الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مستخلص الرسالة
عنوان الرسالة: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم من كتاب الطهارة إلى باب صلاة التطوع.
الباحثة: جميلة بنت شفيع عبد الرحمن علي.
المشرف: د. محمد بن سعود الخميس.
الدرجة العلمية: الماجستير.
الجامعة والكلية: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -كلية الشريعة بالرياض.
القسم والتخصص: الفقه.
العام الجامعي: 1442 - 1443 هـ/ 2020 - 2021 م.
تناولت هذه الرسالة جمعَ ودراسة التطبيقات الفقهية للمسائل التي ورد فيها النهي محمولاً على غير التحريم في كتاب الطهارة وجزء من كتاب الصلاة، والبحث عن أسباب ذلك، وحصرَ هذه الأسباب والقرائن التي وردت في هذه المسائل وبيانها، وقد احتوت على تمهيد أصوليّ في بعض مباحث النهي وصيغ التحريم والقرينة وأنواعها، ثم تطرقت الرسالة -في بابها الأوَّل- إلى المسائل التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في كتاب الطهارة؛ كمسائل باب المياه، وطهارة الآنية، وأحكام سنن الفطرة، وآداب قضاء الحاجة وإزالة النجاسة، وأحكام صفة الوضوء ونواقضه. ثم -في بابها الثاني- تطرقت الرسالة إلى المسائل التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في كتاب الصلاة؛ كأحكام باب الأذان، ومنها حكم أخذ الأجرة عليه، والأحكام المتعلقة بالمساجد وآداب المشي إلى الصلاة، وبعض أحكام مواقيت الصلاة، وتناولت أحكام ستر العورة، ثم تطرقت إلى أحكام صفة الصلاة؛ كحكم الافتراش، والإقعاء، والالتفات، وأحكام صلاة التطوع؛ كحكم صلاة وترين في ليلة. وقد احتوت الرسالة على ثمانين مسألة، وذُكر في كل مسألة الدليل الذي ورد فيه النهي، ثم عُرض خلاف الفقهاء في حكم المسألة مع الأدلة والمناقشة، ثم الترجيح وأسبابه، ثم بيان القرينة الصارفة للنهي عن التحريم والحكم عليها. ثم خُتمت الرسالة بأبرز النتائج التي توصَّلت إليها الباحثة، وبعض التوصيات، والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن علامة استقامة القلب تعظيم الأمر والنهي، وامتثالهما قولاً وفعلاً واعتقاداً؛ لأن معظم الابتلاء بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام، ويتميز الحلال من الحرام.
وقد نظر الفقهاء - رحمهم الله تعالى- في أدلة الأمر والنهي، وأوسعوا مباحثهما الأصولية نظراً وتحريراً وتفصيلاً؛ ليكون المكلف على بصيرة بما يقتضي منها الوجوب أو التحريم، وما قد يُحمل على غير ذلك، ووضَّحوا دور القرائن في بيان المراد من الأمر والنهي، فكان هذا الموضوع؛ للنظر في آحاد المسائل الفقهية، وتَتبُّع تطبيقات هذه القواعد الأصولية.
وحيث سجل موضوع «المسائل الفقهية التي حُمل الأمر فيها على غير الوجوب» في قسم الفقه في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، تأكدت أهمية البحث في قَسِيمه:(المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم) فهذا الموضوع يدرس المسائل الفقهية التي قال العلماء بعدم حرمتها مع وجود النهي الشرعي، والبحث عن أسباب ذلك، وحصر هذه الأسباب والقرائن التي وردت في هذه المسائل وبيانها، وبيان كون هذه القرائن محل خلاف بين الفقهاء أم لا.
أهمية الموضوع:
تظهر أهمية الموضوع في النقاط الآتية:
1 -
فائدته العلمية؛ لتعلُّقه بمبحث مهم عند الفقهاء، وأسبابِ اختلافهم، وهو المنهيات الشرعية المصروفة عن التحريم.
2 -
عنايته بإظهاره الجوانب التطبيقية لما تقرر في كتب الأصول، ومدى مطابقة الفرع الفقهي لأصله.
3 -
وجود الحاجة لدراسة فقهية تجمع القرائن الصارفة عن التحريم مع تطبيقاتها المفصَّلة في كتب الفقه.
أسباب اختيار الموضوع:
تظهر أسباب اختيار هذا الموضوع في النقاط الآتية:
1 -
تركيز هذه الدراسة على الجانب التطبيقي للمنهيات الشرعية التي صرفتها القرينة عن التحريم، مما لم يُتعرَّض له في الدراسات السابقة النظرية، ولا شك في حصول الفائدة لطالب العلم بهذا الجمع.
2 -
اعتناء الموضوع بالجانب المنهجي عند الفقهاء، وبأَثَر ما قرروه من أصول وقواعد على الفروع الفقهية.
3 -
توسيع مدارك الفهم لدلالات النص الشرعي، وما يحتفُّ به من القرائن التي يتناولها الفقهاء، ولا سيما المنهيات الشرعية؛ فإنها تُكسِب الناظر فيها ملكة فقهية.
4 -
الرغبة في بحث موضوع يجمع بين: دراسة السنة النبوية، والفقه وأصوله؛ فتعظم الفائدة في ذلك لطالب العلم.
أهداف الموضوع:
يهدف البحث في هذا الموضوع إلى ما يأتي:
1 -
جَمْع المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم -من كتاب الطهارة إلى باب صلاة التطوع- ودراستها.
2 -
التعرف على الجانب العملي التطبيقي لما قرره الفقهاء - رحمهم الله تعالى- في مبحث دلالة النهي على التحريم ونحوه في مصنفاتهم الأصولية، وقوة حضور ذلك في فروعهم.
3 -
الإسهام في جمع القرائن الصارفة للمنهيات الشرعية، وآراء الفقهاء - رحمهم الله تعالى- حولها.
4 -
دراسة جملة من المنهيات الشرعية دراسة فقهية تبيِّن حكمها ومذاهب العلماء فيها.
ضابط عنوان البحث:
هو جمع المسائل الفقهية التي ورد فيها نهيٌ شرعي، ولم يُفِد النهي تحريم المنهيِّ عنه؛ لوجود القرينة الصارفة، وحَصْر هذه القرائن وبيانها، سواءً أكانت المسائل محل خلاف بين الفقهاء أم لا.
الدراسات السابقة:
لم أجد مَنْ أفرد هذا الموضوع بالبحث والتصنيف واعتنى بإبرازه عند الفقهاء وتَتبُّع مسائله، إنما بعض الجهود الأصولية التي تورِد المسائل كأمثلة مختصرة فقط، أو بعض الجهود الفقهية التي اعتنت بجانب النهي دون التركيز على جانب الصرف بالقرائن، أوردها فيما يلي:
أ- الرسائل العلمية والبحوث التكميلية:
الدراسة الأولى:
المناهي النبوية المختلف في دلالتها: دراسة فقهية تطبيقية من كتاب الطهارة إلى باب ما يُكره في الصلاة، دراسة فقهية تطبيقية .... عنوان البحث:
مي بنت صالح القاسم
…
اسم الباحث:
الدكتوراة
…
الدرجة العلمية:
مشروع مُسجَّل بجامعة الملك سعود
…
جهة الدراسة:
1436 هـ
…
تاريخ الدراسة:
غير مطبوع
…
حالة النشر:
476 صفحة
…
حجم الدراسة:
تعريف النهي وصِيغه، والمنهيات في كتاب الطهارة وبعض أبواب كتاب الصلاة .... التقسيمات الكبرى للدراسة:
سأعقد المقارنة بالتفصيل بعد عَرْض الدراسة الثانية؛ كونها مُكمِّلة لهذه الدراسة في موضوعاتها .... المقارنة بينها وبين موضوع الباحث، والإضافة العلمية عليها:
الدراسة الثانية:
المناهي النبوية المختلف في دلالتها: دراسة فقهية تطبيقية من باب العمل وما يُكره في الصلاة إلى كتاب الجنائز، دراسة فقهية تطبيقية .... عنوان البحث:
عبد الرحمن بن عوض القرني
…
اسم الباحث:
الدكتوراة
…
الدرجة العلمية:
مشروع مُسجَّل بجامعة الملك سعود
…
جهة الدراسة:
1435 هـ
…
تاريخ الدراسة:
غير مطبوع
…
حالة النشر:
1006 صفحة
…
حجم الدراسة:
تعريف النهي وصِيغه ودلالاته عند الأصوليين، والمنهيات في كتاب الصلاة والجنائز .... التقسيمات الكبرى للدراسة:
أولاً: من حيث موضوع الدراسة.
* يتفق مشروع المنهيات بجامعة الملك سعود مع موضوع الباحثة في دراستهما لمنهيات شرعية في أبواب الطهارة والصلاة.
* يفترقان في أن مشروع المنهيات اختص -كما هو في عناوين الدراستين- بدراسة المناهي التي وقع الخلاف في دلالتها وحسب، مما يعني عدم التعرض للمسائل التي كان الاتفاق جارياً فيها، وأما البحث في (المسائل الفقهية التي صُرف النهي فيها إلى غير التحريم): فإنه يتناول -بالإضافة إلى المسائل الخلافيَّة- ما كان مُتفَقاً على صرفه إلى معنى معين، مع اختلاف القرينة الصارفة أو اتفاقها؛ إذ قد يكون الصرف مُتفَقاً عليه والصارف مُختلَفاً فيه.
ثانياً: من حيث مصادر جَمْع مسائل المنهيات.
حصَر المشروع -كما ذُكر في مقدمة الدراسات- البحث على مسائل المنهيات الواردة في أربعة كتب فقط: (عمدة الأحكام للمقدسي، المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم لمجد الدين ابن تيمية، المحرر في الحديث لابن عبد الهادي المقدسي، بلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر العسقلاني -رحمة الله على الجميع-).
ومعلومٌ أن هذه الكتب الأربعة لا تكفي لمريد الحصر، بل قد تَفُوت بعض المناهي منها، وأما دراسة (المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم): فليست محصورة بمصدر معين، بل هي عامة في كل ما يمكن أن يكون مصدراً للمناهي الشرعية.
ثالثاً: من حيث أدلة مسائل المنهيات.
حُدّ مشروع المنهيات بالأحاديث النبوية المرفوعة المختلَف فيها، من أربعة كتب حديثية اعتنت بأحاديث الأحكام؛ حيث نص الباحث/ عبد الرحمن القرني على ذلك في المقدمة:«تُحد أحاديث الدراسة بالأحاديث المرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم حقيقةً أو حكماً- والتي اختُلف في دلالتها بين التحريم والكراهة» .
أما موضوع الباحثة: فهو عام في جميع الأدلة التي احتج بها الفقهاء، ولا يختص بالأحاديث النبوية، ولا بالمختلف فيه، ولا بالكتب الأربعة المذكورة، وخاصة بما صُرف منها عن التحريم.
رابعاً: من حيث المنهج.
*يتفق مشروع المنهيات مع موضوع الباحثة في المنهج الاستقرائي الاستنتاجي في دراسة المسائل دراسة فقهية مقارنة.
*اعتنى الباحثان غالباً بذِكر الصوارف والقرائن، دون إفرادها بدراسة خاصة، أما رسالة (المسائل الفقهية التي صُرف النهي فيها عن التحريم): فقد تميزت بهذه الإضافة، وهي دراسة القرائن الصارفة، ومدى صحتها، واطرادها، واحتجاج العلماء بها، وهذا مما يعين الباحثين على فهم كثير من اختيارات الأئمة الفقهاء.
خامسا: من حيث عدد مسائل الدراسة.
• المناهي النبوية المختلف في دلالتها: دراسة فقهية تطبيقية من كتاب الطهارة إلى باب ما يُكره في الصلاة، دراسة فقهية تطبيقية. رسالة دكتوراة للباحثة/ مي القاسم (ثلاثٌ وستون مسألة).
• المناهي النبوية المختلَف في دلالتها: دراسة فقهية تطبيقية من باب العمل وما يُكره في الصلاة إلى كتاب الجنائز، دراسة فقهية تطبيقية. رسالة دكتوراة للباحث/ عبد الرحمن القرني (أربعٌ وسبعون مسألة).
• موضوع الباحثة المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: من كتاب الطهارة إلى باب صلاة التطوع. (ثمانون مسألة).
تفرّد هذا الموضوع بأربعين مسألة لم تُبحث ضمن مشروع المنهيات في جامعة الملك سعود .... المقارنة بين الدراستين السابقتين: (مشروع المنهيات بجامعة الملك سعود) وبين موضوع الباحثة، والإضافة العلمية عليها:
الدراسة الثالثة:
صوارف النهي عن موجبه، وتطبيقاتها الفقهية
…
عنوان البحث:
ياسر مصطفى يوسف
…
اسم الباحث:
ماجستير
…
الدرجة العلمية:
جامعة أم درمان الإسلامية
…
جهة الدراسة:
1434 هـ-2013 م
…
تاريخ الدراسة:
غير مطبوع
…
حالة النشر:
481 صفحة
…
حجم الدراسة:
تعريف النهي- أصل دلالته- صوارف النهي وآثارها في صرفه عن أصله- دراسة بعض مباحث النهي .... التقسيمات الكبرى للدراسة:
اعتنت هذه الدراسة بالجوانب الأصولية، وإيراد التطبيقات الفقهية فيها إنما هو على سبيل التمثيل فقط، أما هذه الدراسة: فإنها تعتني بدراسة التطبيقات الفقهية على وجه الاستقلال وحصْر القرائن .... المقارنة بينها وبين موضوع الباحث، والإضافة العلمية عليها:
الدراسة الرابعة:
القرائن عند الأصوليين
…
عنوان البحث:
محمد بن عبد العزيز المبارك
…
اسم الباحث:
دكتوراة
…
الدرجة العلمية:
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
…
جهة الدراسة:
1426 هـ-2005 م
…
تاريخ الدراسة:
مطبوعات سلسلة الرسائل الجامعية (57) -جامعة الإمام
…
حالة النشر:
1018 صفحة
…
حجم الدراسة:
معنى القرائن- أقسام القرائن- أحكام القرائن العامة- أثر القرائن في بيان معاني اللغات- أثر القرائن في الدلالات .... التقسيمات الكبرى للدراسة:
وقد كانت دراسته أصولية، وتَطرَّق لموضوع صوارف النهي عن التحريم في أحد مطالبه، بصفحات يسيرة.
أما بحث (المسائل الفقهية التي صُرف النهي فيها إلى غير التحريم): فهو بحث فقهي يدرس المسائل الفقهية المصروفة عن التحريم، ثم يبحث عن القرينة الصارفة ويدرسها .... المقارنة بينها وبين موضوع الباحث، والإضافة العلمية عليها:
ب- الأبحاث المُحكمة والكتب:
الدراسة الأولى:
دلالة النهي عند الأصوليين، وأثرها في الفروع الفقهية
…
عنوان البحث:
علي بن عباس الحكمي
…
اسم المؤلف:
جامعة أم القرى
…
جهة النشر:
1409 هـ
…
تاريخ النشر:
مجلة جامعة أم القرى
…
مكان النشر للكتاب:
السنة الأولى، العدد الأول
…
رقم الطبعة للكتاب:
66 صفحة
…
حجم الدراسة:
معنى النهي وصِيغه، ودلالته على التحريم، ودلالته على الفور، ودلالته على التكرار، ودلالته على البطلان .... التقسيمات الكبرى للدراسة:
هذا البحث الأصولي تناول بعض القواعد كقاعدة: النهي المطلق يقتضي دوام الترك، النهي المطلق يقتضي الفور، النهي المطلق يقتضي التحريم، النهي المطلق يقتضي البطلان، ولم يتطرق للحديث عن صوارف النهي عن التحريم .... المقارنة بينها وبين موضوع الباحث:
الدراسة الثانية:
صوارف النهي عن التحريم، دراسة تأصيلية تطبيقية
…
عنوان البحث أو الكتاب:
د. عبد العزيز النملة
…
اسم المؤلف:
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة القصيم
…
جهة النشر:
2011 م
…
تاريخ النشر:
القصيم
…
مكان النشر للكتاب:
غير مطبوع
…
رقم الطبعة للكتاب:
50 صفحة
…
حجم الدراسة:
حقيقة النهي وصِيغه- دلالة النهي المطلق على التحريم- استعمال النهي المطلق في غير التحريم- ضوابط صرف النهي عن التحريم
…
التقسيمات الكبرى للدراسة:
اقتصر على التمثيل لبعضٍ من التطبيقات الفقهية لصوارف النهي عن التحريم، وقد أوصى في نهاية بحثه بجمْع الفروع الفقهية المُخرَّجة على قواعدها من كتب الخلاف العالي؛ لتساهم في إبراز ثمرة علم أصول الفقه .... المقارنة بينها وبين موضوع الباحث.
الإضافة العلمية لموضوع الرسالة: هذه الدراسة تجمع القرائن الصارفة عن التحريم، المنثورة في كتب الفقه: بتتبُّعها في الفروع الفقهية، وهذه إضافة لم تُفرد ببحث فقهي، كذا هذه الدراسة قد انفردت بأربعين مسألة لم تُبحث في الدراسات السابقة.
منهج البحث:
أ- المنهج العام:
أولاً: أصوِّر المسألة المراد بحثها تصويراً دقيقاً قبل بيان حكمها؛ ليتضح المقصود من دراستها.
ثانياً: إذا كانت المسألة من مواضع الاتفاق: فأذكر حكمها بدليلها، مع توثيق الاتفاق من مظانه المعتبرة.
ثالثاً: إذا كانت المسألة من مسائل الخلاف: فأتبع ما يلي:
(1)
تحرير محل الخلاف: إذا كانت بعض صور المسألة محل خلاف، وبعضها محل اتفاق.
(2)
ذِكر الأقوال في المسألة مبتدئةً بالقول الراجح، وبيان مَنْ قال بها من أهل العلم، ويكون عرض الخلاف حسب الاتجاهات الفقهية.
(3)
الاقتصار على المذاهب الفقهية المعتبرة، مع العناية بذِكر ما تيسَّر الوقوف عليه من أقوال السلف الصالح، وإذا لم أقف على المسألة في مذهب ما فأسلك بها مسلك التخريج.
(4)
توثيق الأقوال من كتب أهل المذهب نفسه.
(5)
استقصاء أدلة الأقوال، مع بيان وجه الاستدلال من الأدلة النقلية، وذِكر ما يرِد على الأدلة من مناقشات، وما يُجاب به عنها إن كانت.
(6)
الترجيح، مع بيان سببه وذكر ثمرة الخلاف إن وجدت.
رابعاً: الاعتماد على أمهات المصادر والمراجع الأصيلة في التحرير والتوثيق والتخريج والجمع.
خامساً: التركيز على موضوع البحث وتجنُّب الاستطراد.
سادساً: العناية بضرب الأمثلة، وخاصة الواقعية.
سابعاً: تجنُّب ذِكر الأقوال الشاذة.
ثامناً: العناية بدراسة ما جَدَّ من القضايا مما له صلة واضحة بالبحث.
تاسعاً: ترقيم الآيات، وبيان سورها.
عاشراً: تخريج الأحاديث وبيان ما ذكره أهل الشأن في درجتها -إن لم تكن في
الصحيحين أو أحدهما- فإن كانت كذلك فأكتفي حينئذٍ بتخريجها، ولفظ الحديث -في الغالب- لأول مذكور ما لم تتم الإشارة إلى غيره.
حادي عشر: تخريج الآثار من مصادرها الأصيلة، والحكم عليها.
ثاني عشر: التعريف بالمصطلحات، وشرْح الغريب الوارد في صلب الموضوع.
ثالث عشر: العناية بقواعد اللغة العربية والإملاء وعلامات الترقيم.
رابع عشر: الترجمة للأعلام غير المشهورين عند أول ورودٍ لها.
خامس عشر: خاتمة البحث عبارة عن ملخص للرسالة، يعطي فكرة واضحة عما تضمنته الرسالة، مع إبراز أهم النتائج التي توصلتُ إليها من خلال هذا البحث.
سادس عشر: أتبع الرسالة بالفهارس الفنية المتعارف عليها، وتشمل:
- فهرس الآيات.
- فهرس الأحاديث والآثار.
- فهرس الأعلام.
- فهرس المصطلحات.
- فهرس المصادر والمراجع. وأذكر معها بعض الموسوعات التي استفدت منها فائدة غير مباشرة -من باب رد الفضل لأهله-.
- فهرس الموضوعات.
ب- المنهج الخاص:
1.
ذكر دليل النهي الوارد في المسألة.
2.
إن كانت المسألة محل إجماع أو اتفاق بين الفقهاء: فتُعرض عرضاً فقهياً -كما في المنهج العام- ثم يتم توجيه النظر للقرينة الصارفة للنهي عن التحريم، وبيان آراء الفقهاء حول هذه القرينة كما سيأتي بيانه.
3.
إن كانت المسألة محل خلاف بين الفقهاء فتُبحث بحثاً فقهياً مقارناً -كما في المنهج العام- ثم يُوجه النظر إلى القول القائل بصرف النهي عن التحريم، سواء أكان هو الراجح أم لا، ويُعقَّب ببيان القرينة الصارفة له عن التحريم على النحو الذي سيأتي بيانه.
4.
تُذكر القرائن التي نص الفقهاء عليها، ويُشار إلى الأقوال فيها -إن تعددت- ومَن نصَّ عليها، فإن لم يُنص عليها فيُذكر ما أشاروا إليه أو اجتهد الباحث في استنباطه، ثم
تُبيَّن درجة القرينة ومدى اعتبارها.
أبرز الصعوبات التي واجهتني ما يأتي:
1.
المشاكل الصحية التي تعرضتُ لها في فترة إنجار الرسالة، مما أعاقني عن البحث والكتابة لفترات طويلة، وقد مَنَّ الله عز وجل عليَّ بفضله وكرمه وأعانني على إتمام الرسالة، فله الحمد حمداً طيباً مباركاً فيه، يملأ السموات والأرض وما بينهما وما شاء ربنا من شيء بعدُ.
2.
جائحة فيروس كورونا المستجد، وآثارها النفسية والإجتماعية التي عايشناها، ولا زلنا نعايشها إلى اليوم -مؤمنين بقضاء الله وقدره، وأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا- حمانا الله والمسلمين منها، ونسأله سبحانه أن يرفع عنا البلاء ويكشف الغمة؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
تقسيمات الخطة:
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: من كتاب الطهارة إلى باب صلاة التطوع -جمعاً ودراسة-.
تقسيمات البحث:
انتظمت خطة البحث في: مقدمة، وتمهيد، وبابين، وخاتمة، وفهارس.
المقدمة: وفيها: أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وأهدافه، ومنهج البحث، وتقسيماته.
التمهيد: في حقيقة النهي والقرائن الصارفة له، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف النهي، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف النهي لغة.
المسألة الثانية: تعريف النهي اصطلاحاً.
المطلب الثاني: تعريف القرينة، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف القرينة لغةً.
المسألة الثانية: تعريف القرينة اصطلاحاً.
المطلب الثالث: صِيغ النهي الدالة على التحريم.
المطلب الرابع: أنواع القرائن الصارفة للنهي عن التحريم.
الباب الأول:
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في كتاب الطهارة، ويتكون من ستة فصول:
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب المياه، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن البول في الماء الراكد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم البول في الماء الراكد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن الغُسل في الماء الراكد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الغُسل في الماء الراكد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن غَمْس يد المستيقظ من النوم في الإناء قبل غسلها، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم غَمْس يد المستيقظ من النوم في الإناء قبل غسلها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع: النهي عن وضوء الرجل بفضل طهور المرأة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم وضوء الرجل بفضل طهور المرأة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الخامس: النهي عن استعمال الماء المُسخَّن بالشمس، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم استعمال الماء المُسخَّن بالشمس.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب الآنية، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: النهي عن استعمال آنية الذهب والفضة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم استعمال آنية الذهب والفضة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن استعمال آنية أهل الكتاب، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم استعمال آنية أهل الكتاب.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب آداب قضاء الحاجة، وفيه عشرة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن البول قائماً، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم البول قائماً.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن البول في طريق الناس وظِلِّهم، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم البول في طريق الناس وظِلِّهم.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن البول في الجحور، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم البول في الجحور.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع: النهي عن البول في المغتسل، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم البول في المغتسل.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الخامس: النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السادس: النهي عن استقبال بيت المقدس بغائط أو بول، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم استقبال بيت المقدس بغائط أو بول.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السابع: النهي عن الاستنجاء باليمين، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الاستنجاء باليمين.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثامن: النهي عن الاسْتِجْمار بأقل من ثلاثة أحجار، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث التاسع: النهي عن الاستجمار برَوْث أو عَظْم، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الاستجمار برَوْث أو عَظْم.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث العاشر: النهي عن دخول المرأة إلى الحمامات، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم دخول المرأة إلى الحمامات.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل الرابع: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب سنن الفطرة، وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن حلق الرأس في غير الحج والعمرة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم حَلْق الرأس في غير الحج والعمرة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن القَزَع، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم القَزَع.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن تغيير الشَّيْب بالسواد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تغيير الشَّيْب بالسواد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع: النهي عن نَتْف الشَّيْب، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم نَتْف الشَّيْب.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الخامس: النهي عن حَلْق المرأة رأسها، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم حَلْق المرأةِ رأسَها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السادس: النهي عن وَصْل المرأةِ رأسَها بغير الشعر، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم وصل المرأة رأسها بغير الشعر.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل الخامس: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب صفة الوضوء ونواقضه، وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن الإسراف في الماء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الإسراف في الماء.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن الوضوء من أكل لحم الغنم، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الوضوء من أكل لحم الغنم.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن الالتفات إلى الشك في الوضوء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الالتفات إلى الشك في الوضوء.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع: النهي عن مَسِّ المصحف من غير طهارة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم مَسِّ المصحف من غير طهارة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الخامس: النهي عن السفر بالمصحف إلى دار الحرب، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم السفر بالمصحف إلى دار الحرب.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السادس: النهي عن قراءة الحائض والنفساء شيئاً من القرآن، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم قراءة الحائض والنفساء شيئاً من القرآن.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل السادس: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب إزالة النجاسة، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن أكل الجَلَّالَة وشرب ألبانها، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم أكل الجَلَّالة وشرب ألبانها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن تخليل الخمر، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تخليل الخمر.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن البُصاق جِهة القِبلة أو اليمين للمصلي، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم البُصاق جِهة القِبلة أو اليمين للمصلي.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الباب الثاني:
المسائل التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في كتاب الصلاة، ويتكون من سبعة فصول:
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب الأذان، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: النهي عن أخذ الأجرة على الأذان، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم أخذ الأجرة على الأذان.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي حمل النهي فيها على غير التحريم: في باب المساجد، وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: النهي عن إدخال الصبيان والمجانين للمساجد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم إدخال الصبيان والمجانين للمساجد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن إيطان الرجلِ المكانَ في المسجد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم إيطان الرجلِ المكانَ في المسجد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن تَتبُّع المساجد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تَتبُّع المساجد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع: النهي عن تباهى الناس في المساجد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تباهى الناس في المساجد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الخامس: النهي عن الاستلقاء في المسجد ووضع إحدى الرجلين على الأخرى، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الاستلقاء في المسجد ووضع إحدى الرجلين على الأخرى.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السادس: النهي عن الجلوسِ لداخلِ المسجد قبل أن يصلي تحية المسجد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الجلوسِ لداخلِ المسجد قبل أن يصلي تحية المسجد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السابع: النهي عن صلاة غير المكتوبة، بعد إقامة الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم صلاة غير المكتوبة، بعد إقامة الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثامن: النهي عن استِدامة الإمام الصلاة في مكان المكتوبة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم استِدامة الإمام الصلاة في مكان المكتوبة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب المواقيت، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن تسمية العشاء العَتَمَة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تسمية العشاء العَتَمَة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن تسمية المغرب العشاء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تسمية المغرب العشاء.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل الرابع: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب ستر العورة، وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: النهي عن صلاة المصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم صلاة المصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن لبس المُزَعْفَر والمُعَصْفَر، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم لبس المُزَعْفَر والمُعَصْفَر.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن السَّدْل في الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم السَّدْل في الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع: النهي عن اشتمال الصَّمَّاء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم اشتمال الصَّمَّاء.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الخامس: النهي عن تغطية الوجه أو التلثُّم، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تغطية الوجه أو التلثُّم.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السادس: النهي عن صلاة الرجل في سراويل وليس عليه رداء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم صلاة الرجل في سراويل وليس عليه رداء.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السابع: النهي عن شد الوسط بما يشبه شد الزُّنَّارِ، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم شد الوسط بما يشبه شد الزُّنَّار.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثامن: النهي عن إسبال الرجل شيئاً من ثيابه، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم إسبال الرجل شيئاً من ثيابه.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل الخامس: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب آداب المشي إلى الصلاة، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن تشبيك اليدين عند الذهاب إلى المسجد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تشبيك اليدين عند الذهاب إلى المسجد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن الاستعجال أثناء المشي إلى الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الاستعجال أثناء المشي إلى الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن المشي في نعْل واحدة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم المشي في نعْل واحدة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع: النهي عن الانتعال قائماً، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الانتعال قائماً.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الخامس: النهي عن وضْع النعل عن يمينه أو عن يساره في المسجد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم وضْع النعل عن يمينه أو عن يساره في المسجد.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل السادس: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب صفة الصلاة، وفيه ثمانية عشر مبحثاً:
المبحث الأول: النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الصلاة إلى النائم والمتحدث.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن الصلاة لمَن كان بحضرة طعام أو حاقناً أو يدافع الأخبثين، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الصلاة لمَن كان بحضرة طعام أو حاقناً أو يدافع الأخبثين.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن القيام للصلاة قبل رؤية الإمام، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم القيام للصلاة قبل رؤية الإمام.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع: النهي عن الالتفات في الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الالتفات في الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الخامس: النهي عن رفْع البصر إلى السماء أثناء الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم رفْع البصر إلى السماء أثناء الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السادس: النهي عن تَغْميض العين في الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تَغْميض العين في الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السابع: النهي عن التثاؤب، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم التثاؤب.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثامن: النهي عن فَرْقعة الأصابع أثناء الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم فَرْقعة الأصابع أثناء الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث التاسع: النهي عن تشبيك الأصابع أثناء الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تشبيك الأصابع أثناء الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث العاشر: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم قراءة القرآن في الركوع والسجود.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الحادي عشر: النهي عن بُروك المصلي كما يبرك البعير، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم بُروك المصلي كما يبرك البعير.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني عشر: النهي عن افْتِراش السِّباع، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم افْتِراش السِّباع.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث عشر: النهي عن الإقْعاء في الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الإقْعاء في الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع عشر: النهي عن كفِّ المصلي الشعرَ والثيابَ أثناء الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم كفِّ المصلي الشعرَ والثيابَ أثناء الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الخامس عشر: النهي عن اعتماد المصلي على يديه إذا نهض في الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم اعتماد المصلي على يديه إذا نهض في الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السادس عشر: النهي عن جلوس المصلي في الصلاة وهو معتمد على يديه، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم جلوس المصلي وهو معتمد على يديه.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث السابع عشر: النهي عن مسح الحصى من موضع السجود، والعبث أثناء الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم مسح الحصى من موضع السجود، والعبث أثناء الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثامن عشر: النهي عن ردِّ السلام في الصلاة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم ردِّ السلام في الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الفصل السابع: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم: في باب صلاة التطوع، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن صلاة وِترين في ليلة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم صلاة وِترين في ليلة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثاني: النهي عن رفع الصوت بالقراءة في صلاة التطوع إن كان مؤذياً لمَن حوله، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم رفْع الصوت بالقراءة في صلاة التطوع إن كان مؤذياً لمن حوله.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الثالث: النهي عن ترْك قيام الليل، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم ترْك قيام الليل.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
المبحث الرابع: النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم تخصيص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم.
الخاتمة: وفيها أبرز النتائج وأهم التوصيات.
الفهارس، وهي:
- فهرس الآيات.
- فهرس الأحاديث والآثار.
- فهرس الأعلام.
- فهرس المصطلحات.
- فهرس المصادر والمراجع.
- فهرس الموضوعات.
وفي نهاية هذه المقدمة أرى لزاماً عليَّ أن أجدِّد الشكر والثناء لرب الأرض والسماء، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
ثم أبعث أعذب الشكر وأحلاه، وأبرَّه وأزكاه، إلى مَنْ كانا سبباً في وجودي: إلى والديَّ الكريمين: أبي -حفظه الله- وأمي -رحمها الله- على ما يسَّرا لي من سبل التعليم، وخصَّاني بمزيد تربية واهتمام، ورعاية ودعاء؛ فما البحث ولا الباحثة إلا من حَسَناتهما، فاللهَ أسأل أن يجزيهما عني خير الجزاء وأوفاه، وأن يرحم أمي ويغفر لها، ويجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وأن يجمعنا بها في جنة الفردوس، وأسأله سبحانه أن يحفظ أبي ويمد في عمره، ويمتعنا به في صحة وعافية، وطاعة وحسن عمل، وأن يوفقني لبره والإحسان إليه.
كما أرفع الشكر والتقدير إلى فضيلة المشرف الشيخ الدكتور/ محمد بن سعود الخميس -حفظه الله- الذي تفضَّل بالإشراف على رسالتي، وجاد لي بوقته وعلمه وتوجيهه ونصحه على كثرة مشاغله، وقد استفدت كثيراً من توجيهاته الكريمة، وملاحظاته النافعة، مع رحابة الصدر والتواضع، فأسأل المولى أن يرفع قدره، ويجزل أجره، ويبارك له في علمه وعمله، وأن يوفقه في الدنيا والآخرة.
وأثنِّي بالشكر الجزيل لزوجي: مراد بن عبد الكريم فادن -وفقه الله- فقد كان خير معين لي على مواصلة الدراسة: أخذ بيدي منذ أُولى خطواتي في المرحلة الجامعية ثم الماجستير وحتى انتهيت: يذلل العقبات، ويسهل الصعاب، أجزل الله له الأجر والمثوبة.
كذا أزجي شكراً نديَّاً فواحاً لأشقائي وشقيقاتي على مساندتهم وسؤالهم ودعواتهم لي في كل حين، فجزاهم الله عني خيراً.
ثم أتوجَّه بالشكر الجزيل والثناء العاطر إلى أعضاء لجنة المناقشة: فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: عبد الله بن عبد العزيز التميمي، وفضيلة الشيخ الدكتور: زيد بن عبد الله آل قرون. اللذين أكرماني بقبول مناقشة هذه الرسالة، وتحملا مشقة تقويمها، مع ضيق الوقت ونفاسته عند مثلهما، فهما أهل لسد خللها واستقامة اعوجاجها، وإبانة مواطن القصور فيها، سائلة المولى الكريم أن يثيبهما عني خيراً.
والشكر موصول إلى كل مَنْ أعانني في البحث من قريبٍ أو بعيد: بخدمة أو كتاب أو مشورة، وأقول للجميع: أحسن الله إليكم، وجزاكم عني خيراً.
وخاتمة الشكر للصرح الشامخ، ومنارة العلم والعلماء: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ممثَّلة بقسم الفقه في كلية الشريعة، التي تعلمتُ في أرجائها، ونهلت من علِم أَفْلاكها جزاهم الله خيراً، فاللهم احفظها، ووفق القائمين عليها إلى كل خير، واجزهم عنا خير الجزاء.
وبعدُ: فهذا البحث بذلت فيه ما استطعت من جهد، وأتممته بتوفيق الله وتيسيره، فما كان فيه من صواب فهو محض فضل من الله، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان.
ختاماً: أسأل المولى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر لي ما فيه من زلل وتقصير؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر بتاريخ: 14/ 5/ 1442 هـ
التمهيد:
في حقيقة النهي والقرائن الصارفة له
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: تعريف النهي، وفيه مسألتان:
المطلب الثاني: تعريف القرينة، وفيه مسألتان:
المطلب الثالث: صيغ النهي الدالة على التحريم.
المطلب الرابع: أنواع القرائن الصارفة للنهي عن التحريم.
المطلب الأول: تعريف النهي
المسألة الأولى: تعريف النهي لغة:
(نهي) النون والهاء والياء أصل صحيح يدل على غاية وبلوغ. ومنه نهيته عنه، وذلك لأمر يفعله. فإذا نهيته فانتهى عنك فتلك غاية ما كان وآخره.
والنهي ضد الأمر، وهو: طلب الامتناع عن الشيء، ونهاه عن كذا ينهاه نهياً، وتناهى أي: كف، وتناهوا عن المنكر أي: نهى بعضهم بعضاً.
والإنهاء في الأصل: إبلاغ النهي، ثم صار متعارفاً في كل إبلاغ، والنُهية -بالضم-: واحدة (النُهى) وهي العقول؛ لأنها تنهى عن القبيح
(1)
.
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}
(2)
.
والنهي عند النحاة: طلب ترْك الفعل باستعمال (لا) الناهية والمضارع المجزوم
(3)
.
ونهى الله تعالى أي: حرم
(4)
، والنهي: الزجر عن الشيء، وهو من حيث المعنى: لا فرق بين أن يكون بالقول أو بغيره.
قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)}
(5)
، وقال تعالى:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
(6)
.
المسألة الثانية: تعريف النهي اصطلاحاً:
النهي بمعناه العام ضد الأمر، وقد تفاوتت عبارات علماء أصول الفقه في تعريف
(1)
يُنظر: الصحاح (6/ 2517)، مقاييس اللغة (5/ 359)، لسان العرب (15/ 346)، المعجم الوسيط (2/ 960).
(2)
سورة طه: جزء من الآية (54).
(3)
يُنظر: المعجم الوسيط (2/ 960).
(4)
يُنظر: المصباح المنير (2/ 629).
(5)
سورة العلق: الآيات (9 - 10).
(6)
سورة الحشر: جزء من الآية (7).
النهي في الاصطلاح، ومن ذلك:
- عرّفه أبو المظفَّر السَّمْعاني رحمه الله
(1)
بأنه: «استدعاء ترْك الفعل بالقول ممن هو دونه»
(2)
.
- عرّفه أبو الخطاب الكَلْوَذَاني رحمه الله
(3)
بأنه: «استدعاء الترك بالقول»
(4)
، وقال في موضع آخر:«هو قول القائل لغيره: لا تفعل على وجه الاستعلاء»
(5)
.
- عرّفه ابن الحاجب رحمه الله
(6)
بأنه: «اقتضاء كفٍّ عن فِعل على جهة الاستعلاء»
(7)
.
- عرّفه الزَّركَشِي رحمه الله
(8)
بأنه: «اقتضاء كفٍّ عن فعل»
(9)
.
(1)
هو: منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد التميمي السمعاني، الحنفي ثم الشافعي، كنيته أبو المظفر، والسمعاني نسبة إلى سمعان وهو بطن من تميم، وُلد سنة 426 هـ، ويُعدّ أبو المظفر من كبار فقهاء الشافعية، من مؤلفاته:«قواطع الأدلة في الأصول» ، «الاصطلام في الرد على أبي زيد الدبوسي» ، «البرهان في الخلاف» ، «الانتصار لأصحاب أهل الحديث» ، تُوفي سنة 489 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (14/ 155)، طبقات الشافعية الكبرى (5/ 335).
(2)
قواطع الأدلة (1/ 138).
(3)
هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن الكَلوذَانِي البغدادي الحنبلي، كنيته أبو الخطاب، وُلد سنة 432 هـ، أحد أئمة المذهب الحنبلي وأعيانه، كان فقيهاً أصولياً أدبياً شاعراً، من مؤلفاته:«التمهيد في أصول الفقه» ، «الهداية» ، «الخلاف الكبير» ، تُوفي سنة 510 هـ. يُنظر: ذيل طبقات الحنابلة (1/ 270)، شذرات الذهب (6/ 45).
(4)
التمهيد في أصول الفقه (1/ 66).
(5)
المرجع السابق (1/ 360).
(6)
هو: عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، جمال الدين بن الحاجب، كنيته أبو عمرو، وهو كردي الأصل، كان أبوه حاجباً فعُرف به، ولد في إسنا من صعيد مصر سنة 570 هـ، اشتغل بالقرآن ثم بالفقه ثم بالعربية والقراءات وبرع في علومه وأتقنها غاية الإتقان، فكان من فقهاء المالكية وكبار العلماء بالعربية، له العديد من المؤلفات منها:«الكافية» ، «الأمالي» ، «منتهى السول» ، «جامع الأمهات» ، تُوفي سنة 646 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (16/ 430)، الديباج المذهب (2/ 86)، شذرات الذهب (7/ 405).
(7)
بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 85).
(8)
هو: محمد بن بهادر بن عبد الله المصري الزركشي الشافعي، الملقب ببدر الدين، وكنيته أبو عبد الله، وُلد في مصر سنة 745 هـ، وفيها تلقى علومه، برع في الفقه والأصول والحديث وعلوم القرآن، وكانت له رحلات في سماع الحديث، من مؤلفاته:«البحر المحيط في أصول الفقه» ، «تشنيف المسامع بشرح جمع الجوامع» ، «المنثور في القواعد» ، «البرهان في علوم القرآن» ، تُوفي سنة 794 هـ. يُنظر: طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة (3/ 167)، شذرات الذهب (8/ 572).
(9)
البحر المحيط (3/ 365).
وعند النظر في هذه التعريفات وغيرها من تعريفات العلماء: نجدها متقاربة الألفاظ، تدور حول معنى واحد، هو: طلب الكف عن الفعل، وتفترق عند بعضهم من حيث اختلافهم في القيود والشروط.
والتعريف المختار هنا ما عرَّفه به ابن الحاجب بقوله: اقتضاء كفٍّ عن فعل على جهة الاستعلاء.
شرح التعريف، وبيان محترزاته
(1)
:
قوله: (اقتضاء) أي: طلب، وهو جنس له؛ لأنه يعم طلب الفعل وطلب الكف عن الفعل.
قوله: (اقتضاء كفٍّ عن فعل) خرج به: الأمر؛ لأنه اقتضاء فعل.
قوله: (على جهة الاستعلاء) قيد؛ للاحتراز من الدعاء والالتماس؛ فطلب الفعل أو الكف عنه بصيغتي (افعل) أو (لا تفعل): إن كان من أدنى فهو دعاء، أو من مساوٍ فهو شفاعة والتماس، أو من أعلى -على جهة الاستعلاء- فهو أمر أو نهي.
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي يبدو جليًّا؛ فإن المعنى الشرعي لم يخرج عن المعنى اللغوي بحال، كلا المعنيين في الزجر وطلب الكف عن فعل الشيء، ويزيد المفهوم الاصطلاحي عن اللغوي في اعتبار الاستعلاء، أي أن: النهي الشرعي خطاب موجه من الأعلى إلى مَنْ هو دونه.
(1)
يُنظر: شرح مختصر الروضة (2/ 430)، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 85).
المطلب الثاني: تعريف القرينة
المسألة الأولى: تعريف القرينة لغة:
(قرن) القاف والراء والنون أصلان صحيحان، أحدهما يدل على جمع شيء إلى شيء، والآخر شيء ينتأ بقوة وشدة
(1)
.
والقرينة: (فعيلة) بمعنى: (مفعولة) من الاقتران. ومادة (قرن) لها معانٍ عدّة في اللغة، منها
(2)
:
أ - المصاحبة والملازمة: يُقال: قارن الشيء الشيء مقارنة وقراناً: اقترن به وصاحبه. و (قرينة) الرجل: امرأته، والقرين: المصاحب، قال تعالى:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ}
(3)
، أَي: صديق ملازم
(4)
.
ب - الشد والوصل: يُقال: قرنت الشيء بالشيء: وصلته، وقرن إلى الشيء تقريناً: شده إليه.
ت - الجمع والضم: جمع الشيء إلى الشيء، ومنه القِران: وهو الجمع بين الحج والعمرة بنية واحدة.
ث - النُّتُوء بقوة وشدة: كالقَرن للثور وغيره، وبه تُسمى -على معنى التشبيه- الذوائب: قروناً.
وبالنظر في هذه المعاني: نجد أن المعني اللغويَّ المقصودَ عند الأصوليين للقرينة هو المعنى الأول، أي: المصاحبة؛ لأن القرينة عندهم هي ما تصاحب الخطاب الشرعي فتبينه، وسيأتي بيانه عند ذكر المعنى الاصطلاحي للقرينة.
(1)
يُنظر: مقاييس اللغة (5/ 76).
(2)
يُنظر: الصحاح (6/ 2182)، مقاييس اللغة (5/ 77)، لسان العرب (13/ 336)، تاج العروس (35/ 551).
(3)
سورة الصافات: الآية (51).
(4)
تفسير القرطبي (15/ 82).
المسألة الثانية: تعريف القرينة اصطلاحاً:
تناول الأصوليون مصطلح القرينة كثيراً في ثنايا المسائل، بياناً لها -بحسب المقام- وبياناً لعملها وأثرها في تلك المسائل، ومنهم من ذكر لها تعريفا، وإن كانت ليست بالتعريف العام الضابط الشامل -كما ذكر ذلك كثير من الباحثين المعاصرين- منهم: د. محمد بن عبدالعزيز المبارك.
حيث قال: «على الرغم من عناية الأصوليين بذِكر أثر القرائن في مسائل كثيرة من علم أصول الفقه،
…
إلا أنّ ضبط مصطلح القرينة لم يحظَ بالعناية الكافية
…
وقد قمت باستقراء أكثر الكتب الأصولية المتاحة، وقلبت الكثير من الصفحات بحثاً عن تعريف شامل للقرينة عند الأصوليين، فلم أعثر على ما كنت أصبو إليه، إلا أنني وجدتُ بعض التعريفات التي لم يُرَد بها تعريف القرينة على وجه العموم، بل تحديد المراد بها في تلك المسألة الأصولية التي كان لها أثر فيها»
(1)
.
فمن تعريفات المتقدمين للقرينة ما يلي:
عرّفها الشِّيرَازِيُّ رحمه الله
(2)
(3)
.
وعرّفها أبو الخطاب رحمه الله بقوله: «القرينة: بيان لما أُريد باللفظ في عُرف الشرع والعادة»
(4)
.
(1)
القرائن عند الأصوليين (ص: 37).
(2)
هو: إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله الشيرازي، جمال الدين الفيروزأبادي الشافعي، كنيته أبو إسحاق، وُلد سنة 393 هـ، كان فقيهاً أصولياً محققاً متقناً مدققاً، له عدة مؤلفات، منها:«اللمع» ، «شرح اللمع» ، «التبصرة» ، «المهذب في الفقه» ، تُوفي سنة 476 هـ. يُنظر: وفيات الأعيان (1/ 29)، سير أعلام النبلاء (18/ 452)، طبقات الشافعية الكبرى (4/ 215).
(3)
التبصرة في أصول الفقه (ص: 39).
(4)
التمهيد في أصول الفقه (1/ 183).
وعرّفها القرافي رحمه الله
(1)
بقوله: «القرينة: هي الأمارة المرشِدة للسامع أن المتكلم أراد المجاز»
(2)
.
وقد انتُقد على هذه التعريفات كونها لم تعرف القرينة على وجه العموم، أو أنها اقتصرت على ذكر بعض أثرها لا جميعها.
واجتهد بعض الباحثين المعاصرين في تعريف القرينة تعريفاً ضابطاً سالماً مما انتُقد على تعريفات المتقدمين، فمن تلك التعريفات:
عرَّفها د. أيمن علي صالح بقوله: «دليل يقترن بخطاب، فيؤثر فيه تأثيراً ما»
(3)
.
وعرَّفها محمد قاسم الأسطل بقوله: «القرينة: أمر يبين ما أُريد بالدليل الشرعي المحتمل»
(4)
.
والتعريف المختار: «ما يصاحب الدليل، فيبين المراد به، أو يقوي دلالته أو ثبوته» ، وهو ما عرَّفه به د. محمد المبارك
(5)
.
شرح التعريف
(6)
:
(ما): اسم موصول بمعنى: الذي، وهي صفة لمحذوف تقديره:(الشيء) وتُعد جنساً في التعريف، فيشمل: القرينة اللفظية (قرينة لفظية في النص الشرعي)، والحالية (كالسبب أو الأحوال المصاحبة).
(يصاحب): أي: يقارن، فلا بد في القرينة أن تصاحب وتقارن شيئاً كما هي في مدلولها اللغوي.
(الدليل): المقصود بالدليل هنا: ما يعم الدليل اللفظي والفعلي، وذلك لأن
(1)
هو: أحمد بن إدريس الصِّنْهَاجِيُّ القرافي المالكي، شهاب الدين، كنيته أبو العباس، كان إماماً بارعاً في الفقه والأصول والعلوم العقلية، انتهت إليه رئاسة الفقه على مذهب مالك رحمه الله، له مؤلفات عدة، منها:«نفائس الأصول» ، «شرح تنقيح الفصول» في أصول الفقه، «أنوار البروق» المشهور باسم «الفروق» ، «الذخيرة في الفقه» تُوفي سنة 684 هـ. يُنظر: الوافي بالوفيات (6/ 146)، الديباج المذهب (1/ 236).
(2)
نفائس الأصول (2/ 875).
(3)
القرائن والنص (ص: 38).
(4)
رسالة بعنوان: القرينة عند الأصوليين وأثرها في فهم النصوص، (ص: 19).
(5)
القرائن عند الأصوليين (ص: 68).
(6)
المرجع السابق (ص: 68 - 70).
القرينة عند الأصوليين لا تختص باللفظ وحده.
(فيبين المراد به): أي: يكشفه ويوضحه، والبيان في اللغة: الكشف عن الشيء
(1)
، وهو بهذا أعم من النطق
(2)
، وعليه: فيحصل البيان بالقول والفعل والحال.
(أو يقوّي دلالته): المراد أن القرينة قد تقوّي المعنى المتبادر مما تصاحبه: بحيث تؤكِّده وتقرره، فترفع حينئذ الاحتمال والشك، فيرتقي من مجرد كونه ظاهراً فيما دل عليه، إلى كونه نصاً فيه أو قاطعاً.
(أو ثبوته): أي أن: القرينة قد تقوِّي ثبوت الدليل الذي تصاحبه، بحيث يرتقي مفاد الخبر المقترن بها من مجرد الظن إلى ظنٍّ غالب، أو قطعٍ ويقين، وقد تصاحب الخبر الضعيف الذي لا يُحتج به وحده، فيرتقي معها إلى درجة الصحة والاحتجاج.
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:
المعنى الاصطلاحي للقرينة انطلق من أحد المعاني اللغوية العامة للقرينة، وهو: المصاحبة، فيتبين لنا الارتباط الوثيق بين المعنيين، وتزيد القرينة لدى الأصوليين: باختصاصها بأدلة الشرع.
(1)
يُنظر: لسان العرب (13/ 67).
(2)
يُنظر: الكليات (1/ 230).
المطلب الثالث: صيغ النهي الدالة على التحريم
النهي له صيغة موضوعة في اللغة، تختص به، وتدل عليه، هي: صيغة الفعل المضارع المقترن بـ (لا) الناهية، وإذا تجردت صيغة النهي (لا تفعل) في الشرع عن القرائن فهي ظاهرة في التحريم
(1)
، نحو قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}
(2)
.
وللنهي صيغ وأساليب كثيرة في نصوص الشرع تفيد التحريم
(3)
، أهمها:
1.
التصريح بالتحريم، نحو: قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
(4)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ))
(5)
.
2.
التصريح بعدم الحل، نحو: قول الله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}
(6)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ))
(7)
.
3.
لفظ الفعل (نهى) وما تصرف منه، نحو: قوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}
(8)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:((نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا))
(9)
. ويلحق بهذا قولُ الصحابي: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا).
4.
صيغة الأمر التي تطلب الترك والمنع من الفعل، نحو: قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
(10)
،
(1)
يُنظر: اللمع (ص: 24)، التمهيد في أصول الفقه (1/ 362)، المسودة (ص: 80)، مختصر التحرير (3/ 83).
(2)
سورة الإسراء: جزء من الآية (32).
(3)
ذكر المتقدمون بعض هذه الصيغ كما في: الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 67)، البحر المحيط (3/ 365)، وقد حاول بعض المعاصرين جمهعا كما في: المهذب في علم أصول الفقه المقارن (1/ 298)، تيسير علم أصول الفقه (ص: 36).
(4)
سورة النساء: جزء من الآية (23).
(5)
أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله (4/ 1986) برقم:(2564).
(6)
سورة النساء: جزء من الآية (19).
(7)
أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (8/ 19) برقم:(6065)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر (4/ 1983) برقم:(2558).
(8)
سورة النحل: جزء من الآية (90).
(9)
أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (2/ 672) برقم:(977).
(10)
سورة الحج: جزء من الآية (30).
وقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ))
(2)
.
5.
صيغة النهي المطلق (الفعل المضارع المسبوق بـ (لا) الناهية)، نحو: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}
(3)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:((لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا))
(4)
.
6.
صيغة النفي بمعنى النهي: نحو: قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}
(5)
، وقوله عليه السلام:((لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ))
(6)
.
7.
كل فعل رُتِّبت عليه العقوبة أو الحد أو اللعن، نحو: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
(7)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ))
(8)
.
8.
كل فعل ورد فيه: ذم، أو وصْف بأنه من: الذنوب، أو الكبائر، أو عمل الشيطان أو الكفار أو المنافقين، أو وصْف بما يفيد عدم الرضا به أو الرضا عن فاعله ونحو ذلك، مثاله: عن أنس رضي الله عنه قال: ((سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الكَبَائِرِ، قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ))
(9)
.
(1)
سورة البقرة: جزء من الآية (278).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب رمي المحصنات (8/ 175) برقم:(6857)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (1/ 92) برقم:(89).
(3)
سورة الإسراء: جزء من الآية (32).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (8/ 19) برقم:(6065)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر (4/ 1983) برقم:(2558).
(5)
سورة النور: جزء من الآية (3).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (2/ 60) برقم:(1189)، ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2/ 1014) برقم:(1397).
(7)
سورة النور: الآية (4).
(8)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله (4/ 61) برقم:(3017).
(9)
أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور (3/ 172) برقم:(2653)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (1/ 92) برقم:(88).
المطلب الرابع: أنواع القرائن الصارفة للنهي عن التحريم
اتفق جمهور الأصوليين والفقهاء على أن الأصل في صيغة النهي -إذا تجردت عن القرائن- أنها تُحمل على ظاهرها وهو التحريم، فإن احتفت بها القرائن المعتبَرة الصحيحة الصالحة لصرف النهي عن التحريم، فإنه يلزم حَمْلها على ما دلت عليه القرينة الصارفة من الكراهة أو غيرها من المعاني التي يمكن أن ترد لها
(1)
.
والباحث في كتب العلماء المتقدمين يلمس الجهود الكبيرة في العناية بالقرائن وبيان أثرها والاستفادة منها في فهم دلالات الأدلة الشرعية والمراد منها؛ لاستنباط الأحكام، لكنهم لم يفصِّلوا الكلام عنها، ولا أفردوا لها مبحثاً مستقلاً خاصاً، ولكنها منثورة ومفصَّلة في كتب الفقه وشروح الأحاديث، فيما يذكرونه من أدلة وشواهد وعلل ومناسبات في ثنايا المسائل الفقهية والأحاديث التي تطرَّقوا لشرحها
(2)
.
وقد أشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى بعض هذه القرائن الصارفة، حيث يقول: «أصل النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما نهى عنه فهو محرم، حتى تأتي عنه دلالة تدل على أنه إنما نهى عنه لمعنى غير التحريم: إما أراد به نهياً عن بعض الأمور دون بعض، وإما أراد به النهي للتنزيه عن المنهي والأدب والاختيار.
ولا نفرق بين نهي النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر لم يختلف فيه المسلمون، فنعلم أن المسلمين كلهم لا يجهلون سنة، وقد يمكن أن يجهلها بعضهم»
(3)
.
والقرائن لها أنواع كثيرة وتقسيمات متعددة بحسب اختلاف الاعتبارات، نجدها منثورة في كتب الفقه وأصول الفقه.
وفيما يلي: بيان طائفة مما ذكره العلماء من القرائن الصارفة للنهي عن التحريم
(4)
:
(1)
يُنظر: اللمع (ص: 24)، التمهيد في أصول الفقه (1/ 362)، الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (2/ 187)، المسودة (ص: 80)، البحر المحيط (3/ 366).
(2)
يُنظر: القرائن عند الأصوليين (2/ 679).
(3)
الأم (7/ 305).
(4)
هذه القرائن مستفادة باختصار من: القرائن عند الأصوليين (2/ 726 ومابعدها)، وبحث بعنوان: القرائن الصارفة للأوامر والنواهي عن حقيقتها، للباحث/ مجدي حسن أبي الفضل، وإضافة بعض القرائن التي ذكرها أهل العلم وكشف عنها البحث في الفروع الفقهية، مع التوثيق بما تيسر من أقوالهم.
الأول: الإجماع:
إذا ورد نهيٌ في نص شرعي، ثم أجمعت الأمة على حَمْله على الكراهة والتنزيه، كان الإجماع قرينة صارفة له عن ظاهره، وذلك لأن الإجماع لا يمكن أن يقع مخالفاً لمقتضى النص الشرعي؛ لأنه قائم على مستند من القرآن أو السنة؛ فالعمل بالإجماع هو عمل بالنص والإجماع، والعمل بالدليلين والجمع بينهما أولى من إلغاء أحدهما
(1)
.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «ولا نفرق بين نهي النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر لم يختلف فيه المسلمون»
(2)
.
مثاله: مسألة النهي عن القزع؛ فقد حمل الفقهاء النهي على الكراهة بالإجماع.
قال النووي رحمه الله: «أجمع العلماء على كراهة القزع إذا كان في مواضع متفرقة إلا أن يكون لمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه»
(3)
.
الثاني: القرينة اللفظية في النص نفسه أو في نص آخر:
بأن يَرِد نهي في نص شرعي ظاهره التحريم، وتأتي في النص نفسه قرينة لفظية تدل على عدم إرادة التحريم من النهي، فيكون ذلك قرينة صارفة للنهي عن التحريم إلى الكراهة.
أو يَرِد نصان: أحدهما فيه نهي ظاهره التحريم، والآخر يقتضي حمل النهي على الكراهة والتنزيه، فيُصرف عن ظاهره إلى الكراهة عملاً بالنصين.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «ولا نفرق بين نهي النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»
(4)
.
مثاله: حديث النهي عن البول في المغتسل فقد نص فيه على أنه يورث الوسواس، جاء في (نيل الأوطار):«رَبْطُ النهي بعلة إفضاء المنهي عنه إلى الوسوسة يصلح قرينة لصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة»
(5)
.
(1)
يُنظر: البحر المحيط (6/ 398)، إرشاد الفحول (1/ 210)، القرائن عند الأصوليين (ص: 726).
(2)
الأم (7/ 305).
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 101).
(4)
المصدر نفسه.
(5)
(1/ 114).
الثالث: فِعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه:
إذا ثبت فِعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه في بعض الأوقات، فإن ذلك يدل على أنه محمول على الكراهة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم لا يقع في فِعله محرم، وإن فعل شيئاً وكان مكروها في حقنا، فليس بمكروه منه؛ لأنه إنما يفيد به التشريع وبيان الجواز، ويُشترط له ألا يكون الفعل منه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاختصاص به
(1)
.
وقد ذكر العلماء لمسألة: تعارض القول والفعل، أنواعاً متعددة وطُرُقاً لدفع هذا التعارض، منها: جَعْل الفعل بياناً للجواز.
قال الزركشي رحمه الله: «للفقهاء في مثل ما مثَّلنا به طريقة أخرى لم يذكرها أهل الأصول هنا، وهي: حمْل الأمر على الندب والنهي على الكراهة، وجَعْل الفعل بياناً لذلك»
(2)
.
مثاله: ما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بال في حال القيام، فهذه قرينة نصية لبيان الجواز وأن النهي ليس للتحريم.
جاء في (فتح الباري): «الأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود»
(3)
.
الرابع: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمَن فعل المنهي عنه:
إذا فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم المنهيَّ عنه بمحضر من النبي صلى الله عليه وسلم أو في عصره، مع علمه بذلك، وإقراره لهم -فإن ذلك قرينة صارفة للنهي عن التحريم إلى الكراهة؛ لأن هذا المنهيَّ عنه لو كان محرماً لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الإنكار على فاعله؛ فإنه صلى الله عليه وسلم جاء لبيان الأحكام.
(4)
.
الخامس: التعليل بما يشعر بعدم التحريم:
أن يُعلل النهي الوارد في النص الشرعي بعلة تُشعِر بحمله على الكراهة والتنزيه، فتُعد هذه العلة قرينة صارفة للنهي عن التحريم عملاً بمقتضاه وتجنباً لإلغائه.
(1)
يُنظر: نفائس الأصول (5/ 2234)، الموافقات (4/ 117)، تشنيف المسامع (2/ 903).
(2)
البحر المحيط (6/ 52).
(3)
(1/ 330).
(4)
العدة في أصول الفقه (1/ 127).
قال الخطابي رحمه الله
(1)
: «والمعاني هي المصرِّفة للأسماء والمرتِّبة لها»
(2)
، والمعاني هي العلل.
مثاله: ما جاء في (نيل الأوطار) عند حديث النهي عن البول في المغتسل: «رَبْطُ النهي بعلة إفضاء المنهي عنه إلى الوسوسة يصلح قرينة لصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة»
(3)
.
السادس: فعل الصحابة رضي الله عنهم للمنهيِّ عنه:
إذا نُقل عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم فعل المنهيِّ عنه في بعض الأوقات من غير عذر وضرورة، كان فعلهم قرينة صارفة للنهي عن التحريم إلى الكراهة؛ لعدالة الصحابة، ولأنه ربما علم بقرينة صارفة، و «لأنه شاهد الرسول وسمع كلامه، والسامع أعرف بالمقاصد ومعاني الكلام»
(4)
.
مثاله: ماجاء في مسألة النهي عن الصبغ بالسواد؛ فقد فَعَله جماعة من الصحابة، ولم يُنكر عليهم، فدل ذلك على أن الصحابة فهموا أن النهي عنه ليس للتحريم
(5)
.
السابع: القرينة الحالية:
إذا ورد نهي في نص شرعي واحتف به ما يدل على أن المراد به غير ظاهره، كسبب ورود النهي أو الأحوال المصاحبة له، فإنه يُصرف حينئذ عن حقيقته إلى الكراهة والتنزيه، وذلك لما ثبت من تأثير القرينة الحالية في الدلالة على المراد.
(1)
هو: حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب، الإمام أبو سليمان الْخَطَّابِيُّ الْبُسْتِيُّ، يُقال أنه من سلالة زيد بن الخطاب بن نفيل العدوى ولم يثبت ذلك، كان إماماً في الفقه والحديث واللغة. من تصانيفه:«معالم السنن» ، «غريب الحديث» ، «شرح الأسماء الحسنى» ، «أعلام السنن في شرح البخاري» وغير ذلك، تُوفي سنة 388 هـ. يُنظر: وفيات الأعيان (2/ 214)، طبقات الشافعية الكبرى (3/ 282).
(2)
معالم السنن (1/ 12).
(3)
(1/ 114).
(4)
العدة في أصول الفقه (4/ 1187).
(5)
يُنظر: المفهم (5/ 419).
قال ابن عبد البر رحمه الله
(1)
(2)
.
الثامن: المقصد من النهي:
استعمل الفقهاء وغيرهم النظر في مقصد الشارع من النهي في صرفه عن التحريم، وذلك لأن النهي الوارد في النص الشرعي قد يكون المقصد منه حمل الناس على مكارم الأخلاق ومحاسنها، أو حثهم على ما فيه رشدهم والأصلح لهم، كذا قد يكون مغزاه الرفق بهم ورحمتهم وإعلامهم بما هو أيسر عليهم.
(3)
.
(4)
.
التاسع: الأصول والقواعد الشرعية العامة:
من القرائن الصارفة للنهي عن التحريم أن تقتضي الأصول والقواعد الشرعية
(1)
هو: يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، كنيته أبو عمر، وشهرته ابن عبد البر، وُلد بقرطبة سنة 368 هـ، كان من كبار حفاظ الحديث، قال ابن خلّكان:«إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما» ، من مؤلفاته:«التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» ، «الاستذكار» ، «الكافي في الفقه» ، «الدرر في اختصار المغازي والسير» ، «العقل والعقلاء» ، «الاستيعاب» ، تُوفي سنة 458 هـ. يُنظر: وفيات الأعيان (7/ 66)، الديباج المذهب (2/ 367)، شذرات الذهب (5/ 267).
(2)
التمهيد (3/ 215).
(3)
(3/ 419).
(4)
نفائس الأصول (3/ 1261).
حمله على الكراهة والتنزيه.
مثاله: استعمال قاعدة سد الذرائع قرينةً لحمل النهي على غير التحريم في مسألة النهي عن تخليل الخمر.
جاء في (التبصرة): «ومحمل الحديث أن ذلك حمايةٌ؛ لئلا يتذرَّع الناس إلى شُربها، وليس أنَّها تكون حراماً إن فعل»
(1)
.
العاشر: القياس:
عمل بعض الفقهاء بالقياس في صرف النهي عن التحريم. ولا يكون الصرف به في مقام الاستقلال به وحده، وإنما في مقام الاعتضاد مع غيره من القرائن.
من ذلك: القياس المعارض لحمل النهي على التحريم: قياس تخليل الخمر على دباغ جلد الميتة؛ بجامع أنهما استصلاح لفساد عارض؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الدِّبَاغَ يُحِلُّ مِنَ الْمَيْتَةِ كَمَا يُحِلُّ الْخَلُّ مِنَ الْخَمْرِ))
(2)
.
فمن الفقهاء مَنْ استدل بالقياس وتأول مفهوم النهي فقال بالإباحة
(3)
.
الحادي عشر: ضعف الحديث:
إذا ورد النهي في حديث ضعيف فإن بعض أهل العلم يقيم ضعف الحديث مقام الصارف للنهي عن التحريم.
قال ابن مفلح رحمه الله
(4)
: «وكأن الأخبار لضعفها لا تنهض للتحريم وإن كانت تقتضيه، فيُستدل بها على الكراهة كما يُستدل بخبر ضعيف ظاهره يقتضي وجوب أمر على ندبية ذلك الأمر، ولا يُقال:(لعل هناك صارفاً عن مقتضى الدليل ولم يُذكر)؛ لأنه خلاف
(1)
(4/ 1623).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الرهن، باب ذِكر الخبر الذي ورد في خل الخمر (11/ 441) برقم:(11313)، وضعَّفه؛ لأن في إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف. ويُنظر تضعيفه في: البدر المنير (6/ 631)، مجمع الزوائد (1/ 218).
(3)
يُنظر: بداية المجتهد (3/ 28).
(4)
هو: محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، أبو عبد الله، شمس الدين المقدسي الرامينى ثم الصالحي، وُلد سنة 710 هـ، نشأ في بيت المقدس، واشتغل في الفقه وبرع فيه إلى الغاية، فكان أعلم أهل عصره بمذهب الإمام أحمد ابن حنبل، وصاهر القاضي جمال الدين المرداوي، وناب عنه في الحكم، من تصانيفه:«كتاب الفروع» ، «النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر» ، «أصول الفقه» ، «الآداب الشرعية الكبرى» وغيرها، وتُوفى بصالحية دمشق سنة 763 هـ. يُنظر: الدرر الكامنة (6/ 14)، المقصد الأرشد (2/ 517)، شذرات الذهب (8/ 340).
الظاهر»
(1)
.
الثاني عشر: ورود النهي في حال دون حال:
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «أصل النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما نهى عنه فهو محرم، حتى تأتي عنه دلالة تدل على أنه إنما نهى عنه لمعنى غير التحريم: إما أراد به نهياً عن بعض الأمور دون بعض
…
»
(2)
.
جاء في فتاوى الشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله الإشارة إلى هذا الصارف في مسألة تخصيص يوم الجمعة بصيام: فحُمل به النهي على الكراهة لا التحريم، حيث سُئل:«إذا كان الأصل في النهي التحريم، فلِم صار في الجمعة للكراهة؟ فأجاب: لعله لكونه رُخص في الشرع في صيامه وصيام يومٍ معه، فلو كان حراماً لما ساغ صومه بالكلية»
(3)
.
الثالث عشر: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد:
إذا ورد نهي في نص شرعي وكان النهي في باب الأدب والإرشاد إلى المصلحة، فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى صرف النهي عن التحريم؛ لكونه في باب الآداب، وأن النهي فيه راجع إلى الكراهة
(4)
.
قال الشافعي رحمه الله: «
…
وإما أراد به النهي للتنزيه عن المنهي والأدب والاختيار»
(5)
.
مثاله: قال القرطبي رحمه الله
(6)
عند الكلام في باب الانتعال وآدابه: «لا خلاف في أن أوامر هذا الباب ونواهيه إنما هي من الآداب المكملة، وليس شيء منها على الوجوب ولا الحظر
(1)
النكت والفوائد السنية (1/ 110).
(2)
الأم (7/ 305).
(3)
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ/ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (4/ 206).
(4)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(5)
الأم (7/ 305).
(6)
هو: ضياء الدين أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري الأندلسي القرطبي المالكي، يُعرف بابن المزيِّن، وُلد بقرطبة سنة 578 هـ، كان محدثاً فقيهاً من كبار الأئمة، رحل إلى مكة والقدس والإسكندرية ومصر وغيرها، وحصل له شأن عظيم، صنف كتاب «المفهم في شرح مختصر مسلم» وغيره، تُوفي بالإسكندرية سنة 656 هـ. يُنظر: الديباج المذهب (1/ 240)، شذرات الذهب (7/ 473)، شجرة النور الزكية (1/ 278).
عند مُعتبَر بقوله من العلماء، والله تعالى أعلم»
(1)
.
ملحوظات:
- يقسم العلماء القرائن إلى أقسام متعددة بحسب الاعتبارات، إلا أنها تتداخل فيما بينها كثيراً، ولا تكاد تجد اعتباراً يفصِلها دون أن تتجاذبها الاعتبارات الأخرى، ولذا ذكرتها سرداً دون تقسيم.
- الحكم على القرائن قوةً واعتباراً يختلف بحسب أصل القرينة إن كانت قرينة نصية أو غير نصية، وبحسب القرائن الأخرى المصاحبة لها أو المعارضة، وبحسب دلالتها إن كانت عامة أو خاصة في موضوع المسألة الفقهية التي وردت فيها، وغير ذلك من الأمور المؤثرة.
(1)
المفهم (5/ 416).
الباب الأول المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في كتاب الطهارة
ويتكون من ستة فصول:
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب المياه.
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب الآنية.
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب آداب قضاء الحاجة.
الفصل الرابع: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب سنن الفطرة.
الفصل الخامس: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب صفة الوضوء ونواقضه.
الفصل السادس: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب إزالة النجاسة.
الفصل الأول المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب المياه
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن البول في الماء الراكد.
المبحث الثاني: النهي عن الغسل في الماء الراكد.
المبحث الثالث: النهي عن غمس يد المستيقظ من النوم في الإناء قبل غسلها.
المبحث الرابع: النهي عن وضوء الرجل بفضل طهور المرأة.
المبحث الخامس: النهي عن استعمال الماء المُسخَّن بالشمس.
المبحث الأول: النهي عن البول في الماء الراكد
المطلب الأول: حكم البول في الماء الراكد
(1)
:
دليل النهي:
عن جابر رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه ((نهى أن يُبالَ في الماءِ الرَّاكِدِ))
(2)
.
صورة المسألة:
إذا أراد إنسان أن يبول في الماء الواقف الذي لا يجري، فهل يجوز له ذلك أو لا؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الإجماع:
أجمع العلماء على أن الماء المستبحر
(3)
الكثير جداً لا يدخل في النهي؛ فهو مُخصَّص من النهي بالإجماع
(4)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: «لا تنازع بين المسلمين أن النهي عن البول في الماء الدائم لا يعم جميع المياه، بل ماء البحر مستثنى بالنص والإجماع»
(5)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله
(6)
: «اعلم أن هذا الحديث لا بد من إخراجه عن ظاهره
(1)
الماء الراكد: رَكَدَ الماء رُكوداً: سَكَنَ، فالماء الراكد هو الدائم الساكن الذي لا يجري، وقد فُسِّر بذلك في الحديث الآخر، فالماء الدائم: الواقف؛ لأنه قد دام في مكانه واستقر وسكن: كالخزانات، والغدران في البرية، والبرك في البساتين. يُنظر: الصحاح (2/ 477)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 258)، لسان العرب (3/ 184)، شرح أبي داود، للعيني (1/ 205).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد (1/ 162) برقم:(281).
(3)
التبحر والاستبحار: الانبساط والسعة. يُنظر: مقاييس اللغة (1/ 201)، تاج العروس (10/ 125)، والماء المستبحر: هو الماء الكثير جداً الذي لا تضره النجاسة التي لم تُغيِّر أحد أوصافه كماء البحر. يُنظر: بداية المجتهد (1/ 30)، إحكام الأحكام (1/ 71).
(4)
نقل الإجماع: ابن المنذر في (الإجماع)(ص: 35)، وابن رشد في (بداية المجتهد)(1/ 30)، وابن تيمية في (مجموع الفتاوى)(20/ 338).
(5)
مجموع الفتاوى (20/ 338).
(6)
هو: محمد بن علي بن وهب بن مطيع، أبو الفتح، تقي الدين الْقُشَيْرِيُّ، المعروف كأبيه وجده بابن دقيق العيد، وُلد سنة 625 هـ، من فقهاء الشافعية وأكابر العلماء بالأصول، ولي قضاء الديار المصرية سنة 695 هـ، من مصنفاته:«إحكام الأحكام» ، «الإلمام بأحاديث الأحكام» ، «تحفة اللبيب في شرح التقريب» وغيرها، استمر في القضاء إلى أن تُوفي بالقاهرة سنة 702 هـ. يُنظر: طبقات الشافعيين (ص: 952)، شذرات الذهب (8/ 11).
بالتخصيص أو التقييد؛ لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جداً لا تؤثر فيه النجاسة»
(1)
.
دليل الإجماع: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ))
(2)
.
ثانيا: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم البول في الماء الراكد، على قولين:
القول الأول: يحرم.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، وقول عند المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
القول الثاني: يُكره.
وهو المذهب عند المالكية
(7)
، والشافعية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
(1)
إحكام الأحكام (1/ 71).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر (1/ 62) برقم:(83)، والترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور (1/ 100) برقم:(69) وقال: «هذا حديث حسن صحيح» ، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الطهارة، باب ماء البحر (1/ 50) برقم:(59)، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب الوضوء بماء البحر (1/ 250) برقم:(386)، وأحمد (12/ 171) برقم:(7233)، صححه ابن خزيمة (1/ 97) برقم:(111)، وابن حبان (4/ 49) برقم:(1243)، قال ابن الملقن في (البدر المنير) (1/ 348):«رواه الأئمة الأعلام، أهل الحل والعقد» .
(3)
يُنظر: البحر الرائق (1/ 92)، حاشية الطحطاوي (ص: 53)، وفرّق بعضهم فقال: يحرم في القليل، ويكره في الكثير. يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 342).
(4)
يُنظر: الكافي في فقه أهل المدينة (2/ 1141)، حاشية الدسوقي (1/ 107)، وفرق بعضهم بين القليل والكثير. يُنظر: مواهب الجليل (1/ 276)
(5)
يُنظر: المجموع (2/ 93)، المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 188).
(6)
يُنظر: الفروع (1/ 132)، الإنصاف (1/ 200).
(7)
يُنظر: النوادر والزيادات (1/ 22)، الجامع لمسائل المدونة (1/ 196)، مواهب الجليل (1/ 276).
(8)
يُنظر: العزيز شرح الوجيز (1/ 138)، المجموع (2/ 93).
(9)
يُنظر: الإنصاف (1/ 98)، كشاف القناع (1/ 62)، مطالب أولي النهى (1/ 68).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن جابر رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه ((نهى أن يُبالَ في الماءِ الرَّاكِدِ))
(1)
.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يَبُولَنَّ أحَدُكُمْ في المَاءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر الأحاديث نهي صريح عن البول في الماء الراكد، والنهي المجرد يقتضي التحريم، ولا صارف للنهي عن التحريم، وقوله:(الماء الدائم) يعم القليل والكثير
(3)
(4)
.
الدليل الثالث: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ
(5)
الثَّلَاثَ: الْبَرَازَ
(6)
فِي الْمَوَارد
(7)
، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ))
(8)
، وفي رواية:
(1)
سبق تخريجه: ص (48).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم (1/ 57) برقم:(239)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد (1/ 235) برقم:(282).
(3)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 188)، شرح أبي داود، للعيني (1/ 208).
(4)
اختلف الفقهاء في حد القليل والكثير على أقوال: فمذهب الحنفية: أن الماء إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثير، والمعتبر في الخلوص التحريك، فإن كان بحال لو حُرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص، وإن كان لا يتحرك فهو مما لا يخلص، و مذهب المالكية: إن تغير بالنجاسة فهو قليل، ومذهب الشافعية والحنابلة: أن الماء إذا بلغ قلتين فهو كثير، وإلا فهو قليل. يُنظر في تفصيل الأقوال وأدلتها: بدائع الصنائع (1/ 71)، شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 66)، المجموع (1/ 112)، المغني (1/ 21).
(5)
المَلَاعِنُ: اللَعْنُ: الطردُ والإبعادُ من الخير. والملاعن: جمع ملعنة، وهي الفعلة التي يُلعن بها فاعلها كأنها مظنة للعن ومحل له، وأصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق: السب والدعاء. يُنظر: الصحاح (6/ 2196)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 255).
(6)
البَرَازُ -بالفتح-: الفَضاء الواسع، والبِرازُ: كنايةٌ عن ثُفْلِ الغِذاء، وهو الغائِط. فكنوا به عن قضاء الغائط كما كنوا عنه بالخلاء؛ لأنهم كانوا يتبرزون في الأمكنة الخالية من الناس. يُنظر: الصحاح (3/ 864)، معالم السنن (1/ 9)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 118).
(7)
الموارد: طريق الماء ومشارعه، وقيل: أنّ المورد يطلق على منهل الماء أيضًا، يُنظر: مقاييس اللغة (6/ 105)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 173)، مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (1/ 55).
(8)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب المواضع التي نهى النبي عن البول فيها (1/ 21) برقم:(26)، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق (1/ 218) برقم:(328)، قال الحاكم في (المستدرك) (1/ 273):«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» ، وحسّنه الألباني في (إرواء الغليل)(1/ 100)، وله شاهد عند مسلم من حديث أبي هريرة (1/ 226) برقم:(269).
((
…
أو في نقع ماء
(1)
(2)
.
وجه الاستدلال: يدل الحديث على أنه يحرم قضاء الحاجة في المواضع التي يَرِدها الناس للاستسقاء منها؛ لأنه ضرر عظيم بالمسلمين؛ إذ يعرضهم للتنجيس، ويمنعهم من حقوقهم في الماء، ولأن مَنْ فعلها شُتم ولُعن
(3)
.
الدليل الرابع: أن الماء إن كان قليلاً نجسه البول فيه، وإن كان كثيرا: فإن توارد البول عليه من البائلين يؤدي إلى تغيُّره وتقذيره، ويظن المار أنه تغير من قراره
(4)
.
نوقش: أن النهي عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول؛ إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك
(5)
.
أجيب عنه: أنه مع كثرة البائلين فيه قد يؤول إلى أن يتغير بالنجاسة فيصير نجسًا بالإجماع
(6)
، وذلك إيذاء للناس بإفساد مياههم، إذ يمنعهم من الانتفاع به فيما يحتاجون إليه من شرب أو وضوء؛ فيُمنع سداً للذريعة ومراعاة لمصالح العباد
(7)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول والثاني: استدلوا بحديثي جابر وأبي هريرة اللذين استدل بهما القائلون بالتحريم.
(1)
النَّقْعُ: محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه، والماء الناقع، هو المجتمع كمستنقع الماء، وهي الموارد المذكورة في حديث معاذ. يُنظر: الصحاح (3/ 1292)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 108)، شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 145)، فيض القدير (1/ 136).
(2)
أخرجه أحمد عن ابن عباس (4/ 448) برقم: (2715). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد)(1/ 204): «فيه ابن لهيعة ورجل لم يُسمَّ» ، وقال الألباني في (إرواء الغليل) (1/ 101):«سنده حسن لولا الرجل الذى لم يسم» ، وحديث معاذ السابق شاهد له.
(3)
يُنظر: المفهم (1/ 524)، فيض القدير (1/ 136).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 122)، المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 188)، مواهب الجليل (1/ 276).
(5)
يُنظر: مجموع الفتاوى (21/ 34).
(6)
نقل الإجماع جمع من العلماء، منهم: ابن المنذر في (الإجماع)(ص: 43)، وابن حزم في (مراتب الإجماع) (ص: 19)، وابن عبد البر في (التمهيد)(19/ 16)، وابن تيمية في (مجموع الفتاوى)(21/ 30).
(7)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 188)، عون المعبود وحاشية ابن القيم (1/ 81).
وجه الاستدلال: أن النهي في الأحاديث للكراهة؛ لوروده على طريق التنزيه والإرشاد إلى مكارم الأخلاق، والاحتياط على دين الأمة
(1)
.
نُوقش: أن النهي يقتضي التحريم عند المحققين وأكثر أهل الأصول، فلا يصح حمله على غير التحريم إلا بدليل
(2)
، ولا دليل على ذلك.
الدليل الثالث: أنه يكره؛ لأن فتح هذا الباب يفضي إلى كثرة البول فيه فيغيره
(3)
.
يمكن أن يناقش: أن تغيره بكثرة البول دليل تنجسه؛ فلذا يحرم البول في الماء الراكد، ولأنه إفساد للماء وإيذاء لمستعمله.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم البول في الماء الراكد.
أسباب الترجيح:
1 -
أن النهي فيه صريح صحيح سالم من المعارِض الراجح.
2 -
أن الناس شركاء في الماء، فلا يجوز إفساده عليهم بتنجيسه؛ لأن الشريعة جاءت بتحريم الإيذاء.
3 -
ضعف ما علل به أصحاب القول الثاني، وورود المناقشة عليه.
(1)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 105).
(2)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 188).
(3)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية - كتاب الطهارة (ص: 145).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل أصحاب القول الثاني النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
فالنهي عن البول في الماء الراكد فيه تنزيه عن النجاسة، وحث على مكارم الأخلاق.
جاء في (إكمال المعلم): «نهيه صلى الله عليه وسلم عن بول الرجل فى الماء الراكد أو الدائم الذى لا يجرى
…
على طريق التنزيه والإرشاد إلى مكارم الأخلاق والاحتياط على دين الأمة»
(1)
.
وجاء في (الكواكب الدراري): «فيه التأديب بالتنزه عن البول»
(2)
.
وجاء في (فيض القدير): «والنهي للتنزيه»
(3)
.
والعلة: هي استقذار الناس من الماء الذي بِيل فيه، فيمنعهم ذلك عن استعماله في حاجاتهم.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: «النهي معلل بالاستقذار الحاصل في الماء بسبب البول»
(4)
.
وقال ابن الملقن رحمه الله
(5)
: «فيه التأدب بالتنزه عن البول في الماء الراكد؛ لعموم الحاجة إليه»
(6)
.
الحكم على القرينة:
قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد هنا ضعيفة لا تقوى على صرف النهي من التحريم إلى الكراهة؛ لأن دلالة النهي الصريح على التحريم أقوى؛ لوجود ما يؤكد حمله على التحريم؛ فإن الشرع جاء بتحريم أذية المسلم، ولكونها تجلب اللعن على مَنْ يؤذي الناس في
(1)
(2/ 105).
(2)
(3/ 93).
(3)
(6/ 34).
(4)
شرح الإلمام (1/ 251).
(5)
هو: عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي، سراج الدين، أبو حفص ابن النحوي، المعروف بابن الملَقِّن، وُلد في القاهرة سنة 723 هـ، وهو أكابر العلماء بالحديث والفقه وتاريخ الرجال، له مصنفات كثيرة منها:«إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال» ، «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» ، «التوضيح لشرح الجامع الصحيح» ، «طبقات الأولياء» وغيرها، تُوفي سنة 804 هـ. يُنظر: طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة (4/ 43)، شذرات الذهب (9/ 71).
(6)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 489).
مياههم ومواردهم، ولموافقتها لما جاءت به الشريعة من البعد عن النجاسة والقذر، والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني النهي عن الغسل في الماء الراكد
المطلب الأول: حكم الغسل في الماء الراكد
(1)
:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ
(2)
، فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا))
(3)
.
صورة المسألة:
لو أراد شخص الاغتسال في الماء الواقف الذي لا يجري، هل يجوز له ذلك أو لا؟
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم اغتسال الجُنب في الماء الراكد
(4)
، على قولين:
القول الأول: يُكره.
وهو مذهب الجمهور: المالكية
(5)
، والشافعية
(6)
، والحنابلة
(7)
.
القول الثاني: يحرم في القليل.
وهو مذهب الحنفية
(8)
.
(1)
سبق في المبحث السابق بيان المقصود بالماء الراكد، وأن الكثير المستبحر مخصوص من النهي بالنص والإجماع.
(2)
الجُنُبُ: الجنابة في الأصل: البعد، ورجل جُنُبٌ من الجَنابَة، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث، وربّما قالوا في جمعه أجنابٌ وجُنُبون. والجنب: الذي يجب عليه الغسل بالجماع وخروج المني، والتقاء الختانين، أو ما يترتب على ذلك، وسُميت الجنابة بذلك؛ لكونها سبباً لتجنب الصلاة في حكم الشرع. يُنظر: الصحاح (1/ 103)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 302).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد (1/ 235) برقم:(282).
(4)
ورد النص في الغسل من الجنابة في الماء الراكد، وألحق به الفقهاء الاغتسال من الحيض والنفاس، وكذلك يُلحق به اغتسال الجمعة. يُنظر: المغني (1/ 17)، عمدة القاري (3/ 169).
(5)
يُنظر: الذخيرة (1/ 305)، مواهب الجليل (1/ 75).
(6)
يُنظر: المجموع (2/ 196)، أسنى المطالب (1/ 71).
(7)
يُنظر: الإنصاف (1/ 78)، شرح منتهى الإرادات (1/ 18).
(8)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 67)، البحر الرائق (1/ 99).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا))
(1)
.
وجه الاستدلال: يدل الحديث على النهي عن الاغتسال في الماء الراكد قليلاً كان أو كثيراً، وهو محمول على الكراهة؛ لأن المنع من الانغماس فيه؛ لئلا يصير مستعملاً
(2)
، وذلك مفسد له فيمتنع على الغير الانتفاع به
(3)
.
نُوقش: بأن التعليل بمصير الماء مستعملاً تعليل ضعيف، بل العلة: مصيره مستخبثاً بتوارد الاغتسال فيه، فيفسد ويبطل نفعه، ويوضح ذلك قول أبي هريرة:(يتناوله تناولاً)، فإنه يدل على أن النهي إنما هو من الانغماس لا عن الاستعمال، وإلا لما كان بين الانغماس والتناول فرق
(4)
.
الدليل الثاني: أن الغسل فيه يقذره على مَنْ يستعمله بعده؛ إذ لا يخلو من وسخ وعرق في جسمه غالباً، فيغيره؛ فتعافه النفس
(5)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
(6)
.
وجه الاستدلال: أن الاغتسال من الجنابة في الماء الدائم مما تستخبثه الطباع السليمة، والخبيث محرم، والتحريم دليل النجاسة؛ فيكون الاغتسال محرماً
(7)
.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي استدل به أصحاب القول الأول.
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الاغتسال في الماء الراكد، ويحمل على
(1)
سبق تخريجه ص: (54).
(2)
اختلف الفقهاء في طهورية الماء المستعمل على عدة أقوال. يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 202)، حاشية الدسوقي (1/ 42)، المجموع (1/ 137)، كشاف القناع (1/ 32).
(3)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 71)، شرح مختصر خليل (1/ 77)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 347).
(4)
يُنظر: نيل الأوطار (1/ 37)، عون المعبود (1/ 93).
(5)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 106)، المجموع (1/ 152)، شرح الإلمام (1/ 265).
(6)
سورة الأعراف: جزء من الآية (157).
(7)
يُنظر: أحكام القرآن، للجصاص (5/ 205)، بدائع الصنائع (1/ 68).
القليل، والأصل في النهي المجرد عن القرينة التحريم، ولأن فيه تنجيساً للماء الطاهر، فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة لم يكن للنهي معنى، لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر فحرام فكان هذا نهيا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال، إذ بدن الجنب به نجاسة تقديرية، وذا يقتضي التنجيس به، فيفسده ويحرم استعماله على غيره
(1)
.
يمكن أن يُناقش: بأن النهي عام في القليل والكثير، وأن الماء لا يتنجس بمجرد ذلك؛ للإجماع على أن بدن الجنب طاهر
(2)
.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن اقتران النهيين في الحديث يقتضي التسوية، فيدل على أن الغُسل فيه كالبول فيه، والنهي عنهما للتحريم
(4)
.
نوقش: أن دلالة الاقتران ضعيفة، وعلى تقدير تسليمها: فلا يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول؛ لئلا ينجسه، وعن الاغتسال فيه؛ لئلا يسلبه الطهورية، ويزيد ذلك وضوحا قوله (يتناوله تناولا) فدل على أن المنع من الانغماس فيه لئلا يصير مستعملا فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره
(5)
.
سبب الاختلاف:
هو اختلاف الفقهاء في علة النهي عن الاغتسال في الماء الدائم: فالقائلون بالتحريم قالوا: العلة هي الاستخباث وتنجيس الماء بالملاقاة، والقائلون بالكراهة منهم مَنْ قال: العلة هي صيرورة الماء مستعملاً، ومنهم مَنْ قال: العلة هي الاستقذار، وعيافة النفس.
(1)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 68)، البحر الرائق (1/ 99).
(2)
نقل الإجماع النووي في (المجموع)(2/ 150)، وابن تيمية في (الفتاوى الكبرى)(1/ 226).
(3)
سبق تخريجه: ص (50).
(4)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 46)، البحر الرائق (1/ 99).
(5)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 347).
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها ومناقشتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بكراهة الغسل في الماء الراكد.
أسباب الترجيح:
1 -
أن هذا القول موافق لما جاءت به الشريعة من الأمر بالنظافة والبعد عن الأقذار.
2 -
أنه موافق للطبائع؛ فالنفس تنفر مما يستقذر.
3 -
ضعف استدلال القول الآخر، وورود المناقشة عليها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين مما سبق أن الجمهور حمل النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة هي: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أن النهي عن الغسل في الماء الراكد فيه إرشاد إلى مصلحة المحافظة على الماء وعدم تقذيره على الناس.
قال النووي رحمه الله
(1)
: «قال العلماء من أصحابنا وغيرهم: يُكره الاغتسال في الماء الراكد قليلاً كان أو كثيراً
…
وهذا كله على كراهة التنزيه»
(2)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: «أن المقصود: التنزه عن التقرب إلى الله سبحانه بالمستقذرات»
(3)
.
قيل: العلة: تقذير الماء على الناس.
وقيل: لئلا يصير الماء مستعملاً، فيفسد الانتفاع به على غيره.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد هنا قرينة معتبرة؛ لمناسبة
(1)
هو: يحيى بن شرف بن مُرّي بن حسن الحزامي الحراني النووي الشافعي، أبو زكريا محيي الدين، وُلد بنَوى سنة 631 هـ، كان حافظاً فقيهاً زاهداً، له تصانيف كثيرة وجليلة منها:«المنهاج» ، «المجموع شرح المهذب» ، «التبيان: في آداب حملة القرآن»، «شرح صحيح مسلم» وغيرها كثير، تُوفي سنة 676 هـ. يُنظر: فوات الوفيات (4/ 265)، طبقات الشافعية الكبرى (8/ 395).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 189).
(3)
إحكام الأحكام (1/ 73).
التعليل بالاستقذار لمعنى الإرشاد إلى المصلحة، ولكونه موافقاً لما جاءت به الشريعة من الأمر بالنظافة. أما التعليل بمصير الماء مستعملاً فضعيف مردود بما بينه الصحابي بأنه لا يُمنع التناول منه. والله أعلم.
قال ابن تيمية رحمه الله: «نهيه عن الاغتسال في الماء الدائم إن صح يتعلق بمسألة الماء المستعمل وهذا قد يكون لما فيه من تقذير الماء على غيره؛ لا لأجل نجاسته ولا لصيرورته مستعملا»
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 46).
المبحث الثالث: النهي عن غمس يد المستيقظ من النوم في الإناء قبل غسلها
المطلب الأول: حكم غمس يد المستيقظ من النوم في الإناء قبل غسلها:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ))
(1)
، ولفظ البخاري:((إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ))
(2)
.
صورة المسألة:
إذا قام المسلم من نوم ليل أو نهار، وأراد الوضوء، فهل يجوز أن يغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: أجمع العلماء
(3)
على أن غسل اليدين في أول الوضوء سنة؛ لورودها في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
، ودليله:
عَنْ حُمْرَانَ
(5)
مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه: ((أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ
…
، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وقال: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك فِي نجاستها فِي الإناء قبل غسلها ثلاثا (1/ 233) برقم:(278).
(2)
كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا (1/ 43) برقم:(162).
(3)
نقل الإجماع: ابن المنذر في (الأوسط)(1/ 375)، وابن قدامة في (المغني)(1/ 73).
(4)
يُنظر: إحكام الأحكام (1/ 81).
(5)
هو: حُمران بن أبان بن خالد بن عبد عمرو بن عقيل النمري المدني، الفارسي، الفقيه، مولى أمير المؤمنين عثمان، من كبار التابعين، حدَّث عن: عثمان، ومعاوية، وهو قليل الحديث: قال قتادة: كان حمران يصلي خلف عثمان، فإذا أخطأ فتح عليه، تُوفي سنة 76 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (4/ 182)، تهذيب التهذيب (3/ 24).
ذَنْبِهِ))
(1)
.
ثانيا: أجمعوا على النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها إن قام من النوم
(2)
، واختلفوا فيه: هل النهي للتحريم أو للكراهة، على قولين:
القول الأول: الكراهة.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، ومذهب الحنابلة في نوم النهار، ورواية في نوم الليل
(6)
.
القول الثاني: التحريم.
وهو المذهب عند الحنابلة في نوم الليل
(7)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}
(8)
.
وجه الاستدلال: جاء الأمر بالوضوء في الآية من غير غسل الكفين في أوله، والأمر بالشيء يقتضي حصول الإجزاء به، وقوله:(إذا قمتم) يعم القائم من النوم وغيره، ولاسيما وقد فسَّره زيد بن أسلم
(9)
بالقيام من الليل
(10)
.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء (1/ 144) برقم:(164).
(2)
نقل الإجماع: النووي في (المنهاج)(3/ 180).
(3)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 20)، البحر الرائق (1/ 18).
(4)
يُنظر: الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 170)، مواهب الجليل (1/ 243).
(5)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 102)، المجموع (1/ 349).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 73)، الشرح الكبير (1/ 278).
(7)
يُنظر: المغني (1/ 73)، الإنصاف (1/ 69).
(8)
سورة المائدة: جزء من الآية: (6).
(9)
هو: زيد بن أسلم العدوي العمري المدني، أبو عبد الله، التابعي الإمام الفقيه، حدث عن: والده: أسلم مولى عمر، وعن: عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع، وأنس بن مالك، وكان له حلقة للعلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله تفسير للقرآن يرويه عنه ابنه عبد الرّحمن، وله من المسند أكثر من مائتي حديث، تُوفي سنة 136 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (5/ 316)، تهذيب التهذيب (3/ 395)، شذرات الذهب (2/ 159).
(10)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 102)، المغني (1/ 73)، شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 175).
مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النهي في الحديث محمول على الكراهة لا التحريم؛ بدلالة قرينة التعليل وذِكر العدد: فأما قرينة التعليل: فقوله: (فَإِنَّه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ) تعليل بأمر يقتضي الشك في النجاسة، وطريان الشك على يقين الطهارة لا يؤثر فيها، فلا يجب غسله، وإنما يُستحب
(2)
، وأما قرينة العدد: فإن ذِكر العدد في غير النجاسة العينية دليل الندب
(3)
.
الدليل الثالث: أن الطهارة الواجبة عن الحدث يجزئ فيها غسل اليدين في جملة أعضاء الوضوء بنية الحدث، ويُكتفى لهما بغسلة واحدة
(4)
.
دليل القول الثاني:
استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم.
وجه الاستدلال:
أن ظاهر الحديث أمر صريح بالغسل قبل إدخاله في الإناء، وفي اللفظ الآخر نهي صريح عن إدخاله قبل الغسل، وأمره صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب، ونهيه يقتضي التحريم، وهو تَعبُّدي غير معقول المعنى، وخُص بنوم الليل؛ لأن المبيت إنما يكون بالليل
(5)
.
نُوقش: بأن تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأمر يقتضي الشك في النجاسة بقوله: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ) علة صارفة للنهي عن حقيقته إلى الكراهة، والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوباً في الحكم، وقوله:(من نوم) يعم نوم الليل والنهار، وإنما ذكر الليل لكونه الغالب
(6)
.
سبب الاختلاف:
السبب هو اختلافهم في مفهوم علة النهي في الحديث
(7)
.
(1)
سبق تخريجه ص: (59).
(2)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 102)، بدائع الصنائع (1/ 20)، المغني (1/ 73)، المجموع (1/ 349).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 264)، سبل السلام (1/ 65).
(4)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 175).
(5)
يُنظر: المغني (1/ 73)، شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 174).
(6)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 20)، إحكام الأحكام (1/ 69).
(7)
يُنظر: بداية المجتهد (1/ 16).
قال ابن تيمية رحمه الله: «وأما الحكمة في غسل اليد: ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه خوف نجاسة تكون على اليد، مثل: مرور يده موضع الاستجمار مع العرق أو على زبلة ونحو ذلك. والثاني: أنه تعبد ولا يُعقل معناه. والثالث: أنه من مبيت يده ملامسة للشيطان كما في الصحيحين عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا اسْتَيْقَظَ -أُرَاهُ أَحَدُكُمْ- مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ، فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ))
(1)
، فأمر بالغسل معللاً بمبيت الشيطان على خيشومه، فعُلم أن ذلك سبب للغسل عن النجاسة والحديث معروف.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ) يمكن أن يُراد به ذلك، فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار»
(2)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بكراهة غمْس يد القائم من نوم ليل أو نهار في الإناء قبل غسلها، وهو قول الجمهور.
أسباب الترجيح:
1 -
موافقة هذا القول لآية صفة الوضوء.
2 -
قوة أدلة الجمهور، وأن القرائن المصاحبة للنهي مؤثرة في القول بالكراهة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل الجمهور النهي في هذه المسألة على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له: القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص بالتعليل بما يقتضي عدم التحريم.
وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ)، فهذه العلة تفيد الشك، والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوباً في الحكم
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (4/ 126) برقم:(3295)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الإيتار فِي الاستنثار والاستجمار (1/ 212) برقم:(238).
(2)
مجموع الفتاوى (21/ 44).
(3)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 20)، إحكام الأحكام (1/ 69).
قال ابن القيم رحمه الله: «
…
أنه معلل بخشية مبيت الشيطان على يده أو مبيتها عليه»
(1)
.
وقال ابن حجر رحمه الله
(2)
: «الأمر عند الجمهور على الندب
…
والقرينة الصارفة للأمر عن الوجوب عند الجمهور التعليلُ بأمر يقتضي الشك؛ لأن الشك لا يقتضي وجوباً في هذا الحكم استصحاباً لأصل الطهارة .... والتقييد بالعدد في غير النجاسة العينية يدل على الندبية»
(3)
.
القرينة الثانية: ورود النص بذكر العدد.
ذَكر النبي صلى الله عليه وسلم أن غسل اليد قبل إدخاله في الإناء يكون ثلاثاً، فكان ذلك قرينة صارفة؛ لأن ذِكر العدد في غير النجاسة العينية دليل الندب
(4)
.
القرينة الثالثة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
وذلك أن في النهي عن إدخال اليد في الإناء قبل غسلها إرشاداً إلى المصلحة؛ لخوف نجاسة تكون على اليد، فتفسد الماء.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «علمنا بكتاب الله وسنة رسوله أن أمره صلى الله عليه وسلم القائمَ من نومه ألا يغمس يده في وضوئه إنما ذلك ندب وأدب وسنة قائمة لمن كانت يده طاهرة وغير طاهرة»
(5)
.
وجاء في (المفهم): «ذهب الجمهور إلى أن ذلك على جهة الاستحباب؛ بدليل تعليله في آخره بقوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده)، ومعنى ذلك أن: يد النائم تجول في: مغابنه، ومواضع استجماره، وأعراقه، فقد يتعلق باليد منها شيء، فيؤدي إلى إفساد الماء،
…
أو إلى
(1)
عون المعبود وحاشية ابن القيم (1/ 85).
(2)
هو: أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني الشافعي، أبو الفضل شهاب الدين ابن حَجَر، وُلد بمصر سنة 773 هـ، كان من أئمة العلم، برع في علم الحديث، له مصنفات جليلة منها:«فتح الباري شرح صحيح البخاري» ، «تهذيب التهذيب» ، «تقريب التهذيب» ، «التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير» ، «بلوغ المرام من أدلة الأحكام» وغيرها، تُوفي سنة 852 هـ. يُنظر: ذيل طبقات الحفاظ، للسيوطي (ص: 251)، الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر للسخاوي.
(3)
فتح الباري (1/ 263، 264).
(4)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 264)، سبل السلام (1/ 65).
(5)
التمهيد (18/ 236).
عيافته»
(1)
.
وقال ابن حجر رحمه الله: «والنهي فيه للتنزيه كما ذكرنا، إن فُعل استُحب، وإن تُرك كُره»
(2)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة التعليل، وقرينة ذِكر الغسل ثلاثاً: قرينتان قويتان لقوة أصلهما؛ فهما من القرائن النصية المتصلة، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة؛ لاعتبار علة وهم النجاسة أو مبيت الشيطان، فالقرائن تعضد بعضها وتقوي حمل النهي على الكراهة. والله أعلم.
(1)
المفهم (1/ 536).
(2)
فتح الباري (1/ 263).
المبحث الرابع: النهي عن وضوء الرجل بفضل طهور المرأة
المطلب الأول: حكم وضوء الرجل بفضل طهور المرأة
(1)
:
دليل النهي:
عن الحكم بن عمرو رضي الله عنه وهو الأقرع
(2)
: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ))
(3)
.
صورة المسألة:
للرجل في استعمال فضل طهور المرأة حالان، أحدهما: حال اجتماعهما، والثاني: إن خلت المرأة بالماء. فما حكم استعمال الرجل فضل طهور المرأة في هذه الأحوال؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الإجماع:
أجمع العلماء
(4)
على جواز اجتماع الرجل والمرأة على الوضوء أو الاغتسال من إناء واحد مشترك بينهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «هذه السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين
(1)
الفَضْلُ: هو بقية الشيء، والفَضْلَةُ والفُضالَةُ: ما فضل من شيء. وفضل طهور المرأة هو: الماء المتبقي في الإناء بعد ما شرعت المرأة في وضوئها أو غسلها. يُنظر: الصحاح (5/ 1791)، المجموع (2/ 190)، تحفة المحتاج (1/ 77)، تاج العروس (30/ 172). ويؤيد معنى أن الفضل هو ما تبقى في الإناء: ما جاء في حديث ميمونة رضي الله عنها سيرد في الأدلة- قولها: (من جفنة، ففضلت فيها فضلة).
(2)
هو: الحكم بن عمرو الغفاري أخو رافع، ويُقال له: الحكم بن الأقرع، صحب النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم تحول إلى البصرة فنزلها، روى عنه: أبو الشعثاء والحسن البصري وابن سيرين، ولاه زياد خراسان فسكن مرو ومات بها سنة 50 هـ. يُنظر: أسد الغابة (2/ 51)، تهذيب التهذيب (2/ 436).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك (1/ 61) برقم:(82)، والترمذي، أبواب الطهارة، باب في كراهية فضل طهور المرأة (1/ 93) برقم:(64) وقال: «هذا حديث حسن» ، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب المياه، باب النهي عن فضل وضوء المرأة (1/ 179) برقم:(343)، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب النهي عن ذلك (1/ 243) برقم:(373)، وأحمد (34/ 254) برقم:(20657)، قال ابن عبد البر في (الاستذكار) (1/ 170):«الآثار في هذا الباب مضطربة، ولا تقوم بها حجة» . وقال النووي في (المنهاج)(4/ 3): «ضعيف ضعَّفه أئمة الحديث» ، ونقل في (خلاصة الأحكام) (1/ 200) عن البخاري قوله:«حديث الحكم ليس بصحيح، قال: والصحيح في حديث ابن سرجس أنه موقوف عليه، ومن رفعه فقد أخطأ» ، والله أعلم.
(4)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 2)، مجموع الفتاوى (21/ 51).
كانوا بمدينته على عهده دلت على أمور: أحدها: هو اشتراك الرجال والنساء في الاغتسال من إناء واحد وإن كان كل منهما يغتسل بسؤر الآخر، وهذا مما اتفق أئمة المسلمين بلا نزاع بينهم على أن الرجل والمرأة أو الرجال والنساء إذا توضؤوا واغتسلوا من ماء واحد جاز كما ثبت ذلك بالسنن الصحيحة المستفيضة»
(1)
.
أدلة الإجماع:
الدليل الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ وَهُوَ بالزَّوْرَاء
(2)
، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ))
(3)
.
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، كِلَانَا جُنُبٌ))
(4)
.
الدليل الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّؤُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعاً))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن الأحاديث ظاهرة الدلالة على جواز اجتماع الرجل والمرأة للتطهر من إناء واحد، فإذا اجتمعا فقد اغتسل كل واحد منهما بفضل صاحبه
(6)
.
ثانياً: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في استعمال الرجل فضل طهور المرأة إن خلت به
(7)
، على ثلاثة
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 50).
(2)
الزَّوْرَاءُ -بتقديم الزاي على الراء، وبالمد-: مكان معروف بالمدينة عند السوق، قرب المسجد، يُنظر: معجم البلدان (3/ 156)، مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع (2/ 674).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/ 192) برقم:(3572).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض (1/ 67) برقم:(299)، ومسلم، كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء فِي غسل الجنابة وغسل الرجل والمرأة فِي إناء واحد (1/ 256) برقم:(321).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة (1/ 50) برقم:(193).
(6)
يُنظر: مختصر المزني (8/ 98)، الحاوي الكبير (1/ 229)، المغني (1/ 158).
(7)
خلوة المرأة بالماء: الخلوة في اللغة من: خلا الشيء يخلو خلوا، وخَلَوْتُ به خَلْوَةً وخَلاءً، خلا إليه: اجتمع معه في خلوة. يُنظر: الصحاح (6/ 2330)، مختار الصحاح (ص: 96).
اختلف الفقهاء في المراد بالخلوة، على قولين: الأول: انفرادها بالاستعمال، سواء شوهدت أم لا، وهذا مذهب الجمهور، ورواية عن أحمد. الثاني: أن تخلو به فلا يشاهدها مميز، سواء كان ذكراً أم أنثى، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة. يُنظر: شرح معاني الآثار (1/ 26)، المجموع (2/ 191)، شرح الزركشي (1/ 298)، المبدع (1/ 35).
أقوال:
القول الأول: يجوز التطهر بفضل طهور المرأة للرجال والنساء، سواءٌ خلت به أم لا.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(4)
.
القول الثاني: لا يجوز للرجل استعمال فضل طهور المرأة إن خلت به.
وهو المذهب عند الحنابلة
(5)
.
القول الثالث: يُكره للرجل استعمال فضل طهور المرأة إن خلت به.
قال به بعض الشافعية
(6)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(7)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن ابن عباس: رضي الله عنهما ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ))
(8)
.
وجه الاستدلال: أن فعله صلى الله عليه وسلم دليل صريح على جواز استعمال الرجل فضل طهور المرأة.
