت إبطه، قالت: فأنا أنظر إلى عضلة عضده ترتج، سمعته يقول:"يا أيها الناس اتقوا الله، وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له، وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله".

وبعده: (باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)

(3)

، وذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يومر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة".

والمسألة الثالثة: لزوم جماعة المسلمين، واتباع السنة والحذر من البدع:

فقد عقد: (باب ما جاء في لزوم الجماعة)

(4)

، وذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه: "

عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".

وعقد (باب فيمن دعا إلى هدى فاتبع)

(5)

، وذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه، لا ينقص

(1)

"الجامع"(3/ 46).

(2)

"الجامع"(3/ 47).

(3)

"الجامع"(3/ 47).

(4)

"الجامع"(3/ 274).

(5)

"الجامع"(3/ 543).

ص: 200

ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا". وذكر كذلك حديث جرير بمعناه.

و (باب الأخذ بالسنة واجتناب البدع)

(1)

، وذكر فيه حديث العرباض بن سارية، وفيه: "

وإلاكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ". وذكر أحاديث أخر.

و (باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

، وذكر فيه حديث أبي هريرة:"اتركوني ما تركتكم، فإذا حدثتكم فخذوا عني، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم".

والمسألة الرابعة: حكم مرتكب الكبيرة:

قال أبو عيسى في (باب ما من قتل نفسه بسم أو غيره): (حدثنا أحمد ابن منيع، قال: حدثنا عبيدة بن حميد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -أراه رفعه- قال:"من قتل نفسه بحديدة جاء يوم القيامة وحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا أبدًا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا أبدًا".

حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن الأعمش، قال: سمعت أبا صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".

(1)

"الجامع"(3/ 544).

(2)

"الجامع"(3/ 547).

ص: 201

حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا وكيع، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث شعبة، عن الأعمش.

هذا حديث صحيح، وهو أصح من الحديث الأول.

هكذا روي هذا الحديث

(1)

، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل نفسه بسم عذّب في نار جهنم" ولم يذكر فيه: "خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".

وهكذا رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح؛ لأن الروايات إنما تجيء بأن أهل التوحيد يعذبون في النار، ثم يخرجون منها ولا يذكر أنهم يخلدون فيها)

(2)

.

قلت: وهذا هو مذهب الصحابة وسلف هذه الأمة خلافا للخوارج الذين يُكفِّرون بذلك.

وقد بوّب أبو عيسى في كتاب الفتن: (باب ما جاء في صفة المارقة)

(3)

، ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود:"يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، ثم قال أبو عيسى:(إنما هم الخوارج الحرورية وغيرهم من الخوارج).

(1)

في بعض النسخ: (هكذا روى غير واحد هذا الحديث).

(2)

"الجامع"(3/ 205 - 207).

(3)

"الجامع"(3/ 289).

ص: 202

ومما يؤيد ما تقدم ما رواه مسلم

(1)

من حديث أبي الزبير، عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ - قال: حصن كان لدوس في الجاهلية -فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا

(2)

المدينة، فمرض، فجزع، فأخذ مشاقص

(3)

له، فقطع بها براجمه

(4)

، فشخبت

(5)

يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم وليديه فاغفر".

قال الترمذي: (باب فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله)

(6)

، ثم ذكر حديث الصنابحي، عن عبادة بن الصامت، أنه قال: دخلت عليه وهو في الموت فبكيت، فقال: مهلا، لمَ تبكي؟ فوالله لئن استشهدت لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك، ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثًا

(1)

"الصحيح"(116).

(2)

أي: أصابهم الجوى، وهو: المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها. "النهاية"(1/ 318).

(3)

الْمِشْقَص: نصل السهم إذا كان طويلًا غير عريض. "النهاية"(2/ 490).

(4)

هي: العقد التي في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ، الواحدة برجمة بالضم. "النهاية"(1/ 113).

(5)

الشخب: السيلان. "النهاية"(2/ 450).

(6)

"الجامع"(3/ 525).

ص: 203

واحدا، وسأحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه النار".

وفي الباب عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن خالد).

قلت: فيما بوب به المصنف، وما ذكره وأشار إليه من نصوص في هذا الباب، ردٌّ على الخوارج وغيرهم ممن يقول بتخليد عصاة المسلمين في النار، ويحكمون بكفرهم، لذا قال: (ووجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن أهل التوحيد سيدخلون الجنة، وإن عذبوا بالنار بذنوبهم فإنهم لا يخلدون في النار.

وقد روي عن ابن مسعود، وأبي ذر، وعمران بن حصين، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سيخرج قوم من النار من أهل التوحيد ويدخلون الجنّة".

وهكذا روي عن سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وغير واحد من التابعين في تفسير هذه الآية {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] قالوا: إذا أخرج أهل التوحيد من النار وأدخلوا الجنة يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين).

ثم أيد هذا بحديث صاحب البطاقة

(1)

.

لذا عندما ذكر حديث: "لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن"، بين معنى هذا الحديث، فذكر عن أبي جعفر محمد بن علي المعروف بالصادق أنه قال في هذا:(خروج من الإيمان إلى الإسلام).

(1)

"الجامع"(3/ 525 - 526).

ص: 204

ثم ذكر ما يؤيد هذا من السنة، ثم ختم هذا الباب بقوله:(وهذا قول أهل العلم لا نعلم أحدا كفر أحدا بالزنا والسرقة أو بشرب الخمر)

(1)

.

وقال في موضع آخر: (باب ما جاء أن للنار نفسين، وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد)

(2)

.

* * *

مسألة: بيان الترمذي لحديث: (اليوم أنساك كما نسيتني):

قال رحمه الله: (ومعنى قوله: "اليوم أنساك كما نسيتني": اليوم أتركك في العذاب.

وكذا فسر بعض أهل العلم هذه الآية {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} [الأعراف: 51] قالوا: معناه اليوم نتركهم في العذاب)

(3)

.

قلت: وما فسر به أبو عيسى هو الذي جاء عن سلف هذه الأمة:

قال العوفي، عن ابن عباس في قوله:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]: (نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشر).

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:(نتركهم، كما تركوا لقاء يومهم هذا).

وقال مجاهد: (نتركهم في النار).

وقال السدي: (نتركهم من الرحمة، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا)

(4)

.

مسألة أخرى: ذكر أبو عيسى رحمه الله حديث بريدة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت

(1)

"الجامع"(3/ 518 - 519).

(2)

"الجامع"(3/ 500).

(3)

"الجامع"(3/ 414).

(4)

"تفسير ابن كثير"(3/ 424).

ص: 205

خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي

" الحديث.

ثم قال: (ومعنى هذا الحديث: أني دخلت البارحة الجنة، يعني: رأيت في المنام كأني دخلت الجنة، هكذا روي في بعض الحديث)

(1)

.

* * *

وخلاصة ما تقدم:

1 -

التزامه بظاهر النص وعدم تأويله، وإخراجه عن ظاهره.

2 -

التزامه بما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن أتى من بعدهم من الأئمة المهديين في مسائل الدين.

3 -

رده على من خالف طريق الصحابة والتابعين من الخوارج والجهمية وغيرهم من المبتدعين.

* * *

(1)

"الجامع"(4/ 477 - 478).

وأخرج البخاري (3679) واللفظ له، ومسلم (2457) من حديث جابر رضي الله عنه: "رأيتني دخلت الجنة، فإذا أنا بالرميصاء، امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال

"، وقال الحافظ في "فتح الباري" (3/ 35): (وقد وقع في حديث بريدة المذكور: "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ "، وهذا ظاهر في كونه رآه داخل الجنة، ويؤيد كونه وقع في المنام ما سيأتي في أول مناقب عمر من حديث جابر مرفوعًا: "رأيتني دخلت الجنة فسمت خشفة فقيل: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية فقيل: هذا لعمر" الحديث، وبعده من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقيل: هذا لعمر

" الحديث، فعرف أن ذلك وقع في المنام، وثبتت الفضيلة بذلك لبلال؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، ولذلك جزم النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك ومشيه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته في اليقظة فاتفق مثله في المنام).

ص: 206

ذكر بعض أقواله التي فيها نظر أو تحتاج إلى توجيه:

هناك مسائل ذكرها أبو عيسى في ثنايا كتابه بعضها فيه نظر، وبعضها يحتاج إلى توجيه، وهي:

المسألة الأولى: تأويله لأحاديث الوعيد، ومن ذلك:

1 -

قوله عقب حديث سعد بن عبيدة، أن ابن عمر سمع رجلا يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك": (وتفسير هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن قوله: "فقد كفر أو أشرك" على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال:"ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، وحديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله".

وهذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرياء شرك"، وقد فسر بعض أهل العلم هذه الآية:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] الآية، قال: لا يرائي)

(1)

.

2 -

وقال في التعليق على حديث حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا، فقد كفر بما أنزل على محمد": (وإنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ)

(2)

.

3 -

وقال في التعليق على حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لقد هممت أن آمر فِتيتي أن يجمعوا حزم الحطب، ثم آمر بالصلاة فتقام، ثم أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة": (وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له.

(1)

"الجامع"(2/ 562).

(2)

"الجامع"(1/ 361).

ص: 207

وقال بعض أهل العلم: هذا على التغليظ والتشديد، ولا رخصة لأحد في ترك الجماعة إلا من عذر.

قال مجاهد: وسئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، لا يشهد جمعة ولا جماعة، فقال: هو في النار، حدثنا بذلك هناد، قال: حدثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد.

ومعنى الحديث: أن لا يشهد الجماعة والجمعة رغبة عنها، واستخفافا بحقها، وتهاونا بها)

(1)

.

4 -

وقال في التعليق على حديث كل من أنس، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا

": (قال بعض أهل العلم: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا" ليس من سنتنا، يقول: ليس من أدبنا، وقال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: كان سفيان الثوري ينكر هذا التفسير: ليس منا: ليس مثلنا)

(2)

.

قلت: ذهب بعض السلف إلى عدم تأويل أحاديث الوعيد حتى تكون أبلغ في الزجر، وهذا أقرب إلى اتباع النص وتعظيمه، لذا نقل أبو عيسى عن سفيان الثوري أنه كان ينكر ذلك، وكذلك غيره من السلف، كانوا يقولون:(أمِرُّوها كما جاءت)

(3)

.

(1)

"الجامع"(1/ 412).

(2)

"الجامع"(3/ 151).

(3)

قال أبو العباس ابن تيمية - كما في "مجموع الفتاوى"(7/ 674) -: (وقد نقل كراهة تأويل أحاديث الوعيد عن: سفيان، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، وجماعة كثيرة من العلماء)، وقال في موضع آخر (13/ 295):(وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، وفي أحاديث الوعيد مثل قوله: "من غشنا فليس منا"، وأحاديث الفضائل، ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه، ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر).

ص: 208

وذهب جمع من أهل العلم وخاصة المتأخرين إلى تأويلها، وأن ظاهرها ليس مقصودا، وأبو عيسى ممن يسلك هذا المذهب في الغالب.

والمسلك الأول هو الأرجح لما تقدم، مع ملاحظة أن السلف لا يقولون بأن من وقع في شيء مما ورد فيه الوعيد بذلك أنه وقع في الكفر الأكبر كما هو منهج الخوارج، وهو المنهج الثالث في أحاديث الوعيد وهو منهج فاسد، مخالف للكتاب والسنة.

أخرج ابن عدي بإسناده إلى الأصمعي، قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء، فقال له: يا أبا عمرو، الله يخلف وعده؟ فقال: لن يخلف الله وعده، فقال عمرو: فقد قال: {اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]، وذكر عمرو غير هذه الآية، فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت، الوعد غير الإيعاد، ثم أنشد أبو عمرو:

وإني إن أوعدته أو وعدته

سأخلف إيعادي وأنجز موعدي

(1)

.

وقال الإمام أبو العباس ابن تيمية: (وذهب الأكثرون من الفقهاء -وهو قول عامة السلف- إلى أن هذه الأحاديث حجة في جميع ما تضمنته من العمل والوعيد؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بعدهم ما زالوا يثبتون بهذه الأحاديث الوعيد، كما يثبتون بها العمل، ويصرحون بلحوق الوعيد الذي فيها للفاعل في الجملة، وهذا منتشر عنهم في أحاديثهم وفتاويهم.

وذلك لأن الوعيد من جملة الأحكام الشرعية التي ثبتت بالأدلة الظاهرة تارة، وبالأدلة القطعية أخرى؛ فإنه ليس المطلوب اليقين التام بالوعيد، بل المطلوب الاعتقاد الذي يدخل في اليقين والظن الغالب، كما أن هذا هو المطلوب في الأحكام العملية.

(1)

"الكامل"(7/ 588)(11643)، ومن طريقه البيهقي في "البعث والنشور"(44)، و"شعب الإيمان"(294)، وينظر:"تاريخ دمشق"(67/ 112).

ص: 209

ولا فرق بين اعتقاد الإنسان أن الله حرم هذا وأوعد فاعله بالعقوبة المجملة، واعتقاده أن الله حرمه وأوعده عليه بعقوبة معينة، من حيث إن كلا منهما إخبارٌ عن الله تعالى، فكما جاز الإخبار عنه بالأول بمطلق الدليل، فكذلك الإخبار عنه بالثاني، بل لو قال قائل: العمل بها في الوعيد أوكد كان صحيحًا، ولهذا كانوا يسهلون في أسانيد أحاديث الترغيب والترهيب، ما لا يسهلون في أسانيد أحاديث الأحكام؛ لأن اعتقاد الوعيد يحمل النفوس على الترك.

فإن كان ذلك الوعيد حقا، كان الإنسان قد نجا، وإن لم يكن الوعيد حقا بل عقوبة الفعل أخف من ذلك الوعيد لم يضرّ الإنسانَ -إذا ترك ذلك الفعل- خطؤه في اعتقاده زيادة العقوبة، لأنه إن اعتقد نقص العقوبة فقد يخطئ أيضًا، وكذلك إن لم يعتقد في تلك الزيادة نفيًا ولا إثباتًا فقد يخطئ أيضًا.

وهذا الخطأ قد يهون الفعل عنده فيقع فيه، فيستحق العقوبة الزائدة إن كانت ثابتة، أو يقوم به سبب استحقاق ذلك)

(1)

.

* * *

المسألة الثانية: قال رحمه الله في باب ما جاء في علامة المنافق - بعد أن ذكر حديث أبي هريرة: "آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"، وحديث عبد الله بن عمرو:"أربع من كنّ فيه كان منافقا، وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر" -: (وإنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وإنما كان نفاق

(1)

"رفع الملام عن الأئمة الأعلام"(ص: 208 - 210).

ص: 210

التكذيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا روي عن الحسن البصري، شيء من هذا [أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق التكذيب])

(1)

.

قلت: نفاق العمل على قسمين، منه ما هو كفر، ومنه ما هو دون ذلك، والدليل على هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا

" أخرجه البخاري ومسلم

(2)

، فدل هذا على أن من اجتمعت فيه هذه الأربع كان منافقًا خالص النفاق، وهذا يدل على الكفر الأكبر، ويؤيد هذا ما جاء في حديث أبي هريرة - في أحد ألفاظه عند مسلم

(3)

-: "آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم". فدل هذا على أن من اجتمعت فيه هذه الأمور الثلاث ليس بمسلم، وإن صام وصلى.

والمقصود أن يكون ديدنه ومنهجه ذلك، فيكون الغالب عليه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، وليس أن يقع منه في بعض الأحيان، وقد جاء في القرآن والسنة ما يدل على ذلك، فقد ذكر الله عز وجل عن المنافقين أنهم يصلون، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]

وعن العلاء بن عبدالرحمن، أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة، حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه، قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا

(1)

"الجامع"(3/ 521 - 522)، وما بين المعقوفين غير موجود في ط. التأصيل، وهو موجود في طبعات عديدة (2821).

(2)

"صحيح البخاري"(34)، "صحيح مسلم"(58)، ورواية الترمذي ليس فيها:(خالصا).

(3)

"الصحيح"(59)، وأما الترمذي فليس فيه هذه الزيادة.

ص: 211

العصر، فقمنا، فصلينا، فلما انصرفنا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا"

(1)

.

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ له

(2)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف)

(3)

.

كما ذكر الله عز وجل عنهم أنهم يحضرون مواطن الجهاد لكن لا يفعلون ذلك إلا قليلا، قال تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18] إلى أن قال: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 20].

(1)

أخرجه مسلم (622).

(2)

"صحيح البخاري"(657)، "صحيح مسلم"(651).

(3)

أخرجه مسلم (654).

ص: 212

ثم بين الله عز وجل أن المؤمنين بخلاف ذلك، فقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

فالمؤمنون يذكرون الله كثيرا، ويحضرون البأس، ومواطن القتال، ويبذلون أنفسهم في سبيل الله نصرة لدينه.

وهذا قد قرره العلامة ابن القيم من قبل، فقال: (ونفاق العمل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"، وفي الصحيح أيضًا:"أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان".

فهذا نفاق عمل قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا)

(1)

.

وقال العلامة عبدالرحمن المعلمي في تعليقه على "الموضح"

(2)

: (وأما أهل السنة فمعنى الحديث عندهم أن من كان فيه خصلة من تلك الخصال يكون ذلك علامة على ضعف إيمانه، فإذا كان فيه خصلتان كان ذلك علامة على شدة ضعف إيمانه، فإذا اجتمعت كلها دل ذلك على عدم إيمانه، والعياذ بالله).

وقال أيضًا: (المراد مَنْ غلبت عليه هذه الخصالُ أضدادَها فهو منافق؛

(1)

"الصلاة وأحكام تاركها"(ص: 60).

(2)

(1/ 31 - 32).

ص: 213

لأنه يبعد أن يُحمل الحديث على ظاهره مِنْ عموم هذه الخصال الأربع وانتفاء أضدادها قطعًا، فلم يبقَ إلا أن نحمله على أقرب شيءٍ إلى المحضيّة، وذلك الغلبة.

فنحن نعتقد أنّ هذه الخصال لا تغلب إلا على منافق خالصِ النفاق الشرعي الذي هو خلاف الإيمان)

(1)

.

وما جاء عن عطاء والحسن البصري خلاف ذلك ففي الإسناد إليهما نظر.

قال الحافظ ابن رجب: (وهذا الحديث

(2)

قد حمله طائفة ممن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم حدثوا النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه، وائتمنهم على سره فخانوه، ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه، وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء، وأنه قال: حدثني به جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن الحسن رجع إلى قول عطاء هذا لما بلغه عنه.

وهذا كذب، والمحرم هذا شيخ كذاب معروف بالكذب، وقد روي عن عطاء هذا من وجهين آخرين ضعيفين أنه أنكر على الحسن قوله: ثلاث من كن فيه فهو منافق، وقال: قد حدث إخوة يوسف فكذبوا، ووعدوا فاخلفوا، وائتمنوا فخانوا، ولم يكونوا منافقين، وهذا لا يصح عن عطاء، والحسن لم يقل هذا من عنده، وإنما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث ثابت عنه صلى الله عليه وسلم لا شك في ثبوته وصحته)

(3)

.

(1)

"آثار الشيخ المعلمي"(15/ 353).

(2)

أي: حديث خصال المنافق.

(3)

"جامع العلوم والحكم"(ص: 799 - 800)، والمشهور عند أكثر أهل العلم أن نفاق العمل لا يكون إلا أصغرَ، وهذا فيه نظر والتحقيق ما تقدم.

ص: 214

المسألة الثالثة: ذكر أبو عيسى حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فلما قفلنا أشرفنا على المدينة فكبر الناس تكبيرة ورفعوا بها أصواتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن ربكم ليس بأصم ولا غائب، هو بينكم وبين رءوس رحالكم"، ثم قال:"يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كنزا من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله").

ثم قال: (ومعنى قوله "هو بينكم وبين رءوس رحالكم" إنما يعني علمه وقدرته)

(1)

.

قلت: قد جاءت عدة نصوص بهذا المعنى وبعضها يفسر بعضا، قال تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وقال تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وقال تعالى {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]، وقال تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60].

وقد جاء في السنة ما يدل على هذا المعنى ففي "الصحيحين"

(2)

من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقا في جدار القبلة، فحكه، ثم أقبل على الناس، فقال:"إذا كان أحدكم يصلي، فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى".

وفي "صحيح البخاري"

(3)

من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة

(1)

"الجامع"(4/ 362).

(2)

"صحيح البخاري"(406)، "صحيح مسلم"(547).

(3)

(405).

ص: 215

في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رئي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال:"إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدميه" ثم أخذ طرف ردائه، فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض، فقال:"أو يفعل هكذا".

وفي "صحيح مسلم"

(1)

من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".

فهذه النصوص وغيرها تدل على عظمة الله عز وجل، وأنه مع عباده محيط بهم، مطلع عليهم، لا تخفى منهم خافية، وهم في قبضته، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، وهو على عرشه - جل وعلا - كما أخبر.

قال حماد بن زيد: (يقرب من خلقه كما يشاء)

(2)

.

وقال أبو الحسن الأشعري -في أثناء ذكره لعقيدة أصحاب الحديث وأهل السنة -: (ويقرون أن الله سبحانه يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ})

(3)

.

وقال أبو الفرج ابن رجب: (ولم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفهمون من هذه النصوص غير المعنى الصحيح المراد بها، يستفيدون بذلك معرفة عظمة الله وجلاله، واطلاعه على عباده واحاطته بهم، وقربه من عابديه، وإجابته لدعائهم، فيزدادون به خشية لله وتعظيما وإجلالا ومهابة ومراقبة واستحياء، ويعبدونه كأنهم يرونه.

(1)

(482).

(2)

أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(669).

(3)

"مقالات الإسلاميين"(295).

ص: 216

ثم حدث بعدهم من قل ورعه، وساء فهمه وقصده، وضعفت عظمة الله وهيبته في صدره، وأراد أن يري الناس امتيازه عليهم بدقة الفهم وقوة النظر، فزعم أن هذه النصوص تدل على أن الله بذاته في كل مكان، كما يحكى ذلك عن طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهذا شيء ما خطر لمن كان قبلهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهؤلاء ممن يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منهم في حديث عائشة الصحيح المتفق عليه.

وتعلقوا أيضًا بما فهموه بفهمهم القاصر مع قصدهم الفاسد بآيات في كتاب الله، مثل قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، فقال من قال من علماء السلف حينئذ: إنما أراد أنه معهم بعلمه، وقصدوا بذلك إبطال ما قاله أولئك، مما لم يكن أحد قبلهم قاله ولا فهمه من القرآن.

وممن قال: أن هذه المعية بالعلم مقاتل بن حيان، وروي عنه أنه رواه عن عكرمة، عن ابن عباس.

وقاله الضحاك، قال: الله فوق عرشه، وعلمه بكل مكان.

وروي نحوه عن: مالك، وعبد العزيز الماجشون، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم من أئمة السلف.

وروى الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نافع، قال: قال مالك: الله في السماء، وعلمه بكل مكان.

وروي هذا المعنى عن علي، وابن مسعود أيضًا.

وقال الحسن في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60]، قال: علمه بالناس.

ص: 217

وحكى ابن عبد البر وغيره إجماع العلماء من الصحابة والتابعين في تأويل قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] أن المراد علمه.

وكل هذا قصدوا به رد قول من قال: أنه تعالى بذاته في كل مكان. وزعم بعض من تحذلق أن ما قاله هؤلاء الأئمة خطأ؛ لأن علم الله صفة لا تفارق ذاته، وهذا سوء ظن منه بأئمة الإسلام؛ فإنهم لم يريدوا ما ظنه بهم، وإنما أرادوا أن علم الله متعلق بما في الأمكنة كلها ففيها معلوماته، لا صفة ذاته، كما وقعت الإشارة في القرآن إلى ذلك بقوله تعالى:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]، وقوله:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].

وقال حرب: سألت إسحاق عن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]؟ قال: حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه.

وروى عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب مر بقاص، وقد رفعوا أيديهم، فقال: ويلكم! إن ربكم أقرب مما ترفعون، وهو أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد.

وخرجه أبو نعيم، وعنده: أن المار والقائل بذلك هو ابن عمر.

وخطب عمر بن عبد العزيز، فذكر في خطبته: أن الله أقرب إلى عباده من حبل الوريد. وكان مجاهد حاضرا يسمع، فأعجبه حسن كلام عمر.

وهذا كله يدل على أن قرب الله من خلقه شامل لهم، وقربه من أهل طاعته فيه مزيد خصوصية، كما أن معيته مع عباده عامة حتى ممن عصاه؛ قال تعالى:{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، ومعيته مع أهل طاعته خاصة لهم، فهوَ سبحانه

ص: 218

مع الذين اتقوا ومع الذين هم محسنون. وقال لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقال موسى:{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، وقال في حق محمد وصاحبه:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الغار:"ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

فهذه معية خاصة غير قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية، فالمعية العامة تقتضي التحذير من علمه واطلاعه وقدرته وبطشه وانتقامه، والمعية الخاصة تقتضي حسن الظن بإجابته ورضاه وحفظه وصيانته، فكذلك القرب.

وليس هذا القرب كقرب الخلق المعهود منهم، كما ظنه من ظنه من أهل الضلال، وإنما هو قرب ليس يشبه قرب المخلوقين، كما أن الموصوف به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وهكذا القول في أحاديث النزول إلى سماء الدنيا فإنه من نوع قرب الرب من داعيه وسائليه ومستغفريه.

وقد سئل عنه حماد بن زيد فقال: هو في مكانه يقرب من خلقه كما يشاء.

ومراده أن نزوله ليس هو انتقال من مكان إلى مكان كنزول المخلوقين.

وقال حنبل: سألت أبا عبد الله: ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال: نعم. قلت: نزوله بعلمه أو بماذا؟ قال: اسكت عن هذا، مالك ولهذا؟ أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إلا بما جاءت به الآثار، وجاء به الكتاب، قال الله:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] ينزل كيف يشاء، بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علما، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب، عز وجل.

ص: 219

ومراده: أن نزوله تعالى ليس كنزول المخلوقين، بل هو نزول يليق بقدرته وعظمته وعلمه المحيط بكل شيء، والمخلوقون لا يحيطون به علما، وإنما ينتهون إلى ما أخبرهم به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله.

فلهذا اتفق السلف الصالح على إمرار هذه النصوص كما جاءت من غير زيادة ولا نقص، وما أشكل فهمه منها، وقصر العقل عن إدراكه وكل إلى عالمه)

(1)

.

وينظر أيضًا: ما سيأتي في كلام الإمام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم.

* * *

المسألة الرابعة: ذكر الترمذي حديث الحسن عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب

وفيه: (ثم قال: "هل تدرون ما فوق ذلك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد مثلما بين السماءين". ثم قال: "هل تدرون ما الذي تحتكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها الأرض". ثم قال: "هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن تحتها أرضا أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة" حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمس مائة سنة، ثم قال:"والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله". ثم قرأ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].

ثم قال: (وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه)

(2)

.

(1)

"فتح الباري"(3/ 113 - 118).

(2)

"الجامع"(4/ 264 - 265).

ص: 220

قلت: قال أبو العباس ابن تيمية: (الحديث يدل على أن الله فوف العرش، ويدل على إحاطة العرش كونه سقف المخلوقات، ومن تأوله على قوله هبط على علم الله كما فعل الترمذي لم يدر كيف الأمر، ولكن لما كان من أهل السنة وعلم أن الله فوق العرش، ولم يعرف صورة المخلوقات، وخشي أن يتأوله الجهمي أنه مختلط بالخلق قال هكذا، وإلا فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كله حق يصدق بعضه بعضا، وما علم بالمعقول من العلوم الصحيحة يصدق ما جاء به الرسول ويشهد له)

(1)

.

وقال في موضع آخر: (وهذا كله على تقدير صحته فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل الحديث بأنه هبط على علم الله.

وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في هذا الحديث ما يدل على قولهم الباطل؛ وهو أنه حال بذاته في كل مكان وأن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك.

والتحقيق: أن الحديث لا يدل على شيء من ذلك إن كان ثابتا فإن قوله: "لو أدلى بحبل لهبط" يدل على أنه ليس في المدلي ولا في الحبل ولا في الدلو ولا في غير ذلك، وأنها تقتضي أنه من تلك الناحية؛ وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية؛ بل بتقدير ثبوته يكون دالا على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة، وليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع)

(2)

.

وينظر أيضًا: ما سيأتي في كلام العلامة ابن القيم في المسألة التالية.

(1)

"مجموع الفتاوى"(25/ 198).

(2)

"مجموع الفتاوى"(6/ 573 - 574).

ص: 221

المسألة الخامسة: قال أبو عيسى: (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية وابن نمير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت منه ذراعا، وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".

هذا حديث حسن صحيح.

ويروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث: "من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا"، يعني بالمغفرة والرحمة، حدثنا الحسن بن علي الحلواني، قال: حدثنا ابن نمير عن الأعمش.

هكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، قالوا: إنما معناه يقول: إذا تقرب إلي العبد بطاعتي وبما أمرت تسارع إليه مغفرتي ورحمتي)

(1)

.

قلت: هذا التفسير فيه نظر، والصواب إمرار الحديث على ظاهره، كما هو القاعدة في باقي النصوص.

قال أبو إسماعيل الهروي: (باب الهرولة لله عز وجل)

(2)

، وذكر تحته حديث أبي هريرة السابق.

وقال أبو العباس ابن تيمية: (فصل، تقرب العبد إلى الله في مثل قوله:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقوله:{اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، وقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، وقوله:{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة: 88]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه:"من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا" الحديث. وقوله:

(1)

"الجامع"(4/ 430 - 431).

(2)

"الأربعون في دلائل التوحيد"(ص: 79).

ص: 222

"ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" الحديث.

وكذلك "القربان" كقوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} [المائدة: 27]، وقوله:{حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183]، ونحو ذلك.

لا ريب أنه بعلوم وأعمال يفعلها العبد، وفي ذلك حركة منه وانتقال من حال إلى حال، ثم لا يخلو مع ذلك: إما أن روحه وذاته تتحرك أو لا تتحرك، وإذا تحركت: فإما أن تكون حركتها إلى ذات الله، أو إلى شيء آخر، وإذا كانت إلى ذات الله بقي النظر في قرب الله إليه ودنوه وإتيانه ومجيئه؛ إما جزاء على قرب العبد، وإما ابتداء كنزوله إلى سماء الدنيا.

فالأول: قول المتفلسفة الذين يقولون: إن الروح لا داخل البدن ولا خارجه، وإنها لا توصف بالحركة ولا بالسكون، وقد تبعهم على ذلك قوم ممن ينتسب إلى الملة، فهؤلاء عندهم قرب العبد ودنوه إزالة النقائص والعيوب عن نفسه وتكميلها بالصفات الحسنة الكريمة حتى تبقى مقاربة للرب مشابهة له من جهة المعنى، ويقولون: الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة؛ فأما حركة الروح فممتنعة عندهم، وكذلك يقولون في قرب الملائكة.

والذي أثبتوه من تزكية النفس عن العيوب وتكميلها بالمحاسن حق في نفسه؛ لكن نفيهم ما زاد على ذلك خطأ؛ لكنهم يعترفون بحركة جسمه إلى المواضع التي تظهر فيها آثار الرب كالمساجد والسموات والعارفين، وعند هؤلاء معراج النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو انكشاف حقائق الكون له كما فسره بذلك ابن سينا ومن اتبعه كعين القضاة وابن الخطيب في "المطالب العالية".

الثاني: قول المتكلمة الذين يقولون: إن الله ليس فوق العرش، وإن نسبة العرش والكرسي إليه سواء، وإنه لا داخل العالم ولا خارجه؛ لكن

ص: 223

يثبتون حركة العبد والملائكة فيقولون: قرب العبد إلى الله حركة ذاته إلى الأماكن المشرفة عند الله، وهي السماوات، وحملة العرش، والجنة، وبذلك يفسرون معراج النبي صلى الله عليه وسلم.

ويتفق هؤلاء والذين قبلهم في حركة بدن العبد إلى الأماكن المشرفة، كثبوت العبادات، وإنما النزاع في حركة نفسه، ويسلم الأولون حركة النفس بمعنى تحولها من حال إلى حال؛ لا بمعنى الانتقال من موضع إلى موضع، واتفاقهم على حركة الجسم وحركة الروح أيضًا عند الآخرين إلى كل مكان تظهر فيه معرفة الله كالسموات، والمساجد، وأولياء الله، ومواضع أسماء الله وآياته، فهو حركة إلى

(1)

الثالث: قول أهل السنة والجماعة، الذين يثبتون أن الله على العرش، وأن حملة العرش أقرب إليه ممن دونهم، وأن ملائكة السماء العليا أقرب إلى الله من ملائكة السماء الثانية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء صار يزداد قربا إلى ربه بعروجه وصعوده، وكان عروجه إلى الله لا إلى مجرد خلق من خلقه، وأن روح المصلي تقرب إلى الله في السجود وإن كان بدنه متواضعا، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب.

ثم قُرب الرب من عبده: هل هو من لوازم هذا القرب، كما أن المتقرب إلى الشيء الساكن كالبيت المحجوج، والجدار، والجبل، كلما قربت منه قرب منك؟ أو هو قرب آخر يفعله الرب، كما أنك إذا قربت إلى الشيء المتحرك إليك تحرك أيضًا إليك، فمنك فعل، ومنه فعل آخر؟

هذا فيه قولان لأهل السنة مبنيان على ما تقدم من قاعدة الصفات الفعلية، كمسألة النزول وغيرها

(1)

سقط في الأصل.

ص: 224

وعلى هذا فما روي من قرب الرب إلى خواص عباده وتجليه لقلوبهم كما في "الزهد" لأحمد: أن موسى قال: يا رب، أين أجدك؟ قال:"عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، أقترب إليها كل يوم شبرا، ولولا ذلك لاحترقت".

هذا القرب عند المتفلسفة والجهمية هو مجرد ظهوره وتجليه لقلب العبد فهو قرب المثال، ثم المتفلسفة لا تثبت حركة الروح والجهمية تسلم جواز حركة الروح إلى مكان عال، وأما أهل السنة فعندهم مع التجلي والظهور تقرب ذات العبد إلى ذات ربه، وفي جواز دنو ذات الله القولان، وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع.

وعلى مذهب النفاة من المتكلمة لا يكون إتيان الرب ومجيئه ونزوله إلا تجليه وظهوره لعبده، إذا ارتفعت الحجب المتصلة بالعبد المانعة من المشاهدة الباطنة أو الظاهرة، بمنزلة الذي كان أعمى أو أعمش فزال عماه فرأى الشمس والقمر، فيقول: جاءني الشمس والقمر.

وهذا قول النفاة من المتفلسفة والمعتزلة والأشعرية؛ لكن الأشعرية يثبتون من الرؤية ما لا يثبته المعتزلة، ومنهم من يوافقهم في المعنى الذي قصدوه.

وأما على مذهب أهل السنة والجماعة من السلف، وأهل الحديث، وأهل المعرفة، ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية والعامة وأهل الكلام أيضًا؛ فإن نزوله وإتيانه ومجيئه قد يكون بحركة من العبد، وقرب منه، ودنو إليه، وهو قدر زائد على انكشاف بصيرة العبد، فإن هذا علم، وعندهم يكون ذلك بعلم من العبد وبعمل منه، فهو كشف وعمل.

ولا ينكر الأشعرية ونحوهم من أهل الكلام أن يكون من العبد حركة، فإن ذلك ممكن، وإنما قد ينكرون حركته إلى الله كما تقدم.

ص: 225

وقد شبه بعضهم مجيء الله بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] أي: الموقن به من الموت وما بعده.

قلت: هذا مثل قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات: 34]، وقوله:{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس: 33]، وقوله:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، وجعل في ذلك هو ظهوره وتجليه.

قلت: وليس هو مجرد ظهوره وتجليه، وإن كان متضمنا لذلك؛ بل هو متضمن لحركة العبد إليه، ثم إن كان ساكنا كان مجيئه من لوازم مجيء العبد إليه، وإن كان فيه حركة كان مجيئه بنفسه أيضًا، وإن كان العبد ذاهبا إليه، وهكذا مجيء اليقين ومجيء الساعة، وفي جانب الربوبية يكون بكشف حجب ليست متصلة بالعبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه"، فهي حجب تحجب العباد عن الإدراك، كما قد يحجب الغمام والسقوف عنهم الشمس والقمر، فإذا زالت تجلّت الشمس والقمر، وأما حجبها لله عن أن يَرى ويُدركَ فهذا لا يقوله مسلم؛ فإن الله لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة السوداء، ولكن يحجب أن تصل أنواره إلى مخلوقاته، كما قال:"لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه"، فالبصر يدرك الخلق كلهم، وأما السبحات فهي محجوبة بحجابه النور أو النار.

والجهمية لا تثبت له حجبا أصلا؛ لأنه عندهم ليس فوق العرش، ويروون الأثر المكذوب عن علي: أنه سمع قصابا يحلف: لا والذي احتجب بسبع سماوات، فعلاه بالدرة، فقال: يا أمير المؤمنين، أكفر عن يميني؟ قال: لا؛ ولكنك حلفت بغير الله.

فهذا لا يعرف له إسناد، ولو ثبت كان عليّ قد فهم من المتكلم أنه

ص: 226

عنى أنه محتجب عن إدراكه لخلقه، فهذا باطل قطعا؛ بخلاف احتجابه عن إدراك خلقه له)

(1)

.

وقال ابن القيم: (والذي عندي أن الرحمة لما كانت من صفات الله تعالى، وصفاته قائمة بذاته، فإذا كانت قريبة من المحسنين، فهو سبحانه قريب منهم قطعا، وقد بينا أنه سبحانه قريب من أهل الإحسان، ومن أهل سؤاله بإجابته.

ويوضح ذلك أن الإحسان يقتضي قرب العبد من ربه، فيقرب ربه منه لما يقرب إليه بإحسانه يقرب تعالى إليه، فإنه من تقرب منه شبرا تقرب منه ذراعا، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا، فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا ليس له نظير، وهو مع ذلك فوق سماواته على عرشه، كما أنه سبحانه يقرب من عباده في آخر الليل وهو على عرشه، ويدنو من أهل عرفة عشية عرفة، وهو على عرشه، فإن علوه سبحانه على سماواته من لوازم ذاته، فلا يكون قط إلا عاليا ولا يكون فوقه شيء البتة، كما قال أعلم الخلق به:"وأنت الظاهر فليس فوقك شيء".

وهو سبحانه قريب في علوه، عال في قربه، كما في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال:"أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" فأخبرهم صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق به أنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، وأخبر أنه فوق سماواته، على عرشه، مطلع على خلقه، يرى أعمالهم، ويعلم ما في بواطنهم، وهذا حق لا يناقض أحدهما الآخر.

(1)

"مجموع الفتاوى"(6/ 5 - 10).

ص: 227

والذي يسهل عليك فهم هذا: معرفة عظمة الرب وإحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده، والأرض بيده الأخرى، ثم يهزهن، فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه، ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش؟!

وبهذا يزول الإشكال عن الحديث الذي رواه الترمذي من حديث الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"هل تدرون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"هذا العنان، هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه"

) وذكر الحديث السابق إلى قوله: ثم قال: ("والذي نفس محمد بيده لو أِنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على الله" ثم قرأ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] " قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث وقالوا: إنما يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه. هذا آخر كلامه.

وقد اختلف الناس في هذا الحديث في سنده ومعناه، فطائفة قبلته لأن إسناده ثابت إلى الحسن.

قال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد وغير واحد، قالوا حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبدالرحمن، عن قتادة، حدثنا الحسن، عن أبي هريرة.

فهؤلاء كلهم أئمة، وقد صرح قتادة بتحديث الحسن له، وقد صح عن

ص: 228

الحسن في غير هذا الحديث أنه قال: حدثنا أبو هريرة، ولا ريب أنه عاصره، وقد قال مسلم بن إبراهيم: حدثنا ربيعة بن كلثوم، قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا أبو هريرة قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث

، وقال سالم الخياط: حدثنا الحسن قال: سمعت أبا هريرة.

وطائفة أخرى ردت الحديث وأعلته بأنه منقطع، قالوا: والحسن لم ير أبا هريرة فضلا عن أن يسمع منه، قال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معين: الحسن لقي ابن عباس؟ قال: لا، ولم يلق أبا هريرة.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا علي بن المديني قال: سمعت سلم بن قتيبة، قال: حدثني شعبة، قال: قلت ليونس بن عبيد: الحسن سمع من أبي هريرة؟ قال: ما رآه قط.

حدثنا صالح بن أحمد قال: قال أبي: قال بعضهم عن الحسن: حدثنا أبو هريرة.

قال ابن أبي حاتم منكرا عليه إنه لم يسمع من أبي هريرة: حدثنا محمد بن أحمد بن البراء: قال علي: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، ثم ذكر عن أيوب وعلي بن زيد: لم يسمع الحسن من أبي هريرة.

وقال عبدالرحمن بن مهدي: سمعت جريرا يسأل بهزا عن الحسن: من لقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمع من ابن عمر حديثا، ولم يسمع من أبي هريرة ولم يره.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، وسمعت أبا زرعة يقول: لم يسمع الحسن من أبي هريرة ولم يره، فقيل له: فمن قال حدثنا أبو هريرة؟ قال: يخطئ، وسمعت أبي يقول: وذكر حديثا حدثه مسلم بن إبراهيم، حدثنا ربيعة بن كلثوم، قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا أبو هريرة: (أوصاني خليلي)، قال: لم يعمل ربيعة بن

ص: 229

كلثوم شيئا، لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئا، قلت لأبي: إن سالما الخياط روى عن الحسن، قال: سمعت أبا هريرة. قال: هذا مما يبين ضعف سالم.

وسمعت أبا الحجاج المزي يقول: قوله: حدثنا أبو هريرة، أي: حدث أهل بلدنا، كما في حديث الدجال: قول الشاب الذي يقتله له: أنت الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه.

قال أبو حاتم: والحسن لم يسمع من ابن عباس، وقوله: خطبنا ابن عباس، يعني: خطب أهل البصرة.

قالوا: وللحديث علة أخرى، وهي أن عبد الرزاق في "تفسيره" رواه عن معمر، عن قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، فاختلف هو وشيبان فيه، هل حدث به عن الحسن؟

والذين قبلوا الحديث اختلفوا في معناه، فحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن المعنى: يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، ومراده على معلوم الله ومقدوره وملكه، أي: انتهى علمه وقدرته وسلطانه إلى ما تحت التحت، فلا يعزب عنه شيء.

وقالت طائفة أخرى: بل هذا معنى اسمه المحيط واسمه الباطن، فإنه سبحانه محيط بالعالم كله، وأن العالم العلوي والسفلي في قبضته، كما قال الله تعالى:{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]، وإذا كان محيطا بالعالم فهو فوقه بالذات، عال عليه من كل وجه وبكل معنى، فإن الإحاطة تتضمن العلو والسعة والعظمة، فإذا كانت السماوات السبع والأرضون السبع في قبضته فلو وقعت حصاة أو دلي بحبل لسقط في قبضته سبحانه.

والحديث لم يقل فيه: إنه لهبط على جميع ذاته، فهذا لا يقوله ولا يفهمه عاقل، ولا هو مذهب أحد من أهل الأرض البتة، لا الحلولية، ولا

ص: 230

الاتحادية، ولا الفرعونية، ولا القائلون بأنه في كل مكان بذاته، وطوائف بني آدم كلهم متفقون على أن الله تعالى ليس تحت العالم.

فقوله: "لو دليتم بحبل لهبط على الله" إذا هبط في قبضته المحيطة بالعالم فقد هبط عليه، والعالم في قبضته، وهو فوق عرشه، ولو أن أحدنا أمسك بيده أو برجله كرة وقبضتها يده من جميع جوانبها ثم وقعت حصاة من أعلى الكرة إلى أسفلها لوقعت في يده وهبطت عليه، ولم يلزم من ذلك أن تكون الكرة والحصاة فوقه وهو تحتها، ولله المثل الأعلى، وإنما يؤتى الرجل من سوء فهمه، أو من سوء قصده من كليهما، فإذا هما اجتمعا كمل نصيبه من الضلال.

وأما تأويل الترمذي وغيره له بالعلم، فقال شيخنا: هو ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية بل بتقدير ثبوته، فإنه إنما يدل على الإحاطة، والإحاطة ثابتة عقلا ونقلا وفطرة كما تقدم، وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قِبَل وجهه؛ فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكا، ولكن ليبصق عن يساره، أو تحت رجله".

وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى، فقال له أبو رزين: كيف يسعنا وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: "سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: هذا القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخليا به، فالله أكبر من ذلك".

ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وقدر مخاطبته له، فإنه لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه، ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده له، وكذلك إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه وهو فوقه، فيدعوه من تلقائه، لا عن يمينه، ولا عن يساره، ويدعوه من العلو، لا من السفل.

ص: 231

وقد ثبت في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم"، واتفق العلماء على أن رفع البصر إلى السماء للمصلي منهي عنه.

وروى أحمد عن محمد بن سيرين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء، حتى أنزل الله:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده.

فهذا مما جاءت له الشريعة تكميلا للفطرة؛ لأن الداعي السائل الذي أمر بالخشوع وهو الذل والسكون لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله، بل يناسب حاله الإطراق وخفض بصره أمامه، فليس في هذا النهي ما ينفي كونه فوق سماواته على عرشه، كما زعم بعض جهال الجهمية، فإنه لا فرق عندهم بين تحت التحت والعرش بالنسبة إليه، فلو كان الأمر كذلك لكان النهي ثابتا في الصلاة وغيرها، وقد قال تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، فليس العبد منهيا عن رفع بصره إلى السماء مطلقا، إنما نهي عنه في الوقت الذي أمر فيه بالخشوع؛ لأن خفض البصر من تمام الخشوع، كما قال تعالى:{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر: 7].

وأيضا فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء؛ لكون الرب ليس في السماء، لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات، ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء، أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو، لبين لهم ذلك بيانا شافيا، ولم يحملهم فيه على أدب من آداب المصلي، وهو إطراقه بين يدي ربه وخشوعه، ورمي بصره إلى الأرض، كما يفعل بين يدي الملوك، فهذا إنما يدل على نقيض قولهم.

ص: 232

فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز التوجه إلى الله تعالى إلا من جهة العلو، وأن ذلك لا ينافي إحاطته بالعالم وكونه في قبضته، وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء، كما أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وأن أحد الأمرين لا ينفي الآخر، وأن إحاطته بخلقه لا تنفي مباينته لهم، ولا علوه على مخلوقاته، بل هو فوق خلقه محيط بهم مباين لهم، إنما تنشأ الشبهة الفاسدة عن اعتقادين فاسدين:

أحدهما: أن يظن أنه إذا كان العرش كريا والله فوقه، لزم أن يكون كريا.

الاعتقاد الثاني: أنه إذا كان كريا صح التوجه إليه من جميع الجهات.

وهذان الاعتقادان خطأ وضلال؛ فإن الله سبحانه مع كونه فوق العرش، ومع القول بأن العرش كري، لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، كما لا يجور أن يظن به أنه مشابه لها في أقدارها ولا في صفاتها، فقد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء، وأن السماوات والأرض في يده كخردلة في كف أحدنا، وهذا يزيل كل إشكال ويبطل كل خيال)

(1)

.

* * *

قلت: وهذه المواضع لا تخالف ما تقدم تقريره من كون أبي عيسى من كبار أئمة أهل السنة والجماعة، كيف وقد نقل إجماع أهل العلم على إمرار نصوص الصفات على ظاهرها الذي يليق بالله عز وجل، وغير ذلك مما يتعلق بأمور الاعتقاد، هذا مع أن بعض ما تقدم قد ذهب إليه غيره من أهل العلم، كتأويل نصوص الوعيد، وإن كان الأولى عدم ذلك، كما تقدم تقريره.

(1)

"مختصر الصواعق المرسلة"(ص: 1255 - 1273).

ص: 233

وأما ما يتعلق في مسألة النفاق فهو لم ينص صراحة على أن النفاق العملي كله لا يخرج من الملة، وبما أن هذه المسألة كانت تحتاج إلى بعض التفصيل فلذا ذكرتها.

وأما ما يتعلق بتأويل بعض النصوص فبعضه قد يكون من باب التفسير باللازم، وليس من قبيل التأويل، وبعضه قد أخطأ فيه كما تقدم، وما من أحد من الناس إلا راد ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 234

‌الفصل السابع في منهجه في الفقه

مما تميز به كتاب "الجامع" كلام مصنفه على فقه الأبواب التي يوردها مع بيان ما دلت عليه الأحاديث من مسائل وأحكام، مع ذكر أقوال الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب المشهورين، وهذا لا شك عمل جليل يدل على رسوخه في هذا الفن، واطلاعه الواسع في هذا الباب

(1)

، وسوف أدلل على هذا إجمالا وتفصيلا:

أما من جهة الإجمال: فيلاحظ أن أبا عيسى كثيرا ما يذكر خلاف أهل العلم بعد ذكره للحديث، وإجماعهم إذا أجمعوا.

وأوضح من هذا أنه يبين ما عليه العمل عند أهل العلم من الصحابة والتابعين وهلم جرا، وما ليس عليه العمل، ولا شك أن هذا لا يكون إلا ممن عنده اطلاع واسع في هذا المجال، وعلم كبير في هذا الجانب.

* * *

وأما من حيث التفصيل: فالدليل عليه من عدة أوجه:

الوجه الأول: علمه بكتاب الله عز وجل، ويظهر ذلك من خلال كتابه، فقد عقد أبوابا للقراءات

(2)

، فذكر بعض ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قراءات في كلام الله عز وجل، ومما ذكر في هذا الباب:

(1)

والسبب في عدم اشتهاره بذلك، وتنصيص أهل العلم عليه أن إمامته في الحديث غلبت على علمه الواسع في الفقه.

(2)

مع ملاحظة أن بعض الأبواب التي ذكرها هناك لا تتعلق بالقراءات.

ص: 235

1 -

قوله في أبواب القراءات: (حدثنا يحيى بن موسى، قال: حدثنا معلى بن منصور، عن محمد بن دينار، عن سعد بن أوس، عن مصدع أبي يحيى، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} .

هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والصحيح ما روي عن ابن عباس قراءته. ويروى أن ابن عباس، وعمرو بن العاص اختلفا في قراءة هذه الآية، وارتفعا إلى كعب الأحبار في ذلك، فلو كانت عنده رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لاستغنى بروايته ولم يحتج إلى كعب)

(1)

.

2 -

وقال أيضًا: (ويقرأ: "غَلَبَتِ" و"غَلَبَتْ" يقول: كانت {غَلَبَتْ} ثم غَلَبَتِ، هكذا قرأ نصر بن علي: "غَلَبَتِ")

(2)

.

3 -

وقال أيضًا: (وهكذا قراءة عبد الله بن مسعود: "والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى")

(3)

.

وهذه التعليقات مما يدل على علمه بالقرآن.

ثم عقد أبوابا مطولة فيما يتعلق بالتفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما ذكر في هذه الأبواب:

1 -

(ومن سورة البقرة

حدثنا عبد بن حميد، قال: حدثنا الهاشم بن القاسم، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن معقل بن يسار، أنه زوج أخته رجلا من المسلمين

(1)

(4/ 46 - 47)، ويلاحظ أن أبا عيسى لم يكتف بنقد هذا الخبر من حيث الإسناد، بل نقده أيضًا من حيث المتن، وهذا أشد ما يردُّ به الخبر، عندما يكون ضعيفا سندا ومتنا.

(2)

(4/ 47).

(3)

(4/ 49).

ص: 236

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك، قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فانزل الله: تبارك وتعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، إلى قوله:{وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232] فلما سمعها معقل فقال: سمعا لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك.

هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن الحسن

(1)

.

وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي؛ لأن أخت معقل بن يسار كانت ثيبا، فلو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل بن يسار، وإنما خاطب الله في هذه الآية الأولياء، فقال:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ، ففي هذه الآية دلالة على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهن)

(2)

.

فانظر إلى دقة انتزاعه لهذا الحكم من هذا الحديث، ثم أيد ذلك بالآية، وهو لا شك استنباطٌ نفيس، وفي الغالب أن الذين يتكلمون على المسألة إنما يذكرون الأحاديث التي جاءت في: لا نكاح إلا بولي، ولا يذكرون هذا الحديث، ولا دلالة هذه الآية على هذه القضية.

2 -

وقال أيضًا: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن

(1)

في ط. شاكر، وبشار (2981)، والرسالة (3223) زيادة:(وهو عن الحسن غريب)، وقال محققو ط. الرسالة:(قوله: "وهو عن الحسن غريب" أثبتناه من نسخة (ل)، وليس هو في سائر الأصول الخطية).

(2)

(4/ 74 - 75).

ص: 237

أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمين الرحمن ملأى سحًا لا يغيضها الليل والنهار"، قال:"أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع".

هذا حديث حسن صحيح.

وهذِا الحديث في تفسير هذه الآية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].

وهذا حديث قال الأئمة: نؤمن به كما جاء من غير أن يفسر أو يتوهم، هكذا قال غير واحد من الأئمة، منهم: الثوري، ومالك بن أنس، وابن عيينة، وابن المبارك: أنه تروى هذه الأشياء، ويؤمن بها، ولا يقال: كيف؟)

(1)

.

قلت: الحديث لم تذكر فيه الآية، ولكن علاقة الآية وتفسيرها بهذا الحديث ظاهرة، ثم عقب ذلك ببيان مذهب من تقدمه من السلف تجاه صفات الله تعالى، وأنهم يؤمنون بها كما جاءت، وأن هذا قاعدة عامة في كل النصوص التي جاءت في هذا المعنى.

وهذا المثال -أعني دخول الحديث في تفسير الآية- ينبغي أن يحتذى ويسار عليه في كل ما جاء من السنة فيما له علاقة بالقرآن وإن كان من طريق غير مباشر، وهذا ما سار عليه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، فقد توسع في ذلك، فكان يذكر أي حديث مما هو على شرطه مما له علاقة بالآية وإن كان من وجه بعيد، لذا أصبح كتاب التفسير في البخاري من أكبر الكتب التي عقدها في كتابه "الجامع الصحيح"، حتى

(1)

(4/ 111 - 112).

ص: 238

بلغت الأحاديث بالمكرر أكثر من خمس مائة حديث (4474 - 4977)، هذا غير ما ذكره عن الصحابة والتابعين وما فسره هو.

وهذا ما سار عليه الإمام ابن كثير في تفسيره، بل وتوسع في ذلك.

وقد ذكر الإمام ابن تيمية أن رسول صلى الله عليه وسلم قد فسر لأمته جميع القرآن

(1)

، فاستشكل ذلك بعض أهل العلم، وقال: إن أحاديث التفسير قليلة، ولكن ما قاله أبو العباس ابن تيمية هو الصحيح، ويوضح مقصوده أن الصلاة مثلا ذكرت في القرآن في مواضع كثيرة، وكذا الزكاة، وقبل ذلك الإسلام والإيمان والإحسان، ولا يخفى أن كل هذه الكلمات قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، فكل أحاديث الصلاة القولية والعملية هي تفسير لكلمة "الصلاة" التي جاءت في القرآن، وعلى هذا قس، لذا نُقل عن الشافعي أنه قال: جميع السنة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا

(2)

.

وبناء على ما سبق يكون أبو عيسى قد جمع في هذا الموضع بين علوم: التفسير والحديث والاعتقاد.

وإليك أمثلة أخرى من استنباطات أبي عيسى من القرآن:

1 -

قال رحمه الله: (وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ منهم: سفيان، وغيره.

وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق.

(1)

ينظر: "مجموع الفتاوى"(13/ 331)، "جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية"(1/ 9) فما بعدها.

(2)

"البرهان في علوم القرآن"(1/ 6).

ص: 239

وقال إسحاق: إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ يتيمم أحب إلي.

قال أبو عيسى: وقول من يقول: لا يتوضأ بالنبيذ، أقرب إلى الكتاب وأشبه؛ لأن الله تعالى قال:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43])

(1)

.

2 -

وقال أيضًا: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم قالوا: إذا تزوج الرجل امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، حل له أن ينكح ابنتها، وإذا تزوج الرجل الابنة فطلقها قبل أن يدخل بها لم يحل له نكاح أمها لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق)

(2)

.

3 -

وقال أيضًا: (ومعنى قوله: "اليوم أنساك كما نسيتني"، يقول: اليوم أتركك في العذاب، وكذا فسر بعض أهل العلم هذه الآية {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} [الأعراف: 51]، قالوا: معناه: اليوم نتركهم في العذاب)

(3)

.

* * *

الوجه الثاني: الكم الكبير الذي أودعه من الأحاديث في هذا الكتاب، ولا شك أنه قد انتقاها من عشرات الآلاف من الأحاديث، مع ملاحظة أن هذه الأحاديث هي في شتى جوانب الشريعة، فعدد كتب "الجامع"(47)، وعدد الأبواب (2150) تقريبا، وعدد الأحاديث (4318)

(4)

.

لذا كانت أحاديث الأحكام في كتاب "الجامع" كثيرة حتى بلغت قريبا من نصف الكتاب: (2017) حديث.

(1)

(1/ 330).

(2)

(2/ 315).

(3)

(3/ 414).

(4)

هذا حسب طبعة التأصيل، ينظر: مقدمة التحقيق: (1/ 266)، وحسب ترقيم طبعة الرسالة: كتب الجامع (43)، وعدد الأبواب (2300) تقريبا، وعدد الأحاديث (4300).

ص: 240

مع ملاحظة أن هذه الأحاديث قد انتقاها بعناية، ليس من حيث الصناعة الحديثية فحسب، بل من الناحية الفقهية أيضًا، ولا شك أن هذا يدل على فقه وعلم.

ومن أمثلة ذلك:

1 -

قال في باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور: (حدثنا علي بن حجر، وعلي بن خشرم، قالا: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور.

هذا حديث في إسناده اضطراب، وقد روي هذا الحديث عن الأعمش، عن بعض أصحابه، عن جابر، واضطربوا على الأعمش في رواية هذا الحديث.

وقد كره قوم من أهل العلم ثمن الهر، ورخص فيه بعضهم، وهو قول أحمد، وإسحاق.

وروى ابن فضيل، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه.

حدثنا يحيى بن موسى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر ابن زيد الصنعاني، عن أبي الزبير، عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وثمنه.

هذا حديث غريب، وعمر بن زيد لا نعرف كثير أحد روى عنه غير عبد الرزاق).

ثم قال: (باب. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة قال: نهي عن ثمن الكلب، إلا كلب الصيد.

ص: 241

هذا حديث لا يصح من هذا الوجه، وأبو المهزم اسمه: يزيد بن سفيان، وتكلم فيه شعبة بن الحجاج

(1)

.

وقد روي عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، ولا يصح إسناده أيضًا)

(2)

.

قلت: كاد الترمذيُّ أن يستوعب أحاديث الباب كلها، مع الكلام عليها حديثا حديثا من حيث الصناعة الحديثية.

* * *

الوجه الثالث: الأحاديث التي يذكرها إجمالا بعد الحديث الذي يسوقه مسندا، وذلك بقوله:(وفي الباب).

وهذا علم قائم برأسه، وهو من مزايا كتابه

(3)

،، فلا يكاد يخلو باب من هذا، مع ملاحظة أنه أحيانا يذكر أحاديث كثيرة جدا، كما فعل في (باب في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(4)

، و (باب ما جاء في كل مسكر حرام)

(5)

، أشار في كل واحد منهما إلى (19) حديثا في الباب، وفي (باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر)

(6)

أشار إلى (18) حديثا، وفي (باب ما جاء في الصرف)

(7)

أشار إلى (12) حديثا، وأحيانا يذكر أقل من ذلك، وفي أحيان كثيرة يشير إلى ثلاثة أحاديث -كما في أول باب من كتابه-، أو أربعة -كما في الباب الرابع-، أو خمسة -كما في الباب السادس-، والمقصود أنه لا يكاد يخلو باب من ذلك.

(1)

في بعض الطبعات زيادة: (وضعفه).

(2)

(2/ 411 - 412).

(3)

نعم يقول البخاري في بعض الأحيان: (وفي الباب عن فلان)، ولكن على سبيل الندرة والقلة، أعني القلة في الأحاديث التي يذكرها، والندرة في فعل ذلك.

(4)

(3/ 536).

(5)

(3/ 124).

(6)

(1/ 391).

(7)

(2/ 390).

ص: 242

وهذه الأحاديث التي في الباب على قسمين:

الأول: أن تكون بلفظ الحديث الذي ساقه، أو بمعناه.

والثاني: أن تكون مما يدخل في بيان حكم هذه المسألة، ولا يكون بنفس اللفظ.

ولا يخفى أن هذا يدل على فقه أبي عيسى، وهي فائدة كبيرة أيضًا لطالب العلم، فيقف على هذه الأحاديث بدلالة أبي عيسى له عليها.

لذا اعتنى بتتبعها جمع من الحفاظ، وعلى رأسهم ابن سيد الناس في "شرحه" ولكنه لم يتم ذلك؛ لأنه ما أكمل شرحه للكتاب، ومنهم ابن رجب، والظاهر أنه أتم جميع الكتاب؛ لأنه شرح "العلل الصغير" من "جامعه"، ومنهم العراقي في إكماله لشرح ابن سيد الناس، ولكنه لم يتمه، وأتم بعضا منه ابنه أبو زرعة، ومنهم ابن حجر، فقد ذكر السخاوي أن للحافظ ابن حجر كتابا في ذلك، فقال -وهو يعدد مصنفات الحافظ-:(تخريج ما يقول فيه الترمذي: "وفي الباب"، كتب مِنْ أوائله قدرَ ستة كراريس، لو كمُلَ لجاء في مجلد ضخم، سماه "العُجاب في تخريج ما يقول فيه الترمذي: وفي الباب")

(1)

.

وقد اعتنى بذلك في هذا الوقت بعض أهل عصرنا، فبلغت قريبا من (4000) حديث

(2)

، وفي إشارة الترمذي إلى هذه الأحاديث فائدتان:

الأولى: الدلالة عليها.

والثانية: إشارته إلى فقهها، وذلك بإدراجه لها تحت هذا الباب.

(1)

"الجواهر والدرر"(2/ 666).

(2)

مع ملاحظة أنه أحيانا يذكر الحديث بقوله: "وفي الباب"، ثم يسنده بعد ذلك.

ص: 243

وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك، هذا غير الفوائد التي تستفاد منها من حيث الصناعة الحديثية.

* * *

الوجه الرابع: التبويبات التي بَوَّب بها على النصوص التي أودعها في كتابه، فهذه التبويبات فيها اختيارات واستنباطات له، كما سوف يأتي، وقد ذكر أبوابا كثيرة في كتابه "الجامع" حتى بلغت:(2134) بابا تقريبا.

واستعراض هذه التبويبات لوحدها يستفيد منه الباحث مسائل كثيرة، ويفتح له فوائد عديدة؛ فهي فقه قائم بذاته، ولا يخفى أن صناعة التبويب صناعة دقيقة ليس كل أحد يحسنها، فعلى من بَوَّب أن يكون تبويبه مناسبا للنص الذي أودعه تحت هذا الباب، كما أنه لا بد أن يكون مختصرا جامعا، لذا من جاء بعد الأئمة كالنووي مثلا عندما بَوَّب كتاب مسلم أطال جدا في التبويبات، فأصبح في بعض الأحيان أقرب إلى الشرح منه إلى التبويب، ولما كانت تبويبات البخاري مختصرة ودالة على المقصود مع دقتها قيل:(فقه البخاري في تراجمه)

(1)

.

وينبغي أن يلاحظ أن هذه التبويبات على أنواع، وليست نوعا واحدا، فأحيانا يُشار فيها إلى الاختلاف، وأحيانا يكون فيها النص على اختيار المُبوِّب، وفي بعض الأحيان يُشار إلى معنى لطيف في الخبر المذكور تحت الباب

(2)

.

فمن تبويبات الترمذي الدقيقة: قوله في كتاب الطلاق: (باب ما جاء فيمن يُحدِّث نفسه بطلاق امرأته)، ثم ساق بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 13).

(2)

وأحيانا يبوب بعضهم -كالبخاري- بآية أو بعض آية، أو حديث أو جزء من حديث.

ص: 244

أنه قال: "تجاوز الله لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم به، أو تعمل به"

(1)

.

فهذا الحديث عام، ويدخل فيه مسائل كثيرة، فاستفاد منه الترمذي حكم هذه المسألة المهمة، لذا قال بعد ذلك:(والعمل على هذا عند أهل العلم، أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيئا حتى يتكلم به)

(2)

.

ومن تبويباته الجميلة أيضًا: قوله: (باب ما جاء في مداراة النساء)

(3)

، ثم ساق بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن المرأة كالضلع، إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها على عوج".

فاستفاد الترمذي من هذا الحديث أنه ينبغي للإنسان أن يداري امرأته، في معاشرته لها، فأصبح هذا التبويب كالشرح للحديث.

وأما طريقته في التبويب: ففي الغالب الأعم يقول: باب ما جاء في كذا، وهذا خبر وليس فيه بيان الحكم؛ والسبب في ذلك أنه بعد إيراده للحديث يذكر ما دلّ عليه الحديث مع بيان أقوال أهل العلم، وأحيانا يبين اختياره في الباب الذي يعقده كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهذا قليل، ولكنه موجود، ولا شك أن المنهج الصحيح أن طالب العلم يستدل أولا ثم يعتقد، فلعله قصد ذلك

(4)

.

(1)

(2/ 356).

(2)

المصدر السابق.

(3)

(2/ 359).

(4)

بخلاف البخاري، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، فإنهم لا يذكرون بعد الأحاديث التي أوردوها ما فيها من الفقه اكتفاء بما بوبوا به.

وميزة طريقة البخاري ومن معه، أن طالب العلم ينتبه ابتداء إلى ما دلت عليه هذه الأحاديث، وهي الطريقة التي سار عليها غالب من صنف في الحديث على طريقة الأبواب.

فتبين أن لكل من الطريقتين ميزة على الأخرى.

ص: 245

ومن التبويبات التي صرح فيها الترمذي باختياره:

1 -

قوله: (باب ما جاء في إيجاب التشميت لحمد العاطس)، ثم روى عن أنس بن مالك: أن رجلين عطسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فشمت أحدَهما، ولم يشمت الآخر، فقال الذي لم يشمته: يا رسول الله، شمت هذا ولم تشمتني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه حمد الله، وإنك لم تحمده"

(1)

.

وهذا الحكم الذي ذكره المصنف من إيجاب التشميت على السامع بشرط إذا حمد العاطس أخذه من مجموع الأحاديث التي ذكرها تحت (باب ما جاء في تشميت العاطس)

(2)

، فقد دل حديث عليّ، وحديث أبي هريرة، وفيهما:"ويشمته إذا عطس"، على وجوب ذلك على السامع، وأما اشتراط الحمد فأخذه الترمذي من حديث أنس الذي أورده تحت هذا الباب.

2 -

قوله: (باب ما لا يجوز من الأضاحي)، ثم روى حديث البراء بن عازب، رفعه قال:"لا يُضحَّى بالعرجاء بَيِّنٌ ظَلْعُها، ولا بالعوراء بَيِّنٌ عورها، ولا بالمريضة بَيِّنٌ مرضها، ولا بالعَجْفاء التي لا تُنْقي".

وقال: (هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبيد بن فيروز عن البراء، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم)

(3)

.

قلت: والفائدة من هذا التبويب أن أبا عيسى صَرَّح بأن هذه الأربع هي التي لا تُجزئ فقط، ويلحق بها ما كان مثل أحدها، أو أشد منها، مثل العمياء؛ لأنه إذا كانت العوراء لا تجزئ فالعمياء من باب أولى، وكذلك العرجاء إذا كانت لا تجزئ فالتي لا تمشى لا تجزئ من باب أولى.

وفائدة ذلك أن ما نهي عن التضحية به غير هذه الأربعة يكون مجزئا مع الكراهة، كما جاء في حديث عليّ قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

(1)

(3/ 576).

(2)

(3/ 574).

(3)

(2/ 540).

ص: 246

نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء، ولا خرقاء).

لذا بوب الترمذي على حديث عليّ هذا: (باب ما يكره من الأضاحي)

(1)

، وبوب على ما سبق بأنه لا يجوز، فغاير بينهما، وفي هذا فائدة عظيمة -كما سبق-، وهي أن كل ما جاء النهي عنه غير الأربعة وما يلحق بها فإنه على سبيل الكراهية وليس على سبيل التحريم، وهذا يؤخذ من حديث البراء، عندما ذكر النهي عن هذه الأربعة فقط، وبمثل هذا صرح أبو بكر ابن خزيمة أيضًا في صحيحه

(2)

.

3 -

قوله: (باب ما جاء في الرخصة في الثوب الأحمر للرجال)، ثم ساق من طريق سفيان عن أبي إسحاق عن البراء قال: ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

قلت: وهذا دليل ظاهر على جواز لبس الأحمر للرجال، وهذا ما أشار إليه الترمذي، ولا يخفى الخلاف في هذه المسألة.

وقد يبوب الترمذي أحيانا على الحديث، ثم يختار قولا قد يكون أخص مما بوب عليه، ومن أمثلة ذلك:

قوله: (باب في كراهية رد السلام غير متوضئ) ثم ذكر حديث ابن عمر: أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يرد عليه، ثم قال:(وإنما يكره هذا عندنا إذا كان على الغائط والبول، وقد فسر بعض أهل العلم ذلك)

(4)

.

قلت: يلاحظ أن اختياره أخص مما بوب به عليه.

(1)

(2/ 541).

(2)

(4/ 292 - 294).

(3)

(3/ 57).

(4)

(1/ 331 - 332).

ص: 247

ومن منهج الترمذي: أن المسألة إذا كان فيها حديثان، وكل حديث يدل على قول فيها فإنه يورد كل حديث في باب مستقل، ويذكر أسماء العلماء الذين عملوا بكل حديث من الحديثين في الباب الذي أورده فيه، ومن أمثلة ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (باب الوضوء من مس الذكر.

حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، عن بُسْرَة بنت صفوان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ".

وهو قول غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وبه يقول الأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

قال محمد: أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة.

وقال أبو زرعة: حديث أم حبيبة في هذا الباب صحيح، وهو حديث العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة.

وقال محمد: لم يسمع مكحول من عنبسة بن أبي سفيان، وروى مكحول، عن رجل، عن عنبسة غير هذا الحديث، وكأنه لم ير هذا الحديث صحيحا.

باب ترك الوضوء من مس الذكر

حدثنا هناد، قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق بن علي الحنفي، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وهل هو إلا مضغة منه؟ أو بضعة منه؟ ".

وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبعض التابعين:

ص: 248

أنهم لم يروا الوضوء من مس الذكر، وهو قول أهل الكوفة، وابن المبارك.

وهذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب.

وقد روى هذا الحديث أيوب بن عتبة، ومحمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه.

وقد تكلم بعض أهل الحديث في محمد بن جابر، وأيوب بن عتبة.

وحديث ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر أصح وأحسن)

(1)

.

2 -

وقال أيضًا: (باب ما جاء في التغليس بالفجر

حدثنا قتيبة، عن مالك بن أنس، قال: وحدثنا الأنصاري، قال: حدثنا معن، قال: حدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء، -قال الأنصاري: فيمر النساء- متلففات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وقال قتيبة: متلفعات.

وهو الذي اختاره غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر، وعمر، ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، يستحبون التغليس بصلاة الفجر.

باب ما جاء في الإسفار بالفجر

حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة -وهو ابن سليمان-، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر".

(1)

(1/ 326 - 329).

ص: 249

وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين الإسفار بصلاة الفجر، وبه يقول سفيان الثوري، وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: معنى الإسفار: أن يَضِحَ الفجر فلا يُشَكُّ فيه ولم يروا أن معنى الإسفار: تأخير الصلاة)

(1)

.

3 -

وقال أيضًا: (باب ما جاء في إفراد الإقامة

حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، ويزيد بن زريع، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة.

وهو قول بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، وبه يقول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

باب ما جاء أن الإقامة مثنى مثنى.

حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا عقبة بن خالد، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن زيد، قال: كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعا شفعا في الأذان والإقامة.

وقال بعض أهل العلم: الأذان مثنى مثنى، والإقامة مثنى مثنى.

وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأهل الكوفة)

(2)

.

4 -

وقال أيضًا: (باب ما جاء في ترك الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سعيد الجريري، عن قيس بن عباية، عن ابن عبد الله بن مغفل، قال:

(1)

(1/ 374 - 375).

(2)

(1/ 197).

ص: 250

سمعني أبي وأنا في الصلاة، أقول:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، فقال لي: أي بني محدث، إياك والحدث، قال: ولم أر أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام، يعني منه، قال: وقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر، ومع عمر، ومع عثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].

والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: لا يرون أن يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قالوا: ويقولها في نفسه.

باب من رأى الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

حدثنا أحمد بن عبدة، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: حدثني إسماعيل بن حماد، عن أبي خالد، عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: منهم أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، ومن بعدهم من التابعين، رأوا الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

وبه يقول الشافعي)

(1)

.

وأما إذا كان الخلاف بين العلماء في فهم حديث واحد، أو بسبب أن بعض العلماء لم يبلغه أو لم يصح عنده فإنه يذكر الخلاف في ذلك في باب واحد، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها:

(1)

(1/ 427 - 428).

ص: 251

1 -

قال رحمه الله: (باب ما جاء في كراهية البول في المغتسل.

حدثنا علي بن حجر، وأحمد بن محمد بن موسى، قالا: أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن أشعث، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل في مستحمه، وقال:"إن عامة الوسواس منه".

وقد كره قوم من أهل العلم البول في المغتسل، وقالوا: عامة الوسواس منه، ورخص فيه بعض أهل العلم منهم ابن سيرين، وقيل له: إنه يقال: إن عامة الوسواس منه، فقال: ربنا الله لا شريك له.

وقال ابن المبارك: قد وسع في البول في المغتسل إذا جرى فيه الماء.

قال أبو عيسى: حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الآملي، عن حبان، عن عبد الله بن المبارك)

(1)

.

2 -

وقال أيضًا: (باب الوضوء من القيء والرعاف.

حدثنا أبوعبيدة بن أبي السفر، وإسحاق بن منصور، قال أبوعبيدة: حدثنا، وقال إسحاق: أخبرنا، عبدالصمد بن عبدالوارث قال: حدثني أبي، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني عبدالرحمن ابن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد المخزومي، عن أبيه، عن معدان ابن أبي طلحة، عن أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت ذلك له، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه.

وقال إسحاق بن منصور: معدان بن طلحة.

وابن أبي طلحة أصح.

(1)

(1/ 289).

ص: 252

وقد رأى غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين: الوضوء من القيء والرعاف، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق.

وقال بعض أهل العلم: ليس في القيء والرعاف وضوء، وهو قول مالك، والشافعي)

(1)

.

3 -

وقال أيضًا: (باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده.

حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن هلال بن يساف، قال: أخذ زياد بن أبي الجعد بيدي ونحن بالرقة، فقام بي على شيخ يقال له: وابصة بن معبد، من بني أسد، فقال زياد: حدثني هذا الشيخ أن رجلا صلى خلف الصف وحده -والشيخ يسمع- فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة.

وقد كره قوم من أهل العلم أن يصلي الرجل خلف الصف وحده، وقالوا: يعيد إذا صلى خلف الصف وحده، وبه يقول أحمد، وإسحاق.

وقد قال قوم من أهل العلم: يجزئه إذا صلى خلف الصف وحده، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي.

وقد ذهب قوم من أهل الكوفة إلى حديث وابصة بن معبد أيضًا، قالوا: من صلى خلف الصف وحده يعيد، منهم: حماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، ووكيع)

(2)

.

(1)

(1/ 329).

(2)

(1/ 418).

ص: 253

الوجه الخامس: نقله للإجماعات التي وقعت بين أهل العلم.

قد أولى أبو عيسى الترمذي هذا الجانب اهتماما كبيرا في كتابه "الجامع"، ويعتبر من أوائل الذين ينقلون إجماع أهل العلم، فهو أقدم من أبي بكر ابن المنذر

(1)

، ومن المعلوم أن الذين ينقلون الإجماع إنما يعتمدون غالبا على ابن المنذر ومن أتى من بعده، فأبو عيسى أقدم منه، فهو كما اهتم بالخلاف اهتم أيضًا بالإجماع، وأضاف إلى ذلك الاهتمام بما عليه العمل، وبما ليس عليه العمل كما سوف يأتي.

وهذا يدل على اطلاع واسع، لذا قل في الأمة من ينقلى الإجماع، ولا شك أن طريقة عرضه للخلاف تؤهله لهذا الأمر (نقل الإجماع)، فهو كما تقدم يبتدئ بأقوال الصحابة وبالذات كبارهم، ثم التابعين، ومن أتى من بعدهم إلى أصحاب المذاهب المشهورة، وأحيانا لا ينقل الإجماع، ولكن ينص على أن هذا القول هو قول الأكثر، وأحيانا يذكر أن هذا قول بعض أهل العلم، وإليك أمثلة على ذلك:

1 -

قال أبو عيسى في باب ما جاء في الحائض تتناول الشيء من المسجد: (وهو قول عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك: بأن لا بأس أن تتناول الحائض شيئا من المسجد)

(2)

.

2 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء في كراهية أن يبادر الإمام في الركوع والسجود): (وبه يقول أهل العلم: أن مَن خلف الإمام يتبعون الإمام فيما يصنع، ولا يركعون إلا بعد ركوعه، ولا يرفعون إلا بعد رفعه، لا نعلم بينهم في ذلك اختلافا)

(3)

.

(1)

مع ملاحظة سبق الشافعي له، وأيضًا ممن ينقل الإجماع محمد بن نصر وهو عصريه.

(2)

(1/ 361).

(3)

(1/ 447).

ص: 254

3 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء في قضاء الحائض الصيام دون الصلاة): (والعمل على هذا عند أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافا في أن الحائض تقضي الصيام، ولا تقضي الصلاة)

(1)

.

4 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء في الوليين يزوجان): (والعمل على هذا عند أهل العلم لا نعلم بينهم في ذلك اختلافا: إذا زوج أحد الوليين قبل الآخر فنكاح الأول جائز، ونكاح الآخر مفسوخ، وإذا زوجا جميعا فنكاحهما جميعا مفسوخ، وهو قول الثوري، وأحمد، وإسحاق)

(2)

.

5 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء في طلاق المعتوه): (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: أن طلاق المعتوه المغلوب على عقله لا يجوز إلا أن يكون معتوها يفيق الأحيان، فيطلق في حال إفاقته)

(3)

.

6 -

وقال أيضًا باب في الوقف -بعد أن ذكر حديث ابن عمر- رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضا بخيبر

-: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافا في إجازة وقف الأرضين وغير ذلك)

(4)

.

7 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه) بعد أن ذكر حديث معاوية رضي الله عنه في ذلك: (وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد، هكذا روى محمد بن إسحاق، عن محمد ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه"، قال: ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله.

(1)

(2/ 136).

(2)

(2/ 310).

(3)

(2/ 360).

(4)

(2/ 463 - 464).

ص: 255

وكذلك روى الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا قال: فرفع القتل، وكانت رخصة، والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك في القديم والحديث

الخ)

(1)

.

قلت: يلاحظ هنا تورع الترمذي فهو لا يجزم بنقل الإجماع، وإنما يعلق ذلك بعدم العلم، وأما إذا كان الأمر واضحا فإنه يجزم بالإجماع، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قوله في (باب ما جاء في كم تمكث النفساء): (وقد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي

الخ)

(2)

.

2 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء في وضع اليدين ونصب القدمين في السجود) - بعد أن روى حديث عامر بن سعد، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع اليدين ونصب القدمين

: (وهو الذي أجمع عليه أهل العلم واختاروه)

(3)

.

3 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين): (وهو ما أجمع عليه أهل العلم: كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر)

(4)

.

4 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء في حج الصبي): (وقد أجمع أهل العلم: أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك، لا تجزئ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق

(1)

(2/ 508 - 509).

(2)

(1/ 363 - 364).

(3)

(1/ 445 - 446).

(4)

(1/ 525).

ص: 256

فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلا، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقه، وهو قول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق)

(1)

.

5 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في حج الصبي: (وقد أجمع أهل العلم على: أن المرأة لا يلبي عنها غيرها، هي تلبي

(2)

، ويكره لها رفع الصوت بالتلبية)

(3)

.

6 -

قال أبو عيسى في باب ما جاء في الدية كم هي من الإبل؟: (وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين، في كل سنة ثلث الدية، ورأوا أن دية الخطأ على العاقلة)

(4)

.

7 -

قال أبو عيسى في باب في الذبح بعد الصلاة: (وقد أجمع أهل العلم: ألا يجزئ الجذع من المعز، وقالوا: إنما يجزئ الجذع من الضأن)

(5)

.

وأحيانا يقول: هذا قول عامة أهل العلم، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قوله في باب ما جاء في المني والمذي: (وقد روي عن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه:"من المذي الوضوء، ومن المني الغسل".

وهو قول عامة اْهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، وبه يقول سفيان والشافعي، وأحمد، وإسحاق)

(6)

.

2 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في مؤاكلة الجنب الحائض وسؤرها: (وهو قول عامة أهل العلم: لم يروا بمؤاكلة الحائض بأسا، واختلفوا في

(1)

(2/ 210).

(2)

في بعض النسخ: (بل هي تلبي عن نفسها).

(3)

(2/ 211).

(4)

(2/ 472).

(5)

(2/ 548).

(6)

(1/ 346).

ص: 257

فضل وضوئها، فرخص في ذلك بعضهم، وكره بعضهم فضل طهورها)

(1)

.

وأحيانا يقول: عليه العمل ولا يذكر خلافا، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قوله في باب ما جاء السجود على سبعة أعضاء -بعد أن ذكر حديث العباس بن عبد المطلب: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب

(2)

: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه"-:(وعليه العمل عند أهل العلم)

(3)

.

2 -

وقال أيضًا -بعد أن ذكر حديث أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه-: (حديث أبي هريرة عليه العمل عند أهل العلم: يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه)

(4)

.

وأحيانا يذكر أن هذا القول هو قول أكثر أهل العلم، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع -بعد أن ذكر حديث أبي السنابل بن بَعْكَك قال: وضعت سُبيعة بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين، أو خمسة وعشرين يوما

-: (والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: أن الحامل المتوفى عنها زوجها إذا وضعت فقد حل لها التزويج، وإن لم تكن انقضت عدتها، وهو قول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: تعتد آخر الأجلين.

(1)

(1/ 360).

(2)

آراب: أعضاء، وأحدها إِرب بالكسر والسكون. "النهاية"(1/ 36).

(3)

(1/ 443).

(4)

(1/ 450).

ص: 258

والقول الأول أصح)

(1)

.

2 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر-بعد أن ذكر حديث سلمة بن صخر البياضي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال:"كفارة واحدة"-: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وهو قول سفيان الثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال بعضهم: إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي)

(2)

.

3 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها) -بعد أن ذكر حديث الفريعة بنت مالك بن سنان أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة

-: (والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: لم يروا للمعتدة أن تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدتها، وهو قول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: للمرأة أن تعتد حيث شاءت، وإن لم تعتد في بيت زوجها.

والقول الأول أصح)

(3)

.

* * *

الوجه السادس: ذكره لما عليه العمل، وما ليس عليه العمل.

لا يخفى على الناظر في كتاب أبي عيسى اهتمامه البالغ بذلك، لذا فإن الراجح في تسمية كتابه:"الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الصحيح والمعلول، وما عليه العمل".

(1)

(2/ 362).

(2)

(2/ 364).

(3)

(2/ 369).

ص: 259

وقد اهتم بذلك إجمالا وتفصيلا:

أما تفصيلا: فقلَّ أن يخلوَ باب من ذلك، إلا أبواب التفسير وأبواب الجنة والنار، ونحو ذلك.

وأما إجمالا: فقد قال في أول كتابه العلل الصغير: (جميع ما في هذا الكتاب

(1)

من الحديث هو معمول به، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين:

حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر

(2)

.

وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".

وقد بينا علة الحديثين جميعًا في الكتاب)

(3)

.

وقد كان رحمه الله يتفنن في عرضه لذلك:

كقوله في بعض الأحيان: (والعمل على هذا عند أهل العلم).

وفي بعضها: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم)، بدون أن يقيد ذلك بصحابة أو تابعين

(4)

.

وفي بعضها: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم)

(5)

.

وفي بعضها: (وذهب أكثر أهل العلم والفقه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم إلى

)

(6)

.

(1)

أي: "الجامع".

(2)

في بعض الطبعات زيادة: (ولا مطر).

(3)

(5/ 7).

(4)

سبقت عدة أمثلة لهذا وللذي قبله.

(5)

(2/ 382).

(6)

(2/ 353).

ص: 260

وفي بعضها: (والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم)

(1)

.

وفي بعض الأحيان يقول: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم)

(2)

.

وفي بعضها: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من التابعين ومن بعدهم)

(3)

.

وأحيانا: (اختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)

(4)

.

وقال في موضع آخر: (وهو قول بعض أهل العلم منهم: الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وبه يقود أحمد وإسحاق)

(5)

.

وقال مرة: (وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعائشة -، والفقهاء من التابعين ومن بعدهم -مثل سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحق- قالوا: إذا التقى الختانان وجب الغسل)

(6)

.

وقد يشير الترمذي إلى عدم العمل بالحديث بعبارات أخرى كقوله: (ولا نعرف معنى هذا الحديث) ونحو ذلك، ومن الأمثلة عليه:

1 -

قوله رحمه الله في أبواب الشهادات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(7)

: (حدَّثنا قتيبة، قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود حدا ولا مجلودة، ولا ذي غمر لأخيه،

(1)

(2/ 378).

(2)

(1/ 489).

(3)

(2/ 340).

(4)

(2/ 351).

(5)

(2/ 354).

(6)

(1/ 344).

(7)

في بعض النسخ: (باب ما جاء فيمن لا تجوز شهادته).

ص: 261

ولا مجرب شهادة، ولا القانع أهل البيت لهم، ولا ظنين في ولاء، ولا قرابة"، قال الفزاري: القانع التابع.

هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث، ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه.

وفي الباب عن عبد الله بن عمرو.

ولا نعرف معنى هذا الحديث، ولا يصح عندنا من قبل إسناده. والعمل عند أهل العلم أن شهادة القريب جائزة لقرابته.

واختلف أهل العلم في شهادة الوالد للولد، والولد للوالد، فلم يجز أكثر أهل العلم شهادة الولد للوالد ولا الوالد للولد، وقال بعض أهل العلم: إذا كان عدلا فشهادة الوالد للولد جائزة، وكذلك شهادة الولد للوالد، ولم يختلفوا في شهادة الأخ لأخيه أنها جائزة، وكذلك شهادة كل قريب لقرابته. وقال الشافعي: لا تجوز شهادة الرجل على الاخر وإن كان عدلا إذا كان بينهما عداوة، وذهب إلى حديث عبدالرحمن الأعرج، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا:"لا تجوز شهادة صاحب حنة"، يعنى: صاحب عداوة، وكذلك معنى هذا الحديث حيث قال:"لا تجوز شهادة صاحب غمر" يعني صاحب عداوة)

(1)

.

قلت: قوله: (ولا نعرف معنى هذا الحديث) يعنى: أنه مخالف لما عليه العمل كما شرح ذلك بعد أن ذكر ما تقدم، لا أنه لا يعرف معناه من حيث اللغة، كيف وهو قد فسره؟!

2 -

مثال آخر: قال رحمه الله في باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم

(1)

(3/ 347 - 348).

ص: 262

أحدهما: (حدَّثنا أحمد بن منيع، وهناد، قالا: حدَّثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد.

هذا حديث في إسناده مقال، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم: أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها ثم أسلم زوجها وهي في العدة أن زوجها أحق بها ما كانت في العدة، وهو قود مالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

حدَّثنا هناد، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدَّثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول، ولم يحدث نكاحا.

هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قبل داود بن حصين من قبل حفظه.

حدَّثنا يوسف بن عيسى، قال: حدَّثنا وكيع، قال: حدَّثنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رجلا جاء مسلما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت امرأته مسلمة، فقال: يا رسول الله، إنها كانت أسلمت معي فرُدها عليّ، فرَدّها عليه.

هذا حديث صحيح.

سمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن هارون يذكر، عن محمد ابن إسحاق هذا الحديث.

وحديث الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد، ونكاح جديد.

ص: 263

فقال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسنادا.

والعمل على حديث عمرو بن شعيب)

(1)

.

قلت: وهذا فيه أيضًا نقد للحديث من جهة المتن إذا كان مخالفا للنصوص الأخرى.

* * *

الوجه السابع: ذكره لخلاف أهل العلم في المسائل المتعلقة بالحديث الذي أورده، مع ملاحظة أنه أحيانا يتوسع في ذكر الخلاف كما توسع في أبواب الطلاق، وأحيانا يختصر، بل قد لا يذكر شيئًا، وذلك تبعا للمسألة التي يعالجها، فمثلا في أبواب التفسير

(2)

، وأبواب صفة الجنة والنار

(3)

، لا يذكر شيئًا من ذلك، لأنها لا علاقة لها بالأحكام.

وأما الأحاديث التي لها علاقة مباشرة بالأحكام فيعتني فيها بهذا الجانب كثيرا، حتى إنه أحيانا يذكر عدة أقوال في المسألة الواحدة، مبتدئا بالصحابة، مع تنصيصه أحيانا على أن هذا قول الصديق أو عمر وغيرهما من الصحابة

(4)

، ويلاحظ أيضًا أنه في أحيان قليلة يسند هذه الأقوال، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.

والكلام على هذا يطول، ولكن سوف أضرب بعض الأمثلة على ذلك:

1 -

فقد قال تحت (باب ما جاء في أمرك بيدك): (حدَّثنا علي بن نصر بن علي، قال: حدَّثنا سليمان بن حرب، قال: حدَّثنا حماد بن زيد،

(1)

(2/ 330 - 331).

(2)

(4/ 56).

(3)

(3/ 490، 462).

(4)

لا يخفى ميزة قول الخلفاء الراشدين على غيرهم من الصحابة، وخاصة أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم جميعًا.

ص: 264

قال: قلت لأيوب: هل علمت أحدا قال في أمرك بيدك إنها ثلاث؟ فقال: لا، إلا الحسن، ثم قال: اللهم غفرا، إلا ما حدَّثني قتادة عن كثير- مولى ابن سمرة-، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث". قال أيوب: فلقيت كثيرًا مولى ابن سمرة فسألته: فلم يعرفه، فرجعت إلى قتادة فأخبرته، فقال: نسي.

هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، وسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: حدَّثنا سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد بهذا، وإنما هو عن أبي هريرة موقوف.

ولم يعرف حديث أبي هريرة مرفوعا

(1)

، وكان علي بن نصر حافظا، صاحب حديث.

وقد اختلف أهل العلم في "أمرك بيدك"، فقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود-:(هي واحدة)، وهو قول غير واحد من أهل العلم من التابعين ومن بعدهم.

وقال عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت: القضاء ما قضت.

وقال ابن عمر: إذا جعل أمرها بيدها، فطلقت نفسها ثلاثا، وأنكر الزوج، وقال: لم أجعل أمرها بيدها إلا في واحدة استحلف الزوج، وكان القول قوله مع يمينه.

وذهب سفيان وأهل الكوفة إلى قول عمر وعبد الله، وأما مالك بن أنس، فقال: القضاء ما قضت، وهو قول أحمد، وأما إسحاق فذهب إلى قول ابن عمر)

(2)

.

(1)

في بعض الطبعات: (ولم يعرف محمد حديث أبي هريرة مرفوعا).

(2)

(2/ 352).

ص: 265

قلت: فيلاحظ أنه ذكر ثلاثة أقوال في المسألة، مع بيان أقوال كبار الصحابة كعمر وعثمان، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عمر، ومن أتى من بعدهم من التابعين، وإن لم ينص على قول واحد منهم بعينه، ثم ذكر أقوال أئمة المذاهب المشهورة، فذكر قول سفيان الثوري وأهل الكوفة، وقول أهل المدينة -بذكره لقول الإمام مالك

(1)

-، ثم ذكر قول أئمة الحديث -بذكره لقول أحمد وإسحاق في المسألة-.

2 -

وقال أيضًا: (باب ما جاء في اللقطة وضالة الإبل والغنم)

(2)

ثم ذكر حديث أبي بن كعب وزيد بن خالد الجهني في المسألة، ثم ذكر فقه هذه المسألة فقال: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، رخصوا في اللقطة إذا عرفها سنة فلم يجد من يَعْرِفُها أن ينتفع بها، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم: يعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها، وهو قول سفيان الثوري، وعبدالله بن المبارك، وهو قول أهل الكوفة، لم يروا لصاحب اللقطة أن ينتفع بها إذا كان غنيا.

وقال الشافعي: ينتفع بها وإن كان غنيا؛ لأن أبي بن كعب أصاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرة فيها مائة دينار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها ثم ينتفع بها، وكان أبي كثير المال، من مياسير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، فلم يجد من يعرفها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلها، فلو كانت اللقطة لم تحل إلا لمن تحل له الصدقة لم تحل لعلي بن أبي طالب؛ لأن علي بن أبي طالب أصاب دينارا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه، فلم يجد من يعرفه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكله، وكان عليّ لا تحل له الصدقة.

(1)

فضلا عن الصحابة الذين كانوا بالمدينة، كعمر وعثمان وزيد وابن عمر.

(2)

(2/ 460).

ص: 266

وقد رخص بعض أهل العلم إذا كانت اللقطة يسيرة أن ينتفع بها، ولا يعرفها.

وقال بعضهم: إذا كان دون دينار يعرفها قدر جمعة، وهو قول إسحاق بن إبراهيم)

(1)

.

قلت: فيلاحظ أنه أطال في الشرح والبيان مع ذكر أقوال أهل العلم في المسألة مبتدئا بالصحابة وغيرهم، ثم ذكر قول أئمة المذاهب المشهورة، كالشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وابن المبارك، وقول أهل الكوفة.

3 -

وقال أيضًا: (باب ما جاء الرجل يطلق امرأته البتة.

حدَّثنا هناد، قال: حدَّثنا قبيصة، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن سعيد، عن عبدالله بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي البتة، فقال:"ما أردت بها؟ " قلت: واحدة، قال:"والله؟ " قلت: والله، قال:"فهو ما أردت".

هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه

(2)

.

وقد اختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم في طلاق البتة، فروي عن عمر بن الخطاب، أنه جعل البتة واحدة.

وروي عن علي، أنه جعلها ثلاثا.

وقال بعض أهل العلم: فيه نية الرجل، إن نوى واحدة فواحدة، وإن نوى ثلاثا فثلاث، وإن نوى ثنتين لم تكن إلا واحدة، وهو قول الثوري، وأهل الكوفة.

(1)

(2/ 462).

(2)

في بعض الطبعات زيادة: (وسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: فيه اضطراب. ويروى عن عكرمة، عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا).

ص: 267

وقال مالك بن أنس في البتة: إن كان قد دخل بها فهي ثلاث تطليقات.

وقال الشافعي: إن نوى واحدة فواحدة يملك الرجعة، وإن نوى ثنتين فثنتين، وإن نوى ثلاثا فثلاث)

(1)

.

قلت: فيلاحظ هنا أنه ذكر خمسة أقوال مبتدئا بالصحابة، ثم من أتى من بعدهم من أئمة المذاهب المشهورة.

4 -

وقال أيضًا: (باب ما جاء في كراهية أن تسافر المرأة وحدها) ثم ذكر حديث أبي سعيد: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو ابنها، أو ذو محرم منها". ثم قال: (وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم".

والعمل على هذا عند أهل العلم؛ يكرهون للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم.

واختلف أهل العلم في المرأة إذا كانت موسرة ولم يكن لها محرم، هل تحج؟

فقال بعض أهل العلم: لا يجب عليها الحج؛ لأن المحرم من السبيل؛ لقول الله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فقالوا: إذا لم يكن لها محرم فلم تستطع إليه سبيلا، وهو قول سفيان الثوري، وأهل الكوفة.

وقال بعض أهل العلم: إذا كان الطريق آمنا فإنها تخرج مع الناس في الحج، وهو قول مالك بن أنس، والشافعي.

(1)

(2/ 351).

ص: 268

حدَّثنا الحسن بن علي الخلال، قال: حدَّثنا بشر بن عمر، قال: حدَّثنا مالك بن أنس، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم".

هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: بين أبو عيسى ما دلت عليه هذه الأحاديث من عدم جواز سفر المرأة بدون محرم، ثم ذكر بعض المسائل التي تنبني على هذه القضية، مع أقوال أهل العلم في ذلك.

5 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم): (حدَّثنا علي بن حجر، قال: حدَّثنا عيسى بن يونس، قال: حدَّثنا الحسين المعلم، عن عبدالله بن بريدة، عن عمران بن حصين، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد، فقال:"من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد".

وفي الباب: عن عبدالله بن عمرو، وأنس، والسائب.

قال أبو عيسى: حديث عمران بن حصين حديث حسن صحيح.

وقد روي هذا الحديث عن إبراهيم بن طهمان بهذا الإسناد، إلا أنه يقول: عن عمران بن حصين قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض، فقال:"صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب".

قال أبو عيسى: حدَّثنا بذلك هناد، قال: حدَّثنا وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، بهذا الحديث.

(1)

(2/ 346 - 347).

ص: 269

لا نعلم أحدا روى عن حسين المعلم نحو رواية إبراهيم بن طهمان.

وقد روى أبو أسامة، وغير واحد، عن حسين المعلم نحو رواية عيسى بن يونس.

ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم في صلاة التطوع.

واختلف أهل العلم في صلاة المريض إذا لم يستطع أن يصلي جالسا:

فقال بعض أهل العلم: إنه يصلي على جنبه الأيمن.

وقال بعضهم: يصلي مستلقيا على قفاه، ورجلاه إلى القبلة.

وقال سفيان الثوري في هذا الحديث: من صلى جالسا فله نصف أجر القائم، قال: هذا للصحيح ولمن ليس له عذر، فأما من كان له عذر من مرض أو غيره فصلى جالسا فله مثل أجر القائم.

وقد روي في بعض الحديث مثل قول سفيان الثوري.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدَّثنا ابن أبي عدي، عن أشعث بن عبد الملك، عن الحسن، قال: إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع قائما، وجالسا، ومضطجعا)

(1)

.

وكلامه في هذا الباب كثير، والمراد هو بيان منزلته في الفقه واطلاعه على أقوال الصحابة، من الخلفاء الراشدين، وغيرهم ممن اشتهر بالعلم، كابن عباس وابن عمر وعائشة، ومن أتى من بعدهم من التابعين كسعيد بن المسيب، والحسن البصري، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء، وغيرهم

(2)

،

(1)

(1/ 497 - 498).

(2)

قد يشير أيضًا إلى الاختلاف عن الصحابي أو التابعي إذا كان قد نُقل عنه أكثر من قول في المسألة، ومن أمثلة ذلك:

1 -

قوله في باب التيمم للجنب إذا لم يجد الماء (1/ 353).: (وهو قول عامة الفقهاء: أن الجنب، والحائض إذا لم يجدا الماء تيمما وصليا. =

ص: 270

وأتباعهم كسفيان الثوري، وأبي حنيفة

(1)

، ومالك، ومن أتى من بعدهم كسفيان بن عيينة، ووكيع

(2)

، وابن المبارك، ومن بعدهم كالشافعي

(3)

، وآخرهم الإمام أحمد، وإسحاق، ولا شك أن هذا يدل على اطلاع واسع، وعلم كبير كما تقدم

(4)

.

ويلاحظ اعتناؤه الشديد بأقوال الصحابة، وخاصة منهم الخلفاء الراشدين

(5)

، ولا يخفى أن هذا ينبني عليه مسائل أخرى:

= ويروى عن ابن مسعود: أنه كان لا يرى التيمم للجنب، وإن لم يجد الماء. ويروى عنه أنه رجع عن قوله: فقال: يتيمم إذا لم يجد الماء).

2 -

قوله في باب ما جاء في كم تقصر الصلاة (2/ 7): (وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذأ أقام أربعا صلى أربعا.

وروى عنه ذلك: قتادة وعطاء الخراساني.

ورَوى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا).

(1)

كثيرا ما يعبر عن قول أبي حنيفة بـ "أهل الكوفة"، ولا ينص على اسمه.

(2)

قال أبو عيسى في أحد المواضع (1/ 297): (وقد ذهب بعض أهل الكوفة إلى هذا الحديث، منهم وكيع بن الجراح)، وهذا يفيد أن وكيعا يدخل عنده في أهل الكوفة.

(3)

في الغالب يذكر الترمذي أقوال الشافعي التي في العراق بدليل أنه يرويها عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وأحيانا يذكر قوله في العراق وقوله الآخر الذي بمصر، قال رحمه الله في "العلل الصغير":(وما كان فيه من قول الشافعي، فأكثره ما أخبرني به الحسن بن محمد الزعفراني، عن الشافعي. وما كان من الوضوء والصلاة، حدَّثنا به أبو الوليد المكي عن الشافعي. ومنه ما حدثنا أبو إسماعيل، قال: حدَّثنا يوسف بن يحيى القرشي البويطي عن الشافعي، وذكر فيه أشياء عن الربيع عن الشافعي، وقد أجاز لنا الربيع ذلك وكتب به إلينا)(5/ 8).

(4)

ومن مزايا كتاب "الجامع" أن غالب الأقوال التي فيه مسندة، فإن الترمذي إما أن يسند القول في موضع ذكره، وما لم يسنده فقد أسنده في كتاب "العلل" -الصغير-، وقد حوى "جامع الترمذي" أقوالا مسندة عن بعض العلماء الذين لا توجد أقوالهم في الكتب الأخرى كابن المبارك (1/ 434)، وابن مهدي (1/ 423).

(5)

من المواضع التي ذكر فيها اتفاق الخلفاء الراشدين: في (باب ما جاء في ترك =

ص: 271

منها: وجوب الأخذ بقول الخلفاء الراشدين، لقوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"

(1)

، وأنهم إذا اختلفوا فيما بينهم فالأولى الأخذ بقول أبي بكر وعمر.

ومنها: أن الصحابة إذا قالوا بقول ولم يقع بينهم اختلاف فإنه يجب المصير إلى هذا القول وعدم إحداث قول يخالف اتفاقهم.

وأبو عيسى عندما ينص على ذلك لعله يشير إلى هذا وغيره من المسائل التي تنبني على مثل ذلك.

كما يلاحظ أن أبا عيسى يذكر أقوالا لبعض الأئمة الذين لم تعتن كثير من كتب الفقه بأقوالهم.

ويستفاد من ذكر الترمذي لهذا الخلاف العالي بين الصحابة ومن أتى من بعدهم أنه إمام مجتهد، ولا يقلد شخصا بعينه، مع ملاحظة انتسابه لأهل الحديث واهتمامه بمذهبهم، فكثيرا ما ينص على أن هذا القول "قول أصحابنا من أهل الحديث" ونحو ذلك، مع اعتنائه بأقوال أحمد وإسحاق منهم خاصة، وبالذات أحمد.

= الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) قال -بعد أن ذكر حديث عبدالله بن مغفل في ترك الجهر- (1/ 427): (والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: لا يرون أن يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قالوا: ويقولها في نفسه).

وهذا بخلاف بعض أهل العلم الذين يقتصرون على ذكر أقوال أئمة المذاهب دون غيرهم.

(1)

الحديث عند الترمذي (2883) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال (حسن صحيح)، وأخرجه أحمد (17145)، أبو داود (4607)، وابن ماجة (43)، وصححه ابن حبان (5)، والحاكم (329).

ص: 272

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال في باب ما جاء في المصراة: (والعمل على هذا الحديث عند أصحابنا، منهم: الشافعي، وأحمد، وإسحق)

(1)

.

2 -

وقال في باب ما جاء فيمن يقول لآخر: يا مخنث: (والعمل على هذا عند أصحابنا، قالوا: من أتى ذات محرم -وهو يعلم- فعليه القتل، وقال أحمد: من تزوج أمه قتل، وقال إسحق: من وقع على ذات محرم قتل)

(2)

.

3 -

وقال في باب النهي عن المحاقلة والمزابنة: (والعملى على هذا عند أهل العلم، وهو قول الشافعي وأصحابنا)

(3)

.

4 -

وذكر حديث علي في دعاء الاستفتاح: "وجهت وجهي

"، ثم قال: (والعمل على هذا الحديث عند الشافعي وبعض أصحابنا.

وقال بعض أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم: يقول هذا في صلاة التطوع، ولا يقوله في المكتوبة

(4)

.

سمعت أبا إسماعيل الترمذي يقول: سمعت سليمان بن داود الهاشمي يقول -وذكر هذا الحديث-، فقال: هذا عندنا مثل حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه)

(5)

.

5 -

وقال في باب في (باب ما جاء في التمتع): (وأهل الحديث يختارون التمتع بالعمرة في الحج، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق)

(6)

.

(1)

(2/ 397).

(2)

(2/ 520).

(3)

(2/ 381).

(4)

في بعض الطبعات زيادة: (وأحمد لا يراه).

(5)

(4/ 343).

(6)

(2/ 158).

ص: 273

ومن أمثلة عنايته بأقوال أحمد وإسحاق:

1 -

قال في (باب ما جاء في كراهية بيع الطعام حتى يستوفيه): (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم؛ كرهوا بيع الطعام حتى يقبضه المشتري.

وقد رخص بعض أهل العلم فيمن ابتاع شيئًا مما لا يكال ولا يوزن، مما لا يؤكل ولا يشرب، أن يبيعه قبل أن يستوفيه، وإنما التشديد عند أهل العلم في الطعام، وهو قول أحمد وإسحق)

(1)

.

2 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة): (وقال أحمد وإسحاق: للبلوغ ثلاث منازل: بلوغ خمس عشرة، أو الاحتلام، فإن لم يعرف سنه ولا احتلامه فالإنبات -يعني العانة-)

(2)

.

وفي أحيان قليلة يقتصر على قول أحمد كما سبق، ومن أمثلة ذلك أيضًا:

قال في (باب ما جاء في كسب الحجام) -بعد أن ذكر حديث ابن محيصة عن أبيه في النهي عن إجارة الحجام-: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وقال أحمد: إن سألني حجام نهيته، واَخذ بهذا الحديث)

(3)

.

وأحيانا ينص الترمذي على أن هذا القول يقول به أهل البلد الفلاني، مما يدل على اطلاعه، ومعرفته بما عليه العمل في بعض البلاد دون بعض، ومن أمثلة ذلك:

قوله في (باب ما جاء في الترجيع في الأذان): (وعليه العمل بمكة، وهو قول الشافعي)

(4)

.

(1)

(2/ 417).

(2)

(2/ 452).

(3)

(2/ 410).

(4)

(1/ 396).

ص: 274

ويقرب من هذا تنصيصه في كثير من المواضع على أن هذا قول أهل الكوفة.

* * *

الوجه الثامن: تحريره لمحل النزاع في بعض المسائل، فيبين محل الاختلاف ومحل الاتفاق:

ومن الأمثلة على ذلك:

قال في (باب ما جاء في كم تقصر الصلاة): (حدثنا أحمد بن منيع، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن أبي إسحق الحضرمي، قال: حدَّثنا أنس بن مالك قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين. قال: قلت لأنس: كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال عشرا.

وفي الباب عن ابن عباس، وجابر.

قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن صحيح.

وقد روي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين، قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة.

وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة.

وروي عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة.

وروي عنه ثنتا عشرة.

وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقام أربعا صلى أربعا.

وروى عنه ذلك: قتادة وعطاء الخراساني.

ورَوى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا.

واختلف أهل العلم بعدُ في ذلك:

ص: 275

فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة.

وقال الأوزاعي: إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة.

وقال مالك، والشافعي، وأحمد: إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة.

وأما إسحق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس، قال: لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجمع على إقامة تسع عشرة أتم الصلاة.

ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون)

(1)

.

* * *

الوجه التاسع: أنه يذكر في بعض الأحيان التعليل عند ذكر الخلاف مع توجيه بعض الأقوال، كما يعتني في بعض المسائل -بعد ذكر الاختلاف- بالشرح والبيان، وتبيين سبب الاختلاف، وأن الحديث منسوخ، أو أن ترك أهل الحديث للحديث إنما هو لضعفه، وغير ذلك من الفوائد الفقهية المتعددة.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قوله في باب المنديل بعد الوضوء: (وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء، ومن كرهه إنما كرهه من قبل أنه قيل: إن الوضوء يوزن، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والزهري)

(2)

.

(1)

(2/ 7 - 8).

(2)

(1/ 309).

ص: 276

2 -

وقوله في باب ما جاء في التثويب في الفجر: (وقد اختلف أهل العلم في تفسير التثويب:

فقال بعضهم: التثويب أن يقول في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، وهو قول ابن المبارك، وأحمد.

وقال إسحاق في التثويب غير هذا، قال: هو شيء أحدثه الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أذن المؤذن فاستبطأ القوم قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح.

وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي كرهه أهل العلم، والذي أحدثوه بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

والذي فسر ابن المبارك، وأحمد، أن التثويب: أن يقول المؤذن في صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم.

وهو قول صحيح، ويقال له: التثويب أيضًا.

وهو الذي اختاره أهل العلم ورأوه.

وروي عن عبدالله بن عمر أنه كان يقول في صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم.

وروي عن مجاهد، قال: دخلت مع عبدالله بن عمر مسجدا وقد أذن فيه، ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوب المؤذن، فخرج عبدالله بن عمر من المسجد، وقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه.

وإنما كره عبدالله بن عمر التثويب الذي أحدثه الناس بعد)

(1)

.

(1)

(1/ 400 - 401).

ص: 277

3 -

وقال أيضًا في باب ما جاء البيعان بالخيار ما لم يتفرقا: (حدَّثنا واصل بن عبد الأعلى الكوفي، قال: حدَّثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا". قال: فكان ابن عمر إذا ابتاع بيعا وهو قاعد قام ليجب له.

حدَّثنا محمد بن بشار، قال: حدَّثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال: حدَّثني قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبدالله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما".

وهذا حديث صحيح.

وفي الباب عن أبي برزة، وعبدالله بن عمرو، وسمرة، وأبي هريرة، وعبدالله بن عباس.

حديث ابن عمر حديث حسن صحيح.

والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: الفرقة بالأبدان لا بالكلام.

وقد قال بعض أهل العلم: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لم يتفرقا"، يعني: الفرقة بالكلام.

والقول الأول أصح؛ لأن ابن عمر هو روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم بمعنى ما روى، وروي عنه أنه كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى ليجب له.

وهكذا روي عن أبي برزة الأسلمي أن رجلين اختصما إليه في فرس

ص: 278

بعدما تبايعا وكانوا في سفينة، فقال: لا أراكما افترقتما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا".

وقد ذهب بعض أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم إلى أن الفرقة بالكلام، وهو قول الثوري.

وهكذا روي عن مالك بن أنس، وروي عن ابن المبارك أنه قال: كيف أرد هذا، والحديث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح؟! وقوى هذا المذهب.

ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا بيع الخيار"، معناه: أن يخير البائع المشتري بعد إيجاب البيع، فإذا خيره فاختار البيع فليس له خيار بعد ذلك في فسخ البيع، وإن لم يتفرقا، هكذا فسره الشافعي، وغيره.

ومما يقوي قول من يقول: الفرقة بالأبدان لا بالكلام، حديث عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا بذلك قتيبة، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله".

هذا حديث حسن.

ومعنى هذا: أن يفارقه بعد البيع خشية أن يستقيله، ولو كانت الفرقة بالكلام، ولم يكن له خيار بعد البيع لم يكن لهذا الحديث معنى، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله")

(1)

.

4 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في كثرة الركوع والسجود: (وقد اختلف أهل العلم في هذا:

(1)

(2/ 393 - 395).

ص: 279

فقال بعضهم: طول القيام في الصلاة أفضل من كثرة الركوع والسجود.

وقال بعضهم: كثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام.

وقال أحمد بن حنبل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديثان ولم

يقض فيه بشيء.

وقال إسحاق: أما بالنهار فكثرة الركوع والسجود، وأما بالليل فطول القيام، إلا أن يكون رجل له جزء بالليل يأتي عليه، فكثرة الركوع والسجود في هذا أحب إلي، لأنه يأتي على جزأيه

(1)

وقد ربح كثرة الركوع والسجود.

قال أبو عيسى: وإنما قال إسحاق هذا، لأنه كذا وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، ووصف طول القيام، وأما بالنهار فلم يوصف من صلاته من طول القيام ما وصف بالليل)

(2)

.

5 -

قوله في باب ما جاء ويل للأعقاب من النار-بعد أن ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار"-: (وفقه هذا الحديث: أنه لا يجوز المسح على القدمين إذا لم يكن عليهما خفين أو جوربين)

(3)

.

* * *

الوجه العاشر: أنه يعلق على الحديث بما يبين دلالته، وإن كان منسوخا بين ذلك أيضا.

(1)

في بعض الطبعات: (في جزئه).

(2)

(1/ 506 - 507).

(3)

(1/ 302)، وفي الهامش:(قوله: "خفين أو جوربين" ضبب عليه بالأصل، وفي حاشية س: الرواية: خفين أو جوربين، والصواب الرفع).

ص: 280

فيبين أحيانا هل الحكم الوارد في الحديث للوجوب أم الاستحباب؟ أو للتحريم أم الكراهة؟ ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قوله في باب النهي عن البول قائما: (ومعنى النهي عن البول قائما على التأديب لا على التحريم)

(1)

.

2 -

وقوله في باب المضمضة من اللبن: (وقد رأى بعض أهل العلم المضمضة من اللبن، وهذا عندنا على الاستحباب، ولم ير بعضهم المضمضة من اللبن)

(2)

.

وأحيانا ينبه على تقييد الحكم الوارد في بعض الأحاديث، ومن الأمثلة على ذلك:

قوله في باب ما جاء فيمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس -بعد أن ذكر حديث أبي هريرة: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر": (ومعنى هذا الحديث عندهم لصاحب العذر، مثل الرجل ينام عن الصلاة أو ينساها، فيستيقظ ويذكر عند طلوع الشمس وعند غروبها)

(3)

.

قلت: وهذا القيد مهم جدا، وتنبيه المصنف عليه دليل على فقهه رحمه الله.

وأحيانا يجمع بين النصين إذا كان ظاهرهما الاختلاف، ومن الأمثلة على ذلك:

قوله في باب ما جاء في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر حديث جابر في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، قال

(1)

(1/ 282).

(2)

(1/ 331).

(3)

(1/ 393).

ص: 281

جابر: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت.

وحديث يزيد بن أبي عبيد، قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت. مع حديث ابن عمر: كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فيقول لنا:"فيما استطعتم"- ثم قال: (ومعنى كلا الحديثين صحيح، قد بايعه قوم من أصحابه على الموت، وإنما قالوا: لا نزال بين يديك ما لم نقتل، وبايعه اَخرون، فقالوا: لا نفر)

(1)

.

وإذا كان الحديث منسوخا بين ذلك، ومن الأمثلة عليه:

1 -

قوله في باب ما جاء أن الماء من الماء: (وإنما كان الماء من الماء في أول الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك. وهكذا روى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبي بن كعب، ورافع بن خديج)

(2)

.

2 -

وقوله في باب في ترك الوضوء مما غيرت النار -بعد أن ذكر حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من عُلالة شاة ثم صلى العصر ولم يتوضأ-: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم، مثل سفيان، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: رأوا ترك الوضوء مما مست النار.

وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن هذا الحديث ناسخ للحديث الأول حديث الوضوء مما مست النار)

(3)

.

3 -

وقوله في باب ما جاء في وضع اليدين على الركبتين في الركوع: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن

(1)

(2/ 596).

(2)

(1/ 344).

(3)

(1/ 325).

ص: 282

بعدهم، لا اختلاف بينهم في ذلك، إلا ما روي عن ابن مسعود وبعض أصحابه، أنهم كانوا يطبقون

(1)

.

والتطبيق منسوخ عند أهل العلم.

قال سعد بن أبي وقاص: كنا نفعل ذلك، فنهينا عنه، وأمرنا أن نضع الأكف على الركب)

(2)

.

وأحيانا يفسر الحديث بمذهب من رواه، ومن أمثلة ذلك:

قوله في: (باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة.

حدثنا الأنصاري، قال: حدثنا معن، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال:"هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ "، فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال:"إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ "، قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي الباب عن ابن مسعود، وعمران بن حصين، وجابر بن عبدالله.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

وابن أكيمة الليثي اسمه عمارة، ويقال: عمرو بن أكيمة.

وروى بعض أصحاب الزهري هذا الحديث، وذكروا هذا الحرف: قال: قال الزهري: فانتهى الناس عن القراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

التطبيق: هو أن يجمع بين أصابع يديه ويجعلهما بين ركبتيه في الركوع والتشهد. "النهاية"(3/ 114).

(2)

(1/ 435).

ص: 283

وليس في هذا الحديث ما يدخل على من رأى القراءة خلف الإمام، لأن أبا هريرة هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وروى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج، هي خداج، غير تمام"، فقال له حامل الحديث: إني أكون أحيانا وراء الإمام، قال: اقرأ بها في نفسك، وروى أبو عثمان النهدي، عن أبي هريرة قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنادي أن "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب".

واختار أكثر أصحاب الحديث ألا يقرأ الرجل إذا جهر الإمام بالقراءة، وقالوا: يتتبع سكتات الإمام.

وقد اختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام.

فرأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم: القراءة خلف الإمام.

وبه يقول مالك، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وروي عن عبدالله بن المبارك أنه قال: أنا أقرأ خلف الإمام والناس يقرءون، إلا قوما من الكوفيين، وأرى أن من لم يقرأ صلاته جائزة.

وشدد قوم من أهل العلم

(1)

في ترك قراءة فاتحة الكتاب، وإن كان خلف الإمام، فقالوا: لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب، وحده كان أو خلف الإمام.

وذهبوا إلى ما روى عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقرأ عبادة بن الصامت بعد النبي صلى الله عليه وسلم خلف الإمام، وتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب".

(1)

ملحوظة: هل يميل إلى خلاف ذلك، لأنه جعل هذا القول من الشدة؟ هذا محتمل، ومن المعلوم أن الإمام البخاري ممن يقول بهذا.

ص: 284

وبه يقول الشافعي، وإسحاق، وغيرهما.

وأما أحمد بن حنبل فقال: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، إذا كان وحده.

واحتج بحديث جابر بن عبدالله حيث قال: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فلم يصل إلا أن يكون وراء الإمام.

قال أحمد: فهذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، أن هذا إذا كان وحده.

واختار أحمد مع هذا القراءة خلف الإمام، وألا يترك الرجل فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام.

حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري، قال: حدثنا معن، قال: حدثنا مالك، عن أبي نعيم وهب بن كيسان، أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل، إلا أن يكون وراء الإمام.

هدا حديث حسن صحيح)

(1)

.

وكذلك إذا كان في ظاهر الحديث إشكال فإنه يوجه ذلك الحديث، ومن الأمثلة على ذلك:

قوله في باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض -بعد أن ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا، فقد كفر بما أنزل على محمد"-: (لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة.

وإنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

(1/ 466 - 468).

ص: 285

قال: "من أتى حائضا فليتصدق بدينار"، فلو كان إتيان الحائض كفرا لم يؤمر فيه بالكفارة.

وضعف محمد هذا الحديث من قبل إسناده)

(1)

.

* * *

الوجه الحادي عشر: ترجيحاته، فإنه قد نص في مسائل كثيرة على القول الراجح عنده بعد ذكره للخلاف، وقد سبقت عدة أمثلة على ذلك

(2)

، ومن ذلك أيضًا ما يلي:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في الأذان في السفر: (والعمل عليه عند أكثر أهل العلم اختاروا الأذان في السفر.

وقال بعضهم: يجزئ الإقامة، إنما الأذان على من يريد أن يجمع الناس.

والقول الأول أصح، وبه يقول أحمد، وإسحاق)

(3)

.

2 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء في لبن الفحل): (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم: كرهوا لبن الفحل، والأصل في هذا حديث عائشة.

وقد رخص بعض أهل العلم في لبن الفحل.

والقول الأول أصح)

(4)

.

3 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلا بمثل

(1)

(1/ 361).

(2)

وقد سبق أيضًا في الوجه الرابع أنه -أحيانا- يستفاد ترجيحه من خلال تبويبه.

(3)

(1/ 405).

(4)

(2/ 334).

ص: 286

وكراهية التفاضل فيه): (والعمل على هذا عند أهل العلم: لا يرون أن يباع البر بالبر إلا مثلا بمثل، والشعير بالشعير إلا مثلا بمثل، فإذا اختلفت الأصناف فلا بأس أن يباع متفاضلا إذا كان يدا بيد، ولا بأس أن يباع البر بالشعير متفاضلا إذا كان يدا بيد، وهذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال الشافعي: والحجة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بيعوا الشعير بالبر كيف شئتم يدا بيد".

وقد كره قوم من أهل العلم: أن تباع الحنطة بالشعير إلا مثلا بمثل، وهو قول مالك بن أنس، والقول الأول أصح)

(1)

.

4 -

وقال أيضًا في (باب ما جاء في الصرف): (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، إلا ما روي عن ابن عباس، أنه كان لا يرى بأسا أن يباع الذهب بالذهب متفاضلا، والفضة بالفضة متفاضلا، إذا كان يدا بيد، وقال: إنما الربا في النسيئة، وكذلك روي عن بعض أصحابه شيء من هذا.

وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن قوله حين حدثه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والقول الأول أصح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وروي عن ابن المبارك أنه قال: ليس في الصرف اختلاف)

(2)

.

(1)

(2/ 389).

(2)

(2/ 390 - 391).

ص: 287

5 -

قوله في باب الوضوء بالنبيذ: (وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ منهم: سفيان، وغيره.

وقال بعض أهل العلم: لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقال إسحاق: إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ يتيمم أحب إلي.

قال أبو عيسى: وقول من يقول: لا يتوضأ بالنبيذ، أقرب إلى الكتاب وأشبه؛ لأن الله تعالى قال:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43، المائدة: 6])

(1)

.

6 -

قوله في باب ما جاء إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء -بعد أن ذكر حديث أنس: "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء": (وعليه العمل عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر، وعمر، وابن عمر.

وبه يقول أحمد، وإسحاق يقولان: يبدأ بالعشاء وإن فاتته الصلاة في الجماعة.

سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعا يقول في هذا الحديث: يبدأ بالعشاء إذا كان طعاما يخاف فساده.

والذي ذهب إليه بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أشبه بالاتباع، وإنما أرادوا ألا يقوم الرجل إلى الصلاة وقلبه مشغول بسبب شيء.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء.

وروي عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وضع العشاء

(1)

(1/ 330).

ص: 288

وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء" قال: وتعشى ابن عمر وهو يسمع قراءة الإمام)

(1)

.

وغير ذلك من اختياراته التي نص عليها في أثناء كتابه، وهي كثيرة

(2)

.

ويلاحظ في ترجيحاته رحمه الله استعماله للأدب مع أقوال أهل العلم حتى مع من خالفه، فلا يشنع على القول الضعيف، وإنما يكتفي ببيان الصحيح في كثير من الأحيان، وربما ذكر مع الترجيح حجة القول المخالف والجواب عنها، ومن أمثلة ذلك:

1 -

قوله في باب ما جاء في تأخير الظهر في شدة الحر: (وقد أختار قوم من أهل العلم تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، وهو قول ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق.

قال الشافعي: إنما الإبراد بصلاة الظهر إذا كان مسجدا ينتاب أهله من البعد، فأما المصلي وحده والذي يصلي في مسجد قومه فالذي أحب له ألا يؤخر الصلاة في شدة الحر.

قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر، هو أولى وأشبه بالاتباع.

وأما ما ذهب إليه الشافعي أن الرخصة لمن ينتاب من البعد والمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذر ما يدل على خلاف ما قال الشافعي.

(1)

(1/ 487 - 488).

(2)

وينظر أمثلة أخرى على ذلك في: (أبواب الجمعة، الباب 15)؛ (أبواب العيدين، الباب 6)؛ (أبواب السفر، الأبواب المتعلقة بسجود التلاوة، الباب 13)؛ (أبواب الصوم، الباب 26)؛ (أبواب الأحكام، الباب 18)، الباب 38)؛ (أبواب الديات، الباب 15)؛ (أبواب الحدود، الباب 10، الباب 13)؛ وغير ذلك كثير.

ص: 289

قال أبو ذر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأذن بلال بصلاة الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا بلال أبرد، ثم أبرد".

فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعي لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى؛ لاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد)

(1)

.

2 -

وقوله في (باب ما جاء في الرجل يصلي ومعه رجال ونساء): (والعمل عليه عند أهل العلم، قالوا: إذا كان مع الإمام رجل وامرأة قام الرجل عن يمين الإمام والمرأة خلفهما.

وقد احتج بعض الناس بهذا الحديث في إجازة الصلاة إذا كان الرجل خلف الصف وحده، قالوا: إن الصبي لم يكن له صلاة، وكان أنس خلف النبي صلى الله عليه وسلم وحده

(2)

.

وليس الأمر على ما ذهبوا إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقامه مع اليتيم خلفه، فلولا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لليتيم صلاة لما أقام اليتيم معه، ولأقامه عن يمينه.

وقد روي عن موسى بن أنس، عن أنس أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأقامه عن يمينه.

وفي هذا الحديث دلالة أنه إنما صلى تطوعا أراد إدخال البركة عليهم)

(3)

.

3 -

قوله في باب ترك الوضوء من القُبلة -بعد أن ذكر حديث عائشة:

(1)

(1/ 377).

(2)

في بعض الطبعات: (وقالوا: إن الصبي لم تكن له صلاة، وكأن أنسا كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم وحده في الصف).

(3)

(1/ 421).

ص: 290

أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ-: (وقد روي نحو هذا عن غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، وهو قول سفيان الثوري، وأهل الكوفة، قالوا: ليس في القبلة وضوء.

وقال مالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: في القبلة وضوء، وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين.

وإنما ترك أصحابنا حديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد.

قال: وسمعت أبا بكر العطار البصري يذكر عن علي بن المديني، قال: ضعف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث، وقال: هو شبه لا شيء.

قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وقال: حبيب ابن أبي ثابت لم يسمع من عروة.

وقد روي عن إبراهيم التيمي، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّلها ولم يتوضأ.

وهذا لا يصح أيضًا، ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعا من عائشة، وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء)

(1)

.

(1)

(1/ 328).

ص: 291

‌ذكر بيان الترمذي للألفاظ الغريبة في الحديث

من الأمور التي اعتنى بها أبو عيسى في كتابه بيانُ معاني الألفاظ الغريبة في الأحاديث النبوية، وذلك إما من قبله، وإما من خلال النقل عن أهل العلم، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، وما أنفق عليه بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه".

ومعنى قوله: "لا يثوي عنده" يعني: الضيف لا يقيم عنده حتى يشتد على صاحب المنزل، والحرج هو الضيق، إنما قوله:"حتى يحرجه"، يقول: حتى يضيق عليه)

(1)

.

2 -

وذكر حديث أبي هريرة في ساعة الاستجابة يوم الجمعة، وفيه أنه قال: فلقيت عبدالله بن سلام فذكرت له هذا الحديث، فقال: أنا أعلم بتلك الساعة، فقلت: أخبرني بها ولا تضنن بها علي

الخ، ثم قال:(ومعنى قوله أخبرني بها ولا تضنن بها علي: لا تبخل بها علي، والضن: البخل، والظنين: المتهم)

(2)

.

3 -

وذكر حديث ابن عباس: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن أمي توفيت، أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال:"نعم"، قال: فإن لي مخرفا،

(1)

(2095).

(2)

(497).

ص: 292

فأشهدك أني قد تصدقت به عنها. ثم قال: (ومعنى قوله: "إن لي مخرفا" يعني: بستانا)

(1)

.

4 -

وقال: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو، قال:"الحمو الموت".

وفي الباب عن عمر، وجابر، وعمرو بن العاص.

حديث عقبة بن عامر حديث حسن صحيح، وإنما معنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان".

ومعنى قوله: الحمو، يقال: الحمو هو أخ الزوج، كأنه كره له أن يخلو بها)

(2)

.

5 -

وذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". ثم قال: (وتفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم العجماء جرحها جبار، يقول: هدر لا دية فيه.

ومعنى قوله: العجماء جرحها جبار، فسر ذلك بعض أهل العلم قالوا: العجماء: الدابة المنفلتة من صاحبها، فما أصابت في انفلاتها فلا غرم على صاحبها، والمعدن جبار، يقول: إذا احتفر الرجل معدنا فوقع فيها إنسان فلا غرم عليه، وكذلك البئر إذا احتفرها الرجل للسبيل، فوقع فيها إنسان فلا غرم على صاحبها، وفي الركاز الخمس، والركاز: ما وجد في دفن أهل الجاهلية فمن وجد ركازا أدى منه الخمس إلى السلطان وما بقي فهو له)

(3)

.

(1)

(674).

(2)

(1212).

(3)

(1440، 1441).

ص: 293

6 -

وذكر حديث ابن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فجاض الناس جيضة، فقدمنا المدينة، فاختبأنا بها وقلنا: هلكنا، ثم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله، نحن الفرارون، قال:"بل أنتم العكارون، وأنا فئتكم". ثم قال: (ومعنى قوله: فجاض الناس جيضة، يعني: أنهم فروا من القتال، ومعنى قوله: "بل أنتم العكارون"، والعكار: الذي يفر إلى إمامه لينصره ليس يريد الفرار من الزحف)

(1)

.

7 -

وذكر حديث البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من منح منيحة لبن، أو ورق، أو هدى زقاقا، كان له مثل عتق رقبة". ثم قال: (ومعنى قوله: "من منح منيحة ورق" إنما يعني به: قرض الدراهم، قوله: "أو هدى زقاقا": يعني به هداية الطريق وهو إرشاد السبيل)

(2)

.

8 -

وذكر حديث عبدالله بن سرجس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكاَبة المنقلب، ومن الحور بعد الكور، ومن دعوة المظلوم، ومن سوء المنظر في الأهل والمال". ثم قال: (ويروى "الحور بعد الكون" أيضًا، قال: ومعنى قوله: "الحور بعد الكون"، أو "الكور"، وكلاهما له وجه، يقال: إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر)

(3)

.

(1)

(1825).

(2)

(2084).

(3)

(3760).

ص: 294

‌الفصل الثامن في منهج المؤلف في التمييز بين الصحيح والمعلول

عِلْمُ العِلَل من أهم علوم الحديث، وقد خصَّ الله عز وجل هذه الأمة عن سائر الأمم بهذا العلم؛ لأنه فرعٌ من علم الإسناد الذي هو من خصائص هذه الأمة.

ولقد بين علماء الحديث مكانة هذا العلم وأهميته، ومن ذلك:

قال عبدالرحمن بن مهدي: (لأن أعرف علةَ حديثٍ هو عندي أحبُ إليَّ من أن أكتب عشرين حديثًا ليس عندي)

(1)

.

وقال الحاكم: (وإنما يعلَّل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولا، والحجة فيه عندنا الحفظ، والفهم، والمعرفة لا غير، وقال عبد الرحمن بن مهدي: معرفة الحديث إلهام، فلو قلت للعالم يعلل الحديث: من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة)

(2)

.

وعقد الخطيب فصلا (في أن المعرفة بالحديث ليست تلقينا وإنما هو علم يحدثه الله في القلب) قال فيه: (أشبه الأشياء بعلم الحديث، معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا يعرف جودة الدينار والدراهم بلون، ولا مس، ولا طراوة، ولا دنس، ولا نقش، ولا صفة تعود إلى صغر أو

(1)

"معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 112).

(2)

"معرفة علوم الحديث"(ص: 377).

ص: 295

كبر، ولا إلى ضيق أو سعة، وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البهرج والزائف، والخالص والمغشوش، وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب، بعد طول الممارسة له والاعتناء به)

(1)

.

وقال الحميدي: (ثلاثة أشياء من علوم الحديث يجب تقديم الاهتمام بها: العلل، وأحسن كتاب صنف فيها كتاب الدارقطني، ومعرفة المؤتلف والمختلف، وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الأمير أبي نصر ابن ماكولا، ووفيات الشيوخ وليس فيها كتاب، وقد كنت أردت أن أجمع في ذلك كتابًا، فقال لي الأمير ابن ماكولا: رتبه على حروف المعجم بعد أن رتبته على السنين. قال أبو بكر ابن طرخان: فشغله عنه الصحيحان إلى أن مات)

(2)

.

وقال ابن تيمية: (وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظٍ فإنهم أيضاً يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم أنه غلط فيها بأمور يستدلون بها ويسمون هذا "علم علل الحديث" وهو من أشرف علومهم بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه وغلطه فيه عرف؛ إما بسبب ظاهر كما عرفوا "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال وأنه صلى في البيت ركعتين" وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حرامًا؛ ولكونه لم يصل مما وقع فيه الغلط، وكذلك أنه "اعتمر أربع عمر" وعلموا أن قول ابن عمر:"إنه اعتمر في رجب" مما وقع فيه الغلط، وعلموا أنه تمتع وهو اَمن في حجة الوداع وأن قول عثمان لعلي:"كنا يومئذ خائفين" مما وقع فيه الغلط، وأن ما وقع في بعض طرق البخاري "أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقا آخر" مما وقع فيه الغلط وهذا كثير.

(1)

"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(2/ 255).

(2)

"معجم الأدباء" لياقوت الحموي (6/ 2599).

ص: 296

والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف، فيشك في صحة أحاديث، أو في القطع بها، مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به، وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة، أو رأى حديثًا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلا له في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط)

(1)

.

وقال ابن رجب: (قد ذكرنا في كتاب العلم فضل علم علل الحديث، وشرفه وعزته، وقلة أهله المتحققين به من بين الحفاظ والمحدثين) إلى أن قال: (وأما أهل العلم والمعرفة والسنة والجماعة، فإنما يذكرون علل الحديث نصيحة للدين وحفظاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وصيانة لها، وتمييزًا مما يدخل على رواتها من الغلط والسهو والوهم، ولا يوجب ذلك عندهم طعناً في غير الأحاديث المعللة، بل تقوي بذلك الأحاديث السليمة عندهم لبراءتها من العلل وسلامتها من الآفات، فهؤلاء هم العارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا، وهم النقاد الجهابذة الذين ينتقدون انتقاد الصيرفي الحاذق للنقد البهرج من الخالص، وانتقاد الجوهري الحاذق للجوهر مما دلس به)

(2)

.

وقال ابن حجر: (وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهما غايصا، واطلاعا حاويا، وإدراكا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن

(1)

"مجموع الفتاوى"(13/ 352).

(2)

"شرح علل الترمذي"(2/ 805 - 808).

ص: 297

وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله عز وجل فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك)

(1)

.

وقال أيضًا في نوع المعلّل: (وهو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها، لا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهما ثاقبا، وحفظا واسعا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون؛ ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن: كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والدارقطني. وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه، كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم)

(2)

.

* * *

وقد اهتم أبو عيسى اهتمامًا كبيراً في كتابه "الجامع" ببيان علل الأخبار وشرحها، ونقله لكلام البخاري وغيره في التعليق على ذلك، لذا قال ابن طاهر الحافظ:(سمعت أبا إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري يقول: كتاب أبي عيسى الترمذي عندي أفيد من كتاب البخاري ومسلم، قلت: لم؟ قال: لأن كتاب البخاري ومسلم لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة، وهذا كتاب قد شرح أحاديثه وبينها، فيصل إلى فائدته كل أحد من الناس من الفقهاء والمحدثين وغيرهم)

(3)

.

ولهذا كانت تسمية كتابه بـ "الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل" اسمٌ منطبقٌ على مسماه.

فقد بيَّن كثيرًا من علل الأحاديث، أو فيما يتعلق بالغرابة، أو

(1)

"النكت على كتاب ابن الصلاح"(ص: 518).

(2)

"نزهة النظر"(ص: 90).

(3)

"التقييد" لابن نقطة (1/ 94)، "فضائل كتاب الجامع" للإسعردي (ص: 33)، "شروط الستة" لابن طاهر (ص: 101).

ص: 298

الاختلاف في الإسناد، أو المتن، لذا أخذ هذا الجانب حيزاً كبيراً من كتابيه "الجامع"، و "العلل الكبير"، ولا يخفى أن جل الأخبار التي علّلها في "العلل الكبير" موجودة في كتابه "الجامع"، فهل "العلل" مأخوذ من "الجامع" أو هو تأليف مستقل؟ يظهر أنه كتاب مستقل، فقد يكون الترمذي ألف "الجامع" أولا، ثم أفرد الحديث المعلول منه، ويؤيد هذا أن في "العلل الكبير" أسانيد ليست موجودة في "الجامع"، وكذلك بعض التعليقات على الأحاديث، والله تعالى أعلم.

وأما "العلل الصغير" الذي كان ملحقاً بكتابه، ففيه أيضًا حديثٌ عن ذلك بذكر الغريب وأنواعه، وما يتعلق بالجرح والتعديل، وأنه مشروعٌ، بالإضافة إلى بيان منهجه في الكتاب، وأسانيده إلى من نقل عنهم.

وقد تميز أبو عيسى رحمه الله بتمكنه من علم العلل، وبدقته في نقد الأخبار، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في السواك: (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".

قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق، عن محمد ابن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحديث أبي سلمة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما عندي صحيح؛ لأنه قد روي من غير وجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وحديث أبي هريرة، إنما صح لأنه قد روي من غير وجه.

وأما محمد فزعم أن حديث أبي سلمة، عن زيد بن خالد أصح.

ص: 299

حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد الجهني، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل" قال: فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استن ثم رده إلى موضعه.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: خالف أبو عيسى شيخه البخاري في الترجيح بين هذين الطريقين، فذهب البخاري إلى ترجيح طريق زيد بن خالد، ووجه ذلك:

1 -

أن الراوي عن أبي سلمة عن زيد بن خالد هو محمد بن إبراهيم التيمي، وهو أوثق من محمد بن عمرو الراوي عن أبي سلمة عن أبي هريرة.

2 -

أن رواية أبي سلمة عن زيد بن خالد خلاف الجادة المشهورة في حديثه، فهو مكثر جدًا عن أبي هريرة كما هو معلوم، والأصل عند المحدثين أن من خالف الجادة يقدم على من سلكها.

3 -

أن طريق زيد بن خالد فيها قصة بخلاف طريق أبي هريرة، وهذه قرينة على أن الراوي قد حفظ ما رواه.

وأما وجه ما ذهب إليه أبو عيسى من تصحيح كلتا الطريقين: أن هذا الحديث جاء عن أبي هريرة من غير وجهٍ، وبعضها مخرج في "الصحيحين"

(2)

، فدل هذا على أنه محفوظ أيضًا. وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه أبو عيسى.

(1)

(1/ 290 - 291).

(2)

"صحيح البخاري"(887، 7240)، "صحيح مسلم"(252).

ص: 300

2 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود: (حدثنا سلمة بن شبيب وعبدالله بن منير وأحمد بن إبراهيم الدورقي والحسن بن علي الحلواني وغير واحد، قالوا: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.

وزاد الحسن بن علي في حديثه: قال يزيد بن هارون: ولم يَرو شريك، عن عاصم بن كليب، إلا هذا الحديث.

قال: هذا حديث غريب حسن، لا نعرف أحدا رواه غير شريك.

والعمل عليه عند أكثر أهل العلم: يرون أن يضع الرجل ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.

وروى همام، عن عاصم هذا مرسلًا، ولم يذكر فيه وائل بن حجر.

باب آخر

(1)

حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبدالله بن نافع، عن محمد بن عبدالله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يعمد أحدكم فيبرك في صلاته برك الجمل".

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه.

وقد روي هذا الحديث عن عبدالله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

في بعض النسخ زيادة: (منه).

ص: 301

وعبدالله بن سعيد المقبري ضعّفه يحيى بن سعيد القطان وغيره)

(1)

.

قلت: بين أبو عيسى في هذين البابين ضعف جميع الأحاديث الواردة في ذلك، وأنه لا يصح فيه شيء مرفوع، ولكنه يرى النزول على الركبتين أرجح؛ وذلك لأنه حكم على حديث وائل بن حجر بأنه: غريب حسن- وفي بعض النسخ: حسن غريب

(2)

-، بخلاف حديث أبي هريرة فإنه قال عنه: غريب، فحديث وائل أقوى عنده إذًا من حديث أبي هريرة، لذا قال عن حديث وائل:(والعمل عليه عند أكثر أهل العلم).

وكلام أبي عيسى كافٍ في هذه المسألة، سواء من الناحية الحديثية أو الفقهية، إلا أن بعض أهل العلم لم يتبين له الحقّ في هذا الباب، فصحح حديث أبي هريرة، وهو حديث منكر، كما قال حمزة الكناني

(3)

، وهو مقتضى كلام البخاري:(لم يتابع عليه)

(4)

. وهو ما نص عليه أبو عيسى بقوله: حديث غريب. وقد بسطت الكلام عليه في موضعه.

3 -

وقال أيضًا في باب القراءة في العيدين: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]، وربما اجتمعا في يوم واحد فيقرأ بهما.

(1)

(1/ 441 - 442).

(2)

طبعة الرسالة (267).

(3)

"فتح الباري" لابن رجب (7/ 218).

(4)

قال البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 139) في ترجمة محمد بن عبدالله -ويقال: ابن حسن-: (حدَّثني محمد بن عبيدالله، قال: حدثنا عبدالعزيز، عن محمد بن عبدالله، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رفعه: "إذا سجد فليضع يديه قبل ركبتيه". ولا يتابع عليه، ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا).

ص: 302

وفي الباب عن أبي واقد، وسمرة بن جندب، وابن عباس.

قال أبو عيسى: حديث النعمان بن بشير حديث حسن صحيح.

وهكذا روى سفيان الثوري ومسعر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، مثل حديث أبي عوانة.

وأما سفيان بن عيينة فيُختلف عليه في الرواية:

يروى عنه، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان بن بشير.

ولا يعرف لحبيب بن سالم رواية عن أبيه.

وحبيب بن سالم هو مولى النعمان بن بشير، وروى عن النعمان بن بشير أحاديث.

وقد روي عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر نحو رواية هؤلاء)

(1)

.

قلت: يظهر للناظر في كلام أبي عيسى دقته في نقد رواية ابن عيينة من أوجه أربعة:

الأول: بين أن رواية أبي عوانة هي الصحيحة، وأنه قد وافقه عليها الثوري ومسعر، وهما مَن هما في الحفظ والإتقان!.

الثاني: أن ابن عيينة قد اختُلف عليه، وهذا من قرائن التضعيف.

الثالث: أنه وقع في روايته: (حبيب بن سالم عن أبيه)، فبين أبو عيسى أنه لا يعرف لحبيبٍ روايةٌ عن أبيه أصلا، وإنما هو يروي عن النعمان مباشرة.

(1)

(1/ 558 - 559).

ص: 303

رابعا: أنه قد جاء عن ابن عيينة رواية أخرى موافقة لرواية الجماعة.

4 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم: (حدثنا الحسن بن علي الخلال، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليّ.

قال أبو عيسى: حدَّثني الحسن بن علي بهذا أو بشبهه في المذاكرة.

وفي الباب عن أبي سعيد.

قال أبو عيسى: حديث صفوان رواه معمر وغيره، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكأن هذا الحديث أصح وأشبه، إنما هو سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية)

(1)

.

قلت: قدّم أبو عيسى رواية معمر عن الزهري في هذا الخبر؛ وذلك لأنه قد توبع عليها، مع أن رواية يونس وقعت عند مسلم

(2)

وأبي عوانة

(3)

مثل رواية معمر: أن صفوان، ولكن في "تحفة الأشراف"

(4)

عندما ذكر رواية يونس التي خرّجها مسلم قال: عن صفوان.

وهذا قد يكون بسبب أن هذا الحديث قد حدث به مذاكرة.

وفي هذا أيضًا أن أبا عيسى فرَّق ما بين: (عن صفوان) و (أن صفوان). وهذا من دقته، ولا يخفى أن بينهما فرقا

(5)

، مع أن قوله: أن

(1)

(2/ 71 - 72).

(2)

"صحيح مسلم"(2313).

(3)

"مستخرج أبي عوانة"(10222).

(4)

(4944).

(5)

ينظر: "شرح علل الترمذي" لابن رجب (1/ 377 - 382).

ص: 304

صفوان قال، يفيد الاتصال إذا كان أصل السماع ثابتا، ولكن قوله: عن، أقوى في ذلك.

كما أن في قوله: (حدثني الحسن بن علي بهذا أو بشبهه في المذاكرة) دليلًا على دقته وأمانته.

5 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في إحصاء هلال شعبان لرمضان: (حدثنا مسلم بن حجاج، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحصوا هلال شعبان لرمضان".

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة

(1)

لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث أبي معاوية، والصحيح ما روي عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتقدموا شهر رمضان بيوم ولا يومين".

وهكذا روي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة،

(2)

نحو حديث محمد بن عمرو الليثي)

(3)

.

قلت: هذا الحديث تفرد به أبو معاوية، كما قال أبو عيسى، وقد جاءت متابعة له من قبل يحيى بن راشد، ولكن يحيى قال عنه ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ضعيف، في حديثه إنكار، وأرجو أنه ممن لا يتعمد الكذب. وقال أبو زرعة: شيخ لين الحديث

(4)

.

وهذا اللفظ الثاني منه: "لا تتقدموا شهر رمضان

"، قد رواه عبد

(1)

في "تحفة الأشراف"(15123): (غريب).

(2)

في بعض النسخ زيادة: (عن النبي صلى الله عليه وسلم).

(3)

(2/ 84 - 85).

(4)

"الجرح والتعديل"(9/ 143).

ص: 305

العزيز بن محمد الدراوردي، كما أخرجه الشافعي

(1)

، ومحمد بن عبدالله الأنصاري، كما أخرجه أحمد

(2)

، كلاهما عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به.

ورواية عبدالعزيز الدراوردي مطولة.

وجاء أيضًا من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة كما في "مستخرج الطوسي"

(3)

، ومن طريق الفضل بن موسى عنده أيضًا

(4)

، ومن طريق هشام وسليمان بن بلال وعبدالوهاب عند الطحاوي مفرقين

(5)

، ومن طريق يزيد بن هارون عند ابن حبان

(6)

، كلهم عن محمد بن عمرو به.

وأخرجه الشيخان

(7)

وغيرهما عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، هكذا.

فتبين أن أبا معاوية خالف الجماعة باللفظ الذي رواه به، والذي يظهر أنه رواه بالمعنى ولم يضبط لفظه.

6 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في حج الصبي: (حدثنا محمد بن طريف الكوفي، قال: حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن محمد ابن المنكدر، عن جابر بن عبدالله قال: رفعت امرأة صبيا لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟، قال:"نعم، ولك أجر".

(1)

"مسند الشافعي" بترتيب السندي: (724).

(2)

"مسند أحمد"(10451).

(3)

(631).

(4)

(626).

(5)

"شرح معاني الآثار"(3335، 3338، 3339).

(6)

"صحيح ابن حبان"(3464) ولفظه: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم أفطروا).

(7)

"صحيح البخاري"(1914)، "صحيح مسلم"(1082).

ص: 306

وفي الباب عن ابن عباس.

حديث جابر حديث غريب)

(1)

.

قلت: ظاهر هذا الحديث الصحة، ومع ذلك لم يصححه أبو عيسى، والسبب في ذلك أنه خبر معلول، وشرح ذلك:

قال ابن أبي حاتم: (سألت أبي عن حديث رواه قزعة بن سويد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر؛ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسير بعرفة، فأخرجت امرأة أعرابية رأسها من هودج، ومعها صبي، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال:"نعم، ولك أجر".

قال أبي: قال ابن عيينة: قال إبراهيم بن عقبة: أنا حدثت ابن المنكدر، عن كريب، عن ابن عباس

هذا الحديث)

(2)

.

وأخرجه الحميدي عن سفيان، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس به، فذكره.

ثم قال: (قال سفيان: وكان ابن المنكدر حدثناه أولا مرسلًا، فقيل لي: إنما سمعه من إبراهيم، فأتيت إبراهيم فسألته عنه فحدثني به، وقال: حدثت به ابن المنكدر فحج بأهله كلهم)

(3)

.

قلت: يتبين مما تقدم علة هذا الحديث، فهو ليس بصحيح من حديث جابر، وإنما يصح من حديث ابن عباس، وابن عيينة ثقة حافظ، ولا شك أنه مقدم على محمد بن سوقة؛ لأنه وإن كان ثقة ومن أفضل الناس بالكوفة في زمانه، ولكن لم يكن بالمتقن الضابط، بل كان له بعض الأوهام والغرائب.

(1)

(2/ 209 - 210).

(2)

"علل الحديث"(3/ 292).

(3)

"مسند الحميدي"(514).

ص: 307

وأما عن متابعة قزعة بن سويد له، فقزعة لا يحتج به

(1)

؛ لأن فيه بعض الضعف، وقد سلكا - أعني ابن سوقة وقزعة - الجادة في هذا الحديث، فظنا أنه عن جابر، وابن المنكدر مشهور بالرواية عن جابر، فالصواب أنه مرسل، لذا لم يصححه أبو عيسى، بل ضعفه عندما حكم عليه بـ "غريب".

7 -

وقال أيضًا في باب ما يقول في الصلاة على الميت: (حدثنا علي بن حجر، قال: حدثنا هقل بن زياد، قال: حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو إبراهيم الأشهلي، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة، قال:"اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا".

قال يحيى: وحدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وزاد فيه:"اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفَّيته منا فتوفَّه على الإيمان".

وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف، وعائشة، وأبي قتادة، وجابر، وعوف بن مالك.

قال أبو عيسى: حديث والد أبي إبراهيم حديث حسن صحيح.

وروى هشام الدستوائي وعلي بن المبارك هذا الحديث، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، وروى عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحديث عكرمة بن عمار غير محفوظ، وعكرمة ربما يهم في حديث يحيى.

(1)

"تهذيب الكمال"(23/ 593).

ص: 308

وروي عن يحيى بن أبي كثير

(1)

، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو عيسى: وسمعت محمدا يقول: أصح الروايات في هذا: حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم الأشهلي، عن أبيه.

قال: وسألته عن اسم أبي إبراهيم الأشهلي، فلم يعرفه)

(2)

.

وقال ابن الجنيد: (قلت ليحيى بن معين: حديث يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الميت. ويقول يحيى أيضًا في الصلاة: عن أبي إبراهيم الأنصاري، عن أبيه، فأي الحديثين أصح؟

قال: قد رواهما جميعًا. قلت: يقولون: إن أبا إبراهيم هو عبد الله بن أبي قتادة؟ قال: لا)

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم: (وسألت أبي عن حديث رواه محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى على جنازة، فقال:"اللهم اغفر لحينا وميتنا، وذكرنا وأنثانا"

(4)

.

(1)

في طبعة بشار: (وروى همام، عن يحيى بن أبي كثير).

(2)

(2/ 261 - 262).

(3)

"سؤالات ابن الجنيد"(ص: 463).

(4)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(10853)، والبزار (8556)، والطبراني في "الدعاء"(1173)، وتابعه عبدة بن سليمان عند الطحاوي في "شرح المشكل"(973)، وعلي بن مسهر عند ابن ماجه (1498)، وحماد بن سلمة عند البيهقي (6975).

وخالفهم إسماعيل بن عياش عند الطبراني في "الدعاء"(1172)، فرواه عن محمد بن إسحاق، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به مرفوعا.

ص: 309

قال أبي: رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم

مرسل؛ لا يقول: أبو هريرة، ولا يوصله عن أبي هريرة إلا غير متقن، والصحيح مرسل)

(1)

.

وقال أيضًا: (وسألت أبي عن حديث رواه محمد بن ذكوان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى على جنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا".

قال أبي: هذا خطأ؛ الحفاظ لا يقولون: أبو هريرة؛ إنما يقولون: أبو سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

وقال أيضًا: (وسألت أبي عن حديث رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي إبراهيم الأنصاري - رجل من بني عبد الأشهل - قال: حدثني أبي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة على الميت:"اللهم، اغفر لأولنا وآخرنا، وحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيرنا وكبيرنا".

قال يحيى: وأخبرني أبو سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا، وزاد فيه:"ومن أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان".

قال أبي: أبو إبراهيم: هو مجهول، هو وأبوه.

قال أبو محمد: وتوهم بعض الناس أنه عبد الله بن أبي قتادة، وغلط؛ فإن أبا قتادة من بني سلمة، وأبو إبراهيم رجل من بني عبد الأشهل)

(3)

.

وسئل الدارقطني في "العلل" عن حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة، قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا

(1)

"علل الحديث"(3/ 526).

(2)

"علل الحديث"(3/ 517).

(3)

"علل الحديث"(3/ 551).

ص: 310

وشاهدنا وغائبنا

" الحديث، فقال: (اختلف على أبي سلمة، فرواه محمد بن إسحاق واختلف عنه؛

فرواه علي بن مسهر، ومحمد بن سلمة، وحماد بن سلمة، وإبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وخالفهم إسماعيل بن عياش، رواه عن محمد بن إسحاق، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

ورواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة واختلف عنه؛

فرواه أيوب بن عتبة، وسعيد بن يوسف، وخالد بن يزيد الهدادي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وكذلك قال سويد أبو حاتم، عن صاحب له، عن يحيى.

ورواه الأوزاعي، عن يحيى واختلف عنه؛

فرواه سلمة بن كلثوم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وزاد فيه ألفاظا لم يأت بها غيره، وهي قوله: إنه أتى القبر فحثى عليه ثلاثا، وكبر على الجنازة أربعا.

ووافقه محمد بن كثير الصنعاني، عن الأوزاعي، على الإسناد ولم يذكر هذه الألفاظ.

وخالفهم يحيى بن عبد الله الحراني، وعيسى بن يونس، وأبو إسحاق الفزاري، والمعافى بن عمران، والوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد، والوليد بن مزيد، رووه عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير بالإسنادين جميعا.

وكذلك رواه هشام الدستوائي، عن يحيى بالإسنادين جميعا: عن أبي إبراهيم عن أبيه، وعن يحيى عن أبي سلمة مرسلا.

ص: 311

ورواه محمد بن يعقوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم، عن أبيه، ولم يذكر حديثه عن أبي سلمة.

ورواه عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال شيبان: عن يحيى، عن المهاجر بن عكرمة، عن أبي هريرة.

وقال همام: عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه.

والصحيح عن يحيى قول من قال: عن أبي إبراهيم، عن أبيه، وعن أبي سلمة مرسل.

ورواه إسرائيل، عن محمد بن عبد الرحمن - ولم ينسبه أكثر من هذا -، ثم قال: عن رجل أراه أبو سلمة، عن أبي هريرة.

ورواه ابن أبي ليلى، فقال هشيم عنه: أخبرني رجل من أهل مكة، عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال عقبة بن خالد: حدثنا ابن أبي ليلى، عن ابن يحيى أو أبي يحيى، عن أبي سلمة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول.

وخالفهم محمد بن عمرو بن علقمة، فرواه عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام موقوفا)

(1)

.

وقال البيهقي: (أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني أبي، قال: سمعت الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو إبراهيم رجل من بني عبد

(1)

"العلل"(4/ 494 - 497).

ص: 312

الأشهل، قال: حدثني أبي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة على الميت:"اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيرنا وكبيرنا". قال الأوزاعي: وحدثني يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بهذا الحديث، قال:"ومن أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان".

وأنبأ أبو عبد الله الحافظ وأبو عبد الله السوسي، قالا: ثنا أبو العباس هو الأصم، ثنا سعيد بن عثمان التنوخي، ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، فذكر الحديث بالإسنادين جميعا مثله، إلا أنه قال في أوله:"اللهم اغفر له ولنا وآخرنا وحينا وميتنا".

هذا هو الصحيح، حديث أبي إبراهيم الأشهلي موصول، وحديث أبي سلمة مرسل، رواه هشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ورواه هقل بن زياد وشعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، بإسناده عن أبي هريرة موصولًا.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمري، ثنا الحكم بن موسى، ثنا هقل بن زياد، عن الأوزاعي، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى على جنازة قال:"اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان".

وأخبرنا أبو علي الروذباري، قال: حدثنا محمد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا موسى بن مروان الرقي، ثنا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، فذكره بنحوه موصولا، إلا أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، وذكر

ص: 313

لفظ الإيمان في أوله والإسلام في آخره، وزاد "اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده".

ورواه عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة.

أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن سنان القزاز، ثنا عمر بن يونس بن القاسم اليمامي، ثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الميت؟ قالت: كان يقول: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وذكرنا وأنثانا، وغائبنا وشاهدنا، وصغيرنا وكبيرنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان".

ورواه همام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، وعن يحيى، عن أبي سلمة بزيادته دون ذكر أبي هريرة.

أخبرناه أبو الحسن بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا هشام بن علي، حدثنا ابن رجاء، عن همام، ثنا يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه: أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ميت قال: فسمعته يقول: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا"، قال: وقال أبو سلمة مع هذا الكلام "من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان".

وروي عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في الصلاة على الجنازة فذكر معناه. أخبرناه أبو أحمد الحسين بن عَلُّوسا الأسداباذي، ثنا أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن ماسي البزاز، أخبرني أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري،

ص: 314

أنبأ أبو عمر الضرير حفص بن عمر، أنبأ حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، فذكره بمعناه.

وقال أبو عيسى الترمذي - فيما بلغني عنه -: سألت محمدا - يعني: البخاري - عن هذا الباب، فقلت: أي الروايات عن يحيى بن أبي كثير أصحّ في الصلاة على الميت؟ فقال: أصح شيء فيه حديث أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه، ولوالده صحبة، ولم يعرف اسم أبي إبراهيم، قال أبو عيسى: قلت له: فالذي يقال: هو عبد الله بن أبي قتادة، فأنكر أن يكون هو عبد الله بن أبي قتادة، وقال: أبو قتادة هو سلمي، وهذا أشهلي، قال محمد: وحديث أبي سلمة عن أبي هريرة، وعائشة، وأبي قتادة، في هذا الباب غير محفوظ، وأصح شيء في هذا الباب حديث عوف بن مالك)

(1)

.

قلت: الكلام في هذا الحديث طويل الذيل، وذلك لكثرة الأوجه وتعدد الاختلاف فيه، والله أسأل الإعانة والتوفيق على الكلام عليها وجهًا وجهًا، طريقا طريقًا، فأقول وبالله تعالى التوفيق:

الوجه الأول: طريق يحيى عن أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه.

هذه الطريق لم يقع فيها اختلاف على يحيى، فقد رواها جمع من أصحابه؛ منهم هشام الدستوائي

(2)

، والأوزاعي

(3)

، وأبان بن يزيد العطار

(4)

، وحرب بن شداد

(5)

، ومحمد بن يعقوب

(6)

.

(1)

"السنن الكبرى"(4/ 66 - 68).

(2)

"المسند" للإمام أحمد (17544، 23495).

(3)

ومن طريقه رواه الترمذي كما تقدم.

(4)

"المسند" للإمام أحمد (17543، 17545).

(5)

"الدعاء" للطبراني (1170)، وحرب ثقة، والإسناد إليه لا بأس به.

(6)

"الدعاء" للطبراني (1168)، ومحمد بن يعقوب ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وفي الإسناد إليه من لا يعرف.

ص: 315

فهذا الوجه صحيح عن يحيى بن أبي كثير، كما نص على هذا يحيى بن معين، والبخاري، والترمذي، والدارقطني، وقد تقدم فيه كلامهم.

هذا، وقد وقع التصريح بسماع يحيى بن أبي كثير من أبي إبراهيم، كما في رواية عفان، عن أبان عنه

(1)

، وفي رواية هقل بن زياد، وبشر بن بكر، والوليد بن مزيد، عن الأوزاعي

(2)

عنه.

ووقع أيضًا التصريح بسماع أبي إبراهيم من أبيه، كما في رواية يحيى بن سعيد عند أحمد

(3)

، ورواية عبد الصمد عند أحمد أيضًا

(4)

، كلاهما عن هشام الدستوائي.

وفي رواية بشر بن بكر، عن الأوزاعي عند الطحاوي

(5)

، وفي رواية الوليد بن مزيد، عن الأوزاعي أيضًا عند البيهقي

(6)

.

وقد صرح أبوه بسماع هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في رواية يحيى بن سعيد، وعبد الصمد، عن هشام. وأيضًا في رواية يزيد بن زريع، عن هشام، عند الطحاوي

(7)

.

وأيضًا في رواية الوليد بن مزيد، وبشر بن بكر

(8)

، عن الأوزاعي.

(1)

كما عند أحمد في "مسنده"(17545).

(2)

رواية هقل عند الترمذي في "الجامع"(1048)، ورواية بشر بن بكر عند الطحاوي في "مشكل الآثار"(969)، ورواية الوليد بن مزيد عند البيهقي (6969).

(3)

"المسند"(23495).

(4)

"المسند"(17544).

(5)

"شرح مشكل الآثار"(969).

(6)

"السنن الكبرى"(6969).

(7)

"شرح مشكل الآثار"(970).

(8)

ينظر "السنن الكبرى" للبيهقي، فقد عطف رواية بشر بن بكر عن الوليد بن مزيد وقال: إنها مثلها. (6969، 6970).

ص: 316

وفي رواية حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير في الثلاثة كلها، كما في "الدعاء" للطبراني

(1)

.

كما أن هناك روايات عن الأوزاعي فيها تصريح بالسماع من غير من ذُكر.

وكما في رواية حجاج بن نصير، عن هشام، في الموضع الثاني والثالث

(2)

، ولكنه ضعيف.

فتبين مما تقدم أن والد أبي إبراهيم صحابي، وهذا ما نص عليه البخاري فيما ذكره البيهقي، وهذا مقتضى صنيع الترمذي؛ لأنه صحح حديثه.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: (أبو إبراهيم هو عبد الله بن أبي قتادة)

(3)

.

وهذا أيضًا مقتضى صنيع ابن أبي عاصم، لكنه قال:(أبو أبي إبراهيم الأنصاري، واسمه عبد الله بن أبي قتادة رضي الله عنه)

(4)

.

وكذا أبو نعيم

(5)

.

وأما قول أبي حاتم عنه: (مجهول)

(6)

، وفي موضع:(لا يدرى من هو)

(7)

، فهذا لا ينافي ما تقدم؛ لأن ابنه غير معروف - كما سوف يأتي - فكذا الأب، ومن المعلوم أن هذا لا يضر من كان صحابيًا؛ لأنهم كلهم عدول.

(1)

(1170).

(2)

"الدعاء" للطبراني (1166).

(3)

"الآحاد والمثاني"(4/ 204).

(4)

"الآحاد والمثاني"(4/ 203).

(5)

"معرفة الصحابة"(6/ 3070).

(6)

كما تقدم نقلا عن "العلل" لابنه.

(7)

"الجرح والتعديل" لابنه (9/ 332)، وفيه (أبو إبراهيم الأنصاري الذي روى عنه يحيى بن أبي كثير لا يُدرى من هو، ولا أبوه).

ص: 317

ولكنْ في الإسناد إلى والد أبي إبراهيم ضعفٌ، وذلك أن ابنه أبا إبراهيم ليس بالمشهور، ولم يَرو عنه سوى يحيى بن أبي كثير، ولا يعرف إلا بهذا الخبر، وخبرٍ آخر جاء أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير، عنه، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حلقوا رؤوسهم عام الحديبية، غير عثمان بن عفان وأبي قتادة، فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرار، وللمقصرين مرةً

(1)

.

فهل تثبت الصحبة بمثل هذا؟

قلت: الأقرب أن الصحبة تثبت به، وذلك لأمور:

أولًا: استقامة كلا الخبرين اللذيْن رواهما أبو إبراهيم، فالحديث الأول إن لم يكن ثابتًا بذاته فهو صحيح بغيره؛ لأنه جاء من طرق، وسوف يأتي الكلام عليه إن شاء الله.

وأما الثاني: فأصله ثابت في "الصحيحين"

(2)

وغيرهما، وهو الدعاء للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرةً.

(1)

أخرجه أبو داود الطيالسي في "المسند" الذي جمع له (2338)، وأحمد (11149، 11847)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(4/ 151)، من طريق هشام. وأخرجه أحمد (11848) من طريق يحيى بن شيبان. وأخرجه الطحاوي في "معاني الآثار"(4144) و"مشكل الآثار"(1368) من طريق علي بن المبارك. وأخرجه الطحاوي أيضًا في "معاني الآثار"(4143) و"مشكل الآثار"(1369) من طريق الأوزاعي. أربعتهم (هشام، ويحيى بن شيبان، وعلي بن المبارك، والأوزاعي) عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم وأصحابه عام الحديبية، غير عثمان وأبي قتادة، فاستغفر للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة.

(2)

"صحيح البخاري"(1728)، "صحيح مسلم"(1302) من حديث أبي هريرة.

ص: 318

ويؤيد هذا أيضًا، أنه قد جاء من أوجه أخرى أن لأبي قتادة جُمَّةً، فأمره أن يكرمها

(1)

.

وقد جاء ما يشهد لذلك أيضًا، ففي ترجمة أبي قتادة عند الذهبي، قال: (أيوب، عن محمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أبي قتادة، فقيل: يترجل، ثم أرسل إليه، فقيل: يترجل، ثم أرسل إليه، فقيل: يترجل. فقال: "احلقوا رأسه". فجاء، فقال: يا رسول الله، دعني هذه المرة، فوالله لأعتبنك، فكان أول ما لقي قتل رأس المشركين مسعدة.

معن القزاز: حدثنا محمد بن عمرو، عن محمد بن سيرين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا قتادة يصلي ويتقي شعره، فأراد أن يجزه، فقال: يا رسول الله، إن تركته لأرضينك. فتركه، فأغار مسعدة الفزاري على سرح أهل المدينة، فركب أبو قتادة فقتله، وغشاه ببردته)

(2)

.

فهذا يقوي الخبر السابق.

ثانيًا: بناء على ما تقدم أن أبا إبراهيم روى خبريْن جاء ما يشهد لهما، فدل هذا على قوته.

(1)

أخرجه النسائي في "المجتبى"(5280)، و"الكبرى"(9458 - 9459)، باب تسكين الشعر، قال: (أخبرنا علي بن خشرم، قال: أخبرنا عيسى، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله أنه قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فرأى رجلا ثائر الرأس فقال: "أما يجد هذا ما يسكن به شعره؟ " خالفه يحيى بن سعيد، رواه عن محمد بن المنكدر عن أبي قتادة مرسلا.

أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عمر بن علي بن مقدم قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن أبي قتادة قال: كانت له جمة ضخمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يحسن إليها، وأن يترجل كل يوم. قال أبو عبد الرحمن: وهذا أشبه بالصواب، والله أعلم).

وقال ابن عبد البر في "التمهيد"(24/ 9): (ولا ينكر سماع ابن المنكدر من أبي قتادة).

(2)

"سير أعلام النبلاء"(2/ 454).

ص: 319

ثالثًا: ليس في الإسناد ما يحتاج النظر إليه في إثبات صحبة والد أبي إبراهيم، إلا ابنه، وقد تقدم ما يدل على قوته.

رابعًا: ما تقدم من كلام الحفاظ من الحكم بصحبته.

أما الوجه الثاني في هذا الحديث: فرواه هشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وهمام وعلي بن المبارك

(1)

، عن يحيى، عن أبي سلمة مرسلًا.

ورواه هقل بن زياد وشعيب بن إسحاق والوليد بن مسلم ومحمد بن كثير، أربعتهم عن الأوزاعي، ورواه أيوب بن عتبة

(2)

، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير موصولًا

(3)

.

قلت: والكلام في هذا الوجه يطول، وذلك لأن هناك اختلافات أخرى، سبقت في كلام الدارقطني في "العلل".

ويكفينا ما ذهب إليه البخاري، وأبو حاتم، والدارقطني، والبيهقي، فقد قال البخاري - كما عند البيهقي -:(وحديث أبي سلمة عن أبي هريرة، وعائشة، وأبي قتادة في هذا الباب غير محفوظ).

وأما أبو حاتم فقال: (لا يقول: أبو هريرة، ولا يوصله عن أبي هريرة إلا غير متقن، والصحيح مرسلٌ)

(4)

.

وقال الدارقطني: (والصحيح عن يحيى قول من قال: عن أبي إبراهيم عن أبيه، وعن أبي سلمة مرسلٌ)

(5)

.

والبيهقي، تقدم كلامه.

(1)

ذكر روايته الترمذي عند كلامه في هذا الحديث.

(2)

روايته عند أحمد في "مسنده"(8809).

(3)

ينظر "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 66).

(4)

"علل الحديث"(3/ 526).

(5)

"العلل"(4/ 496).

ص: 320

وأما رواية محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فقد قال أبو حاتم: (رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم

مرسل؛ لا يقول: أبو هريرة، ولا يوصله عن أبي هريرة إلا غير متقن، والصحيح مرسل).

وما تقدم من كلام البخاري والبيهقي، وأن الصواب في رواية أبي سلمة الإرسال، يدخل تحته رواية محمد بن إسحاق.

الوجه الثالث: رواه همام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه

(1)

.

قلت: اختلف في هذا الوجه هل هو محفوظ كما ذهب إلى هذا يحيى بن معين - وقد تقدم كلامه -؟ أو ليس بمحفوظ - كما تقدم في كلام البخاري.

وقال الدارقطني: (وقيل: عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، والصحيح حديث يحيى، عن أبي إبراهيم، عن أبيه، وعن يحيى، عن أبي سلمة، مرسلًا)

(2)

.

وهذا هو ظاهر صنيع البيهقي؛ لأنه نقل كلام البخاري المتقدم وأقره ولم يتعقبه بشيء.

وأنا أذهب إلى ذلك؛ لأن همامًا قد تفرد بذلك عن باقي أصحاب يحيى بن أبي كثير، فلم يتابع على هذا الإسناد - وقد رواه عنه جمعٌ، كما تقدم -، خاصة أن هماما ليس مقدمًا جدًا في حديث يحيى بن أبي كثير،

(1)

أخرجه أحمد (22619، 22554) من طريق عفان وعبد الصمد، والنسائي في "الكبرى"(11036) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، وغيرهم.

(2)

"العلل"(8/ 309).

ص: 321

نعم، لم يتكلم في روايته عنه كما تكلم في رواية عكرمة بن عمار، لذا خرّج البخاري ومسلم من طريقه عن يحيى.

الوجه الرابع: رواه عكرمة بن عمار

(1)

، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة.

قلت: وهذا خطأ، كما نص عليه البخاري، والترمذي.

والخلاصة أن هذا الخبر صحيحٌ إما بذاته، وإما بغيره، والثاني هو الأقرب، وذلك أن طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم الأشهلي عن أبيه ليس فيها إلا جهالة أبي إبراهيم، فيصلح للاعتضاد ويتقوى بغيره، خاصةً أن يحيى قد وُصف بأنه لا يروي إلا عن ثقة، قال أبو حاتم:(إمام، لا يحدث إلا عن ثقة)

(2)

.

وقد تقدم لنا مجيء هذا الحديث من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، والطريق صحيحة إليه، وأبو سلمة من أوساط التابعين، وهو من كبار أهل العلم في زمانه، فيتقوّى مرسله بالوجه السابق، وبالتالي يكون الحديث محفوظًا، وقد تقدم أن أبا عيسى قد صحح هذا الخبر، كما أن البخاري قد قوّاه.

من هو أبو إبراهيم الأشهلي؟

تقدم أن أبا إبراهيم لم يُذكر إلا في هذا الحديث، وحديث آخر، ولم يرو عنه سوى يحيى بن أبي كثير، وعندما روى عنه لم يسمه، وإنما ذكره

(1)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(11029)، طريق عمر بن يونس، وابن المنذر في "الأوسط"(3171) من طريق أبي حذيفة، عن عكرمة به، وأبو حذيفة هو موسى بن مسعود النهدي.

(2)

"الجرح والتعديل"(9/ 141).

ص: 322

بكنيته، فهل كان يعرفه؟ الظاهر ذلك، والدليل عليه: أنه نسبه أنصاريًا، ثم ذكر من أي الأنصار، فقال: الأشهلي. وقد ذُكر عن أيوب بن أبي تميمة السختياني أنه قال: (ما أعلم أحدًا بعد الزهري أعلم بحديث أهل المدينة من يحيى بن أبي كثير)

(1)

، كما أنه ذُكر أنه أقام بالمدينة عشر سنين

(2)

، فعلى هذا يكون عالمًا بالمدينة وأهلها، فهذا كله قد يُقوّي أنه كان يعرف اسمه، إذًا لماذا لم يسمه؟ لعله دلّسه، وقد وُصف بذلك، قال العقيلي:(ذُكر بالتدليس)

(3)

. نعم، لم يُوصف بتدليس الشيوخ، ولكن هذا لا يمنع أنه كان يفعله في بعض الأحيان، والله تعالى أعلم.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن أبا إبراهيم هو عبد الله بن أبي قتادة، وذلك أن هماما قد روى هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، وأن ابن أبي قتادة يكنى بأبي إبراهيم، فيحتمل أنه هو، ولكن البخاري ردّ ذلك، وقال بأن عبد الله بن أبي قتادة من بني سلمة، بينما أبو إبراهيم من بني عبد الأشهل، وذكر ذلك أيضًا ابن أبي حاتم.

قلت: يمكن الجواب عن ذلك؛ بأن يحيى بن أبي كثير أخطأ في نسبته، أو تساهل، وهذا محتمل، أو لربما يكون دلّسه؛ قال همام بن يحيى العوذي:(كنا نحدث يحيى بن أبي كثير بالغداة، فإذا كان بالعشي قلبه عنّا. وفي رواية عنه: ما رأيت أصلب وجهًا من يحيى بن أبي كثير، كنا نحدثه بالغداة، فيروح بالعشي فيحدثناه)

(4)

.

فاحتمال التدليس في نسبته واردٌ أيضًا، خاصة إذا عُلم أنهما بنو عمومة، فكلاهما من الخزرج، والله تعالى أعلم.

8 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في الصلاة على الأطفال: (حدثنا

(1)

"الجرح والتعديل"(9/ 141).

(2)

"الجرح والتعديل"(9/ 141).

(3)

"الضعفاء" للعقيلي (4/ 423).

(4)

"الضعفاء" للعقيلي (4/ 270).

ص: 323

بشر بن آدم ابن ابنة أزهر السمان، قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد بن عبيد الله، قال: حدثنا أبي، عن زياد بن جبير بن حية، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، رواه إسرائيل وغير واحد، عن سعيد بن عبيد الله)

(1)

.

وأخرجه أبو داود في "سننه"

(2)

، قال:(حدثنا وهب بن بقية، عن خالد، عن يونس، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها، وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها، قريبا منها، والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة").

وأخرجه ابن ماجه، قال:(حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية قال: حدثني زياد بن جبير بن حية، سمع المغيرة بن شعبة، يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الراكب خلف الجنازة، والماشي منها حيث شاء")

(3)

.

وقال: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية قال: حدثني عمي زياد بن جبير قال: حدثني أبي جبير بن حية، أنه سمع المغيرة بن شعبة، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطفل يصلى عليه")

(4)

.

(1)

(2/ 265).

(2)

(3180).

(3)

"السنن"(1481).

(4)

"السنن"(1507).

ص: 324

وأخرجه النسائي، قال: (أخبرني زياد بن أيوب، قال: حدثنا عبد الواحد بن واصل، قال: حدثنا سعيد بن عبيد الله - وهو الثقفي - وأخوه المغيرة، جميعا عن زياد بن جبير، عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه".

أخبرني أحمد بن بكار الحراني قال: حدثنا بشر بن السري، عن سعيد الثقفي، عن عمه زياد بن جبير بن حية عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه")

(1)

.

وقال أيضًا: (أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال: حدثنا خالد قال: حدثنا سعيد بن عبيد الله قال: سمعت زياد بن جبير يحدث عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، أنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه")

(2)

.

وأخرجه أبو الشيخ الأصبهاني، قال: (حدثنا أبو أمية سلم بن عصام، قال: ثنا بشر بن آدم

) به، وقال:(لا يروى هذا المتن إلا بهذا الإسناد)

(3)

.

وسئل عنه الدارقطني في "العلل" فقال: (يرويه زياد بن جبير، عن أبيه، واختلف عنه؛

فرواه سعيد بن عبيد الله الثقفي الجبيري، وأخوه المغيرة بن عبيد الله، عن زياد بن جبير مرفوعا.

(1)

"السنن الكبرى"(2274، 2275).

(2)

(2280).

(3)

"طبقات المحدثين"(1/ 307 - 308).

ص: 325

ورواه يونس بن عبيد، عن زياد بن جبير، واختلف عنه؛

فرفعه عبد الله بن بكر المزني، عن يونس.

ورواه قبيصة، عن الثوري، عن يونس فشك في رفعه، ووقفه الباقون عن يونس، إلا أن ابن علية، وعنبسة بن عبد الواحد، قالا: عن يونس، وأهل زياد يرفعونه، قال يونس: وأما أنا فلا أحفظ رفعه)

(1)

.

قلت: هذا الحديث وقع فيه اختلاف في الإسناد والمتن:

أما الاختلاف في الإسناد، ففي موضعين:

1 -

في وقف هذا الحديث ورفعه، قال البيهقي:(فهذا حديث مشكوك في رفعه، وكان يونس بن عبيد يقفه عن زياد بن جبير، ثم يقول: وحدثني بعض أهله أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

2 -

في إسقاط رجل من الإسناد، وهو والد زياد، كما وقع في بعض الروايات.

أما الأمر الأول، فقد جاء في رواية يونس بن عبيد أنه قال:(لا أحفظ رفعه).

قلت: والأقرب الرفع، وذلك أن سعيد بن عبيد الله وأخاه مغيرة قد رفعاه، لذا قال يونس بن عبيد:(وأحسب أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، فثبت رفع هذا الخبر.

ويؤكد ذلك أن يونس إنما قال: (لا أحفظ رفعه) فلم يجزم بوقفه.

وأما الأمر الثاني، وهو إسقاط والد زياد، فالأقرب ثبوته في الإسناد،

(1)

(3/ 318).

(2)

"معرفة السنن والآثار"(5/ 272) رقم (7504).

ص: 326

وذلك كما جاء في أكثر الروايات، خاصة في رواية ابن ماجه

(1)

، فإن فيها تصريحا بالسماع من المغيرة بن شعبة.

وأما الاختلاف في المتن، فقد جاء في رواية يونس بن عبيد:"ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة"، ولم يأت ذلك في رواية سعيد وأخيه المغيرة.

والأقرب أن هذه الزيادة محفوظة؛ وذلك أن يونس بن عبيد من الثقات الأثبات.

وعلى هذا فإنه يصلى على السقْط، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة، والمراد به ما نفخ فيه الروح.

قال ابن المنذر - بعد أن ساق هذا الحديث -: (وبه قال محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب، وقال أحمد بن حنبل: إذا علم أنه ولد يغسل ويصلى عليه، وقال إسحاق: كل ما نفخ فيه الروح صلي عليه، وكذلك قال أحمد قال: إذا تمت أربعة أشهر يصلى عليه لأنه قد نفخ فيه الروح، وقال إسحاق: مضت السنة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصبي إذا سقط من بطن أمه ميتا بعد تمام خلقه ونفخ فيه الروح، وهو أن يمضي أربعة أشهر وعشرا، أنه يصلى عليه، إنما الميراث في الاستهلال، وأما ما يبعث يوم القيامة نسمة تامة وقد كتب عليه الشقاء والسعادة، فلأي شيء يترك الصلاة عليه؟ وقد ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا على أطفالكم"، رواه المغيرة بن شعبة)

(2)

.

وقال البغوي: (والسقط يصلى عليه إذا مات بعد أن استهل، واختلفوا فيه إذا مات قبل أن يستهل، فذهب قوم إلى أنه لا يصلى عليه، يروى ذلك عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، وبه قال الزهري، وهو قول الثوري،

(1)

"السنن"(1507).

(2)

"الأوسط"(5/ 405).

ص: 327

والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، ورفع بعضهم عن جابر، قال:"الطفل لا يصلى عليه حتى يستهل"، والأصح أنه موقوف عليه.

وذهب قوم إلى أنه يصلّى عليه، يروى ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة، وبه قال ابن سيرين، وابن المسيب، وهو قول أحمد، وإسحاق، لما يروى عن المغيرة بن شعبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"السقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة".

قال إسحاق: إنما الميراث بالاستهلال، أما الصلاة، فإنه يصلى عليه، لأنه نسمة كتب عليه الشقاء والسعادة)

(1)

.

وسوف أتحدث هنا - بمشيئة الله - عن منهج أبي عيسى الترمذي في تعليل الأخبار وتصحيحها من خلال الوجوه الآتية:

* * *

(1)

"شرح السنة"(5/ 373).

ص: 328

الوجه الأول: أنه يبدأ بما هو معلول أو خطأ أو ضعيف، ثم يذكر بعد ذلك الصحيح، أو يذكر ما هو صحيح ثم ما هو أصح منه.

قال ابن رجب رحمه الله: (وقد اعترض على الترمذي رحمه الله بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالبًا، وليس ذلك بعيب، فإنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل، ثم يبين الصحيح في الإسناد، وكان قصده رحمه الله ذكر العلل، ولهذا تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له، وأما أبو داود رحمه الله فكانت عنايته بالمتون أكثر، ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها، والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض، فكانت عنايته بفقه الحديث أكثر من عنايته بالأسانيد، فلهذا يبدأ بالصحيح من الأسانيد، وربما لم يذكر الإسناد المعلل بالكلية)

(1)

.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال أبو عيسى في باب ما جاء في الوضوء مرة، ومرتين، وثلاثًا: (حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا شريك، عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي جعفر: حدثك جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا؟ قال: نعم.

قال أبو عيسى: وروى وكيع هذا الحديث، عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي جعفر: حدثك جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة؟ قال: نعم.

حدثنا بذلك هناد، وقتيبة، قالا: حدثنا وكيع، عن ثابت نحو رواية وكيع

(2)

.

(1)

"شرح علل الترمذي"(1/ 411).

(2)

في بعض الطبعات: (قالا: حدثنا وكيع، عن ثابت، وهذا أصح من حديث شريك، لأنه قد روي من غير وجه، هذا عن ثابت، نحو رواية وكيع).

ص: 329

وشريك كثير الغلط، وثابت بن أبي صفية هو أبو حمزة الثمالي)

(1)

.

قلت: لا شك أن رواية وكيع أصح؛ لأنه أحفظ بكثير من شريك، فقدم أبو عيسى رواية شريك، وهي الغلط، ثم ذكر رواية وكيع وهي الصحيحة.

2 -

وقال أيضًا في باب الوضوء لكل صلاة: (حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن حميد، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، قال: قلت لأنس: فكيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: كنا نتوضأ وضوءا واحدا.

قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن غريب

(2)

، والمشهور عند أهل الحديث حديث عمرو بن عامر، عن أنس.

وقد كان بعض أهل العلم يرى الوضوء لكل صلاة استحبابا لا على الوجوب.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي قالا: حدثنا سفيان بن سعيد، عن عمرو بن عامر الأنصاري، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قلت: فأنتم ما كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحْدث.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(3)

.

قلت: والقول في هذا مثل ما تقدم.

(1)

(1/ 307).

(2)

في "تحفة الأشراف"(740): (غريب) حسب.

(3)

(1/ 313 - 314).

ص: 330

3 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ: (حدثنا هناد، قال: حدثنا هشيم، عن أبي الزبير، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال: قال عبد الله: إن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.

وفي الباب عن أبي سعيد، وجابر.

قال أبو عيسى: حديث عبد الله ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب قال يوم الخندق - وجعل يسب كفار قريش -، قال: يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى تغرب الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والله إن صليتها"، قال: فنزلنا بطحان، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأنا، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.

هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: حديث جابر أصح بكثير، فقد خرجه الشيخان

(2)

، ومع ذلك أخّره أبو عيسى وقدم عليه حديث ابن مسعود.

4 -

وقال أيضًا: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا مروان بن معاوية

(1)

(1/ 385 - 386).

(2)

"صحيح البخاري"(596)، "صحيح مسلم"(631) من طريق هشام به.

ص: 331

الفزاري، عن أبي يعفور، عن الوليد بن العيزار، عن أبي عمرو الشيباني، أن رجلا قال لابن مسعود: أي العمل أفضل؟ قال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"الصلاة على مواقيتها"، قلت: وماذا يا رسول الله؟ قال: "وبر الوالدين"، قلت: وماذا

(1)

؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".

قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح.

وقد روى المسعودي وشعبة والشيباني وغير واحد، عن الوليد بن العيزار هذا الحديث)

(2)

.

قلت: رواية أبي يعفور صحيحة كما قال أبو عيسى، وقد خرجها مسلم أيضًا

(3)

، إلا أن رواية شعبة أصح؛ فقد خرجها الشيخان

(4)

.

5 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة: (حدثنا محمود، قال: حدثنا وكيع وعبد الرزاق وأبو أحمد وأبو نعيم، قالوا: حدثنا سفيان، عن زيد العمي، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة".

قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن.

وقد رواه أبو إسحاق الهمداني، عن بريد بن أبي مريم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا)

(5)

.

قلت: الإسناد الأول فيه زيد العمي، وهو لا يحتج به، لذا لم يصحح

(1)

في بعض الطبعات زيادة (يا رسول الله).

(2)

(1/ 382).

(3)

"صحيح مسلم"(85).

(4)

"صحيح البخاري"(527)، "صحيح مسلم"(85).

(5)

(1/ 405 - 406).

ص: 332

أبو عيسى هذا الإسناد، وأما الثاني فرجاله ثقات، وهو صحيح؛ وبالتالي فهو أقوى من الأول.

ويستفاد من صنيع أبي عيسى هذا: أن حكمه على حديثٍ ما هو حكمٌ على الإسناد الذي ساقه لهذا الحديث، وليس حكمًا على باقي أسانيده، مع التنبيه إلى أنه لا يلتزم ذلك دائمًا، كما سيأتي.

6 -

وقال أيضًا في باب في نشر الأصابع عند التكبير: (حدثنا قتيبة وأبو سعيد الأشج، قالا: حدثنا يحيى بن يمان، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة نشر أصابعه.

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة قد رواه غير واحد

(1)

عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا.

وهو أصح من رواية يحيى بن اليمان، وأخطأ ابن يمان في هذا الحديث.

وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد بن سمعان، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا.

قال أبو عيسى: قال عبد الله

(2)

: وهذا أصح من حديث يحيى بن يمان، وحديث يحيى بن يمان خطأ)

(3)

.

قلت: ذكر الخطأ أولًا ثم بين بعده الصحيح.

(1)

في بعض النسخ: (وقد روى غير واحد هذا الحديث، عن ابن أبي ذئب).

(2)

هو الدارمي.

(3)

(1/ 420 - 421).

ص: 333

7 -

وقال أيضًا في باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة: (حدثنا محمد بن أبي معشر، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة".

حدثنا يحيى بن موسى، قال: حدثنا محمد بن أبي معشر

مثله.

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة قد روي عنه من غير وجه.

وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، واسمه نجيح مولى بني هاشم، قال محمد: لا أروي عنه شيئًا، وقد روى عنه الناس.

قال محمد: وحديث عبد الله بن جعفر المخرمي، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أقوى وأصح من حديث أبي معشر

(1)

.

حدثنا الحسن بن بكر المروزي، قال: حدثنا المعلى بن منصور، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر المخرمي، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما بين المشرق والمغرب قبلة".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(2)

.

قلت: تبين مما تقدم أنه بدأ بالضعيف ثم بالصحيح.

8 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن يحيى

(1)

في بعض النسخ: (أقوى من حديث أبي معشر وأصح).

(2)

(1/ 476 - 477).

ص: 334

المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس فيما دون خمس ذَود صدقة، وليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسُق صدقة".

وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عمر، وجابر، وعبد الله بن عمرو.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان وشعبة ومالك بن أنس، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم

نحو حديث عبد العزيز، عن عمرو بن يحيى.

قال أبو عيسى: حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: لا شك أن طريق سفيان وشعبة ومالك أصحّ، ومع ذلك قدم طريق الدراوردي، ولهذا نظائر في كتابه "الجامع"، يبدأ بالصحيح ثم يتبعه بما هو أصح.

9 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في العامل على الصدقة بالحق: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا يزيد بن عياض، عن عاصم بن عمر بن قتادة (ح) وحدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أحمد بن خالد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته".

قال أبو عيسى: حديث رافع بن خديج حديث حسن، ويزيد بن عياض ضعيف عند أهل الحديث، وحديث محمد بن إسحاق أصح)

(2)

.

قلت: ذكر الضعيف أولًا، وفي إسناده يزيد بن عياض وهو متروكٌ، ثم ذكر ما هو أصح منه وأقوى وهو طريق ابن إسحاق.

(1)

(2/ 80).

(2)

(2/ 90).

ص: 335

10 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في رضا المصدق: (حدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جرير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم المصدق فلا يفارقنكم إلا عن رضا".

حدثنا أبو عمار

(1)

، قال: حدثنا سفيان، عن داود، عن الشعبي، عن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

قال أبو عيسى: حديث داود، عن الشعبي أصح من حديث مجالد، وقد ضعف مجالدا بعضُ أهل العلم، وهو كثير الغلط)

(2)

.

قلت: الإسناد الثاني أقوى من الأول؛ فإن داود - وهو ابن أبي هند - أوثق من مجالد، وهو ابن سعيد؛ فإن فيه ضعفًا.

11 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في فضل الصائم إذا أكل عنده: (حدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا شريك، عن حبيب بن زيد، عن ليلى، عن مولاتها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصائم إذا أكل عنده المفاطير صلت عليه الملائكة".

قال أبو عيسى: وروى شعبة هذا الحديث، عن حبيب بن زيد، عن ليلى، عن جدته أم عمارة، عن النبي صلى الله عليه وسلم

نحوه.

حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو داود، قال: أخبرنا شعبة، عن حبيب بن زيد، قال: سمعت مولاة لنا يقال لها: ليلى تحدث، عن جدته أم عمارة ابنة كعب الأنصارية، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقدمت إليه طعاما، فقال:"كلي"، فقالت: إني صائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا"، وربما قال:"حتى يشبعوا".

(1)

في بعض النسخ زيادة: (الحسين بن حريث).

(2)

(2/ 91).

ص: 336

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو أصح من حديث شريك.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حبيب بن زيد، عن مولاة لهم يقال لها: ليلى، عن جدته أم عمارة بنت كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم

نحوه، ولم يذكر فيه:"حتى يفرغوا" أو "يشبعوا".

قال أبو عيسى: وأم عمارة هي جدة حبيب بن زيد الأنصاري)

(1)

.

قلت: قد ساق المصنف لهذا الخبر ثلاثة أسانيد، بدأها بالأضعف، وهو طريق شريك، ثم أتبعه بذكر ما هو أصح منه، وهو طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة، وختمها بأصحها كلها، وهو طريق محمد بن جعفر، عن شعبة.

12 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في المسك للميت: (حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسك؟ فقال:"هو أطيب طيبكم".

حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو داود وشبابة، قالا: حدثنا شعبة، عن خليد بن جعفر

نحوه

(2)

.

(1)

(2/ 160 - 161).

(2)

في بعض النسخ: (حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو داود وشبابة، قالا: حدثنا شعبة، عن خليد بن جعفر، سمع أبا نضرة، يحدث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطيب الطيب المسك".

هذا حديث حسن صحيح.

حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي، عن شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسك؟ فقال:"هو أطيب طيبكم". هذا حديث حسن صحيح).

ص: 337

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: هذا خبر صحيح سندًا ومستقيم متنًا، لذا صححه أبو عيسى، وصححه أيضًا مسلم بأن أخرجه في "صحيحه"

(2)

.

ويلاحظ أن المصنف رواه عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن شعبة به، وهذا الإسناد فيه سفيان بن وكيع وهو متكلَّم فيه كما هو معلوم، ثم رواه عن محمود بن غيلان عن أبي داود وشبابة، كلاهما عن شعبة به، وحكم عليه بأنه حسن صحيح، فالثاني هو الصحيح بخلاف الأول، كما بيّن أبو عيسى.

وأحيانا يبدأ بالصحيح، ثم ما هو دونه، ومن الأمثلة على ذلك:

قال في باب ما جاء في فضل من جهز غازيا: (حدثنا أبو زكريا يحيى بن درست، قال: حدثنا أبو إسماعيل، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا".

هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير هذا الوجه.

حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيا في سبيل الله، أو خلفه في أهله فقد غزا".

هذا حديث حسن

(3)

.

(1)

(2/ 265).

(2)

(2252).

(3)

كذا في ط. الرسالة أيضًا (1723)، وعند شاكر (1629)، وبشار، وفي "تحفة الأشراف" (3761):(حسن صحيح)، وقال بشار بأن النسخ (حسن)، وما أضافه هو من "تحفة الأشراف".

ص: 338

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن زيد بن خالد الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا".

هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: في هذا الحديث بدأ أبو عيسى بالأصحّ، ثم ذكر بعده طريقا آخر دون الأول.

وهذا أيضًا يفعله - في بعض الأحيان - في الرواة المختلف في أسمائهم، فقد يبدأ بالخطأ، ثم يذكر الصواب، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (وأبو هريرة اختلفوا في اسمه، فقالوا: عبد شمس، وقالوا: عبد الله بن عمرو، وهكذا قال محمد بن إسماعيل، وهذا الأصح)

(2)

.

2 -

وقال أيضًا: (وأبو عطية: اسمه مالك بن أبي عامر الهمداني، ويقال: مالك بن عامر الهمداني، وابن عامر أصح)

(3)

.

وربما بدأ بالصحيح، ثم ما هو دونه، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن حجاج بن حجاج الأسلمي، عن أبيه، أنه

(1)

(1734 - 1737).

(2)

(1/ 274).

(3)

(2/ 119).

ص: 339

سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما يذهب عني مَذمَّة الرضاع؟ فقال:"غرة عبد أو أمة".

هذا حديث حسن صحيح.

هكذا رواه يحيى بن سعيد القطان وحاتم بن إسماعيل وغير واحد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن حجاج بن حجاج، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن حجاج بن أبي حجاج، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث ابن عيينة غير محفوظ، والصحيح ما روى هؤلاء عن هشام بن عروة، عن أبيه.

وهشام بن عروة يكنى أبا المنذر، وقد أدرك جابر بن عبد الله، وابن عمر)

(1)

.

2 -

وقال رحمه الله: (وأبو المليح بن أسامة اسمه عامر، ويقال: زيد بن أسامة بن عمير الهذلي)

(2)

.

قلت: بدأ أبو عيسى بالراجح عنده فقال: (اسمه عامر)، ثم ذكر القول الآخر، وما رجحه قد رجحه الدارقطني أيضًا

(3)

.

والأمثلة عديدة.

* * *

(1)

(1194).

(2)

(1/ 273).

(3)

"المؤتلف والمختلف"(4/ 2047).

ص: 340

الوجه الثاني: أنه غالبًا يشير إلى كل اختلاف يقع في الحديث.

ومن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله في باب في فضل التكبيرة الأولى: (حدثنا عقبة بن مكرم ونصر بن علي، قالا: حدثنا سلم بن قتيبة، عن طعمة بن عمرو، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق".

قال أبو عيسى: وقد روي هذا الحديث عن أنس موقوفا، ولا أعلم أحدا رفعه إلا ما روى سلم بن قتيبة، عن طعمة بن عمرو.

وإنما يروى هذا عن حبيب بن أبي حبيب البجلي، عن أنس بن مالك قوله.

حدثنا بذلك هناد، قال: حدثنا وكيع، عن خالد بن طهمان، عن حبيب بن أبي حبيب البجلي، عن أنس قوله، ولم يرفعه.

وروى إسماعيل بن عياش هذا الحديث، عن عمارة بن غزية، عن أنس بن مالك، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا.

وهذا حديث غير محفوظ، وهو حديث مرسل؛ عمارة بن غزية لم يدرك أنس بن مالك

(1)

)

(2)

.

والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، وهناك العديد منها منثور في أثناء هذا "المدخل".

* * *

(1)

في بعض النسخ زيادة: (قال محمد بن إسماعيل: حبيب بن أبي حبيب يكنى أبا الكشوثا، ويقال أبو عميرة).

(2)

(1/ 425).

ص: 341

الوجه الثالث: اعتناؤه بنقل كلام النقاد في تعليل الأخبار والحكم عليها، وخاصة الإمام البخاري.

من يطلع على كتاب أبي عيسى يلاحظ اعتناءه بنقل كلام الحفّاظ من شيوخه أو من شيوخ شيوخه - أو غيرهم - في الحكم على الحديث أو في بيان علته، أو في الحكم على أحد رواته، حتى أنه قلّ أن يخلو بابٌ من الكتاب من هذه النقولات، وخاصة فيما ينقله عن الإمام البخاري، حتى أصبحتْ كتبه هي المصدر الثاني بعد كتب الإمام البخاري في النقل عنه

(1)

، ولا يخفى أهمية ذلك، وخاصة في معرفة علة الخبر، وبهذا حفظ لنا ثروةً كبيرة، من كلامهم على الأحاديث والرواة.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء أن الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن: (حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين".

قال أبو عيسى: وفي الباب عن عائشة، وسهل بن سعد، وعقبة بن عامر.

حديث أبي هريرة رواه سفيان الثوري وحفص بن غياث وغير واحد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

(2)

.

وروى أسباط بن محمد، عن الأعمش، قال: حُدِّثت عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى نافع بن سليمان، عن محمد بن أبي صالح، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث.

(1)

وقد سبق بيان ذلك.

(2)

في الطبعات الأخرى زيادة: (عن النبي صلى الله عليه وسلم).

ص: 342

قال أبو عيسى: وسمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي صالح، عن أبي هريرة أصح من حديث أبي صالح، عن عائشة.

قال: وسمعت محمدًا يقول: حديث أبي صالح، عن عائشة أصح، وذكر عن علي بن المديني أنه لم يثبت حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، ولا حديث أبي صالح، عن عائشة في هذا)

(1)

.

قلت: هذا الحديث وقع فيه اختلافٌ شديدٌ، يصعب معه الترجيح بين أوجُهه المختلفة، وهنا ذكر أبو عيسى أحكامًا متباينةً عن ثلاثة من كبار الحفاظ، والنظر فيها يساعد في الحكم على هذا الحديث ومعرفة الوجه الراجح.

2 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في التأمين: (حدثنا بندار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، فقال:"آمين"، ومدّ بها صوته.

وفي الباب عن علي، وأبي هريرة.

قال أبو عيسى: حديث وائل بن حجر حديث حسن

وروى شعبة هذا الحديث، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فقال:"آمين" وخفض بها صوته.

قال أبو عيسى: سمعت محمدا يقول: حديث سفيان أصح من حديث شعبة في هذا، وأخطأ شعبة في مواضع من هذا الحديث، فقال: عن حجر

(1)

(1/ 403).

ص: 343

أبي العنبس، وإنما هو حجر بن عنبس ويكنى أبا السكن. وزاد فيه: عن علقمة بن وائل، وليس فيه عن علقمة، وإنما هو حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر. وقال: وخفض بها صوته، وإنما هو: ومد بها صوته.

قال أبو عيسى: وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث، فقال: حديث سفيان في هذا أصح من حديث شعبة، قال: وروى العلاء بن صالح الأسدي، عن سلمة بن كهيل، نحو رواية سفيان.

قال أبو عيسى: حدثنا أبو بكر محمد بن أبان، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن العلاء بن صالح الأسدي، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث سفيان، عن سلمة بن كهيل)

(1)

.

* * *

(1)

(1/ 425 - 426).

ص: 344

الوجه الرابع: أنه يحتاط كثيرًا في تصحيح الخبر وقبوله.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في فضل صوم يوم عرفة: (حدثنا قتيبة وأحمد بن عبدة الضبي، قالا: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام يوم عرفة، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله

(1)

.

وفي الباب عن أبي سعيد.

قال أبو عيسى: حديث أبي قتادة حديث حسن، وقد استحب أهل العلم صيام يوم عرفة، إلا بعرفة)

(2)

.

2 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء: (حدثنا قتيبة وأحمد بن عبدة الضبي، قالا: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".

وفي الباب عن علي، ومحمد بن صيفي، وسلمة بن الأكوع، وهند بن أسماء، وابن عباس، والربيع بنت مُعَوّذ ابن عفراء، وعبد الرحمن بن سلمة الخزاعي عن عمه، وعبد الله بن الزبير. ذكروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حثّ على صيام يوم عاشوراء.

قال أبو عيسى: لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال في صيام يوم عاشوراء كفارة سنة، إلا في حديث أبي قتادة.

وبحديث أبي قتادة، يقول أحمد، وإسحاق)

(3)

.

(1)

في بعض النسخ: (السنة التي قبله، والسنة التي بعده).

(2)

(2/ 143).

(3)

(2/ 145).

ص: 345

3 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في صوم الدهر: (حدثنا قتيبة وأحمد بن عبدة الضبي، قالا: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد، عن أبي قتادة قال: قيل يا رسول الله، كيف بمن صام الدهر؟ قال:"لا صام ولا أفطر"، أو "لم يصم ولم يفطر".

وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الشخير، وعمران بن حصين، وأبي موسى.

قال أبو عيسى: حديث أبي قتادة حديث حسن)

(1)

.

قلت: هذا الخبر رجاله كلهم ثقاتٌ، وقد حكم الإمام مسلم بصحته، فأخرجه في كتابه "الصحيح"

(2)

- وساقه سوْقا واحدا، وفرقه أبو عيسى كما ترى -، وصححه ابن حبان

(3)

، وقال البغوي بعد أن أخرجه:(هذا حديث صحيح أخرجه مسلم)

(4)

.

إذًا لماذا توقف أبو عيسى في تصحيحه؟ هل لقوله: (لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال في صيام يوم عاشوراء كفارة سنة إلا في حديث أبي قتادة)؟ لكنه ساقه دون هذه الجملة واكتفى بتحسينه أيضًا، وقد عُلِم من منهج أبي عيسى: أنه - في بعض الأحيان - إذا ساق الخبر دون موضع الإشكال فقد يصححه

(5)

، ويجاب عن ذلك: بأن هذه اللفظة جزءٌ من الحديث، وهي موجودةٌ فيه من حيث الأصل.

(1)

(2/ 152 - 153).

(2)

(1162).

(3)

"الصحيح"(3646).

(4)

"شرح السنة"(1790).

(5)

ومن الأمثلة على ذلك أنه أخرج (1/ 300 - 301) حديث عبد الله بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه مرتين، بدأ بآخر رأسه، ثم بمقدمه، وبأذنيه كلتيهما، ظهورهما وبطونهما، وقال: هذا حديث حسن. =

ص: 346

وقد يكون توقف في تصحيحه لقول البخاري في عبد الله بن معبد: (لا يعرف له سماع من أبي قتادة)

(1)

، وهذا أقرب.

4 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في تعجيل الصلاة إذا أخرها الإمام: (حدثنا محمد بن موسى البصري، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، أمراء يكونون بعدي يميتون الصلاة، فصل الصلاة لوقتها، فإن صُلِّيت لوقتها كانت لك نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك".

وفي الباب عن عبد الله بن مسعود، وعبادة بن الصامت.

قال أبو عيسى: حديث أبي ذر حديث حسن.

وأبو عمران الجوني اسمه: عبد الملك بن حبيب)

(2)

.

قلت: هذا حديث صحيح، وقد توبع جعفر بن سليمان عليه عند مسلم من قبل حماد بن زيد

(3)

، كما أخرجه أيضًا من وجه آخر عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر بنحوه

(4)

.

وقد يكون تحسين المصنف للحديث دون تصحيحه لخصوص طريق جعفر بن سليمان فقط، فإنه ليس بالقوي كما هو معلوم

(5)

.

= ثم ساقه مرة أخرى بإسنادٍ دون السابق من حيث الصحة، وفيه: مسح رأسه، ومسح ما أقبل منه وأدبر، وصدغيه وأذنيه مرة واحدة، وقال: حسن صحيح.

قلت: صححه هنا؛ لاستقامة متنه، بخلاف الذي قبله؛ فإن متنه غير مستقيم: ففيه أنه مسح مرتين، والصواب مرة، وفيه أنه بدأ بمؤخره، والصواب أنه بدأ بمقدم رأسه.

(1)

"التاريخ الكبير"(3/ 68، 5/ 198)، وينظر:"التاريخ الأوسط"(3/ 133).

(2)

(1/ 386).

(3)

"صحيح مسلم"(648).

(4)

"صحيح مسلم"(648).

(5)

وقد أخرجه مسلم (648) من طريق جعفر كذلك.

ص: 347

5 -

وقال أيضًا في باب ما جاء بأي جانب الرأس يبدأ في الحلق: (حدثنا أبو عمار

(1)

، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك قال: لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة نحر نسكه، ثم ناول الحالقَ شقه الأيمن فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، ثم ناوله شقه الأيسر فحلقه، فقال:"اقسمه بين الناس".

حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام نحوه.

هذا حديث حسن)

(2)

.

قلت: أخرجه مسلم

(3)

عن ابن أبي عمر به.

وأخرجه قبله من حديث حفص بن غياث - في بعض الروايات عنه -، وعبد الأعلى بعكس رواية ابن عيينة: أن الشق الأيسر هو الذي أعطاه أبا طلحة.

وأخرجه البخاري

(4)

من طريق ابن عوْن، عن ابن سيرين به مختصرًا، ولفظه:(لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره)

(5)

.

(1)

في بعض النسخ زيادة: (الحسين بن حريث).

(2)

(2/ 204 - 205).

(3)

"صحيح مسلم"(1305).

(4)

"صحيح البخاري"(171).

(5)

وروي من وجه آخر، أخرجه أحمد (13685)، وأبو عوانة (3233)، والبيهقي (4233) من طريق مؤمل بن إسماعيل، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب وهشام، عن محمد - يعني ابن سيرين -، عن أنس، قال: لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بمنى، أخذ شق رأسه الأيمن بيده، فلما فرغ ناولني، فقال:"يا أنس، انطلق بهذا إلى أبي طلحة وأم سليم"، فلما رأى الناس ما خصها به من ذلك تنافسوا في الشق الآخر، هذا يأخذ الشيء، وهذا يأخذ الشيء قال محمد: فحدثته عبيدة السلماني، فقال:(لأن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء أصبحت على وجه الأرض وفي بطنها). لكن مؤمل سيئ الحفظ. ينظر "تهذيب الكمال"(29/ 176).

ص: 348

فتبين مما تقدم أن هذا الحديث حديث صحيح، ورجاله كلهم من الثقات المشاهير، وقد توبع ابن عيينة من قبل عبد الأعلى وحفص، كما أن هشاما توبع من قبل ابن عون، وإن كانت روايتهم مختصرة، لذا خرّجه الشيخان كما تقدم، فلا أدري لماذا لم يصححه أبو عيسى، هل للاختلاف الذي وقع فيه؟ وهو كما تقدم في التخريج. والله أعلم.

6 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في الصلاة على الميت في المسجد: (حدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن البيضاء في المسجد.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن)

(1)

.

قلت: لا أدري لماذا لم يصححه أبو عيسى؟ مع أنه حديث صحيح، أخرجه مسلم

(2)

من طريق الدراوردي به، وقد توبع الدراوردي، تابعه موسى بن عقبة كما عند مسلم

(3)

.

كما أن عبد الواحد بن حمزة قد توبع أيضًا، تابعه صالح بن عجلان، ومحمد بن عبد الله بن عباد، كما عند أحمد

(4)

، وأبي داود

(5)

.

فلعله إنما حكم على الإسناد الذي ساقه فقط، بغض النظر عن الأسانيد الأخرى، وهذا الإسناد - أي: الذي ساقه - فيه عبد الواحد بن حمزة وهو ليس بالمشهور، ولا يصل إلى درجة الثقة، وإنما هو لا بأس به، ولم يذكر في ترجمته أنه روى عن أحد سوى عمه عباد بن عبد الله بن الزبير، وليس له عند مسلم والترمذي والنسائي سوى هذا الحديث.

* * *

(1)

(2/ 266).

(2)

"صحيح مسلم"(973).

(3)

"صحيح مسلم"(973).

(4)

"المسند"(25014).

(5)

"السنن"(3189).

ص: 349

الوجه الخامس: أنه في بعض الأحيان قد يتوقف في تصحيح الحديث لأدنى اختلاف وقع فيه، مع ترجيحه لجانب الرفع أو الوصل مثلًا، وفي بعض الأحيان لا يلتفت إلى هذا الاختلاف إذا ترجح لديه أحد الأوجه، فيحكم بصحة الخبر.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا زكريا بن إسحاق، قال: حدثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة".

وفي الباب عن ابن بحينة، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن سرجس، وابن عباس، وأنس.

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن.

وهكذا روى أيوب وورقاء بن عمر وزياد بن سعد وإسماعيل بن مسلم ومحمد بن جحادة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، ولم يرفعاه.

والحديث المرفوع أصحّ عندنا.

وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه؛ رواه عياش بن عباس القتباني المصري، عن أبي سلمة، عن

ص: 350

أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

)

(2)

.

قلت: هذا الحديث صحيح مرفوع، ورجاله كلهم من الثقات المشاهير، وقد رجح أبو عيسى الرفع كما تقدم، ومع أن الحديث قد خرّجه مسلم

(3)

، فلم يصححه أبو عيسى وإنما اكتفى بتحسينه لأجل الخلاف الذي وقع فيه.

2 -

وقال رحمه الله في باب ما جاء في وصال شعبان برمضان: (حدثنا بندار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان.

وفي الباب عن عائشة.

قال أبو عيسى: حديث أم سلمة حديث حسن.

وقد روي هذا الحديث أيضًا عن أبي سلمة، عن عائشة، أنها قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صياما منه في شعبان، كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله.

حدثنا بذلك هناد، قال: حدثنا عبدة، عن محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

وكذلك روى سالم أبو النضر وغير واحد، عن أبي سلمة، عن عائشة نحو رواية محمد بن عمرو)

(4)

.

(1)

في بعض النسخ زيادة: (نحو هذا).

(2)

(1/ 520 - 521).

(3)

"الصحيح"(710)، من طريق روح به، ومن طريق ورقاء، عن عمرو بن دينار.

(4)

(2/ 111).

ص: 351

قلت: حسّن أبو عيسى هذا الخبر مع أن رجاله من الثقات المشاهير؛ وذلك لكونه قد جاء أيضًا من طريق أبي سلمة عن عائشة، فهل هو اختلاف عن أبي سلمة أو أن الخبر في أصله حديثان؟ الصحيح الثاني، لذا عندما رواه في "الشمائل"

(1)

صحح كلا الطريقين، فقال:

(حدثنا محمد بن بشّار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي سلمة، عن أمّ سلمة قالت: ما رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان.

قال أبو عيسى: هذا إسناد صحيح، وهكذا قال: عن أبي سلمة عن أم سلمة.

وروى هذا الحديث غير واحد عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النّبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون أبو سلمة بن عبد الرحمن قد روى هذا الحديث عن عائشة وأم سلمة جميعا عن النّبي صلى الله عليه وسلم).

3 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في فضل صلاة التطوع في البيت: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة".

وفي الباب عن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة، وعبد الله بن سعد، وزيد بن خالد الجهني.

قال أبو عيسى: حديث زيد بن ثابت حديث حسن.

وقد اختلفوا في رواية هذا الحديث:

(1)

(284).

ص: 352

فرواه موسى بن عقبة وإبراهيم بن أبي النضر، عن أبي النضر مرفوعًا، وأوقفه بعضهم،

ورواه مالك بن أنس، عن أبي النضر ولم يرفعه، والحديث المرفوع أصح)

(1)

.

قلت: القول في هذا الحديث كالقول في الذي قبله، فمع أن الترمذي رجّح جانب الرفع - وهو ما ذهب إليه الشيخان حين أخرجاه في "صحيحيهما"

(2)

- إلا أنه لم يصححه.

4 -

وقال أيضًا في باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء: (حدثنا هناد والحسن بن علي الخلال وغير واحد، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج، عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الماء طهور لا ينجسه شيء".

هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، لم يُرْوَ

(3)

حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد)

(4)

.

قلت: مع تجويده لطريق أبي أسامة فإنه لم يصححه.

5 -

وقال أيضًا في باب ما جاء إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم

(1)

(1/ 539 - 540).

(2)

"صحيح البخاري"(731)، "صحيح مسلم"(781).

(3)

في بعض النسخ: (فلم يرو أحد)

(4)

(1/ 316).

ص: 353

الخلاء فليبدأ بالخلاء: (حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الأرقم، قال: أقيمت الصلاة فأخذ بيد رجل فقدمه - وكان إمام قومه - وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء".

وفي الباب عن عائشة، وأبي هريرة، وثوبان، وأبي أمامة.

قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن الأرقم حديث حسن صحيح.

هكذا روى مالك بن أنس ويحيى بن سعيد القطان وغير واحد من الحفاظ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الأرقم.

وروى وهيب وغيره، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن رجل، عن عبد الله بن الأرقم)

(1)

.

قلت: هذا الحديث وإن كان قد وقع فيه اختلاف إلا أنه لا يضر، والصواب أن عروة سمعه من عبد الله بن الأرقم لأمرين:

1 -

أن أكثر الرواة - ومنهم مالك - لم يذكروا واسطة بينهما.

2 -

أن عبد الرزاق رواه عن معمر والثوري، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كنا مع عبد الله بن الأرقم

الحديث. فهذا يدل على أنه سمع منه، لذا صححه أبو عيسى، ولم يلتفت إلى هذا الاختلاف.

6 -

وقال أيضًا: (حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صلاة الوسطى:"صلاة العصر"

(2)

.

(1)

(1/ 366).

(2)

في بعض النسخ: (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة الوسطى صلاة العصر").

ص: 354

وفي الباب عن علي، وعائشة، وحفصة، وأبي هريرة، وأبي هاشم بن عتبة.

قال أبو عيسى: قال محمد: قال علي بن عبد الله: حديث الحسن عن سمرة حديث حسن

(1)

، وقد سمع منه.

وقال أبو عيسى: حديث سمرة في صلاة الوسطى حديث حسن

(2)

حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: حدثنا قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد، قال: قال لي محمد بن سيرين: سل الحسن ممن سمع حديث العقيقة، فسألته، فقال: سمعته من سمرة بن جندب.

قال أبو عيسى: وأخبرني محمد بن إسماعيل، عن علي بن عبد الله بن المديني، عن قريش بن أنس، بهذا الحديث.

قال محمد: قال علي: وسماع الحسن من سمرة صحيح، واحتج بهذا الحديث)

(3)

.

قلت: أولًا: اختلفت نسخ الترمذي في قول علي بن المديني هذا، ففي بعضها:"صحيح"، هكذا في نسخةٍ و"شرح ابن سيد الناس"

(4)

، وفي نسخة أخرى:"حسن صحيح"، ولعل الأرجح عنه قوله:"صحيح"؛ وذلك لقوله: سماع الحسن من سمرة صحيح.

ثانيًا: قول أبي عيسى: "حديث حسن"، هكذا فيما وقفت عليه من النسخ.

وأما ما جاء في طبعة بشار من قوله: "حسن صحيح"

(5)

، فهذا فيما يظهر أنه تابع ما جاء في "تحفة الأشراف"

(6)

.

(1)

في النسخ الأخرى: (صحيح).

(2)

في بعض النسخ: (حسن صحيح).

(3)

(1/ 389 - 390).

(4)

"النفح الشذي"(3/ 454 - 455).