نُوقش: بأنه محمول على أنها لم تخلُ به
(9)
.
أُجيب عنه: بأنه قد ورد في روايات أخرى عن ميمونة رضي الله عنها ما يدل على أنها خلت به
(10)
، وبيانه في الدليل الآتي.
(1)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 61)، حاشية ابن عابدين (1/ 133).
(2)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 49)، بداية المجتهد (1/ 37)، مواهب الجليل (1/ 52، 133).
(3)
يُنظر: العزيز بشرح الوجيز (2/ 151)، المجموع (2/ 190).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 157)، الشرح الكبير (1/ 83)، الإنصاف (1/ 85).
(5)
يُنظر: شرح الزركشي (1/ 301)، المبدع (1/ 35)، كشاف القناع (1/ 36).
(6)
يُنظر: تحفة المحتاج (1/ 77).
(7)
يُنظر: المبدع (1/ 35)، الإنصاف (1/ 86).
(8)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الاغتسال بفضل المرأة (1/ 257) برقم:(323).
(9)
يُنظر: شرح الزركشي (1/ 298)، كشاف القناع (1/ 37).
(10)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 49)، شرح الإلمام (1/ 307)، المبدع (1/ 35).
الدليل الثاني: عن ميمونة رضي الله عنها قالت: ((أَجْنَبْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاغْتَسَلْتُ مِنْ جَفْنَةٍ
(1)
، فَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ اغْتَسَلْتُ مِنْهَا، قَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ -أَوْ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ- فَاغْتَسَلَ مِنْهُ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث صحيح صريح في الدلالة، ظاهر في الخلوة
(3)
، وقد دل فِعل النبي صلى الله عليه وسلم وجوابه على جواز استعمال الرجل فضل المرأة وإن خلت به، وأنه لا تأثير للخلوة.
نُوقش: بأنه يُحمل على عدم الخلوة
(4)
.
أُجيب عنه: بأنه لا يصح حمله على عدم الخلوة؛ فالحديث ظاهر في الخلوة
(5)
؛ لأن العادة أن الإنسان يقصد الخلوة في الاغتسال، ولأن ميمونة رضي الله عنها ذكرت أنها اغتسلت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بعدها، فأعلمته بأنها اغتسلت من الجفنة.
الدليل الثالث: أنه ثبت بالإجماع جواز اشتراك الرجل والمرأة في الاغتسال من إناء واحد وإن كان كل منهما يغتسل بسؤر الآخر، فإذا ثبت اغتسالهما معاً فكل واحد مستعمل فضل الآخر، فجاز لأحدهما بعد الآخر، ولا تأثير للخلوة
(6)
.
قال الطحاوي
(7)
رحمه الله: «أن الرجل والمرأة إذا أخذا بأيديهما الماء معاً من إناء واحد أن
(1)
الجَفْنَةُ: الجفنة كالقصعة، وهي جفنة الطعام، والجمع: الجفان والجفنات بالتحريك. يُنظر: الصحاح (5/ 2092)، مجمل اللغة (ص: 192)، مختار الصحاح (ص: 59).
(2)
أخرجه الترمذي، أبواب الطهارة، باب الرخصة في ذلك (1/ 94) برقم:(65) وقال: «هذا حديث حسن صحيح» ، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة (1/ 241) برقم:(370)، وأحمد (44/ 386) برقم:(26802) واللفظ له، وللحديث شواهد؛ فحديث اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بفضل ميمونة في صحيح مسلم سبق تخريجه قريباً، ومن شواهده حديث ابن عباس في مسند أحمد برقم:(2102)، صححه ابن حبان برقم:(1242).
(3)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 49)، المجموع (2/ 191)، المبدع (1/ 35).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 158)، شرح الزركشي (1/ 303).
(5)
يُنظر: المبدع (1/ 35).
(6)
يُنظر: التمهيد (14/ 164)، المجموع (2/ 191)، إحكام الأحكام (1/ 132)، المبدع (1/ 35).
(7)
هو: أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزديّ الطحاوي، كنيته أبو جعفر، وُلد سنة 239 هـ، ونشأ في (طحا) من صعيد مصر، وتفقَّه على مذهب الشافعيّ، ثم تحول حنفياً، انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر. من تصانيفه:«شرح معاني الآثار» ، «بيان السنّة» ، «مشكل الآثار» ، «أحكام القرآن» وغيرها، تُوفي سنة 321 هـ. يُنظر: وفيات الأعيان (1/ 71)، سير أعلام النبلاء (15/ 27)، الفوائد البهية (ص: 31).
ذلك لا ينجس الماء، ورأينا النجاسات كلها إذا وقعت في الماء قبل أن يتوضأ منه أو مع التوضؤ منه أن حكم ذلك سواء، فلما كان ذلك كذلك، وكان وضوء كل واحد من الرجل والمرأة مع صاحبه لا ينجس الماء عليه -كان وضوؤه بعده من سؤره -من النظر- أيضاً كذلك»
(1)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن الحكم بن عمرو رضي الله عنه وهو الأقرع: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر النهي يدل على منع الرجل استعمال فضل طهور المرأة
(3)
، والأصل في النهي التحريم إلا لقرينة صارفة، ولا قرينة.
نُوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، فلا يصح النهي
(4)
.
وأُجيب عنه: بأن رواية الإمام أحمد رحمه الله للحديث واحتجاجه به، يُقدم على التضعيف؛ لاحتمال أن يكون قد رُوي من وجه آخر صحيح خفي على مَنْ ضعفه
(5)
.
الوجه الثاني: أن دلالة الحديث غير صريحة على أن المرأة إذا خلت بالماء لا يجوز للرجل استعماله.
وأُجيب: بأنه يُحمل على ما إذا خلت به؛ جمعاً بين الأحاديث
(6)
.
الدليل الثاني: عن حُمَيْدِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ
(7)
قال: لقيت رجلاً قد صحب
(1)
شرح معاني الآثار (1/ 26).
(2)
سبق تخريجه: ص (65).
(3)
يُنظر: المغني (1/ 157)، شرح الزركشي (1/ 301).
(4)
يُنظر: المجموع (2/ 191)، تحفة المحتاج (1/ 77).
(5)
يُنظر: المغني (1/ 158).
(6)
يُنظر: كشاف القناع (1/ 37).
(7)
هو: حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيّ، تابعي ثقة، يروي عن: أبي هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبي بكر الثقفي، وابن عمر، روى عنه: محمد بن سيرين، وأَبُو التَّيَّاح يزيد بن حميد، وداود بن عبد الله الْأَوْدِيّ، ومحمد بن المنتشر، قال ابن سيرين:«كان حميد بن عبد الرحمن أفقه أهل البصرة قبل موته بعشر سنين» . يُنظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (7/ 147)، تجريد الأسماء والكنى المذكورة في كتاب المتفق والمفترق (1/ 156)، سير أعلام النبلاء (4/ 293).
النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، قال:((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلِهِ، أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، أَوِ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث ظاهر في نهي الرجل عن فضل طهور المرأة، وهو محمول على ما خلت به؛ جمعاً بين الأحاديث
(2)
، والأصل في النهي التحريم.
نُوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث ضعيف؛ لجهالة الصحابي، فهو بمعنى المرسل
(3)
.
وأُجيب عنه: بأن دعوى أنه في معنى المرسل مردودة؛ لأن جهالة عين الصحابي لا تضر؛ فالصحابة كلهم عدول، وقد صرح التابعي بأنه لقيه
(4)
.
الوجه الثاني: بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في الإباحة
(5)
.
وأُجيب عنه: بأنه ليس مخالفاً للأحاديث الصحيحة، بل يُحمل على أن المراد ما سقط من أعضائهما، جمعاً بين الأحاديث
(6)
.
ويمكن أن يُعترض عليه: بأن حمله على ما تساقط من أعضائهما تأويل بعيد؛ فالمتساقط من الأعضاء لا يتبادر للذهن عند إطلاق لفظ فضل الطهور، وفضل الماء في اللغة: هو ما تبقى في الإناء، والعرب تقول لبقية الماء في المزادة: فضلة
(7)
.
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك (1/ 60) برقم:(81)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الطهارة، باب النهي عن الاغتسال بفضل الجنب (1/ 130) برقم:(238) واللفظ له، صحح إسناده النووي في (المجموع)(2/ 191) ونقل عن البيهقي تضعيفه وأجاب عنه، وقال ابن حجر في (فتح الباري) (1/ 300):«رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حجة قوية» .
(2)
يُنظر: كشاف القناع (1/ 36).
(3)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 231)، المجموع (2/ 192).
(4)
يُنظر: المجموع (2/ 192)، فتح الباري (1/ 300).
(5)
يُنظر: المجموع (2/ 192) نقلاً عن البيهقي.
(6)
يُنظر: معالم السنن (1/ 42)، الحاوي الكبير (1/ 232)، المجموع (2/ 192).
(7)
يُنظر: لسان العرب (11/ 526).
وأيضاً لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بجمع المتساقط ولا باستعماله
(1)
.
الدليل الثالث: عن عبد الله بن سَرْجِسَ
(2)
رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، وَلَكِنْ يَشْرَعَانِ جَمِيعاً))
(3)
، ودليل التخصيص بما خلت به: ما رُوي عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: ((لَا بَأْسَ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا خَلَتْ بِهِ فَلَا تَقْرَبْهُ))
(4)
.
وجه الدلالة: أن الحديث ظاهر في المنع من فضل طهور المرأة، ويدل قول عبد الله بن سرجس على تخصيص المنع بما خلت به المرأة
(5)
.
نُوقش: بأن الحديث موقوف، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(6)
.
وحديثي حميد وابن سرجس ورد فيهما نهي المرأة عن فضل الرجل، ولم يقل به أحد!.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بالكراهة بأدلة النهي التي استدل بها القائلون بالتحريم، وحملوا النهي على الكراهة للقرينة الصارفة، وهي أدلة القائلين بالجواز؛ جمعاً بين الأدلة
(7)
.
نُوقش: بأن أحاديث النهي مضطربة، وأحاديث الإباحة أصح، فالقول بها أولى.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «الآثار في الكراهية في هذا الباب مضطربة لا تقوم بها حجة،
(1)
نقل النووي في (المجموع)(1/ 154) عن إمام الحرمين قوله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم احتاجوا في مواطن من أسفارهم الكثيرة إلى الماء، ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى» .
(2)
هو: عبد الله بن سَرْجِس المزني، حلف في بني مخزوم، أكل مع النبي خبزاً ولحماً، واستغفر له، عداده في البصريين، روى عنه عاصم الأحول، تُوفي بالبصرة سنة نَيِّفٍ وثمانين للهجرة. يُنظر: أسد الغابة (3/ 257)، سير أعلام النبلاء (4/ 434)، الإصابة (4/ 92).
(3)
أخرجه ابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب النهي عن ذلك برقم:(374)، (1/ 244) وقال:«هذا وهم، والصحيح حديث الحكم بن عمرو» ، قال البوصيري في (مصباح الزجاجة) (1/ 56):«قال البيهقي في السنن الكبرى: بلغني عن أبي عيسى الترمذي عن البخاري أنه قال حديث عبد الله بن سرجس في هذا الباب الصحيح موقوفاً ومَن رفعه فقد أخطأ» .
(4)
أخرجه عبد الرزاق (1/ 107) برقم: (385)، وهو حديث موقوف، انفرد به المصنف من هذا الطريق.
(5)
يُنظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 118)، مطالب أولي النهى (1/ 28).
(6)
يُنظر: معالم السنن (1/ 42).
(7)
يُنظر: الشرح الكبير (1/ 84)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 300).
والآثار الصحاح هي الواردة بالإباحة
…
كلهم يقول: إن الرجال كانوا يتطهرون مع النساء جميعاً من إناء واحد، وأن عائشة كانت تفعل ذلك وميمونة وغيرهما من أزواجه صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك جماعة أئمة الفتوى، وقد رُوي عن بن عباس أنه سُئل عن فضل وضوء المرأة فقال:((هن ألطف بناناً وأطيب ريحاً))
(1)
، وهذا منه جواب بجواز فضلها على كل حال»
(2)
.
سبب الاختلاف: قال القرطبي رحمه الله: «سبب هذا الاختلاف: اختلافهم في تصحيح أحاديث النهي الواردة في ذلك، ومَن صححوها اختلفوا أيضاً في الأرجح منها، أو مما يعارضها، كحديث ميمونة أنه عليه الصلاة والسلام: كان يغتسل بفضلها، وكحديث ابن عباس الذي خرَّجه الترمذي وصححه»
(3)
.
الترجيح:
بعد عرض أدلة الأقوال ومناقشتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بجواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة، وهو قول الجمهور.
قال الإمام مالك رحمه الله في اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة: «
…
ولا خير في هذا التقزز والتنجس، إنما هو من الشيطان»
(4)
.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة الأدلة التي استدل بها الجمهور وصحتها وصراحتها في الدلالة.
2 -
اضطراب أدلة المانعين، وورود المناقشات عليها.
نقل ابن حجر رحمه الله في (الفتح) عن الامام أحمد رحمه الله قوله: «إن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل وضوء المرأة وفي جواز ذلك، مضطربة»
(5)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين مما سبق أن من الفقهاء مَنْ ذهب إلى حمل النهي على الكراهة، والذي يظهر
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 38) برقم: (348).
(2)
الاستذكار (1/ 170).
(3)
المفهم (1/ 583)، ويُنظر: بداية المجتهد (1/ 38).
(4)
البيان والتحصيل (1/ 114).
(5)
فتح الباري (1/ 300).
من كلام أهل العلم أن الصارف له: قرينة أحاديث الجواز التي نقلت فِعل النبي صلى الله عليه وسلم.
سلك القائلون بالكراهة مسلك الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الجواز، فقالوا: يُحمل النهي على الكراهة والتنزيه للجمع بين الأدلة
(1)
، فالقرينة الصارفة هي فِعل النبي صلى الله عليه وسلم.
فالأحاديث تنقل لنا اغتساله صلى الله عليه وسلم بفضل بعض أزواجه، فكان بياناً للجواز، فمن ذلك:
1 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة))
(2)
.
2 -
وحديث ميمونة رضي الله عنها قالت: ((أَجْنَبْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاغْتَسَلْتُ مِنْ جَفْنَةٍ، فَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ اغْتَسَلْتُ مِنْهَا قَالَ: إِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ -أَوْ: لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ- فَاغْتَسَلَ مِنْهُ))
(3)
.
الحكم على القرينة:
الأصل أن فِعل النبي صلى الله عليه وسلم من الأدلة والقرائن النصية القوية، والذي يظهر في هذه المسألة أنها قرينة غير معتبرة؛ لأن القول بالجمع بين الأدلة فيه ضعف؛ لاضطراب أدلة النهي في مقابل صحة أدلة الجواز، فلا يُصار إلى الجمع، والقول أن فعله صلى الله عليه وسلم قرينة صارفة؛ لعدم تكافؤ الأدلة المتعارضة في الظاهر بل المصير إلى الترجيح أولى، فالقول بالجواز والإباحة أرجح لصحة أدلته. والله أعلم.
قال القرطبي رحمه الله: «ولا شك في أن هذه الأحاديث (أحاديث الجواز) أصح وأشهر عند المحدِّثين، فيكون العمل بها أولى، وأيضاً فقد اتفقوا على جواز غسلهما معاً، مع أن كل واحد منهما يغتسل بما يفضله صاحبه عن غرفه»
(4)
.
(1)
فتح الباري، لابن حجر (1/ 300)، نيل الأوطار (1/ 42).
(2)
سبق تخريجه: ص (67).
(3)
سبق تخريجه: ص (68).
(4)
المفهم (1/ 584).
المبحث الخامس: النهي عن استعمال الماء المسخن بالشمس
المطلب الأول: حكم استعمال الماء المسخن بالشمس:
دليل النهي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أَسْخَنْتُ مَاءً فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ))
(1)
.
صورة المسألة:
إذا وُضع الماء في إناء، ووُضع في الشمس حتى يسخن، فما حكم استعماله في الوضوء والاغتسال به؟
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم استعمال الماء المسخن بالشمس، على قولين:
القول الأول: جواز استعمال الماء المسخن بالشمس مطلقاً من غير كراهة.
وهو قول عند المالكية
(2)
، ووجه عند الشافعية
(3)
، ومذهب الحنابلة
(4)
.
القول الثاني: كراهة استعمال الماء المسخن بالشمس.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(5)
، والمالكية
(6)
، والشافعية
(7)
، واشترطوا له شرطين
(8)
:
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب كراهة التطهير بالماء المشمس (1/ 20) برقم:(14) وقال: «وهذا لا يصح» ، والدارقطني، كتاب الطهارة، باب الماء المسخن (1/ 50) برقم:(86) وقال: «خالد بن إسماعيل: متروك» . قال النووي في (المجموع)(1/ 87): «ضعيف باتفاق المحدثين
…
ومنهم مَنْ يجعله موضوعاً»، وقال ابن الملقن في (البدر المنير) (1/ 421):«هذا الحديث واهٍ جداً» .
(2)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 79)، حاشية الدسوقي (1/ 45).
(3)
يُنظر: المجموع (1/ 87).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 15)، الإنصاف (1/ 41)، كشاف القناع (1/ 26).
(5)
يُنظر: فتح القدير، للكمال ابن الهمام (1/ 36)، حاشية ابن عابدين (1/ 180).
(6)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 79)، حاشية الدسوقي (1/ 45).
(7)
يُنظر: المجموع (1/ 87)، مغني المحتاج (1/ 119).
(8)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 180)، العزيز شرح الوجيز (1/ 21)، التاج والإكليل (1/ 109)، مغني المحتاج (1/ 119)، حاشية الدسوقي (1/ 45).
الأول: أن يكون تشميس الماء في الأواني المنطبعة
(1)
؛ لأن الشمس إذا أثرت فيها استخرجت منها زُهُومَةً
(2)
تعلو الماء، يتولد منها البرص
(3)
.
الثاني: أن يكون ذلك في البلاد الحارة: كالحجاز.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: أن الكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل، ولا دليل ثابت في المسألة
(4)
.
الدليل الثاني: أن الأصل عدم الكراهة، وقد سُخن بطاهر، أشبه ما في البرك والأنهار، وما سُخن بالنار
(5)
.
قال النووي رحمه الله: «عدم الكراهة في البرك والأنهار متفق عليه لعدم إمكان الصيانة وتأثير الشمس»
(6)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أَسْخَنْتُ مَاءً فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن النهي في الحديث نهي مطلق يُحمل على الكراهة والتنزيه، ونص النبي صلى الله عليه وسلم على علة النهي أنه يورث البرص
(8)
.
(1)
الأواني المنطبعة: هي المطرقة، قيل: جميع ما يطرق، وقيل: كل ما يطرق إلا الذهب والفضة لصفائهما، وقيل: إنها من النحاس خاصة. يُنظر: العزيز شرح الوجيز (1/ 21).
(2)
الزهومة: مادته: (ز هـ م)، والزهم: الريح المنتنة، زهمة أي: دسمة، الزُّهومة والزُّهمة بضمهما: ريح لحم سمين منتن، ووجدتُ منه زهومة أي: تغيراً. يُنظر: لسان العرب (12/ 277)، تاج العروس (32/ 340).
(3)
بَرَص: البرص: داء معروف -نسأل الله العافية منه ومن كل داء- وهو بياض يقع في الجسد في ظاهر البدن لفساد مزاج. يُنظر: لسان العرب (7/ 5)، القاموس المحيط (ص: 613).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 15)، المجموع (1/ 87)، مواهب الجليل (1/ 79).
(5)
يُنظر: المغني (1/ 15).
(6)
المجموع (1/ 90).
(7)
سبق تخريجه ص: (74).
(8)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 42)، المجموع (1/ 89)، حاشية ابن عابدين (1/ 180).
نُوقش: بأن الحديث ضعيف باتفاق المحدثين، والضعيف لا تقوم به حجة
(1)
.
الدليل الثاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((لَا تَغْتَسِلُوا بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ))
(2)
.
نُوقش: بأن الأثر ضعيف باتفاق المحدثين
(3)
.
أُجيب عنه: بأنه وإن لم يثبت الأثر فقد حصل به ريب
(4)
.
الدليل الثالث: أنه مضر طبياً؛ لأنه يورث البرص، وقد عُلم شرعاً من طلب الكف عما يضر عاجلاً
(5)
.
نُوقش: أنه لم يثبت عن الأطباء أن لذلك تأثيراً في الضرر
(6)
.
سبب الاختلاف:
السبب هو تضعيف الحديث والأثر في النهي، والاختلاف في ثبوت الضرر من استعمال الماء المسخن بالشمس.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بجواز استعمال الماء المسخن بالشمس مطلقاً.
(وأما تقييد الكراهة بالأواني المعدنية المطروقة لتأثيرها، فإنه يحتاج إلى بحث وتحقق).
أسباب الترجيح:
1 -
عدم الدليل الصحيح الثابت في النهي عنه، فيبقى على الأصل، وهو الإباحة.
(1)
يُنظر: المغني (1/ 15)، المجموع (1/ 87).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب كراهة التطهير بالماء المشمس (1/ 20) برقم:(13)، والدارقطني، كتاب الطهارة، باب الماء المسخن (1/ 52) برقم:(88)، قال النووي في (المجموع) (1/ 87):«ضعيف باتفاق المحدثين؛ فإنه من رواية إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وقد اتفقوا على تضعيفه، وجرحوه، وبينوا أسباب الجرح» .
(3)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 42)، المجموع (1/ 87)، مواهب الجليل (1/ 79).
(4)
يُنظر: مغني المحتاج (1/ 120).
(5)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 79).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 15)، المجموع (1/ 87)، كشاف القناع (1/ 26).
2 -
دخول الماء المشمس في عموم قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}
(1)
.
3 -
أنه الأقرب إلى يسر الشريعة؛ فحاجة الناس إلى تسخين الماء بالشمس قائمة في كثير من البلدان، ولأن الناس ما زالوا يستعملونه ولم يُعلم أن أحدًا برص
(2)
.
4 -
ضعف أدلة القول الثاني، وورود المناقشة عليها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
من خلال دراسة مسألة استعمال الماء المسخن بالشمس تبين اختلاف الفقهاء فيها على قولين مشهورين: قول بالجواز، وقول بالكراهة.
وقد حمل أصحاب القول الثاني النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص وفيه التعليل بما لا يقتضي التحريم:
وذلك في قوله: (فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ).
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد:
حيث جاء النهي عن استعمال الماء المشمس إرشاداً إلى مصلحة البدن، فضلاً عن كونه الأسلم له من جهة الصحة والطب.
جاء في (المجموع): «وحيث أثبتنا الكراهة فهي كراهة تنزيه»
(3)
.
والعلة: ذكر الفقهاء أن علة النهي خوف الإصابة بمرض البرص، وقالوا: لم يحرم؛ لأن ضرره مظنون
(4)
.
الحكم على القرينة:
القرينة النصية تكون قوية إذا ثبت النص وصح؛ فالقرينة النصية التي ذُكرت فيها علة النهي هنا ضعيفة؛ لضعف الحديث وعدم ثبوته، وتبعاً لذلك تضعف قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد؛ لضعف التعليل الذي اعتمد عليه، فثبت بذلك أن الماء المشمس لا أصل لكراهته.
(1)
سورة الفرقان: جزء من الآية (48).
(2)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 82).
(3)
(1/ 89).
(4)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 79)، مغني المحتاج (1/ 120).
قال النووي رحمه الله بعد تضعيف الحديث والأثر: «حصل من هذا أن: المشمس لا أصل لكراهته، ولم يثبت عن الأطباء فيه شيء، فالصواب: الجزم بأنه لا كراهة فيه، وهذا هو الوجه الذي حكاه المصنف وضعَّفه، وكذا ضعفه غيره، وليس بضعيف، بل هو الصواب الموافق للدليل ولنص الشافعي؛ فإنه قال في (الأم): لا أكره المشمس إلا أن يُكره من جهة الطب»
(1)
.
(1)
المجموع (1/ 87).
الفصل الثاني
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب الآنية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: النهي عن استعمال آنية الذهب والفضة.
المبحث الثاني: النهي عن استعمال آنية أهل الكتاب.
المبحث الأول: النهي عن استعمال آنية الذهب والفضة
المطلب الأول: حكم استعمال آنية الذهب والفضة:
دليل النهي:
عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تَلْبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ
(1)
، ولا تَشربوا في آنِيةِ الذَّهَبِ والفضَّةِ، ولا تأكلوا في صِحافِها
(2)
؛ فإنَّها لهم في الدُّنيا، ولنا في الآخِرةِ))
(3)
.
حكم المسألة:
أجمع العلماء
(4)
على تحريم استعمال آنية الذهب والفضة، وتحريم الأكل والشرب فيهما.
قال النووي رحمه الله: «أجمعت الأمة على تحريم الأكل والشرب وغيرهما من الاستعمال في إناء ذهب أو فضة»
(5)
.
وقال ابن تيمية رحمه الله: «
…
كما في آنية الذهب والفضة؛ فإنهم اتفقوا على أن استعمال ذلك حرام على الزوجين: الذكر والأنثى»
(6)
.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما المتقدم.
(1)
الدِّيباج: دبج: الدَّبْج: النقش والتزيين، والديباج: هو الثياب المتخَذة من الإبريسم، وهو فارسي مُعرَّب. يُنظر: لسان العرب (2/ 262)، عمدة القاري (21/ 202).
(2)
صَحْفَة: الصحفة إناء كالقصعة المبسوطة ونحوها، والجمع: صِحاف. يُنظر: الصحاح (4/ 1384)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 13).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الأكل في إناء مفضض (7/ 77)، برقم:(5426)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة
…
(3/ 1638) برقم: (2067).
(4)
نقل الإجماع جمع من العلماء، منهم: ابن عبد البر في (الاستذكار)(8/ 350)، وابن قدامة في (المغني)(1/ 55)، والنووي في (المجموع)(1/ 250)، وابن تيمية في (مجموع الفتاوى)(21/ 84) ..
(5)
المجموع (1/ 250).
(6)
مجموع الفتاوى (21/ 84).
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً صريحاً عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، والنهي يقتضي التحريم، وغير الأكل والشرب في معناهما، فيكون حكمها التحريم، وإنما خُصا بالذكر؛ لأنهما أظهر وجوه الاستعمال وأغلبها، وفيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة
(1)
.
الدليل الثاني: عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاءٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ
(2)
فِي بَطْنِهِ نَاراً مِنْ جَهَنَّمَ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث نَصَّ على الوعيد الشديد لِمن فعل ذلك، والوعيد بالعقاب يقتضي التحريم، وإذا حرم الأكل والشرب فغيرهما من الاستعمالات أولى؛ لاشتراك سائر الاستعمالات معهما في علة التحريم، وإنما ذكر الأكل والشرب للتغليب
(4)
.
وذكر العلماء في العلة التي لأجلها حرم استعمال آنية الذهب والفضة، وجوهاً، منها: الأول: أن علة التحريم السَّرَف والخُيلاء وأذى الصالحين والفقراء، وقد حرم الشرع الإسراف في قوله تعالى:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}
(5)
.
الثاني: أن في استعمالها تشبهاً بالجبابرة وملوك الأعاجم
(6)
، وذلك محرم أيضاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))
(7)
.
(1)
يُنظر: المغني (1/ 56)، المجموع (1/ 250)، فتح الباري، لابن حجر (10/ 95)، مغني المحتاج (1/ 136).
(2)
يُجَرْجِرُ: مادته (ج ر ر)، والجَرْجَرَةُ: هو الصوت الذي يردده البعير في حنجرته، (يجرجر): أي: يحدر فيها نار جهنم، جعل صوت تجرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النهي عنها واستحقاق العقاب على استعمالها، كجرجرة نار جهنم في بطنه بطريق المجاز. يُنظر: مقاييس اللغة (1/ 413)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 255)، عمدة القاري (21/ 203).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب آنية الفضة (7/ 113) برقم:(5634)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء (3/ 1635) برقم:(2065) واللفظ له.
(4)
يُنظر: التمهيد (16/ 105)، المغني (1/ 56)، كفاية النبيه (1/ 210)، شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 114).
(5)
سورة الأنعام: جزء من الآية (141).
(6)
يُنظر: التمهيد (16/ 105)، البحر الرائق (8/ 210).
(7)
أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة (6/ 144) برقم:(4031)، وأحمد (9/ 123) برقم:(5114)، قال ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) (1/ 269):«إسناد جيد» ، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (10/ 271):«فيه علي بن غراب، وقد وثقه غير واحد، وضعَّفه بعضهم، وبقية رجاله ثقات» ، وقال البوصيري في (إتحاف الخيرة) (4/ 484):«رواه أبو داود، وسكت عليه، فهو عنده حديث صالح للعمل به والاحتجاج به» ، وحسَّن إسناده ابن حجر في (فتح الباري)(10/ 271)، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(1/ 546).
الثالث: أن الله تعالى جعل الذهب والفضة قواماً للناس وأثماناً لمعايشهم وقِيماً للأشياء
(1)
، فاستعمالها في غير ذلك يُفقِدها القيمة.
سبب إيراد المسألة في البحث أنه ورد فيها قولٌ للإمام الشافعي رحمه الله في القديم بالكراهة.
وقد أورد النووي رحمه الله الردود على بطلان ذلك، ورجوع الشافعي عنه، قال: «وأما قول الشافعي القديم: فقال صاحب التقريب
(2)
: (إن سياق كلام الشافعي في القديم يدل على أنه أراد أن نفس الذهب والفضة الذي اتُخذ منه الإناء ليست حراماً، ولهذا لم يحرم الحُلي على المرأة) هذا كلام صاحب التقريب، وهو من متقدمي أصحابنا، وهو أتقنهم لنقل نصوص الشافعي، ولأن الشافعي رجع عن هذا القديم.
والصحيح عند أصحابنا وغيرهم من الأصوليين أن المجتهد إذا قال قولاً ثم رجع عنه، لا يبقي قولاً له، ولا يُنسب إليه، قالوا: وإنما يُذكر القديم وينسب إلى الشافعي مجازاً، وباسم ما كان عليه لا أنه قول له الآن، فحصل مما ذكرناه أن الإجماع منعقد على تحريم استعمال إناء الذهب وإناء الفضة»
(3)
.
وقال ابن حجر رحمه الله: «عن الشافعي في القديم
…
أن النهي فيه للتنزيه؛ لأن علته: ما فيه من التشبه بالأعاجم، ونص في الجديد على التحريم، ومن أصحابه مَنْ قطع به عنه، وهذا اللائق به؛ لثبوت الوعيد عليه بالنار كما سيأتي في الذي يليه، وإذا ثبت ما نُقل عنه فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور»
(4)
.
ولدراسة القرينة الصارفة التي قيل بها في هذه المسألة ندرس قول الإمام
(1)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (6/ 81).
(2)
هو أبو شجاع، شهاب الدين الأصفهاني (593 هـ).
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 29).
(4)
فتح الباري (10/ 94).
الشافعي في القديم:
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «ولا أكره من الآنية إلا الذهب والفضة، كراهةً وتنزيهاً لا تحريماً»
(1)
.
ودليل هذا القول:
حديث حذيفة رضي الله عنه السابق، وحُمل النهي على الكراهة؛ لأنه إنما نُهى عنه؛ لما فيه من السَّرَف والخُيلاء والتشبه بالأعاجم، وهذا لا يوجب التحريم
(2)
.
نُوقش:
1 -
بأن هذا القول ضعيف، ويكفي في ضعفه منابذته للأحاديث الصحيحة الصريحة في التحريم والمؤيَّدة بذِكر الوعيد
(3)
.
2 -
(4)
، وتحريم الاسراف، وتحريم التشبه بالكفار؛ وبذلك يتبين أن الاستعمال محرم
(5)
.
يتبين بذلك ضعفُ هذا القول، وعدم اعتباره قولاً؛ لأن الإمام الشافعي رجع عنه.
قال النووي رحمه الله: «واعلم أن هذا القديم لا تفريع عليه»
(6)
.
(1)
الأم (1/ 23).
(2)
يُنظر: بحر المذهب (1/ 64).
(3)
يُنظر: بحر المذهب (1/ 64)، المجموع (1/ 249).
(4)
المجموع (1/ 249).
(5)
يُنظر: البحر الرائق (8/ 210)،
(6)
المجموع (1/ 249).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذُكر في المسألة قول للإمام الشافعي في القديم بحمل النهي على الكراهة، والقرينة الصارفة له: ورود النهي في باب الأدب والتنزيه.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «ولا أكره من الآنية إلا الذهب والفضة، كراهةً وتنزيهاً لا تحريماً»
(1)
.
والعلة لهذا الأدب: علة الإسراف والخُيلاء والتشبه بالكفار، وهذه علل لا توجب التحريم
(2)
.
الحكم على القرينة:
قرينة ورود النهي في باب الأدب والتنزيه هنا ضعيفة وغير معتبرة؛ إذ التعليل بالإسراف والخيلاء والتشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم تفيد التحريم وليس الكراهة؛ فالقرينة ضعيفة، ويؤيده أن صراحة النهي وتأكيده بالوعيد يقتضي القول بالتحريم لا الكراهة، وهو قول الشافعي في الجديد وما أجمع عليه العلماء.
(1)
الأم (1/ 23).
(2)
يُنظر: بحر المذهب (1/ 64).
المبحث الثاني: النهي عن استعمال آنية أهل الكتاب
المطلب الأول: حكم استعمال آنية أهل الكتاب:
دليل النهي:
حديث أبي ثعلبة الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه
(1)
قال: قلت: ((يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ
(2)
، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ، فَكُلْ))
(3)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم استعمال آنية أهل الكتاب، على قولين:
القول الأول: يُباح استعمال آنية أهل الكتاب، ما لم يتحقق نجاستها.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(4)
، والمالكية
(5)
، والشافعية
(6)
، والمشهور من مذهب الحنابلة
(7)
.
(1)
هو: جُرْثُومُ بْنُ لَاشِرَ بن النضر، كنيته: أبو ثعلبة الْخُشَنِيّ، صحابي مشهور، معروف بكنيته واختُلف في اسمه اختلافاً كثيراً، وكذا في اسم أبيه، كان ممن بايع تحت الشجرة وضُرب له بسهمه يوم خيبر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، روى عنه: أبو إدريس الخولانيّ، وأبو أمية الشعبانيّ، وأبو أسماء الرحبيّ، وسعيد بن المسيب، وجبير بن نفير، وأبو قلابة، ومكحول، وآخرون، نزل الشام، ومات سنة 75 هـ. يُنظر: الاستيعاب (1/ 269)، الإصابة (7/ 50).
(2)
الكلب المعلَّم: هو الذي ينزجر بالزجر، ويسترسل بالإرسال، ولا يأكل منه مراراً. يُنظر: العزيز شرح الوجيز (12/ 20)، الكواكب الدراري (20/ 79).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب صيد القوس (7/ 86) برقم:(5478)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤُكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلَّمة (3/ 1532) برقم:(1930).
(4)
يُنظر: البحر الرائق (8/ 232)، شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (1/ 411).
(5)
يُنظر: الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 439)، الفروق، للقرافي (4/ 105).
(6)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 80)، المجموع (1/ 264)، مغني المحتاج (1/ 139).
(7)
يُنظر: المغني (1/ 61)، المحرر في الفقه (1/ 7)، الإنصاف (1/ 155).
القول الثاني: يُكره استعمال آنية أهل الكتاب.
وهو وجه عند الشافعية
(1)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(2)
.
أدلة الأقوال: أدلة القول الأول:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
(3)
.
وجه الاستدلال: أن الله سبحانه قد أباح لنا طعام أهل الكتاب، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم ومياههم وفي أوانيهم، وذلك دليل على طهارة آنيتهم وجواز استعمالها
(4)
.
الدليل الثاني: عن عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه
(5)
قال: ((أَصَبْتُ جِرَاباً
(6)
مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَداً مِنْ هَذَا شَيْئاً، قَالَ: فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مُتَبَسِّماً))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن هذا الجراب من آنية اليهود، ولو كان نجساً لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسله وغسل الشحم الذي بداخله، فلما لم يكن دل ذلك على طهارته وجواز استعماله.
الدليل الثالث: عن أنس رضي الله عنه: ((أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ إِلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ
(8)
(1)
يُنظر: التعليقة، للقاضي حسين (1/ 236)، المجموع (1/ 261).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 61)، الإنصاف (1/ 155).
(3)
سورة المائدة: جزء من الآية (5).
(4)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 80).
(5)
هو: عبد الله بن مُغَفَّلٍ بن عَبْدِ نَهْمِ بن عَفِيفِ الْمُزَنِيُّ، أبو سعيد ويُقال: أبو عبد الرحمن، سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، وهو من أصحاب الشجرة، قال الحسن البصري: كان أحد العشرة الذين بعثهم إلينا عمر يفقِّهون الناس، وكان من نقباء أصحابه، تُوفي بالبصرة سنة 60 هـ. يُنظر: الاستيعاب (3/ 996)، تهذيب التهذيب (6/ 42).
(6)
الجِرَابُ -بكسر الجيم وفتحها- لغتان: الكسر أفصح وأشهر، والجمع أجربة وجرب، وهو وعاء من جلد للزاد. يُنظر: الصحاح (1/ 98)، مختار الصحاح (ص: 55)، المنهاج شرح صحيح مسلم (12/ 102).
(7)
أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب (3/ 1393) برقم:(1772).
(8)
إِهَالة: الإهالةُ: الوَدَكُ، وهو كل شيء من الأدهان مما يُؤتدم به، وقيل: هو ما أُذيب من الألية والشحم. يُنظر: الصحاح (4/ 1629)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 84)، فتح الباري، لابن حجر (5/ 141).
سَنِخَةٍ
(1)
، فَأَجَابَهُ))
(2)
.
وجه الاستدلال: إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لدعوة اليهودي، وأكْله مما قُدم له في آنيتهم، دليل على جواز استعمال آنيتهم والأكل فيها
(3)
.
دليل القول الثاني:
حديث أبي ثعلبة الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قال: قلت: ((يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ، فَكُلْ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن قوله: (فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها) صريح في المنع من استعمالها عند توفُّر غيرها، أو قبل غسلها بالماء، وأقل أحوال النهي الكراهة؛ لأنهم لا يتورعون عن النجاسة، ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم
(5)
.
نُوقش: بأن الأصل في الآنية الطهارة والإباحة، والحكم للأصل حتى تتحقق النجاسة
(6)
.
وأن الحديث يُحمل على أمرين
(7)
:
أحدهما: أنه نُهي عن الأكل فيها للاستقذار -إن كانت مُعدَّة للنجاسة- كما يُكره
(1)
سَنِخَة: سنخ الدهن: إذا فسدَ وتغيّرتْ ريحُه، سنخة: أي: المتغيرة الريح. يُنظر: الصحاح (1/ 424)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 84)، فتح الباري، لابن حجر (5/ 141).
(2)
أخرجه أحمد (20/ 424) برقم: (13201)، صححه ابن حبان (12/ 103) برقم:(5293)، وقال البوصيري في (إتحاف الخيرة) (4/ 299):«هذا إسناد رجاله ثقات» .
(3)
يُنظر: فتح القدير، للكمال بن الهمام (1/ 74).
(4)
سبق تخريجه ص: (85).
(5)
يُنظر: المغني (1/ 62)، المجموع (1/ 261)، عمدة القاري (21/ 96).
(6)
يُنظر: عمدة القاري (21/ 96).
(7)
يُنظر: المجموع (1/ 265)، عمدة القاري (21/ 96).
الأكل في المحجمة
(1)
المغسولة.
والثاني: أن المراد بالحديث حالة تحقق نجاستها؛ لأن النهي عن الأكل في أوانيهم التي كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير، ويشربون فيها الخمر، كما صرح به في رواية أبي داود لحديث أبي ثعلبة الخشني:((إِنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمُ الْخِنْزِيرَ، وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمُ الْخَمْرَ))
(2)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بإباحة استعمال آنية أهل الكتاب ما لم تتحقق نجاستها.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة الأدلة، وسلامتها من المناقشة والمعارضة.
2 -
موافقة هذا القول للأصل؛ فالأصل في الآنية الطهارة والإباحة.
3 -
موافقة القول بالإباحة لما جاءت به الشريعة من التيسير والتخفيف على الناس.
4 -
ضعف ما علل به أصحاب القول الثاني، وورود المناقشة عليه.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
مما سبق تبين أن بعض الفقهاء حمل النهي عن استعمال آنية أهل الكتاب على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
وذلك أن النهي عنها فيه إرشاد وتنزيهٌ عن النجاسة المحتملة في آنيتهم.
وعلة النهي: الاستقذار؛ لكونهم لا يجتنبون النجاسة
(3)
، وهذه علة لا توجب التحريم.
(1)
المحجم بالكسر: الآلة أو القارورة التي يجتمع فيها دم الحجامة عند المص. يُنظر: الصحاح تاج اللغة (5/ 1894)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 347).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الأطعمة، باب الأكل في آنية أهل الكتاب والمجوس والطبخ فيها (5/ 649) برقم:(3839)، والحديث أصله في الصحيحين، وقد سبق في أول المبحث.
(3)
يُنظر: المغني (1/ 62)، المجموع (1/ 264).
قال ابن قدامة رحمه الله في (المغني): «أقل أحوال النهي الكراهة، ولأنهم لا يتورعون عن النجاسة، ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم، وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة»
(1)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القول بالكراهة وإعمال القرينة لذلك، يكون في حال عُلم استعمالهم لها في النجاسة، ويؤيد ذلك جواب الفقهاء عن الحديث: بأن المراد النهي عن الأكل في آنيتهم التي كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير، ويشربون الخمر، كما صرح به في رواية أبي داود.
أما مسألة البحث هنا: فهي في حكم استعمال آنيتهم مطلقاً مع جهالة حالها: فالذي يظهر ضعفُ القرينة هنا؛ لمعارضتها للأصل -الطهارة والإباحة- المؤيَّد بآية المائدة المبيحة لطعامهم، وطعامهم إنما يُقدم في آنيتهم، فدل على حِل الجميع، وأحاديث أَكْله صلى الله عليه وسلم من طعامهم في آنيتهم تؤكد ذلك، والله تعالى أعلم.
(1)
(1/ 62).
الفصل الثالث
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب آداب قضاء
الحاجة
وفيه عشرة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن البول قائماً.
المبحث الثاني: النهي عن البول في طريق الناس وظِلِّهم.
المبحث الثالث: النهي عن البول في الجحور.
المبحث الرابع: النهي عن البول في المغتسل.
المبحث الخامس: النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول.
المبحث السادس: النهي عن استقبال بيت المقدس بغائط أو بول.
المبحث السابع: النهي عن الاستنجاء باليمين.
المبحث الثامن: النهي عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار.
المبحث التاسع: النهي عن الاستجمار برَوْث أو عَظْم.
المبحث العاشر: النهي عن دخول المرأة إلى الحمامات.
المبحث الأول: النهي عن البول قائماً
المطلب الأول: حكم البول قائماً:
دليل النهي:
عن عمر رضي الله عنه قال: ((رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبُولُ قَائِماً، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، لَا تَبُلْ قَائِماً قَالَ: فَمَا بُلْتُ قَائِماً بَعْدُ))
(1)
.
تحرير محل النزاع:
أولا: محل الاتفاق:
اتفق الفقهاء
(2)
على جواز البول قائماً إن كان لعذر.
ثانيا: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم البول قائماً لغير عذر، على قولين:
القول الأول: جواز البول قائماً إن أَمِن تطاير البول، وألا يرى عورته أحد.
وهو مذهب المالكية
(3)
، والصحيح من المذهب عند الحنابلة
(4)
.
القول الثاني: الكراهة.
(1)
أخرجه ابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب في البول قاعداً (1/ 206) برقم:(308)، وأورده الترمذي، باب ما جاء في النهي عن البول قائماً (1/ 17) بعد الحديث رقم (12) وقال:«وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي الْمُخَارِق، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، وتكلم فيه» ، وقال ابن المنذر في (الأوسط) (1/ 337):«هذا لا يثبت؛ لأن الذي رواه عبد الكريم أبو أمية» ، وقال البوصيري في (مصباح الزجاجة) (1/ 45): «هذا إسناد ضعيف: عبد الكريم متفق على تضعيفه،
…
ولا يُغتر بتصحيح ابن حبان هذا الخبر من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر؛ فإنه قال بعده: (أخاف أن يكون ابن جريج لم يسمعه من نافع) وقد صح ظنه».
(2)
يُنظر: البحر الرائق (1/ 256)، مواهب الجليل (1/ 267)، المهذب (1/ 56)، أسنى المطالب (1/ 49)، شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 146).
(3)
يُنظر: الذخيرة (1/ 203)، مواهب الجليل (1/ 268).
(4)
يُنظر: الإنصاف (1/ 201)، كشاف القناع (1/ 65).
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(3)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن حذيفة رضي الله عنه قال: ((أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ
(4)
قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِماً))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن ثبوت فعله صلى الله عليه وسلم دليل على جواز البول قائماً وقد أمن الرشاش؛ لأن السباطة لا ترُد البول عليه، وأمن الانكشاف؛ لأن حذيفة كان من خلفه يستره
(6)
.
نُوقش: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بال قائماً لعذر، وحملوا ذلك على أوجه، أشهرها
(7)
:
أ - قيل: أنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود، فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان عالياً، فأمن أن يرتد إليه شيء من بوله.
ب - وقيل: السبب أن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك، فلعله كان به.
ت - وقيل: إنما بال قائماً؛ لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك؛ لكونه قريباً من الديار.
وقيل: إنه فعل ذلك لجرح كان في مأبضه
(8)
لا يتمكن معه من القعود، واستدلوا
(1)
يُنظر: البحر الرائق (1/ 256)، حاشية ابن عابدين (1/ 344).
(2)
يُنظر: المجموع (2/ 85)، أسنى المطالب (1/ 49).
(3)
يُنظر: الفروع (1/ 135)، الإنصاف (1/ 201).
(4)
السُّبَاطَةُ: السباطة والكُنَاسَةُ: الموضع الذي يُرمى فيه التراب والأوساخ وما يُكنس من المنازل، تكون بفناء الدور مرفقاً لأهلها، وقيل: هي الكناسة نفسها. وإضافتها إلى القوم إضافة تخصيص لا ملك؛ لأنها كانت مواتا مباحة. يُنظر: الصحاح (3/ 1130)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 335)، المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 166).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب البول عند سباطة قوم (1/ 55) برقم:(226)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين (1/ 175) برقم:(273).
(6)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (1/ 334)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 330)، شرح أبي داود، للعيني (1/ 95).
(7)
يُنظر: المفهم (1/ 526)، المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 166)، شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 147)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 330).
(8)
المَأْبِضُ: هو باطن الركبة. يُنظر: مقاييس اللغة (1/ 37)، المجموع (2/ 85).
له بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَالَ قَائِماً مِنْ جُرْحٍ كَانَ بِمَأْبِضِهِ))
(1)
.
أُجيب عن حديث أبي هريرة: بأنه ضعيف: قال ابن حجر: «لو صح هذا الحديث لكان فيه غِنى عن جميع ما تقدم»
(2)
.
وأُجيب عن هذه الأوجه:
(3)
.
الدليل الثاني: مجموعة من الآثار التي رُويت عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم فيها الترخص في البول قائماً، منها:
أنه شُوهد: ((ابْنَ عُمَرَ، يَبُولُ قَائِمًا))
(4)
، و ((زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، يَبُولُ قَائِمًا))
(5)
، وأن ((عَلِيًّا بَالَ قَائِماً))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن فِعلهم دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش
(7)
.
الدليل الثالث: أن الأصل الإباحة فمَن ادّعى الكراهة فعليه الدليل، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء
(8)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن عمر رضي الله عنه قال: ((رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبُولُ قَائِماً، فَقَالَ: يَا
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، جماع أبواب الاستطابة، باب البول قائماً (1/ 308) برقم:(494) وقال: «لا يثبت مثله» ، ضعفه النووي في (المنهاج)(3/ 165)، وقال ابن حجر في (فتح الباري) (1/ 330):«ضعفه الدارقطني والبيهقي» .
(2)
فتح الباري (1/ 330).
(3)
المفهم (1/ 526).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 115) برقم: (1313)، والطحاوي في (شرح معاني الآثار) (4/ 268) برقم:(6817).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 115) برقم: (1312)، والطحاوي في (شرح معاني الآثار) (4/ 268) برقم:(6813).
(6)
أخرجه الطحاوي في (شرح معاني الآثار)(4/ 268) برقم: (6813).
(7)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 330).
(8)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 147)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 330).
عُمَرُ، لَا تَبُلْ قَائِماً قَالَ: فَمَا بُلْتُ قَائِماً بَعْدُ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول قائماً، ويُحمل على الكراهة لا التحريم؛ لعلة خوف التَّرَشُش والتنجس
(2)
.
نُوقش: أن الحديث إسناده ضعيف فلا يثبت
(3)
، وتبين ذلك في تخريج الحديث.
الدليل الثاني: استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبُولُ قَائِماً فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِداً))
(4)
.
وجه الاستدلال: هذا الإنكار منها يقتضي أن المعلوم من عادته صلى الله عليه وسلم البول من قعود، فيُحمل الخبر على الكراهة لا التحريم
(5)
، ولأن الأغلب عندها: أن مَنْ بال قائماً لا يكاد يسلم من إصابة البول ثيابَه وبدنَه
(6)
.
نُوقش من وجهين:
الأول: بأنه ليس في الحديث ما يدل على كراهية البول قائماً، وقد ورد عنها أيضاً:((فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَبُولُ جَالِساً))
(7)
، فليس فيه دليل على المنع؛ لأنه قد يجوز أن يبول جالساً في وقت، ويبول قائماً في وقت آخر، فلم تحكِ عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على كراهية البول قائماً
(8)
.
الثاني: أن ما أخبرتْ به مستند إلى علمها، فيُحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما
(1)
سبق تخريجه ص: (91).
(2)
يُنظر: المجموع (2/ 84).
(3)
يُنظر: المجموع (2/ 84)، عمدة القاري (3/ 136).
(4)
أخرجه الترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب النهي عن البول قائماً (1/ 60) برقم:(12)، وقال:«وفي الباب عن عمر، وبريدة، حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح» ، وأخرجه ابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب في البول قاعداً (1/ 205) برقم:(307)، جوّد إسناده النووي في (المنهاج)(3/ 166)، وقال الألباني في (إرواء الغليل) (1/ 95):«سنده صحيح على شرط مسلم» .
(5)
المجموع (2/ 85)، حاشية ابن عابدين (1/ 344).
(6)
شرح معاني الآثار (4/ 267).
(7)
أخرجه ابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب في البول قاعداً (1/ 205) برقم:(307)، صححه الألباني في (صحيح وضعيف سنن ابن ماجه)(1/ 379).
(8)
يُنظر: شرح معاني الآثار (4/ 267).
في غير البيوت: فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة
(1)
.
الدليل الثالث: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبُولَ قَائِماً))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً عن البول قائماً، ويُحمل على الكراهة؛ لوروده في باب التنزيه والإرشاد
(3)
.
نُوقش: بأن الحديث ضعيف، والضعيف لا تقوم به حجة
(4)
.
سبب الخلاف:
تعارض ظاهر الأحاديث المثبتة لبول النبي صلى الله عليه وسلم قائماً مع الأحاديث النافية له، والأحاديث الناهية عنه.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بجواز البول قائماً وإن كان لغير عذر، إن أمن تلوثاً وناظراً، غير أن البول قعوداً أفضل؛ لأنه غالب فِعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن المنذر في (الأوسط): «يبول جالساً أحب إليَّ؛ للثابت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه بال جالساً، ولأن أهل العلم لا يختلفون فيه، ولا أنهي عن البول قائماً لثبوت حديث حذيفة»
(5)
.
أسباب الترجيح:
1 -
أن الأصل الإباحة، ولم يصح شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن البول قائماً.
2 -
أن حكاية الأخبار عن بوله صلى الله عليه وسلم قاعداً لا ينافي جواز البول قائماً، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 330)، عمدة القاري (3/ 135).
(2)
أخرجه ابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب في البول قاعدا (1/ 206) برقم:(309)، قال البوصيري في (مصباح الزجاجة) (1/ 45):«إسناد حديث جابر ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف عدي بن الفضل» .
(3)
يُنظر: المجموع (2/ 85).
(4)
يُنظر: المجموع (2/ 84)، ويُنظر تخريج الحديث.
(5)
(1/ 338).
البول قائماً: نقلت عائشة البول قاعداً، ونقل حذيفة البول قائماً، فكلٌّ نقل ما علم، ولا تنافيَ بينهما.
3 -
أن ثبوت ترخُّص جمع من الصحابة رضي الله عنهم فيه، يؤيد الجواز.
4 -
ضعف ما استدل به أصحاب القول الثاني، وورود المناقشة عليه.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب بعض الفقهاء إلى أن النهي عن البول قائماً يُحمل على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارفَ له عن التحريم القرائنُ التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيها حكاية فعله صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه:
وذلك ما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بال في حال القيام، فهذه قرينة نصية لبيان الجواز.
قال ابن حجر رحمه الله: «الأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود»
(1)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: «لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة»
(2)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد:
قال النووي رحمه الله: «يُكره البول قائماً إلا لعذر، وهي كراهة تنزيه لا تحريم»
(3)
.
وعلة النهي: أن البول قائماً سبب في التنجس غالباً.
جاء في (مراقي الفلاح): «لتنجسه غالباً»
(4)
.
وقال القرافي رحمه الله: «لأنه أبعد عن التنجيس»
(5)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: «لئلا يترشش عليه»
(6)
.
(1)
فتح الباري (1/ 330).
(2)
المغني (1/ 121).
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 165).
(4)
(ص: 27).
(5)
الذخيرة (1/ 203).
(6)
المغني (1/ 121).
الحكم على القرينة:
ورود النص بفعله صلى الله عليه وسلم صحيح وثابت، ولا يُعد قرينة صارفة؛ لأن النهي لم يثبت، وبما أن الأصل الإباحة مع عدم ثبوت شيء في النهي، فإنه يُقال أن فِعله صلى الله عليه وسلم دال على جواز البول قائماً وإباحته لعذر ولغير عذر بلا كراهة، وكذلك قرينة ورود النهي في باب الأدب غير معتبرة هنا؛ لعدم ثبوت النهي، وحديث عائشة رضي الله عنها الثابت لا يفيد نهياً، والله أعلم.
المبحث الثاني:
النهي عن البول في طريق الناس وظِلِّهم
المطلب الأول: حكم البول
(1)
في طريق الناس وظِلِّهم:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ
(2)
قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى
(3)
فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ
(4)
(5)
.
صورة المسألة: لو مر إنسان بطريق يسلكه الناس أو ظِلٍّ يستظلون به، وأراد قضاء الحاجة فيه، فهل يجوز له ذلك أو لا؟
(1)
الاقتصار على البول هنا اعتماداً على ما ذكره الفقهاء في كتبهم، والمراد به: قضاء الحاجة، وذكر النووي رحمه الله أنه يُراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ حيث قال في (المجموع) (2/ 87):«وسواء البول والغائط، وإنما اقتصر المصنف على البول اختصاراً وتنبيهاً للأدنى على الأعلى» .
(2)
أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق: السب والدعاء، ولعن الله الشيطان: أبعده عن الخير والجنة، واللَّعَّانَانِ: أي: الأمران الجالبان للعن، الباعثان للناس عليه؛ فإنه سبب للعن مَنْ فعله في هذه المواضع. يُنظر: مقاييس اللغة (5/ 252)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 255).
(3)
يتَخَلَّى: الخلاء هو المكان الذي تُقضى فيه الحاجة، سُمي بذلك؛ لكونه يُتخلى فيه، أي: ينفرد، والتخلي مأخوذ من الخلاء، وهى عبارة عن الستر والتفرد لقضاء الحاجة والحدث. يُنظر: إكمال المعلم (2/ 76)، المطلع على ألفاظ المقنع (ص: 24)، تاج العروس (38/ 15).
(4)
الظل الذي يستظل به الناس ويتخذونه مقيلاً ومناخاً، ومثل الظل: الشمس أيام الشتاء. يُنظر: مواهب الجليل (1/ 277)، حاشية ابن عابدين (1/ 343). قال الخطابي في (معالم السنن) (1/ 22):«ليس كل ظل يحرم القعود للحاجة تحته؛ فقد قعد النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته تحت حايش من النخل، وللحايش لا محالة ظل، وإنما ورد النهي عن ذلك في الظل يكون ذرىً للناس ومنزلاً لهم» .
(5)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال (1/ 226) برقم:(269).
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في النهي الوارد في الحديث: هل هو للتحريم أو الكراهة، على قولين:
القول الأول: يحرم قضاء الحاجة في طريق الناس والظِّلِّ الذي ينتفعون به.
وهو قول عند الشافعية
(1)
، والمذهب عند الحنابلة
(2)
.
القول الثاني: يُكره قضاء الحاجة في طريق الناس وظِلِّهم:
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، وقول عند الحنابلة
(6)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}
(7)
.
وجه الاستدلال: أن الآية جاءت بالمبالغة في التحذير من أذية المؤمنين بأي وجه من وجوه الأذى من قول أو فعل
(8)
، وقضاء الحاجة في طرق الناس ومواطن تجمُّعهم وانتفاعهم: فيه أذية للمسلمين بتنجيس واستقذار هذه المواطن، وجاءت الآية بالوعيد لمن آذاهم، والوعيد دليل التحريم
(9)
.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ))
(10)
.
(1)
يُنظر: المجموع (2/ 87).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 122)، الفروع (1/ 132)، كشاف القناع (1/ 63).
(3)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 343)، حاشية الطحطاوي (ص: 53).
(4)
يُنظر: الذخيرة (1/ 201)، مواهب الجليل (1/ 276).
(5)
يُنظر: المجموع (2/ 87).
(6)
يُنظر: الفروع (1/ 132)، الإنصاف (1/ 198).
(7)
سورة الأحزاب: الآية (58).
(8)
يُنظر: تفسير الطبري (20/ 324)، فتح القدير، للشوكاني (4/ 348).
(9)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 162).
(10)
سبق تخريجه: ص (98).
الدليل الثالث: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارد، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر الأحاديث يدل على تحريم التخلِّي في طرق الناس وظِلِّهم؛ لما فيها من أذية المسلمين بإبطال منفعتهم، ولأنها تجلب لعن الناس على فاعلها
(2)
.
الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ))
(3)
.
وجه الاستدلال: دل الحديث على استحقاق مَنْ يؤذي المسلمين اللعنة منهم، واللعن دليل التحريم
(4)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بالكراهة بحديثي أبي هريرة ومعاذ رضي الله عنهم.
وجه الاستدلال: أن النهي عن قضاء الحاجة في مواطن انتفاع الناس يُحمل على الكراهة؛ لوروده في باب التنزيه والآداب
(5)
.
يمكن أن يُناقش: بأن الوعيد على مَنْ فعل ما فيه أذية للمسلمين وكونها جالبة للعن الناس، قرائن تؤكد أن النهي على الأصل وهو التحريم.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها ومناقشتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم قضاء الحاجة في طريق الناس وظِلِّهم.
أسباب الترجيح:
(1)
سبق تخريجه: ص (50).
(2)
يُنظر: المفهم (1/ 524)، الفروع (1/ 132)، نيل الأوطار (1/ 112).
(3)
أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير)(3/ 179) برقم: (3050) وانفرد به، حسّن إسناده الهيثمي في (مجمع الزوائد)(1/ 204).
(4)
يُنظر: سبل السلام (1/ 109).
(5)
يُنظر: المجموع (2/ 87)، نهاية المحتاج (1/ 140).
1 -
قوة أدلة هذا القول، وسلامتها من المعارض الراجح.
2 -
أن الإسلام جاء بالحث والترغيب في إماطة الأذى عن طريق المسلمين، وعليه يكون تعمد وَضْع الأذى في طريقهم ومواطن انتفاعهم من أعظم المناهي الشرعية؛ لما فيه من الضرر، وقد عُدت من الكبائر
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله في (المفهم): «يُفهم من هذا: تحريم التخلِّي في كل موضع كان للمسلمين إليه حاجة: كمجتمعاتهم، وشجرهم المثمر، وإن لم يكن له ظلال وغير ذلك»
(2)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين فيما سبق أن بعض الفقهاء حمل النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة له عن التحريم: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أن النهي فيه إرشاد إلى آداب قضاء الحاجة، والمحافظة على نظافة الأماكن التي يحتاج إليها الناس.
قال المَنَاوِيُّ رحمه الله
(3)
في (فيض القدير): «الأصح عند الشافعي الكراهة التنزيهية»
(4)
، وقال أيضاً:«اقتصر جمهورهم على عدِّه من الآداب، وحملوا الأحاديث على الكراهة»
(5)
.
قال النووي رحمه الله في (المجموع): «هذا الأدب -وهو اتقاء الملاعن الثلاث- متفق عليه، وظاهر كلام المصنف والأصحاب أن فِعل هذه الملاعن أو بعضها مكروه كراهة تنزيه»
(6)
.
والعلة: أن خوف إيذاء المسلمين به، محتمل غير متحقق، فلذلك يُكره.
(1)
يُنظر: فيض القدير (1/ 136).
(2)
(1/ 524).
(3)
هو: محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المُنَاوِي القاهري، الشافعي، زين الدين، وُلد سنة 952 هـ، كان من كبار العلماء بالدين والفنون، له نحو ثمانين مصنفاً، منها:«كنوز الحقائق» ، «التيسير في شرح الجامع الصغير» اختصره من شرحه الكبير «فيض القدير» ، «شرح الشمائل للترمذي» وغيرها، تُوفي بمصر سنة 1031 هـ. يُنظر: فهرس الفهارس (2/ 560)، الأعلام، للزركلي (6/ 204).
(4)
(1/ 135).
(5)
(1/ 136).
(6)
(2/ 87).
جاء في (حاشية الجمل): «
…
مكروه: أي: كراهة تنزيه، وهو المعتمد، وقوله:(لما فيه من إيذاء المسلمين) دُفع بأنه غير محقق»
(1)
.
الحكم على القرينة:
قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة، يُصرف بها النهي عن التحريم، والذي يظهر هنا أنها قرينة ضعيفة في مقابل اعتضاد الأصل -وهو التحريم- بقرائن مؤكِّدة له:
- القرينة النصية في الآية التي جاءت بالوعيد لمَن آذى المسلمين.
- أن هذا الفعل يجلب لعن الناس على فاعله.
- القاعدة الفقهية: لا ضرر ولا ضرار
(2)
.
ولأجل ذلك كان القول بتحريم قضاء الحاجة في طريق الناس وظِلِّهم أقوى، والله أعلم.
(1)
(1/ 90).
(2)
وهي إحدى القواعد الكلية الكبرى. يُنظر: الأشباه والنظائر، للسبكي (1/ 41)، الأشباه والنظائر، لابن الملقن (1/ 30)، الأشباه والنظائر، للسيوطي (ص: 7)، موسوعة القواعد الفقهية (1/ 1/ 32).
المبحث الثالث:
النهي عن البول في الجحور
المطلب الأول: حكم البول في الجحور:
دليل النهي:
عن عبد الله بن سَرْجِس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي جُحْرِ
(1)
، قيل لقتادة
(2)
: ما يُكره من البول في الجحر؟ قال: يُقال: إنها مساكن الجن
(3)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(4)
على كراهة البول في الجحر.
قال النووي رحمه الله في (المجموع): «يُكره أن يبول في ثقب أو سرب
…
وهذا الذي قاله المصنف من الكراهة متفق عليه، وهي كراهة تنزيه، والله أعلم»
(5)
.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث عبد الله بن سَرْجِس رضي الله عنه.
وجه الاستدلال: أن النهي في الحديث جاء للتنزيه والأدب، فيُحمل على
(1)
الجُحْرُ -بضم الجيم وسكون الحاء-: الجيم والحاء والراء أصل يدل على ضيق الشيء والشدة، والجحرهو كل شيء يحتفره الهوام والسباع لأنفسها، وهو الثقب المستدير، ويلحق به المستطيل، ويسمى السَّرَبِ بفتح السين، كجحر الضب والحية، ومنه الشق. يُنظر: مقاييس اللغة (1/ 426)، المصباح المنير (1/ 91)، مواهب الجليل (1/ 276).
(2)
هو: قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ عَزِيز، أبو الخطاب السَّدُوسِيُّ، البصري، وُلد أكمه سنة 60 هـ، من الطبقة الثالثة، كان ثقة مأموناً حجة في الحديث، من علماء الناس بالقرآن والفقه، وكان من أحفظ أهل البصرة؛ لم يسمع شيئاً إلا حفظه، تُوفي بواسط سنة 118 هـ. يُنظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (7/ 171)، تهذيب التهذيب (8/ 351).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الجحر (1/ 23) برقم:(29)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الطهارة، كراهية البول في الجحر (1/ 33) برقم:(34) واللفظ له، وأحمد (34/ 372) برقم:(20775). قال الحاكم في (المستدرك)(1/ 297): «هذا حديث على شرط الشيخين» ، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (8/ 111):«رجال أحمد رجال الصحيح» .
(4)
يُنظر: مراقي الفلاح (ص: 27)، حاشية ابن عابدين (1/ 343)، مواهب الجليل (1/ 276)، حاشية الدسوقي (1/ 106)، الحاوي الكبير (1/ 156)، المجموع (2/ 85)، المغني (1/ 122)، المبدع (1/ 62).
(5)
(2/ 85).
الكراهة
(1)
.
الدليل الثاني: أنه لا يأمن أن يكون فيه حيوان يلسعه، أو يردُّ عليه بوله، فينجسه
(2)
.
الدليل الثالث: أنه قد يكون مسكناً للجن، فيتأذى بهم، أو يؤذيهم
(3)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أنه أدب من آداب قضاء الحاجة، وفيه إرشاد إلى صون النفس عما يؤذيها.
قال النووي رحمه الله في (المجموع): «وهي كراهة تنزيه، والله أعلم»
(4)
.
قال المنَاوِي رحمه الله في (فيض القدير): «والنهي للتنزيه»
(5)
.
والعلة: خوف أن تؤذيه ما فيها من هوامّ أو تردّ عليه بوله فتنجسه، أو خوف أذية مَنْ فيها من الجن.
قال ابن قدامة رحمه الله: «لأنه لا يأمن أن يكون فيه حيوان يلسعه، أو يكون مسكناً للجن، فيتأذى بهم»
(6)
.
الحكم على القرينة:
القرينة هنا قوية ومعتبرة؛ لمناسبة العلة للأدب والإرشاد إلى مصلحة النفس، ولعدم ما يعارضه.
(1)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 49).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 122)، المجموع (2/ 85).
(3)
يُنظر: المغني (1/ 122)، الحاوي الكبير (1/ 156).
(4)
(2/ 86).
(5)
(6/ 344).
(6)
المغني (1/ 122).
المبحث الرابع:
النهي عن البول في المُغتسل
المطلب الأول: حكم البول في المُغتسل:
دليل النهي:
عن عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ
(1)
، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ))
(2)
.
حكم المسألة:
أولاً: اتفق الفقهاء
(3)
على أنه لا يُكره البول في المُغتسل الذي له منفذ ينفذ فيه البول والماء؛ لأمنه من عود الرشاش إليه، فلا يجره إلى الوسوسة
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «لو كان المكان مُبَلطاً لا يستقر فيه البول، بل يذهب مع الماء -لم يُكره ذلك عند جمهور الفقهاء»
(5)
.
وقال ابن المنذر رحمه الله: «قال عطاء
(6)
: إذا كان له مخرج، فلا بأس به»
(7)
.
(1)
المُسْتَحَمُّ: المغتسل: هو الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، والحميم، وهو الماء الحار الذي يُغتسل به، ثم قيل للاغتسال بأي ماء كان: استحمام. يُنظر: معالم السنن (1/ 22)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 445)، لسان العرب (12/ 154).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب المواضع التي نُهي عن البول فيها (1/ 21) برقم:(27)، والترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في كراهية البول في المغتسل (1/ 32) برقم:(21)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الطهارة، الكراهية في البول في المستحم (1/ 34) برقم:(36) واللفظ له، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب كراهية البول في المغتسل (1/ 202) برقم:(304)، وأحمد (34/ 180) برقم:(20569)، قال الحاكم في (المستدرك) (1/ 296):«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد على شرطهما» ، وصححه ابن حبان (4/ 66) برقم:(1255).
(3)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 344)، حاشية الطحطاوي (ص: 54)، الذخيرة (1/ 203)، مغني المحتاج (1/ 159)، المغني (1/ 122)، الشرح الكبير (1/ 199).
(4)
يُنظر: المجموع (2/ 92)، حاشية الطحطاوي (ص: 54).
(5)
عون المعبود وحاشية ابن القيم (1/ 82).
(6)
هو: عطاء بن أبي رباح، واسم أبي رباح: أسلم القرشي، مولاهم، أبو محمد المكي، وُلد بالجَندَ (بلدة باليمن) سنة 27 هـ، تلقى العلم على يد ثُلة من الصحابة، منهم: عبد الله بن عباس حبر الأمة، وعبد الله بن عمر، وسمع من أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم، كان من سادات التابعين فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً، انتهت إليه الفتوى بمكة، كان أعلم الناس بالمناسك حتى كان يُنادى أيام الحج: لا يفتي أحد إلّا عطاء، تُوفي سنة 114 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (5/ 78)، تهذيب التهذيب (7/ 199).
(7)
الأوسط (1/ 332).
وقال الطحطاوي رحمه الله
(1)
: «
…
لو كان بحيث لا يعود منه رشاش أو كان فيه منفذ بحيث لا يثبت فيه شيء من البول، لم يُكره البول فيه»
(2)
.
ثانياً: اتفق الفقهاء
(3)
على كراهة البول في المغتسل إن لم يكن له منفذ.
قال ابن قدامة رحمه الله: «قال أحمد: إن صب عليه الماء، فجرى في البالوعة، فذهب -فلا بأس»
(4)
الأدلة:
الدليل الأول: عن عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ))
(5)
.
الدليل الثاني: عن حُمَيْدِ بن عبد الرحمن قال: لقيت رجلاً صَحِب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة رضي الله عنه أربع سنين قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلِهِ، أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، أَوِ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا))
(6)
.
وجه الاستدلال من الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في المستحم، وهو
(1)
هو: أحمد بن محمد بن إسماعيل الطّحطاوي، وربما قيل له: الطَّهْطَاوي، الحنفي، وُلد بطهطا بمصر وتعلم بالأزهر، كان مفتي الحنفية بالقاهرة، من مؤلفاته:«حاشية الدر المختار» ، «حاشية على شرح مراقي الفلاح» ، «كشف الرين عن بيان المسح على الجوربين» ، تُوفي بالقاهرة سنة 1231 هـ. يُنظر: حلية البشر (ص: 281)، الأعلام، للزركلي (1/ 245).
(2)
حاشية الطحطاوي (ص: 54).
(3)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 344)، حاشية الطحطاوي (ص: 54)، الذخيرة (1/ 203)، مواهب الجليل (1/ 276)، مغني المحتاج (1/ 159)، المغني (1/ 122)، الشرح الكبير (1/ 199).
(4)
الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 98).
(5)
سبق تخريجه ص: (105).
(6)
سبق تخريجه: ص (70).
محمول على الكراهة؛ لعلة كونه يفضي إلى الوسوسة
(1)
؛ لأن ذلك الموضع يصير نجساً، فيقع في قلبه وسوسة بأنه: هل أصابه منه رشاش أم لا
(2)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن النهي عن البول في المغتسل محمول على الكراهة بدليل: القرينة النصية وفيها التعليل بما لا يقتضي التحريم:
جاء في الحديث قوله: (فإن عامة الوسواس منه) أي أن: علة النهي إفضاء المنهي عنه إلى الوسوسة؛ لأنه لا يأمن الرشاش والتنجيس.
جاء في (نيل الأوطار): «رَبْطُ النهي بعلة إفضاء المنهي عنه إلى الوسوسة يصلح قرينة لصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة»
(3)
.
قال الخطابي رحمه الله: «إنما نهى عن ذلك إذا لم يكن المكان جَدداً صلباً، أو لم يكن مسلك ينفذ فيه البول، ويسيل فيه الماء، فيوهم المغتسل أنه أصابه من قطره ورشاشه، فيورثه الوسواس»
(4)
.
جاء في (شرح المصابيح): «لأنه يصير ذلك الموضع نجساً، فيصيبه منه رشاش»
(5)
.
الحكم على القرينة:
قرينة التعليل وردت في نص الحديث، فهي قرينة قوية؛ إذ القرائن النَّصِّيَّة من أقوى القرائن، والتعليل بخشية الإفضاء إلى الوسوسة معتبرة، وتفيد الكراهة لا التحريم، فالنهي محمول على الكراهة باتفاق الفقهاء.
(1)
نيل الأوطار (1/ 114).
(2)
يُنظر: حاشية الطحطاوي (ص: 54).
(3)
(1/ 114).
(4)
معالم السنن (1/ 22).
(5)
(1/ 259).
المبحث الخامس:
النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول
المطلب الأول: حكم استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا))
(1)
.
صورة المسألة:
قضاء الحاجة إما أن يكون في البنيان أو في الفضاء، فما حكم استقبال القبلة أو استدبارها عند التخلي فيهما؟
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء فيها على أربعة أقوال:
القول الأول: يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء دون البنيان.
وهو مذهب الجمهور: المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: يحرم الاستقبال والاستدبار فيهما مطلقاً.
وهو مذهب الحنفية
(5)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(6)
.
القول الثالث: يُكره الاستقبال والاستدبار فيهما.
وهو قول عند الحنفية
(7)
(8)
.
القول الرابع: أنه يحرم فيهما الاستقبال فقط دون الاستدبار:
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة (1/ 224) برقم:(265).
(2)
يُنظر: بداية المجتهد (1/ 95)، مواهب الجليل (1/ 279).
(3)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 151)، المجموع (2/ 78).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 120)، الإنصاف (1/ 203).
(5)
يُنظر: البناية (2/ 467)، حاشية ابن عابدين (1/ 341).
(6)
يُنظر: المحرر (1/ 8)، الفروع (1/ 125).
(7)
يُنظر: بدائع الصنائع (5/ 126)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 37).
(8)
ونسبه الشوكاني إلى الإمام أحمد في رواية عنه، ولم أقف عليه. يُنظر: نيل الأوطار (1/ 103).
وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله
(1)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(2)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا))
(3)
.
وجه الاستدلال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث عن استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة، والنهي المجرد عن القرينة يفيد التحريم، وخُص البنيان من العموم بما يأتي من حديث ابن عمر وعائشة جمعاً بين الأحاديث
(4)
.
الدليل الثاني: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ
(5)
فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا
(6)
، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّأْمَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ، وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن النهي في الحديث يدل على تحريمه في الفضاء دون البنيان؛ لقوله (إذا أتيتم الغائط) والغائط هو الموضع المطمئن من الأرض، وذلك لا يكون إلا في الفضاء
(8)
.
جاء في (المدونة): «قال مالك: إنما يعني بذلك فيافي الأرض، ولم يعنِ بذلك القرى
(1)
يُنظر: الاختيار لتعليل المختار (1/ 37)، عمدة القاري (2/ 278).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 120)، الفروع (1/ 126).
(3)
سبق تخريجه ص: (108).
(4)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 154)، المجموع (2/ 82).
(5)
الغَائِطُ: الغَوْطُ: عمق الأرض الأبعد، ومنه قيل للمطمئن من الأرض: غائط، ومنه قيل لموضع قضاء الحاجة: الغائط؛ لأن العادة أن الحاجة تُقضى في المنخفض من الأرض؛ حيث هو أستر له، ثم اتسع فيه حتى صار يُطلق على النجو نفسه. يُنظر: مقاييس اللغة (4/ 402)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 395).
(6)
(شرِّقوا أو غرِّبوا): محمول على محل يكون التشريق والتغريب فيه مخالفاً لاستقبال القبلة واستدبارها: كالمدينة وما في معناها من البلاد، ولا يدخل فيه ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 465)، نيل الأوطار (1/ 106).
(7)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب قبلة أهل المدينة وأهل الشأم (1/ 88) برقم:(394)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة (1/ 224) برقم:(264).
(8)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 154).
والمدائن»
(1)
.
الدليل الثالث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ))
(2)
، وفي رواية:((لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، لِحَاجَتِهِ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث نَصَّ على الجواز في البنيان، وهو خاص يُقدم على العام
(4)
.
نُوقش: بأن حديث ابن عمر رضي الله عنهما حكاية فِعل يحتمل الخصوصية والعذر، فيضعفه، فلا يقوى على رد العموم، ولأن القول أَوْلى
(5)
.
أُجيب: أن احتمال الخصوصية والعذر لا بد له من دليل، ولا دليل هنا، ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يُصار إلى ترك بعضها، بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها، وقد أمكن الجمع على ما ذُكر، فوجب المصير إليه
(6)
.
الدليل الرابع: عن جابر رضي الله عنه قال: ((نَهَى نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ، فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن فِعل الرسول صلى الله عليه وسلم محمول على أنه كان في المنازل والبنيان؛ لما
(1)
(1/ 117).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التبرز في البيوت (1/ 41) برقم:(148)، ومسلم كتاب الطهارة، باب الاستطابة (1/ 225) برقم:(266).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب من تبرز على لبنتين (1/ 41) برقم:(145)، ومسلم كتاب الطهارة، باب الاستطابة (1/ 225) برقم:(266).
(4)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 154)، التمهيد في أصول الفقه (2/ 150)، المغني (1/ 120).
(5)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 342).
(6)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 155).
(7)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك (1/ 11) برقم:(13)، والترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء من الرخصة في ذلك (1/ 15) برقم:(9) وقال: «حديث حسن غريب» ، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب الرخصة في ذلك في الكنيف وإباحته دون الصحاري (1/ 216) برقم:(325)، حسّن إسناده النووي في (المنهاج)(3/ 155)، وقال ابن الملقن في (البدر المنير) (2/ 308):«الحديث صحيح معمول به» .
فيهما من المشاهدة له، وهو خاص يُقدم على العام
(1)
.
نُوقش حديث ابن عمر وحديث جابر: بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصد بفعله الاستتار، ولا يمكن أن يكون تشريعاً للأمة وهو بهذا الخفاء
(2)
.
أُجيب عنه بجوابين
(3)
: الأول: أن الذي يستتر به صلى الله عليه وسلم يكون شرعاً لنا كالذي يُظهره؛ لأنه عليه السلام لا يفعل في نفسه ما لا يسوغ ولا هو من شريعته، فسواء فَعل النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاستتار به أم الإظهار فهو شرعٌ لنا إذا وقفنا عليه.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك مستتراً به، وقد فعله ظاهراً منتشراً، وذلك في حديث عائشة أنه عليه السلام أمر بأن تُستقبل بمقعدته القبلة.
الدليل الخامس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِفُرُوجِهِمُ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: أُرَاهُمْ قَدْ فَعَلُوهَا؟! اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي
(4)
الْقِبْلَةَ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث نص في محل الخلاف؛ لأنَّه في البنيان؛ بدلالة قوله (مقعدتي)، والمقعدة تكون في البنيان
(6)
، فكان ذلك منه رداً لما تُوهم، وبياناً لكون النهي عنه في الصحراء دون البيوت.
نُوقشت أحاديث ابن عمر وجابر وعائشة: بأنها دليل على نسخ النهي، فيجب تقديمه
(7)
.
أُجيب عنه: بأن قولهم أنه ناسخ خطأ؛ لأن النسخ لا يُصار إليه إلا إذا تعذر
(1)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 154)، المغني (1/ 120).
(2)
يُنظر: عيون الأدلة في مسائل الخلاف (1/ 346)، نيل الأوطار (1/ 110).
(3)
يُنظر: عيون الأدلة في مسائل الخلاف (1/ 346).
(4)
المَقْعَدَةُ -بفتح الميم-: وهى موضع القعود، ويطلق على موضع قضاء حاجة الإنسان. يُنظر: المجموع (2/ 78)، لسان العرب (3/ 357).
(5)
أخرجه ابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب الرخصة في ذلك في الكنيف وإباحته دون الصحاري (1/ 215) برقم:(324)، وأحمد (41/ 510) برقم:(25063)، حسَّن إسناده النووي في (المجموع)(2/ 78)، ونقل ابن قدامة في (المغني) (1/ 120) عن الإمام أحمد قوله:«أحسن ما رُوي في الرخصة حديث عائشة، وإن كان مرسلاً فإن مخرجه حسن» .
(6)
يُنظر: عيون الأدلة في مسائل الخلاف (1/ 343)، المجموع (2/ 82).
(7)
يُنظر: المغني (1/ 120).
الجمع، ولم يتعذر هنا
(1)
.
الدليل السادس: حديث مروان الأصفر
(2)
قال: ((رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟ قَالَ: بَلَى، إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ، فَلَا بَأْسَ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن هذا تفسير الصحابي لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم العام، وفيه جمع بين الأحاديث، فيتعين المصير إليه
(4)
.
نُوقش: أن هذا فهم من ابن عمر رضي الله عنهما؛ لاختصاص النهي بالبنيان، وليس بحكاية لفظ النهي، فلا يكون هذا الفهم حجة، ولا يصلح هذا القول للاستدلال به، وهو مُعارَض بفهم أبي أيوب رضي الله عنه للعموم، والنهي تكريم لجهة القبلة، وذلك لا يختلف بفضاء ولا بنيان
(5)
.
الدليل السابع وهو جواب المناقشة السابقة: أن الصحاري لا تخلو غالباً من مصلٍّ فيها، فيتأذى بكشف عورته إليها إن استقبل القبلة أو استدبرها، وهذا المعنى معدوم في البنيان؛ لأن الإنسان فيها مستتر بالجدار
(6)
، وأن تَجنُّب ذلك في البنيان فيه مشقة على الناس
(7)
.
أدلة القول الثاني:
(1)
يُنظر: المجموع (2/ 83).
(2)
هو: مروان الأصفر، أبو خلف البصري، قيل: اسم أبيه خَاقان وقيل: سالم، ثقة من الطبقة الرابعة، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. يُنظر: تقريب التهذيب (ص: 526)، إكمال تهذيب الكمال (11/ 138).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة (1/ 9) برقم:(11)، قال الحاكم في (المستدرك) (1/ 154):«هذا حديث صحيح على شرط البخاري؛ فقد احتج بالحسن بن ذكوان، ولم يخرجاه» . وقال الزَّيْلَعِيُّ في (نصب الراية)(2/ 108): «قال الحازمي: هو حديث حسن» ، صححه النووي في (المنهاج)(3/ 155).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 120)، المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 155).
(5)
يُنظر: نيل الأوطار (1/ 110).
(6)
يُنظر: عيون الأدلة في مسائل الخلاف (1/ 352)، الحاوي الكبير (1/ 154).
(7)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 154)، المجموع (2/ 83).
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً صريحاً عن استقبال القبلة واستدبارها، وهو عام فيتناول الفضاء والبنيان
(2)
، والأصل في النهي المجرد عن القرينة: التحريم.
نُوقش: بأنه قد ورد ما يخصصه بالجواز في البنيان
(3)
، وهو حديثي ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما، والخاص يُقدم على العام
(4)
.
الدليل الثاني: حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّأْمَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ، وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن النهي في الحديث للتحريم، وقد فهم الصحابي راوي الحديث من النهي العموم بالنسبة للفضاء والبنيان؛ فكان ينحرف عن القبلة في المرحاض ويستغفر الله أيضاً
(6)
.
نُوقش: بأن هذا فهم الصحابي واجتهاده، ولم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً، وقد خالفه غيره من الصحابة، فلا يلزم
(7)
.
الدليل الثالث: أن النهي لمعنى حرمة جهة القبلة وتعظيمها؛ فهي من أشرف الجهات، وهذا المعنى موجود في البنيان كوجوده في الصحاري، فوجب أن يستوي المنع فيهما، ولأنه لو كان الحائل كافياً لجاز في الصحراء لوجود الحائل من الجبال وغيرها
(8)
.
أدلة القول الثالث:
(1)
سبق تخريجه: ص (108).
(2)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 154)، عمدة القاري (2/ 277).
(3)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 154)، المغني (1/ 120).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 120).
(5)
سبق تخريجه: ص (109).
(6)
يُنظر: عيون الأدلة في مسائل الخلاف (1/ 339)، الحاوي الكبير (1/ 154).
(7)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 154)، المجموع (2/ 82).
(8)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 152)، بدائع الصنائع (5/ 126)، كشاف القناع (1/ 64).
استدلوا بأحاديث النهي (حديث أبي أيوب، وأبي هريرة رضي الله عنهما وبأحاديث الجواز (حديث ابن عمر، وجابر، وعائشة رضي الله عنهم.
وجه الاستدلال: قالوا: يُحمل النهي على الكراهة؛ بدلالة فعله صلى الله عليه وسلم الوارد في حديث ابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم، لأنها جاءت لبيان الجواز؛ فهي صارفة للنهي عن معناه الحقيقي وهو التحريم إلى الكراهة
(1)
.
أدلة القول الرابع: استدل القائلون بتحريم الاستقبال فيهما دون الاستدبار، بما يلي:
الدليل الأول: عن سلمان رضي الله عنه قال: ((قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ
(2)
، قال: فَقَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ،
…
الحديث))
(3)
.
وجه الاستدلال: أنه لما نص الحديث على الاستقبال عُلم إباحة الاستدبار
(4)
.
نُوقش: بأنه ليس في الحديث إلا النهي عن الاستقبال فقط، والاستدلال به على إباحة الاستدبار باطل؛ لأن النهي عن الاستدبار ورد في الأحاديث الصحيحة، وهو زيادة يتعين الأخذ بها
(5)
.
الدليل الثاني: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث دليلاً على جواز استدبار القبلة؛ لفعله صلى الله عليه وسلم.
نُوقش: بأنه ليس في الحديث إلا الاستدبار في العمران فقط، فلا يصح
(1)
يُنظر: نيل الأوطار (1/ 105 - 110).
(2)
الخِرَاءَةُ: بالكسر والمد: التخلي والقعود للحاجة.، ويراد به: أدب التخلي والقعود عند الحاجة. يُنظر: معالم السنن (1/ 11)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 17)، لسان العرب (1/ 64).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة (1/ 223) برقم:(262).
(4)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 153).
(5)
يُنظر: نيل الأوطار (1/ 104).
(6)
سبق تخريجه: ص (110).
الاستدلال به على جوازه في الفضاء أيضاً
(1)
.
الدليل الثالث: أن قضاء الحاجة في حالة الاستدبار لا يوازي فرجه القِبلة، وإنما يوازي الأرض بخلاف حالة الاستقبال
(2)
.
نُوقش: بأنه يُردُّ بالأحاديث الصحيحة المصرِّحة بالنهي عن الاستقبال والاستدبار جميعاً
(3)
.
سبب الخلاف:
اختلافهم في الأخبار الواردة بشأنها، وبناء بعضها على بعض
(4)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة في الفضاء دون البنيان.
سبب الترجيح:
أن هذا القول فيه الجمع بين الأحاديث المتعارضة، وإن أمكن الجمع فالمصير إليه واجب؛ وإعمال جميع الأدلة أولى من إهمال بعضها
(5)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل أصحاب القول الثالث النهي على الكراهة في الفضاء والبنيان، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة له عن التحريم:
قرينة نصية، وفيها فِعل النبي صلى الله عليه وسلم الدالُّ على الجواز:
فقد جاء في الأحاديث أنه مرة استقبل القبلة، وفي حديث آخر أنه استدبرها، فكأنه فعله لبيان الجواز، وأن النهي ليس للتحريم، والأحاديث التي نقلت فعله صلى الله عليه وسلم هي:
(1)
يُنظر: نيل الأوطار (1/ 107).
(2)
يُنظر: بدائع الصنائع (5/ 126).
(3)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 155).
(4)
بداية المجتهد (1/ 94)، المفهم (1/ 517).
(5)
موسوعة القواعد الفقهية (1/ 1/ 264).
- حديث ابن عمر رضي الله عنه ومشاهدته للرسول صلى الله عليه وسلم حال قضاء الحاجة مستدبر القبلة.
- حديث جابر رضي الله عنه ومشاهدته للرسول صلى الله عليه وسلم حال قضاء الحاجة مستقبل القبلة.
- حديث عائشة رضي الله عنها وحكاية أمره صلى الله عليه وسلم بتحويل مقعدته.
الحكم على القرينة:
الأصل أن القرينة النصية من أقوى القرائن، والذي يظهر في هذه المسألة أن هذه الأحاديث ليست قرائن صارفة للنهي عن التحريم -في الفضاء والبنيان- إلى الكراهة، وذلك أنها جاءت لتقرير حكم الجواز في البنيان كما في حديث عائشة، ويؤيد هذا المعنى حديثا ابن عمر وجابر. وأما أحاديث النهي الصحيحة: فباقية على ظاهرها وهو التحريم في الفضاء، والله أعلم.
المبحث السادس:
النهي عن استقبال بيت المقدس بغائط أو بول
المطلب الأول: حكم استقبال بيت المقدس
(1)
بغائط أو بول:
دليل النهي:
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ أَبِي مَعْقِلٍ الْأَسَدِيِّ رضي الله عنه
(2)
قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ
(3)
بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ))
(4)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في استقبال بيت المقدس عند التخلِّي، على قولين:
القول الأول: لا يُكره.
وهو مذهب المالكية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
(1)
بيت المقدس: هي مدينة القدس في فلسطين، والمراد الصخرة في بيت المقدس، كانت قبلة المسلمين ثم نسخ استقبالها بالأمر باستقبال الكعبة المشرفة، وكانت الصخرة مكشوفة ثم بُني عليها قُبة عظيمة. يُنظر: مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع (3/ 1296)، حاشية الدسوقي (1/ 109). قال ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) (2/ 348):«لا ريب أن الخلفاء الراشدين لم يبنوا هذه القبة، ولا كان الصحابة يعظمون الصخرة، ولا يتحرون الصلاة عندها، حتى ابن عمر رضي الله عنهما مع كونه كان يأتي من الحجاز إلى المسجد الأقصى، كان لا يأتي الصخرة؛ وذلك أنها كانت قبلة، ثم نسخت. وهي قبلة اليهود، فلم يبق في شريعتنا ما يوجب تخصيصها بحكم» .
(2)
هو: مَعْقِلُ بْنِ أَبِي مَعْقِل، ويُقال: معقل بن أبي الهيثم الأسدي، صحابيٌّ، مدنيٌّ، له من المصطفى صلى الله عليه وسلم حديثان، روى عنه: أبو سلمة، وأبو زيد مولاه، وأم معقل، وتُوفي في عهد معاوية. يُنظر: الاستيعاب (3/ 1432)، أسد الغابة (5/ 223).
(3)
قال الخطابي في (معالم السنن)(1/ 17): «أراد بالقبلتين: الكعبة وبيت المقدس» .
(4)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة (1/ 9) برقم:(10) وقال: «أبو زيد: هو مولى بني ثعلبة» ، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول (1/ 212) برقم:(319)، وأحمد (29/ 382) برقم:(17838)، قال الزيلعي في (نصب الراية) (2/ 103):«قال شيخنا الذهبي: وأبو زيد هذا لا يُدرى من هو» ، وضعفه الهيثمي في (مجمع الزوائد)(1/ 205)، وقال ابن حجر في (فتح الباري) (1/ 246):«حديث ضعيف؛ لأن فيه راوياً مجهول الحال» .
(5)
يُنظر: الذخيرة (1/ 205)، مواهب الجليل (1/ 281).
(6)
يُنظر: الإنصاف (1/ 202)، الإقناع (1/ 16)، شرح منتهى الإرادات (1/ 35).
القول الثاني: يُكره.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(3)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِداً عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، لِحَاجَتِهِ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن هذا الحديث ناسخ للنهي عن استقبال بيت المقدس عند التخلِّي؛ فحكاية فِعل النبي صلى الله عليه وسلم دليل على الجواز
(5)
.
«قال أحمد بن حنبل: حديث ابن عمر ناسخ للنهى عن استقبال بيت المقدس واستدباره بالغائط والبول»
(6)
.
الدليل الثاني: أن النهي عنه كان قبل نسخ القِبلة، وأما بعد النسخ: فإن بيت المقدس لا يُسمى قِبلة؛ فلا يتوجه إليه النهي
(7)
.
قال القرافي رحمه الله: «لا يُكره استقبال بيت المقدس؛ لأنه ليس قِبلة»
(8)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عَنْ مَعْقِلِ بْنِ أَبِي مَعْقِلٍ الْأَسَدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ))
(9)
.
وجه الاستدلال: أن النهي في الحديث بالنسبة لبيت المقدس جاء للتنزيه، فيُحمل
(1)
يُنظر: العناية شرح الهداية (1/ 420).
(2)
يُنظر: المجموع (2/ 80)، نهاية المحتاج (1/ 136).
(3)
يُنظر: الإنصاف (1/ 202)، كشاف القناع (1/ 65).
(4)
سبق تخريجه: ص (110).
(5)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (1/ 237).
(6)
نقله ابن بطال في (شرح صحيح البخاري)(1/ 237)، ويُنظر: الاستذكار (2/ 444)، عمدة القاري (2/ 282).
(7)
يُنظر: الإنصاف (1/ 202)، مواهب الجليل (1/ 281)، كشاف القناع (1/ 65).
(8)
الذخيرة (1/ 205).
(9)
سبق تخريجه ص: (117).
على الكراهة
(1)
.
نُوقش من وجهين:
الأول: أن الحديث ضعيف؛ لأن فيه راوياً مجهول الحال، والضعيف لا تقوم به حجة
(2)
. وعلى فرض الصحة، فإنه نُهي عن استقبال بيت المقدس حين كان قبلة ثم نهي عن استقبال الكعبة حين صارت قبلة فجمعهما الراوي
(3)
.
الثاني: على فرض الصحة، فإنه يحتمل أن المراد بالنهي أهل المدينة ومَن على سمتها فقط؛ لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبار الكعبة، فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس
(4)
.
وأجاب عنهما النووي رحمه الله بقوله: «هذان تأويلان مشهوران للأصحاب، ولكن في كل واحد منهما ضعف.
والظاهر المختار: أن النهي وقع في وقت واحد وأنه عام لكلتيهما في كل مكان ولكنه في الكعبة نهي تحريم في بعض الأحوال على ما سبق وفي بيت المقدس نهي تنزيه ولا يمتنع جمعهما في النهي وإن اختلف معناه، وسبب النهي عن بيت المقدس كونه كان قبلة فبقيت له حرمة الكعبة»
(5)
.
الدليل الثاني: الإجماع على عدم التحريم
(6)
.
اُعترض عليه: بأن دعوى الإجماع فيها نظر؛ لوقوع المخالفة من بعض الفقهاء بالقول بالتحريم
(7)
.
الدليل الثالث: أن حرمة تعظيمه باقية؛ لكونه كان قِبلةً لنا
(8)
.
(1)
يُنظر: المجموع (2/ 80).
(2)
يُنظر: تخريج الحديث، ويُنظر: المفهم (1/ 522).
(3)
يُنظر: المجموع (2/ 80)، فيض القدير (6/ 343).
(4)
يُنظر: معالم السنن (1/ 17)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 246).
(5)
المجموع (2/ 81).
(6)
نقل الإجماع النووي في (المجموع)(2/ 81)، ولم أجده عند غيره.
(7)
نُسب القول بالتحريم إلى ابن سيرين والحسن وإبراهيم النخعي. يُنظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 452). وردّ ابنُ حجر والعينيُّ دعوى الإجماع بمخالفة من ذُكر، ونسبا نقل الإجماع إلى الخطابي. يُراجع: فتح الباري (1/ 246)، عمدة القاري (2/ 279)، ولم أجد عبارة الإجماع عند الخطابي عند ذِكره المسألة في (معالم السنن)(1/ 17).
(8)
يُنظر: معالم السنن (1/ 17)، المجموع (2/ 80)، المبدع (1/ 65).
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بعدم كراهة استقبال بيت المقدس عند التخلِّي.
أسباب الترجيح:
1 -
أن النهي متوجه إلى القِبلة، وبيت المقدس ليست قِبلة بعد النسخ.
2 -
ضعف دليل النهي، وورود المناقشة عليه.
3 -
أن دعوى الإجماع منقوض.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر أن أصحاب القول الثاني حملوا النهي على الكراهة؛ بدليل القرائن التالية:
القرينة الأولى: الإجماع.
قال النووي رحمه الله: «إن قيل: لم حملتموه في بيت المقدس على التنزيه؟ قلنا: للإجماع، فلا نعلم مَنْ يُعتد به حرّمه، والله أعلم»
(1)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
قال النووي: «
…
وفي بيت المقدس نهي تنزيه»
(2)
.
وجاء في (بذل المجهود): «وهو نهي تنزيه لا تحريم اتفاقًا»
(3)
.
والعلة: تعظيم حُرمة بيت المقدس؛ إذ كان قِبلةً للمسلمين مرةً.
الحكم على القرينة:
قرينة الإجماع من أقوى القرائن المعتبرة، لكن دعوى الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس عند التخلِّي، دعوى فيها نظر؛ لوجود المخالف، فلا تقوم مقام الصارف المعتبر.
وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد معتبرة، تصرف النهي من التحريم إلى
(1)
المجموع (2/ 81).
(2)
المجموع (2/ 81).
(3)
في حل سنن أبي داود (1/ 199).
الكراهة، لكن ضَعْف دليل النهي أضعفَ القول بالكراهة، ولأنها كانت قبلةً، ثم نسخت، فلم يبق في الشريعة مايوجب تخصيصها بحكم. وبضعف القرائن وعدم اعتبارها يقوى القول بعدم الكراهة؛ لثبوت الجواز بدليل صحيح ثابت دال على استقبال النبي صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس عند قضاء الحاجة، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنه، والله أعلم.
المبحث السابع:
النهي عن الاستنجاء باليمين
المطلب الأول: حكم الاستنجاء
(1)
باليمين:
دليل النهي:
عن سلمان رضي الله عنه قال: ((قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ،
…
الحديث))
(2)
.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ))
(4)
.
حكم المسألة:
أولاً: أجمع العلماء على أن الاستنجاء باليمين منهي عنه
(5)
؛ للأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عنه.
ثانيا: اتفق الفقهاء
(6)
على كراهة الاستنجاء باليمين؛ لدلالة حديثي سلمان وأبي قتادة رضي الله عنهما المتقدمين، فالنهي محمول على الكراهة؛ لوروده في باب الأدب والإرشاد.
(1)
الاسْتِنْجَاءُ: أصله من النجوة وهو ارتفاع من الأرض، وكان الرجل إذا أراد قضاء حاجته تستر بنجوة، ثم سُمي الحدث نجواً، والاستنجاء هو طلب طهارة القُبُل والدُّبُر من النجو، وهو ما يخرج من البطن. يُنظر: غريب الحديث، لابن قتيبة (1/ 160)، الصحاح (6/ 2502)، بدائع الصنائع (1/ 18).
(2)
سبق تخريجه: ص (114).
(3)
هو: الحَارِثُ بن رِبْعِي بن بَلْدَمة بن خُنَاس بن سِنَان بن عُبَيْد بن عَدِي الأنصاري السلمي، أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختُلف في شهوده بدراً، واتفقوا على أنه شهد أحداً وما بعدها من المشاهد، واختُلف في وقت وفاته، والأكثر على أنه مات سنة 54 هـ. ينظر: الاستيعاب (4/ 1732)، تهذيب التهذيب (12/ 204).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا يمسك ذَكَره بيمينه إذا بال (1/ 42) برقم:(154)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن الاستنجاء باليمين (1/ 225) برقم:(267).
(5)
نقله النووي في (المنهاج)(3/ 156)، وعنه الشوكاني في (نيل الأوطار)(1/ 123).
(6)
يُنظر: العناية شرح الهداية (1/ 216)، الذخيرة (1/ 210)، مواهب الجليل (1/ 290)، الحاوي الكبير (1/ 164)، المجموع (2/ 108)، المغني (1/ 114)، الإنصاف (1/ 208).
قال الترمذي رحمه الله: «العمل على هذا عند أهل العلم: كرهوا الاستنجاء باليمين»
(1)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم، القرائن التالية:
القرينة الأولى: المقصد من النهي.
ذلك أن الحكمة من النهي عن الاستنجاء باليمين: إكرام اليمين وتشريفها وصيانتها عن كل قذر.
وأكثر العلماء متفقون على هذا المعنى: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى))
(2)
.
قال النووي رحمه الله: «إن في النهي عن الاستنجاء باليمين تنبيهاً على إكرامها وصيانتها عن الأقذار»
(3)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
قال ابن بطال رحمه الله
(4)
: «أما الاستنجاء باليمين: فمذهب مالك، وأكثر الفقهاء أن مَنْ فعل ذلك فبئس ما فعل، ولا شيء عليه .... لأن النهى عن الاستنجاء باليمين من باب الأدب،
…
فينبغي التأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الصحابة، وتنزيه اليمنى عن استعمالها في الأقذار ومواضعها»
(5)
.
(1)
سنن الترمذي (1/ 23).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب كراهية مس الذَّكَر باليمين في الاستبراء (1/ 26) برقم:(33)، وأحمد (43/ 317) برقم:(26283)، قال النووي في (رياض الصالحين) (ص: 242): «حديث صحيح: رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح» ، وقال ابن الملقن في (البدر المنير) (2/ 371):«قال الدوري: قال ابن معين: لم يسمع إبراهيم من عائشة، ومراسيله صحيحة» ، وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (1/ 322):«له شاهد من حديث حفصة رواه أبو داود وأحمد وابن حبان والحاكم» .
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 156).
(4)
هو: علي بن خَلف بن بطّال البكري القرطبي، ثم البلنسي، أبو الحسن ويعرف بابن اللّجام، كان من كبار المالكية، من أهل العلم والمعرفة، عُني بالحديث العناية التامة، له مؤلف «شرح البخاري» في عدة أسفار، تُوفي سنة 449 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (13/ 303)، الديباج المذهب (2/ 105)، شذرات الذهب (5/ 214).
(5)
شرح صحيح البخاري (1/ 244)، ويُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 156).
وقال النووي رحمه الله: «الجماهير على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم»
(1)
.
(2)
.
الحكم على القرينة:
قرينةُ ورود النهي في باب الأدب والإرشاد وفي معناها قرينةُ المقصد من النهي، قرائن معتبرة باتفاق الفقهاء، صرفت النهي عن مقتضاه -وهو التحريم- إلى الكراهة؛ لمناسبة معنى التكريم لليمين للآداب، والله أعلم.
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 156).
(2)
معالم السنن (1/ 11).
المبحث الثامن:
النهي عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار
المطلب الأول: حكم الاستجمار
(1)
بأقل من ثلاثة أحجار:
دليل النهي:
عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قال: ((قيل له: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ،
…
الحديث))
(2)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، على قولين:
القول الأول: يحرم الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، وإن أنقى
(3)
.
وهو مذهب الشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
القول الثاني: يستحب الاستجمار بثلاثة أحجار، ويجوز بأقل من ذلك إن أنقى.
وهو مذهب الحنفية
(6)
، والمالكية
(7)
.
(1)
الاسْتِجْمَارُ: أي التمسح بالجمار، وهي الأحجار الصغار؛ فالاستجمار: هو استعمال الحجارة الصغار في إزالة ما على المحل من الأذى. يُنظر: الصحاح (2/ 617)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 292)، حاشية العدوي (1/ 172).
(2)
سبق تخريجه: ص (114).
(3)
الإنْقَاءُ: إزالة عين النجاسة وبلتها، بحيث يخرج الحجر نقياً وليس عليه أثر إلا شيئاً يسيراً، والنَقاءُ ممدودٌ: النظافةُ. يُنظر: الصحاح (6/ 2514)، المغني (1/ 113).
(4)
يُنظر: الأم (1/ 37)، الحاوي الكبير (1/ 161)، المجموع (2/ 103).
(5)
يُنظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 100)، المغني (1/ 113)، شرح الزركشي (1/ 217).
(6)
يُنظر: النهر الفائق (1/ 152)، حاشية ابن عابدين (1/ 337).
(7)
يُنظر: التاج والإكليل (1/ 389)، مواهب الجليل (1/ 290).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قال: ((قيل له: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ،
…
الحديث))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً صريحاً عن الاقتصار على أقل من ثلاثة، والنهي يقتضي التحريم، والنص على العدد دليل الاشتراط
(2)
.
نُوقش: بأن المقصود هو الإنقاء، وذكر العدد للاحتياط وخرج مخرج العادة؛ لأن الغالب حصول الإنقاء بها
(3)
.
وأُجيب: بأنه لو كان القصد الإنقاء فحسب لم يكن لاشتراط عدد الثلاث معنى، ولا في ترك الاقتصار على ما دونها فائدة؛ إذ كان معلوماً أن الإنقاء قد يقع بالمسحة الواحدة وبالمسحتين، فلمّا اشترط العدد لفظاً وكان الإنقاء من معقول الخبر ضمناً، دل على أنه إيجاب للأمرين معاً
(4)
.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا، وَلَا يَسْتَطِبْ
(5)
بِيَمِينِهِ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ،
…
الحديث))
(6)
.
(1)
سبق تخريجه: ص (114).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 112)، المجموع (2/ 104).
(3)
يُنظر: البحر الرائق (1/ 253).
(4)
يُنظر: معالم السنن (1/ 12).
(5)
لا يَسْتَطِبُّ: أي: لا يستنجي، وسُمى الاستنجاء استطابة؛ لما فيه من إزالة النجاسة وتطهير موضعها من البدن، يُقال: استطاب الرجل إذا استنجى فهو مستطيب، والاستطابة والاستنجاء والاستجمار أسماء لمعنى واحد. يُنظر: معالم السنن (1/ 14)، الصحاح (1/ 173)، الاستذكار (1/ 182). وتقدم حكم الاستنجاء باليمين في المبحث السابق.
(6)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة (1/ 8) برقم:(8)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الطهارة، النهي عن الاستطابة بالروث (1/ 38) برقم:(40)، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة (1/ 208) برقم:(313)، وأحمد (12/ 372) برقم:(7409)، صححه ابن حبان (4/ 288) برقم:(1440)، قال ابن الملقن في (البدر المنير) (2/ 298) بعد ذكر أسانيد الحديث: «أسانيده كلها صحيحة، وأصله في صحيح مسلم
…
قال الشافعي في القديم: هذا حديث ثابت».
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بثلاثة أحجار، والأمر يقتضي الوجوب
(1)
.
نُوقش: بأن الأمر يُحمل على الندب لا الايجاب؛ بدلالة نفي الحرج كما سيأتي عند ذكر أدلة القول الثاني.
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إذا ذهبَ أحدُكُم إلى الغائِطِ فليَذهَبْ معه بثلاثةِ أحجارٍ يَستَطيبُ بهنَّ، فإنَّها تُجزئُ عنه))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث أمراً بثلاثة أحجار، والأمر يقتضي الوجوب، ودل على أن ثلاثة أحجار تجزي من الاستنجاء، ولا يجزي بأقل من ذلك، والإجزاء إنما يُستعمل في الواجب
(3)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً
(4)
فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ
(5)
(6)
.
وجه الاستدلال: أن إلقاء النبي صلى الله عليه وسلم للروثة وأخْذه الحجرين، دل على أن الاستجمار بهما يجزئ؛ لأنه لو كان لا يجزئ الاستجمار بما دون الثلاث لما اكتفى
(1)
يُنظر: المغني (1/ 112).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة (1/ 30) برقم:(40)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الطهارة، أبواب الفطرة، الاجتزاء في الاستطابة بثلاثة أحجار دون غيرها (1/ 41) برقم:(44)، وأحمد (41/ 288) برقم:(24771)، قال الزيلعي في (نصب الراية) (1/ 215):«قال الدارقطني: إسناده صحيح» ، وحسّنه ابن الملقن في (البدر المنير)(2/ 347).