(5)

"الجامع"(1/ 223).

(6)

(3/ 593).

ص: 355

ويجاب عما جاء في "التحفة": بأن المزي من عادته إذا خرج الترمذي الحديث في موضعين، ويكون هناك اختلاف في حكمه = لا يشير إلى هذا الاختلاف، والترمذي قد خرج هذا الحديث الذي معنا في "التفسير"

(1)

وقال: "حسن صحيح"، فنقل المزي ذلك.

ثالثًا: إذا عُلم ذلك - أي قوله في الموضع الأول: (حسن)، وفي الثاني:(حسن صحيح) -؛ فالجواب عنه: أن أبا عيسى أحيانًا يصحح رواية الحسن عن سمرة، وأحيانًا يحسنها فقط، والسبب في ذلك أن الحسن قد اختلف في سماعه من سمرة، فأحيانًا يراعي ذلك فيحكم بالحسن فقط، وأحيانا لا يراعيه فيصحح الخبر.

7 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في الصلاة على الحصير: (حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حصير.

وفي الباب عن أنس، والمغيرة بن شعبة.

قال أبو عيسى: وحديث أبي سعيد حديث حسن)

(2)

.

قلت: هذا حديث صحيح، وقد أخرجه مسلم

(3)

، وإنما توقف المصنف في تصحيحه من أجل ما قيل إن الأعمش لم يسمع من أبي سفيان، وإن روايته من صحيفةٍ، ويؤيد هذا أنه خرّج عدة أحاديث بهذه السلسلة مكتفيا بتحسينها، نعم هناك أحاديث أخرى بنفس الإسناد صححها

(4)

.

(1)

(3243).

(2)

(1/ 477).

(3)

"صحيح مسلم"(519).

(4)

أخرج الترمذي لأبي سفيان طلحة بن نافع (12) حديثا:

عشرة منها من رواية الأعمش، عنه، عن جابر، وأحكامه عليها كما يأتي: =

ص: 356

8 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر: (حدثنا علي بن خشرم، قال: أخبرنا عيسى بن يونس، عن محمد بن عمرو، عن عبيدة بن سفيان، عن أبي الجعد - يعني الضمري، وكانت له صحبة فيما زعم محمد بن عمرو -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها طبع الله على قلبه".

وفي الباب عن ابن عمر، وابن عباس، وسمرة.

قال أبو عيسى: حديث أبي الجعد حديث حسن.

قال: وسألت محمدا: عن اسم أبي الجعد الضمري فلم يعرف اسمه.

وقال: لا أعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث.

قال أبو عيسى: ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث محمد بن عمرو)

(1)

.

قلت: قد صحح أبو عيسى لمحمد بن عمرو بعض الأحاديث، وتوقف في بعضها، وهذا أحدها، وقد يكون توقفه هنا من أجل قول الراوي: (

وكانتْ له صحبة فيما زعم محمد بن عمرو)، فكأنه شك في صحبة أبي الجعد الضمري.

ويلاحظ أنه لا اختلاف في الإسناد، وإنما الشك في صحبة أبي الجعد الضمري، وهو داخل من حيث العموم فيما نحن بصدده.

= - حسن صحيح: (276، 2793)، (2819، 2820) حديث واحد بإسنادين.

- حسن: (333)، (2062)، (2415).

- لم يحكم عليه: (459)، (1937).

- فيه اضطراب: (1333).

والحادي عشر (2290) من رواية الأعمش، عنه، عن أنس، وقال:(حسن).

والثاني عشر (3617) من رواية حصين، عنه، عن جابر، وقال:(حسن صحيح).

(1)

(1/ 570 - 571).

ص: 357

9 -

وقال أيضًا في باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع: (حدثنا بندار، قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الغلام الرضيع:"يُنضح بول الغلام، ويُغسل بول الجارية".

قال قتادة: وهذا ما لم يَطعَما، فإذا طَعِما غُسلا جميعا.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

رفع هشام الدستوائي هذا الحديث عن قتادة، وأوقفه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ولم يرفعه)

(1)

.

قلت: توقف في تصحيحه فيما يظهر من أجل الاختلاف في وقفه ورفعه، مع أن الذي رفعه ثقةٌ ثبتٌ مشهورٌ، وهو مقدم على من وقفه وهو سعيد بن أبي عروبة، وإن كان سعيد أيضًا من أثبت الناس في قتادة.

والخبر أخرجه عبد الرزاق

(2)

، وابن أبي شيبة

(3)

، وأبو داود

(4)

من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي، عن علي بن أبي طالب موقوفا.

وأخرجه البزار

(5)

من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة به مرفوعا، ثم قال:(وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وإنما أسنده معاذ بن هشام عن أبيه، وقد رواه غير معاذ، عن هشام، عن قتادة، عن أبي حرب، عن أبيه، عن علي موقوفا).

وقال البخاري في "العلل الكبير"

(6)

للترمذي: (شعبة لا يرفعه، وهشام

(1)

(2/ 39).

(2)

(1500).

(3)

(1302).

(4)

(377).

(5)

(717).

(6)

(38).

ص: 358

الدستوائي حافظ، ورواه يحيى القطان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة فلم يرفعه).

10 -

وقال أيضًا في باب ما جاء إذا أدّيت الزكاة فقد قضيت ما عليك: (حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حديث علي بن عبد الحميد الكوفي، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: كنا نتمنى أن يبتدئ الأعرابي العاقل فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده

الحديث.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وقد روي من غير هذا الوجه عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

قلت: هذا حديثٌ صحيحٌ، فقد علّقه البخاري في "صحيحه"

(2)

، وخرّجه مسلم

(3)

موصولًا، وصححه ابن حبان حيث خرجه في كتابه "التقاسيم والأنواع"

(4)

، ورواته من الثقات، وتوقف أبو عيسى في تصحيحه من أجل أن حماد بن سلمة رواه عن ثابت فأرسله، كما في "العلل" للدارقطني، ففيه أنه سئل عن حديث ثابت، عن أنس: سأل رجل من أهل البادية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من خلق السماء؟ فقال: "الله".

فقال: (يرويه سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس.

وخالفهما

(5)

حماد بن سلمة؛ فرواه عن ثابت، مرسلا.

وحماد بن سلمة أثبت الناس في حديث ثابت)

(6)

.

قلت: سليمان بن المغيرة ثقةٌ ثبتٌ جليلٌ، قال أحمد: ثبتٌ ثبتٌ. وقال

(1)

(2/ 44 - 45).

(2)

عقب حديث رقم (63).

(3)

"صحيح مسلم"(12)

(4)

(156).

(5)

قال المحقق: (هكذا في جميع النسخ).

(6)

(6/ 27).

ص: 359

ابن معين: ثقةٌ ثقةٌ. وقال علي بن المديني: أثبت الناس في ثابت: حمادُ بن سلمة، ثم سليمان بن المغيرة، ثم حماد بن زيد

(1)

.

فتبين مما تقدم أن الوصل زيادةٌ من ثقةٍ ثبتٍ، فتكون مقبولة، وهذا ما ذهب إليه البخاري، ومسلم، وغيرهما.

11 -

وقال أيضًا في باب ما جاء من لا تحل له الصدقة: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا سفيان (ح) وحدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي".

وفي الباب عن أبي هريرة، وحبشي بن جنادة، وقبيصة بن المخارق.

قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن.

وقد روى شعبة، عن سعد بن إبراهيم هذا الحديث بهذا الإسناد ولم يرفعه)

(2)

.

قلت: هذا الحديث توقف في تصحيحه من أجل الاختلاف الذي وقع في رفعه ووقفه، مع أن رجاله كلهم ثقاتٌ، وريحان بن يزيد جيد الحديث، وقد جاء عن شعبة أيضًا رفعه، قال البخاري في "تاريخه": (ريحان بن يزيد العامري، قال حجاج: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمع ريحانا - وكان أعرابي صدق -، سمع عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تحل الصدقة لغني".

وروى إبراهيم بن سعد، عن أبيه، ولم يرفعه.

(1)

ينظر: "الجرح والتعديل"(4/ 145)، "تهذيب الكمال"(12/ 72).

(2)

(2/ 64).

ص: 360

وقال أبو نعيم: حدثنا سفيان، عن سعد، عن ريحان بن يزيد العامري، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

قلت: والرفع صحيحٌ؛ لأن سفيان إمامٌ حافظٌ، كيف وقد توبع على الرفع؟! وهذا هو ظاهر صنيع البخاري حيث إنه يذهب إلى صحة رفعه.

12 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في كراهية الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته ومواليه: (حدثنا بندار، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، ويوسف بن يعقوب الضبعي، قالا: حدثنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بشيء سأل: "أصدقة هي، أم هدية؟ "، فإن قالوا: صدقة لم يأكل، وإن قالوا: هدية أكل.

وقد روي هذا الحديث أيضًا عن عبد الرحمن بن علقمة، عن عبد الرحمن بن أبي عقيل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجد بهز بن حكيم اسمه معاوية بن حيدة القشيري.

قال أبو عيسى: حديث بهز بن حكيم حديث حسن غريب)

(2)

.

قلت: كأنه توقف في تصحيحه من أجل الخلاف في بهزٍ، وهذه السلسلة بعض الحفاظ لا يرى الاحتجاج بها، وبعضهم يرى ذلك، وهو الصواب، وعندما نقل أبو عيسى كلام شعبة في بهز، قال:(وقد تكلم شعبة في بهز بن حكيم، وهو ثقة عند أهل الحديث، وروى عنه معمر، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وغير واحد من الأئمة)

(3)

.

فهذا نصٌ منه بتوثيق بهزٍ، ومع ذلك لم يصحح له سوى حديثٍ

(1)

"التاريخ الكبير"(3/ 329).

(2)

(2/ 66).

(3)

(3/ 139).

ص: 361

واحدٍ

(1)

، وحسّن الباقي، وهي سبعة أحاديث، وهذا احتياط منه، وإلا فإن هذه السلسلة كأنها قوية عنده، والله تعالى أعلم.

13 -

وقال أيضًا في باب ما جاء شهرا عيد لا ينقصان: (حدثنا يحيى بن خلف البصري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة".

قال أبو عيسى: حديث أبي بكرة حديث حسن، وقد روي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلا)

(2)

.

قلت: هذا الحديث صحيح، ورواته من الثقات المشاهير، وقد خرَّجه الشيخان في صحيحيهما

(3)

، ويظهر أن أبا عيسى إنما توقف في تصحيحه لكونه جاء مرسلًا، ولكن هذا الإرسال لا يؤثر، والله تعالى أعلم.

14 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في صوم المحرم: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري،

(1)

وهو حديث: (قلت: يا رسول الله أين تأمرني؟ قال: هاهنا، ونحا بيده نحو الشام)، أخرجه عن أحمد بن منيع، عن يزيد بن هارون، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وقال:(هذا حديث حسن صحيح)، ينظر:"الجامع"(2351). وقد توبع بهز عند النسائي في "الكبرى" - كما في "تحفة الأشراف"(8/ 126) -، فقد أخرجه من طريق سويد بن حجير الباهلي، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، به، فهل صححه أبو عيسى من أجل المتابعة؟ الأقرب لا، والله تعالى أعلم.

كما أنه صحح حديثًا آخر من غير طريق بهز، فقد أخرجه (2757) من طريق سعيد بن إياس الجُريْري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد".

(2)

(2/ 86).

(3)

"صحيح البخاري"(1912)، "صحيح مسلم"(1089).

ص: 362

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم".

حديث أبي هريرة حديث حسن)

(1)

.

قلت: اختلفت نسخ الترمذي في حكمه على هذا الخبر، ففي أكثرها كـ "التأصيل"، و"الرسالة"

(2)

، و"تحفة الأحوذي"

(3)

، والطبعة الحجرية التي مع "تحفة الأحوذي"، والنسخة التي مع "عارضة الأحوذي"

(4)

في أعلاها: (حسن)، وجاء في "تحفة الأشراف"

(5)

: (حسن صحيح).

الذي يظهر أن ما جاء في "تحفة الأشراف" إنما أُخذ من حكم الترمذي السابق لهذا الحديث - والذي تقدم في الصلاة -، فهنالك حكم عليه بـ "حسن صحيح"

(6)

؛ وبالتالي لا يوجد بين "نسخ الترمذي" اختلافٌ في حكمه عليه.

وهنا يرد إشكالٌ: لماذا حكم عليه في كتاب الصيام بـ "حسن"، هل من أجل الاختلاف الذي وقع في إسناده؟ حيث إن شعبة رواه عن أبي بشر، عن حميد به، مرسلًا، أخرجه النسائي

(7)

.

الجواب: نعم؛ من أجل هذا الاختلاف، ولكنَّ وصل الحديث ثابتٌ، كما في الطريق الآخر الذي أخرجه مسلم وغيره.

قال مسلم في "صحيحه": (حدثني قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة،

(1)

(2/ 113)، وأخرجه أيضًا في الصلاة (440)، باب ما جاء في فضل صلاة الليل، بنفس الإسناد.

(2)

(2/ 270 - 271).

(3)

(3/ 369).

(4)

(3/ 277).

(5)

(9/ 85).

(6)

كذا في بعض النسخ، وفي بعضها - كنسخة التأصيل -:(حسن).

(7)

"المجتبى"(1630)، "السنن الكبرى"(1406).

ص: 363

عن أبي بشر، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل".

وحدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، يرفعه، قال: سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: "أفضل الصلاة، بعد الصلاة المكتوبة، الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان، صيام شهر الله المحرم"

(1)

.

وقال البزار في "مسنده": (حدثنا محمد بن عبد الملك القرشي، حدثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن - يعني: الحميري -، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصلاة بعد المكتوبة، قال:"جوف الليل"، وسئل عن أفضل الصيام بعد شهر رمضان، قال:"شهر الله الذي تدعونه المحرم".

وهذا الحديث هكذا رواه أبو عوانة وزائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو الصواب.

ورواه عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بن عمير، عن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يحفظ عبيد الله بن عمرو، والحديث لزائدة ولأبي عوانة)

(2)

.

وقال الطوسي: (نا الحسن بن عرفة، قال: نا يحيى بن أبي بكير الكرماني، قال: أنا زائدة بن قدامة، عن عبد الملك بن عمير، عن محمد بن المنتشر، عن حميد - وهو ابن عبد الرحمن الحميري -، عن أبي هريرة،

(1)

(1163).

(2)

"المسند"(9515).

ص: 364

قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فسأله عن أفضل الصلاة بعد المكتوبة، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان، فقال:"أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان الشهر الذي يدعونه المحرم".

وفي الباب عن جابر وبلال.

وحديث أبي هريرة حديث حسن)

(1)

.

وفي "العلل" للدارقطني: (وسئل عن حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان المحرم".

فقال: واختلف فيه على حميد بن عبد الرحمن؛

فرواه عبد الملك بن عمير واختلف عنه؛

فرواه زائدة بن قدامة، وأبو حفص الأبار، والثوري، وشيبان، وأبو حمزة، وأبو عوانة، وعبد الحكيم بن منصور، وعكرمة بن إبراهيم، وجرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك، عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة.

وخالفهم عبيد الله بن عمرو الرقي، رواه عن عبد الملك بن عمير، عن جندب بن سفيان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووهم فيه، والذي قبله أصح عن عبد الملك.

ورواه أبو بشر جعفر بن إياس، عن حميد الحميري، واختلف عنه؛

فأسنده أبو عوانة، عن أبي بشر، عن حميد الحميري، عن أبي هريرة.

وخالفه شعبة؛ فرواه عن أبي بشر، عن حميد بن عبد الرحمن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، ورفعه صحيح)

(2)

.

(1)

"المستخرج"(418).

(2)

(4/ 329، 330).

ص: 365

15 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في الذي يُهلّ بالحج فيُكسَر أو يُعرَج: (حدثنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا روح بن عبادة، قال: حدثنا حجاج الصواف، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، قال: حدثني الحجاج بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كُسر أو عَرج فقد حل وعليه حجة أخرى".

فذكرت ذلك لأبي هريرة، وابن عباس، فقالا: صدق.

حدثنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن الحجاج مثله.

قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وهكذا رواه غير واحد عن الحجاج الصواف نحو هذا الحديث.

وروى معمر ومعاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحجاج الصواف لم يذكر في حديثه عبد الله بن رافع، وحجاج ثقة حافظ عند أهل الحديث.

وسمعت محمدا يقول: رواية معمر ومعاوية بن سلام أصح.

حدثنا عبد بن حميد، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه)

(1)

.

قلت: توقف أبو عيسى في تصحيحه فيما يظهر لي بسبب الاختلاف

(1)

(2/ 217 - 218).

ص: 366

الذي وقع في إسناده، وإلا فإنّ رجاله كلهم من الثقات المشاهير، وسواء قلنا إن الراجح رواية من رواه عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو دون واسطة، أو أن بينهما عبد الله بن رافع = فإن الحديث صحيح، وعبد الله بن رافع ثقة بالاتفاق، خرّج له الجماعة سوى البخاري.

ورواية من رواه بذكر عبد الله بن رافع أرجح، وذلك لأمرين:

الأول: أنها زيادة، وهي مقبولة إذا كانت من ثقة كما في هذا الخبر، فمعمر ومعاوية بن سلام كلاهما من الثقات المشاهير، وتابعهما يوسف بن سعيد عند الطبراني.

الثاني: أن يزيد بن أبي حبيب قد رواه عن عكرمة عن عبد الله بن رافع، قاله البيهقي

(1)

، وهذا ما ذهب إليه البخاري، ويظهر أن الترمذي يذهب إلى ذلك؛ لأنه نقل قوله في "الجامع" و"العلل"، ولم يتعقبه بشيء.

وأما قوله عن الحجاج بن الصواف: (ثقة حافظ عند أهل الحديث) فهو كذلك، ولا يظهر لي أن أبا عيسى يريد بذلك ترجيح روايته، وقد يكون هذا الاضطراب من يحيى نفسه - وهو الأقرب -، ويحتمل أن عكرمة سمعه من عبد الله بن رافع، ثم سمعه من حجاج بن عمرو نفسه كما في رواية حجاج بن الصواف، فحدث به على الوجهين، وقد ذهب علي بن المديني إلى ترجيح رواية الحجاج الصواف، فقد قال البيهقي:(قال علي بن المديني: الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير أثبت)

(2)

.

وإلى هذا ذهب الحاكم؛ لأنه عندما ساق رواية الحجاج الصواف قال: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرّجاه، وقيل: عن

(1)

"السنن الكبرى"(5/ 360).

(2)

"السنن الكبرى"(5/ 360).

ص: 367

عكرمة، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة رضي الله عنها، عن الحجاج بن عمرو)

(1)

.

وقال البيهقي: (فهو حديث مختلف في إسناده. فقيل هكذا. وقيل: عنه عن عبد الله بن رافع عن الحجاج، وحديث الاستثناء في الحج أصح من هذا)

(2)

.

16 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد: (حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبد الله أخبره، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد، ثم يقول:"أيهما أكثر أخذا للقرآن"، فإذا أشير له إلى أحدهما، قدمه في اللحد، فقال:"أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا.

وفي الباب عن أنس بن مالك.

قال أبو عيسى: حديث جابر حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث، عن الزهري، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صُعير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ذكره عن جابر)

(3)

.

قال ابن حجر: (قال الدارقطني: أخرج البخاري حديث الليث عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين قتلى أحد ويقدم أقرأهم، وقد رواه ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن

(1)

"المستدرك"(1/ 657).

(2)

"السنن الصغير"(2/ 209).

(3)

(2/ 268).

ص: 368

الزهري، مرسلا، عن جابر، ورواه معمر، عن الزهري، عن ابن أبي صُعير، عن جابر، ورواه سليمان بن كثير، عن الزهري، حدثني من سمع جابرا، وهو حديث مضطرب. انتهى.

أطلق الدارقطني القول في هذا الحديث بأنه مضطرب مع إمكان نفي الاضطراب عنه، بأن يفسر المبهم الذي في رواية سليمان بالمسمى الذي في رواية الليث، وتحمل رواية معمر على أن الزهري سمعه من شيخين، وأما رواية الأوزاعي المرسلة فقصر فيها بحذف الواسطة.

فهذه طريقة من ينفي الاضطراب عنه، وقد ساق البخاري ذكر الخلاف فيه، وإنما أخرج رواية الأوزاعي مع انقطاعها؛ لأن الحديث عنده عن عبد الله بن المبارك، عن الليث والأوزاعي جميعا، عن الزهري، فأسقط الأوزاعي عبد الرحمن بن كعب، وأثبته الليث، وهما في الزهري سواء، وقد صرحا جميعا بسماعهما له منه، فقبلت زيادة الليث لثقته.

ثم قال بعد ذلك: ورواه سليمان بن كثير، عن الزهري، عمن سمع جابرا، وأراد بذلك إثبات الواسطة بين الزهري وبين جابر فيه في الجملة، وتأكيد رواية الليث بذلك، ولم يرها علة توجب اضطرابا.

وأما رواية معمر فقد وافقه عليها سفيان بن عيينة، فرواه عن الزهري، عن ابن أبي صُعير، وقال: ثبتني فيه معمر، فرجعت روايته إلى رواية معمر.

وعن الزهري فيه اختلاف لم يذكره الدارقطني، فقيل: عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس، ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود، والترمذي، ونقل في "العلل" عن البخاري أنه قال: حديث أسامة خطأ، غلط فيه. يعني: أن الصواب حديث الليث.

ووهم الحاكم فأخرج حديث أسامة هذا في "مستدركه".

ص: 369

وعن الزهري فيه اختلاف آخر، رواه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، وهو خطأ أيضًا، وعبد الرحمن هذا ضعيف، ولا يخفى على الحاذق أن رواية الليث أرجح هذه الروايات، كما قررناه، وأن البخاري لا يعل الحديث بمجرد الاختلاف)

(1)

.

وقال أيضًا: (قوله: "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر" كذا يقول الليث، عن ابن شهاب، قال النسائي: لا أعلم أحدًا من ثقات أصحاب ابن شهاب تابع الليث على ذلك. ثم ساقه من طريق عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن ثعلبة، فذكر الحديث مختصرا.

وكذا أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، والطبراني من طريق عبد الرحمن بن إسحاق وعمرو بن الحارث، كلهم عن ابن شهاب، عن عبد الله بن ثعلبة، وعبد الله له رؤية، فحديثه من حيث السماع مرسل.

وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، فزاد فيه جابرا، وهو مما يقوي اختيار البخاري، فإن ابن شهاب صاحب حديث، فيحمل على أن الحديث عنده عن شيخين، ولا سيما أن في رواية عبد الرحمن بن كعب ما ليس في رواية عبد الله بن ثعلبة.

وعلى ابن شهاب فيه اختلاف آخر: رواه أسامة بن زيد الليثي عنه، عن أنس، أخرجه أبو داود، والترمذي، وأسامة سيء الحفظ، وقد حكى الترمذي في "العلل" عن البخاري: أن أسامة غلط في إسناده.

وأخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري، عن

(1)

"مقدمة فتح الباري"(355).

ص: 370

ابن شهاب فقال: عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه، وابن عبد العزيز ضعيف، وقد أخطأ في قوله: عن أبيه)

(1)

.

قلت: يتلخص مما تقدم أن هذا الحديث صحيح إلى الزهري، ولكن اختلف فيه عليه في موضعين:

الأول: في شيخه.

والثاني: في راوي الحديث.

فأما الأول: فقيل: عبد الرحمن بن كعب، وقيل بإبهامه - عمن سمع جابرًا -، وقيل بإسقاطه، فيكون الخبر مرسلًا الزهري عن جابر. وقيل: عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعير.

فأما الأول، فهي رواية الليث بن سعد.

وأما الثاني، فهي رواية سليمان بن كثير.

وأما الثالث، فهي رواية الأوزاعي.

وأما الرابع، فهي رواية معمر من رواية ابن المبارك عنه، وتابعه على ذلك سفيان بن عيينة، كما عند أحمد

(2)

، ومحمد بن إسحاق، عند أحمد أيضًا

(3)

.

وتابعهم: عبد الرحمن بن إسحاق، كما عند ابن أبي عاصم

(4)

، وأبو بكر الشافعي

(5)

.

وعمرو بن الحارث، كما عند ابن أبي عاصم

(6)

، والطحاوي

(7)

.

(1)

"فتح الباري"(3/ 210).

(2)

"المسند"(23659).

(3)

"المسند"(23657، 23658).

(4)

"الجهاد"(178).

(5)

"الغيلانيات"(427).

(6)

"الجهاد"(176).

(7)

"شرح مشكل الآثار"(258).

ص: 371

وصالح بن كيسان، كما عند ابن أبي عاصم

(1)

.

قلت: أما من أبهمه كما في رواية سليمان بن كثير، فالجواب عن ذلك: أن رواية من سماه أولى بالتقديم، خاصة أنه أوثق من سليمان بن كثير، وسليمان ليس مقدمًا في الزهري، بلى قد تُكلم في روايته عنه.

وأما من أسقطه، فرواية مَن ذكره أولى؛ لأن معه زيادة علمٍ، وهم جماعة كما تقدم في تخريج الخبر.

بقي النظر في تسمية شيخه، هل هو عبد الرحمن بن كعب، أو عبد الله بن ثعلبة بن صعير؟

فالأول هو الذي وقع في رواية الليث.

وأما الثاني، فهو الذي وقع في رواية الجماعة.

وعلى كلا القولين فإن الخبر صحيحٌ، وذلك أنه إذا قلنا برجحان رواية الليث، فهذا ظاهر، وعبد الرحمن بن كعب ثقة.

وإذا قلنا بترجيح رواية الجماعة، فإن عبد الله بن ثعلبة له رؤية، وقد جاء عند البخاري معلقًا:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح وجهه عام الفتح)

(2)

. لذا قال أبو حاتم: (قد رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو صغير)

(3)

، فروايته قد تلحق بمراسيل الصحابة، كيف وقد جاء أن عبد الله بن ثعلبة قد رواه عن جابر بن عبد الله، كما عند عبد الرزاق

(4)

وأحمد

(5)

عن معمر، عن الزهري، عن ابن أبي صعير، عن جابر.

وفي هذه الرواية جمعٌ بين الروايتين السابقتين، فيكون للزهري شيخان

(1)

"الجهاد"(177)، و"الآحاد والمثاني"(2608).

(2)

"الصحيح"(4300).

(3)

"المراسيل"(ص: 103).

(4)

"المصنف"(6740) و (10307).

(5)

"المسند"(23660).

ص: 372

في هذا الخبر، أو يكونان حديثين، وقد قوّى ذلك ابن حجر؛ لأن في رواية عبد الرحمن بن كعب ما ليس في رواية عبد الله بن ثعلبة، والله تعالى أعلم.

وأما الموضع الثاني، وهو الاختلاف في راوي الحديث، فقيل: عن جابر، وقيل: عن عبد الله بن ثعلبة، وقيل: عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس. وقيل: عن عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، وقد تقدم ذلك كله.

ولا شك أن رواية أسامة وعبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري خطأ ظاهرٌ؛ لأنهما لم يتابعا على ذلك، وقد خالفا رواية الأكثر، كما أنه قد تُكلم فيهما، فبطلت روايتهما، وبالتالي لا يلتفت إلى ما روياه.

فبقي رواية من جعله عن جابر، وقد رواها أربعة كما تقدم.

وأما الرواية الثانية، فقد رواها ستةٌ.

والجمع بين هذين الوجهين: هو ما جاء في رواية معمر؛ لأنه روى كلا الروايتين، ثم إن في رواية عبد الرزاق عنه ما يفيد أن عبد الله بن ثعلبة قد روى ذلك عن جابر، وبهذا يُجمع بينهما.

والخلاصة أن للزهري شيخين في هذا الحديث. قال ابن حجر: (وتحمل رواية معمر على أن الزهري سمعه من شيخين)

(1)

، ويؤيد هذا أن في رواية أحدهما ما ليس في رواية الآخر كما تقدم، والأقرب أن الحديث واحدٌ، رواه عبد الرحمن بن كعب تامًّا، واختصره عبد الله بن ثعلبة بن صُعَيْر.

وأما من ردّ هذا الخبر بدعوى الاضطراب، فهذا فيه بعض النظر لما تقدم، فالحديث صحّ عن جابر، وصح أيضًا عن عبد الله بن ثعلبة، فإذا قلنا: إن عبد الله قد أخذه من جابر - كما في رواية معمر - انتفى الاضطراب، وإذا قلنا:

(1)

سبق.

ص: 373

إن حديث عبد الله بن ثعلبة هو الصحيح، فيكون صحيحًا أيضًا؛ لأن مراسيل الصحابة يحتج بها، وعبد الله بن ثعلبة ممن يُلحق بهم، والله تعالى أعلم.

17 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في تسوية القبور: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حديث عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، أن عليا قال لأبي الهياج الأسدي: أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع قبرا مُشرفا إلا سوّيته، ولا تمثالا إلا طمسته.

وفي الباب عن جابر.

قال أبو عيسى: حديث عليّ حديث حسن)

(1)

.

قلت: رجال هذا الحديث ثقات، إذًا لماذا توقف أبو عيسى في تصحيحه؟ يظهر لي أنه بسبب الاختلافُ الذي وقع في إسناده:

فمنهم من رواه عن أبي وائل، أن عليًا قال لأبي الهياج.

ومنهم من رواه عن أبي وائل، عن أبي الهياج، قال لي علي.

وذكره أبو عيسى في "العلل الكبير"

(2)

قال: (حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن مهدي، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، أن عليا قال لأبي الهياج: أبعثك على ما بعثني عليه النبي صلى الله عليه وسلم ألا تدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته. وقال بشر بن السري: عن سفيان الثوري، عن حبيب، عن أبي هياج قال: قال لي علي.

فسألت محمدًا فقال: الصحيح عن أبي وائل أن عليا قال لأبي الهياج).

(1)

(2/ 275).

(2)

(258).

ص: 374

وذهب بعض الحفاظ إلى ترجيح الوجه الثاني، كما صنع مسلم، فقد أخرجه في "صحيحه" من هذا الوجه

(1)

، وهو ما أشار إليه أبو حاتم الرازي، فقال ابنه:(سمعت أبي يقول: أبو وائل قد أدرك عليا، غير أن حبيب بن أبي ثابت روى عن أبي وائل عن أبي الهياج عن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته)

(2)

.

والدارقطني أيضًا، فقد سئل عنه فقال: (يرويه حبيب بن أبي ثابت، واختلف عنه:

فرواه الثوري، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهياج.

قال ذلك يحيى القطان، وخالد بن الحارث، ووكيع، وعبد الرحمن، وأبو نعيم، وقبيصة، وغيرهم

والحديث حديث الثوري، ما رواه يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي، ومن تابعهما وهو الصحيح)

(3)

.

قلت: بعض من ذكرهم الدارقطني جاء عنهم أيضًا أنهم رووه عن الثوري عن حبيب، عن أبي وائل، عن علي أنه قال لأبي الهياج، ومنهم عبد الرحمن بن مهدي.

فقد رواه أحمد بن حنبل

(4)

والحاكم

(5)

من طريقه، والترمذي من طريق محمد بن بشار.

كلاهما (أحمد، ومحمد بن بشار) عن ابن مهدي، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، عن علي، أنه قال لأبي الهياج.

(1)

"صحيح مسلم"(969).

(2)

"المراسيل"(320).

(3)

"العلل"(2/ 111 - 112).

(4)

"المسند"(1064) مقرونا برواية وكيع.

(5)

"المستدرك"(1366) وصححه.

ص: 375

ورواه عبيد الله القواريري، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، أن عليًا

(1)

.

ورواه أبو نعيم كما عند الدارقطني، وابن المبارك كما ذكره الدارقطني، وأبو إسحاق الفزاري، وأبو أحمد الزبيري

(2)

كلهم عن سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، أن عليًا

مثل رواية ابن مهدي

(3)

.

فتبين أن الخلاف قوي على سفيان، بل جاء في بعض الطرق: أن أبا وائل ذكر بينه وبين أبي الهياج واسطة:

قال الدارقطني: (وقال معاوية بن هشام، عن الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن أبي الهياج، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، قال له: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا في بيت إلا طمسته.

وقال قيس بن الربيع، وسعاد بن سليمان، وزياد بن خيثمة: عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن سعيد بن أبي الهياج، عن أبيه، عن علي)

(4)

.

قلت: أما رواية معاوية بن هشام عن الثوري، فهي خطأ؛ ذلك أن الحفّاظ من أصحاب الثوري - وعلى رأسهم القطان وابن مهدي - لم يذكروا ما ذكره معاوية بن هشام، خاصة أن معاوية وُصف بشيء من الوهم؛ فتبين أنّ في روايته نظرًا.

(1)

أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(350).

(2)

ينظر: "العلل"(2/ 114 - 115).

(3)

وخالفهم: يحيى القطان، ووكيع، وخالد بن الحارث، ومحمد بن يوسف الفريابي، كلهم عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي. كما تقدم عند الدارقطني.

(4)

"العلل"(2/ 111 - 112).

ص: 376

ورواه الأعمش:

قال الدارقطني: (ورواه الأعمش، واختلف عنه:

فرواه جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الهياج.

وهو غريب عن الأعمش، لا أعلم حدث به عن الأعمش هكذا غير جرير.

وخالفه عيسى بن الضحاك - أخو الجراح بن الضحاك - وروح بن مسافر، فقالا: عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي الهياج، عن علي.

وقال عمرو بن قيس: عن الأعمش عن أبي وائل عن علي، ولم يذكر أبا الهياج)

(1)

.

قلت: إما أن يكون الأعمش روى عن حبيب بن أبي ثابت فيكون متابعًا لسفيان الثوري، وإما أن يكون رواه عن أبي وائل، والاختلاف الذي وقع عليه هو نفسه الذي وقع على سفيان الثوري، فعادت روايته إلى الطريق المتقدمة.

طريق أخرى:

رواه مسعر، والمسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الهياج به.

أخرجه الدارقطني، قال:(حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا يعلى بن عبيد (ح) وحدثنا محمد بن مخلد، وحمزة بن الحسين بن عمر السمسار، قالا: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا يعلى بن عبيد، وأبو النضر (ح) وحدثنا أحمد بن محمد بن سعدان بواسط، حدثنا شعيب بن أيوب، حدثنا يعلى بن عبيد، وعبد الله بن رجاء البصري

(1)

"العلل"(2/ 112).

ص: 377

(ح) وحدثنا ابن مبشر، حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون، قالوا: حدثنا المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الهياج، عن علي رضي الله عنه قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا تدع تمثالا إلا لطخته، ولا قبرا إلا سويته.

هذا لفظ شعيب.

وقال يوسف: قال: قال لي علي: أبعثك، وقال الرمادي: ولا قبرا مشرفا إلا سويته.

وقال يزيد: أخبرنا المسعودي، وقال أيضًا: أبعثك لما بعثني له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدع قبرا ولا تمثالا إلا نطحته؛ بالحاء.

حدثنا عبد الملك بن يحيى بن الحسن العطار بن أبي زكار، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن عبد الحميد الحلواني، حدثنا أحمد بن محمد الكوفي، حدثنا بشر بن آدم، عن حماد بن دليل، عن مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الهياج الأسدي، عن علي بن أبي طالب، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"لا تتركن قبرا مشرفا إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها")

(1)

.

وأخرج رواية المسعودي أبو يعلى الموصلي، قال:(حدثنا عبيد الله، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الهياج، قال: قال علي: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدع قبرا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته)

(2)

.

قلت: فسقط من هذه الرواية أبو وائل، لذا قال الدارقطني: (تفرد به حماد بن دليل - أبو زيد، قاضي المدائن -، عن مسعر، عن حبيب.

(1)

"العلل"(2/ 115 - 116).

(2)

"المسند"(343).

ص: 378

ولم يسمع حبيب هذا من أبي الهياج، وإنما سمعه من أبي وائل شقيق بن سلمة، عن أبي الهياج، كما قال الثوري)

(1)

.

ورواه قيس بن الربيع:

أخرجه أبو داود الطيالسي، قال:(حدثنا قيس بن الربيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن ابن أبي الهياج، عن أبيه، قال: قال لي علي رضي الله عنه: أستعملك على ما استعملني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: على مسخ التماثيل وتسوية القبور)

(2)

.

وأخرجه البزار

(3)

من طريق أبي داود، وحسين بن الحسن، قالا: نا قيس به.

قال البزار: (وهذا الحديث قد رواه غير قيس عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن أبي الهياج، عن أبيه، عن علي، ولا نعلم أحدا قال: عن أبي وائل، عن ابن أبي الهياج، عن أبيه، إلا قيس).

وأخرجه الدارقطني قال: (حدثنا محمد بن مخلد، حدثنا أبو الحسين كردوس بن محمد بن عيسى الواسطي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا قيس بن الربيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن شقيق بن سلمة، عن سعيد بن أبي الهياج، عن أبيه، قال: قال علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى، قال: بعثني على تسوية القبور ومسح التماثيل.

وقال: حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن يونس، حدثنا قيس، عن حبيب، عن شقيق، عن ابن أبي الهياج، عن أبيه، قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسوية القبور وكسر التماثيل)

(4)

.

(1)

"العلل"(2/ 116).

(2)

"المسند" الذي جمع له (150).

(3)

"المسند"(911).

(4)

"العلل"(2/ 116).

ص: 379

قلت: رواية الثلاثة: قيس بن الربيع، وسعاد بن سليمان، وقيس بن خيثمة؛ رواية قوية، فقيس وإن كان ليس بالقوي، ومثله سعاد = لكنَّ أحدهما يقوي الآخر، فكيف إذا انضم إليهما زياد بن خيثمة، وهو ثقة؟ فسوف تزداد قوةً إلى قوةٍ، وقد زادوا زيادةً، والأصل قبولها، فمن علِم حجة على من لم يعلم، وإن كان سعيد بن أبي الهياج لا يُعرف، ولكن رواية أبي وائل - وهو من كبار التابعين - عنه مما يقويه، فهو إسناد قويٌ، كيف وقد جاء أيضًا من طرق أخرى سوى ما تقدم:

قال الدارقطني: (ورواه يونس بن خباب، وسيار أبو الحكم، عن جرير بن حيان، عن أبيه، عن علي. وجرير هذا هو ابن أبي الهياج، وأبوه: حيان بن حصين، يكنى: أبا الهياج)

(1)

.

قلت: هذه الرواية إسنادها قويٌ، سيار ثقة بالاتفاق، بل قال أحمد:(ثقة ثبت في كل المشايخ)

(2)

.

وأما يونس، فقد تكلموا فيه، حتى أن هناك من كذّبه، ولكن أغلب كلامهم فيما يظهر إنما بسبب خبث رأيه، وسوء معتقده، وأما من حيث استقامة حديثه، فيظهر أنه قوي: قال عثمان الدارمي: ثقة صدوق

(3)

، وقال أبو داود: وقد رأيت أحاديث شعبة عنه مستقيمة

(4)

. وقال ابن عدي - بعد أن ذكر له بعض أحاديث -: ويونس بن خباب له غير ما ذكرت، وهو من الغالين في التشيع، وكان يحمل على عثمان، وأحاديثه مع غلوه تُكتب

(5)

.

وأما جرير بن حيان، فليس بالمشهور، وإنما عُرف بهذا الحديث، ذكره ابن حبان في "الثقات"

(6)

.

(1)

"العلل"(2/ 212).

(2)

"تهذيب الكمال"(12/ 315).

(3)

"تاريخ أسماء الثقات"(ص: 264).

(4)

"سؤالات الآجري"(1/ 224).

(5)

"الكامل"(10/ 475).

(6)

"الثقات"(6/ 143).

ص: 380

أخرجه أحمد قال: (حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد يعني ابن سلمة، عن يونس بن خباب، عن جرير بن حيان، عن أبيه، أن عليا، قال: أبعثك فيما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أسوي كل قبر، وأطمس كل صنم)

(1)

.

وأخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند"، قال:(حدثنا شيبان أبو محمد، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يونس بن خباب به)

(2)

.

طريق أخرى: رواه شعبة:

أخرجه أحمد قال: (حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شعبة، قال: الحكم أخبرني، عن أبي محمد، عن علي، قال: بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأمره أن يسوي القبور)

(3)

.

وأخرجه عبد الله بن أحمد أيضًا، قال:(حدثني أبو داود المباركي سليمان بن محمد، حدثنا أبو شهاب، عن شعبة، عن الحكم، عن أبي المورع، عن علي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: "من يأتي المدينة فلا يدع قبرا إلا سواه، ولا صورة إلا طلخها، ولا وثنا إلا كسر")

(4)

.

وقال أيضًا: (حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن رجل من أهل البصرة - قال: وأهل البصرة يكنونه أبا مورع، قال: وكان أهل الكوفة يكنونه بأبي محمد -، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فذكر نحو حديث أبي داود، عن أبي شهاب)

(5)

.

(1)

"المسند"(683).

(2)

"المسند"(889).

(3)

"المسند"(1175).

(4)

"المسند"(1170).

(5)

"المسند"(1177).

ص: 381

وأخرجه النسائي في مسند علي، - كما في "تهذيب الكمال" في ترجمة أبي محمد الهذلي - عن يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، عن الحكم به نحوه

(1)

.

وأخرجه عبد الله بن أحمد أيضًا قال: (حدثني شيبان أبو محمد، حدثنا حماد يعني ابن سلمة، أخبرنا حجاج بن أرطاة، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي محمد الهذلي، عن علي بن أبي طالب به نحوه مسندًا كرواية أسود بن عامر وأبي شهاب)

(2)

.

قلت: إسناد هذه الطريق صحيح إلى الحكم وهو ابن عتيبة، ولكن شيخه أبا محمد - ويكنى أيضًا بأبي المورع - لا يُعرف، ولا يُدرى عن سماعه من علي، مع أن محمد بن جعفر قد أرسل هذا الخبر عن شعبة.

طريق أخرى عن علي:

قال أحمد: (حدثنا يزيد، أخبرنا أشعث بن سوار، عن ابن أشوع، عن حنش بن أبي المعتمر، أن عليا، بعث صاحب شرطه فقال: أبعثك لما بعثني له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدع قبرا إلا سويته، ولا تمثالا إلا وضعته)

(3)

.

وقال عبد الله بن أحمد: (حدثني عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا السكن بن إبراهيم، حدثنا الأشعث بن سوار، عن ابن أشوع، عن حنش الكناني، عن علي: أنه بعث عامل شرطته، فقال له: أتدري على ما أبعثك؟ على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن أنحت كل - يعني صورة -، وأن أسوي كل قبر)

(4)

.

قلت: أشعث لا يحتج به. وابن أشوع هو: سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، ثقةٌ.

(1)

"تهذيب الكمال"(34/ 263).

(2)

"المسند"(1176).

(3)

"المسند"(1239).

(4)

"المسند"(1284).

ص: 382

وحنش بن أبي المعتمر مختلف فيه.

فهذه الطريق صالحة للاعتبار والاعتضاد، فيزداد الخبر قوةً إلى قوة.

طريق أخرى:

أخرجها البزار، قال:(حدثنا محمد بن صالح العدوي، قال: نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، قال: أُخبرتُ عن الحكم بن عتيبة، عن قيس بن أبي حازم، عن علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرني أن لا أمر بقبر إلا سويته)

(1)

.

قلت: هذا منقطع؛ لقول صالح بن كيسان: أُخبرتُ

(2)

. وقد تقدم من رواية شعبة وحجاج، عن الحكم، عن أبي محمد الهذلي. فهل هو اختلاف على الحكم بن عتيبة، فتكون رواية شعبة ومن معه هي الراجحة، (وذلك لأن صالح بن كيسان قال: أخبرتُ) أو طريق أخرى؟ وهذا هو الأقرب؛ لأنه هو الظاهر، وذلك لشهرة هذا الخبر، ويؤيد ذلك الإسناد الذي بعده:

طريق أخرى:

أخرجه البزار قال: (حدثنا محمد بن عبد الرحيم، قال: نا سعيد بن سليمان، قال: نا عباد يعني ابن العوام، قال: نا أبان بن تغلب، عن الحكم بن عتيبة، عن ثعلبة بن يزيد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو يزيد بن ثعلبة عن علي -، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسوي كل قبر شاخص وأطمس كل صنم، ففعلت ثم أتيته فقال: أفعلت؟ قلت: نعم)

(3)

.

(1)

"المسند"(576).

(2)

ومحمد بن صالح العدوي، لا أدري من هو؟ قد ذكر البزار في "مسنده" من شيوخه ثلاثة كلّهم اسمه محمد بن صالح، وهم: محمد بن صالح العدوي، ومحمد بن صالح بن العوام، ومحمد بن صالح البغدادي، فلا أدري أهم شخص واحد أم لا؟

(3)

"المسند"(870).

ص: 383

قلت: هذا إسناد قوي، ورجاله كلهم ثقات، سوى ثعلبة، فقد اختلف فيه، ذكره البخاري فقال:(ثعلبة بن يزيد الحماني، سمع عليًا، روى عنه حبيب بن أبي ثابت، يعد في الكوفيين، فيه نظر. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: إن الأمة ستغدر بك، ولا يتابع عليه)

(1)

.

وأما النسائي، فروى له في "مسند علي" وقال عنه: ثقة

(2)

. وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

، ولكن أورده في "المجروحين" أيضًا، وقال:(كان غاليا في التشيع لا يحتج بأخباره التي يتفرد بها عن علي)

(4)

.

وذكره العقيلي، قال: (ثعلبة بن يزيد الحماني، عن علي، حدثني آدم قال: سمعت البخاري قال: ثعلبة بن يزيد الحماني، عن علي، قال البخاري: لا يتابع، في حديثه نظر.

والحديث ما حدثناه محمد بن إسماعيل قال: حدثنا قبيصة قال: حدثنا كامل أبو العلاء، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد الحماني، عن علي، عهد إلي النبي عليه السلام:"أن هذه الأمة ستغدر بي")

(5)

.

وأما ابن عدي، فقال في "الكامل":(حدثنا أحمد بن الحسين بن عبد الصمد، حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن الأجلح، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد الحماني، عن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار")

(6)

.

قال ابن عدي: (ولثعلبة عن علي غير هذا، ولم أر له حديثا منكرا في مقدار ما يرويه، وأما سماعه من علي ففيه نظر، كما قال البخاري)

(7)

.

(1)

"التاريخ الكبير"(2/ 174).

(2)

"تهذيب الكمال"(4/ 399).

(3)

(4/ 98).

(4)

(1/ 207).

(5)

"الضعفاء"(1/ 178).

(6)

(3/ 22).

(7)

المصدر السابق.

ص: 384

قلت: وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه ابن عدي، وأن أحاديث ثعلبة مستقيمة، قد ذكرها البزار في "مسنده"

(1)

.

وجاءت من طرق أخرى وليس فيها ما ينظر فيه، سوى الحديث الذي استنكره البخاري، وهذا قد جاء من أكثر من وجه عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة به، ولم أقف على تصريح لحبيب بسماعه هذا الخبر من ثعلبة، مع أنه أيضًا قد جاء من وجه آخر:

قال الدولابي: (حدثنا يحيى بن غيلان، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، وحدثنا فهد بن عوف، قال، ثنا أبو عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس إبراهيم بن أبي حديد الأودي: أن علي بن أبي طالب، قال: عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستغدر بي من بعده)

(2)

.

وأخرجه الحاكم: (حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد الجمحي بمكة، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عمرو بن عون، ثنا هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس الأودي، عن علي رضي الله عنه قال: إن مما عهد إلي النبيّ صلى الله عليه وسلم: أن الأمة ستغدر بي بعده. هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)

(3)

.

وقد استنكره أيضًا العقيلي، فقال بعد أن رواه: (حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن الأسود بن قيس العبدي، عن سعيد بن عمرو بن سفيان، عن أبيه، قال: خطب علي رضي الله عنه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في الإمارة عهدا نأخذ به، ولكنه رأي رأيناه، استخلف أبو بكر

(1)

ينظر فيه الأحاديث: (867 - 871).

(2)

"الكنى والأسماء"(536).

(3)

"المستدرك"(4676).

ص: 385

فأقام واستقام، ثم استخلف عمر فأقام واستقام، حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا يعفو الله عن من يشاء، ويعذب من يشاء)

(1)

.

قلت: وهذا الخبر في استقامته ونكارته تفصيل:

قول علي رضي الله عنه: (عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستغدر بي) لا يلزم أن يكون هذا الغدر في الخلافة، فقد يكون في القتل، كما هو ظاهر، ولكن وصف الأمة بالغدر في نفسي منه شيء؛ لأن الله عز وجل قد أثنى على هذه الأمة، فوصفها بأنها {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، فعلى هذا يكون الوصف بالغدر منكرا، فالأمة - بحمد الله - لم تغدر بأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وإنما غدر به من قتله وتمالأ على قتله دون باقي الأمة.

ولأجل ما تقدم؛ قال عنه ابن حجر: صدوق شيعيٌّ

(2)

.

والخلاصة؛ إذا كان حديث الغدر منكرًا، فإن حديث تسوية القبور حديث مستقيم، فقول البخاري:(فيه نظر) لعله منصبٌّ على حديث الغدر؛ لأنه ذكر هذا الحديث بعد قوله المتقدم، ثم قال:(ولا يتابع عليه)، وهذا ظاهر صنيع العقيلي.

طريق أخرى:

أخرجه الطبراني قال: (حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا محمد بن عمار الرازي، قال: حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: نا أبو حماد المفضل بن صدقة، عن أبي إسحاق، عن أبي الهياج الأسدي، قال: بعثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: تدري على ما أبعثك؟ على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدع تمثالا إلا كسرته، ولا قبرًا مسنمًا إلا سويته"

(3)

.

(1)

"الضعفاء"(1/ 178).

(2)

"تقريب التهذيب"(ص: 134).

(3)

"المعجم الأوسط"(2059).

ص: 386

وأخرجه في "المعجم الصغير" بنفس الإسناد، وقال:(لم يروه عن أبي إسحاق إلا المفضل، ولا عنه إلا إسحاق الرازي تفرد به محمد بن عمار)

(1)

.

قلت: وهذا الإسناد فيه المفضل بن صدقة، ليس بقوي، قاله أبو حاتم، وقال أبو زرعة: ضعيف

(2)

. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء

(3)

. وقال النسائي: متروك الحديث

(4)

. وقال الدارقطني: ليس بالقوي

(5)

. وقال ابن حبان: كان ممن يخطئ حتى يروي عن المشاهير الأشياء المناكير فخرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد، وفيما وافق الثقات فإن اعتبر به معتبر لم أر بذلك بأسًا

(6)

.

فهذا الإسناد لا يعتبر به.

طريق أخرى: رواه الشعبي؛

أخرجه ابن المخلص، قال: (حدثنا محمد قال: حدثنا ابن أبي مذعور محمد بن عمرو بن سليمان قال: حدثنا النضر بن إسماعيل قال: حدثنا مسعر، عن جابر، عن الشعبي قال: استعمل علي بن أبي طالب عليه السلام أبا الهياج، وقال له:

استعملتك على ما استعملني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتركن قبرا شاخصا إلا سويته بالأرض")

(7)

.

وأخرجه الدارقطني، قال: (حدثنا أبو حامد بن محمد بن هارون الحضرمي، قال: حدثنا محمد بن عمرو بن أبي مذعور، حدثنا النضر بن

(1)

(152).

(2)

"الجرح والتعديل"(8/ 316).

(3)

المصدر السابق (8/ 316).

(4)

"الضعفاء والمتروكون"(ص: 116).

(5)

"الضعفاء والمتروكون"(ص: 412).

(6)

"المجروحين"(3/ 21).

(7)

"المخلصيات"(1640).

ص: 387

إسماعيل، حدثنا مسعر، عن جابر، عن الشعبي، قال: استعمل علي بن أبي طالب أبا الهياج، فقال: أستعملك على ما استعملني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتركن قبرا شاخصا إلا سويته بالأرض.

تفرد به النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص، عن إسماعيل، عن جابر)

(1)

.

قلت: هذا إسناد لا يصح؛ النضر بن إسماعيل ليس بالقوي.

قال المزي: (قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عنه، فقال: لم يكن يحفظ الإسناد، روى عن إسماعيل، عن قيس، قال: رأيت أبا بكر أخذ بلسانه، وهو حديث منكر، وإنما هو حديث زيد بن أسلم. وحكى البخاري عن أحمد نحو ذلك.

وقال أبو بكر الأثرم، عن أحمد بن حنبل: قد كتبنا عنه ليس بقوي، يعتبر بحديثه، ولكن ما كان من رقائق، وكان أكثر حديثا من ابن السماك.

وقال عباس الدوري، ويعقوب بن شيبة، عن يحيى بن معين: ليس بشيء.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين: لا شيء. وقال مرة: ليس حديثه بشيء. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن معين: كان ضعيفًا.

وقال الليث بن عبدة المصري، عن يحيى بن معين: كان صدوقًا، وكان لا يدري ما يحدث به. وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان إمام مسجد الجامع.

(1)

"العلل"(2/ 117).

ص: 388

وقال يعقوب بن شيبة: صدوق، ضعيف الحديث.

وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف.

وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: تجيء عنه مناكير.

وقال أبو زرعة، والنسائي: ليس بالقوي.

وقال الدارقطني: صالح.

وقال أبو أحمد بن عدي: أرجو أنه لا بأس به)

(1)

.

وجابرٌ، هو الجعفي

(2)

، متروك.

والشعبي في سماعه من عليٍّ خلافٌ

(3)

.

يتبين مما تقدم صحة هذا الحديث بمجموع طرقه، والله تعالى أعلم.

18 -

وقال أيضًا في باب كيف الصلاة على الميت والشفاعة له: (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك ويونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، قال: كان مالك بن هبيرة، إذا صلى على جنازة فتقالَّ الناس عليها، جزأهم ثلاثة أجزاء، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب".

وفي الباب عن عائشة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو عيسى: حديث مالك بن هبيرة حديث حسن.

هكذا رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق، وروى إبراهيم بن سعد،

(1)

ينظر: "تهذيب الكمال"(29/ 372).

(2)

"تهذيب الكمال"(4/ 465).

(3)

ينظر: "العلل" للدارقطني (2/ 59).

ص: 389

عن محمد بن إسحاق هذا الحديث، وأدخل بين مرثد ومالك بن هبيرة رجلا، ورواية هؤلاء أصح عندنا)

(1)

.

قلت: هذا الحديث اختلف فيه على ابن إسحاق كما ذكره أبو عيسى:

فرواه حماد بن زيد كما عند أبي داود

(2)

وغيره، وعبد الله بن نمير كما عند ابن ماجه

(3)

وغيره، ويزيد بن هارون وإسماعيل بن علية كما عند الحاكم

(4)

، وعبد الله بن المبارك ويونس بن بكير عند الترمذي كما تقدم، ومحمد بن أبي عدي كما في "مسند الروياني"

(5)

، وأبو شهاب الحناط كما عند أبي يعلى

(6)

، وعبد الأعلى - وهو ابن عبد الأعلى السامي - كما ذكره أبو نعيم

(7)

، وجرير بن حازم كما عند البيهقي

(8)

؛ كلهم عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله، عن مالك بن هبيرة به.

وقد وقع تصريح محمد بن إسحاق بالتحديث في رواية محمد بن أبي عدي عنه كما عند الروياني وابن عساكر

(9)

، وفي رواية إبراهيم بن سعد كما سوف يأتي.

وخالفهم إبراهيم بن سعد، فرواه عنه فزاد رجلًا بين مرثد ومالك بن هبيرة.

أخرجه ابن عساكر

(10)

من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، نا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن الحارث بن مالك، عن مالك بن هبيرة موقوفًا عليه.

(1)

(2/ 263 - 264).

(2)

"السنن"(3166).

(3)

"السنن"(1490).

(4)

"المستدرك"(1341).

(5)

(1537).

(6)

"المسند"(6831).

(7)

"معرفة الصحابة" عقب حديث (6013).

(8)

"السنن الكبرى"(6905).

(9)

"تاريخ دمشق"(56/ 510).

(10)

"تاريخ دمشق"(56/ 512).

ص: 390

قلت: ولعل الصواب هنا رواية الجماعة؛ لأنهم جماعة، وقد فصلوا الموقوف من المرفوع، فروايتهم فيها زيادة علمٍ، فتُقدم روايتهم على رواية إبراهيم بن سعد.

ثم إن سياق الحديث يقتضي ذلك، ولكنْ عندي تردد في هذا كما سوف يأتي.

قال أبو عيسى - بعد أن ذكر رواية إبراهيم بن سعد -: (ورواية هؤلاء أصح)، وقد ساق قبل ذلك رواية ابن المبارك، ويونس بن بكير، فقوله:(رواية هؤلاء أصح)، هل يعني رواية إبراهيم بن سعد؛ لأنه هو أقرب مذكور، أو يقصد الرواية المتقدمة؛ لأنها هي رواية الأكثر؟ هذا محتمل أيضًا

(1)

، ولكن في النفس شيء من ذلك لأنه قال:(رواية هؤلاء)، وهذا يعود إلى رواية الجماعة، لكن قد يؤيد رواية إبراهيم بن سعد أن البخاري قال في ترجمة مالك بن هبيرة: (له صحبة، روى عنه شرحبيل بن شفعة، ومرثد بن عبد الله اليزني، عن الحارث بن مخلد

(2)

، عن مالك بن هبيرة

)

(3)

. فالذي يظهر أن البخاري يرى أن مرثد بن عبد الله اليزني لم يَرو عنه مباشرةً، وإنما روى عن الحارث بن مخلد عنه، وهو يشير - فيما يظهر - إلى رواية إبراهيم بن سعد.

(1)

وقد ذكر ابن حجر في "الإصابة"(9/ 497) كلام الترمذي حسبَ فهمه: (تفرّد به إبراهيم بن سعد، ورواية الجماعة أصح).

(2)

كذا وقع عند البخاري، في طبعة المعلمي رحمه الله، وفي طبعة أخرى غُيّر إلى الحارث بن مالك، والصواب أن ما وقع في الطبعة الأولى صحيح، وأنه نسب إلى جده، فيكون اسمه الحارث بن مالك بن مخلد، والدليل على هذا؛ ما جاء عند ابن الأثير في "أسد الغابة"(5/ 50)، قال:(ورواه إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، وأدخل بين مرثد ومالك: الحارث بن مالك بن مخلد الأنصاري).

(3)

"التاريخ الكبير"(7/ 302 - 303).

ص: 391

وقد سمى أبو نعيم هذا الرجل الذي زاده إبراهيم بن سعد بـ (الحارث بن مالك)

(1)

، وكذا ابن منده فيما ذكره ابن حجر

(2)

.

ومما يؤيد رواية إبراهيم بن سعد أيضًا: أني لم أقف على تصريح بالتحديث بين مرثد بن عبد الله وبين مالك بن هبيرة في هذا الخبر.

ويقوي هذا أن الأصل في الزيادة إذا كانت من حافظٍ فإنها تقبل، والأمر هكذا هنا، كما أنه لا يخفى اختصاص إبراهيم بن سعد بمحمد بن إسحاق، وأنه قد أكثر عنه جدًّا.

قال البخاري - كما في "تهذيب الكمال" -: (قال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المغازي، وإبراهيم بن سعد من أكثر أهل المدينة حديثًا في زمانه)

(3)

.

وفي "العلل ومعرفة الرجال" لأحمد رواية ابنه عبد الله

(4)

: (سمعت أبي يذكر عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه قال: نقض محمد بن إسحاق المغازي ثلاث مرات، كل ذلك أشهده وأحضره).

وهذا يدل أيضًا على اختصاصه به.

وأمر آخر أيضًا، وهو ما جاء في "العلل ومعرفة الرجال لأحمد" رواية المروذي وغيره

(5)

:

(وقال - يعني الإمام أحمد -: كان ابن إسحاق يدلس إلا أن كتاب إبراهيم بن سعد يبين إذا كان سماعا قال: حدثني، وإذا لم يكن قال: قال

).

(1)

"معرفة الصحابة"(5/ 2467).

(2)

"الإصابة"(9/ 496).

(3)

(2/ 92).

(4)

(3/ 436).

(5)

(ص: 38).

ص: 392

وفي "سؤالات أبي داود للإمام أحمد"

(1)

: (سمعت أحمد قال: إبراهيم بن سعد صحيح الحديث عن ابن إسحاق).

فهذا كله مما يرجح رواية إبراهيم بن سعد، والله تعالى أعلم أيهما الراجح.

وأما قول أبي عيسى عن هذا الخبر بأنه "حسن"؛ فلأن إسناده ليس بالقوي، وذلك أن الحارث بن مخلد أو ابن مالك، ليس بمعروف، ولأن الخبر أيضًا وقع فيه اختلاف كما تقدم.

وأما ما وقع فيه التصريح بالتحديث بين ابن إسحاق ويزيد بن أبي حبيب، كما عند الروياني، ففيه بعض النظر.

وله شاهدٌ، أخرجه أبو بكر الشافعي

(2)

- ومن طريقه الذهبي

(3)

-، عن محمد بن غالب ثنا عبد الصمد بن النعمان، ثنا شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما صُفَّ صفوف ثلاثة على ميت فيشفعون له، إلا شفعوا فيه".

وأخرجه أيضًا في موضعه السابق

(4)

عن محمد بن يونس، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا شيبان به مثله.

قلت: وهذا الخبر لا يصح، بل هو باطل؛ قال ابن ماجه

(5)

: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله، أخبرنا شيبان، عن الأعمش، عن أبي

(1)

(ص: 224).

(2)

الغيلانيات" (ص: 618)، رقم (819).

(3)

"التذكرة"(2/ 142 - 143).

(4)

رقم (820)، وهو عند ابن أبي شيبة في المصنف (11978).

(5)

"السنن"(1488).

ص: 393

صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له".

وأخرجه الطحاوي

(1)

من طريق عبيد الله به.

وأخرجه أيضًا

(2)

من طريق أبي حمزة السكري عن الأعمش به.

وأخرجه البزار

(3)

من طريق شعبة عن الأعمش به.

فهذا هو اللفظ الصحيح لهذا الخبر.

وفي "علل الدارقطني" أنه سئل عن حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من صلى عليه مئة من المسلمين غفر له"، فقال: (يرويه الأعمش، واختلف عنه؛

فرواه الحسين بن واقد، وأبو حمزة، وشيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا.

واختلف عن شعبة فرواه عنه عثمان بن عمر موقوفًا، وقال عفان، عن شعبة: رفعه مرة، ووقفه غيره عنه.

وكذلك رواه ابن فضيل عن الأعمش موقوفًا.

ورواه عبد الصمد بن النعمان، عن شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في لفظه:"ما صف قوم صفوفًا ثلاثة على ميت يشفعون له إلا شفعوا فيه" قاله تمتام عن عبد الصمد، وأظنه حدث به تمتام من حفظه، فوهم فيه)

(4)

.

(1)

"شرح مشكل الآثار"(270).

(2)

"شرح مشكل الآثار"(269).

(3)

"المسند"(9219)، وقال:(وهذا الحديث لا نعلم رواه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه مسندا إلا شعبة).

(4)

(5/ 66 - 67).

ص: 394

قلت: وأحيانًا لا يلتفت أبو عيسى إلى الخلاف إذا ترجح لديه القول الآخر، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في صلاة الخوف: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة، أنه قال في صلاة الخوف، قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو، وجوههم إلى العدو، فيركع بهم ركعة، ويركعون لأنفسهم، ويسجدون لأنفسهم سجدتين في مكانهم، ثم يذهبون إلى مقام أولئك، ويجيء أولئك، فيركع بهم ركعة ويسجد بهم سجدتين، فهي له ثنتان ولهم واحدة، ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين.

قال محمد بن بشار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، وقال لي يحيى: اكتبه إلى جنبه، ولست أحفظ الحديث، ولكنه مثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري.

قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح، لم يرفعه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد، هكذا روى أصحاب يحيى بن سعيد الأنصاري موقوفا، ورفعه شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد.

وروى مالك بن أنس، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فذكر نحوه.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

(1)

(2/ 18 - 19).

ص: 395

قلت: هذا الخبر وقفه يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم، ولكن رفعه شعبة وهو إمامٌ، وأيّد روايته برواية مالك، فلذا لم يلتفت أبو عيسى إلى من أوقف هذا الخبر.

2 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في البول يصيب الأرض: (حدثنا ابن أبي عمر وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: دخل أعرابيّ المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى، فلما فرغ، قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"لقد تحجرت واسعا"، فلم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع إليه الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أهريقوا عليه سجلا من ماء، أو دلوا من ماء"، ثم قال:"إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".

قال سعيد: قال سفيان: وحدثني يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالك، نحو هذا.

وفي الباب عن عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وواثلة بن الأسقع.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد، وإسحاق.

وقد روى يونس هذا الحديث، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة)

(1)

.

قلت: هذا الاختلاف على الزهري لا يضر؛ فقد رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ورواه أيضًا عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة

(1)

(1/ 370).

ص: 396

عن أبي هريرة، كما رواه أيضًا عن أبي سلمة عن أبي هريرة بالشطر الأول منه

(1)

. لذا لم يتوقف أبو عيسى في تصحيح هذا الحديث.

3 -

وقال أيضًا في أبواب التفسير، باب: ومن سورة السجدة: (حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، عن مطرف بن طريف وعبد الملك وهو ابن أبجر، سمعا الشعبي، يقول: سمعت المغيرة بن شعبة على المنبر يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن موسى سأل ربه فقال: أي رب، أي أهل الجنة أدنى منزلة؟ قال: رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل

(2)

، فيقول: كيف أدخل وقد نزلوا منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ قال: فيقال له: أترضى أن يكون لك ما كان لملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: نعم، أي رب قد رضيت، فيقال له: فإن لك هذا ومثله ومثله ومثله، فيقول: قد رضيت أي رب، فيقال له: فإن لك هذا وعشرة أمثاله، فيقول: رضيت أي رب، فيقال له: فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك".

هذا حديث حسن صحيح.

وروى بعضهم هذا الحديث عن الشعبي، عن المغيرة ولم يرفعه، والمرفوع أصح)

(3)

.

قلت: يلاحظ أن الاختلاف الذي وقع في هذا الحديث لم يمنع أبا عيسى من تصحيحه، فليس كل اختلاف عنده يمنع من تصحيح الخبر.

* * *

(1)

ينظر: "صحيح البخاري"(6010)، و"سنن أبي داود"(882).

(2)

في بعض الطبعات زيادة: (الجنة).

(3)

(4/ 209).

ص: 397

الوجه السادس: أنه في بعض الأحيان لا يحكم على الخبر لوجود الاختلاف، مع أنه قد يكون في الدرجة العليا من الصحة.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قوله رحمه الله في باب ما جاء في الاعتكاف: (حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل في معتكفه.

قال أبو عيسى: وقد روي هذا الحديث، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.

رواه مالك وغير واحد، عن يحيى بن سعيد

(1)

مرسلا، ورواه الأوزاعي وسفيان الثوري،

(2)

عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة)

(3)

.

قلت: هذا الاختلاف الذي وقع في الحديث لا يضر؛ فقد وصله جمعٌ.

أخرجه البخاري من طريق حماد بن زيد، ومحمد بن فضيل بن غزوان

(4)

.

وأخرجه مسلم من طريق أبي معاوية، وابن عيينة، والثوري، والأوزاعي، وعمرو بن الحارث وابن إسحاق

(5)

.

كلهم عن يحيى به موصولًا.

فتبين أن الوصل صحيح.

(1)

في بعض النسخ زيادة: (عن عمرة).

(2)

في بعض النسخ زيادة (وغير واحد).

(3)

(2/ 138 - 139).

(4)

"صحيح البخاري"(2033، 2041).

(5)

"صحيح مسلم"(1172).

ص: 398

وأما عدم حكم المصنف عليه فهذا من احتياطه رحمه الله.

2 -

وقال أيضًا - وهذا أوضح من المثال السابق -: (حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة، من غير خوف ولا مطر، قال: فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد ألّا يحرج أمته.

وفي الباب عن أبي هريرة.

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس قد روي عنه من غير وجه، رواه جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن شقيق العقيلي.

وقد روي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا)

(1)

.

3 -

وقال أيضًا: (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي صالح، عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".

وفي الباب عن أبي هريرة، والشريد، وشرحبيل بن أوس، وجرير، وأبي الرمداء البلوي، وعبد الله بن عمرو.

حديث معاوية هكذا روى الثوري أيضًا، عن عاصم، عن أبي صالح، عن معاوية، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى ابن جريج ومعمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

سمعت محمدا يقول: حديث أبي صالح عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم في

(1)

(1/ 393).

ص: 399

هذا؛ أصح من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد.

هكذا روى محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه"، قال: ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله، وكذلك روى الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، قال: فرفع القتل، وكانت رخصة.

والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك في القديم والحديث، ومما يقوي هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة أنه قال:"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه")

(1)

.

قلت: قال رحمه الله في آخر "الجامع": (جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به، وبه أخذ بعض أهل العلم، ما خلا حديثين:

حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء، من غير خوف ولا سفر.

وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".

وقد بينّا علة الحديثين جميعا في الكتاب)

(2)

.

* * *

(1)

(2/ 508 - 509).

(2)

(5/ 7).

ص: 400

الوجه السابع: أنه في بعض الأحيان مع ترجيحه لأحد الأوجه على غيره، يُعِلُّ الحديث بالاضطراب، وفي أحيان أخرى يعله به مع عدم الترجيح.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال أبو عيسى في باب في الاستنجاء بالحجرين: (حدثنا هناد وقتيبة، قالا: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته، فقال:"التمس لي ثلاثة أحجار"، قال: فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال:"إنها ركس".

قال أبو عيسى: وهكذا روى قيس بن الربيع هذا الحديث عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، نحو حديث إسرائيل.

وروى معمر وعمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله.

وروى زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه

(1)

، عن عبد الله.

وروى زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله.

وهذا حديث فيه اضطراب.

(2)

قال أبو عيسى: سألت عبد الله بن عبد الرحمن: أي الروايات في هذا عن أبي إسحاق أصح؟ فلم يقض فيه بشيء.

(1)

في بعض النسخ زيادة (الأسود بن يزيد).

(2)

في بعض النسخ في هذا الموضع (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر

)، وفي ط. التأصيل وردت في آخر الباب كما سيأتي.

ص: 401

وسألت محمدا عن هذا، فلم يقض فيه بشيء وكأنه رأى حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله، أشبه، ووضعه في كتاب "الجامع".

وأصح شيء في هذا عندي حديث إسرائيل وقيس، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله؛ لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء، وتابعه على ذلك قيس بن الربيع.

وسمعت أبا موسى محمد بن المثنى، يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يقول: ما فاتني الذي فاتني من حديث سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، إلا لما اتكلت به على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتم.

قال أبو عيسى: وزهير في أبي إسحاق ليس بذاك؛ لأن سماعه منه بأخرة.

سمعت أحمد بن الحسن، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير، فلا تبال ألا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبي إسحاق.

وأبو إسحاق اسمه: عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني.

وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، لم يسمع من أبيه، ولا نعرف اسمه.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سألت أبا عبيدة بن عبد الله، هل تذكر من عبد الله شيئًا؟ قال: لا)

(1)

.

(1)

(1/ 285 - 287).

ص: 402

قلت: والشاهد في هذا أنه حكم على هذا الحديث بالاضطراب مع قوله: إن طريق إسرائيل وقيس هو أصح شيء عنده. وهذا الحديث قد خرجه البخاري

(1)

، وقد تكلمت عليه في موضعه من "الجامع".

2 -

وقال أيضًا في باب ما يقال بعد الوضوء: (حدثنا جعفر بن محمد بن عمران الثعلبي الكوفي، قال: حديث زيد بن حباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني، وأبي عثمان، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء".

وفي الباب عن أنس، وعقبة بن عامر.

قال أبو عيسى: حديث عمر قد خولف زيد بن حباب في هذا الحديث.

وروى عبد الله بن صالح وغيره، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عمر.

وعن ربيعة، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عمر.

وهذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء.

قال محمد: وأبو إدريس لم يسمع من عمر شيئًا)

(2)

.

قلت: هذا الحديث صحيح، وقد خرّجه الإمام مسلم، وفيه ما ينفي

(1)

"صحيح البخاري"(156).

(2)

(1/ 309 - 310).

ص: 403

عنه الاضطراب، فقال:(حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة - يعني: ابن يزيد -، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر. (ح) وحدثني أبو عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، قال: كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي، فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس، فأدركت من قوله:"ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة" قال فقلت: ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود! فنظرتُ فإذا عمر قال: إني قد رأيتك جئت آنفا، قال:"ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء")

(1)

.

فتبين من رواية مسلم أن معاوية بن صالح روى هذا الخبر بإسنادين، الأول: عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن عقبة بن عامر عن عمر. والثاني قوله: فقال: وحدثني أبو عثمان عن جبير بن نفير عن عقبة بن عامر.

قلت: والعمل على الإسناد الأول، فهو إسناد جيد.

وأما الثاني ففيه أبو عثمان وغير متحقق من هو؟ قال ابن عساكر: (أظنه سعيد بن هانئ)

(2)

.

وقد جاء هذا الحديث من وجه آخر عند النسائي، قال: (أخبرنا سويد بن نصر بن سويد، قال: أخبرنا عبد الله، عن حيوة بن شريح، قال: أخبرني زهرة بن معبد، أن ابن عمه أخي أبيه لحا أخبره، أن عقبة بن عامر

(1)

"صحيح مسلم"(234).

(2)

ينظر: "تحفة الأشراف"(6/ 606)، و"تهذيب الكمال"(34/ 76).

ص: 404

الجهني حدثه، قال: قال لي عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء")

(1)

.

قلت: وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات، فرجاله كلهم ثقات، سوى ابن عم زهرة الذي لم يسمَّ، فتبين من هذا أن هذا الحديث محفوظ، لذا صحّحه مسلم كما تقدم.

وهذا ما أشار إليه أبو عيسى الترمذي في قوله: (روى عبد الله بن صالح وغيره عن معاوية بن صالح

)، وهي رواية عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، كما في طريق مسلم. وهي رواية ابن وهب أيضًا عند أبي داود.

وأما رواية معاوية بن صالح التي ذكرها الترمذي، فهي التي فيها اضطراب دون باقي الروايات عن معاوية بن صالح.

فمرةً جاءت عنه، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان، عن عمر، بإسقاط عقبة. أخرجها الترمذي عن جعفر بن محمد بن عمران الثعلبي.

ومرةً جاءتْ عنه، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، وليس فيها ذكر عمر.

أخرجها أبو داود، قال: (حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حديث معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن جبير بن نفير الحضرمي، عن عقبة بن عامر الجهني، أن

(1)

"السنن الكبرى"(9832).

ص: 405

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين، يقبل بقلبه ووجهه عليهما، إلا وجبت له الجنة")

(1)

.

قلت: يظهر أن أبا داود اقتصر على الشطر الأول من الحديث، ولم يذكر رواية عقبة عن عمر بالشطر الثاني.

ومرة رواه عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس وأبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عامر به، دون ذكر عمر.

أخرجها النسائي

(2)

عن الربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس وأبي عثمان، عن عقبة بن عامر به.

قلت: وقد تكون هذه الرواية مثل التي قبلها - أي رواية أبي داود - بدون ذكر الشطر الثاني.

وأصح شيء في الباب: ما رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس وأبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله، غير أنه قال:"من توضأ فقال: أشهد أن .... "

(3)

. وقول مسلم: (فذكر مثله) يعني: عن عمر.

3 -

وقال أيضًا في باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور: (حدثنا علي بن حجر وعلي بن خشرم، قالا: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور.

(1)

"سنن أبي داود"(906).

(2)

"السنن الكبرى"(141).

(3)

"صحيح مسلم"(234).

ص: 406

هذا حديث في إسناده اضطراب

(1)

.

وقد روي هذا الحديث، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، عن جابر، واضطربوا على الأعمش في رواية هذا الحديث

وروى ابن فضيل، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه.

حدثنا يحيى بن موسى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر ابن زيد الصنعاني، عن أبي الزبير، عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وثمنه.

هذا حديث غريب، وعمر بن زيد لا نعرف كبير أحد روى عنه غير عبد الرزاق)

(2)

.

قال ابن أبي شيبة: (حدثنا وكيع، عن الأعمش، قال: أرى أبا سفيان ذكره عن جابر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور

(3)

)

(4)

.

وقال النَّسَائِي: (أخبرني إبراهيم بن الحسن المصيصي، قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور، والكلب إلا كلب صيد.

قال النَّسَائِي: هذا الحديث منكر)

(5)

.

قال أبو عوانة: (حدثنا أَبو داود السجزي، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى والربيع بن نافع وعلي بن بحر، قالوا: حدثنا عيسى بن يونس، عن

(1)

في بعض النسخ زيادة: (ولا يصح في ثمن السنور).

(2)

(2/ 411 - 412).

(3)

كلمة (والسنور) توجد في بعض طبعات "المصنف"، ولا توجد في البعض الآخر.

(4)

"المصنف"(22183).

(5)

"السنن الكبرى"(6219).

ص: 407

الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنَّور.

حدثني أَبو جعفر محمد بن هشام بن أبي الدميك، قال: حدثنا أحمد ابن جناب، (ح).

وحدثني أَبو جعفر بن سنان قاضي سكبزر، قال: حدثنا عبد الوهاب ابن نَجْدة، قالا: حدثنا عيسى بن يونس بمثله.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني معروف بن سويد الجذامي: أن علي بن رباح حدثهم، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي ".

رواه مسلم عن سلمة بن شبيب، قال: حدثنا الحسن بن أعين، قال: حدثنا معقل، عن أبي الزبير قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

ورواه حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور.

قال أَبو عوانة في الأخبار التي فيها نهى عن ثمن السنَّور: فيها نظر، في صحتها وتوهينها)

(1)

.

وقال العقيلي: (وروى أبو سفيان، عن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور. حدثناه علي بن عبد العزيز قال: حدثنا الحسن بن الربيع قال: حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر

وهذا إسناد صالح)

(2)

.

(1)

"مستخرج أبي عوانة"(12/ 334).

(2)

"الضعفاء الكبير"(2/ 220).

ص: 408

وقال ابن حبان: (ذكر الزجر عن بيع السنانير، أخبرنا أبو عروبة، قال: حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن أعين، قال: حدثنا معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير، قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك).

(1)

وقال الدارقطني: (حدثنا إسماعيل بن يونس، حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن السنور والكلب.

حدثنا أبو محمد بن صاعد، حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا وهب الله بن راشد أبو زرعة الحجري، حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا خير بن نعيم الحضرمي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور وهي الهرة.

حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا عباد بن العوام، عن الحسن بن أبي جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمن الكلب والهر إلا الكلب المعلم. الحسن بن أبي جعفر ضعيف.

حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد.

حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا إسحاق بن الجراح بأَذَنَة، حدثنا الهيثم بن جميل، (ح) وحدثنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن الوليد بن برد، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا حماد بن سلمة،

(1)

"صحيح ابن حبان"(4971).

ص: 409

عن أبي الزبير، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد.

حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن السنور والكلب إلا كلب صيد. ولم يذكر حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم. هذا أصح من الذي قبله)

(1)

.

وقال البيهقي: (وأخبرنا أبو بكر بن الحارث، أبنا أبو محمد بن حيان، أبنا أبو يزيد القرشي، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد، ثنا أبو الزبير، عن جابر قال: نهى عن ثمن الكلب والسنور، إلا كلب صيد.

فهكذا رواه عبد الواحد، وكذلك رواه سويد بن عمرو، عن حماد، ثم قال: ولم يذكر حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه عبيد الله بن موسى، عن حماد، بالشك في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه.

ورواه الهيثم بن جميل، عن حماد، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورواه الحسن بن أبي جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بالقوي.

والأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ثمن الكلب خالية عن هذا الاستثناء، وإنما الاستثناء في الأحاديث الصحاح في النهي عن الاقتناء، ولعله شبِّه على من ذكر في حديث النهي عن ثمنه من هؤلاء الرواة الذين هم دون الصحابة والتابعين، والله أعلم)

(2)

.

وقال أيضا في باب ما جاء في ثمن السنور: (أخبرنا أبو نصر محمد ابن علي الفقيه، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن محمد،

(1)

"السنن"(4/ 41 - 44).

(2)

"السنن الكبرى"(11012).

ص: 410

وعبد الله بن محمد، قالا: ثنا سلمة بن شبيب، ثنا الحسن بن أعين، ثنا معقل، عن أبي الزبير قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. رواه مسلم في الصحيح عن سلمة بن شبيب.

أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد الروذباري، ثنا أبو حاتم محمد بن عيسى بن محمد الرازي بالري، أبنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن عمر بن فلد الصنعاني، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وأكل ثمنه. رواه أبو داود في السنن عن أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق بإسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الهر.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم العدل بمرو، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى القاضي، ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثنا عيسى بن يونس، (ح) وأخبرنا أبو طاهر الفقيه، ثنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحسن بن الربيع الكوفي، ثنا حفص بن غياث، جميعا عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور.

أخرجه أبو داود في "السنن" عن جماعة، عن عيسى بن يونس. وهذا حديث صحيح على شرط مسلم بن الحجاج دون البخاري؛ فإن البخاري لا يحتج برواية أبي الزبير، ولا برواية أبي سفيان، ولعل مسلما إنما لم يخرجه في "الصحيح"؛ لأن وكيع بن الجراح رواه عن الأعمش قال: قال جابر بن عبد الله، فذكره، ثم قال: قال الأعمش: أرى أبا سفيان ذكره، فالأعمش كان يشك في وصل الحديث، فصارت رواية أبي سفيان بذلك ضعيفة.

وقد حمله بعض أهل العلم على الهر إذا توحش فلم يقدر على تسليمه، ومنهم من زعم أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكوما

ص: 411

بنجاسته، ثم حين صار محكوما بطهارة سؤره حل ثمنه، وليس على واحد من هذين القولين دلالة بينة، والله أعلم)

(1)

.

وقال ابن عبد البر: (وقد روى حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور، وهذا لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة.

وروى الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور.

وحديث أبي سفيان عن جابر لا يصح؛ لأنها صحيفة، ورواية الأعمش في ذلك عندهم ضعيفة، وكلما أبيح اتخاذه والانتفاع به وفيه منفعة فثمنه جائز في النظر، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له مما لا معارض له فيه، وليس في السنور شيء صحيح، وهو على أصل الإباحة، وباللّه التوفيق)

(2)

.

وقال ابن رجب: (ومنهم

(3)

معقل بن عبيد الله الجزري، ثقة، كان أحمد يضعف حديثه عن أبي الزبير خاصة، ويقول: يشبه حديثه حديث ابن لهيعة.

ومن أراد حقيقة الوقوف على ذلك فلينظر إلى أحاديثه عن أبي الزبير، فإنه يجدها عند ابن لهيعة يرويها عن أبي الزبير كما يرويها معقل سواء، ومما أنكر على معقل بهذا الإسناد: حديث الذي توضأ وترك لمعة لم يصبها الماء، وحديث:"النهي عن ثمن السنور"، وقد خرّجهما مسلم في

(1)

"السنن الكبرى"(6/ 17 - 18).

(2)

"التمهيد"(8/ 402).

(3)

أي، القسم الذين تقدم ذكرهم، وهم: قوم ثقات في أنفسهم، لكن حديثهم عن بعض الشيوخ فيه ضعف، بخلاف حديثهم عن بقية شيوخهم.

ص: 412

صحيحه، وكذلك حديث:"لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده")

(1)

.

قلت: تبين مما تقدم أن حديث "النهي عن بيع السنور" جاء من طرق، ولكن جميعها لا يخلو من كلام.

أما طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، فقد اختلف عليه كما تقدم، فمنهم من أرسله عنه، ومنهم من وصله، وقد ثبت عن الأعمش أنه كان يشك في ذكره رواية أبي سفيان، وهي أقوى الروايات عنه، لذا أعله أبو عيسى بالاضطراب.

وأما طريق ابن فضيل، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، فهي خطأ.

وأما طريق معقل بن عبيد الله الجزري، عن أبي الزبير، عن جابر، فقد تكلم فيها الإمام أحمد كما تقدم، وأن هذه الأحاديث التي يرويها إنما هي أحاديث ابن لهيعة عن أبي الزبير.

وأما الطرق الأخرى عن أبي الزبير، فقد اختلف عليه فيها في الرفع والوقف.

وأما رواية عمر بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وثمنه، فقد تكلم فيها أبو عيسى فقال:(هذا حديث غريب، وعمر بن زيد لا نعرف كثير أحد روى عنه غير عبد الرزاق).

وأما رواية حماد بن سلمة عن أبي الزبير، فقد اختلف عليه فيها بين الرفع والوقف.

(1)

"شرح علل الترمذي"(2/ 793).

ص: 413

ولأجل هذا اختلف الحفاظ في صحة هذا الخبر، فتقدم أن الإمام مسلما صححه، وكذا ابن حبان، وقوّاه العقيلي.

وضعّفه أبو عيسى الترمذي، وأبو عوانة، وأبو عمر ابن عبد البر، ومال إلى ذلك البيهقي، ولكن هذه الطرق إذا اجتمعت دلّت على أن لهذا الحديث أصلًا؛ لأنها طرقٌ تعدّدت وتباينت مخارجها، مما يدل على قوتها، والله تعالى أعلم.

4 -

وقال أيضا في باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء: (حدثنا محمد بن موسى الحَرشي

(1)

البصري، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، عن همام، عن خلاس نحوه، ولم يذكر فيه عن علي.

قال أبو عيسى: حديث عليّ فيه اضطراب.

وروي هذا الحديث عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق المرأة رأسها)

(2)

.

قلت: هذا الحديث أعلّه بالاضطراب، وذلك لأنَّه مختلف فيه على قتادة، فمنهم من وصله كما في رواية همام، ومنهم من أرسله كما في رواية حماد، وكأن روايته هي الأرجح؛ لأن هشام الدستوائي قد تابعه على الإرسال، وهذا ما ذهب إليه الدارقطني فقال:(والمرسل أصح)

(3)

.

(1)

في بعض الطبعات: (الجُرشي).

(2)

(2/ 205 - 206).

(3)

"علل الدارقطني"(1/ 373).

ص: 414

الوجه الثامن: -أنه يتوقف- أحيانا- في تصحيح الحديث من أجل غرابته، مع أنها في بعض الأحيان غرابة لا تضر - وهذا ليس دائمًا كما سيأتي -، وفي أحيان أخرى يعلل الخبر بها، وفي أحيان كثيرة يصححها إذا استوفت شروطَ قبولِ الخبر الغريب.

‌ومن أمثلة الأحاديث التي توقف في تصحيحها من أجل الغرابة، ما يأتي:

1 -

قال أبو عيسى في باب ما جاء في مؤاكلة الحائض وسؤرها:

(حدثنا عباس العنبري ومحمد بن عبد الأعلى، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حرام ابن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مواكلة الحائض؟ فقال: "واكِلْها".

وفي الباب عن عائشة، وأنس.

قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن سعد حديث حسن غريب)

(1)

.

قلت: إسناد هذا الحديث قوي، ورجاله ثقات، وقد توبع معاوية بن صالح، تابعه الهيثم بن حميد كما عند أبي داود

(2)

وغيره، وسكت عنه أبو داود، وهذا مما يدل على قوته عنده، بل قد صححه ابن خزيمة

(3)

، وخرجه ابن الجارود

(4)

، ولعل السبب في توقف المصنف في تصحيحه هو حكمه عليه بالغرابة.

وأما الاختلاف في حرام بن حكيم - أو حرام بن معاوية كما وقع في

(1)

(1/ 359 - 360).

(2)

"السنن"(212).

(3)

(1202)، دون ذكر الحائض، ومواكلتها.

(4)

"المنتقى"(7).

ص: 415

بعض الروايات -؛ فهو اختلافٌ في اسمه ولا يضر، وقد صوّب الخطيب البغدادي أنه رجل واحد، وتابعه ابن حجر

(1)

.

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء ليليني منكم أولو الأحلام والنهى: (حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإياكم وهيشات الأسواق".

وفي الباب عن أبي بن كعب، وأبي مسعود، وأبي سعيد، والبراء، وأنس.

قال أبو عيسى: حديث ابن مسعود حديث حسن غريب.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجبه أن يليه المهاجرون والأنصار، ليحفظوا عنه.

وخالد الحذاء هو خالد بن مهران، يكنى أبا المنازل.

سمعت محمد بن إسماعيل يقول: إن خالدا الحذاء ما حذا نعلا قط، إنما كان يجلس إلى حذاء فنسب إليه.

وأبو معشر اسمه زياد بن كليب)

(2)

.

قلت: هذا الحديث رجاله ثقات، وأبو معشر صدوق جيد الحديث، وقد أخرجه مسلم

(3)

، ولكنَّ أبا عيسى توقف في صحته؛ لعله من أجل غرابته، ولهذا ذكر أبو الفضل بن الشهيد هذا الحديث في "جزئه على

(1)

ينظر: "موضح أوهام الجمع والتفريق"(1/ 109)، و"تهذب التهذيب"(1/ 368)، و"الإصابة"(3/ 99).

(2)

(1/ 416 - 417).

(3)

"صحيح مسلم"(432).

ص: 416

مسلم"

(1)

، ضمن أحاديث يرى أنها معلولة، ثم روى عن الإمام أحمد أنه قال:(هذا حديث منكر).

قال ابن الشهيد: (إنما أنكره أحمد من هذا الطريق، فأما حديث أبي مسعود الأنصاري، فهو صحيح).

قلت: يشير إلى الحديث الذي رواه مسلم من طريق أبي معمر، عن أبي مسعود، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول:"استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافا

(2)

.

3 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الإشارة: (حدثنا محمود بن غيلان ويحيى بن موسى، قالا: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يده اليمنى على ركبته، ورفع إصبعه التي تلي الإبهام يدعو بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليه.

قال: وفي الباب عن عبد الله بن الزبير، ونمير الخزاعي، وأبي هريرة، وأبي حميد، ووائل بن حجر.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث عبيد الله بن عمر إلا من هذا الوجه)

(3)

.

قلت: كأنه توقف في تصحيحه من أجل غرابته عن عبيد الله خاصةً، وذلك لقوله: إلا نعرفه ص حديث عبيد الله بن عمر إلا من هذا الوجه)؛

(1)

"علل الأحاديث في كتاب الصحيح للإمام مسلم"(ص:80 - 81).

(2)

"صحيح مسلم"(432).

(3)

(1/ 453 - 454).

ص: 417

وذلك أن هذا الحديث قد جاء من وجه آخر عن نافع وعن غيره، وقد ساق مسلم

(1)

هذه الأوجه الثلاثة، فبدأ أولًا بحديث عبد الرزاق عن معمر عن عبيد الله، ثم ساق حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، ثم ساق طريق مالك عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبد الرحمن المعاوي عن ابن عمر.

4 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء: (حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء وسفيان بن وكيع، قالا: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثنا أبو الأبرد مولى بني خطمة، أنه سمع أسيد بن ظهير الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة في مسجد قباء كعمرة".

وفي الباب عن سهل بن حنيف.

قال: حديث أسيد حديثٌ غريبٌ

(2)

.

ولا نعرف لأسيد بن ظهير شيئا يصح غير هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من حديث أبي أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر.

وأبو الأبرد اسمه زياد مديني)

(3)

.

قلت: وقد بين أحمد شاكر ومحققو ط. الرسالة أنهم لم يقفوا على نسخة من نسخ الترمذي فيها: (حسن صحيح)، بل هي بين (غريب) و (حسن غريب). وأما ما نقله الذهبي أن الترمذي صحّح لأبي الأبرد

(4)

، فهذا قد

(1)

"صحيح مسلم"(580).

(2)

في "نسخة الرسالة" و"التأصيل": (غريبٌ)، وفي "نسخة أحمد شاكر" و"شرح السنة" و"تحفة الأحوذي ":(حسن غريب)، وفي "تحفة الأشراف" (155):(حسن صحيح).

(3)

(1/ 474 - 473).

(4)

"ميزان الاعتدال"(2/ 90).

ص: 418

يكون من قول الترمذي بعد ذلك: (ولا نعرف لأسيد بن ظهير شيئا يصح غير هذا الحديث).

وتأسيسًا على ما تقدم؛ فإن الترمذي توقف في تصحيحه لغرابته، وذلك عندما ساق إسناده، ثم بيّن أنه - مع ذلك - حديث صحيحٌ.

5 -

وقال أيضا في باب ما جاء في صلاة التسبيح: (حدثنا أحمد بن محمد بن موسى، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا عكرمة بن عمار قال: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، أن أم سليم غدت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: علمني كلمات أقولهن في صلاتي، فقال:"كبري الله عشرا، وسبحي الله عشرا، واحمديه عشرا، ثم سلي ما شئت، يقول: نعم نعم"

(1)

.

وفي الباب عن ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، والفضل بن عباس، وأبي را فع.

قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن غريب.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث في صلاة التسبيح، ولا يصح منه كبير شيء)

(2)

.

(1)

قال العراقي -كما في "قوت المغتذي" للسيوطي (1/ 206)، وحاشية ط. الرسالة (2/ 32) -: (حديث أنس وإن كان المصنف حسنه ورجاله محتج بهم في الصحيح؛ فإن في إيراد المصنف له في باب صلاة التسبيح نظرًا، فإن المعروف أنه ورد في التسبيح عقب الصلوات لا في صلاة التسبيح، وذلك مبينٌ في عدة طرقٍ منها

ما رواه الطبراني في كتاب "الدعاء"

الخ).

قلت: لا أظن أنه يخفى على الترمذي أنه ليس في صلاة التسبيح نصٌّ، ولكن لعله لورود التسبيح في هذا الحديث.

(2)

(1/ 558 - 559).

ص: 419

قلت: ظاهر إسناد هذا الحديث أنه جيد، ولكن متنه غريب، لذا توقف المصنف في صحته، ولكنَّ الحديث قد جاء من طرقٍ أخرى

(1)

.

(1)

الحديث أخرجه أحمد (12207)، والنسائي في "الصغرى" باب الذكر بعد التشهد (1299) و"الكبرى"(1223)، وابن خزيمة باب إباحة التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة عند إرادة المرء مسألة حاجة يسألها ربه عز وجل وما يرجى في ذلك من الاستجابة (850)، وابن حبان (2008)، والحاكم (937، 1191)، والضياء في "المختارة"(1515، 1516، 1517، 1518) من طريق عكرمة بن عمار به.

وقد روي حديث "المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل" بنفس الإسناد الذي جاء به حديثنا، وقد خولف فيه عكرمة بن عمار، قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 637 - 639): (وسمعت أبي وذكر حديثا رواه عمر بن يونس، عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس؛ قال: جاءت أم سليم - وهي جدة إسحاق - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام؛ بأن زوجها جامعها، أتغتسل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا وجدت الماء، فلتغتسل ".

وروى الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن جدته أم سليم؛ قالت: دخلت أم سليم على أم سلمة، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له أم سليم: أرأيت إذا رأت المرأة

؟

قال أبي: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أم سليم، مرسل، وعكرمة بن عمار روى عن إسحاق، عن أنس: أن أم سليم

وحديث الأوزاعي أشبه مرسل من الموصل).

وقال الدارقطني في "العلل"(2342): (وسئل عن حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، سألت أم سليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت ذلك فلتغتسل"؟ فقال: اختلف فيه على إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة؛

فرواه عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس وتابعه محمد بن كثير، عن الأوزاعي.

وخالفهما يحيى بن عبد الله، وأبو المغيرة، والوليد، رووه عن الأوزاعي، عن إسحاق، عن جدته أم سليم، لم يذكروا فيه أنسا وكذلك قال همام: عن إسحاق،=

ص: 420

6 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الوقوف بعرفات والدعاء بها: (حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن عبد الله بن صفوان، عن يزيد بن شيبان، قال: أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن وقوف بالموقف مكانا يباعده عمرو، فقال: إني رسول

= عن جدته وقال يحيى بن أبي كثير وحسين المعلم: عن إسحاق بن عبد الله، أن أم سليم

فأرسلاه.

ورواه عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة أخو إسحاق، عن أم سليم والمرسل أشبه بالصواب).

قلت: حديث "المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل"، قد يكون الراجح فيه الإرسال، كما ذهب إلى ذلك أبو حاتم والدارقطني، فقد رواه جمع عن إسحاق فأرسلوه.

وأما الحديث الذي معنا، فلم يُذكر أن أحدًا خالف عكرمة فأرسله عن إسحاق، لا الأوزاعي ولا غيره، وأما ما نقله الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "السلسلة الضعيفة"(8/ 166) أن الحافظ ابن حجر أعلّ هذا الحديث بالإرسال، وأن الأوزاعي رواه عن إسحاق فأرسله بإسقاط أنس وقال:(عن أم سليم - وهو مرسل -)، فهذا إنما ذكره ابن حجر في حديث "المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل" كما في "النكت الظراف"(1/ 85)، وأما الحديث الذي معنا فلم يذكر فيه شيئًا، وبالتالي فأنا أذهب إلى أن إسناده جيد، وظاهر صنيع النَّسَائِي أنه يقويه، فقد ذكره في "السنن الصغرى"، و"الكبرى" ولم يتعقبه بشيء، بل وبوّب عليه كما تقدم، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم على شرط مسلم. وقد خرّج مسلم في "صحيحه" بهذا الإسناد ثمانية أحاديث، كما أن الترمذي خرج حديثًا آخر بهذا الإسناد وقال:(صحيح غريب). كما أن الضياء أخرجه في "المختارة".

وقد جاء هذا الحديث عن أنس من طريق آخر، إلا أنه واهٍ؛ أخرجه البزار (7599)، وأبو يعلى (4292)، والطبراني في "الدعاء"(725) من طريق عبد ارحمن بن إسحاق، عن حسين بن أبي سفيان، عن أنس بن مالك به.

كما أن له شواهد، تنظر:"الضعيفة" للألباني (8/ 165 - 167)، و"الصحيحة" له أيضًا (7/ 1012).

ص: 421

رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول: "كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم".

وفي الباب عن علي، وعائشة، وجبير بن مطعم، والشريد بن سويد الثقفي.

قال أبو عيسى: حديث ابن مربع الأنصاري حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث ابن عيينة، عن عمرو بن دينار.

وابن مربع: اسمه يزيد بن مربع الأنصاري، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد)

(1)

.

قلت: هذا الحديث حديث صحيح ورجاله كلهم ثقات، وعمرو بن عبد الله بن صفوان روى عنه أربعة منهم عمرو بن دينار، وقال عنه الزبير بن بكار: كان من أشرف أهل زمانه

(2)

، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(3)

، وقال ابن حجر: صدوق شريفٌ

(4)

، وقد صرح بسماعه من يزيد بن شيبان، وهو من أخواله كما في "التاريخ الكبير"

(5)

، وفيه أيضًا: أن عمرو بن دينار صرح بسماعه من عمرو بن عبد الله بن صفوان

(6)

.

وقد صحّحه ابن خزيمة، والحاكم، ورواه أبو داود وسكت عنه

(7)

، وأما عدم تصحيح أبي عيسى لهذا الخبر، فلعله من أجل غرابته، والله أعلم.

7 -

وقال أيضا في باب ما - جاء في الاشتراك في البدنة والبقرة:

(1)

(2/ 187).

(2)

ينظر: "تهذيب الكمال"(22/ 100).

(3)

(5/ 177).

(4)

"تقريب التهذيب"(ص: 423).

(5)

(8/ 315).

(6)

"التاريخ الكبير"(8/ 466).

(7)

ينظر: "سنن أبي داود"(1919)، و"صحيح ابن خزيمة"(2818، و 2819)، و"مستدرك الحاكم"(1/ 633)، رقم (1699).

ص: 422

(وروي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن البقرة عن سبعة، والجزور عن عشرة، وهو قول إسحاق، واحتج بهذا الحديث، وحديث ابن عباس إنما نعرفه من وجه واحد.

حدثنا الحسين بن حريث وغير واحد قالوا: حدثنا الفضل بن موسى، عن حسين بن واقد، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي الجزور عشرة.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وهو حديث حسين بن واقد)

(1)

.

قلت: ظهر من كلام أبي عيسى أنه إنما توقف في تصحيحه من أجل الغرابة.

8 -

وقال أيضا في باب ما جاء في نزول الأبطح: (حدثنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، ينزلون الأبطح.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن غريب

(2)

، إنما نعرفه من حديث عبد الرزاق، عن عبيد الله بن عمر)

(3)

.

قلت: لم يصححه من أجل تفرد عبد الرزاق به عن عبيد الله بن عمر.

(1)

(2/ 200).

(2)

كما في "تحفة الأشراف"، و"نسخة الرسالة"(938)، أما ما وقع في بعض النسخ، كطبعة بشار:(حسن صحيح غريب) فهذا خطأ.

(3)

(2/ 208 - 209).

ص: 423

9 -

وقال أيضا: (حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سليم بن حيان، قال: سمعت مروان الأصفر، عن أنس بن مالك، أن عليا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال:"بم أهللت؟ " قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لولا أن معي هديا لأحللت ".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه)

(1)

.

قلت: هذا الحديث قد أخرجه الشيخان من طريق عبد الصمد به

(2)

، وأخرجه مسلم من طريق ابن مهدي وبهز، كلاهما عن سليم به

(3)

.

ورجاله كلهم ثقات، ومروان ليس له عند مسلم والترمذي سوى هذا الحديث كما قاله المزي

(4)

.

والذي يظهر أن أبا عيسى إنما توقف في تصحيحه من أجل غرابته، فقد أخرجه البزار

(5)

من طريق عبد الصمد به، وقال:(ولا نعلم أسند الأصفر، عن أنس، إلا هذا الحديث).

ملحوظة: لم يصرح مروان بسماعه من أنس، وفي "التاريخ الكبير"، قال:(سمع ابن عمر ومسروقا)

(6)

ولم يذكر أنسًا، ولكن كونه سمع ابن عمر وقد توفي قبل أنس بنحو عشرين سنة، وكونه أيضًا بصريا، وأنس كذلك، فالأقرب أنه سمع منه.

وهذا المتن لاشك في صحته، فقد جاء أيضًا من حديث جابر في "الصحيح"

(7)

.

(1)

(2/ 226).

(2)

"صحيح البخاري"(1558)، "صحيح مسلم"(1250).

(3)

"صحيح مسلم"(1250).

(4)

"تهذيب الكمال"(27/ 412).

(5)

"المسند"(7367).

(6)

(7/ 369).

(7)

"صحيح البخاري"(1651، 1785).

ص: 424

10 -

وقال أيضا: (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا خلاد بن يزيد الجعفي، قال: حدثنا زهير بن معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تحمل من ماء زمزم، وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)

(1)

.

قلت: توقف أبو عيسى في تصحيح هذا الحديث من أجل غرابته، فهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، سلسلة مشهورة جدًا، فأين أصحاب هشام عن هذا الخبر؟! ثم أين أصحاب زهير بن معاوية حتى لا يرويه إلا الخلاد وهو ليس بالمشهور؟!

11 -

وقال أيضا في باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار: (حدثنا محمد بن عمر بن علي المقدمي، قال: حدثنا سعيد بن عامر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد تمرا فليفطر عليه، ومن لا، فليفطر على ماء، فإن الماء طهور".

وفي الباب عن سلمان بن عامر.

قال أبو عيسى: حديث أنس لا نعلم أحدا رواه عن شعبة مثل هذا غير سعيد بن عامر، وهو حديث غير محفوظ، ولا نعلم له أصلا من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس.

وقد روى أصحاب شعبة هذا الحديث عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن حفصة ابنة سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح من حديث سعيد بن عامر.

(1)

(2/ 229).

ص: 425

وهكذا رووا عن شعبة، عن عاصم، عن حفصة ابنة سيرين، عن سلمان بن عامر، ولم يذكر فيه شعبة: عن الرباب.

والصحيح ما روى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد، عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر)

(1)

.

قلت: وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه أبو عيسى، فهو خبرٌ غيرُ محفوظٍ؛ لأن أصحاب شعبة قد رووه بخلاف ما رواه سعيد، فهو قد تفرد به، وهذا يدل على خطئه، وهو وإن كان ثقةً إلا أن له بعض الأغلاط.

12 -

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب)

(2)

.

قال الدارقطني: (هذا إسناد صحيح)

(3)

، وقد احتج به ابن حزم

(4)

- وهذا يقتضي ثبوته عنده؛ لأنَّه لا يحتج بضعيفٍ -، وأخرجه الضياء في "المختارة"

(5)

.

قلت: أنا أذهب إلى ما ذهب إليه أبو عيسى من التوقف في تصحيح هذا الحديث، وذلك لغرابته، فإني لم أقف عليه إلا من طريق جعفر، ولا عن جعفر إلا عبد الرزاق، حتى أن أبا نعيم والضياء لم يخرجاه إلا من

(1)

(2/ 88 - 89)، وينظر:"العلل الكبير"(194).

(2)

(2/ 89)(704).

(3)

"سنن الدارقطني"(3/ 155).

(4)

"المحلى"(4/ 455).

(5)

"الأحاديث المختارة"(4/ 411).

ص: 426

طريقه

(1)

، ولكن لم ينصّ أحد منهم على أن عبد الرزاق تفرد به. نعم، قال أبو عيسى:(غريب)، لكن لم يبين أن الغرابة من عبد الرزاق أو من جعفر، فالله أعلم.

نعم، قد توبع عبد الرزاق في هذا الحديث، تابعه سعيد بن سليمان النشيطي، وعمار بن هارون، أخرج حديثهما ابن عدي

(2)

، كلاهما عن جعفر بن سليمان به. ولكن كلا المتابعتين فيهما نظر، فسعيد بن سليمان، قال عنه الذهبي:(صويلح الحديث. وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: فيه نظر. وقال أبو داود: لا أحدث عنه)

(3)

.

قلت: وقول الذهبي: (صويلحٌ) ليس بظاهر، بل هو ضعيفٌ، والسؤال: ما هي درجة ضعفه، هل يكتب حديثه، فيتقوى بغيره فتقوى هذه المتابعة، أو لا يكتب حديثه، وبالتالي لا يعتد بها؟

أما عمار بن هارون، قال الذهبي:(قال موسى بن هارون: متروك الحديث. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. كان يسرق الحديث)

(4)

.

وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: (ربما أخطأ)

(5)

، وهذا فيه نظر لما تقدم.

قال ابن عدي في ترجمة جعفر -بعد أن ساق الحديث-: (وهذا الحديث يعرف بعبد الرزاق عن جعفر، ومن إفرادات جعفر، عن ثابت، عن أنس، لا أعلم يرويه عن جعفر غير ثلاثة أنفس، اثنين قد ذكرتهما، والثالث

(1)

"الحلية"(9/ 227)، "الأحاديث المختارة"(4/ 411 - 412).

(2)

"الكامل"(3/ 105)(3776).

(3)

"ميزان الاعتدال"(2/ 135).

(4)

"ميزان الاعتدال "(3/ 181).

(5)

"الثقات"(8/ 518).

ص: 427

عبد الرزاق، عن جعفر، والحديث به مشهور عن جعفر، وقد رواه سعيد بن سليمان، وعمار بن هارون، وزاد في حديث عبد الرزاق: كان النبي، صلى الله عليه وسلم يفطر على الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر)

(1)

.

وقال في ترجمة عمار بن هارون بعد أن ساق الحديث من طريقه: (وهذا معروف بعبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، وقد رواه عمار بن هارون، وسعيد بن سليمان النشيطي، جميعا عن جعفر أيضا)

(2)

.

ولأجل ما تقدم لم يعتد أبو حاتم وأبو زرعة بهذه المتابعة، وجزما بأنه لم يروه سوى عبد الرزاق، فقالا - بعد أن سألهما عبد الرحمن عن هذا الحديث -:(لا نعلم روى هذا الحديث غير عبد الرزاق، ولا ندري من أين جاء عبد الرزاق؟) يعني: من أين جاء به. قال ابن أبي حاتم: (قلت: وقد رواه سعيد بن سليمان النشيطي، وسعيد بن هبيرة، فقال أبي: لا يسقى بالنشيطي وسعيد بن هبيرة شربة من ماء مثلًا. قال أبو زرعة: لا أدري ما هذا الحديث! لم يرفعه

(3)

إلا من حديث عبد الرزاق)

(4)

.

والحديث له شاهدٌ، أخرجه أبو يعلى الموصلي

(5)

- ومن طريقه الضياء

(6)

- والعقيلي

(7)

، عن إبراهيم بن الحجاج السامي، حدثنا أبو ثابت عبد الواحد بن ثابت، حدثنا ثابت، عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار.

قلت: وهذه المتابعة لجعفر لا يفرح بها، وذلك أن عبد الواحد بن ثابت ضعيف، مع أن متنه يخالف ما رواه جعفر بن سليمان.

(1)

"الكامل"(3/ 105).

(2)

"الكامل"(7/ 523).

(3)

كذا، ولعل الصواب: لم يعرفه.

(4)

"علل ابن أبي حاتم"(3/ 6).

(5)

"مسند أبي يعلى الموصلي"(3305).

(6)

"الأحاديث المختارة"(1755).

(7)

"الضعفاء"(3/ 50).

ص: 428

قال العقيلي بعد أن ساق الحديث: (وقد روى جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على التمر. وروى جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عنه بأسانيد جياد أنه قال: "تسحروا فإن في السحور بركة"، وفى السحور أسانيد ثابتة، وأما اللفظتان اللتان جاء بهما هذا الشيخ: "ولو بجرعة من ماء"، أو "شيء لم تمسه النار"، فليس يتابعه عليهما ثقة)

(1)

.

* * *

‌ومن الأمثلة على الأحاديث التي صححها أبو عيسى مع استغرابه لها:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في القراءة على المنبر: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن صفوان ابن يعلى بن أمية، عن أبيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ} [الزخرف: 77].

وفي الباب عن أبي هريرة، وجابر بن سمرة.

قال أبو عيسى: حديث يعلى بن أمية حديث حسن غريب صحيح، وهو حديث ابن عيينة)

(2)

.

قلت: هذا الحديث تفرد به ابن عيينة كما هو ظاهر كلام أبي عيسى، وقد صححه، وأخرجه الشيخان من طريق ابن عيينة، ومثلهما أبو داود، والنسائي

(3)

.

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا: (حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن

(1)

"الضعفاء"(3/ 50).

(2)

(1/ 574).

(3)

"صحيح البخاري"(3266)، "صحيح مسلم"(871)، "سنن أبي داود"(3992)، "السنن الكبرى" للنسائي (11415).

ص: 429

عبد الحميد، عن ابن يعلى، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعا وعليه برد.

قال أبو عيسى: هذا حديث الثوري، عن ابن جريج، ولا نعرفه إلا من حديثه، وهو حديث حسن صحيح.

وعبد الحميد هو ابن جبير بن شيبة، عن ابن يعلى عن أبيه، وهو يعلى بن أمية)

(1)

.

قلت: هذا الخبر صححه أبو عيسى مع غرابته، فقد تفرد به ابن جريج ولم يروه عنه سوى سفيان الثوري وهو إمام، فمثل هذه الغرابة لا تضر، نعم، قد تابعه عمر بن هارون البلخي عند أحمد

(2)

، قال: حدثنا عمر بن هارون البلخي أبو حفص، حدثنا ابن جريج، عن بعض بني يعلى بن أمية، عن أبيه به.

لكن خالفه فأسقط شيخ ابن جريج، وهو عبد الحميد بن جبير بن شيبة، وهو ثقة بالاتفاق، والصواب إثباته، ويظهر أن هذا الإسقاط حصل من ابن جريج، فقد رواه وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن ابن يعلى به

(3)

.

وهذه الرواية أيضًا فيها إسقاطه.

ومرة قال: عن رجلٍ، كما في رواية عبد الله بن الوليد، عن الثوري

(4)

، وفي أخرى سماه عبد الحميد كما في رواية قبيصة

(5)

، والفريابي

(6)

.

(1)

(2/ 177).

(2)

"المسند"(17955).

(3)

"المسند"(17956).

(4)

"المسند"(17952).

(5)

كما في رواية الترمذي التي معنا، وأخرجه ابن ماجه (2954).

(6)

أخرجه الدارمي في "مسنده"(1885).

ص: 430

وعمر قد اتهم، ولكن قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث، لا أعرف له حديثا ليس له أصل -أو قال: يتفرد به- إلا هذا الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من لحيته من عرضها وطولها، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن هارون، ورأيته حسن الرأي في عمر بن هارون

(1)

.

قلت: ومتابعته هنا مقبولة؛ لأن رواية الثوري لهذا الحديث تؤكد أن ابن جريج قد رواه، وأنَّه من حديثه.

ويؤيد هذا ما جاء في "تهذيب الكمال": (قال بهز: أرى يحيى بن سعيد حسده، قال: أكثر عن ابن جريج. من لزم رجلا اثنتي عشرة سنة لا يريد أن يكثر عنه؟!

قال أبو غسان: وبلغني أن أمه كانت تعينه على الكتاب.

قال أبو بكر الخطيب: وذكر مسلم بن عبد الرحمن البلخي أن ابن جريج تزوج أم عمر بن هارون؛ فمن هناك أكثر السماع منه.

وقال أبو أحمد بن عدي: يقال: إنه لقي ابن جريج بمكة، وكان حسن الوجه، فسأله ابن جريج: ألك أخت؟ قال: نعم. فتزوج بأخته، فقال: لعل هذا الحسن يكون في أخته كما هو في أخيها، فتفرد عن ابن جريج، وروى عنه أشياء لم يروها غيره)

(2)

.

ثم إن متن هذا الخبر ليس بغريب، فقد أخرج أحمد من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من جعرّانة، فاضْطَبَعوا، وجعلوا أرديتَهم تحت آباطهم، ووضعوها على عواتقهم، ثم رَمَلُوا

(3)

.

(1)

"الجامع"(3/ 585).

(2)

(21/ 523).

(3)

"المسند"(3512).

ص: 431

وجاء عند ابن أبي شيبة في "مصنفه"

(1)

، قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج؛ أن عمر بن عبد العزيز طاف بالبيت مضطبعا.

ولهذا وغيره صححه أبو عيسى الترمذي، والله أعلم.

3 -

وقال أيضا في باب ما جاء أن عرفة كلها موقف: (حدثنا محمد ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال:"هذه عرفة، وهو الموقف، وعرفة كلها موقف"

وفي الباب عن جابر.

قال أبو عيسى: حديث عليّ حديث حسن صحيح، لا نعرفه من حديث عليّ إلا من هذا الوجه من حديث عبد الرحمن بن الحارث بن عياش، وقد رواه غير واحد عن الثوري مثل هذا)

(2)

قلت: هذا الحديث مثل الحديث السابق.

4 -

وقال أيضا: (حدثنا أحمد بن منيع ومحمد بن الوزير الواسطي المعنى واحد، قالا: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: قلت لأنس: حدثني بشيء عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى. قال: قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح، ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، يستغرب من حديث إسحاق الأزرق، عن الثوري)

(3)

.

(1)

(16644).

(2)

(2/ 188 - 190).

(3)

(2/ 229 - 230).

ص: 432

قلت: إنما صحح أبو عيسى هذا الحديث مع غرابته عن الثوري؛ لأنَّه قد جاء مختصرًا من وجه آخر عن عبد العزيز: أخرجه البخاري

(1)

، قال:(حدثنا علي، سمع أبا بكر بن عياش، حدثنا عبد العزيز، لقيت أنسا (ح)، وحدثني إسماعيل بن أبان، حدثنا أبو بكر، عن عبد العزيز قال: خرجت إلى منى يوم التروية فلقيت أنسا رضي الله عنه ذاهبا على حمار، فقلت: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا اليوم الظهر؟ فقال: انظر حيث يصلي أمراؤك فصلّ).

(1)

"صحيح البخاري"(1654).

ص: 433

الوجه التاسع: أنه - أحيانًا - يتوقف في تصحيح الخبر الذي ظاهره الصحة إذا كان متنه غريبا.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع: (حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن برد بن سنان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: جئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في البيت، والباب عليه مغلق، فمشى حتى فتح لي، ثم رجع إلى مكانه.

ووصفت الباب في القبلة.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب)

(1)

.

قلت: هذا الحديث لم يصححه من أجل غرابة متنه وإسناده، فتفرد بُرد عن الزهري لا يحتمل؛ فاين أصحابه الملازمون له؛ كمالك، وشعيب، وسفيان، ومعمر، ويونس بن يزيد، وغيرهم؟ لذا قال أبو حاتم: هذا حديث منكر.

وبُرد قد تتابع الأئمة على توثيقه أو تصديقه، إلا ما جاء عن علي بن المديني، فإنه قد ضعَّفه، وقال عنه ابن حبان: رديء الحفظ

(2)

، ولكن ذكره أيضًا في "الثقات"

(3)

.

قال ابن أبي حاتم: (وسألت أبي عن حديث رواه برد بن سنان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصلي، فاستفتحت الباب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ففتح الباب، ومضى في صلاته. قلت لأبي: ما حال هذا الحديث؟

(1)

(2/ 34).

(2)

(6/ 114).

(3)

"مشاهير علماء الأمصار"(ص: 245).

ص: 434

فقال أبي: لم يَرو هذا الحديث أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم غيرُ برد، وهو حديث منكر، ليس يحتمل الزهري مثل هذا الحديث، وكان بُرد يرى القدر)

(1)

.

2 -

وقال أيضا في باب ما ذكر في الاغتسال عندما يُسْلم الرجل: (حدثنا بندار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن قيس بن عاصم، أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر.

وفي الباب عن أبي هريرة.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)

(2)

.

قلت: بيّن أن هذا الخبر لا يعرف إلا من هذا الوجه، ولا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من الذين أسلموا بالاغتسال، إلا ما جاء في هذا الخبر وخبر ثمامة بن أثال في بعض رواياته المرجوحة، فعليه يكون غريبا سندا ومتنا.

وفي "أطراف الغرائب والأفراد": (حديث: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه على الإسلام، فقال: يا قيس بن عاصم، اغتسل بماء وسدر

الحديث. قال: غريب من حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(3)

.

قلت: روى هذا الحديث جمع عن سفيان الثوري -منهم القطان، وابن مهدي-، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس بن عاصم

(4)

.

(1)

"علل الحديث"(2/ 399)، مسألة (467).

(2)

(2/ 36).

(3)

(4284).

(4)

حديث القطان أخرجه النَّسَائِي (193)، وصححه ابن خزيمة (255)، وابن حبان=

ص: 435

وخالفهم قبيصة، فرواه عن الثوري، عن الأغر، عن خليفة، عن أبيه، عن جده

(1)

.

قال أبو حاتم: (إن هذا خطأ؛ أخطأ قبيصة في هذا الحديث؛ إنما هو: الثوري، عن الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم

ليس فيه أبوه)

(2)

.

قلت: وأنا أذهب إلى هذا، فالصواب بدون: عن أبيه.

ورواه وكيع - في روايةٍ عنه - كما رواه قبيصة

(3)

، والصواب عنه كرواية الجماعة

(4)

.

وجاء في رواية عن وكيع أيضًا: عن سفيان الثوري، عن خليفة: أن جدّه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره مرسلًا.

قال البيهقي: (وبمعناه رواه محمد بن كثير وجماعة، إلا أن أكثرهم قالوا: عن جده قيس بن عاصم، ورواه قبيصة بن عقبة فزاد في إسناده)

(5)

.

قلت: وخليفة لا يعرف أنه سمع من جده، فليس هناك تصريح في هذا الحديث بسماعه من جده، لذا عندما ترجم له البخاري لم يذكر سماعه من

= (1235). وحديث عبد الرحمن أخرجه -غير الترمذي- أحمد (20611)، وصححه ابن خزيمة (254).

(1)

أخرجها الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/ 296)(3/ 187)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"(809) ومن طريق آخر (110).

(2)

"علل الحديث"(1/ 452).

(3)

أخرجه أحمد في "المسند"(20615)، وابن أبي خيثمة في "التاريخ الكبير"(2915).

(4)

أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبير"(9/ 35).

(5)

"السنن الكبرى"(808).

ص: 436

جده، بل لم يذكر روايته عن جده، وإنما قال (روى عن أبيه)

(1)

، وكذا في ترجمة قيس بن عاصم

(2)

لم يذكر أن خليفة سمع منه.

وأما أبو حاتم فلم يذكر أنه يروي عن أبيه

(3)

، وعندما ترجم لقيس بن عاصم قال:(روى عنه ابن ابنه خليفة بن حصين)

(4)

، فالأقرب في هذا الخبر أنه منقطعٌ.

3 -

وقال أيضا في باب فيمن أكل ثم خرج سفرا: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعب، أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة ثم ركب.

حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثني زيد بن أسلم، قال: حدثني محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعب، قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان، فذكر نحوه.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ومحمد بن جعفر، هو ابن أبي كثير، هو مديني ثقة، وهو أخو إسماعيل بن جعفر.

وعبد الله بن جعفر هو ابن نجيح، والد علي بن عبد الله المديني، وكان يحيى بن معين يضعفه)

(5)

.

قلت: الإسناد الأول فيه عبد الله بن جعفر، وهو والد علي بن المديني، وهو لا يحتج به.

(1)

"التاريخ الكبير"(3/ 192).

(2)

"التاريخ الكبير"(7/ 141).

(3)

"الجرح والتعديل"(3/ 377).

(4)

"الجرح والتعديل"(7/ 101).

(5)

(2/ 142 - 143).

ص: 437

وأما الإسناد الثاني، فهو صحيح جدًا، ورجاله كلهم من الثقات المشاهير، فلماذا لم يصححه أبو عيسى؟ الظاهرُ أنه لغرابة متنه، وذلك أن المسافر لا يفطر إلا بعد خروجه من بلده.

وقد قال الدارقطني بعد أن أخرجه: (رجاله كلهم ثقات)، وقول الدارقطني هذا ليس موجودًا في المطبوع، وإنما في "الإتحاف" لابن حجر، وقد نقل أيضًا أن ابن القطان الفاسي قد صححه

(1)

.

وأخرجه الضياء

(2)

، ونقل تحسين الترمذي.

وذكره ابن أبي حاتم قال: (وسألت أبي عن حديث رواه عبد العزيز الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعب: أنه أتى أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا، فوجده قد رحلت راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلنا: أسنة؟ قال ليس بسنة.

ورواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر، عن ابن المنكدر، عن محمد بن كعب: أنه أتى أنس بن مالك

فذكر الحديث؛ قال: فقلت: سنة؟ فقال: نعم، سنة.

قال أبي: حديث الدراوردي أصح)

(3)

.

قلت: لا شك أن رواية الدراوردي أرجح؛ لأن محمد بن عبد الرحمن بن مجبر متروك، ولكن لم يذكر أبو حاتم ولا ابنه طريق الترمذي الصحيحة، وهي لا شك أقوى من طريق الدراوردي.

وأخرجه الدارقطني من طريقين عن روح، ثنا شعبة، عن عمرو بن

(1)

"إتحاف المهرة"(1742).

(2)

"المختارة"(2602).

(3)

"علل الحديث"(3/ 73).

ص: 438

عامر، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: قال لي أبو موسى: ألم أنبأ أنك إذا خرجت خرجت صائما، وإذا دخلت دخلت صائما؟ فإذا خرجت فأخرج مفطرا، وإذا دخلت فادخل مفطرا

(1)

.

وأخرجه البيهقي

(2)

من طريق عثمان بن عمر حدثنا شعبة به.

قلت: وهذا صحيح عن أنس، وفيه أن أنسًا كان إذا أراد أن يسافر لا يفطر بل يخرج صائمًا، وكذا إذا رجع إلى بلده، فإنه يكون صائمًا أيضًا، وظاهر الخبر أنه فعل ذلك مرارًا، وأن هذا هو ديدنه، فأمره أبو موسى أن يكون مفطرًا عندما يريد السفر في الخروج، وعند الدخول.

وقد يكون هذا ما دعا أنسًا أن يفطر عند إرادة السفر بعد أن كان يفعل خلاف ذلك، ولعله ظنَّ من قول أبي موسى الأشعري له في ذلك أنه سنة، ولكن كلامه الذي تقدم ليس فيه ذكر لذلك، وهو الأصح؛ لأنَّه من المتفق عليه: أن المسافر لا يجوز له أن يقصر من الصلاة قبل أن يخرج؛ لأنَّه ما دام في بلده فإنه يعتبر مقيمًا حتى ولو كان قد نوى السفر، فالصيام مثل ذلك، ثم إن الإنسان قد يعزم على السفر فيركب دابته ثم بعد ذلك قد يطرأ عليه ترك السفر، فيكون قد أفطر هذا اليوم وهو لم يسافر، وقبل هذا وبعده لم يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة أنه قد أفطر قبل أن يخرج، بل ثبت في أحاديث كثيرة أنه كان يصوم في السفر -مع أن الفطر رخصةٌ-، وثبت أن من الصحابة من كان يصوم في السفر أيضًا، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذا كان الصيام في السفر أفضل لمن لم يشق عليه، والفطر أفضل لمن شق عليه الصيام، والله تعالى أعلم.

وأختم بمثال يوضح منهجه في ذلك ويؤكده: ألا وهو حديث ابن

(1)

"السنن"(2292).

(2)

"السنن الكبرى"(8179).

ص: 439

عباس، قال رحمه الله: (حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قال: فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته.

وفي الباب عن أبي هريرة.

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس قد روي عنه من غير وجه، رواه جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن شقيق العقيلي.

وقد روي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا.

حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف البصري، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر".

قال أبو عيسى: وحنش هذا هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره.

والعمل على هذا عند أهل العلم: ألا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة

)

(1)

.

قلت: يلاحظ أنه لم يحكم عليه بالصحة، وهو صحيح لا شك في صحته عنده؛ لأنَّه ذكر ثلاثة ممن رووه عن ابن عباس، وكلهم من الثقات المشاهير، والحديث صححه الشيخان وغيرهما، فلم يبق إلا استغراب متنه، وهذا ما نص عليه في "العلل الصغير" بقوله: (جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به، وبه أخذ بعض أهل العلم، ما خلا حديثين:

(1)

(1/ 393 - 394)، وقد سبق ذكره لمناسبة أخرى.

ص: 440

حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر.

وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ".

وقد بينا علة الحديثين جميعا في الكتاب)

(1)

.

قلت: وينظر كلامه على حديث شارب الخمر في المرة الرابعة، فإنه لم يحكم عليه أيضا حكما صريحا بينا، وإنما أطال الكلام عليه من الناحية الفقهية كما فعل في حديث ابن عباس.

* * *

(1)

(5/ 7).

ص: 441

الوجه العاشر: الحديث الذي لا يذكر فيه اختلافًا ولا غرابةً، وقد حكم بصحته؛ فهذا غالبًا ما يكون كذلك.

وذلك لما تقدم من حال أبي عيسى أنه كثيرًا ما يشير للاختلاف الذي وقع في الحديث - حتى ولو كان يسيرًا، وليس له كبير تأثير - وللغرابة إن وجدت، فإذا لم يذكر شيئًا من ذلك، فالقلب حينئذٍ يطمئن إلى صحة الخبر.

ومن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله في باب ما يقول إذا أذن المؤذن: (حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري، قال: حدثنا معن، قال: حدثنا مالك (ح) وحدثنا قتيبة، عن مالك، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ".

وفي الباب عن أبي رافع، وأبي هريرة، وأم حبيبة، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن ربيعة، وعائشة، ومعاذ بن أنس، ومعاوية.

قال أبو عيسى: حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح.

وهكذا روى معمر وغير واحد، عن الزهري مثل حديث مالك.

وروى عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، هذا الحديث، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواية مالك أصح)

(1)

.

قلت: أين رواية عبد الرحمن بن إسحاق من رواية الإمام مالك ومعمر من حيث القوة والصحة؟! فلا يخفى أن بينهما البون الشاسع، ومع ذلك

(1)

(1/ 407).

ص: 442

أشار إلى رواية عبد الرحمن المخالفة، ونص على صحة رواية مالك، وهذا مثال من عشرات الأمثلة على عنايته بالاختلاف الذي يقع في الخبر حتى ولو لم يكن مؤثرا.

* * *

ص: 443

الوجه الحادي عشر: الخبر الذي ظاهره الصحة ولم يحكم بصحته؛ غالبًا ما يكون فيه علة خفية، لا تدرك إلا بالبحث، وجمع الطرق لهذا الخبر.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عاصم، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن عمها سلمان بن عامر، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإنه بركة، فإن لم يجد تمرا فالماء؛ فإنه طهور".

وقال: "الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة".

وفي الباب عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود، وجابر، وأبي هريرة.

قال أبو عيسى: حديث سلمان بن عامر حديث حسن.

والرباب هي أم الرائح ابنة صليع.

وهكذا روى سفيان الثوري، عن عاصم، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن عمها سلمان بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا الحديث.

وروى شعبة، عن عاصم، عن حفصة ابنة سيرين، عن سلمان بن عامر ولم يذكر فيه عن الرباب.

وحديث سفيان الثوري وابن عيينة أصح.

وهكذا روى ابن عون وهشام بن حسان، عن حفصة ابنة سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر)

(1)

.

(1)

(2/ 67).

ص: 444

قلت: هذا الحديث أخرجه في "الصيام"

(1)

من طريق وكيع، عن سفيان الثوري، عن عاصم به، وقال: حسنٌ صحيحٌ، ولكن ليس فيه:"فإنه بركة"، وذلك عندما ذكر التمر، كما أنه ليس فيه قصة الصدقة.

فأما الزيادة الأولى، وهي:(فإنه بركة)، فالأقرب أنها غير محفوظة، قال النَّسَائِي:(لا نعلم أن أحدا ذكر في هذا الحديث "فإنه بركة" غير سفيان)

(2)

، وقال في موضعٍ آخر:(هذا الحرف "فإنه بركة"، لا نعلم أن أحدا ذكره غير ابن عيينة، ولا أحسبه محفوظا)

(3)

.

ورواها أيضًا ابن ماجه

(4)

عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن ابن عون به، مقتصرًا على الصدقة فقط.

وأما قصة الصدقة، فإنها صحيحةٌ، فقد رواها النَّسَائِي عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن ابن عونٍ، عن حفصة

(5)

.

ورواه أيضًا الحميدي

(6)

عن سفيان بن عيينة به.

وابن خزيمة

(7)

عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان به.

ولكون زيادة "فإنه بركة" غير محفوظة لم يصحح أبو عيسى هذا الخبر فيما يظهر، والله أعلم.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عمر بن يونس، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولي أحدكم أخاه، فليحسن كفنه".

(1)

(2/ 89).

(2)

"السنن الكبرى"(5/ 447).

(3)

"السنن الكبرى"(8/ 599).

(4)

"السنن"(1844).

(5)

"المجتبى"(2601).

(6)

"المسند"(842).

(7)

"الصحيح"(2067).

ص: 445

وفيه عن جابر.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب)

(1)

.

قلت: هذا الحديث رجاله كلهم ثقات، وعمر بن يونس ثقة بالاتفاق، خرّج له الجماعة، وقد توبع من قبل مسلم بن إبراهيم الأزدي عند ابن أبي الدنيا

(2)

، والبيهقي، وزاد في آخره:"فإنهم يتزاورون في قبورهم"، قال البيهقي:(وهذا إن صح لم يخالف قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الكفن: "إنما هو للمُهْل"، يعني: الصديد؛ لأن ذلك كذلك في رؤيتنا، ويكون كما شاء الله في علم الله، كما قال في الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وهو ذا نراهم يتشحطون في الدماء، ثم يفتنون، وإنما يكونون كذلك في رؤيتنا، ويكونون في الغيب كما أخبر الله عنهم، ولو كانوا في رؤيتنا كما أخبر الله عنهم لارتفع الإيمان بالغيب)

(3)

.

وأما عكرمة بن عمار فهو مستقيم الحديث، نعم، تُكلِّم في روايته ولكن عن يحيى بن أبي كثير، وهذا ليس منها.

إذنْ لماذا توقف المصنف عن تصحيحه؟! لعله من أجل أن سفيان الثوري، رواه عن هشام، عن ابن سيرين قال: كان يقال

فرواية عكرمة بن عمار، عن هشام في وصل هذا الحديث غريبة، وهذا ما جعل أبا عيسى - فيما يظهر - لا يصحح هذا الخبر، والله تعالى أعلم.

* * *

(1)

(2/ 246).

(2)

"المنامات"(162).

(3)

"شعب الإيمان"(11/ 459)(8830).

ص: 446

الوجه الثاني عشر: أنه عند نقده للأخبار غالبًا ينقدها من حيث الإسناد، وفي بعض الأحيان من حيث الإسناد والمتن معا، وفي بعضها من حيث المتن فقط.

‌ومن الأمثلة على نقده للخبر من جهة الإسناد والمتن:

1 -

قوله رحمه الله في باب ما جاءكم حج النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثنا عبد الله بن أبي زياد، قال: حدثنا زيد بن حباب، عن سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم: حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر، ومعها عمرة، فساق ثلاثة وستين بدنة، وجاء عليٌّ من اليمن ببقيتها، فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة فنحرها

(1)

، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل بدنة ببضعة، فطبخت، وشرب من مرقها.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من حديث سفيان، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن حباب، ورأيت عبد الله بن عبد الرحمن روى هذا الحديث في كتبه، عن عبد الله بن أبي زياد.

وسألت محمدا عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي: صلى الله عليه وسلم، ورأيته لا يعد هذا الحديث محفوظا، وقال: إنما يروى عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن مجاهد مرسل.

حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا حبان بن هلال، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، قال: قلت لأنس بن مالك: كم حج النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر: عمرة في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانة، إذ قسم غنيمة حنين.

(1)

في بعض الطبعات زيادة: (رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ص: 447

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وحبان بن هلال هو أبو حبيب البصري هو جليل ثقة، وثقه يحيى بن سعيد القطان)

(1)

.

قلت: يلاحظ أن حديث جابر هذا نقده أبو عيسى سندًا ومتنًا:

أما من حيث الإسناد فقد حكم عليه بالغرابة، ثم بيَّن أن الصواب فيه الإرسال، وذلك فيما نقل عن البخاري.

وأما من حيث المتن فقد ذكر حديث أنس، وهو حديث صحيح كما قال أبو عيسى، وقد صححه أيضًا البخاري ومسلم

(2)

، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حجَّ حجةً واحدةً

(3)

، وليس ثلاثًا كما جاء في الحديث السابق.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن إسماعيل الواسطي، قال: سمعت ابن نمير، عن أشعث بن سوار، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كنا إذا حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكنا نلبي عن النساء، ونرمي عن الصبيان.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقد أجمع أهل العلم أن المرأة لا يلي عنها غيرها، هي تلبي، ويكره لها رفع الصوت بالتلبية).

قلت: يلاحظ أن أبا عيسى قد نقد هذا الخبر سندًا ومتنًا.

3 -

وقال أيضا في باب ما جاء في التطوع في السفر: (حدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن عطية، عن ابن عمر،

(1)

(2/ 153 - 154).

(2)

"صحيح البخاري"(1778)، (1779)، (4148)، "صحيح مسلم"(1253).

(3)

قلت: لا شك أن أنسًا رضي الله عنه يعني بعد الهجرة، وأما قبل الهجرة، فالله أعلم كم حجَّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لم يثبت خبر في ذلك.

ص: 448

قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في السفر ركعتين وبعدها ركعتين.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

وقد رواه ابن أبي ليلى، عن عطية، ونافع، عن ابن عمر.

حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن عطية ونافع، عن ابن عمر، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين، وصليت معه في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين ولم يصلّ بعدها شيئا، والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات، فلا ينقص في حضر ولا سفر، وهي وتر النهار، وبعدها ركعتين.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

سمعت محمدا يقول: ما روى ابن أبي ليلى حديثا أعجب إليّ من هذا

(1)

)

(2)

.

قلت: هذا الحديث معلولٌ، لا يصح، لا من حيث الإسناد ولا من حيث المتن.

أما من حيث الإسناد؛ ففيه حجاج وهو ابن أرطاة، وعطية وهو العوْفي.

وأما في الإسناد الثاني؛ ففيه ابن أبي ليلى، بالإضافة إلى عطية، وثلاثتهم لا يحتج بهم.

وأما المتن، فهو مخالفٌ لما ثبت عن ابن عمر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو

(1)

في بعض النسخ زيادة: (ولا أروي عنه شيئًا).

(2)

(2/ 8 - 9).

ص: 449

بكر وعمر، وعثمان رضي الله عنه كانوا يقتصرون على الركعتين في السفر، وأن ابن عمر كذلك، فكان لا يتطوع إذا كان مسافرًا، أخرجه الشيخان عنه

(1)

.

وفي حديث عطية العوفي السابق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يتطوع بعد الظهر والمغرب ركعتين.

فتبين أن هذا المتن منكر.

ولذلك لم يصحح أبو عيسى هذا الحديث، بل ذكره في "العلل الكبير"، وقال: (وسمعت محمدا يقول: لا أعرف لابن أبي ليلى حديثا هو أعجب إليّ من هذا، وهو حديثه عن عطية ونافع، عن ابن عمر: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر الظهر أربعا، وبعدها ركعتين

الحديث، قال محمد: ولا أروي عن ابن أبي ليلى شيئا)

(2)

.

‌ومن أمثلة نقده للخبر من حيث المتن فقط:

1 -

قوله رحمه الله في باب ما جاء في الرخصة للرعاة أن يرموا يوما ويدعوا يوما: (حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن أبي البداح بن عدي، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاة أن يرموا يوما ويدعوا يوما.

قال أبو عيسى: هكذا روى ابن عيينة.

وروى مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه.

ورواية مالك أصح

(1)

ينظر: "صحيح البخاري"(1101)(1102)، "صحيح مسلم"(689).

(2)

(160).

ص: 450

حدثنا الحسن بن علي الخلال، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مالك بن أنس قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة، أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما، قال مالك: ظننت أنه قال: في الأول منهما، ثم يرمون يوم النفر.

وهذا حديث حسن صحيح، وهو أصح من حديث ابن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر)

(1)

.

قلت: الاختلاف بين الروايتين في المتن وفي الإسناد:

فأما في المتن فرواية مالك أتم وأوضح في المقصود، وذلك أن في روايته أن الرعاة يرمون اليوم الأول وهو يوم النحر، ويرمون يوما آخرا يجمعون فيه رمي يومين، ثم يرمون في اليوم الثالث عشر وهو يوم النفر. وأما رواية ابن عيينة فليس فيها هذا التفصيل، وإنما فيها أنهم يدعون رمي يوم، ولم يبين هل يجمعون رميه مع يوم آخر. ولم يذكر الرمي في يوم النفر، فلا شك عندئذ أن رواية مالك أصح؛ لأنَّه أتقن لفظ الخبر، وهذا من دقة نقد أبي عيسى.

وأما الإسناد، فقال ابن عبد البر: (وذكر أحمد بن خالد: أن يحيى بن يحيى وحده من بين أصحاب مالك قال في هذا الحديث عن مالك بإسناده أن أبا البداح عاصم بن عدي، فجعل أبا البداح كنية عاصم بن عدي، وجعل الحديث له، والحديث إنما هو لعاصم بن عدي هو الصاحب، وأبو البداح ابنه يرويه عنه، وهو الصحيح فيه عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه، قال: وكذلك رواه ابن وهب وابن القاسم.

(1)

(2/ 225 - 226).

ص: 451

قال أبو عمر: لم نجده عند شيوخنا في كتاب يحيى إلا عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، كما رواه جماعة الرواة عن مالك، وهو الصحيح في إسناد هذا الحديث، كما قال أحمد، فإن كان يحيى رواه كما قال أحمد فهو غلط من يحيى - والله أعلم - أو من غيره، ولم يختلفوا في إسناد هذا الحديث عن مالك، إلا ما ذكر أحمد بن خالد عن يحيى، وقد اختلفوا عنه في ألفاظه.

وقد كان سفيان بن عيينة يقول في إسناد هذا الحديث شيئا يشبه ما حكاه أحمد عن يحيى في روايته عن مالك ويعضده، وذلك أنه قال فيه: عن أبي البداح بن عدي عن أبيه، ومرة لم يقل: عن أبيه، والصواب في إسناد هذا الحديث ما قاله مالك في رواية جمهور الرواة عنه)

(1)

.

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الأذان بالليل: (وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن بلالا أذن بليل، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي: إن العبد نام.

قال أبو عيسى: هذا حديث غير محفوظ.

والصحيح ما روى عبيد الله بن عمر وغيره، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم".

وروى عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، أن مؤذنا لعمر أذن بليل، فأمره عمر أن يعيد الأذان.

وهذا لا يصح؛ لأنَّه عن نافع، عن عمر منقطع.

ولعل حماد بن سلمة أراد هذا الحديث، والصحيح رواية عبيد الله بن

(1)

"التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"(17/ 252).

ص: 452

عمر وغير واحد، عن نافع، عن ابن عمر، والزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن بلالا يؤذن بليل ".

قال أبو عيسى: ولو كان حديث حماد صحيحا لم يكن لهذا الحديث معنى؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالا يؤذن بليل" فإنما أمرهم فيما يستقبل، فقال:"إن بلالا يؤذن بليل" ولو أنه أمره بإعادة الأذان حين أذن قبل طلوع الفجر لم يقل: "إن بلالا يؤذن بليل ".

قال علي بن المديني: حديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم هو غير محفوظ، وأخطأ فيه حماد بن سلمة)

(1)

.

3 -

وقال أيضا: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا جرير، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحَجَر: "والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن)

(2)

.

قلت: لم يصححه أبو عيسى

(3)

، ولعله من أجل غرابة متنه، فقد خرّج حديثين بهذا الإسناد، وحكم بصحتهما:

الأول: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ".

(1)

(1/ 403 - 404).

(2)

(2/ 228).

(3)

وصححه ابن خزيمة (2735، 2736) وابن حبان (3715، 3716) والحاكم (1680).

ص: 453

وفي الباب عن سمرة، وابن عمر، وعائشة.

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح)

(1)

.

الثاني: (حدثنا محمد بن موسى البصري، قال: حدثنا الفضيل بن سليمان، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: حدثنا سعيد بن جبير وأبو الطفيل، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ".

هذا حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه)

(2)

.

لذا عندما أخرجه أبو نعيم، قال: (غريب من حديث سعيد، تفرد به بن خثيم

(3)

.

* * *

(1)

(2/ 245).

(2)

(4/ 583).

(3)

"حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"(4/ 306).

ص: 454

الوجه الثالث عشر: أنه لا يقبل زيادة الثقة دائمًا، وإنما يقبلها إذا كان هذا الثقة من الحفاظ.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة: (حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن يعلى بن أمية، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيا قد أحرم وعليه جبة، فأمره أن ينزعها.

حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه بمعناه.

قال أبو عيسى: وهذا أصح، وفي الحديث قصة.

وهكذا روى قتادة والحجاج بن أرطاة وغير واحد، عن عطاء، عن يعلى بن أمية.

والصحيح ما روى عمرو بن دينار وابن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

قلت: عمرو بن دينار وابن جريج كلاهما إمام، وقد زادا في الحديث فزيادتهما مقبولة.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا بندار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن واصل، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله ندا وهو خلقك "، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك "، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: "أن تزني بحليلة جارك ".

(1)

(2/ 165 - 166).

ص: 455

هذا حديث حسن.

حدثنا بندار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن منصور والأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

هذا حديث حسن صحيح.

حدثنا عبد بن حميد، قال: حدثنا سعيد بن الربيع أبو زيد، قال: حدثنا شعبة، عن واصل الأحدب، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك أو من طعامك، وأن تزني بحليلة جارك ". قال: وتلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69].

حديث سفيان، عن منصور والأعمش، أصح من حديث واصل؛ لأنَّه زاد في إسناده رجلا.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن واصل، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

هكذا روى شعبة عن واصل عن أبي وائل عن عبد الله، ولم يذكر فيه عمرو بن شرحبيل)

(1)

.