(3)
يُنظر: المغني (1/ 112)، الأوسط (1/ 349).
(4)
الرَوْثَةُ: واحدة الرَوْثِ والأَرواثِ، والروث: رجيع ذوات الحافر. يُنظر: الصحاح (3/ 1217)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 271).
(5)
رِكْس: الركس -بالكسر- هو النجس والرجس وكل مستقذر. يُنظر: الصحاح (3/ 936)، المصباح المنير (1/ 237)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (1674).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالحجارة (1/ 43) برقم:(156).
بالحجرين، ولطلب ثالثاً، ففي تركه ذلك دليل على اكتفائه بالحجرين، وهذا دليل على أن الثلاث للاستحباب
(1)
.
نُوقش: أنه مع الاحتمال لا يتم الاستدلال؛ فإن قوله (فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ) ليس فيه دليل على أنه اقتصر عليهما؛ لجواز أن يكون أخذ ثالثاً مكان الروثة، فيكون قد استوفاها عدداً أو اكتفى بطلبه الأول، ويدل عليه حديث سلمان، وهو نص في عدم الاقتصار على دون الثلاثة
(2)
.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ
…
الحديث))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن اسم الوتر يقع على المرة، فإذا أنقى بحجر واحد أجزأه، وقوله:(لا حرج) قرينة تدل على نفي الوجوب والعدد، فدل أن الأمر للندب
(4)
.
نُوقش: أن الوتر في الحديث يُخصَّص عمومه بأحاديث الأمر بثلاثة أحجار، فيكون المراد بالوتر ما زاد على الثلاثة جمعاً بين الأحاديث
(5)
، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ ثَلَاثاً))
(6)
، والأحاديث تفسر بعضها بعضاً.
الدليل الثالث: القياس على الماء؛ لأن الماء إذا أنقى كفى، ولا يُشترط فيه
(1)
يُنظر: شرح معاني الآثار (1/ 122).
(2)
يُنظر: أعلام الحديث (1/ 249)، نصب الراية (1/ 217).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الاستتار في الخلاء (1/ 26) برقم:(35) مطولاً، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الطهارة، باب الأمر بالاستنثار (1/ 66) برقم:(88) مختصراً، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب الارتياد للغائط والبول (1/ 222) برقم:(337)، وأحمد (14/ 432) برقم:(8838)، صححه ابن حبان (4/ 257) برقم:(1410)، وصححه النووي في (المنهاج)(3/ 126)، وذكر ابن الملقن في (البدر المنير)(2/ 301 - 302) اختلاف الحفاظ في تصحيح هذا الحديث وتضعيفه من رواية أبي داود، بحسب توثيق بعض الأئمة لأبي سعد الخير وجهالة بعضهم إياه، وأورد أقوال مَنْ ضعفه، ثم قال:«والحق أنه حديث صحيح لا سيما على قول أبي داود أن أبا سعيد صحابي» ، وقال العيني في (عمدة القاري) (2/ 300):«الحديث صحيح، ورجاله ثقات» .
(4)
العناية شرح الهداية (1/ 213)، حاشية ابن عابدين (1/ 337).
(5)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 161)، المجموع (2/ 105).
(6)
أخرجه أحمد (23/ 431) برقم: (15296)، صححه ابن خزيمة (1/ 82) برقم:(76)، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (1/ 211):«رجاله ثقات» .
العدد
(1)
.
نُوقش: بأنه ليس كالماء؛ لأن الماء لما اعتُبرت فيه إزالة الأثر لم يفتقر إلى العدد، والأحجار لما لم يُعتبر فيها إزالة الأثر افتقرت إلى العدد
(2)
.
سبب الخلاف:
«سبب اختلاف العلماء هو تعارض مفهوم إزالة النجاسة مع ظاهر اللفظ في الأحاديث التي ذُكر فيها العدد، وذلك أن مَنْ كان المفهوم عنده من الأمر بإزالة النجاسة إزالة عينها -أي: الإنقاء- لم يشترط العدد أصلاً، وجعل العدد الوارد من ذلك في الاستجمار في حديث سلمان الثابت الذي فيه الأمر ألا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار على سبيل الاستحباب؛ حتى يجمع بين المفهوم من الشرع والمسموع من هذه الأحاديث.
وأما مَنْ صار إلى ظواهر هذه الآثار واستثناها من المفهوم: فاقتصر بالعدد على هذه المحال التي ورد العدد فيها»
(3)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم الاستجمار بما دون ثلاثة أحجار، وإن أنقى.
قال ابن المنذر رحمه الله: «دلت الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن ثلاثة أحجار تجزي من الاستنجاء، وبذلك قال كل مَنْ نحفظ عنه من أهل العلم، إذا أنقى ودل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاستنجاء لا يجزي بأقل من ثلاثة أحجار»
(4)
.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة الأدلة وصراحتها في الدلالة على المنع من الاقتصار على دون الثلاث.
2 -
أن التعيين بالعدد ثبت قولاً وفعلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 -
عدم المعارِض القوي الدلالة.
(1)
يُنظر: معالم السنن (1/ 12)، الحاوي الكبير (1/ 162).
(2)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 162).
(3)
بداية المجتهد (1/ 93) بتصرف يسير.
(4)
الأوسط (1/ 349)
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
أصحاب القول الثاني حملوا الأمر الوارد في المسألة على الاستحباب، والنهي على تأكيد الاستحباب؛ بدليل القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص بعدم الحرج في ترك المأمور به.
وذلك في قوله: (ومن لا فلا حرج)، فكانت قرينة على أن الأمر ليس للوجوب.
القرينة الثانية: فِعل النبي صلى الله عليه وسلم الدالُّ على جواز الاقتصار على ما دون الثلاث.
وهو ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
جاء في (البحر الرائق): «يُحمل على الاستحباب بدليل: أنه لما أتى له عليه السلام بحجرين وروثة ألقى الروثة، واقتصر على الحجرين»
(1)
.
الحكم على القرينة:
قرينة رفع الحرج عند ترك الامتثال لمقتضى الأمر أو النهي، قرينة معتبرة صارفة؛ لدلالتها على أن الأمر ليس للوجوب والنهي ليس للتحريم، لكن الفقهاء اختلفوا في المراد بالأمر بالإيتار في الحديث: هل يراد به على ما زاد عن الثلاث أو يراد به الإيتار على العموم فيدخل فيه الواحد فهو وتر حقيقة، فالذي يظهر أن هذا الخلاف يُضعِف هذه القرينة.
وفِعل النبي صلى الله عليه وسلم قرينة نصية، وتكون معتبرة لصرف النهي عن مقتضاه إن ثبتت دلالتها، والذي يظهر أنها مجرد احتمال يقابله احتمالات أخرى، وبسبب الاحتمال تضعف هذه القرينة كذلك.
وعليه: فتبقى دلالة النهي على مقتضاه وهو تحريم الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، ويؤكد التحريم: النص على الثلاث في أحاديث عدة، والله أعلم.
(1)
البحر الرائق (1/ 253).
المبحث التاسع:
النهي عن الاستجمار برَوْث أو عَظْم
المطلب الأول: حكم الاستجمار برَوْث أو عَظم:
دليل النهي:
عن سلمان رضي الله عنه قال: ((قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ، قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ
(1)
أَوْ بِعَظْمٍ))
(2)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم الاستجمار بالرَّوْث والعَظم، على قولين:
القول الأول: يحرم.
وهو قول عند المالكية
(3)
، ومذهب الشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
القول الثاني: يُكره.
وهو مذهب الحنفية
(6)
، والمذهب عند المالكية
(7)
.
(1)
الرَّجِيعُ: العذرة والروث، سُمي رجيعاً؛ لأنه رجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعاماً أو علفاً. يُنظر: الصحاح (3/ 1217)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 203).
(2)
سبق تخريجه: ص (114).
(3)
يُنظر: عيون المسائل، للقاضي/ عبد الوهاب المالكي (ص: 73)، الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 160).
(4)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 174)، المجموع (2/ 116).
(5)
يُنظر: المغني (1/ 116)، المبدع (1/ 71).
(6)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 18)، البناية (1/ 759).
(7)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 55)، حاشية العدوي (1/ 176).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا، وَلَا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَيَنْهَى عَنِ الرَّوْثِ
(1)
وَالرِّمَّةِ
(2)
(3)
.
الدليل الثاني: حديث سلمان رضي الله عنه المتقدم.
الدليل الثالث: حديث جابر رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَمَسَّحَ بِعَظْمٍ أَوْ بِبَعْرٍ
(4)
(5)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر النهي عن الاستنجاء بالرَّوْث والعَظم في الأحاديث يدل على أنه لا يجوز الاستنجاء بها
(6)
؛ لأن الأصل في النهي المجرد عن القرينة التحريم، ولأنهما لا يطهران كما نص عليه صلى الله عليه وسلم بقوله:((إِنَّهُمَا لَا تُطَهِّرَانِ))
(7)
.
الدليل الرابع: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ، وَلَا بِالْعِظَامِ؛ فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ))
(8)
.
الدليل الخامس: حديث ابن مسعود الآخر: قال: ((أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ، فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً،
(1)
الرَّوْثُ: رجيع ذوات الحافر. يُنظر: الصحاح (3/ 1217)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 271).
(2)
الرِّمَّةُ: العظام البالية، ويُقال: إنها سميت رمة؛ لأن الإبل ترمها، أي: تأكلها. يُنظر: معالم السنن (1/ 15)، مقاييس اللغة (2/ 379).
(3)
سبق تخريجه: ص (126).
(4)
والبَعْرُ: هو الرجيع من كل ذي ظِلف وخف. يُنظر: المصباح المنير (1/ 53)، القاموس المحيط (ص: 352).
(5)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة (1/ 224) برقم:(263).
(6)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 256)، عمدة القاري (2/ 301).
(7)
أخرجه الدارقطني، كتاب الطهارة، باب الاستنجاء (1/ 88) برقم:(152)، وقال:«إسناده صحيح» ، وحسّن إسناده ابن حجر في (الدراية في تخريج أحاديث الهداية)(1/ 97).
(8)
أخرجه مسلم مطولاً في كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة فِي الصبح والقراءة على الجن (1/ 332) برقم:(450)، واللفظ للترمذي، أبواب الطهارة، باب كراهية ما يستنجى به (1/ 29) برقم:(18).
فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالروْث والعَظم، والنهي يقتضي التحريم، وبيّن في الحديث الآخر أن علة التحريم كونها طعام الجن وعلفاً لدوابهم، فلا يجوز إفساده عليهم، وللروْث علة أخرى وهي النجاسة، والنجاسة لا تُزال بمثلها
(2)
.
الدليل السادس: عن رُوَيْفِع بن ثابت
(3)
رضي الله عنه قال: قال لي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَا رُوَيْفِعُ، لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ بَعْدِي، فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ
(4)
، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَراً
(5)
، أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ -فَإِنَّ مُحَمَّداً مِنْهُ بَرِيءٌ))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن الإعلام ببراءته صلى الله عليه وسلم ممن يفعل هذه الأمور، فيه وعيد شديد ومبالغة في الزجر والنهي عنها، وذلك يفيد التحريم.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بالكراهة بأدلة القائلين بالتحريم: كحديث سلمان وأبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهم. والاستدلال بها من وجهين:
الوجه الأول: أن القصد من الاستجمار الإنقاء، والروْث والعَظم يجففان
(1)
سبق تخريجه: ص (127).
(2)
يُنظر: معالم السنن (1/ 27)، المنهاج شرح صحيح مسلم (3/ 157)، نيل الأوطار (1/ 126).
(3)
هو: رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ بن السكن بن عدي بن حارثة الأنصاري المدني، صحابي سكن مصر، أمّره معاوية على طرابلس مدينة بالمغرب، فغزا منها إفريقية سنة 47 هـ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه: بسر بن عبيد الله الحضرمي، وشِيَيْم ابن بَيْتَانَ، وحَنش الصنعاني، وأبو الخير مرفد وغيرهم، تُوفي ببرقة وهو أمير عليها سنة 56 هـ. يُنظر: أسد الغابة (2/ 298)، تهذيب التهذيب (3/ 299).
(4)
عقد اللحية: قيل: هو ما كانوا يفعلونه في الحروب في الجاهلية يعقدون لحاهم، وذلك من زي الأعاجم، يفتلونها ويعقدونها، وقيل: معناه: معالجة الشعر؛ ليتعقد ويتجعد، وذلك من فِعل أهل التوضيع والتأنيث. معالم السنن (1/ 27)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 270).
(5)
تقلد وتراً: قيل: هي العوذ التي يعلقونها عليه والتمائم التي يشدونها بتلك الأوتار، وقيل: الأجراس التي يعلقونها بها. معالم السنن (1/ 27)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 149).
(6)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب ما ينهى عنه أن يستنجى به (1/ 28) برقم:(36)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الزينة، عقد اللحية (/ 135) برقم:(5067)، وأحمد (28/ 210) برقم:(17000)، جوَّد إسناده النووي في (المجموع)(2/ 116) وابن الملقن في (البدر المنير)(2/ 352)، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(2/ 1310).
النجاسة وينقيان المحل كالحجر، فأجزأه؛ ولذا يُحمل النهي على الكراهة
(1)
.
نُوقش: بأن الروْثة تزيد في نجاسة المكان والعظم لا يُنقى لملوسته، ومَن استجمر بشيء نجس أَوْرَث المحل نجاسة، فكيف يكون منقياً؟
(2)
.
الوجه الثاني: أن العلة الواردة في الحديث تفيد الكراهة، فيُكره بالروْث؛ لما فيه من: استعمال النجس، وإفساد علف دواب الجن، ويُكره بالعظم لما فيه من إفساد زادهم، فكان النهي عن الاستنجاء به لمعنى في غيره لا في عينه، فلا يُمنع الاعتداد به
(3)
.
نُوقش: أنه يُرد بقوله: (لَا تُطَهِّرَانِ)، فلكونهما لا يطهران لا يُعتد بهما، وأحاديث النهي المستفيضة تفيد التحريم
(4)
.
سبب الخلاف: اختلافهم في علة النهي: هل هو لمعنى في المنهي عنه أو لأجل غيرهما؟
(5)
فمن ذهب إلى الأول مع الثاني قال بالتحريم، ومن ذهب إلى الثاني قال بالكراهة.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم الاستنجاء بالروْث والعَظم.
أسباب الترجيح:
1 -
تضافر الأدلة وقوتها وصراحتها في الدلالة على التحريم، وتأييدها بالوعيد بالبراءة من الفاعل.
2 -
أن الشريعة جاءت بمنع الإيذاء والإفساد، والاستجمار بالروْث والعَظم فيه إيذاء للجن وإفساد طعامهم وعلف دوابهم.
3 -
عدم القرينة الصارفة المعتبرة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
(1)
يُنظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (1/ 355)، المغني (1/ 116).
(2)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 71)، شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 159).
(3)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 18).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 117)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 256).
(5)
يُنظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (1/ 355)، المغني (1/ 117).
ذهب أصحاب القول الثاني إلى أن النهي يُحمل على الكراهة بدليل القرينة الصارفة: ورود النص بالتعليل بما لا يقتضي التحريم.
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العلة بأنها زاد الجن، وهذه العلة لا تفيد التحريم؛ حيث إنها ليست لمعنى في المنهي، وإنما لمعنى مصلحة الغير، ولأنه يحصل الإنقاء باستعمالها وإن كان منهياً عنه.
جاء في (حاشية ابن عابدين) بعد ذكره لعلة النهي: «لكن الظاهر أن هذا لا يفيد التحريم»
(1)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذه القرينة غير معتبرة لحمل النهي على الكراهة، بل دلالة هذه العلة على التحريم أقوى؛ ذلك أن استعمال الروْث والعَظم في الاستنجاء فيه إفساد لزاد الجن، وذلك غير جائز، والتعليل بأنه يحصل الإنقاء باستعمالها غير صحيح؛ بدلالة النص:(لا تطهران)، ولأن العظم لِلُزُوجتِه لا يزيل الأذى إزالة تامة، والروْث نجس، والنجس يزيد النجاسة ولا يزيلها.
فالقرينة ضعيفة، ولا تقوى على معارضة القول بالتحريم؛ لتضافر الأدلة وقوتها، مع وجود ما يعضدها من الوعيد لفاعل المنهي عنه، والله أعلم.
(1)
(1/ 339).
المبحث العاشر:
النهي عن دخول المرأة إلى الحمامات
المطلب الأول: حكم دخول المرأة إلى الحمامات
(1)
:
دليل النهي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الْحَمَّامُ حَرَامٌ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي))
(2)
.
صورة المسألة:
هل يجوز للمرأة دخول الحمامات العامة لعذر أو لغير عذر؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الاتفاق:
اتفق الفقهاء
(3)
على إباحة دخول المرأة الحمام للعذر، كمرض أونفاس.
قال ابن تيمية رحمه الله في كلامه عن مسألة دخول الحمام: «إن الأمور المحرمة إنما يُباح منها ما تدعو إليه الحاجة؛ ولهذا حُرمت على النساء إلا لحاجة؛ لأن المرأة كلها عورة، ولا يحل لها أن تضع ثيابها في غير بيت زوجها،
…
والحاجة التي تبيحها مع قيام الحاظر: المرض والنفاس؛ فإن الحمام يذهب الدرن وينفع البدن، وكذلك الحاجة إلى الغسل من جنابة أو حيض أو غيره مع تعذره في المنزل وخشية التضرر به لبرد أو غيره»
(4)
.
الأدلة:
الدليل الأول: استدل الفقهاء على استثناء حالة العذر بحديث عبد الله بن
(1)
الحَمَّامُ: مذكر مشتق من الحميم وهو الماء الحار، والحمام هو بيت الماء، المعد للحموم فيه بالماء الساخن؛ لتنظيف البدن والتداوي. يُنظر: الصحاح (5/ 1907)، مختار الصحاح (ص: 82)، المنهاج شرح صحيح مسلم (12/ 146)، والمراد في المسألة: الحمامات العامة، وليست حمامات البيوت.
(2)
أخرجه الحاكم، كتاب الأدب، الحمام حرام على نساء هذه الأمة (4/ 322) برقم:(7784) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» ، قال الألباني بعد التحقيق في إسناد الحديث:«بهذا التحقيق نخلص إلى أن إسناد الحديث قوي، وأن مَنْ صححه من الحفاظ المتقدمين ما أبعد النُّجعة، لا سيما وله شواهد تؤيد معناه» . سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 1296).
(3)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (6/ 52)، البيان والتحصيل (18/ 549)، المجموع (2/ 205)، المغني (1/ 170).
(4)
شرح العمدة -كتاب الطهارة (ص: 406).
عمرو رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتاً يُقَالُ لَهَا: الْحَمَّامَاتُ، فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إِلَّا بِالْأُزُرِ، وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ إِلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ))
(1)
.
الدليل الثاني: عن أم كلثوم
(2)
رضي الله عنها قالت: ((أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ فَطَلَيْتُهَا بِالنَّوْرَةِ
(3)
، ثُمَّ طَلَيْتُهَا بِالْحِنَّاءِ عَلَى إِثْرِهَا مَا بَيْنَ فَرْقِهَا إِلَى قَدَمِهَا فِي الْحَمَّامِ مِنْ حِصْنٍ
(4)
كَانَ بِهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: أَلَمْ تَكُونِي تَنْهَيِ النِّسَاءَ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي سَقِيمَةٌ، وَأَنَا أَنْهَى الْآنَ أَلَّا تَدْخُلَ امْرَأَةٌ الْحَمَّامَ إِلَّا مِنْ سَقَمٍ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث والأثر دليلاً على أنه لا يجوز لهن دخول الحمام إلا لعذر من: حيض، أو نفاس، أو مرض، أو حاجة إلى الغسل، ولا يمكنها أن تغتسل في بيتها؛ لتعذُّر ذلك عليها، أو خوفها من مرض، أو ضرر
(6)
.
ثانياً: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم دخول المرأة الحمامات لغير عذر، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التحريم.
وهو مذهب المالكية
(7)
، والحنابلة
(8)
.
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الحمام (6/ 130) برقم:(4011)، وابن ماجه، أبواب الأدب، باب دخول الحمام (4/ 682) برقم:(3748)، قال النووي في (المجموع) (2/ 204):«رواه أبو داود وابن ماجه، وفي إسناده مَنْ يضعف» ، وقال الكمال بن الهمام في (فتح القدير) (4/ 399):«في سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهو مختلف فيه» .
(2)
هي: أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، أمها حبيبة بنت خارجة، وتُوفي أبوها وهي حمل، روت عن أختها عائشة أم المؤمنين، أرسلت حديثها، فذكرها بسببه ابن السكن وابن مَنْدَه في الصّحابة، روى عنها: ابنها: إبراهيم بن عبدالرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة وجابر بن عبد الله الأنصاري، وهو أكبر منها، وطلحة بن يحيى بن طلحة وغيرهم، روى لها البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه. يُنظر: تهذيب الكمال (35/ 381)، الإصابة (8/ 467).
(3)
النورة: النورة من الحجر الذي يحرق ويسوى منه الكلس ويحلق به شعر العانة. يُنظر: لسان العرب (5/ 244).
(4)
حصن: لم أقف على معنى لهذه الكلمة فيما تيسر لي من كتب، والذي يظهر من سياق الأثر أنه نوع من السقم والمرض، والله أعلم. ثم وجدت الأثر في (الذخيرة) للقرافي (13/ 269) بلفظ: حصب، وفي (المقدمات الممهدات) (3/ 437) بلفظ: حصر. فلعله مرض حصرها ومنعها من السير أو ماشابه، والله أعلم بالصواب.
(5)
أخرجه عبد الرزاق، كتاب الطهارة، باب الحمام للنساء (1/ 195) برقم:(1135).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 170)، شرح المصابيح، لابن الملك (5/ 78).
(7)
يُنظر: التبصرة (11/ 5038)، شرح ابن ناجي التنوخي (2/ 459)، الفواكه الدواني (2/ 311).
(8)
يُنظر: المغني (1/ 169)، مطالب أولي النهى (1/ 188).
القول الثاني: الكراهة.
وهو قول عند المالكية
(1)
، ومذهب الشافعية
(2)
.
القول الثالث: يُباح للمرأة دخول الحمام وإن كان لغير عذر.
وهو مذهب الحنفية
(3)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلِ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ))
(4)
.
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنِ الْحَمَّامَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوهَا فِي الْمَيَازِرِ
(5)
، وَلَمْ يُرَخِّصْ لِلنِّسَاءِ))
(6)
.
(1)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 548)، مواهب الجليل (1/ 81).
(2)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 72)، مغني المحتاج (1/ 224).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (10/ 148)، البحر الرائق (8/ 219).
(4)
أخرجه الترمذي، أبواب الأدب، باب ما جاء في دخول الحمام (5/ 113) برقم:(2801) وقال: «حديث حسن غريب» ، والنسائي في السنن الصغرى مختصراً، كتاب الغسل والتيمم، باب الرخصة في دخول الحمام (1/ 198) برقم:(401)، وأحمد (23/ 19) برقم:(14651)، قال الحاكم في (المستدرك) (4/ 320):«هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» ، قال ابن تيمية في (شرح العمدة -كتاب الطهارة) (ص: 405): «رواه النسائي بإسناد صحيح» . الحديث له شاهد من حديث أبي أيوب الأنصاري عند ابن حبان (12/ 409) برقم: (5597). وينظر: مجمع الزوائد، للهيثمي (1/ 277).
(5)
الْمَيَازِر: ويقال مآزر: جمع: مئزر، والإزار: هذا المعروف الذي يشد على الحقوين فيما تحتهما. والمراد ها هنا: الساتر ما بين السرة والركبة. ينظر: المطلع على ألفاظ المقنع (ص: 204)، المصباح المنير (1/ 13)، بذل المجهود (12/ 39).
(6)
أخرجه أبو داود، كتاب الحمام (6/ 129) برقم:(4009)، والترمذي، أبواب الأدب، باب ما جاء في دخول الحمام (5/ 113) برقم:(2802) وقال: «هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد ابن سلمة، وإسناده ليس بذاك القائم» ، وابن ماجه، أبواب الأدب، باب دخول الحمام (4/ 683) برقم:(3749) واللفظ له، وأحمد (42/ 9) برقم:(25085)، قال البوصيري في (مصباح الزجاجة) (4/ 121):«قال أبو بكر بن حازم: لا يُعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه» .
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الْحَمَّامُ حَرَامٌ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي))
(1)
.
الدليل الرابع: عن أبي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ
(2)
قال: دَخَلَ نِسْوَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتُنَّ؟ قُلْنَ: مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، قَالَتْ: لَعَلَّكُنَّ مِنَ الْكُورَةِ
(3)
الَّتِي تَدْخُلُ نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَاتِ؟ قُلْنَ: نَعَمْ، قَالَتْ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَا مِنِ امْرَأَةٍ تَخْلَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إِلَّا هَتَكَتْ
(4)
مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ عز وجل)
(5)
.
وجه الاستدلال:
أن في هذه الأحاديث نهياً للمرأة عن دخول الحمام، والنهي يفيد التحريم، وقد صُرح بالتحريم في حديث عائشة، ولأن جسد المرأة كلها عورة، ولا يجوز كشفه إلا عند
(1)
سبق تخريجه ص: (136).
(2)
هو: عامر بن أسامة بن عُمير الهذلي من أهل البصرة، كنيته أبو الْمَلِيح، تابعي ثقة روى عن: أبيه وعائشة وبريدة بن الحصيب وعوف بن مالك وابن عباس وعبد الله بن عمر وأبي عزة الهذلي، وعنه: أولاده عبد الرحمن ومحمد ومبشر وزياد وأيوب وخالد الْحَذَّاءُ وسالم بن أبي الجعد وأبو قلابة الجرمي وقتادة بن دعامة، روى له الجماعة، تُوفي سنة 98 هـ، وقيل: سنة 112 هـ. يُنظر: الثقات لابن حبان (5/ 190)، تهذيب التهذيب (12/ 246).
(3)
الكُورَة: بوزن الصورة: المدينة والصقع والجمع، أو الناحية. يُنظر: الصحاح (2/ 810)، مختار الصحاح (ص: 275)، شرح المصابيح، لابن الملك (5/ 77).
(4)
هتكت: الهاء والتاء والكاف: أصل يدل على شق في شيء، الهتك: خرق الستر عما وراءه. يُنظر: الصحاح (4/ 1616)، مقاييس اللغة (6/ 32)، مختار الصحاح (ص: 324)، قيل في المراد بذلك: ستر معاصي العبد وعيوبه عن إذاعتها لأهل الموقف يوم القيامة، ويُحتمل أن يُراد بالستر: ترك محاسبته عليها وترك ذِكرها، ويُحتمل أن يُراد به حجاب الحياء وجلباب الأدب؛ لأنها مأمورة بالتستر والتحفظ. يُنظر: بذل المجهود (12/ 39)، عون المعبود وحاشية ابن القيم (11/ 32).
(5)
أخرجه أبو داود، أول كتاب الحمام (6/ 129) برقم:(4010) وقال: «هذا حديث جرير، وهو أتم، ولم يذكر جرير أبا المليح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، والترمذي، أبواب الأدب، باب ما جاء في دخول الحمام (5/ 114) برقم:(2803) وقال: «حديث حسن» ، وأحمد (42/ 251) برقم:(25407)، قال ابن الملقن في (البدر المنير) (9/ 204):«ورواه الدارمي من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد عنها» ، وقال الشوكاني في (نيل الأوطار) (1/ 318):«وهو من حديث شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبي المليح عنها، وكلهم رجال الصحيح» ، وصححه الألباني في (غاية المرام) (ص: 136).
الضرورة؛ ولذلك مُنعت من أن تضع ثيابها في غير بيت زوجها، ودخولُ الحمامات مظنةُ كشف العورات، فيحرم
(1)
، وخُص حال العذر بحديث عبد الله بن عمرو كما تقدم.
نُوقش من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن منع دخول النساء الحمام؛ لئلا يكون ذريعة إلى أن يدخلنه غير مؤتزرات، لا من أجل أن عليهن حرجاً وإثماً في دخولهن إياه مؤتزرات
(2)
.
وأُجيب عنه: أن النهي جاء جملة من غير تفصيل
(3)
، وحمله على دخولهن غير مؤتزرات لا دليل عليه.
الوجه الثاني: أنها إنما تكون قد هتكت سترها إذا وضعت ثيابها؛ حيث لا تأمن أن يطلع أحد من الرجال عليها مكشوفة الرأس أو الجسم، وإن أمنت أن يطلع عليها أحد من الرجال فلا حرج
(4)
، والمراد بالمنع: منعهن من الخروج، وحثهن على القرار في البيوت
(5)
.
وأُجيب عنه: إنما النهي؛ لأن الحمامات مظنة التكشف والنظر في الجملة
(6)
.
الوجه الثالث: إن هذا النهي إنما كان في الوقت الذي لم يكن للنساء حمام مفرد، فأما اليوم: فقد زال ذلك، فيجب أن يجوز
(7)
.
يمكن أن يُجاب عنه: بأنه لا يتصور أن الحمامات في العصر الأول كانت مختلطة؛ فالأحاديث الواردة في الحمامات لم تُشِر إلى ذلك؛ فلو كانت مختلطة لأُشير إليه، ومما يؤيد وجود حمامات مفردة للنساء: دخول عائشة رضي الله عنها الحمام حين احتاجت لها حال المرض، ويبعُد دخولها حماماً مختلطاً.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث عائشة رضي الله عنها: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنِ
(1)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 405)، نيل الأوطار (1/ 319).
(2)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 549)، الذخيرة (13/ 269).
(3)
يُنظر: التبصرة (11/ 5039).
(4)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 549).
(5)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (10/ 147).
(6)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 405).
(7)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 549)، الذخيرة (13/ 269).
الْحَمَّامَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوهَا فِي الْمَيَازِرِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لِلنِّسَاءِ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أنه لم يرُخص للنساء حمايةً للذرائع في دخولهن بغير ميازر، فيكون دخولهن مئتزرات مكروهاً غير محرم
(2)
.
نُوقش: أن النهي جاء جملة من غير تفصيل
(3)
، وحمله على دخولهن غير مؤتزرات لا دليل عليه.
الدليل الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((مَا مِنِ امْرَأَةٍ تَخْلَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إِلَّا هَتَكَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ عز وجل)
(4)
.
وجه الاستدلال: أن المرأة إنما تكون قد هتكت سترها إذا وضعت ثيابها حيث لا تأمن أن يطلع أحد، وإن أمنت أن يطلع عليها أحد، فيُكره ولا يحرم
(5)
.
نُوقش: إنما النهي؛ لأن الحمامات مظنة التكشف والنظر في الجملة
(6)
.
الدليل الثالث: عن أم كلثوم قالت: ((أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ فَطَلَيْتُهَا بِالنَّوْرَةِ، ثُمَّ طَلَيْتُهَا بِالْحِنَّاءِ عَلَى إِثْرِهَا مَا بَيْنَ فَرْقِهَا إِلَى قَدَمِهَا فِي الْحَمَّامِ مِنْ حِصْنٍ كَانَ بِهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: أَلَمْ تَكُونِي تَنْهَيِ النِّسَاءَ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي سَقِيمَةٌ، وَأَنَا أَنْهَى الْآنَ أَلَّا تَدْخُلَ امْرَأَةٌ الْحَمَّامَ إِلَّا مِنْ سَقَمٍ))
(7)
.
وجه الاستدلال: أنه يُستدل بقول عائشة وفِعلها على أنها كرهت للنساء دخول الحمامات مستترات من غير تحريم، وكانت تنهى عن ذلك، ولم ترخص لهن فيه إلا من مرض، ولو كان عليهن حراماً لما جاز في المرض، فهو لهن مع المرض جائز، ومع الصحة مكروه إذا كُنْ مستترات مؤتزرات
(8)
.
الدليل الرابع: أن أَمْر النساء مبني على المبالغة في التستر، ولما في وضْع ثيابهن في
(1)
سبق تخريجه: ص (138).
(2)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 549)، المقدمات الممهدات (3/ 436).
(3)
يُنظر: التبصرة (11/ 5039).
(4)
سبق تخريجه: ص (139).
(5)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 549).
(6)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 405).
(7)
سبق تخريجه: ص (137).
(8)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 550)، مواهب الجليل (1/ 81).
غير بيوتهن من الهتك، ولما في خروجهن واجتماعهن من الفتنة والشر
(1)
، فيُكره دخولهن الحمامات.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: أن نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى الرجل باعتبار المجانسة وانعدام الشهوة غالباً
(2)
، فدل ذلك على إباحة دخولها الحمام مع النساء.
نُوقش: بأنه لا يسلم بذلك؛ فإن المرأة ليست كالرجل؛ لأن جميع بدنها عورة، ونظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى ذوات محارمه
(3)
.
الدليل الثاني: أن العُرف الظاهر في جميع البلدان ببناء الحمامات للنساء وتمكينهن من دخول الحمامات
(4)
، وهذا دليل على الإباحة؛ فالعرف الظاهر بين الناس حجة
(5)
.
يمكن أن يُناقش: بأن العادة تُعتبر عند عدم النص
(6)
، والعادة التي تكون على خلاف النص فهي فاسدة لا تُعتبر
(7)
، وقد ورد النص بالنهي، فوجب العمل به.
الدليل الثالث: أن حاجة النساء إلى دخول الحمامات فوق حاجة الرجال؛ لأن المقصود تحصيل الزينة، والمرأة إلى هذا أحوج من الرجل
(8)
، فيُباح دخولها للحاجة.
يمكن أن يُناقش: بأن التعليل في معارضة النص أو فيما يبطل حكم النص، باطل بالاتفاق
(9)
.
سبب الخلاف: الخلاف في هذه المسألة مبني على أمرين:
(1)
يُنظر: تبيين الحقائق (5/ 123)، المجموع (2/ 205)، مغني المحتاج (1/ 224).
(2)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (10/ 147)، البحر الرائق (8/ 219).
(3)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 548).
(4)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (10/ 148)، البحر الرائق (8/ 219).
(5)
يُنظر: موسوعة القواعد الفقهية (7/ 400).
(6)
يُنظر: المرجع السابق (1/ 2/ 215).
(7)
يُنظر: تيسير علم أصول الفقه (ص: 212).
(8)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (10/ 148)، تبيين الحقائق (5/ 123).
(9)
يُنظر: أصول السرخسي (2/ 161).
1 -
اختلاف الفقهاء في معنى النهي الوارد في المسألة: هل هو لحث المرأة على القرار في البيت أو لأنه مظنة التكشف؟
2 -
الخلاف في مسألة حد عورة المرأة مع المرأة.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم دخول المرأة الحمام لغير عذر.
قال ابن تيمية رحمه الله: «إن الأمور المحرمة إنما يُباح منها ما تدعو إليه الحاجة؛ ولهذا حُرمت على النساء إلا لحاجة»
(1)
.
أسباب الترجيح:
1 -
تضافر أدلة النهي، وأن الأصل في النهي: التحريم.
2 -
أن المرأة في الإسلام شأنُها الستر والحياء والتحفظ عن كشف العورات، فهذا القول فيه الاحتياط صيانةً للمرأة.
3 -
ضعف أدلة الأقوال الأخرى، وورود المناقشة عليه.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب أصحاب القول الثاني إلى أن النهي محمول على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له: القرائن التالية:
القرينة الأولى: قاعدة سد الذرائع.
وذلك أنه لم يرُخص للنساء حمايةً للذرائع في دخولهن بغير ميازر، فيكون دخولهن مئتزرات مكروهاً غير محرم
(2)
.
وفيه إرشاد المرأة إلى صيانة نفسها عن أسباب التَكشُّف، والتنزيه عما يكون في الحمام من كشف العورات أو غيره من المنكرات
(3)
.
(1)
شرح العمدة -كتاب الطهارة (ص: 405).
(2)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 549)، المقدمات الممهدات (3/ 436).
(3)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 549)، مغني المحتاج (1/ 224).
قال المناوي رحمه الله: «ذهب الأكثر إلى أن دخولها لهن مكروه تنزيهاً»
(1)
.
القرينة الثانية: أن النهي عنه في حال دون حال.
جاء في (المقدمات الممهدات) بعد ذكر أثر عائشة رضي الله عنها: «فدل ذلك من قولها وفعلها أنها كرهت للنساء دخول الحمامات مستترات من غير تحريم ونهتهن عن ذلك ولم ترخص لهن فيه إلا من مرض. ولو كان عليهن حراما لما جاز في المرض، فهو لهن مع المرض جائز، ومع الصحة مكروه إذ كن مستترات متزرات»
(2)
.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «أصل النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما نهى عنه فهو محرم، حتى تأتي عنه دلالة تدل على أنه إنما نهى عنه لمعنى غير التحريم: إما أراد به نهياً عن بعض الأمور دون بعض، وإما أراد به النهي للتنزيه عن المنهي والأدب والاختيار»
(3)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرائن ضعيفة غير معتبرة؛ وذلك -بالنظر في أدلة النهي- نجد أن منها ما جاء بالنهي المجرد، ومنها ما جاء بالنص الصريح على التحريم، والتعبير بهتك الستر بينها وبين الله: فيه تشديد في الزجر، فكانت أدلة النهي أقوى دلالة على التحريم، ثم إن المعنى الذي صرفوا به النهي إلى الكراهة أولى به أن يكون مؤيداً للقول بالتحريم لا الكراهة، فالمرأة مأمورة بالستر والمبالغة فيه؛ صيانة لها، وفتح باب دخولها الحمامات بلا حاجة قد يجر إلى مفاسد كثيرة، وقد شُوهد -في هذا العصر- التهاون في الستر من بعض النساء عند دخولهن إلى ما يُسمى بصالون التجميل -حمانا الله والمسلمات من الشرور والفتن-، والله أعلم.
(1)
فيض القدير (3/ 422).
(2)
(3/ 437).
(3)
الأم (7/ 305).
الفصل الرابع
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب سنن الفطرة
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن حَلق الرأس في غير الحج والعمرة.
المبحث الثاني: النهي عن القَزَع.
المبحث الثالث: النهي عن تغيير الشَّيْب بالسواد.
المبحث الرابع: النهي عن نَتْف الشَّيْب.
المبحث الخامس: النهي عن حَلق المرأةِ رأسَها.
المبحث السادس: النهي عن وَصْل المرأةِ رأسَها بغير الشعر.
المبحث الأول:
النهي عن حلق الرأس في غير الحج والعمرة
المطلب الأول: حكم حَلْق الرأس في غير الحج والعمرة
(1)
:
دليل النهي:
عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تُوضَعُ النَّوَاصِي
(2)
إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ))
(3)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم حلق الرأس في غير الحج والعمرة، على قولين:
القول الأول: يُباح حلق الرأس، والأفضل تَركُه.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
القول الثاني: يُكره حلق الرأس.
وهو مذهب المالكية
(7)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(8)
.
(1)
تتناول المسألة حلق الرجل رأسه، أما حلق المرأة رأسها: فستفرد في مبحث لاحق.
(2)
النَّوَاصِي: جمع، مفرده: ناصية -بكسر الصاد- مقدم الرأس. يُنظر: الصحاح (6/ 2510)، شرح الإلمام (4/ 362)، وهو هنا مما ذُكر منه البعض وأُريد به الكل.
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (9/ 180) برقم: (9475)، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (3/ 261):«فيه محمد بن سليمان بن مَسْمُول، وهو ضعيف بهذا الحديث وغيره» ، وقال الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) (12/ 477):«منكر» .
(4)
يُنظر: الفتاوى الهندية (5/ 357)، عمدة القاري (22/ 58). وجاء في بدائع الصنائع (2/ 192) ما يفيد الجواز في غير الحج والعمرة، حيث قال الكاساني: «حلق الرأس يزيل الشعث والتفث؛ وهو من باب الارتفاق بمرافق المقيمين، والمحرم ممنوع عن ذلك
…
».
(5)
يُنظر: تحفة المحتاج (2/ 476)، مغني المحتاج (1/ 563).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 67)، الإنصاف (1/ 258).
(7)
يُنظر: الفواكه الدواني (1/ 265)، حاشية العدوي (2/ 444).
(8)
يُنظر: المغني (1/ 67)، الإنصاف (1/ 258).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صَبِيّاً حُلِقَ بَعْضُ شَعَرِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهَاهم عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: احْلِقُوهُ كُلَّهُ، أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم سَوَّى بين الحلق والترك وخيَّر بينهما، والتخيير دليل صريح على الإباحة، ولا يحتمل تأويلاً
(2)
.
الدليل الثاني: عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما
(3)
: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثاً أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي، فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ
(4)
، فَقَالَ: ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ، فَأَمَرَهُ، فَحَلَقَ رُؤُوسَنَا))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحلق رؤوسهم، ولو لم يَجُز الحلق ما حلقهم، فهذا دليل على جواز حلق الرأس جميعه
(6)
.
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب في الذؤابة (6/ 261) برقم:(4195)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الزينة، باب الرخصة في حلق الرأس (8/ 130) برقم:(5048)، وأحمد (9/ 437) برقم:(5615)، صححه ابن حبان (12/ 318) برقم:(5508)، قال النووي في (رياض الصالحين) (ص: 463): «رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم» .
(2)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (7/ 167)، عون المعبود (11/ 166).
(3)
هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي، كنيته أبو جعفر، وهو أول مولود وُلد في الإسلام بأرض الحبشة، قدم مع أبيه المدينة، وحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وروى عن: أمه أسماء بنت عميس وعمه علي ابن أبي طالب وعثمان وعمار بن ياسر، وروى عنه: بنوه معاوية وإسحاق وإسماعيل وأم أبيها وابن خالته عبد الله ابن شداد بن الهاد وغيرهم، وكان عبد الله يُسمى بحر الجود؛ لكرمه وجوده. تُوفي بالمدينة سنة 80 هـ وهو ابن 90 سنة. يُنظر: الاستيعاب (3/ 880)، تهذيب التهذيب (5/ 170).
(4)
أَفْرُخ: جمع: فَرْخ، وهو صغير ولد الطير، أي: كنا صغاراً. يُنظر: القاموس المحيط (ص: 256)، شرح المصابيح (5/ 70).
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب في حلق الرأس (6/ 259) برقم:(4192)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب السير، إذا قُتل صاحب الراية: هل يأخذ الراية غيره بغير أمر الإمام؟ (8/ 18) برقم: (8550)، وأحمد (3/ 278) برقم:(1750) مطولاً، قال النووي في (رياض الصالحين) (ص: 463): «رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم» ، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (6/ 157):«روى أبو داود وغيره بعضَه، ورواه أحمد، والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح» .
(6)
يُنظر: التمهيد (22/ 138)، نيل الأوطار (1/ 161).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ
(1)
، وَسَلَقَ
(2)
، وَخَرَقَ
(3)
(4)
، وفي رواية: ((لَيْسَ مِنَّا من حلق
(5)
…
))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن البراءة من فاعل هذه الأمور -ومنها: حلق الرأس- وقوله: (ليس منا)، مبالغة في الردْع عن الوقوع فيها، دالٌّ على كراهتها.
نُوقش: أن هذا استدلال بالحديث في غير المراد به، وإنما المراد هنا النهي عن الحلق للتسخط على المصيبة؛ بدلالة قوله:(وسلق، وحلق)
(7)
، وقصة الحديث تدل على ذلك.
الدليل الثاني: عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تُوضَعُ النَّوَاصِي إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ))
(8)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث النهي عن حلق الرأس في غير النُسُك، والنهي للكراهة والتنزيه.
(1)
الحَلْقُ: من حلق حلقاً، وحلاقة الرأس: أزال عنه الشعر، والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 427)، لسان العرب (10/ 59)، معجم لغة الفقهاء (ص: 185).
(2)
سَلَقَ: أي: رفع صوته عند المصيبة، ويُقال بالصاد، وهما لغتان، وجاء في رواية: الصالقة: وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة. يُنظر: الصحاح (4/ 1497)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 48 و 391)، المنهاج شرح صحيح مسلم (2/ 110).
(3)
الخَرْقُ: الشق، وجاء في رواية: الشاقة: وهي التي تشق ثوبها عند المصيبة. يُنظر: الصحاح (4/ 1466)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 26)، المنهاج شرح صحيح مسلم (2/ 110).
(4)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية (1/ 100) برقم:(104)، وفي قصة الحديث: أنه لما ثقل أبو موسى رضي الله عنه أقبلت امرأته تصيح ....
(5)
ليس منا: أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ: المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك. يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (9/ 537)، فتح الباري، لابن حجر (3/ 163).
(6)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية (1/ 100) برقم:(104).
(7)
يُنظر: المغني (1/ 67).
(8)
سبق تخريجه ص: (146).
نُوقش: أن الحديث إسناده ضعيف، فلا يحتج به، ولم يصح في النهي حديث
(1)
.
الدليل الثالث: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الخوارج
(2)
: ((سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حلْق الرأس علامة للخوارج
(4)
، فيكره تنزيها عن مشابهتهم.
نُوقش: بأنه لا دلالة فيه على كراهة حلق الرأس، وإنما هو علامة لهم، والعلامة قد تكون بحرام، وقد تكون بمباح
(5)
.
الدليل الرابع: قال عمر رضي الله عنه لصُبَيغ
(6)
بعدما جلده على ما كان منه: ((وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ، لَوْ وَجَدْتُكَ مَحْلُوقاً لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن عمر رضي الله عنه أدَّب صبيغاً بالجلد لما سأل عن المتشابهات، وقوله:(لضربت رأسك) يعني: لقتلتك، وإنما يقتله لو كان محلوق الرأس لأنه ظنه من الخوارج؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل علامتهم التحليق
(8)
.
(1)
يُنظر: المجموع (1/ 296).
(2)
الخوارج: فرقة من الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، فالخارجي هو:«كل مَنْ خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أم كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان» ، هذا تعريف الشهْرسْتَاني في كتابه: الملل والنحل (1/ 114). قال د. غالب عواجي في كتابه: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها (1/ 228) معلقاً: «هذا التعريف الراجح؛ لكثرة مَنْ مشى عليه من علماء الفرق في تعريفهم بفرقة الخوارج، وقيام حركتهم ابتداءً من خروجهم في النهروان، وهو ما يتفق أيضاً مع مفهوم الخوارج كطائفة ذات أفكار وآراء اعتقادية، أحدثت في التاريخ الإسلامي دويّاً هائلاً» .
(3)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم (9/ 162) برقم:(7562).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 67)، المفهم (3/ 122).
(5)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (7/ 167).
(6)
هو: صُبَيغ بن عسل، ويُقال: صُبَيغ بن شريك من بني عسل، ابن عمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي البصري، له إدراك، وقصته مع عمر مشهورة. يُنظر: الإصابة (3/ 370)، الوافي بالوفيات (16/ 163). ويُنظر قصته في (مجموع الفتاوى)(4/ 3).
(7)
أخرجه الآجُري في (الشريعة)(1/ 482) برقم: (151).
(8)
ينظر: المغني (8/ 530)، شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الطهارة (ص: 230)، مجموع الفتاوى (17/ 394) و (28/ 474).
سبب الخلاف:
السبب هو الاختلاف في ثبوت حديث النهي.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بإباحة حلق الرأس في غير النسك، وهو قول الجمهور.
قال ابن تيمية رحمه الله: «ما جاء فيه من الكراهة فهو -والله أعلم- فيمن يعتقده قربة وشعار الصالحين، وهكذا كانت الخوارج، فأما إن حلقه على أنه مباح وإنَّ تركه أفضل، فلا»
(1)
.
أسباب الترجيح:
1 -
أن الأصل الإباحة، ويؤكده تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين الحلق والترك.
2 -
قوة أدلة هذا القول، وأنه لم يصح شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن حلق الرأس.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب أصحاب القول الثاني إلى أن النهي محمول على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة له: المقصد من النهي.
فالمقصد منه: التنزيه وكراهة مشابهة الخوارج؛ لكون حلق الرأس شعارهم.
جاء في (المغني) و (المجموع) استدلالهم بحديث أبي سعيد الخدري في ذكر صفة الخوارج.
وساق ابن قدامة في (المغني)، قول عمر رضي الله عنه لصبيغ، إشارةً إلى أن الحلق علامة للخوارج؛ فيكره التشبه بهم.
الحكم على القرينة:
قرينة المقصد من النهي هنا غير معتبرة، فلا تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة؛ إذ -بالنظر في أدلة النهي- نجد أنه لم يثبت في النهي دليل صحيح مرفوع، وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الصحيح، ولكن كون الحلق علامة الخوارج لا يفيد
(1)
شرح العمدة -كتاب الطهارة (ص: 231).
نهياً؛ فلا نهي صحيح حتى يُصرف عن مقتضاه بهذه القرينة.
وحيث لا أدلة تقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الدالة على إباحة الحلق بلا كراهة، يكون القول بالإباحة هو الراجح، والله تعالى أعلم بالصواب.
المبحث الثاني:
النهي عن القَزَع
المطلب الأول: حكم القزع
(1)
:
دليل النهي:
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْقَزَعِ، قيل لِنَافِعٍ
(2)
: وَمَا الْقَزَعُ؟ قَالَ: يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكُ بَعْضٌ))
(3)
.
صورة المسألة:
القزع: أن يحلق الإنسان بعض الرأس ويترك بعضه الآخر، فماحكم هذا الفعل؟
حكم المسألة:
أجمع العلماء رحمهم الله
(4)
على كراهة القزع.
قال النووي رحمه الله: «أجمع العلماء على كراهة القزع إذا كان في مواضع متفرقة إلا أن يكون لمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه»
(5)
.
الأدلة:
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْقَزَعِ، قيل لِنَافِعٍ: وَمَا
(1)
القَزَع: هو حَلْق بعض الرأس وترْك بعضه الآخر، تشبيهاً بقزع السحاب وهي قطع السحاب المتفرقة. يُنظر: الصحاح (3/ 1265)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 59)، المجموع (1/ 295).
(2)
هو: نافع مولى ابن عمر، عالم المدينة، أبو عبد الله القرشي، وهو من كبار التابعين، كان إماماً ثقة كثير الحديث، ومعظم حديث ابن عمر عليه دار، وأهل الحديث يقولون: رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذهب؛ لجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة، روى عن: ابن عمر وعائشة وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وروى عنه الزهري وأيوب السِّخْتِيَانِيُّ والليث ومالك بن أنس، تُوفي بالمدينة سنة 117 هـ. يُنظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (5/ 342)، تهذيب التهذيب (10/ 412)، وفيات الأعيان (5/ 367).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب القزع (7/ 163) برقم:(5921)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب كراهة القزع (3/ 1675) برقم:(2120) واللفظ له.
(4)
نقل الإجماع: النووي في (المنهاج)(14/ 101)، وعنه: الطيبي في (شرح المشكاة)(9/ 2926)، وابن حجر في (فتح الباري)(10/ 365)، والشوكاني في (نيل الأوطار)(1/ 160).
(5)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 101).
الْقَزَعُ؟ قَالَ: يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكُ بَعْضٌ))
(1)
وجه الاستدلال: أن الراوي فسَّر القزع بحلق بعض الرأس وتَرْك بعضه، والنهي للكراهة، والصارف عن التحريم هو إجماع العلماء
(2)
.
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صَبِيّاً حُلِقَ بَعْضُ شَعَرِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهَاهم عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: احْلِقُوهُ كُلَّهُ، أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر حَلْق بعض الشعر وتَرْك بعضه، ونهى عنه، ويُحمل النهي على الكراهة؛ للإجماع
(4)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
اتفق الفقهاء على أن النهي عن القزع يُحمل على الكراهة؛ بدليل القرائن التالية:
القرينة الأولى: الإجماع.
القرينة الثانية: المقصد من النهي.
فالنهي اُريد به التنزيه عن مشابهة زيُّ اليهود
(5)
، أو زيُّ أهل الشر والشيطان
(6)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: «علل النهي بأن ذلك زي اليهود، وتعليل النهي بعلة يوجب أن تكون العلة مكروهة مطلوب عدمها، فعُلم أن زي اليهود -حتى في الشعر- مما يُطلب عدمه، وهو المقصود»
(7)
. قال النووي: «
…
وهي كراهة تنزيه»
(8)
.
وقال المَنَاوي: «
…
لأنه نوع من القزع، وهو مكروه تنزيهاً»
(9)
.
الحكم على القرينة:
(1)
سبق تخريجه ص: (152).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 101).
(3)
سبق تخريجه: ص (147).
(4)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 101)، الإنصاف (1/ 272).
(5)
ورد في ذلك خبر من رواية الْحَجَّاج بْن حَسَّان، أخرجه أبو داود (6/ 262) برقم:(4197).
(6)
يُنظر: المفهم (5/ 441)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 101)، فتح الباري، لابن حجر (10/ 365).
(7)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 386).
(8)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 101).
(9)
فيض القدير (6/ 328).
قرينة الإجماع من أقوى القرائن المعتبرة، يُصرف بها النهي عن مقتضاه؛ لأن الإجماع لا يمكن أن يكون مخالفاً لمقتضى النص الشرعي، وقرينة المقصد من النهي قرينة معتبرة اعتضدت بما قبلها.
وقد اتفق الفقهاء على حمل النهي عن القزع إلى الكراهة عملاً بهذه القرائن لقوتها، والله أعلم.
المبحث الثالث:
النهي عن تغيير الشَّيْب بالسواد
المطلب الأول: حكم تغيير الشَّيْب بالسواد:
دليل النهي:
عن جابر رضي الله عنه قال: ((أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ
(1)
يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ
(2)
بَيَاضاً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ))
(3)
، وفي رواية:((غَيِّرُوهُ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ سَوَاداً))
(4)
.
صورة المسألة:
لو أراد شخص تغيير الشَّيْب في رأسه أو لحيته بصبغه بالسواد، هل يجوز له ذلك أو لا؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الاتفاق:
اتفق الفقهاء
(5)
على إباحة تغيير الشَّيْب بالسواد في جهاد العدو؛ لأن الغازي مع سواد شعره أهيب وأرهب في عين العدو
(6)
.
(1)
هو: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، أبو قحافة القرشي التيمي، والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أسلم يوم فتح مكة، وعاش أبو قحافة إلى خلافة عمر، ومات سنة 24 هـ وهو ابن سبع وتسعين سنة. يُنظر: الاستيعاب (3/ 1036)، أسد الغابة (3/ 575).
(2)
الثَّغَامُ: نبت أبيض الثَّمر أو الزَّهر، وقيل: هي شجرة تَبْيض كأنها الثلج، فشبَّه بياض الشَّيب به. يُنظر: غريب الحديث، للقاسم بن سلام (2/ 139)، الصحاح (5/ 1880)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 214).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خِضاب الشيب بصُفرة أو حُمرة وتحريمه بالسواد (3/ 1663) برقم:(2102).
(4)
أخرجه الحاكم (3/ 273) برقم: (5068).
(5)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (10/ 199)، حاشية ابن عابدين (6/ 756)، الفواكه الدواني (2/ 307)، حاشية العدوي (2/ 446)، المجموع (1/ 294)، تحفة المحتاج (9/ 375)، الفروع (1/ 154)، كشاف القناع (1/ 77).
(6)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (10/ 199)، الفواكه الدواني (2/ 307).
قال ابن حجر رحمه الله: «
…
ويُستثنى من ذلك المجاهد اتفاقاً»
(1)
.
واتفق الفقهاء
(2)
على تحريم تغيير الشَّيْب بالسواد في بيع أو نكاح؛ لما فيه من التدليس
(3)
والخداع، وذلك حرام
(4)
؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))
(5)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «أن الخضاب بالسواد المنهي عنه خضاب التدليس»
(6)
.
ثانياً: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم التغيير بالسواد في غير الجهاد أو البيع والنكاح، على قولين:
القول الأول: يُكره.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(7)
، والمالكية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
القول الثاني: يحرم.
وهو مذهب الشافعية
(10)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن جابر رضي الله عنه قال: ((أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضاً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ))
(11)
.
الدليل الثاني: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غَيِّرُوا الشَّيْب، وَلَا تُقَرِّبُوهُ
(1)
فتح الباري (6/ 499).
(2)
يُنظر: بدائع الصنائع (5/ 274)، الفواكه الدواني (2/ 307)، أسنى المطالب (1/ 173)، كشاف القناع (1/ 77).
(3)
التَّدْلِيسُ: كتمان عيب السلعة عن المشتري وإخفاؤه. يُنظر: الصحاح (3/ 930)، التوقيف على مهمات التعاريف (ص: 93).
(4)
يُنظر: كشاف القناع (1/ 77)، حاشية العدوي (2/ 446)، موسوعة القواعد الفقهية (2/ 265).
(5)
أخرجه مسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ غشنا فليس منا» (1/ 99) برقم: (101).
(6)
زاد المعاد (4/ 337).
(7)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (6/ 756)، اللباب (ص: 262).
(8)
يُنظر: الفواكه الدواني (2/ 307)، حاشية العدوي (2/ 446).
(9)
يُنظر: المغني (1/ 69)، الإنصاف (1/ 257).
(10)
يُنظر: المجموع (1/ 294)، تحفة المحتاج (9/ 375).
(11)
سبق تخريجه ص: (155).
السَّوَادَ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن الأحاديث تدل على مشروعية تغيير الشَّيْب، وعلى النهي عن الخِضاب بالسواد، ويُحمل على الكراهة للتنزيه
(2)
، ولقرينة خضاب بعض الصحابة رضي الله عنهم بالسواد ولم يُنكر عليهم، فدل ذلك على أنهم فهموا أن النهي ليس للتحريم.
الدليل الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يكونُ قَوْمٌ يخضِبُونَ في آخِرِ الزَّمانِ بالسَّواد كحَواصِلِ الحَمَامِ، لا يَرِيحُون رائِحةَ الجنَّة))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث يدل على أن من صفة أهل النار أنهم يخضِبون بالسواد، فيُكره ذلك؛ لكراهة التشبه بأهل النار
(4)
.
نُوقش من وجهين: الأول: أن الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عبد الكريم بن أَبِي المُخَارِق
(5)
(6)
.
وأُجيب عنه: أن الصواب أنه عبد الكريم بن مالك الجزري
(7)
، وهو ثقة.
الثاني: بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخِضاب بالسواد، بل فيه الإخبار بصفة
(1)
أخرجه أحمد (21/ 210) برقم: (13588). صححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(2/ 767).
(2)
يُنظر: المجموع (1/ 294)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 80).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خِضاب السواد (6/ 272) برقم:(4212)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الزينة، النهي عن الخِضاب بالسواد (8/ 138) برقم:(5075)، وأحمد (4/ 276) برقم:(2470)، قال الحافظ المنذري في (الترغيب والترهيب) (3/ 86):«رووه كلهم من رواية عبيد الله بن عمرو الرقي عن عبد الكريم، فذهب بعضهم إلى أن عبد الكريم هذا هو ابن أبي المخارق وضعف الحديث بسببه، والصواب: أنه عبد الكريم بن مالك الجزري، وهو ثقة، احتج به الشيخان وغيرهما، والله أعلم» ، وقوّى إسناده ابن حجر في (فتح الباري)(6/ 499)، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(2/ 1355).
(4)
يُنظر: المفهم (5/ 419).
(5)
هو: عبد الكريم بنُ أَبِي المُخَارِقِ، واسم أبيه: قيس، كنيته: أبو أمية، تابعي، نزل مكة، روى عن: أنس بن مالك، وعمرو بن سعيد بن العاص، وطاوس وغيرهم، قال عنه النسائي والدارقطني: متروك، وقال ابن عبد البر: لا يختلفون في ضعفه، تُوفي سنة 127 هـ. يُنظر: ميزان الاعتدال (2/ 646)، تهذيب التهذيب (6/ 376).
(6)
يُنظر: الموضوعات، لابن الجوزي (3/ 55).
(7)
هو: عبد الكريم بن مالك الجزري، كنيته: أبو سعيد، روى عن عطاء وعكرمة وسعيد بن المسيب، وهو من العلماء الثقات في زمن التابعين، وَثَّقه جمعٌ كثيرٌ من العلماء، منهم: أحمد، ويحي بن معين، وأبو زرعة، تُوفي سنة 127 هـ. يُنظر: تهذيب الكمال (18/ 252)، تهذيب التهذيب (6/ 373).
هؤلاء القوم
(1)
.
وأُجيب عنه: أنه خلاف ما يتبادر من سياق الحديث، وأن ترتيب الحكم على الوصف مُشعِر بأنه علة الحكم، وقد وصف القوم المذكورين بأنهم يخضِبون بالسواد
(2)
.
الدليل الرابع: الآثار التي رُويت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم بأنهم صبغوا بالسواد، منها:
((أن الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يَخْضِبَانِ بِالسَّوَادِ))
(3)
، وأنه:((كَانَ سَعْدٌ يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن الصبغ بالسواد فَعَله جماعة من الصحابة، ولم يُنكر عليهم، فدل ذلك على أن الصحابة فهموا أن النهي عنه ليس للتحريم
(5)
.
نوقش: أن ما رُوي من آثار عن بعض الصحابة أنهم خضبوا بالسواد، يحتمل أنهم فعلوه للمهابة في الغزو
(6)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول والثاني: استدلوا بحديثي جابر وأنس رضي الله عنهما اللذين استدل بهما أصحاب القول الأول.
وجه الاستدلال: أن قوله: (اجتنبوا) وقوله: (لا تقربوه)، يفيدان النهي عن تغيير الشَّيْب بالسواد، وهو للتحريم
(7)
؛ لأن الأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، ولا يُصرف عنه إلا بقرينة صارفة، ولا صارف هنا.
نُوقش: بأن النهي يُحمل على الكراهة للتنزيه، ولقرينة فِعل بعض الصحابة
(8)
.
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 355) نقلاً عن أبي عاصم.
(2)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 355)، نيل الأوطار (1/ 155).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 183) برقم: (25017).
(4)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1/ 138) برقم: (295)، والحاكم (3/ 567) برقم:(6099).
(5)
يُنظر: المفهم (5/ 419).
(6)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (6/ 756).
(7)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 80).
(8)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 355).
الدليل الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يكونُ قَوْمٌ يخضِبُونَ في آخِرِ الزَّمانِ بالسَّواد كحَواصِلِ الحَمَامِ، لا يَرِيحُون رائِحةَ الجنَّة))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث يدل على تحريم الصبغ بالسواد
(2)
؛ لورود الوعيد الشديد بقوله: (لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)، ولا يكون ذلك إلا على محرم.
نوقش: أنه خلاف ما يتبادر من سياق الحديث، وأن ترتيب الحكم على الوصف مُشعِر بأنه علة الحكم، وقد وصف القوم المذكورين بأنهم يخضِبون بالسواد
(3)
.
سبب الخلاف:
سبب اختلاف الفقهاء هو تعارض ظاهر الأحاديث والآثار.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها تبين أن القول بالكراهة فيه قوة، وكذلك أدلة القول بالتحريم قوية؛ لذا أتوقف عن الترجيح، والله تعالى أعلم بالصواب.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب الجمهور إلى أن النهي يُحمل على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارفَ له القرائنُ التالية:
القرينة الأولى: فِعل الصحابي للمنهي عنه.
ذلك أنه إذا فعل الصحابي المنهي عنه ولم يُنكر عليه، فإن ذلك يُعد قرينة على أن النهي ليس للتحريم.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
قال النووي رحمه الله: «
…
وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه»
(4)
.
جاء في (الفواكه الدواني): «(ويُكره صباغ الشعر) الغير الأسود (بالسواد) لغير مقتضى شرعي، ولما كانت الكراهة قد تكون محمولة على التحريم قال:(من غير تحريم)،
(1)
سبق تخريجه ص: (157).
(2)
يُنظر: المجموع (1/ 294).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 355)، نيل الأوطار (1/ 155).
(4)
المجموع (1/ 294).
بل لمجرد التنزيه»
(1)
.
والعلة: التنزيه عن حصول التلبيس
(2)
؛ لذهاب اللون الأول جملةً بالتسويد.
جاء في (الفواكه الدواني): «إنما كُره الصِّباغ بالسواد دون غيره؛ لأن فيه صرف لون إلى لون مع ذهاب الأول، بخلاف نحو الحناء؛ فإن الأول لم يذهب جملة، وإنما تغير، فلا يتلبس الشَّيْب على أحد باحمراره أو اصفراره»
(3)
.
الحكم على القرينة:
قرينة فِعل الصحابة للمنهي عنه مع عدم نقل الإنكار، قرينة قوية للدلالة على أن النهي ليس للتحريم، لكنه اُورد عليها احتمال أن صنيعهم كان للجهاد وإرهاب العدو، والاحتمال يضعف الاستدلال.
وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد معتبرة، تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، ولعلها قد تكون معتبرة هنا لمعنى التنزيه وخوف الوقوع في التلبيس والخداع.
وبما أن بعض القرائن محتملة الاعتبار، فيكون القول بالكراهة فيه قوة، وكذلك أدلة القول بالتحريم قوية، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
(2/ 307).
(2)
عون المعبود (11/ 172).
(3)
(2/ 308).
المبحث الرابع:
النهي عن نَتْف الشَّيْب
المطلب الأول: حكم نَتْف الشَّيْب:
دليل النهي:
عن عمرو بن شُعَيْب
(1)
، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لَا تَنَتْفوا الشَّيْب؛ فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ، مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَكَفَّرَ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً))
(2)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(3)
على كراهة نَتْف الشَّيْب.
قال النووي رحمه الله: «هذا متفق عليه: قال أصحابنا وأصحاب مالك: يُكره ولا يحرم»
(4)
.
(1)
هو: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، التابعي، الإمام، المحدث أبو إبراهيم، قال النسائي: ثقة، روى عن أبيه، وجُلُّ روايته عنه وعمته زينب بنت محمد وزينب بنت أبي سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم والرُّبيِّع بنت معوِّذ ومجاهد وعطاء وجماعة، حدَّث عنه: الزهري، وقتادة، وعطاء بن أبي رباح، وجماعة، تُوفي سنة 118 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (5/ 165 - 183)، تهذيب التهذيب (8/ 48).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الترجُّل، باب في نتف الشيب (6/ 266) برقم:(4202)، والترمذي، أبواب الأدب، باب ما جاء في النهي عن نتف الشيب (5/ 125) برقم:(2821) مختصراً وقال: «هذا حديث حسن» ، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الزينة، النهي عن نتف الشيب (8/ 136) برقم:(5068) مختصراً، وأحمد (11/ 550) برقم:(6962) واللفظ له، حسنه النووي في (المجموع)(1/ 292)، وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن حبان (7/ 253) برقم:(2985).
(3)
يُنظر: حاشية الطحطاوي (ص: 526)، حاشية ابن عابدين (2/ 418)، المنتقى، للباجي (7/ 270)، الفواكه الدواني (2/ 307)، المجموع (1/ 292)، مغني المحتاج (1/ 407)، المغني (1/ 68)، الفروع (1/ 153).
(4)
المنهاج شرح صحيح مسلم (15/ 96).
الأدلة:
الدليل الأول: حديث عمرو بن شعيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تَنَتْفوا الشَّيْب؛ فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ، مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَكَفَّرَ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً)).
الدليل الثاني: عن كعب بن مُرَّة رضي الله عنه
(1)
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُوراً يَوْمَ القِيَامَةِ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن في الأحاديث نهياً عن نَتْف الشَّيْب، وهو محمول على الكراهة؛ لورود الترغيب البليغ في إبقائه وترْك التعرض لإزالته؛ لأنه نور ووقار للمسلم، وبيَّن شرف الشَّيْب وأهله فصرَّح: بكَتْب الحسنة، ورفع الدرجة، وحط الخطيئة؛ ترغيباً فيه وفي المثوبة بترك نَتْفه
(3)
.
الدليل الثالث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((يُكْرَهُ أَنْ يَنَتْف الرَّجُلُ الشَّعَرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن في هذا الحديث الموقوف تصريح من الصحابي بكراهة نَتْف الشَّيْب، والصحابة أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم صفوة الله تعالى لصحبة نبيه عليه السلام ونَقْل الشرع عنه.
(1)
هو: كعب بن مرة وقيل مرة بن كعب السلمي، سكن البصرة، ثم الأردن، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه: شُرَحْبِيلُ بْنِ السَّمْطِ وأبو الأشعث الصنعاني وجبير بن نفير وغيرهم، قال ابن عبد البر: وله أحاديث مخرجها عن أهل الكوفة، يروونها عن شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ، عن كعب بن مرة السلمي الْبَهْزِيّ، وأهل الشام يروون تلك الأحاديث بأعيانها عن شرحبيل بن السمط، عن عمرو بن عبسة، والله أعلم.
قال ابن حجر: ما نقله ابن عبد البر سبقه إليه ابن السكن، وزاد: زعم بعضهم أنهما اثنان، مات كعب بالأردن سنة 57 هـ، وقيل: سنة 59 هـ. يُنظر: الاستيعاب (3/ 1326)، الإصابة (5/ 493).
(2)
أخرجه الترمذي، أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من شاب شيبة في سبيل الله (4/ 172) برقم:(1634)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الجهاد، ثواب من رمى بسهم في سبيل الله (4/ 288) برقم:(4337)، وأحمد (29/ 606) برقم:(18064)، صححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(2/ 1081).
(3)
يُنظر: فيض القدير (6/ 339)، نيل الأوطار (1/ 151).
(4)
أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب شيبه صلى الله عليه وسلم (4/ 1821) برقم:(2341).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
اتفق الفقهاء على أن النهي عن نَتْف الشَّيْب يُحمل على الكراهة؛ بدليل القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص في نفس الحديث ببيان علة النهي.
فالقرينة: قوله صلى الله عليه وسلم: (كانت له نورا يوم القيامة) تعليل بأن الشَّيْب نور ووقار للمسلم ونور له يوم القيامة، يراد به الترغيب.
(1)
.
القرينة الثانية: المقصد من النهي.
ذلك أن النهي عن النَتْف أُريد به الحث على ترك الشَّيْب وإبقائه والترغيب فيما سيكون له من الثواب يوم القيامة، والإرشاد إلى أن الأفضل للمسلم عدم التعرض للشيب؛ لأن فيه معنى تغيير الخلقة.
قال ابن حجر رحمه الله: «إنما نهى عن النَتْف دون الخضب؛ لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها، بخلاف الخضب: فإنه لا يغيِّر الخِلقة على الناظر إليه، والله أعلم»
(2)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذه القرائن قوية ومعتبرة؛ لورود النص بالتعليل بأن الشَّيْب نور للمسلم، فحُمل -بدلالتها- النهيُ على الكراهة باتفاق الفقهاء.
(1)
(1/ 151).
(2)
فتح الباري (10/ 355) نقلاً عن ابن العربي.
المبحث الخامس:
النهي عن حَلْق المرأةِ رأسَها
المطلب الأول: حكم حلق المرأة رأسها:
دليل النهي:
عن علي رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا))
(1)
.
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الاتفاق:
اتفق الفقهاء
(2)
على تحريم حلق المرأة رأسها عند المصيبة، وعُدّ من الكبائر
(3)
.
الدليل: حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: ((أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنَ: الصَّالِقَةِ
(4)
، وَالْحَالِقَةِ
(5)
، وَالشَّاقَّةِ
(6)
(7)
.
وجه الاستدلال: أن الوعيد ببراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ممن يفعل هذه الأمور دليلٌ على تحريمها؛ لأنها مُشعِرة بعدم الرضا بالقضاء
(8)
.
(1)
أخرجه الترمذي، أبواب الحج، باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء (3/ 248) برقم:(914) وقال: «فيه اضطراب» ، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الزينة، النهي عن حلق المرأة رأسها (8/ 130) برقم:(5049)، قال ابن حجر في (الدراية في تخريج أحاديث الهداية) (2/ 32):«رواته موثقون إلا أنه اختُلف في وصْله وإرساله» ، وله شاهد من حديث عائشة أخرجه الترمذي (3/ 248) برقم:(915) وقال: «والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون على المرأة حلقا، ويرون أن عليها التقصير» .
(2)
يُنظر: الجوهرة النيرة (1/ 108)، البيان والتحصيل (5/ 380)، الحاوي الكبير (3/ 68)، المغني (2/ 408).
(3)
يُنظر: إعلام الموقعين (4/ 306).
(4)
الصَّالِقَةُ: الصَّلق: الصوت الشديد، يريد: رفعه في المصائب، وعند الفجيعة بالموت. يُنظر: مقاييس اللغة (3/ 306)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 48)، المنهاج شرح صحيح مسلم (2/ 110).
(5)
الحَالِقَةُ: التي تحلق شعرها في المصيبة إذا حلت بها. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 427)، المنهاج شرح صحيح مسلم (2/ 110)، القاموس المحيط (ص: 875).
(6)
الشَّاقَّةُ: التي تشق ثوبها عند المصيبة. يُنظر: شرح صحيح البخارى، لابن بطال (3/ 280)، المنهاج شرح صحيح مسلم (2/ 110).
(7)
أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يُنهى من الحلق عند المصيبة (2/ 81) برقم:(1296)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية (1 م 70) برقم:(104).
(8)
يُنظر: نيل الأوطار (4/ 125).
ثانياً: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم حلق المرأة رأسها بعد اتفاقهم على تحريمه في المصيبة، على قولين:
القول الأول: يحرم.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والمالكية
(2)
، وقول عند الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: يُكره.
وهو المذهب عند الشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ الْحَلْقُ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث يدل على أن المرأة لا يُباح لها حلق الرأس حال النسك، وإذا لم يُبِح لها حلقَه في حال النُسُك، فغيره من الأحوال أولى
(8)
.
الدليل الثاني: عن علي رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا))
(9)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً صريحاً عن حلق المرأة رأسها مطلقاً، وظاهر
(1)
يُنظر: بدائع الصنائع (2/ 141)، تبيين الحقائق (2/ 39).
(2)
يُنظر: البيان والتحصيل (3/ 434)، شرح مختصر خليل، للخرشي (2/ 335).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 375)، إعانة الطالبين (2/ 330).
(4)
يُنظر: الفروع (1/ 155)، الإنصاف (1/ 258).
(5)
يُنظر: الحاوي الكبير (4/ 164)، المجموع (8/ 204).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 67)، مطالب أولي النهى (1/ 88).
(7)
أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الحلق والتقصير (3/ 341) برقم:(1985)، قال ابن الملقن في (البدر المنير) (6/ 267):«سكت أبو داود عليه ولم يضعِّفه، فهو حجة على قاعدته» ، حسّن إسناده النووي في (المجموع)(8/ 197)، وابن حجر في (التلخيص الحبير)(2/ 559).
(8)
يُنظر: أضواء البيان (5/ 189).
(9)
سبق تخريجه ص: (164).
النهي المجرد يقتضي التحريم
(1)
، ولا قرينة صارفة.
الدليل الثالث: الإجماع على أنه ليس على النساء حلق في التحلل من النُسُك
(2)
، ولو كان الحلق يجوز لهن لأُمرن به في الحج؛ لأن الحلق نُسُك على التحقيق
(3)
.
الدليل الرابع: أن حلق الشعر مُثلة في حق المرأة كحلق اللحية في حق الرجال؛ لأن شَعْر رأسها من أحسن أنواع جمالها، وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها كما يدركه الحس السليم
(4)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث علي رضي الله عنه الذي استدل به أصحاب القول الأول.
وجه الاستدلال: أن النهي في الحديث يُحمل على الكراهة؛ لأنها لو حلقت -في التحلل- أجزأها ولم تأتِ حراماً
(5)
.
يمكن أن يُناقش: بأنه دعوى بلا دليل، واستدلال بمحل النزاع.
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن حلق المرأة رأسها تشبه بالرجال، وقد نُهيت عن التشبه بهم، ويُحمل النهي على الكراهة لا التحريم، فلو حلقت أساءت وأجزأها
(7)
.
نُوقش: بأن اللعن من أقوى دلالات التحريم؛ فالتشبه بالرجال محرم
(8)
، وحَلْقُ
(1)
يُنظر: عمدة القاري (10/ 64)، فيض القدير (6/ 347).
(2)
نقل الإجماع: ابن المنذر في (الإجماع)(ص: 69)، وابن عبد البر في (التمهيد)(7/ 267)، والنووي في (المجموع)(8/ 204).
(3)
يُنظر: أضواء البيان (5/ 188).
(4)
يُنظر: البناية (4/ 274)، شرح مختصر خليل، للخرشي (2/ 335)، إعانة الطالبين (2/ 330).
(5)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 170)، الحاوي الكبير (4/ 164).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال (7/ 159) برقم:(5885).
(7)
يُنظر: الحاوي الكبير (4/ 164)، المجموع (8/ 204).
(8)
اتفق الفقهاء على تحريم تشبه النساء بالرجال وعكسه، وعُد من الكبائر. يُنظر: عمدة القاري (22/ 41)، الذخيرة (13/ 264)، روضة الطالبين (2/ 263)، الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 256)، كشاف القناع (1/ 283).
المرأةِ رأسَها تَشبُّهٌ بالرجال؛ لأن الحلق من صفاتهم الخاصة
(1)
.
الدليل الثالث: حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: ((أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنَ: الصَّالِقَةِ، وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث براءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن تفعل هذه الأمور، وذلك يفيد التحريم، فيحرم حلق الشعر عند المصيبة
(3)
؛ لما فيه من التسخُّط والاعتراض، وأما في غير المصيبة: فلا يحرم.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم حلقِ المرأةِ رأسَها في النُسُك وغيره.
قال ابن حجر رحمه الله: «كما يحرم على المرأة الزيادة في شعر رأسها يحرم عليها حَلق شعر رأسها بغير ضرورة»
(4)
.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة أدلة هذا القول.
2 -
أن الحلق من خصائص الرجال، وتَشبُّه المرأة بالرجال محرم.
(1)
يُنظر: أضواء البيان (5/ 189).
(2)
سبق تخريجه: ص (164).
(3)
يُنظر: مغني المحتاج (2/ 269).
(4)
فتح الباري (10/ 375).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل أصحاب القول الثاني النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارفَ له القرائنُ التالية:
القرينة الأولى: الاستدلال بأنها لو حلقت لم يكن حراماً.
قال ابن بطال رحمه الله: «حديث ابن عباس ليس معناه التحريم؛ بدليل أن المرأة لو حلقت رأسها في الحج مكان التقصير اللازم لها لم تأتِ في ذلك حراماً»
(1)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
قال المناوي رحمه الله: «(نهى أن تحلق المرأة رأسها) فيُكره ذلك تنزيهاً»
(2)
.
والعلة: التنزيه عن التشبه بالرجال، أو خيفة أن تمثل المرأة بنفسها؛ لأن الحلق فيهن مُثلة، وقد نهي عنه
(3)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قولهم: (أنها لو حلقت لم يكن حراماً) لا يُعد قرينة صارفة؛ إذ هو قول بلا دليل، بل أجمع العلماء على أنه ليس عليها حلق في النسك، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والتنزيه غير معتبرة؛ إذ إن التعليل بالتشبُّه والمُثلة أقرب للقول بالتحريم؛ لأن تشبه النساء بالرجال حرام، وكذلك المثلة، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
شرح صحيح البخاري (9/ 170).
(2)
التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 478).
(3)
يُنظر: المجموع (8/ 210)، أسنى المطالب (1/ 491)، التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 478).
المبحث السادس:
النهي عن وصل المرأة رأسها بغير الشعر
المطلب الأول: حكمُ وصلِ المرأةِ رأسَها بغير الشعر:
دليل النهي:
عن جابر رضي الله عنه قال: ((زَجَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئاً))
(1)
.
صورة المسألة:
لو أرادت امرأة وَصْل شعرها بغير الشعر: كالْخِرَقِ والصوف والوَبر والقَرَامِل
(2)
، فهل يجوز لها ذلك أو لا يجوز؟
تحرير محل النزاع:
أولاً محل الإتفاق:
اتفق الفقهاء
(3)
على أن رَبْط الشعر بالقرامل ونحوها مما لا يشبه الشعر، ليس بمنهيٍّ عنه، فلا بأس باستعمالها.
الدليل: لأنه ليس بوصْل، ولا هو في معنى مقصود الوصل
(4)
، ولأنه للتجميل والتحسين، كما يُشد منه في الأوساط، ويُربط من الحُليِّ في الأعناق، ويُجعل في الأيدي والأرجل
(5)
.
قال الخطابي رحمه الله: «قد رخص أكثر العلماء في القرامل وذلك أن أمرها لا يشتبه في
(1)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فِعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة (3/ 1679) برقم:(2126).
(2)
القَرَامِلُ: جمع قرمل -بفتح القاف وسكون الراء- نبات طويل الفروع لين، والمراد به هنا: خيوط من حرير أو صوف يعمل ضفائر تشده المرأة في شعرها، يُنظر: الصحاح (5/ 1801)، لسان العرب (9/ 153)، فتح الباري، لابن حجر (10/ 375).
(3)
يُنظر: تبيين الحقائق (4/ 51)، وذكره العيني في (عمدة القاري)(19/ 226)، التاج والإكليل (1/ 305)، مواهب الجليل (1/ 206)، المجموع (3/ 141)، المغني (1/ 70)، الإنصاف (1/ 270).
(4)
يُنظر: إكمال المعلم (6/ 652)، المجموع (3/ 141).
(5)
يُنظر: إكمال المعلم (6/ 652).
إحاطة علم الناس بأنها استعارة فلا يظن بها تغيير الصورة»
(1)
.
ثانياً محل النزاع:
اختلف الفقهاء في وَصل المرأة شعرها بغير الشعر: كالْخِرَقِ والصوف والوَبر مما يشبه الشعر، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يحرم.
وهو مذهب الجمهور: المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(4)
.
القول الثاني: يُكره.
وهو المذهب عند الحنابلة
(5)
.
القول الثالث: يُباح.
وهو مذهب الحنفية
(6)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن جابر رضي الله عنه قال: ((زَجَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئاً))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً عن الوصال؛ فكل شيء يصل فهو وصال
(8)
، والأصل في النهي المجرد عن القرينة: التحريم، وقوله:(شَيْئاً) يدل على العموم فيشمل: الصوف والْخِرَق ونحوها.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَعَنَ اللَّهُ الوَاصِلَةَ
(1)
أعلام الحديث (3/ 2164).
(2)
يُنظر: التاج والإكليل (1/ 305)، مواهب الجليل (1/ 206)
(3)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 173)، مغني المحتاج (1/ 406).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 70)، الإنصاف (1/ 270).
(5)
يُنظر: المصدران السابقان.
(6)
يُنظر: بدائع الصنائع (5/ 125)، تبيين الحقائق (4/ 51).
(7)
سبق تخريجه ص: (169).
(8)
يُنظر: المغني (1/ 70).
وَالمُسْتَوْصِلَةَ
(1)
، وَالوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ
(2)
(3)
.
الدليل الثالث: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: ((سَأَلَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَتِي أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ
(4)
، فَامَّرَقَ
(5)
شَعَرُهَا، وَإِنِّي زَوَّجْتُهَا، أَفَأَصِلُ فِيهِ؟ فَقَالَ: لَعَنَ اللهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ))
(6)
.
الدليل الرابع: عن عائشة رضي الله عنها: ((أَنَّ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصَارِ تَزَوَّجَتْ، وَأَنَّهَا مَرِضَتْ فَتَمَعَّطَ
(7)
شَعَرُهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوْصِلَةَ))
(8)
.
وجه الاستدلال: أن في الأحاديث دليلاً على تحريم وصل الشعر، سواء كان لمعذورة أم عروس أم غيرها؛ لورود اللعن على الفاعل، واللعن من أقوى دلالات التحريم
(9)
، وهو عام يشمل: الشَّعر والصوف والْخِرَقَ ونحوها.
(1)
الوَاصِلَةُ: التي تصل شعرها بشعر آخر زورا، سواء كان لنفسها أم لغيرها، والموصولة: هي المستوصلة: التي تأمر من يفعل بها ذلك. يُنظر: مقاييس اللغة (6/ 115)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 192)، فتح الباري، لابن حجر (10/ 375).
(2)
الوَشْمُ: أن يغرز الجلد بإبرة، ثم يُحشى بكحل أو نيل، فيَزْرَقُّ أثره أو يَخْضَرُّ، وقد وشمت تشم وشماً فهي واشمة، والمستوشمة: التي يُفعل بها ذلك. يُنظر: الصحاح (5/ 2052)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 189).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الوصل في الشعر (7/ 165) برقم:(5933).
(4)
الحَصْبَةُ: هي بثرات تخرج في الجلد حُمر متفرقة. يُنظر: مقاييس اللغة (2/ 70)، الكواكب الدراري (21/ 130).
(5)
امَّرَقَ: الميم والراء والقاف: أصل صحيح يدل على خروج شيء من شيء، وامرق: أي انتثر شعرها وتساقط من مرض. يُنظر: مقاييس اللغة (5/ 313)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 321).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الموصولة (7/ 166) برقم:(5941)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة (3/ 1676) برقم:(2122).
(7)
تمعط: أي تساقط من داء وتناثر. يُنظر: الصحاح (3/ 1161)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 343).
(8)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الوصل في الشعر (7/ 165) برقم:(5934)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة (3/ 1677) برقم:(2123).
(9)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 105)، فتح الباري، لابن حجر (10/ 377).
الدليل الخامس: عن سعيد بن المسيب
(1)
قال: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ المَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا، فَخَطَبَنَا، فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَحَداً يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ اليَهُودِ، ((إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ: الزُّورَ -يَعْنِي: الوَاصِلَةَ فِي الشَّعَرِ-))
(2)
، وفي رواية لمسلم: قَالَ: وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصاً عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ، قَالَ مُعَاوِيَةُ:((أَلَا وَهَذَا الزُّورُ؟! قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: مَا يُكَثِّرُ بِهِ النِّسَاءُ أَشْعَارَهُنَّ مِنَ الْخِرَقِ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث تسمية الوصل بالزور؛ لما فيه من الكذب والخداع، والزور منهي عنه، فأفاد تحريم الوصل وتكثير الشعر
(4)
.
الدليل السادس: أن الوصل بالصوف والْخِرَقِ ونحوها في معنى الوصل بالشعر؛ لعموم النهي
(5)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن جابر رضي الله عنه قال: ((زَجَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئاً))
(6)
.
الدليل الثاني: استدلوا بحديث معاوية رضي الله عنهم.
وجه الاستدلال: أن في حديث جابر نهياً عن وَصْل الشعر، وهو محمول على الكراهة، وحديث معاوية يدل على تخصيص التي تصله بالشعر، فيمكن جعل ذلك
(1)
هو: سعيد بن الْمُسَيِّب بن حزن أبي وَهْب بن عمرو بن عَائِذ بن عمران ابن مَخْزُوْم، أبو محمد القرشي المخزومي، عالم أهل المدينة وسيد التابعين في زمانه، وُلد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، روى عن أبي بكر مرسلاً وعن عمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وحكيم بن حزام وابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص وأبيه المسيب ومعمر بن عبد الله وأبي ذر وأبي الدرداء وغيرهم، وكان زوج بنت أبي هريرة وأعلم الناس بحديثه، وروى عنه: الزهري، وقتادة، وعمرو بن دينار، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وبكير بن الأشج، وبشرٌ كثيرٌ، تُوفي سنة 94 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (5/ 124)، تهذيب التهذيب (4/ 84).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الوصل في الشعر (7/ 165) برقم:(5938)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فِعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة (3/ 1679) برقم:(2127).
(3)
كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة (3/ 1680) برقم:(2127).
(4)
فتح الباري، لابن حجر (10/ 375).
(5)
يُنظر: المفهم (5/ 443)
(6)
سبق تخريجه ص: (169).
تفسيراً للفظ العام، وبقيت الكراهة لعموم اللفظ في سائر الأحاديث
(1)
.
نُوقش: أن حديث اللعن حجة على مَنْ حمل النهي فيه على التنزيه؛ لأن دلالة اللعن على التحريم من أقوى الدلالات، بل عند بعضهم أنه من علامات الكبيرة
(2)
. ولدلالة العموم في سائر الأحاديث
(3)
.
ويمكن أن يُناقش أيضاً: بأن الرواية الأخرى لحديث معاوية ذَكر فيها الْخِرَقَ، فانَتْفى التخصيص بالشَّعر.
الدليل الثالث: أن وصله بالشَّعر فيه تدليس، بخلاف غيره، فتُحمل أحاديث النهي على الكراهة في غير الشَّعر
(4)
.
يمكن أن يُناقش: أن الوصل بغير الشعر إن كان مما يشبه الشعر تحققت فيه علة التدليس والتزوير، فيحرم كالشَّعر؛ بدليل حديث معاوية: سمى الوصل بالْخِرَقِ أيضاً: زوراً.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}
(5)
.
وجه الاستدلال: أن الآية دليل على أن الزينة حلال، وتكثير الشعر بالصوف وغيره انَتْفاع بطريق التزين بما يحتمل ذلك
(6)
، فهو من الزينة المباحة.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة: ((لَعَنَ اللهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن اللعن في الحديث للانَتْفاع بما لا يحل الانَتْفاع به، وهو شعر بني آدم؛ لأن الآدمي بجميع أجزائه مُكرَّم، والانَتْفاع بالجزء المنفصل منه إهانة له، وليس
(1)
يُنظر: المغني (1/ 70).
(2)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 377).
(3)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 173).
(4)
يُنظر: الشرح الكبير (1/ 263).
(5)
سورة الأعراف: جزء من الآية (32).
(6)
يُنظر: فتح القدير، لابن الهمام (6/ 426).
(7)
سبق تخريجه: ص (171).
اللعن للتكثير؛ بدلالة الترخيص في اتخاذ القَرامِل، فدل على الرخصة في غير شَعر بني آدم
(1)
.
نُوقش من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن عموم الأحاديث يردُّه؛ فإنه شامل للشعر والصوف والوَبر وغيرها، ولا دليل على التخصيص بشعر بني آدم
(2)
.
الوجه الثاني: أن القَرامِل لم يدخل في النهي، ويلتحق بأنواع الزينة؛ لأنه ليس بوصل ولا قُصد به الوصل، وإنما المراد به التجمل والتحسين
(3)
، ولا هو مما يشبه الشَّعر، فخرج عن محل النزاع.
الوجه الثالث: أن علة التحريم واللعن؛ لما فيه من تغيير خلق الله؛ فهو غرر وتدليس
(4)
، والتكثير بما يشبه الشعر من صوف أو وَبر ونحوها: تدليس.
سبب الخلاف:
اختلافهم في علة التحريم واللعن، فمنهم: مَنْ قال أن العلة هي الغرر والتدليس، وهي موجودة في الشَّعر وغيره مما يشبهه، فيحرم الجميع، ومنهم مَنْ قال بأن هذه العلة لا تُوجد إلا في الوصل بالشَّعر، فيحرم ولا يحرم غيره، ومنهم مَنْ قال بأن العلة هي التكريم والمنع من الإهانة، فيحرم الوصل بشعر بني آدم، ويُرخص في غيره.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم وصْل الشَّعر بغير الشعر مما يشبهه من الصوف والوَبر ونحوها.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة أدلة هذا القول.
2 -
ورود اللعن على الواصلة، واللعن لا يكون إلا على محرم.
3 -
أن حديث جابر رضي الله عنه نص في المسألة.
(1)
يُنظر: بدائع الصنائع (5/ 126)، فتح القدير، لابن الهمام (6/ 426).
(2)
يُنظر: نيل الأوطار (6/ 228).
(3)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 206)، الفواكه الدواني (2/ 314).
(4)
يُنظر: التاج والإكليل (1/ 305)، الفواكه الدواني (2/ 314).
4 -
أن فيه سداً لذريعة الغش والفساد
(1)
.
5 -
ضعف استدلال الأقوال الأخرى، وورود المناقشة عليها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب أصحاب القول الثاني إلى كراهة وصْل المرأةِ شعرَها بغير الشعر، ولعل القرينة الصارفة له: المقصد من النهي؛ إذ النهي أُريد به التنزيه عن مقاربة المحرم وهو الوصل بالشعر لأنه تدليس
(2)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذه القرينة غير معتبرة؛ فوجود علة التحريم- التدليس- في غير الشعر مما يشبهه، يُضعِف هذه القرينة، ولأن اللعن من أقوى الدلالات على التحريم، ويؤكده ما جاء من الزجر والمنع وإن كان لمرض، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
يُنظر: أعلام الحديث (3/ 2162).
(2)
يُنظر: الشرح الكبير (1/ 263).
الفصل الخامس
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب صفة الوضوء ونواقضه
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن الإسراف في الماء.
المبحث الثاني: النهي عن الوضوء من أكل لحم الغنم.
المبحث الثالث: النهي عن الالتفات إلى الشك في الوضوء.
المبحث الرابع: النهي عن مسِّ المصحف من غير طهارة.
المبحث الخامس: النهي عن السفر بالمصحف إلى دار الحرب.
المبحث السادس: النهي عن قراءة الحائض والنفساء شيئاً من القرآن.
المبحث الأول:
النهي عن الإسراف في الماء
المطلب الأول: حكم الإسراف
(1)
في الماء:
دليل النهي:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: لَا تُسْرِفْ، لَا تُسْرِفْ))
(2)
.
صورة المسألة: الوضوء بإراقة الكثير من الماء زيادة عن القدر الذي يكفي للوضوء.
حكم المسألة:
أجمع العلماء
(3)
على كراهة الإسراف في الماء عند الطهارة.
قال النووي رحمه الله: «أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء ولو كان على شاطئ البحر»
(4)
. وقال أيضاً: «والإسراف مكروه بالاتفاق»
(5)
.
وقال البخاري رحمه الله: «كره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فِعل النبي صلى الله عليه وسلم»
(6)
.
الأدلة:
الدليل الأول: عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّه سيكونُ في هذه الأمَّةِ قومٌ يَعتَدونَ في الطُّهور والدُّعاء))
(7)
.
(1)
السَّرَف: ضد القصد، وهو صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي؛ بخلاف التبذير؛ فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي. يُنظر: التعريفات (ص: 24)، الصحاح (4/ 1373)، عمدة القاري (2/ 243).
(2)
أخرجه ابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهة التعدي فيه (1/ 272) برقم:(424)، قال ابن الملقن في (البدر المنير) (2/ 601):«في إسناده محمد بن الفضل بن عطية: وهو متروك» ، وضعّف إسناده البوصيري في (مصباح الزجاجة)(1/ 62).
(3)
نقل الإجماع النووي في (المنهاج)(4/ 2). ونقله عنه الحطاب في (مواهب الجليل)(1/ 78).
(4)
المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 2).
(5)
المجموع (1/ 467).
(6)
صحيح البخاري (1/ 39).
(7)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الإسراف في الوضوء (1/ 71) برقم:(96)، وأحمد (27/ 356) برقم:(16801)، صححه ابن حبان (15/ 166) برقم:(6764)، وصحح إسناده النووي في (المجموع)(2/ 190)، وصححه ابن الملقن في (البدر المنير)(2/ 599)، وابن حجر في (التلخيص الحبير)(1/ 387).
وجه الاستدلال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الذم عما يُحدَث في الأمة مما لم يكن في زمانه، ومن ذلك: الاعتداء في الطهور، وذلك مكروه للتنزيه
(1)
؛ لأنه يُفضِي به إلى الوسواس
(2)
.
الدليل الثاني: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَال: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث إنكاراً للإسراف في الوضوء، وقوله:(وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ) تتميم لإرادة المبالغة في الإنكار
(4)
، فدل ذلك على كراهته.
الدليل الثالث: عن أبي بن كعب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إِنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ: وَلَهَانُ، فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث دلالة على كراهة الإسراف في الوضوء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حذر من وسواس شيطان الوضوء؛ لإيقاعه الناس في التحيُّر والوسوسة في الوضوء، ويحملهم على الزيادة فيه
(6)
.
(1)
يُنظر: المجموع (2/ 190)، شرح المشكاة، للطيبي (3/ 803).
(2)
يُنظر: شرح المشكاة، للطيبي (3/ 803).
(3)
أخرجه ابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهة التعدي فيه (1/ 272) برقم:(425)، وأحمد (11/ 636) برقم:(7065)، ضعّف إسناده ابن حجر في (التلخيص الحبير)(1/ 387).
(4)
يُنظر: شرح المشكاة، للطيبي (3/ 806).
(5)
أخرجه الترمذي، أبواب الطهارة، باب كراهية الإسراف في الماء (1/ 84) برقم:(57) وقال: «وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مغفل، حديث أبي بن كعب حديث غريب، وليس إسناده بالقوي والصحيح عند أهل الحديث؛ لأنا لا نعلم أحداً أسنده غير خارجة» ، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه (1/ 270) برقم:(421)، وأحمد (35/ 160) برقم:(21238).
قال ابن الملقن في (البدر المنير)(2/ 600): «
…
فكلهم ضعَّف خارجة، ونسبه إلى الكذب يحيى، وهذا الحديث من أفراده، ولا أعلم فيه أحسن من قول ابن عدي: إنه يكتب حديثه»، وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (1/ 387):«فيه خارجة بن مصعب: وهو ضعيف» ، وقال الحاكم في (المستدرك) (1/ 266): «ينفرد به خارجة ابن مصعب، وأنا أذكره محتسباً لما أشاهده من كثرة وسواس الناس في صب الماء
…
وله شاهد بإسناد آخر أصح من هذا» وذكر حديث عبد الله بن مغفل.
(6)
يُنظر: شرح المشكاة، للطيبي (3/ 804)، فيض القدير (2/ 503).
الدليل الرابع: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ؟ فَأَرَاهُ ثَلَاثاً، ثَلَاثاً قَالَ: هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَتَعَدَّى، وَظَلَمَ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن الحد الأكمل في الوضوء، ونهى عن الزيادة عليه، وبيَّن أن مَنْ زاد عليه فقد أسرف وتجاوز، ووصفه بالإساءة والظلم؛ لما فيه من ترك الأدب بمخالفة هَديه
(2)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرائن الصارفة للنهي عن التحريم:
القرينة الأولى: الإجماع.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أن النهي فيه الحث على التأدب بأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء، والإرشاد إلى مصلحة الحفاظ على النفس من الوسواس، والحث على القصد في استعمال الماء.
قال النووي رحمه الله: «أجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء ولو كان على شاطئ البحر، والأظهر أنه مكروه كراهة تنزيه»
(3)
.
وجاء في مواهب الجليل: «الأظهر أنه مكروه كراهة تنزيه»
(4)
.
ومما ذكره العلماء من علل النهي:
1 -
أن في الإسراف إساءة وظلماً بمخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً (1/ 95) برقم:(135)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، الاعتداء في الوضوء (1/ 106) برقم:(89) واللفظ له. وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه (1/ 271) برقم:(422)، وأحمد (11/ 277) برقم:(6684)، صححه ابن خزيمة (1/ 126) برقم:(174)، وابن الملقن في (البدر المنير)(2/ 143)، وصحح طرقه ابن حجر في (التلخيص الحبير)(1/ 268).
(2)
يُنظر: المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 404).
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 2).
(4)
(1/ 258) نقلاً عن ابن ناجي.
جاء في (المفاتيح في شرح المصابيح): «فمَن زاد على هذا فقد أساء وظلم بترك الأدب بمخالفة رسول الله رحمه الله»
(1)
.
2 -
أن الإسراف في الطهور يُفضِي إلى الوسواس.
جاء في (شرح المشكاة): «الاعتداء في الطهور: استعماله فوق الحاجة، والمبالغة في تحري طهوريته، حتى يفضي به إلى الوسواس»
(2)
.
الحكم على القرينة:
قرينة الإجماع من أقوى القرائن المعتبرة الصالحة لصرف النهي عن مقتضاه التحريم، والذي يظهر أن قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة؛ لمناسبة ما ذُكر فيها من معنى لباب آداب الوضوء التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
تنبيه:
من صور الإسراف في الوضوء في زماننا: فتح صنبور الماء على مستوى عالي للماء مع عدم الحاجة لذلك، أو تركه مفتوحا يصب الماء بلا فائدة أثناء التنقل بين فروض الوضوء.
(1)
(1/ 404).
(2)
للطيبي (3/ 803).
المبحث الثاني:
النهي عن الوضوء من أكل لحم الغنم
المطلب الأول: حكم الوضوء من أكل لحم الغنم
(1)
:
دليل النهي:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوءِ
(2)
من لُحومِ الإبلِ، فقال: تَوضَّؤوا منها، وسُئِلَ عن لُحوم الغَنَم، فقال: لا توضَّؤوا منها، وسُئِلَ عن الصلاة في مَبَارِكِ الإبلِ
(3)
، فقال: لا تُصَلُّوا في مَبَارِكِ الإبل؛ فإنَّها مِنَ الشَّياطين، وسُئِلَ عن الصَّلاة في مَرَابِضِ
(4)
الغَنَم، فقال: صَلُّوا فيها؛ فإنَّها بَرَكةٌ))
(5)
.
حكم المسألة:
نقل أهل العلم أن الوضوء مما مست النار اختُلف فيه في الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك على أنه لا يجب الوضوء منه، ماعدا لحم الإبل عند من يراه.
(1)
تَرِد هذه المسألة عند الفقهاء بعنوان: الوضوء مما مست النار، أو تُذكر ضمناً مع مسألة الوضوء من أكل لحم الإبل؛ ذلك أن وجوب الوضوء من لحم الإبل من مفردات مذهب الحنابلة، على خلاف مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية: فإنهم ذهبوا إلى عدم وجوب الوضوء كحكم ما مست النار- ولذا فإنهم يذكرون حكم ما مست النار على العموم، ولحم الغنم من أفراده، ودليلهم حديث البراء، وهو نص في لحم الغنم.
وتُنظر مسألة الوضوء من أكل لحم الإبل في: بدائع الصنائع (1/ 32)، المعونة (ص: 158)، المجموع (2/ 57)، المغني (1/ 138).
(2)
اختُلف في تأويل المراد بالوضوء، فقيل: المراد به الوضوء اللغوي، وهو: غسل اليدين والفم، وقيل: هو الوضوء الشرعي، وردّ ابن قدامة والنووي التأويل الأول؛ لضعفه، ولأن الوضوء إذا جاء على لسان الشارع، وجب حمله على الموضوع الشرعي دون اللغوي؛ لأن الظاهر منه أنه إنما يتكلم بموضوعاته. يُنظر: المجموع (2/ 58)، المغني (1/ 139).
(3)
مَبَارِكُ الإبل: معاطنها عند المناهل للشرب والراحة، وحيث تبيت وتقيل. يُنظر: الصحاح (6/ 2165)، إكمال المعلم (2/ 206).
(4)
المَرَابِضُ للغنم كالمعاطن للإبل، واحدها مربض، ومرابض الغنم حيث تربض للقائلة والمبيت. يُنظر: الصحاح (3/ 1076)، إكمال المعلم (2/ 206).
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الوضوء من لحوم الإبل (1/ 132) برقم:(184)، والترمذي، أبواب الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل (1/ 122) برقم:(81)، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل (1/ 311) برقم:(494)، وأحمد (30/ 631) برقم:(18703)، قال ابن خزيمة (1/ 63):«ولم نرَ خلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر أيضاً صحيح من جهة النقل؛ لعدالة ناقليه» .
وممن نقل الإجماع:
ابن المنذر رحمه الله حيث يقول: «ولا أعلم اليوم بين أهل العلم اختلافاً في ترك الوضوء مما مست النار، إلا الوضوء من لحوم الإبل خاصة»
(1)
.
وقال النووي رحمه الله: «ثم إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك على أنه لا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار»
(2)
.
فالفقهاء متفقون على أنه لا يجب الوضوء مما مست النار، ولحوم الغنم تدخل فيها
(3)
.
الأدلة:
الدليل الأول: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ))
(4)
.
الدليل الثاني: عن عمرو بن أمية
(5)
رضي الله عنه: ((أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَلْقَى السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ))
(6)
.
الدليل الثالث: عن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ عِنْدَهَا كَتِفاً، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ))
(7)
.
وجه الاستدلال من الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحم غنم ولم يتوضأ؛ فكان فِعله
(1)
الأوسط (1/ 224)، ويُنظر: الاستذكار (1/ 180).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 43).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 79)، المعونة (ص: 158)، بداية المجتهد (1/ 46)، الحاوي الكبير (1/ 205)، المجموع (2/ 57)، المغني (1/ 141)، الشرح الكبير (2/ 57).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب مَنْ مضمض من السويق ولم يتوضأ (1/ 52) برقم:(207)، ومسلم، كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار (1/ 273) برقم:(354).
(5)
هو: عَمْرُو بنُ أُمَيَّة بن خُوَيْلِد بن عبد الله بن إياس الضمري، أبو أمية، صحابي مشهور، قال ابن سعد: أسلم حين انصرف المشركون من أحد، وكان شجاعًا، بعثه النبي إلى النجاشي في زواج أم حبيبة، له أحاديث: روى عنه أولاده: جعفر، وعبد الله، والفضل، وغيرهم. وعاش إلى خلافة معاوية، فمات بالمدينة قبل الستين. يُنظر: الاستيعاب (3/ 1162)، الإصابة (4/ 496).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب مَنْ مضمض من السويق ولم يتوضأ (1/ 52) برقم:(208)، ومسلم، كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار (1/ 273) برقم:(355).
(7)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ (1/ 52) برقم:(210)، ومسلم، كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار (1/ 274) برقم:(356).
-صلى الله عليه وسلم دليلاً على أن الوضوء من لحم الغنم ليس بواجب، وأن تَرْكه الوضوء منها دليل على نسخ ما سبق من الأمر بالوضوء مما مست النار.
الدليل الرابع: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن حديث جابر فيه بيان أن آخر الأمرين -أي: من الوضوء مما مسته النار أو ترْكه- من فِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ترك الوضوء، فاستُفيد منه نسخ الأحاديث التي أفادت وجوب الوضوء مما مست النار: كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تَوَضَّؤوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ))
(2)
، وهوعام يدخل فيه لحم الغنم
(3)
، ومما يدل على النسخ عمل الخلفاء الراشدين بترك الوضوء مما مست النار
(4)
.
الدليل الخامس: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوءِ من لُحومِ الإبلِ، فقال: تَوضَّؤوا منها، وسُئِلَ عن لُحوم الغَنَم، فقال: لا توضَّؤوا منها، وسُئِلَ عن الصلاة في مَبَارِكِ الإبلِ، فقال: لا تُصَلُّوا في مَبَارِكِ الإبل؛ فإنَّها مِنَ الشَّياطين، وسُئِلَ عن الصَّلاة في مَرَابِضِ الغَنَم، فقال: صَلُّوا فيها؛ فإنَّها بَرَكةٌ))
(5)
(6)
.
وجه الاستدلال: أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الوضوء من أكل لحم الغنم،
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في ترك الوضوء مما مست النار (1/ 137) برقم:(192)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيرت النار (1/ 108) برقم:(185). صححه ابن خزيمة (1/ 68) برقم: (43)، وابن حبان (3/ 416) برقم:(1143)، وقال النووي في (المنهاج) (4/ 43):«حديث صحيح: رواه أبو داود والنسائي وغيرهما من أهل السنن بأسانيدهم الصحيحة» .
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار (1/ 272) برقم:(352).
(3)
شرح صحيح البخاري، لابن بطال (1/ 314)، المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 43)، شرح أبي داود، للعيني (1/ 446).
(4)
يُنظر: الاستذكار (1/ 175)، المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 43).
(5)
سبق تخريجه ص: (181).
(6)
استدل به الحنابلة على مسألة الوضوء من لحوم الإبل، وحملوا النهي عن الوضوء من لحوم الغنم على نفي الوجوب، أما الجمهور: فلم يستدلوا به في هذه المسألة؛ لأن منهم مَنْ حمل الوضوء فيه على الوضوء اللغوي، ومنهم مَنْ حمله على الوضوء الشرعي، وقالوا بنسخ الحديث، وأجاب الحنابلة عن هذه الأوجه. يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 206)، كشاف القناع (1/ 130).
والمراد بالنهي ها هنا: نفي الإيجاب لا التحريم
(1)
؛ لأنه وقع جواباً لسؤال قصد به السائل معرفة إن كان لحم الغنم ينقض الوضوء أم لا؟ فأجاب بنفي الوجوب.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين فيما سبق أن الفقهاء حملوا النهي عن الوضوء من أكل لحم الغنم على نفي الإيجاب، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: الإجماع.