قلت: نصّ المصنف على قبول الزيادة التي وقعت في إسناد هذا الخبر؛ وذلك لأن الذي زادها إمام حافظ، وهو سفيان الثوري.

(1)

(4/ 199 - 200).

ص: 456

3 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الاغتسال يوم الجمعة: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من أتى الجمعة فليغتسل".

وفي الباب عن عمر، وأبي سعيد، وجابر، والبراء، وعائشة، وأبي الدرداء.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح.

وروي عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أيضا، حدثنا بذلك قتيبة، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

وقال محمد: وحديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، وحديث عبد الله ابن عبد الله، عن أبيه، كلا الحديثين صحيح.

وقال بعض أصحاب الزهري: عن الزهري قال: حدثني آل عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر.

قال أبو عيسى: قد روي عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل يوم الجمعة أيضا، وهو حديث صحيح.

ورواه يونس ومعمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، بينما عمر بن الخطاب يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أية ساعة هذه؟ فقال: ما هو إلا أن سمعت النداء وما زدت على أن توضأت، قال: والوضوء أيضا، وقد علمت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل.

حدثنا بذلك محمد بن أبان، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.

ص: 457

وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن يونس، عن الزهري بهذا الحديث.

وروى مالك هذا الحديث، عن الزهري، عن سالم، قال: بينما عمر يخطب يوم الجمعة، فذكر الحديث.

وسألت محمدا عن هذا، فقال: الصحيح حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه.

قال محمد: وقد روي عن مالك أيضا، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه نحو هذا الحديث)

(1)

.

قلت: قول البخاري: الصحيح حديث الزهري عن سالم عن أبيه، يعني بذلك أن رواية مالك المرسلة لا تؤثر على الرواية الموصولة بذكر عبد الله بن عمر؛ لأنها زيادة من ثقة فتقبل، وبالتالي فكل هذه الأسانيد التي ذكرها أبو عيسى صحيحة ما عدا رواية الإمام مالك المرسلة، فهذا الخبر قد سمعه ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع أباه يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويؤيد هذا قول أبي عيسى عن رواية ابن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (حديث صحيح).

4 -

وقال أيضا: (حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري، قال: حدثنا معن، قال: حدثنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح.

(1)

(1/ 565 - 567).

ص: 458

وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أيوب، وزاد فيه: من المسلمين.

ورواه غير واحد عن نافع، ولم يذكروا فيه: من المسلمين)

(1)

.

قلت: صحح أبو عيسى رواية مالك والتي فيها زيادة: "من المسلمين"، مع قوله:(رواه غير واحد عن نافع دونها)، وقد بين ذلك بيانا واضحا في "علله الصغير" فقال: (ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه، مثل ما روى مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين، صاعا من تمر، أو صاعا من شعير.

قال: وزاد مالك في هذا الحديث: من المسلمين.

وروى أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر وغير واحد من الأئمة هذا الحديث، عن نافع، عن ابن عمر، ولم يذكروا فيه: من المسلمين.

وقد روى بعضهم، عن نافع مثل رواية مالك ممن لا يعتمد على حفظه.

وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك، واحتجوا به؛ منهم الشافعي وأحمد ابن حنبل قالا: إذا كان للرجل عبيد غير مسلمين، لم يؤد عنهم صدقة الفطر، واحتجا بحديث مالك، فإذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قبل ذلك عنه)

(2)

.

* * *

(1)

(2/ 77).

(2)

"الجامع"(5/ 34).

ص: 459

الوجه الرابع عشر: أنه في بعض الأحيان يتوقف في قبول زيادة الثقة ولو كان حافظاً.

ومن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله في باب المضمضة والاستنشاق من كف واحد: (حدثنا يحيى ابن موسى، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: حدثنا خالد

(1)

، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد، فعل ذلك ثلاثا.

وفي الباب عن عبد الله بن عباس.

قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن زيد حسن غريب.

وقد روى مالك وابن عيينة وغير واحد هذا الحديث، عن عمرو بن يحيى، ولم يذكروا هذا الحرف: أن النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد، وإنما ذكره خالد بن عبد الله، وخالد ثقة حافظ عند أهل الحديث)

(2)

.

قلت: هذا الحديث خرّجه الشيخان

(3)

من طريق خالد بن عبد الله به.

ولم يصححه أبو عيسى، مع قوله عن خالد: ثقة حافظ، ومع أن هذه الزيادة قد تابعه عليها سليمان بن بلال.

قال البخاري: (حدثنا خالد بن مخلد، قال: حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: كان عمي يكثر من الوضوء، قال لعبد الله بن زيد: أخبرني كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ. فدعا بتور من

(1)

في بعض النسخ زيادة: (بن عبد الله).

(2)

(1/ 294).

(3)

"صحيح البخاري"(191)، و"صحيح مسلم"(235).

ص: 460

ماء، فأكفأ على يديه، فغسلهما ثلاث مرار، ثم أدخل يده في التور، فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة، ثم أدخل يده فاغترف بها، فغسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أخذ بيده ماء فمسح رأسه، فأدبر به وأقبل، ثم غسل رجليه، فقال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ)

(1)

.

قال ابن حجر: (قوله: "ثم تمضمض واستنثر" وللكشميهني: "مضمض واستنشق"، والاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس، وقد ذكر في رواية وهيب الثلاثة، وزاد بعد قوله ثلاثا: "بثلاث غرفات"، واستدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة، وفي رواية خالد ابن عبد الله الآتية بعد قليل: "مضمض واستنشق من كف واحد، فعل ذلك ثلاثا"، وهو صريح في الجمع كل مرة، بخلاف رواية وهيب فإنه تطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية، كما نبه عليه ابن دقيق العيد، ووقع في رواية سليمان بن بلال عند المصنف في باب الوضوء من التور: "فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة"، واستدل بها على الجمع بغرفة واحدة، وفيه نظر لما أشرنا إليه من اتحاد المخرج فتقدم الزيادة)

(2)

.

وأكتفي بهذا المثال هنا؛ لأنَّه سوف تأتي أمثلة كثيرة على ذلك.

* * *

(1)

"صحيح البخاري"(199).

(2)

"فتح الباري"(1/ 291).

ص: 461

الوجه الخامس عشر: أنه يسلك طريق الترجيح بين الروايات.

لا يخفى على المشتغلين بعلم الحديث أن الأحاديث تنقسم إلى قسمين:

1 -

أحاديثُ استوفتْ شروط الصحة، ولم يقع في أسانيدها ضعفٌ أو اختلافٌ، أو غرابةٌ وشذوذٌ.

2 -

وأحاديث لم تستوف شروط الصحة؛ بأن وقع في أسانيدها من هو متكلّمٌ فيه، فهذه ضعيفةٌ كما هو معلومٌ، وضعفها على درجاتٍ، فأحياناً تتقوَّى إذا تعددتْ طرقها، أو إذا جاء ما يشهد لها؛ وأحياناً لا تتقوَّى. وسوف يأتي الكلام عليها بإذن الله.

وأما التي وقع في أسانيدها أو متونها غرابةٌ أو شذوذٌ، فهذه فيها تفصيلٌ مطولٌ، وقد تقدم الكلام عليها.

وأما التي وقع في أسانيدها أو متونها اختلافٌ؛ فهذه إن أمكن الجمع بين أوجه هذا الاختلاف فبها، وإلا فإنه يُسلَك فيها مسلك الترجيح، وينظر إلى القرائن.

ويلحظ الدارس لمنهج أبي عيسى: أنه يسلك أوجهاً كثيرةً للترجيح بين الروايات، من أشهرها وأظهرها ما يلي:

الأول: ترجيح رواية الأوثق والأحفظ على غيره:

وهذا كثيرٌ في كتابه "الجامع" وهو محلُ اتفاقٍ بين أهل العلم، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في الرجل ينام عن الوتر، أو ينساه: (حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال:

ص: 462

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن الوتر أو نسيه، فليصل إذا ذكر وإذا استيقظ".

حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من نام عن وتره فليصل إذا أصبح".

قال أبو عيسى: وهذا أصح من الحديث الأول.

سمعت أبا داود السجزي - يعني: سليمان بن الأشعث - يقول: سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقال: أخوه عبد الله لا بأس به.

وسمعت محمدا يذكر عن علي بن عبد الله أنه ضعف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال: عبد الله بن زيد بن أسلم ثقة)

(1)

.

قلت: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وإن كان من أهل العلم والفضل، إلا أنه في باب الرواية ضعيف جداً، وعبد الله أخوه وإن كان قد تُكلم فيه إلا أنه أقوى منه، لذا رجح أبو عيسى روايته عليه.

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء في مبادرة الصبح بالوتر: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بادروا الصبح بالوتر".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر".

(1)

(1/ 549 - 550).

ص: 463

قال أبو عيسى: وسليمان بن موسى قد تفرد به على هذا اللفظ)

(1)

.

قلت: في هذا تعليلٌ بتفرد سليمان بن موسى بهذا السياق، واللفظ الصحيح هو ما جاء في رواية عبيد الله، ولا شك أن عبيد الله أوثق بكثير من سليمان بن موسى

(2)

، ويؤكد هذا ما جاء عند مسلم في رواية عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"بادروا الصبح بالوتر"

(3)

.

3 -

وقال أيضاً في باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل: (حدثنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى ابن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له".

قال أبو عيسى: حديث حفصة حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه.

وقد روي عن نافع، عن ابن عمر قوله، وهو أصح

(4)

(

(5)

.

قلت: هذا الحديث رفعه يحيى بن أيوب وغيره، ولكن وقفه من هو أوثق منهم وأكثر، على عبد الله بن عمر، وعلى رأس هؤلاء مالك كما في "الموطأ"

(6)

، وجاء أيضاً عن عبد الله بن عمر، عن حفصة، وكلا الطريقين

(1)

(1/ 550 - 551).

(2)

يلاحظ هنا أن أبا عيسى قدم الصحيح على المعلول، وقد سبق أن الغالب عليه تقديم المعلول، وتقدم ذكر بعض الأمثلة على ذلك.

(3)

"صحيح مسلم"(750).

(4)

في بعض النسخ زيادة: (وهكذا أيضاً روي هذا الحديث عن الزهري موقوفًا، ولا نعلم أحدا رفعه إلا يحيى بن أيوب).

(5)

(2/ 107 - 108).

(6)

ينظر: "موطأ مالك" رواية يحيى الليثي (788، 789).

ص: 464

محفوظٌ، فالصواب في هذا الخبر وقفه، كما ذهب إلى هذا أبو عيسى الترمذي وغيره من كبار الحفاظ، كالبخاري

(1)

، وأبي داود

(2)

، وأبي حاتم

(3)

، والنسائي

(4)

، وسيأتي بإذن الله تفصيل ذلك في موضعه من الكتاب.

4 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في صيام العشر: (حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط.

قال أبو عيسى: هكذا روى غير واحد عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.

وروى الثوري وغيره هذا الحديث، عن منصور، عن إبراهيم، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُر صائما في العشر.

وروى أبو الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم، عن عائشة، ولم يذكر فيه: عن الأسود. وقد اختلفوا على منصور في هذا الحديث، ورواية الأعمش أصح وأوصل إسنادا.

قال: سمعت أبا بكر محمد بن أبان يقول: سمعت وكيعا يقول: الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور)

(5)

.

قلت: رجّح رواية الأعمش؛ لأنَّه أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور، كما روى ذلك أبو عيسى عن وكيع، فتكون زيادةً من ثقةٍ حافظٍ، فبالتالي يجب قبولها.

(1)

"العلل الكبير" للترمذي (202).

(2)

في "سننه" عقب حديث (2454).

(3)

"العلل"(654).

(4)

"السنن الكبرى"(2661).

(5)

(2/ 121).

ص: 465

5 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في الضبع يصيبها المحرم: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن أبي عمار قال: قلت لجابر: الضبع أصيد هي؟ قال: نعم، قال: قلت: آكلها؟ قال: نعم، قال: قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وقال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: وروى جرير بن حازم هذا الحديث، فقال: عن جابر، عن عمر، وحديث ابن جريج أصح، وهو قول أحمد وإسحاق)

(1)

.

قلت: جرير بن حازم وإن كان ثقة مشهوراً، ولكن له بعض الأوهام، فلذا قُدم ابن جريج عليه، مع أنه قد جاء هذا الخبر عنه - أي جرير - دون ذكر عمر، رواه أبو داود

(2)

، وابن خزيمة

(3)

.

6 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر

(4)

، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن

(5)

، عن خلاد بن السائب بن خلاد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل، فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو التلبية".

قال أبو عيسى: حديث خلاد عن أبيه حديث حسن صحيح.

(1)

(173/ 2).

(2)

"السنن"(3801).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(2646).

(4)

في بعض النسخ زيادة: (وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم).

(5)

في بعض النسخ زيادة: (بن الحارث بن هشام).

ص: 466

وروى بعضهم هذا الحديث عن خلاد بن السائب، عن زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح، والصحيح هو عن خلاد بن السائب، عن أبيه، وهو خلاد بن السائب بن خلاد بن سويد الأنصاري.

وفي الباب عن زيد بن خالد، وأبي هريرة، وابن عباس)

(1)

.

قلت: وأنا أذهب إلى ذلك، وذلك أن عبد الملك بن أبي بكر ثقة خرج له الجماعة، وقد رواه عن خلاد عن أبيه السائب، وروايته مقدمة على رواية المطلب بن عبد الله الذي جعله عن خلاد عن زيد بن خالد، والمطلب كثير الإرسال والتدليس، وأخشى أنه لم يسمعه من خلاد، فلذا تكون رواية عبد الملك هي الراجحة، وهذا ما ذهب إليه البخاري كما في "العلل الكبير"

(2)

.

7 -

وقال أيضاً: (باب ما جاء ما يقرأ في ركعتي الطواف: أخبرنا أبو مصعب المدني قراءة، عن عبد العزيز بن عمران، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1].

حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أنه كان يستحب أن يقرأ في ركعتي الطواف بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1].

قال أبو عيسى: وهذا أصح من حديث عبد العزيز بن عمران، وحديث جعفر بن محمد عن أبيه في هذا أصح من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

(2/ 161 - 162).

(2)

(222).

ص: 467

وعبد العزيز بن عمران ضعيف في الحديث)

(1)

.

قلت: لا شك أن الثوري من أحفظ الناس، فلا شك أن روايته هي الراجحة.

‌ومن ترجيحه رواية الأحفظ أيضاً:

8 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في المشي أمام الجنازة: (حدثنا قتيبة وأحمد بن منيع وإسحاق بن منصور ومحمود بن غيلان، قالوا: حدثنا سفيان ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة.

حدثنا الحسن بن علي الخلال، قال: حدثنا عمرو بن عاصم، عن همام، عن منصور وبكر الكوفي وزياد وسفيان، كلهم يذكر أنه سمعه من الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة.

حدثنا عبد بن حميد، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة.

قال الزهري: وأخبرني سالم، أن أباه كان يمشي أمام الجنازة.

وفي الباب عن أنس.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر هكذا رواه ابن جريج وزياد بن سعد وغير واحد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، نحو حديث ابن عيينة.

وروى معمر ويونس بن يزيد ومالك وغيرهم من الحفاظ عن الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام الجنازة.

(1)

(2/ 181 - 182).

ص: 468

وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح.

قال أبو عيسى: وسمعت يحيى بن موسى يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: قال ابن المبارك: حديث الزهري في هذا مرسل أصح من حديث ابن عيينة.

قال ابن المبارك: وأرى ابن جريج أخذه عن ابن عيينة.

قال أبو عيسى: وروى همام بن يحيى هذا الحديث، عن زياد - وهو ابن سعد - ومنصور وبكر وسفيان عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وإنما هو سفيان بن عيينة روى عنه همام

قال: وحديث أنس في هذا الباب غير محفوظ.

حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي أمام الجنازة، وأبو بكر وعمر وعثمان.

سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث

(1)

أخطأ فيه محمد ابن بكر، وإنما يروى هذا

(2)

عن يونس، عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة.

قال الزهري: وأخبرني سالم: أن أباه كان يمشي أمام الجنازة.

قال محمد: هذا أصح)

(3)

.

قلت: وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه أبو عيسى من ترجيح رواية الإرسال وذلك لأمور:

(1)

في بعض النسخ: (حديث خطأ).

(2)

في بعض النسخ زيادة: (الحديث).

(3)

(2/ 251 - 253).

ص: 469

أ - أن من أرسل أتقنُ ممن وصل، فمالك من أتقن الناس في الزهري، كيف وقد تابعه معمر ويونس، وهما أيضاً من المقدَّمين في حديث الزهري؟!

ب - أن بعض من وصل أخذ بعضُهم عن بعض؛ فابن جريج فيما يظهر أخذه عن سفيان بن عيينة أو زياد بن سعد.

ج - أن من وصله سلك الجادة، بخلاف من أرسل فقد خالف الجادة، فتكون روايته هي المقدَّمة.

د - أن الذين أرسلوا فصَلوا المرفوع من الموقوف، فكانت روايتهم للموقوف موصولة، بخلاف المرفوع فإنهم قد فصلوه وبينوا أنه مرسلٌ، فدل هذا على حفظهم وعلمهم، فتُقدّم روايتهم على غيرهم.

وإلى هذا ذهب النَّسَائِي، قال: (أخبرنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن حجر وقتيبة بن سعيد، عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة.

قال أبو عبد الرحمن: هذا الحديث خطأ، وهم فيه ابن عيينة، خالفه مالك، رواه عن الزهري مرسلا.

أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا سفيان ومنصور وزياد وبكر، كلهم ذكر أنه سمعه من الزهري، يحدث أن سالما أخبره، أن أباه أخبره، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان يمشون بين يدي الجنازة.

بكر وحده لم يذكر عثمان.

قال لنا أبو عبد الرحمن: وهذا أيضاً خطأ، والصواب مرسل، وإنما أتى هذا عندي - والله أعلم - لأن هذا الحديث رواه الزهري عن سالم عن

ص: 470

أبيه: أنه كان يمشي أمام الجنازة، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة، وقال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم" إنما هو من قول الزهري.

قال ابن المبارك: الحفَّاظ عن ابن شهاب ثلاثة: مالك، ومعمر، وابن عيينة، فإذا اجتمع اثنان على قولٍ أخذنا به وتركنا قول الآخر.

قال لنا أبو عبد الرحمن: وذكر ابن المبارك هذا الكلام عند هذا الحديث)

(1)

.

وقد وقع في هذا الحديث اختلاف كثير، وقد استوفاه الدارقطني في كتابه "العلل"

(2)

.

وخالفهم البيهقي، فرجّح الوصل، قال في "السنن الكبرى" - بعد أن ساق أسانيد هذا الخبر -: (وقد اختلف على ابن جريج ومعمر في وصل الحديث، فروي عن كل واحد منهما الحديث موصولا، وروي مرسلا، وقد قيل: عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري.

وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو ذر محمد بن محمد بن عبد الرحمن حفدة أبي القاسم المذكر، قالا: ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني الحافظ، ثنا علي بن الحسن الدرابجردي، ثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا همام، عن سفيان يعني ابن عيينة ومنصور وزياد وبكر، كلهم ذكر أنه: سمع من الزهري، أن سالما أخبره، أن أباه أخبره، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان يمشون بين يدي الجنازة، غير أن بكرا لم يذكر عثمان.

تفرد به همام وهو ثقة، واختلف فيه على عقيل ويونس بن يزيد، فقيل عن كل واحد منهما عن الزهري موصولا، وقيل مرسلا، ومن وصله واستقر

(1)

"السنن الكبرى"(2/ 429 - 430).

(2)

(6/ 280 - 286).

ص: 471

على وصله ولم يختلف عليه فيه وهو سفيان بن عيينة حجة ثقة والله أعلم)

(1)

.

9 -

وقال أيضاً في باب النهي عن البول قائما: (وحديث عمر إنما روي من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: رآني النبي صلى الله عليه وسلم أبول قائماً، فقال:"يا عمر، لا تبل قائما"، فما بلت قائما بعد.

وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث؛ ضعفه أيوب السختياني وتكلم فيه.

وروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر: ما بلت قائما منذ أسلمت.

وهذا أصح من حديث عبد الكريم)

(2)

.

قلت: ما ذهب إليه أبو عيسى ظاهرٌ، فعبد الكريم لا يحتج به، وقد رواه عبيد الله بن عمر، وهو ثقةٌ ثبتٌ، عن نافع فوقفه، فتكون روايته هي الصحيحة.

والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها في (باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة)

(3)

، و (باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم)

(4)

، الحديث الثاني فيه.

الثاني: ترجيح رواية الأكثر، وهو كثيرٌ أيضاً في كتابه "الجامع"، وهو مسلكٌ مشهورٌ ومعروفٌ عند النقاد.

ومن الأمثلة على ذلك:

(1)

"السنن الكبرى"(4/ 35 - 36).

(2)

(1/ 281).

(3)

(2/ 165).

(4)

(2/ 167).

ص: 472

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في الرخصة في ذلك - أي في تزويج المحرم -: (حدثنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت أبا فزارة، يحدث عن يزيد بن الاسم، عن ميمونة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وبنى بها حلالا، وماتت بسرف، ودفناها في الظلة التي بنى بها فيها.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.

وروى غير واحد هذا الحديث عن يزيد بن الأصم مرسلا، أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة وهو حلال)

(1)

.

وهذا أيضاً ما جاء في "العلل الكبير"، قال:(وسألت محمدا عن حديث يزيد بن الأصم، فقال: إنما روي هذا عن يزيد بن الأصم أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، ولا أعلم أحدا قال: عن يزيد بن الأصم عن ميمونة، غير جرير بن حازم. قال: قلت له: فكيف جرير بن حازم؟ قال: هو صحيح الكتاب، إلا أنه ربما وهم في الشيء)

(2)

.

قلت: ضعف الترمذي رواية الوصل التي هي من طريق جرير بن حازم، وذلك بحكمه على حديثه بأنه غريب، لذا ذكره في "العلل الكبير"، ونقل عن شيخه البخاري ما يفيد ترجيح الإرسال؛ وذلك لأنَّه رواه غير واحدٍ مرسلاً عن يزيد بن الأصم، ومنهم الزهري كما في مسلم، ولأن من وصل هذا الخبر - وهو جرير بن حازم - له بعض الأوهام إذا حدث من حفظه، وهذا ما رجحه أيضاً الدارقطني

(3)

.

2 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في الجمع بين المغرب والعشاء

(1)

(2/ 170).

(2)

(224).

(3)

ينظر: "صحيح مسلم"(1411)، و"علل الدارقطني"(9/ 262).

ص: 473

بالمزدلفة: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، أن ابن عمر صلى بجْمعٍ فجمع بين الصلاتين بإقامة، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل هذا في هذا المكان.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

قال محمد بن بشار: قال يحيى: والصواب حديث سفيان.

وفي الباب عن علي، وأبي أيوب، وعبد الله بن مسعود، وجابر، وأسامة بن زيد.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر رواية سفيان أصح من رواية إسماعيل ابن أبي خالد، وحديث سفيان حديث حسن صحيح.

قال: وروى إسرائيل هذا الحديث عن أبي إسحاق، عن عبد الله وخالد ابني مالك، عن ابن عمر.

وحديث سعيد بن جبير عن ابن عمر هو حديث حسن صحيح أيضاً، رواه سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير.

وأما أبو إسحاق فإنما روى عن عبد الله وخالد ابني مالك، عن ابن عمر)

(1)

.

قلت: قدم رواية سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي، على رواية إسماعيل بن أبي خالد، وذلك لأنهما اثنان، وهما أيضاً أوثق في أبي إسحاق من إسماعيل بن أبي خالد.

(1)

(2/ 191).

ص: 474

3 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في الصوم بالشهادة: (حدثنا محمد ابن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الصباح، قال: حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الهلال، قال:"أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمدا رسول الله؟ " قال: نعم، قال:"يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غدا".

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن سماك، نحوه

(1)

.

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس فيه اختلاف، روى سفيان الثوري وغيره، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا)

(2)

.

قلت: كما ذكر أبو عيسى أن الأكثر رووه مرسلاً، فرجح الإرسال، كما هو ظاهر صنيعه.

4 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء: (حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة، والقيء، والاحتلام".

قال أبو عيسى: حديث أبي سعيد الخدري حديث غير محفوظ.

وقد روى عبد الله بن زيد بن أسلم وعبد العزيز بن محمد وغير واحد هذا الحديث، عن زيد بن أسلم مرسلا، ولم يذكروا فيه: عن أبي سعيد.

(1)

في بعض النسخ زيادة: (بهذا الإسناد).

(2)

(2/ 86).

ص: 475

وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم يضعف في الحديث، سمعت أبا داود السجزي يقول: سألت أحمد بن حنبل، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقال: أخوه عبد الله بن زيد لا بأس به.

وسمعت محمدا يذكر، عن علي بن عبد الله، قال: عبد الله بن زيد بن أسلم ثقة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف.

قال محمد: ولا أروي عنه شيئا)

(1)

.

قلت: في هذا الحديث: الترجيح برواية الأكثر والأوثق، فالدّراوردي صدوق جيد الحديث، بخلاف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فهو متروك؛ كيف وقد تابع الدّراوردي: عبد الله بن زيد بن أسلم - وهو أقوى من أخيه أيضاً - وغير واحد.

5 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في الرخصة في ذلك - يعني في البول قائما -: (حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال عليها قائما، فأتيته بوضوء، فذهبت لأتأخر عنه، فدعاني حتى كنت عند عقيبه، فتوضأ ومسح على خفيه.

قال أبو عيسى: وسمعت الجارود، يقول: سمعت وكيعاً يحدث بهذا الحديث، عن الأعمش، ثم قال وكيع: هذا أصحّ حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح.

وسمعت أبا عمار الحسين بن حريث، يقول: سمعت وكيعا، فذكر نحوه.

وهكذا روى منصور وعبيدة الضبي، عن أبي وائل، عن حذيفة، مثل رواية الأعمش.

(1)

(2/ 101).

ص: 476

وروى حماد بن أبي سليمان وعاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي وائل عن حذيفة أصح.

وقد رخص قوم من أهل العلم في البول قائماً)

(1)

.

قلت: مع كون طريق المغيرة اتفق عليها اثنان وهما عاصم وحماد، ومع ذلك لم يذهب يصحح أبو عيسى روايتهما، بل رجح أن ذلك وهمٌ، وأن الصواب رواية الأعمش ومنصور؛ وذلك لكونهما أحفظ وأتقن، وقد تابعهما عبيدة الضبي أيضاً، بخلاف أبي بكر ابن خزيمة فإنه قد ذهب إلى تصحيح كلتا الروايتين

(2)

، وهذا ما يسلكه كثير من المتأخرين، بخلاف طريقة المتقدمين فإنهم يذهبون إلى الترجيح، لذا أنا أذهب إلى ما ذهب إليه أبو عيسى.

ومثل ذلك ما جاء في الباب الذي قبله - باب النهي عن البول قائما -:

6 -

فقد قال أبو عيسى: (وفي الباب عن عمر وبريدة). ثم قال في نهاية الباب: (وحديث بريدة في هذا غير محفوظ)

(3)

.

قلت: حديث بريدة أخرجه البزار قال: (حدثنا نصر بن علي، قال: أخبرنا عبد الله بن داود، قال: حدثنا سعيد بن عبيد الله، قال: حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائما، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده".

وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه إلا سعيد بن عبيد الله،

(1)

(1/ 282).

(2)

"صحيح ابن خزيمة"(63).

(3)

(1/ 281).

ص: 477

ورواه عن سعيد: عبد الله بن داود، وعبد الواحد بن واصل، ولا نعلم رواه عن عبد الله إلا نصر بن علي)

(1)

.

قلت: قال الهيثمي: (رجال البزار رجال الصحيح)

(2)

.

قال ابن سيد الناس بعد أن ذكر طريق البزار: (إن لم يكن لهذا الحديث علة فهو أقوى من حديث عائشة

(3)

، فإن سعيد بن عبيد الله احتج به البخاري، ووثقه أحمد ويحيى وأبو زرعة)

(4)

.

قلت: هذه الطريق معلولةٌ، وقد بين علتها أبو بكر البيهقي، فقال: (أخبرنا أبو زكريا بن المزكي، أبنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد ابن عبد الوهاب، أبنا جعفر بن عون، أبنا سعيد، عن قتادة، عن ابن بريدة، عن ابن مسعود، أنه كان يقول:"أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائما، وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره، ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته، وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه في قوله".

وكذلك رواه الجريري، عن ابن بريدة، عن ابن مسعود.

ورواه سعيد بن عبيد الله بن زياد بن جبير بن حية، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، إلا أنه قال:"والنفخ في الصلاة" بدل المرور، ولم يقل:"أربع"، قال البخاري: هذا حديث منكر، يضطربون فيه)

(5)

.

(1)

"مسند البزار"(4424).

(2)

"مجمع الزوائد"(2/ 83).

(3)

يشير إلى حديث: "من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا".

(4)

"النفح الشذي"(1/ 139).

(5)

"السنن الكبرى"(3552).

ص: 478

7 -

وقال أيضاً في باب كراهية ما يستنجى به: (حدثنا هناد، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن".

وفي الباب عن أبي هريرة، وسلمان، وجابر، وابن عمر.

قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن إبراهيم وغيره، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله، أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، الحديث بطوله، وقال الشعبي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن".

وكأن رواية إسماعيل أصح من رواية حفص بن غياث)

(1)

.

قلت: مع أن حفص بن غياث من الثقات المشهورين، إلا أن أبا عيسى مال إلى أن روايته غير محفوظة، وأن الأرجح رواية ابن علية، وهذا لأمرين:

الأول: أن ابن علية أتقن وأحفظ، وقد توبع على ذلك.

الثاني: أن معه زيادة علمٍ، فقد بيّن في هذا الخبر المرسلَ من الموصول، وبالتالي تكون روايته هي الأرجح، لذا لم يقل أبو عيسى أن حفص بن غياث قد وصل هذا الخبر، وأنها زيادة ثقة فتقبل.

وينظر الكلام على هذا مع زيادة تفصيلٍ في موضعه من "الجامع".

وينظر أيضاً: "صحيح مسلم"

(2)

فقد ساق الخلاف، و"التتبع"

(3)

(1)

(1/ 287).

(2)

(450).

(3)

"الإلزامات والتتبع"(98).

ص: 479

و"العلل"

(1)

للدارقطني، و"الفصل للوصل" للخطيب البغدادي

(2)

.

8 -

وقال أيضاً في باب ما جاء أنه يصلي الصلوات بوضوء واحد: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح صلى الصلوات كلها بوضوء واحد ومسح على خفيه، فقال عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن فعلته، قال:"عمدا فعلته".

هذا حديث حسن صحيح.

قال أبو عيسى: وروى هذا الحديث علي بن قادم، عن سفيان الثوري، وزاد فيه: توضأ مرة مرة.

وروى سفيان الثوري هذا الحديث أيضاً، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة.

ورواه وكيع، عن سفيان، عن محارب، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه.

وروى عبد الرحمن بن مهدي وغيره، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، وهذا أصح من حديث وكيع)

(3)

.

قلت: وكيع من كبار الحفاظ، وقد زاد فوصل الخبر، ومع ذلك لم يقبل منه أبو عيسى هذه الزيادة، وإنما رجح رواية ابن مهدي المرسلة، وذلك لمزيد حفظه وإتقانه، كيف وقد توبع على ذلك؟!

(1)

(2/ 352).

(2)

(2/ 624) وما بعدها.

(3)

(1/ 313).

ص: 480

‌الثالث من أوجه الترجيح: أن يأتي عن الراوي نفي لما روي عنه:

ومن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله في باب ما جاء في إيجاب القضاء عليه: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا كثير بن هشام، قال: حدثنا جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدرتني إليه حفصة، وكانت ابنة أبيها، فقالت: يا رسول الله، إنا كنا صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، قال:"اقضيا يوما آخر مكانه".

قال أبو عيسى: وروى صالح بن أبي الأخضر ومحمد بن أبي حفصة هذا الحديث، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مثل هذا.

وروى مالك بن أنس ومعمر وعبيد الله بن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ، عن الزهري، عن عائشة مرسلا، ولم يذكروا فيه: عن عروة، وهذا أصح؛ لأنَّه روي عن ابن جريج قال: سألت الزهري فقلت له: أحدّثك عروة عن عائشة؟ قال: لم أسمع من عروة في هذا شيئا، ولكني سمعت في خلافة سليمان بن عبد الملك من أناس، عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث)

(1)

.

قلت: نفي الزهري أن يكون سمع هذا الحديث من عروة؛ قرينةٌ ظاهرةٌ ودليلٌ أكيدٌ على تعليل رواية من روى عنه، عن عروة، عن عائشة، وهذا ما ذهب إليه أبو عيسى.

‌الرابع: الترجيح بمجيء الحديث من وجه آخر موافقٍ له، وهذا أمر متفق عليه بين أهل الحديث.

(1)

(2/ 110).

ص: 481

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في وقت صلاة العشاء الآخرة: (حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن بشير بن ثابت، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بسقوط القمر لثالثة.

حدثنا أبو بكر محمد بن أبان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، بهذا الإسناد نحوه.

قال أبو عيسى: روى هذا الحديث هشيم، عن أبي بشر، عن حبيب ابن سالم، عن النعمان بن بشير، ولم يذكر فيه هشيم: عن بشير بن ثابت.

وحديث أبي عوانة أصح عندنا؛ لأن يزيد بن هارون روى عن شعبة، عن أبي بشر، نحو رواية أبي عوانة)

(1)

.

2 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده: (حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن هلال بن يساف، قال: أخذ زياد بن أبي الجعد بيدي ونحن بالرقة، فقام بي على شيخ يقال له: وابصة بن معبد، من بني أسد، فقال زياد: حدثني هذا الشيخ أن رجلا صلى خلف الصف وحده - والشيخ يسمع - فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة.

وفي الباب عن علي بن شيبان، وابن عباس.

قال أبو عيسى: حديث وابصة حديث حسن

(1)

(1/ 380 - 381).

ص: 482

وروى حديث حصين عن هلال بن يساف غير واحد، مثل رواية أبي الأحوص عن زياد بن أبي الجعد عن وابصة.

وفي حديث حصين ما يدل على أن هلالا قد أدرك وابصة.

واختلف أهل الحديث في هذا:

فقال بعضهم: حديث عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو ابن راشد، عن وابصة أصح.

وقال بعضهم: حديث حصين، عن هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة بن معبد أصح.

قال أبو عيسى: وهذا عندي أصح من حديث عمرو بن مرة؛ لأنَّه روي من غير حديث هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة ابن معبد)

(1)

.

قلت: رجح أبو عيسى طريق حصين عن هلال بن يساف، وذلك لأنَّه قد روي من غير طريق هلال، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة، فدل هذا على أن طريق حصين محفوظةٌ.

3 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في الإشارة في الصلاة: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نابل صاحب العباء، عن ابن عمر، عن صهيب، قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد إليّ إشارة، وقال: لا أعلم إلا أنه قال: إشارة بإصبعه.

وفي الباب عن بلال، وأبي هريرة، وأنس، وعائشة.

(1)

(1/ 418 - 419).

ص: 483

حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قلت لبلال: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وحديث صهيب حسن، لا نعرفه إلا من حديث الليث عن بكير.

وقد روي عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر قال: قلت لبلال: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حيث كانوا يسلمون عليه في مسجد بني عمرو بن عوف، قال: كان يرد إشارة.

وكلا الحديثين عندي صحيح

(1)

؛ لأن قصة حديث صهيب غير قصة حديث بلال، وإن كان ابن عمر روى عنهما فاحتمل أن يكون سمع منهما جميعا)

(2)

.

قلت: لم يجعلهما حديثاً واحداً، وسبب ذلك: أن الأول رواه ابن عمر عن صهيب، وأن ذلك كان بمرورٍ منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثاني رواه عن بلال، وكان عن سؤالٍ منه له.

فتبين أنهما قصتان، وهذا ما قاله أبو عيسى، وبالتالي هما حديثان وليسا بحديثٍ واحدٍ، وحينئذٍ لا يحتاج أن نرجح أحدهما على الآخر، هذا مع اختلاف مخرجهما.

4 -

ومثله ما جاء في باب ما جاء في السواك، فقد روى من طريق

(1)

وأما قوله: (وكلا الحديثين عندي صحيح) وهو إنما صحح أحدهما دون الآخر، فالجواب عن ذلك، كأنه أراد فقط أن يبين أنهما ليس بحديثٍ واحدٍ كما تقدم شرحه، وأنَّه لا يريد صحة طريق ابن عمر عن صهيب.

(2)

(1/ 495).

ص: 484

محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رفعه:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"

(1)

.

وقد روى هذا الحديث أيضاً محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، فجعله عن زيد بن خالد الجُهَني، ولفظه كالسابق، وزاد:"ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل". قال: فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استن ثم رده إلى موضعه

(2)

.

فهل هذان الحديثان متغايران؟ أم هما حديث واحد أخطأ الراوي فيه، فعندئذٍ نحتاج إلى الترجيح بينهما؟

ذهب البخاري للثاني، قال الترمذي:(وأما محمد فزعم أن حديث أبي سلمة عن زيد بن خالد أصح).

قلت: وأما أبو عيسى فذهب إلى الأول، وأنهما حديثان متغايران، قال:(كلاهما عندي صحيحٌ؛ لأنَّه قد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وإنما صح؛ لأنَّه قد روي من غير وجه).

قلت: أنا أذهب إلى ما ذهب إليه أبو عيسى، وذلك:

أولاً: لأن الخبر رُوي عن أبي هريرة من غير وجهٍ، كما تقدم، وهذا يدل على أنه محفوظ.

ثانياً: أن محمد بن عمرو أقوى من محمد بن إسحاق، فهذا يؤيد كونه محفوظاً عن أبي هريرة.

ولكن مع ذلك لا أقول بأن طريق زيد بن خالد خطأ؛ فقد جاء ما يدل

(1)

(1/ 290).

(2)

(1/ 290)، رقم 23).

ص: 485

على أنها محفوظةٌ أيضاً؛ لأن فيها قصةً، وهي ما جاء بأن زيد بن خالد كان يضع السواك في أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، ومما يؤكد أيضاً صحة هذا الوجه؛ أن الراوي قد خالف الجادة في حديث أبي سلمة، وذلك أن الغالب على حديثه عن أبي هريرة كما هو معلومٌ، وعند الحفاظ أن من خالف الجادة يقدم على غيره؛ لأنَّه يدل على حفظه، وبالتالي كلا الوجهين قد جاء ما يدل على صحته.

وهذا وغيره ما جعل أبا عيسى يصحح كلا الوجهين، بخلاف البخاري الذي رجّح طريق زيد بن خالد، وبالتالي يكون قد حكم على طريق أبي هريرة بالخطأ، وهذا فيه نظر؛ لأن الحديث جاء من أوجهٍ أخرى عن أبي هريرة، فيكون قول أبي عيسى هو الأرجح.

وهذه قضيةٌ دقيقةٌ في "علم العلل"، وذلك أن كثيراً من الأحاديث الضعيفة أصلها أحاديثُ صحيحةٌ

(1)

أخطأ الراوي فيها، أو بعض

(1)

ومثال ذلك: ما أخرجه الترمذي (1/ 528): (حدثنا عقبة بن مكرم العمي البصري، قال: حدثنا عمرو بن عاصم، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يصلّ ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس".

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد روي عن ابن عمر: أنه فعله.

ولا نعلم أحدا روى هذا الحديث عن همام بهذا الإسناد نحو هذا إلا عمرو بن عاصم الكلابي، والمعروف من حديث قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح").

قلت: بيّن أبو عيسى أن الحديث الأول هنا أصلٌ للحديث الثاني، كما رواه الإمام أحمد (8570) قال: حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام به. وأخرجه ابن خزيمة (986)، وابن حبان (1577)، من طريقه. وأخرجه الدارقطني (1435)، والحاكم =

ص: 486

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= (1013)، من طريق محمد بن سنان، عن همام به.

وقد جاء وجه آخر عن همام سوى ما تقدم، قال الدارقطني (1531):(حدثنا أحمد ابن عباس البغوي، حدثنا عباد بن الوليد، حدثنا عفان، قال: حدثنا همام، قال: سُئل قتادة عن رجل صلى ركعة من صلاة الصبح ثم طلعت الشمس، قال: حدثني خلاس، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتم صلاته"). وهو عند أحمد (10359).

وأخرجه الدارقطني أيضاً (1434) من طريق أحمد بن عتيق العتيقي المروزي، حدثنا محمد بن سنان العوقي، حدثنا همام، عن قتادة، عن خلاس به، كما تقدم. قال الحاكم (1014) بعد أن أخرجه من طريق العتيقي بالإسنادين - أي: قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، وقتادة، عن خلاس، عن أبي رافع -:(كلا الإسنادين صحيحان)، مع أنه قد قال بعد أن أخرج الإسناد الأول من طريق العتيقي، عن محمد بن سنان، عن همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس:(حديث صحيح على شرط الشيخين إن كان محفوظاً بهذا الإسناد، فإن أحمد بن عتيق هذا ثقة إلا أنه حدث به مرة أخرى بإسنادٍ آخر) ثم ساق الإسناد الآخر كما تقدم.

قلت: وقد أخرجه الدارقطني في "سننه"(1432) من طريق معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن عزرة بن تميم، عن أبي هريرة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا صلى أحدكم ركعة من صلاة الصبح، ثم طلعت الشمس، فليصل إليها أخرى".

ومن الأمثلة أيضاً: قال الترمذي (1/ 579 - 580): (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكلم بالحاجة إذا نزل عن المنبر.

قال أبو عيسى: هذا حديث [في طبعة بشار زيادة: غريب، وقال المحقق: زيادة من تحفة الأشراف] لا نعرفه إلا من حديث جرير بن حازم.

سمعت محمدا يقول: وهِم جرير بن حازم في هذا الحديث، والصحيح ما روي عن ثابت، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة فأخذ رجل بيد النبي صلى الله عليه وسلم فما زال يكلمه حتى نعس بعض القوم.

قال محمد: والحديث هو هذا، وجرير بن حازم ربما يهِم في الشيء، وهو صدوق.

قال محمد: وهِم جرير بن حازم في حديث ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني". =

ص: 487

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قال محمد: ويروى عن حماد بن زيد، قال: كنا عند ثابت البناني، فحدث حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" فوهِم جرير، فظن أن ثابتا حدثهم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا الحسن بن علي الخلال، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ثابت، عن أنس، قال: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تقام الصلاة يكلمه الرجل، يقوم بينه وبين القبلة فما يزال يكلمه، ولقد رأيت بعضهم ينعس من طول قيام النبي صلى الله عليه وسلم له.

قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح).

ومن الأمثلة أيضاً: قال الترمذي (2/ 10): (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك، إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب.

قال أبو عيسى: حديث معاذ حديث حسن غريب، تفرد به قتيبة لا نعرف أحدا رواه عن الليث غيره.

وحديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ حديث غريب. والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ، من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.

رواه قرة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك، وغير واحد، عن أبي الزبير المكي).

قلت: تبين مما تقدم أن حديث قتيبة خطأٌ من حيث الإسناد والمتن، أما الإسناد فالصواب أنه من حديث أبي الزبير، وقد رواه عنه جمعٌ؛ مالكٌ وغيره، عن أبي الطفيل، عن معاذٍ، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظهر، والعصر

" الحديث، وهذا مخالفٌ للمتن الذي جاء من حديث قتيبة، كما بيَّن أبو عيسى.

ص: 488

التي تروى على أوجهٍ متعددةٍ، قد يكون أصلها حديثا واحدا أخطأ فيه الراوي، فرواه على وجه آخر، وحينئذٍ على الناقد أن ينظر في هذه الأحاديث فيوازن بينها؛ هل هي حديث واحد، أو أحاديثُ متغايرة، كما هو صنيع نقاد أئمة الحديث من المتقدمين، بخلاف كثيرٍ من الفقهاء وممن تأخر من أهل الحديث، الذين يعتبرون في كثيرٍ من الأحيان كلّ وجهٍ حديثاً مستقلاً.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

ما قاله في باب ما جاء في القراءة خلف الإمام: (حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال:"إني أراكم تتقرؤون وراء إمامكم"، قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال:"فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".

قال: حديث عبادة حديث حسن.

وروى هذا الحديث الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وهذا أصح)

(1)

.

قلت: بيّن أبو عيسى أن هذين الطريقين هما في الأصل حديثٌ واحدٌ، وبالتالي لا بد من الترجيح بين الطريقين، وعندئذٍ تكون طريق الزهري أصح، بينما غيره ذهب إلى أنهما حديثان.

2 -

ومثل هذا: ما جاء في باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف

(1)

(1/ 465).

ص: 489

من صلاة القائم: (حدثنا علي بن حجر، قال: حدثنا عيسى بن يونس، قال: حدثنا الحسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عمران بن حصين، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد؟ فقال: "من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلاها قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلاها نائما فله نصف أجر القاعد".

وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وأنس، والسائب.

قال أبو عيسى: حديث عمران بن حصين حديث حسن صحيح.

وقد روي هذا الحديث عن إبراهيم بن طهمان بهذا الإسناد، إلا أنه يقول: عن عمران بن حصين قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض؟ فقال: "صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب".

قال أبو عيسى: حدثنا بذلك هناد، قال: حدثنا وكيع، عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، بهذا الحديث.

لا نعلم أحدا روى عن حسين المعلم نحو رواية إبراهيم بن طهمان.

وقد روى أبو أسامة وغير واحد، عن حسين المعلم نحو رواية عيسى بن يونس)

(1)

.

قلت: ذهب البخاري إلى أن هذيْن الحديثيْن متغايران، بخلاف أبي عيسى فإنه ذهب إلى أنهما حديثٌ واحدٌ، اختلف فيه على حسين المعلم، لذا ذهب إلى ترجيح رواية الأكثر وهي رواية عيسى بن يونس وأبي أسامة وغيرهما على رواية إبراهيم بن طهمان، والذي تفرد بها.

(1)

(1/ 497).

ص: 490

ودليله على ذلك أن مخرجهما واحدٌ، وبالتالي هما حديثٌ واحدٌ اختلف فيه على راويه.

3 -

ومثله أيضاً ما جاء في باب فيمن يتطوع جالسا: (وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي من الليل جالسا، فإذا بقي من قراءته قدر ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأ، ثم ركع، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك.

وروي عنه أنه كان يصلي قاعدا، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد.

قال أحمد، وإسحاق: والعمل على كلا الحديثين.

كأنهما رأيا كلا الحديثين صحيحاً معمولا بهما)

(1)

.

قلت: جعل كلا الوجهيْن صحيحاً، ومن الأدلة على ذلك؛ أنّ كلا الوجهين قد رواهما ثقاتٌ مشاهيرُ، مع اختلاف المتن الأول عن الثاني، وبالتالي هما خبران متغايران، وهذا ما ذهب إليه الإمامان أحمد وإسحاق.

الخامس من أوجه الترجيح: أن يكون الإسناد الذي روي به الحديث قد روي به أحاديث أخرى، مما يدل على أنه مشهور، ليس بغريب، وبالتالي يبعد الخطأ في مثل هذه الحالة.

ومن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله في باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة: (حدثنا علي بن نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا سهل بن حماد، قال: حدثنا همام، قال: حدثني قتادة، عن الحسن، عن حريث بن قبيصة، قال: قدمت المدينة، فقلت: اللهم يسر لي جليسا صالحا، قال فجلست إلى أبي هريرة،

الحديث.

(1)

(1/ 499).

ص: 491

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، عن أبي هريرة.

وقد روى بعض أصحاب الحسن، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، غير هذا الحديث.

والمشهور هو قبيصة بن حريث.

وروي عن أنس بن حكيم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا)

(1)

.

قلت: قول أبي عيسى: (وقد روى بعض أصحاب الحسن، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، غير هذا الحديث)، يريد بهذا أن يدلل على أن الطريق السابقة ليست بالخطأ، بدليل أنه قد رُوي بهذا الإسناد أكثر من متنٍ.

والسادس من أوجه الترجيح: أن يُروى الحديث من وجهيْن: أحدهما مشهورٌ، والثاني غريبٌ، فيكون الراجحَ الوجهُ المشهورُ، وأما الغريب فغالبا يكون خطأ من أحد الرواة، رواه على الوجه الذي لا يُعرف.

ومن أمثلة ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في تخفيف ركعتي الفجر والقراءة فيها: (حدثنا محمود بن غيلان وأبو عمار، قالا: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: رمقت النبيّ صلى الله عليه وسلم شهرا فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر، بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

(1)

(1/ 522).

ص: 492

وفي الباب عن ابن مسعود، وأنس، وأبي هريرة، وابن عباس، وحفصة، وعائشة.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن، ولا نعرفه من حديث الثوري، عن أبي إسحاق، إلا من حديث أبي أحمد.

والمعروف عند الناس حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق.

وقد روي عن أبي أحمد، عن إسرائيل، هذا الحديث أيضاً.

وأبو أحمد الزبيري ثقة حافظ.

قال: سمعت بندارا، يقول: ما رأيت أحدا أحسن حفظا من أبي أحمد الزبيري.

وأبو أحمد اسمه: محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي)

(1)

.

قلت: قد رواه عبد الرزاق عن الثوري به، كما في "المصنف"

(2)

- وعنه أحمد في "المسند"

(3)

، فقال: أخبرنا الثوري به.

وأما رواية إسرائيل فأخرجها أحمد، عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به

(4)

.

وقد رواه غيرهما عن أبي إسحاق، فرواه أبو الأحوص ومعمر وعمرو بن قيس وشريك، ينظر:"العلل" للدارقطني

(5)

.

وهذا الخبر لا يصح، كما بين ذلك مسلم في "التمييز"

(6)

، والدارقطني في "العلل"

(7)

.

(1)

(1/ 524).

(2)

(4841).

(3)

(4909).

(4)

"المسند"(4763).

(5)

(7/ 115).

(6)

(173 - 176).

(7)

(7/ 117 - 118).

ص: 493

والشاهد من ذلك: أن أبا عيسى مرّض القول في رواية الثوري، باعتبار غرابتها عنده، وأن الزبيري تفرد بها عنه، ولكن تبين مما تقدم أنه لم يتفرد بها عن الثوري، وظاهر صنيع أبي عيسى تقديم رواية إسرائيل باعتبار أنها هي المشهورة.

2 -

وقال أيضاً في باب الوضوء لكل صلاة: (حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن حميد، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، قال: قلت لأنس: فكيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: كنا نتوضأ وضوءا واحدا.

قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن غريب

(1)

، والمشهور عند أهل الحديث حديث عمرو بن عامر، عن أنس

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ابن مهدي قالا: حدثنا سفيان بن سعيد، عن عمرو بن عامر الأنصاري، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قلت: فأنتم ما كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(2)

.

قلت: قدم أبو عيسى الرواية المشهورة - وهي رواية عمرو بن عامر - على الغريبة - وهي رواية ابن إسحاق عن حميد -، فصحح الأولى بخلاف الثانية.

هذه بعض أوجه الترجيح، وثمة أوجه غيرها.

* * *

(1)

في طبعة بشار: (غريب)، وفي شاكر:(حسن غريب)، وعند كليهما زيادة (من هذا الوجه).

(2)

(1/ 311 - 312).

ص: 494

الوجه السادس عشر: أنه أحيانا يصحح كلا الوجهين.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في التعوذ للمريض: (حدثنا بشر بن هلال البصري الصواف، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن عبد العزيز ابن صهيب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال: "نعم"، قال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس وعين حاسدة، باسم الله أرقيك والله يشفيك.

حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن عبد العزيز بن صهيب، قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت، فقال أنس: أفلا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال:"اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما".

وفي الباب عن أنس، وعائشة.

قال أبو عيسى: حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح.

وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث، فقلت له: رواية عبد العزيز، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أصح، أو حديث عبد العزيز، عن أنس، قال: كلاهما صحيح.

أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، وعن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس)

(1)

.

(1)

(2/ 234 - 235).

ص: 495

قلت: قد يُظن أن هذا الحديث وقع فيه اختلاف على عبد العزيز بن صهيب، فروي مرةً عنه عن أبي نضرة عن أبي سعيد، ومرة أخرى عنه عن أنس، لذا سأل أبو عيسى أبا زرعة عن هذا الاختلاف، فأجابه بصحة كلا الإسنادين، وأقر ذلك أبو عيسى، وهذا ما ذهب إليه غيرهما من الحفاظ؛ فقد خرَّج الإمام مسلم حديث أبي سعيد

(1)

، وخرّج البخاري حديث أنس

(2)

، فهما حديثان صحيحان.

وبالتالي ليس هو اختلاف على عبد العزيز بن صهيب، فلا يقال إن رواية من رواه عنه عن أبي نضرة عن أبي سعيد أصحّ؛ لأن هذا مخالف للجادة في حديث عبد العزيز، وأنَّه في الغالب عن أنس؛ بل كلا الحديثين صحيح كما تقدم؛ لأن كلا الطريقين ثابت عنه.

2 -

وقال أيضاً: (حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن أهل الجنة ليتراءون في الغرفة، كما تتراءون الكوكب الشرقي أو الكوكب الغربي الغارب في الأفق، أو الطالع في تفاضل الدرجات"، فقالوا: يا رسول الله، أولئك النبيون؟ قال:"بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين".

هذا حديث صحيح)

(3)

.

قلت: هذا الحديث قد حكم الترمذي بصحته، ولم يقل: حسن صحيح، كما هو الغالب على طريقته ومنهجه، وهذا فيما يظهر من أجل الاختلاف الذي وقع في صحابي الحديث، هل هو أبو هريرة أم أبو سعيد؟

(1)

"صحيح مسلم"(2186).

(2)

"صحيح البخاري"(5742).

(3)

(3/ 481).

ص: 496

فالبخاري، ومسلم

(1)

أخرجاه من طريق مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري.

والترمذي يرى أيضاً صحة طريق فليح بن سليمان، ومثله ابن خزيمة في "التوحيد"، ونقل عن محمد بن يحيى الذهلي أنه يميل إلى صحة كلا الوجهين، فقال: (حدثنا محمد بن يحيى - في عقب خبر عطاء بن يسار -، عن أبي سعيد، في ذكر أهل الغرف من الجنة، قال: ثنا سريج بن النعمان، قال: ثنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة" بهذا، يريد بمثل حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو بكر رضي الله عنه: قال لنا محمد بن يحيى: لا أبعد أن يكون عطاء ابن يسار قد سمعه من أبي سعيد، وأبي هريرة، رضي الله عنهما)

(2)

.

وأيضاً نقل الدارقطني في "الغرائب" كلام الذهلي، قال ابن حجر في "الفتح":(ونقل الدارقطني في "الغرائب" عن الذهلي أنه قال: لست أدفع حديث فليح؛ يجوز أن يكون عطاء بن يسار حدث به عن أبي سعيد وعن أبي هريرة)

(3)

.

قلت: لا شك أن طريق أبي سعيد أصح، وذلك أن طريق مالك أقوى بكثير من طريق فليح، كيف وقد جاء عن أبي سعيد من وجه آخر كما تقدم عند البخاري، وقال أيضاً: (حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز، عن أبيه، عن سهل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة، كما تتراءون الكوكب في السماء".

(1)

"صحيح البخاري"(3256)، "صحيح مسلم"(2831).

(2)

"التوحيد"(2/ 907).

(3)

"فتح الباري" لابن حجر (6/ 327).

ص: 497

قال أبي: فحدثت به النعمان بن أبي عياش، فقال: أشهد لسمعت أبا سعيد، يحدث ويزيد فيه:"كما تراءون الكوكب الغارب في الأفق: الشرقي والغربي")

(1)

.

وجاء أيضاً من حديث عطية عن أبي سعيد بنحوه، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه

(2)

، وغيرهم عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الدرجات العلى يراهم من أسفل منهم كما يرى الكوكب الطالع في الأفق من آفاق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما".

والذي يظهر لي أن أبا عيسى يذهب إلى أن كلا الوجهين محفوظ، وهو ما ذهب إليه الذهلي وابن خزيمة.

* * *

(1)

"الصحيح"(6555)(6556).

(2)

"سنن أبي داود"(3987)، "جامع الترمذي"(4006) وحسنه، "سنن ابن ماجه"(96) واللفظ له.

ص: 498

الوجه السابع عشر: ليس كل خبر ضعيف تعددت طرقه يكون بمجموعها قوياً عند أبي عيسى.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب في التسمية عند الوضوء: (حدثنا نصر بن علي الجهضمي وبشر بن معاذ العقدي البصري، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن ابن أبي سفيان بن حويطب، عن جدته، عن أبيها، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه".

وفي الباب عن عائشة، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد، وأنس.

قال أبو عيسى: قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد

قال محمد بن إسماعيل: أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن.

قال أبو عيسى: ورباح بن عبد الرحمن، عن جدته، عن أبيها، وأبوها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.

وأبو ثفال المري اسمه: ثمامة بن حصين.

ورباح بن عبد الرحمن، هو أبو بكر بن حويطب.

منهم من روى هذا الحديث، فقال: عن أبي بكر بن حويطب، فنسبه إلى جده)

(1)

.

(1)

(1/ 292 - 293).

ص: 499

قلت: وذكر هذا الحديث في كتابه "العلل"

(1)

وساق طرقاً أخرى له، ومع ذلك لم يقل بتقويته بمجموع طرقه، والسبب في ذلك أنها معارضة بما هو أصح منها، وذلك أن الأحاديث الصحيحة التي فيها بيان صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم لم يذكر فيها أنه كان يسمي، وإنما جاء ذلك في أحاديث ضعيفة، وبالتالي أصبحت هذه الأحاديث ضعيفة ولا تتقوى مع بعضها، ولو لم يكن ثَمّ ما يعارضها من الصحيح؛ لكان القول بتقويتها وجيهاً.

ويؤكد هذا، أنه قد حُفظ عنه صلى الله عليه وسلم ماذا كان يقول بعد الوضوء.

2 -

وقال أيضاً في باب المنديل بعد الوضوء: (حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، عن زيد بن حباب، عن أبي معاذ، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء.

وفي الباب عن معاذ بن جبل.

حدثنا قتيبة، قال: حدثنا رشدين بن سعد، عن عبد الرحمن بن زياد ابن أنعم، عن عتبة بن حميد، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وإسناده ضعيف، ورشدين بن سعد، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي؛ يضعفان في الحديث.

قال أبو عيسى: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، وأبو معاذ يقولون: هو سليمان بن أرقم، وهو ضعيف عند أهل الحديث)

(2)

.

(1)

(ص: 31 - 33).

(2)

(1/ 308 - 309).

ص: 500

قلت: قد جاء هذا الحديث من أكثر من طريق، ولا يصح شيء منها، كما أنها لا تتقوى بمجموعها، وذلك لشدة ضعفها ونكارتها، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم وليس فيها أنه كان له خرقة يتنشف بها، بل جاء في "الصحيحين" من حديث ميمونة أنها عندما ناولتْه المنديل ردّه

(1)

، لذا قال أبو عيسى:(ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيءٌ).

ولهذأ أخطأ من قوّى هذه الأحاديث بمجموع طرقها.

ومثل هذا "مسح الوجه باليدين بعد الدعاء"، فقد جاءت عدة أحاديث ولكنها كلها ضعيفة، فهل تتقوى بمجموع طرقها؟

ذهب الحافظ ابن حجر إلى ذلك

(2)

.

وذهب الإمام ابن تيمية إلى خلاف ذلك، فقال بضعفها

(3)

، وأنا أذهب إلى ذلك؛ لأنَّه قد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في كونه عليه الصلاة والسلام دعا ورفع يديه، ولكن لم يأت في واحد منها أنه مسح بيديه على وجهه، فلو كان المسح محفوظا لجاء في بعضها، فدل هذا على نكارة مسح الوجه باليدين بعد الدعاء.

ومثله ما ورد في بعض الطرف من كونه عليه الصلاة والسلام "كان يمسح رقبته في الوضوء"، فهذه الزيادة باطلة، وقد خلت الأحاديث الصحيحة في صفة الوضوء من ذلك، لذا أخطأ الشوكاني في تحسينها بمجموع هذه الطرق

(4)

.

* * *

(1)

"صحيح البخاري"(266)، "صحيح مسلم"(317).

(2)

"بلوغ المرام"(ص: 465)، قال:(ومجموعها يقتضي أنه حديث حسن).

(3)

قال في "مجموع الفتاوى"(22/ 519): (وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة والله أعلم).

(4)

ينظر "نيل الأوطار"(1/ 207).

ص: 501

الوجه الثامن عشر: تصحيحه الحديث - أو الطريق - الذي يروى من غير وجه.

ومن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله في باب ما جاء أنه يأخذ لرأسه ماء جديداً: (حدثنا علي بن خشرم، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: حدثنا عمرو بن الحارث، عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وأنَّه مسح رأسه بماء غير فضل يديه.

هذا حديث حسن صحيح.

وروى ابن لهيعة هذا الحديث، عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وأنَّه مسح رأسه بما غير من فضل يديه.

ورواية عمرو بن الحارث، عن حبان أصحّ؛ لأنَّه قد روي من غير وجه هذا الحديث عن عبد الله بن زيد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لرأسه ماء جديدا.

والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم رأوا: أن يأخذ لرأسه ماء جديداً)

(1)

.

قلت: والشاهد من ذلك قوله أن (رواية عمرو بن الحارث عن حبان أصح؛ لأنَّه قد روي من غير وجه هذا الحديث)، وهذا ما اختاره مسلم

(2)

.

ومن الأمثلة عليه أيضاً ما سبق نقله في كلامه على حديث أبي هريرة: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".

* * *

(1)

(1/ 298).

(2)

"صحيح مسلم"(236).

ص: 502

الوجه التاسع عشر: أن الراوي ولو كان ثقة عنده، لا يلزم أن يكون كل ما رواه صحيحاً، وذلك أنه إذا تبين أنه قد أخطأ في حديث ما، أو تفرد به؛ فإنه يرده، أو يتوقف في حديثه ولا يصححه.

ومنهج أبي عيسى في هذا هو منهج كبار الحفاظ، بخلاف بعض من تأخر؛ كأبي محمد ابن حزم وابن القطان الفاسي وغيرهما، فإن الراوي الثقة عندهم يلزم أن يكون حديثه صحيحا.

والأمثلة على هذا من كتاب "الجامع" كثيرة، فإنه بين في عدة أحاديث خطأ بعض الرواة الثقات، أو توقف في حديثهم عند التفرد.

كما أن الراوي المتكلم فيه لا يلزم أن يكون حديثه دائما ضعيفا، ومن الأمثلة على ذلك:

سفيان بن وكيع، فإنه قد صحح له أحاديث كثيرة، وهذا فيما استقام منها.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: شريك بن عبد الله النخعي، فإنه صحح له عدة أحاديث، كما أنه توقف في أحاديث أخرى، وذلك فيما تفرد به، ومن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله: (حدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا شريك، عن أبي الجحاف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إنما الماء من الماء في الاحتلام.

قال أبو عيسى: سمعت الجارود، يقول: سمعت وكيعا، يقول: لم نجد هذا الحديث إلا عند شريك)

(1)

.

(1)

(1/ 345).

ص: 503

ولم يحكم عليه بشيء.

وقال أيضاً: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة:"تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي".

حدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا شريك، نحوه بمعناه.

قال أبو عيسى: هذا حديث قد تفرد به شريك، عن أبي اليقظان)

(1)

.

كما أنه في حديث آخر عندما تبين له خطؤه ردّه:

قال رحمه الله: (حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا شريك، عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي جعفر: حدثك جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا؟ قال: نعم.

قال أبو عيسى: وروى وكيع هذا الحديث، عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي جعفر: حدثك جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة؟ قال: نعم.

حدثنا بذلك هناد، وقتيبة، قالا: حدثنا وكيع، عن ثابت.

وهذا أصح من حديث شريك؛ لأنَّه قد روي من غير وجه هذا عن ثابت نحو رواية وكيع. وشريك كثير الغلط)

(2)

.

قلت: لا شك أن وكيعا أحفظ بكثير من شريك، فعندما خالفه علم أن شريكا قد أخطأ في هذا الحديث، لذا قال عنه: كثير الغلط.

وكذلك حكمه بالصحة على حديث بإسناد معين لا يلزم منه أن يصحح كل الأحاديث التي جاءت بهذا الإسناد.

(1)

(1/ 354).

(2)

(1/ 304).

ص: 504

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، عن الرُّبَيع بنت معوذ بن عفراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخر رأسه، ثم بمقدمه، وبأذنيه كلتيهما، ظهورهما وبطونهما.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وحديث عبد الله بن زيد أصح من هذا وأجود إسنادا).

ثم قال في باب ما جاء أن مسح الرأس مرة: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا بكر بن مضر، عن ابن عجلان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الرُّبيع بنت معوذ ابن عفراء، أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، قالت: مسح رأسه، ومسح ما أقبل منه، وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرة واحدة.

وفي الباب، عن علي، وجد طلحة بن مصرف.

قال أبو عيسى: حديث الرُّبيع حديث حسن صحيح.

وقد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح برأسه مرة)

(1)

.

قلت: مع أن كلا الحديثين من طريق ابن عقيل عن الرُّبيع بنت معوذ، إلا أن أبا عيسى غاير بينهما في الحكم، فصحح الثاني دون الأول، مع أن الأول إسناده إلى ابن عقيل أصح من الثاني؛ لأن بشر بن مفضل ثقة حافظ بخلاف ابن عجلان، والسبب في هذه المغايرة في الحكم: أن الأول ليس بمستقيم من حيث المتن، وذلك في أمرين:

الأول: قوله (مسح برأسه مرتين)، والصواب مرة واحدة كما تقدم.

(1)

(1/ 296 - 297).

ص: 505

الثاني: قوله: (بدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه) والصواب العكس، ولأجل هذا لم يصحح هذا الحديث، بينما لفظ الثاني سلم من ذلك، لذا صححه.

2 -

وقال أيضاً في باب ما جاء في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان: (حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن أبي الشعثاء، قال: خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه بالعصر، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.

قال أبو عيسى: وفي الباب عن عثمان.

حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.

وقد روى أشعث بن أبي الشعثاء هذا الحديث، عن أبيه)

(1)

.

قلت: أشعث ثقة، وبالتالي روايته صحيحة، لذا أخرجها مسلم

(2)

.

وأما طريق إبراهيم بن مهاجر ففيها ضعف؛ لأن إبراهيم متكلم فيه، وكأن أبا عيسى عندما حكم على الحديث من هذه الطريق بـ "حسن صحيح" حكم على هذا الحديث بمجموع طرقه، مع ملاحظة أن الإمام مسلماً قد أخرج أيضاً رواية إبراهيم بن مهاجر

(3)

.

ويؤيد هذا أنه لم يصحح له سوى هذا الخبر، فقد أخرج له أربعة أحاديث لم يصحح واحدا منها

(4)

.

وهذا كثير في كتابه "الجامع"؛ الإسناد الواحد قد يصححه وقد يتوقف

(1)

(1/ 401).

(2)

"الصحيح"(655).

(3)

"الصحيح"(655).

(4)

والثلاثة الأخرى عدا المذكور: (898)، وقال:(حسن غريب)، (1993، 1994)، وقال:(غريب)، (2479)، وقال:(حسن غريب).

ص: 506

فيه، وذلك تبعًا للمتن من حيث الاستقامة وعدمها، فإن استقام صححه وإلا توقف فيه.

وينظر في ذلك سلسلة: محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بعضها صححه وبعضها توقف فيها.

ومنها سلسلة: عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، لم يصحح الترمذي منها سوى حديثين، وكثير منها حسنها، وبعضها ضعفها إذ كان في الإسناد إلى عمرو راو ضعيف.

ومنها أيضا سلسلة: قتادة، عن الحسن، عن سمرة، فقد صحح بعضها، وحسن بعضها الآخر.

وغيرها كثير.

* * *

ص: 507

الوجه العشرون: الحديث المعلول قد يحكم عليه بأنه حسن، وقد لا يبين وجه العلة في بعض الأحيان، وإنما تظهر عن طريق البحث، وفي بعض الأحيان يبينها أو يشير إليها.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب في كراهية فضل طهور المرأة: (حدثنا محمود ابن غيلان، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن أبي حاجب، عن رجل من بني غفار، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل طهور المرأة.

وفي الباب عن عبد الله بن سرجس

حدثنا محمد بن بشار ومحمود بن غيلان، قالا: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن عاصم، قال: سمعت أبا حاجب يحدث، عن الحكم بن عمرو الغفاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، أو قال: بسؤرها.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وأبو حاجب اسمه: سوادة بن عاصم.

وقال محمد بن بشار في حديثه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، ولم يشكّ فيه محمد بن بشار)

(1)

.

قلت: هذا الحديث رجاله ثقات، ولكن أُعلّ بالوقف، قال الدارقطني:(أبو حاجب اسمه سوادة بن عاصم، واختلف عنه: فرواه عمران بن جرير، وغزوان بن حجير السدوسي عنه موقوفا، من قول الحكم غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

(1)

(1/ 314 - 315).

(2)

"السنن"(1/ 82).

ص: 508

وقد ذكر المصنف هذا الحديث في كتابه "العلل الكبير" وقال: (سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: ليس بصحيح)

(1)

.

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الرخصة بذلك -أي الحجامة للصائم-: (حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه)

(2)

.

قلت: لم يصححه؛ لأنه غير محفوظ، قال النسائي بعد أن ساقه بنفس إسناد الترمذي:(هذا منكر، لا نعلم أحدا رواه عن حبيب غير الأنصاري، ولعله أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة)

(3)

.

3 -

وقال أيضا في باب في المسح على الخفين ظاهرهما: (حدثنا علي بن حجر، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة ابن الزبير، عن المغيرة بن شعبة، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما.

قال أبو عيسى: حديث المغيرة حديث حسن، وهو حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن المغيرة، ولا نعلم أحدا يذكر عن عروة، عن المغيرة على ظاهرهما غيره.

قال محمد: وكان مالك يشير بعبد الرحمن بن أبي الزناد)

(4)

.

قلت: لم يصححه الترمذي؛ لأنه معلول -كما أشار إلى ذلك- عند حكمه على الحديث، وأن عبد الرحمن بن أبي الزناد تفرد بقوله: (على

(1)

(ص: 40).

(2)

(2/ 132).

(3)

"السنن الكبرى"(5/ 400).

(4)

(1/ 337 - 338).

ص: 509

ظاهرهما)، وقد جاء حديث المغيرة من طرق أخرى أصح من هذه الطريق وليس فيها ذلك.

4 -

وقال أيضا في باب ما جاء في القراءة خلف الإمام: (حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال:"إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم"، قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال:"فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".

قال: حديث عبادة حديث حسن.

وروى هذا الحديث الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وهذا أصح)

(1)

.

قلت: قوله عن طريق محمد بن إسحاق: (حديث حسن)؛ يريد هنا تعليله، بدليل أنه قال عن طريق الزهري: أصح؛ ولكونه ليس بالساقط قال عنه: حديث حسن.

وظاهر صنيع الإمام البخاري في كتابه "جزء القراءة" تقوية طريق ابن إسحاق، وقد ساق أسانيد أخرى لهذا الخبر من غير طريقه بمثل لفظ ابن إسحاق.

وأخرج البخاري هذا الحديث في كتاب "القراءة خلف الإمام"

(2)

، واحتج به، وقال: رأيت علي بن عبد الله -يعني: المديني- يحتج بحديث ابن إسحاق

(3)

.

(1)

(1/ 465).

(2)

(169) من طريق ابن إسحاق به.

(3)

"القراءة خلف الإمام"(ص: 38).

ص: 510

5 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الوتر بسبع: (حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن أم سلمة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع.

وفي الباب عن عائشة.

قال أبو عيسى: حديث أم سلمة حديث حسن)

(1)

.

قلت: هذا الحديث اختلف فيه على الأعمش، فرواه محمد بن فضيل وأبو الأحوص وزائدة وأبو عوانة وسفيان، خمستهم عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة.

وخالفهم أبو معاوية فرواه عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن أم سلمة، كما عند المصنف هنا، والصواب رواية الجماعة.