إجماع العلماء على أنه لا يجب الوضوء مما مست النار، قرينة تدل على أن النهي ليس للتحريم.
القرينة الثانية: ورود النهي في جواب سؤال بحسب قصد السائل.
وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتوضؤوا منها) في جواب السؤال، قال ابن قدامة رحمه الله:«المراد بالنهي ها هنا نفي الإيجاب لا التحريم»
(2)
.
وقال ابن تيمية رحمه الله: «والنهي في لحم الغنم إنما أفاد نفي الإيجاب، فيجب أن يكون في لحم الإبل مفيداً للإيجاب؛ ليحصل الفرق»
(3)
.
وجاء في (الغيث الهامع): «أما النهي بعد الاستئذان: فهو مرتب على ما فُهم من السؤال من إيجاب وندب وإرشاد وإباحة؛ لأن أصله الاستفهام عن الخبر، وجوابه أيضاً خبر،
…
ومن أمثلته: حديث: سُئل عن لحوم الغنم فقال: (لا توضؤوا منها) والظاهر أن السؤال فيه عن الوجوب، فيكون معنى الجواب: لا يجب الوضوء منها، والله أعلم»
(4)
.
الحكم على القرينة:
قرينة الإجماع من أقوى القرائن المعتبرة الصالحة لصرف النهي عن مقتضاه التحريم، وقرينة ورود النهي في جواب السؤال قرينة حال صارفة، وقد اعتضدت بقرينة الإجماع، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
عيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار (2/ 637)، المغني (1/ 139).
(2)
المغني (1/ 139).
(3)
شرح العمدة -كتاب الطهارة (ص: 333).
(4)
الغيث الهامع شرح جمع الجوامع (ص: 246).
المبحث الثالث:
النهي عن الالتفات إلى الشك في الوضوء
المطلب الأول: حكم الالتفات إلى الشك في الوضوء:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئاً، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ: أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً
(1)
(2)
.
صورة المسألة: الشك في الوضوء له حالان:
الأول: أن يتيقن الحدث، ويشك في الطهارة.
الثاني: أن يتيقن الطهارة، ويشك في الحدث.
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الإجماع:
أجمع العلماء
(3)
على أنه إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة، فإنه يبني على اليقين
(4)
، ولا يلتفت إلى الشك، فيجب عليه الوضوء؛ لأن اليقين لا يزول بالشك
(5)
؛
(1)
حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً: المراد به أن يعلم ويتحقق، ولا يشترط السماع والشم، وذِكر الريح ليس للتخصيص، وإنما يدخل في معناه كل ما يخرج من السبيلين، قال النووي رحمه الله في (المنهاج) (4/ 49):«وقوله: صلى الله عليه وسلم حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً معناه: يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين» ، وقال الخطابي في (أعلام الحديث) (1/ 227 - 228):«لم يرد بذكر هذين النوعين من الحدث تخصيصهما وقصر الحكم عليهما حتى لا يقع نقض الطهارة بغيرهما، وإنما هو جواب خرج على حدود المسألة التي سأل عنها السائل، وقد دخل في معناه كل ما يخرج من السبيلين من غائط وبول ومذي وودي ودم ونحوها» .
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن مَنْ تيقن الطهارة ثم شك فِي الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك (1/ 276) برقم:(362).
(3)
نقل الإجماع: الماوردي في (الحاوي)(1/ 207)، وابن حزم في (مراتب الإجماع) (ص: 22)، وابن عبد البر في (الاستذكار)(1/ 515)، والنووي في (المنهاج)(4/ 50).
(4)
اليقين: في اللغة: العلم وزوالُ الشك. يُنظر: الصحاح (6/ 2219). وعند الفقهاء: «ما أذعنت النفس للتصديق به، وقطعت به، وقطعت بأن قطعها به صحيح، قاله الموفق في مقدمة الروضة، وسمى ما هنا يقيناً بعد ورود الشك عليه استصحاباً للأصل السابق» . نقله البهوتي في (شرح منتهى الإرادات)(1/ 75).
(5)
وهي إحدى القواعد الكلية الكبرى، يُنظر: الأشباه والنظائر، للسبكي (1/ 13)، الأشباه والنظائر، لابن الملقن (1/ 135)، القواعد، للحصني (1/ 204)، الأشباه والنظائر، للسيوطي (ص: 7).
لحديث أبي هريرة.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «أجمع العلماء أن مَنْ أيقن بالحدث وشك في الوضوء، أن شكه لا يفيد فائدة، وأن الوضوء واجب عليه»
(1)
.
وقال ابن الملقن رحمه الله: «لو تيقن الحدث وشك في الطهارة، فهو محدث بالإِجماع»
(2)
.
ثانيا: محل النزاع:
اختلف الفقهاء فيما إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث في الصلاة أو خارجها، على قولين:
القول الأول: لا يجب عليه الوضوء، بل يبني على اليقين، ولا يلتفت إلى الشك.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
، ورواية عن الإمام مالك رحمه الله
(6)
.
القول الثاني: يجب عليه الوضوء.
وهو المشهور عن الإمام مالك رحمه الله
(7)
.
(1)
الاستذكار (1/ 515).
(2)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 673).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 86)، بدائع الصنائع (1/ 33).
(4)
يُنظر: الحاوي (1/ 207)، المجموع (2/ 64).
(5)
يُنظر: المغني (1/ 144)، الإنصاف (2/ 67).
(6)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 207)، التاج والإكليل (1/ 437).
(7)
يُنظر: الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 222)، المفهم (1/ 608)، الذخيرة (1/ 219).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن عبد الله بن زيد
(1)
رضي الله عنه: ((أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
(2)
أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا يَنْفَتِلْ -أَوْ: لَا يَنْصَرِفْ- حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً))
(3)
.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئاً، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ: أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً
(4)
(5)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر هذه الأحاديث يدل على أن مَنْ تيقن الطهارة وشكَّ في الحدث، حُكم ببقائه على الطهارة، ولا يلزمه الوضوء، سواء حصل الشك في الصلاة أم
(1)
هو: عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب بن عمرو الأنصاري المازني، من بني مازن بن النجار، يُعرف بابن أم عمارة، ولم يشهد بدراً، وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب مع وحشي ابن حرب، وكان مسيلمة قد قتل أخاه حبيب بن زيد، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وروى عنه ابن أخيه عباد بن تميم، ويحيى بن عمارة، وواسع بن حبان، وغيرهم. قُتل عبد الله بن زيد يوم الحرة، سنة 63 هـ. يُنظر: الاستيعاب (3/ 913)، أسد الغابة (3/ 250).
(2)
يُخَيَّلُ إليه: أصله من الخيال والتخييل، لا فرق في الشك عند الفقهاء بين تساوي الاحتمالين في وجود الحدث وعدمه وبين ترجُّح أحدهما وغلبة الظن في أنه لا وضوء عليه؛ فالشك عندهم خلاف اليقين، وإن كان خلاف الاصطلاح الأصولي، وقولهم موافق لقول أهل اللغة: الشك خلاف اليقين. يُنظر: الصحاح (4/ 1594)، المغني (1/ 145)، المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 50)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 45).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن (1/ 39) برقم:(137)، ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن مَنْ تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك (1/ 276) برقم:(361).
(4)
حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً: المراد به أن يعلم ويتحقق، ولا يشترط السماع والشم، وذِكر الريح ليس للتخصيص، وإنما يدخل في معناه كل ما يخرج من السبيلين، قال النووي رحمه الله في (المنهاج) (4/ 49):«وقوله: صلى الله عليه وسلم حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً معناه: يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين» ، وقال الخطابي في (أعلام الحديث) (1/ 227 - 228):«لم يرد بذكر هذين النوعين من الحدث تخصيصهما وقصر الحكم عليهما حتى لا يقع نقض الطهارة بغيرهما، وإنما هو جواب خرج على حدود المسألة التي سأل عنها السائل، وقد دخل في معناه كل ما يخرج من السبيلين من غائط وبول ومذي وودي ودم ونحوها» .
(5)
سبق تخريجه ص: (186).
خارجها؛ إعمالاً للأصل السابق وهو الطهارة، وإطراحاً للشك الطارئ
(1)
.
قال النووي رحمه الله بعد ذِكر حديث عبد الله بن زيد: «هذا الحديث: أصل من أصول الاسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الاشياء يُحكم ببقائها على أصولها؛ حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها.
فمن ذلك: مسألة الباب التي ورد فيها الحديث، وهي أن مَنْ تيقن الطهارة وشك في الحدث، حُكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف»
(2)
.
نُوقش: بأن هذا خاص بالمستنكِح
(3)
؛ لأنه قال فيه: شُكي إليه، وهذا لا يكون إلا ممن يكون ذلك عليه كثيراً
(4)
، وغير المستنكِح يجب عليه الوضوء.
أُجيب عنه: بأنه جاء ما يدل على التعميم، وهو حديث أبي هريرة بلفظ:(إذا وجد أحدكم)
(5)
.
الدليل الثالث: أنه إذا شك وتعارض عنده الأمران، فيجب سقوطهما: كالبينتين إذا تعارضتا، ويرجع إلى التيقن
(6)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: القياس على الشك في الصلاة؛ لأن مَنْ شكَّ: أصلى ركعتين أم ثلاثاً،
(1)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 49)، شرح العمدة لابن تيمية- كتاب الطهارة (ص: 345)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 44).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 49).
(3)
المستنكِح: بكسر الكاف أي ملازم كثيرا، وهو تفسير باللازم؛ لأن المستنكح معناه القاهر للشخص ومعلوم أنه لا يكون قاهرا للشخص إلا إذا لازمه كثيرا. يُنظر: حاشية الدسوقي (1/ 71). وهو أحد قسمي الشاكِّ عند المالكية، وهو الذى يعتري الشك صاحبه كثيراً، والقسم الثاني: هو الشك غير المستنكِح، جاء في المدونة (1/ 122):«قلت لابن القاسم: أرأيت مَنْ توضأ، فأيقن بالوضوء، ثم شك بعد ذلك، فلم يدرِ: أحدث أم لا، وهو شاك في الحدث؟ قال: إن كان ذلك يستنكحه كثيراً فهو على وضوئه، وإن كان لا يستنكحه فليُعِد وضوءه، وهو قول مالك، وكذلك كل مستنكِح مُبتلى في الوضوء والصلاة» .
(4)
يُنظر: المفهم (1/ 608).
(5)
يُنظر: شرح سنن أبي داود، لابن رسلان (2/ 204).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 145)، كشاف القناع (1/ 132).
يجب عليه إتمام ما شك فيه؛ فالأصل اليقين بلزوم فرض الصلاة ثلاث ركعات، ووجه ذلك: أنه قد لزمه أداء الصلاة بطهارة، فلا يبرأ منها إلا بيقين، ولا يحصل له اليقين إلا باستئناف الطهارة
(1)
.
وذلك نظراً إلى الأصل الأول قبل الطهارة، وهو تَرتُّب الصلاة في الذمة، فلا تُزال إلا بطهارة متيقَّنة، ولا يقين مع وجود الشك في وجود الحدث
(2)
.
الدليل الثاني: أن الشك في الحدث له مدخل في وجوب الوضوء كالنوم
(3)
.
نُوقش: بأن النوم لما كان مظنة لأمر غير منضبط، جُعلت المظنة حدثاً، بخلاف هذه المسألة
(4)
؛ فإنه يؤول إلى التحقق إن سمع صوتاً أو وجد ريحاً.
الدليل الثالث: إعمال قاعدة: أن كل مشكوك فيه يُلغى في الشريعة ولا بدَّ
(5)
.
قال القرافي رحمه الله: «السر في ذلك قاعدة: الأصل ألا يُعتبر في الشرع إلا العلم؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
(6)
؛ لعدم الخطأ فيه قطعاً، لكن تعذَّر العلم في أكثر الصور، فجوَّز الشرع اتباع الظنون؛ لندرة خطئها وغلبة إصابتها، وبقي الشك على مقتضى الأصل؛ فكل مشكوك فيه ليس بمعتبَر.
ويجب اعتبار الأصل السابق على الشك، فإن شككنا في السبب لم نرتب المسبب، أو في الشرط لم نرتب المشروط، أو في المانع لم ننفِ الحكم، فهذه القاعدة مُجمَع عليها لا تُنتقض، وإنما وقع الخلاف بين العلماء في وجه استعمالها: فالشافعي رحمه الله يقول: الطهارة متيقنة والمشكوك فيه مُلغى، فنستصحبها.
ويقول مالك رحمه الله: شُغل الذمة بالصلاة مُتيقَّن يحتاج إلى سبب مُبرِاء، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط، فيقع الشك في الصلاة الواقعة بالطهارة المشكوك فيها
(1)
يُنظر: التهذيب في اختصار المدونة (1/ 181)، المنتقى شرح الموطأ (1/ 54).
(2)
يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 44).
(3)
يُنظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 154).
(4)
يُنظر: اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (2/ 143).
(5)
يُنظر نص القاعدة في: ترتيب الفروق واختصارها (1/ 108)، وتُنظر القاعدة في: الفروق، للقرافي (1/ 111)، الإبهاج في شرح المنهاج (5/ 1923)، موسوعة القواعد الفقهية (8/ 606).
(6)
سورة الإسراء: جزء من الآية (36).
وهي السبب المبراء، والمشكوك فيه ملغى، فيُستصحب شغل الذمة،
…
والذي انعقد الإجماع على إلغائه هو المشكوك فيه لا الشك، فلا يلتبس عليك ذلك»
(1)
.
قال ابن حجر رحمه الله: «ما ذهب إليه مالك راجح؛ لأنه احتاط للصلاة وهي مقصد، وألغى الشك في السبب المبرئ، وغيره احتاط للطهارة وهي وسيلة، وألغى الشك في الحدث الناقض لها، والاحتياط للمقاصد أولى من الاحتياط للوسائل»
(2)
.
نُوقش: بأن ذلك من حيث النظر قوي، لكنه مغاير لمدلول الحديث؛ لأنه نهى عن الانصراف إلا بعد أن يتحقق
(3)
، وكفى به حجة!
سبب الخلاف:
سبب الخلاف تقابل يقيني: الطهارة والصلاة
(4)
: فالجمهور نظروا إلى استصحاب يقين الطهارة، فقالوا: لا يلزمه الوضوء، والمالكية نظروا إلى الأصل الأول قبل الطهارة، وهو تَرتُّب الصلاة في الذمة، فلا تُزال إلا بطهارة متيقنة، ولا يقين مع وجود الشك في وجود الحدث
(5)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- قول الجمهور بأن مَنْ تيقن الطهارة وشك في الحدث، لا يجب عليه الوضوء.
سبب الترجيح:
1 -
قوة الأدلة، ودلالتها على المنع من الالتفات للشك الطارئ والعمل باليقين.
2 -
ورود المناقشة على أدلة القول الآخر.
(1)
الذخيرة (1/ 218 - 219).
(2)
فتح الباري (1/ 238) نقلاً عن العراقي، ولم أتمكن من التحقق من صحة نسبة هذا القول للعراقي، والذي يغلب على الظن -والله أعلم- أنه للقرافي؛ إذ يقول القرافي في الفروق (2/ 164):«ومذهب مالك أرجح من جهة أن الصلاة مقصد والطهارات وسائل، وطرح الشك تحقيقاً للمقصد أولى من طرحه لتحقيق الوسائل» .
(3)
فتح الباري (1/ 238).
(4)
يُنظر: المفهم (1/ 608).
(5)
يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 44).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
القرينة الأولى: المقصد من النهي.
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن أحاديث النهي في هذه المسألة المقصود منها بيان: حكم تعارض اليقين والشك في الوضوء، وهل يجب الوضوء بسبب الشك أو لا؟
ولذلك لم يتعرض الفقهاء للنهي من حيث اقتضائه التحريم أو هو مصروف عنه، وإنما بيَّنوا أن النهي أفاد نفي وجوب الوضوء بالشك في خروج الريح.
القرينة الثانية: ورود النهي في جواب سؤال.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً) في جواب السؤال، قرينة صارفة للنهي بحسب قصْد السائل بسؤاله.
فقصْد السائل هو معرفة ما إذا كان الشك في الحدث يوجب الوضوء أو لا؟ فيكون معنى الجواب: لا يوجب الوضوء، والله أعلم.
جاء في (الغيث الهامع): «أما النهي بعد الاستئذان: فهو مرتب على ما فُهم من السؤال من إيجاب وندب وإرشاد وإباحة؛ لأن أصله الاستفهام عن الخبر وجوابه أيضاً خبر،
…
ومن أمثلته: حديث: سُئل عن لحوم الغنم فقال: (لا توضؤوا منها)، والظاهر أن السؤال فيه عن الوجوب، فيكون معنى الجواب: لا يجب الوضوء منها، والله أعلم»
(1)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذه القرائن معتبَرة؛ لقوة دلالتها على نفي وجوب الوضوء إن تيقن الطهارة وشك في الحدث، والله أعلم.
(1)
الغيث الهامع شرح جمع الجوامع (ص: 246).
المبحث الرابع:
النهي عن مس المصحف من غير طهارة
المطلب الأول: حكم مس المصحف من غير طهارة:
دليل النهي:
حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه: ((أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ))
(1)
.
صورة المسألة: هل يجوز للمحدث حدثاً أكبر أو أصغر مسُّ المصحف بيده أو أي جزء من بدنه مباشرة من غير حائل؟ وهل يختلف الحكم إن كان بالغاً أو صغيراً؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الاتفاق:
اتفق الفقهاء
(2)
على تحريم مس المصحف على البالغ المحدث حدثاً أصغر أو أكبر.
قال النووي رحمه الله: «مس المصحف وحمله، مذهبنا: تحريمهما وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور العلماء»
(3)
.
الأدلة:
(1)
أخرجه الإمام مالك (1/ 199) برقم: (1)، والدارقطني، كتاب الطهارة، باب في نهي المحدث عن مس القرآن (1/ 219) برقم:(439)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب نهي المحدث عن مس المصحف (1/ 263) برقم:(411)، وأخرجه بطوله ابن حبان، (14/ 501) برقم:(6559)، قال ابن عبد البر في (التمهيد) (17/ 396):«كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات كتاب مشهور عند أهل العلم، معروف، يُستغني بشهرته عن الإسناد» ، وقال في (الاستذكار) (2/ 471):«كتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل» ، ونقل ابن تيمية في (الفتاوى الكبرى) (1/ 280) عن الإمام أحمد قوله:«لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه له» ، وقال ابن الملقن في (البدر المنير) (2/ 501):«أخرجه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما، وقال يعقوب بن سفيان الحافظ: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح من كتاب عمرو بن حزم» .
(2)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 33، 37)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 13)، المعونة (ص: 161)، مواهب الجليل (1/ 303)، الحاوي الكبير (1/ 144)، المجموع (2/ 65، 358)، المغني (1/ 108)، شرح منتهى الإرادات (1/ 77). واستثنى المالكية مَنْ كان حدثه أصغر -معلِّماً أو متعلِّماً- والمرأة المعلِّمة حال الحيض، فأجاز لهم مس المصحف لضرورة التعلم والتعليم. يُنظر: شرح مختصر خليل (1/ 161)، منح الجليل (1/ 118).
(3)
المجموع (2/ 72).
الدليل الأول: قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}
(1)
.
وجه الاستدلال: أن في الآية خبراً بمعنى النهي، أي: لا يمس القرآن، فهو نهي من الله عز وجل ألا يمس القرآن الكريم إلا المطهرون إجلالاً له وتعظيماً، والنهي على الحظر والتحريم، وجاءت بصيغة الحصر، فاقتضى ذلك حصر الجواز في المطهرين، وعموم سلبه في غيرهم
(2)
.
الدليل الثاني: حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه: ((أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ)).
الدليل الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديثين نهياً صريحاً عن مس المصحف إلا لمن كان طاهراً، والأصل في النهي المجرد عن القرينة التحريم
(4)
، والأحاديث تؤكد التمسك بالآية؛ لأنها على صيغتها
(5)
.
ثانياً: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم مس الصغير
(6)
للمصحف من غير طهارة، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(7)
، والمالكية
(8)
، والشافعية
(9)
، ورواية عن الإمام
(1)
سورة الواقعة: الآية (79).
(2)
يُنظر: المعونة (ص: 161)، الذخيرة (1/ 238)، كشاف القناع (1/ 134).
(3)
أخرجه الدارقطني، كتاب الطهارة، باب فِي نهي المحدث عن مس القرآن (1/ 219) برقم:(437)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب نهي المحدث عن مس المصحف (1/ 263) برقم:(413)، وثَّق رجاله الهيثمي في (مجمع الزوائد)(1/ 276)، وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (1/ 361):«إسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به» .
(4)
يُنظر: نيل الأوطار (1/ 259).
(5)
يُنظر: الذخيرة (1/ 239).
(6)
المراد: الصغير المميز، أما الصغير غير المميز: فإنه يحرم تمكينه من مس المصحف؛ لئلا ينتهكه. يُنظر: المجموع (2/ 69)، مغني المحتاج (1/ 152).
(7)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 58)، حاشية ابن عابدين (1/ 174).
(8)
يُنظر: بداية المجتهد (1/ 47)، مواهب الجليل (1/ 304).
(9)
يُنظر: التعليقة للقاضي حسين (1/ 300)، المجموع (2/ 65)، مغني المحتاج (1/ 151).
أحمد رحمه الله
(1)
.
القول الثاني: يُكره.
وهو قول عند الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
.
القول الثالث: لا يجوز.
وهو وجه عند الشافعية
(4)
، والمذهب عند الحنابلة
(5)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: أن الصغير غير مكلف، فلا يتناوله خطاب النهي
(6)
، ولأن طهارتهم ناقصة؛ فلا معنى لاشتراطها
(7)
.
الدليل الثاني: أن في تكليفهم بالوضوء حرجاً بهم، وفي تأخيرهم إلى البلوغ تقليل حفظ القرآن، فيُرخص للضرورة، ورفعاً للحرج والمشقة عنهم
(8)
.
دليل القول الثاني: استدلوا بأدلة النهي التي سبقت في حكم مس البالغ للمصحف، وقالوا: يخفف في حق الصغير فيُحمل النهي على الكراهة؛ لعدم تكليفه
(9)
.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: القياس على الصلاة؛ فتلزمه الطهارة لمس المصحف كما تلزمه
(1)
يُنظر: الفروع (1/ 243)، شرح الزركشي (1/ 212)، الإنصاف (2/ 72).
(2)
يُنظر: المحيط البرهاني (1/ 77)، تبيين الحقائق (1/ 58).
(3)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 44)، الذخيرة (1/ 237)، التاج والإكليل (1/ 443).
(4)
يُنظر: التعليقة للقاضي حسين (1/ 300)، العزيز شرح الوجيز (1/ 176)، المجموع (2/ 65).
(5)
يُنظر: الإنصاف (2/ 72).
(6)
يُنظر: التعليقة للقاضي حسين (1/ 300)، بداية المجتهد (1/ 47)، حاشية ابن عابدين (1/ 174). وينظر تكليف الصبي في: الإحكام، للآمدي (1/ 151)، المسودة (ص: 35).
(7)
يُنظر: التهذيب في فقه الإمام الشافعي (1/ 278).
(8)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 58)، مغني المحتاج (1/ 151).
(9)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 58)، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 164).
للصلاة
(1)
.
الدليل الثاني: قياس الأولى؛ لأن البالغ إنما يُمنع منه تعظيماً للقرآن، والصبي أنقص حالاً منه، فأولى أن يُمنع
(2)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بجواز مس الصغير للمصحف، وهو قول الجمهور.
أسباب الترجيح:
1 -
خروج الصغير من خطاب النهي؛ لعدم التكليف.
2 -
أن هذا القول يتماشى مع ما جاءت به الشريعة من التيسير ورفع الحرج.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب أصحاب القول الثاني إلى كراهة مس الصبي للمصحف من غير طهارة، فلعل القرينة الصارفة عن التحريم: المقصد من النهي: التخفيف ورفع الحرج عن الصبي لعدم تكليفه، فيُحمل النهي على الكراهة.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرينة ضعيفة لا تقوى بمفردها على صرف النهي إلى الكراهة؛ لأن عدم تكليف الصبي يخرجه من خطاب النهي، وأن علة التخفيف أقرب للقول بالرخصة بلا كراهة تيسيرا على الناس، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
يُنظر: التعليقة للقاضي حسين (1/ 300).
(2)
يُنظر: العزيز شرح الوجيز (1/ 176)، كشاف القناع (1/ 134).
المبحث الخامس:
النهي عن السفر بالمصحف إلى دار الحرب
المطلب الأول: حكم السفر بالمصحف إلى دار الحرب:
دليل النهي:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ
(1)
؛ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُو))
(2)
، وفي رواية:((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ))
(3)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء رحمهم الله في السفر بالمصحف إلى دار الحرب، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تحريم السفر بالمصحف إلى دار الحرب مطلقاً.
وهو مذهب المالكية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
القول الثاني: يحرم إذا خيف عليه العدو، ويجوز مع السلامة.
وهو مذهب الشافعية
(6)
، وقول عند الحنابلة
(7)
.
القول الثالث: يُكره إذا خيف عليه العدو، ويجوز مع السلامة.
وهو مذهب الحنفية
(8)
، وقول عند المالكية
(9)
، وقول عند الحنابلة
(10)
.
(1)
المراد بالقرآن: المراد به المصحف؛ لأن القرآنَ المنزَّلُ على الرسول، المكتوب في المصاحف، المنقول عنه نقلاً متواتراً بلا شبهة، فهذا لا يمكن السفر به، فدل على أن المراد به المصحف المكتوب فيه القرآن. يُنظر: عمدة القاري (14/ 242)، البناية (7/ 108).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب النهي أن يُسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم (3/ 1491) برقم:(1869).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو (4/ 56) برقم:(2990).
(4)
يُنظر: المعونة (ص: 1728)، المقدمات الممهدات (3/ 463).
(5)
يُنظر: المغني (1/ 110)، كشاف القناع (1/ 136).
(6)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (13/ 13)، مغني المحتاج (1/ 152).
(7)
يُنظر: الفروع (1/ 252)، الإنصاف (2/ 78).
(8)
يُنظر: بدائع الصنائع (7/ 102)، البناية (7/ 108).
(9)
يُنظر: التبصرة (3/ 1349).
(10)
يُنظر: الفروع (1/ 252)، الإنصاف (2/ 78).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ؛ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُو)).
وجه الاستدلال: أن ظاهر النهي الصريح في الحديث يقتضي تحريم السفر بالقرآن إلى أرض العدو مطلقاً؛ لعموم النهي
(1)
، ولأن الأصل في النهي التحريم.
الدليل الثاني: أن العلة التي صرح بها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يكون عُرضة لاستيلاء الكفار عليه واستهانته، وقد ينالوه بشغل عنه، أو يسقط ولا يشعر به -تفيد التحريم
(2)
.
استدل أصحاب القول الثاني بحديث ابن عمر رضي الله عنهما ووجهه:
أن الحديث يدل على تحريم السفر بالقرآن في السرايا والعسكر الصغير؛ للعلة المذكورة، وهي خوف أن ينالوه، فينتهكوا حرمته، فإن أُمنت هذه العلة بأن يُدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم، فلا يُمنع لعدم العلة؛ فنيل العدو له في الجيوش العِظام نادر
(3)
.
نُوقش: أنه بعد تسليم العلة المذكورة؛ فإن النهي عام، فيشمل العسكر الكبير أيضاً، وذلك سداً للذريعة، ولأن نسيانه وسقوطه ليس نادراً
(4)
.
وكذلك استدل أصحاب القول الثالث بالحديث نفسه، ووجهه:
أن علة خوف الوقوع في أيديهم والاستخفاف به، تفيد كراهة السفر بالقرآن في العسكر الصغير؛ إذ لا منعة قوية لهم، فكان الدخول به في دار الحرب تعريضاً للاستخفاف بالمصحف الكريم، فإن كان العسكر عظيماً لا بأس بذلك؛ لأنهم يحتاجون إلى قراءة القرآن، ولأن الغالب السلامة
(5)
.
(1)
يُنظر: المنتقى شرح الموطأ (3/ 165)، المفهم (3/ 698).
(2)
يُنظر: المعونة (ص: 1728)، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (3/ 412)، كشاف القناع (1/ 136).
(3)
يُنظر: المفهم (3/ 699)، المنهاج شرح صحيح مسلم (13/ 13).
(4)
يُنظر: المفهم (3/ 699).
(5)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (10/ 29).
نُوقش بما نُوقش به استدلال القول الثاني.
سبب الخلاف:
اختلف الفقهاء في المسألة؛ لاختلافهم: هل النهي عام أُريد به العام؟ أو عام أُريد به الخاص؟
(1)
فمَن قال بأن النهي عام أُريد به العام قالوا: النهي للتحريم مطلقاً، ومَن قال: عام أُريد به خاص قالوا: النهي خاص بحال السرية الصغيرة التي ليست مأمونة دون الجيش العظيم.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بتحريم السفر بالقرآن إلى أرض العدو مطلقاً.
أسباب الترجيح:
1 -
صراحة حديث النهي وعمومه.
2 -
أن فيه سداً لذريعة وقوعه في أيدي العدو، فيهينوه، ويستخفوا به.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب أصحاب القول الثالث إلى أن النهي محمول على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص بالتعليل بما يفيد الكراهة.
وذلك في قوله: (فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُو)، وهذه علة تفيد كراهة حمل المصحف لأرض العدو في العسكر الصغير.
القرينة الثانية: المقصد من النهي.
فالنهي مقصوده: إكرام القرآن الكريم، ومخافة عليه من العدو.
قال ابن بطال رحمه الله: «أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى أرض العدو ليس على وجه التحريم والفرض، وإنما هو على معنى الندب؛ للإكرام للقرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى قَيْصر بآية إلى آخرها وهو يعلم أنهم نجس، وعلم أنهم يقرؤونها، فصح أن نهيه عن ذلك
(1)
بداية المجتهد (2/ 152).
في حال دون حال وفي العساكر التي ليست مأمونة».
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذه القرائن ضعيفة؛ ذلك أن النهي صريح في المنع على العموم، ولأن العلة التي نص عليها الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى في معنى المنع والحظر؛ فإن إخراجه يؤدي إلى وقوعه في يد العدو، وفي ذلك تعريض لاستخفافهم به، وهو حرام، والله تعالى أعلم بالصواب.
المبحث السادس:
النهي عن قراءة الحائض والنفساء شيئاً من القرآن
المطلب الأول: حكم قراءة الحائض والنفساء شيئاً من القرآن:
دليل النهي:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَقْرَأِ
(1)
الحَائِضُ، وَلَا الجُنُبُ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ))
(2)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في نهي الحائض عن قراءة القرآن، وتلحق بها النفساء
(3)
، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: جواز قراءة الحائض والنفساء القرآن.
وهو مذهب المالكية
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(5)
.
القول الثاني: يحرم على الحائض والنفساء قراءة شيئ القرآن.
(1)
يجوز -في قراءة- قوله رحمه الله: (لا تقرأ): كسر الهمزة: على النهي، وضمها: على الخبر الذي يراد به النهي، وهما صحيحان. يُنظر: المجموع (2/ 155).
(2)
أخرجه الترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن (1/ 236) برقم:(131) وقال: «وفي الباب عن علي، حديث ابن عمر حديث لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش
…
وسمعت محمد ابن إسماعيل، يقول: إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير، كأنه ضعَّف روايته عنهم فيما يتفرد به، وقال: إنما حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام»، وابن ماجه، أبواب التيمم، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة (1/ 376) برقم:(596)، قال النووي في (المجموع) (2/ 155):«حديث ضعيف؛ ضعفه البخاري والبيهقي وغيرهما» ، وقال ابن الملقن في (البدر المنير) (2/ 543):«هذا الحديث فيه مقال» ، وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (1/ 373):«في إسناده إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، وهذا منها» .
(3)
النفساء كالحائض في سائر الأحكام، جاء في التنبيه في الفقه الشافعي (ص: 22): «إذا نفست المرأة حرم عليها ما يحرم على الحائض، ويسقط عنها ما يسقط عن الحائض» . ويُنظر: المغني (1/ 245)، المجموع (2/ 520)، شرح الزركشي (1/ 208).
(4)
يُنظر: بداية المجتهد (1/ 55)، التاج والإكليل (1/ 462).
(5)
يُنظر: شرح الزركشي (1/ 208)، الإنصاف (2/ 367).
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
القول الثالث: كراهة قراءة الحائض والنفساء القرآن.
وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(4)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: أنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي صحيح في تحريم قراءة القرآن على الحائض، فلما لم يُنقل عنه نهي عُلم أنه ليس بمحرم.
(5)
.
الدليل الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث دليلاً على جواز قراءة الحائض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستثنِ من جميع مناسك الحج إلا الطواف، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة على تلبية ودعاء وذِكر، ومنه: قراءة القرآن، ولم تُمنع الحائض من شيء من ذلك
(7)
.
(1)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (3/ 152)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 13).
(2)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 147)، المجموع (2/ 357).
(3)
يُنظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 135)، كشاف القناع (1/ 197).
(4)
يُنظر: المبدع (1/ 227)، الإنصاف (2/ 367)، وعزوه لنقل الشَّالنجِيِّ.
(5)
الفتاوى الكبرى (1/ 453).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف (2/ 159) برقم:(1650)، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران (2/ 873) برقم:(1211).
(7)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 407).
نُوقش: بأنه لا دلالة لهم فيه؛ فإنه ليس في مناسك الحج قراءة مخصوصة حتى تدخل في عموم هذا الكلام، وإنما تدخل الأذكار والأدعية
(1)
.
الدليل الثالث: ما يُروى ((عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ القرآن وهي حائض))
(2)
، والظاهر أن هذا مع تكرره عليها، ولعلها طالعت النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، أو فهمت عنه ما استباحت هذا منه
(3)
.
نُوقش: أن فعل عائشة رضي الله عنها لا حجة فيه -على تقدير صحته- لأن غيرها من الصحابة خالفها، وإذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم رجعنا إلى القياس
(4)
.
الدليل الرابع: أن مَنْعها من القراءة يُخشى منه نسيانها القرآن؛ لطول أمرها، ولأنها لا تملك طهرها
(5)
.
نُوقش من وجهين: الأول: أن عَجْزها عن تحصيل صفة الطهارة يدل على تغلُّظ ما بها من الحدث، فلا يدل على إطلاق القراءة لها
(6)
.
الثاني: أن خوف النسيان نادر؛ فإن مدة الحيض غالباً ستة أيام أو سبعة، ولا يُنسى غالباً في هذا القدر، ولأن خوف النسيان ينتفي بإمرار القرآن على القلب، والله أعلم
(7)
.
الدليل الخامس: أنها لا تُمنع لحاجة التعليم؛ فربما تكون مُعلِّمة، فيتعطل كَسْبُها بذلك
(8)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَقْرَأِ الحَائِضُ، وَلَا الجُنُبُ
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (2/ 49)، طرح التثريب (5/ 123).
(2)
استدل به القرافي في (الذخيرة)(1/ 379)، والمازري في (شرح التلقين)(1/ 332)، ولم أقف عليه في كتب الأحاديث والآثار، وأورده ابن بطال في (شرح صحيح البخاري)(1/ 415).
(3)
يُنظر: الذخيرة (1/ 379)، شرح التلقين (1/ 332).
(4)
يُنظر: المجموع (2/ 357).
(5)
يُنظر: التبصرة (1/ 217)، التاج والإكليل (1/ 462).
(6)
يُنظر: الحاوي الكبير (1/ 149)، المبسوط، للسرخسي (3/ 152).
(7)
يُنظر: المجموع (2/ 357).
(8)
يُنظر: بحر المذهب (1/ 117)، الذخيرة (1/ 315).
شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر النهي في الحديث دليل على تحريم القراءة على الحائض
(2)
.
نُوقش: بأن الحديث ضعيف من جميع طرقه، فلا يصلح للاحتجاج
(3)
، وتبيَّن ضعفه في التخريج.
الدليل الثاني: القياس على الجنب؛ فإن مُنع منه الجنب فالحائض أولى؛ لأن حدثها آكد
(4)
.
نُوقش: بأن الفرق بين الحائض والجنب مانع من الإلحاق، ووجه الفرق بينهما أنَّ حَدَث الجنب مكتسب، وهو قادر على رفعه بالطهارة، والحائض حَدَثُها من غير اكتسابها، واغتسالها لا يرفع حكم الحيض، وأن مدة بقائه جنباً لا تطول، والحائض تطول مدتها، ومنعها من القراءة قد يؤدي لنسيانها
(5)
.
أدلة القول الثالث:
لم أقف على دليل هذا القول بحسب ما تيسر لي من الكتب، ولعلهم صرفوا النهي في حديث ابن عمر عن التحريم إلى الكراهة؛ لضعف الحديث. والله أعلم.
سبب الخلاف:
أولاً: اختلافهم في تضعيف حديث ابن عمر في النهي: فمَن ضعَّفه قال بعدم المنع لعدم دليل المنع، ومَن لم يضعِّفه قال بمنع الحائض من قراءة القرآن بدلالة النهي في الحديث.
ثانياً: اختلافهم في قياس الحائض على الجنب.
الترجيح:
(1)
سبق تخريجه ص: (201).
(2)
يُنظر: نيل الأوطار (1/ 284).
(3)
يُنظر: المجموع (2/ 357)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 409).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 106)، المجموع (2/ 357).
(5)
يُنظر: شرح التلقين (1/ 332).
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بجواز قراءة الحائض والنفساء القرآن.
سبب الترجيح:
أنه لم يثبت في النهي دليل صحيح، فلا يمكن القول بالتحريم بلا دليل.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب أصحاب القول الثالث إلى كراهة قراءة الحائض شيئاً من القرآن، ولم أقف لهم على دليل أو قرينة؛ فلعل القرائن الصارفة عن التحريم إلى الكراهة:
القرينة الأولى: ضعف حديث النهي.
القرينة الثانية: المقصد من النهي؛ إذ المقصود تعظيم القرآن، والتنزيه عن قراءته في تلك الحال التي مُنعت فيها من الصلاة والصوم.
الحكم على القرينة:
القرائن ضعيفة لضعف مستندها؛ فقد تبيَّن فيما سبق أن دليل النهي لم يصح، فلا يمكن الاحتجاج به على التحريم أو الكراهة، والله تعالى أعلم بالصواب.
الفصل السادس
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب إزالة النجاسة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن أكل الجَلَّالة وشُرب ألبانها.
المبحث الثاني: النهي عن تخليل الخمر.
المبحث الثالث: النهي عن البُصاق جهة القبلة أو اليمين للمصلي.
المبحث الأول:
النهي عن أكل الجَلَّالة وشُرب ألبانها
المطلب الأول: حكم أكل الجَلَّالة
(1)
وشُرب ألبانها:
دليل النهي:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُجَثَّمَةِ
(2)
وَالجَلَّالة، وَأَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ))
(3)
.
وعن جابر الأنصاري رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الجَلَّالة: أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا أَوْ يُشْرَبَ لَبَنُهَا))
(4)
.
صورة المسألة:
إذا عُلف الحيوان المباح النجاسة: فهل يجوز أكل لحمه وشُرب لبنه؟ ثم إذا حُبس مدة يُعلف الطاهر: فهل يجوز أكله وشُرب لبنه؟
تحرير محل النزاع:
(1)
الجَلَّالَةُ من الحيوان: التي تأكل العَذرة، والجَلَّة: البَعْر، فوُضع موضع العذرة، يُقال: جلت الدابة الجَلَّة، واجتلتها، فهي جالَّة، وجلالة: إذا التقطتها، فالجلالة هي التي تأكل العذرة والنجاسات، وتكون من الإبل والبقر والغنم والدجاج، وقيل: إن كان أكثر أكلها النجاسة فهي جلالة، وإن كان الطاهر أكثر فلا، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا اعتبار بالكثرة، وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن، فإن وُجد في عرقها وغيره ريحُ النجاسة فجَلَّالة وإلا فلا. يُنظر: الصحاح (4/ 1658)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 288)، المجموع (9/ 28)، حاشية ابن عابدين (6/ 341).
(2)
المُجَثَّمَةُ: هي كل حيوان يُنصب ويُرمى؛ ليُقتل، لكنها تكثر في الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم في الأرض: أي: يلزمها ويلتصق بها، وجثم الطائر جثوماً، وهو بمنزلة البروك للإبل. يُنظر: الصحاح (5/ 1882)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 239).
(3)
أخرجه الترمذي، أبواب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها (4/ 270) برقم:(1825) وقال: «هذا حديث حسن صحيح» ، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الضحايا، النهي عن لبن الجلالة (4/ 367) برقم:(4522)، وأحمد (4/ 57) برقم:(2161) واللفظ له، صححه ابن حبان (12/ 220) برقم:(5399)، وقال الحاكم في (المستدرك) (2/ 112):«هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه» ، وصححه ابن حجر في (فتح الباري)(9/ 648)، وله شواهد.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة، كتاب الأطعمة، فِي لحوم الجلالة (5/ 147) برقم:(24604)، قال البوصيري في (إتحاف الخيرة) (4/ 326):«هذا إسناد رجاله ثقات» ، وحسّن سنده ابن حجر في (فتح الباري)(9/ 648).
أولاً: محل الإجماع:
أجمع العلماء
(1)
على أن الجَلَّالة إذا حُبست مدة وطاب لحمها، فإنه يجوز أكلُ لحمها وشُرب لبنها؛ لأنها قبل الحبس يظهر نتن النجاسة وخُبثها في لحمها ولبنها، فإذا حُبست وعُلفت الطاهر زال ذلك، وعادت طاهرة، والحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها
(2)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: «الجَلَّالة التي تأكل النجاسة قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبنها، فإذا حُبست حتى تطيب كانت حلالاً باتفاق المسلمين»
(3)
.
ثانياً: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم أكل لحوم الجَلَّالة وشُرب لبنها قبل حبسها، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التحريم.
وهو قول عند الشافعية
(4)
، والمذهب عند الحنابلة
(5)
.
القول الثاني: الكراهة.
وهو مذهب الحنفية
(6)
، والشافعية
(7)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(8)
.
القول الثالث: الإباحة.
وهو مذهب المالكية
(9)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
(1)
نقل الإجماع: ابن حزم في (مراتب الإجماع)(ص: 148)، وابن القطان في (الإقناع في مسائل الإجماع)(1/ 322)، وابن تيمية في (مجموع الفتاوى)(21/ 601)، وابن القيم في (إعلام الموقعين)(1/ 297).
(2)
يُنظر: الاختيار لتعليل المختار (5/ 16)، الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (1/ 266).
(3)
مجموع الفتاوى (21/ 618).
(4)
يُنظر: المجموع (9/ 28)، مغني المحتاج (6/ 155).
(5)
يُنظر: الفروع (10/ 377)، الإنصاف (27/ 230).
(6)
يُنظر: بدائع الصنائع (5/ 40)، الاختيار لتعليل المختار (5/ 16).
(7)
يُنظر: الحاوي الكبير (15/ 147)، المجموع (9/ 28).
(8)
يُنظر: المغني (9/ 413)، الإنصاف (27/ 230).
(9)
يُنظر: المدونة (1/ 542)، الشرح الكبير (2/ 115).
الدليل الأول: قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
(1)
.
وجه الاستدلال: أن الآية نَصٌّ في تحريم الخبائث، فتحرم الجَلَّالة؛ لأنها صارت من الخبائث؛ لتنجُّس لحمها بما تأكل من النجاسة
(2)
.
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُجَثَّمَةِ وَالجَلَّالة، وَأَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ))
(3)
.
الدليل الثالث: عن جابر الأنصاري رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الجَلَّالة: أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا أَوْ يُشْرَبَ لَبَنُهَا))
(4)
.
الدليل الرابع: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَعَنِ الجَلَّالة: عَنْ رُكُوبِهَا، وَأَكْلِ لَحْمِهَا))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر النهي في الأحاديث يدل على تحريم أكلِ لحم الجَلَّالة وشُرب لبنها، والنهي حقيقة في التحريم
(6)
، ولا يُصرف عنه إلا بقرينة صارفة.
نُوقش: أن أحاديث النهي ليست بقوية الإسناد
(7)
.
ويُمكن أن يُجاب عنه: بأن حديث ابن عباس صححه الترمذي وغيره، وحديث جابر وحديث عبدالله بن عمرو حسّن إسنادهما ابنُ حجر كما تبيَّن ذلك في تخريج الأحاديث.
الدليل الخامس: أن لحم الجَلَّالة يتولد من النجاسة، فيكون نجساً، كرماد النجاسة
(8)
.
أدلة القول الثاني:
(1)
سورة الأعراف: جزء من الآية (157).
(2)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (11/ 255)، الحاوي الكبير (15/ 148).
(3)
سبق تخريجه ص: (207).
(4)
سبق تخريجه ص: (207).
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الأطعمة، باب في أكل لحوم الحمر الأهلية (5/ 628) برقم:(3811)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الضحايا، باب النهي عن أكل لحوم الجلالة (4/ 367) برقم:(4521)، وأحمد (11/ 616) برقم:(7039)، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (4/ 263):«رجاله ثقات» ، وحسّن إسناده ابن حجر في (فتح الباري)(9/ 648).
(6)
يُنظر: البدر التمام شرح بلوغ المرام (9/ 340)، نيل الأوطار (8/ 140).
(7)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (5/ 431).
(8)
يُنظر: المغني (9/ 414)، الشرح الكبير (27/ 232).
الدليل الأول: استدلوا بالأحاديث المتقدمة التي استدل بها القائلون بالتحريم.
وجه الاستدلال: أن النهي في الأحاديث محمول على الكراهة دون التحريم؛ لأن النهي عنها وارد؛ لأجل ما تأكله من النجاسة التي تنزل في مجاري الطعام ولا تخالط اللحم، وإنما يتغير اللحم بها، وذلك يقتضي الكراهة لا التحريم
(1)
.
الدليل الثاني: أن ما تأكله البهيمة من العلف الطاهر إذا صار في كَرِشِها تنجَّس، فلا تتغذى إلا بالنجاسة، ومع ذلك فلا يُحكم على اللحم واللبن بالنجاسة، فكذلك هذا
(2)
.
نُوقش: بأن العلف الطاهر إذا تنجَّس بالمجاورة جاز إطعامه للدابة؛ لأنها إذا أكلته لا تتغذى بالنجاسة، وإنما تتغذى بالعلف، بخلاف الجَلَّالة
(3)
.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: أن الحيوان أصله الإباحة
(4)
.
يمكن أن يُناقش: بأن ما ورد من النصوص في النهي عن الجَلَّالة أخرجته من عموم هذا الأصل؛ فالحجة للنص.
الدليل الثاني: أن الحيوان لا ينجس بأكل النجاسة؛ بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يُحكم بنجاسة ظاهره، ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الاغتسال، ولو نجست الجَلَّالة لما طهرت بالحبس
(5)
.
نُوقش: بأن شارب الخمر ليس الخمر أكثر غذائه، وإنما يتغذى الطاهرات، وكذلك الكافر في الغالب
(6)
، فلا يُحكم بنجاستهما لأجل ذلك، وهذا قياس مع الفارق، وفي مقابلة
(1)
يُنظر: الحاوي الكبير (15/ 147)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (4/ 509)، المجموع (9/ 30)،
(2)
يُنظر: الحاوي الكبير (15/ 147)، المجموع (9/ 30)، فتح الباري، لابن حجر (9/ 648).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (9/ 648).
(4)
يُنظر: التبصرة (1/ 55)، المبدع (8/ 12)، وتُنظر قاعدة:(الأصل في الحيوانات الإباحة) في القواعد، للحصني (1/ 479).
(5)
يُنظر: المغني (9/ 414)، المبدع (8/ 12).
(6)
يُنظر: المغني (9/ 414)، الشرح الكبير (27/ 232).
النص.
الدليل الثالث: إنما حرَّم الله أعيان النجاسات المدرَكات بالحواس، فالجَلَّالة لا يوجد فيها أعيان العذرَات، بل تُستهلك ولا يبقى لها أثر، كالنبات الذى ينبت في العَذِرَة، وهو طاهر حلال
(1)
.
نُوقش: بأن هذا قياس مع الفارق: فإن الجَلَّالة يظهر عليها أثر النجاسة، فيتغير لحمها وينتن، فالعبرة للنَّتَن لا لتناول النجاسة
(2)
، والنبات الذي يُسقى بالنجاسة مختلف فيه.
سبب الخلاف:
لعل الخلاف في الجَلَّالة يرجع إلى سببين:
الأول: معارضة القياس لأحاديث النهي: فأحاديث النهي ما ورد من حديث ابن عباس وجابر رضي الله عنهم، وأما القياس المعارض لهذا: فهو أن ما يرِد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان وسائر أجزائه
(3)
.
الثاني: الاختلاف في صحة أحاديث النهي.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم الجَلَّالة.
قال ابن تيمية رحمه الله: «
…
ومنها: أن المطعم إذا خبث وفسد، حرم ما نبت منه من لحم ولبن وبيض: كالجَلَّالة»
(4)
.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة دلالة ظاهر الأحاديث على التحريم.
2 -
عدم المعارض الصارف للنهي عن مقتضاه.
3 -
ضعف ما استدل به أصحاب الأقوال الأخرى، وورود المناقشة عليها.
(1)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (5/ 431).
(2)
يُنظر: بدائع الصنائع (5/ 40).
(3)
يُنظر: بداية المجتهد (3/ 18)
(4)
الفتاوى الكبرى (1/ 405).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل أصحاب القول الثاني النهي على الكراهة، والذي يظهر من أقوال أهل العلم أن الصارف له القرائن التالية:
القرينة الأولى: القياس المعارض لمقتضى النهي.
فمنهم مَنْ استدل بقياس العلف النجس على العلف الطاهر بجامع أن كليهما يتنجس إذا صار في كَرِش الحيوان؛ فالعلف الطاهر يتنجس في الكَرِش، ثم يكون لحماً، ولا يُحكم بنجاسته
(1)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ففي النهي عن الجلالة إرشاد إلى مصلحة الإنسان بأكل الطيب والتنزه عما يستقذر.
قال الخطابي رحمه الله: «الجَلَّالة: هي الإبل التي تأكل الجَلَّة وهي العَذِرة، كُره أكل لحومها وألبانها تنزهاً وتنظفاً»
(2)
.
قال النووي رحمه الله: «
…
أنه كراهة تنزيه»
(3)
.
قال المناوي رحمه الله: «النهي للتنزيه»
(4)
.
والعلة: قيل: هو التنزُّه والتنظُّف عن النجاسة.
قال الخطابي رحمه الله: «كُره أكل لحومها وألبانها تنزهاً وتنظفاً»
(5)
.
وقيل: النهي للتقذر والتنزه عن إعلاف الحيوان النجاسة.
قال ابن بطال رحمه الله: «إنما النهى عن الجَلَّالة من جهة التقذر والتنزه؛ لئلا يكون الشأن في علف الحيوان النجاسات»
(6)
.
(1)
يُنظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (4/ 509).
(2)
معالم السنن (4/ 244).
(3)
المجموع (9/ 28).
(4)
فيض القدير (6/ 305).
(5)
معالم السنن (4/ 244).
(6)
شرح صحيح البخاري (5/ 431).
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذه القرائن ضعيفة؛ لمعارضتها ظاهر النهي في الأحاديث، والقياس إن كان في مقابلة النص، فالنص مقدم، ولأن خُبث المطعم يُفسِد ويُخبِث ما ينبته، والخبائث محرمات، وعليه: فيترجح القول بتحريم الجَلَّالة، والله تعالى أعلم بالصواب.
المبحث الثاني:
النهي عن تخليل الخمر
المطلب الأول: حكم تخليل الخمر
(1)
:
دليل النهي:
عن أنس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلّاً؟ فَقَالَ: لَا))
(2)
.
صورة المسألة:
معالجة الخمر بما يُقصد به أن تنقلب خلاً.
تحرير محل النزاع:
أولاً محل الاتفاق:
اتفق الفقهاء
(3)
على أن الخمر إذا انقلبت بنفسها خلاً بغير علاج آدمي، فإنها تطهر وتحل.
الدليل: لأنها إذا انقلبت بنفسها، فقد زالت علة تحريمها، من غير علة خلفتها، فطهرت، كالماء إذا زال تغيره بمكثه
(4)
.
ثانياً محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم تخليل الخمر بالمعالجة، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يحرم تخليل الخمر.
وهو مذهب الجمهور من: المالكية
(5)
، والشافعية
(6)
، والحنابلة
(7)
.
(1)
المراد بتخليل الخمر: اتخاذ الخَلِّ، ويكون بمعالجتها، بأن يُفعل بها شيء تصير به خلاً، كأن يُضاف لها شيء أو تُنقل؛ بقصد أن تنقلب خلاً. يُنظر: الصحاح (4/ 1689)، التهذيب في فقه الإمام الشافعي (1/ 187)، كشاف القناع (1/ 187).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم تخليل الخمر (3/ 1573) برقم:(1983).
(3)
يُنظر: المبسوط للسرخسي (24/ 7)، شرح التلقين (1/ 267)، المجموع (2/ 574)، المغني (9/ 173).
(4)
يُنظر: المغني (9/ 173).
(5)
يُنظر: الاستذكار (8/ 29)، المقدمات الممهدات (1/ 444)، القوانين الفقهية (ص: 117).
(6)
يُنظر: الحاوي الكبير (6/ 112)، المجموع (2/ 576).
(7)
يُنظر: المغني (9/ 172)، الإنصاف (2/ 301)، كشاف القناع (1/ 187).
القول الثاني: يُكره.
وهو قول عند المالكية
(1)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(2)
.
القول الثالث: يجوز.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(4)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
(5)
.
وجه الاستدلال: أن الآية جاءت ببيان أن الخمر نجسة؛ لأن الله سماها رجساً، والرِّجس هو القذر، والنَّجَسُ: الذي يجب اجتنابه، وقد أمر باجتنابها مطلقاً، والأمر للوجوب، وهو يعم الشرب والمس وغير ذلك، فيحرم إفسادها والقصد إلى تخليلها؛ لما فيه من منافاة الأمر بالاجتناب ومقاربة المحظور
(6)
.
الدليل الثاني: عن أنس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلّاً؟ فَقَالَ: لَا)).
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً عن تخليل الخمر، والنهي يقتضي تحريم المنهيِّ عنه وفساده
(7)
.
نُوقش: بأن المراد بالاتخاذ أن يُستعمل الخمر استعمال الخل: بأن يؤتدم به، ويُصطبغ به
(8)
.
يمكن أن يُجاب عنه: بأن هذا التأويل بعيد، ولا يُصار إليه إلا بدليل، ولا دليل، وهل يُظن أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن استعمال الخمر والائتدام به بعد تحريمه؟! ذلك
(1)
يُنظر: المقدمات الممهدات (1/ 444)، مواهب الجليل (1/ 98).
(2)
يُنظر: المبدع (1/ 210)، الإنصاف (2/ 301).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (24/ 22)، الاختيار لتعليل المختار (4/ 101).
(4)
يُنظر: الإنصاف (2/ 301).
(5)
سورة المائدة: الآية (90).
(6)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (24/ 22)، شرح العمدة (ص: 110)، الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (1/ 253 - 309).
(7)
يُنظر: الحاوي الكبير (6/ 113)، المنهاج شرح صحيح مسلم (13/ 152).
(8)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (24/ 24)، تبيين الحقائق (6/ 48).
بعيد.
الدليل الثالث: عن أنس رضي الله عنه: ((أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْراً قَالَ: أَهْرِقْهَا، قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلّاً؟ قَالَ: لَا))
(1)
.
الدليل الرابع: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ((كَانَ عِنْدَنَا خَمْرٌ لِيَتِيمٍ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَقُلْتُ: إِنَّهُ لِيَتِيمٍ! فَقَالَ: أَهْرِيقُوهُ))
(2)
.
وجه الاستدلال من الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخليل الخمر، والنهي يقتضي التحريم، ولو كان إلى استصلاحها وإباحتها سبيل لم تَجُزْ إراقتها، بل أرشدهم إليه، سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم
(3)
.
نُوقش: بأنه نهى عن التخليل؛ للزجر عن العادة المألوفة، وأمر بالإراقة قلعاً وقمعاً لهم عن أن يحوموا حول الخمور ويعتادوا على ذلك؛ لأنه كان في ابتداء تحريم الخمر لم يأمن النبي صلى الله عليه وسلم من أن يشربوها إذا لم يريقوها، فأمر بالإراقة حسماً لمادة الفساد
(4)
.
وأُجيب عنه: قال ابن تيمية رحمه الله: «هذا غلط من وجوه: أحدها: أنَّ أَمْرَ الله ورسوله لا يُنسخ إلا بأمر الله ورسوله، ولم يرِد بعد هذا نص ينسخه. الثاني: أن الخلفاء الراشدين بعد موته عملوا بهذا كما ثبت عن عمر بن الخطاب. الوجه الثالث: أن يُقال: الصحابة كانوا أطوع الناس لله ورسوله، ولهذا لما حرم عليهم الخمر أراقوها، فإذا كانوا مع هذا قد نُهوا عن تخليلها وأمروا بإراقتها، فمَن بعدهم من القرون أولى منهم بذلك؛ فإنهم أقل طاعة لله ورسوله منهم .... فكيف تُسد الذريعة عن أولئك المتقين، وتُفتح
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الأشربة، باب ما جاء في الخمر تخلل (5/ 518) برقم:(3675)، وأحمد (19/ 226) برقم:(12189)، صححه النووي في (المجموع)(2/ 576)، وابن الملقن في (البدر المنير)(6/ 630).
(2)
أخرجه الترمذي، أبواب البيوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر يبيعها له (3/ 555) برقم:(1263) وقال: «حديث حسن» ، هذا الحديث أصله في صحيح مسلم برقم:(1983) وهو حديث أنس المتقدم في أول المبحث، قال ابن الملقن في (البدر المنير) (6/ 629) تعليقاً على حديث أنس:«هذا الحديث صحيح رواه مسلم منفرداً به كذلك، وهذا السائل لم أرَ أحداً نُصَّ على اسمه ممن ألف في المبهمات، ويحتمل أن يكون راوي الحديث الآتي -وذكر حديث أبي سعيد هذا- وقال: وقد رُوي من غير وجه نحوه» .
(3)
يُنظر: المغني (9/ 172)، المجموع (2/ 575).
(4)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (24/ 24)، تبيين الحقائق (6/ 48).
لغيرهم وهم أقل تقوى منهم»
(1)
.
الدليل الخامس: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((لَا يَحِلُّ خَلٌّ مِنْ خَمْرٍ أُفْسِدَتْ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَفَسَدَهَا))
(2)
، وهذا قول يَشْتَهِرُ؛ لأنه خطب به الناس على المنبر ولم ينكره الصحابة
(3)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: «فهذا عُمر ينهى عن خل الخمر التي قُصد إفسادها، ويأذن فيما بدأ الله بإفسادها،
…
وفي قول عُمر حجة على جميع الأقوال»
(4)
.
نُوقش: بأن عمر إنما نهى عن ذلك على طريق السياسة للزجر
(5)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بالكراهة بأحاديث النهي عن التخليل التي استدل بها القائلون بالتحريم.
وجه الاستدلال: أن النهي في الأحاديث يُحمل على الكراهة والتنزيه، وذلك حماية وسداً لذريعة توصل الناس إلى شربها؛ لأن مَنْ يتخذ الخمر للتخليل يُتهم، فليس المراد أنَّها تكون حرامًا إن فعل
(6)
.
أُجيب عنه: بأن ظاهر النهي للتحريم لا للتنزيه، ولو كان لا يحرم إن فُعل لم تَجُزْ إراقتها، بل كان أرشدهم إليه، سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم
(7)
.
أدلة القول الثالث:
(1)
الفتاوى الكبرى (1/ 308) باختصار.
(2)
أخرجه عبد الرزاق، كتاب الأشربة، باب الخمر يُجعل خلاً (9/ 253) برقم:(17110)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الرهن، باب العصير المرهون يصير خمراً، فيخرج من الرهن، ولا يحل تخليل الخمر بعمل آدمي (11/ 440) برقم:(11312). صححه زكريا غلام في (ما صح من آثار الصحابة في الفقه)(3/ 1159).
(3)
يُنظر: الحاوي الكبير (6/ 113)، المغني (9/ 173).
(4)
الفتاوى الكبرى (1/ 308).
(5)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (24/ 24).
(6)
يُنظر: التبصرة (4/ 1623)، بداية المجتهد (3/ 28).
(7)
يُنظر: المغني (9/ 172)، المجموع (2/ 575)، شرح المصابيح، لابن الملك (4/ 236).
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
(1)
.
وجه الاستدلال: أنه جاء في التفسير عن بعض السلف أن الرزق الحسن: هو الخل
(2)
، فإذا كان الخل مما أُبيح في هذه الآية، فيكون ذلك عموماً في كل خَلٍّ إلا أن يقوم الدليل على تخصيص شيء منه
(3)
.
نُوقش: بأن ظاهر الآية التنبيه على ما أنعم به علينا مما يتخذه من نفس ثمرات النخيل والأعناب، لا فيما يكون يُتخذ منها بواسطة، وهو التخليل
(4)
.
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نِعْمَ الْأُدُمُ
(5)
-أَوِ: الْإِدَامُ- الْخَلُّ))
(6)
.
وجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم امتدح الخل، ولم يفرق بين الخل المتخَذ من الخمر وغيره، فهو على عمومه في الجميع
(7)
.
نُوقش: بأن قوله: (نِعم) لفظ تفضيل وتشريف، وما كان مختلفاً في إباحته لا يستحق التفضيل والتشريف، وتخليل الخمر مُختلَف فيه: فلم يَجُزْ أن يكون داخلاً في عموم لفظ ينافيه
(8)
، وحديث أنس يخرج التخليل بفعل الآدمي من العموم.
الدليل الثالث: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا أَقْفَرَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ أُدْمٍ فِيهِ خَلٌّ، وَخَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ))
(9)
.
(1)
سورة النحل: الآية (67).
(2)
يُنظر: تفسير البغوي (5/ 28)، تفسير القرطبي (10/ 128).
(3)
يُنظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (6/ 387).
(4)
يُنظر: شرح التلقين (3/ 2/ 360).
(5)
الأدم والإدام: ما يؤتدم به، وهو ما يؤكل مع الخبز أي شيء كان. يُنظر: الصحاح (5/ 1859)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 31).
(6)
أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب فضيلة الخل والتأدُّم به (3/ 1621) برقم:(2051).
(7)
يُنظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (6/ 388).
(8)
يُنظر: الحاوي الكبير (6/ 114).
(9)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الرهن، باب ذِكر الخبر الذي ورد في خل الخمر (11/ 441) برقم:(11314)، قال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (3/ 93):«في سنده المغيرة بن زياد، وهو صاحب مناكير، وقد وُثِّق، والراوي عنه حسن بن قتيبة، قال الدارقطني: متروك، وزعم الصاغاني أنه موضوع، وتعقبتُه عليه، وقال ابن الجوزي في التحقيق: لا أصل له» .
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم امتدح الخل، وهو عام يتناول جميع ما يُطلق عليه اسم الخل؛ لأنه لم يفصل بين خل وخل
(1)
.
نُوقش من وجهين:
الأول: أن الحديث ضعيف، فلا يُحتج به.
قال ابن تيمية رحمه الله: «هذا الكلام لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن نقله عنه فقد أخطأ، ولكن هو كلام صحيح؛ فإن خل الخمر لا يكون فيها ماء»
(2)
.
الثاني: أن أهل الحجاز يسمون خل العنب: خل الخمر، وإن صح الحديث فإنه يُحمل على الخل الذي تخلل بنفسه
(3)
.
الدليل الرابع: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الدِّبَاغَ يُحِلُّ مِنَ الْمَيْتَةِ كَمَا يُحِلُّ الْخَلُّ مِنَ الْخَمْرِ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث دليلاً على جواز التخليل؛ لأنه شبَّهه بدباغ جلد الميتة، وهو محرم يُستباح بالاستصلاح بالدباغ، فيُقاس عليه تخليل الخمر وإصلاح الخمر بإزالة صفة الخمرية عنه، والتخليل إزالة لصفة الخمرية، فهو إصلاح له كالدباغ
(5)
.
نُوقش من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الحديث ضعيف، وقد تبيَّن في التخريج، فلا يُحتج به.
الثاني: أن هذا قياس لا يصح، وإنما يجوز القياس مع عدم النص، ودباغ جلد الميتة إنما يُستباح بفعل غير محظور، بل مأذون فيه بنص من السنة، وأما التخليل: فهو محظور بنص من السنة، فلم يَجُزْ أن يُستباح به الخل، فالواجب علينا متابعة النص وترك قياس أحدهما على الآخر
(6)
.
(1)
يُنظر: الاختيار لتعليل المختار (4/ 101)، تبيين الحقائق (6/ 48).
(2)
الفتاوى الكبرى (1/ 309).
(3)
يُنظر: الحاوي الكبير (6/ 114).
(4)
سبق تخريجه ص: (219).
(5)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (24/ 23).
(6)
يُنظر: معالم السنن (4/ 264)، الحاوي الكبير (6/ 114).
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز أن يُدبغ جلد الميتة؛ ليُنتفع به، فلم يمنع ذلك؛ لأنه لا يُتَّهم أحد أن يترك شاته ولا يذكيها حتى تموت، ثُمَّ يتخذ جلدها، ويُتهم أن يتخذ الخمر
(1)
.
الدليل الخامس: إن المعنى الموجب لتحريم الخمر: حدوث الاسم، وعند المخالف: حدوث الشدة؛ بدلالة إباحته في حال كونه عصيراً، فإذا خُلل فقد زال المعنى الذي من أجله حرم، فيزول التحريم، فيكون حينئذٍ بمنزلة الخل الذي يستحيل إليه الخمر من غير تخليل آدمي
(2)
.
نُوقش: إن قصد المخلِّل التخليل يكون قد فعل محرماً، والعين إذا كانت محرمة لم تَصِرْ محلَّلة بالفعل المنهي عنه، فلا تكون بمنزلة الخل الذي يستحيل إليه الخمر من غير تخليل آدمي. والعين الواحدة تكون طاهرة حلالاً في حال، وتكون حراماً نجسة في حال
(3)
.
سبب الخلاف:
الذي يظهر أن سبب الخلاف أمران
(4)
:
الأول: اختلاف الفقهاء في مفهوم النهي الوارد في النص.
فمَن فهم من المنع سد ذريعة حمْل ذلك على الكراهية، ومَن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم، ومَن تأول الاتخاذ بالاستعمال قال بالإباحة.
الثاني: معارضة القياس للأثر، والقياس المعارض لحمل النهي على التحريم قياسان: أحدهما: قياس الخل الحاصل بفعل الآدمي على ما تخلل بنفسه؛ لأنه قد عُلم من ضرورة الشرع أن الأحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة، وأن الخمر غير ذات الخل، والخل -بإجماع- حلال. فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون حلالاً كيفما انتقل.
والثاني: قياس تخليل الخمر على دباغ جلد الميتة؛ بجامع أنهما استصلاح لفساد عارض، فمَن استدل بالقياس وتأول مفهوم النهي قال بالإباحة.
(1)
يُنظر: التبصرة (4/ 1623).
(2)
يُنظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (6/ 388).
(3)
يُنظر: الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (1/ 310).
(4)
يُنظر: بداية المجتهد (3/ 28).
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- هو قول الجمهور القائل بتحريم تخليل الخمر.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «لا يصح في هذه المسألة إلا ما قاله: مالك، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، ومَن قال بقولهم: أنه لا يحل تخليل الخمر، ولا تُؤكل إن خللها أحد، ولكن إن عادت خلاً بغير صنع آدمي، فحلالٌ أكلها»
(1)
.
أسباب الترجيح:
1 -
أنه القول الموافق لما جاء في السنة الصحيحة الصريحة.
2 -
أن الشريعة جاءت بالتغليظ في شأن الخمر: فأمرت بإهراقها، ولعنت فيها عشرة، وهذا يؤكد وجوب اجتنابها وعدم مقاربتها ولو بالاستصلاح.
3 -
ضعف الأقوال الأخرى، وورود المناقشة عليها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبيَّن مما سبق أن من الفقهاء مَنْ حمل النهي على غير التحريم، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص بما يخالف مقتضى النهي.
وذلك في حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا أَقْفَرَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ أُدْمٍ فِيهِ خَلٌّ، وَخَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ))
(2)
.
وحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الدِّبَاغَ يُحِلُّ مِنَ الْمَيْتَةِ كَمَا يُحِلُّ الْخَلُّ مِنَ الْخَمْرِ))
(3)
.
القرينة الثانية: قاعدة سد الذرائع.
قالوا: إنما نهي عن التخليل؛ لسد ذريعة التوصل لشرب الخمر، وعليه: فلا يكون النهي للتحريم، وإنما للتنزيه.
(1)
الاستذكار (8/ 29).
(2)
سبق تخريجه: ص (218).
(3)
سبق تخريجه: ص (219).
جاء في (التبصرة): «ومحمل الحديث أن ذلك حمايةٌ؛ لئلا يتذرَّع الناس إلى شُربها، وليس أنَّها تكون حراماً إن فعل»
(1)
.
القرينة الثالثة: القياس.
القياس المعارض لحمل النهي على التحريم: قياس تخليل الخمر على دباغ جلد الميتة؛ بجامع أنهما استصلاح لفساد عارض.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذ القرائن ضعيفة: فقرينة ورود النص وإن كانت في أصلها قوية لكن ما احتجوا به ضعيف، ولا يقوى على معارضة أحاديث النهي الصحيحة الصريحة.
وكذا قرينتا القياس والتعليل بسد ذريعة التوصل لشربها، قرائن ضعيفة؛ لقوة دلالة ظاهر النهي على التحريم، يؤكده الأمر الصريح بإهراقها، وإن كانت أموال أيتام أوجبت الشريعة حِفظها وصيانتها من التلف؛ فلم يُجعل التخليل سبيلاً للحفظ والانتفاع، ويؤكده أيضاً ما عُلم من تغليظ الشرع في تحريم الخمر، ولعن فيها عشرة، فهذا كله دليل على وجوب اجتناب الخمر واجتناب الانتفاع بها بأي وجهٍ كان، والله أعلم.
(1)
(4/ 1623).
المبحث الثالث:
النهي عن البُصاق جهة القبلة أو اليمين للمصلي
المطلب الأول: حكم البُصاق
(1)
جهة القبلة أو اليمين للمصلي:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ؛ فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللهَ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكاً، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَيَدْفِنْهَا))
(2)
.
صورة المسألة: المصلي إن بدره البصاق -في المسجد أو في غير المسجد- إلى أي جهة يبصق؟
تحرير محل النزاع:
الحالة الأولى: إن كان المصلي في غير المسجد:
اتفق الفقهاء
(3)
على كراهة البُصاق جهة القبلة أو اليمين للمصلي.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الدليل الثاني: عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ))
(4)
.
وجه الاستدلال من الأحاديث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المصلي عن البُصاق بين يديه وعن يمينه، ويُحمل النهي على
(1)
ب ص ق: البصاق، كشراب، وكذا البساق، والبزاق: ثلاث لغات، أفصحهن بالصاد، وهو ماء الفم إذا خرج منه، وما دام فيه فرِيقُ هذا هو الفرق بينهما، وقيل: أوله البزق، ثم التَّفْل، ثم النَّفْث، ثم النَّفْخ، والتَّفل شبيه بالبزق، وهو أقل أمنه. يُنظر: الصحاح (4/ 1450)، تاج العروس (25/ 83) و (28/ 136).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب دفن النخامة في المسجد (1/ 91) برقم:(416).
(3)
يُنظر: مراقي الفلاح (ص: 127)، المجموع (4/ 101)، مغني المحتاج (1/ 423)، المدونة (1/ 191)، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 7)، المبدع (1/ 436)، الإنصاف (3/ 635).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى (1/ 90) برقم:(413)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق فِي المسجد فِي الصلاة وغيرها (1/ 390) برقم:(551).
الكراهة في غير المسجد تنزيهاً وإكراماً وتشريفاً لجهة القبلة وجهة اليمين
(1)
.
الحالة الثانية: إن كان المصلي في المسجد:
اختلف الفقهاء في حكم البُصاق جهة القِبلة أو اليمين للمصلي إن كان في المسجد، على قولين:
القول الأول: يحرم البُصاق في المسجد جملةً، فإن بَدَره يبصق في ثوبه، ويحُكُّ بعضه ببعض.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: يُكره البُصاق جهة القِبلة أو اليمين للمصلي إذا كان لا يدفنه، ويجوز -إن كان يدفنه- إن وقع مرة أو مرتين لا أكثر.
وهو مذهب المالكية
(5)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ؛ فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللهَ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكاً، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَيَدْفِنْهَا))
(6)
.
الدليل الثاني: عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ))
(7)
.
وجه الاستدلال من الحديثين: أن نهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم المصليَ عن البُصاق بين يديه
(1)
المفهم (2/ 157)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 38).
(2)
شرح أبي داود، للعيني (2/ 387)، حاشية ابن عابدين (1/ 661).
(3)
المجموع (4/ 100)، مغني المحتاج (1/ 423).
(4)
الإنصاف (3/ 634)، شرح منتهى الإرادات (1/ 213).
(5)
المدونة (1/ 191)، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 7)، التاج والإكليل (7/ 619)، ولهم فيها تفصيل وترتيب للجهات، وما يُبدأ به أولاً. ينظر: الذخيرة (13/ 348)، التاج والإكليل (2/ 308)، مواهب الجليل (2/ 28).
(6)
سبق تخريجه ص: (223).
(7)
سبق تخريجه ص: (223).
وعن يمينه، عام في المسجد وغيره، ويُحمل النهي عن ذلك في المسجد على التحريم
(1)
؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا))
(2)
، فجعل البزاق في المسجد خطيئة مطلقاً، سواء احتاج إلى البزاق أم لم يحتج، بل يبزق في ثوبه، فإن بزق في المسجد فقد ارتكب الخطيئة، فيأثم بفعله، وعليه أن يكفِّر هذه الخطيئة بدفن البزاق
(3)
.
(4)
.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ؟ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ، فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا -وَوَصَفَه الراوي: فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ-))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن في إقبال النبي صلى الله عليه وسلم على الناس مُغضَباً كما جاء في رواية، وتخصيص جهة القبلة بأن نزَّلها منزل الرب تعالى؛ لبيان عِظم الذنب والخطيئة -دليل على تحريم البُصاق جهة القِبلة، وأرشد صلى الله عليه وسلم إلى جعله في الثوب صيانة للمسجد عن التقذير بالبُصاق
(6)
.
ويُفهم النهي عن البُصاق عن يمينه من أمره بأن يبزق عن يساره أو تحت قدمه أو
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 39).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كفارة البزاق في المسجد (1/ 91) برقم:(415)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها (1/ 390) برقم:(552).
(3)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 41)، شرح أبي داود، للعيني (2/ 387)، مطالب أولي النهى (1/ 487).
(4)
شرح صحيح البخاري (2/ 68).
(5)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق فِي المسجد فِي الصلاة وغيرها (1/ 389) برقم:(550).
(6)
يُنظر: المفهم (2/ 158)، المبدع (1/ 436).
في طرف ردائه
(1)
.
أدلة القول الثاني:
استدل المالكية على الكراهة بالأحاديث التي استدل بها الجمهور على التحريم، من وجهين: الأول: أن النهي في الأحاديث يُحمل على الكراهة تنزيهاً لجهة القِبلة واليمين عن الأقذار إلا لضرورة فيتفُل، ثم يدفنه
(2)
.
الثاني: أن كونه خطيئة إنما هو لمَن تفل فيه ولم يدفن، فيُكره؛ لأنه يقذر المسجد، ويتأذى به مَنْ يعلق به أو رآه، فأما مَنْ اضطُر إلى ذلك، فدفن، وفعل ما أُمر به: فلم يأتِ خطيئة، فكأن بدفنه لها أزال عنه الخطيئة وكفَّرها
(3)
.
نُوقش: بأن هذا كلام باطل، وغلط صريح مخالف لنص الحديث، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:(وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا) فمعناه إن ارتكب هذه الخطيئة فعليه تكفيرها
(4)
.
سبب الخلاف:
تعارض عمومي قوله: (الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ
…
)، وقوله: (
…
وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ)، فمَن جعل الأول عامًا، وخَصَّ الثاني بما إذا لم يكن في المسجد -قال بتحريم البُصاق في المسجد، ومَن جعل الثاني عاماً، وخص الأول بمن لم يرد دفنها -حمل النهي على الكراهة
(5)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- قول الجمهور بتحريم البُصاق في المسجد جملةً.
أسباب الترجيح:
1 -
أن البُصاق جهة القِبلة فيه سوء أدب عند توجه العبد لربه تعالى، فيحرم لذلك.
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (3/ 107).
(2)
يُنظر: التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 7).
(3)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 487).
(4)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 41).
(5)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 511).
2 -
أن العناية بالمسجد وتنظيفه واحترامه واجب؛ لقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
(1)
.
3 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البزاق في المسجد خطيئة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب المالكية إلى كراهة البُصاق في المسجد لمَن لا يدفنها، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم: ورود النص بالتعليل بما يُفهم منه عدم التحريم.
وذلك في: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيُغَيِّبْ نُخَامَتَهُ؛ أَنْ تُصِيبَ جِلْدَ مُؤْمِنٍ أَوْ ثَوْبَهُ، فَتُؤْذِيَهُ))
(2)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: (كفارتها دفنها).
قال القاضي عياض رحمه الله
(3)
: «فأما مَنْ اضطُر إلى ذلك، فدفن، وفعل ما أُمر به: فلم يأتِ خطيئة، فكأن بدفنه لها أزال عنه الخطيئة وكفَّرها، لو قدَّرنا بصاقه فيه ولم يدفنه.
وأصل التكفير: التغطية، فكأن دفنها غطاء لما يُتصور عليه من الذم والإثم لو لم يفعل، وكونه خطيئة إنما هو لمن تَفل فيه ولم يدفن؛ لأنه يقذر المسجد، ويتأذى به مَنْ يعلق به أو رآه، كما جاء فى الحديث الآخر:(لئلا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه، فتؤذيه)»
(4)
.
الحكم على القرينة:
(1)
سورة الحج: جزء من الآية (26).
(2)
أخرجه أحمد (3/ 121) برقم: (1543)، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (2/ 18):«رجاله موثقون» ، وحسَّن إسناده ابن حجر في (فتح الباري)(1/ 512).
(3)
هو: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليَحْصَبيُّ السَّبْتِيُّ، المالكي الحافظ، أبو الفضل، وُلد بسبتة سنة 476 هـ، كان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، وَلي قضاء سبتة، ثم قضاء غِرْناطة، وصنف التصانيف المفيدة منها:«الإكمال في شرح كتاب مسلم» كمَّل به «المعلم في شرح مسلم» للمازري، ومنها:«مشارق الأنوار» ، «ترتيب المدارك وتقريب المسالك في معرفة أعلام مذهب الإمام مالك» ، «مشارق الأنوار» وغيرها، تُوفي سنة 544 هـ. يُنظر: وفيات الأعيان (3/ 483)، الديباج المذهب (2/ 46)، شذرات الذهب (6/ 226).
(4)
إكمال المعلم (2/ 487).
الذي يظهر أن هذه القرينة وإن كانت محتملة لكن المعنى الظاهر لقوله: (كفارتها دفنها) أن مَنْ ارتكب هذه الخطيئة فعليه تكفيرها، والتعليل بكونها تقذر المسجد أو تؤذي المؤمن تعليل يفيد التحريم؛ لوجوب صيانة المسجد ولتحريم الأذى، وقبل هذا وذا: فإنَّ كون المسلم في المسجد يناجي ربه ويستشعر مواجهة الله له وكأنه في قِبلته، يحتم عليه ألا يبصق؛ لأنه سوء أدب مع الله، فإن اضطُر إليه فليجعله في ثوبه أو منديل، ويمسحه، والله تعالى أعلم.
الباب الثاني
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في كتاب الصلاة
ويتكون من سبعة فصول:
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب الأذان.
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب المساجد.
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب المواقيت.
الفصل الرابع: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب ستر العورة.
الفصل الخامس: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب آداب المشي إلى الصلاة.
الفصل السادس: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب صفة الصلاة.
الفصل السابع: المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب صلاة التطوع.
الفصل الأول
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب الأذان
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: النهي عن أخذ الأجرة على الأذان.
المبحث الثاني: النهي عن الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها.
المبحث الأول:
النهي عن أخذ الأجرة على الأذان
المطلب الأول: حكم أخذ الأجرة على الأذان:
دليل النهي
(1)
:
عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه
(2)
، قال: قلت: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، فقال:((أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّناً لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْراً))
(3)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم أخْذ المؤذن الأجرة على الأذان، على قولين:
القول الأول: يجوز أخْذ الأجرة على الأذان:
وهو قول متأخري الحنفية
(4)
، ومذهب المالكية
(5)
، والشافعية
(6)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(7)
.
القول الثاني: يحرم أخْذ الأجرة على الأذان:
(1)
وجه دخول المسألة في مسائل النهي: أن في الحديث أمراً باتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجراً، ويستفاد منه نهي غير صريح عن أخذ الأجرة على الأذان، لذا استدل به الفقهاء على مسألة المنع من أخذ الأجرة على الأذان. يُنظر: المغني (1/ 301)، الذخيرة (2/ 66).
(2)
هو: عثمان بن أبي العاص بن بشر الثقفي، يُكنى: أبا عبد الله، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، وأقره أبو بكر ثم عمر، ثم استعمله عمر على عُمان والبحرين سنة خمس عشرة، روى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه: ابن أخيه يزيد بن الحكم بن أبي العاص، ومولاه أبو الحكم، وسعيد بن المسيب، وآخرون، سكن البصرة، ومات في خلافة معاوية سنة 50 هـ. يُنظر: الاستيعاب (3/ 1035)، الإصابة (4/ 374).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب أخْذ الأجر على التأذين (1/ 398) برقم:(531)، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على الأذان أجراً (1/ 409) برقم:(209) وقال: «حديث عثمان حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم: كرهوا أن يأخذ المؤذن على الأذان أجراً، واستحبوا للمؤذن أن يحتسب في أذانه» ، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب المساجد، اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجراً (2/ 250) برقم:(1648)، وابن ماجه، أبواب الأذان والسُّنَّة فيها، باب السُّنَّة في الأذان (1/ 459) برقم:(714)، وأحمد (26/ 200) برقم:(16270)، صححه ابن خزيمة (1/ 250) برقم:(423)، وقال الحاكم في (المستدرك) (1/ 314):«على شرط مسلم ولم يخرجاه» ، وقال الزَّيْلعي في (نصب الراية) (4/ 139):«أخرجه أصحاب السنن الأربعة بطرق مختلفة» .
(4)
يُنظر: البحر الرائق (8/ 23)، حاشية ابن عابدين (6/ 55).
(5)
يُنظر: الذخيرة (2/ 66)، مواهب الجليل (1/ 455).
(6)
يُنظر: العزيز شرح الوجيز (1/ 423)، المجموع (3/ 127).
(7)
يُنظر: المغني (1/ 301)، الشرح الكبير (3/ 57)، المبدع (1/ 276).
وهو مذهب الحنفية
(1)
، وقول عند الشافعية
(2)
، والمذهب عندالحنابلة
(3)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كِتَابُ اللهِ))
(4)
، والحديث فيه قصة اللَّدِيغ.
وجه الاستدلال: أن عموم الحديث يدل على جواز أخْذ الأجرة على الرُّقية وتعليم القرآن، وتلحق بها القُرب ذات المنفعة المتعدية، ومنها: الأذان
(5)
.
الدليل الثاني: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة اللَّدِيغ، وفيها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قَدْ أَصَبْتُمُ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْماً))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث دليلاً على جواز أخْذ الأجرة على الرُّقية، وذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذوا الغنم التي أُعطيت لهم على الرُّقية تحرَّجوا من قِسمتها وأكْلها، وأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلمهم أنها حلال، ولهم أخْذ الأجرة عليه، وأكَّد لأنفسهم، وطيَّب نفوسهم بأن قال:(وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْماً)؛ ولذا جاز أخْذ الأجرة على الأذان؛ لأنه في معناه
(7)
.
نُوقش: أن المراد منه الجُعالة
(8)
في الرُّقية كما هو ظاهر سياق الحديث، والرُّقية نوع مُدَاواة، والمأخوذ عليه جُعل، والمداواة يُباح أخْذ الأجر عليها
(9)
.
(1)
يُنظر: البناية (2/ 97)، حاشية ابن عابدين (1/ 392).
(2)
يُنظر: الحاوي الكبير (2/ 60)، المجموع (3/ 125).
(3)
يُنظر: المغني (1/ 301)، الشرح الكبير (3/ 57)، مطالب أولي النهى (1/ 290).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الشرط في الرُّقية بقطيع من الغنم (7/ 131) برقم:(5737).
(5)
يُنظر: المغني (3/ 224)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (15/ 86).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب الإجارة، باب ما يُعطى في الرُّقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب (3/ 92) برقم:(2276)، ومسلم، كتاب السلام، باب جواز أخْذ الأجرة على الرُّقية بالقرآن والأذكار (4/ 1727) برقم:(2201).
(7)
يُنظر: شرح التلقين (1/ 431)، المغني (5/ 411)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (15/ 87).
(8)
الجُعل -بالضم-: العطية، وهو ما يعطاه الإنسان على الأمر يفعله، ويقال: الجعالة، والجعيلة. يُنظر: التعريفات (ص: 76)، الصحاح (4/ 1656)، المطلع على ألفاظ المقنع (ص: 340).
(9)
يُنظر: البناية (10/ 281).
يمكن أن يُجاب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه أجراً في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
الدليل الثالث: حديث أبي محذورة رضي الله عنه
(1)
في قصة تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له الأذان واتخاذه مؤذناً، قال: ((خَرَجْتُ فِي نَفَرٍ، فَكُنَّا في بَعْضِ طَرِيقِ حُنَيْنٍ
(2)
، مَقْفَلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ حُنَيْنٍ فَلَقِيَنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ،
…
ثُمَّ دَعَانِي حِينَ قَضَيْتُ التَّأْذِينَ، فَأَعْطَانِي صُرَّةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ فِضَّةٍ
…
))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اتخذ أبا محذورة مؤذناً أعطاه الصرة، فدل ذلك على جواز أخْذ الأجرة على الأذان
(4)
.
نُوقش من وجهين
(5)
: الأول: أن حديث أبي محذورة مُعارِض لحديث النهي، وإسلامه متقدم على إسلام عثمان بن أبي العاص الراوي لحديث النهي، فحديثه متأخِر والعبرة بالمتأخِر.
الثاني: أنها واقعة يتطرق إليها الاحتمال، فيُحتمل أن يكون أعطاه من باب التأليف؛ لحداثة عهده بالإسلام، ووقائع الأحوال إذا تطرَّق إليها الاحتمال سلبها
(1)
هو: أَبُو محذورة القرشي الجمحي، اختُلف في اسمه، فقيل: سمرة ابن مِعْيَر، وقيل: مِعْيَر بْن مُحَيْرِيز، وقيل: أَوْسُ بنُ مِعْيَرِ بنِ لَوْذَانَ بنِ رَبِيْعَةَ بن سعد بن جمح ربيعة بن عريج بن سعد بن جمح، مؤذن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الفتح، غلبت عليه كنيته، تُوفي سنة 59 هـ. يُنظر: الاستيعاب (4/ 1751)، أسد الغابة (6/ 273).
(2)
حُنَيْن -بضم الحاء المهملة وفتح النون- على لفظ تصغير الترخيم: وادٍ من أودية مكة المكرمة، يسيل من السراة، ثم ينحدر غرباً، فيمر بين جبل كِنشيل الشهير عن يمينه وجبلي لَبَن عن يساره، ويُعرف اليوم بوادي الشّرائِع، ولا يُعرف حُنَين، والطريق إلى الطائف تأخذ على الشرائع قابلة وادي حُنَين، ثم تأخذ وادي يَدْعَان، يساراً، وحُنَين هو الموضع الذي جرت فيه الوقعة الشهيرة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين هَوَازن ومَن ناصرهم في عام الفتح، وكانت من الوقعات الفاصلة، ومن الوقعات التي ذكرها الله في القرآن. يُنظر: مراصد الاطلاع (1/ 432)، معالم مكة التأريخية والأثرية (ص: 87).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان (1/ 376) برقم:(503)، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان (1/ 367) برقم:(192)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب المساجد، كم الأذان من كلمة (2/ 233) برقم:(1608) واللفظ له (مختصرا)، وابن ماجه، أبواب الأذان والسنة فيها، باب الترجيع في الأذان (1/ 454) برقم:(708)، وأحمد، (24/ 97) برقم:(15380)، صححه ابن حبان (4/ 574) برقم:(1680)، قال البوصيري في (مصباح الزجاجة) (1/ 89):«إسناد صحيح رجاله ثقات» .
(4)
يُنظر: نيل الأوطار (2/ 70).
(5)
يُنظر: حاشية السيوطي على سنن النسائي (2/ 7).
الاستدلال؛ لما يبقى فيها من الإجمال
(1)
.
أُجيب عنه: بأنه يُجمع بين الأحاديث: بأن حديث عثمان يُحمل على الندب والورع، وحديث أبي محذورة يدل على الجواز
(2)
، وبأن القُربة ذات المنفعة المتعدية يجوز أخْذ الأجرة عليها
(3)
.
الدليل الرابع: أن الأذان عمل معلوم، يجوز أخذ الرَّزق
(4)
عليه، فجاز أخْذ الأجرة عليه، كسائر الأعمال، ولا خلاف في جواز أخْذ الرزق عليه
(5)
.
نُوقش من وجهين: الأول: بأنه لا يصح القياس؛ لأنه قياس مع وجود النص
(6)
.
أُجيب عنه: أن النهي في النص محمول على الندب لا التحريم
(7)
.
الثاني: بوجود الفرق بين الرزق والأجرة؛ ذلك أن الرزق أن يعطيه كفايته هو وعياله من بيت المال، والأجرة ما يقع به التراضي
(8)
.
الدليل الخامس: أنه فِعل يجوز التبرع به عن الغير، فيجوز أخْذ الأجرة عليه، ولا يكون كونه قربة مانعاً من الإجارة فيه؛ قياساً على الحج عن الغير
(9)
.
الدليل السادس: أن المؤذن يحبس نفسه في المكان المعين، وهو غير مأمور به عيناً، فجاز أخْذ الأجرة عليه
(10)
.
وكل ما لا يتعين على الأجير أداؤه يجوز الاستئجار عليه إذا كان تجزئ فيه
(1)
تُنظر القاعدة في: أصول الفقه، لابن مفلح (2/ 801).
(2)
يُنظر: المجموع (3/ 128)، الذخيرة (2/ 67).
(3)
يُنظر: المغني (3/ 224)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (15/ 86).
(4)
الرَّزْقُ: العطاء، وهو ما يرتِّبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين، فيعطى كفايته هو وعياله. يُنظر: الصحاح (4/ 1481)، المجموع (3/ 127)، فتح الباري، لابن حجر (13/ 150).
(5)
قال ابن قدامة في (المغني)(1/ 301): «لا نعلم خِلافًا في جوازِ أخْذ الرِّزق عليه» ، ويُنظر: العزيز شرح الوجيز (1/ 423)، الذخيرة (2/ 66)، البناية (10/ 277).
(6)
يُنظر: المبدع (1/ 276) نقلاً عن ابن حامد.
(7)
يُنظر: المجموع (3/ 128)، الذخيرة (5/ 401)، أسنى المطالب (1/ 132).
(8)
يُنظر: المغني (5/ 412)، المجموع (3/ 128).
(9)
يُنظر: الذخيرة (2/ 66).
(10)
يُنظر: التعليقة، للقاضي حسين (2/ 662)، الذخيرة (2/ 66).
النيابة
(1)
.
الدليل السابع: أن المنع من الاستئجار على الطاعة يُستثنى منه ما فيه ضرورة ظاهرة: كتعليم القرآن خشية ضياعه، ومثله: الأذان
(2)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
(3)
.
وجه الاستدلال: أن الإنسان يُثاب على ما عمل وقَدَّم، والأذان يقع قربة عن العامل يُثاب عليها، فلا يجوز له أخْذ الأجرة من غيره: كالصوم، والصلاة
(4)
.
أُجيب عنه بجوابين: الأول: بأن كونه قربة لا يمنع الإجارة، ولأنه لا يجب عليه، ولأن نَفْعه يعود إلى عموم المسلمين؛ فهو كتعليم القرآن
(5)
.
الثاني: لا يصح القياس على الصلاة والصوم للفرق بين الفرع والأصل؛ فالصلاة عبادة خاصة بالفاعل والأذان متعدي النفع
(6)
.
الدليل الثاني: حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، فقال:((أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّناً لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْراً))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً، ويستفاد منه نهيا غير صريحا عن أخذ الأجرة على الأذان، والأصل في النهي التحريم.
نُوقش: أن النهي محمول على الندب لا التحريم
(8)
، والقرينة الصارفة له أحاديث الجواز.
(1)
الدليلان الخامس والسادس مبنيان على قاعدة: أن كل ما لا يتعين على الأجير أداؤه يجوز الاستئجار عليه إذا كان تجزئ فيه النيابة. يُنظر: موسوعة القواعد الفقهية (6/ 304).
(2)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (6/ 55).
(3)
سورة النجم: الآية (39).
(4)
يُنظر: الاختيار لتعليل المختار (2/ 59)، البناية (10/ 281).
(5)
يُنظر: التعليقة، للقاضي حسين (2/ 662)، مغني المحتاج (1/ 327).
(6)
يُنظر: عمدة القاري (12/ 95).
(7)
سبق تخريجه: ص (231).
(8)
المجموع (3/ 128)، الذخيرة (5/ 401)، أسنى المطالب (1/ 132).
الدليل الثالث: أن الأذان قربة لفاعله، لا يصح إلا من مسلم، فلم يجُزَ أخْذ الأجرة عليه، كالإمامة
(1)
.
نُوقش: بأن كونه قربة لا يكون مانعاً من الإجارة فيه؛ قياساً على الحج عن الغير، جاز التبرع بها عن الغير، فجار أخذة الأجرة عليها
(2)
.
سبب الخلاف:
تنوعت آراء العلماء في سبب الخلاف: فنجد ابن رشد رحمه الله
(3)
في «بداية المجتهد»
(4)
أرجعه إلى سببين: الأول: اختلافهم في تصحيح الخبر الوارد في ذلك، وهو حديث عثمان بن أبي العاص، الثاني: أن مَنْ منعه قاس الأذان في ذلك على الصلاة.
بينما نجد القَرَافِي رحمه الله في «الذخيرة»
(5)
جعل السبب وجوب شائبتين: حصول النفع للنافع بالثواب، والمستأجر بالملازمة في المكان المخصص.
ونجد السَّرَخْسِي رحمه الله
(6)
في «المبسوط»
(7)
أشار إلى أن السبب هو اختلاف أصول المذاهب: فالأصل عند الحنفية أن كل طاعة يختص بها المسلم فالاستئجار عليها باطل، والأصل عند الشافعية أن كل ما لا يتعين على الأجير إقامته فالاستئجار عليه صحيح.
(1)
يُنظر: الشرح الكبير (3/ 57)، حاشية ابن عابدين (6/ 55)، وهذا أصل من أصول الحنفية:(الطاعات التي لا يجوز أَداؤها من الكافر لا يجوز الاستئجار عليها)، وللإمام أحمد فيها روايتان. يُنظر: البناية شرح الهداية (10/ 278)، موسوعة القواعد الفقهية (6/ 303).
(2)
يُنظر: الذخيرة (2/ 66).
(3)
هو: أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، مولده قبل موت جده بشهر سنة 520 هـ، تفقه، وبرع، وسمع الحديث، وأتقن الطب، ثم أقبل على علوم الأوائل وبلاياهم، حتى صار يُضرب به المثل في ذلك، وولي قضاء قُرْطبة، فحُمدت سيرته، وله من التصانيف:«بداية المجتهد» ، «الكليات» ، «مختصر المستصفى» ، تُوفي سنة 595 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (15/ 426)، الديباج المذهب (2/ 257)، شذرات الذهب (6/ 522).
(4)
(1/ 116).
(5)
(10/ 79).
(6)
هو: محمد بن أحمد بن أبي سهل، أبو بكر السَّرَخْسِي، من أئمة الحنفية، وكان إماماً علامة حجة متكلماً مناظراً أصولياً مجتهداً، نسبته إلى سَرَخْس -بفتح السين وفتح الراء وسكون الخاء- بلدة قديمة من بلاد خراسان، أملى كتابه "المبسوط" في نحو خمسة عشر مجلداً وهو في السجن بأوزجند، كان محبوساً في الجُبِّ بسبب كلمة نصح بها الخاقان، وله «شرح السير الكبير للإمام محمد» ، و «المبسوط» وغيرها، تُوفي سنة 483 هـ. يُنظر: الجواهر المضية (2/ 28)، الفوائد البهية (ص: 158).
(7)
(16/ 37).
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بجواز أخْذ الأجرة على الأذان، والله أعلم.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة الأدلة التي أفادت الجواز.
2 -
أنه من باب التعاون على البر والتقوى، والمحافظة على إقامة شعائر الإسلام.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر أن القرائن الصارفة التي استدل بها القائلون بالجواز وأن النهي يُحمل على الندب والورع وليس التحريم، هي أدلة الجواز:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيها فِعَل النبي صلى الله عليه وسلم خلاف النهي.
وذلك ما جاء في حديث أبي محذورة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علَّمه الأذان واتخذه مؤذناً، أعطاه صرَّة فيها شيء من فضة، فكان كالأجرة.
القرينة الثانية: ورود النص بحكاية إقرار النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الصحابة على أخْذ الأجرة على الرُّقية، وصوَّبهم عليها، ويؤيده حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم أجراً، فاستدل بهما على جواز أخْذ الأجرة على القُرَب ذات النفع المتعدي، ومنها: الأذان.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذه القرائن قوية معتبرة؛ لقوتها في أصلها؛ فهي قرائن نصية صحيحة تفيد الجواز، والله تعالى أعلم بالصواب.
المبحث الثاني:
النهي عن الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها
المطلب الأول: حكم الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها:
دليل النهي:
عن بلال رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:((لا تُؤذِّن حتَّى يَستبينَ لك الفَجرُ هكذا، ومدّ يَدَيهِ عَرضاً))
(1)
.
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الإجماع:
أجمع العلماء
(2)
على أنه لا يصح الأذان للصلاة قبل دخول وقتها فيما عدا الفجر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ))
(3)
، ولأن الأذان شُرع للإعلام بالوقت، فلا يُشرع قبل الوقت؛ لئلا يذهب مقصوده
(4)
.
قال ابن المنذر رحمه الله
(5)
: «أجمعوا على أن من السنة: أن يُؤذَّن للصلاة بعد دخول وقتها إلا الصبح»
(6)
.
ثانياً: محل النزاع:
(1)
أخرجه أبو داود (1/ 401) برقم: (534) وقال: «شداد مولى عياض لم يُدرك بلالاً» ، وقال الزيلعي في (نصب الراية) (1/ 284):«أعلَّه البيهقي بالانقطاع، قال في المعرفة: وشداد مولى عياض لم يدرك بلالاً» .
(2)
نقل الإجماع: ابن المنذر في (الإجماع)(ص: 47)، وابن رشد في (بداية المجتهد)(1/ 115)، والنووي في (المجموع)(3/ 89).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد (1/ 128) برقم: (628)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة (1/ 465) برقم:(674).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 297)، شرح العمدة لابن تيمية -كتاب الصلاة (ص: 113).
(5)
هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، كنيته أبو بكر، وُلد سنة 242 هـ، كان فقيهاً عالماً مجتهداً، من الحفاظ، وكان شيخ الحرم بمكة، قال الذهبي:«ابن المنذر صاحب الكتب التي لم يُصنف مثلها» منها: «المبسوط» ، «الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف» ، «الإشراف على مذاهب أهل العلم» ، «الإجماع» وغيرها، تُوفي بمكة سنة 319 هـ. يُنظر: وفيات الأعيان (4/ 207)، سير أعلام النبلاء (11/ 300)، الأعلام، للزركلي (5/ 294).
(6)
الإجماع (ص: 47).
اختلف الفقهاء في الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز أن يُؤذن للفجر قبل الوقت.
وهو مذهب الجمهور: المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
القول الثاني: لا يجوز أن يُؤذن للفجر قبل الوقت، وإن فعل أعاد في الوقت.
وهو مذهب الحنفية
(4)
.
القول الثالث: يُكره إلا إن أعاد في الوقت، فلا يُكره.
وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(5)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ))
(6)
، والحديث عند مسلم وفيه: ((
…
قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث دليلاً على دوام بلال رضي الله عنه على الأذان قبل الفجر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه عليه، ولم ينهه عنه؛ لقوله:(فكلوا واشربوا) أي: في مستقبل الأيام، فثبت جوازه
(8)
.
نُوقش: بأن بلالاً إنما كان ينادي للسحور، ولا يؤذن للصلاة
(9)
.
أُجيب عنه بجوابين
(10)
:
(1)
يُنظر: الذخيرة (2/ 69)، مواهب الجليل (1/ 428).
(2)
يُنظر: الحاوي (2/ 26)، المجموع (3/ 89).
(3)
يُنظر: المغني (1/ 297)، الإنصاف (3/ 88).
(4)
يُنظر: الاختيار لتعليل المختار (1/ 44)، البناية (2/ 113).
(5)
يُنظر: المبدع (1/ 287)، الإنصاف (3/ 90).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان بعد الفجر (1/ 127) برقم:(620).
(7)
أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (2/ 768) برقم:(1092).
(8)
يُنظر: المغني (1/ 297).
(9)
يُنظر: الاختيار لتعليل المختار (1/ 44).
(10)
يُنظر: الحاوي الكبير (2/ 26).
أحدهما: أن لفظ الأذان إنما هو مختص بالصلاة.
والثاني: أنه لو كان نداء للسحور لم يُشكل عليهم، ولا احتاجوا إلى تعريف النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
الدليل الثاني: عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ -أَوْ: يُنَادِي بِلَيْلٍ- لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار في الحديث إلى علة اختصاص الفجر بذلك، وهو قيام النائم؛ ليقضي حاجته، فيأتي الصلاة في أول الوقت، ورجوع القائم؛ ليأتي بالعبادة على وجه النشاط
(2)
، وهو نصٌّ في موضع الخلاف
(3)
.
الدليل الثالث: حديث زياد بن الحارث الصُّدائي رضي الله عنه
(4)
، قال:((لما كان أوّلُ أذان الصُّبحِ أمرني -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم فأذَّنتُ، فجعلتُ أقول: أُقيمُ يا رسولَ الله؟ فجعل ينظرُ إلى ناحية المَشرِقِ إلى الفجر، فيقول: لا، حتَّى إذا طلعَ الفجرُ نزلَ، فبرزَ، ثمَّ انصرفَ إليَّ وقد تلاحَقَ أصحابُه -يعني: فتوضَّأ- فأراد بلال أن يقيمَ، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أخا صُداءٍ هو أَذَّنَ، ومَن أذَّنَ فهو يقيمُ، قال: فأقمتُ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زياداً بالأذان قبل طلوع الفجر، فدل على
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر (1/ 127) برقم:(621)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (2/ 768) برقم:(1093).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 298)، شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الصلاة (ص: 114)، شرح الزركشي (1/ 509).
(3)
يُنظر: الحاوي الكبير (2/ 27).
(4)
هو: زياد بن الحارث الصُّدائي، وصُداء حي من اليمن، وهو حليف لبني الحارث بن كعب، بايع النبي صلى الله عليه وسلم، وأذّن بين يديه، يعدّ في المصريين وأهل المغرب، روى عنه زياد بن نعيم الحضرمي. يُنظر: الاستيعاب (2/ 530)، أسد الغابة (2/ 332)، تهذيب التهذيب (3/ 359).
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت بالأذان (1/ 386) برقم:(514)، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم (1/ 383) برقم:(199) وقال: «وفي الباب عن ابن عمر، وحديث زياد إنما نعرفه من حديث الإفريقي، والإفريقي هو ضعيف عند أهل الحديث
…
ورأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره، ويقول: هو مقارب الحديث»، وابن ماجه، أبواب الأذان والسنة فيها، باب السنة في الأذان (1/ 461) برقم:(717)، وأحمد (29/ 80) برقم:(17538)، قال ابن الملقن في (البدر المنير) (3/ 408):«قد أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب (الأذان) من حديث ابن عمر مرفوعاً، وليس فيه الإفريقي. والإفريقي قد وثَّقه جماعة» .
جوازه، وهذا نصٌّ في موضع الخلاف
(1)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث بلال رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:((لا تُؤذِّنْ حتَّى يَستبينَ لك الفَجرُ هكذا، ومدّ يَدَيهِ عَرضاً))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بلالاً عن الأذان للفجر قبل دخول الوقت؛ لأن الأذان شُرع للإعلام بدخول الوقت، والإعلام بالدخول قبل الدخول كذب، وكذا هو من باب الخيانة في الأمانة، والمؤذن مؤتمن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لم يَجُزْ في سائر الصلوات
(3)
.
نُوقش: بأن الحديث معلول بالانقطاع: قال ابن قدامة: «لا يقوم به ولا بمثله حجة؛ لضعفه وانقطاعه»
(4)
.
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنَّ بِلَالاً أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ، أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن بلالاً رضي الله عنه أذَّن قبل الفجر في وقت يُشك فيه في طلوع الفجر،
(1)
يُنظر: الحاوي (2/ 27)، المغني (1/ 297).
(2)
سبق تخريجه: ص (238).
(3)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 154).
(4)
المغني (1/ 297) نقلاً عن ابن عبد البر.
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في الأذان قبل دخول الوقت (1/ 399) برقم:(532)، قال أبو داود:«زاد موسى: فرجع فنادى: ألا إنَّ العبدَ نام، وهذا الحديثُ لم يَروِهِ عن أيوب إلا حمّادُ بن سلمة» ، ورواه الترمذي في باب ما جاء في الأذان بالليل (1/ 395) إثر الحديث رقم:(203) وقال: «هذا حديث غير محفوظ» ، وقال ابن قدامة في (المغني) (1/ 298):«رواه حماد بن زيد، والدَّراوَرْدِيّ، فخالفاه، وقالا: مؤذن لعمر، وهذا أصح، وقال علي بن المديني: أخطأ فيه، -يعني: حماداً-» ، قال ابن حجر في (فتح الباري) (2/ 103):«أخرجه أبو داود وغيره من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن بن عمر موصولاً مرفوعاً، ورجاله ثقات حفاظ، لكن اتفق أئمة الحديث: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والذهلي، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والأثرم، والدارقطني، على أن حماداً أخطأ في رفعه، وأن الصواب وَقْفُه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه، وأن حماداً انفرد برفعه» ، ثم ذكر له متابعة وطرقاً أخرى مرسلة أو موصولة، ثم قال:«وهذه طرق يقوي بعضها بعضا قوة ظاهرة، فلهذا -والله أعلم- استقر أن بلالاً يؤذن الأذان الأول» .
وكان ذلك من بلال خطأً على ظَنِّ طلوع الفجر؛ لأنه كان في بصره ضعف
(1)
، فلم يَعْتد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأذان للصلاة، ولو اعتد به للصلاة لم يأمر بإعادته
(2)
.
نُوقش: بأن الحديث ضعيف، وأن الصحيح فيه هو عن مؤذنٍ لعمر رضي الله عنه
(3)
.
أُجيب عنه: بأن له طرقاً أخرى يقوِّي بعضها بعضاً قوة ظاهرة
(4)
.