وفي "علل الدارقطني" أنه سئل عن حديث يحيى بن الجزار، عن عائشة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بتسع فلما أسنّ أوتر بسبع، فقال:(يرويه الأعمش، واختلف عنه؛ فرواه علي بن مسهر، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة. وخالفه ابن فضيل، رواه عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة وقول ابن فضيل أشبه بالصواب)

(2)

.

6 -

وقال أيضا في باب التقصير في السفر: (حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق البغدادي، قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر

(1)

(1/ 544).

(2)

"علل الدارقطني"(8/ 353).

ص: 511

وعثمان، فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، لا يصلون قبلها ولا بعدها، وقال عبد الله: لو كنت مصليا قبلها أو بعدها لأتممتها.

وفي الباب عن عمر، وعلي، وابن عباس، وأنس، وعمران بن حصين، وعائشة.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم، مثل هذا.

وقال محمد بن إسماعيل: وقد روي هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر، عن رجل من آل سراقة، عن عبد الله بن عمر)

(1)

.

قلت: لم يصححه؛ لأن هذا الإسناد معلولٌ، وإنما الصواب: عبيد الله عن رجلٍ من أهل سراقة عن ابن عمر، كما ذكر البخاري، لذا أعاد أبو عيسى هذا الحديث في "العلل الكبير"، ونقل عن البخاري أنه خطأ، فقال:(سألت محمدا عن هذا الحديث -يعني: حديث يحيى بن سليم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يصلون الظهر ركعتين لا يصلون قبلها ولا بعدها، فقال: هذا حديث خطأ، وإنما هو عبيد الله بن عمر، عن رجل من آل سراقة، عن ابن عمر)

(2)

.

ومن أمثلة الأحاديث التي حسنها، ثم بيّن علّتها:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم: (حدثنا زياد بن أيوب البغدادي وإبراهيم بن عبد الله الهروي ومحمد بن كامل المروزي المعنى واحد، قالوا: حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن

(1)

(2/ 5).

(2)

"العلل الكبير"(ص: 96).

ص: 512

الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة

الحديث.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن

، وقد روى يونس بن يزيد وغير واحد، عن الزهري، عن سالم هذا الحديث، ولم يرفعوه، وإنما رفعه سفيان بن حسين)

(1)

.

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء في زكاة البقر: (حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ بن جبل، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا، أو عِدْلَه مَعافِر.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

وروى بعضهم هذا الحديث، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فأمره أن يأخذ، وهذا أصح)

(2)

.

3 -

وقال أيضا في باب في نفقة المرأة من بيت زوجها: (حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل يحدث، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها كان لها به أجر، وللزوج مثل ذلك، وللخازن مثل ذلك، ولا ينقص كل واحد منهم من أجر صاحبه شيئا، له بما كسب، ولها بما أنفقت".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

(1)

(2/ 46 - 48).

(2)

(2/ 48 - 49).

ص: 513

حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا المؤمل، عن سفيان، عن منصور، عن أبى وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أعطت المرأة من بيت زوجها بطيب نفس غير مفسدة، كان لها مثل أجره، لها ما نوت حسنا، وللخازن مثل ذلك".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهذا أصح، من حديث عمرو بن مرة، عن أبي وائل، وعمرو بن مرة لا يذكر في حديثه: عن مسروق)

(1)

.

قلت: حكم على الإسناد الأول بأنه حسن فقط، مع أن رجاله كلهم ثقاتٌ مشاهيرٌ، والسبب أن إسناد هذا الخبر منقطعٌ، فأبو وائل لم يسمع هذا الحديث من عائشة، وإنما بينهما مسروق كما جاء في الإسناد الثاني، لذا صحح الثاني دون الأول.

4 -

وقال أيضا في باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم: (حدثنا قتيبة، قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ولا نعلم أحدا أسنده غير حماد ابن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة.

وروى مالك بن أنس، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال.

رواه مالك مرسلا.

ورواه أيضا سليمان بن بلال، عن ربيعة مرسلا)

(2)

.

(1)

(2/ 75).

(2)

(2/ 168).

ص: 514

قلت: بين أبو عيسى أن الصواب في هذا الحديث الإرسال، فقد ذكر أن مالك بن أنس، وسليمان بن يسار قد روياه عن ربيعة مرسلًا، ولا شك أنهما يقدَّمان على مطر الوراق الذي روى عن ربيعة موصولًا.

5 -

وقال أيضا في باب ما جاء كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة الثانية من قابل، وعمرة القصاص

(1)

في ذي القعدة، وعمرة الثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته.

وفي الباب عن أنس، وعبد الله بن عمرو، وابن عمر.

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن غريب.

وروى ابن عيينة هذا الحديث، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، ولم يذكر فيه: عن ابن عباس.

حدثنا بذلك سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكر نحوه)

(2)

.

قلت: هذا الحديث حكم عليه بـ "حسن" وفي بعض النسخ: "غريب" فقط، ثم بيَّن علته: وهي أن ابن عيينة قد رواه عن عمرو بن دينار مرسلًا، ولا شك أنه أحفظ من داود بن عبد الرحمن العطار الذي وصله، ففيه أيضًا ترجيح رواية الأحفظ على من دونه، لذا عندما رواه البيهقي وذكر الخلاف فيه نقل عن علي بن عبد العزيز البغوي قوله:(ليس أحد يقول في هذا الحديث: عن ابن عباس، إلا داود بن عبد الرحمن)

(3)

.

(1)

في بعض النسخ: (القضاء).

(2)

(2/ 154 - 155).

(3)

"السنن الكبرى"(5/ 18).

ص: 515

6 -

وقال أيضا في باب ما جاء أن القارن يطوف طوافا واحدا: (حدثنا خلاد بن أسلم البغدادي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحرم بالحج والعمرة، أجزأه طواف واحد، وسعي واحد منهما، حتى يحل منهما جميعا".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب

(1)

.

(2)

وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر ولم يرفعوه، وهو أصح)

(3)

.

قلت: بعد أن حسنه بيّن علته وأن الراجح فيه الوقف.

7 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الغسل من غسل الميت: (حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مِنْ غَسْلِه الغُسل، ومِنْ حمله الوُضوء" يعني: الميت.

وفي الباب عن علي، وعائشة.

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن، وقد روي عن أبي هريرة موقوفا)

(4)

.

قلت: لم يصحح هذا الحديث؛ لأن الصواب فيه الوقف، وهذا ما ذهب إليه البخاري، وقد أطال في "تاريخه الكبير" بذكر أسانيد هذا الخبر

(1)

كذا في طبعة بشار، وفي طبعة التأصيل:(حسن غريب صحيح)، وفي طبعة شاكر:(حسن صحيح غريب).

(2)

في طبعة بشار زيادة: (تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ).

(3)

(2/ 221 - 222).

(4)

(2/ 244 - 245).

ص: 516

وذلك في ترجمة إسحاق أبي عبد الله مولى زائدة

(1)

، كما أن فيه علة أخرى: وهي أن ابن علية وسفيان بن عيينة، روياه عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفًا، ولهذا لم يصححه المصنف.

8 -

وقال أيضا في باب ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا أبو صفوان، عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة يوم أحد، فوقف عليه فرآه قد مُثِّل به، فقال:"لولا أن تجد صفية في نفسها، لتركته حتى تأكله العافية، حتى يحشر يوم القيامة من بطونها". قال: ثم دعا بنمرة، فكفنه فيها، فكانت إذا مدت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مدت على رجليه بدا رأسه. قال: فكثر القتلى، وقَلَّت الثياب. قال: فكُفِّن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنهم:"أيهم أكثر قرآنا"، فيقدمه إلى القبلة، قال: فدفنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصلّ عليهم.

قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه.

النمرة: الكساء الخلق.

وقد خولف أسامة بن زيد في رواية هذا الحديث:

فروى الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله.

وروى معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة، عن جابر.

ولا نعلم أحدا ذكره عن الزهري عن أنس، إلا أسامة بن زيد.

(1)

"التاريخ الكبير"(1/ 396 - 397).

ص: 517

وسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: حديث الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر، أصح)

(1)

.

في "تحفة الأشراف"

(2)

، وطبعة بشار:(غريب لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه).

وفي طبعة شاكر

(3)

، و"الرسالة"

(4)

، و"التأصيل"

(5)

، و"تحفة الأحوذي"

(6)

: (حسن غريب

).

قلت: تبين مما تقدم أن نسخ الترمذي مختلفة في حكمه على هذا الخبر، ولكن قد بيّن أنه خبر معلول ولا يصح، فإن كان حكم عليه بأنه حسن غريب ففيه دليل على أنه قد يحسن الخبر ثم يبين علته.

9 -

وقال أيضا في باب ما جاء يقول إذا أدخل الميت القبر: (حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: حدثنا الحجاج، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميت القبر -وقال أبو خالد مرة: إذا وضع الميت في لحده-، قال مرة:"بسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله"، وقال مرة:"بسم الله، وبالله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه أبو الصديق الناجي، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد روي عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر، موقوف أيضا)

(7)

.

(1)

(2/ 256 - 257).

(2)

(1/ 376).

(3)

(1016).

(4)

(1037).

(5)

(1040).

(6)

(4/ 83).

(7)

(2/ 273).

ص: 518

وفي "علل الدارقطني" أنه سئل عن حديث يروى عن نافع، عن ابن عمر؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وضع الميت في قبره، قال:"بسم الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: (يرويه حجاج بن أرطاة، واختلف عنه؛

فرواه أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم

وغيره يرويه عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنه كان يفعل

، غير مرفوع.

وهو الصواب)

(1)

.

قلت: الذي يظهر أن أبا خالد الأحمر هو الذي تفرد به عن حجاج مرفوعًا، كما يفهم من كلام الدارقطني، وهو ظاهر كلام أبي عيسى، في قوله:(هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه).

وجاء من حديث أبي الصديق الناجي عن ابن عمر: فرواه همام، عن قتادة، عنه، عن ابن عمر مرفوعًا، وتفرد بذلك، كما قاله أبو نعيم، والبيهقي.

قال أبو نعيم: (لم يرفعه عن قتادة إلا همام، ورواه شعبة وهمام موقوفًا)

(2)

.

وقال البيهقي: (والحديث يتفرد برفعه همام بن يحيى بهذا الإسناد، وهو ثقة، إلا أن شعبة، وهشام الدستوائي روياه عن قتادة موقوفًا على ابن عمر)

(3)

.

قلت: خالفه شعبة وهشام، فوقفاه، وهو الصحيح.

(1)

(12/ 358).

(2)

"حلية الأولياء"(3/ 102).

(3)

"السنن الكبرى"(4/ 91).

ص: 519

وفي "علل الدارقطني" أنه سئل عن حديث يروى عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا وضعتم موتاكم في القبر فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله"، فقال: (يرويه قتادة، واختلف عنه؛

فرواه هشام

(1)

، عن قتادة، عن أبي الصديق، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حدث به عنه: يزيد بن هارون، وسعيد بن عامر، وحجاج بن منهال، وهدبة.

واختلف عن وكيع:

فرواه أحمد بن أبي رجاء المصيصي، عن وكيع، عن همام، عن قتادة، عن أبي المتوكل الناجي، عن ابن عمر، ووهم فيه.

وخالفه سريج بن يونس وغيره؛ رووه عن وكيع، عن همام، عن قتادة، عن أبي الصديق، وهو الصواب.

وقيل: عن سعيد بن عامر، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أبي الصديق، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والمحفوظ عن هشام، موقوفا، من قول ابن عمر، وفعله.

وكذلك رواه مسلم بن إبراهيم، ومعاذ بن هشام، عن هشام.

وكذلك رواه شعبة، عن قتادة، عن أبي الصديق، عن ابن عمر، موقوفا، وهو المحفوظ)

(2)

.

(1)

قال المحقق: (هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: همام). قلت: وهذا هو الصواب.

(2)

"العلل"(12/ 409).

ص: 520

فتبين أن الصواب في هذا الخبر هو الوقف.

وجاء أيضًا من طريق أيوب عن نافع.

أخرجه البزار

(1)

، والطبراني

(2)

من طريق سعيد بن عامر الضبعي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال البزار: (وحديث أيوب لا نعلم رواه عن سعيد بن أبي عروبة إلا سعيد بن عامر).

وقال الطبراني: (لم يرو هذا الحديث عن أيوب إلا سعيد بن أبي عروبة، ولا عن سعيد بن أبي عروبة إلا سعيد بن عامر، ولا عن سعيد إلا سوار بن سهل).

قلت: ورفع هذا الحديث خطأ لا شك فيه، بل أنا أشك أن سعيدًا قد رواه، فأين أصحابه عن هذا الخبر؟! بل -وقبل سعيد- أين أصحاب أيوب عنه؟!

وسعيد بن عامر، وإن كان من الثقات، ولكنْ له أغلاط وأفراد.

وسوار، وإن كان أبو داود قال:(لو لم أثق به ما رويت عنه). إلا أن ابن حبان عندما ذكره في "الثقات" قال عنه: يغرب. وهذا من غرائبه.

كما قال عنه الذهبي في "الميزان": لا يدرى من هو.

والظاهر أنه صدوق كما قال ابن حجر

(3)

.

(1)

(5825).

(2)

(7347).

(3)

ينظر: "الثقات" لابن حبان (8/ 302)، "تهذيب الكمال"(12/ 238)، "ميزان الاعتدال"(2/ 227)، "التقريب"(2683).

ص: 521

وقد جاء من وجه آخر عن أيوب موقوفًا، وهو غريب أيضًا:

أخرجه الطبراني أيضًا

(1)

، قال: (حدثنا موسى بن زكريا، نا شيبان بن فروخ، ثنا سويد أبو حاتم، نا حجاج بن أرطأة وأيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا وضع الميت في القبر قال: بسم الله، وعلى سنة رسول الله.

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن سويد أبي حاتم إلا شيبان).

قلت: وهذا الإسناد أيضًا لا يصح، سويد لا يحتج به، وشيبان له أوهام.

10 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الثوب الواحد يلقى تحت الميت في القبر: (حدثنا زيد بن أخزم الطائي البصري، قال: حدثنا عثمان بن فرقد، قال: سمعت جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: الذي ألحد قبر رسول الله -صلى الله عليه، وسلم- أبو طلحة والذي ألقى القطيفة تحته شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال جعفر: وأخبرني ابن أبي رافع قال: سمعت شقران يقول: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر.

وفي الباب عن ابن عباس.

قال أبو عيسى: حديث شقران حديث حسن غريب، وروى علي بن المديني، عن عثمان بن فرقد هذا الحديث)

(2)

.

قلت: وأخرجه ابن أبي عاصم، قال: (حدثنا يحيى بن خلف وزيد بن أخزم، قالا: ثنا عثمان بن فرقد، قال: سمعت جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: ألحد قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم أبو طلحة، والذي ألقى القطيفة تحته شقران رضي الله عنه.

(1)

"المعجم الأوسط"(8/ 181) رقم (8336).

(2)

(2/ 274).

ص: 522

قال جعفر: وحدثني ابن أبي رافع، قال: سمعت شقران، يقول: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر)

(1)

.

وأخرجه المزي من طريق الطبراني، قال:(حدثنا محمد بن صالح بن الوليد النرسي، قال: حدثنا زيد بن أخزم، قال: حدثنا عثمان بن عثمان الغطفاني، قال: سمعت جعفر بن محمد، يحدث عن أبيه، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

قال المزي: (رواه عن زيد بن أخزم، عن عثمان بن فرقد، عن جعفر ابن محمد، عن ابن أبي رافع، ولم يقل عن أبيه، وقال: حسن غريب. وقد روى علي ابن المديني هذا الحديث عن عثمان بن فرقد.

ورواية من قال: عن أبيه أولى بالصواب، والله أعلم).

وهو عند الطبراني

(3)

: عثمان الغطفاني. ولم ينسبه إلى أبيه.

قلت: قد رواه علي بن المديني، وزيد بن أخزم -كما رواه عنه أبو عيسى الترمذي، وابن أبي عاصم-، ويحيى بن خلف -كما عند ابن أبي عاصم أيضًا-، ثلاثتهم رووه عن عثمان بن فرقد، عن جعفر بن محمد، قال: أخبرني ابن أبي رافع، سمعت شقران

فذكره.

ولا شك أن روايتهم أولى بالصواب، ومحمد بن صالح بن الوليد النرسي، نعم، أكثرَ عنه الطبراني، ولكن لم أقف على توثيقٍ له، فرواية

(1)

"الآحاد والمثاني"(1/ 345)، رقم (468).

(2)

"تهذيب الكمال"(12/ 546).

(3)

"المعجم الكبير"(8/ 75) رقم (7409).

ص: 523

الترمذي وابن أبي عاصم، -وهما من كبار الحفاظ- عن زيد بن أخزم تقدَّم على روايته عنه

(1)

.

وقد روى عن عبيد الله بن رافع أناسٌ هم من أقران جعفر: كزيد بن علي بن الحسين، وقد ذكر أنه ولد سنة ثمانين، وجعفر قد ولد أيضًا في نفس السنة. وعبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع وهو من الطبقة السادسة كما ذكر ابن حجر، وجعفر أيضًا من السادسة؛ فسماعه منه لا يُنكر.

لذا ذكر الذهبي في ترجمة جعفر: أنه يروي عن عبيد الله بن أبي رافع، ولم يتعقبه بشيء، كما ذكر في ترجمة جعفر

(2)

أنه رأى بعض الصحابة؛ كأنس بن مالك، وسهل بن سعد.

ويؤكد هذا أن أبا حاتم الرازي قال: (روى عثمان، عن جعفر، عن عبيد الله بن أبي رافع

حديث منكر)

(3)

. فلم يذكر عن أبيه، وهذا ما وقع أيضًا في سؤال عبد الرحمن بن أبي حاتم لأبيه، قال:(وسألت أبي عن حديث رواه علي ابن المديني، عن عثمان بن فرقد، عن جعفر بن محمد، عن ابن أبي رافع؛ قال: سمعت شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا -والله- طرحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة في القبر. قال أبي: هذا حديث منكر)

(4)

.

وقد يكون عثمان بن فرقد أخطأ في روايته عن جعفر في قوله: أخبرني ابن أبي رافع، وقد تقدم أنه متكلَّم فيه.

(1)

كما أنه أخطأ أيضًا في نسبة عثمان، فقال: الغطفاني. وهذه النسبة لا تُعرف لعثمان هذا إلا في روايته، كما أنه وقع في رواية المزي تسميته عثمان بن عثمان، والصواب: عثمان بن فرقد.

(2)

"سير أعلام النبلاء"(6/ 255).

(3)

ينظر: "الجرح والتعديل"(6/ 164).

(4)

"علل الحديث"(3/ 524).

ص: 524

والخلاصة في هذا الخبر، أنه خبرٌ منكرٌ في وصله.

وأخرجه عبد الرزاق الصنعاني عن ابن جريج قال: (أخبرنا جعفر بن محمد، عن أبيه، أن الذي لحد قبر النبي صلى الله عليه وسلم أبو طلحة، وأن الذي ألقى القطيفة مولى النبي صلى الله عليه وسلم شقران)

(1)

.

فالصواب في هذا الخبر أنه مرسلٌ.

* * *

(1)

"المصنف"(3/ 359)، رقم (6486).

ص: 525

الوجه الحادي والعشرون: أن الصحيح عنده على درجات، فهناك صحيح وأصح.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب في نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر".

وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وأبي سعيد، ورفاعة الجهني، وجبير بن مطعم، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وعثمان بن أبي العاص.

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.

وقد روي هذا الحديث من أوجه كثيرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال:"ينزل الله تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر".

وهو أصح الروايات)

(1)

.

قلت: يلاحظ أن أبا عيسى حكم على الإسناد الأول بأنه حسن صحيح، ثم بيَّن أن اللفظ الآخر -وهو أن الله عز وجل ينزل في ثلثِ الليل الآخرِ- أصح، فعلى هذا يكون عنده صحيح وأصح، وهذا ما فعله مسلم في هذا الحديث فقد أخرج كلا اللفظين

(2)

.

(1)

(1/ 537 - 538).

(2)

"صحيح مسلم"(758).

ص: 526

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الثوب الواحد يلقى تحت الميت في القبر: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال: جُعل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطيفةٌ حمراء.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روى شعبة، عن أبي حمزة القصاب -واسمه عمران بن أبي عطاء-، وروى عن أبي جمرة الضبعي -واسمه نصر بن عمران-، وكلاهما من أصحاب ابن عباس.

وقد روي عن ابن عباس أنه كره أن يُلقى تحت الميت في القبر شيءٌ.

وقال محمد بن بشار، في موضع آخر: حدثنا محمد بن جعفر ويحيى، عن شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، وهذا أصحّ)

(1)

.

قلت: وأنا أذهب إلى هذا، وهو أن الإسناد الثاني أصح، وإن كان الأول صحيحًا أيضًا، وذلك أن الإسناد الثاني رواه مع القطان محمد بن جعفر، ومحمد من أثبت الناس في شعبة، فصار بذلك أصح.

إلا إن كان أبو عيسى يقصد أن هذا الحديث قد سمعه محمد بن بشار من شيخيه في مجلس واحد، فالأولى في هذه الحالة: أن لا يفرد أحدهما عن الآخر عند التحديث به؛ لأن لفظ الخبر قد يكون للأول دون الثاني.

وكذا لو سُمع الحديث من كل واحد منهما في مجلس، ولم يبين هل اتفقا في سياق الخبر أم اختلفا، أم بينهما شيء من الاختلاف؟ فالأولى

(1)

(2/ 274) وفي طبعة بشار عواد تقديم الإسناد الثاني، حيث ذكره مباشرة بعد الإسناد الأول، والمثبت من طبعة التأصيل والرسالة (2/ 528 - 529).

ص: 527

أيضا في هذه الحالة أن يجمعهما عند تحديثه بهذا الخبر، إلا إذا بين

(1)

، وقد يكون لأبي عيسى قصد آخر فالله تعالى أعلم.

* * *

(1)

وهذا قد لا يراه شيئا غير المختص، ولكن من علم تصرفات المحدثين لا يتعجب من ذلك، ودونك "صحيح مسلم" فترى من الدقة الشيء العجاب، وقد قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (2/ 371):(وقال الساجي في "الجرح والتعديل": كذبه يحيى بن معين، وقال محمد بن قاسم: لما قدم يحيى بن معين مصر حضر مجلس عبد الله، فأول ما حدث به كتاب "فضائل عمر بن عبد العزيز"، فقال: حدثني مالك وعبد الرحمن بن زيد وفلان وفلان فمضى في ذلك ورقة، ثم قال: كلٌّ حدثني هذا الحديث، فقال له يحيى: حدثك بعض هؤلاء بجميعه، وبعضهم ببعضه؟ فقال: لا، حدثني جميعهم بجميعه. فراجعه، فأصر، فقام يحيى وقال للناس: يكذب).

قلت: فيحيى بن معين هنا لم ينكر عليه أنه سمع من جميعهم، وإنما أنكر عليه اتفاقهم على سياق هذا الخبر كاملا من جميعهم، وهذا إن ثبتت هذه القصة، وذلك أن الذهبي قال في "سير أعلام النبلاء" (10/ 221):(لم يثبت قول ابن معين: إنه كذاب)، ونحوه في "تاريخ الإسلام"(5/ 348).

ص: 528

الوجه الثاني والعشرون: مع ما تقدم من جلالة أبي عيسى في هذا الفن، إلا أن ذلك لا يمنع أنه قد يصحح أحاديث يخالَف فيها وتكون معلولة.

ومن المعلوم أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب في تخليل اللحية: (حدثنا يحيى بن موسى، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان بن عفان، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: هذا الحديث معلول، عامر بن شقيق تكلم فيه يحيى بن معين، وأظن أن أبا وائل لم يسمع من عثمان، وأن بينهما واسطة.

ومما يؤكد أن هذا الخبر معلول، أن حديث عثمان جاء من طرق في "الصحيحين" وليس فيه أنه كان عليه الصلاة والسلام يخلل لحيته، بل إن الإمام أحمد

(2)

، وأبا حاتم الرازي

(3)

، والعقيلي

(4)

، وابن المنذر

(5)

، وابن حزم

(6)

ضعفوا كل الأحاديث المرفوعة التي وردت في التخليل.

(1)

(1/ 296).

(2)

"مسائل أحمد" لأبي داود (ص: 13).

(3)

"علل الحديث" لابن أبي حاتم (1/ 553).

وقال ابن القيم في "زاد المعاد"(1/ 191): (وقال أحمد وأبو زرعة: لا يثبت في تخليل اللحية حديث). قلت: أخشى أن هذا وهم، وأن الصحيح: أحمد، وأبو حاتم.

(4)

"الضعفاء الكبير"(4/ 327).

(5)

"الأوسط"(1/ 385).

(6)

"المحلى"(2/ 35 - 37).

ص: 529

ومما يؤيد أن هذا الخبر غير محفوظ، أن عامر بن شقيق روى أيضًا عن أبي وائل قال: رأيت عثمان غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا، ومسح رأسه ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله فعل هذا. أخرجه أبو داود من طريق إسرائيل بن يونس عن عامر به

(1)

.

قلت: هذا الحديث غير محفوظ، والصواب أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسح رأسه مرة واحدة، وهذا ما ذهب إليه جمع من أهل العلم، منهم أبو عيسى، كما بين ذلك في كتابه "الجامع"

(2)

، وهذا يؤكد أن عامر بن شقيق لا يحتج به، وهذا ما ذهب إليه يحيى بن معين، فهو كما أخطأ في هذه القضية فقد أخطأ أيضا في الأولى.

2 -

وقال أيضا في باب في المسح على الجوربين والنعلين: (حدثنا هناد ومحمود بن غيلان، قالا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة، قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(3)

.

قلت: هو حديث معلول، وقد أعلّه كبار الحفّاظ.

قال عبد الله بن أحمد: (حدثت أبي بحديث الأشجعي ووكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل، عن المغيرة بن شعبة قال: مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الجوربين والنعلين. قال أبي: ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس، قال أبي: أَبَى عبد الرحمن بن مهدي أن يحدث به، يقول: هو منكر، يعني: حديث المغيرة هذا، لا يرويه إلا من حديث أبي قيس)

(4)

.

(1)

"السنن"(110).

(2)

"جامع الترمذي"(1/ 296).

(3)

(1/ 338).

(4)

"العلل"(3/ 367).

ص: 530

وقال الميموني: (سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن حديث أبي قيس الأودي، مما روى عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على النعلين والجوربين، فقال لي: المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين، ليس هذا إلا من أبي قيس، إن له أشياء مناكير)

(1)

.

وقال مسلم: (ذكرُ خبر ليس بمحفوظ المتن)، ثم أخرج الحديث، وتوسع في ذكر طرقه ثم قال: (قد بينا من ذكر أسانيد المغيرة في المسح، بخلاف ما روى أبو قيس، عن هزيل، عن المغيرة، ما قد اقتصصناه، وهم من التابعين وأجلتهم، مثل مسروق. وذكر من قد قُدم ذكرهم، فكل هؤلاء قد اتفقوا على خلاف رواية أبي قيس عن هزيل، ومن خالف خلاف بعض هؤلاء بَيِّن لأهل الفهم من الحفظ في نقل هذا الخبر وتحمل ذلك، والحمل فيه على أبي قيس أشبه، وبه أولى منه بهزيل؛ لأن أبا قيس قد استنكر أهل العلم من روايته أخبارا غير هذا الخبر، سنذكرها في مواضعها إن شاء الله،

فأما في خبر المغيرة في المسح فأخبرني محمد بن عبد الله بن قهزاد، عن علي بن الحسن بن شقيق، قال: قال عبد الله بن المبارك: عرضت هذا الحديث -يعني: حديث المغيرة من رواية أبي قيس- على الثوري فقال: لم يجئ به غيره، فعسى أن يكون وهمًا)

(2)

.

وقال أبو داود: (كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين. قال أبو داود: وروي هذا أيضا عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجوربين وليس بالمتصل ولا بالقوي)

(3)

.

(1)

"العلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية المروذي وغيره"(ص: 219).

(2)

"التمييز"(ص: 160 - 166).

(3)

"السنن"(159).

ص: 531

وقال النسائي: (ما نعلم أن أحدا تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، والله أعلم)

(1)

.

وقال الدارقطني -بعد أن سئل عن حديث هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه مسح على الجوربين والنعلين-:(يرويه الثوري، عن أبي قيس الأودي، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة. ورواه كليب بن وائل، عن أبي قيس، عمن أخبره عن المغيرة وهو هزيل، ولكنه لم يسمه، ولم يروه غير أبي قيس، وهو مما يعد عليه به؛ لأن المحفوظ عن المغيرة المسح على الخفين)

(2)

.

وقال البيهقي: (حديث منكر، ضعفه سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومسلم بن الحجاج، والمعروف عن المغيرة، حديث المسح على الخفين)

(3)

.

3 -

وقال أيضا في باب ما جاء في التيمم: (حدثنا يحيى بن موسى، قال: حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدثنا هشيم، عن محمد بن خالد القرشي، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه سئل عن التيمم، فقال: إن الله قال في كتابه حين ذكر الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وقال في التيمم:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6]، وقال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فكانت السنة في القطع الكفين، إنما هو الوجه والكفان، يعني التيمم.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب)

(4)

.

(1)

"السنن الكبرى"(129).

(2)

"العلل"(1240).

(3)

"معرفة السنن والآثار"(2055، 2056)، وينظر:"نصب الراية"(1/ 184).

(4)

(1/ 368 - 369).

ص: 532

قلت: هذا الحديث لا يصح، محمد بن خالد لا يُدْرى من هو، وداود قد تُكلم في روايته عن عكرمة، ويخشى أن هشيمًا لم يسمع من محمد بن خالد، فهذا الخبر لا يصح، والله تعالى أعلم.

4 -

وقال أيضا في باب ما جاء في إدخال الإصبع في الأذن عند الأذان: (حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفيان الثوري، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت بلالا يؤذن ويدور، ويتبع فاه ها هنا، وها هنا، وإصبعاه في أذنيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له حمراء، أراه قال: من أدم، فخرج بلال بين يديه بالعنزة فركزها بالبطحاء، فصلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمر بين يديه الكلب والحمار، وعليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بريق ساقيه قال سفيان: نراه حِبَرةً.

قال أبو عيسى: حديث أبي جحيفة حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: هذا الخبر -أي وضع الأصبعين في الأذنين- غير محفوظ، وقد أُنكر على عبد الرزاق، وقد نُقل تضعيفه عن الإمام أحمد، والبخاري، وابن خزيمة، ويضاف إليهم الدارمي فيما يظهر.

قال ابن رجب: (ورواه عبد الرزاق، عن سفيان، ولفظ حديثه: عن أبي جحيفة، قال: رأيت بلالًا يؤذن ويدور، ويتتبع فاه ها هنا وها هنا، وإصبعاه في أذنيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له حمراء

وذكر بقية الحديث.

خرّجه الإمام أحمد عن عبد الرزاق.

وخرّجه من طريقه الترمذي، وقال: حسن صحيح.

وخرّجه البيهقي، وصححه أيضا.

(1)

(1/ 399 - 400).

ص: 533

وهذا هو الذي علقه البخاري ها هنا بقوله: "ويذكر عن بلال، أنه جعل إصبعيه في أذنيه".

وقال البيهقي: لفظة الاستدارة في حديث سفيان مدرجة، وسفيان إنما روى هذه اللفظة في "الجامع" -رواية العدني عنه-، عن رجل لم يسمّه، عن عون.

قال: وروي عن حماد بن سلمة، عن عون بن أبي جحيفة مرسلًا، لم يقل:"عن أبيه"، والله أعلم.

قلت: وكذا روى وكيع في كتابه، عن سفيان، عن عون، عن أبيه، قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقام بلال فأذن، فجعل يقول في أذانه، يحرف رأسه يمينًا وشمالًا.

وروى وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن أبي جحيفة: أن بلالًا كان يجعل إصبعيه في أذنيه.

فرواية وكيع، عن سفيان، تعلل بها رواية عبد الرزاق عنه.

ولهذا لم يخرجها البخاري مسندة، ولم يخرجها مسلم أيضا، وعلقها البخاري بصيغة التمريض، وهذا من دقة نظره ومبالغته في البحث عن العلل والتنقيب عنها رضي الله عنه.

وقد خرّج الحاكم من حديث إبراهيم بن بشار الرمادي، عن ابن عيينة، عن الثوري ومالك بن مغول، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بالأبطح

فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق، وذكر فيه الاستدارة، وإدخال الإصبعين في الأذنين.

وقال: هو صحيح على شرطهما جميعًا.

وليس كما قال؛ وإبراهيم بن بشار لا يقبل ما تفرد به عن ابن عيينة، وقد ذمه الإمام أحمد ذمًا شديدًا، وضعفه النسائي وغيره.

ص: 534

وخرج أبو داود من رواية قيس بن ربيع، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت بلالًا خرج إلى الأبطح فأذن، فلما بلغ "حي على الصلاة، حي على الفلاح" لوى عنقه يمينًا وشمالًا، ولم يستدر.

وخرج ابن ماجه من رواية حجاج بن أرطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، وهو في قبة حمراء، فخرج بلال فأذن، فاستدار في أذانه، فجعل إصبعيه في أذنيه.

حجاج مدلس، قال ابن خزيمة: لا ندري هل سمعه من عون، أم لا.

وقال البيهقي: يحتمل أن يكون أراد الحجاج باستدارته التفاته يمينا وشمالًا، فيكون موافقًا لسائر الرواة. قال: وحجاج ليس بحجة.

وخرّجه من طريق آخر عن حجاج، ولفظ حديثه: رأيت بلالًا يؤذن، وقد جعل إصبعيه في أذنيه، وهو يلتوي في أذانه يمينًا وشمالًا.

وقد رُويت هذه الاستدارة من وجه آخر: من رواية محمد بن خليد الحنفي -وهو ضعيف جدًا-، عن عبد الواحد بن زياد، عنه، عن مسعر، عن علي بن الأقمر، عن عون، عن أبيه. ولا يصح أيضا.

وخرّج ابن ماجه من حديث أولاد سعد القرظ، عن آبائهم، عن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال:"إنه أرفع لصوتك". وهو إسناد ضعيف؛ ضعفه ابن معين وغيره.

وروي من وجوه أخَر مرسلة)

(1)

.

وقال أيضًا: (قال أبو طالب: قلت لأحمد: يدخل إصبعيه في الأذن؟ قال: ليس هذا في الحديث. وهذا يدل على أن رواية عبد الرزاق، عن

(1)

"فتح الباري" لابن رجب (5/ 375 - 378).

ص: 535

سفيان، التي خرّجها في "مسنده" والترمذي في "جامعه" غير محفوظة)

(1)

.

قلت: والدارمي أيضًا فيما يظهر من صنيعه يرى أن وع الأصبعين عند الأذان غير محفوظ، فقد قال في (باب الاستدارة في الأذان، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه رضي الله عنه، أنه رأى بلالا أذن، قال: فجعلت أتبع فاه ها هنا، وها هنا بالأذان.

أخبرنا عبد الله بن محمد، حدثنا عباد، عن حجاج، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، أن بلالا ركز العنزة، ثم أذن، ووضع أصبعيه في أذنيه، فرأيته يدور في أذانه.

قال عبد الله: حديث الثوري أصح)

(2)

.

وأما حكم ذلك من الناحية الفقهية: ففيه تفصيل؛ إن كان قصده رفع الصوت، فهذا حسن، وقد جاء ما يدل عليه، وهو ما أخرجه مسلم من طريق داود، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فمررنا بواد، فقال:"أي واد هذا؟ " فقالوا: وادي الأزرق، فقال:"كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم -فذكر من لونه وشعره شيئا لم يحفظه داود- واضعا إصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله بالتلبية، مارا بهذا الوادي" قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال:"أي ثنية هذه؟ " قالوا: هرشى -أو لفت- فقال: "كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جبة صوف، خطام ناقته ليف خلبة، مارا بهذا الوادي ملبيا"

(3)

.

وأخرج الجهضمي حديثًا لا بأس بإسناده: أن بلالًا أذّن، -والمقصود هنا مطلق المناداة وليس أذان الصلاة-، ووضع أصبعيه في أذنيه

(4)

.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب (5/ 383).

(2)

"سنن الدارمي"(2/ 12)(1218، 1219).

(3)

"صحيح مسلم"(166).

(4)

"تركة النبي صلى الله عليه وسلم"(ص: 74).

ص: 536

ومن المعلوم أن وضع الأصبعين في الأذنين يجعل المنادي يرفع صوته أكثر.

وأما إذا لم يقصد ذلك، فلا يضع أصبعيه في أذنيه؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيء.

ومما ينبغي التنبيه إليه، أن كثيرًا من المؤذنين يضع كفيه، أو أصابع كفيه على أذنيه، ويلتزم ذلك في أذانه، وهذا بدعة؛ لأنه لم يأت في ذلك خبر أصلًا

(1)

.

5 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر: (حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه".

وفي الباب عن عائشة.

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه.

وقد روي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر في بيته اضطجع على يمينه.

وقد رأى بعض أهل العلم أن يفعل هذا استحبابا)

(2)

.

قلت: تصحيح المصنف لهذا الحديث ثابتٌ، فقد نقله المزي في "التحفة"

(3)

، وهكذا أيضًا في "تحفة الأحوذي"

(4)

، والنسخة التي مع الشرح الطبعة الحجرية

(5)

.

(1)

وينظر: "فتح الباري" لابن رجب (5/ 381).

(2)

(1/ 526).

(3)

(9/ 105).

(4)

(2/ 394).

(5)

(1/ 323).

ص: 537

كما صححه أيضًا ابن خزيمة

(1)

، وحمل الأمر على الاستحباب، وصححه ابن حبان أيضًا

(2)

، وقال:(ذكر الأمر بالاضطجاع بعد ركعتي الفجر لمن أراد صلاة الغداة) ثم ساقه.

وصححه ابن حزم

(3)

، وذهب إلى فرضية النوم قبل الصلاة بعد أداء الراتبة سواء أكانت فرضية أداءٍ أو قضاءٍ، وأن الصلاة لا تجوز إلا بذلك، وأما إذا لم يُصَل الراتبة فإنها تسقط، أي: الضجعة بعدها.

والصواب أن هذا الخبر معلولٌ، كما ذهب إلى هذا الإمام أحمد، والبيهقي، ونقل ابن القيم عن ابن تيمية أن هذا الخبر باطلٌ، وأن الصواب أنها من فعله لا من أمره

(4)

.

وأنا أذهب إلى هذا، وأن عبد الواحد قد أخطأ، وتفرد بهذا الخبر، وحديثه عن الأعمش متكلَّم فيه.

6 -

وقال أيضا في باب في الوضوء يوم الجمعة: (حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، قال: حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل".

وفي الباب عن أبي هريرة، وأنس، وعائشة.

قال أبو عيسى: حديث سمرة حديث حسن صحيح.

قد روى بعض أصحاب قتادة هذا الحديث عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة.

(1)

"الصحيح"(1120).

(2)

"الصحيح"(2467).

(3)

"المحلى"(2/ 196).

(4)

ينظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4887)(4888)، "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 126)، "زاد المعاد"(1/ 308).

ص: 538

ورواه بعضهم، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل مرسلا)

(1)

.

قلت: اختلفت نسخ الترمذي في حكمه على هذا الحديث، ففي نسخة "ب"، و"تحفة الأشراف"، والنسخة التي عليها "شرح العراقي":(حسن). وأما باقي النسخ الخطية ففيها: (حسن صحيح)، قاله محققو طبعة الرسالة

(2)

.

قلت: وفي "تحفة الأحوذي"

(3)

، والنسخة الحجرية المطبوعة مع التحفة:(حسن) فقط.

وأما الاختلاف على قتادة في وصل هذا الحديث وإرساله؛ فالصواب الوصل، فقد وصله: شعبة

(4)

، وأبو عوانة

(5)

، وهمام

(6)

عن قتادة، وهو الصحيح، ويؤكد ذلك رواية يونس بن عبيد عن الحسن عن سمرة

(7)

، فالصواب الوصل. وإلى هذا ذهب العقيلي، والدارقطني

(8)

.

وأما الذين أرسلوه، فهم: معمر، -كما أخرجه عبد الرزاق عنه-

(9)

، وأبان، -كما ذكره الدارقطني-

(10)

، وسعيد بن أبي عروبة -في رواية

(1)

(1/ 568).

(2)

(2/ 49).

(3)

(3/ 6).

(4)

أخرجه أحمد (20120)، والنسائي (1396)، وصححه ابن خزيمة (1757) من طريق يزيد بن زريع عن شعبة.

(5)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(6820).

(6)

أخرجه أحمد (20089)، وأبو داود (354).

(7)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(6926).

(8)

"الضعفاء" للعقيلي (2/ 166)، و"علل الدارقطني"(6/ 145).

(9)

"المصنف"(5370).

(10)

ينظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1411)، "العلل الكبير" للترمذي (141).

ص: 539

الخفاف

(1)

، وأما في رواية يزيد بن زريع عنه فقد وصله

(2)

-.

وقال أبو حاتم: (جميعا صحيحيْن؛ همام ثقة وصله، وأبان لم يوصله)

(3)

.

وأما الحكم على هذا الحديث: فالصواب أنه لا يصح، وذلك؛ لأن رواية الحسن عن سمرة، إنما هي صحيفة، وسمع بعض الأحاديث من سمرة، كحديث العقيقة. قال ابن حجر في "فتح الباري":(وله علتان: إحداهما: أنه من عنعنة الحسن، والأخرى: أنه اختلف عليه فيه)

(4)

.

قلت: أما الاختلاف فتبين أنه ليس بعلة، والصواب الوصل، فبقيت الأولى.

تنبيه: جاء في بعض طرق هذا الحديث عن الحسن عن أنس، وعن جابر، والصواب ما تقدّم

(5)

.

7 -

وقال أيضا في باب التقصير في السفر: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، قال: سئل عمران بن حصين عن صلاة المسافر، فقال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين، وحججت مع أبي بكر فصلى ركعتين، ومع عمر فصلى ركعتين، ومع عثمان ست سنين من خلافته أو ثمان سنين فصلى ركعتين.

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(1411)، وينظر:"العلل الكبير" للترمذي (141).

(2)

ذكره الدارقطني في "العلل"(6/ 145).

(3)

"علل الحديث" لابن أبي حاتم (2/ 541).

(4)

(2/ 362).

(5)

ينظر: "الضعفاء" للعقيلي (2/ 166)، "العلل" للدارقطني (5/ 184).

ص: 540

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: وهذا لا يصح، ابن جدعان لا يحتج به.

8 -

وقال أيضا في باب ما ذكر في الرخصة للجنب في الأكل والنوم إذا توضأ: (حدثنا هناد، قال: حدثنا قبيصة، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، عن عمار: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للجنب إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(2)

.

هكذا في أكثر من نسخةٍ، وفي "التحفة" أيضًا

(3)

.

قلت: يحيى لم يلق عمارا، كما قاله الدارقطني

(4)

، فبينهما رجلٌ، كما قاله أبو داود

(5)

، بالإضافة إلى أن عطاء الخرساني متكلّمٌ فيه، هذا إضافة إلى غرابة هذا الحديث من هذا الوجه، وقد جاء نحوه من حديث عمر

(6)

، وحديث عائشة

(7)

.

9 -

وقال أيضا في باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الباقي من شعبان لحال رمضان: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد،

(1)

(2/ 6).

(2)

(2/ 40).

(3)

(7/ 169).

(4)

ينظر: "سؤالات البرقاني للدارقطني"(ص: 62).

(5)

عقب إخراجه هذا الحديث في "سننه"(225).

(6)

أخرج البخاري (287) واللفظ له، ومسلم (306) من حديث نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال:"نعم إذا توضأ أحدكم، فليرقد وهو جنب".

(7)

أخرج مسلم (305) من حديث الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة، وأخرجه البخاري (288) من حديث عروة عن عائشة وليس فيه ذكر الأكل.

ص: 541

عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا".

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ.

ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن يكون الرجل مفطرا، فإذا بقي شيء من شعبان أخذ في الصوم لحال شهر رمضان.

وقد روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشبه قوله هذا، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تقدموا شهر رمضان بصيام، إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم".

وقد دل في هذا الحديث أنما الكراهية على من يتعمد الصيام لحال رمضان)

(1)

.

قلت: خولف أبو عيسى في تصحيحه لهذا الخبر، وقبل أن أنقل من خالفه، أنقل قول من وافقه على تصحيحه.

فقد وافقه أبو جعفر الطحاوي

(2)

، وابن حبان

(3)

، والحاكم

(4)

، وابن عبد البر

(5)

، وابن حزم

(6)

، والجورقاني

(7)

، فظهر أنه لم يصححه أحد من الأئمة المتقدمين سوى أبي عيسى.

وأما الذين ضعفوه وأعلوه:

فعلى رأسهم عبد الرحمن بن مهدي، قال أبو داود: بعد أن روى هذا

(1)

(2/ 112).

(2)

"شرح معاني الآثار"(2/ 83).

(3)

"الصحيح"(3593)(3595).

(4)

"المدخل إلى كتاب الإكليل"(ص: 94).

(5)

"الاستذكار"(3/ 371).

(6)

"المحلى"(4/ 447 - 448).

(7)

"الأباطيل"(489).

ص: 542

الحديث: (وكان عبد الرحمن، لا يحدث به، قلت لأحمد: لم؟ قال: لأنه كان عنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان، وقال: عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه، قال أبو داود: وليس هذا عندي خلافه، ولم يجئ به غير العلاء، عن أبيه)

(1)

.

ومنهم: الإمام أحمد، فقال: هذا حديث منكر، كما في "مسائل أبي داود"

(2)

، وقال المروذي:(وذكرت له حديث زهير بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان نصف شعبان فلا صوم" فأنكره، وقال: سألت ابن مهدي عنه، فلم يحدثني به، وكان يتوقاه، ثم قال أبو عبد الله: هذا خلاف الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(3)

.

ونقله حرب عن أحمد، كما في "الفروسية" لابن القيم

(4)

، وأحمد بن حفص السعدي، كما في "الكامل" لابن عدي

(5)

.

ونقل الحافظ في "الفتح"

(6)

عن ابن معين أنه قال: (منكر)، وذلك لما جاء عند أبي عوانة في "المستخرج"

(7)

: (حدثني جعفر بن محمد الطيالسي، حدثنا يحيى بن معين، عن عفان، عن عبد الرحمن بن إبراهيم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان النصف من شعبان فلا تصوموا، ومن كان عليه صوم من رمضان، فليسرد الصوم ولا يقطع". قال جعفر: كان عبد الرحمن قاصًّا هنا، وحدَّث عنه زيد بن الحباب وبهز ابن أسد أيضًا. سمع عبد الرحمن هذه الأحاديث من العلاء مع روح بن

(1)

"السنن"(4/ 26).

(2)

(ص 315).

(3)

"العلل ومعرفة الرجال" رواية المروذى وغيره (278).

(4)

(188)، وهو في "مسائل حرب الكرماني"(3/ 1250).

(5)

(5/ 129).

(6)

(4/ 129).

(7)

(2916).

ص: 543

القاسم، وحَدَث عنه حديث منكر، ثم ذكر جعفر هذا عن يحيى بن معين عن عفان).

وقال ابن حجر: (وعن جعفر بن محمد الطيالسي، عن يحيى بن معين، عن عفان، عن عبد الرحمن بن إبراهيم، كلهم عن العلاء، به. قال يحيى بن معين: هو منكر)

(1)

.

وقال السخاوي: (وقال أبو عوانة: قال جعفر الطيالسي: قال يحيى ابن معين: هذا حديث منكر انتهى. فما أدري لأي معنى خرجه مع حكاية هذا لا سيما ومسلم لم يخرجه، ويحتمل أن يكون حمل المنكر هنا على الفرد المطلق فإن ذلك يقع كثيرًا في كلامهم ولا يقتضي ذلك ضعفا، ويحصل التوفيق بين كلامهم، كما قاله شيخنا بحمل المنكر على هذا، وأن من حَسَّنه نظر إلى حال العلاء فإنه صدوق، لكنه ليس في درجة المتقنين، وقد أخرج له مسلم كثيرًا من حديث، مما له فيه متابع، أو شاهد، ولم يخرج له هذا

)

(2)

.

ويلاحظ أن ابن رجب في "اللطائف"

(3)

عند ذكر من ضعف هذا الخبر لم يذكر ابنَ معينٍ معهم؛ لأن الكلام الذي تقدم ليس بصريح عنه الصراحة التامة.

وفي "سؤالات ابن الجنيد" قال: (ذكر يحيى بن معين وأنا أسمع حديث العلاء

فقال: رواه زهير بن محمد، وعبد الرحمن بن إبراهيم والزنجي، قلت ليحيى: والدراوردي؟ قال: الدراوردي ومحمد بن جعفر لا يرفعانه. قلت ليحيى: حدثنا غير واحد عن الدراوردي يرفعه)

(4)

.

(1)

"إتحاف المهرة"(15/ 274).

(2)

"الأجوبة المرضية"(1/ 36 - 37).

(3)

(ص: 135).

(4)

(ص 160، رقم 578).

ص: 544

فيلاحظ هنا أنه لم يحكم عليه بشيءٍ، وإنما ذكر اختلافًا بين أصحاب العلاء في وقفه ورفعه، ولكن قد رواه الأكثر بالرفع، والله تعالى أعلم.

ومنهم: أبو زرعة الرازي، وأبو بكر الأثرم، كما نقل ابن رجب في "اللطائف"

(1)

.

وقال الخليلي: (العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة: مديني مختلف فيه؛ لأنه يتفرد بأحاديث لا يتابع عليها، كحديث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى رمضان"، وقد أخرج مسلم في الصحيح المشاهير من حديثه، دون هذا، والشواذ)

(2)

.

وقال ابن رجب -بعد أن ذكر الحديث-: (وصححه الترمذي وغيره، واختلف العلماء في صحة هذا الحديث، ثم في العمل به.

فأما تصحيحه فصححه غير واحد، منهم الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والطحاوي، وابن عبد البر، وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا: هو حديث منكر، منهم عبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة الرازي، والأثرم.

وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء حديثا أنكر منه، ورده بحديث:"لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين"، فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين.

وقال الأثرم: الأحاديث كلها تخالفه. يشير إلى أحاديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله ووصله برمضان، ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين،

(1)

(ص 135).

(2)

"الإرشاد في معرفة علماء الحديث"(1/ 218).

ص: 545

فصار الحديث حينئذ شاذًا مخالفًا للأحاديث الصحيحة)

(1)

.

قلت: تبين أن علة هذا الخبر هي تفرد العلاء به، ويظهر أنه أخطأ فيه، ولا أعلم أنه أُنكر على العلاء سوى هذا الحديث، وهذه السلسلة مشهورة قد خرج الإمام مسلم أحاديث كثيرة بها، وكذلك أبو عيسى قد صحح أكثرها

(2)

.

10 -

وقال أيضا في باب ما جاء في عاشوراء أي يوم هو؟: (حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: حدثنا وكيع، عن حاجب بن عمر، عن الحكم بن الأعرج، قال: انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء، أي يوم أصومه؟ فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، ثم أصبح من يوم التاسع صائما، قال: قلت: أهكذا كان يصومه محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبد الوارث، عن يونس، عن الحسن، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء يوم عاشر.

(1)

"لطائف المعارف"(ص: 135).

(2)

أخرج الترمذي بهذه السلسلة ثمانية وعشرين حديثا، وهذا بيان حكمه عليها:

حسن صحيح: (51، 52)، (214)، (371)، (491)، (750)، (1370)، (1439)، (1631)، (1648)، (2059)، (2108)، (2160)، (2354)، (2491)، (2599)، (2601)، (2747) [وفي بعض النسخ و"تحفة الأشراف" (14054):(حسن)(2881)، (3108)، (3872).

صحيح: (2408)، (2427) [وفي بعض النسخ:(حسن صحيح)].

حسن صحيح غريب: (4153).

حسن: (3202، 3203)، (3873).

حسن غريب: (493)، (2832).

غريب في إسناده مقال: (3563 - 3565).

لم يحكم عليه: (3410، 3411).

ص: 546

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حسن صحيح)

(1)

.

قلت: الإسناد الأول صحيحٌ، وأما الثاني فهو منقطعٌ ما بين الحسن وابن عباس، فهل تصحيح أبي عيسى للأول أم للثاني؟ كلاهما محتمل، وقد قال العراقي: (وأما قول الترمذي: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، فإنه لم يوضح مراده أيّ حديثيْ ابن عباس أراده، وقد فهم أصحابُ "الأطراف" أنه أراد تصحيح حديثه الأول، فذكروا كلامه هذا عقب حديثه الأول

)

(2)

.

11 -

وقال أيضا في باب ما جاء في كراهية الحجامة للصائم: (حدثنا محمد بن رافع النيسابوري ومحمود بن غيلان ويحيى بن موسى، قالوا: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم ابن عبد الله بن قارظ، عن السائب بن يزيد، عن رافع بن خديج، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أفطر الحاجم والمحجوم".

وفي الباب عن سعد، وعلي، وشداد بن أوس، وثوبان، وأسامة بن زيد، وعائشة، ومعقل بن يسار، -ويقال: معقل بن سنان-، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي موسى، وبلال.

قال أبو عيسى: حديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح

(3)

.

(1)

(2/ 120).

(2)

ينظر: "عمدة القاري" للعيني (11/ 117)، و"تحفة الأحوذي"(3/ 383).

(3)

وكذا في ط. الرسالة (2/ 297)، وبشار وشاكر (774)، و"تحفة الأحوذي"(3/ 405)، وكذا في الطبعة الحجرية، والنسخة التي في أعلاها، و"نصب الراية" (2/ 473):(حسنٌ صحيحٌ).

وفي "مختصر الأحكام" للطوسي (3/ 437)، و"تحفة الأشراف" للمزي (3/ 72)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (3/ 251) فيما نقله عن ابن الجوزي:(حسنٌ). قلت: والأقرب ما جاء في "تحفة الأشراف" وغيرها من المصادر، وذلك؛ =

ص: 547

وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج.

وذكر عن علي بن عبد الله أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان، وشداد بن أوس؛ لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة الحديثين جميعا، حديث ثوبان، وحديث شداد بن أوس

قال أبو عيسى: وأخبرني الحسن بن محمد الزعفراني، قال: قال الشافعي: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أفطر الحاجم والمحجوم" ولا أعلم واحدا من هذين الحديثين ثابتا، ولو توقى رجل الحجامة وهو صائم كان أحب إلي، وإن احتجم صائم لم أر ذلك أن يفطره.

قال أبو عيسى: هكذا كان قول الشافعي ببغداد، وأما بمصر فمال إلى الرخصة ولم ير بالحجامة بأسا، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في حجة الوداع وهو محرم صائم)

(1)

.

قال ابن حجر: (ونقل الترمذي أيضا عن البخاري أنه قال: ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد وثوبان، قلت: فكيف بما فيهما من الاختلاف؟ يعني عن أبي قلابة، قال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، وعن أبي قلابة عن

= لأنه ذكره في كتابه "العلل الكبير"(ص: 121) ونقل عن البخاري أنه قال: (غير محفوظ)، ونقل عن إسحاق بن منصور قوله:(غلط)، ثم شرح علة هذا الخبر. فكيف يصححه بعد كل هذا؟! اللهم إلا أن يقال إنه صححه في "الجامع" ثم رجع عن تصحيحه في كتابه "العلل الكبير"، ويؤيد هذا أنه اقتصر في كتابه "الجامع" على إيراد قول أحمد أنه (أصح شيء في هذا الباب)، ولكن الأقرب عدم تصحيحه، والله تعالى أعلم.

(1)

(2/ 130 - 131).

ص: 548

أبي الأشعث عن شداد روى الحديثين جميعا. يعني: فانتفى الاضطراب وتعين الجمع بذلك.

وكذا قال عثمان الدارمي: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم من طريق ثوبان وشداد، قال: وسمعت أحمد يذكر ذلك.

وقال المروذي: قلت لأحمد: إن يحيى بن معين قال: ليس فيه شيء يثبت، فقال: هذا مجازفة.

وقال ابن خزيمة: صح الحديثان جميعا، وكذا قال ابن حبان والحاكم، وأطنب النسائي في تخريج طرق هذا المتن وبيان الاختلاف فيه فأجاد وأفاد.

وقال أحمد: أصح شيء في باب (أفطر الحاجم والمحجوم) حديث رافع بن خديج.

قلت: يريد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، عن السائب بن يزيد، عن رافع.

لكن عارض أحمد يحيى بن معين في هذا، فقال: حديث رافع أضعفها. وقال البخاري: هو غير محفوظ. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هو عندي باطل. وقال الترمذي: سألت إسحاق بن منصور عنه فأبى أن يحدثني به عن عبد الرزاق، وقال: هو غلط، قلت: ما علته؟ قال: روى هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، بهذا الإسناد حديث:"مهر البغي خبيث"، وروى عن يحيى، عن أبي قلابة: أن أبا أسماء حدثه أن ثوبان أخبره به، فهذا هو المحفوظ عن يحيى، فكأنه دخل لمعمر حديث في حديث، والله أعلم)

(1)

.

(1)

"فتح الباري"(4/ 177).

ص: 549

12 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الرخصة في ذلك -أي الحجامة للصائم-: (حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن يزيد ابن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فيما بين مكة والمدينة وهو محرم صائم.

وفي الباب عن أبي سعيد، وجابر، وأنس.

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: هذا الخبر لا يصح؛ لأن يزيد بن أبي زياد لا يحتج به، وأيضًا الحديث بهذا اللفظ لا يصح -وسيأتي شرح ذلك-، لذا عندما رواه النسائي من طريق شعبة عن يزيد، ثم رواه أيضًا من طريق شعبة عن الحكم

(2)

، كلاهما عن مقسم به، قال:(يزيد بن أبي زياد لا يحتج بحديثه، والحكم لم يسمعه من مقسم).

قلت: ثم ساقه من طريق شريك عن خصيف عن مقسم به

(3)

.

قلت: وهذا فيه خصيف لا يحتج به، وشريكٌ أيضًا فيه بعض الكلام، والله تعالى أعلم.

13 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الفطر والأضحى متى يكون؟: (حدثنا يحيى بن موسى، قال: حدثنا يحيى بن اليمان، عن معمر، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس".

قال أبو عيسى: سألت محمدا: قلت له: محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟

(1)

(2/ 132).

(2)

"السنن الكبرى"(3411، 3412).

(3)

"السنن الكبرى"(3413).

ص: 550

قال: نعم، يقول في حديثه: سمعت عائشة.

قال أبو عيسى: فهذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه)

(1)

.

قلت: هذا الحديث أسانيده لا تخلو من كلامٍ؛ وأقواها طريق ابن المنكدر عن أبي هريرة، وهو لم يسمع منه.

وفيه علة أخرى، وهي الاختلاف على ابن المنكدر: فقد رواه ابن علية وعبد الوهاب الثقفي، كلاهما عن أيوب به موقوفًا

(2)

.

وخالفهم حماد بن زيد فرفعه

(3)

.

وهذا لعله من أيوب، وهو إمامٌ، ولكنه لورعه قد يوقف الحديث.

ويؤيد رواية حماد أن عبد الوارث

(4)

، وروح بن القاسم

(5)

، قد روياه عن ابن المنكدر مرفوعًا، والإسناد إليهما جيد، ويضاف إليهم معمر

(6)

؛ فيكون الراجح في هذا الخبر الرفع، ولكن تبقى العلة الأولى، وهي الانقطاع.

وجاء من طريق آخر: أخرجه الترمذي

(7)

وغيره من حديث عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.

(1)

هكذا في ط. دار التأصيل (2/ 144) والرسالة (2/ 322)، وفي "تحفة الأشراف" (11/ 717):(حسن، صحيح، غريب من هذا الوجه)، وقال البغوي في "شرح السنة" (6/ 247):(قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه).

(2)

"السنن" للدارقطني (2177)، ومن طريقه البيهقي (8206).

(3)

"السنن" للدارقطني (2178، 2445).

(4)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(8207).

(5)

أخرجه الدارقطني في "السنن"(2179)(2446)، ومن طريقه البيهقي (8207).

(6)

أخرجه الترمذي في "العلل الكبير"(219)، والدارقطني في "السنن"(2447).

(7)

"الجامع"(706).

ص: 551

وهذا الإسناد فيه عبد الله بن جعفر هو المخرمي، وهو ثقة، ولكن تُكلم في روايته عن عثمان، قال ابن حبان:(يعتبر حديثه من غير رواية المخرمي عنه)

(1)

.

وعثمان الأخنسي متكلم فيه بعض الشيء، وفي سماعه من المقبري شيء، قال البخاري:(كنت أظن أن عثمان لم يسمع من المقبري)

(2)

. فهل يقصد أنه قد تبين له خلاف ذلك؟ أو يريد تأكيد هذا الأمر وأنه لم يسمع منه؟ كلاهما محتملٌ، والسبب في ذلك أنه لم يذكر عنه سوى ما تقدم.

قلت: وقد توبع الأخنسي، فقد رواه الدارقطني من طريق محمد بن عمر، قال: ثنا داود بن خالد وثابت بن قيس ومحمد بن مسلم، جميعًا عن المقبري به

(3)

.

ولكن هذه المتابعة ليست بشيء؛ لأن محمد بن عمر هو الواقدي.

وأما حديث عائشة، فطريق يحيى بن اليمان، عن معمر، عن ابن المنكدر، عن عائشة خطأ.

وقد رواه الشافعي من طريق عروة، عن عائشة

(4)

، ولكن في إسناده ابن أبي يحيى الأسلمي، وهو متروكٌ.

ورواه يزيد بن عياض بن جعدبة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة به

(5)

، ويزيد متروكٌ.

(1)

"الثقات"(7/ 203).

(2)

"العلل الكبير" للترمذي (ص: 161).

(3)

"السنن"(2180).

(4)

"الأم"(489).

(5)

أخرجه البغوي في "الجعديات"(2956)، ومن طريقه الطبراني في "المعجم الأوسط"(3315).

ص: 552

ورواه البيهقي من طريق حماد بن زيد، عن أبي حنيفة، عن عمرو بن دينار، عن علي بن الأقمر، عن مسروق عن عائشة، موقوفًا عليها

(1)

.

وهذا فيه أبو حنيفة، وهو لا يحتج به.

فتبين مما تقدم أن تقوية هذا الخبر بمجموع طرقه فيها نظرٌ.

14 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الاعتكاف إذا خُرج منه: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، قال: أنبأنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عاما، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين.

هذا حديث حسن غريب صحيح من حديث أنس بن مالك)

(2)

.

قلت: هذا الحديث قد تفرد به ابن أبي عدي، قال الإمام أحمد بعد أن أخرجه في "المسند"

(3)

: (لم أسمع هذا الحديث إلا من ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس).

ومن طريق ابن أبي عدي أخرجه: ابن خزيمة

(4)

، وابن حبان

(5)

،

(1)

"السنن الكبرى"(8209).

(2)

هكذا في طبعة "دار التأصيل"(2/ 144)، و"الرسالة"(2/ 322)، و"تحفة الأحوذي"(3/ 433)، والنسخة التي معها في الأعلى (الطبعة الحجرية)(2/ 71). وفي الطبعة التي حقق أولها أحمد شاكر -وهذا الحديث ليس منه- (3/ 157)، و"تحفة الأشراف" (1/ 392):(حسن صحيح غريب).

وفي "شرح السنة" للبغوي (6/ 396): (هذا حديث صحيح غريب، من حديث أنس).

فتبين مما تقدم أن أبا عيسى يصحح هذا الحديث.

(3)

(12017).

(4)

"صحيح ابن خزيمة"(2226، 2227).

(5)

"صحيح ابن حبان"(3666، 3668) من طريق أحمد بن حنبل.

ص: 553

والحاكم

(1)

، والبيهقي

(2)

، والبغوي

(3)

.

وفي "العلل" للدارقطني أنه سئل عن حديث حميد، عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين، فقال:(يرويه ابن أبي عدي عن حميد عن أنس، وهذا يرويه حماد بن سلمة عن حميد عن أبي نضرة عن أبي سعيد)

(4)

.

قلت: وحماد بن سلمة أثبت في حميد من ابن أبي عدي، ولكن جاء عن حماد حديث آخر بنحو الحديث المتقدم: فروى عنه جمعٌ كبير من أصحابه على رأسهم ابن مهدي، وعفان، وأبو داود الطيالسي، وغيرهم كلهم عن حماد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عاما، فاعتكف من العام المقبل عشرين ليلة.

أخرجه أحمد

(5)

والنسائي في "الكبرى"

(6)

وابن ماجه

(7)

والطيالسي

(8)

وابن خزيمة

(9)

وابن حبان

(10)

، وغيرهم، وقد ساق طرقه الضياء في "المختارة"

(11)

.

وهذا إما أن يكون حديثا آخر، وإما اختلافا على حماد، والثاني هو

(1)

"المستدرك"(1601).

(2)

"السنن الكبرى"(8565).

(3)

"شرح السنة"(1834) من طريق الترمذي.

(4)

(6/ 56).

(5)

"المسند"(21277).

(6)

"السنن الكبرى"(3529).

(7)

"سنن ابن ماجه"(1770).

(8)

أخرجه في "المسند" الذي جمع له (555).

(9)

"الصحيح"(2225).

(10)

"الصحيح"(3667) وقال قبله: (ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به حميد الطويل).

(11)

(4/ 45 - 48).

ص: 554

الأقرب، ولكن الطريق التي ذكرها الدارقطني ليست موجودة في الكتب الستة، بل وليس فيها متن بهذا الإسناد، وقد روى أبو داود الطيالسي

(1)

، وأحمد

(2)

، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر، في تسع يبقين، وسبع يبقين، وخمس يبقين، وثلاث يبقين".

وهذا ليس فيه ذكر للاعتكاف، ولكن من المعلوم أن أبا سعيد قد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأول ثم الأوسط يطلب ليلة القدر، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"إنها في العشر الأواخر"، وقد جاء عنه من طرق بألفاظ متعددة، فهل مقصود الدارقطني هذا؟ فإن كان هو مقصوده، فتكون هذه الرواية أرجح الروايات؛ لأن حديث أبي سعيد هذا حديث صحيح، جاء من طرق متعددة كما تقدم، في "الصحيحين"، والسنن، والمسانيد.

15 -

وقال أيضا في باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل: (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضَعَفَة أهله، وقال:"لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح)

(3)

.

قلت: هذا حديث معلول، وقد بين علته البخاري، قال: (وقال معاذ بن معاذ: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترموا الجمرة، حتى تطلع الشمس".

وقال حفص: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا الحكم، عن مقسم، عن

(1)

"المسند" الذي جمع له (2280).

(2)

"المسند"(11679).

(3)

(2/ 195).

ص: 555

ابن عباس: وقف النبي صلى الله عليه وسلم وردفه الفضل بعرفة ثم أفاض، فلم أره رافعة يدها عادية حتى أتى جمعا، قال أسامة: ثم أردفني، ووقف جمعا وردفه أسامة، ثم أفاض يبادر طلوع الشمس، فلم أرها رافعة يدها حتى أتى منى، قال: ونحن على حُمُرات لنا، فجعل يضرب أفخاذنا، ويقول:"بنيّ، أفيضوا، ولا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".

والمستفيض عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف أسامة، من عرفة إلى جمع.

وكذلك قال أسامة: أردفني النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، ثم أردف الفضل من جمع إلى منى، وقوله:"بني" كأنه قال لهؤلاء الذين معه.

وحديث الحكم هذا عن مقسم مضطرب؛ لما وصفنا، ولا يُدرى الحكم سمع هذا من مقسم أم لا.

وروى المسعودي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم ضعفة أهله من جمع بليل، يوصي كل إنسان أن لا يرمي حتى تطلع الشمس.

وقد بينه زهير بن حرب قال: حدثنا وهب -يعني ابن جرير-، قال: حدثني أبي، عن يونس الأيلي، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس: أن أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى.

ورواه سفيان، عن سلمة، عن الحسن العرني، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لضَعَفة أهله: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس"، ولم يسمع الحسن من ابن عباس.

حدثنا محمد قال: حدثنا آدم قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن شعبة

ص: 556

مولى ابن عباس، عن ابن عباس: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله إلى منى يوم النحر، فرمينا الجمرة مع طلوع الفجر.

حدثنا محمد قال: حدثني عياش قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي قال: حدثنا عطاء بن أبي رباح قال: حدثتني عائشة بنت طلحة، عن خالتها عائشة أم المؤمنين: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر إحدى نسائه وهي سودة، أن تنفر من جمع ليلة جمع، فتأتي جمرة العقبة فترميها، فتصبح في منزلها. وكان عطاء يفعلها حتى مات.

حدثنا محمد قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن ابن جريج قال: حدثني عبد الله مولى أسماء، عن أسماء: أنها ارتحلت من جمع حين غاب القمر فمضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح، فقلت لها، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن.

وكذلك حكى عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر قال: فمنهم من يقدم منى ليلا، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة.

وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك فعلت أم سلمة، وحديث هؤلاء أكثر في الرمي قبل طلوع الشمس وأصح)

(1)

.

16 -

وقال أيضا في باب ما جاء كيف ترمى الجمار: (حدثنا نصر بن علي الجهضمي، وعلي بن خشرم، قالا: حدثنا عيسى بن يونس، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما جعل رمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله".

(1)

"التاريخ الأوسط"(3/ 200 - 206).

ص: 557

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: هذا حديثٌ معلولٌ؛ عبيد الله بن أبي زياد ليس بالقوي، وقد اختلف فيه، والصواب في هذا الحديث الوقف، قال البيهقي -بعد أن ذكر رواية عبيد الله-:(ورواه ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة فلم يرفعه، ورواه حسين المعلم، عن عطاء، عن عائشة فلم يرفعه)

(2)

.

قلت: ابن أبي مليكة ثقة ثبت عالم، فلا شك أن روايته مقدّمة على رواية عبيد الله بن أبي زياد، كيف وقد رواه ابن جريج -كما عند عبد الرزاق

(3)

-، وحبيب المعلم -كما في "أخبار مكة" للفاكهي

(4)

-، كلاهما عن عطاء، عن عائشة، موقوفًا عليها؟.

هذا بالإضافة إلى رواية حسين المعلم التي ذكرها البيهقي.

فالخبر إذًا موقوفٌ وليس بمرفوعٍ، وقد أشار إلى هذا البيهقي، كما تقدم.

وقد جاء عن عبيد الله بن أبي زياد وقفه أيضًا كما في رواية ابن عيينة عنه. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"

(5)

.

وهذا يدل على اضطرابه في وقف هذا الخبر ورفعه، ولكن رواية الرفع هي الأصح عنه، لذا فقد يكون وقف هذا الخبر إنما هو من ابن عيينة وليس منه.

وقد صحح المرفوع ابن الجارود، وابن خزيمة، والحاكم

(6)

.

(1)

(2/ 199).

(2)

"السنن الكبرى"(5/ 237).

(3)

"المصنف"(9138).

(4)

(2/ 235)(1423).

(5)

(16031).

(6)

"المنتقى" لابن الجارود (457)، "صحيح ابن خزيمة"(2738، 2882)، 2970)، "المستدرك"(1685).

ص: 558

17 -

وقال أيضا في باب ما جاء متى تقطع التلبية في العمرة؟: (حدثنا هناد، قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس -قال: يرفع الحديث-: إنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر.

وفي الباب عن عبد الله بن عمرو.

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس صحيح

(1)

)

(2)

.

قلت: هذا الحديث معلول، والصواب فيه الوقف، وهذا ما ذهب إليه الشافعي، وأبو داود، والبيهقي.

قال الشافعي: (روى ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى في عمرة حتى استلم الركن، ولكنا هبنا روايته؛ لأنا وجدنا حفّاظ المكيين يقفونه على ابن عباس)

(3)

.

وقال أبو داود: (رواه عبد الملك بن أبي سليمان وهمام، عن عطاء، عن ابن عباس موقوفا)

(4)

.