الدليل الثالث: قياس الأذان للفجر بالأذان لسائر الصلوات؛ لأنه شُرع للإعلام بالوقت، وفي الأذان قبل الوقت تضليل يؤدي إلى الضرر بالناس؛ لأن ذلك وقت نومهم، خصوصاً في حق مَنْ تهجَّد في النصف الأول من الليل، فربما يلتبس الأمر عليهم، وذلك مكروه
(5)
.
يمكن أن يُناقش: بأنه قياس في مقابل النص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به كما في حديث الصُّدائي، وأقر بلالاً عليه كما في حديث ابن عمر.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنَّ بِلَالاً أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ، أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَعْتد بأذان بلال قبل الفجر، فدل على كراهته؛ لأن الأذان قبل الفجر يفوِّت المقصود من الإعلام بالوقت، ولئلا يَغُرَّ الناس، فيتركوا سحورهم
(7)
.
نُوقش: أن الحديث ضعيف، وأنه خلاف ما رواه الناس عن ابن عمر
(8)
.
أُجيب عنه في جواب مناقشة الدليل الثاني للقول الثاني.
(1)
يُنظر: البناية (2/ 113).
(2)
يُنظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (1/ 559).
(3)
يُنظر: المغني (1/ 298).
(4)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (2/ 103).
(5)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 135)، بدائع الصنائع (1/ 155)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 44).
(6)
سبق تخريجه: ص (241).
(7)
يُنظر: شرح الزركشي (1/ 510)، المبدع (1/ 287).
(8)
يُنظر: شرح الزركشي (1/ 510).
والدليل على أنه لا يُكره إن أذَّن بعده في الوقت:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بأذان بلال قبل الفجر؛ لقوله: (حتى ينادي ابن أم مكتوم) بعد دخول الوقت، فيكون أذانه دعاءً إلى الصلاة، وإعلاماً بأن الصلاة قد حضر وقتها؛ ليشهدها الناس
(2)
.
سبب الخلاف:
«السبب في اختلافهم أنه ورد في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما: الحديث المشهور الثابت، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً ينادي بليل
…
)، والثاني: ما رُوي عن ابن عمر: (أن بلالاً أذَّن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد قد نام)، والأول أثبت.
والثاني أيضاً خرجه أبو داود، وصححه كثير من أهل العلم، فذهب الناس في هذين الحديثين: إما مذهب الجمع، وإما مذهب الترجيح.
فأما مَنْ ذهب مذهب الترجيح: فإنهم قالوا: حديثُ بلال أَثْبتُ، والمصيرُ إليه أوجبُ.
وأما مَنْ ذهب مذهب الجمع: فقالوا: يُحتمل أن يكون نداء بلال في وقت يُشك فيه في طلوع الفجر؛ لأنه كان في بصره ضعف، ويكون نداء ابن أم مكتوم في وقت يُتيقن فيه طلوع الفجر، ويدل على ذلك ما رُوي: قَالَ: (وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا).
وأما مَنْ قال أنه يُجمع بينهما -أعني: أن يؤذِّن قبل الفجر وبعده- فعلى ظاهر ما رُوي من ذلك في صلاة الصبح خاصة، أعني: أنه كان يؤذِّن لها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم»
(3)
.
الترجيح:
(1)
سبق تخريجه: ص (239).
(2)
يُنظر: الأوسط (3/ 29).
(3)
بداية المجتهد (1/ 115) بتصرف يسير.
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بجواز الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها
(1)
.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة الأدلة التي أفادت الجواز وصحتها.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن الحكمة من اختصاص الفجر بذلك، فهي سنة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
لعل القرينة الصارفة عند القائلين بالكراهة هي: المقصد من النهي.
وذلك أن النهي أُريد به مصلحة الناس بصيانة عبادتهم من اللبس؛ فعلة النهي: خوف التغرير والتلبيس على الناس، فيتركوا سحورهم
(2)
، أو يلتبس عليهم دخول وقت الصلاة.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أنها قرينة ضعيفة؛ لضعف مستندها في مقابلة صحة أدلة الجواز، ولدلالة حديث ابن عمر أن ذلك كان على الدوام، فيبعد أن يكون مكروهاً ويداوم عليه، ولأن مصلحة الناس فيما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم من الحكمة:(لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ)، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
هذا من حيث الجواز، أما من حيث الأفضل فلعل الأفضل أن يؤذن مرة أخرى إذا دخل وقت الفجر، والله أعلم.
(2)
يُنظر: المبدع (1/ 287).
الفصل الثاني
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب المساجد
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: النهي عن إدخال الصبيان والمجانين للمساجد.
المبحث الثاني: النهي عن إِيطان الرجلِ المكانَ في المسجد.
المبحث الثالث: النهي عن تَتبُّع المساجد.
المبحث الرابع: النهي عن تباهي الناس في المساجد.
المبحث الخامس: النهي عن الاستلقاء في المسجد ووضْع إحدى الرجلين على الأخرى.
المبحث السادس: النهي عن الجلوسِ لداخلِ المسجد قبل أن يصلي تحية المسجد.
المبحث السابع: النهي عن صلاة غير المكتوبة، بعد إقامة الصلاة.
المبحث الثامن: النهي عن استدامة الإمام الصلاةَ في مكان المكتوبة.
المبحث الأول:
النهي عن إدخال الصبيان والمجانين للمساجد
المطلب الأول: حكم إدخال الصبيان
(1)
والمجانين للمساجد:
دليل النهي:
عن وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه
(2)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ
…
الحديث))
(3)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في إدخال الصبيان والمجانين المساجد، على قولين:
القول الأول: يجوز إدخال المجانين والصبيان المساجد، ويُكره لغير الحاجة أو المصلحة إن كانوا لا يميِّزون، ولا يُؤمن منهم العَبَث والقذر.
وهو مذهب الجمهور: المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
القول الثاني: يحرم.
وهو مذهب الحنفية
(7)
وقيَّدوه بما إذا غلب على الظن التلويث والتنجيس، وإلا
(1)
الصَّبِى: الغلام، واسم الغلام يقع على الصبي من حين يُولد في جميع حالاته إلى أن يبلغ. انتهى. يُنظر: الصحاح (6/ 2398)، المطلع على ألفاظ المقنع (ص: 52)، مطالب أولي النهى (4/ 473).
(2)
هو: وَاثِلَةُ بنُ الأَسْقَعِ بنِ عَبْدِ العُزَّى بن عبد يَالَيْلَ بنِ نَاشِبٍ اللَّيْثِيُّ، وقيل: واثلة بن عبد الله بن الأسقع، كنيته أبو شداد، وقيل: أبو الأسقع وأَبُو قرْصَافَةَ، أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك، فشهدها، وقيل: إنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، وكان من أصحاب الصفة، وروى عن: النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي مرثد، وأبي هريرة، وأم سلمة، وعنه: ابنته فسيلة، ويُقال: خصيلة، وأبو إدريس الخولاني، وشداد أبو عمار، وآخرون، تُوفي سنة 83 هـ، وقيل: سنة 85 هـ، وهو آخر مَنْ مات بدمشق من الصحابة. يُنظر: الاستيعاب (4/ 1563)، أسد الغابة (5/ 399)، الإصابة (6/ 462).
(3)
أخرجه ابن ماجه، أبواب المساجد والجماعات، باب ما يُكره في المساجد (1/ 481) برقم:(750). الحديث ضعيف؛ ضعف أسانيده وطرقه ابن الملقن في (البدر المنير)(9/ 565)، والهيثمي في (مجمع الزوائد)(2/ 26)، والبوصيري في (مصباح الزجاجة)(1/ 95)، وابن حجر في (التلخيص الحبير)(4/ 457).
(4)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 284)، مواهب الجليل (2/ 115).
(5)
يُنظر: المجموع (2/ 176). أسنى المطالب (1/ 186).
(6)
يُنظر: الآداب الشرعية (3/ 381، 386)، كشاف القناع (2/ 367).
(7)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 656).
فيُكره.
وهو قول عند المالكية
(1)
وقيَّدوه بما إذا كان يعبث ولا يكف إذا نُهي، وإلا فيُكره.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ -بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن حمْل النبي صلى الله عليه وسلم لأمامة وهو يصلي، فيه دليل على جواز إدخال الصبيان المساجد، ولا ينفي هذا الكراهة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فَعَله لبيان الجواز، فيكون حينئذ أفضل في حقه؛ فإن البيان واجب
(3)
، والنهي في حديث واثلة رضي الله عنه محمول على الكراهة فيمن لا يُؤمن منهم العبث والتلويث
(4)
.
الدليل الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي؛ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث دليلاً على جواز إدخال الصبي المسجد؛ لإقراره صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن الطفل كان مع أمه التي حضرت المسجد لشهود الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأولى تنزيه المسجد عمن لا يُؤمن حَدَثُه فيها؛ لحديث النهي
(6)
.
نُوقش: بأنه يُحتمل أن يكون الصبي كان مُخلفاً في بيت يقرب من المسجد بحيث
(1)
يُنظر: شرح مختصر خليل، للخرشي (7/ 72)، حاشية الدسوقي (4/ 71).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة (1/ 109) برقم:(516)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان فِي الصلاة (1/ 385) برقم:(543).
(3)
يُنظر: المجموع (2/ 176)، أسنى المطالب (2/ 450).
(4)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 186)، نيل الأوطار (3/ 164).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب مَنْ أخف الصلاة عند بكاء الصبي (1/ 143) برقم:(709)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (1/ 342) برقم:(470).
(6)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 187)، نيل الأوطار (3/ 164).
يُسمع بكاؤه
(1)
.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ أَخْذاً رَفِيقاً، فَيَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ أَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرُدُّهُمَا، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ، فَقَالَ لَهُمَا: الْحَقَا بِأُمِّكُمَا، قَالَ: فَمَكَثَ ضَوْؤُهَا حَتَّى دَخَلَا))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن حَمْل النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين، فيه دليل على جواز إدخال الصبيان المساجد، ويُحمل الأمر بالتجنيب على الندب أو تنزيه المسجد عمن لا يُؤمن حدثه فيه؛ جمعاً بين الأحاديث
(3)
.
الدليل الرابع: أن المجانين والصبيان غير المميزين ليسوا من أهل المسجد، فيُكره إدخالهم
(4)
، إذا لم يكن لحاجة.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}
(5)
.
وجه الاستدلال: أن المساجد بُنيت لتعظيمها بالصلاة وذِكر الله، وتنزيهها عما عدا ذلك من اللغو والعبث وما لا فائدة فيه؛ فلذا لا يجوز دخول المجانين والصبيان إليها إن كانوا يعبثون ولا ينتهون
(6)
.
الدليل الثاني: حديث وَاثِلَة بْنِ الْأَسْقَع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ
…
الحديث))
(7)
.
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (2/ 202).
(2)
أخرجه أحمد (16/ 386) برقم: (10659)، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (9/ 181):«رجال أحمد ثقات» ، وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود عند ابن خزيمة (1/ 446) برقم:(887)، وابن حبان (15/ 426) برقم:(6970).
(3)
يُنظر: نيل الأوطار (2/ 144).
(4)
يُنظر: كشاف القناع (2/ 367).
(5)
سورة النور: جزء من الآية (36).
(6)
يُنظر: أحكام القرآن، للجصاص (5/ 188)، مواهب الجليل (2/ 115).
(7)
سبق تخريجه ص: (246).
وجه الاستدلال: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث يشمل الذكور والإناث من الصبيان والمجانين، فيُكره إدخالهم تنزيهاً: إن أُمن تنجيسهم للمسجد، وتحريماً: إن لم يُؤمن
(1)
.
الدليل الثالث: أن الغالب عدم تحفُّظهم من النجاسة؛ ففي إدخالهم تعريض المسجد للقذر والعبث، وذلك لا يجوز
(2)
.
سبب الخلاف:
الذي يظهر أن الخلاف يرجع إلى تعارض ظاهر الأحاديث: فحديث النهي ضعيف، وقد عارض الأحاديث الصحيحة: كحديث حَمْل النبي صلى الله عليه وسلم لأمامة، وحديث حَمْله للحسن والحسين، وحديث أنس في تخفيف الصلاة لأجل بكاء الصبي، فمن الفقهاء مَنْ ذهب إلى التحريم لحديث النهي، ومنهم مَنْ جمع بينها: بحمل حديث النهي على الكراهة، والأحاديث الصحيحة على بيان الجواز
(3)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بجواز إدخال المجانين والصبيان، والكراهة فيمن لا يُؤمن منهم العبث والتلويث، وهو قول الجمهور.
سبب الترجيح:
أن هذا القول فيه الجمع بين الأحاديث، وإعمالُ جميع الأدلة أولى من إهمال بعضها.
(1)
يُنظر: فيض القدير (3/ 351).
(2)
يُنظر: المفهم (6/ 687)، حاشية الدسوقي (4/ 71).
(3)
يُنظر: نيل الأوطار (2/ 144).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب الجمهور إلى جواز إدخال المجانين والصبيان المساجد، وحملوا النهي على الكراهة فيمَن لا يميز ولا يُؤمن منه العبث والقذر، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيها فِعل النبي صلى الله عليه وسلم خلاف النهي:
وذلك في حديث أبي قتادة وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما: حَمَل أمامة والحسن والحسين في الصلاة، فكان فِعله بياناً للجواز.
(1)
.
القرينة الثانية: ضعف حديث النهي:
حيث حُمل النهي على الكراهة والتنزيه لضعف الحديث: فقد أشار إلى ذلك صاحب (نيل الأوطار)؛ حيث ذكر تعارُض حديث النهي -وهو ضعيف- مع أحاديث الجواز الصحيحة، ثم قال:«فيُجمع بين الأحاديث بحمل الأمر بالتجنيب على الندب، أو بأنها تنزه المساجد عمن لا يُؤمن حَدَثُه فيها»
(2)
.
قال ابن مفلح رحمه الله في بيان أن الخبر الضعيف يُستدل به على الكراهة: «وكأن الأخبار لضعفها لا تنهض للتحريم وإن كانت تقتضيه، فيُستدل بها على الكراهة كما يُستدل بخبر ضعيف ظاهره يقتضي وجوب أمر على ندبية ذلك الأمر، ولا يُقال: لعل هناك صارفاً عن مقتضى الدليل ولم يُذكر؛ لأنه خلاف الظاهر»
(3)
.
الحكم على القرينة:
القرينة النصية من أقوى القرائن الصارفة للنهي عن التحريم؛ لقوتها في أصلها،
(1)
المجموع (2/ 176).
(2)
(2/ 144).
(3)
النكت والفوائد السنية (1/ 110).
وأحاديث بيان الجواز هنا صحيحة وثابتة؛ فالقرينة قوية ومعتبرة.
أما قرينة ضعف الحديث: فهي قرينة معتبرة؛ فقد اعتُضدت بما قبلها، ويؤيده أن المسلم مأمور بالمحافظة على نظافة المساجد وصيانتها من العبث والقذر؛ فلذا ينبغي لأولياء المجانين والصبيان مراعاة ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.
المبحث الثاني:
النهي عن إيطان الرجل المكان في المسجد
المطلب الأول: حكم إيطان الرجل المكان في المسجد:
دليل النهي:
عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه
(1)
قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ
(2)
، وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ
(3)
، وَأَنْ يُوطِنُ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوطِنُ الْبَعِيرَ
(4)
(5)
.
صورة المسألة:
(1)
هو: عبد الرحمن بن شبل بن عمرو بن زيد بن نجدة بن مالك بن لوذان الأنصاري الأوسي، أحد نقباء الأنصار، له صحبة، نزل الشام. وأخوه عبد الله بن شبل، له صحبة. يُنظر: أسد الغابة (3/ 455)، الإصابة (4/ 266).
(2)
نقرة الغراب: يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله. يُنظر: معالم السنن (1/ 212)، الصحاح (2/ 834)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 104)، فيض القدير (6/ 339).
(3)
افْتِراش السبع: هو أن يبسط ذراعيه في السجود، ولا يرفعهما عن الأرض، كما يبسط الكلب والذئب ذراعيه. والافتراش: افتعال، من الفرش والفراش. يُنظر: معالم السنن (1/ 212)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 429)، لسان العرب (6/ 326)، فيض القدير (6/ 339).
(4)
أن يوطن الرجل المكان: في تفسيره وجهان: الأول: أن يألف الرجل مكاناً معلوماً من المسجد مخصوصاً به؛ يصلي فيه، كالبعير لا يأوي من عطنه -مبركه حول الماء- إلا إلى مبرك دَمِث قد أوطنه، واتخذه مناخاً لا يبرك إلا فيه. يُقال: أَوْطَنْتُ الأرضَ، ووَطَّنْتُها تَوْطيناً واسْتَوْطَنْتُها، أي اتَّخذتها وَطَناً ومحلاً. والثاني: أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود مثل بروك البعير على المكان الذي أوطنه. يُنظر: معالم السنن (1/ 212)، الصحاح (6/ 2215)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 204)، لسان العرب (13/ 451).
الوجه الثاني لا يصح؛ جاء في مرقاة المفاتيح (2/ 727): «المعنى الثاني لا يصح هنا؛ لأنه لا يمكن أن يكون مشبهاً به، وأيضاً لو كان أُريد هذا المعنى لما اختُص النهي بالمكان في المسجد، فلما ذُكر دل على أن المراد هو الأول» . يُنظر: شرح أبي داود، للعيني (4/ 63)، عون المعبود (3/ 73).
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود (2/ 147) برقم:(862)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب التطبيق، باب النهي عن نقرة الغراب (2/ 214) برقم:(1112)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فِي توطين المكان فِي المسجد يصلى فيه (2/ 427) برقم:(1429)، وأحمد (24/ 439) برقم:(15667)، صححه ابن خزيمة (1/ 354) برقم:(662)، وابن حبان (4/ 484) برقم:(1607)، وقال الحاكم في (المستدرك) (1/ 352):«هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه؛ لما قدمتُ ذِكره من التفرد عن الصحابة بالرواية» ، وقال الألباني في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) (3/ 157): «الحديث فيه تميم بن محمود،
…
قال ابن حجر: فيه لين، لكن الحديث له شاهد عند أحمد،
…
فالحديث عندي حسن بمجموع الطريقين».
أن يريد الرجل ملازمة مكان معلوم مخصوص به في المسجد: يصلي فيه، ولا يصلي في غيره، فهل له ذلك؟ وإن كان المكان فاضلاً فما الحكم؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الاتفاق:
اتفق الفقهاء
(1)
على أن النهي عن أن يوطن الرجل مكاناً يصلي فيه، إنما هو في المساجد دون البيوت.
قال الخطابي رحمه الله: «النهي عن أن يوطن الرجل مكاناً يصلي فيه، إنما هو في المساجد دون البيوت»
(2)
.
ثانياً: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في إيطان الرجل المكان في المسجد، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يُكره إيطان مكان معين في المسجد لا يصلي إلا فيه.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والشافعية
(4)
، وقول عند الحنابلة
(5)
.
القول الثاني: يجوز إيطان موضع للرجل يلازمه في المسجد إن كان ممن يُحتاج إليه، أو كان الموضع فاضلاً، ويُكره في غير ذلك.
وهو مذهب المالكية
(6)
، وقول عند الشافعية
(7)
، وقول عند الحنابلة
(8)
.
القول الثالث: يُكره اتخاذ مكان معين في المسجد؛ لا يصلي الفريضة إلا فيه، ويُرخص في النفل.
(1)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 662)، إكمال المعلم (2/ 429)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 161)، كشاف القناع (1/ 494).
(2)
أعلام الحديث (1/ 646).
(3)
يُنظر: فتح القدير، للكمال بن الهمام (1/ 422)، حاشية ابن عابدين (1/ 662).
(4)
يُنظر: الحاوي الكبير (2/ 191)، التدريب في الفقه الشافعي (1/ 183).
(5)
يُنظر: الفروع (3/ 59)، المبدع (2/ 102)، كشاف القناع (1/ 494).
(6)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 370)، إكمال المعلم (2/ 429).
(7)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 226).
(8)
يُنظر: الفروع (3/ 60)، كشاف القناع (1/ 494).
وهو المذهب عند الحنابلة
(1)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ، وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَأَنْ يُوطِنُ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوطِنُ الْبَعِيرَ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر النهي يدل على كراهة إيطان الرجل المكان في المسجد مطلقاً، ولو كان المكان فاضلاً أو لحاجة
(3)
، وعلة النهي الخوف من الرياء والسمعة
(4)
.
نُوقش من وجهين: الأول: أن الحديث ضعيف
(5)
.
أُجيب عنه: أنه تبين في تخريجه أن بعض أئمة الحديث صححه ومنهم من حسّنه.
الثاني: أن النهي عن إيطان الرجل موضعاً من المسجد يلازمه، إنما هو فيما لا فضل فيه ولا حاجة إليه، أما المكان الفاضل: فقد خُص من النهي بحديث سلمة رضي الله عنه
(6)
.
يمكن أن يُجاب عنه بجوابين: الأول: لا يسلم بذلك؛ لأن حديث سلمة في تحري المكان الفاضل من غير إيطان، وفَرْقٌ بين التحري والإيطان
(7)
.
الثاني: على فرض التسليم: فإن ملازمة المكان المعين في كل حين -ولو كان المكان فاضلاً- مما قد يورِد على المرء الرياء والسمعة، ويُذهب الخشوع.
الدليل الثاني: أن إيطان مكان مخصوص يخل بالخشوع، ولأن العبادة تصير له طبعاً في ذلك الموضع، وتثقل في غيره، والعبادة إذا صارت طبعاً فسبيلها الترك
(8)
.
(1)
يُنظر: الفروع (3/ 59)، المبدع (2/ 102)، كشاف القناع (1/ 494).
(2)
سبق تخريجه ص: (252).
(3)
يُنظر: المبدع (2/ 102)، نيل الأوطار (3/ 234).
(4)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 161)، الفروع (3/ 60).
(5)
يُنظر: الفروع (3/ 59)، كشاف القناع (1/ 494). قالوا: لأن في إسناده تميم بن محمود وهو مجهول.
(6)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 226)، الفروع (3/ 60). وسيأتي حديث سلمة عند ذكر أدلة القول الثاني.
(7)
يُنظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 277).
(8)
يُنظر: فتح القدير، للكمال بن الهمام (1/ 422)، حاشية ابن عابدين (1/ 662).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث سَلَمَةَ بْن الْأَكْوَعِ رضي الله عنه: ((أنه كان يُصَلِّي عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ
(1)
الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ
(2)
، فَقِيل له: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ؟ قَالَ: فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى
(3)
الصَّلَاةَ عِنْدَهَا))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن تحري الصحابي الصلاة عند الأسطوانة التي كان يتحرى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عندها، فيه دليل على جواز إدامة الصلاة في موضع واحد إذا كان فيه فضل، وأما النهي عن إيطان الرجل موضعاً من المسجد يلازمه: فهو فيما لا فضل فيه، ولا حاجة إليه
(5)
.
يمكن أن يُناقش من وجهين: الأول: لا يسلم هذا الاستدلال؛ للفَرْق بين التحري والإيطان
(6)
.
الثاني: على فرض التسليم: فإن ملازمة المكان المعين في كل حين -ولو كان المكان فاضلاً- مما قد يورِد على المرء الرياء والسمعة، ويُذهب الخشوع.
(1)
الأُسْطُوانة: السارية، والغالب أنها تكون من بناء، بخلاف العمود؛ فإنه من حجر واحد. يُنظر: الصحاح (6/ 2376)، المفهم (2/ 108)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 577).
(2)
عند المصحف: قال ابن حجر في (فتح الباري)(1/ 577): «هذا دال على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ: (يصلي وراء الصندوق) وكأنه كان للمصحف صندوق يُوضع فيه» . ويُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 43)، عمدة القاري (4/ 283).
(3)
يَتَحَرَّى: يقصد ويتعمد. يُنظر: الصحاح (6/ 2311)، مقاييس اللغة (2/ 47)، المفهم (2/ 108)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 43).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى الأسطوانة (1/ 106) برقم:(502)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب دنو المصلي من السترة (1/ 364) برقم:(509).
(5)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 226)، الفروع (3/ 60).
(6)
يُنظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 277).
الدليل الثاني: عن عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه
(1)
: ((أَنَّه كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللهِ فِي بَيْتِي مَكَاناً؛ أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ؟ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)
(2)
.
وجه الاستدلال: أن طلب الصحابي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مكان في بيته -لفضل موضع صلاته صلى الله عليه وسلم ليتخذه مصلى، وإجابته لذلك -دليل على جواز إيطان المكان الفاضل للصلاة
(3)
.
يمكن أن يُناقش: بأن دلالته على الجواز في البيوت، وهو خارج محل النزاع، ولا يُقاس عليه المسجد؛ للفرق، ولورود النص فيه.
الدليل الثالث: أن معرفة موضع مَنْ يُقصد -كالعالم والمفتي- من تسهيل طرق الخير؛ للحاجة إليهما
(4)
.
يمكن أن يُناقش: بأن ملازمة العالم والمفتي لموضع معين للدرس والإفتاء لا يلزم منه أنه يلازمه للصلاة، ولا يصلي في غيره! فليس ذلك الإيطان المقصود في هذه المسألة.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: حديث سلمة رضي الله عنه الذي استدل به أصحاب القول الثاني.
وجه الاستدلال: أن في الحديث دليلاً على أنه لا بأس أن يلزم المصلي مكاناً معيناً من المسجد يصلي فيه تطوعاً، ويُكره له أن يوطن مكاناً لا يصلي فرضه إلا فيه، وبذلك يُجمع بين الأحاديث
(5)
.
(1)
هو: عِتْبَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَجْلانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ غَنْمِ بن سالم بن عوف وأمه من مزينة، كان إمام قومه بني سالم، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عتبان بن مالك وعمر بن الخطاب، شهد عتبان بن مالك بدراً وأحداً والخندق، وذهب بصره على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه في الصحيحين من طريق أنس، ومحمود بن الربيع، وغيرهما عنه، ومات أيام معاوية. يُنظر: أسد الغابة (3/ 551)، الإصابة (4/ 358).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله (1/ 134) برقم:(667)، ومسلم كتاب الإيمان، باب مَنْ لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 455) برقم:(33).
(3)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 370)، الفروع (3/ 59)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (9/ 209).
(4)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 429)، المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 226)، المبدع (2/ 102).
(5)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (4/ 50)، كشاف القناع (1/ 494).
يمكن أن يُناقش: أن دلالة الحديث في تحري المكان الفاضل؛ لقصد النبي صلى الله عليه وسلم له، وليس فيه ذِكر الإيطان، وفَرْقٌ بين التحري والإيطان. والنهي جاء مطلقاً فيشمل الفرض والتطوع.
سبب الخلاف:
السبب -والله أعلم- هو الخلاف في النهي في حديث عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه أهو للعموم أم خُصص بحديث سلمة رضي الله عنه؟
فمن الفقهاء مَنْ ذهب إلى أنه للكراهة على العموم، ومنهم مَنْ قال بأن حديث سلمة مُخصِّص لعموم حديث النهي، فيُترخص في المكان الفاضل أو الذي هو للحاجة، ومنهم مَنْ جعل حديث سلمة مقيداً، فرخص في النفل.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- قول الجمهور بكراهة إيطان الرجل المكان في المسجد مطلقاً.
قال ابن رجب رحمه الله في (فتح الباري): «وكان للإمام أحمد مكان يقوم فيه في الصلاة المكتوبة خلف الإمام، فتأخر يوماً، فنحاه الناس، وتركوه، فجاء بعد ذلك، فقام في طرف الصف، ولم يقم فيه، وقال: قد جاء أنه يُكره أن يوطن الرجل مكانه»
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى)
(2)
أسباب الترجيح:
1 -
أن الصلاة في أماكن متعددة دون ملازمة مكان واحد، فيه تكثير لمواضع العبادة، والتي تكون شهوداً يوم القيامة.
(1)
(4/ 53).
(2)
(22/ 195).
2 -
أن خوف الرياء والسمعة يرِد على المصلي، سواء كان الموضع فاضلاً أم مفضولاً.
3 -
أن فيه تحقيقَ ما جاءت به الشريعة من البعد عن مشابهة البهائم في العموم، وفي الصلاة على وجه الخصوص.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر أن الفقهاء حملوا النهي عن الإيطان على الكراهة بدلالة قرينة: المقصد من النهي.
وذلك أن النهي عن إيطان المكان في المسجد جاء مقصوده مصلحة صلاة المؤمن وصيانتها من أن يرِد عليها ما ينقص أجرها من الرياء والسمعة، والاخلال بالخشوع، وفيه معنى التنزيه عن مشابهة الحيوانات في الصلاة.
قال ابن عابدين رحمه الله
(1)
(2)
.
وجاء في (مرقاة المفاتيح): «قال ابن حجر: وحكمته أن ذلك يؤدي إلى: الشهرة، والرياء، والسمعة، والتقيد بالعادات، والحظوظ، والشهوات، وكل هذه آفات، أيُّ آفات! فتعيَّن البُعد عما أدى إليها ما أمكن»
(3)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة المقصد من النهي معتبرة هنا وقوية؛ لما بيَّنه الفقهاء من الحِكم والمعاني المعتبرة في باب مكروهات الصلاة، ولعدم المعارض، والله تعالى أعلم.
(1)
هو: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم عابدين الدمشقي، وُلد في دمشق سنة 1198 هـ، كان علَّامة في التفسير والفقه والحديث والنحو والبيان، وكان فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية، من كتبه:«رد المحتار على الدر المختار» يُعرف بحاشية ابن عابدين، و «رفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار» و «العقود الدرية في تنقيح الفتاوي الحامدية» و «نسمات الأسحار على شرح المنار» و «حواش على تفسير البيضاوي» وغيرها، تُوفي سنة 1252 هـ. يُنظر: حلية البشر (ص: 1230)، الأعلام، للزركلي (6/ 42).
(2)
(1/ 662).
(3)
(2/ 727).
المبحث الثالث:
النهي عن تتبع المساجد
المطلب الأول: حكم تتبع المساجد
(1)
:
دليل النهي:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِهِ، وَلَا يَتَتَبَّعِ الْمَسَاجِدَ))
(2)
.
صورة المسألة:
إذا قصد المسلم مسجداً، ففاتته الصلاة، فهل له أن يتبع المساجد طلباً للجماعة، أو عليه أن يصلي في المسجد الذي قصده أولاً؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الاتفاق:
(1)
تتبع المساجد: جاء في (الصحاح)(3/ 1190): تَتَبَّعْتُ الشيء تتبعا، أي تطلبته متتبعا له. ويُراد بتتبع المساجد: أن الرجل إذا فاتته الجماعة في مسجده، أتى مسجداً آخر طلباً للجماعة، ولم أقف على تفسير لتتبُّع المساجد عند الفقهاء، والذي ذكرتُه هو ما وقفتُ عليه من فهم السلف لمعنى التتبع؛ حيث أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 21) برقم:(5993): عن مجاهد، قال:«إذا فاتتك الصلاة في مسجدك فلا تتبع المساجد، صلِّ في مسجدك» ، وذكر هذا المعنى كلاً من: ابن بطال وابن حجر -رحمهما الله-؛ فأما ابن بطال: فقد فسر به خبر الأسود بن يزيد الذي أورده البخاري معلقاً في صحيحه: باب فضل صلاة الجماعة: «وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر» ، فسره بتتبع المساجد، وأما ابن حجر: فقد نقل خبر الأسود، وذكر فيه التتبع، قال:«عن إبراهيم قال: كَانَ الأسود بن يزِيد إِذا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَة فِي مَسْجِد قومه علق النَّعْلَيْنِ بيدَيْهِ، وتتبع الْمَسَاجِد حَتَّى يُصِيب جمَاعَة» . يُنظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 277)، تغليق التعليق (2/ 276).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 370) برقم: (13373)، وفي الأوسط (5/ 232) برقم:(5176) وقال: «لم يروِ هذا الحديث عن زهير إلا عبادة بن زياد» ، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (2/ 24):«رجاله موثَّقون إلا شيخ الطبراني محمد بن أحمد بن النضر الترمذي، ولم أجد مَنْ ترجم له، قلت: ذكر ابن حبان في الثقات في الطبقة الرابعة محمد بن أحمد بن النضر ابن ابنة معاوية بن عمرو، فلا أدري: هو هذا أم لا؟» .
قال ابن الخراط في (الأحكام الوسطى)(1/ 275) بعد أن أورد الحديث من رواية ابْن عَدِيّ: «هكذا رواه كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدِ وابْنُ مُصَفَّى، كلاهما عن بَقِيَّة، عن مُجَاشِعِ عن عبيد الله، وغيرهما جعل بين مُجَاشِعِ وعبيد الله منصور بن أبي الأسود، ولا أعلم ما قيل في مجاشع إلا صالح الحديث، وأما بَقِيَّة: فلا يُحتج به، وأحسن حديثه ما كان عنه عن بحير بن سعد» ، وجاء في (لسان الميزان) لابن حجر (5/ 15) في ترجمة مجاشع: «قال ابن معين: أحد الكذابين
…
وقال البخاري: منكر مجهول».
اتفق الفقهاء
(1)
على أن المسلم إذا قصد أحد المساجد الثلاثة ففاتته الجماعة فيها، فإنه يصلي فيها فذاً أو جماعة، ولا يخرج منها إلى غيرها طلباً للجماعة؛ لحصول المقصود بالأجر المضّعف فيها.
ثانياً: محل النزاع:
اختلف الفقهاء فيما إذا قصد غير المساجد الثلاثة ففاتته الجماعة: هل يبتغي مسجدَ جماعةٍ غيره أو لا، على قولين:
القول الأول: يجوز له أن يتبع المساجد، وله أن يصلي في مسجده
(2)
.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
القول الثاني: إن كان لم يدخل مسجده فالأَوْلى أن يتبع، وإن دخل مسجده صلى فيه ولا يتبع، وظاهره الكراهة.
وهو قول بعض الحنفية
(7)
.
(1)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 555)، مواهب الجليل (2/ 85)، تحرير الفتاوى (1/ 324)، الشرح الكبير (2/ 8).
(2)
وهنا مسألة فرعية، وهي مسألة: إعادة الجماعة في المسجد لمن فاتتهم الجماعة، وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين: قول بكراهة إعادة الجماعة في المسجد ويصلون فرادى، وقول باستحباب إعادتها. يُنظر الخلاف والأقوال في: بدائع الصنائع (1/ 156)، المدونة (1/ 181)، الأم (1/ 180)، المغني (2/ 133).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 166)، بدائع الصنائع (1/ 156)، حاشية ابن عابدين (1/ 555).
(4)
يُنظر: المدونة (1/ 181)، مواهب الجليل (2/ 84).
(5)
يُنظر: الأم (1/ 180)، بحر المذهب (2/ 245).
(6)
يُنظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (6/ 273)، الفروع (2/ 430)، الإنصاف (4/ 284).
(7)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 167)، بدائع الصنائع (1/ 156).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث فيه فضل صلاة الجماعة، وذلك يدل على أن مَنْ فاتته الجماعة في مسجد جاز له طلبها في مسجد آخر
(2)
.
الدليل الثاني: ما رُوي أنه: ((كَانَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ يُعَلِّقُ نَعْلَيْهِ، وَيَتَّبِعُ الْمَسَاجِدَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا فِي جَمَاعَةٍ))
(3)
.
الدليل الثالث: عن الأسود بن يزيد
(4)
: ((أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ، ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ غَيْرِهِ))
(5)
.
وجه الاستدلال: فِعلا الصحابي والتابعي دليلٌ على جواز تتبُّع المساجد طلباً للجماعة
(6)
.
دليل القول الثاني:
يمكن أن يُستدل لهم بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة (1/ 131) برقم:(645)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد فِي التخلف عنها (1/ 450) برقم:(650).
(2)
يُنظر: مواهب الجليل (2/ 85)، حاشية ابن عابدين (1/ 555).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 21) برقم: (5990)، صححه زكريا غلام في (ما صح من آثار الصحابة في الفقه)(1/ 391).
(4)
هو: الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو، تابعي من أصحاب ابن مسعود، وكان صالحاً فقيهاً حافظاً، حج مع أبي بكر وعمر وعثمان، قال البخاري: سمع أبا بكر وعمر، وحديثه عن كبار الصحابة في الصحيحين وغيرهما. تُوفي سنة 74 هـ. يُنظر: أسد الغابة (1/ 234)، الإصابة (1/ 342).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 21) برقم: (5991)، والبخاري تعليقاً، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة (1/ 131) قبل الحديث رقم:(645).
(6)
جاء في الجامع لعلوم الإمام أحمد (6/ 273): «قال إسحاق بن منصور: قلتُ -أي: لأحمد-: إذا جاء الرجلُ إلى المسجد وقد صلوا، يطلبُ مسجداً يصلي فيه؟ قال: لِمَ لا يطلب؟ قلت: مَنْ فعلَهُ؟ قال: الأسود، قال إسحاق: كما قال، وقَدْ فعله حذيفة أيضا رضي الله عنه» .
فِي مَسْجِدِهِ، وَلَا يَتَتَبَّعِ الْمَسَاجِدَ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تتبُّع المساجد، ويُحمل على الكراهة لمَن دخل مسجده؛ مراعاة لحق مسجده.
يمكن أن يُناقش: بأن الحديث ضعيف، فلا تقوم به حجة.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- جواز تتبُّع المساجد طلباً للجماعة، وهو قول الجمهور.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة الاستدلال بعموم أحاديث فضل صلاة الجماعة وترغيب المسلمين في إدراكها.
2 -
ضعف دليل القول الآخر.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
لعل القائلين بالكراهة صرفوا النهي عن التحريم؛ لقرينة المقصد من النهي.
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِهِ). والحكمة: أن فيه إشعاراً بمراعاة حق مسجد حيِّه عليه، ولأنه أَوْلى بصلاته فيه من غيره.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذه القرينة ضعيفة؛ لضعف دليل النهي، ولتعارضها مع مراعاة فضيلة الجماعة وطلبها، ولورود التتبُّع من الصحابي، والله تعالى أعلم.
(1)
سبق تخريجه: ص (260).
المبحث الرابع:
النهي عن تباهي الناس في المساجد
المطلب الأول: حكم تباهي
(1)
الناس في المساجد:
دليل النهي:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ))
(2)
، وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتبَاهَى النَّاسُ فِي المَسَاجِدِ))
(3)
، وقال أنس رضي الله عنه: ((يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً
(4)
(5)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في المباهاة بزخرفة المساجد وتزويقها، على قولين:
القول الأول: الكراهة.
وهو قول عند الحنفية
(6)
، ومذهب الجمهور: المالكية
(7)
، والشافعية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
القول الثاني: لا بأس بزَخْرفة المساجد ونَقْشها.
(1)
تَبَاهَى: من المباهاة، وهي المفاخرة، وقد باهى به يباهي مباهاة، وتباهوا أي: تفاخروا، ويكون بالقول أو الفعل. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 169)، لسان العرب (14/ 99).
(2)
أخرجه ابن حبان، كتاب الصلاة، باب المساجد، ذكر الزجر عن تباهي المسلمين في بناء المساجد (4/ 492) برقم:(1613).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد (1/ 337) برقم:(449)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب المساجد، المباهاة في المساجد (1/ 383) برقم:(770)، وابن ماجه، أبواب المساجد والجماعات، باب تشييد المساجد (1/ 475) برقم:(739)، وأحمد، (20/ 15) برقم:(12537)، صححه ابن خزيمة (1/ 648) برقم:(1323).
(4)
المعنى: أنهم يزخرفون المساجد، ويزينونها، ثم يقعدون فيها، ويتمارون، ويتباهون، ولا يشتغلون بالذكر وقراءة القرآن والصلاة. يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 539)، عمدة القاري (4/ 205).
(5)
أخرجه البخاري تعليقاً، كتاب الصلاة، باب بنيان المسجد (1/ 96)، وابن خزيمة (1/ 647) برقم:(1321).
(6)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 658).
(7)
يُنظر: التبصرة (1/ 408)، البيان والتحصيل (2/ 108).
(8)
يُنظر: المجموع (2/ 180).
(9)
يُنظر: الشرح الكبير (3/ 121)، كشاف القناع (2/ 366).
وهو المذهب عند الحنفية
(1)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ
(2)
الْمَسَاجِدِ، قال ابن عباس: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى))
(3)
.
وجه الاستدلال: يدل الحديث على أن تشييد المساجد والمباهاة بها، بدعة مكروهة
(4)
، وأن السنة في بنيان المساجد: القصد وترك الغلو في تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنائها؛ لأنه كفِعل أهل الكتاب بكنائسهم وبِيَعِهم، والمسلم منهيٌّ عن مشابهتهم
(5)
.
الدليل الثاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن زخرفة المساجد من دلالات سوء حال الناس وسوء أعمالهم، فيُكره لذلك
(7)
.
الدليل الثالث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ
(1)
يُنظر: المبسوط (30/ 284)، الاختيار لتعليل المختار (4/ 166).
(2)
تَشْييدُ المساجد: من: شيّد، وشيدته تشييداً: طولته ورفعته، والمراد بتشييد المساجد هنا: رفع البناء وتطويله، وقيل: يشيد البنيان إذا عمله بالشَّيد، وهو كل ما طُليت به الحائط من جص وغيره. يُنظر: الصحاح (2/ 495)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 517)، المصباح المنير (1/ 329)، نيل الأوطار (2/ 175).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد (1/ 336) برقم:(448)، صححه ابن حبان (4/ 494)، وقول ابن عباس أخرجه البخاري تعليقاً (1/ 97)، وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (1/ 540):«وإنما لم يذكر البخاري المرفوع منه للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله» ، «ويزيد هذا روى له مسلم والأربعة» قاله العيني في (عمدة القاري) (4/ 205). وقال الشوكاني في (نيل الأوطار) (2/ 174):«رجاله رجال الصحيح» .
(4)
يُنظر: نيل الأوطار (2/ 175).
(5)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 97)، فيض القدير (6/ 9).
(6)
أخرجه ابن ماجه، أبواب المساجد والجماعات، باب تشييد المساجد (1/ 477) برقم:(741)، قال البوصيري في (مصباح الزجاجة) (1/ 94):«هذا إسناد فيه جبارة بن المغلس، وقد اتُهم بالكذب» .
(7)
يُنظر: الشرح الكبير (3/ 120)، كشاف القناع (2/ 366).
فِي الْمَسَاجِدِ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن المباهاة بتشييد المساجد وزخرفتها من علامات الساعة -وفيه إشارة إلى ضعف الناس في دينهم ومخالفتهم لما كان عليه السلف- وقد نهى عنها، والنهي محمول على الكراهة،؛ لأنه يُخِل بالخشوع؛ لما فيه من إلهاء المصلين وإشغالهم في صلاتهم
(2)
.
نُوقش: بأن كونه من أشراط الساعة لا يدل على البطلان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذم ذلك، وما كل علامة على قرب الساعة تكون مذمومة، بل ذكر لها أمراً ذمَّها: كارتفاع الأمانة، وأموراً حمدها: كزخرفة المساجد، وأموراً لا تُحمد ولا تُذم: كنزول عيسى، فليست أشراط الساعة من الأمور المذمومة
(3)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}
(4)
.
وجه الاستدلال: أن شأن المساجد أن تُرفع، ورفعُها تعظيمُها، ومن التعظيم: زخرفتها وتزويقها
(5)
.
يمكن أن يُناقش: أنه ليس فيه ما يدل على موضع الخلاف، فالخلاف: هل التزيين والتزويق من التعظيم المأذون فيه؟
الدليل الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
(6)
.
وجه الاستدلال: أن في تزيين المسجد الدخولَ في أمارة مَنْ مدحه الله تعالى بعمارتها
(7)
.
الدليل الثالث: أن عثمان رضي الله عنه فَعل ذلك بمسجد النبي عليه السلام والصحابة
(1)
سبق تخريجه: ص (264).
(2)
يُنظر: التبصرة (1/ 408)، البيان والتحصيل (1/ 241)، المجموع (2/ 180).
(3)
يُنظر: البناية (2/ 471) فيض القدير (6/ 9).
(4)
سورة النور: جزء من الآية (36).
(5)
يُنظر: الاختيار لتعليل المختار (4/ 166)، البناية (2/ 471).
(6)
سورة التوبة: جزء من الآية (18).
(7)
يُنظر: البناية (2/ 471).
متوافرون، فلم ينكره منهم أحد
(1)
.
نُوقش: بأن الزيادة في المساجد أو تخريبها؛ لتوسعتها وإعادة بنائها على وجه أصلح من البناء الأول -جائز، وهذا ما فعله عمر وعثمان رضي الله عنهما بمشهد من المهاجرين والأنصار، وأقروا عليه
(2)
.
(3)
.
الدليل الرابع: أن فيه: تكثيرَ الجماعة، وتحريض الناس على الاعتكاف في المسجد، والجلوس فيه لانتظار الصلاة، وفي كل ذلك قربة وطاعة، والأعمال بالنيات
(4)
.
نُوقش من وجهين
(5)
: الأول: بأن دعوى أنه مرغِّب إلى المسجد فاسدة؛ لأن كونه داعياً إلى المسجد ومرغباً إليه لا يكون إلا لمَن كان غرضُه وغاية قصده النظرَ إلى تلك النقوش والزخرفة، أما مَنْ كان غرضه قصد المساجد لعبادة الله -التي لا تكون عبادة على الحقيقة إلا مع خشوع، وإلا كانت كجسم بلا روح-: فليست إلا شاغلة عن ذلك.
الثاني: تعليلهم بأنه قربة تعليلٌ مخالف؛ لمقابلته الأحاديث الدالة على أن التزيين ليس من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه نوع من المباهاة المحرمة، وأنه من علامات الساعة، وأنه من صنع اليهود والنصارى، والمسلم مأمور بمخالفتهم.
سبب الخلاف:
سبب الخلاف الذي يظهر -والله أعلم- هو اختلافهم في حقيقة إعمار المساجد
(1)
يُنظر: شرح مختصر الطحاوي، للجصاص (8/ 533)، المحيط البرهاني (5/ 316).
(2)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (3/ 287).
(3)
شرح صحيح البخاري (2/ 97).
(4)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (30/ 284)، المحيط البرهاني (5/ 316).
(5)
يُنظر: نيل الأوطار (2/ 176).
ورفعها وتعظيمها: هل يدخل فيه التزيين والزخرفة أو لا؟
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- قول الجمهور بكراهة المباهاة في تشييد المساجد وتَزْويقها وزَخْرفتها.
أسباب الترجيح:
1 -
أن القول بكراهة زخرفة المساجد وتزويقها والمباهاة بها، متوافقٌ مع ما جاءت به الشريعة من البعد عن الإسراف والتبذير.
2 -
أن المطلوب شرعاً من المسلم إعمارَ المساجد بالذِّكر والصلاة والطاعات، لا الاشتغال بزخرفتها وتزيينها بما يكون سبباً لشُغل القلب عن المقصد الأصيل.
3 -
أن من شعار أهل الكتاب زخرفةَ بِيَعهم وكنائسهم، والمسلم مأمور بتجنب مشابهتم.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل الجمهور النهي على الكراهة لا التحريم، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة هي: المقصد من النهي.
وذلك أن النهي مقصوده مصلحة المصلين وصيانة صلاتهم عما يفسد خشوعها وينقص أجرها، والتنزيهُ عن الرياء والتفاخر بزخرفتها والانشغال عن عمارتها بالذكر وقراءة القرآن والصلاة.
قال النووي رحمه الله: «يكره زخرفة المسجد ونقشه وتزيينه للأحاديث المشهورة، ولئلا تشغل قلب المصلي»
(1)
.
وجاء في (كشاف القناع): «يُكره أن يُزخرف المسجد بنقْش وصبْغ وكتابة وغير ذلك مما يلهي المصلي عن صلاته غالباً»
(2)
.
الحكم على القرينة:
قرينة المقصد من النهي قرينة معتبرة، حُمل بها النهي عن التباهي في المسجد من
(1)
المجموع (2/ 180).
(2)
(2/ 366).
التحريم إلى الكراهة، وعلة خوف إشغال المصلي علة معتبرة؛ صيانة للخشوع في الصلاة، والله تعالى أعلم.
المبحث الخامس:
النهي عن الاستلقاء في المسجد ووضْع إحدى الرجلين على الأخرى
المطلب الأول: حكم الاستلقاء في المسجد ووضع إحدى الرجلين على الأخرى:
دليل النهي:
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى))
(1)
، وفي رواية: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
(2)
،
…
وأَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ))
(3)
.
صورة المسألة:
لو بدا للمسلم أن يستلقي وهو في المسجد، ويجعل إحدى رجليه على الأخرى، فهل يجوز له ذلك؟ وما الحكم إذا خِيف انكشاف العورة؟
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء
(4)
على جواز الاستلقاء ووضع إحدى الرجلين على الأخرى.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استلقى في المسجد في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: ((أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِياً فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعاً إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى))
(5)
.
فاختلف الفقهاء في مسلك الجمع بين حديث النهي عنه وفِعل النبي صلى الله عليه وسلم له، على قولين:
(1)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب فِي منع الاستلقاء على الظهر ووضع إحدى الرجلين على الأخرى (3/ 1661) برقم:(2099).
(2)
اشتمال الصَّمَّاء: اشتمل بثوبه: أي: تلفف به، وهو أن يجلل جسده بالثوب أو بالإزار، ولا يرفع منه جانباً فيكون فيه فرجة تخرج منها يده. يُنظر: الصحاح (5/ 1741)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 54)، لسان العرب (11/ 368). وسيأتي تفسيرها موسعاً في مبحث النهي عن اشتمال الصَّمَّاء.
(3)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب فِي منع الاستلقاء على الظهر ووضع إحدى الرجلين على الأخرى (3/ 1661) برقم:(2099).
(4)
يُنظر: شرح معاني الآثار (4/ 279)، التمهيد (9/ 205)، (3/ 224)، المجموع (2/ 176)، كشاف القناع (2/ 371). ولم أقف على المسألة في كتب الفقه (للحنفية والمالكية) حسب ما تيسر لي من كتب.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الاستلقاء في المسجد ومدِّ الرِّجل (1/ 102) برقم:(475)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب فِي إباحة الاستلقاء ووضع إحدى الرجلين على الْأخرى (3/ 1662) برقم:(2100).
القول الأول: يُحمل النهي على الكراهة لمن خِيف أن تنكشف عورته، ويجوز إن أَمِن الانكشاف.
وهو مذهب الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
القول الثاني: يجوز الاستلقاء، والنهي عنه منسوخ.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى)).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستلقاء بهذه الصفة، والنهي محمول على الكراهة؛ لعلة خوف انكشاف العورة؛ إذ كان لباسهم الأُزُر دون السراويلات، والغالب أن المستلقي إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى -مع ضيق الإزار- لم يسلم أن ينكشف، أما إذا توقى عن الانكشاف بإزار سابغ أو لبس السراويلات: فلا بأس به؛ جمعاً بين الأحاديث
(5)
.
الدليل الثاني: عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه: ((أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَلْقِياً فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعاً إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن فِعله صلى الله عليه وسلم دليل على جواز الاستلقاء في المسجد، وهو محمول على حال أمْن الانكشاف، والنهي محمول على خوف الانكشاف؛ جمعاً بين الأدلة
(7)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه المتقدم، وفيه حكاية فِعله صلى الله عليه وسلم.
(1)
يُنظر: المجموع (2/ 176).
(2)
يُنظر: الشرح الكبير (3/ 118)، كشاف القناع (2/ 371).
(3)
يُنظر: شرح معاني الآثار (4/ 279)، عمدة القاري (4/ 255).
(4)
يُنظر: التمهيد (9/ 205)، إكمال المعلم (6/ 620).
(5)
يُنظر: معالم السنن (4/ 120)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 78).
(6)
سبق تخريجه: ص (271).
(7)
يُنظر: معالم السنن (4/ 120)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 78)، فتح الباري، لابن رجب (3/ 406).
وجه الاستدلال: أنه يُستدل باستلقائه صلى الله عليه وسلم على أن النهي عنه منسوخ
(1)
.
نُوقش: بأن فِعله صلى الله عليه وسلم يُحتمل أنه فعله لضرورة أو حاجة، وإلا فقد عُلم أن جلوسه صلى الله عليه وسلم في المجامع على خلاف هذا، بل كان أكثر جلوسه: القُرْفُصاء، أو مُقْعياً، وشبهها من جلسات الوقار والتواضع، ويُحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، وأنكم إذا أردتم الاستلقاء فليكن هكذا، وأن النهي الذي نهيتكم عن الاستلقاء ليس هو على الإطلاق، بل المراد به مَنْ ينكشف شيء من عورته أو يقارب انكشافها، والنسخ لا يثبت بالاحتمال
(2)
.
الدليل الثاني: عن سعيد بن المسيب قال: ((كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أنه يُستدل على النسخ بأن المتأخر من ذلك عملُ الخليفتين: عمر وعثمان بعده، وهما مما لا يخفى عليهما النسخ في ذلك وغيره من المنسوخ في سائر سننه صلى الله عليه وسلم
(4)
.
نُوقش: بأن الجمع بين الأحاديث أَوْلى من القول بالنسخ
(5)
.
سبب الخلاف:
سببُ الخلاف تعارضُ ظاهر حديث النهي عن الاستلقاء وحديث فِعله صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بكراهة الاستلقاء عند عدم أمن الانكشاف، وجوازه حال الأمن منه.
سبب الترجيح:
أن هذا القول فيه الجمع بين الأحاديث، وإعمال الكلام أَوْلى من إهماله.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
(1)
يُنظر: التمهيد (9/ 205).
(2)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 78).
(3)
أخرجه البخاري معلقاً، كتاب الصلاة، باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل (1/ 102) مع الحديث رقم:(475)، والإمام مالك في الموطأ (1/ 172) برقم:(87)، وابن أبي شيبة (5/ 227) برقم:(25506).
(4)
يُنظر: التمهيد (9/ 205)، المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 224).
(5)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 78)، فتح الباري، لابن حجر (11/ 81).
حمل أصحاب القول الأول النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيها فِعلُ النبي صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه.
وذلك في حديث عبد الله بن زيد، فكان فِعله صلى الله عليه وسلم بياناً لجواز الاستلقاء، ومحمول على حال عدم الانكشاف.
قال النووي رحمه الله: «ويُحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز»
(1)
.
(2)
.
القرينة الثانية: فِعل الصحابة رضي الله عنهم للمنهي عنه.
وذلك فيما رُوي عن عُمَرُ وَعُثْمَانُ، فدل فِعلهم على أنهم فهموا أن النهي عنه ليس للتحريم، لأنهم شاهدوا أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، وهم أهل اللغة، فكانوا أفهم لمراد خطابه.
الحكم على القرينة:
فِعل النبي صلى الله عليه وسلم من القرائن النصية القوية التي يُحمل بها النهي على الكراهة؛ فهي قرينة قوية في أصلها ومعتبرة؛ لدلالتها على بيان الجواز، أما قرينة فعل الصحابة (رضوان الله عليهم): فإنها معتبرة؛ لموافقتها لفِعل النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 78)، ويُنظر: شرح المشكاة، للطيبي (10/ 3070).
(2)
(6/ 52).
المبحث السادس:
النهي عن الجلوسِ لداخلِ المسجد قبل أن يصلي تحية المسجد
المطلب الأول: حكم جلوس داخلِ المسجد قبل أن يصلي تحية المسجد
(1)
:
دليل النهي:
عن أبي قتادة السلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ))
(2)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(3)
على أن ركعتي تحية المسجد سُنَّة، وحملوا النهي عن الجلوس قبل أدائها على الكراهة والتنزيه.
الأدلة:
الدليل الأول: عن أبي قتادة السلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن الأمرَ بصلاة ركعتي تحية المسجد قبل الجلوس محمولٌ على الندب والترغيب؛ للقرائن الصارفة
(5)
، وسيأتي بيانها في المطلب الثاني.
الدليل الثاني: حديث أبي قتادة المتقدم بلفظ النهي.
وجه الاستدلال: أن النهي عن الجلوس قبل أن يصلي ركعتي تحية المسجد
(1)
لعل الأصوب في عنوان المبحث أن نقول: النهي عن جلوس داخلِ المسجد قبل أن يصلي تحية المسجد.
(2)
أخرجه البخاري، أبواب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى (2/ 57) برقم:(1163)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصْرها، باب استحباب تحية المسجد بركعتين، وكراهة الجلوس قبل صلاتهما، وأنها مشروعة في جميع الأوقات (1/ 495) برقم:(714).
(3)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 173)، حاشية الطحطاوي (ص: 395)، المجموع (4/ 51)، الجامع لمسائل المدونة (2/ 627)، الذخيرة (2/ 405)، الشرح الكبير (3/ 397)، كشاف القناع (1/ 444).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس (1/ 96) برقم:(444)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحية المسجد بركعتين، وكراهة الجلوس قبل صلاتهما، وأنها مشروعة في جميع الأوقات (1/ 495) برقم:(714).
(5)
يُنظر: المفهم (2/ 352)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 334)، عمدة القاري (4/ 202).
محمولٌ على الكراهة، وهي كراهة تنزيه
(1)
؛ للقرائن الصارفة التي دلت على عدم الوجوب.
المطلب الثاني: القرائن الصارفة عن التحريم:
حَمَل الفقهاء الأمر على الندب والنهي على الكراهة؛ بدليل القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص:
وذلك في حديث الأعرابي الذي سأل عن الإسلام وما يجب عليه: ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ))
(2)
، فجواب النبي صلى الله عليه وسلم دليل على عدم وجوب غير الخمس، وتلك قرينة تدل أن تحية المسجد ليست واجبة، وأن النهي ليس للتحريم
(3)
.
القرينة الثانية: ورود النص وفيه الأمر بخلاف مقتضى النهي.
حديث عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه
(4)
: ((جاء رَجلٌ يَتَخَطَّى رقاب النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، والنبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ))
(5)
، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالجلوس، ولم يأمره أن يصلي تحية المسجد، فدل على أن النهي عن الجلوس قبل أن يصليها ليس للتحريم
(6)
.
(1)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 226).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام (1/ 18) برقم:(46)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (1/ 40) برقم:(11).
(3)
يُنظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 334).
(4)
هو: عبد الله بن بُسْر المازني، من مازن بن منصور بن عكرمة، يكنى أبا بسر، وقيل: أبا صفوان، صلى القبلتين، وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه ودعا له، صحب النبي صلى الله عليه وسلم: هو، وأبوه، وأمه، وأخوه عطية، وأخته الصماء، تُوفي سنة 88 هـ، وقيل: مات بحمص سنة 96 هـ أيام سليمان بن عبد الملك، وعمره مائة سنة، وهو آخر مَنْ مات بالشام من الصحابة. يُنظر: أسد الغابة (3/ 185)، تهذيب التهذيب (5/ 159).
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب تخطي رقاب الناس يوم الجمعة (2/ 334) برقم:(1118)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب الجمعة، باب النهي عن تخطي رقاب الناس والإمام على المنبر يوم الجمعة (3/ 103) برقم:(1399)، وأحمد (29/ 221) برقم:(17674)، صححه ابن خزيمة (1/ 703)، وابن حبان (7/ 30)، وابن الملقن في (البدر المنير)(4/ 680).
(6)
يُنظر: عمدة القاري (4/ 202).
القرينة الثالثة: فِعل الصحابة رضي الله عنهم.
عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: ((كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ، وَلَا يُصَلُّونَ، قَالَ: وَرَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَفْعَلُهُ))
(1)
.
الحكم على القرينة:
القرائن النصية من أقوى القرائن الصارفة للنهي عن التحريم في العموم، وهنا القرينة الأولى قوية ومعتبرة؛ لأنها جاءت في سياق بيان ما يجب عليه من الصلوات، والقرينة الثانية قوية؛ لأنها جاءت في واقعة لداخل المسجد ولم يُؤمر بالصلاة، وقرينة فِعل الصحابة اعتضدت وتَقوَّت بالقرائن النصية، فالقرائن قوية معتبرة صَرَفت النهي عن الجلوس قبل أداء تحية المسجد من التحريم إلى الكراهة، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 299) برقم: (3428).
المبحث السابع:
النهي عن صلاة غير المكتوبة بعد إقامة الصلاة
المطلب الأول: حكم صلاة غير المكتوبة بعد إقامة الصلاة:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ
(1)
إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ))
(2)
.
صورة المسألة:
إن أراد المسلم أن يشرع في نافلة، وأُقيمت الصلاة: فهل له أن يبتدأها أو لا؟ وإن كان فيها وأُقيمت الصلاة: فهل يتمُّها أو يقطعها؟ وما الحكم في ذلك إن خشي الفوات؟ أو لم يخش الفوات؟
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يحرم الابتداء بنافلة، سواء خشي الفوات أم لم يخشَ، وإن كان فيها ولم يخش الفوات أتمها، وإلا قطعها.
وهو مذهب المالكية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: يُكره ابتداء النافلة مطلقاً، وإن كان فيها ولم يخشَ فوت الجماعة أتمها ندباً، فإن خاف فَوْتها قطعها ندباً.
وهو مذهب الشافعية
(5)
.
(1)
«قوله: (فلا صلاة) يُحتمل أن يُراد: فلا يشرع حينئذ في صلاة عند إقامة الصلاة، ويُحتمل أن يُراد: فلا يشتغل بصلاة -وإن كان قد شرع فيها- قبل الإقامة، بل يقطعها المصلي؛ لإدراك فضيلة التحرم، أو أنها تبطل بنفسها وإن لم يقطعها المصلي، يُحتمل كلاً من الأمرين» ، نقله الشوكاني عن العراقي في (نيل الأوطار)(3/ 103).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصْرها، باب كراهة الشروع فِي نافلة بعد شروع المؤذن (1/ 493) برقم:(711).
(3)
يُنظر: شرح مختصر خليل، للخرشي (2/ 20)، منح الجليل (1/ 356)، وقال بعض المالكية: يصليها خارج المسجد إن لم يخش الفوات، ثم يدخل. يُنظر: الفواكه الدواني (1/ 195).
(4)
يُنظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 290)، المبدع (2/ 55).
(5)
يُنظر: المجموع (4/ 56)، مغني المحتاج (1/ 500).
القول الثالث: يُكره ابتداء نافلة بعد الإقامة، إلا ركعتي الفجر إذا لم يخشَ فوات الجماعة.
وهو مذهب الحنفية
(1)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ)).
وجه الاستدلال: أن قوله: (فلا صلاة) نفيٌ بمعنى النهي يفيد العموم، فإن أُقيمت الصلاة فلا يجوز أن يشرع في صلاة، وإن كان فيها يقطعها إن خشي الفوات؛ لأن ما يفوته مع الإمام أفضل مما يأتي به، فلم يشتغل به
(2)
.
نُوقش: بأن الحديث موقوف على أبي هريرة
(3)
.
أُجيب عنه: بأن الحديث مسند مرفوع ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم
(4)
، ويكفيه أنه في (صحيح مسلم).
الدليل الثاني: عن مَالِكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ
(5)
رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً -وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ- يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَاثَ
(6)
بِهِ النَّاسُ، وَقَالَ لَهُ
(1)
يُنظر: المبسوط (1/ 167)، حاشية ابن عابدين (1/ 377)، وهذا القول بني على مذهبهم في ركعتي الفجر أنها لا تُقضى بعد الفوات، فيحرزهما إذا طمع في إدراك ركعة من الصلاة، فيصليها في آخر المسجد، ثم يتقدم ويدخل في الصف.
(2)
يُنظر: المغني (1/ 329)، المبدع (2/ 55)، شرح مختصر خليل، للخرشي (2/ 20).
(3)
يُنظر: شرح معاني الآثار (1/ 372).
(4)
يُنظر: الاستذكار (2/ 132).
(5)
هو: مالك بن الْقِشْبِ الأزدي، من الأزد، والد عبد الله بن مالك ابن بُحَيْنَة، أمه بحينة قرشية مطلبية، من بنى المطلب بن عبد مناف، لكن منهم مَنْ يقول: إن بحينة أم ابنه عبد الله بن مالك ابن بحينة، ولعبد الله بن مالك ولأبيه جميعاً صحبة، وتُوفي ابن بحينة في آخر خلافة معاوية. يُنظر: الاستيعاب (3/ 1348)، أسد الغابة (5/ 11).
(6)
لَاثَ به الناس: الالتِياث: الاختلاط والالتفاف، لاث به أي: اجتمعوا حوله، وأحاطوا به. يُنظر: أعلام الحديث (1/ 473)، الصحاح (1/ 291)، لسان العرب (2/ 188).
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الصُّبْحَ أَرْبَعاً، الصُّبْحَ أَرْبَعاً))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل أن يصلي ركعتين بعد أن أُقيمت الصلاة، فيكون كمَن صلى الصبح أربعاً -يدل على عموم النهي: أن لا صلاة بعد الإقامة إلا الصلاة المكتوبة
(2)
.
الدليل الثالث: عن عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِس رضي الله عنه قال: ((دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا فُلَانُ، بِأَيِّ الصَّلَاتَيْنِ اعْتَدَدْتَ؟ أَبِصَلَاتِكَ وَحْدَكَ؟ أَمْ بِصَلَاتِكَ مَعَنَا؟))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن في إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم على الرجل دلالةً على أنه لا يجوز أن يصلي نافلة -ولو كانت ركعتي الفجر- بعد أن أُقيمت الصلاة وإن كان الوقت يتسع للفراغ منهما قبل خروج الإمام من صلاته؛ لأن قوله: (أَمْ بِصَلَاتِكَ مَعَنَا؟) يدل على أنه قد أدرك الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الركعتين
(4)
.
نُوقش حديث ابن بُحينة وحديث ابن سَرجس رضي الله عنهما: بأنه يُحتمل أن يكون أراد النهي عن أن يصلي غيرها في موطنها الذي يصلي فيه، فيكون مصليها قد وصلها بتطوع، فيكون النهي من أجل ذلك؛ فقد نُهي عن وصل الفريضة بالتطوع في مكان واحد دون أن يفصل بينهما بشيء
(5)
.
أُجيب عنه: بأن هذا القول ليس بشيء؛ لأن النهي إنما ورد أن تُصليا معاً، وأن يصلي -إذا أُقيمت المكتوبة- غيرَها مما ليس بمكتوبة ويشتغل عنها بما سواها
(6)
.
الدليل الرابع: أن ابتداء صلاة غير التي أُقيمت يؤدي إلى الطعن في الإمام
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1/ 133) برقم:(663)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب كراهة الشروع فِي نافلة بعد شروع المؤذن (1/ 493) برقم:(711).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 330)، عمدة القاري (5/ 182).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب كراهة الشروع فِي نافلة بعد شروع المؤذن (2/ 154) برقم:(712).
(4)
يُنظر: معالم السنن (1/ 274)، المغني (1/ 330).
(5)
يُنظر: شرح معاني الآثار (1/ 372).
(6)
يُنظر: الاستذكار (2/ 131).
وجماعته، فيحرم
(1)
.
الدليل الخامس: ما روي أنه ((كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ))
(2)
.
الدليل السادس: استدلوا على أنه إن أُقيمت الصلاة وهو في تطوع، أتمها إن لم يخشَ فوات الجماعة، بقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
(3)
.
وجه الاستدلال: أن قطع الصلاة وعدم إتمامها، من إبطالها، والله تعالى نهى عن إبطال الأعمال، فيدخل فيها.
أدلة القول الثاني:
استدلوا بما استدل به القائلون بالتحريم، وحملوا النهي على الكراهة، ولعل الصارف: فِعل بعض الصحابة رضي الله عنهم، كما سيأتي عند ذكر أدلة القول الثالث.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: أن ركعتي الفجر تُخص من النهي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكَّد عليهما بما لم يؤكده في غيرهما، ونهى عن تركهما، ولأنها لا تُقضى بعد الفوات؛ ولذا فإنه يأتي بهما إن طمع في إدراك ركعة من الصلاة؛ لأن إدراك ركعة من الصلاة كإدراك جميع الصلاة
(4)
.
نُوقش: بأن قوله صلى الله عليه وسلم (في صلاة) نكرة في سياق النفي، فتعم كل صلاة، ولا دليل على تخصيص ركعتي الفجر
(5)
.
الدليل الثاني: ما رُوي من الآثار عن الصحابة (رضوان الله عليهم):
1 -
((أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَبَا مُوسَى خَرَجَا مِنْ عِنْدِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَرَكَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ الْقَوْمِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا أَبُو مُوسَى: فَدَخَلَ فِي
(1)
يُنظر: حاشية الصاوي (1/ 242)، منح الجليل (1/ 356).
(2)
أخرجه عبد الرزاق الصنعاني (2/ 436) برقم: (3988). ويُنظر: المبدع (2/ 55)، كشاف القناع (1/ 459).
(3)
سورة محمد: جزء من الآية (33).
(4)
يُنظر: شرح معاني الآثار (1/ 376)، المبسوط، للسرخسي (1/ 167).
(5)
يُنظر: المبدع (2/ 55)، كشاف القناع (1/ 459).
الصَّفِّ))
(1)
.
2 -
((كُنَّا نَجِيءُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَنَرْكَعُ الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَدْخُلُ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ))
(2)
.
3 -
((أن ابن عمر رضي الله عنهما جَاءَ مَرَّةً وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَصَلَّاهُمَا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ مَرَّةً أُخْرَى، فَصَلَّى مَعَهُمْ وَلَمْ يُصَلِّهِمَا))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن عبد الله ابن مسعود قد صلى بعد أن أُقيمت الصلاة، ومعه حذيفة وأبو موسى لا ينكران ذلك عليه، فدل ذلك على موافقتهما إياه، ومثلُه في خبر عمر وابن عمر
(4)
رضي الله عنهم.
ويمكن مناقشة الآثار: أولاً: بأنها مخالفة لما ثبت من نهي النبي صلى الله عليه وسلم. ثانياً: أن أبا موسى خالف عبد الله بن مسعود في فِعله، ودخل في الصلاة مع الإمام، وليس فِعل أحدهم حجة على الآخر، وكذلك اختلاف ما نُقل عن عمر رضي الله عنه مرة بأنه أنكر ذلك، ومرة بأنه لم يُنكر، فتساقطا.
سبب الخلاف:
السبب في اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله عليه السلام: ((إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة))
(5)
، وظاهر تعارض النص مع فعل الصحابة رضي الله عنهم.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم الشروع في صلاة إذا أُقيمت المكتوبة، وإن كان فيها يتمها إن لم يخشَ فوات الجماعة، وإلا فليقطعها.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «هذا القول أصح؛ لأن فيه حديثاً مسنداً يجب الوقوف
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 57) برقم: (6415)، وابن المنذر في (الأوسط) (5/ 231) برقم:(2761)، والطحاوي في (شرح معاني الآثار)(1/ 374).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 57) برقم: (6414)، والطحاوي في (شرح معاني الآثار)(1/ 376).
(3)
المصدران السابقان.
(4)
يُنظر: شرح معاني الآثار (1/ 374)، حاشية ابن عابدين (1/ 378).
(5)
سبق تخريجه: ص (277).
عنده والرد إليه فيما ينازع العلماء فيه؛ إذ لم يكن له في الكتاب ذِكر، ولا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعارضه»
(1)
.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة أدلة هذا القول.
2 -
أن المشتغل بصلاة غير المكتوبة بعد إقامة الصلاة تفوته فضيلة إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام - في الأغلب.
3 -
ضعف أدلة الأقوال الأخرى، وورود المناقشة عليها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر أن القائلين بالكراهة صرفوا النهي عن التحريم؛ بدليل قرينة: فِعل الصحابة رضي الله عنهم.
وذلك فيما رُوي عن بعض الصحابة -كابن عمر وابن مسعود- أنهم ابتدؤوا صلاة بعدما أُقيمت الصلاة المكتوبة، وأنه لم ينكر بعضهم على بعض، ففي فِعلهم دليل على أنهم فهموا أن النهي ليس للتحريم.
الحكم على القرينة:
قرينة فِعل الصحابة هنا قرينة ضعيفة لا تقوى على صرف النهي عن التحريم؛ لقوة دليل النهي ودلالته على العموم، وكذلك لأن ما ورد عن بعض الصحابة عارضه مخالفة غيرهم، مما يضعف الاحتجاج به؛ لأنه ليس فِعل أحدهم حجة على الآخر، والله تعالى أعلم.
(1)
الاستذكار (2/ 132).
المبحث الثامن:
النهي عن استدامة الإمام الصلاة في مكان المكتوبة
المطلب الأول: حكم استدامة الإمام الصلاة في مكان المكتوبة:
دليل النهي:
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ فِي مُقَامِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ حَتَّى يَتَنَحَّى عَنْهُ))
(1)
.
صورة المسألة:
لو أراد الإمام بعد فراغه من الفريضة أن يتنفل: فهل له أن يصلي في مكانه أو يلزمه الانتقال؟
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(2)
على أنه يُكره للإمام استدامة الصلاة في مكان المكتوبة.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
ويشهد لمعناه أيضاً ما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ((لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَمَّ فِيهِ الْقَوْمَ حَتَّى يَتَحَوَّلَ أَوْ يَفْصِلَ بِكَلَامٍ))
(3)
، وما رُوي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:((أَنَّهُ كَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن النفي في الحديث بمعنى النهي، فهو نهي للإمام عن الصلاة
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإمام يتطوع في مكانه (1/ 461) برقم:(616) وقال: «عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة» ، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فِي صلاة النافلة حيث تُصلى المكتوبة (2/ 427) برقم:(1428) واللفظ له، صححه الألباني بشواهده في (صحيح الجامع الصغير وزيادته) (2/ 1277). ومن شواهده: حديث أبي هريرة مرفوعًا.
(2)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 160)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 66)، حاشية ابن عابدين (1/ 531)، الذخيرة (2/ 405)، التاج والإكليل (2/ 435)، المجموع (3/ 491)، تحفة المحتاج (2/ 106)، المغني (1/ 403)، كشاف القناع (1/ 493)، مطالب أولي النهى (1/ 696).
(3)
أخرجه عبد الرزاق الصنعاني (2/ 417) برقم: (3917)، وابن أبى شيبة (2/ 24) برقم:(6027) واللفظ له، حسن إسناده ابن حجر في (فتح الباري)(2/ 335)، ويُنظر: المغني (1/ 403).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 24) برقم: (6023).
في موضع المكتوبة، ويُحمل على الكراهة؛ لكونه إرشاداً إلى الأمن من التباس النافلة بالفريضة؛ لأن صلاة الإمام مكان الفريضة يؤدي إلى اشتباه الأمر على الداخل، فيظنه في الفريضة، فيقتدي به؛ لذا ينبغي أن يتنحى إزالةً للاشتباه، وإعلاماً بأنه صلى، فلا يُنتظر، وهذا الاشتباه لا يوجد في حق المأموم
(1)
.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إِذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ، أَوْ يَتَأَخَّرَ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ؟)) يَعْنِي: السُّبْحَةَ
(2)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث استفهاماً أُريد به الإنكار على المصلي أن يتنفل في موضع الفريضة، وهو محمول على الإمام؛ لأنه يُفتن به الداخل، أي: يظنه في الفريضة، فيقتدي به، وهذا لا يوجد في حق المأموم
(3)
.
الدليل الثالث: أن في الانتقال للنافلة إلى موضع آخر استكثاراً من شهوده؛ فإن مكان المصلي يشهد له يوم القيامة
(4)
.
(1)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 38)، المبدع (2/ 101)، فتح الباري، لابن حجر (2/ 335)، كشاف القناع (1/ 493).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة (2/ 246) برقم:(1006)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فِي صلاة النافلة حيث تُصلى المكتوبة (2/ 426) برقم:(1427) واللفظ له، وأحمد، (15/ 300) برقم:(9496)، قال العيني في (عمدة القاري) (6/ 139):«سكت عنه أبو داود لمَّا رواه، وسكوته دليل رضاه به، وفي صحيح مسلم ما يشده، وهو حديث معاوية» ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته) (1/ 519). وقد استدل به العلماء على النهي عن التطوع مكان الفريضة. يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 38)، بدائع الصنائع (1/ 285)، حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 436).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 38)، بدائع الصنائع (1/ 285)، حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 436).
(4)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 38).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل الفقهاء النهي على الكراهة في حق الإمام دون غيره لقرينة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
قال ابن حجر رحمه الله: «ففي هذا إرشاد إلى طريق الأمن من الالتباس، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة»
(1)
.
قال المناوي رحمه الله: «المعنى فيه خشية التباس النفل بالفرض، فأرشد في الحديث إلى طريق الأمن من الالتباس»
(2)
.
والعلة في ذلك: خوف التلبيس على الداخل بأن الإمام يصلي الفريضة، فيقتدي به.
جاء في (المبسوط): «لأنه يُفتن به الداخل، أي: يظنه في الفريضة، فيقتدي به»
(3)
.
قال ابن حجر رحمه الله: «المعنى في كراهة ذلك خشيةُ التباس النافلة بالفريضة»
(4)
.
الحكم على القرينة:
قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة، صارفة للنهي إلى غير التحريم، وهي هنا قرينة قوية؛ لقوة العلة المعتبرة في ذلك، والله أعلم.
(1)
فتح الباري (2/ 335).
(2)
فيض القدير (1/ 390).
(3)
للسرخسي (1/ 38).
(4)
فتح الباري (2/ 335).
الفصل الثالث
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب المواقيت
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن تسمية العشاء العَتَمَة.
المبحث الثاني: النهي عن تسمية المغرب العشاء.
المبحث الثالث: النهي عن تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس.
المبحث الأول:
النهي عن تسمية العشاء العَتَمَة
المطلب الأول: حكم تسمية العشاء العَتَمَة
(1)
:
دليل النهي:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ
(2)
عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، أَلَا إِنَّهَا الْعِشَاءُ، وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ))
(3)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم تسمية العشاء العَتَمَة، على قولين:
القول الأول: الكراهة.
وهو قول بعض الحنفية
(4)
، والمشهور عند المالكية
(5)
، ومذهب الشافعية
(6)
، وقول عند الحنابلة
(7)
.
القول الثاني: الجواز.
وهو قول عند المالكية
(8)
، ووجه عند الشافعية
(9)
، والمذهب عند الحنابلة
(10)
.
(1)
العَتَمَة في اللغة: شدة الظلمة، قال الخليل: العتمة هو الثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق. وقد عتم الليل يعتم. وعتمته: ظلامه. والعتمة أيضا: بقيّة اللبن تُفيقُ بها النَعَمُ تلك الساعة. وقوله: يُعتمون بالإبل: أي يؤخرون حلبها إلى أن يظلم الظلام. يُنظر: الصحاح (5/ 1979)، إحكام الأحكام (1/ 175)، القاموس المحيط (ص: 1135)، كشاف القناع (1/ 254).
(2)
الأَعْراب: ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. والعرب: اسم لهذا الجيل المعروف من الناس. وسواء أقام بالبادية أو المدن. والنسبة إلى الأعراب أعرابيٌّ، لأنه لا واحد له. وليس الأعراب جمعاً لعرب. يُنظر: الصحاح (1/ 178)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 202)، الكواكب الدراري (4/ 207).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها (2/ 118) برقم:(644).
(4)
ذكره العيني في (عمدة القاري)(5/ 59)، وفي (شرح أبي داود)(2/ 290)، وذكره ابن أمير حاج في (حَلبة المجلي)(1/ 633). ولم أجد المسألة عند غيرهم من الحنفية بحسب ما تيسر لي من كتب.
(5)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 396)، شرح مختصر خليل (2/ 344).
(6)
يُنظر: الحاوي الكبير (2/ 23)، أسنى المطالب (1/ 118).
(7)
يُنظر: الفروع (1/ 434)، الإنصاف (3/ 165).
(8)
يُنظر: الذخيرة (2/ 17)، الفواكه الدواني (1/ 198).
(9)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 118)، مغني المحتاج (1/ 304).
(10)
يُنظر: المغني (1/ 279)، الشرح الكبير (3/ 164)، الفروع (1/ 434).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: قال الله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ}
(1)
.
وجه الاستدلال: أن الله تعالى سماها في القرآن الكريم صلاة العشاء، فيُكره مخالفة هذه التسمية
(2)
.
نُوقش: أن تسميتها في كتاب الله بالعشاء لا يدل على كراهة تسميتها بغيره، كما أن الله تعالى سمى صلاة الصبح صلاة الفجر، ولا يُكره تسميتها صلاة الصبح
(3)
.
يمكن أن يُجاب عنه: بأن تسمية العشاء العَتَمَة ورد فيه نهي خاص، بخلاف تسمية الفجر الصبح.
الدليل الثاني: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما المتقدم.
وجه الاستدلال: في الحديث نهي عن تسمية العشاء العَتَمَة والتنفير عنها بقوله: (تغلبنكم)، ويحمل النهي على الكراهة والتنزيه؛ لورود القرينة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم سمى العشاء بالعَتَمَة لبيان الجواز
(4)
.
الدليل الثالث: أن العادة أن العظماء إذا سموا شيئاً باسم، فلا يليق العدول عنه؛ لما فيه من تنقيصهم والرغبة عن صنيعهم، والله تعالى أعظم العظماء قد سماها العشاء في القرآن
(5)
.
الدليل الرابع: أن النهي عن تسمية العشاء بالعَتَمَة تنزيهٌ لهذه العبادة الشريفة الدينية عن أن يُطلق عليها ما هو اسم لفِعلة دنيوية، وهي الحَلبَةُ التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العَتَمَة
(6)
.
(1)
سورة النور: جزء من الآية (58).
(2)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 118).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (4/ 365).
(4)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 143)، إحكام الأحكام (1/ 175)، تحفة المحتاج (1/ 429).
(5)
يُنظر: الذخيرة (2/ 17).
(6)
يُنظر: المفهم (2/ 268).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا
(1)
عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ
(2)
لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَة وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العشاء بالعَتَمَة، فدل ذلك على جواز التسمية
(4)
.
نُوقش من وجهين
(5)
:
أحدهما: أن هذا الاستعمال ورد في نادر من الأحوال لبيان الجواز، وأن النهي للتنزيه لا التحريم.
الثاني: أن المخاطبين كان فيهم مَنْ قد يشتبه عليه العشاء بالمغرب، فاحتمل إطلاق العَتَمَة هنا للمصلحة دفعاً للالتباس.
الدليل الثاني: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ((ارتقبْنا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ العَتَمَة
…
))
(6)
.
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً بِالعِشَاءِ
…
وكَانُوا يُصَلُّونَ العَتَمَة فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ))
(7)
.
(1)
اسْتَهَموا: أي اقترعوا. يُنظر: الصحاح (5/ 1957).
(2)
التَّهْجَير: السير في الهاجرةِ، والهاجِرَةُ: نصف النهار عند اشتداد الحرّ. ويراد بالتهجير: التبكير إلى كل شيء والمبادرة إليه. يُنظر: الصحاح (2/ 851)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 246).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان (1/ 126) برقم:(615)، ومسلم كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الْأول فالأول (1/ 325) برقم:(437).
(4)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (6/ 27)، نيل الأوطار (2/ 21).
(5)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 324)، إكمال المعلم (2/ 607)، المجموع (3/ 42)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 225)، عمدة القاري (5/ 126).
(6)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب وقت العشاء الآخرة (1/ 161) برقم:(421)، وأحمد (36/ 385) برقم:(22066).
(7)
أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل العشاء (1/ 172) برقم:(864)، ومسلم، كتاب المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها (1/ 441) برقم:(638).
وجه الاستدلال: أن الصحابة رضي الله عنهم سموها العَتَمَة، وذلك دليل على جوازها
(1)
.
الدليل الرابع: أن تسمية العشاء بالعَتَمَة نسبةً لها إلى الوقت الذي تجب فيه، فأشبهت صلاة الصبح والظهر وسائر الصلوات
(2)
.
سبب الخلاف:
سبب الخلاف ظاهر التعارض بين حديث أبي هريرة الذي فيه تسمية العشاء بالعَتَمَة، وحديث ابن عمر الذي فيه النهي عن هذه التسمية
(3)
، وهو من باب تعارض القول والفعل.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بكراهة تسمية العشاء العَتَمَة.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة أدلة هذا القول.
2 -
أنه محافظة على الاسم الشرعي لها، فلا تغلب تسمية الأعراب.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن النهي حُمل على الكراهة للقرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيها فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم خلاف النهي.
وذلك في قوله: (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَة وَالصُّبْحِ)، فكان فِعله صلى الله عليه وسلم بياناً للجواز، وأن النهي عنه ليس للتحريم.
قال الزركشي رحمه الله: «
…
وللفقهاء في مثل ما مثلنا به طريقة أخرى لم يذكرها أهل الأصول هنا، وهو حمل الأمر على الندب والنهي على الكراهة، وجعل الفعل بيانا لذلك»
(4)
.
وقال النووي رحمه الله في (المنهاج): «جاء في الأحاديث الصحيحة تسميتها
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (4/ 369)، (2/ 46).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 279).
(3)
يُنظر: الاستذكار (2/ 146).
(4)
البحر المحيط (6/ 52).
بالعَتَمَة،
…
والجواب عنه: أنه استُعمل لبيان الجواز، وأن النهي عن العَتَمَة للتنزيه لا للتحريم»
(1)
.
القرينة الثانية: فِعل الصحابة رضي الله عنهم.
فقد ورد عن معاذ وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم تسمية العشاء بالعَتَمَة؛ فكان فِعلهم دليلاً على أنهم فهموا أن النهي ليس للتحريم.
القرينة الثالثة: المقصد من النهي
ذلك أن مقصود النهي: الحث على تسمية العبادات بالتسمية التي جاء بها الشرع، وفيه التنزيه عن مشابهة الأعراب.
قال القاضي عياض رحمه الله: «وقد جاء في الحديث الآخر: (لو يعلمون ما في العَتَمَة والصبح
…
) فقوله هذا يدل أن نهيه ليس نهى تحريم، وإنما هو نهى أدب وفضيلة»
(2)
، وقال في موضع آخر: «
…
وفيه أن النهى عنها نهى كراهة واستحسان الامتثال؛ لما سماها الله به في القرآن من العشاء»
(3)
.
وقال المناوي رحمه الله: «تسمية العشاء عتمة؛ إشارة إلى أن النهي الوارد فيه للتنزيه لا للتحريم»
(4)
.
وقال ابن حجر رحمه الله: «إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لهذه العبادة الشرعية الدينية عن أن يُطلق عليها ما هو اسم لفِعلة دنيوية، وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت، ويسمونها العَتَمَة.
قلت: وذكر بعضهم: أن تلك الحلبة إنما كانوا يعتمدونها في زمان الجَدْب خوفاً من السؤال والصَّعالِيك
(5)
، فعلى هذا فهي فِعلة دنيوية مكروهة لا تُطلق على فِعلة دينية
(1)
(5/ 143).
(2)
إكمال المعلم (2/ 607).
(3)
المصدر نفسه (2/ 350).
(4)
فيض القدير (5/ 337).
(5)
وقيل عكس ذلك؛ فالعرب عرفوا بالكرم والضيافة، فكانوا يؤخرون الحلبة إلى ذلك الوقت انتظارا لضيف قد يقدم عليهم.
محبوبة»
(1)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرائن قوية ومعتبرة: فقرينة فِعل الرسول صلى الله عليه وسلم قوية؛ لقوتها في أصلها وثبوتها، وقرينة فِعل الصحابة اعتضدت بفِعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقرينة المقصد من النهي كذلك قرينة قوية؛ لقوة المعنى الذي لأجله ورد النهي ومناسبته، والله تعالى أعلم.
(1)
فتح الباري (2/ 45) نقلاً عن القرطبي عن غيره.
المبحث الثاني:
النهي عن تسمية المغرب العشاء
المطلب الأول: حكم تسمية المغرب العشاء:
دليل النهي:
عن عبد الله بن مغفل الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ الْمَغْرِب، قَالَ: والْأَعْرَابُ تَقُولُ: هِيَ الْعِشَاء))
(1)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في النهي عن تسمية المغرب العشاء، على قولين:
القول الأول: الكراهة.
وهو قول بعض الحنفية
(2)
، ومذهب المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، وقول عند الحنابلة
(5)
.
القول الثاني: الجواز.
وهو المذهب عند الحنابلة
(6)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.
وجه الاستدلال: أن ظاهر الحديث نهي عن تسمية المغرب العشاء، وهو نهي كراهة؛ لأن التسمية من الله ورسوله لا تُترك لرأى أحد
(7)
؛ لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ}
(8)
.
الدليل الثاني: أن تسميتها بالعشاء دائماً يُشعِر بتأخيرها، بخلاف تسميتها
(1)
أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب مَنْ كره أن يَقال: للمغرب العشاء (1/ 117) برقم: (563).
(2)
ذكره العيني في (عمدة القاري)(5/ 59)، وابن أمير حاج في (حلبة المجلي)(1/ 633). ولم أجد المسألة عند غيرهم من الحنفية بحسب ما تيسر لي من كتب.
(3)
يُنظر: الذخيرة (2/ 15)، مواهب الجليل (1/ 392).
(4)
يُنظر: المجموع (3/ 35)، مغني المحتاج (1/ 303).
(5)
يُنظر: الفروع (1/ 432)، الإنصاف (3/ 165).
(6)
يُنظر: شرح الزركشي (1/ 478)، شرح منتهى الإرادات (1/ 143).
(7)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 188).
(8)
سورة البقرة: جزء من الآية (31).
بالمغرب فإنه يُشعِر بفعلها عند الغروب
(1)
.
الدليل الثالث: أنه يُكره تسمية المغرب العشاء؛ لئلا يقع الالتباس بالصلاة الأخرى -العشاء-
(2)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: استدلوا بحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه الذي استدل به أصحاب القول الأول.
وجه الاستدلال: أن الخبر لا يقتضي نهياً مطلقاً، لكن فيه النهي عن غلبة الأعراب على ذلك، وهذا لا يقتضي المنع من إطلاق العشاء عليه أحياناً، بل يجوز أن يُطلق على وجه لا يترك له التسمية الأخرى
(3)
.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُوراً فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العشاء بالعشاء الآخرة، فدل على أن المغرب: العشاء الأولى
(5)
.
نُوقش: بأن وَصْف العشاء بالآخرة؛ لأنها آخر الصلوات، لا لأن قبلها عشاء أخرى
(6)
.
سبب الخلاف:
الذي يظهر أن سبب الخلاف هو اختلافهم في النهي في حديث عبد الله بن المغفل: هل هو نهي مطلق أو مقيد بغلبة تسمية الأعراب؟ فمَن رأى أنه نهي مطلق قال بالكراهة، ومَن قال: ليس نهيا مطلقا قال بالجواز، والله أعلم.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بكراهة تسمية
(1)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الصلاة (ص: 169).
(2)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (2/ 43)، مواهب الجليل (1/ 392).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (2/ 43).
(4)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة (1/ 328) برقم:(444).
(5)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الصلاة (ص: 168)، فتح الباري، لابن رجب (4/ 361).
(6)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (4/ 362).
المغرب العشاء.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة أدلة هذا القول.
2 -
أن تسميتها بالمغرب هي التسمية التي ارتضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن النهي يُحمل على الكراهة؛ بدليل قرينة: المقصد من النهي.
ذلك أن الحكمة من النهي: الحث على تسمية العبادات بما جاء به الشرع، والمنع من مشابهة الأعراب، ودفعاً للالتباس والاشتباه بصلاة العشاء.
(1)
.
جاء في (منحة الباري): «والمعنى: لا تتبعوا الأعراب في تسميتهم المغرب عشاء؛ لأن الله سماها مغرباً، وتسمية الله أولى من تسميتهم، والسرُّ في النهي: خوف الاشتباه على غيرهم من المسلمين، والنهي للتنزيه لا للتحريم»
(2)
.
وجاء في (الكواكب الدراري): «كان الأعراب يقولون: العشاء، ويريدون به المغرب، فكان يتشبه ذلك على المسلمين بالعشاء الآخرة، فنُهى عن إطلاق العشاء على المغرب؛ دفعاً للالتباس»
(3)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة المقصد من النهي قرينة قوية؛ لما فيه من تحقيق المحافظة على تسمية الأشياء بمسمياتها الشرعية، والله تعالى أعلم.
(1)
المفهم (2/ 268).
(2)
(2/ 278).
(3)
(4/ 207).
المبحث الثالث:
النهي عن تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس
المطلب الأول: حكم تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس:
دليل النهي:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ
(1)
قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعاً لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً))
(2)
، وفي رواية:((تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، أَوْ عَلَى قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ -قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعاً لَمْ يَذْكُرِ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً))
(3)
.
تحرير محل النزاع:
أولاً: محل الإجماع:
أجمع العلماء
(4)
على أنه لا يجوز تأخير الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها.
قال ابن تيمية رحمه الله: «مسألة: ولا يحل تأخيرها عن وقتها إلا لناوٍ جمعها أو مشتغل عنها بشرطها: أما فِعلها في الوقت المضروب لها: ففرض، وتأخيرها عنه عمداً من الكبائر؛ لقوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
(5)
والمحافظة عليها: فِعلها في الوقت
…
والنصوص
(1)
بين قرني الشيطان: أي ناحيتي رأسه وجانبيه. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 52). واختلفوا في المراد به: «قيل: هو على حقيقته وظاهر لفظه، والمراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها، وكذا عند طلوعها؛ لأن الكفار يسجدون لها حينئذ، فيقارنها؛ ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويخيل لنفسه ولأعوانه أنهم إنما يسجدون له، وقيل: هو على المجاز، والمراد بقرنه وقرنيه: علوه وارتفاعه وسلطانه وتسلطه وغلبته وأعوانه، قال الخطابي: هو تمثيل، ومعناه أن تأخيرها بتزيين الشيطان ومدافعته لهم عن تعجيلها كمدافعة ذوات القرون لما تدفعه، والصحيح الأول» قاله النووي رحمه الله في (المنهاج)(5/ 124)، ويُنظر بقية الأقوال في تأويله في: معالم السنن (1/ 130).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر (1/ 434) برقم:(622).
(3)
أخرجه ابن حبان، كتاب الإيمان، ذكر إثبات اسم المنافق على المؤخر صلاة العصر إلى اصفرار الشمس (1/ 494) برقم:(261).
(4)
يُنظر: اختلاف الأئمة العلماء (1/ 82)، شرح العمدة، لابن تيمية - كتاب الصلاة (ص: 53).
(5)
سورة البقرة: الآية (238).
في ذلك كثيرة، وهو مجمع عليه»
(1)
.
ثانياً: محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم تَعمُّد تأخير العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر، على قولين:
القول الأول: يحرم تأخير العصر إلى اصفرار الشمس.
وهو قول بعض الحنفية
(2)
، ومذهب المالكية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: يُكره تأخير العصر إلى اصفرار الشمس.
وهو المذهب عند الحنفية
(5)
، والشافعية
(6)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(7)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}
(8)
.
وجه الاستدلال: أن الله تعالى ذَمَّ مَنْ أضاع الصلاة، وتوعَّدهم بالعذاب، وقد قال أكثر أهل العلم: إضاعة الصلاة تأخيرها عن وقتها
(9)
، فمَن أخَّر العصر إلى اصفرار الشمس مُؤخِّرٌ لها عن وقتها، مُفرِّطٌ فيما أُمر بحفظه ورعايته، آثمٌ؛ لتضييعه وتفريطه
(10)
.
الدليل الثاني: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ
(1)
شرح العمدة، لابن تيمية - كتاب الصلاة (ص: 54).
(2)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 83)، مراقي الفلاح (ص: 74).
(3)
يُنظر: الذخيرة (2/ 24)، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 273)، مواهب الجليل (1/ 409).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 273)، المحرر في الفقه (1/ 28).
(5)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 127)، البناية (2/ 52)، حاشية ابن عابدين (1/ 372).
(6)
يُنظر: العزيز شرح الوجيز (1/ 369)، المجموع (3/ 28).
(7)
يُنظر: المبدع (1/ 300)، الإنصاف (3/ 146).
(8)
سورة مريم: الآية (59).
(9)
يُنظر: تفسير القرطبي (11/ 122)، شرح العمدة، لابن تيمية - كتاب الصلاة (ص: 53).
(10)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 409).
يَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ
…
))
(1)
، وفي رواية: ((
…
فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعَصْرُ فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ))
(2)
.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلاً وَآخِراً،
…
وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُهَا، وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ))
(3)
.
وجه الاستدلال من الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم حَدَّ وقت العصر باصفرار الشمس، وذلك يقتضي أن ما بعده ليس بوقت لها لمَن لا عذر له، فلا يجوز التأخير إليه
(4)
.
الدليل الرابع: حديث أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعاً لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر الذم والتشبيه بصلاة المنافق وتكريره لذلك، دليل على تحريم تأخير العصر إلى اصفرار الشمس لمَن لا عذر له، ولو أُبيح تأخيرها لما ذَمَّ عليه، وجَعَله علامة النفاق، والنفاق كله حرام
(6)
.
وقوله (يجلس يرقب) فيه إشارة أنه فيمن كان مختاراً لا معذوراً
(7)
.
نُوقش: بأنه إنما ذَمَّه على النَّقْر وقلة ذِكر الله
(8)
.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس (1/ 427) برقم:(612).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس (1/ 427) برقم:(612).
(3)
أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة (1/ 283) برقم:(151) وقال: «وفي الباب عن عبد الله بن عمرو. سمعت محمدا -يعني البخاري- يقول: حديث الأعمش، عن مجاهد في المواقيت أصح من حديث محمد بن فضيل، عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ أخطأ فيه محمد بن فضيل» ، وأخرجه أحمد، (12/ 94) برقم:(7172)، قال ابن الجوزي في (التحقيق) (1/ 279):«ابن فضيل ثقة، يجوز أن يكون الأعمش قد سمعه من مجاهد مرسلاً، وسمعه من أبي صالح مسنداً» ، قال ابن الملقن في (البدر المنير) (3/ 161): «
…
وحاصل هذا أن البخاري خطَّأ رواية الرفع، وصحَّح رواية الإرسال».
(4)
يُنظر: شرح الزركشي (1/ 471).
(5)
سبق تخريجه: ص (297).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 273)، مجموع الفتاوى (22/ 537)، فتح الباري، لابن رجب (4/ 331).
(7)
يُنظر: نيل الأوطار (1/ 380).
(8)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية - كتاب الصلاة (ص: 166).
أُجيب عنه: بأنه إنما ذَمَّه على مجموع ذلك -أي: التأخير والنَّقْر- ولو لم يكن للتأخير مدخل في استحقاق الذم لما ذَكَره، كمَن نَقَرها في أول الوقت
(1)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعاً لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث فيه تصريح بذم تأخير الصلاة إلى اصفرار الشمس، وأنها في حكم صلاة المنافق، وذلك دليل على كراهة تأخير العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر
(3)
.
يُمكن أن يُناقش: أن الحكم بأنها صلاة المنافق والتأكيد بالتكرير يقتضي التحريم؛ فالنفاق كله حرام.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ
(4)
الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ
(5)
فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ))
(6)
.
(1)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية - كتاب الصلاة (ص: 166)، نيل الأوطار (1/ 380).
(2)
سبق تخريجه: ص (297).
(3)
يُنظر: المجموع (3/ 28)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 124).
(4)
(5)
في الحديث أن آخر وقت صلاة العصر غروب الشمس، ويسمى عند المالكية والشافعية والحنابلة: آخر وقت الضرورة؛ إذ قسموا وقت العصر إلى تقسيمات عدة، وقسموا آخر وقت العصر إلى: اختيار وضرورة، واختلفوا في حد آخر وقت الاختيار، على قولين: القول الأول: آخر وقت الاختيار هو اصفرار الشمس، وهو المذهب عند المالكية، والرواية الأصح عند الحنابلة. والقول الثاني: آخر وقت الاختيار هو مصير ظل الشيء مثليه، وهو رواية عند المالكية والمذهب عند الشافعية والحنابلة. تُنظر التقسيمات والأدلة والمناقشات في: التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 273)، مواهب الجليل (1/ 409)، المجموع (3/ 27)، روضة الطالبين (1/ 180)، المغني (1/ 273)، شرح الزركشي (1/ 468).
وكان حق هذه المسألة أن تُذكر في المتن إن كان لها تعلقٌ بمسألة البحث، لكن الذي ظهر بعد الدراسة أن الخلاف في حكم تأخير العصر إلى اصفرار الشمس لم يُبنَ على اختلافهم في مسألة آخر وقت الاختيار، حيث إننا نجد بعض الحنفية قال بالتحريم في مسألة التأخير إلى الاصفرار، وبعضهم قال بالكراهة، وهم في الأصل –بحسب البحث في كتبهم التي بين يدي- ليست عندهم تقسيمات لوقت العصر، ونجد المالكية اختلفوا في آخر وقت الاختيار على قولين، في حين أن المذهب عندهم في مسألة التأخير إلى الاصفرار التحريم -ستأتي الأقوال وتفصيلاتها بأدلتها في المتن-.
والذي يظهر أن اختلافهم في ذلك بسبب ورود النهي الخاص عن التأخير إلى اصفرار الشمس، وإن كانت التقسيمات عند بعضهم مؤثرة، أو يقال أن اختلافهم في تقسيم وقت العصر بُني على خلافهم في النهي عن تأخير الصلاة إلى اصفرار الشمس، والله تعالى أعلم.
(6)
أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب مَنْ أدرك من الفجر ركعة (1/ 120) برقم:(579)، ومسلم، كتاب المساجد، باب مَنْ أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة (1/ 424) برقم:(608).
وجه الاستدلال: أن الحديث نَصَّ على أن مَنْ أدرك ركعة قبل غروب الشمس أدرك العصر فصلاته أداء لا قضاء، فلا يكون عاصياً
(1)
.
نُوقش من وجهين:
الأول: بأن الحديث يُحمل على أنه وقت لمن له ضرورة: كحائض طهرت، وصبي بلغ، ومجنون أفاق، ونائم استيقظ؛ بدليل تأكيده في النهي عن الصلاة إذا اصفرت الشمس، وجَعْل الصلاة في ذلك الوقت -ممن لا عذر له- صلاة المنافق
(2)
، وبذلك يُجمع بين هذا الحديث وحديث أنس.
الثاني: أنه قد اتُّفق على أن مَنْ أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس أنه مؤدٍّ لها وليس بقاضٍ، ولكنه عاص؛ لتأخيره مختاراً، مع كونه مؤدياً غير قاض، وإنما جواز التأخير مع الضرورة، أما مَنْ لا ضرورة له فلا يجوز له التأخير وإن أدرك الوقت بركعة
(3)
.
الدليل الثالث: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: ((
…
فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعَصْرُ فَإِنَّهُ وَقْتٌ
(1)
يُنظر: بحر المذهب، للروياني (1/ 381)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 106).
(2)
يُنظر: الجامع لمسائل المدونة (2/ 441)، شرح الزركشي (1/ 471)، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 273).
(3)
يُنظر: التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 273)، مواهب الجليل (1/ 409).
إِلَى أَنْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن قوله: (فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس) معناه: فإنه وقت لأداء الصلاة بلا كراهة، فإذا اصفرت صار وقت كراهة، وتكون أيضاً أداءً حتى تغرب الشمس
(2)
.
نُوقش: بأنه بيان لحَدٍّ آخر وقت الاختيار، وما بعده إلى غروب الشمس يسمى وقت إدراك ووقت ضرورة، ولا يفترق المعذور وغيره إلا في الإثم وعدمه: فالمعذور له التأخير، وغيره ليس له ذلك، ويأثم إذا أخَّر
(3)
.
الدليل الرابع: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِيَّ النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةَ الْأُخْرَى))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر الحديث يقتضي امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الأخرى: فآخِرُ وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس وهو وقت أداء، فمَن لم يصلِّ حتى غربت الشمس فرَّط وأثِم، أما التأخير إلى اصفرار الشمس: فليس بتفريط، ولكن يُكره للنهي عنه
(5)
.
نُوقش: بأن الحديث محمول على وقت الإدراك والضرورة، فلا يجوز لمَن وجبت عليه الصلاة تأخيرها عن وقت الجواز -أي: وقت الصلاة إن كان لها وقت واحد، ووقت الاختيار إن كان لها وقتان- إن كان ذاكراً لها قادراً على فِعلها
(6)
، وبذلك يُجمع بين الأحاديث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وقَّت للعصر ما لم تصفرَّ الشمس، وذَمَّ مَنْ أخَّره عن ذلك.
سبب الخلاف:
اختلافهم في الجمع بين الأحاديث المتعارضة في الظاهر، وهي:
(1)
سبق تخريجه: ص (299).
(2)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 110).
(3)
يُنظر: شرح الزركشي (1/ 472).
(4)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها (1/ 473) برقم:(681) في حديث طويل.
(5)
يُنظر: المجموع (3/ 26)، نهاية المحتاج (1/ 370).
(6)
يُنظر: المبدع (1/ 305)، كشاف القناع (1/ 226).
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وفيه:(فإنه وقتٌ إلى أن تصفر الشمس)، ومعه حديث أنس رضي الله عنه في ذمِّ التأخير إلى الاصفرار؛ فهما يعارضان ظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:(مَنْ أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، واختلافهم في المقصود من الذم في حديث أنس رضي الله عنه.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر.
أسباب الترجيح:
1 -
أن مَنْ يخالف النهي ويؤخر الصلاة إلى اصفرار الشمس بلا عذر، يكون عاصياً وإن كان مؤدياً.
2 -
أن الحكم بصلاة المنافق لمَن أخَّر إلى الاصفرار يقتضي القول بالتحريم؛ لأن النفاق كله حرام.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب أصحاب القول الثاني إلى أن النهي يُحمل على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة له: المقصد من النهي.
وذلك أن المقصود في حديث أنس رضي الله عنه من النهي وذم تأخير الصلاة والتشبيه بصلاة المنافق: التحذير من مشابهة المنافقين في تأخير الصلاة والتهاون فيها.
قال النووي رحمه الله: «قوله صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق) فيه تصريح بذم تأخير صلاة العصر بلا عذر»
(1)
.
وقال الشوكاني رحمه الله
(2)
: «في الحديث دليل على كراهة تأخير الصلاة إلى وقت
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 124).
(2)
هو: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، وُلد ببلدة شوكان باليمن سنة 1173 هـ، ونشأ في صنعاء، وتلقى العلم على شيوخها، وجدَّ في طلبه، فأكثر من المطالعة والحفظ والسماع، فكان مشتغلاً في جميع أوقاته بالعلم درساً وتدريساً وإفتاءً، وكان داعية إلى الإصلاح والتجديد، ترك التقليد، وسلك طريق الاجتهاد، له مؤلفات كثيرة تدل على سعة علمه وسلامة منهجه، منها:«نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار» ، «إرشاد الفحول» ، «السيل الجرار» ، «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع» وغيرها الكثير، تُوفي بصنعاء سنة 1250 هـ. يُنظر: البدر الطالع (2/ 224) لصاحب الترجمة، الأعلام، للزركلي (6/ 298).
الاصفرار، والتصريح بذم مَنْ أخَّر صلاة العصر بلا عذر، والحكم على صلاته بأنها صلاة المنافق، ولا أردع لذوي الإيمان وأفزع لقلوب أهل العرفان من هذا»
(1)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن هذه القرينة ضعيفة؛ لقوة النهي وتأكيده بتكرير الحكم بأنها صلاة المنافق، وذلك لتأكيد الزجر والمنع من هذه الفِعلة، ولأن التشبيه بفعل المنافقين يقتضي التحريم؛ لوجوب اجتناب النفاق وعلاماته، وعليه: فيترجح القول بتحريم تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
نيل الأوطار (1/ 380).
الفصل الرابع
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب ستر العورة
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: النهي عن صلاة المصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء.
المبحث الثاني: النهي عن لبس المُزَعْفَر والمُعَصْفَر.
المبحث الثالث: النهي عن السَّدْل في الصلاة.
المبحث الرابع: النهي عن اشتمال الصَّمَّاء.
المبحث الخامس: النهي عن تغطية الوجه أو التلثُّم.
المبحث السادس: النهي عن صلاة الرجل في سراويل وليس عليه رداء.
المبحث السابع: النهي عن شد الوسط بما يشبه شد الزُّنَّار.
المبحث الثامن: النهي عن إسبال الرجل شيئاً من ثيابه.
المبحث الأول:
النهي عن صلاة المصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء
المطلب الأول: حكم صلاة المصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه
(1)
منه شيء:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ))
(2)
، وفي رواية: ((
…
لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْءٌ))
(3)
، وفي رواية: ((لَا يُصَلِّ أَحَدُكُمْ في الثوب
…
))
(4)
.
صورة المسألة:
أن يصلي الرجل في الثوب الواحد: كأن يكون لابساً إزاراً
(5)
فقط، أو ما يستر به العورة ويكون أعالي البدن مكشوفاً.
تحرير محل النزاع:
أولاً: اتفق الفقهاء
(6)
على أن عورة الرجل ما بين السُّرَّة والركبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ؟!))
(7)
.
(1)
العَاتِق: موضع الرداء من المنكب، يُذكر ويُؤنث. يُنظر: الصحاح (4/ 1521).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه (1/ 81) برقم:(359)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة فِي ثوب واحد وصفة لبسه (1/ 368) برقم:(516).
(3)
أخرجه أحمد (12/ 257) برقم: (7307).
(4)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، جماع أبواب ما يصلي فيه (1/ 467) برقم:(626).
(5)
الإِزَار -بالكسر-: معروف، وهو الملحفة، وفُسر بما يستر أسفل البدن، والرِّدَاء: ما يُستر به أعلاه، وكلاهما غير مخيط. يُنظر: تاج العروس (10/ 43).
(6)
يُنظر: تبيين الحقائق (6/ 18)، فتح القدير، للكمال بن الهمام (10/ 27)، بداية المجتهد (1/ 122)، التاج والإكليل (2/ 180)، المجموع (3/ 167)، مغني المحتاج (1/ 397)، المغني (1/ 413)، كشاف القناع (1/ 266).
(7)
أخرجه أبو داود، كتاب الحمّام، باب النهي عن التَّعرِّي (6/ 131) برقم:(4014)، والترمذي، أبواب الأدب، باب ما جاء أن الفخذ عورة (5/ 110) برقم:(2795) وحسنه، وأحمد (25/ 274) برقم:(15926)، وأخرجه البخاري معلقاً، باب ما يُذكر في الفخذ (1/ 83). صححه ابن حبان (4/ 609) برقم:(1710)، والألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(2/ 788).
قال ابن تيمية رحمه الله: «ولأن ما حول السوءتين من حريمهما وستره تمام سترهما والمجاورة لها تأثير في مثل ذلك، فوجب أن يُعطى حكمهما»
(1)
.
ثانياً: اختلف الفقهاء في النهي عن الصلاة في ثوب واحد وليس على عاتقه شيء، على قولين:
القول الأول: أن النهي للكراهة، ويُستحب أن يجعل على عاتقه شيئاً.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(5)
.
القول الثاني: أن النهي للتحريم، فيجب على المصلي أن يجعل على عاتقيه أو أحدهما شيئاً إن قدر عليه.
وهو المذهب عند الحنابلة
(6)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل عن الصلاة في الثوب الواحد وعاتقه مكشوف، والنهي للكراهة والتنزيه: فلو صلى في ثوب واحد ساتر لعورته ليس على عاتقه منه شيء صحت صلاته مع الكراهة، سواء قدر على شيء يجعله على عاتقه أم لا.
وعلة الكراهة خشية أن يسقط فتنكشف عورته إذا لم يتوشَّح به، وإن تكلَّف ضبْطه بيديه شغلهما عن سنتهما، واشتغل به عن صلاته
(8)
.
(1)
شرح العمدة - كتاب الصلاة (ص: 262).
(2)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 34)، بدائع الصنائع (1/ 219).
(3)
يُنظر: الذخيرة (2/ 111)، الفواكه الدواني (1/ 129).
(4)
يُنظر: البيان (2/ 124)، المجموع (3/ 175).
(5)
يُنظر: المبدع (1/ 322).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 415)، الشرح الكبير (3/ 217)، شرح الزركشي (1/ 613).
(7)
سبق تخريجه ص: (306).
(8)
يُنظر: المفهم (2/ 112)، المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 231).
الدليل الثاني: عن جابر رضي الله عنه قال: ((خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ
(1)
بِهِ وَصَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَا السُّرَى
(2)
يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ: مَا هَذَا الِاشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ، قُلْتُ: كَانَ ثَوْبٌ - يَعْنِي ضَاقَ - قَالَ: فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ
(3)
، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جابراً أن يتزر به إن كان ضيقاً؛ لأن ستر العورة آكد، ولم يأمره بوضع شيء على عاتقه، فدل على عدم وجوبه، والإثم بتركه، وفي ذلك دليل على أن نهيه أن يصلى في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء اختياراً
(5)
.
نُوقش: بأن الحديث محمول على حال العجز عن ستر المنكبين، والنهي عن إعرائهما إنما يكون للقادر على سترهما
(6)
، والعاجز معذور في ذلك بخلاف القادر
(7)
.
أُجيب عنه: أنه لو كان كشف العاتق حراماً لما رخَّص فيه في حال ضيق الثوب؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أعلم جابراً بأن محل ذلك ما إذا كان الثوب واسعاً، فأما إذا كان ضيقاً: فإنه يجزئه أن يتزر به؛ لأن القصد الأصلي ستر العورة، وهو يحصل بالائتزار
(8)
.
الدليل الثالث: عن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا
(1)
اشتملت به: اشْتَمَلَ بثوبه: أي تلفَّف به. يُنظر: الصحاح (5/ 1741)، مختار الصحاح (ص: 169).
(2)
ما السُّرَى: السرى: السير بالليل، أراد ما أوجب مجيئك في هذا الوقت. يُنظر: الصحاح (6/ 2376)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 364).
(3)
التحف: التحفتُ بالثوب: تغطيت به، وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به، ولحفت الرجل ألحفه لحفاً: طرحت عليه اللحاف، أو غطيته بثوب. يُنظر: الصحاح (4/ 1426)، مختار الصحاح (ص: 280).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقاً (1/ 81) برقم:(361).
(5)
يُنظر: الأم (1/ 109)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 401).
(6)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (2/ 367).
(7)
يُنظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 402).
(8)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 472).
إِلَى جَنْبِهِ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَعَلَيَّ مِرْطٌ
(1)
لِي، وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى -فيما صلَّى فيه- مُؤتزراً به لا يستره أبداً، ولا يفضل منه ما يكون لعاتقه؛ إذ كان لا بد أن يبقى من الطرف الآخر منه القدر الذي يسترها، وذلك دليل على أن نهيه أن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء اختياراً
(3)
.
الدليل الرابع: أن كراهة الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء؛ لأن ستر العورة إن حصل ولم يجعل على عاتقه شيئًا، تعرى أعلى البدن، فلم تحصل الزينة المستحبة
(4)
، وقد قال الله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
(5)
، والمراد بالزينة: اللباس، وهو ما يواري السوءة، وما سوى ذلك
(6)
؛ فستر العاتقين من الزينة، فيكون مستحباً.
الدليل الخامس: أن العاتقين ليسا بعورة في الصلاة، فأشبها بقية البدن، فلا يجب سترهما، وإنما يُستحب
(7)
.
نُوقش: بأن النهي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقتضي التحريم، ويُقدم على القياس
(8)
.
أدلة القول الثاني:
…
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ
(1)
المِرْط -بالكسر-: واحد المروط، وهي أكسية من صوف أو خز أو غيره كان يُؤتزر بها، يُصَلِّي فِي مِرْطٍ يعني: بعض المرط ألقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتفه يصلي، وبعضه أنا ملتفة به. يُنظر: الصحاح (3/ 1159)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 319)، المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 460).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك (1/ 274) برقم:(369)، وابن ماجه، أبواب التيمم، باب الصلاة في ثوب الحائض (1/ 416) برقم:(653) واللفظ له، وأحمد (44/ 387) برقم:(26804)، وصححه ابن خزيمة (1/ 398) برقم:(768)، وابن حبان (6/ 99) برقم:(2329) ورُوي نحوه عن عائشة رضي الله عنها، أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتراض بين يدي المصلي (1/ 367) برقم:(514).
(3)
يُنظر: الأم (1/ 109)، أعلام الحديث (1/ 350).
(4)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 431)، بدائع الصنائع (1/ 219)، المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 232).
(5)
سورة الأعراف: جزء من الآية (31).
(6)
يُنظر: تفسير الطبري (12/ 391).
(7)
يُنظر: المبدع (1/ 322).
(8)
يُنظر: المغني (1/ 415).
الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر النهي عن الصلاة مع كشف العاتقين، يقتضي التحريم وفساد المنهي عنه، وقوله:(ليس على عاتقه شيء) يقع على ما يعم المنكبين وما لا يعم، وهذا دليل على أنه لا يقتضي سترهما؛ فلا يجب سترهما جميعاً، بل يجزئه وَضْع ثوب على أحد عاتقيه
(2)
.
نُوقش: بأن ظاهر النهي يقتضي التحريم، لكن الإجماع على جواز تركه؛ إذ المقصود ستر العورة، فبأي وجه حصل جاز
(3)
.
أُجيب عنه: بأن دعوى الإجماع فيها نظر؛ لثبوت الخلاف عن الإمام أحمد رحمه الله
(4)
.
الدليل الثاني: عن بريدة رضي الله عنه
(5)
قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ فِي لِحَافٍ
(6)
لَا يَتَوَشَّحُ
(7)
بِهِ، وَالْآخَرُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي سَرَاوِيلَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ))
(8)
.
(1)
سبق تخريجه ص: (306).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 415)، الشرح الكبير (3/ 217).
(3)
يُنظر: الكواكب الدراري (4/ 18).
(4)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 472).
(5)
هو: بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، يكنى أبا عَبْد الله، أسلم حين مر به النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا بالغميم، وأقام في موضعه حتى مضت بدر وأحد، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد، فشهد معه مشاهده، وشهد الحديبية، وسكن البصرة، توفي سنة 63 هـ. يُنظر: الاستيعاب (1/ 185)، الإصابة (1/ 418).
(6)
اللِّحَاف: اللباس الذي فوق سائر اللباس من دِثار البرد ونحوه، وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به، واللحاف: اسم ما يُلتحف به. يُنظر: غريب الحديث، للقاسم بن سلام (1/ 311)، الصحاح (4/ 1426)، لسان العرب (9/ 314).
(7)
يتوشح به: أي: يتغشى به، والأصل فيه: من الوشاح، وهو شيء ينسج عريضاً من أديم، والتوشيح أن يأخذ الطرف الأيسر من تحت يده اليسرى، فيلقيه على منكبه الأيمن، ويلقي الطرف الأيمن من تحت اليمنى على منكبه الأيسر. يُنظر: الصحاح (1/ 415)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 187)، البحر الرائق (2/ 27)، فيض القدير (6/ 342).
(8)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقاً يتزر به (1/ 474) برقم:(636)، والحاكم (1/ 379) برقم:(914) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، واحتجا بأبي تميلة، وأما أبو المنيب المروزي: فإنه عبيد الله بن عبد الله العتكي من ثقات المراوِزَة، وممن يُجمع حديثه في الخراسانيين» ، ونقل الحافظ ابن حجر في (إتحاف المهرة)(2/ 565) كلام الحاكم، ثم ذكر أن الحديث ورد بأتم منه في الأدب: من طريق القاسم بن القاسم السياري.
وجه الاستدلال: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في اللحاف دون توشُّح وفي السراويل دون الارتداء، دليلٌ على تحريم تجريد المنكبين في الصلاة وفساد الصلاة معه؛ فالنهي المطلق يفيد التحريم
(1)
.
يُمكن أن يُناقش: بأنه يُحمل على الكراهة؛ لحديث جابر في بيان الرخصة.
الدليل الثالث: أنها سترة واجبة في الصلاة، والإخلال بها يفسدها: كستر العورة
(2)
.
سبب الخلاف:
السبب في اختلافهم: تعارُض ظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي، وحديث جابر رضي الله عنه في الثوب
(3)
، فمَن أخذ بظاهر النهي ذهب إلى أن النهي للتحريم، وحمل حديث جابر على عدم القدرة، ومَن قال أن حديث جابر يفيد الرخصة والجواز ذهب إلى أن النهي للكراهة.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بكراهة كشف العاتق في الصلاة.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة الأدلة، وأن فيه الجمع بين الأدلة.
2 -
وجود الصارف للنهي عن التحريم.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين فيما سبق أن الجمهور حملوا النهي على الكراهة لا التحريم؛ بدليل القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الرخصة.
وذلك في حديث جابر رضي الله عنه؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص في الصلاة متزراً، ولم يأمر بستر
(1)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية -كتاب الصلاة (ص: 318).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 415).
(3)
يُنظر: إحكام الأحكام (1/ 301).
العاتق.
القرينة الثانية: ورود النص وفيه فِعله صلى الله عليه وسلم.
وذلك في حديث ميمونة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى في ثوب واحد: بعضه عليه، وبعضه عليها، فدل أنه كان متزراً به.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «احتمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
، أن يكون اختياراً، واحتمل أن يكون لا يجزيه غيره، فلما حكى جابر ما وصفت، وحكت ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في ثوب واحد: بعضه عليه، وبعضه عليها.
دل ذلك على أنه صلَّى -فيما صلى فيه من ثوبها- مُؤتزراً به؛ لأنه لا يستره أبداً إلا مُؤتزراً به إذا كان بعضه على غيره، فعلمنا أن نهيه أن يصلى في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء اختيارا، وأنه يجزي الرجلَ والمرأةَ كلَّ واحد أن يصلي متواريي العورة»
(1)
.
القرينة الثالثة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
قال النووي رحمه الله: «النهي في الحديث نهي كراهة تنزيه لا تحريم، فلو صلى مكشوف العاتقين صحت صلاته مع الكراهة»
(2)
.
وجاء في (الفواكه الدواني): «
…
لأن النهي للتنزيه»
(3)
.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: «هذا النهي مُعلَّل بأمرين:
أحدهما: أن في ذلك تعري أعالي البدن، ومخالفة الزينة المسنونة في الصلاة.
والثاني: أن الذي يفعل ذلك: إما أن يشغل يده بإمساك الثوب أو لا، فإن لم يشغل خِيف سقوط الثوب وانكشاف العورة، وإن شغل كان فيه مفسدتان: إحداهما: أنه يمنعه من الإقبال على صلاته والاشتغال بها. الثانية: أنه إذا شغل يده في الركوع والسجود لا يُؤمن من سقوط الثوب وانكشاف العورة»
(4)
.
الحكم على القرينة:
الأصل أن القرائن النصية من أقوى القرائن الصارفة: فالقرينة الأولى قوية ومعتبرة؛ لثبوتها وصحتها، ولكونها جاءت في بيان الرخصة، أما القرينة الثانية: فهي قوية
(1)
الأم (1/ 109).
(2)
المجموع (3/ 175).
(3)
(1/ 129).
(4)
إحكام الأحكام (1/ 301).
في أصلها، ضعيفة في دلالتها؛ إذ أنها ليست صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى متزراً فقط ولم يجعل شيئاً على عاتقه، والقرينة الثالثة معتبرة؛ لمناسبة ما عُلل به لمعنى الأدب والتنزيه، والله أعلم.
المبحث الثاني:
النهي عن لبس المُزَعْفَر والمُعَصْفَر
المطلب الأول: حكم لبس المُزَعْفَر والمُعَصْفَر.
المسألة الأولى: لبس المُزَعْفَر
(1)
:
دليل النهي:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:((نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ))
(2)
، وفي رواية:((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرِّجَالَ عَنِ المُزَعْفَر))
(3)
.
تحرير محل النزاع:
أجمع العلماء
(4)
على أن المُحْرِم لا يلبس الثوب المصبوغ بالزعفران، واختلفوا في حكم لبس الرجل للمزعفر في غير حال الإحرام، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الكراهة.
وهو مذهب الحنفية
(5)
، والمذهب عند الحنابلة
(6)
.
القول الثاني: التحريم.
وهو مذهب الشافعية
(7)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(8)
.
القول الثالث: الإباحة.
(1)
المُزَعْفَر: الزعفران: صبغ معروف، وهو من الطيب، وزعفر الثوب: أي: صبغه به، المزعفر: المصبوغ بالزعفران. يُنظر: الصحاح (2/ 670)، القاموس المحيط (ص: 400)، عمدة القاري (22/ 22).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب النهي عن التزعفر للرجال (7/ 153) برقم:(5846)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب نهي الرجل عن التزعفر (3/ 1663) برقم:(2101).
(3)
أخرجه أحمد (20/ 272) برقم: (12942).
(4)
نقل الإجماع: ابن المنذر في (الإجماع)(ص: 63)، وابن عبد البر في (التمهيد)(10/ 17)، وابن رشد في (بداية المجتهد)(2/ 92).
(5)
يُنظر: البناية (12/ 108)، حاشية ابن عابدين (6/ 358).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 419)، الإنصاف (3/ 271)، شرح منتهى الإرادات (1/ 157).
(7)
يُنظر: البيان (2/ 535)، المجموع (4/ 449)، أسنى المطالب (1/ 276).
(8)
يُنظر: الفروع (2/ 77)، الإنصاف (3/ 271).
وهو مذهب المالكية
(1)
، وقول عند الحنابلة
(2)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:((نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ)).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل عن لبس المُزَعْفَر، ويُحمل على الكراهة للقرينة الصارفة، وهي:
الدليل الثاني: ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قيل له: ((يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعاً،
…
وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ،
…
فقال:
…
وَأَمَّا الصُّفْرَةُ: فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا))
(3)
.
والمراد بالصبغ بالصفرة هنا: صبغ الثياب، وقد جاء مبيناً في حديث زيد بن أسلم رضي الله عنه:((أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ بِالزَّعْفَرَانِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ))
(4)
، وفي رواية:((لِأَنِّي رَأَيْتُهُ أَحَبَّ الْأَصْبَاغِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَدَّهِنُ، وَيَصْبُغُ بِهِ ثِيَابَهُ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن حديث ابن عمر رضي الله عنهما فيه ثبوت صبغه صلى الله عليه وسلم ثيابه بالزعفران، وذلك إعلام منه أن نهيه عن ذلك على وجه الكراهية لا على وجه التحريم؛ لأنه لو كان على وجه التحريم كان أبعدهم من فِعله؛ لأنه أتقاهم لله، وأشدهم له خشية
(6)
.
دليل القول الثاني: استدلوا كذلك بحديث أنس رضي الله عنه، بلفظ الرواية الأخرى: (
…
أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل عن التزعفر، والنهي يقتضي التحريم
(7)
؛
(1)
يُنظر: الاستذكار (1/ 434)، مواهب الجليل (1/ 506)، شرح مختصر خليل (1/ 253).
(2)
يُنظر: الفروع (2/ 77)، الإنصاف (3/ 271).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين (1/ 44) برقم:(166)، ومسلم، كتاب الحج، باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة (2/ 844) برقم:(1187).
(4)
أخرجه النسائي، كتاب الزينة، باب الزعفران (8/ 150) برقم:(5115).
(5)
أخرجه أحمد (10/ 10) برقم: (5717).
(6)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 212).
(7)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 54).
لأن الأصل في النهي المجرد عن القرينة التحريم.
نُوقش من وجهين: الأول: أن النهي محمول على الكراهة للقرينة الصارفة.
الثاني: بأن النهي عن التزعفر محمول على الجسد، أي أنه غيّر بدنه بالزعفران تشبهاً بالنسوان، وهو الأظهر من مثل هذا اللفظ
(1)
.
يمكن أن يُجاب عنه: بأن معنى التزعفر: أن يستعمل الرجل الزعفران في ثوبه وبدنه
(2)
، والرواية الأخرى التي وردت بالنص على المُزَعْفَر تؤيد عمومه في البدن والثوب.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم ذكره في الدليل الثاني لأصحاب القول الأول.
وجه الاستدلال: أن الصحابي صبغ بالزعفران اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يدهن ويصبغ ثيابه بالزعفران، فدل ذلك على جواز صبغ الثياب بالزعفران واستعماله
(3)
.
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِوَرْسٍ
(4)
أَوْ بِزَعْفَرَانٍ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث يدل على تقييد النهي عن لبس المُزَعْفَر للمُحرِم، فيُحمل عليه حديث النهي عن التزعفر، وعليه: فالحكم لغير المُحرِم الجواز
(6)
.
نُوقش: بأن هذا فيه بُعدٌ؛ لأن النساء والرجال ممنوعون من التطيب في الإحرام، فلا معنى لتخصيص النهي بالرجال، وإنما علَّة الكراهة في ذلك: أنه صبْغ النساء وطيب النساء
(7)
.
(1)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 118)، المعلم بفوائد مسلم (3/ 131).
(2)
يُنظر: المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 44).
(3)
يُنظر: المعلم بفوائد مسلم (3/ 131).
(4)
الوَرْس: نبات أصفر يكون باليمن، صبغه ما بين الصفرة والحمرة، ورائحته طيبة. يُنظر: الصحاح (3/ 988)، الاستذكار (4/ 19)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 173).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الثوب المزعفر (7/ 153) برقم:(5847). ومسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح (2/ 835) برقم:(1177).
(6)
يُنظر: إكمال المعلم (6/ 591)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 54).
(7)
يُنظر: المفهم (5/ 400).
سبب الخلاف:
الذي يظهر -والله أعلم- أن سبب الخلاف يرجع إلى أمرين: الأول: تعارض ظاهر حديث أنس رضي الله عنه في النهي مع حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ ثيابه بالزعفران. والثاني: الاختلاف في حمل حديث النهي المطلق على المقيد بالمُحرِم.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بكراهة لبس الرجل المُزَعْفَر.
أسباب الترجيح:
1 -
أن هذا القول فيه جمع بين الأدلة، لأن العمل بالدليلين أولى من إهمال أحدهما
(1)
.
2 -
قوة الصارف للنهي عن التحريم.
المسألة الثانية: لبس المُعَصْفَر
(2)
.
دليل النهي:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ، فَلَا تَلْبَسْهَا))
(3)
، وفي الرواية الأخرى: ((
…
فَقَالَ: أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟ قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا؟ قَالَ: بَلْ أَحْرِقْهُمَا))
(4)
.
تحرير محل النزاع:
(1)
موسوعة القواعد الفقهية (1/ 1/ 264).
(2)
المُعَصْفَرُ: هو المصبوغ بالعصفر، والعُصْفُر: نبت معروف ذو صبغ أحمر، هذا الذي يُصبغ به، منه ريفي، ومنه بري، وكلاهما ينبت بأرض العرب، وقد عصفر ثوبه: صبغه به، فتعصفر. يُنظر: الصحاح (2/ 750)، المصباح المنير (2/ 414)، تاج العروس (13/ 74).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر (3/ 1647) برقم:(2077).
(4)
المصدر السابق نفسه.
أولاً: لا خلاف بين العلماء في أنه يُباح للمرأة لبس المُعَصْفَر
(1)
.
ثانياً: اختلف الفقهاء في حكم لبس المُعَصْفَر للرجال في الصلاة وغيرها، على قولين:
القول الأول: كراهة لبس المُعَصْفَر.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: جواز لبس المُعَصْفَر.
وهو قول عند المالكية
(5)
، ومذهب الشافعية
(6)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ، فَلَا تَلْبَسْهَا)).
الدليل الثاني: عن علي رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ
(7)
وَالمُعَصْفَر، وَعَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ))
(8)
، وفي رواية قال: ((نَهانِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أقول:
(1)
حكاه ابن عبد البر رحمه الله في (التمهيد)(16/ 123).
(2)
يُنظر: البناية (12/ 108)، حاشية ابن عابدين (6/ 358).
(3)
يُنظر: الجامع لمسائل المدونة (4/ 413)، مواهب الجليل (3/ 154). وخصه بعض المالكية بالْمُفْدَم. والْمُفْدَمُ: هو الثوب المشبع حمرة: كأنه الذي لا يقدر على الزيادة عليه؛ لتناهي حمرته. يُنظر: الصحاح (5/ 2001)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 421). وردّ ابن عبد البر تخصيصه بالمفدم، فقال:«لم يذكر المفدم غير الضحاك بن عثمان، وليس بحجة، والذي يقتضيه حديث علي وعبد الله بن عمرو: النهي عن لباس كل ثوب معصفر للرجال؛ لأنه لم يخص فيه نوع من صباغ المعصفر من نوع والنبي عليه السلام إنما بعث مبينا معلما، فلو كان منه نوع تقتضيه الإباحة لبينه ولم يشمله ويُشكل به؛ لأنه كان قد أوتي جوامع الكلام» . التمهيد (16/ 124).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 419)، الإنصاف (3/ 271)، شرح منتهى الإرادات (1/ 157).
(5)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 506)، شرح مختصر خليل (1/ 253).
(6)
يُنظر: المجموع (4/ 449)، مغني المحتاج (1/ 585).
(7)
القَسِّي: هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يُؤتى بها من مصر، نُسبت إلى قرية على شاطئ البحر قريباً من تنيس، يُقال لها: القس -بفتح القاف- وبعض أهل الحديث يكسرها. يُنظر: معالم السنن (4/ 190)، الصحاح (3/ 963)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 59).
(8)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عَنْ لبس الرجل الثوب المعصفر (3/ 1648) برقم:(2078).
نهاكم
…
))
(1)
.
وجه الاستدلال من الأحاديث: أن النهي في الأحاديث عن لبس المُعَصْفَر محمول على الكراهة؛ لقرينة بيان الجواز في الدليل الآتي
(2)
.
الدليل الثالث: عن البراء رضي الله عنه قال: ((كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعاً
(3)
، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ
(4)
حَمْرَاءَ، مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْهُ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء، والمُعَصْفَر هو المصبوغ بالعصفر وهو صبغ أحمر، فدل فِعله صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يعلم أمته أن النهى عن المُعَصْفَر لم يكن على وجه التحريم للبسه، ولكن على وجه الكراهية، ولَبسه بياناً للجواز
(6)
.
نُوقش: بأن النهي عما صُبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صُبغ غزله ثم نُسج: فغير داخل في النهي، والحُلل إنما هي برود اليمن: حمر وصفر وخضر وما بين ذلك من الألوان، وهي لا تُصبغ بعد النسج، ولكن يُصبغ الغزل، ثم يُتخذ منه الحلل
(7)
.
أُجيب عنه: بأن هذا التفريق يحتاج إلى دليل خارجي
(8)
.
الدليل الرابع: عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أرْكَبُ
(1)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب السهو، ذكر ما ينقض الصلاة، وما لا ينقضها، النهي عن القراءة في الركوع (1/ 325) برقم:(634).
(2)
يُنظر: إكمال المعلم (6/ 590)، فتح الباري، لابن رجب (2/ 440).
(3)
مَرْبُوعاً: رجل ربعة: أي مربوع الخلق: لا طويل ولا قصير. يُنظر: الصحاح (3/ 1214)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 190)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/ 28).
(4)
الحُلَّة: واحدة الحلل، وهي برود اليمن، ولا تُسمى حُلَّة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد، وهي إزار ورداء. يُنظر: الصحاح (4/ 1673)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 432).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الثوب الأحمر (7/ 153) برقم:(5848)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 1818) برقم:(2337).
(6)
يُنظر: إكمال المعلم (6/ 590)، شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 123).
(7)
يُنظر: معالم السنن (4/ 193).
(8)
يُنظر: مرقاة المفاتيح (7/ 2771).
الأُرْجُوانَ
(1)
، ولا ألبَسُ المُعصفَرَ،
…
))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن في إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه لا يلبس المُعَصْفَر دليلاً على كراهته له، وهو بإطلاقه يشمل ما صُبغ بعد النسج وقبله
(3)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: استدلوا بحديث البراء رضي الله عنه المتقدم ذكره في الدليل الثالث لأصحاب القول الأول.
وجه الاستدلال: أنه لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس حلة حمراء، دل على جواز لبس المُعَصْفَر
(4)
؛ إذ المُعَصْفَر أحمر.
نُوقش: أن فعله صلى الله عليه وسلم يُحمل على بيان أن النهي عن المعصفر ليس للتحريم
(5)
.
الدليل الثاني: حديث علي رضي الله عنه، وقد أورده مسلم في رواية أخرى بلفظ: ((نَهانِي رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن قوله: (نهاني) يدل على أن النهي خاص بعلي رضي الله عنه، وعليه يُرخص فيه لسائر الأمة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «وإنما رخصتُ في المُعَصْفَر؛ لأني لم أجد أحداً يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه إلا ما قال علي رضي الله عنه: نهاني، ولا أقول: نهاكم»
(7)
.
(1)
الأرجوان: صبغ أحمر شديد الحمرة، وهو معرب من أرغوان، وهو شجر له نور أحمر، وكل لون يشبهه فهو أرجوان .. يقال ثوب أرجوان، وقطيفة أرجوان. والأكثر في كلامهم إضافة الثوب أو القطيفة إلى الأرجوان. والمراد: المياثر الحمر، وهي ما يتخذ كالفراش الصغير ويحشى بقطن أو صوف، يجعلها الراكب تحته على الرحال فوق الجمال. يُنظر: معالم السنن (4/ 191)، الصحاح (6/ 2353)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 151).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب من كرهه (6/ 157) برقم:(4048)، وأحمد (33/ 185) برقم:(19975)، قال الحاكم في (المستدرك) (4/ 211):«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(2/ 1203).
(3)
يُنظر: مرقاة المفاتيح (7/ 2785).
(4)
يُنظر: المفهم (5/ 400)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 54).
(5)
يُنظر: إكمال المعلم (6/ 590)، شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 123).
(6)
سبق تخريجه: ص (318).
(7)
نقله النووي عن الإمام الشافعي في (المنهاج)(14/ 54).
نُوقش: بأن قوله: (ولا أقول: نهاكم) يريد أن اللفظ في الحديث كان مخصوصاً لا عاماً، ولم يرد خصوص الحكم، فدعوى الخصوص فيه ليس بشيء، لأنه قد وردت أحاديث صحيحة تدل على النهي على العموم من حديث علي وغيره والحجة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما خالفها
(1)
.
يُمكن أن يُناقش: بأن القاعدة: أن خطابه للواحد خطاب لجميع الأمة
(2)
.
سبب الخلاف:
الذي يظهر -والله أعلم- أن سبب الخلاف يرجع إلى تعارض ظاهر حديث النهي مع حديث البراء رضي الله عنه بأنه صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء. وهو من باب تعارض القول والفعل.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بكراهة لبس الرجل الثوب المُعَصْفَر.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة الأدلة، ولأن فيه الجمع بين الأدلة.
2 -
أن القول بالإباحة مطلقاً يُشكل مع ورود النهي، والقول بخصوص النهي بعلي رضي الله عنه: فيه بُعد؛ إذ خطابه للواحد خطاب للأمة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
أولاً: القرينة الصارفة في مسألة: لبس المُزَعْفَر.
تبين فيما سبق أن أصحاب القول الأول حملوا النهي عن لبس المُزَعْفَر على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيه فِعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه.
القرينة الثانية: فِعل الصحابة رضي الله عنهم للمنهي عنه.
وذلك ما ورد في أدلة الجواز التي نصت على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبغ ثيابه بالزَّعْفَران، وأن ابن عمر كان يفعله متابعةً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
(1)
يُنظر: التمهيد (16/ 121)، حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 377).
(2)
يُنظر: البحر المحيط (4/ 234)، من أصول الفقه على منهج أهل الحديث (ص: 140).
ومنه حديث: ((أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ بِالزَّعْفَرَانِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ))
(1)
.
الحكم على القرينة:
القرينة النصية من أقوى القرائن المعتبرة التي تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وهي هنا قرينة قوية؛ لقوتها في أصلها وثبوتها وصحتها، ولقوة دلالتها على بيان الجواز في موضوع النهي؛ لإثباتها فِعل النبي صلى الله عليه وسلم، أما قرينة فعل الصحابي: فقد أخذت قوتها من كونها متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم واستناناً بسنته، والله أعلم.
ثانياً: القرينة الصارفة في مسألة: لبس المُعَصْفَر.
تبين فيما سبق أن أصحاب القول الأول حملوا النهي عن لبس المُعَصْفَر على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيها فِعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه.
وهو ما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال: ((كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعاً، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْهُ))
(2)
.
قال ابن بطال رحمه الله: «ويكون الجمع بين الحديثين أن لبسه عليه السلام للحمرة؛ ليعلم أمته أن النهى عنه لم يكن على وجه التحريم للبسه، ولكن على وجه الكراهة؛ إذ كان الله تعالى قد ندب أمته إلى الاستنان به»
(3)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: «يُحمل النهى عن ذلك على الكراهة؛ لأنه عليه السلام قد لبس حلة حمراء؛ لتعلم منه جواز ذلك»
(4)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
وذلك أن النهي عن لبس المُعَصْفَر فيه حث للمسلم على: التزام الأدب النبوي في اللباس، والتنزيه عن مشابهة الكفار.
(1)
سبق تخريجه: ص (314).
(2)
سبق تخريجه: ص (318).
(3)
شرح صحيح البخاري (9/ 122).
(4)
إكمال المعلم (6/ 590) نقلاً عن الطبري.
قال النووي رحمه الله: «قال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه»
(1)
.
وجاء في (مرقاة المفاتيح): «قال جماعة: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهي على هذا؛ لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء»
(2)
.
والعلة: التنزيه عن التشبه بالكفار.
قال القرطبي رحمه الله: «قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ، فَلَا تَلْبَسْهَا) يدل أن علة النهي عن لباسهما التشبُّه بالكفار»
(3)
.
الحكم على القرينة:
فِعلُ النبي صلى الله عليه وسلم قرينةٌ قوية في أصلها ومعتبرة لثبوتها ودلالتها على بيان الجواز جمعاً بين الأدلة؛ إذ الجمع بين الأدلة أَولى من إهمال بعضها، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة؛ اعتضدت بالقرينة الأولى، ولمناسبة ما جاء فيها من المعنى للتنزيه، والله تعالى أعلم.
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 54).
(2)
(7/ 2771).
(3)
المفهم (5/ 400).
المبحث الثالث:
النهي عن السَّدْل في الصلاة
المطلب الأول: حكم السَّدْل
(1)
في الصلاة:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ السَّدْل فِي الصَّلَاةِ، وأنْ يُغَطِّيَ الرجلُ فاه))
(2)
.
اختُلف في المعنى المراد بالسَّدْل في الحديث، على أقوال:
الأول: أن يطرح على رأسه أو كتفيه ثوباً، ويرسل طرفيه، ولا يرد أحد طرفيه إلى كتفه الآخر، ولا يضم الطرفين بيديه
(3)
، قال به الحنفية
(4)
، والمالكية
(5)
، وبعض الشافعية
(6)
، والحنابلة
(7)
.
الثاني: السَّدْل هو: إسبال الثوب على الأرض. قال به الشافعية
(8)
، ورواية عند
(1)
السَّدْل في اللغة: مادة (س د ل): السين والدال واللام أصل واحد يدل على نزول الشيء من علو إلى سفل ساتراً له، يُقال منه: أرخى الليل سدوله، وهي ستره، والسَّدْل: إرخاؤك الثوب في الأرض، وشعر منسدل على الظهر، أسدل الثوب: أي: أرخاه وأرسله. يُنظر: الصحاح (5/ 1728)، مقاييس اللغة (3/ 149).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب السَّدْل في الصلاة (1/ 479) برقم:(643)، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية السَّدْل في الصلاة (2/ 217) برقم:(378) من غير زيادة (وأن يغطي الرجل فاه) وقال: «حديث أبي هريرة لا نعرفه من حديث عطاء، عن أبي هريرة مرفوعاً إلا من حديث عِسل بن سفيان» ، وأحمد (13/ 316) برقم:(7934)، صححه ابن خزيمة (1/ 400) برقم:(772)، وابن حبان (6/ 117) برقم:(2353)، وقال الحاكم في (المستدرك) (1/ 384):«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين» ، وذكر الزيلعي في (نصب الراية) (2/ 96): بأن عِسل بن سليمان تابعه سليمان الأحول وعامر الأحول. وقال ابن مفلح في (الفروع)(2/ 57): «رواه أبو داود بإسناد جيد لم يضعفه أحمد» ، وحسّنه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(2/ 1160).
(3)
يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 355).
(4)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 219)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 61).
(5)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 250)، التاج والإكليل (2/ 187).
(6)
يُنظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 125)، تحفة المحتاج (3/ 38).
(7)
يُنظر: المغني (1/ 418) الفروع (2/ 56).
(8)
يُنظر: بحر المذهب (2/ 89)، التهذيب (2/ 141).
الحنابلة
(1)
.
الثالث: أن يلتحف بثوبه، ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك
(2)
.
والمعنى الأول هو المشهور، والذي قال به أكثر الفقهاء، وهو محل البحث في المسألة.
قال ابن تيمية رحمه الله: «والتفسير الأول هو الصحيح، وهو المنصوص عنه»
(3)
-أي عن الإمام أحمد رحمه الله.
أما المعنى الثاني: فهو مخالف لما ذهب إليه أكثر أهل العلم، والذي يظهر أن السَّدْل غير الإسبال، وقد ورد النهي عن الإسبال في أحاديث خاصة، وسيُفرد لاحقاً بمبحث خاص.
والمعنى الثالث: ذكره أهل اللغة، وهو بمعنى: اشتمال الصماء، وكذلك ورد النهي عنه في أحاديث خاصة، ويأتي لاحقاً مبحث خاص به.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم السَّدْل في الصلاة، على قولين:
القول الأول: كراهة السَّدْل في الصلاة.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
القول الثاني: لا بأس بالسَّدْل في الصلاة.
وهو مذهب المالكية
(7)
.
أدلة الأقوال:
(1)
يُنظر: الإنصاف (3/ 247)، كشاف القناع (1/ 275).
(2)
ذكره ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث والأثر)(2/ 355).
(3)
شرح العمدة - كتاب الصلاة (ص: 350).
(4)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 219)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 61).
(5)
يُنظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 125)، تحفة المحتاج (3/ 38).
(6)
يُنظر: المغني (1/ 418)، كشاف القناع (1/ 275).
(7)
يُنظر: عيون المسائل (ص: 160)، البيان والتحصيل (1/ 250).
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ السَّدْل فِي الصَّلَاةِ، وأنْ يُغَطِّيَ الرجلُ فاه))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السَّدْل في الصلاة محمول على الكراهة؛ لعلة التشبه بأهل الكتاب
(2)
.
نُوقش: بأن الحديث ضعيف
(3)
.
يمكن أن يُجاب عنه: بأن الحديث صححه بعض المحدثين وحسنه آخرون، كما تبين في التخريج.
الدليل الثاني: عن علي رضي الله عنه أنه: ((رَأَى قَوْمًا سَادِلِينَ، فَقَالَ: كَأَنَّهُمُ الْيَهُودُ خَرَجُوا مِنْ فُهْرِهِمْ
(4)
(5)
.
وجه الاستدلال: أن أثر علي رضي الله عنه يفيد النهي وكراهة السَّدْل؛ لما فيه من التشبه باليهود
(6)
.
الدليل الثالث: لعل الصارف للنهي عن التحريم ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من الترخص في السَّدْل، من ذلك ما روي:((عن جابر رضي الله عنه أَنَّهُ صَلَّى وَهُوَ مُسْدِلٌ))
(7)
، وقال بعضهم:((رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُسْدِلُ فِي الصَّلَاةِ))
(8)
.
(1)
سبق تخريجه ص: (323).
(2)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 219)، المغني (1/ 418).
(3)
أشار النووي إلى ضعف الحديث لضعف عِسل بن سفيان، فقال في (المجموع) (3/ 178):«عسل بن سفيان: ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري وأبو حاتم وابن عدي» .
(4)
فُهْرُهم: أي: مواضع مدارسهم، وهي كلمة نبطية أو عبرانية عُربت، وأصلها (بهرة) بالباء. يُنظر: الصحاح (2/ 784)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 482).
(5)
أخرجه عبد الرزاق الصنعاني (1/ 364) برقم: (1432)، وابن أبي شيبة (2/ 62) برقم:(6481)، وابن المنذر في (الأوسط)(5/ 58). صححه زكريا غلام في (ما صح من آثار الصحابة في الفقه)(1/ 276).
(6)
يُنظر: الفروع (2/ 57)، كشاف القناع (1/ 275).
(7)
أخرجه ابن المنذر في (الأوسط)(5/ 59).
(8)
أخرجه ابن أبي شيبة: عن عطاء بن السائب، عن محارب (2/ 63) برقم:(6491)، وابن المنذر في (الأوسط)(5/ 59). صححه زكريا غلام في (ما صح من آثار الصحابة في الفقه)(1/ 277).
وجه الاستدلال: أن فِعل الصحابة للسدل دليل على أنهم فهموا أن النهي ليس للتحريم، ولو كان النهي للتحريم لما ترخَّصوا فيه
(1)
، فيُحمل النهي على الكراهة جمعاً بين الأخبار.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أنه لم يثبت النهي، قال ابن المنذر:«لا أعلم فيه حديثاً يثبت»
(2)
.
يمكن أن يُجاب عنه: بأن النهي ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعاً، ومن المحدثين مَنْ صحح الخبر ومنهم مَنْ حسنه.
الدليل الثاني: الآثار التي استدل بها أصحاب القول الأول بأنه رُوي عن بعض الصحابة الترخص في السَّدْل في الصلاة، منهم: جابر بن عبد الله، وابن عمر رضي الله عنهم.
سبب الخلاف:
الذي يظهر -والله أعلم- أن السبب هو اختلافهم في ثبوت حديث النهي، وتعارُض حديث النهي مع بعض الآثار عن الصحابة.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بكراهة السَّدْل في الصلاة.
قال ابن تيمية رحمه الله: «
…
لكن الغرض أن عليا رضي الله عنه شبه السادلين باليهود، مبينا بذلك كراهة فعلهم، فعلم أن مشابهة اليهود: أمر كان قد استقر عندهم كراهته»
(3)
.
سبب الترجيح:
قوة الأدلة، ولأن هذا القول فيه الجمع بين الأدلة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل أصحاب القول الأول النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له القرائن التالية:
(1)
يُنظر: المغني (1/ 418).
(2)
يُنظر: المغني (1/ 418).
(3)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 384).
القرينة الأولى: فِعل بعض الصحابة رضي الله عنهم للمنهي عنه.
جاءت الإشارة إلى ترخص بعض الصحابة في السَّدْل في الصلاة في كتاب (المغني) لابن قدامة رحمه الله حيث قال: «ورُوي عن جابر وابن عمر الرخصة فيه»
(1)
.
القرينة الثانية: المقصد من النهي.
فالنهي عن السَّدْل فيه تحقيق مقصد الصلاة وهو الخشوع والبُعد عما يشغل، وفيه التنزيه عن المشابهة.
(2)
.
وجاء في (مرقاة المفاتيح): «وكراهته لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وحكمته -والله أعلم- اشتغال القلب بمحافظته والاحتياج بمعالجته، ولهذا لو كان أحد طرفيه مغروزاً أو مربوطاً بطرف آخر بحيث لا يخاف عليه من الوقوع، لا يكون مكروهاً»
(3)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة فِعل بعض الصحابة قرينة معتبرة؛ لحمل النهي على الكراهة لا التحريم؛ لعدم المعارض، ولأن فيه الجمع بين الأدلة؛ إذ القول بالإباحة يُشكل مع ورود النهي، وقرينة المقصد من النهي كذلك معتبرة؛ لما فيه من المحافظة على الخشوع وهو المقصود الأعظم للصلاة، والله تعالى أعلم.
(1)
(1/ 418).
(2)
الاختيار لتعليل المختار (1/ 61).
(3)
(2/ 635).
المبحث الرابع:
النهي عن اشتمال الصَّمَّاء
المطلب الأول: حكم اشتمال الصَّمَّاء:
دليل النهي:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
…
الحديث))
(1)
.
وجاء مفسراً في الحديث الآخر عنه رضي الله عنه، قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ:
…
وَاللِّبْسَتَيْنِ: اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ، وَالصَّمَّاءُ: أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ، فَيَبْدُوَ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ،
…
الحديث))
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ
…
، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ،
…
))
(3)
، وفي رواية: ((
…
وَأَنْ يَشْتَمِلَ فِي إِزَارِهِ إِذَا مَا صَلَّى، إِلَّا أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ))
(4)
.
اختلف أهل اللغة والفقهاء في تفسير اشتمال الصماء، على قولين:
فمعناه عند أهل اللغة: اشتمل بثوبه: أي: تلفف به، وهو أن يجلل جسده بالثوب أو بالإزار، ولا يرفع منه جانباً فيكون فيه فرجة تخرج منها يده
(5)
.
وسُميت صماء؛ لأنه يسد على يديه ورجليه المنافذ كلها، فكأنها لا تصل إلى شيء ولا يصل إليها شيء: كالصخرة الصماء التي ليس فيها صَدْع ولا خَرْق
(6)
.
ومعناه عند الفقهاء: هو أن يتغطى بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فتنكشف عورته، وهو بمعنى: الاضطباع بالثوب
(1)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب الاحتباء في ثوب واحد (7/ 148) برقم:(5822)، ورواه مسلم عن جابر رضي الله عنه، كتاب اللباس والزينة، باب فِي منع الاستلقاء على الظهر ووضع إحدى الرجلين على الأخرى (3/ 1661) برقم:(2099).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء (7/ 147) برقم:(5820).
(3)
المصدر نفسه، كتاب الصلاة، باب ما يستر العورة (1/ 82) برقم:(368).
(4)
أخرجه أحمد (13/ 547) برقم: (8251).
(5)
يُنظر: الصحاح (5/ 1741)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 54)، لسان العرب (11/ 368).
(6)
يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 54).
الواحد، ومعنى الاضطباع: أن يضع وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، ويجعل طرفيه على منكبه الأيسر، ويبقى منكبه الأيمن مكشوفاً
(1)
.
قال ابن حجر رحمه الله: «ظاهر سياق المصنف
(2)
…
أن التفسير المذكور فيها مرفوع، وهو موافق لما قال الفقهاء، ولفظه: والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه، وعلى تقدير أن يكون موقوفاً، فهو حجة على الصحيح؛ لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر»
(3)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: «والفقهاء أعلم بالتأويل»
(4)
(5)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(6)
على كراهة اشتمال الصماء على تفسير أهل اللغة، وذلك لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها أو غير ذلك، فيعسر عليه أو يتعذر، فيلحقه الضرر
(7)
.
وكذلك اتفق الفقهاء
(8)
على كراهة اشتمال الصماء على تفسير الفقهاء إن خيف
(1)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 219)، الفواكه الدواني (2/ 311)، البيان (2/ 124)، المغني (1/ 418)، ويُنظر أيضاً: غريب الحديث، للقاسم بن سلام (2/ 118)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 54).
(2)
أي: البخاري رحمه الله.
(3)
فتح الباري (1/ 477).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 418) نقلاً عن أبي عبيد القاسم بن سلام.
(5)
(6)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 164)، الذخيرة (2/ 112)، روضة الطالبين (1/ 289)، المغني (1/ 418).
(7)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 219)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 76)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 477).
(8)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 219)، حاشية ابن عابدين (1/ 652)، البيان والتحصيل (1/ 277)، الذخيرة (2/ 112)، المجموع (3/ 176)، أسنى المطالب (1/ 179)، المغني (1/ 418)، كشاف القناع (1/ 275).
معه انكشاف العورة، فإن كانت العورة تنكشف معه، فيحرم؛ وذلك لوجوب ستر العورة.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «والأصل في ذلك النهي عن كل لبسة ينكشف الرجل فيها حتى يبدو فرجه؛ فإنه لا يحل لأحد كشف فرجه في موضع ينظر إليه آدمي إلا حليلته: امرأته، أو أمته، وهذا أمر مجتمع عليه»
(1)
.
(2)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر أن الفقهاء حملوا النهي على الكراهة؛ لقرينة المقصد من النهي.
(3)
.
فالنهي عن اشتمال الصماء فيه: الاحتياط لستر العورة في الصلاة، وأن اشتمالها بحيث يسد على يديه ورجليه المنافذ كلها فيه ضرر عليه؛ إذ لا يمكنه دفع ما يعرض له، فكان الأرفق به ترك اشتمال الصماء.
جاء في (طرح التثريب): «قوله في الرواية الثانية أيضا إلا أن يخالف بين طرفيه على عاتقه فإنه يدل على أن المعنى الاحتياط للعورة لئلا تنكشف»
(4)
.
قال ابن رشد رحمه الله في (بداية المجتهد): «فصل: فيما يجزئ في اللباس في الصلاة: أما
(1)
الاستذكار (8/ 341).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 76).
(3)
القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 1110).
(4)
(6/ 104).
اللباس: فالأصل فيه قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
(1)
، والنهي الوارد عن هيئات بعض الملابس في الصلاة، وذلك أنهم اتفقوا -فيما أحسب- على أن الهيئات من اللباس التي نُهي عن الصلاة فيها مثل: اشتمال الصماء، وهو: أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء، وسائر ما ورد من ذلك أن ذلك كله سدٌّ لذريعة ألا تنكشف عورته، ولا أعلم أن أحداً قال: لا تجوز صلاة على إحدى هذه الهيئات إن لم تنكشف عورته»
(2)
.
الحكم على القرينة:
يظهر أن قرينة المقصد من النهي قرينة معتبرة؛ لقوة معنى الاحتياط وسد ذريعة الانكشاف، وأن يكون المصلي بأفضل الهيئات، فالقرينة قوية مع عدم ما يعارضها ويقوي جانب التحريم، والله أعلم.
(1)
سورة الأعراف: جزء من الآية (31).
(2)
(1/ 123).
المبحث الخامس:
النهي عن تغطية الوجه أو التلثُّم
المطلب الأول: حكم تغطية الوجه أو التلثُّم
(1)
:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ السَّدْل فِي الصَّلَاةِ، وأنْ يُغَطِّيَ الرجلُ فاه))
(2)
، ولفظ ابن ماجه:((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ فِي الصَّلَاةِ))
(3)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(4)
على أنه يُكره للمصلي تغطية وجهه أو التلثُّم في الصلاة.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم.
وجه الاستدلال: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تغطية الفم يدل على كراهة التلثُّم في الصلاة
(5)
، ويدل على كراهة تغطية الوجه بالتنبيه؛ لاشتماله على تغطية الفم
(6)
.
الدليل الثاني: أن العرب كانوا يتلثمون بالعمائم، فيغطون أفواههم، فنُهوا عنه؛
(1)
المراد بتغطية الوجه: تغطية الأنف والفم، وهو اللِّثَام عند أهل اللغة؛ فاللِّثَام: هو رد المرأة قناعها على أنفها ورد الرجل عمامته على أنفه، وهو النقاب للمرأة، وقيل: اللثام: ما كان على الفم من النقاب، واللِّفام ما كان على الأرنبة. يُنظر: الصحاح (5/ 2026)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 231)، لسان العرب (12/ 533). والمراد بالتلثم عند الحنفية والحنابلة: تغطية الأنف والفم، وعند المالكية: هو تغطية الشفة السفلى باللِّثَام، وعند الشافعية: هو تغطية الفم. يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 164)، المبدع (1/ 331)، شرح مختصر خليل (1/ 250)، أسنى المطالب (1/ 179).
(2)
سبق تخريجه: ص (323).
(3)
أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما يكره في الصلاة (2/ 112) برقم:(966)، صححه ابن خزيمة (1/ 400) برقم:(772)، وابن حبان (6/ 117) برقم:(2353) وفيه ذكر السدل، وحسنه الألباني في (صحيح وضعيف سنن ابن ماجه)(2/ 466).
(4)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 164)، البناية (2/ 446)، المعونة (ص: 1723)، الذخيرة (13/ 264)، المجموع (3/ 179)، أسنى المطالب (1/ 179)، المغني (1/ 419)، المبدع (1/ 331).
(5)
يُنظر: نيل الأوطار (2/ 92).
(6)
يُنظر: كشاف القناع (1/ 276)، شرح منتهى الإرادات (1/ 156).
لأنه يمنع من إتمام القراءة أو إكمال السجود
(1)
.
الدليل الثالث: أنه زي المجوس، فيُكره التشبه بهم
(2)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: «يكره التلثم على الفم؛ لما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه
…
ولأنه تشبه بفعل المجوس في عبادة النيران، ويخاف معه من ترك تجويد القراءة والذكر والدعاء لا سيما والملك يضع فاه على فيه»
(3)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن النهي محمول على الكراهة؛ لقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
وذلك أن النهي فيه الإرشاد إلى التأدب حال الوقوف بين يدي الله سبحانه، والتنزيه عن مشابهة المجوس.
قال النووي رحمه الله: «هذه كراهة تنزيه، لا تمنع صحة الصلاة»
(4)
.
وقد تنوعت أقوال العلماء في ذكر العلة من النهي عن تغطية الفم، ومن ذلك: أن التلثُّم كانت عادة للعرب فنهوا عنه، ومنها: أنه زي المجوس، وقيل: لأن التلثُّم يمنع تحقيق الحروف.
(5)
.
وقال المناوي رحمه الله: «نهى أن يغطى الرجل فاه؛ لأنه من فِعل الجاهلية كانوا يتلثمون بالعمائم، فيغطون أفواههم، فنهوا عنه؛ لأنه ربما منع من إتمام القراءة أو إكمال
(1)
يُنظر: المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 95)، شرح المشكاة، للطيبي (3/ 967).
(2)
يُنظر: البناية (2/ 446)، شرح منتهى الإرادات (1/ 156).
(3)
شرح العمدة - كتاب الصلاة (ص: 358).
(4)
المجموع (3/ 179).
(5)
شرح العمدة - كتاب الصلاة (ص: 357).
السجود»
(1)
.
وجاء في (شرح منتهى الإرادات): «في تغطية الوجه تشبه بالمجوس عند عبادتهم النيران، ولأنه ربما منع تحقيق الحروف»
(2)
.
الحكم على القرينة:
قرينة ورود النهي في باب التنزيه والإرشاد قرينة معتبرة وقوية هنا؛ لاتفاق الفقهاء على حمل النهي على الكراهة، ولعل ما ذكره العلماء من علل النهي معتبرة بمجموعها، ولا يمنع من تعدد العلل؛ ولأن فيها التأدب بالهيئة اللائقة عند الوقوف بين يدي الملك جل جلاله، وهو سبحانه أعلم بالصواب.
(1)
فيض القدير (6/ 315).
(2)
(1/ 156).
المبحث السادس:
النهي عن صلاة الرجل في سراويل وليس عليه رداء
المطلب الأول: حكم صلاة الرجل في سراويل
(1)
وليس عليه رداء
(2)
:
دليل النهي:
عن بريدة رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ فِي لِحَافٍ لَا يَتَوَشَّحُ بِهِ، وَالْآخَرُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي سَرَاوِيلَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ))
(3)
.
صورة المسألة:
في الحديث صورتان: الأولى: أن يصلي الرجل في الثوب الواحد دون توشح أو رداء، فيكون مكشوف المنكبين، وقد بُحثت هذه الصورة في المبحث الأول من هذا الفصل
(4)
. والثانية: أن يصلي الرجل في السراويل وحده دون رداء، وهي محل البحث هنا.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في النهي عن الصلاة في سراويل دون رداء: هل هو للتحريم أو للكراهة؟ على قولين:
القول الأول: أن النهي للكراهة إلا لمَن لا يجد غيره، وإن صلى أجزأته.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(5)
، والمالكية
(6)
، والشافعية
(7)
.
القول الثاني: أن النهي للتحريم.
(1)
السَّرَاوِيل: لباس يغطي السرة والركبتين وما بينهما، يذكر ويؤنث، والجمع السراويلات. يُنظر: الصحاح (5/ 1729)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 475)، المعجم الوسيط (1/ 428).
(2)
الرِّدَاء: هو الثوب أو البُرد الذي يضعه الإنسان على عاتقيه وبين كتفيه فوق ثيابه. يُنظر: الصحاح (6/ 2355)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 217).
(3)
سبق تخريجه: ص (310).
(4)
بعنوان: النهي عن صلاة المصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء. ص (306).
(5)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 219)، تبيين الحقائق (1/ 162).
(6)
يُنظر: المعونة (ص: 231)، البيان والتحصيل (1/ 447).
(7)
يُنظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 124)، أسنى المطالب (1/ 178).
وهو مذهب الحنابلة؛ تخريجاً على قولهم بوجوب ستر العاتق
(1)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: قال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
(2)
.
وجه الاستدلال: أن الزينة مستحبة في الصلاة؛ لأن المصلي يناجي ربه، ويقف بين يدي خالقه، وأهم الزينة ثوبان، والاقتصار على السراويل وحده دون رداء يُكره؛ لأنه وإن حصل به ستر العورة فلم يحصل التجمُّل بالزينة المستحبة
(3)
، و «رُوي عن مالك أنه قال في تفسير ذلك: معناه: لتأخذوا لباسكم عند كل صلاة، قيل له: أفمن ذلك مساجد البيوت؟ قال: نعم»
(4)
.
الدليل الثاني: عن بريدة رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ فِي لِحَافٍ لَا يَتَوَشَّحُ بِهِ، وَالْآخَرُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي سَرَاوِيلَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سراويل من غير رداء محمول على الكراهة والتنزيه؛ لأن السراويل يصف الأعضاء، ولا يتجافى عن البدن، فهو مما يُستقبح من الهيئة في اللباس وإن حصل به ستر العورة
(6)
؛ إذ أقل ما يجزئ الرجلَ في الستر: مئزرٌ أو سراويلُ
(7)
.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ، فَقَالَ: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟ ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ، فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ
(1)
يُنظر: المغني (1/ 415)، الشرح الكبير (3/ 217).
(2)
سورة الأعراف: جزء من الآية (31).
(3)
يُنظر: البيان والتحصيل (2/ 141)، أسنى المطالب (1/ 178).
(4)
البيان والتحصيل (1/ 448).
(5)
سبق تخريجه: ص (310).
(6)
يُنظر: المجموع (3/ 174)، تبيين الحقائق (1/ 162)، فيض القدير (6/ 342).
(7)
يُنظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 124).
اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ
(1)
، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ، وَقَمِيصٍ فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ
(2)
، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ
(3)
وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن استفهام النبي صلى الله عليه وسلم معناه الإخبار عما كان يعلمه من حالهم في العدم وضيق الثياب، فأعلمهم أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة، وظاهره: يقتضي جواز الصلاة في الثوب الواحد، سواء أكان ساتراً لجميع البدن أم لمقدار العورة فقط، سواء أوَضَع بعضه على عاتقه أم لا، كمن يصلى في السراويل وحده.
وقول عمر رضي الله عنه: (إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه
…
)، يدل على ذلك، وأن جمع الثياب في الصلاة اختيار واستحسان؛ لأنه من حسن الهيئة في الصلاة
(5)
.
أدلة القول الثاني:
…
الدليل الأول: حديث بريدة رضي الله عنه الذي استدل به أصحاب القول الأول.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في السراويل وحده يُحمل
(1)
جمع رجل عليه ثيابه: هذا لفظ الخبر، والمراد به الأمر كأنه قال: وسعوا على أنفسكم إذا وسع الله عليكم، واجمعوا عليكم ثيابكم في الصلاة. يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 30)، الاستذكار (8/ 299).
(2)
قَبَاء: -بفتح أوله بالقصر وبالمد-: قبا الشيء قبوا: جمعه بأصابعه. والقباء من الثياب: الذي يلبس مشتق من ذلك لاجتماع أطرافه، والجمع أقبية. وهو من لباس العجم معروف، قيل: هو فارسي معرب، وقيل: عربي مشتق من قبوت الشيء إذا ضممت أصابعك عليه. يُنظر: المطلع على ألفاظ المقنع (ص: 208)، لسان العرب (15/ 168)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 169، 475).
(3)
التُّبَّان -بضم المثناة وتشديد الموحدة-: وهو على هيئة السراويل، لكنه ليس له رجلان، فهو سراويلُ صغيرٌ مقدار شبر يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين. وقد يُتخذ من جلد. يُنظر: الصحاح (5/ 2086)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 181)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 475).
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء (1/ 82) برقم:(365).
(5)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 29)، طرح التثريب (2/ 237).
(6)
سبق تخريجه ص: (306).
على التحريم؛ فالنهي المطلق يفيد التحريم، ولأنها صلاة في ثوب واحد، ليس على عاتقه منه شيء، وستر العاتق واجب وهو ما أفاده الحديث الآخر
(1)
.
نُوقش: أن العاتقين ليسا بعورة في الصلاة، فأشبها بقية البدن، فلا يجب سترهما، وإنما يُستحب
(2)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بكراهة الصلاة في السراويل وحدها.
سبب الترجيح:
قوة الأدلة، ولأن الأفضل والأَوْلى للمصلي أن يكون في أحسن الهيئات وأجمل اللباس عند الوقوف بين يدي الله عز وجل.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر أن الجمهور حملوا النهي على الكراهة لا التحريم؛ لقرينة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
فهذا النهي فيه: الإرشاد إلى الأحسن في أدب اللباس وزينة الصلاة، والتنزيه عما يقبح من الهيئات.
قال الإمام مالك رحمه الله: «ما السراويل من لبس الناس، وإن الحياء من الإيمان»
(3)
.
قال المناوي رحمه الله: «نهى أن يصلي الرجل في سراويل
…
والنهي للتنزيه»
(4)
.
والعلة في ذلك:
أن السراويل تصف الأعضاء، وأن الصلاة فيها وحدها مما يُستقبح، وأنها ليست من ثياب الناس التي يُظهرون إلا أن تكون تحت القميص
(5)
.
«قال أبو حنيفة: الصلاة في السراويل: يشبه فِعل أهل الجفاء، وفي الثوب يتوشح
(1)
يُنظر: إحكام الأحكام (1/ 301)، شرح العمدة، لابن تيمية - كتاب الصلاة (ص: 318).
(2)
يُنظر: المبدع (1/ 322).
(3)
شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 319).
(4)
فيض القدير (6/ 342).
(5)
يُنظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 319).
به: أبعد من الجفاء، وفي قميص ورداء: عادة الناس»
(1)
.
وقال المناوي رحمه الله: «لأن السراويل بمفرده يصف الأعضاء، ولا يتجافى عن البدن، والنهي للتنزيه»
(2)
.
(3)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرينة قوية ومعتبرة؛ لمناسبة ما عُلل به لمعنى الأدب والإرشاد، ويؤيد ذلك أن الصلاة في السراويل تحصل بها الستر الواجب، فلا معنى حينئذ لحمل النهي على التحريم، بل يُحمل على ما دون التحريم، وهو الكراهة؛ لأنه وإن حصل الستر فهو مخل بالزينة المطلوبة للصلاة، وأشرف أحوال الإنسان أن يقف بين يدي ربه للعبادة، فينبغي له أن يتجمل لهذا الموقف العظيم بأجمل الثياب وأحسن الهيئات، والله أعلم.
(1)
الاختيار لتعليل المختار (1/ 45).
(2)
فيض القدير (6/ 342).
(3)
(2/ 141).
المبحث السابع:
النهي عن شد الوسط بما يشبه شد الزُّنَّار
المطلب الأول: حكم شد الوسط بما يشبه شد الزُّنَّار
(1)
:
دليل النهي:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ، لَا أَكُفُّ شَعَراً وَلَا ثَوْباً
(2)
(3)
.
صورة المسألة:
ماحكم أن يصلي المسلم وقد شد وسطه؟ وما الحكم إن كان شد وسطه بخيط
(1)
الزُّنَّار -بضم الزاي وتشديد النون- في اللغة: هو ما على وسط المجوسي والنصراني، حزام يشده النصراني على وسطه، جمعه: زنانير. يُنظر: لسان العرب (4/ 330)، المعجم الوسيط (1/ 403).
وتعريف الفقهاء قريب من تعريف أهل اللغة، فالزُّنَّار عند الفقهاء: هو خيط غليظ فيه ألوان يشد به الذمي وسطه فوق الثياب؛ ليتميز به عن المسلم، وتشده المرأة والخنثى تحت الإزار بحيث يظهر بعضه، ويُمنع أن يُستبدل بشد المناطق والمنديل. يُنظر: الحاوي الكبير (14/ 326)، نهاية المحتاج (8/ 103)، حاشية الدسوقي (4/ 301).
وشد الوسط بالزنار من الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم، والأصل فيه: كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد، فأُلزم به الذمي؛ ليتميز به عن المسلم، فكانت علامة على ذله.
قال ابن تيمية رحمه الله بعد إيراده لهذه الشروط في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم)(1/ 365): «وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مُجمع عليها -في الجملة- بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة» ، وجاء في (حاشية الروض المربع) (1/ 514):«شد الزُّنَّار كان محكوماً به على الذميين، فكانوا يشدون أوساطهم بخيط دقيق، وفيه المثل: الذمي إذا عطس ينقطع زناره، أي: لدقته ولضغط أحشائه» ، وللاستزادة يُنظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (4/ 177)، المجموع (19/ 409)، أحكام أهل الذمة (1/ 492).
(2)
لا أكف شعراً ولا ثوباً: قيل: يُحتمل أن يكون بمعنى المنع: أي: لا أمنعهما من الاسترسال حال السجود؛ ليقعا على الأرض، وقيل: يُحتمل أن يكون بمعنى الجمع: أي: لا يجمعهما ويضمهما. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 190)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (7/ 232)، وذهب الشافعية والمالكية إلى أن شد الوسط والاحتزام من كف الثوب: فمن ذلك ما جاء في (أسنى المطالب)(1/ 163): «قوله: لا أكف: أي: لا أضمهما، فمن ذلك أن يعقص شعره، أو يرده تحت عمامته، أو يشمر ثوبه أو كمه، أو يشد وسطه، أو يغرز عذبته» . ويُنظر: الجامع لمسائل المدونة (2/ 617)، تحفة المحتاج (2/ 162). وستأتي مسألة كف الثوب والشعر في الفصل الخامس من هذا الباب.
(3)
أخرجه البخاري كتاب الأذان، باب لا يكف ثوبه في الصلاة (1/ 163) برقم:(816)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر والثوب
…
(1/ 354) برقم: (490).
مما يشبه شد الزُّنَّار؟
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم شد الوسط في الصلاة، على قولين:
القول الأول: يجوز شد الوسط في الصلاة.
وهو مذهب الحنفية
(1)
، والحنابلة
(2)
، وقيده الحنابلة بما لا يشبه شد الزُّنَّار، فإن كان بما يشبه شد الزُّنَّار فيُكره ولا يختص ذلك بالصلاة.
القول الثاني: يكره شد الوسط في الصلاة
(3)
.
وهو قول عند الحنفية
(4)
، ومذهب المالكية
(5)
، والشافعية
(6)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول: استدلوا على جواز شد الوسط بما يأتي:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْتَزِمَ
(7)
(8)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل عن الصلاة حتى يحتزم، فدل على أن شد الوسط لا يُكره، بل يؤمر به؛ لأنهم كانوا قلَّما يتسرولون، ومَن كان عليه إزار، وكان جيبه واسعاً، ولم يشد وسطه -ربما انكشفت عورته
(9)
.
(1)
يُنظر: البناية (2/ 447)، حاشية الطحطاوي (ص: 368).
(2)
يُنظر: الشرح الكبير (3/ 252)، فتح الباري، لابن رجب (7/ 265)، كشاف القناع (1/ 276).
(3)
ولم يتعرضوا لقيد: كون ما يُشد به يشبه الزنار أم لا. والذي يظهر أن مذهب الحنفية والمالكية والشافعية في شد الوسط بما يشبه الزنار: الكراهة؛ أخذا من قولهم بكراهة التشبه بزي الكفار والأعاجم في مواضع كثيرة. يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 219)، المعونة (ص: 231)، روضة الطالبين (1/ 289).
(4)
يُنظر: البناية (2/ 447)، حاشية ابن عابدين (1/ 640).
(5)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 502)، الفواكه الدواني (1/ 216).
(6)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 163)، تحفة المحتاج (2/ 162).
(7)
يحتزم: أي: يتلبب ويشد وسطه. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 379)، لسان العرب (12/ 131).
(8)
أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (5/ 252) برقم:(3369)، وأحمد (16/ 113) برقم:(10105)، ذكره ابن حجر في (إتحاف المهرة)(16/ 315)، قال الألباني في (الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب) (1/ 298):«وهذا إسناد رجاله ثقات، رجال مسلم غير مولى قريش، فلم يُسمَّ» .
(9)
يُنظر: المغني (1/ 419)، مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (2/ 837).
الدليل الثاني: أن شد الوسط في الصلاة أستر للعورة
(1)
.
واستدل الحنابلة على كراهة شد الوسط بما يشبه الزُّنَّار بعموم أدلة النهي عن التشبه بالكفار:
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))
(2)
.
الدليل الثاني: وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( .. وَلَا تَشْتَمِلُوا كَاشْتِمَالِ الْيَهُودِ))
(3)
.
وجه الاستدلال من الأحاديث: أن الأحاديث تدل على النهي عن التشبه بالكفار، وهو للتحريم فيما كان مختصاً بهم وشعاراً لهم؛ لشدة المشابهة، ويُحمل على الكراهة إذا لم يَقْوَ التشبه: كشد الوسط بما يشبه الزُّنَّار
(4)
، ولأنه لا فرق إلا بما يتميزون به من اللباس
(5)
.
دليل القول الثاني:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ، لَا أَكُفُّ شَعَراً وَلَا ثَوْباً))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً عن كف الثوب بجمعه وضمه، وهو ضد الإرسال، ومن ذلك شد الوسط، فيُكره؛ لأن فيه منع الثوب من السجود معه؛ ولأن فيه تكبراً
(7)
.
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (7/ 265)، كشاف القناع (1/ 276).
(2)
سبق تخريجه: ص (81).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا كان الثوب ضيقاً يتزر به (1/ 473) برقم:(635)، والبيهقي (4/ 225) برقم:(3315)، واللفظ له، وأحمد (10/ 424) برقم:(6356)، وصححه ابن خزيمة (1/ 399) برقم:(769)، وقال الحاكم في (المستدرك) (1/ 383):«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين» ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(1/ 174).
(4)
يُنظر: كشاف القناع (1/ 276)، مطالب أولي النهى (2/ 607).
(5)
يُنظر: الفروع (2/ 58).
(6)
سبق تخريجه: ص (340).
(7)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 163)، تحفة المحتاج (2/ 162).
نُوقش: بأنه لم يرِد نهي عن شد الوسط
(1)
، ودلالة حديث ابن عباس ليست صريحة في منع شد الوسط.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بجواز شد الوسط، فإن كان الشد بما يشبه شد الزُّنَّار فيُكره.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة الأدلة، ولأنه لم يرِد في المنع من شد الوسط دليل صريح.
2 -
أن معنى التشبه بأهل الكتاب يكون في الشد بما يشبه شد الزُّنَّار، وذلك المعنى مفقود في غيره، فلا يُمنع.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
ذهب الحنابلة إلى كراهة شد الوسط بما يشبه الزُّنَّار؛ لقرينة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أن النهي عن مشابهة الكفار بما لا يختص بهم ولم تَقْوَ فيه المشابهة، يُحمل على الكراهة والتنزيه.
قال ابن مفلح رحمه الله في (الفروع): «كراهة شد وسطه بما يشبه الزنار لا يختص بالصلاة كالذي قبله، ذكره غير واحد، لأنه يكره التشبه بالنصارى في كل وقت»
(2)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرينة معتبرة؛ لأن شد الوسط بما يشبه الزنار ليس فيه قوة المشابهة وشدتها كما في لبس الزُّنَّار ذاته، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1)
يُنظر: شرح العمدة، لابن تيمية - كتاب الصلاة (ص: 359).
(2)
(2/ 58).
المبحث الثامن:
النهي عن إسبالِ الرجل شيئاً من ثيابه
المطلب الأول: حكم إسبال
(1)
الرجل شيئاً من ثيابه:
دليل النهي:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الَّذِي يَجُرُّ ثِيَابَه مِنَ الْخُيَلَاءِ
(2)
لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
(3)
.
وعن جابر بن سُلَيْمٍ الْهُجَيْمِيِّ رضي الله عنه
(4)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تحقِرنَّ شيئاً من المعروفِ
…
وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ
(5)
، وَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ
…
))
(6)
.
تحرير محل النزاع:
(1)
الإِسْبَال في اللغة: هو الإرخاء والإرسال، يُقال: أسبل فلان ثيابه: إذا طولها وأرسلها إلى الأرض إذا مشى، وإنما يفعل ذلك كبراً واختيالاً. يُنظر: الصحاح (5/ 1723)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 339)، لسان العرب (11/ 321)، والإسبال في الشرع: إطالة الثوب إلى ما تحت الكعبين، ويكون في عامة الثياب، فيدخل فيه الإزار والرداء والقميص والسراويل والجبة والقباء وغير ذلك مما يُسمى ثوباً، يُنظر: الاستذكار (8/ 310)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 62)، فتح الباري، لابن رجب (2/ 360)، عمدة القاري (21/ 295).
(2)
الخُيَلَاء: العجب والكبر، تقول منه: اختال فهو ذو خيلاء، وذو خال، وذو مخيلة،، أي: ذو كبر. يُنظر: الصحاح (4/ 1691)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 93)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 60).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم جر الثوب خيلاء، وبيان حد ما يجوز إرخاؤه إليه وما يُستحب (3/ 1652) برقم:(2085).
(4)
هو: جابر بن سُلَيْمٍ، أو سُلَيْمٍ بن جابر الْهُجَيْمِيِّ، أبو جري -بالتصغير- صحابي جليل روى عدة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يُنظر: الإصابة (3/ 140)، تقريب التهذيب (ص: 136).
(5)
المَخِيلَة: الكبر. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 93)، لسان العرب (11/ 228).
(6)
أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار (6/ 181) برقم:(4084)، والترمذي، أبواب الاستئذان والآداب، باب ما جاء في كراهية أن يقول:«عليك السلام» مبتدئاً (5/ 72) برقم: (2722)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» ، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الزينة، موضع الإزار (8/ 431) برقم:(9611)، وأحمد (34/ 237) برقم:(20635)، وصححه ابن حبان (2/ 279) برقم:(521)، وحسَّن إسناده النووي في (رياض الصالحين) (ص: 259)، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(1/ 81).
أولاً: أجمع العلماء
(1)
على جواز الإسبال للمرأة، وحدَّه النبي صلى الله عليه وسلم بألا يزيد عن الذراع.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: يُرْخِينَ شِبْراً، فَقَالَتْ: إِذاً تَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعاً لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ))
(2)
.
قال النووي رحمه الله: «أجمع العلماء على جواز الإسبال للنساء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن لهن في إرخاء ذيولهن ذراعاً، والله أعلم»
(3)
.
ثانياً: الإسبال: إما أن يكون للخيلاء، أو يكون لغير الخيلاء.
فأما الإسبال للخيلاء: فقد اتفق الفقهاء
(4)
على تحريمه مطلقاً، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب
(5)
، وذلك للأدلة الكثيرة التي ورد فيها الوعيد الشديد لمَن أسبل لباسه خيلاء، منها:
1 -
أحاديث ابن عمر رضي الله عنه المتقدمة.
2 -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللهِ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَامٍ
(6)
(7)
.
(1)
نقل الإجماع: القاضي عياض في (إكمال المعلم)(6/ 598)، والنووي في (المنهاج)(14/ 62)، والطيبي في (شرح المشكاة)(9/ 2893).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في قدر الذيل (6/ 207) برقم:(4117)، والترمذي، أبواب اللباس، باب ما جاء في جر ذيول النساء (4/ 223) برقم:(1731) واللفظ له، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» ، وابن ماجه، أبواب اللباس، باب ذيل المرأة كم يكون؟ (4/ 588) برقم:(3580)، وأحمد (8/ 72) برقم:(4489)، صحح إسناده المناوي في (فيض القدير)(6/ 113).
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 62)، وحكى مثله الطيبي في (شرح المشكاة)(9/ 2893).
(4)
يُنظر: الفتاوى الهندية (5/ 333)، الفواكه الدواني (2/ 310)، حاشية العدوي (2/ 452)، المجموع (4/ 454)، أسنى المطالب (1/ 278)، المغني (1/ 418)، الفروع (2/ 59).
(5)
يُنظر: الفروع (2/ 59)، فتح الباري، لابن حجر (10/ 263)، الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 259).
(6)
في حل ولا حرام: قال السندي: «أي: في أن يجعله في حل من الذنوب وهو أن يغفر له، ولا في أن يمنعه ويحفظه من سوء الأعمال، أو في أن يحل له الجنة وفي أن يحرم عليه النار، أو ليس هو في فعل حلال ولا له احترام عند الله تعالى، والله تعالى أعلم» . فتح الودود في شرح سنن أبي داود (1/ 404).
(7)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإسبال في الصلاة (1/ 474) برقم:(637) قال أبو داود: «روى هذا جماعةٌ عن عاصم موقوفاً على ابن مسعود، منهم حمَّاد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأبو الأحوص، وأبو معاوية» ، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الزينة، باب التغليظ في جر الإزار (8/ 428) برقم:(9600)، واللفظ له، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (5/ 124):«رواه الطبراني ورجاله ثقات» ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(2/ 1040).
3 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً
(1)
(2)
.
وجه الاستدلال: أن ظاهر هذه الأحاديث صريح في الدلالة على تحريم إسبال اللباس للخيلاء مطلقاً في الصلاة وفي غيرالصلاة، وأنه كبيرة؛ لتوعُّد فاعله بالوعيد الشديد من الله تعالى، وقوله (مَنْ) تفيد العموم للرجال والنساء
(3)
.
وأما إن كان الإسبال لغير الخيلاء: فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: التحريم.
وهو قول عند المالكية
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(5)
.
القول الثاني: الكراهة.
وهو مذهب الحنفية
(6)
، والمالكية
(7)
، والشافعية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ
(1)
البَطَر: وهو تجاوز الحد في المرح، والطغيان عند النعمة وطول الغنى. ومن معانيه: التبختر. يُنظر: مقاييس اللغة (1/ 262)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 135)، لسان العرب (4/ 69).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء (7/ 141) برقم:(5788)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم جر الثوب خيلاء (3/ 1653) برقم:(2087).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 263)، شرح المشكاة (9/ 2893)، نيل الأوطار (2/ 132).
(4)
يُنظر: المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 294)، الفواكه الدواني (2/ 310).
(5)
يُنظر: الآداب الشرعية (3/ 521)، الإنصاف (3/ 255).
(6)
يُنظر: الفتاوى الهندية (5/ 333).
(7)
يُنظر: المنتقى شرح الموطأ (7/ 226)، حاشية العدوي (2/ 453).
(8)
يُنظر: المجموع (4/ 454)، أسنى المطالب (1/ 278).
(9)
يُنظر: المغني (1/ 418)، الشرح الكبير (3/ 253).
الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ))
(1)
.
الدليل الثاني: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، فَمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ
(2)
، لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً))
(3)
.
الدليل الثالث: حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ
(4)
، وَلَا يُزَكِّيهِمْ
(5)
، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ
(6)
، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ))
(7)
.
وجه الاستدلال من الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن في الحديثين -الأول والثاني- أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين مُتوعَّد بالنار، ولم يقيده بالخيلاء، فدل ظاهر الأحاديث على أن هذا الاسبال محرم مطلقاً، سواء كان للخيلاء أم لغير الخيلاء؛
(1)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار (7/ 141) برقم:(5787).
(2)
قال الخَطَّابي: «قوله: «فهو في النار» يُتأول على وجهين، أحدهما: أن ما دون الكعبين من قدم صاحبه في النار عقوبةً له على ما فعله، والوجه الآخر: أن يكون معناه: أن صنيعه ذلك وفِعله الذي فعله في النار، على معنى أنه: معدود ومحسوب من أفعال أهل النار، والله أعلم». معالم السنن (4/ 197).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في قدر موضع الإزار (6/ 191) برقم:(4093)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الزينة، إسبال الإزار
…
(8/ 438) برقم: (9632) واللفظ له، وابن ماجه، أبواب اللباس، باب موضع الإزار أين هو؟ (4/ 583) برقم:(3573)، وأحمد (17/ 52) برقم:(11010)، صححه ابن حبان (12/ 262) برقم:(5446)، وصحح إسناده النووي في (رياض الصالحين) (ص: 260).
(4)
لا ينظر إليهم: معنى كون الله تعالى لا ينظر إليه أي: لا يرحمه ولا ينظر إليه نظر رحمة، ونظره سبحانه لعباده رحمته لهم ولطفه بهم. يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 61)، طرح التثريب (8/ 171).
(5)
لا يُزَكِّيهم: زكى: الزاء والكاف والحرف المعتل أصل راجع إلى معنيين، وهما النماء والطهارة. والمراد: لا يطهرهم من الذنوب، أو لا يثني عليهم. يُنظر: مقاييس اللغة (3/ 17)، فيض القدير (3/ 329).
(6)
المَنَّان: الذي لا يعطي شيئاً إلا منة، واعتد به على مَنْ أعطاه. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 366)، لسان العرب (13/ 418)، فيض القدير (3/ 329).، وذكر الخطابي في (معالم السنن) (4/ 195) أن المنان يُتأول على وجهين: أحدهما: من المنة وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة وأفسدتها، والوجه الآخر: أن يُراد بالمن: النقص، يريد بالنقص من الحق والخيانة في الوزن والكيل ونحوهما.
(7)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمنِّ بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف (1/ 102) برقم:(106).
لأن الحرام يوجب النار في الآخرة
(1)
، وفي الحديث الثالث بيّن أن المسبل مُتوعَّد بما ذُكر من الوعيد الشديد من الله، وكل ما تُوعِّد عليه بالوعيد الشديد فهو حرام.
نُوقش: أن هذا الإطلاق في هذه الأحاديث محمول على الأحاديث المقيدة بالخيلاء كحديث ابن عمر: ((مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
(2)
، وحديث أبي هريرة:((لَا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً))
(3)
فالتقييد يدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء
(4)
.
أُجيب عنه بجوابين:
الأول: أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقاً، سواء كان عن مخيلة أم لا، فسألت عن حكم النساء في ذلك؛ لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة .... وأقرها صلى الله عليه وسلم على فهمها، لكنه بيَّن لها أنه عام مخصوص؛ لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال
(5)
.
الثاني: أن الإسبال مظنة الخيلاء، ذلك أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء
(6)
، فلا يصح التقييد بقصد الخيلاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ) فهذا نص صريح أن الإسبال من المخيلة.
(7)
.
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 263)، نيل الأوطار (2/ 135).
(2)
سبق تخريجه: ص (345).
(3)
سبق تخريجه: ص (345).
(4)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 62)، فتح الباري، لابن حجر (10/ 263).
(5)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 259).
(6)
يُنظر: المصدر نفسه (10/ 264).
(7)
(10/ 264) نقله ابن حجر عن ابن العربي.
وجاء في (الفواكه الدواني): «الذي يظهر أن الجر من الرجل مظنة البطر والعجب، فيحرم في حقه ذلك، ولو تجرد عن ذلك القصد»
(1)
.
الدليل الرابع: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي إِزَارِي اسْتِرْخَاءٌ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ، ارْفَعْ إِزَارَكَ، فَرَفَعْتُهُ ثُمَّ قَالَ: زِدْ، فَزِدْتُ، فَمَا زِلْتُ أَتَحَرَّاهَا
(2)
بَعْدُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: أَنْصَافِ السَّاقَيْنِ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على ابن عمر استرخاء إزاره، وأَمَره برفعه، فدل إنكاره صلى الله عليه وسلم على تحريم الإسبال؛ لأنه مظنة الخيلاء.
الدليل الخامس: عن جابر بن سُلَيْمٍ الْهُجَيْمِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تحقِرنَّ شيئاً من المعروفِ
…
وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ
…
))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث: دليلاً على النهي، والتحذير من الإسبال مطلقاً، وعدم اعتبار التقييد بالخيلاء، وصرح صلى الله عليه وسلم أن الإسبال من المخيلة المحرمة، وذلك أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء
(5)
، وقوله:(وَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ): ضربٌ من التوعد على الاختيال
(6)
.
أدلة القول الثاني:
استدلوا بالأحاديث السابقة التي وردت بالنهي عن الإسبال مطلقاً والأحاديث المقيدة بمَن أسبل للخيلاء.
وجه الاستدلال من الأحاديث: قالوا أن الأحاديث المطلقة في الإسبال يجب حملها على المقيدة بالخيلاء، فالتقييد بالخيلاء يدل على أن التحريم مخصوص
(1)
(2/ 310).
(2)
أَتَحَرَّاها: يتحرى الأمر أي يقصده، أتحراها أي: أقصد الهيئة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأحافظ عليها، ويعني بها: إزرته إلى نصف ساقيه. يُنظر: مقاييس اللغة (2/ 47)، المفهم (5/ 407).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم جر الثوب خيلاء (3/ 1653) برقم:(2086).
(4)
سبق تخريجه: ص (344).
(5)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 264)، نيل الأوطار (2/ 133).
(6)
يُنظر: شرح سنن أبي داود، لابن رسلان (16/ 327).
بالخيلاء، وأما إن كان لغير الخيلاء فيحمل النهي على الكراهة
(1)
.
نوقش من وجهين (وهو ماجاء في جواب مناقشة أدلة القائلين بالتحريم).
واستدلوا على حمل النهي على الكراهة إن لم يقصد الخيلاء، بأدلة الترخص فيه:
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص لأبي بكر في ذلك؛ إذ كان جَرُّه لغير الخيلاء، وأن قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:(لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ): فيه تصريح بأن مناط التحريم الخيلاء، وأن الإسبال قد يكون للخيلاء، وقد يكون لغيره
(3)
.
نُوقش من وجهين
(4)
:
الأول: بأنه ورد في الحديث ما يفيد أن أبا بكر رضي الله عنه لم يسبل إزاره قصداً؛ وإنما كان يشده على قدره، ولكن أحد شقي إزاره كان يسترخي عرَضاً، فكأنّ شده كان ينحل إذا تحرك بمشي أو غيره بغير اختياره لنحافة جسمه؛ ولذلك كان يتعاهده، فإذا سقط إزاره جَرَّه، فرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وعذره.
الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ): فيه أنه لا حرج على مَنْ انجر إزاره بغير قصده مطلقاً.
الدليل الثاني: استدلوا بأثرٍ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه ترخص في الإسبال:
فعن ابن مسعود رضي الله عنه: ((أنه كان يسبل إزاره، فقيل له في ذلك، فقال: إني رجل حَمْشُ
(5)
الساقين))
(6)
.
نُوقش: بأن فِعل ابن مسعود رضي الله عنه محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب،
(1)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (2/ 116)، (14/ 62 - 63).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب من جر إزاره من غير خيلاء (7/ 141) برقم:(5784).
(3)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (2/ 116)، نيل الأوطار (2/ 133).
(4)
يُنظر: معالم السنن (4/ 196)، فتح الباري، لابن حجر (10/ 255)، (10/ 263).
(5)
حَمْشُ الساقين: أي: دقيقهما. يُنظر: الصحاح (3/ 1002)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 440).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 166) برقم: (24816)، حسن إسناده ابن حجر في (فتح الباري)(10/ 264).
وهو أن يكون إلى نصف الساق، ولا يُظن به أنه جاوز به الكعبين، والتعليل يرشد إليه، أي أنه: أسبل إلى الكعبين، وهو ما يغطي حَمْشَ الساقين
(1)
.
سبب الخلاف:
الذي يظهر -والله أعلم- أن سبب الخلاف هو اختلافهم في مناط الحكم: هل هو مطلق الإسبال وتجاوز الحد المشروع أو أن مناط الحكم هو ما ورد من تقييد الإسبال بالخيلاء في بعض الأحاديث؟ فمَن قال بأن مناط الحكم التقييد بالخيلاء قال بكراهة الإسبال لغير الخيلاء، ومَن قال أن مناط الحكم هو الاسبال قال بتحريم الإسبال مطلقاً، ويمكن أن يُعبر عنه بالخلاف في حمل المطلق على المقيد.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول بتحريم الإسبال وإن كان لغير الخيلاء، وهو عام في جميع الأحوال سواء كان في صلاة أو لا.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة أدلة التحريم وعمومه.
2 -
ضعف استدلال أصحاب القول الثاني، وورود المناقشات عليها.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين مما سبق أن أصحاب القول الثاني حملوا النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له عن التحريم:
قرينة: ورود النص بالرخصة لمَن لا يفعله خيلاء:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص لأبي بكر رضي الله عنه وبيَّن أن علة الوعيد الشديد فِعله للخيلاء.
قال النووي رحمه الله: «رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال: لست منهم؛ إذ كان جره لغير الخيلاء»
(2)
.
قال النووي رحمه الله: «فما نزل عن الكعبين فهو ممنوع، فإن كان للخيلاء فهو ممنوع
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 264).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم (2/ 116).
منع تحريم، وإلا فمنع تنزيه»
(1)
.
وقال الطيبي رحمه الله: «فإن كان للخيلاء فهو ممنوع منع تحريم، وإلا فمنعُ تنزيه»
(2)
.
الحكم على القرينة:
القرينة النصية من القرائن القوية الصارفة للنهي عن التحريم في حال ثبوتها وصحتها وعدم المعارض لها، لكنَّ القرينة النصية هنا يُعترض عليها بأن دلالتها ضعيفة؛ لأنها ليست في محل النزاع وهو قصد الإسبال، وإنما وردت فيمَن استرخى إزاره عرضاً ولم يتركه، بل تعاهد رفعه؛ ولذلك لا تصلح قرينة لحمل النهي على الكراهة. والنهي ورد مؤكداً بالوعيد الشديد فيمَن أسبل ثوبه قصداً مما قَوَّى جانب بقاء النهي على مقتضاه -التحريم-سواء قصد الخيلاء أو لا، والله أعلم.
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 63).
(2)
شرح المشكاة (9/ 2893).
الفصل الخامس
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب آداب المشي إلى الصلاة
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن تشبيك اليدين عند الذهاب إلى المسجد.
المبحث الثاني: النهي عن الاستعجال أثناء المشي إلى الصلاة.
المبحث الثالث: النهي عن المشي في نعل واحدة.
المبحث الرابع: النهي عن الانتعال قائماً.
المبحث الخامس: النهي عن وَضْع النعل عن يمينه أو عن يساره في المسجد.
المبحث الأول:
النهي عن تشبيك اليدين عند الذهاب إلى المسجد
المطلب الأول: حكم تشبيك اليدين
(1)
عند الذهاب إلى المسجد:
دليل النهي:
عن كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه
(2)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ؛ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ))
(3)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم تشبيك اليدين عند الذهاب إلى المسجد، على قولين:
القول الأول: كراهة التشبيك.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
القول الثاني: لا يُكره التشبيك.
(1)
الشَّبْك في اللغة: الخلط والتداخل، ومنه: تشبيك الأصابع. يُنظر: الصحاح (4/ 1593)، لسان العرب (10/ 446)، وفي الاصطلاح: أن يُدخِل الشّخص أصابع إحدى يديه بين أصابع الأخرى. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 441)، حاشية ابن عابدين (1/ 642).
(2)
هو: كَعْبُ بن عُجْرَة بن أُمَيَّة بن عَديّ بن عُبَيد البلويّ، حليف الأنصار، صحابي، يُكنى أبا محمد، استأخر إسلامه، ثم أسلم، وشهد المشاهد، وهو الذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة في حلق رأس المحرم والفدية، حدَّث بالكوفة وبالبصرة، وتُوفي بالمدينة سنة 52 هـ، قال بعضهم: وهو ابن خمس، وقيل: سبع وسبعين سنة. يُنظر: سير أعلام النبلاء (3/ 52)، تهذيب التهذيب (8/ 435)، الإصابة (5/ 448).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الهدي في المشي إلى الصلاة (1/ 421) برقم:(562)، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية التشبيك بين الأصابع في الصلاة (2/ 228) برقم:(386)، وأحمد (30/ 28) برقم:(18103)، ضعف إسناده النووي في (المجموع)(4/ 544)، وقال ابن حجر في (فتح الباري) (1/ 566):«في إسناده اختلاف ضعَّفه بعضهم بسببه» ، وصححه ابن حبان من رواية عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن كعب (5/ 524) برقم:(2150)، وقال الطحاوي في (شرح مشكل الآثار) (14/ 196):«لا نعلم في هذا الباب عن كعب أحسن من هذا الحديث» ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(1/ 139)، وله شواهد، منها: حديث أبي هريرة، وسيأتي عند ذِكر الأدلة؛ فلعل الحديث يتقوى بمجموع طرقه وشواهده، والله أعلم.
(4)
يُنظر: النهر الفائق (1/ 279)، حاشية ابن عابدين (1/ 641).
(5)
يُنظر: المجموع (4/ 544)، مغني المحتاج (1/ 566).
(6)
يُنظر: الشرح الكبير (3/ 394)، كشاف القناع (1/ 325).
وهو مذهب المالكية
(1)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن العامد إلى الصلاة أُلحق بمَن كان في الصلاة، وذلك إشارة إلى أنه ينبغي له أن يتأدب بآداب المصلين: فيترك العبث، ولا يشبك في الصلاة، كذلك في طريق الصلاة، فيُستدل به على كراهة تشبيك الأصابع في طريقه إلى المسجد؛ لأنه من العبث الذي يتنافى مع السكينة المطلوبة في الصلاة، وفي المشي إلى الصلاة
(3)
.
الدليل الثاني: عن كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ؛ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ)).
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَا يَقُلْ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن في الأحاديث نهياً عن التشبيك حال الذهاب إلى المسجد للصلاة، ويُحمل على الكراهة؛ للتعليل بقوله (فِي صَلَاةٍ) فإن مَنْ قصد الصلاة فكأنما هو في الصلاة حكماً وحصول الأجر، فيُؤمر بالتأدب بآداب الصلاة وترك العبث؛ تنزيهاً له عن مخالفة هيئة المصلي
(5)
.
قال الشافعي رحمه الله: «وإذا مشى على سَجِيَّة مشيه كَرهتُ أن يشبك بين أصابعه؛ لأنه
(1)
يُنظر: شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 292)، حاشية الدسوقي (1/ 254).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (1/ 421) برقم:(602).
(3)
يُنظر: بحر المذهب (2/ 414)، المجموع (4/ 544).
(4)
أخرجه ابن خزيمة (1/ 258) برقم: (447)، وابن حبان (5/ 523) برقم:(2149)، والحاكم (1/ 324) برقم:(744)، وقال:«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» ، وصحَّحه الألباني في (إرواء الغليل)(2/ 101).
(5)
يُنظر: شرح المصابيح (2/ 62)، طرح التثريب (2/ 358)، فيض القدير (1/ 321).
في حكم المصلي في الثواب»
(1)
.
نُوقش من وجهين:
الأول: أن حديث كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه في إسناده ضعف
(2)
.
يُمكن أن يُجاب عنه: بعدم التسليم؛ فقد تبيَّن في التخريج أن حديث كعب بن عُجْرَة وإن ضُعف من طريق فقد صححه ابن حبان من أحد طرقه، وله شواهد يتقوى بها، منها: حديث أبي هريرة.
قال الطحاوي: «لا نعلم في هذا الباب عن كعب أحسن من هذا الحديث»
(3)
.
وعلى فرض التسليم بضعف الحديث: فقد ذكر النووي وغيره أن حديث أبي هريرة الذي عند مسلم -الدليل الأول- هو المعتمد في الاستدلال على المسألة
(4)
.
الثاني: أن هذه الأحاديث معارضة بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شبك بين أصابعه في المسجد: من حديث أبي موسى رضي الله عنه، وفي قصة ذي اليدين
(5)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ترجم البخاري على هذين الحديثين بجواز تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ولعل مراده جواز التشبيك مطلقاً؛ لأنه إذا جاز فِعله في المسجد ففي غيره أولى بالجواز
(6)
.
وأحاديث النهي غير مقاومة لهذين الحديثين في الصحة ولا مساوية؛ لأنهما في الصحيحين، فيترجح الجواز وعدم الكراهة
(7)
.
(1)
كفاية النبيه في شرح التنبيه (4/ 378).
(2)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 364)، المجموع (4/ 544)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 566).
(3)
شرح مشكل الآثار (14/ 195).
(4)
يُنظر: المجموع (4/ 544)، النجم الوهاج (2/ 501).
(5)
هو: الخِرْبَاقُ السُّلَمِي، كان ينزل بذي خشب من ناحية المدينة، اشتُهر بذي اليدين، له صحبة، عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين، وشهد أبو هريرة يوم ذي اليدين، وهو الراوي لحديثه، وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد بدر بأعوام، فهذا يبين أن ذا اليدين الذي راجع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ في شأن الصلاة ليس بذي الشِّمالَين. يُنظر: الاستيعاب (2/ 475)، أسد الغابة (2/ 162)، الإكمال في ذِكر مَنْ له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال (ص: 133).
(6)
يُنظر: الكواكب الدراري (4/ 141)، فتح الباري، لابن حجر (1/ 566)، عمدة القاري (4/ 261).
(7)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 125)، نيل الأوطار (2/ 387).
والجواب عنه سيأتي عند مناقشة أدلة القول الثاني.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ))
(1)
.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي المَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ
…
الحديث))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن حديث أبي موسى يدل على جواز التشبيك مطلقاً، وحديث أبي هريرة يدل على جوازه في المسجد، وإذا جاز في المسجد فهو في غيره أجوز
(3)
، وفيه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم شبك أصابعه بعد الصلاة في ظنه صلى الله عليه وسلم، فهو في حكم المنصرف عن الصلاة؛ فدل على أن التشبيك لا يكره إلا في الصلاة. وهذه الأحاديث معارضة لأحاديث النهي وأصح منها فالقول بالجواز أرجح
(4)
.
نُوقش (وهو جواب الوجه الثاني من مناقشة الدليل الثالث للقول الأول): بأنه لا تعارض بين هذه الأحاديث وأحاديث النهي، وأنه يمكن الجمع بينها
(5)
، وللعلماء في الجمع بين هذه الأحاديث أوجه، منها:
1 -
أن النهي محمول على التشبيك للعبث، والجواز إن كان لغير العبث، بل لقصد من المقاصد الصحيحة
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره (1/ 103) برقم:(481)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (4/ 1999) برقم:(2585).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره (1/ 103) برقم:(482)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1/ 403) برقم:(573).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 566)، عمدة القاري (4/ 261).
(4)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 364)، نيل الأوطار (2/ 387).
(5)
يُنظر: المتواري على أبواب البخاري (ص: 90)، فتح الباري، لابن رجب (3/ 423).
(6)
يُنظر: الكواكب الدراري (4/ 141)، حاشية ابن عابدين (1/ 642).
قال ابن المُنَيِّر رحمه الله
(1)
(2)
.
2 -
أن النهي والكراهة إنما هي في حق المصلي وقاصد الصلاة، وتشبيك النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين كان بعد سلامه من الصلاة، فلا معارضة إذاً
(3)
.
قال ابن حجر رحمه الله: «ويُجمع بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة أو قاصداً لها؛ إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي، وأحاديث الباب الدالة على الجواز خالية عن ذلك»
(4)
.
3 -
أن أحاديث تشبيكه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين تفيد عدم التحريم، ولا تمنع الكراهة لغيره؛ لكون فعله نادراً، أي: لبيان الجواز
(5)
.
قال الشوكاني رحمه الله: «يُجمع بما ذكره المصنف
(6)
من أن فِعله صلى الله عليه وسلم لذلك نادراً يرفع التحريم، ولا يرفع الكراهة»
(7)
.
(1)
هو: أحمد بن محمد بن منصور بن القاسم بن مختار القاضي، أبو العباس، ناصر الدين ابن المُنَيِّر الإسكندراني، وُلد سنة 620 هـ، وكان عالماً فاضلاً، برع في: الفقه، والأصول، والنظر، والعربية، والبلاغة، ولي قضاء الإسكندرية وخطابتها مرتين، ودرَّس بعدة مدراس، وله مصنفات مفيدة، منها:«تفسير القرآن» و «الانتصاف من الكشاف» و «أسرار الإسراء» و «مناسبات تراجم البخاري» طُبع كتابه هذا باسم: «المتواري» ، تُوفي سنة 683 هـ. يُنظر: الوافي بالوفيات (8/ 84)، شذرات الذهب (7/ 666).
(2)
المتواري على أبواب البخاري (ص: 90).
(3)
يُنظر: المجموع (4/ 545)، عمدة القاري (4/ 261).
(4)
فتح الباري، لابن حجر (1/ 566). نقله عن الإسماعيلي.
(5)
يُنظر: مرقاة المفاتيح (2/ 788).
(6)
يُقصد به صاحب (منتقى الأخبار): أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني المعروف بابن تيمية، وهو جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله جميعاً).
(7)
نيل الأوطار (2/ 388)، وتعقَّب الشوكاني هذا الوجه في الجمع: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل المكروه، فقال:«ولكن يبعد أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما كان مكروهاً، والأَولى أن يُقال: إن النهي عن التشبيك ورد بألفاظ خاصة بالأمة، وفِعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض قوله الخاص بهم كما تقرر في الأصول» ، ويمكن أن يُجاب عنه بالآتي: أولاً: «لا يُتصور منه صلى الله عليه وسلم وقوع مكروه، فإنه إذا فعل شيئاً وكان مكروهاً في حقنا، فليس بمكروه منه؛ لأنه يفيد به التشريع وبيان الجواز» . قاله الزركشي في (تشنيف المسامع)(2/ 903). ثانياً: يُجاب عن قوله: فِعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض قوله الخاص بهم: أولاً: أن الأصل مشاركة الأمة له في الأحكام إلا ما دل دليل على تخصيصه به صلى الله عليه وسلم، وأننا متعبَّدون بالتأسي به في فِعله صلى الله عليه وسلم. ثانياً: أن مسألة تعارُض الفعل والقول من المسائل المختلف فيها بين الأصوليين، ولهم فيها مذاهب بحسب أحوال الفعل وأوصافه، وهذه القاعدة التي أوردها مُختلَف فيها. يُنظر: التمهيد (2/ 313)، الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (1/ 186)، البحر المحيط (6/ 52).
سبب الخلاف:
السبب في اختلافهم: تعارض ظاهر أحاديث النهي عن التشبيك مع أحاديث تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين يديه، واختلافهم في صحة حديث النهي.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بكراهة تشبيك الأصابع عند الذهاب إلى المسجد.
أسباب الترجيح:
1 -
أن خطاب النهي عن التشبيك حال الذهاب إلى المسجد للصلاة، ورد بطلب الترك من غير جزم ولا وعيد، وذلك يفيد الكراهة
(1)
.
2 -
أنه القول الذي به تجتمع الأدلة، وفيه إعمال للأحاديث جميعاً.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين فيما سبق أن أصحاب القول الأول حملوا النهي على الكراهة لا التحريم، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيه فِعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز.
أشار العلماء إلى أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه شبَّك بين أصابعه في المسجد، جاء لبيان الجواز، فكانت هذه الأحاديث قرينة صارفة:
الأول: حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ))
(2)
.
الثاني: قصة ذي اليدين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي المَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ
(1)
لأن الخطاب إن ورد باقتضاء الترك لا مع الجزم، فهو للكراهة. يُنظر: شرح مختصر الروضة (1/ 262)، التحبير شرح التحرير (2/ 808).
(2)
سبق تخريجه: ص (357).
يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ
…
الحديث))
(1)
.
قال الزركشي رحمه الله: «حديث كعب بن عُجْرَة محمول على الكراهية، وحديث ذي اليدين على الجواز، وفِعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بياناً للجواز لم يكن مكروهاً»
(2)
.
جاء في (مرقاة المفاتيح): «فالنهي محمول على الكراهة؛ لما ثبت في حديث ذي اليدين أنه عليه السلام شبَّك أصابعه، وذلك يفيد عدم التحريم، ولا يمنع الكراهة، أي: لغيره؛ لكون فِعله نادراً، أي: لبيان الجواز»
(3)
.
وقال الشوكاني رحمه الله: «وظاهر النهي عن التشبيك: التحريم، لولا حديث ذي اليدين»
(4)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
قال المناوي رحمه الله: «التشبيك من هيئات التصرفات الاختيارية، والصلاة تُصان عن ذلك، مع أن التشبيك جالب للنوم، وهو مظنة للحدث؛ فلذلك كُره تنزيهاً»
(5)
.
وتعددت أقوال أهل العلم في العلة من النهي عن تشبيك اليدين، ومما ذكروه
(6)
:
الأول: لما في التشبيك من العبث المخالف لهيئة الصلاة.
الثاني: لأنه يجلب النوم، وهو من مظان الحدث.
الثالث: أن صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف.
الرابع: لكونه من الشيطان، أو فيه التشبه بالشيطان.
الحكم على القرينة:
القرينة النصية من أقوى القرائن الصارفة، وتزداد قوة بثبوتها وصحتها، ولكونها جاءت في بيان الرخصة والجواز، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة؛ لاعتضاد هذه القرينة بما قبلها، ولاعتبار ما جاء فيها من المعاني؛ فهي معاني مناسبة لحمله على التنزيه، والله أعلم.
(1)
سبق تخريجه: ص (357).
(2)
إعلام الساجد بأحكام المساجد (ص: 333).
(3)
(2/ 788).
(4)
نيل الأوطار (2/ 387).
(5)
فيض القدير (1/ 321).
(6)
يُنظر: معالم السنن (1/ 162)، عمدة القاري (4/ 262)، فيض القدير (1/ 321).
المبحث الثاني:
النهي عن الاستعجال أثناء المشي إلى الصلاة
المطلب الأول: حكم الاستعجال أثناء المشي إلى الصلاة:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ
(1)
، وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا))
(2)
، وفي رواية مسلم: ((إِذَا ثُوِّبَ
(3)
لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ))
(4)
.
صورة المسألة:
إذا أقيمت الصلاة وكان الرجل في طريقه إليها فهل له أن يسرع ويستعجل ليدرك الصلاة من أولها أم لا؟.
حكم المسألة:
(1)
معنى السكينة: السين والكاف والنون أصل واحد مطرد، يدل على خلاف الاضطراب والحركة. والسكينة: الوداعة والوقار، ومعنى الوقار: الواو والقاف والراء: أصل يدل على ثقل في الشيء. والوقار: الحلم والرزانة، يُقال: عليكم السكينة والوقار والتأني في الحركة والسير، فالسكينة والوقار في الحديث قيل: هما بمعنى واحد وجمع بينهما تأكيداً، وقيل: الظاهر أن بينهما فرقاً، وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث ونحو ذلك، والوقار في الهيئة وغض البصر وخفض الصوت والإقبال على طريقه بغير التفات ونحو ذلك، والله أعلم. يُنظر: مقاييس اللغة (3/ 88) و (6/ 132)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 100)، لسان العرب (13/ 213، 290)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 405)،
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة، وليأتِ بالسكينة والوقار (1/ 129) برقم:(636).
(3)
التَّثْوِيب: إقامة الصلاة، والأصل في التثويب: أن يجيء الرجل مستصرخاً، فيلوح بثوبه؛ ليُرى ويُشتهر، فسُمي الدعاء تثويباً لذلك، وكل داعٍ مُثاب، وقيل: إنما سُمي تثويباً من: ثاب يثوب إذا رجع، فسُميت الإقامة تثويباً؛ لأنها دعاء إلى الصلاة بعد الدعاء بالأذان. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 226)، لسان العرب (1/ 247)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 100).
(4)
سبق تخريجه: ص (355).
اتفق الفقهاء
(1)
على: استحباب المشي بالسكينة والوقار، وكراهة الاسراع والهرولة، أثناء الذهاب إلى الصلاة.
قال ابن تيمية رحمه الله: «قال أبو عبد الله رحمه الله: ويُستحب للرجل إذا أقبل إلى المسجد أن يُقبِل بخوف ووجل وخشوع وخضوع، وأن تكون عليه السكينة والوقار، ما أدرك صلى، وما فات قضى، بذلك جاء الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم»
(2)
.