قال البيهقي -عقب كلام الشافعي السابق-: (رفعه خطأ، وكان ابن أبي ليلى هذا كثير الوهم، وخاصة إذا روى عن عطاء فيخطئ كثيرا، ضعفه أهل النقل مع كبر محله في الفقه، وقد روي عن المثنى بن الصباح، عن عطاء مرفوعا، وإسناده أضعف مما ذكرنا)

(5)

.

(1)

في بعض الطبعات: (حسن صحيح).

(2)

(2/ 207).

(3)

"السنن الكبرى" للبيهقي (9412)، و"معرفة السنن والآثار" له (10011، 10012).

(4)

عقب حديث رقم (1817).

(5)

"السنن الكبرى"(5/ 170)، وينظر:"معرفة السنن والآثار"(10012)(10013).

ص: 559

18 -

وقال أيضا في باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا؟: (حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا عمر بن علي، عن الحجاج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: "لا، وأن تعتمروا هو أفضل".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: هذا خبر منكر لا يصح، وإنما هو موقوف، وحجاج هو ابن أرطاة، لا يحتج به، وهو موصوف بالتدليس.

بل جاء عن جابر بإسناد قوي أنه قال: العمرة واجبة.

ملحوظة: لم يصحح أبو عيسى لحجاج بن أرطاة سوى هذا، وهناك حديث آخر ساقه من طريق حجاج، ثم ساقه بإسنادٍ آخر صحيح وقال:(حسن صحيح)

(2)

، فالظاهر أن هذا التصحيح إنما هو للإسناد الثاني، وقد خرّج أبو عيسى للحجاج نحوًا من (25) حديثًا.

* * *

(1)

(2/ 213).

(2)

ينظر: الحديثان (730)، (731).

ص: 560

الوجه الثالث والعشرون: قد يصحح أحاديث في أسانيدها ضعفٌ، وهذا لا ينافي ما تقدم تقريره، من أنه إذا صحح حديثا فالغالب أنه صحيح.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في دخول الكعبة: (حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين، طيب النفس، فرجع إليّ وهو حزين، فقلت له، فقال:"إني دخلت الكعبة، ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: إسماعيل مختلف فيه، والأكثر على عدم الاحتجاج به، وقد يكون أبو عيسى ممن يرى قوته، والله تعالى أعلم.

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء في تقبيل الميت: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم ابن عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبَّل عثمان ابن مظعون وهو ميت، وهو يبكي، أو قال: عيناه تهراقان

(2)

.

وفي الباب عن ابن عباس، وجابر، وعائشة، قالوا: إن أبا بكر قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت.

قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن صحيح)

(3)

.

قلت: عاصم بن عبيد الله الجمهور على تضعيفه، بل لم يقوه أحد من

(1)

(2/ 183).

(2)

في بعض النسخ: (تذرفان).

(3)

(2/ 242).

ص: 561

النقاد سوى العجلي، فقد قال عنه: لا بأس به

(1)

. وقد روى عنه مالك وشعبة والقطان.

أما الجواب عن رواية مالك عنه؛ فأقول وبالله تعالى التوفيق: إنما روى عنه حديثًا واحدًا

(2)

، وقد أنكر -أي مالك- على شعبة تحديثه عن عاصم

(3)

.

وأما الجواب عن رواية شعبة عنه؛ فشعبة وإن كان روى عنه، ولكنه تكلم فيه.

قال عفان: سمعت شعبة يقول: (كان عاصم بن عبيد الله، لو قيل له: من بنى مسجد البصرة؟ لقال: فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(4)

.

وأما رواية القطان عنه، فقد قال علي بن المديني:(ذكرنا عند يحيى ابن سعيد ضعف عاصم بن عبيد الله، فقال يحيى: هو عندي نحو ابن عقيل)

(5)

.

قلت: وقد جاء عن يحيى بن سعيد أنه كان لا يروي عن ابن عقيل، كما نقل ذلك علي بن المديني عنه

(6)

، ونقل عمرو بن علي عنه أنه كان

(1)

"تهذيب الكمال"(13/ 506).

(2)

قال النسائي: (لا نعلم مالكا روى عن إنسان ضعيف مشهور بالضعف، إلا عاصم بن عبيد الله، فإنه روى عنه حديثا

) "تهذيب الكمال"(13/ 505).

(3)

جاء في ترجمة عاصم في "تهذيب الكمال"(13/ 502): (قال المفضل بن غسان الغلابي، عن أبي سليمان التيمي، عن مالك: عجبت من شعبة هذا الذي ينتقي الرجال، وهو يحدث عن عاصم بن عبيد الله. وقال محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن أبيه، عن أبي سليمان قرة بن سليمان الجهضمي، قال لي مالك: شعبتكم يشدد في الرجال، وقد روى عن عاصم بن عبيد الله!).

(4)

"تهذيب الكمال"(13/ 502).

(5)

"تهذيب الكمال"(13/ 503).

(6)

قال علي بن المديني: ولم يرو عنه -أي:

يراجع هل الكلام في ترجمة =

ص: 562

يروي عنه

(1)

.

وأما أبو عيسى فيرى أنه ثقة أو مقارب، لذا صحح حديثه هذا وغيره من الأحاديث، ومن ذلك:

3 -

قال في باب ما جاء في مهور النساء: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن جعفر، قالوا: حدثنا شعبة، عن عاصم بن عبيد الله، قال: سمعت عبد الله بن عامر ابن ربيعة، عن أبيه، أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ " قالت: نعم، قال: فأجازه.

وفي الباب عن عمر، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وأبي سعيد، وأنس، وعائشة، وجابر، وأبي حدرد الأسلمي.

قال أبو عيسى: حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح)

(2)

.

4 -

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: حدثنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة.

هذا حديث حسن صحيح)

(3)

.

5 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الشقاء والسعادة: (حدثنا بندار،

= ابن عقيل- مالك بن أنس ولا يحيى بن سعيد القطان، قال يعقوب بن شيبة معقبا: وهذان -يعني مالكا وابن سعيد- ممن ينتقي الرجال) "تاريخ دمشق"(32/ 261) وينظر: "تهذيب الكمال"(16/ 80).

(1)

"الجرح والتعديل"(5/ 154).

(2)

(2/ 311 - 312).

(3)

(2/ 551 - 552).

ص: 563

قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن عاصم بن عبيد الله، قال: سمعت سالم بن عبد الله يحدث، عن أبيه، قال: قال عمر: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو مبتدأ، أو فيما قد فرغ منه؟ فقال:"فيما قد فرغ منه يا ابن الخطاب، وكل ميسر، أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه يعمل للشقاء".

وفي الباب عن علي، وحذيفة بن أسيد، وأنس، وعمران بن حصين.

وهذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

6 -

وقال أيضا: (حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر، أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فقال:"أي أخي، أشركنا في دعائك ولا تنسنا".

هذا حديث حسن صحيح)

(2)

.

ومما يؤكد ما سبق أنه قال في باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم: (حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا أشعث بن سعيد السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].

قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان.

(1)

(3/ 256 - 357).

(2)

(4/ 411 - 412).

ص: 564

وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يُضعَّف في الحديث)

(1)

.

وأخرجه أيضا في التفسير، باب ومن سورة البقرة، بهذا الإسناد، وقال:(هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان أبي الربيع، عن عاصم بن عبيد الله، وأشعث يضعَّف في الحديث)

(2)

.

قلت: ضعّفه من أجل أشعث، لا عاصم، فهذا يدل على قوته عنده.

نعم يوجد حديث لعاصم لم يصححه، فقال في باب ما جاء في السواك للصائم: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر ابن ربيعة، عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم -ما لا أحصي- يتسوك وهو صائم.

وفي الباب عن عائشة.

قال أبو عيسى: حديث عامر بن ربيعة حديث حسن)

(3)

.

قلت: إسناده صحيح جدا إلى عاصم، ومتنه مستقيم ليس فيه ما يستنكر، ومع ذلك لم يصححه، فلا أدري ما السبب في ذلك.

* * *

(1)

(1/ 483 - 484).

(2)

(4/ 61 - 62).

(3)

(2/ 105).

ص: 565

الوجه الرابع والعشرون: تصحيح أبي عيسى لأحاديث في أسانيدها من ليس بالمشهور.

ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في حق السائل: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الرحمن بن بُجيد، عن جدته أم بجيد -وكانت ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم-، أنها قالت لرسول الله: إن المسكين ليقوم على بابي فما أجد له شيئا أعطيه إياه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لم تجدي له شيئا تعطيه إياه إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه في يده".

وفي الباب عن علي، وحسين بن علي، وأبي هريرة، وأبي أمامة.

قال أبو عيسى: حديث أم بجيد حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: عبد الرحمن بن بجيد ليس بالمشهور، وقد اختلف في صحبته، والصواب أنه لا صحبة له، وقد ذكره ابن حبان في التابعين من كتابه "الثقات"

(2)

، وقال ابن عبد البر:(وكان يذكَر بالعلم)

(3)

.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم الأحول (ح) وحدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر الضبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(4)

.

(1)

(2/ 71).

(2)

(5/ 85).

(3)

"الاستيعاب"(2/ 823).

(4)

(2/ 89).

ص: 566

قلت: الرباب ليست بالمشهورة، إلا أن ابن حبان ذكرها في "الثقات"

(1)

كعادته، فهي إنما عُرفتْ بهذا الحديث، وما ذُكر أن لها أحاديث أخرى؛ كحديث: "مع الغلام عقيقته

"

(2)

، وحديث:"الصدقة على ذي القرابة"

(3)

= فهذه جُمَلٌ للحديث الذي معنا، فبعضهم ذكره كاملًا وبعضهم قطّعه، وقد ذكرها الذهبي ضمن المجهولات في كتابه "الميزان"

(4)

، وقال ابن حجر: مقبولة

(5)

.

ولكن أنا أذهب إلى ما ذهب إليه أبو عيسى، من تصحيح هذا الخبر، وذلك لاستقامته، ولكون الرباب من التابعين، واسم الستر والعدالة عليهم أكثر ممن أتى مِنْ بعدهم، وقد روت عن الرباب: حفصة بنت سيرين، وهي ثقةٌ مشهورةٌ، ولهذا وغيره صححه أبو عيسى، وابن خزيمة

(6)

، وابن حبان

(7)

، والحاكم

(8)

، وابن حزم

(9)

-لأنه احتج به، وهو لا يحتج بضعيفٍ عنده-، وأخرجه البغوي

(10)

ونقل عن الترمذي أنه قال: صحيح، وأقره على ذلك، بل ولا أعرف أن أحدًا من الأئمة المتقدمين قد ضعّف هذا الخبر.

3 -

وقال أيضا في باب ما جاء في الطعام يُصنع لأهل الميت: (حدثنا أحمد بن منيع، وعلي بن حجر، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اصنعوا لأهل جعفر طعاما، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم".

(1)

(4/ 244).

(2)

"الجامع"(1604)(1605).

(3)

"الجامع"(663).

(4)

(5/ 320).

(5)

"التقريب"(ص: 747).

(6)

"الصحيح"(2067).

(7)

"الصحيح"(3518)(3519).

(8)

"المستدرك"(1575).

(9)

"المحلى"(4/ 455).

(10)

"شرح السنة"(1743).

ص: 567

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح

وجعفر بن خالد هو ابن سارة، وهو ثقة، روى عنه ابن جريج)

(1)

.

قلت: هذا الخبر رجاله كلهم ثقات سوى خالد بن جعفر؛ فإنه ليس بالمشهور، ولكن حديثه مستقيم، لذا صححه المصنف، وأنا أذهب إلى ثبوت هذا الخبر، ولكن قد اختلفت النسخ في حكم الترمذي، ففي "تحفة الأشراف"

(2)

: (حسن). وفي ط. بشار و"تحفة الأحوذي"

(3)

: (هذا حديث حسن).

وفي "مختصر المنذري"

(4)

: (وقال الترمذي: حسن صحيح). وكذا في "نسخة الرسالة"

(5)

: (حسن صحيح).

4 -

وقال أيضا: (حدثنا يحيى بن خلف، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال:"يا معشر التجار"، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال:"إن التجار يبعثون يوم القيامة فجّارا، إلا من اتقى الله، وبر، وصدق".

هذا حديث حسن صحيح.

ويقال: إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة أيضا)

(6)

.

قلت: الحديث أخرجه ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم

(7)

.

(1)

(2/ 247 - 248).

(2)

(4/ 182).

(3)

(4/ 68).

(4)

(2/ 374).

(5)

(1019).

(6)

(2/ 373).

(7)

"سنن ابن ماجه"(2146)، "صحيح ابن حبان"(4149)، و"المستدرك"(2169)، وقال:(هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

ص: 568

وإسماعيل لم يوثقه إلا ابن حبان، ولم يذكر راويا عنه إلا عبد الله بن عثمان بن خثيم، وأشار الذهبي إلى تصحيح الترمذي لحديثه في "الميزان"، فقال:(عن أبيه، عن جده حديث: "إن التجار يبعثون فجّارا إلا من اتقى الله وبر"، ما علمت روى عنه سوى عبد الله بن عثمان بن خثيم، ولكن صحح هذا الترمذي)

(1)

. وقال في "الكاشف": مقبول لم يترك

(2)

.

وقال ابن حجر في "التقريب": مقبول

(3)

.

وقال مغلطاي: (خرج الحاكم، وابن حبان، وابن البيع، والطوسي حديثه في "صحيحهم")

(4)

.

وأحيانا لا يصحح الترمذي لمن لم يكن مشهورا، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو داود، قال: أخبرنا شعبة، والمسعودي، عن علقمة بن مرثد، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس: النياحة، والطعن في الأحساب، والعدوى، أجرب بعير فأجرب مائة بعير، من أجرب البعير الأول؟، والأنواء مطرنا بنوء كذا وكذا".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن)

(5)

.

(1)

"ميزان الاعتدال"(1/ 234).

(2)

"الكاشف"(1/ 248).

(3)

"تقريب التهذيب"(ص: 109).

(4)

"إكمال تهذيب الكمال"(2/ 193).

(5)

(2/ 249).

ص: 569

قلت: هذا الحديث رجاله كلهم ثقات مشاهير سوى أبي الربيع؛ فإنه ليس بالمشهور، ولكن قد روى عنه ثلاثة: سماك بن حرب، ويزيد بن أبي زياد، بالإضافة إلى علقمة بن مرثد.

وقال عنه أبو حاتم: صالح الحديث

(1)

، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(2)

. ولعدم شهرته قال عنه ابن حجر: مقبول

(3)

، فلعله لأجل عدم شهرة أبي الربيع لم يصحح أبو عيسى الحديث.

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت: (حدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا محمد بن عمار قال: حدثني أسيد بن أبي أسيد، أن موسى بن أبي موسى الأشعري، أخبره، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ما من ميت يموت فيقوم باكيهم، فيقول: واجبلاه، واسنداه، واسيداه، أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهزانه: أهكذا كنت؟ "

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب)

(4)

.

قلت: هذا أيضًا لم يصححه لأن فيه موسى بن أبي موسى، وهو ليس بالمشهور، وأما أَسيد بن أبي أَسيد، فلعله صالح الحديث.

* * *

(1)

"الجرح والتعديل"(9/ 370).

(2)

(5/ 582).

(3)

"التقريب"(ص: 639).

(4)

(2/ 250).

ص: 570

الوجه الخامس والعشرون: أنه أحيانا يصحح الخبر وإن كان في إسناده ضعف، وذلك لوجود قرائن تدل على صحته: فإما أن يكون في إسناده من هو سيء الحفظ فدلت القرائن على أنه حفظ، أو من هو مختلط فدلت القرائن على أنه ضبط الخبر، أو من هو مدلس فدلت القرائن على أن هذا مما سمعه ولم يدلسه.

والحفاظ قد يعلون الخبر بشخص معين في الإسناد، ويكون هناك غيره ممن هو متكلم فيه يسكتون عنه؛ وذلك لأنهم علموا بالقرائن أن العلة من هذا الراوي دون غيره، وغير ذلك.

وهذه القاعدة قاعدة مهمة جدا، سار عليها المتقدمون، بخلاف المتأخرين الذين ينظرون إلى ظاهر الإسناد دون القرائن، وبالتالي يرون أن في تصحيح بعض الأئمة لهذا الخبر تساهلا منهم، وأنهم لم يحسنوا تطبيق القواعد الحديثية، بينما الصواب هو العكس.

ومن الأمثلة على ذلك في "جامع أبي عيسى": أحاديث قتادة عن أنس، أو حميد عن أنس، أو أبي الزبير عن جابر، وغيرها، فإنه لم يردَّ خبرا منها بعنعنة من ذكر.

أو أحاديث عطاء بن السائب، فأحيانا يصححها حتى ولو كانت ممن روى عنه بعد الاختلاط، ومن الأمثلة على ذلك:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا أبو رجاء، قال: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه".

هذا حديث حسن صحيح، إنما يعرف من حديث عطاء بن السائب، وقد رواه شعبة والثوري عن عطاء بن السائب)

(1)

.

(1)

(3/ 96).

ص: 571

قلت: فهذا الحديث صححه أبو عيسى -وهو من رواية جرير عن عطاء، وقد سَمع منه بعد التغير-؛ لأن القرائن دلت على أن عطاء قد حفظه، بدليل رواية شعبة والثوري، وهما ممن سمع منه قديما.

2 -

وقال أيضا: (حدثنا يوسف بن عيسى، قال: حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن كثير بن جمهان، قال: رأيت ابن عمر يمشي في المسعى، فقلت له: أتمشي في المسعى بين الصفا والمروة؟ فقال: لئن سعيت، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، ولئن مشيت، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا شيخ كبير.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روى سعيد بن جبير، عن ابن عمر نحو هذا)

(1)

.

قلت: وهذا مثل الذي تقدم؛ فابن فضيل وإن كان سمع من عطاء قبل التغير، ولكن هذا الحديث مما استقام من حديث عطاء، بدليل مجيئه من وجه آخر، وهو طريق سعيد بن جبير عن ابن عمر.

3 -

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، قال: أنبأنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاما، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح من حديث أنس بن مالك)

(2)

.

قلت: هذا الحديث تفرد به ابن أبي عدي بهذا الإسناد، قال الإمام أحمد بعد أن أخرجه من طريقه:(لم أسمع هذا الحديث إلا من ابن أبي عدي عن حميد، عن أنس)

(3)

.

(1)

(2/ 179).

(2)

(2/ 144).

(3)

"المسند"(12017).

ص: 572

والحديث صححه ابن خزيمة

(1)

، وابن حبان

(2)

، والحاكم

(3)

، وأخرجه البغوي في "شرح السنة"

(4)

من طريق الترمذي، وقال:(هذا حديث صحيح غريب).

ولا أدري هل هذا من كلامه أم من كلام أبي عيسى، والأقرب الثاني.

ولم أقف على تصريح لحميد بسماعه من أنس، ولكن يكفينا تتابع هؤلاء الأئمة على تصحيحه، مع أنه قد اختلف على حميد فيه، ينظر:"العلل" للدارقطني

(5)

.

والأمثلة على هذا كثيرة.

لذا قال وكيع فيما رواه أبو داود: (كنا ندخل على سعيد بن أبي عروبة فنسمع، فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحا طرحناه)

(6)

.

وهذه طريقة الحفاظ الكبار أمثال وكيع.

وقريب من هذا: أن يكون في الإسناد انقطاع، ومع ذلك يتساهلون فيه؛ لأن القرائن دلت على أنه غير مؤثر، أو أن تأثيره ليس كبيرا.

قال يعقوب بن شيبة: (إنما استجاز أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن أبيه في المسند -يعني في الحديث المتصل- لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر)

(7)

.

ومنه أيضا: عندما يقع إبهام في الإسناد، ولكن تدل القرائن على أن هذا لا يضر:

(1)

"الصحيح"(2226، 2227).

(2)

"الصحيح"(3666، 3668) من طريق أحمد بن حنبل.

(3)

"المستدرك"(1601).

(4)

(1834).

(5)

(6/ 56)، وقد سبق الكلام على هذا الحديث في المثال (14) من الوجه (22).

(6)

"تهذيب الكمال"(11/ 10).

(7)

"شرح علل الترمذي"(1/ 298).

ص: 573

قال البخاري: (حدثنا علي بن عبد الله، أخبرنا سفيان، حدثنا شبيب ابن غرقدة، قال: سمعت الحي يحدثون، عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه، قال سفيان: كان الحسن بن عمارة جاءنا بهذا الحديث عنه، قال: سمعه شبيب من عروة فأتيته، فقال شبيب إني لم أسمعه من عروة، قال سمعت الحي يخبرونه عنه

)

(1)

.

قال ابن حجر: (وزعم ابن القطان أن البخاري لم يرد بسياق هذا الحديث إلا حديث الخيل، ولم يرد حديث الشاة، وبالغ في الرد على من زعم أن البخاري أخرج حديث الشاة محتجا به؛ لأنه ليس على شرطه؛ لإبهام الواسطة فيه بين شبيب وعروة، وهو كما قال، لكن ليس في ذلك ما يمنع تخريجه ولا ما يحطه عن شرطه؛ لأن الحي يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ويضاف إلى ذلك ورود الحديث من الطريق التي هي الشاهد لصحة الحديث، ولأن المقصود منه الذي يدخل في علامات النبوة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعروة فاستجيب له حتى كان لو اشترى التراب لربح فيه. وأما مسألة بيع الفضولي فلم يُردْها؛ إذ لو أرادها لأوردها في البيوع، كذا قرره المنذري وفيه نظر؛ لأنه لم يطرد له في ذلك عمل، فقد يكون الحديث على شرطه ويعارضه عنده ما هو أولى بالعمل به من حديث آخر، فلا يخرّج ذلك الحديث في بابه ويخرّجه في باب آخر أخفى لينبه بذلك على أنه صحيح، إلا أن ما دل ظاهره عليه غير معمول به عنده، والله أعلم)

(2)

.

* * *

(1)

"الصحيح"(3642).

(2)

"فتح الباري"(6/ 635).

ص: 574

الوجه السادس والعشرون: أنه قد يصحح الحديث وإن كان فيه ضعف، ويكون مقصوده أصل الحديث.

ومن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله في باب ما جاء في فضل الصدقة: (حدثنا أبو كريب محمد ابن العلاء، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عباد بن منصور، قال: حدثنا القاسم بن محمد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]، و {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] ".

قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح

(1)

.

وقد روي عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا)

(2)

.

قلت: هذا الحديث أخرجه أحمد

(3)

، والبزار

(4)

، وابن خزيمة

(5)

، والحاكم

(6)

من طريق أيوب، عن القاسم، عن أبي هريرة.

قال البزار عقبه: (وهذا الحديث قد رواه بعض أصحاب عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن رجل، عن القاسم، عن أبي هريرة فيرون أن أيوب سمعه من عباد بن منصور، وقد أسنده عبد الواحد بن صبرة، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة).

(1)

في بعض النسخ و"تحفة الأشراف"(10/ 295): (حسن صحيح).

(2)

(2/ 70).

(3)

"المسند"(7634).

(4)

"المسند"(8061).

(5)

"الصحيح"(2426).

(6)

"المستدرك"(3283) من طريق أحمد بن حنبل.

ص: 575

قلت: ولم أقف على من رواه عن عبد الرزاق هكذا، ولم يبين البزار من هو.

وأخرجه ابن خزيمة

(1)

من طريق هشام، والبزار

(2)

من طريق عبد الواحد بن صبرة، كلاهما عن القاسم بن محمد به نحوه.

قلت: وقد روي عن القاسم على وجه آخر، فرواه أحمد

(3)

، وابن حبان

(4)

، من طريق عبد الصمد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن القاسم بن محمد عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فُلُوَّه أو فصيله حتى يكون مثل أحد".

وأخرجه الطبراني قال: (حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي قال: نا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبل الصدقة، ويربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله".

قال: (لم يرو هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إلا أبو أويس، تفرد به: ابنه إسماعيل)

(5)

.

قلت: تبين مما تقدم أن هذا الخبر صحيحٌ من حديث القاسم عن أبي هريرة، سوى قوله: "وتصديق ذلك في كتاب الله

" الخ؛ فإن عباد بن منصور تفرد به، وهو لا يحتج به؛ تكلم فيه جمهور النقاد، ولعل الترمذي عندما صحّحه قصد أصل الحديث.

(1)

"الصحيح"(2427).

(2)

"المسند"(8062).

(3)

"المسند"(26135).

(4)

"الصحيح"(3320).

(5)

"المعجم الأوسط"(4228).

ص: 576

وأما طريق عائشة من رواية القاسم، فالذي يظهر أنه خطأ، وذلك؛ لأن أيوب وهشام وعبد الواحد بن صبرة وعباد، رووه عنه، عن أبي هريرة، فطريق عبد الصمد عن حماد بن سلمة عن ثابت خالفت رواية الجماعة، وقد يكون الخطأ من عبد الصمد، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 577

الوجه السابع والعشرون: أنه في حكمه على الحديث -في الأصل- يحكم عليه سندا ومتنا، ولكن في بعض الأحيان يحكم عليه من حيث الإسناد فقط، وفي أحيان أخرى يحكم على المتن دون إسناد بعينه وإنما بمجموع طرقه.

أما الأول فهذا هو الأصل في أحكامه.

وأما الثاني -وهو الحكم على الإسناد فقط- فمثاله:

1 -

قال رحمه الله: (حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة ابن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن حميد، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، قال: قلت لأنس: فكيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: كنا نتوضأ وضوءا واحدا.

قال أبو عيسى: حديث أنس حسن غريب من هذا الوجه، والمشهور عند أهل الحديث حديث عمرو بن عامر، عن أنس

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي قالا: حدثنا سفيان بن سعيد، عن عمرو بن عامر الأنصاري، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قلت: فأنتم ما كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: قوله: (حديث أنس حديث غريب)، وفي بعض النسخ:(حسن غريب)، هذا حكم على هذا الإسناد بعينه دون المتن، لأنه قد صحح هذا المتن بالطريق الأخرى المشهورة، وهي رواية عمرو بن عامر.

(1)

(1/ 311 - 312).

ص: 578

2 -

وقال رحمه الله: (حدثنا محمود، قال: حدثنا وكيع وعبد الرزاق وأبو أحمد، وأبو نعيم، قالوا: حدثنا سفيان، عن زيد العمي، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة".

قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن.

وقد رواه أبو إسحاق الهمداني، عن بريد بن أبي مريم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا)

(1)

.

قلت: قوله حديث حسن إنما هو حكم على طريق زيد العمي

بخصوصها، دون متن هذا الخبر، لأن متنه صحيح، فقد رواه أبو إسحاق عن بريد عن أنس، لذا قال في موضع آخر من كتابه الجامع:(وهذا أصح)

(2)

.

والأمثلة على هذا كثيرة.

قلت: إذا علم هذا، فإن فيه فائدة كبيرة في تلمس منهج أبي عيسى، وتزول بذلك بعض الإشكالات في عدم تصحيحه لأحاديث هي صحيحة؛ بسبب أنه ساقها من طريق فيه بعض الكلام، ولم يذكر الطرق الأخرى للحديث، فحكم على الطريق الذي ساقه، لا على جميع طرق الحديث؛ وبالتالي لا يقال: إن الترمذي خفيت عليه الطرق الصحيحة لهذا الحديث.

ومن الأمثلة على ذلك:

قوله: (حدثنا محمد بن موسى البصري، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، أمراء يكونون بعدي يميتون الصلاة، فصلّ

(1)

(1/ 409).

(2)

(4/ 426)(3930).

ص: 579

الصلاة لوقتها، فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك".

وفي الباب عن عبد الله بن مسعود، وعبادة بن الصامت.

قال أبو عيسى: حديث أبي ذر حديث حسن)

(1)

.

قلت: وهذا الحديث صحيح، فقد أخرجه مسلم من طريق حماد بن زيد وشعبة، بالإضافة إلى طريق جعفر بن سليمان، كلهم عن أبي عمران الجوني به، كما أنه أخرجه من حديث أبي العالية البراء، عن عبد الله بن الصامت به، وأخرجه أيضا من طريق شعبة، عن أبي نعامة، عن عبد الله بن الصامت بها

(2)

، فتبين أن هذا الحديث لا غبار على صحته، وبهذا زال الإشكال في عدم تصحيح أبي عيسى له، وأنه قصد طريق جعفر بن سليمان لا جميع طرقه، وجعفر من المعلوم أن فيه بعض الكلام.

وأما الثالث -وهو حكمه على المتن دون الإسناد أحيانا- فمن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله: (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".

قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق، عن محمد ابن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما عندي صحيح؛ لأنه قد روي من غير وجه، عن أبي هريرة، عن

(1)

(1/ 386).

(2)

"صحيح مسلم"(648).

ص: 580

النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وحديث أبي هريرة، إنما صح لأنه قد روي من غير وجه)

(1)

.

قلت: يلاحظ أنه صحح متن هذا الخبر بمجموع الطرق، لا بطريق بعينها، والأمثلة على هذا متعددة.

وقال رحمه الله: (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثقل من جمع بليل

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثقلٍ من جمع بليل حديث صحيح، روي عنه من غير وجه.

وروى شعبة هذا الحديث، عن مشاش، عن عطاء، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله من جمع بليل

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله، وقال:"لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".

قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح.

والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، لم يروا بأسا أن يتقدم الضعفة من المزدلفة بليل يصيرون إلى منى.

وقال أكثر أهل العلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم لا يرمون حتى تطلع الشمس، ورخص بعض أهل العلم في أن يرموا بليل، والعمل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول الثوري، والشافعي)

(2)

.

(1)

(1/ 290).

(2)

(1/ 194 - 195).

ص: 581

قلت: سياق المسعودي، عن الحكم، عن مقسم

لا يصح، بل هو معلول، والصواب أنه يجوز للضّعفة أن يرموا الجمرة حتى ولو لم تطلع الشمس، وهذه هي الفائدة من تعجلهم، وليس هذا موضع ذكر الأدلة على ذلك، لذا أعلّ الإمام البخاري هذا الحديث، ورده من جميع طرقه.

وأما الجواب عن تصحيح أبي عيسى: فأظنه يقصد أن أصله صحيح، بدليل قوله:(حديث ابن عباس بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثقلٍ حديث صحيح، روي عنه من غير وجه)، وإن كان قد قال: (وقال أكثر أهل العلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يرمون حتى تطلع الشمس

)، فكلامه هذا قد يفيد أنه صححه لذات هذا الإسناد، ولكن قد يقال: إن تعدد طرق هذا الحديث جعلته يتساهل بعض الشيء في التصحيح، والله أعلم.

وبهذا قد يجاب عن تصحيحه لبعض الأحاديث التي في صحة بعض ألفاظها نظر، وتكون صحيحة من حيث الأصل، والله تعالى أعلم.

* * *

ص: 582

الوجه الثامن والعشرون: أنه كان معتنيًا بالاتصال والانقطاع، ولكنه ليس مثل البخاري، فقد يصحح في بعض الأحيان أسانيد الراجحُ فيها الانقطاع.

ومن الأمثلة على اعتنائه بذلك:

1 -

قال رحمه الله في باب ما جاء في الخروج إلى منى والمقام بها: (حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بمنى الظهر والفجر، ثم غدا إلى عرفات.

وفي الباب عن عبد الله بن الزبير، وأنس.

قال أبو عيسى: حديث مقسم، عن ابن عباس، قال علي بن المديني: قال يحيى: قال شعبة: لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أحاديث، وعدها، وليس هذا الحديث فيما عد شعبة)

(1)

.

قلت: هذا الحديث لم يصحّحه، وذلك لأن الأصل في رواية الحكم عن مقسم الانقطاع، فهو لم يسمع منه إلا خمسة أحاديث، وهذا ليس منها.

وقد أخرج بهذا الإسناد تسعة أحاديث غير الحديث الذي تقدم، ولم يصحح منها سوى حديثين، ولعلهما من الأحاديث التي سمعها الحكم من مقسم، وأما الباقي فقد أشار في بعضها إلى الانقطاع ما بين الحكم ومقسم، وبعضها حسنها وهي أربعة أحاديث كما في "التحفة"، وأحدها قال:(ليس إسناده بذاك القوي، إبراهيم بن عثمان هو أبو شيبة الواسطي منكر الحديث)

(2)

، وآخر قال عنه:(غريب)

(3)

.

(1)

(2/ 186).

(2)

"تحفة الأشراف"(4/ 709).

(3)

"تحفة الأشراف"(6475).

ص: 583

2 -

وقال أيضا في باب ما جاء في صوم الدهر: (حدثنا قتيبة وأحمد ابن عبدة الضبي، قالا: حدثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد، عن أبي قتادة قال: قيل: يا رسول الله، كيف بمن صام الدهر؟ قال:"لا صام ولا أفطر"، أو "لم يصم ولم يفطر".

وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الشخير، وعمران بن حصين، وأبي موسى.

قال أبو عيسى: حديث أبي قتادة حديث حسن)

(1)

.

قلت: هذا الحديث رجاله كلهم ثقات، ومع ذلك قد توقف أبو عيسى في تصحيحه، مع أن مسلمًا قد خرّجه في كتابه "الصحيح"

(2)

، ولم ينتقده الدارقطني، وصححه أيضًا ابن خزيمة، وابن حبان

(3)

.

وقال النسائي: (هذا أجود حديث عندي في هذا الباب)

(4)

.

ورواه أبو داود وسكت عنه

(5)

، والبيهقي أيضًا أخرجه

(6)

وعزاه إلى مسلم ولم يتعقبه بشيء، وصححه البغوي، قال:(هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم)

(7)

.

وأخرجه الحاكم وقال: (صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إنما احتج مسلم بحديث شعبة عن قتادة بهذا الإسناد: صوم يوم عرفة يكفر السنة وما قبلها)

(8)

.

(1)

(2/ 127).

(2)

(1162).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(2087، 2111، 2117، 2126)، "صحيح ابن حبان"، (3635، 3636).

(4)

"السنن الكبرى"(5/ 218).

(5)

"السنن"(2425).

(6)

"السنن الكبرى"(8380؛ 8399).

(7)

"شرح السنة"(1789).

(8)

"المستدرك"(2/ 658)، رقم (4179).

ص: 584

ويظهر لي أن توقف أبي عيسى في تصحيحه من أجل الشك في سماع عبد الله بن معبد الزماني من أبي قتادة الأنصاري، فقد قال البخاري:(ولا نعرف سماعه من أبي قتادة)

(1)

.

3 -

وقال أيضا في باب ما جاء في طواف الزيارة بالليل: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن ابن عباس وعائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة إلى الليل.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن)

(2)

.

قلت: لم يصححه -فيما يظهر لي- من أجل الانقطاع والغرابة، أما الانقطاع فقد ذكر البخاري أن في سماع أبي الزبير من عائشة نظر

(3)

، وأما سماعه من ابن عباس فقد اختلف فيه: فأثبته البخاري

(4)

، وأما أبو حاتم فقال: رآه رؤيةً

(5)

. وهذا يعني أنه لم يسمع -أو لم يثبت سماعه- منه.

وأما الغرابة فهي في المتن، فهذا الحديث فردٌ في ذلك.

4 -

وقال أيضا في باب ما جاء في عمرة رجب: (حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن

(1)

"التاريخ الكبير"(5/ 198)، وللحديث طريق أخرى ووقع فيه اختلاف. ينظر:"السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 468 - 469)، و"التمهيد"(7/ 210).

(2)

(2/ 208).

(3)

أخرج الترمذي هذا الحديث في "العلل الكبير"(230) وقال بعده: (سألت محمدا عن هذا الحديث وقلت له: أبو الزبير سمع من عائشة وابن عباس؟ قال: أما ابن عباس فنعم، وإن في سماعه من عائشة نظرا).

(4)

ينظر: الحاشية السابقة.

(5)

قال ابن أبي حاتم في "المراسيل"(ص: 193): (سمعت أبي يقول: أبو الزبير رأى ابن عباس رؤية، ولم يسمع من عائشة).

ص: 585

حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، قال: سئل ابن عمر: في أي شهر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: في رجب، قال: فقالت عائشة: ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه -تعني ابن عمر- وما اعتمر في شهر رجب قط.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.

سمعت محمدا يقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير.

حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا الحسن بن موسى، قال: حدثنا شيبان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعا إحداهن في رجب.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح

(1)

(2)

.

قلت: يلاحظ أنه أعلّ الإسناد الأول بالانقطاع.

5 -

وقال أيضا: (حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن يموت بعرق الجبين".

وفي الباب عن ابن مسعود.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقال بعض أهل الحديث: لا نعرف لقتادة سماعا من عبد الله بن بريدة)

(3)

.

قلت: ولهذا توقف في تصحيحه.

(1)

وكذا في ط. الرسالة، وفي طبعة بشار وشاكر و"تحفة الأشراف" (5/ 227):(حسن صحيح غريب).

(2)

(2/ 215 - 216).

(3)

(2/ 293 - 240).

ص: 586

ومع ما تقدم من اعتنائه بهذه القضية، إلا أنه صحح بعض الأحاديث التي يكون الراجح فيها الانقطاع، ومن الأمثلة على ذلك:

قال رحمه الله في باب ما جاء في فضل من فطر صائما: (حدثنا هناد، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح)

(1)

.

قلت: هذا التصحيح فيه نظرٌ، قال ابن المديني: عطاء لم يسمع من زيد بن خالد

(2)

.

وقال أيضا: (حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن عامر الشعبي، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال:"بسم الله، توكلت على الله، اللهم إنا نعوذ بك من أن نَزِلَّ، أو نَضِلَّ، أو نَظْلِمَ، أو نُظْلَمَ، أو نَجْهَلَ، أو يُجْهَلَ علينا".

هذا حديث حسن صحيح)

(3)

.

قلت: هذا الإسناد فيه انقطاع، قال ابن المديني:(لم يسمع -أي الشعبي- من زيد بن ثابت، ولم يلق أبا سعيد الخدري ولا أم سلمة)

(4)

.

* * *

(1)

(2/ 147).

(2)

"العلل" لابن المديني (ص: 66).

(3)

(4/ 344).

(4)

"تهذيب التهذيب"(2/ 265).

ص: 587

الوجه التاسع والعشرون: أخبار وأحاديث ذكرها أبو عيسى الترمذي، فيها إشكال أو خطأ، وقد يكون ذلك منه.

ومن ذلك:

1 -

قال رحمه الله تعالى في باب ما جاء في الرخصة في ذلك -يعني الحجامة للصائم-: (حدثنا بشر بن هلال البصري، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

هكذا روى وهيب نحو رواية عبد الوارث، وروى إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا، ولم يذكر فيه عن ابن عباس)

(1)

.

قلت: في لفظ هذا الخبر إشكالٌ، وذلك أن النسائي قد رواه بنفس الإسناد عن بشر بن هلال به، بلفظ: احتجم وهو صائم

(2)

، وهذا ما جاء في روايات هذا الخبر من طرق كثيرة عن أيوب عن عكرمة، إما باللفظ السابق: احتجم وهو صائم، أو بلفظ: احتجم وهو محرم، أو بالجمع بينهما: احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم

(3)

.

وهذا يفيد أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وهو صائم، واحتجم مرة أخرى وهو محرم.

أما رواية أبي عيسى، فتفيد أن هذا حصل في نفس الوقت، فاحتجم وهو محرمٌ وصائم أيضًا، وهذا غير صحيح، كما يتبين من طرق هذا

(1)

(2/ 132).

(2)

"السنن الكبرى"(3402)، وكذا هو عند البخاري (1939) من طريق عبد الوارث عن أيوب.

(3)

ينظر: "صحيح البخاري"(1938).

ص: 588

الحديث وألفاظه، وإنما جاء ذلك في طريق ميمون بن مهران عن ابن عباس، وفي طريق مقسم عنه، وهو لا يصح أيضًا من هذين الطريقيْن.

ويظهر لي أن أبا عيسى اختصر هذا الحديث، فأخطأ في الجمع بين اللفظين، والدليل على ذلك: أن النسائي رواه عن شيخ الترمذي نفسه ولم يذكر ما ذكره أبو عيسى كما تقدم، والله تعالى أعلم.

ولفظ: "احتجم وهو محرم صائم" قد ضعّفه الإمام أحمد، واستوفى أبو عبد الرحمن النسائي طرق هذا الحديث مع بيان ألفاظه وما وقع فيه من الاختلاف، مع بيان المحفوظ من هذه الطرق والمعلول، وإليك ما ساقه في كتابه "السنن الكبرى" -مكتفيا به- قال رحمه الله:

(ذكر اختلاف الناقلين لخبر عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا أبن وهب، قال: حدثني ابن أبي ذئب، عن الحسن بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

أخبرني أبو بكر بن علي، قال: حدثنا سريج، قال: حدثنا عبد الله بن رجاء، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بمكان يقال له: لحي جمل، وهو صائم.

أخبرنا بشر بن هلال، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

أخبرنا محمد بن معمر، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا وهيب، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

أخبرنا قطن بن إبراهيم النيسابوري، قال: حدثنا الحسين بن الوليد،

ص: 589

قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، واحتجم وهو صائم.

أخبرني أبو بكر بن علي، قال: حدثنا القواريري، قال: حدثنا حماد ابن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

أخبرنا محمد بن حاتم، قال: أخبرنا حبان، قال: أخبرنا عبد الله، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

أخبرنا علي بن حجر، قال: أخبرنا إسماعيل، عن أيوب، عن عكرمة، قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.

أخبرنا أحمد بن سعد بن الحكم بن أبي مريم، قال: أخبرنا عمي، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني جعفر بن ربيعة، أنه سمع عكرمة يقول: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم.

مقسم عن ابن عباس:

أخبرنا عمرو بن يزيد، قال: حدثنا بهز، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم.

أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد، عن شعبة، عن يزيد ابن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم.

قال أبو عبد الرحمن: جمع الحديثين محمد بن جعفر.

أخبرنا محمد بن المثنى، عن محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد، وهو بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما صائما.

ص: 590

أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم صائما محرما.

قال أبو عبد الرحمن: يزيد بن أبي زياد لا يحتج بحديثه، والحكم لم يسمعه من مقسم.

أخبرني أبو بكر بن علي، قال: حدثنا خلف بن سالم، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم محرم.

سعيد بن جبير عن ابن عباس:

أخبرنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا الثوري، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ، لا نعلم أن أحدا رواه عن سفيان غير قبيصة، وقبيصة كثير الخطأ، وقد رواه أبو هاشم، عن حماد مرسلا.

أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا خلف، عن أبي هاشم، عن حماد ابن أبي سليمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.

ميمون بن مهران عن ابن عباس:

أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن عبد الله، قال: حدثنا حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم.

قال أبو عبد الرحمن: هذا منكر، لا نعلم أحدا رواه عن حبيب غير الأنصاري، ولعله أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة.

ص: 591

أخبرنا حميد بن مسعدة، عن سفيان بن حبيب، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محل)

(1)

.

وأما ما ذكره أبو عيسى من الاختلاف الذي وقع في وصل هذا الحديث وإرساله، فالصواب الوصلُ.

فقد رواه كذلك عبد الوارث ووُهَيْب، وحماد بن زيد -في رواية الحسين بن الولد النيسابوري-، كلهم عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس موصولًا.

وخالفهم إسماعيل بن إبراهيم بن علية، ومعمر، وحماد بن زيد -من رواية القواريري، وهي الأصح عن حماد- عن أيوب، عن عكرمة مرسلًا.

فتبين مما تقدم أن الوصل والإرسال سواءٌ من حيث القوة، فالذين وصلوه من الحفاظ، والذين أرسلوه هم من الحفاظ أيضا، لذا ذهب البخاري

(2)

والترمذي إلى صحّة الوصل.

وقد يكون هذا من أيوب؛ لأن كلا الوجهين ثابت عنه، فمرةً حدّث به موصولًا ومرةً مرسلًا، ولعله سمعه من عكرمة هكذا -مرة موصولًا، ومرة مرسلًا-، بدليل أنه جاء كذلك من أوجهٍ أخرى عن عكرمة، فقد رواه هشام بن حسان والحسن بن زيد، عن عكرمة عن ابن عباس موصولًا، ورواه جعفر بن ربيعة عنه مرسلًا.

2 -

وقال أيضا في باب المعتكف يخرج لحاجته أم لا؟: (حدثنا أبو مصعب المدني قراءة، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عروة، وعمرة،

(1)

"السنن الكبرى" للنسائي (5/ 394 - 401).

(2)

ينظر: "صحيح البخاري"(1938، 1939، 5694).

ص: 592

عن عائشة، أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إليّ رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، هكذا روى غير واحد، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عروة، وعمرة، عن عائشة، ورواه بعضهم، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة، والصحيح عن عروة، وعمرة، عن عائشة.

وهكذا روى الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة، وعمرة، عن عائشة.

حدثنا بذلك قتيبة عن الليث)

(1)

.

قلت: وقع في إسناد هذا الحديث إشكالٌ، وذلك أنه في "الموطأ"

(2)

من رواية أبي مصعب الزهري خلاف ما ذكره عنه أبو عيسى الترمذي، فالذي فيه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، أنها قالت

الخ.

فقد يكون الخطأ هنا من أبي عيسى، وقد يكون من أبي مصعب، وأنه كذلك في أصله عندما قرأ عليه أبو عيسى، ثم صوبه بعد.

وأزيد الأمر توضيحا فيما يتعلق بهذا الإسناد فأقول: قد روي على ثلاثة أوجه:

الأول: ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة. هكذا رواه جمهور أصحاب مالك

(3)

.

(1)

(2/ 145).

(2)

(1/ 331).

(3)

وأخرجه مسلم بهذا السياق (297).

ص: 593

ورواه ابن وهب عنه، وعن يونس والليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة.

وهذا خطأ على مالك، وذلك أنه حمل روايته على رواية الليث ويونس، فهما اللذان روياه عن ابن شهاب بالجمع بين عروة وعمرة، وهو:

الوجه الثاني: رواه الليث

(1)

ويونس، عن ابن شهاب، عن عروة، وعمرة.

الوجه الثالث: عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، بإسقاط عمرة

(2)

، وهذه رواية سائر أصحاب ابن شهاب غير من تقدم ذكره.

وهكذا رواه بندار ويعقوب الدورقي، عن ابن مهدي، عن مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

وتابع ابنَ مهدي على ذلك: إسحاق بن سليمان الرازي، وأبو سعيد مولى بني هاشم، ومحمد بن إدريس الشافعي -على اختلاف عنه-، وبشر بن عمر، وخالد بن مخلد -على اختلاف عنهما أيضًا-، والمعافى بن عمران.

قال ابن عبد البر: (وقال محمد بن المثنى: عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة أنها كانت تعتكف وتمر بالمريض وتسأل به وهي تمشي.

قال عبد الرحمن: فقلت لمالك: عن عروة، عن عمرة؟ وأعدت عليه؛ فقال: الزهري، عن عروة، عن عمرة، أو الزهري، عن عمرة.

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال حدثنا قاسم بن أصبغ، قال حدثنا

(1)

أخرج حديثه البخاري (2029)، ومسلم (297).

(2)

أخرجه البخاري (5925) بهذا السياق من طريق مالك عن ابن شهاب.

ص: 594

محمد بن عبد السلام (الخشني)، قال حدثنا محمد بن المثنى، قال حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة أنها كانت تعتكف وذكره، إلى آخره)

(1)

.

قلت: والصواب من هذه الأوجه: الوجه الأخير، وهو رواية الأكثر، وهم: معمر

(2)

، وسفيان

(3)

، وسفيان بن حسين

(4)

، وزياد بن سعد

(5)

، والأوزاعي

(6)

.

ويؤيد هذا ما يأتي:

أولا: أن هشام بن عروة أيضًا، ومحمد بن عبد الرحمن النوفلي قد روياه عن عروة، عن عائشة به. أخرجه الشيخان من طريق هشام

(7)

، وأخرج مسلم رواية محمد بن عبد الرحمن

(8)

.

ثانيًا: أن الوجه الثاني لا يخالفه؛ إذ فيه أن عمرة ممن روتْ هذا الحديث عن عائشة، كما في رواية مالك، والليث بن سعد، وهذا ما ذهب إليه أبو عيسى الترمذي كما تقدم.

ثالثًا: أن الوجه الأول لم يتابع مالك عليه، كما قال أبو داود.

رابعًا: أن مالكًا كان يشك في هذا الإسناد، كما في سؤال ابن مهدي له، وقد تقدم.

(1)

"التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"(8/ 318).

(2)

البخاري (2046)، ومسلم (297)، وهي مختصرة.

(3)

أخرجه الحميدي في "المسند"(184).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(9898)، وأحمد في "المسند"(26278).

(5)

أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(3554).

(6)

أخرجه أحمد في "المسند"(24564)، والنسائي في "السنن الكبرى"(3524).

(7)

"صحيح البخاري"(295)، "صحيح مسلم"(297).

(8)

"صحيح مسلم"(297).

ص: 595

ووقع في متنه أيضا إشكال، ولكن ليس من أبي عيسى، فقد ذهب بعض الحفاظ إلى أن مالكًا قد أخطأ في سياق لفظ الحديث الذي رواه، وذلك أنه أدخل في رواية عمرة قصة ترجيل عائشة لشعر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما في حديث عروة فقط، دون عمرة.

قال ابن عبد البر: (وهذان حديثان، أحدهما: في ترجيل النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر في مرور عائشة بالمريض وقولها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، اختلف فيهما أصحاب الزهري عليه

).

إلى أن قال: (وذكر محمد بن يحيى الذهلي في كتابه في "علل حديث الزهري" هذين الحديثين: مرور عائشة، وترجيل النبي صلى الله عليه وسلم وهما يعتكفان، عن جماعة من أصحاب الزهري، منهم: يونس، والأوزاعي، والليث، ومعمر، وسفيان بن حسين، والزبيدي، ثم قال: اجتمع هؤلاء كلهم على خلاف مالك في ترجيل النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجامعه عليه منهم أحد.

فأما يونس والليث فجمعا عروة وعمرة عن عائشة، وأما معمر والأوزاعي وسفيان بن حسين فاجتمعوا على عروة عن عائشة.

قال: والمحفوظ عندنا حديث هؤلاء، قال: وأما القصة الأخرى في مرور عائشة على المريض؛ فاجتمع معمر، ومالك، وهشيم، على عمرة عن عائشة.

وقال يونس من رواية الليث مرة: عن عمرة، عن عائشة، ومرة من رواية عثمان بن عمر: عن عروة وعمرة عن عائشة.

قال: وعثمان بن عمر أولى بالحديث؛ لأن الليث قد اضطرب فيه، فقال مرة: عن عروة عن عائشة، ومرة: عن عمرة، عن عائشة، وثبته عثمان ابن عمر عنهما جميعا.

ص: 596

وقد واطأه ابن وهب عن يونس في الحديثين جميعا، فصارت روايته عن يونس أولى وأثبت.

وأما شبيب بن سعيد فإنه تابع الليث على روايته عن يونس في القصة الأخيرة، فقال: عروة، عن عمرة، عن عائشة.

قال: فقد صح الخبر الآخر عندنا عن عروة وعمرة عن عائشة، باجتماع يونس -من رواية ابن وهب، وعثمان بن عمر-، والأوزاعي -من رواية المغيرة-، والليث بن سعد -من رواية ابن أبي مريم-، عن عروة وعمرة، عن عائشة.

وباجتماع معمر ومالك وهشيم على عمرة.

وعبد الرحمن بن مهدي وأبو نعيم، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة أن عائشة كانت تجاور فتمر بالمريض من أهلها فلا تعرض له.

فالحديثان عندنا محفوظان بالخبرين جميعا، إلا ما كان من رواية مالك في ترجيل النبي صلى الله عليه وسلم فقط إن شاء الله.

قال: وقد روى ابن أبي حبيب ما حدثنا به أبو صالح الحراني، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن ابن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيمر بالمريض في البيت فيسلم عليه ولا يقف.

قال: وهذا معضل لا وجه له، إنما هو فعل عائشة، ليس ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث في شيء، وهذا الوهم من ابن لهيعة فيما نرى، والله أعلم.

قال أبو عمر: الذي أنكروا على مالك ذكره عمرة في حديث عائشة:

ص: 597

أنها كانت ترجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، هذا ما أنكروا عليه -لا غير- في هذا الحديث؛ لأن ترجيل عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف لا يوجد إلا في حديث عروة وحده عن عائشة، وغير هذا قد جومع مالك عليه، من حديث مرور عائشة وغيره من ألفاظ حديث مالك وإسناده.

وقد روى حديث الترجيل هذا عن عروة: تميم بن سلمة، وهشام بن عروة، ذكر أبو بكر ابن أبي شيبة، عن ابن نمير، ويعلى، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض، وهو عاكف.

وقال يعلى في حديثه هذا: كنت أغسل.

قال أبو بكر: وحدثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه وهو مجاور، وأنا في حجرتي، فأغسله وأرجله بالماء وأنا حائض.

وقد رواه الأسود بن يزيد، عن عائشة، مثل رواية عروة سواء، إلا أن في حديث الأسود: يخرج إلي رأسه، وفي حديث عروة: يدني إلي رأسه، وبعضهم يقول فيه: يدخل إلي رأسه.

وفي ذلك ما يدل على جواز إدخال المعتكف رأسه البيت ليغسل ويرجل.

وقد يحتمل قول الأسود: يخرج إليَّ رأسه، أي: يخرجه من المسجد إلي في البيت فأرجله.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن عبد السلام، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، وحدثنا سعيد بن نصر، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا ابن وضاح، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا حسين

ص: 598

ابن علي، عن زائدة، جميعا عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، -وهذا لفظ حديث سفيان قال-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلي رأسه وهو معتكف فأغسله وأنا حائض.

وليس في حديث زائدة ذكر: وهو معتكف.

وفي هذه الأحاديث الثلاثة -حديث تميم بن سلمة، وهشام بن عروة (عن عروة) عن عائشة، وحديث الأسود عن عائشة-: وأنا حائض، وليس ذلك في حديث الزهري من وجه يثبت)

(1)

.

قلت: الأمر في ذلك سهلٌ، فالخبر محفوظٌ، سواء كان من رواية عروة عن عائشة، أو عمرة عن عائشة، مع أنه قد وقع في رواية الليث، عن الزهري، عن عمرة وعروة، كلاهما عن عائشة؛ ذكرُ الترجيل، فلم ينفرد مالكٌ في هذا.

وقد جاء ذكر غسل الرأس أيضًا في رواية الأسود عن عائشة، أخرجها مسلم

(2)

.

* * *

(1)

"التمهيد"(8/ 318 - 320).

(2)

"صحيح مسلم"(297).

ص: 599

‌الفصل التاسع: في الرجال الذين خرج لهم وقد وصفوا بالترك

الغالب على رجال الترمذي أنهم من الثقات وممن يحتج بحديثهم، ولكن لكونه أراد أن يبين الأحاديث الضعيفة والمنكرة والمعلولة والغريبة -كما نص على ذلك- = خرج لجمع من الضعفاء والمتروكين، مع بيان ضعفهم ونكارة حديثهم، لذا كانت العبرة بمن حكم على حديثهم بالصحة، ومعرفة ذلك يعطيك تصورا عن كتاب "الجامع" لأبي عيسى ومنهجه فيه.

ومن هؤلاء:

1 -

إبراهيم بن الفضل المخزومي المدني، أبو إسحاق، ويقال: إبراهيم بن إسحاق

(1)

.

قلت: الأقرب أنه متروك، ولا يكتب حديثه؛ وذلك أنه روى أحاديث باطلة عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال ابن معين والنسائي -كلاهما في رواية عنهما-: لا يكتب حديثه. وقال الدارقطني: متروك. وقال بعض الأئمة: منكر الحديث.

وأقل ما قيل فيه، ما جاء عن أحمد -في رواية عنه-: ضعيف الحديث، ليس بقوي.

ولكن قال الساجي: بلغني عن أحمد أنه قال: ليس بشيء.

(1)

تنظر الأقوال فيه في: "ميزان الاعتدال"(1/ 87)، "تهذيب التهذيب"(1/ 79).

ص: 601

وأما قول أبي أحمد الحاكم: (ليس بقوي عندهم)، فالجواب عن ذلك: أن هذه العبارة هي الغالبة في استعماله، حتى لا يكاد يستعمل غيرها في من كان مضعفا، سواء كان التضعيف شديدا أو دون ذلك.

وأما قول ابن عدي: (ومع ضعفه يكتب حديثه، وعندي أنه لا يجوز الاحتجاج بحديثه، وإبراهيم الخوزي عندي أصلح منه)، فالجواب عن ذلك: أن إبراهيم الخوزي وإن كان من أهل الفضل، إلا أنه يكاد يُترك، فإذا كان هو أصلح منه، فماذا يكون إبراهيم بن الفضل؟!

وأما قوله: (يكتب حديثه)، فمن المعلوم -لمن تتبع منهج ابن عدي في ذلك- أنه لا يقول عن راو:(لا يكتب حديثه)، نعم ينقل عن الحفاظ، ولكن هو لا يكاد يحكم بذلك.

2 -

إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي مولاهم، أبو شيبة الكوفي

(1)

.

قلت: كان من أهل الفضل، وقد تولى القضاء، وحُمد في قضائه وأما في باب الرواية فقد تتابعوا على تضعيفه، وحكم جمع منهم بتركه.

وقال يحيى بن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: سكتوا عنه. وقال صالح جزرة: لا يكتب حديثه.

قلت: والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه متروك ولا يكتب حديثه؛ وذلك أن له أحاديث باطلة.

منها: ما رواه عن الحكم، عن ابن أبي ليلى: شهد صفين من أهل بدر سبعون. فقال شعبة: كذب والله، لقد ذاكرت الحكم؛ فما وجدنا شهد صفين أحدا من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت

(2)

.

(1)

تنظر الأقوال فيه في: "ميزان الاعتدال"(1/ 84)، "تهذيب التهذيب"(1/ 76).

(2)

ينظر: "العلل ومعرفة الرجال" لأحمد -رواية عبد الله- (1/ 287).

ص: 602

قال الذهبي -معقبا-: سبحان الله! أما شهدها علي، أما شهدها عمار؟!

(1)

.

قلت: هؤلاء ثلاثة، فأين باقي السبعين؟ وأما عدم ذكر علي وعمار فلأنهما معروفان رضي الله عنهما، وقد تقدم أن شعبة كذّب هذا القول، وبيّن أنه ذاكر الحكم في ذلك، فلم يذكر غير خزيمة.

ومنها: ما رواه منصور بن أبي مزاحم، عنه، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر

(2)

.

قلت: وهذا باطل، وقد ثبت في "الصحيحين"

(3)

عن عائشة رضي الله عنها: ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة.

وفي حديث زيد بن خالد في مسلم

(4)

: أنه صلى ثلاث عشرة ركعة.

وفي حديث عائشة في مسلم

(5)

: أنه صلى تسع ركعات.

وأما العشرون ركعة فإنما كان هذا في عهد عمر رضي الله عنه.

ومنها: ما أخرجه الطبراني، قال: (حدثنا الحسن بن علي الفسوي الواسطي، ثنا محمد بن سليمان الواسطي، ثنا أبو شيبة القاضي، عن آدم بن علي، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما هلك قوم قط إلا في الأذان، ولا تقوم القيامة إلا في الأذان".

(1)

"ميزان الاعتدال"(1/ 87).

(2)

أخرجه ابن عدي في "الكامل"(1461).

(3)

"صحيح البخاري"(1147)، "صحيح مسلم"(738).

(4)

(765).

(5)

(730).

ص: 603

قال أبو القاسم الطبراني: معناه عندي -والله أعلم- في وقت أذان الفجر، هو وقت الاستغفار والدعاء)

(1)

.

وفي "الإكمال"

(2)

لابن ماكولا: (عمر بن السكن بن شتويه الواسطي، روى عن أبي عبد الله الضرير، عن أبي شيبة القاضي، عن آدم بن علي، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما هلك قوم إلا في آذار، ولا تقوم الساعة إلا في آذار").

وذكره الذهبي في "الميزان"

(3)

بهذا اللفظ.

قلت: هذا الخبر على كلا اللفظين منكر، واللفظ الثاني أشد نكارة، والذي ثبت في الحديث الصحيح: أن الساعة تقوم يوم الجمعة دون تحديد شهر

(4)

.

ولكن فيما يتعلق بنكارته، الحَمْل على مَنْ في هذا الخبر؟

أما ما يتعلق بشيخ الطبراني، فقد قال الدارقطني: لا بأس به

(5)

،

(1)

"المعجم الكبير"(13/ 106)(13759).

(2)

(5/ 22)، وقال ابن ماكولا:(والحديث على مذهبهم منكر جدا)، وأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 74) من طريق عمر بن السكن، عن محمد بن سليمان الواسطي به، وقال:(قال أبو الفتح الأزدي: هذا كذب. وأبو شيبة متروك الحديث).

وأخرجه السلفي في جزء "فوائد حسان" -بانتقاء الرهاوي- (ص: 129) من طريق كادح بن رحمة، عن أبي شيبة الواسطي القاضي به.

(3)

(1/ 84)، وقال:(لم يصح هذا).

(4)

كما أخرج مسلم (854) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة".

(5)

"سؤالات الحاكم" للدارقطني (ص: 112).

ص: 604

واختاره الضياء في "المختارة"

(1)

.

وأما شيخ شيخه محمد بن سليمان الواسطي، فلم يتبين لي من هو، ولكن ذكر في ترجمة إبراهيم بن عثمان: أن من الرواة عنه سعيد بن سليمان الواسطي، وسعيد ثقة مشهور.

وأما إبراهيم بن عثمان، فهو متروك كما تقدم.

وأما آدم، فهو ثقة، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"

(2)

عن هذا الخبر: رجاله ثقات.

والله تعالى أعلم.

3 -

إبراهيم بن يزيد القرشي الأموي الخوزي، أبو إسماعيل المكي، مولى عمر بن عبد العزيز

(3)

.

قلت: إبراهيم اتفق أهل العلم على ضعفه، ولكن اختلفوا في مقدار هذا الضعف، فمنهم من ذهب إلى أنه متروك ولا يكتب حديثه، وهذا ما ذهب إليه النسائي.

وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: سكتوا عنه.

وممن ذهب إلى أنه ضعيف: أبو حاتم وأبو زرعة، وقال ابن عدي: يكتب حديثه.

وهذا ظاهر قول الترمذي، فقد قال:(وقد تكلم بعض أهل الحديث في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه)

(4)

.

(1)

فقد أخرج له أربعة أحاديث في كتابه، ينظر:(6/ 256)(2274)، (7/ 237)(2680)، (8/ 71)(66)، (9/ 555)(549).

(2)

(7/ 47).

(3)

تنظر الأقوال فيه في: "تهذيب التهذيب"(1/ 94).

(4)

(2/ 152).

ص: 605

وقد خرج له حديثا في موضعين، وهو حديث ما يوجب الحج؟ فقال:"الزاد والراحلة"

(1)

.

قلت: والأقرب القول الأول؛ وذلك أنه روى بعض الأحاديث الباطلة

(2)

، كما أنه تفرد بأحاديث رواها عن عمرو بن دينار وغيره من الرواة الثقات المشاهير.

والذي يظهر أنه لم يتعمد ذلك؛ لأنه كان من أهل الفضل والعبادة.

4 -

إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عبد الرحمن بن الأسود، القرشي الأموي مولاهم، أبو سليمان المدني، مولى آل عثمان بن عفان

(3)

.

متروك كما قال عمرو بن علي وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني والبرقاني، لذا قال البخاري: تركوه، وقال أحمد: لا تحل عندي الرواية عنه، وقد كذبه ابن معين -في رواية-، ولا يكتب حديثه كما قال ابن معين -في رواية- والنسائي ويعقوب بن سفيان، وذلك لأن له أحاديث باطلة، لذا قال ابن عدي في "الكامل" -بعد أن ذكر له عدة أحاديث

(4)

-: (لا يتابعه أحد على أسانيده، ولا على متونه، وسائر أخباره مما لم أذكره تشبه هذه الأخبار التي ذكرتها، وهو بين الأمر في الضعفاء، على أن الليث بن سعد قد روى عنه نسخة طويلة)

(5)

.

5 -

إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي.

روى عنه ابنه إبراهيم، وعن إبراهيم جمع من الحفاظ، ومنهم الترمذي

(6)

.

(1)

(827)(3261).

(2)

ينظر: "المجروحين" لابن حبان (1/ 95).

(3)

تنظر الأقوال فيه في: "تهذيب التهذيب"(1/ 123).

(4)

(2/ 153 - 157).

(5)

(2/ 158).

(6)

(4158).

ص: 606

وإبراهيم ضعيف، بل لعله لا يكتب حديثه، كما سبق في المبحث الخاص بشيوخ الترمذي المتكلم فيهم.

وقال الدارقطني في إسماعيل: متروك

(1)

. ومثله الأزدي فيما نقله ابن الجوزي

(2)

، وذكر ابن حبان ابنه إبراهيم في "ثقاته"

(3)

وقال: في روايته عن أبيه بعض المناكير.

وأكتفي هنا بسرد البقية، وسيأتي الكلام عنهم في المواضع التي خرّج لهم فيها بإذن الله.

6 -

أشعث بن سعيد البصري، أبو الربيع السمان.

7 -

أيوب بن واقد الكوفي، أبو الحسن، ويقال: أبو سهل، نزيل البصرة.

8 -

الحارث بن نبهان الجرمي، أبو محمد البصري.

9 -

الحسن بن عمارة بن المضرب البجلي مولاهم، أبو محمد الكوفي الفقيه.

10 -

الحسين بن قيس الرحبي، أبو على الواسطي، ولقبه حنش.

11 -

حصين بن عمر الأحمسي، أبو عمر، ويقال: أبو عمران، الكوفي.

12 -

حفص بن سليمان الأسدي، أبو عمر البزاز الكوفي القارئ، ويقال له: الغاضري، ويعرف بحفيص، وهو حفص بن أبي داود، صاحب عاصم.

(1)

"الضعفاء والمتروكون"(ص: 140).

(2)

"الضعفاء والمتروكون"(1/ 123).

(3)

(8/ 83).

ص: 607

13 -

الحكم بن ظهير الفزاري، أبو محمد، ابن أبي ليلى الكوفي، وقيل: الحكم بن أبي خالد.

14 -

حمزة بن أبى حمزة ميمون، وقيل: عمرو، الجعفي الجزري النصيبي.

15 -

خارجة بن مصعب بن خارجة الضبعي، أبو الحجاج الخراساني السرخسي.

16 -

خالد بن إلياس، ويقال: إياس، ابن صخر بن أبي الجهم عبيد بن حذيفة بن غانم بن عامر القرشي العدوي، أبو الهيثم المدني.

17 -

داود بن الزبرقان الرقاشي، أبو عمرو، وقيل: أبو عمر، البصري، نزيل بغداد.

18 -

الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد التميمي السعدي الأعرجي، ويقال العرجي، أبو العلاء البصري، المعروف بعليلة، وهو لقب.

19 -

زياد بن المنذر الهمداني، ويقال: النهدي، ويقال الثقفي، أبو الجارود الأعمى الكوفي.

20 -

زيد بن جبيرة بن محمود بن أبي جبيرة بن الضحاك الأنصاري، أبو جبيرة المدني.

21 -

سعد بن طريف الإسكاف الحذاء الحنظلي الكوفي.

22 -

سيف بن محمد الثوري الكوفي، أخو عمار بن محمد، وابن أخت سفيان الثوري، نزل بغداد.

23 -

صالح بن حسان الأنصاري النضري، أبو الحارث المدني، نزيل البصرة.

ص: 608

24 -

صالح بن موسى بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله الطلحي التيمي الكوفي.

25 -

الصلت بن دينار الأزدي الهنائي، أبو شعيب البصري، المعروف بالمجنون.

26 -

عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي الزبيري.

27 -

عبد الحكيم بن منصور الخزاعي، أبو سهل، ويقال: أبو سفيان، الواسطي.

28 -

عبد الرحيم بن هارون الغساني، أبو هشام الواسطي، سكن بغداد.

29 -

عبد العزيز بن أبان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن العاص القرشي الأموي السعيدي، أبو خالد الكوفي.

30 -

عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني الأعرج، يعرف يابن أبي ثابت.

31 -

عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري، أبو محمد المدني، يقال: إنه من ولد أبي ذر الغفاري.

32 -

عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري، أبو عباد الليثي مولاهم المدني، أخو سعد بن سعيد، وكان الأكبر.

33 -

عبد الله بن ميمون بن داود القداح القرشي المخزومي المكي، مولى آل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة.

34 -

عبد المنعم بن نعيم الأسواري، أبو سعيد البصري، صاحب السقاء.

ص: 609

35 -

عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري الوقاصي السعدي، أبو عمرو المدني، ويقال له: المالكي.

36 -

عطاء بن عجلان الحنفي، أبو محمد البصري العطار، وقيل: اسمه ميمون.

37 -

العلاء بن مسلمة بن عثمان بن محمد بن إسحاق الرواس، أبو سالم البغدادي، مولى بني تميم.

38 -

علي بن مجاهد بن مسلم بن رفيع، أبو مجاهد الكندي، ويقال: العبدى، الرازي الكابلي، قاضى الري.

39 -

عمارة بن جوين، أبو هارون العبدي البصري، مشهور بكنيته.

40 -

عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد الهمداني الكوفي، نزيل بغداد.

41 -

عمر بن هارون بن يزيد بن جابر بن سلمة الثقفي مولاهم، أبو حفص البلخي.

42 -

عمرو بن واقد القرشي، أبو حفص الدمشقي، مولى بني هاشم، أو مولى بنى أمية.

43 -

عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص القرشي الأموي، وقيل: عنبسة بن أبي عبد الرحمن، وهو وهم.

44 -

فائد بن عبد الرحمن الكوفي، أبو الورقاء العطار.

45 -

محرر بن هارون بن عبد الله بن محرر بن الهدير القرشي التيمي المدني، وقيل: محرز، أخو هارون بن هارون.

46 -

محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي، النسابة المفسر.

ص: 610

47 -

محمد بن القاسم الأسدي، أبو إبراهيم الكوفي، لقبه: كاو، شامي الأصل.

48 -

محمد بن زاذان المدني.

49 -

محمد بن زياد اليشكري الطحان الرقي ثم الكوفي، ويقال: الجندي، الأعور الفأفاء، المعروف بالميموني.

50 -

محمد بن سعيد بن حسان بن قيس القرشي الأسدي المصلوب.

51 -

محمد بن عبيد بن أبي سليمان ميسرة العرزمي الفزاري، أبو عبد الرحمن الكوفي، ابن أخي عبد الملك بن أبي سليمان.

52 -

ميناء بن أبي ميناء القرشي الزهري الخراز، مولى عبد الرحمن بن عوف.

53 -

النضر بن عبد الرحمن، أبو عمر الخزاز، حديثه في الكوفيين.

54 -

نفيع بن الحارث، أبو داود الأعمى الدارمي، ويقال: الهمداني، السبيعي الكوفي القاص، وقال: اسمه نافع، مشهور بكنيته.

55 -

نوح بن أبي مريم مابنة، ويقال: مافنة، أبو عصمة المروزي، القرشي مولاهم.

56 -

هشام بن زياد بن أبي يزيد القرشي، وهو هشام بن أبي هشام، أبو المقدام، ويقال له: هشام بن أبي الوليد المدني.

57 -

هلال بن عبد الله الباهلي مولاهم، أبو هاشم البصري.

58 -

الوليد بن محمد الموقري، أبو بشر البلقاوي، مولى يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي، والموقر: حصن بالبلقاء.

59 -

يحيى بن سلمة بن كهيل الحضرمي، أبو جعفر الكوفي، أخو محمد بن سلمة بن كهيل، ووالد إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل.

ص: 611

60 -

يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب القرشي التيمي المدني.

61 -

يزيد بن زياد، ويقال: ابن أبي زياد، القرشي الدمشقي، وقيل: إنهما اثنان.

62 -

يزيد بن عياض بن جعدبة الليثي، أبو الحكم المدني، نزيل البصرة، وقد ينسب لجده.

63 -

يعقوب بن الوليد بن عبد الله بن أبي هلال الأزدي، أبو يوسف، وقيل: أبو هلال، المدني، نزيل بغداد.

64 -

أبو المهزم التميمي البصري، اسمه يزيد بن سفيان، وقيل: عبد الرحمن بن سفيان.

* * *

ص: 612