الأدلة:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ، وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا))
(3)
. وفي رواية: ((إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن في قوله صلى الله عليه وسلم: (فَامْشُوا) أمراً بالمشي عند الذهاب للصلاة، وقوله:(وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ) أَمْرٌ بلزوم السكينة والوقار، وقوله:(وَلَا تُسْرِعُوا) تصريح بالنهي عن الإسراع، فدل بمجموعه على تأكيد الندب إلى إتيان الصلاة بسكينة ووقار، وكراهة إتيانها سعياً، سواء في صلاة الجمعة أم غيرها، وأكَّد ذلك ببيان العلة، فقال:(فَهُوَ فِي صَلَاةٍ) فالذاهب إلى صلاة عامد في تحصيلها ومتوصل إليها، فينبغي أن يكون متأدباً بآدابها، وهذا يتناول جميع أوقات الإتيان إلى الصلاة
(5)
.
الدليل الثاني: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: ((بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ سَمِعَ
(1)
شرح مشكل الآثار (14/ 195)، حاشية الطحطاوي (ص: 360)، إكمال المعلم (2/ 553)، المدخل، لابن الحاج (1/ 45)، المجموع (4/ 206)، مغني المحتاج (1/ 469)، المغني (1/ 328)، كشاف القناع (1/ 324).
(2)
شرح العمدة، لابن تيمية - كتاب الصلاة (ص: 596).
(3)
سبق تخريجه: ص (362).
(4)
سبق تخريجه: ص (355).
(5)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 99)، طرح التثريب (2/ 354)، فيض القدير (1/ 294)، نيل الأوطار (3/ 162).
جَلَبَةَ
(1)
رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ؟ قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن قوله: (إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ) يفيد العموم في كل صلاة، وكل أوقات الصلاة، وقوله:(فَلَا تَفْعَلُوا) أي: لا تستعجلوا ولا تسرعوا، ذُكر بلفظ الفعل لا بلفظ الاستعجال مبالغةً في النهي عنه، فالحديث يدل على مشروعية المشي إلى الصلاة بسكينة ووقار، وكراهية الإسراع والسعي؛ لأنه في حكم المصلي من حين خروجه إلى الصلاة، كما في حديث أبي هريرة
(3)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم إلى الكراهة القرائن التالية:
القرينة الأولى: التعليل بعلة لا تقتضي التحريم.
وقد جاءت العلة منصوصاً عليها في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، .... فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ))
(4)
فينبغي له أن يتأدب بأدبها: فيمشي على هينته
(5)
، ولا يسرع.
قال النووي رحمه الله في (المنهاج): «قال العلماء: والحكمة في إتيانها بسكينة والنهي عن السعي: أن الذاهب إلى صلاة عامد في تحصيلها ومتوصل إليها، فينبغي أن يكون متأدباً
(1)
الجَلَبَة هي الأصوات أو اختلاط الأصوات، أي: سمعنا أصواتاً لحركتهم وكلامهم واستعجالهم. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 281)، مختار الصحاح (ص: 59)، لسان العرب (1/ 269)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 101).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة (1/ 129) برقم: (635)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (1/ 421) برقم:(603).
(3)
يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 401)، عمدة القاري (5/ 150)، نيل الأوطار (3/ 162).
(4)
سبق تخريجه: ص (355).
(5)
الهَوْن مصدر الهين: في معنى السكينة والوقار والسهولة، فعينه واو، وشيء هَيِن وهَيِّن: أي: سهل، وسار على هينته: أي: على عادته في السكون والرفق، يُقال: امشِ على هينتك: أي: على رِسلك. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 290)، لسان العرب (13/ 440).
بآدابها، وعلى أكمل الأحوال»
(1)
.
وقال ابن حجر رحمه الله: «الحكمة في هذا الأمر تُستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ) أي أنه: في حكم المصلي، فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده، واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه،
…
قال النووي: نبَّه بذلك على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئاً لكان محصلاً لمقصوده؛ لكونه في صلاة»
(2)
.
القرينة الثانية: وروده في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أن النهي عن الاستعجال والإسراع عند الذهاب للصلاة فيه حثٌّ على الأدب، وإرشاد إلى تحصيل مصلحة الصلاة ومقصدها وهو الخشوع، وهو سنة باتفاق الفقهاء
(3)
، فنُهي عن الإسراع؛ لأنه مُخل بالخشوع؛ لما يقع فيه من التشويش وضيق النفس، واستُحب له المشي بسكينة ووقار.
قال القرطبي رحمه الله: «ذلك أنه إذا أسرع انبهر
(4)
، فتشوّش عليه: دخوله في الصلاة، وقراءتها، وخشوعها»
(5)
.
وقال الطحاوي رحمه الله: «كذلك نأمر الذي يأتي للصلاة بالمشي على هيئته، لا يأتيها وقد حصره النفس الذي شغله عنها، وتقطعت عما أُمر به فيها»
(6)
.
الحكم على القرينة:
قرينة التعليل قوية ومعتبرة؛ فقد جاءت في نص ثابت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوية في دلالتها على علة النهي، ولا معارض لها، والقرينة الثانية أيضاً معتبرة؛ لاعتبار
(1)
(5/ 99).
(2)
فتح الباري (2/ 118).
(3)
اتفق الفقهاء على أن الخشوع سنة. يُنظر: البحر الرائق (2/ 15)، حاشية الطحطاوي (ص: 341)، الذخيرة (2/ 235)، نهاية المحتاج (1/ 547)، الفروع (2/ 251)، كشاف القناع (1/ 392). وحكاه النووي رحمه الله إجماعاً، حيث يقول:«أجمع العلماء على استحباب: الخشوع والخضوع في الصلاة، وغض البصر عما يلهي، وكراهة الالتفات في الصلاة» . المجموع (3/ 314).
(4)
البُهْر -بالضم-: تَتابُع النفس، وبالفتح المصدر، يُقال: بهره الحمل يبهره بهراً، أي: أوقع عليه البهر فانبهر، أي: تتابع نفسه. يُنظر: الصحاح (2/ 598)، لسان العرب (4/ 82).
(5)
المفهم (2/ 219)، ويُنظر: حاشية الطحطاوي (ص: 360).
(6)
أحكام القرآن، للطحاوي (1/ 151).
معنى تحصيل مقصود الصلاة -الخشوع- وهو مستحب فوسيلة تحصيله مستحبة، والله أعلم.
المبحث الثالث:
النهي عن المشي في نعل واحدة
المطلب الأول: حكم المشي في نعل واحدة:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيُحْفِهِمَا
(1)
جَمِيعاً، أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعاً))
(2)
.
حكم المسألة:
أولاً: لا خلاف بين العلماء في أن الأوامر والنواهي في باب الانتعال من الآداب المكمِّلة، وليس شيء منها على الوجوب ولا الحظر
(3)
.
قال القاضي عياض رحمه الله: «النهى عن المشي في نعل واحدة
…
وهذه جملة لم يختلف العلماء فيها، وأنها أوامر أدب وتحضيض لا تجب»
(4)
.
وقال القرطبي رحمه الله: «باب في الانتعال وآدابه
…
ولا خلاف في أن أوامر هذا الباب ونواهيه إنما هي من الآداب المكمِّلة، وليس شيء منها على الوجوب ولا الحظر عند مُعتبَر بقوله من العلماء»
(5)
.
ثانياً: اتفق الفقهاء
(6)
على كراهة المشي في نعل واحدة.
الأدلة:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ
(1)
لِيُحْفِهِما: ليمشِ حافي الرجلين، من الإحفاء: وهو المشي بلا خف ولا نعل. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 410) لسان العرب (14/ 186).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب لا يمشي في نعل واحدة (7/ 154) برقم:(5856)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب لبس النعل فِي اليمنى أولاً والخلع من اليسرى (3/ 1660) برقم:(2097).
(3)
يُنظر: إكمال المعلم (6/ 616)، المفهم (5/ 416)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 75).
(4)
إكمال المعلم (6/ 616).
(5)
المفهم (5/ 416).
(6)
يُنظر: شرح مشكل الآثار (3/ 388)، عمدة القاري (22/ 26)، البيان والتحصيل (18/ 539)، المقدمات الممهدات (3/ 450)، المجموع (4/ 466)، أسنى المطالب (1/ 278)، كشاف القناع (1/ 284)، مطالب أولي النهى (1/ 345).
وَاحِدَةٍ، لِيُحْفِهِمَا جَمِيعاً، أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعاً))
(1)
.
الدليل الثاني: عن جابر بن عبد الله: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ، أَوْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ))
(2)
.
وجه الاستدلال: في الأحاديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المشي في نعل واحد، وهو محمول على الكراهة؛ للإجماع على أنه نهي أدب وإرشاد
(3)
.
الدليل الثالث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنِ انْقَطَعَ شِسْعُ
(4)
نَعْلِهِ فَلَا يَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُصْلِحَ شِسْعَهُ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن قوله: (مَنِ انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ): «لا مفهوم له حتى يدل على الإذن في غير هذه الصورة، وإنما هو تصوير خرج مخرج الغالب، ويمكن أن يكون من مفهوم الموافقة، وهو: التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا مُنع مع الاحتياج فمع عدم الاحتياج أولى»
(6)
.
(1)
سبق تخريجه: ص (366).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب اشتمال الصماء والاحتباء فِي ثوب واحد (3/ 1661) برقم:(2099).
(3)
يُنظر: المقدمات الممهدات (3/ 450)، المجموع (4/ 466).
(4)
الشِّسْع: هو أحد سيور النعال، وهو الذي يدخل بين الأصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام: هو السير الذي يعقد فيه الشِّسْع وجمعه: شسوع. يُنظر: الصحاح (3/ 1237)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 472)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 74).
(5)
أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب اشتمال الصماء والاحتباء فِي ثوب واحد (3/ 1661) برقم:(2099).
(6)
فتح الباري، لابن حجر (10/ 310).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وحُكي فيها فِعله صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه.
أشار بعض أهل العلم إلى أن حديث عائشة رضي الله عنها: ((رُبَّمَا مَشَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ))
(1)
قرينة صارفة للنهي عن التحريم؛ لأنه وقع منه نادراً؛ لبيان الجواز كما يشير إليه التعبير بـ (ربما) المفيدة للتقليل، أو أنه لعذر كما جاء مصرحاً به في رواية
(2)
.
قال أبو زرعة العراقي رحمه الله
(3)
: «بوَّب الترمذي بعد إيراد هذا الحديث على الرخصة في المشي في نعل واحدة، وروى فيه عن عائشة -الحديث- ثم رواه موقوفاً على عائشة، وقال: إنه أصح
(4)
،
…
وقال والدي رحمه الله
(5)
في شرح الترمذي: لعله بتقدير ثبوته وقع منه نادراً؛ لبيان الجواز أو لعذر، وفي بعض طرقه التصريح بالعذر»
(6)
.
(1)
أخرجه الترمذي، أبواب اللباس، باب ما جاء من الرخصة في المشي في النعل الواحدة (4/ 244) برقم:(1777)، قال ابن حجر في (فتح الباري) (10/ 310): «ضعيف
…
وقد رجح البخاري وغير واحد وَقْفَه على عائشة»، وقال المزي في (تحفة الأشراف) (12/ 276):«قال الترمذي في الحديث الثاني الموقوف على عائشة: وهذا أصح، وإنما أراد الترمذي أن الموقوف أصح من المرفوع، لا أن الإسناد وقع فيه وهم كما ذكر أبو القاسم؛ ولهذا استشهد برواية الثوري وغيره للموقوف، والله أعلم» .
(2)
يُنظر: المقدمات الممهدات (3/ 450)، طرح التثريب (8/ 134)، فيض القدير (1/ 307).
(3)
هو: أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين الكردي الرازياني ثم المصري، ولي الدين أبو زرعة بن الإمام العلامة الحافظ زين الدين أبي الفضل العراقي، وُلد بالقاهرة سنة 762 هـ، كان حافظاً فقيهاً، تولى القضاء سنة 824 هـ، من كتبه:«الإطراف بأوهام الأطراف» و «رواة المراسيل» و «حاشية على الكشاف» و «أخبار المدلسين» و «تحرير الفتاوى» وغير ذلك، وله نظم ونثر كثير، تُوفي سنة 826 هـ. يُنظر: طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة (4/ 80)، شذرات الذهب (9/ 251).
(4)
سنن الترمذي (4/ 244) برقم: (1778).
(5)
هو: عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم، الحافظ زين الدين أبو الفضل العراقي الأصل الكردي، المصري، الشافعي، وُلد سنة 725 هـ، كان فقيهاً، محدثاً، محرراً، ناقداً، تولى قضاء المدينة وخطابتها وإمامتها، وكان كثير الحياء والعلم والتواضع، من مؤلفاته:«الألفية في مصطلح الحديث» و «كتاب في المراسيل» و «تقريب الأسانيد» و «نظم الاقتراح» و «تخريج أحاديث الأحياء» و «طرح التثريب في شرح التقريب» بلغ إلى ثلثيه، وأكمله بعده ابنه أبو زرعة، وغير ذلك من المصنفات، تُوفي سنة 806 هـ. يُنظر: ذيل طبقات الحفاظ، للسيوطي (ص: 245)، طبقات الشافعية، لابن قاضى شهبة (4/ 29).
(6)
طرح التثريب (8/ 134).
القرينة الثانية: فِعل الصحابة (رضوان الله عليهم) للمنهي عنه.
ذكر بعض أهل العلم آثاراً عن الصحابة بأنهم مشوا في نعل واحد، ففِعلهم دليل على أنهم فهموا أن النهي ليس على ظاهره، وأنه للتنزيه
(1)
، وفي ذلك إشارة إلى أن فِعل الصحابي للمنهي عنه قرينة صارفة؛ فالصحابة شهدوا التنزيل، وشاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعايشوا أحواله وأقواله وأفعاله، فهم أعرف بالخطاب، وأفهم للمراد منه.
من ذلك ما نقله ابن مفلح
(2)
والبُهوتي
(3)
(4)
-رحمهما الله- أنه: ((مشى عليٌّ في نعل واحدة))
(5)
، و ((مشت عائشة في خف
(6)
واحد))
(7)
.
وحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، والذي حكت فيه مشي النبي صلى الله عليه وسلم في نعل واحدة، تبيَّن في تخريجه أن من أهل العلم مَنْ رجح وقفه على عائشة، فإن كان كذلك فإنه يكون من جنس قرينة فِعل الصحابي، والله أعلم.
القرينة الثالثة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
فالعلماء حملوا النهي على الكراهة والتنزيه؛ لأنه نهي أدب وإرشاد.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «نهيُه صلى الله عليه وسلم عن المشي في نعل واحدة نهي أدب لا نهي تحريم، والأصل في هذا الباب أن كل ما كان في ملكك فنُهيت عن شيء من تصرفه والعمل به، فإنما هو نهي أدب؛ لأنه ملكك، تتصرف فيه كيف شئت، ولكن التصرف على سنته لا
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 310).
(2)
الفروع (2/ 82).
(3)
هو: منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن أحمد بن علي بن إدريس، الشهير بالبُهوتي، المصري الحنبلي، وُلد سنة 1000 هـ، كان عالماً عاملاً ورعاً، متبحراً في العلوم الدينية، صارفاً أوقاته في تحرير المسائل الفقهية، انتهى إليه التدريس والفتوى، ومن مؤلفاته:«كشاف القناع شرح الإقناع» و «حاشية على الإقناع» و «دقائق أولي النهى في شرح المنتهى» و «حاشية على المنتهى» و «شرح زاد المستقنع» سماه «الروض المربع» وغيرها، تُوفي سنة 1051 هـ. يُنظر: خلاصة الأثر (4/ 426)، ديوان الإسلام (1/ 271)، تسهيل السابلة لمريد معرفة الحنابلة (3/ 1556).
(4)
كشاف القناع (1/ 284).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 176) برقم: (24928).
(6)
الخُفُّ: واحد الخفاف: التي تُلبس في الرجل، ويُجمع أيضاً على: أخفاف، وتخفف الرجل إياه: لبسه. يُنظر: الصحاح (4/ 1353)، تاج العروس (23/ 233).
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 176) برقم: (24930).
تتعدى، وهذا باب مطرد ما لم يكن ملكك حيواناً، فتُنهى عن أذاه؛ فإن أذى المسلم في غير حقه حرام.
وأما النهي عما ليس في ملكك إذا نهيت عن تملكه أو استباحته إلا على صفة ما في نكاح أو بيع أو صيد أو نحو ذلك: فالنهي عنه نهي تحريم، فافهم هذا الأصل»
(1)
.
وقال المناوي رحمه الله: «في الحديث نهَى صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرجل أو المرأة في نعل واحدة أو خف واحدة؛ فيُكره تنزيهاً»
(2)
.
وقد تنوعت أقوال العلماء في العلة من النهي، ومن ذلك: أن فيه مشقة، أو ضرراً؛ لخوف العثار أو الاستهزاء، أو فيه شهرة أو ترك العدل بين الرجلين، أو فيه مشابهة للشيطان.
قال الطحاوي رحمه الله: «ذلك لأن مَنْ يلبس كذلك يستهزئ به الناس؛ لأنه ليس بمستحسن عندهم، فلو لم يرِد فيه نهي لوجب أن ينتهي عنه»
(3)
.
(4)
.
وقال النووي رحمه الله في (المنهاج): «إن ذلك تشويه ومُثلة ومخالف للوقار، ولأن المنتعلة تصير أوفع
(5)
من الأخرى، فيعسر مشيه، وربما كان سبباً للعثار»
(6)
.
وجاء في (أسنى المطالب): «المعنى فيه أن مشيه يختل بذلك، وقيل: لما فيه من ترك العدل بين الرجلين، والعدل مأمور به»
(7)
.
(1)
التمهيد (18/ 177).
(2)
التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 478).
(3)
شرح مشكل الآثار (3/ 388).
(4)
أعلام الحديث (3/ 2149) بتصرف يسير.
(5)
لعله تصحيف؛ والذي يظهر أن المراد: أرفع.
(6)
(14/ 75).
(7)
(1/ 278).
وقال ابن حجر رحمه الله: «الكراهة فيه للشهرة، فتمتد الأبصار لمن ترى ذلك منه، وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس، فكل شيء صيَّر صاحبه شهرة، فحقه أن يُجتنب»
(1)
.
وقال النفراوي رحمه الله
(2)
: «وإنما كُره المشي في النعل الواحدة لغير ضرورة؛ لأن الشيطان يمشي في نعل واحدة»
(3)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرائن قوية؛ فقرينة فِعله صلى الله عليه وسلم قوية من حيث أصلها ودلالتها، لكن بعض أهل العلم رجح فيه الوقف على الرفع.
وقرينة فِعل الصحابي قرينة معتبرة؛ لثبوتها وعدم المعارض، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة، والأصل أن النهي في الآداب محمول على الكراهة، ولعل ما جاء في الحكمة والتعليل لهذا الأدب مقصود بمجموعه؛ فالقرائن قوية صارفة للنهي إلى الكراهة مع عدم ما يعارضها ويقوي جانب التحريم، والله أعلم.
(1)
فتح الباري (10/ 310) نقلاً عن البيهقي.
(2)
هو: أحمد بن غنيم بن سالم، أبو العباس شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي، كان فقيها عالما محققا، انتهت إليه الرئاسة في المذهب، له مؤلفات منها:«الفواكه الدواني» و «شرح على النورية» و «شرح على الأجرومية» و «رسالة على البسملة» . توفي بالقاهرة سنة 1125 هـ عن اثنتين وثمانين سنة. يُنظر: شجرة النور الزكية (1/ 460)، الأعلام للزركلي (1/ 192).
(3)
الفواكه الدواني (2/ 315).
المبحث الرابع:
النهي عن الانتعال قائماً
المطلب الأول: حكم الانتعال قائماً:
دليل النهي:
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ قَائِماً))
(1)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم الانتعال قائماً، على قولين:
القول الأول: كراهة الانتعال قائماً.
وهو مذهب المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وخُص النهي بما يلحقه مشقة أو خوف سقوط مَنْ لبسه قائماً.
ولعله يمكن القول بأن الكراهة هو مذهب الحنفية
(5)
؛ تخريجاً على ما سبق من إجماع الفقهاء على أن الأوامر والنواهي في باب الانتعال إنما هي من الآداب، وليس شيء منها على الوجوب ولا الحظر
(6)
.
القول الثاني: لا يُكره الانتعال قائماً.
(1)
أخرجه ابن ماجه، أبواب اللباس، باب الانتعال قائماً (4/ 608) برقم:(3619)، قال البوصيري في (مصباح الزجاجة) (4/ 92):«هذا إسناد صحيح، وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله» ، وهو عند الترمذي من حديث أبي هريرة وأنس، وقال بعد تخريجهما (4/ 243):«هذا حديث غريب، وقال محمد بن إسماعيل: ولا يصح هذا الحديث، ولا حديث معمر، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة» ، وقال الألباني بعد إيراد طرق الحديث في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) (2/ 341):«وخلاصة القول: أن الحديث بمجموع طرقه صحيح بلا ريب» . وحديث جابر الذي أشار إليه البوصيري سيأتي عند ذِكر الأدلة.
(2)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 50).
(3)
يُنظر: المجموع (4/ 466)، مغني المحتاج (1/ 586).
(4)
يُنظر: الفروع (2/ 84)، كشاف القناع (1/ 285).
(5)
لم أقف على نص لفقهاء الحنفية في هذه المسألة حسب ما تيسَّر بين يديَّ من كتبهم إلا ما وجدته في (المفاتيح في شرح المصابيح) للضرير الشيرازي الحنفي، حيث قال في شرح حديث النهي (5/ 36):«هذا النهي مختص بما في لبسه تعب عن القيام كلبس الخف؛ فإن النعل تحتاج إلى شد شراكها، فلبسها جالساً أسهل، فأما لبس القفش: فليس في لبسه قائماً تعب، فلا يدخل تحت النهي» .
(6)
يُنظر: إكمال المعلم (6/ 616)، المفهم (5/ 416)، المنهاج شرح صحيح مسلم (14/ 75).
وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(1)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ قَائِماً))
(2)
.
الدليل الثاني: عن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعِلَ الرَّجُلُ قائماً))
(3)
.
وجه الاستدلال من الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتعال قائماً، ويُحمل على الكراهة؛ لأنه نهي إرشاد، وهو مخصوص بما إذا لحقه مشقة أو خوف انقلابه وسقوطه
(4)
.
نُوقش: بأن حديث النهي ضعيف
(5)
.
أُجيب عنه: أن حديث ابن عمر صحيح، ويُعتمد عليه
(6)
، وحديث جابر حسنه النووي، كما تبيَّن ذلك في تخريج الحديثين.
دليل القول الثاني: أنه لا يثبت في النهي شيء؛ لضعف الأحاديث
(7)
.
وجوابه ما سبق من صحة الأحاديث.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بكراهة الانتعال قائماً فيما يشق لُبسه حال القيام، أو يُخشى منه الانقلاب والسقوط، فإن أمن ذلك فلا يُكره.
جاء في (نهاية المحتاج): «ويُكره أن ينتعل قائماً؛ للنهي الصحيح عنه خوف انقلابه، ويُؤخذ منه أن المداس المعروفة الآن ونحوها لا يُكره فيها ذلك؛ إذ لا يُخاف منه
(1)
يُنظر: الفروع (2/ 84)، كشاف القناع (1/ 285).
(2)
سبق تخريجه: ص (372).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في الانتعال (6/ 221) برقم:(4135)، حسّن إسناده النووي في (المجموع)(4/ 466).
(4)
يُنظر: البيان والتحصيل (18/ 50)، أسنى المطالب (1/ 278)، فيض القدير (6/ 341).
(5)
يُنظر: الآداب الشرعية (3/ 543).
(6)
يُنظر: الفروع (2/ 84)، نهاية المحتاج (2/ 382).
(7)
يُنظر: الفروع (2/ 84).
انقلاب»
(1)
.
أسباب الترجيح:
1 -
صحة حديث النهي وثبوته.
2 -
الإجماع على أن الأوامر والنواهي في باب الانتعال إنما هي من الآداب.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «نهيه صلى الله عليه وسلم عن المشي في نعل واحدة نهي أدب لا نهي تحريم، والأصل في هذا الباب أن كل ما كان في ملكك فنهيت عن شيء من تصرفه والعمل به، فإنما هو نهي أدب»
(2)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل أصحاب القول الأول النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف هو: قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
قال ابن رشد
(3)
رحمه الله في (البيان والتحصيل): «
…
وهو نهي أدب وإرشاد»
(4)
.
وقال المناوي رحمه الله: «والأمر للإرشاد؛ لأن لُبسها قاعداً أسهل وأمكن»
(5)
.
وقد علل العلماء النهي بخوف المشقة أو خوف السقوط.
قال الخطابي رحمه الله: «يشبه أن يكون إنما نهَى عن لُبس النعل قائماً؛ لأن لُبسها قاعداً أسهل عليه وأمكن له، وربما كان ذلك سبباً لانقلابه إذا لبسها قائماً، فأمر بالقعود له والاستعانة باليد؛ ليأمن غائلته، والله أعلم»
(6)
.
وجاء في (المفاتيح شرح المصابيح): «هذا النهي مختص بما في لُبسه تعب عن
(1)
(2/ 382).
(2)
التمهيد (18/ 177).
(3)
هو: محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، المالكي، الإمام العلامة، شيخ المالكية، أبو الوليد، وُلد بقرطبة سنة 455 هـ، كان فقيهاً عالماً، حافظاً للفقه، مقدماً فيه على جميع أهل عصره، عارفاً بالفتوى، بصيراً بأقوال أئمة المالكية، من أهل الرياسة في العلم، مع الدين والفضل، من تصانيفه:«المقدمات الممهدات» و «البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل» واختصار «المبسوطة» ، واختصار «مشكل الآثار» وغير ذلك، تُوفي سنة 520 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (14/ 358)، الديباج المذهب (2/ 248)، شجرة النور الزكية (1/ 190).
(4)
(18/ 50).
(5)
فيض القدير (6/ 341).
(6)
معالم السنن (4/ 203).
القيام كلبس الخف؛ فإن النعل تحتاج إلى شد شراكها، فلُبسها جالساً أسهل، فأما لُبس القَفْش
(1)
: فليس في لبسه قائماً تعب، فلا يدخل تحت النهي»
(2)
.
الحكم على القرينة:
قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة، ولعل ما ذكره العلماء من علل النهي معتبرة بمجموعها؛ لأنه من باب الإرشاد لمصلحة المرء والحفاظ على سلامته، ولأنه أحسن في الهيئة، والله أعلم.
(1)
القَفْش: الخف القصير، وهو فارسي معرب، أصله: كفش. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 90)، تاج العروس (17/ 338).
(2)
(5/ 36).
المبحث الخامس:
النهي عن وضع النعل عن يمينه أو عن يساره في المسجد
المطلب الأول: حكم وضع النعل عن يمينه أو عن يساره في المسجد:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعْ نَعْلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ فَتَكُونَ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ، إِلَّا أَلَّا يَكُونَ عَنْ يَسَارِهِ أَحَدٌ، وَلْيَضَعْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ))
(1)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(2)
على أن الأدب للمصلي أن يضع نعليه عن يساره إذا صلى وحده، ويُكره وضْعُهما عن يمينه، وأما إذا كان مع غيره في الصف، وكان عن يمينه وعن يساره ناس: فإنه يضعهما بين رجليه.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الدليل الثاني: وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا صلّى أحدُكم فخلعَ نَعلَيه، فلا يُؤذِ بهما أحداً: لِيَجعَلهما بينَ رِجلَيهِ، أو لِيصَل فيهما))
(3)
.
وجه الاستدلال:
أن ما جاء في هذه الأحاديث من النهي عن وضْع النعل عن اليمين أو اليسار والأمر بوضعهما بين رجليه، دليل على أن المصلي إذا خلع نعليه فإنه ينبغي له أن يتأدب بالآداب: فهو منهيٌّ عن وضْع نعليه عن يمينه؛ إكراماً لجهة اليمين وصيانة لها عن كل
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما (1/ 487) برقم:(654)، والحاكم (1/ 390) برقم:(954) وقال: «صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» ، وصححه ابن خزيمة (1/ 501) برقم:(1016)، وابن حبان (5/ 562) برقم:(2188).
(2)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 654)، النوادر والزيادات (1/ 204)، التاج والإكليل (2/ 234)، بحر المذهب (2/ 117)، شرح منتهى الإرادات (1/ 285)، كشاف القناع (1/ 495).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما؟ (1/ 487) برقم:(655)، والحاكم (1/ 390) برقم:(952) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» ، وصححه ابن خزيمة (1/ 499) برقم:(1009)، وابن حبان (5/ 558) برقم:(2183).
شيء يكون محلاً للأذى.
فإن لم يكن عن يساره أحد يضعهما عن يساره، وإلا فلا؛ لأنه يكون يمين غيره فيؤذيهم، ويندب له وضعهما بين رجليه، وقوله:(فَلا يُؤذِ) خبر بمعنى النهي يفيد المنع من أذى الآدمي، وإن قل التأذي
(1)
، والنهي في باب الأدب محمول على الكراهة
(2)
.
الدليل الثالث: عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه
(3)
قال: ((رَأَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي يومَ الفَتحِ ووضعَ نَعليهِ عَنْ يَسَارِهِ))
(4)
.
وجه الاستدلال:
أن فِعل النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن الأدب للمصلي منفرداً كان أو إماماً: أن يضع نعليه عن يساره، لئلا يؤذي أحداً، وإكراماً لليمين، ولأن اليسار جُعلت للأشياء المستقذرة من الأفعال
(5)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل الفقهاء النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف هو: قرينة المقصد من النهي.
ذكر العلماء أن المقصد من النهي تكريم جهة اليمين واحترامها، وصيانة لحق المسلم، والمنع من إيذائه، وحفاظاً على خشوعه والتفات قلبه إن جعله خلفه.
(1)
يُنظر: معالم السنن (1/ 182)، شرح سنن أبي داود، لابن رسلان (4/ 117)، شرح أبي داود، للعيني (3/ 199)، فيض القدير (1/ 390).
(2)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(3)
هو: عبد الله بن السائب بن أبى السائب المحزومي، أبو السائب أو أبو عبد الرحمن المكي، له ولأبيه صحبة، كان قارئ أهل مكة، وقرأ عليه مجاهد وغيره، سكن مكة ومات بها في إمارة ابن الزبير. يُنظر: الاستيعاب (3/ 915)، أسد الغابة (3/ 254)، تهذيب التهذيب (5/ 229).
(4)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النَّعل (1/ 483) برقم:(648)، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب القبلة، باب أين يضع الإمام نعليه إذا صلى بالناس؟ (2/ 74) برقم:(776)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فِي أين توضع النعل إذا خلعت فِي الصلاة (2/ 428) برقم:(1431)، وأحمد (24/ 113) برقم:(15392)، والحاكم (1/ 390) برقم:(953). صححه ابن خزيمة (1/ 500) برقم: (1014)، وابن حبان (5/ 563) برقم:(2189).
(5)
يُنظر: تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد (ص: 372)، فيض القدير (1/ 390).
قال البهوتي رحمه الله: «من الأدب وضْع الإمام نعله عن يساره في حال صلاته إكراماً لجهة يمينه، ووضْع مأموم نعله بين يديه، أي: قُدامه؛ لئلا يؤذي غيره»
(1)
.
وقال الخطابي رحمه الله: «فيه باب من الأدب، وهو أن يُصان ميامن الإنسان عن كل شيء يكون محلاً للأذى»
(2)
.
وجاء في (مرقاة المفاتيح): «وضعُه عن يساره مع وجود غيره سببٌ لأن تكون عن يمين صاحبه، يعني: وفيه نوع إهانة له، وعلى المؤمن أن يحب لصاحبه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه
…
وقال: ليجعلهما بين رجليه، ولم يقل: أو خلفه؛ لئلا يقع قدام غيره، أو لئلا يذهب خشوعه لاحتمال أن يُسرق»
(3)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرينة معتبرة وقوية؛ إذ تكريم اليمين ومنع الإيذاء معانٍ مناسبة لحمل النهي على الكراهة والتنزيه، والله تعالى أعلم.
(1)
كشاف القناع (1/ 495).
(2)
معالم السنن (1/ 182).
(3)
(2/ 637).
الفصل السادس
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب صفة الصلاة
وفيه ثمانية عشر مبحثاً:
المبحث الأول: النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث.
المبحث الثاني: النهي عن الصلاة لمَن كان بحضرة طعام أو حاقناً أو يدافع الأخبثين.
المبحث الثالث: النهي عن القيام للصلاة قبل رؤية الإمام.
المبحث الرابع: النهي عن الالتفات في الصلاة.
المبحث الخامس: النهي عن رفْع البصر إلى السماء أثناء الصلاة.
المبحث السادس: النهي عن تغميض العين في الصلاة.
المبحث السابع: النهي عن التَّثاؤب.
المبحث الثامن: النهي عن فَرْقعة الأصابع أثناء الصلاة.
المبحث التاسع: النهي عن تشبيك الأصابع أثناء الصلاة.
المبحث العاشر: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.
المبحث الحادي عشر: النهي عن بروك المصلي كما يبرك البعير.
المبحث الثاني عشر: النهي عن افْتِراش السباع.
المبحث الثالث عشر: النهي عن الإقعاء في الصلاة.
المبحث الرابع عشر: النهي عن كف المصلي الشعر والثياب أثناء الصلاة.
المبحث الخامس عشر: النهي عن اعتماد المصلي على يديه إذا نهض في الصلاة.
المبحث السادس عشر: النهي عن جلوس المصلي في الصلاة وهو معتمد على يديه.
المبحث السابع عشر: النهي عن مسح الحصى من موضع السجود والعبث أثناء الصلاة.
المبحث الثامن عشر: النهي عن رد السلام في الصلاة.
المبحث الأول:
النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث
المطلب الأول: حكم الصلاة إلى النائم والمتحدث:
دليل النهي:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تُصَلُّوا خلفَ النائمِ ولا المتحدّث))
(1)
.
تحرير محل النزاع:
أولاً: اتفق الفقهاء
(2)
على كراهة الصلاة إلى المتحدث؛ لأن ذلك يشغله عن حضور قلبه في الصلاة، وقيَّده الحنفية بما إذا ارتفع الصوت، وخاف منه الغلط في الصلاة.
ثانياً: اختلفوا في حكم الصلاة إلى النائم، على قولين:
القول الأول: لا يُكره الصلاة إلى النائم.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والشافعية
(4)
، والمذهب عند الحنابلة
(5)
، وقيَّده الحنفية بالأمن من ظهور شيء يضحكه، وإلا فيُكره.
القول الثاني: كراهة الصلاة إلى النائم.
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام (2/ 26) برقم:(694)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب مَنْ صلى وبينه وبين القبلة شيء (2/ 107) برقم:(959)، قال أبو داود عقب ذكر الحديث في موضع آخر (2/ 608):«رُوي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلُّها واهية» ، وقال الخطابي في (معالم السنن) (1/ 186):«هذا حديث لا يصح عن النبي؛ لضعف سنده» ، وقال الزيلعي في (نصب الراية) (2/ 96):«في سند أبي داود رجل مجهول، وفي سند ابن ماجه أبو المقدام، هشام بن زياد البصري لا يُحتج بحديثه» ، وقال النووي في (المجموع) (3/ 251):«ضعيف باتفاق الحفاظ» .
(2)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 167)، حاشية ابن عابدين (1/ 652)، النوادر والزيادات (1/ 196)، المعونة (ص: 296)، المجموع (3/ 251)، المغني (2/ 178)، كشاف القناع (1/ 371).
(3)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 167)، حاشية ابن عابدين (1/ 652).
(4)
يُنظر: المجموع (3/ 251).
(5)
يُنظر: المغني (2/ 178)، الشرح الكبير (3/ 643).
وهو مذهب المالكية
(1)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(2)
.
أدلة الأقوال:
دليل القول الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها راقدة أمامه، دليل على جواز الصلاة إلى النائم من غير كراهة
(4)
، وكونه أيقظها دليلٌ أنها كانت نائمة.
نُوقش: بأن الحاجة دعت إليه؛ لضيق البيت
(5)
.
يمكن أن يُجاب عنه: بأن دلالة الحديث على العموم، ولو كان السبب ضيق البيت لنقلته إلينا عائشة رضي الله عنها، ولم تُغفل ذِكره مع وجود الداعي؛ لكونه مؤثراً في الحكم.
دليل القول الثاني: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تُصَلُّوا خلفَ النائمِ ولا المتحدّث)).
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً صريحاً عن الصلاة خلف النائم، وحُمل على الكراهة؛ لخشية ما يبدو من النائم مما يلهي المصلي عن صلاته، ويشغله عن حضور قلبه فيها
(6)
.
نُوقش: بأن الحديث ضعيف، ولا يصح
(7)
.
قال الخطابي رحمه الله: «هذا حديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لضعف سنده»
(8)
.
سبب الخلاف:
(1)
يُنظر: النوادر والزيادات (1/ 196) المعونة (ص: 296).
(2)
يُنظر: المغني (2/ 178)، كشاف القناع (1/ 371).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة خلف النائم (1/ 108) برقم:(512)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتراض بين يدي المصلي (1/ 366) برقم:(512).
(4)
يُنظر: نيل الأوطار (3/ 12).
(5)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (4/ 107).
(6)
يُنظر: شرح منتهى الإرادات (1/ 208)، نيل الأوطار (3/ 12).
(7)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (1/ 652)، المجموع (3/ 251).
(8)
معالم السنن (1/ 186).
تقابل الخبر الصحيح مع الخبر الضعيف، فمن قدم الصحيح قال بجواز الصلاة خلف النائم، ومَن أخذ بالخبر الضعيف مع الصحيح قال بكراهة الصلاة خلف النائم.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بأن الصلاة إلى النائم لا تُكره؛ لصحة دليل هذا القول وضعف دليل المخالف، ويمكن تقييده بما ذكره الحنفية: لا تُكره الصلاة خلف النائم إن أمن أن يصدر منه ما يشغل عن الصلاة.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل أصحاب القول الثاني النهي عن الصلاة إلى النائم على الكراهة، ولعل الصارف له القرائن التالية:
القرينة الأولى: المقصد من النهي.
أن المقصد من النهي هو الاحتياط للصلاة وصيانة خشوع المصلي؛ لأن وجود النائم أمامه يشغله عن حضور قلبه في الصلاة
(1)
.
القرينة الثانية: ضعف الحديث.
لعل القائلين بالكراهة نظروا إلى ضعف حديث النهي، فحملوه على الكراهة؛ لأن الضعيف لا ينهض للتحريم.
وقد أشار ابن مفلح رحمه الله إلى أن الضعيف يُعمل به في الاستحباب والكراهة؛ حيث قال: «
…
وقد يُقال: المقام مقام استحباب وكراهة، والخبر الضعيف يُعمل به في ذلك، وعلى كل حال فهو شيء يُستأنس به في مثل هذا، والله أعلم»
(2)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرائن ضعيفة؛ فقرينة المقصد من النهي تكون معتبرة ولها أثر،
(1)
يُنظر: كشاف القناع (1/ 371).
(2)
الآداب الشرعية (3/ 168).
في حال ثبوت دليل النهي وعدم المعارض، أمَا وقد سقط دليل النهي لعدم صحته؛ ووُجد المعارض الثابت الصحيح -فالقرائن ضعيفة، والله أعلم.
المبحث الثاني:
النهي عن الصلاة لمَن كان بحضرة طعام أو حاقناً أو يدافع الأخبثين
المطلب الأول: حكم الصلاة لمَن كان بحضرة طعام أو حاقناً
(1)
أو يدافع الأخبثين
(2)
:
دليل النهي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ))
(3)
.
حكم المسألة:
أولاً: أجمع العلماء
(4)
على أنه لا يحل لأحد أن يدخل في الصلاة وهو حاقن إذا بلغ به ما لا يعقل به صلاته: فلا يقيمها، ولا يضبط حدودها، وأنه يقطع الصلاة إن أصابه ذلك فيها.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «أجمع العلماء على أنه لا ينبغي لأحد أن يصلي وهو حاقن إذا كان حقنه ذلك يشغله عن إقامة شيء من فروض صلاته وإن قَلَّ»
(5)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: «كلهم مجمعون أن مَنْ بلغ به ما لا يعقل به صلاته ولا يضبط حدودها أنه لا تجزئه، ولا يحل له الدخول كذلك فى الصلاة، وأنه يقطع الصلاة إن أصابه ذلك فيها»
(6)
.
(1)
حَاقِنَاً: الحاقن: الذي به بول شديد، وقد يكون الاحتقان للبول والغائط جمعاً، والحاقب: الذي احتاج إلى الخلاء فلم يتبرز، فانحصر غائطه. يُنظر: الصحاح (5/ 2103)، غريب الحديث، لابن الجوزي (1/ 229)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 411).
(2)
الأَخْبَثَان: البول والغائط.
(3)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال وكراهة الصلاة مع مدافعة الأخبثين (1/ 393) برقم:(560).
(4)
نقل الإجماع: ابن عبد البر في (الاستذكار)(2/ 296)، والقاضي عياض في (إكمال المعلم)(2/ 495)، وابن القطان في (الإقناع في مسائل الإجماع)(1/ 141).
(5)
الاستذكار (2/ 296).
(6)
إكمال المعلم (2/ 495).
ثانياً: أجمع العلماء
(1)
على كراهة الصلاة لمَن كان: بحضرة طعام تتوق نفسه إليه، أو يدافع الأخبثين، وأنه إن صلى فإن صلاته صحيحة مجزئة.
(2)
.
وقال ابن مفلح رحمه الله
(3)
في (المبدع): «يُكره أن يصلي، وهو حاقن -أي: بوله- سواء خاف الجماعة أم لا، لا نعلم فيه خلافاً» إلى أن قال: «
…
وعلى هذا: إن بدأ بالصلاة صحت إجماعاً»
(4)
.
الأدلة:
الدليل الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَابْدَؤُوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا يَعْجَلَنَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ))
(5)
.
الدليل الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إِذَا وُضِعَ العَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَابْدَؤُوا بِالعَشَاءِ))
(6)
.
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَا صَلَاةَ
(1)
يُنظر: نقل الإجماع ابن عبد البر في (التمهيد)(22/ 206)، ونقله عنه ابن قدامة في (المغني)(1/ 450)، ويُنْظر: المبدع (1/ 426).
(2)
التمهيد (22/ 206).
(3)
هو: إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبو إسحاق، برهان الدين. وُلد بدمشق سنة 815 هـ، كان مؤرخاً وفقيهاً أصولياً طلقاً فصيحاً ذا رياسة ووجاهة، وكان من قضاة الحنابلة، محاسنه كثيرة، من كتبه:«المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد» و «المبدع بشرح المقنع» و «مرقاة الوصول إلى علم الأصول» وغيرها، تُوفي سنة 884 هـ. يُنظر: الضوء اللامع (1/ 152)، شذرات الذهب (9/ 507)، السحب الوابلة (1/ 60).
(4)
(1/ 426).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه (7/ 83) برقم:(5464)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله فِي الحال وكراهة الصلاة مع مدافعة الأخبثين (1/ 392) برقم:(559).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه (7/ 83) برقم:(5463)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله فِي الحال وكراهة الصلاة مع مدافعة الأخبثين (1/ 392) برقم:(557).
بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ))
(1)
.
الدليل الرابع: عن عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه
(2)
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَوَجَدَ أَحَدُكُمُ الخَلَاءَ، فَلْيَبْدَأْ بِالخَلَاءِ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن في هذه الأحاديث نهياً عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين أو بحضرة الطعام الذي يريد أكله، وفيها أمر بالبدء بالطعام أو الخلاء قبل الصلاة ندباً؛ لما فيه من: اشتغال القلب به، وذهاب كمال الخشوع، والنهي محمول على الكراهة عند عامة العلماء
(4)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم قرينة:
الإجماع.
فإجماع العلماء الذي نقله أهل العلم، قرينة على أن النهي ليس على بابه، وأنه مصروف عن التحريم إلى الكراهة، وأنه إن صلى في هذه الحالة صحت صلاته.
الحكم على القرينة:
قرينة الإجماع قرينة قوية معتبرة؛ لأن الإجماع لا يمكن أن يقع مخالفاً لمقتضى النص الشرعي. فالنهي محمول على الكراهة، والله أعلم.
(1)
سبق تخريجه: ص (384).
(2)
هو: عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث القرشي الزهري، أسلم عام الفتح، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم لأبي بكر رضي الله عنه، واستكتبه أيضاً عمر رضي الله عنه، واستُعمل على بيت المال خلافة عمر كلها وسنتين من خلافة عثمان رضي الله عنه، حتى استعفاه من ذلك فأعفاه، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه: عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأسلم مولى عمر، ويزيد بن قتادة، وعروة. تُوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. يُنظر: الاستيعاب (3/ 865)، الإصابة (4/ 4).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب أيصلي الرجل وهو حاقن؟ (1/ 64) برقم:(88)، والترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء إذا أُقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء (1/ 262) برقم:(142)، وقال:«حديث حسن صحيح» . وصححه ابن خزيمة (2/ 797) برقم: (1652).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 450)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 46)، البناية (2/ 447).
المبحث الثالث:
النهي عن القيام للصلاة قبل رؤية الإمام
المطلب الأول: حكم القيام للصلاة قبل رؤية الإمام:
دليل النهي:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي
(1)
(2)
، وفي رواية أخرى عند مسلم:((حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ))
(3)
.
تحرير محل النزاع:
قيام المأموم للصلاة له حالان:
الأول: أن يكون الإمام معهم في المسجد، وقد اختلف الفقهاء فيها على أقوال عدة، وهي خارج محل البحث.
الثاني: إذا أُقيمت الصلاة، وكان الإمام خارج المسجد، والمأموم ينتظر مجيئه، فمتى يقوم المأموم؟ وهذه مسألة البحث التي ورد فيها النهي عن القيام قبل رؤية الإمام.
وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:
القول الأول: استحباب قيام المأموم عند رؤية الإمام، وكراهة القيام قبله.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(4)
، والمالكية
(5)
، والشافعية
(6)
، والصحيح من مذهب الحنابلة
(7)
.
القول الثاني: إذا أُقيمت الصلاة تُقام الصفوف قبل أن يدخل الإمام.
(1)
قال ابن رجب رحمه الله في (فتح الباري)(5/ 414): «هذه اللفظة: يُستدل بها على مراده صلى الله عليه وسلم برؤيته: أن يخرج من بيته، فيراه مَنْ كان عند باب المسجد، ليس المراد: يراه كل مَنْ كان في المسجد» .
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة (1/ 129) برقم:(637)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب متى يقوم الناس للصلاة (1/ 422) برقم:(604).
(3)
كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب متى يقوم الناس للصلاة (1/ 422) برقم:(604).
(4)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 39)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 44).
(5)
يُنظر: بداية المجتهد (1/ 160).
(6)
يُنظر: المجموع (3/ 256)، النجم الوهاج (2/ 385).
(7)
يُنظر: كشاف القناع (1/ 327)، مطالب أولي النهى (1/ 414).
وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(1)
.
أدلة الأقوال:
دليل القول الأول:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث نصٌّ صريحٌ بالنهي عن القيام للصلاة قبل رؤية الإمام، وهو محمول على الكراهة لا الحتم؛ لأنه نهَى عنه تخفيفاً ورفقاً بالناس؛ لئلا يشق عليهم الانتظار قياماً، ولأنه قد يعرض له عارض فيتأخر بسببه
(3)
.
قال الترمذي رحمه الله بعد ذِكر حديث أبي قتادة: «وقد كره قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن ينتظر الناس الإمام وهم قيام»
(4)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ، فَرَجَعَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، فَصَلَّى بِهِمْ))
(5)
.
الدليل الثاني: وعنه أيضاً قال: ((أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ تُقَامُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنَّ يَقُومَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَامَهُ))
(6)
.
وجه الاستدلال من الحديثين: أن ظواهر الأحاديث تدل على أن الناس كانوا يقومون إذا أُقيمت الصلاة، ويسوون الصفوف، قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على جواز قيامهم
(1)
يُنظر: المغني (1/ 332)، فتح الباري، لابن رجب (5/ 416).
(2)
سبق تخريجه ص: (387).
(3)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 266)، إكمال المعلم (2/ 556)، فيض القدير (1/ 294).
(4)
سنن الترمذي (2/ 487).
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب إذا قال الإمام: مكانكم، حتى رجع، انتظروه (1/ 130) برقم:(640)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب متى يقوم الناس للصلاة (1/ 423) برقم:(605).
(6)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب متى يقوم الناس للصلاة (1/ 423) برقم:(605).
قبل رؤيته
(1)
.
نُوقش: أن ظاهر هذه الأحاديث يعارض حديث أبي قتادة، فيُصار إلى الجمع بينها.
مسالك العلماء لدفع التعارض بالجمع بين الأحاديث:
ذكر القاضي عياض رحمه الله ثلاثة مسالك في الجمع بين مختلف هذه الأحاديث
(2)
، ونقله عنه النووي رحمه الله
(3)
:
الأول: أن بلالاً رضي الله عنه كان يراقب خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يراه غيره أو إلا القليل، فعند أول خروجه يقيم، ولا يقوم الناس حتى يروه صلى الله عليه وسلم، ثم لا يقوم مقامه حتى يعدلوا صفوفهم.
الثاني: أن الرواية الأخرى عن أبي هريرة: (فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ) كانت مرة أو مرتين ونحوهما؛ لبيان الجواز أو لعذر.
الثالث: أنهم كانوا يقومون قبل رؤيته، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبى قتادة بعد ذلك، فكان سبب النهي أن المؤذن كان يقيم الصلاة ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن القيام إليها حتى يروه قد خرج من منزله، كما أفاده قوله:(حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ).
ومن العلماء مَنْ جمع بمثل هذا الجمع أو قريب منه، منهم: القرطبي
(4)
، وابن الملقن
(5)
، وابن حجر رحمهم الله
(6)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بكراهة القيام للصلاة قبل رؤية الإمام، وينبغي أن يُتنبه أن المراد بالرؤية كما بيَّنها الحافظ ابن رجب رحمه الله: أن يخرج من بيته، فيراه مَنْ كان عند باب المسجد، وليس المراد: يراه كل مَنْ كان في المسجد.
أسباب الترجيح:
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (5/ 416).
(2)
إكمال المعلم (2/ 556).
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 103).
(4)
المفهم (2/ 222).
(5)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 607).
(6)
فتح الباري (2/ 120).
1 -
أن خطاب النهي صريح في المنع من القيام قبل رؤية الإمام.
2 -
أن فيه الرفق بالمأمومين؛ لئلا يشق عليهم الانتظار قياماً إن تأخر الإمام لعذر.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين فيما سبق أن الجمهور حملوا النهي على الكراهة لا التحريم، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص وفيه بيان الجواز.
جاءت القرينة النصية في حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ حيث ذكر فيها قيام المأمومين قبل رؤيتهم الإمام، وأنهم سووا صفوفهم، ثم خرج إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَقَدَّمَ وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ، فَرَجَعَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، فَصَلَّى بِهِمْ))
(1)
.
أشار العلماء إلى أن انتظارهم للإمام قياماً، لعله كان مرة أو مرتين؛ لبيان الجواز
(2)
، وذلك يفيد عدم التحريم، ولا يمنع الكراهة.
القرينة الثانية: المقصد من النهي.
مقصود النهي: الرفق بالمأموم؛ لاحتمال أن يقع للإمام شغل يبطاء فيه عن الخروج، فيشق عليهم انتظاره، فنهاهم عن ذلك
(3)
.
قال ابن بطال رحمه الله: «يحتمل أن يكون حديث أبي قتادة على غير الإيجاب والحتم، بل على وجه الرفق بهم؛ لئلا ينتظروه قياماً»
(4)
.
وقال النووي رحمه الله: «قال العلماء: والنهي عن القيام قبل أن يروه؛ لئلا يطول عليهم القيام، ولأنه قد يعرض له عارض فيتأخر بسببه»
(5)
.
وذكر المناوي رحمه الله في (فيض القدير): أن النهي في قوله: (فَلَا تَقُومُوا) للندب، إشارة
(1)
سبق تخريجه: ص (388).
(2)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 103)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 607)، فتح الباري، لابن حجر (2/ 120).
(3)
يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 607)، فتح الباري، لابن حجر (2/ 120).
(4)
شرح صحيح البخاري (2/ 266).
(5)
المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 103).
إلى أنه يحمل على الكراهة وليس للتحريم.
القرينة الثالثة: قرينة الحال وسبب النهي.
أن النهي في حديث أبى قتادة كان سببه صنيعهم في حديث أبي هريرة وطول انتظارهم النبي صلى الله عليه وسلم للأمر الذى شغله عنهم، وأنهم كانوا يقومون ساعة إقامة الصلاة ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك
(1)
؛ شفقة عليهم من الانتظار قياماً، لا على سبيل الحتم والتحريم.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرائن قوية ومعتبرة؛ فالقرينة الأولى قرينة نصية، وهي أقوى القرائن الصارفة، فالقرينة هنا قوية في أصلها ولثبوتها وقوة دلالتها، والقرينة الحالية هنا قوية ومعتبرة؛ لأنها في أصلها تعتمد على نص صحيح يصف الحال والحدث، ولدلالتها على موضوع النهي؛ فقد جاءت في بيان الرخصة وجواز المنهي عنه، وقرينة المقصد من النهي كذلك معتبرة لاعتبار مقصد الرفق بالمأمومين.
فالذي يظهر أن القرائن قوية صالحة لصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة، ولأنه بذلك تجتمع الأدلة، وإعمال جميع الأدلة أولى من إهمال بعضها، والله تعالى أعلم.
(1)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 557)، فتح الباري، لابن حجر (2/ 120).
المبحث الرابع:
النهي عن الالتفات في الصلاة
المطلب الأول: حكم الالتفات في الصلاة:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ، وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ: أَمَرَنِي بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ، وَالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ
(1)
، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ
(2)
، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ))
(3)
.
صورة المسألة:
هل يجوز للمصلي أن يلتفت في صلاته يميناً ويساراً بوجهه وجسده ما لم يصِل إلى الاستدبار؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: أجمع العلماء
(4)
على أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، وأن المصلي إذا التفت بجميع بدنه أو استدبر القبلة بطلت صلاته؛ لفوات الشرط.
(5)
.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «أجمع العلماء أن القبلة التي أمر الله نبيه وعباده بالتوجه نحوها في صلاتهم هي الكعبة -البيت الحرام بمكة- وأنه فَرْضٌ على كل مَنْ شاهدها وعاينها استقبالُها، وأنه إن ترك استقباله وهو معاين لها أو عالم بجهتها، فلا صلاة له،
(1)
نَقْرَة الديك: وفي حديث آخر: نقرة الغراب: يريد: تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله، والمراد: النهي عن ترك الطمأنينة في الصلاة. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 104)، لسان العرب (5/ 228)، نيل الأوطار (2/ 320).
(2)
الإِقْعَاء: من أقعى يُقعي إقعاء، وأقعى الكلب إذا جلس على إسته مفترشاً رجليه وناصباً يديه. يُنظر: الصحاح (6/ 2465)، لسان العرب (15/ 192). وله أنواع، سيأتي تفسيرها لاحقاً في مبحث النهي عن الإقعاء.
(3)
أخرجه أحمد (13/ 468) برقم: (8106)، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (2/ 80):«إسناد أحمد حسن» ، الشطر الأول من الحديث صحيح؛ فهو عند البخاري (2/ 58) برقم:(1178)، وعند مسلم (1/ 499) برقم:(721). وللنهي عن الالتفات شاهد عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها، وشاهد من حديث أبي ذر رضي الله عنه عند أبي داود.
(4)
نقل الإجماع: ابن عبد البر في (التمهيد)(17/ 54)، وابن رشد في (بداية المجتهد)(1/ 118)، والنووي في (المجموع)(3/ 189).
(5)
سورة البقرة: جزء من الآية (149).
وعليه إعادة كل ما صلى كذلك»
(1)
.
وقال المرداوي رحمه الله
(2)
: «إن استدار بجملته أو استدبرها -القبلة- فإن صلاته تبطل بلا نزاع»
(3)
.
ثانياً: أجمع العلماء
(4)
على كراهة الالتفات في الصلاة لغير حاجة ما لم يصِل إلى حد استدبار للقبلة.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «أجمع العلماء على أن الالتفات في الصلاة مكروه
…
وجمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيراً»
(5)
.
وقال النووي رحمه الله: «أجمع العلماء على: استحباب الخشوع والخضوع في الصلاة، وغض البصر عما يلهي، وكراهة الالتفات في الصلاة»
(6)
.
وقال العيني رحمه الله
(7)
: «قالت العلماء بكراهة الالتفات في الصلاة،
…
ثم إن الإجماع
(1)
التمهيد (17/ 54).
(2)
هو: علي بن سليمان بن أحمد المِرداوي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي، ويُعرف بـ شيخ المذهب، وُلد سنة 817 هـ، اشتغل بالعلم، فبرع وفضل في فنون من العلوم، وانتهت إليه رئاسة المذهب، فُتح عليه في التصنيف، ومن مصنفاته:«الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» و «التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع» و «تصحيح كتاب الفروع» و «التحبير في شرح التحرير» وغيرها، تُوفي سنة 885 هـ. يُنظر: الضوء اللامع (5/ 225)، شذرات الذهب (9/ 510)، السحب الوابلة (2/ 739).
(3)
الإنصاف (3/ 588)
(4)
نقل الإجماع: ابن عبد البر في (التمهيد)(21/ 103)، والنووي في (المجموع)(3/ 314)، وابن حجر في (فتح الباري)(2/ 234)، والعيني في (عمدة القاري)(5/ 310).
(5)
التمهيد (21/ 103).
(6)
المجموع (3/ 314).
(7)
هو: محمود بن أحمد بن موسى، أبو محمد وأبو الثناء بن الشهاب، الحلبي الأصل ثم القاهري الحنفي ويُعرف بالعيني، وُلد في عنتاب سنة 762 هـ، ونشأ بها وحفظ القرآن العظيم، وتفقه على والده وغيره، وكان أبوه قاضي عينتاب، برع في: الفقه، والتفسير، والحديث، واللغة، والنحو، والتصريف، والتاريخ، وكان فصيحاً باللغتين: العربية والتركية، من كتبه:«عمدة القاري في شرح البخاري» و «البناية في شرح الهداية» و «رمز الحقائق» و «منحة السلوك في شرح تحفة الملوك» و «المقاصد النحوية» و «شرح سنن أبى داود» و «فرائد القلائد» وغيرها، ولي في القاهرة الحسبة وقضاء الحنفية ونظر السجون، ثم صُرف عن وظائفه، وعكف على التدريس والتصنيف إلى أن تُوفي بالقاهرة سنة 855 هـ. يُنظر: الضوء اللامع (10/ 131)، شذرات الذهب (9/ 418)، الفوائد البهية (ص: 207).
على أن الكراهة فيه للتنزيه»
(1)
.
الأدلة:
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ
(2)
يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العَبْدِ))
(3)
.
الدليل الثاني: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَزَالُ اللهُ عز وجل مُقْبِلاً عَلَى الْعَبْدِ
(4)
فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا التَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديثين تنفيراً من الالتفات في الصلاة؛ لما فيه من ترك الإقبال والتوجه إلى الله، ونقص الخشوع المأمور به في الصلاة؛ فلذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم اختلاساً للشيطان من الصلاة، وذلك دليل صريح على كراهة الالتفات، وهو إجماع
(6)
.
قال الطيبي رحمه الله
(7)
: «المعنى من التفت يميناً وشمالاً: ذهب عنه الخشوع المطلوب
(1)
عمدة القاري (5/ 310).
(2)
اخْتِلَاس: وهو فعل من الاختلاس وهو السلب، والخلسة: ما يُؤخذ سلباً ومكابرة. يُنظر: الصحاح (3/ 923)، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 61)، الكواكب الدراري (5/ 118).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الالتفات في الصلاة (1/ 150) برقم:(751).
(4)
مُقْبِلاً على العبد: أي: ناظراً إليه بنظر الرحمة وإعطاء الثواب. يُنظر: المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 190).
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الالتفات في الصلاة (2/ 177) برقم:(909)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب السهو، ذِكر ما ينقض الصلاة، وما لا ينقضها، باب النهي عن الالتفات في الصلاة (1/ 286) برقم:(532)، وأحمد (35/ 400) برقم:(21508). قال الحاكم في (المستدرك)(1/ 361): «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وأبو الأحوص هذا مولى بني الليث: تابعي من أهل المدينة، وثَّقه الزهري، وروى عنه، وجرت بينه وبين سعد بن إبراهيم مناظرة في معناه» ، صححه ابن خزيمة (1/ 273) برقم:(482)، وجوَّده ابن رجب في (فتح الباري)(6/ 445).
(6)
يُنظر: المجموع (4/ 96)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (7/ 40)، فتح الباري، لابن حجر (2/ 234)، فيض القدير (3/ 133).
(7)
هو: الحسين بن محمد بن عبد الله، شرف الدين الطيبي، الإمام المشهور من علماء الحديث والتفسير والمعاني والبيان، وكان آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن، مقبلاً على نشر العلم، متواضعاً، حَسَن المعتقد، شديد الرد على الفلاسفة والمبتدعة، ملازماً لإشغال الطلبة في العلوم الإسلامية ومعيناً لهم، من كتبه:«التبيان في المعاني والبيان» و «الخلاصة في معرفة الحديث» و «شرح الكشاف» و «شرح مشكاة المصابيح» ، تُوفي سنة 743 هـ. يُنظر: الدرر الكامنة (2/ 185)، شذرات الذهب (8/ 239).
بقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}
(1)
، فاستُعير لذهاب الخشوع اختلاس الشيطان؛ تصويراً لقبح تلك الفِعلة، أو أن المصلي حينئذ مستغرق في مناجاة ربه، وأنه تعالى مقبل عليه، والشيطان كالراصد ينتظر فوات تلك الفرصة عنه، فإذا التفت المصلي اغتنم الفرصة فيختلسها منه»
(2)
.
الدليل الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ، وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ: أَمَرَنِي بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ، وَالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الالتفات في الصلاة، وهو للكراهة
(4)
؛ لأن فيه مشابهة الحيوانات، والصلاة تُصان عن مثل ذلك.
ثالثاً: اتفق الفقهاء
(5)
على جواز الالتفات في الصلاة للحاجة.
الأدلة:
الدليل الأول: عن جابر رضي الله عنه قال: ((اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَاماً، فَأَشَارَ إِلَيْنَا، فَقَعَدْنَا، فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُوداً))
(6)
.
الدليل الثاني: عن سهل ابن الحنظلية
(7)
رضي الله عنه قال: ((ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ -يَعْنِي: صَلَاةَ الصُّبْحِ- فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ))، قال أبو داود: وكان أرسل
(1)
سورة المؤمنون: الآية (2).
(2)
شرح المشكاة (3/ 1070).
(3)
سبق تخريجه: ص (392).
(4)
يُنظر: نيل الأوطار (2/ 320).
(5)
يُنظر: البناية (2/ 439)، حاشية الطحطاوي (ص: 347)، مواهب الجليل (1/ 548)، حاشية الدسوقي (1/ 254)، بحر المذهب (2/ 90)، المجموع (4/ 96)، المغني (2/ 7)، الإنصاف (3/ 588).
(6)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام (1/ 309) برقم:(413).
(7)
هو: سهل بن الربيع بن عمرو بن عدي بن زيد الأنصاري، من بني حارثة، والحنظلية: أمه، وقيل: هي أم جده، وإليها يُنسب، وبها يُعرف، وكان ممَّن بايع تحت الشجرة، وكان فاضلاً معتزلاً عن الناس، كثير الصلاة والذكر، وكان عقيماً لا يُولد له، له أخ يُسمى سعداً وأخ يُسمى عقبة، ولهم صحبة، سكن الشام ومات بدمشق في أول أيام معاوية. يُنظر: الاستيعاب (2/ 662)، أسد الغابة (2/ 571).
فارساً إلى الشعب من الليل يحرس
(1)
.
وجه الاستدلال من الحديثين: أن حكاية فِعله صلى الله عليه وسلم وأنه كان يلتفت في صلاته لمصلحة، دليل على أن الالتفات في الصلاة للحاجة غير مفسد لها، ولا مكروه فيها
(2)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبيَّن فيما سبق أن الفقهاء حملوا النهي على الكراهة لا التحريم، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي القرائن التالية:
القرينة الأولى: المقصد من النهي.
أن مقصود النهي: التنفير من هذه الفِعلة القبيحة؛ لأنها من اختلاس الشيطان، ولما فيها من مشابهة الحيوان، ولأنها تؤثر على حضور القلب في الصلاة، فتنقص من الخشوع، فينقص بذلك كمال الصلاة ولا يبطلها؛ لأن الخشوع سنة باتفاق الفقهاء
(3)
.
قال ابن بطال رحمه الله: «فيه حضٌّ على إحضار المصلي ذهنه ونيته؛ لمناجاته ربه، ولا يشتغل بأمر دنياه»
(4)
.
وقال الشوكاني رحمه الله: «والحكمة في التنفير عنه ما فيه من: نقص الخشوع، والإعراض عن الله تعالى، وعدم التصميم على مخالفة وسوسة الشيطان»
(5)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
أن كراهة الالتفات في الصلاة؛ للتنزيه عما لا يليق من الهيئات، وإرشاد
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرخصة في ذلك (2/ 182) برقم:(916)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب السير، فضل الحرس (8/ 140) برقم:(8819) وذكر قصة الحديث، والحاكم (2/ 93) برقم:(2433) وقال: «هذا الإسناد من أوله إلى آخره صحيح على شرط الشيخين غير أنهما لم يخرجا مسانيد سهل بن الحنظلية؛ لقلة رواية التابعين عنه، وهو من كبار الصحابة» ، صححه ابن خزيمة (1/ 275) برقم:(487).
(2)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 316)، المفاتيح في شرح المصابيح (6/ 267)، فتح الباري، لابن رجب (6/ 449).
(3)
اتفق الفقهاء على أن الخشوع سنة. يُنظر: البحر الرائق (2/ 15)، حاشية الطحطاوي (ص: 341)، الذخيرة (2/ 235)، نهاية المحتاج (1/ 547)، الفروع (2/ 251)، كشاف القناع (1/ 392). وحكاه النووي رحمه الله إجماعاً، حيث يقول:«أجمع العلماء على استحباب: الخشوع والخضوع في الصلاة، وغض البصر عما يلهي، وكراهة الالتفات في الصلاة» . المجموع (3/ 314).
(4)
شرح صحيح البخاري (2/ 365).
(5)
نيل الأوطار (2/ 385).
للمحافظة على أدب الصلاة، واستحضار القلب في مناجاة الله جل جلاله.
قال النووي رحمه الله: «إن كان لحاجة لم يُكره، وإلا كُره كراهة تنزيه»
(1)
.
والعلة من النهي عن الالتفات في الصلاة لغير حاجة
(2)
:
1 -
أن فيه تركَ الاقبال على الله، فينقص الخشوع المأمور به في الصلاة؛ ولذلك جعله الشارع اختلاساً للشيطان من الصلاة.
2 -
أن فيه ترك استقبال القبلة ببعض البدن.
3 -
أن كثرة الالتفات يميناً ويساراً هو من هيئة الحيوان.
الحكم على القرينة:
قرينة المقصد من النهي قرينة معتبرة؛ لكونه وسيلة للمحافظة على الخشوع في الصلاة، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة؛ إذ هي بمعنى قرينة المقصد، وما ذُكر فيه من المعاني معتبر بمجموعه، والله أعلم.
(1)
المجموع (4/ 96).
(2)
يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (7/ 40)، فتح الباري، لابن حجر (2/ 234).
المبحث الخامس:
النهي عن رفْع البصر إلى السماء أثناء الصلاة
المطلب الأول: حكم رفْع البصر إلى السماء أثناء الصلاة:
دليل النهي:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ
(1)
(2)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(3)
على كراهة رفع البصر إلى السماء في الصلاة.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
الدليل الثاني: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ))
(4)
.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن في الأحاديث نهياً أكيداً ووعيداً شديداً في رفع البصر إلى جهة
(1)
قال العيني رحمه الله في (عمدة القاري)(5/ 309): «قال الطيبي: كلمة (أو) هنا للتخيير تهديداً، وهو خبر في معنى الأمر، والمعنى: ليكونن منكم الانتهاء عن رفع البصر أو خطف الأبصار عند الرفع من الله تعالى، قلت: الحاصل فيه أن الحال لا تخلو عن أحد الأمرين، إما الانتهاء عنه أو خطف البصر الذي هو العمى» ، وقال المناوي في (فيض القدير) (5/ 398):«يحتمل كونها خطفه حسية وكونها معنوية، ولا مانع من إرادتهما معاً» .
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة (1/ 150) برقم:(750).
(3)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 163)، البحر الرائق (2/ 23)، مواهب الجليل (1/ 549)، شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 293)، المجموع (4/ 97)، نهاية المحتاج (2/ 57)، المغني (2/ 8)، كشاف القناع (1/ 370).
(4)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة (1/ 321) برقم:(428).
(5)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة (1/ 321) برقم:(429).
السماء في الصلاة، وحُمل على الكراهة؛ لأن الإجماع انعقد على كراهته في الصلاة
(1)
، والمعنى في كراهته أنه يُخِل بخشوع المصلي
(2)
؛ فذلك لا يقتضي التحريم؛ لأن الخشوع سنة.
الدليل الرابع: الإجماع على كراهة رفع البصر إلى السماء في الصلاة
(3)
.
قال ابن بطال رحمه الله: «العلماء مجمعون على القول بهذا الحديث، وعلى كراهية النظر إلى السماء في الصلاة»
(4)
.
وقال ابن الملقن رحمه الله: «الإجماع قائم على العمل بمقتضى الحديث، وأنه يُكره رفع بصره إلى السماء»
(5)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي القرائن التالية:
القرينة الأولى: الإجماع.
فإجماع العلماء على كراهة رفع البصر إلى السماء في الصلاة، قرينة على أن النهي ليس للتحريم.
قال زكريا الأنصاري رحمه الله
(6)
: «والحاصل: أن رفعها مكروه، وإنما لم يحرم؛ للإجماع
(1)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 152)، عمدة القاري (5/ 308).
(2)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (6/ 442).
(3)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (2/ 364)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (7/ 36)،، عمدة القاري (5/ 308)، فيض القدير (5/ 398).
(4)
شرح صحيح البخاري (2/ 364).
(5)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح (7/ 36).
(6)
هو: زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السنيكي المصري الشافعيّ، أبو يحيى، وُلد في سنيكة بمصر سنة 826 هـ، برع في سائر العلوم الشرعية وآلاتها: حديثاً، وتفسيراً، وفقهاً، وأصولاً، وعربية، وأدباً، ومعقولاً، ومنقولاً، فأقبلت عليه الطلبة للاشتغال عليه، وعمَّر حتى رأى تلاميذه وتلاميذ تلاميذه شيوخ الإسلام، وقرت عينه بهم في محافل العلم، من مؤلفاته:«فتح الرحمن» و «تحفة الباري على صحيح البخاري» و «شرح شذور الذهب» و «اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم» و «فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام» و «تنقيح تحرير اللباب» و «أسنى المطالب في شرح روض الطالب» وغيرها، تُوفي سنة 926 هـ. يُنظر: شذرات الذهب (10/ 186)، الكواكب السائرة (1/ 198)، الأعلام، للزركلي (3/ 46).
على عدم الحرمة»
(1)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أن النهي والوعيد جاء للتخويف من هذه الفِعلة؛ تنزيهاً للصلاة عما ينقص في خشوعها وهيئتها.
جاء في (المفاتيح في شرح المصابيح): «اعلم أن النظر إلى السماء عند الدعاء في الصلاة مكروه؛ لأنه التفات، والالتفات في الصلاة مكروه، فلأجل هذا خوَّفهم الرسول رحمه الله»
(2)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: «ليس العبد ينهى عن رفع بصره مطلقا وإنما نهي في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع؛ لأن خفض البصر من تمام الخشوع»
(3)
.
وقال المناوي رحمه الله: «وذلك لما فيه من فوت كمال الخشوع»
(4)
.
الحكم على القرينة:
قرينة الإجماع من أقوى القرائن المعتبرة، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة، وقد تقوَّت واعتضدت بقرينة الإجماع؛ فالنهي محمول على الكراهة، والذي يظهر أن الكراهة شديدة؛ لقوة النهي والوعيد، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال ابن تيمية رحمه الله: «مسألة: ويجعل نظره إلى موضع سجوده، وجملة ذلك: أنه يُكره للمصلي: رفع البصر إلى السماء، أو الالتفات يمنة ويسرة لغير حاجةٍ، كراهةً شديدةً»
(5)
.
(1)
منحة الباري (2/ 459).
(2)
(2/ 184).
(3)
مجموع الفتاوى (6/ 578).
(4)
فيض القدير (5/ 398).
(5)
شرح العمدة، لابن تيمية - صفة الصلاة (ص: 71).
المبحث السادس:
النهي عن تغميض العين في الصلاة
المطلب الأول: حكم تغميض العين في الصلاة:
دليل النهي:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُغْمِضْ عَيْنَيْهِ))
(1)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في حكم تغميض العين في الصلاة، على قولين:
القول الأول: كراهة تغميض العين في الصلاة من غير حاجة.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(2)
، والمالكية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: لا يُكره تغميض العين في الصلاة إذا لم يخف ضرراً.
وهو مذهب الشافعية
(5)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما
(6)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهَى عن تغميض العين في الصلاة، وظاهر النهي محمول على الكراهة لا التحريم، والصارف له التعليل بأنه يفوت النظر إلى المحل
(1)
أخرجه الطبراني في (المعجم الأوسط)(2/ 356) برقم: (2218)، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (2/ 83):«رواه الطبراني في الثلاثة، وفيه: ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وقد عنعنه» ، وقال النووي في (المجموع) (3/ 314):«قال البيهقي: ليس بشيء» ، وقال ابن رجب في (فتح الباري) (6/ 443):«إسناده ضعيف» .
(2)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 216)، حاشية ابن عابدين (1/ 645).
(3)
يُنظر: مواهب الجليل (1/ 550)، شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 293).
(4)
يُنظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 286)، مطالب أولي النهى (1/ 475).
(5)
يُنظر: المجموع (3/ 314)، أسنى المطالب (1/ 169).
(6)
استدل به الحنفية. يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 216)، حاشية الطحطاوي (ص: 354).
المندوب
(1)
.
نُوقش: بأن الحديث ضعيف وليس بشيء
(2)
.
الدليل الثاني: أنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة، بل إن الوقائع تشهد لكونه يفتح عينيه في الصلاة
(3)
.
الدليل الثالث: أنه من فِعل اليهود
(4)
، وقد نُهينا عن التشبه بهم.
قال ابن قدامة رحمه الله: «يُكره أن يغمض عينيه في الصلاة، نص عليه أحمد، وقال: هو فِعل اليهود»
(5)
.
الدليل الرابع: أن تغميض العين يغير هيئة المصلي، وربما كان سبباً للنوم، وفيه نوع عبث يخل بالخشوع
(6)
.
الدليل الخامس: أن تغميض العين في الصلاة يوهم أنه مطلوب فيها، فيُكره خوفاً من اعتقاد وجوبه
(7)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أنه لم يرِد في النهي دليل صحيح
(8)
.
يمكن أن يُناقش: بأنه يُسلم أنه لم يثبت في النهي دليل صحيح، لكن وردت الأحاديث بمجموعة من الوقائع التي تفيد العلم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يغمض عينيه في الصلاة
(9)
.
الدليل الثاني: أن في تغميض العين منعاً لتفريق الذهن، فيكون سبباً لحضور
(1)
يُنظر: حاشية الطحطاوي (ص: 354)، حاشية ابن عابدين (1/ 645).
(2)
يُنظر: المجموع (3/ 314)، أسنى المطالب (1/ 169).
(3)
يُنظر: زاد المعاد (1/ 283).
(4)
يُنظر: المبدع (1/ 424)، شرح منتهى الإرادات (1/ 207).
(5)
المغني (2/ 9).
(6)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 164)، المبدع (1/ 424)، شرح منتهى الإرادات (1/ 207).
(7)
يُنظر: شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 293)، حاشية الدسوقي (1/ 254).
(8)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 169)، تحفة المحتاج (2/ 100).
(9)
يُنظر: زاد المعاد (1/ 283).
القلب وجمع الخشوع الذي هو سر الصلاة وروحها
(1)
.
يمكن أن يُناقش: لا يُسلَّم بأن تغميض العينين يجمع الخشوع وحضور القلب في كل حال، بل قد يكون مخلاً بالخشوع؛ لكونه جالباً للنوم.
سبب الخلاف:
السبب هو اختلافهم في صحة ما ورد في النهي وثبوته، واختلافهم في كون التغميض يجمع الخشوع أم ينافيه.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بكراهة تغميض العين في الصلاة لغير حاجة.
أسباب الترجيح:
1 -
أنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تغميض العين في الصلاة، والأمة مأمورة باتباع هديه صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنه لم يُنقل أنه صلى الله عليه وسلم أرشد أمته أو أمرها بتغميض العين طلباً للخشوع وحضور القلب.
قال ابن القيم رحمه الله: «لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة» ، ثم ساق مجموعة من الأدلة والوقائع، وقال بعدها:«فهذه الأحاديث وغيرها يُستفاد من مجموعها العلم بأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة .... والصواب أن يُقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قِبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه، فهنالك لا يُكره التغميض قطعاً، والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة، والله أعلم»
(2)
.
(1)
يُنظر: المجموع (3/ 314)، أسنى المطالب (1/ 169).
(2)
زاد المعاد (1/ 283).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل أصحاب القول الأول النهي على الكراهة لا التحريم، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف له: قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
أشار العلماء في كلامهم أن كراهة تغميض العين في الصلاة إنما هو من باب الأدب والإرشاد لمصلحة الصلاة، وما كان كذلك يُحمل على الكراهة
(1)
.
قال المناوي رحمه الله: «فإن غمضهما بغير عذر كُره تنزيهاً»
(2)
.
تنوعت أقوال أهل العلم في العلة من كراهة تغميض العين في الصلاة، ومن ذلك:
قيل: أن السُّنَّة أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وفي التغميض تركها.
وقيل: أنه يُكره تغميض البصر؛ لئلا يُتوهم أنه واجب ومطلوب فيها
(3)
.
وقيل: أن فيه نوع عبث يخل بالخشوع
(4)
.
وقيل: أنه مظنة النوم، ولأنه يغير هيئة المصلي
(5)
.
وقيل: أنه فِعل اليهود
(6)
.
الحكم على القرينة:
قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة إن ثبت النهي، وإن لم يثبت النهي فإن القول بكراهة تغميض العين في الصلاة أُخذ من ظاهر هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة، ولم يرِد ما يُثبِت خلاف ذلك، ويمكن أن يصدُق علةً للكراهة جميع ما ذكره العلماء، والله تعالى أعلم.
(1)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(2)
فيض القدير (1/ 414).
(3)
يُنظر: شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 293)، حاشية الدسوقي (1/ 254).
(4)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 164).
(5)
يُنظر: المبدع (1/ 424)، شرح منتهى الإرادات (1/ 207).
(6)
يُنظر: مطالب أولي النهى (1/ 475)، فيض القدير (1/ 414).
المبحث السابع:
النهي عن التثاؤب
المطلب الأول: حكم التثاؤب:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ
(1)
، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ: فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ
(2)
مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ: هَا، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ))
(3)
.
وفي رواية: ((وَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْدُدْهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يَقُلْ: آهْ آهْ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا فَتَحَ فَاهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ))
(4)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(5)
على كراهة التثاؤب مطلقاً، وأنه يُستحب ردّه ما استطاع.
(1)
قال الخطّابي في (معالم السنن)(4/ 141): «المعنى: أن العطاس إنما يكون مع انفتاح المسام وخفة البدن وتيسير الحركات، وسبب هذه الأمور تخفيف الغذاء والإقلال من المطعم والاجتزاء باليسير منه، والتثاؤب إنما يكون مع ثقل البدن وامتلائه وعند استرخائه للنوم وميله إلى الكسل، فصار العطاس محموداً؛ لأنه يعين على الطاعات، والتثاؤب مذموماً؛ لأنه يثبطه عن الخيرات وقضاء الواجبات» ، وقال ابن بطّال في (شرح صحيح البخاري) (9/ 370):«معنى إضافة التثاؤب إلى الشيطان إضافة رضا وإرادة، أي أن الشيطان يحب أن يرى تثاؤب الانسان؛ لأنها حال المثلة وتغييرٌ لصورته، فيضحك من جوفه، لا أن الشيطان يفعل التثاؤب في الإنسان؛ لأنه لا خالق للخير والشر غير الله، وكذلك كل ما جاء من الأفعال المنسوبة إلى الشيطان فإنها على معنيين: إما إضافة رضا وإرادة، أو إضافة بمعنى الوسوسة في الصدر والتزيين» .
(2)
فَلْيَرُدَّه: أي: يأخذ في أسباب رده، وليس المراد به أنه يملك دفعه؛ لأن الذي وقع لا يرد حقيقةً. فتح الباري، لابن حجر (10/ 612).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يُستحب من العطاس وما يُكره من التثاؤب (8/ 49) برقم:(6223)، وأخرجه مسلم مختصراً، كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس، وكراهة التثاؤب (4/ 2293) برقم:(2995).
(4)
أخرجه أحمد (15/ 326) برقم: (9531).
(5)
يُنظر: حاشية الطحطاوي (ص: 354)، حاشية ابن عابدين (1/ 645)، التفريع (2/ 417)، المجموع (4/ 100)، مغني المحتاج (1/ 422)، الآداب الشرعية (2/ 347)، كشاف القناع (1/ 373).
جاء في (التفريع): «يُكره التثاؤب، فإن، تثاءب فليكظم ما استطاع، وليضع يده على فيه»
(1)
.
وقال النووي رحمه الله في (المجموع): «يُكره التثاؤب في الصلاة، ويُكره في غيرها أيضاً، فإن تثاءب فليرده ما استطاع، ويُستحب وضْع يده على فيه، سواء كان في الصلاة أم لا»
(2)
.
وقال ابن مفلح رحمه الله في (الآداب الشرعية): «يُكره التثاؤب مطلقاً»
(3)
.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((وَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْدُدْهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يَقُلْ: آهْ آهْ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا فَتَحَ فَاهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن ما جاء في الحديث من ذم التثاؤب يدل على كراهته؛ لأن الله سبحانه وتعالى يكرهه، ولأنه مما يرتضيه الشيطان؛ فلذا نهى صلى الله عليه وسلم مَنْ تثاءب عن التمادي فيه حتى يقول: آه آه، وأمر برده وكظمه ما أمكن؛ لئلا يبلغ الشيطان مراده من تشويه صورته وضحكه منه، فالنهي محمول على الكراهة والأمر على الندب؛ لأنه من باب الإرشاد إلى محاسن الأحوال، ومكارم الآداب
(5)
.
الدليل الثاني: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ
(6)
(7)
.
وجه الاستدلال: أنه جاء في هذا الحديث التقييد بالصلاة، وقد جاء مطلقاً في غيره من الأحاديث، وذلك لاحتمال أن تكون كراهته في الصلاة أشد، ولا يلزم من ذلك أن
(1)
(2/ 417).
(2)
(4/ 100).
(3)
(2/ 347).
(4)
سبق تخريجه ص: (405).
(5)
يُنظر: المفهم (6/ 626)، المنهاج شرح صحيح مسلم (18/ 123).
(6)
قوله: (يدخل): يحتمل أن يُراد به الدخول حقيقة، وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم، لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكراً الله تعالى، والمتثائب في تلك الحالة يكون غير ذاكر، فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقةً، ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه؛ لأن من شأن مَنْ دخل في شيء أن يكون متمكناً منه. يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 612).
(7)
أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس، وكراهة التثاؤب (4/ 2293) برقم:(2995).
لا يُكره في غير حالة الصلاة، فلا تنافيَ بينهم، ويؤيد كراهته مطلقاً كونه من الشيطان
(1)
.
جاء في (فتح الباري) لابن حجر: «ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة؛ لأنها أولى الأحوال بدفعه؛ لما فيه من الخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخِلقة»
(2)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص بالتعليل في الحديث نفسه.
وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ)، وقوله:(وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ: فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ) أفاد تعليل النهي عن التثاؤب.
جاء في (الآداب الشرعية): «العطاس يدل على خفة بدن ونشاط، والتثاؤب غالباً لثقل البدن وامتلائه واسترخائه، فيميل إلى الكسل، فأضافه إلى الشيطان؛ لأنه يرضيه أو من تسببه لدعائه إلى الشهوات»
(3)
.
وقوله: (ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) فيه إشارة إلى ذم التثاؤب وكراهة التمادي فيه؛ لئلا يبلغ الشيطان مراده.
قال ابن الجوزي رحمه الله
(4)
(5)
.
(1)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 612)، حاشية ابن عابدين (1/ 645).
(2)
(10/ 612). نقلاً عن ابن العربي.
(3)
(2/ 335).
(4)
هو: عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي، أبو الفرج الإمام الحافظ المؤرخ الواعظ الكبير، وُلد ببغداد سنة 511 هـ، نبغ في مختلف فروع العلم، وبلغ في صناعة الوعظ شهرة عمت الآفاق، صنف في فنون عديدة، وله نحو أربعمائة مصنف، منها:«المنتظم في تاريخ الأمم» و «زاد المسير في علم التفسير» و «كشف المشكل من حديث الصحيحين» و «أخبار الأذكياء» ، وغير ذلك من المصنفات المختلفة ذات النفع العظيم، تُوفي سنة 597 هـ. يُنظر: وفيات الأعيان (3/ 140)، شذرات الذهب (1/ 48).
(5)
كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 530).
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
أشار العلماء إلى أن كراهة التثاؤب وكراهة التمادي فيه إنما هو أدب من الآداب، والنهي في باب الأدب يُحمل على الكراهة
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله: «
…
وكل هذا يشعر بكراهة التثاؤب، وكراهة حالة المتثائب إذا لم يكظم، وأوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى محاسن الأحوال، ومكارم الآداب»
(2)
.
ومما ذكره العلماء من علل النهي:
قيل: أن التثاؤب دون كظمه أو تغطية الفم يُعد من سوء الأدب المخالف لآداب العشرة والمحادثة بين الناس، وأشد منه حين تكون في الصلاة ومناجاة الرب سبحانه؛ فلذا نُهي عن التمادي فيه، وأُمر بكظمه أو تغطية الفم
(3)
.
جاء في (الآداب الشرعية): «مَنْ تثاءب كظم ما استطاع؛ للخبر، وأمسك يده على فمه أو غطاه بكمه أو غيره إن غلب عليه التثاؤب،
…
ويُكره إظهاره بين الناس مع القدرة على كفه، وإن احتاجه تأخَّر عن الناس وفَعَله»
(4)
.
وقيل: أنه من التكاسل والامتلاء
(5)
.
وقيل: أنه مخل بمعنى الخشوع إن كان في الصلاة
(6)
.
(7)
.
الحكم على القرينة:
(1)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(2)
المفهم (6/ 626). ويُنظر: شرح سنن أبي داود، لابن رسلان (19/ 213).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 39).
(4)
(2/ 347).
(5)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 164)
(6)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 215).
(7)
كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 530).
القرينة النصية هي أقوى القرائن الصارفة؛ فالقرينة هنا قوية ومعتبرة، وكونها جاءت في النص نفسه يزيدها قوة؛ لأنها تكون مبيِّنة للمراد، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد وما ذُكر فيها من المعاني قرينة معتبرة؛ إذ إن كراهة التثاؤب من جملة آداب العشرة ومكارم الأخلاق، فالقرائن قوية خصوصاً مع عدم ما يعارضها، والله تعالى أعلم.
المبحث الثامن:
النهي عن فرقعة الأصابع أثناء الصلاة
المطلب الأول: حكم فَرْقَعَةِ
(1)
الأصابع أثناء الصلاة:
دليل النهي:
عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تُفَقِّعْ
(2)
أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ))
(3)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(4)
على كراهة فرقعة الأصابع في الصلاة.
قال العيني رحمه الله: «قال شيخ الإسلام
(5)
: كُره من الناس الفرقعة خارج الصلاة؛ فإنها تلقين الشيطان، ولا خلاف لأحد من الأئمة الأربعة وغيرهم في كراهة فرقعة الأصابع وتشبيكها في الصلاة»
(6)
.
(1)
الفَرْقَعَة: تنقيض الأصابع، وقد فرقعها فتفرقعت، فرقعة الأصابع: غمزها حتى يُسمع لمفاصلها صوت. يُنظر: لسان العرب (8/ 251)، تاج العروس (21/ 494).
(2)
تَفْقِيع الأصابع: هي الفرقعة، يُقال: فقع أصابعه تفقيعاً، التَّفْقِيع: صوت الأصابع إذا ضرب بعضها ببعض أو فرقعها. يُنظر: لسان العرب (8/ 256)، تاج العروس (21/ 510).
(3)
أخرجه ابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما يُكره في الصلاة (2/ 111) برقم:(965)، ضعّفه النووي في (خلاصة الأحكام)(1/ 492)، وأعلّه الزيلعي بالحارث الأعور في (نصب الراية)(2/ 87). وفي الباب حديث معاذ بن أنس الجهني، وأثر عن ابن عباس -سيأتي ذكرهما في الأدلة-، فلعل الفقهاء أخذوا بمجموع هذه الأخبار واحتجوا بها للكراهة، ولأنه ليس في الباب شيء يدفعه؛ وذلك على أصل العمل بالضعيف إِذا لم يجد في الباب أَثراً يدفعه ولا قولَ صاحب، ولا إجماعاً على خلافه، والأئمة متفقون على هذا الأَصل من حيث الجملة. يُنظر: المسودة في أصول الفقه (ص: 276)، المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد (1/ 155).
(4)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، تبيين الحقائق (1/ 162)، مواهب الجليل (1/ 550)، شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 292)، المجموع (4/ 105)، أسنى المطالب (1/ 183)، المغني (2/ 9)، شرح منتهى الإرادات (1/ 209).
(5)
يُطلق لقب شيخ الإسلام عند الحنفية على عدد من العلماء الذين تصدروا للإفتاء، وإذا أُطلق فيُراد به: خُوَاهَر زَاده. يُنظر: بحث بعنوان: المذهب المعتمد عند الحنفية واصطلاحاته الفقهية، إعداد الباحث الدكتور: مرضي بن مشوح العنزي.
(6)
البناية (2/ 437).
الأدلة:
الدليل الأول: عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تُفَقِّعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً صريحاً عن فرقعة الأصابع في الصلاة، وهو محمول على الكراهة والتنزيه؛ لأنه من العبث
(2)
.
الدليل الثاني: عن معاذ بن أنس رضي الله عنه
(3)
، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:((قال الضَّاحِكُ فِي الصَّلَاةِ، وَالْمُلْتَفِتُ، وَالْمُفَقِّعُ أَصَابِعَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث التسوية بين هذه الأفعال الثلاثة، وأنها بمنزلة واحدة، إشارةً إلى كراهتها؛ لكونها من العبث المخل بالخشوع في الصلاة
(5)
؛ فهي مكروهة تنزيهاً
(6)
.
الدليل الثالث: أن فرقعة الأصابع عبث، والعبث مكروه في الصلاة
(7)
.
قال ابن قدامة رحمه الله حيث يقول: «يُكره العبث كله، وما يشغل عن الصلاة، ويذهب بخشوعها، وقد رُوي:((أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يَعبَث في الصَّلاة، فقال: لو خشَع قلبُ هذا لخشعت جوارحُه))
(8)
، ولا نعلم بين أهل العلم في كراهة هذا كله اختلافاً»
(9)
.
(1)
سبق تخريجه ص: (410).
(2)
يُنظر: أسنى المطالب (1/ 183)، فيض القدير (6/ 414).
(3)
هو: معاذ بن أنس الجهني الأنصاري، صحابي نزل مصر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي الدرداء وكعب الأحبار، وعنه: ابنه سهل بن معاذ ولم يروِ عنه غيره، وهو لين الحديث لكن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، ذُكر أنه بقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان. يُنظر: أسد الغابة (5/ 186)، تهذيب التهذيب (10/ 186).
(4)
أخرجه أحمد (24/ 386) برقم: (15621)، والبيهقي، كتاب الصلاة، جماع أبواب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، باب كراهية تفقيع الأصابع في الصلاة (4/ 390) برقم:(3618) وقال: «زَبَّانُ بْنُ فَائِدٍ غير قوي» ، الحديث ضعّفه النووي في (خلاصة الأحكام)(1/ 493)، والزيلعي في (نصب الراية)(2/ 87).
(5)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (3/ 426).
(6)
يُنظر: فيض القدير (2/ 365).
(7)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، أسنى المطالب (1/ 183).
(8)
قال ابن رجب في (فتح الباري)(6/ 367): «رُوي عن حذيفة، أنه رأى رجلاً يعبث في صلاته، فقال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه)، ورُوي عن ابن المسيب، ورُوي مرسلاً» ، ولم أقف على المرسل الذي ذكره ابن قدامة، أما الأثر عن ابن المسيب: فقد أخرجه عبد الرزاق الصنعاني (2/ 266) برقم: (3308)، وابن أبي شيبة (2/ 86) برقم:(6787).
(9)
المغني (2/ 9).
الدليل الرابع: عن شعبة
(1)
مولى ابن عباس رضي الله عنهما، قال:((صليت إلى جنب ابن عباس، ففقعت أصابعي، فلما قُضيت الصلاة قال: لَا أُمَّ لَكَ، تُقَعْقِعُ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن إنكار الصحابي على المفقع أصابعه، دليل على أنه مكروه في الصلاة، وأن الصلاة ينبغي أن تُنزه عن مثل هذا العبث الذي لا يليق بالوقوف بين يدي المولى -جل وعلا-.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم قرينة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
فالذي يظهر أن الفقهاء حملوا النهي على الكراهة لما فيه من الترغيب إلى التزام الأدب حين الوقوف بين يدي الله عز وجل، وإرشاداً وتنزيهاً للصلاة عن العبث المخل بالخشوع، والنهي في باب الأدب والإرشاد محمول على الكراهة
(3)
.
فترْك الفَرْقعة والعبث من باب الأدب، وهو وسيلة للمحافظة على كمال الخشوع في الصلاة.
قال القرافي رحمه الله: «القاعدة: أن الوسائل تبع للمقاصد ودونها في الرتبة: فوسيلة الواجب واجبة، ودونه في الوجوب، ووسيلة المندوب مندوبة، ودونه في الندب، ووسيلة المباح مباحة غير أنها لا يمكن أن تكون أدنى منه؛ لتعذر ذلك في المباح؛ لضرورة
(1)
هو: شعبة بن دينار القرشي الهاشمي، مولى ابن عباس، ويُكنى أبا عبد الله، صدوق سيء الحفظ من الرابعة، روى عنه ابن أبي ذئب وعدة من أهل المدينة وغيرهم، ولم يروِ عنه مالك بن أنس، مات في وسط خلافة هشام. يُنظر: تقريب التهذيب (ص: 266)، الطبقات الكبرى (5/ 225).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 128) برقم: (7280)، حسّنه زكريا غلام في (ما صح من آثار الصحابة في الفقه)(1/ 297)، وقال الألباني في (إرواء الغليل) (2/ 99):«سنده حسن» .
(3)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
الاستواء»
(1)
.
قال المناوي رحمه الله: «قوله: (لا تفقع أصابعك) أي: أصابع يديك وأنت في الصلاة، فيُكره تنزيهاً»
(2)
، والعلة في ذلك: أنه عبث مخالف لهيئة الصلاة
(3)
، ولكونه من الشيطان
(4)
.
الحكم على القرينة:
قرينة ورود النهي في باب الأدب قرينة قوية ومعتبرة؛ لعدم المعارض ولاعتبار العلة من النهي، وإنكار الصحابي على المفقع يؤيد معنى الأدب والتنزيه، والله تعالى أعلم.
(1)
نفائس الأصول (3/ 1261).
(2)
فيض القدير (6/ 414).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، أسنى المطالب (1/ 183).
(4)
يُنظر: البناية (2/ 437).
المبحث التاسع:
النهي عن تشبيك الأصابع أثناء الصلاة
المطلب الأول: حكم تشبيك الأصابع أثناء الصلاة:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَا يَقُلْ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ))
(1)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(2)
على كراهة تشبيك الأصابع في الصلاة.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وجه الاستدلال: أن قوله: (فِي صَلَاةٍ) تعليل النهي عن التشبيك في الصلاة إذا خرج من بيته بأنه في صلاة؛ فإذا نهى مَنْ يُكتب له أجر المصلي لكونه قاصدها، دل ذلك على أن حالة الصلاة الحقيقية أَوْلى بترك العبث، سواء كانت الصلاة بالمسجد أم غيره، وهو أشد كراهة؛ لأنه عبث ينافي الخشوع
(3)
، والعبث في الصلاة مكروه
(4)
.
الدليل الثاني: حديث كعب بن عُجْرة رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَفَرَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصَابِعِهِ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن تفريج النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابع الرجل وعدم أمره بإعادة الصلاة،
(1)
سبق تخريجه: ص (355).
(2)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 162)، حاشية الطحطاوي (ص: 346)، مواهب الجليل (1/ 550)، شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 292)، المجموع (4/ 105)، أسنى المطالب (1/ 183)، المغني (2/ 8)، كشاف القناع (1/ 372).
(3)
يُنظر: شرح المصابيح، لابن الملك (2/ 62)، مرقاة المفاتيح (2/ 788)، فيض القدير (1/ 321).
(4)
يُنظر: التمهيد (13/ 196)، المغني (2/ 9).
(5)
أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية التشبيك بين الأصابع في الصلاة (2/ 228) برقم:(386)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يُكره فِي الصلاة (2/ 112) برقم:(967) واللفظ له، وأحمد (30/ 39) برقم:(18112)، قال الألباني في (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل) (2/ 102) بعد تضعيف حديث كعب بن عجرة وذِكر طرقه ورواياته:«وجملة القول أن: الحديث صحيح من قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبى هريرة، فلو أن المؤلف آثره على اللفظ الذى أورده لكان أصاب» . فحديث أبي هريرة المتقدم شاهد له.
فيه دلالة على كراهة التشبيك في الصلاة مطلقاً من غير تقييد بالمسجد؛ لأنه نوع من العبث الذي لا يليق بحال المصلي
(1)
.
الدليل الثالث: ((سُئل نافع عن الرجل يصلي وهو مشبِّك يديه، فقال: قال ابن عمر: تِلْكَ صَلَاةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن أثر ابن عمر يدل على أنه يُكره تشبيك اليدين في الصلاة؛ لما فيه من مشابهة أهل الكتاب، فالصلاة بالتشبيك صلاة اليهود، وهم المغضوب عليهم
(3)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: المقصد من النهي.
فالمقصود: الاتيان بالصلاة على صفات الكمال والبعد عن الهيئات التي لا يلائم شيء منها الصلاة ولا يشاكل حال المصلي
(4)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
أن النهي جاء في باب الأدب والإرشاد للتنزيه؛ فالنهي عن التشبيك فيه إرشاد لأدب الوقوف بين يدي الله عز وجل، والنهي في باب الأدب محمول على الكراهة
(5)
.
قال المناوي رحمه الله: «
…
فلذلك كُره تنزيهاً»
(6)
أي: تنزيهاً للصلاة عن الإخلال بأدبها وخشوعها.
والعلة من النهي:
قال المناوي رحمه الله: «إن التشبيك جالب للنوم، وهو مظنة للحدث»
(7)
.
وقال ابن رجب رحمه الله في كراهة التشبيك: «
…
وهو من نوع العبث الذي تنزه عنه
(1)
نيل الأوطار (2/ 388).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة (2/ 236) برقم:(993)، صححه الألباني في (إرواء الغليل)(2/ 102).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (3/ 426).
(4)
يُنظر: معالم السنن (1/ 162)، فيض القدير (1/ 321)
(5)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(6)
فيض القدير (1/ 321).
(7)
فيض القدير (1/ 321)، ويُنظر: حاشية الطحطاوي (ص: 346).
الصلاة، ومثله تفقيع الأصابع»
(1)
.
وقيل: لما فيه من مشابهة أهل الكتاب
(2)
.
الحكم على القرينة:
قرينة المقصد من النهي معتبرة؛ لأن المقصود صيانة الصلاة والاتيان بها على هيئتها المشروعة، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة تصرف النهي عن التحريم، وخبر تفريج النبي صلى الله عليه وسلم لأصابع الرجل مؤيِّد لمعنى التأديب والإرشاد، والله تعالى أعلم.
(1)
فتح الباري (3/ 426)، ويُنظر: أسنى المطالب (1/ 183).
(2)
فتح الباري (3/ 426).
المبحث العاشر:
النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود
المطلب الأول: حكم قراءة القرآن في الركوع والسجود:
دليل النهي:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً، فَأَمَّا الرُّكُوعُ: فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل، وَأَمَّا السُّجُودُ: فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ
(1)
أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ))
(2)
.
وعن علي رضي الله عنه قال: ((نَهَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَقْرَأَ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً))
(3)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(4)
على كراهة قراءة القرآن في الركوع والسجود.
قال النووي رحمه الله: «اتفقوا على كراهة قراءة القرآن في الركوع والسجود وغير حالة القيام»
(5)
.
وقال ابن تيمية رحمه الله: «قد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود»
(6)
.
وقال ابنُ الشِّلْبِيِّ رحمه الله
(7)
في حاشيته على (تبيين الحقائق): «تُكره قراءة القرآن في
(1)
قَمِنٌ: أي: خليق وجدير. يُنظر: النهاية (4/ 111)، لسان العرب (13/ 347).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (1/ 348) برقم:(479).
(3)
المصدر نفسه (1/ 348) برقم: (480).
(4)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 115)، حاشية ابن عابدين (1/ 523)، شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 291)، حاشية الدسوقي (1/ 253)، العزيز شرح الوجيز (1/ 512)، المجموع (3/ 434)، المغني (1/ 362)، الشرح الكبير (3/ 484).
(5)
المجموع (3/ 434).
(6)
مجموع الفتاوى (23/ 58).
(7)
هو: أحمد بن يونس بن محمد، شهاب الدين المصري الحنفي، المعروف بابن الشلبي، كان عالماً، كريم النفس، كثير الصدقة على الفقراء والمساكين، له:«حاشية على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق» و «الدرر الفرائد» ، تُوفي سنة 947 هـ وله من العمر بضع وستون سنة. يُنظر: الكواكب السائرة (2/ 116)، شذرات الذهب (10/ 382)، الأعلام، للزركلي (1/ 276).
الركوع والسجود والتشهد بإجماع الأئمة الأربعة»
(1)
.
الأدلة: استدلوا بحديثي ابن عباس وعلي رضي الله عنهم.
وجه الاستدلال: في الحديث نهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، والنهي محمول على الكراهة والتنزيه؛ لأن الركوع والسجود ليسا محلاً للقراءة
(2)
، والنهي عام للأمة؛ لأن أمْر الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ للأمة ما لم يوجد تخصيص
(3)
، ويدل على عدم التخصيص هنا أنه صلى الله عليه وسلم خاطب أمته بعدها، فأمرهم بالتعظيم للرب في الركوع وبالدعاء في السجود، فدل ذلك أن الأمة داخلون معه في خطاب النهي
(4)
.
وكذلك يدل حديث علي رضي الله عنه على عدم التخصيص وعموم النهي للأمة؛ فخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أمته هو خطاب للأمة
(5)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: المقصد من النهي.
سياق الحديث يشير إلى أن المقصد من النهي تعظيم القرآن الكريم وبيان مكانته، وأنه لا يُقرأ في موضع الخضوع والتذلل.
قال العيني رحمه الله: «فإن قيل: ما الحكمة من النهي عن القراءة في حالتي الركوع والسجود؟ قلت: الذي يلوح لنا في هذا المقام هو أن النبي رحمه الله أخبر الأمة عن انقطاع الوحي بوفاته، وعزَّاهم عن مبشرات النبوة، ثم نبههم على جلالة قدْرها بما هو تارك فيهم من الوحي المنزل - وهو الكتاب العزيز الذي لم يُؤتَ نبي مثله- بقرينة مستكنة في صيغة النهي.
وذلك أن الركوع والسجود من باب الخضوع وأمارات التذلل من العباد لجلال وجه الله الكريم، فنهى أن يُقرأ الكتاب الكريم الذي عظم شأنه، وارتفع محله عند هيئة موضوعة
(1)
تبيين الحقائق (1/ 115)، ويُنظر: حاشية الطحطاوي (ص: 282)، حاشية ابن عابدين (1/ 523).
(2)
يُنظر: شرح المصابيح (2/ 8)، أسنى المطالب (1/ 157).
(3)
يُنظر: العدة (1/ 318)، المسودة (ص: 31)، روضة الناظر (1/ 586).
(4)
يُنظر: شرح المشكاة، للطيبي (3/ 1015).
(5)
يُنظر: قواطع الأدلة (1/ 228)، الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (2/ 263).
للخضوع والتذلل؛ ليتبين لأولي العلم معنى الكتاب العزيز، وينكشف لذوي البصائر حقيقة القرآن الكريم»
(1)
.
وجاء في (مرقاة المفاتيح): «إن الركوع والسجود حالان دالان على الذل، ويناسبهما الدعاء والتسبيح، فنُهي عن القراءة فيهما تعظيماً للقرآن الكريم، وتكريماً لقارئه القائم مقام الكليم، والله بكل شيء عليم»
(2)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أن النهي جاء في باب الأدب والإرشاد للتنزيه، والنهي في باب الأدب محمول على الكراهة
(3)
.
قال زكريا الأنصاري رحمه الله: «فيه كراهة قراءة القرآن -ولو بعض آية- في الركوع والسجود، ومثلها كما في المجموع سائر أفعال الصلاة غير القيام، وهي كراهة تنزيه، فلو قرأ في شيء من ذلك كُره، ولم يُبطِل صلاته»
(4)
.
والعلة من النهي:
قال النووي رحمه الله: «إنما وظيفة الركوع التسبيح، ووظيفة السجود التسبيح والدعاء»
(5)
.
وقال الطيبي رحمه الله: «لما كان الركوع والسجود -وهما غاية الذل والخضوع- مخصوصين بالذكر والتسبيح، نهَى صلى الله عليه وسلم عن القراءة فيهما كأنه كره أن يُجمع بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الخلق في موضع واحد، فيكون علي السواء»
(6)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة بيان المقصد قرينة قوية ومعتبرة؛ إذ إنها مستفادة من
(1)
شرح أبي داود (4/ 86).
(2)
(2/ 711).
(3)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(4)
فتح العلام بشرح الإعلام (ص: 202)، ويُنظر: حاشية الدسوقي (1/ 253).
(5)
المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 197).
(6)
شرح المشكاة (3/ 1015).
سياق الحديث ومقدمته، ومن جمْع النبي صلى الله عليه وسلم بين نهيه عن القراءة في الركوع والسجود وأمره بالتسبيح والدعاء فيهما، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة؛ إذ المعنى هو إرشاد الأمة إلى تعظيم القرآن، وأن لكل حال من أحوال الصلاة ما خُص به من الذكر، والله أعلم.
المبحث الحادي عشر:
النهي عن بروك المصلي كما يبرك البعير
المطلب الأول: حكم بروك المصلي كما يبرك البعير
(1)
:
دليل النهي:
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ))
(2)
.
صورة المسألة:
المراد بالمسألة إذا أراد المصلي أن يهوي للسجود، أيهما يقدم أولاً: يديه أم ركبتيه؟
الأقوال في المسألة:
في حديث أبي هريرة نهي عن مشابهة بروك البعير عند الهُوِيِّ للسجود، فاختلف الفقهاء فيما يقدمه المصلي عند إرادة السجود: ركبتيه أم يديه، على قولين:
القول الأول: يُستحب تقديم الركبتين على اليدين، ويُكره تقديم اليدين.
وهو مذهب الجمهور: الحنفية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
القول الثاني: يُستحب تقديم اليدين على الركبتين.
(1)
بُرُوك البعير: وهو أن يبدأ بأعاليه إذا انحط إلى الأرض، والجمل يفعل كذلك، وأصله: وضع البرك على الأرض، أي: الصدر -بفتح الباء وتسكين الراء- يُقال: بَرَكَ البعيرُ يَبْرُكُ بُروكاً، أي اسْتَناخَ. وهو من باب: قعد وقع على بركه، وهو صدره. يُنظر: الصحاح (4/ 1574)، طلبة الطلبة (ص: 11)، المصباح المنير (1/ 45).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ (1/ 311) برقم:(840)، والترمذي، أبواب الصلاة، باب آخر منه (2/ 57) برقم:(269) وقال: «حديث أبي هريرة حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه» ، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب السهو، أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده (1/ 345) برقم:(682)، وأحمد (2/ 1880) برقم:(9077)، قال ابن رجب في (فتح الباري) (7/ 218):«قال حمزة الكناني: هو منكر، ومحمد راويه، ذكره البخاري في الضعفاء» وعلى خلافه قال النووي في (المجموع)(3/ 421): «رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد، ولم يضعفه أبو داود» ، وقال ابن حجر في (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) (ص: 91): «وهو أقوى من حديث وائل» ، والله أعلم، وقد وردت رواية أخرى عن أبي هريرة مخالفة لهذه الرواية، وستأتي في الأدلة.
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 32)، تبيين الحقائق (1/ 116)، المحيط البرهاني (1/ 376).
(4)
يُنظر: الحاوي الكبير (2/ 125)، المجموع (3/ 421).
(5)
يُنظر: المغني (1/ 370)، كشاف القناع (1/ 350).
وهو مذهب المالكية
(1)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(2)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: ((رَأَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث دليلاً مِنْ فِعل النبي صلى الله عليه وسلم على أن السنة عند السجود وضع الركبتين قبل اليدين.
نُوقش: بأن الحديث في إسناده مقال، فلا يصلح حجة
(4)
.
أُجيب عنه: بأن الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وصححه جماعة من الحفاظ
(5)
، وقال الخطابي رحمه الله:«حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة»
(6)
.
وحسّنه الترمذي رحمه الله في سننه، وقال: «العمل عليه عند أكثر أهل العلم: يرون أن
(1)
يُنظر: الذخيرة (2/ 195)، حاشية العدوي (1/ 268).
(2)
يُنظر: الشرح الكبير (3/ 500)، الإنصاف (3/ 500).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ (1/ 310) برقم:(838)، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود (2/ 56) برقم:(268) وقال: «هذا حديث حسن غريب، لا نعرف أحداً رواه غير شريك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم: يرون أن يضع الرجل ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» ، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب السهو، أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده (1/ 344) برقم:(680)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب السجود (2/ 54) برقم:(882)، صححه ابن خزيمة (1/ 343) برقم:(629)، وابن حبان (5/ 237) برقم:(1912)، قال ابن الملقن في (البدر المنير) (3/ 657):«قال الدارقطني: تفرد به شريك القاضي، عن عاصم ابن كليب، وشريك ليس بقوي فيما ينفرد به» ، ثم قال ابن الملقن:«شريك: من رجال مسلم والأربعة، وثقه ابن معين وغيره» ، ثم أخيراً قال:«والحديث صححه جماعات من الحفاظ» ، وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (1/ 617):«أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان وابن السكن في صحاحهم، من طريق شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عنه، قال البخاري والترمذي وابن أبي داود والدارقطني والبيهقي: تفرد به شريك» ، وقال ابن مفلح في (المبدع) (1/ 400):«رواه أبو داود بإسناد جيد من غير طريق شريك» ، فالحديث له طرق أخرى وله شواهد من حديث أبي هريرة وعمر.
(4)
الفواكه الدواني (1/ 181)، حاشية العدوي (1/ 268).
(5)
البدر المنير (3/ 657)، الإنصاف (3/ 500).
(6)
معالم السنن (1/ 208).
يضع الرجل ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه»
(1)
.
الدليل الثاني: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ، فَأُمِرْنَا بِالرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ))
(2)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث «دليل على أن الأمر بوضع اليدين قبل الركبتين عند السجود منسوخ، وأن وضع الركبتين قبل اليدين ناسخ؛ إذ كان الأمر بوضع اليدين قبل الركبتين مقدماً، والأمر بوضع الركبتين قبل اليدين مؤخراً، فالمقدَّم منسوخ، والمؤخَّر ناسخ»
(3)
.
نُوقش: بأنه لا حجة فيه؛ لأنه ضعيف ظاهر التضعيف
(4)
، ولو صح لكان قاطعاً للنزاع، لكنه لم يصح
(5)
.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فليبْتدئْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَلَا يَبْرُكْ بُروكَ الْفَحْلِ))
(6)
.
نُوقش: بأن إسناد الحديث ضعيف، كما تبين في التخريج.
الدليل الرابع: ما أُثر من فعل الصحابة رضي الله عنهم، منها:((أن عمر رضي الله عنه: كَانَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ))
(7)
، و ((عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أَنَّ رُكْبَتَيْهِ كَانَتَا تَقَعَانِ إِلَى الأرض قَبْلَ
(1)
(2/ 57).
(2)
أخرجه ابن خزيمة (1/ 343) برقم: (628)، ضعّفه النووي في (المجموع) (3/ 422) فقال:«ضعيف ظاهر التضعيف، بين البيهقي وغيره ضعفه، وهو من رواية يحيي بن مسلمة بن كهيل، وهو ضعيف باتفاق الحفاظ، قال أبو حاتم: هو منكر الحديث، وقال البخاري: في حديثه مناكير، والله أعلم» ، وقال ابن حجر في (فتح الباري) (2/ 291):«لو صح لكان قاطعاً للنزاع، لكنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه، وهما ضعيفان» .
(3)
صحيح ابن خزيمة (1/ 342)، ويُنظر: الحاوي الكبير (2/ 125) المغني (1/ 370).
(4)
يُنظر: المجموع (3/ 422)، كشاف القناع (1/ 350).
(5)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (2/ 291).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 235) برقم: (2702)، قال ابن حجر في (فتح الباري) (2/ 291):«إسناده ضعيف» ، وهذه الرواية مخالفة للرواية الأولى عنه في أول المبحث.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 236) برقم: (2703).
يَدَيْهِ))
(1)
، وما أُثر ((عن ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ إِذَا سَجَدَ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا رَفَعَ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ))
(2)
.
الدليل الخامس: أن الأَولى أن يضع أولاً ما كان أقرب إلى الأرض: فيضع ركبتيه، ثم يديه، وإذا رفع يرفع أولاً ما كان أقرب إلى السماء
(3)
.
الدليل السادس: قالوا: «لأن الجبهة لما كانت أَوْلى الأعضاء رفعاً وكانت آخرها وضعاً، وجب إذا كانت الركبتان آخر الأعضاء رفعاً أن تكون أولها وضعاً، ولأن كل عضو يُرفع قبل صاحبه فإنه يُوضع بعد صاحبه»
(4)
.
الدليل السابع: أن تقديم الركبتين أرفق بالمصلي، وأحسن في الشكل ورأي العين
(5)
.
الدليل الثامن: أن المنهي عنه بروك كبروك الإبل، والإبل في بروكها تبدأ باليد، فينبغي أن يبدأ المصلي بالرجل
(6)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ))
(7)
.
الدليل الثاني: ما أُثر ((عن ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ، وعند ابن خزيمة زيادة: وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ))
(8)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث والأثر يدلان على سنية وضع اليدين قبل
(1)
أخرجه الطحاوي في (شرح معاني الآثار)(1/ 256).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 236)، برقم:(2705)، ورُوي عن ابن عمر ما يخالف هذه الرواية، سيأتي لاحقاً.
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 32)، البناية (2/ 236).
(4)
الحاوي الكبير (2/ 125).
(5)
يُنظر: المبدع (1/ 400).
(6)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 32).
(7)
سبق تخريجه: ص (421).
(8)
أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم، باب يهوي بالتكبير حين يسجد (1/ 159)، وابن خزيمة (1/ 342) برقم:(627).
الركبتين
(1)
.
نُوقش من وجوه:
الأول: أن تقديم اليدين على الركبتين منسوخ بحديث سعد بن أبي وقاص
(2)
.
أُجيب عنه: بأن حديث سعد ضعيف.
الثاني: أن أول حديث أبي هريرة يخالف آخره؛ لأنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برَك برْك البعير المنهي عنه في أوله
(3)
.
أُجيب عنه: بأن الركبة من الإنسان في الرجلين ومن ذوات الأربع في اليدين، فإذا وضع الرجل ركبته أولاً فقد شابه الجمل في البروك
(4)
.
ورُدّ: بأن هذا وهم وغلط ومخالف لغة وعرفاً
(5)
.
الثالث: أنه رُوي عن أبي هريرة ما يخالف هذه الرواية، فلما اختلفت الروايات عن أبي هريرة رضي الله عنه: مرة بتقديم اليدين ومرة بتأخيرهما، كان ينبغي أن ترتفع ويثبت ما رواه وائل بن حجر
(6)
، وكذلك اختلفت الرواية عن ابن عمر.
الرابع: أن حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة
(7)
، وإذا اختلف الحديثان فالعمل على أقواهما أَوْلى
(8)
.
الدليل الثالث: أن هذه الصفة أحسن في خشوع الصلاة ووقارها
(9)
.
الدليل الرابع: أن المصلي يلقى الأرض عن جبهته، ويعتصم بتقديم اليدين على إيلام ركبتيه إذا جثا عليهما
(10)
.
(1)
يُنظر: عون المعبود (3/ 50).
(2)
الحاوي الكبير (2/ 125)، كشاف القناع (1/ 350).
(3)
شرح سنن ابن ماجه، للسيوطي (ص: 63)، مرقاة المفاتيح (2/ 725)، فيض القدير (1/ 373).
(4)
المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 154)، مرقاة المفاتيح (2/ 725).
(5)
شرح سنن ابن ماجه، للسيوطي (ص: 63)، فيض القدير (1/ 373).
(6)
شرح معاني الآثار (1/ 255).
(7)
معالم السنن (1/ 208)، مرقاة المفاتيح (2/ 726).
(8)
شرح سنن ابن ماجه، للسيوطي (ص: 63).
(9)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (2/ 291).
(10)
المرجع السابق.
الدليل الخامس: أن حديث أبي هريرة أرجح؛ لأن دلالته قولية، وقد تأيد بحديث ابن عمر، أما حديث وائل: فدلالته فعلية
(1)
.
نُوقش: بأن الأصل أن فِعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض قوله الخاص بالأمة
(2)
.
سبب الخلاف:
الذي يظهر أن الاختلاف يرجع إلى سببين:
الأول: الاختلاف في موضع الركبتين من البعير، هل هي في يديه أم رجليه.
الثاني: تعارُض حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه، واختلفوا في أيهما أثبت: فمنهم مَنْ ذهب إلى أن حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة وهم الجمهور، فقالوا بتقديم الركبتين قبل اليدين، وذهب المالكية إلى أن حديث أبي هريرة أثبت، فقالوا بتقديم اليدين على الركبتين
(3)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بأنه يُستحب تقديم الركبتين على اليدين عند السجود، وهو ما ذهب إليه الجمهور.
قال الترمذي رحمه الله: «
…
والعمل عليه عند أكثر أهل العلم: يرون أن يضع الرجل ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه»
(4)
.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة أدلة هذا القول؛ فحديث وائل بن حجر أثبت، ويؤيده ما ورد من آثار الصحابة رضي الله عنهم.
2 -
ضعف أدلة القول الثاني؛ لوقوع الاختلاف في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأثر ابن عمر رضي الله عنهما.
3 -
أن السجود بتقديم الركبتين فيه تحقيقُ مخالفةِ بروك البعير؛ لأنه ينزل بيديه أولاً.
4 -
أنه أرفق بالمصلي، وأحسن في الشكل ورأي العين.
(1)
يُنظر: شرح أبي داود، للعيني (4/ 26).
(2)
يُنظر: الإحكام، للآمدي (1/ 191)، أصول الفقه، لابن مفلح (1/ 363)، نيل الأوطار (2/ 295).
(3)
يُنظر: بداية المجتهد (1/ 147).
(4)
سنن الترمذي (2/ 56).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم قرينة: المقصد من النهي.
إن من الأمور المتقررة في الشريعة النهي عن مشابهة الحيوانات على العموم؛ لعموم الأدلة على تكريم بني آدم؛ ولأنه لم يشّبه بالحيوان إلا على سبيل الذم والتنفير، فإذا نُهي عن التشبه في كل حال ففي الصلاة التي هي أجلّ العبادات أَوْلى.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلي عن مشابهة البعير في بروكه؛ وذلك تعظيماً وتكريماً للإنسان وإرشاداً إلى آداب الصلاة والوقوف بين يدي الملك جل جلاله بأحسن هيئة، وتنزيهاً للصلاة عن الهيئة القبيحة، فلا يليق مع عظمة الموقف أن يأتي فيه بمشابهة الحيوانات؛ لما فيها من القبح والنقص.
(1)
.
وقال الخطابي رحمه الله: «ذهب أكثر العلماء إلى وضع الركبتين قبل اليدين، وهذا أرفق بالمصلي، وأحسن في الشكل وفي رأي العين»
(2)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة المقصد من النهي قوية ومعتبرة؛ إذ تكريم بني الإنسان من مقاصد الشريعة الإسلامية؛ فإن الأفضل والأحسن صورة في هيئة الصلاة ألا يشابه المصلي الحيوانات، والله تعالى أعلم.
(1)
زاد المعاد (1/ 217).
(2)
معالم السنن (1/ 208).
المبحث الثاني عشر:
النهي عن افتراش السباع
المطلب الأول: حكم افتراش السباع:
دليل النهي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِماً، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِساً، وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ
(1)
، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ
(2)
، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ))
(3)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(4)
على كراهة افتراش الذراعين حال السجود.
قال ابن قدامة رحمه الله: «الافتراش المنهي عنه في الحديث، وهو أن يضع ذراعيه على الأرض كما تفعل السباع، وقد كرهه أهل العلم»
(5)
.
وقال ابن رجب رحمه الله: «باب النهي عن افتراش الذراعين في السجود
…
وقد ذكر الترمذي أن العمل على هذا عند أهل العلم: يختارون الاعتدال في السجود، وهذا يُشعِر بحكاية الإجماع عليه، وهو قول جمهور العلماء».
الأدلة:
(1)
عُقْبَةُ الشيطان: سيأتي بيانه في المبحث التالي.
(2)
افْتِراش السَّبع: الافتراش: افتعال، من الفرش والفراش. وهو أن يمد ذراعيه على الأرض لا يرفعهما ولا يجافي مرفقيه عن جنبيه. كما يبسط الكلب والذئب ذراعيه. يُنظر: معالم السنن (1/ 212)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 430)، المغني (1/ 373).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به
…
(1/ 357) برقم: (498).
(4)
يُنظر: الهداية (1/ 64)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 52)، الفواكه الدواني (1/ 182)، حاشية العدوي (1/ 270)، الحاوي الكبير (2/ 129)، المجموع (3/ 431)، المغني (1/ 373)، كشاف القناع (1/ 371).
(5)
المغني (1/ 373).
الدليل الأول: حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم وفيه: (وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ).
الدليل الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اعْتَدِلُوا
(1)
فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الكَلْبِ))
(2)
.
الدليل الثالث: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ، وَلَا يَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن في هذه الأحاديث نهَى النبي صلى الله عليه وسلم المصلي عن وضع ذراعيه حال السجود على الأرض كما تفعل السباع والكلاب، وحمل أهل العلم النهي على الكراهة؛ للتنزيه
(4)
.
الدليل الرابع: أن الافتراش من صفات الكاسل والمتراخي المتهاون بحاله، مع ما فيها من التشبه بالسباع والكلاب
(5)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم إلى الكراهة:
(1)
قال ابن دقيق العيد رحمه الله في (إحكام الأحكام)(1/ 256): «لعل الاعتدال ههنا محمول على أمر معنوي، وهو وضع هيئة السجود موضع الشرع، وعلى وفق الأمر؛ فإن الاعتدال الخلقي الذي طلبناه في الركوع لا يتأدى في السجود؛ فإنه ثَمَّ استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا: ارتفاع الأسافل على الأعالي، حتى لو تساويا ففي بطلان الصلاة وجهان لأصحاب الشافعي، ومما يقوي هذا الاحتمال: أنه قد يُفهم من قوله عقيب ذلك (ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) أنه كالتتمة للأول، وأن الأول كالعلة له، فيكون الاعتدال الذي هو فِعل الشيء على وفق الشرع علة لترك الانبساط انبساط الكلب؛ فإنه منافٍ لوضع الشرع» .
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب لا يفترش ذراعيه في السجود (1/ 164) برقم:(822)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود، ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين
…
(1/ 355) برقم: (493).
(3)
أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الاعتدال في السجود (2/ 66) برقم:(275) وقال: «وفي الباب عن عبد الرحمن بن شبل، وأنس، والبراء، وأبي حميد، وعائشة، حديث جابر حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم: يختارون الاعتدال في السجود، ويكرهون الافتراش كافتراش السبع» ، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب الاعتدال في السجود (2/ 61) برقم:(891)، وأحمد (22/ 280) برقم:(14384)، صححه ابن خزيمة (1/ 348) برقم:(644)، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير وزيادته)(1/ 164).
(4)
يُنظر: المغني (1/ 373)، المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 209)، حاشية العدوي (1/ 270).
(5)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 407)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 50).
القرائن التالية:
القرينة الأولى: المقصد من النهي.
فالمقصد من النهي: التنفير من هذه الهيئة التي لا تناسب الصلاة؛ فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركُه محافظةً على الهيئة المشروعة في الصلاة، ويقصد به أيضاً تكريم بني الإنسان وهذا مقصد من مقاصد الشريعة.
أشار ابن دقيق العيد رحمه الله إلى مقصد التنفير؛ حيث يقول: «قد ذُكر في هذا الحديث الحكم مقروناً بعلته؛ فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركُه في الصلاة، ومِثل هذا التشبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد التنفير عن الرجوع في الهبة قال: ((مَثَلُ الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه))
(1)
أو كما قال»
(2)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أن النهي جاء في باب الأدب والإرشاد للتنزيه؛ فالنهي عن افتراش الذراعين فيه: إرشاد لأدب الصلاة، وتنزيه لها عما لا يليق من الهيئات، والنهي في باب الأدب محمول على الكراهة
(3)
.
قال النووي رحمه الله: «مقصود أحاديث الباب أنه ينبغي للساجد أن يضع كفيه على الأرض، ويرفع مرفقيه عن الأرض وعن جنبيه رفعاً بليغاً بحيث يظهر باطن إبطيه إذا لم يكن مستوراً، وهذا أدب مُتفَق على استحبابه
…
والنهي للتنزيه»
(4)
.
والمعنى في ذلك:
تنوعت أقوال العلماء في العلة من النهي، منها ما ذكره القاضي عياض رحمه الله، وتبعه مَنْ
(1)
الحديث أخرجه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (3/ 164) برقم:(2623)، ومسلم، كتاب الهبات، باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممَّن تُصدق عليه (3/ 1239) برقم:(1620)، ولم أجده باللفظ الذي أورده ابن دقيق العيد، ولعله أورده بالمعنى؛ فقد أتبعه بقوله:(أو كما قال)، ولفظ البخاري:((لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ،؛ فَإِنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ)).
(2)
إحكام الأحكام (1/ 256).
(3)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(4)
المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 209).
بعده
(1)
:
1 -
أنه إذا رفع المصلي يديه عن الأرض وجافاهما، كان اعتماده عليهما؛ فيخف اعتماده حينئذ عن وجهه، ولم يتأذَّ بما يلاقيه من الأرض، ولا أثر في جبهته وأنفه، فلا يتشوش في الصلاة.
2 -
أن فيه استعمالَ كلِّ عضو في الصلاة بأدبه الخاص.
3 -
أنه أشبه بهيئة الصلاة والتواضع.
4 -
أن الافتراش من صفات الكاسل والمتراخي المتهاون بصلاته.
5 -
أن فيها التشبه بالحيوانات، وذلك غاية في القبح.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة المقصد من النهي قوية ومعتبرة؛ إذ المسلم مُطالَب بالترفع عن مشابهة الحيوانات، ومُطالَب بالمحافظة على الصلاة بهيئتها الشرعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة تصرف النهي عن التحريم؛ فإنه من الأدب وحسن الهيئة في الصلاة والوقوف بين يدي الله: ألا يشابه المصلي الحيوانات في هيئاتها، وهي داخلة في جملة آداب الصلاة الأخرى، والله تعالى أعلم.
(1)
إكمال المعلم (2/ 407)، ويُنظر: المفهم (2/ 96)، المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 209)، الكواكب الدراري (5/ 174).
المبحث الثالث عشر:
النهي عن الإقعاء في الصلاة
المطلب الأول: حكم الإقعاء
(1)
في الصلاة:
دليل النهي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
…
وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ
(2)
(3)
.
وعن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَا عَلِيُّ، إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، وَأَكْرَهُ لَكَ مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي، لَا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ))
(4)
.
صورة المسألة:
الإقعاء له معانٍ عدة، وأشهرها معنيان:
الأول: أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه وفخذيه -زاد أهل اللغة: ويضع يديه على الأرض- كما يُقعِي الكلب
(5)
.
(1)
الإِقْعَاء: من أقعى يُقعي إقعاء، وأقعى الكلب إذا جلس على إسته مفترشاً رجليه وناصباً يديه. يُنظر: الصحاح (6/ 2465)، لسان العرب (15/ 192).
(2)
عُقْبَة الشيطان: قيل: هو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء، وقيل: هو أن يلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض، كإقعاء الكلب. وقيل: هو أن يترك عقبيه غير مغسولين في الوضوء. يُنظر: معالم السنن (1/ 208)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 268).
(3)
سبق تخريجه: ص (428).
(4)
أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في كراهية الإقعاء بين السجدتين (2/ 72) برقم:(282) وقال: «هذا حديث لا نعرفه من حديث عليٍّ إلا من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليِّ، وقد ضعف بعض أهل العلم الحارث الأعور، والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم: يكرهون الإقعاء» ، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الجلوس بين السجدتين (2/ 62) برقم:(894)، وأحمد (2/ 402) برقم:(1244)، قال ابن الملقن في (البدر المنير)(3/ 521)، والهيثمي في (مجمع الزوائد) (2/ 85):«فيه الحارث، وهو ضعيف» ، وللحديث شواهد من حديث عائشة وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
(5)
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: «وقول أبي عبيدة في الإقعاء أشبه بكلام العرب وهو معروف عند العرب، وذلك بيِّن في بعض الحديث: (أنه نهى أن يقعى الرجل كما يقعى السبع) فليس الإقعاء في السباع إلا كما قال أبوعبيدة» . غريب الحديث (2/ 108)، ويُنظر: الصحاح (6/ 2465)، المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 89)، المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 215).
وهو تفسير أهل اللغة
(1)
، قال ابن عبد البر رحمه الله:«وهذا إقعاء مجتمع عليه، لا يختلف العلماء فيه، وهو تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه»
(2)
.
وقال السرخسي رحمه الله: «
…
وهذا أصح؛ لأن إقعاء الكلب يكون بهذه الصفة، إلا أن إقعاء الكلب يكون في نصب اليدين، وإقعاء الآدمي يكون في نصب الركبتين إلى صدره»
(3)
.
الثاني: هو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين
(4)
، ونُسب إلى الفقهاء
(5)
.
وقد اختلف العلماء في تفسير (عقبة الشيطان) المنهي عنه في حديث عائشة رضي الله عنها، فمنهم مَنْ فسَّره بالإقعاء على المعنى الأول
(6)
، ومنهم مَنْ فسَّره بالإقعاء على المعنى الثاني
(7)
.
والمراد بالمسألة: ما حكم جلوس المصلي بين السجدتين على هيئة الإقعاء؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: اتفق الفقهاء من: الحنفية
(8)
، والمالكية
(9)
، والشافعية
(10)
، والحنابلة
(11)
على أن الإقعاء -بالمعنى الأول- ليست من هيئات الصلاة، وأنها مكروهة؛ للنهي عنها، ولأنها
(1)
يُنظر: غريب الحديث، للقاسم بن سلام (2/ 109)، الصحاح (6/ 2465).
(2)
الاستذكار (1/ 481).
(3)
المبسوط (1/ 26).
(4)
يُنظر: غريب الحديث، للقاسم بن سلام (2/ 109)، الصحاح (6/ 2465)، الجامع لمسائل المدونة (2/ 514)، المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 89).
(5)
يُنظر: المطلع على ألفاظ المقنع (ص: 107)، وقد قال به من الأئمة مالك وأحمد -رحمهما الله-. يُنظر: الجامع لمسائل المدونة (2/ 514)، المغني (1/ 376).
(6)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 215)، شرح المشكاة (3/ 979)، فتح القدير، للكمال بن الهمام (1/ 410)، شرح السيوطي على مسلم (2/ 185)، فتح العلام بشرح الإعلام (ص: 188)، مراقي الفلاح (ص: 128).
(7)
يُنظر: غريب الحديث، للقاسم بن سلام (2/ 109)، معالم السنن (1/ 208)، المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، المغني (1/ 376)، الشرح الكبير (3/ 592)، تحفة الأبرار (1/ 276)، إحكام الأحكام (1/ 236)، كشف اللثام (2/ 325).
(8)
يُنظر: بدائع الصنائع (1/ 215)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 61)، فتح القدير، للكمال بن الهمام (1/ 411).
(9)
ذكر فقهاء المالكية أن الإمام مالك كره الإقعاء بمعنييه. يُنظر: المختصر الفقهي (1/ 252)، التاج والإكليل (2/ 262)، وفي المدونة (1/ 168):«قال مالك: ما أدركت أحداً من أهل العلم إلا وهو ينهي عن الإقعاء ويكرهه» .
(10)
يُنظر: المجموع (3/ 439)، مغني المحتاج (1/ 350).
(11)
يُنظر: المغني (1/ 377)، الشرح الكبير (3/ 592).
تشبُّه بالحيوان، ولأن فيها ترك الجلسة المسنونة.
قال النووي رحمه الله: «عقبة الشيطان هو الإقعاء الذي فسرناه (المعنى الأول)، وهو مكروه باتفاق العلماء بهذا التفسير الذي ذكرناه»
(1)
.
وقال ابن رشد رحمه الله في (بداية المجتهد): «اتفق العلماء على كراهية الإقعاء في الصلاة؛ لما جاء في الحديث من النهي أن يقعي الرجل في صلاته كما يقعي الكلب، إلا أنهم اختلفوا فيما يدل عليه الاسم: فبعضهم رأى أن الإقعاء المنهي عنه هو جلوس الرجل على أليتيه في الصلاة ناصباً فخذيه مثل: إقعاء الكلب والسبع، ولا خلاف بينهم أن هذه الهيئة ليست من هيئات الصلاة»
(2)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: «الإِقْعَاء عند العرب: جلوس الرجل على أليتيه ناصباً فخذيه، مثل: إقعاء الكلب والسبع، ولا أعلم أحداً قال باستحباب الإقعاء على هذه الصفة»
(3)
.
ثانياً: اختلف الفقهاء في حكم الإقعاء بالمعنى الثاني، على قولين:
القول الأول: يُستحب، وهو سنة.
وهو قول عند الشافعية
(4)
، ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله
(5)
.
القول الثاني: يُكره.
وهو مذهب الحنفية
(6)
، والمالكية
(7)
، والمشهور من مذهب الشافعية
(8)
، وهو المذهب عند الحنابلة
(9)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم (4/ 215).
(2)
(1/ 149).
(3)
المغني (1/ 376).
(4)
يُنظر: المجموع (3/ 439)، مغني المحتاج (1/ 350).
(5)
يُنظر: المغني (1/ 376)، الشرح الكبير (3/ 593).
(6)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، فتح القدير، للكمال بن الهمام (1/ 411).
(7)
يُنظر: القوانين الفقهية (ص: 46)، المختصر الفقهي، لابن عرفة (1/ 252)، التاج والإكليل (2/ 262).
(8)
يُنظر: بحر المذهب، للروياني (2/ 55)، التهذيب في فقه الإمام الشافعي (2/ 120).
(9)
يُنظر: الشرح الكبير (3/ 593)، شرح منتهى الإرادات (1/ 207).
الدليل الأول: ((سُئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الإقعاء على القدمين، فقال: هِيَ السُّنَّةُ، فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم)
(1)
.
الدليل الثاني: وعنه قال: ((مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَضَعَ أَلْيَتَيْكَ عَلَى عَقِبَيْكَ فِي الصَّلَاةِ))
(2)
.
الدليل الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنه كَانَ إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة الأولَى يقْعد عَلَى أَطْرَاف أَصَابِعه، وَيَقُول: إِنَّه من السُّنَة))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن في قول ابن عباس وابن عمر دليلاً يثبت أن هذه الهيئة هي سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجلوس بين السجدتين، وقد فسَّرها في الأثر الآخر
(4)
، وليست هي الإقعاء المنهي عنه
(5)
، وقول الصحابي:(سنة) يُفهم منه أن المقصود سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهم نقلة الشريعة إلى الأمة، «والسنة إذا أُطلقت فهي سنة رسول الله حتى تُضاف إلى غيره»
(6)
.
الدليل الرابع: في الأثر: ((أَنّ العَبادِلَةَ الثَّلاثَةَ: عبدَ اللَّهِ بنَ عباسٍ وعَبدَ اللَّه بنَ عمرَ وعَبدَاللَّه بنَ الزُّبَيرِ يَفعَلونَه))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن الصحابة كانوا يفعلونه، ويراهم غيرهم من الصحابة، ولا ينكرونه؛ فدل على أنه سنة
(8)
.
نُوقشت الأدلة:
(1)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الإقعاء على العقبين (1/ 380) برقم:(536).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 255) برقم: (2940)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 600) برقم:(2774).
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 601) برقم: (2776)، وصحح إسناده ابن حجر في (التلخيص الحبير)(1/ 622).
(4)
يُنظر: الاستذكار (1/ 482)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 19).
(5)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 459).
(6)
الاستذكار (1/ 480).
(7)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 601) برقم: (2778)، وصحح إسناده ابن حجر في (التلخيص الحبير)(1/ 622).
(8)
يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (7/ 243).
أولاً: بأن أحاديث الإباحة منسوخة بأحاديث النهي، والأشبه أن مَنْ روى أنها من السنة لم يعلم ما ورد من الأحاديث الناسخة التي فيها النهي عن الإقعاء
(1)
.
ثانياً: أنه جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يفعل ذلك؛ لتقدمه في العمر وضعفه، ويقول: لا تقتدوا بي
(2)
.
وقد جاء بيانه في الأثر عنه: ((أنه يَرْجِعُ فِي سَجْدَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ذَكَرَ لَهُ ذلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ سُنَّةَ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ هذَا مِنْ أَجْلِ أَنِّي أَشْتَكِي))
(3)
.
أُجيب عنه:
أولاً: بأن القول بالنسخ فاسد؛ لأن النسخ لا يُصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، وعلمنا التاريخ، ولم يتعذر هنا الجمع بل أمكن، ولم يُعلم أيضاً التاريخ، فكيف يثبت النسخ؟!
(4)
.
ثانياً: غلط مَنْ توهم أن الإقعاء نوع واحد، إنما هو نوعان، والمنهي عنه محمول على المعنى الأول، وهو أن يضع أليتيه على الأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه علي الأرض، وهو مكروه باتفاق العلماء، وهو غير ما صح عن ابن عباس وابن عمر أنه سنة، فذلك الإقعاء أن يضع أليتيه على عقبيه قاعداً عليها وعلى أطراف أصابع رجليه.
وقد نص الشافعي على استحبابه بين السجدتين؛ فهو سنة، والافتراش
(5)
سنة، لكن الصحيح أن الافتراش أفضل منه؛ لكثرة الرواة له، ولأنه أعون للمصلي، وأحسن في هيئة الصلاة، وبهذا يُجمع بين الأحاديث
(6)
.
(1)
يُنظر: معالم السنن (1/ 209)، البدر المنير (3/ 523).
(2)
يُنظر: معالم السنن (1/ 209)، المغني (1/ 377).
(3)
أخرجه الإمام مالك، باب العمل في الجلوس في الصلاة (2/ 122) برقم:(86)، وصححه زكريا بن غلام في (ما صح من آثار الصحابة في الفقه)(1/ 248).
(4)
يُنظر: المجموع (3/ 439)، البدر المنير (3/ 523).
(5)
صفة الافتراش: أن يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى. يُنظر: الإنصاف (3/ 519)، شرح منتهى الإرادات (1/ 199).
(6)
قال ابن الملقن: «بهذا الوجه جمع بين الأحاديث البيهقي، وتبعه ابن الصلاح، ثم النووي» . البدر المنير (3/ 523)، ويُنظر: المجموع (3/ 439)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 19).
ثالثاً: أن حمل الإقعاء المنهي عنه على المعنى الأول الذي فسره به أهل اللغة هو الصحيح؛ لأن الأسماء التي لم تثبت لها معانٍ شرعية يجب أن تُحمل على المعنى اللغوي؛ حتى يثبت لها معنى شرعي، بخلاف الأمر في الأسماء التي تثبت لها معانٍ شرعية، ولأن أحاديث النهي والمعارض لها ترشد إلى ذلك؛ لما فيها من التصريح بإقعاء الكلب، ولما في أحاديث العبادلة من التصريح بالإقعاء على القدمين وعلى أطراف الأصابع
(1)
.
رابعاً: أن قول ابن عباس: (مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَضَعَ أَلْيَتَيْكَ عَلَى عَقِبَيْكَ فِي الصَّلَاةِ): «يُثبِت هذا المعنى سنة، وهو الذي نفاه ابن عمر عن السنة، والمثبت أَولى من النافي من جهة النظر ومن جهة الأثر أيضاً؛ لأن الحديث المسند إنما فيه أن يقعي الرجل كما يقعي الكلب، والكلب إنما يقعد على أليته ورجلاه من كل ناحية»
(2)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
…
وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ))
(3)
.
الدليل الثاني: عن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَا عَلِيُّ، إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، وَأَكْرَهُ لَكَ مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي، لَا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ))
(4)
.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ، وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ: أَمَرَنِي بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ، وَالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ))
(5)
، وجاء في رواية: ((
…
وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْقِرْدِ
…
))
(6)
.
الدليل الرابع: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْإِقْعَاءِ فِي
(1)
يُنظر: بداية المجتهد (1/ 149)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (7/ 244)، نيل الأوطار (2/ 321).
(2)
الاستذكار (1/ 482).
(3)
سبق تخريجه: ص (428).
(4)
سبق تخريجه: ص (432).
(5)
سبق تخريجه: ص (392).
(6)
أخرجه أحمد (13/ 38) برقم: (7595). قال ابن الملقن في (البدر المنير)(3/ 521): «في إسناده: ليث بن أبي سليم، وقد علمت ما فيه في باب الوضوء» وقد نقل تضعيف ليث في موضع آخر. والحديث له شواهد.
الصَّلَاةِ))
(1)
.
الدليل الخامس: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فَلَا تُقْعِ كَمَا يُقْعِي الْكَلْبُ، ضَعْ أَلْيَتَيْكَ بَيْنَ قَدَمَيْكَ، وَأَلْزِقْ ظَاهِرَ قَدَمَيْكَ بِالأرض))
(2)
.
وجه الاستدلال من الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عقبة الشيطان، وهو الإقعاء المنهي عنه في الأحاديث الأخرى، وفُسر الإقعاء بأن يفرش قدميه ويجلس بأليتيه على عقبيه، وقال بكراهته عامة أهل العلم
(3)
؛ لأن سنة الصلاة أن يكون جلوسه بين السجدتين كهيئة جلوسه في التشهد
(4)
، والعدول عن هيئة جلوسه صلى الله عليه وسلم إلى نوع آخر في غاية من قلة الأدب، ولما فيه من التشبه بالكلاب
(5)
.
نُوقش من وجهين:
الأول: أن حديث علي وحديث أنس ضعيفان متكلم في إسنادهما، وحديث عائشة صحيح وفيه النهي عن عقبة الشيطان، وهو محمول على الإقعاء بالمعنى الأول كما فسره أهل اللغة
(6)
، وما صح من أحاديث النهي فهي محمولة على هذا المعنى.
الثاني: أن الصواب والصحيح أن الإقعاء المنهي عنه هو الإقعاء بمعناه عند أهل اللغة؛ لأن إقعاء الكلب يكون بهذه الصفة، وهو غير الإقعاء المسنون
(7)
، ولأن الأسماء التي لم تثبت لها معانٍ شرعية يجب أن تُحمل على المعنى اللغوي حتى يثبت لها معنى
(1)
أخرجه الحاكم (1/ 405) برقم: (1005) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه» . ويُنظر: نصب الراية (2/ 92).
(2)
أخرجه ابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الجلوس بين السجدتين (2/ 63) برقم:(869). قال البوصيري في (مصباح الزجاجة)(1/ 110): «هذا إسناد ضعيف، قال ابن حبان والحاكم: العلاء أبو محمد روى عن أنس أحاديث موضوعة، وقال البخاري وغيره: منكر الحديث، وقال ابن المديني: كان يضع الحديث» . ويُنظر: خلاصة الأحكام (1/ 418)، البدر المنير (3/ 521)، التلخيص الحبير (1/ 407).
(3)
يُنظر: معالم السنن (1/ 209)، المغني (1/ 377).
(4)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 257).
(5)
يُنظر: مرقاة المفاتيح (2/ 654).
(6)
يُنظر: المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 19)، شرح أبي داود، للعيني (4/ 30).
(7)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، المجموع (3/ 439)، فتح القدير، للكمال بن الهمام (1/ 411).
شرعي، بخلاف الأمر في الأسماء التي تثبت لها معانٍ شرعية
(1)
.
الدليل السادس: قال أبو حميد الساعدي رضي الله عنه
(2)
: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى، وَنَصَبَ اليُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ اليُسْرَى، وَنَصَبَ الأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في جلسات الصلاة التي واظب عليها هما صفتا: الافتراش والتورك، لا الإقعاء، وهو الذي نقله أكثر الصحابة.
أجيب عن الاستدلال:
بأنه لا تعارض بين الأحاديث، ويمكن الجمع بين الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له في الصلاة أحوال: حال يفعل فيها هذا، وحال يفعل فيها ذاك كما كانت له أحوال في تطويل القراءة وتخفيفها وغير ذلك.
وكان يفعل العبادة على نوعين أو أنواع؛ ليبين الرخصة والجواز بمرة أو مرات قليلة، ويواظب على الأفضل بينهما على أنه المختار والأَولى.
فالحاصل أن الإقعاء الذي رواه ابن عباس فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو حميد من جهة الافتراش، فكلاهما سنة، ومواظبته صلى الله عليه وسلم على الافتراش يدل على أنها أفضل وأرجح مع أن الإقعاء سنة أيضاً
(4)
.
سبب الخلاف:
«سبب اختلافهم: هو تردد اسم الإقعاء المنهي عنه في الصلاة بين أن يدل على المعنى اللغوي أو يدل على معنى شرعي: (أعني: على هيئة خصها الشرع بهذا الاسم): فمَن رأى أنه يدل على المعنى اللغوي قال: هو إقعاء الكلب، ومَن رأى أنه يدل على معنى شرعي
(1)
يُنظر: بداية المجتهد (1/ 149).
(2)
هو: عبد الرحمن بن عمرو بن سعد، وقيل: المنذر بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج، الأنصاري، المدني، من فقهاء أصحاب النبي، روى عنه من الصحابة: جابر بن عبد الله، ومن التابعين: عروة ابن الزبير، وعباس بن سهل، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وخارجة بن زيد بن ثابت، وغيرهم، تُوفي سنة 60 هـ. يُنظر: أسد الغابة (6/ 75)، سير أعلام النبلاء (4/ 98).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد (1/ 165) برقم:(828).
(4)
يُنظر: المجموع (3/ 439).
قال: إنما أُريد بذلك إحدى هيئات الصلاة المنهي عنها»
(1)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بأنه يُستحب الجلوس بين السجدتين: بأن يضع أليتيه على عقبيه قاعداً عليها، وأنها سنة، وليس هو الإقعاء المنهي عنه، والأفضل في الجلوس الافتراش؛ لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها.
أسباب الترجيح:
1 -
قوة أدلة هذا القول، وسلامتها من المعارضة الصحيحة.
2 -
أن النهي محمول على المعنى الأول؛ لأن الصواب أن تُفسر الأسماء على المعنى اللغوي ما لم يرد لها وضع في الشرع.
3 -
ضعف أدلة القائلين بالكراهة على هذا المعنى، وورود المناقشة عليها.
4 -
أن فيه الجمع بين الأدلة الصحيحة الثابتة، والجمع -إن أمكن- أَولى من النسخ.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبيَّن فيما سبق أن الفقهاء اتفقوا على كراهة الإقعاء كإقعاء الكلب، الذي فسره أهل اللغة، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: المقصد من النهي.
فالمقصد من النهي تكريم الإنسان عن مشابهة الحيوان، وكذلك يُقصد منه التنفير من هذه الهيئة التي لا تناسب الصلاة؛ فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركُه محافظةً على الهيئة المشروعة في الصلاة، والله أعلم.
وذلك في قوله: (وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ) وقوله: (وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْقِرْدِ).
أشار إلى هذا المقصد ابن دقيق العيد رحمه الله عند شرح حديث الافتراش
(2)
، وسبق نقل كلامه في مبحث النهي عن الافتراش.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
(1)
بداية المجتهد (1/ 149)، ويُنظر: المجموع (3/ 439).
(2)
إحكام الأحكام (1/ 256).
ذلك أن النهي جاء في باب الأدب والإرشاد للتنزيه؛ فالنهي عن مشابهة الحيوانات في هيئات الصلاة فيه إرشاد إلى: مكارم الأخلاق، والآداب الشرعية للصلاة، والوقوف بين يدي الله عز وجل، والنهي في باب الأدب محمول على الكراهة
(1)
.
ومما أشار إليه العلماء في العلة من النهي عن الإقعاء
(2)
:
1 -
أن الإقعاء منهي عنه؛ لما فيه من قبح الهيئة في التشبه بالكلاب والقردة.
جاء في (تحفة المحتاج): «وحكمة كراهته ما فيه من التشبه بالكلاب والقردة»
(3)
.
2 -
أن فيها تركَ سنةِ الافتراش المسنونة في الجلوس.
جاء في (المبدع): «يُكره الإقعاء في الجلوس؛
…
لأنه يتضمن ترك الافتراش المسنون فعلاً وقولاً، فكان مكروهاً»
(4)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة المقصد من النهي قوية ومعتبرة؛ إذ الإنسان مُكرم، فينبغي له الترفع عن مشابهة أهل النقص، وينزه صلاته عنها، وأن يحافظ على الصلاة بهيئتها الشرعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة؛ فإنه من الأدب والمكارم ألا يشابه المصلي الحيوانات في هيئاتها، وهي داخلة في جملة آداب الصلاة الأخرى، والله أعلم.
(1)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(2)
يُنظر: المبدع (1/ 425)، مغني المحتاج (1/ 350)، مرقاة المفاتيح (2/ 654).
(3)
(2/ 25)، ويُنظر: مرقاة المفاتيح (2/ 654).
(4)
(1/ 425).
المبحث الرابع عشر:
النهي عن كفِّ المصلي الشعرَ والثيابَ أثناء الصلاة
المطلب الأول: حكم كفِّ المصلي الشعرَ والثيابَ أثناء الصلاة:
دليل النهي:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الجَبْهَةِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ وَاليَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ- وَأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ، وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ
(1)
(2)
، وفي رواية:((أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ، لَا أَكُفُّ شَعَراً وَلَا ثَوْباً))
(3)
.
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(4)
على كراهة كف الشعر والثياب أثناء الصلاة؛ للنهي عنه كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ولأنه يسجد مع المصلي، ولما في كفِّه من التكبر المنافي للخشوع والخضوع
(5)
.
قال النووي رحمه الله: «اتفق العلماء علي النهي عن الصلاة وثوبه مشمر، وكمه أو نحوه أو ورأسه مَعْقُوص
(6)
، أو مردود شعره تحت عمامته أو نحو ذلك، فكل هذا مكروه باتفاق العلماء، وهي كراهة تنزيه»
(7)
.
قال ابن قدامة رحمه الله في (الشرح الكبير): «يُكره أن يكف شعره أو ثيابه
…
ولا نعلم بين
(1)
لا نَكْفِت الثياب والشعر: الكَفْتُ والكفُّ بمعنى واحد وهو: الضم والجمع، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} . سورة المرسلات: الآيات (25 - 26)، أي: نكفتهم ونضمهم ونجمعهم وهم أحياء على ظهرها، وإذا ماتوا ففي بطنها، والمراد في الحديث: أي المنع من ضمها وجمعها، من الانتشار، يريد جمع الثوب باليدين عند الركوع والسجود؛ صيانةً لهما عن التتريب. يُنظر: معالم السنن (1/ 73)، الصحاح (1/ 263)، إكمال المعلم (2/ 405)، النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 184).
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب السجود على الأنف (1/ 162) برقم:(812)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر والثوب
…
(1/ 354) برقم: (490).
(3)
سبق تخريجه: ص (340).
(4)
يُنظر: مراقي الفلاح (ص: 128)، حاشية الطحطاوي (ص: 349)، مواهب الجليل (1/ 502)، الفواكه الدواني (1/ 216)، المجموع (4/ 98)، تحفة المحتاج (2/ 161)، المغني (2/ 8)، شرح منتهى الإرادات (1/ 209).
(5)
يُنظر: الفروع (2/ 275)، مراقي الفلاح (ص: 128).
(6)
العَقِيصَة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المضفور، وأصل العقص: اللَّيُّ، وإدخال أطراف الشعر في أصوله. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 275)، لسان العرب (7/ 56).
(7)
المجموع (4/ 98).
أهل العلم في كراهية هذا كله خلافاً»
(1)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي القرائن التالية:
القرينة الأولى: الإشارة إلى علة النهي في نص آخر.
وذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَامَ، فَجَعَلَ يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَرَأْسِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ
(2)
(3)
، ففي الحديث تشبيه مَنْ يصلي معقوص الشعر بالذي يصلي مكتوف اليدين؛ لأنهما لا يقعان على الأرض في السجود، فكذلك مَنْ كفَّ شعره وثوبه.
ويتبين بهذا أن علة النهي هي أنهما يسجدان معه، وهي علة لا تقتضي التحريم
(4)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
أن النهي جاء في باب الأدب والإرشاد للتنزيه؛ إذ النهي عن كف الشعر والثوب فيه إرشادٌ للأكمل والأفضل في هيئة المصلي، وحث على آداب الصلاة، والنهي في باب الأدب محمول على الكراهة
(5)
.
قال النووي رحمه الله: «فكل هذا مكروه باتفاق العلماء، وهي كراهة تنزيه»
(6)
.
وقال ابن رجب: «كف الشعر مكروه كراهة تنزيه عند أكثر الفقهاء»
(7)
.
وقال العيني رحمه الله: «اتفق العلماء على النهي عن الصلاة وثوبه مشمر، أو كمه أو
(1)
(3/ 600).
(2)
شبَّهه بالمكتوف، وهو المشدود اليدين؛ لأنهما لا يقعان على الأرض في السجود. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 276)، المفهم (2/ 95).
(3)
أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر (1/ 355) برقم:(492).
(4)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 406)، المفهم (2/ 95)، الفروع (2/ 275).
(5)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(6)
المجموع (4/ 98).
(7)
فتح الباري (7/ 269).
رأسه معقوص، أو مردود شعره تحت عمامته أو نحو ذلك، وهو كراهة تنزيه»
(1)
.
ومما ذكره العلماء في علة النهي:
1 -
أن الشعر يسجد مع المصلي
(2)
.
2 -
أن في الكف تجبراً وتكبراً منافياً للخشوع المطلوب في الصلاة
(3)
.
قال ابن رجب رحمه الله: «قال الإمام أحمد: إذا صلى فلا يرفعن ثوبه ولا شعره ولا شيئاً من ذلك؛ لأنه يسجد»
(4)
.
الحكم على القرينة:
القرينة الأولى قرينة قوية ومعتبرة؛ لقوتها في أصلها؛ فهي قرينة نصية صحيحة، ولقوتها في دلالتها على علة النهي، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة؛ لاعتبار ما ذُكر من المعاني ومناسبته للنهي والتنزيه؛ فالقرائن قوية ولا سيما مع عدم ما يعارضها، ولمشابهة النهي لجملة آداب الصلاة، والله تعالى أعلم.
(1)
عمدة القاري (6/ 91).
(2)
يُنظر: المجموع (4/ 98)، الفروع (2/ 275)، تحفة المحتاج (2/ 162).
(3)
يُنظر: تحفة المحتاج (2/ 162)، مراقي الفلاح (ص: 128)، الفواكه الدواني (1/ 216)، حاشية الطحطاوي (ص: 349).
(4)
فتح الباري (7/ 269).
المبحث الخامس عشر:
النهي عن اعتماد المصلي على يديه إذا نهض في الصلاة
المطلب الأول: حكم اعتماد المصلي على يديه إذا نهض في الصلاة:
دليل النهي:
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا نَهَضَ فِي الصَّلَاةِ))
(1)
.
صورة المسألة:
إذا أراد المصلي أن ينهض من السجود أو الجلوس إلى القيام، فكيف ينهض؟ وما حكم اعتماده على يديه عند النهوض؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: اتفق الفقهاء
(2)
على أن مَنْ شقَّ عليه النهوض لِكِبَر، أو ضعف، أو مرض، أو سمن ونحوه، فإنه يُسن له الاعتماد بيديه على الأرض عند النهوض.
الأدلة:
الدليل الأول: عن علي رضي الله عنه قال: ((إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ إِذَا نَهَضَ
(1)
أخرجه أبو داود عن ابن عبد الملك، كتاب الصلاة، باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة (2/ 234) برقم:(992)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصلاة، جماع أبواب صفة الصلاة، باب الاعتماد بيديه على الأرض إذا نهض (3/ 640) برقم:(2849) وقال: «هذا حديث قد اختُلف في متنه على عبد الرزاق .... ورواية ابن عبد الملك وهم» ، وضعفه النووي في (المجموع)(3/ 445)؛ لجهالة ابن عبد الملك ومخالفته لرواية الثقات.
الحديث له ثلاث روايات عند أبي داود والبيهقي: رواية بالنهي عن الاعتماد في الصلاة مطلقاً، ورواية مقيدة بالجلوس، ورواية مقيدة بالنهوض، وهو عند: ابن خزيمة (1/ 365) برقم: (692)، والحاكم (1/ 353) برقم:(837)، دون رواية التقييد بالنهوض، وقال الحاكم في (المستدرك):«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» ، فلعل رواية النهوض تتقوى برواية النهي مطلقاً؛ لدخولها فيه، ولا تنافيَ بين الروايات، وبحديث وائل بن حجر، وفيه:(رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ)، وحديث أبي هريرة:(كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ)، وقد قال الترمذي فيهما (2/ 80):«عليه العمل عند أهل العلم» ، والله أعلم. وسيأتي ذكر الحديثين عند ذكر الأدلة.
(2)
تبيين الحقائق (1/ 119)، النهر الفائق (1/ 218)، البيان والتحصيل (1/ 345)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 228)، المجموع (3/ 442)، المغني (1/ 381)، شرح الزركشي (1/ 573). مذهب المالكية والشافعية استحباب الاعتماد مطلقاً للمشقة ولغير المشقة.
الرَّجُلُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَلَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الأرض إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخاً كَبِيراً لَا يَسْتَطِيعُ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن قوله: (من السنة) دليل على أن الاعتماد باليدين على الأرض عند النهوض في حال العذر من كبر أو ضعف، لا يُكره، بل هو السنة، لمشقة القيام دون الاعتماد في هذه الحال، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُبَادِرُونِي فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ فَإِنِّي قَدْ بَدَّنْتُ
(2)
(3)
(4)
.
قال ابن قدامة رحمه الله: «إذا شق عليه النهوض على الصفة التي ذكرناها، فلا بأس باعتماده على الأرض بيديه، لا نعلم أحداً خالف في هذا»
(5)
.
الدليل الثاني: يمكن أن يُستدل له بقاعدة: المشقة تجلب التيسير
(6)
.
ثانياً: اختلف الفقهاء في حكم نهوض المصلي معتمداً على يديه، في غير حال المشقة، على قولين:
القول الأول: يُكره الاعتماد على اليدين عند النهوض.
وهو مذهب الحنفية
(7)
، والحنابلة
(8)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 347) برقم: (3998)، ضعّفه النووي في (خلاصة الأحكام)(1/ 421). لكن يشهد لمعناه الأحاديث الكثيرة التي روت عدم الاعتماد عند النهوض مع عدم الحاجة، منها حديث أبي هريرة، وحديث وائل، وحديث ابن عمر، وستأتي قريباً.
(2)
بَدَّنْتُ -بالتشديد-: أي: كبرت وأسننت، والتخفيف من البدانة وهي كثرة اللحم، ولم يكن صلى الله عليه وسلم سميناً. يُنظر: غريب الحديث، للقاسم بن سلام (1/ 152)، الصحاح (5/ 2077)، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 107). والبدانة هي الضخامة، ولم يكن ذلك من صفاته صلى الله عليه وسلم. يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 23).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يؤمر المأموم من اتباع الإمام (1/ 462) برقم:(619)، وأحمد (28/ 53) برقم:(16892) واللفظ له، صححه ابن خزيمة (2/ 768) برقم:(1594)، وابن حبان (5/ 607) برقم:(2229). قال البوصيري في (مصباح الزجاجة)(1/ 117): «هذا إسناد صحيح» ، وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن حبان (5/ 609) برقم:(2231).
(4)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 23)، المغني (1/ 381)، فتح الباري، لابن رجب (7/ 292).
(5)
المغني (1/ 381).
(6)
وهي إحدى القواعد الكلية الكبرى. يُنظر: القواعد للحصني (1/ 30)، الأشباه والنظائر، للسيوطي (ص: 7)، موسوعة القواعد الفقهية (1/ 1/ 29).
(7)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 119)، البناية (2/ 250)، حاشية ابن عابدين (1/ 506).
(8)
يُنظر: المغني (1/ 380)، كشاف القناع (1/ 354).
القول الثاني: يُستحب الاعتماد.
وهو مذهب المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ))
(3)
، وفي رواية:((وإذا نهضَ نهضَ على رُكْبتيهِ، واعتمدَ على فَخِذِه))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن في قوله: (رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ) دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أولاً، ولا يعتمد عليها عند القيام، وفي الرواية الأخرى دلالة على النهوض على الركبتين والاعتماد على الفخذين، لا على الأرض بيديه
(5)
.
فالرواية الأخرى موافقة لما قبلها؛ «لأنه إذا رفع يديه تعيَّن نهوضه على ركبتيه؛ إذ لم يبق ما يعتمد عليه غيرهما، وقوله: واعتمد على فخذه، أي: اعتمد بيده على فخذه، يستعين بذلك على النهوض»
(6)
، فدل فِعله صلى الله عليه وسلم على كراهة الاعتماد عند النهوض.
نُوقش: بأن الحديث ضعيف
(7)
.
أُجيب عنه: بأن حديث وائل بالرواية الأولى صحَّحه جماعات من الحفاظ، وتبيَّن ذلك في تخريجه.
(1)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 345)، القوانين الفقهية (ص: 46).
(2)
يُنظر: المجموع (3/ 442)، أسنى المطالب (1/ 163).
(3)
سبق تخريجه: ص (422).
(4)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف يضعُ ركبتيه قبلَ يديه؟ (2/ 130) إثر الحديث رقم:(839)، ضعفه النووي في (خلاصة الأحكام)(1/ 403)، والألباني في (صحيح وضعيف سنن أبي داود) (ص: 2).
(5)
يُنظر: مرقاة المفاتيح (2/ 724)، نيل الأوطار (2/ 311).
(6)
مرقاة المفاتيح (2/ 724)، نقلاً عن الحافظ الزين العراقي.
(7)
المجموع (3/ 445).
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا نَهَضَ فِي الصَّلَاةِ))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث يدل على النهي عن الاتكاء على اليدين حال النهوض، بل ينهض على صدور قدميه من غير اعتماد على الأرض
(2)
، والنهي محمول على الكراهة؛ لدلالة فِعله صلى الله عليه وسلم سيأتي عند ذكر أدلة القول الثاني-، وحُمل على بيان الجواز أو على حالة الكِبَر والضعف
(3)
.
نُوقش: بأن حديث النهي ضعيف
(4)
.
يمكن أن يُجاب عنه: بأن الحديث يتقوَّى بشواهده كما تبين في التخريج، ويؤيده أن عليه العمل عند أهل العلم.
(5)
.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ))
(6)
.
وجه الاستدلال: أن في قوله: (عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ) إشارة إلى أنه لا يعتمد بيديه على الأرض عند قيامه كما لا يعتمد على جالس بين يديه، والمعنى: أنه اعتماد من غير
(1)
سبق تخريجه: ص (445).
(2)
يُنظر: المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 159)، مرقاة المفاتيح (2/ 736).
(3)
يُنظر: فتح الباري، لابن رجب (7/ 292)، مرقاة المفاتيح (2/ 736).
(4)
يُنظر: المجموع (3/ 445)، أسنى المطالب (1/ 163).
(5)
قاله علي القاري رحمه الله في (مرقاة المفاتيح)(2/ 724).
(6)
أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة، باب منه أيضاً (2/ 80) برقم:(288)، وقال:«عليه العمل عند أهل العلم: يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه، وخالد بن إياس ضعيف عند أهل الحديث» ، وضعّف الحديث النووي في (المجموع)(3/ 445)، وقال الزيلعي في (نصب الراية) (1/ 389):«رواه ابن عدي في الكامل، وأعله بخالد، وأسند تضعيفه عن: البخاري، والنسائي، وأحمد، وابن معين، قال: وهو مع ضعفه يكتب حديثه» ، وللحديث شواهد تقويه، منها: حديث وائل، وما رُوي من فعل الصحابة -رضوان الله عليهم-.
حاجة؛ فكان مكروهاً
(1)
.
نُوقش: بأن الحديث ضعيف؛ لضعف راويه
(2)
.
أجيب عنه: أن الترمذي ضعَّف راوي الحديث، ومع ضعفه يكتب حديثه، وقول الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم، يقتضي قوة أصله، وإن ضعف خصوص هذا الطريق، وهو كذلك
(3)
، ومما يقويه أيضاً ما رُوي عن الصحابة أنهم كانوا ينهضون في الصلاة على صدور أقدامهم
(4)
.
الدليل الرابع: ما رُوي عن الصحابة أنهم كانوا يقومون على صدور أقدامهم:
فقد رُوي أنه: ((كَانَ عَلِيٌّ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ))، وقال أحد الرواة:((رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، إِذَا سَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ قَامَ كَمَا هُوَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ))، ورُوي:((أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيّاً وَأَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَنْهَضُونَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ))، ورُوي:((عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ))
(5)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه
(6)
، وفيه:((وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأرض، ثُمَّ قَامَ))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن في حكاية صفة قيام النبي صلى الله عليه وسلم واعتماده عند القيام، دليلاً
(1)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 23).
(2)
يُنظر: المجموع (3/ 445).
(3)
يُنظر: فتح القدير، للكمال بن الهمام (1/ 308).
(4)
يُنظر: البناية (2/ 252).
(5)
أخرج الآثار ابن أبي شيبة (1/ 346) برقم: (3978)، (3982)، (3983)، (3985)، صحح الآثار ابن رجب في (فتح الباري)(7/ 291)، وحسَّنها زكريا غلام في (ما صح من آثار الصحابة في الفقه)(1/ 248).
(6)
هو: مالك بن الحويرث بن أشيم الليثي، من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، يُكنى أبا سليمان، وهو من أهل البصرة، قَدِم على النبي صلى الله عليه وسلم في شببة من قومه، فعلمهم الصلاة، وأمره بتعليم قومهم إذا رجعوا إليهم، روى عنه: أبو قلابة، ونصر بن عاصم، وسوار الجرمي، وتُوفي بالبصرة سنة 94 هـ. يُنظر: أسد الغابة (5/ 18)، تهذيب التهذيب (10/ 14).
(7)
أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة؟ (1/ 164) برقم: (824).
على استحباب الاعتماد باليدين على الأرض حين ينهض إلى الركعة الثانية وغيرها
(1)
.
نُوقش: بأن حديث مالك محمول على أن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم لمشقة القيام عليه؛ لضعفه وكبره، فمالك قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره، ومما يدل على حمله على المشقة: قوله عليه السلام: ((لَا تُبَادِرُونِي فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنِّي قَدْ بَدَّنْتُ))
(2)
، أو يُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم فعله تشريعاً وبياناً للجواز؛ جمعاً بين الأدلة
(3)
.
الدليل الثاني: عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ))
(4)
.
وجه الاستدلال: أنه لما أمر صلى الله عليه وسلم أن يضع يديه بالأرض قبل ركبتيه في سجوده لئلا يشبه البعير في بروكه، وجب بدليل قوله أن يضع يديه بالأرض إذا قام؛ لئلا يشبه البعير في قيامه
(5)
.
يمكن أن يُناقش: بأن مسألة النهي عن البروك كبروك البعير محل خلاف، فلا يصلح الاحتجاج بها، ولحديث أبي هريرة رواية أخرى مخالفة لهذه الرواية.
الدليل الثالث: قال الراوي: ((رأيتُ ابْنَ عُمَرَ يَنْهَضُ في الصلاةِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَى يَدَيْهِ))
(6)
.
يمكن أن يُناقش: بأنه رُوي عنه وعن جمع من الصحابة خلاف ذلك أيضاً، فترجح رواية الأكثرية، ويُحمل على أنه فعله عند الكبر.
الدليل الرابع: أن النهوض مع الاعتماد أولى؛ لأنه أزين في أدب الصلاة، وأبلغ في الخشوع والتواضع وأعون للمصلي
(7)
.
(1)
يُنظر: المجموع (3/ 442).
(2)
سبق تخريجه: ص (446).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 23)، المغني (1/ 381)، شرح الزركشي (1/ 573)، فتح الباري، لابن رجب (7/ 292)، مرقاة المفاتيح (2/ 736).
(4)
سبق تخريجه: ص (421).
(5)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 345).
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 347) برقم: (3669)، صححه زكريا غلام في (ما صح من آثار الصحابة في الفقه)(1/ 249).
(7)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 345)، أسنى المطالب (1/ 163).
سبب الخلاف:
الخلاف في هذه المسألة له تعلق بالخلاف السابق في مسألة النهي عن البروك كبروك البعير، وله سبب آخر هو: تعارض أحاديث النهوض بلا اعتماد والنهي عن ذلك مع حديث مالك بن الحويرث في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه الاعتماد، وهو من باب تعارض القول والفعل.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بكراهة الاعتماد على اليدين عند النهوض بلا عذر.
أسباب الترجيح:
1 -
أنه القول الوسط الذي به تجتمع الأدلة، والجمع بين الأدلة أَولى من إهمال بعضها.
2 -
أنه اتفق أكابر الصحابة الذين كانوا: أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشد اقتفاء لأثره، وألزم لصحبته من مالك بن الحويرث رضي الله عنه، على خلاف ما قال، فوجب تقديمه
(1)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين فيما سبق أن أصحاب القول الأول حملوا النهي على الاعتماد على اليدين حال النهوض على الكراهة لا التحريم، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن القرينة الصارفة له عن التحريم: ورود النص، وفيه فِعله صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه.
وذلك في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم اعتمد على الأرض ثم قام، ويُحمل على أنه فعله تشريعاً وبياناً للجواز، أو أنه فعله لكبره ومشقة القيام عليه.
قال علي القاري رحمه الله
(2)
: «يمكن حمله على بيان الجواز، أو على حالة الكبر، وهو
(1)
فتح القدير، للكمال بن الهمام (1/ 309).
(2)
هو: علي بن (سلطان) محمد، نور الدين الملّا الهروي القاري، فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره، ولد في هراة وسكن مكة، وصنف كتبا كثيرة، منها:«تفسير القرآن» و «الأثمار الجنية في أسماء الحنفية» و «الفصول المهمة» و «شرح مشكاة المصابيح» و «شرح مشكلات الموطأ» و «شرح الشمائل» وغيرها، توفي بمكة في شوال سنة 1014 هـ. يُنظر: الفوائد البهية (ص: 8)، الأعلام، للزركلي (5/ 12).
أوفى بالتأويل»
(1)
.
وقال ابن الهمام رحمه الله: «التوفيق أَولى، فيُحمل ما رواه (مالك بن الحويرث) على حالة الكبر»
(2)
.
الحكم على القرينة:
قرينة فِعله صلى الله عليه وسلم قرينة قوية؛ لقوتها في أصلها، فهي قرينة نصية صحيحة، ولدلالتها على بيان الجواز في بعض الأحوال، فأفادت هذه القرينة أن النهي ليس للتحريم، والله تعالى أعلم.
(1)
مرقاة المفاتيح (2/ 736)، ويُنظر: فتح الباري، لابن رجب (7/ 292).
(2)
فتح القدير (1/ 309).
المبحث السادس عشر:
النهي عن جلوس المصلي في الصلاة وهو معتمد على يديه
المطلب الأول: حكم جلوس المصلي في الصلاة وهو معتمد على يديه:
دليل النهي:
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُعْتَمِد عَلَى يَدَيْهِ
(1)
(2)
.
صورة المسألة:
ماحكم اعتماد المصلي على يده والاتكاء بها على الأرض بلا حاجة حال جلوسه في الصلاة؟
حكم المسألة:
يُكره للمصلي أن يجلس في صلاته وهو معتمد على يديه لغير حاجة؛ للنهي عنه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وهو مذهب الحنابلة
(3)
(4)
.
قال ابن قدامة رحمه الله: «يُكره أن يعتمد على يده في الجلوس»
(5)
.
وقال البهوتي رحمه الله: «يُكره اعتماده على يده في جلوسه من غير حاجة تدعو إليه»
(6)
.
(1)
أي: وهو متكئ على يده، يعني: إذا جلس للتشهد لا يضع يده على الأرض، بل يضعها على ركبتيه. يُنظر: المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 159).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة (2/ 234) برقم:(992)، وأحمد (10/ 416) برقم:(6347)، وصححه ابن خزيمة (1/ 365) برقم:(692)، قال الحاكم في (المستدرك) (1/ 353):«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» ، وصححه الألباني في (صحيح وضعيف سنن أبي داود) (ص: 2).
(3)
يُنظر: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 286)، المبدع (1/ 425)، كشاف القناع (1/ 372).
(4)
لم أقف على هذه المسألة عند الحنفية والمالكية والشافعية في كتبهم التي بين يديَّ، ولم أهتد إلى ما يمكن أن يخرّج عليه، وأقرب ما وقفت عليه هو اتفاقهم على أن سنة اليدين حال الجلوس في الصلاة أن توضع على الفخذين. يُنظر: الاختيار لتعليل المختار (1/ 53)، الفواكه الدواني (1/ 186)، المجموع (3/ 437).
(5)
الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 286).
(6)
كشاف القناع (1/ 372).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
لعل الصارف للنهي عن التحريم هي القرائن التالية:
القرينة الأولى: قرينة نصية بينت علة النهي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس في الصلاة بهذه الهيئة، وعلل بأنها تشبه جلسة الذين يعذبون؛ تنفيراً وتنزيهاً للمصلي عن مشابهتهم، وذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا سَاقِطاً يَدَهُ
(1)
فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا تَجْلِسْ هَكَذَا، إِنَّمَا هَذِهِ جِلْسَةُ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ))
(2)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
لم ينص فقهاء الحنابلة على صارف النهي عن التحريم، في حين أن ذِكرهم للمسألة في باب مكروهات الصلاة، وإطلاق الكراهة عليها يشير إلى أن النهي جاء في باب الأدب والإرشاد؛ إذ إطلاق الكراهة عند الحنابلة ينصرف إلى التنزيه
(3)
.
فالنهي أُريد به المحافظة على أدب الصلاة وهيئتها المشروعة، والتنزيه عما لا يليق بها من الهيئات، والنهي في باب الأدب والإرشاد محمول على الكراهة
(4)
.
والعلة من النهي:
1 -
أن الجلوس مع الاعتماد باليدين على الأرض تشبه هيئة وجلوس المعذبين؛ فيكره تنزيهاً عن مشابهتهم.
قال العيني رحمه الله: «
…
لأنه يشبه جلوس المعذبين»
(5)
.
2 -
ويمكن أن يكون من المعنى أيضاً: ما في الاعتماد على اليد من هيئة الكسل التي تُنزه عنها الصلاة.
(1)
ساقطا يده في الصلاة: أي يتكاء على يده اليُسرى وهو قاعِد في الصلاة. جاءت مفسرة بذلك في رواية أبي داود.
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة (2/ 236) برقم:(994) موقوفاً، وأحمد (10/ 180) برقم:(5972) مرفوعاً واللفظ له، وأخرجه الحاكم (1/ 406) برقم:(1007) ولفظه: ((أن النبي نهى رجلا وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة، فقال: إنها صلاة اليهود)) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» ، قال الألباني: في (إرواء الغليل)(2/ 103): «هذا إسناد جيد على شرط مسلم» .
(3)
يُنظر: شرح مختصر الروضة (1/ 385)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، لابن بدران (ص: 155).
(4)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
(5)
شرح أبي داود (4/ 276).
الحكم على القرينة:
القرينة النصية قرينة قوية؛ لثبوتها ودلالتها على موضوع المسألة وعلتها، فهي قرينة معتبرة. وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد قرينة معتبرة صارفة للنهي عن التحريم، والتنزيه عن هيئة المعذبين أو الكسالى معنى مناسب لباب الأدب والإرشاد، والله تعالى أعلم.
المبحث السابع عشر:
النهي عن مسح الحصى من موضع السجود، والعبث أثناء الصلاة
المطلب الأول: حكم مسح الحصى من موضع السجود، والعبث
(1)
أثناء الصلاة:
دليل النهي:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ، فَلَا يَمْسَحِ الْحَصَى))
(2)
.
صورة المسألة:
في المسألة صورتان: الأولى: العبث في الصلاة على وجه العموم. والثانية: مسح الحصى في الصلاة، وهي صورة من صور العبث.
حكم المسألة:
أولا: اتفق الفقهاء
(3)
على كراهة العبث في الصلاة. وحكي الإجماع على ذلك
(4)
.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «
…
وفي هذا الحديث النهي عن اللعب بالحصباء والعبث بها في الصلاة، وهو أمر مجتمع عليه، وكذلك غير الحصباء»
(5)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: «يُكره العبث كله، وما يشغل عن الصلاة، ويذهب بخشوعها، وقد رُوي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث في الصلاة، فقال: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا
(1)
العبث: الحركة التي ليست لها فائدة. يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، معجم لغة الفقهاء (ص: 303).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب مسح الحصى في الصلاة (2/ 204) برقم:(945)، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية مسح الحصى في الصلاة (2/ 219) برقم:(379) وحسنه، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب السهو، ذِكر ما ينقض الصلاة وما لا ينقضها، النهي عن مسح الحصى في الصلاة (1/ 288) برقم:(537)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب مسح الحصى فِي الصلاة (2/ 152) برقم:(1027)، وأحمد (35/ 259) برقم:(21330)، صححه ابن خزيمة (1/ 456) برقم:(913)، وابن حبان (6/ 49) برقم:(2273)، وقال ابن حجر في (بلوغ المرام) (ص: 124): «إسناد صحيح» .
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 25)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 61)، البيان والتحصيل (1/ 341)، شرح مختصر خليل، للخرشي (1/ 294)، روضة الطالبين (11/ 224)، المغني (2/ 9)، شرح منتهى الإرادات (1/ 208).
(4)
نقل الإجماع: ابن عبد البر في (الاستذكار)(1/ 477) و (التمهيد)(13/ 196)، وابن قدامة في (المغني)(2/ 9).
(5)
الاستذكار (1/ 477). يشير إلى حديث المُعاوي، وسيأتي عند ذكر الأدلة.
لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ))
(1)
، ولا نعلم بين أهل العلم في كراهة هذا كله اختلافاً»
(2)
.
الأدلة:
الدليل الأول: عن علي بن عبد الرحمن الْمُعَاوِيِّ
(3)
، أنه قال: رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصى في الصلاة، فلما انصرف نهاني، فقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، فقلت: وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ ((كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن في نهي ابن عمر للمعاوي دليلاً على كراهة العبث في الصلاة وتحريك اليد لغير حاجة؛ لأن السنة أن لليدين موضعاً وعملاً تشتغلان به في الصلاة كما أرشد إليه ابن عمر، ولم يأمر المعاوي بإعادة الصلاة؛ لأن ذلك -والله أعلم- كان منه يسيراً لم يشغله عن صلاته، ولا عن إقامة شيء من حدودها، والعمل اليسير في الصلاة لا يفسدها
(5)
.
الدليل الثاني: أن العبث يخل بالخشوع، والخشوع سنة
(6)
.
قال السرخسي رحمه الله: «فالحاصل أن كل عمل هو مفيد للمصلي فلا بأس أن يأتي به،
…
فأما ما ليس بمفيد: فيُكره للمصلي أن يشتغل به، لقوله صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلاً))
(7)
، والعبث غير مفيد له شيئاً، فلا يشتغل به»
(8)
.
(1)
سبق تخريجه: ص (411).
(2)
المغني (2/ 9).
(3)
هو: علي بن عبد الرحمن المعاوي: من بني معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف من الأوس الأنصاري المدني، تابعي، ذكره ابن حبان في الثقات، روى عن: عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، روى عنه: مسلم بن أبي مريم، والزهري، روى له: مسلم، وأبو داود، والنسائي. يُنظر: تهذيب الكمال (21/ 54)، تهذيب التهذيب (7/ 362).
(4)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين (1/ 408) برقم:(580).
(5)
يُنظر: الاستذكار (1/ 477)، شرح سنن أبي داود، لابن رسلان (5/ 271).
(6)
يُنظر: البحر الرائق (2/ 15)، حاشية الطحطاوي (ص: 341)، الذخيرة (2/ 235)، نهاية المحتاج (1/ 547)، الفروع (2/ 251)، كشاف القناع (1/ 392).
(7)
أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أبواب العمل في الصلاة، باب لا يُرد السلام في الصلاة (2/ 65) برقم:(1216).
(8)
المبسوط (1/ 26).
ثانياً: اتفق الفقهاء
(1)
على كراهة مسح الحصى من موضع السجود أثناء الصلاة، وإباحة المرة الواحدة للحاجة والعذر.
قال النووي رحمه الله: «
…
ومعنى الحديث لا تمسح وإن مسحت فلا تزد على واحدة، وهذا نهي كراهة تنزيه، واتفق العلماء على كراهته إذا لم يكن عذر»
(2)
.
الأدلة:
الدليل الأول: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ، فَلَا يَمْسَحِ الْحَصَى))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديث نهياً صريحاً عن مسح الحصى، ويُحمل على كراهة التنزيه؛ للتعليل بكون الرحمة تواجهه، فلا يشتغل بما يلهيه عنها، ويفوت حظه منها
(4)
.
الدليل الثاني: حديث مُعَيْقِيبٍ رضي الله عنه
(5)
: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً))
(6)
، وفي رواية:((لا تمسَحْ وأنت تُصلّي، فإن كنتَ لا بدَّ فاعِلًا فواحدةً؛ تسويةَ الحصى))
(7)
.
وجه الاستدلال: أن النهي عن مسح الحصى نهي صريح، وفي معناه: تسوية التراب، وإباحة المرة الواحدة؛ للحاجة إلى تسوية الحصى حتى يتمكن من السجود عليه، والمنع فيما
(1)
يُنظر: البناية (2/ 436)، حاشية الطحطاوي (ص: 345)، النوادر والزيادات (1/ 238)، إكمال المعلم (2/ 482)، المجموع (4/ 98)، مغني المحتاج (1/ 422)، المغني (2/ 9)، مطالب أولي النهى (1/ 476).
(2)
المجموع (4/ 99).
(3)
سبق تخريجه: ص (456).
(4)
يُنظر: المجموع (4/ 99)، عمدة القاري (7/ 285).
(5)
هو: مُعَيْقيب ابن أبي فاطمة الدَّوْسِي حليف بني عبد شمس، وقال موسى بن عقبة: مولى سعيد بن العاص، أسلم قديماً بمكة، وهاجر منها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدراً، وكان على خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمله أبو بكر، وعمر على بيت المال، وبقي إلى زمن عثمان بن عفان، وتُوفي في آخر خلافته، وقيل: سنة 40 هـ، روى عنه: أبو سلمة بن عبد الرحمن، روى له: أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي. يُنظر: الاستيعاب (4/ 1479)، أسد الغابة (5/ 231).
(6)
أخرجه البخاري، كتاب العمل في الصلاة، باب مسح الحصى في الصلاة (2/ 64) برقم:(1207)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة مسح الحصى وتسوية التراب فِي الصلاة (1/ 387) برقم:(546).
(7)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب مسح الحصى في الصلاة (2/ 204) برقم:(946).
زاد عليها؛ لأنه ينافى معنى الصلاة والتواضع فيها، ولئلا يكثر الشغل
(1)
، فيكون من العبث المكروه.
وفي الإذن بالمرة الواحدة دليل وصارف للنهي عن ظاهره -وهو التحريم- إلى الكراهة، والتقييد بالحصى وبالتراب خرج للغالب؛ لأنه فرش المساجد في ذلك الوقت، فيلحق به غيره مما يُصلى عليه
(2)
.
الدليل الثالث: أن مسح الحصى وتقليبه وتسوية التراب فيه نوع عبث، والعبث مكروه؛ لمنافاته الخشوع
(3)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن النهي حُمل على الكراهة للقرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيه التعليل بما لا يقتضي التحريم.
ذَكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث علة النهي عن مسح الحصى بأن الرحمة تواجهه: (فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ)؛ فلا ينبغي للمصلي الانشغال عنها؛ فيفوته شيء منها، أو يجعل بينه وبينها حائلاً.
قال ابن حجر رحمه الله: «قوله: فإن الرحمة تواجهه: يدل على أن العلة فيه ألا يجعل بينه وبين الرحمة التي تواجهه حائلاً»
(4)
.
وقال العيني رحمه الله: «تعليل النهي عن مسح الحصى بكون الرحمة تواجهه، يدل على أن النهي حكمته ألا يشتغل خاطره بشيء يلهيه عن الرحمة المواجهة له، فيفوته حظه»
(5)
.
وقال الطيبي رحمه الله: «قوله: فإن الرحمة تواجهه: علة للنهي، يعني: لا يليق بالعاقل
(1)
يُنظر: إكمال المعلم (2/ 481)، المفهم (2/ 156)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 37)، شرح أبي داود، للعيني (4/ 214).
(2)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (3/ 79).
(3)
يُنظر: المبسوط، للسرخسي (1/ 26)، الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 286)، شرح أبي داود، للعيني (4/ 212).
(4)
فتح الباري (3/ 79).
(5)
عمدة القاري (7/ 285).
تلقي شكر تلك النعمة الخطيرة بهذه الفِعلة الحقيرة»
(1)
.
القرينة الثانية: المقصد من النهي.
أن المقصد من النهي المحافظة على الصلاة وخشوعها، والتنزيه عن الانشغال عنها بالعبث، ومسح الحصى بما يزيد عن المرة الواحد في الصلاة نوع من العبث المنافي للخشوع، والعبث مكروه.
قال ابن حجر رحمه الله: «والذي يظهر أن علة كراهيته المحافظة على الخشوع، أو لئلا يكثر العمل في الصلاة،
…
وألا يجعل بينه وبين الرحمة التي تواجهه حائلاً»
(2)
.
وقال العيني في (البناية): «لا يقلب الحصى؛ لأنه نوع عبث، وهو خلاف الخشوع، وقد مدح الله الخاشعين في الصلاة بقوله:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}
(3)
»
(4)
.
القرينة الثالثة: النهي عنه في حال دون حال.
فالنهي عن مس الحصا حال الكثرة، ورخص فيه إن كان مرة.
ففي الإذن بالمرة الواحدة دليل وصارف للنهي عن ظاهره -وهو التحريم- إلى الكراهة
(5)
.
قال النووي رحمه الله: «قوله: إن كنت لا بد فاعلاً فواحدة: معناه: لا تفعل، وإن فعلت فافعل واحدة لا تزد، وهذا نهي كراهة تنزيه»
(6)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن قرينة العلة من النهي قرينة قوية ومعتبرة؛ لقوتها في أصلها؛ إذ هي قرينة نصية جاءت في نفس الحديث وقوية؛ لثبوتها ولدلالتها على معنى النهي المقصود، وقرينة المقصد كذلك قرينة قوية ومعتبرة؛ فمقصد المحافظة على الصلاة وخشوعها والتنزيه عما ينافيها هو ما يُفهم من النواهي التي من هذا القبيل، أقصد بها: النواهي عن أنواع من العبث، والله تعالى أعلم.
(1)
للطيبي (3/ 1076).
(2)
فتح الباري (3/ 79).
(3)
سورة المؤمنون: الآيتان (1 - 2).
(4)
(2/ 436)، ويُنظر له: شرح أبي داود (4/ 212).
(5)
يُنظر: فتح الباري، لابن حجر (3/ 79).
(6)
المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 37).
المبحث الثامن عشر:
النهي عن رد السلام في الصلاة
المطلب الأول: حكم رد السلام في الصلاة:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا غِرَارَ
(1)
فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيم
(2)
(3)
.
صورة المسألة:
إذا كان المرء في الصلاة وسُلم عليه: فهل يرُدُّ السلام كلاماً أو إشارةً؟
تحرير محل النزاع:
أولاً: أجمع العلماء
(4)
على أن المصلي لا يرد السلام كلاماً؛ للإجماع على أن الكلام عامداً في الصلاة يفسدها.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «أجمع العلماء على أن مَنْ سُلم عليه وهو يصلي، لا يرد كلاماً، وكذلك أجمعوا على أن مَنْ رد إشارةً أجزأه، ولا شيء عليه»
(5)
.
(1)
الغِرَار: النقصان، وأصله من غرار الناقة، وهو أن ينقص لبنها، يقال: قد غارت الناقة فهي مغار. يُنظر: الصحاح (2/ 768)، غريب الحديث، للقاسم بن سلام (3/ 175).
(2)
المراد بغرار الصلاة: أن لا يتم ركوعها وسجودها، وقيل: أراد بالغرار: النوم، أي: ليس في الصلاة نوم، والمراد بغرار التسليم على رواية الجر معطوفاً على الصلاة: أن يقول المجيب: وعليك، ولا يقول: السلام، وعلى رواية النصب يكون معطوفاً على الغرار، والمعنى: لا نقص ولا تسليم في صلاة؛ لأن الكلام في الصلاة بغير كلامها لا يجوز. يُنظر: غريب الحديث، للقاسم بن سلام (3/ 175)، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 357). والاستدلال بالحديث في المسألة على رواية النصب، وهو تفسير الإمام أحمد رحمه الله، قال أبو داود:«قال أحمد: يعني-فيما أُرى- ألا تُسلمَ ولا يُسلَّمَ عليك، ويُغرِّرُ الرجلُ بصلاته فينصرفُ وهو فيها شاكٌّ» . سنن أبي داود (2/ 190).
(3)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة (2/ 190) برقم:(928)، وأحمد (16/ 27) برقم:(9936)، والحاكم (1/ 396) برقم:(928) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» ، وصحح إسناده النووي في (المجموع)(4/ 104).
(4)
نقل الإجماع: ابن المنذر في (الإجماع)(ص: 48)، وابن بطال في (شرح صحيح البخاري)(3/ 207)، وابن عبد البر في (التمهيد)(21/ 109).
(5)
التمهيد (21/ 109).
وقال أيضاً: «أجمع المسلمون طُرّاً
(1)
أن الكلام عامداً في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته -يفسد الصلاة»
(2)
.
وقال ابن بطال رحمه الله: «أجمع العلماء أن المصلى لا يرد السلام متكلماً»
(3)
.
وقال ابن المنذر رحمه الله: «أجمعوا على أن مَنْ تكلم في صلاته عامداً وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها، أن صلاته فاسدة»
(4)
.
الأدلة:
الدليل الأول: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، وَيُوصِي أَحَدُنَا بِالْحَاجَةِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ، وَمَا حَدُثَ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ:((إِنَّ اللهَ عز وجل يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ، وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ أَلَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ))
(5)
.
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ))
(6)
.
الدليل الثالث: حديث جابر رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ، فَرَجَعْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَوَجْهُهُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:((إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي))
(7)
، وفي رواية: ((فَسَلَّمْتُ
(1)
طُرّاً: أي: جميعاً. يُنظر: الصحاح (2/ 725).
(2)
التمهيد (1/ 350).
(3)
شرح صحيح البخاري (3/ 207).
(4)
الإجماع، لابن المنذر (ص: 48).
(5)
أخرجه البخاري تعليقاً، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [سورة الرحمن: الآية: (29)](9/ 152)، وأخرجه أبو داود كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة (2/ 187) برقم:(924)، وأحمد (7/ 210) برقم:(4145) واللفظ له، وصححه ابن حبان (6/ 15) برقم:(2243).
(6)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته (1/ 381) برقم:(537)، والحديث في قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه الذي شمّت عاطساً في الصلاة.
(7)
أخرجه البخاري، أبواب العمل في الصلاة، باب لا يرد السلام في الصلاة (2/ 66) برقم:(1217)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته (1/ 384) برقم:(540) واللفظ له.
عَلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي، فَقَالَ: إِنَّكَ سَلَّمْتَ آنِفاً وَأَنَا أُصَلِّي))
(1)
.
وجه الاستدلال: أن عدم رد النبي صلى الله عليه وسلم السلام على من سلم عليه من الصحابة: دليل على تحريم الكلام في الصلاة ومخاطبة الآدميين، وتحريم رد السلام فيها باللفظ، وأنه ناسخ لما كان عليه الأمر قبل ذلك من الإباحة كما دل عليه حديث ابن مسعود
(2)
.
ثانياً: اختلف الفقهاء في رد المصلي السلام إشارة، على قولين:
القول الأول: استحباب الرد إشارة.
وهو مذهب الجمهور: المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
القول الثاني: الكراهة.
وهو مذهب الحنفية
(6)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن صهيب رضي الله عنه قال: ((مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فسلَّمتُ عليه، فردَّ إشارةً، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُه إِلَّا قَالَ: إِشَارَةً بِإِصْبَعِهِ))
(7)
.
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: ((قُلْتُ لِبِلَالٍ: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ عَلَيْهِمْ
(1)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته (1/ 383) برقم:(540).
(2)
يُنظر: الإقناع، لابن المنذر (1/ 101)، التمهيد (1/ 356)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 27).
(3)
يُنظر: المدونة (1/ 190)، التبصرة (1/ 397)، الذخيرة (2/ 145).
(4)
يُنظر: المجموع (4/ 104)، أسنى المطالب (1/ 182).
(5)
يُنظر: المغني (2/ 46)، الإنصاف (3/ 663).
(6)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 157)، البناية (2/ 442)، حاشية ابن عابدين (1/ 616).
(7)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة (2/ 188) برقم:(925) وقال: «هذا لفظ حديث قتيبة» ، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة (2/ 203) برقم:(367) وصححه، والنسائي في السنن الصغرى، كتاب المساجد، أبواب صفة الصلاة، رد السلام بالإشارة في الصلاة (3/ 5) برقم:(1186)، وأحمد (31/ 259) برقم:(18931)، صححه ابن حبان (6/ 34) برقم:(2259)، وله شواهد منها حديث جابر المتقدم.
حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وهو فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: كَانَ يُشِيرُ بِيَدِهِ))
(1)
.
الدليل الثالث: حديث جابر رضي الله عنه المتقدم.
وجه الاستدلال: أن في الأحاديث دليلاً على رد السلام إشارةً، ففِعله صلى الله عليه وسلم دليل على سنيته، وأنه عمل قليل لا يفسد الصلاة
(2)
.
نُوقش من وجهين: الوجه الأول: بأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في التشهد وهو يشير بأصبعه فظنوه رداً، ويحتمل أنه أشار لهم نهياً عن السلام فظنوه رداً، وحديث جابر رُوي بوجوه عدة: فمرة ذُكر أنه لم يرُدَّ عليه، ومرة ذكر أنه أشار، وفيه أيضاً قوله:(أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي)، فدل ذلك على أن تلك الإشارة التي كانت منه في الصلاة لم تكن رداً، وإنما كانت نهياً
(3)
.
أجيب عنه: أن التأويل: بأن إشارته صلى الله عليه وسلم إليهم كانت نهياً: أي: لا تسلموا، فإنه وإن كان محتملاً ففيه بُعد؛ ولأن حديث ابن عمر نص على أن ذلك كان ردًا للسلام؛ وأنه لو كان القصد النهي، لبيَّنه بما لا يحصل به الإشكال والاحتمال، وهذا محتمل
(4)
.
الوجه الثاني: أن أحاديث الإشارة كانت قبل نسخ الكلام، والإشارة كلام بالمعنى، ويؤيده حديث ابن مسعود؛ لأنه جاء فيه:(فلم يرُدَّ عليَّ)، ولم يقل: فأشار إلينا، وكذا حديث جابر، وجاء فيه:(أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي) فلم يَرُدُّ عليهم بالإشارة، ولو كان الرد بالإشارة جائزاً لفعله
(5)
.
أجيب عنه: أولاً: بأن أحاديث الإشارة لو لم تكن بعد نسخ الكلام لَرد باللفظ؛ إذ الرد باللفظ واجب، إلا لمانع: كالصلاة، فلما رد بالإشارة عُلم أن الكلام ممنوع في
(1)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة (2/ 189) برقم:(927)، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة (2/ 204) برقم:(368) واللفظ له، وقال:«حسن صحيح» ، وأحمد (39/ 320) برقم:(23886)، والحاكم (3/ 13) برقم:(4278) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . صححه ابن خزيمة (1/ 446) برقم: (888)، وابن حبان (6/ 33) برقم:(2258).
(2)
يُنظر: بحر المذهب، للروياني (2/ 87)، المفهم (2/ 148)، المنهاج شرح صحيح مسلم (5/ 27).
(3)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 157)، نصب الراية (2/ 90)، عمدة القاري (7/ 269).
(4)
يُنظر: التعليق الكبير (1/ 106)، الاستذكار (2/ 338).
(5)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 157)، البناية (2/ 442)، عمدة القاري (7/ 269).
الصلاة
(1)
.
ثانياً: أن المراد بنفي الرد في حديث ابن مسعود وجابر أنه محمول على أنه لم يرد بالكلام؛ بدليل لفظ حديث ابن مسعود: (قد أحدث ألا تكلموا في الصلاة)
(2)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، وَيُوصِي أَحَدُنَا بِالْحَاجَةِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ، وَمَا حَدُثَ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ:((إِنَّ اللهَ عز وجل يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ، وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ أَلَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ))
(3)
.
الدليل الثاني: حديث جابر رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ، فَرَجَعْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَوَجْهُهُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:((إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي))
(4)
.
وجه الاستدلال: أن قوله: (فلم يرُدَّ عليَّ) عام في اللسان واليد؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عليهم إشارةً، ولو كان جائزاً لفعله؛ فدل على كراهة الرد بالإشارة؛ للتنزيه
(5)
.
نُوقش: بأنه محمول على نفي الرد باللسان كلاماً؛ لأنه قد كان الكلام مباحاً، ثم نُسخ
(6)
بقوله: (قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة) وهذا ما يُشعر به سياق الحديث.
الدليل الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ -يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ- وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ أَشَارَ فِي صَلَاتِهِ إِشَارَةً تُفْهَمُ عَنْهُ فَلْيَعُدْ لَهَا))
(7)
.
(1)
يُنظر: نصب الراية (2/ 90).
(2)
يُنظر: التعليق الكبير (1/ 107)، نصب الراية (2/ 91).
(3)
سبق تخريجه: ص (462).
(4)
سبق تخريجه: ص (462).
(5)
يُنظر: التعليق الكبير (1/ 107)، حاشية الطحطاوي (ص: 322).
(6)
يُنظر: التعليق الكبير (1/ 107).
(7)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإشارة في الصلاة (2/ 203) برقم:(944) وقال: «هذا الحديث وَهْم» ، وقال الزيلعي في (نصب الراية) (2/ 91):«حديث جيد، أبو غطفان: هو ابن طَريف أو ابن مالك المُرِّيّ، وقد وثقه النسائي وابن حبان وأخرج له مسلم في صحيحه، وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: سُئل أحمد عن حديث مَنْ أشار في صلاته إشارة تفهم عنه: فليعد الصلاة؟ فقال: لا يثبت إسناده، ليس بشيء» ، قال ابن رجب في (فتح الباري) (9/ 493):«قال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا رجل مجهول، وآخر الحديث زيادة في الحديث؛ لعله من قول ابن إسحاق، يعني: أن آخره مدرج، ليس هو من تمام الحديث المرفوع، وهذا هو الظاهر، وهذا يدل على أن أبا غطفان هذا ليس هو المري الذي خرج له مسلم، بل هو غيره، وابن إسحاق، مدلس، ولم يصرح بسماعه من يعقوب بن عتبة، فلعله دلسه عن ضعيف» .
وجه الاستدلال: أن في الحديث دلالة على أن الإشارة في الصلاة مكروهة على العموم، ومنه: رد السلام بالإشارة، والكراهة للتنزيه، وفَعَله صلى الله عليه وسلم بياناً للجواز
(1)
.
نُوقش من وجهين:
الوجه الأول: بأن الحديث وهم، وأن راويه فيه مقال كما تبين في التخريج.
أُجيب: بأن الحديث جيد، وراويه وُثِّق
(2)
.
رُدَّ: بأن آخر زيادة في الحديث هو مدرج، ليس هو من تمام الحديث المرفوع، وهذا هو الظاهر، وهذا يدل على أن الراوي ليس هو ممن وُثِّق، بل هو غيره
(3)
.
الوجه الثاني: أنه قد ثبتت الإشارة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة في آثار كثيرة -كأحاديث جابر، وصهيب، وبلال المتقدمة- ذكرها البخاري في آخر كتاب الصلاة، فلا معنى لقول مَنْ أنكر رد السلام بالإشارة
(4)
، وبيان الجواز إنما يكون بالمرة والمرتين.
الدليل الرابع: أن الإشارة سلامٌ معنًى؛ لكونه ينوب عن الرد باللسان
(5)
.
سبب الخلاف:
السبب في اختلافهم: هو اختلافهم في معنى إشارة النبي صلى الله عليه وسلم، هل كانت رداً للسلام أو كانت نهياً عنه؟ فمَن رأى أن إشارته كانت رداً، وحمل النهي في الأحاديث على الرد باللسان كلاماً -قال: يجوز الرد إشارةً، ومَن رأى أن إشارته كانت نهياً، وجعل النهي عاماً في اللسان واليد -قال: يُكره الرد إشارةً.
الترجيح:
(1)
يُنظر: تبيين الحقائق (1/ 163)، حاشية الطحطاوي (ص: 322).
(2)
يُنظر: نصب الراية (2/ 90). ويُنظر التخريج.
(3)
يُنظر الرد في التخريج.
(4)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (3/ 207)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح (9/ 315).
(5)
يُنظر: البناية (2/ 442)، الاختيار لتعليل المختار (1/ 62).
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل باستحباب رد المصلي السلام إشارةً.
قال النووي رحمه الله: «مذهبنا: لا يجوز أن يَرُد باللفظ في الصلاة، وأنه لا يجب عليه الرد، لكن يُستحب أن يَرُد في الحال إشارةً، وإلا فبعد السلام لفظاً، وبهذا قال
…
جمهور العلماء، نقله الخطابي عن أكثر العلماء»
(1)
.
أسباب الترجيح:
1 -
أنه القول الذي تؤيده كثرة الروايات التي تثبت رده صلى الله عليه وسلم إشارةً.
2 -
قوة أدلته، وإمكان الرد على مناقشة المخالف.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبيَّن فيما سبق أن الحنفية حملوا النهي على الكراهة، والذي يظهر من كلامهم أن الصارف للنهي القرائن التالية:
القرينة الأولى: ورود النص، وفيه فِعله صلى الله عليه وسلم للمنهي عنه.
أن ما جاء في حديثي صهيب وابن عمر من رده صلى الله عليه وسلم على المسلِّم إشارةً بيده: قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة؛ لأن فِعله كان بياناً للجواز.
جاء في (حاشية الطحطاوي): «أنها كراهة تنزيه، وفِعله صلى الله عليه وسلم إنما كان تعليماً للجواز، فلا يُوصف بالكراهة»
(2)
.
القرينة الثانية: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
أشار فقهاء الحنفية إلى أن كراهة الرد إشارةً هو من باب الأدب والتنزيه؛ وذلك أن فيه شغلاً في الصلاة يُنافي أدب الوقوف بين يدي الله عز وجل ومناجاته، والنهي في باب الأدب محمول على الكراهة
(3)
.
قال ابن عابدين رحمه الله: «
…
مكروه: أي: تنزيهاً، وفَعَله عليه الصلاة والسلام لتعليم الجواز، فلا يُوصف
(1)
المجموع (4/ 104).
(2)
(ص: 322).
(3)
يُنظر: التحبير شرح التحرير (5/ 2281)، الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية (ص: 323).
فِعله بالكراهة»
(1)
. وقال أيضاً: «ويدل لعدم الفساد أنه عليه السلام فعله»
(2)
.
والعلة في ذلك: أن رد السلام فيه تشتيت وإشغال عما هو فيه من مناجاة الله عز وجل في صلاته.
جاء في (فتح القدير): «المنع منها؛ لما يوجبه من التشتيت والشغل»
(3)
.
الحكم على القرينة:
القرينة النصية من أقوى القرائن القوية المعتبرة في الأصل، والذي يظهر هنا أنها قرينة غير معتبرة؛ لضعف قصر دلالتها على بيان الجواز؛ إذ إنه قد ثبتت الإشارة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة في آثار كثيرة، وكثرتها دليل على سنيتها، فمع كثرتها كيف تُقصر دلالتها على بيان الجواز، وأن النهي للكراهة؟! أما قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد: فهي هنا قرينة ضعيفة؛ لأن الرد إشارةً عملٌ يسيرٌ يُعفى عنه كحمل الطفل وردّ المارّ، والله أعلم.
(1)
حاشية ابن عابدين (1/ 616)، ويُنظر: حاشية الطحطاوي (ص: 322).
(2)
في الحاشية (1/ 616).
(3)
للكمال بن الهمام (1/ 411).
الفصل السابع
المسائل الفقهية التي حُمل النهي فيها على غير التحريم في باب صلاة التطوع
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: النهي عن وِترين في ليلة.
المبحث الثاني: النهي عن رفع الصوت بالقراءة في صلاة التطوع إن كان مؤذياً لمن حوله.
المبحث الثالث: النهي عن ترك قيام الليل.
المبحث الرابع: النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي.
المبحث الأول:
النهي عن وِترين في ليلة
المطلب الأول: حكم صلاة وِترين في ليلة:
دليل النهي:
عن طلق بن علي رضي الله عنه
(1)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ))
(2)
.
صورة المسألة:
مَنْ تنفل وأوتر في أول الليل، ثم بدا له أن يتنفل مرة أخرى، فهل يعيد الوتر ليكون آخر صلاته وتراً؟ أو يتنفَّل شفعاً ولا يوتر أخرى؟
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(3)
على أن مَنْ أراد التنفل بعد وتره يصلِ مثنى مثنى ما شاء، ويُكره أن ينقض وتره
(4)
(5)
.
قال العيني رحمه الله: «لا يُجمع بين وترين في ليلة واحدة؛ لحديث طلق بن عدي
…
ومعناه:
(1)
هو: طَلْقِ بنِ علي بن المُنْذِرِ بنَ قَيْس بنِ عَمْرو بن عَبْدِ اللّهِ الحنفي السُحيمي، أبو علي اليمامي، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل معه في بناء المسجد، وروى عنه، وعنه: ابنه قيس وابنته خالدة وعبد الله بن بدر وعبدالرحمن بن علي بن شيبان. يُنظر: الاستيعاب (2/ 776)، تهذيب التهذيب (5/ 33).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في نقض الوتر (2/ 574) برقم:(1439)، والترمذي، أبواب الوتر، باب ما جاء لا وتران في ليلة (2/ 333) برقم:(470)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب المساجد، أبواب الوتر، ذِكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا وتران في ليلة (2/ 152) برقم:(1392)، وأحمد (26/ 222) برقم:(16296)، صححه ابن خزيمة (1/ 547) برقم:(1101)، وابن حبان (6/ 201) برقم:(2449)، وحسّنه ابن الملقن في (البدر المنير)(4/ 317)، وابن حجر في (فتح الباري)(2/ 481).
(3)
يُنظر: البناية (2/ 505)، حاشية ابن عابدين (1/ 369)، شرح مختصر خليل، للخرشي (2/ 10)، حاشية العدوي (1/ 294)، المجموع (4/ 15)، تحفة المحتاج (2/ 229)، المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 162)، المغني (2/ 120)، كشاف القناع (1/ 427).
(4)
نَقْضُ الوِتْرِ: النون والقاف والضاد أصل صحيح يدل على نكث شيء، ونقض الوتر: أي إبطاله وتشفيعه بركعة لمن يريد أن يتنفل بعد أن أوتر، وصفته: أنه إذا قام للتهجد: يصلي ركعة تشفع الوتر الأول، ثم يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر في آخر التهجد. يُنظر: مقاييس اللغة (5/ 470)، النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 107)، المغني (2/ 120).
(5)
وللشافعية وجه آخر وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه يجوز نقض الوتر الأول بركعة يشفعها بها ثم يوتر ثانية بعد تنفله. يُنظر: العزيز شرح الوجيز (2/ 125)، المجموع (4/ 15)، المغني (2/ 120)، المبدع (2/ 24). ويُنظر الأدلة ومناقشتها في: فتح الباري، لابن رجب (9/ 170)، حاشية العدوي (1/ 294).
أن مَنْ صلى الوتر، ثم صلى بعد ذلك، لا يعيد الوتر»
(1)
.
وقال ابن رشد رحمه الله في (بداية المجتهد): «ذهب أكثر العلماء إلى أن المرء إذا أوتر ثم نام فقام يتنفل، أنه لا يوتر ثانية»
(2)
.
الأدلة:
الدليل الأول: حديث طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ)).
وجه الاستدلال: أن في الحديث نفي بمعنى النهي، والمراد النهي عن صلاة وترين في ليلة، فهو دليلٌ به على كراهة إعادة الوتر؛ لأن إعادته تصير الصلاة كلها شفعاً، فيبطل المقصود منه
(3)
.
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً: يُصَلِّي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ
(4)
، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد وتره تهجداً، ولم يوتر؛ اكتفاءً بالوتر الذي قبل تهجده، فدل ذلك على كراهة إعادة الوتر
(6)
.
الدليل الثالث: أن الوتر وقع بعد عشاء صحيحة وشفق، فمضى على صحته، فلا يتوجه إبطاله بعد فراغه
(7)
.
الدليل الرابع: أن النقض يؤدي إلى أن يصلي المرء ثلاثة أوتار، وهو مكروه
(8)
.
(1)
البناية (2/ 505).
(2)
(1/ 214).
(3)
يُنظر: شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 451).
(4)
قال النووي في (المنهاج)(6/ 21): «الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما صلى الله عليه وسلم بعد الوتر جالساً؛ لبيان جواز الصلاة بعد الوتر وبيان جواز النفل جالساً، ولم يواظب على ذلك، بل فعله مرة أو مرتين أو مرات قليلة» .
(5)
أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم فِي الليل (1/ 509) برقم:(738).
(6)
يُنظر: كشاف القناع (1/ 427).
(7)
يُنظر: المجموع (4/ 25)، حاشية العدوي (1/ 294).
(8)
يُنظر: بحر المذهب، للروياني (2/ 239)، فتح الباري، لابن رجب (9/ 172).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
حمل الفقهاء النهي عن وترين في ليلة على الكراهة، ولعل الصارف له عن التحريم: قرينة فِعل الصحابي للمنهي عنه.
ذلك أن من الصحابة مَنْ رأى جواز نقض الوتر
(1)
، فكان إذا أوتر من الليل، ثم قام للتهجد، يصلي ركعة حتى يصير وتره شفعاً، ثم يتهجد ما شاء، ثم يعيد وتره؛ ليقع الوتر آخر صلاته
(2)
.
نُقل أن: ((عثمان بن عفان نقض وتره، وأعاده بعد تهجده، ونُقل مثله عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم))
(3)
، فدل فِعلهم -رضوان الله عليهم- على أنهم فهموا أن النهي ليس للتحريم، فيكون ذلك قرينة صارفة.
ولعل هذا ما أشار إليه الإمام أحمد رحمه الله؛ حيث: «قيل لأحمد: ولا ترى نقض الوتر؟ فقال: لا، ثم قال: وإن ذهب إليه رجل فأرجو؛ لأنه قد فعله جماعة»
(4)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن نقض الصحابي للوتر قرينة معتبرة لحمل النهي على الكراهة؛ إذ الصحابة هم نقلة الشريعة؛ لأنهم عاصروا التنزيل، وشاهدوا أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، فكانوا أفهم لمراد خطابه، والله أعلم.
(1)
يُنظر: بداية المجتهد (1/ 214)، بحر المذهب، للروياني (2/ 239).
(2)
قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار (2/ 118): «محال أن يشفع ركعة قد سلم منها، ونام مصليها، وتراخى الأمر فيها، وقد كتبها الملَك الحافظ وتراً، فكيف تعود شفعاً؟ هذا ما لا يصح في قياس ولا نظر، والله أعلم» .
(3)
أخرجه ابن المنذر في (الأوسط)(5/ 196)، ويُنظر: المغني (2/ 120).
(4)
المغني (2/ 120).
المبحث الثاني
النهي عن رفع الصوت بالقراءة في صلاة التطوع إن كان مؤذياً لمَن حوله
المطلب الأول: حكم رفع الصوت بالقراءة في صلاة التطوع
(1)
إن كان مؤذياً لمَن حوله:
دليل النهي:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُون بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السترَ، وَقَالَ: ألا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ -أَوْ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ-))
(2)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في النهي عن رفع الصوت بالقراءة إن كان مؤذياً لمن حوله، على قولين:
القول الأول: التحريم.
وهو مذهب الحنفية
(3)
، والمالكية
(4)
، وقول عند الشافعية
(5)
، ووجه عند
(1)
الذي يظهر أن قيد كون القراءة في صلاة التطوع ليس مقصودا للمنع؛ إذ يتوجه المنع على رفع الصوت بالقراءة إن كان مؤذياً لمَن حوله، سواء كان من مصلٍ أو غيره، ويدل لعدم اعتبار هذا القيد ما جاء في دليل النهي:(ولا يرفع بعضكم على بعض بالقراءة، أو قال: في الصلاة)؛ يُفهم منه أن كلا الحالين سواء ومقصود بالنهي، ولا يختص بأحدهما دون الآخر إن حصل التأذي به، ويظهر ذلك في صنيع بعض الفقهاء باطلاق منع الجهر بالقراءة دون تقييد كونه في صلاة كقولهم: في (تحفة المحتاج)(2/ 57): «ولا يجهر مُصلٍ وغيره إن شوش على نحو نائم أو مُصلٍ» ، وفي (حاشية الدسوقي) (1/ 308):«كره (جهر) أي رفع صوت (بها) أي بالقراءة بمسجد» ، وفي (مطالب أولي النهى) (1/ 597):«وكره رفع صوت بقراءة تغلط المصلين» ، والله أعلم.
(2)
أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب التطوع وركعات السنة، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (2/ 493) برقم:(1332)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب فضائل القرآن، ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يجهر بعضكم على بعض في القرآن)(7/ 289) برقم: (8038)، وأحمد (18/ 392) برقم:(11896)، صححه ابن خزيمة (1/ 575) برقم:(1162)، وقال ابن عبد البر في (التمهيد) (23/ 319):«حديث البياضي وحديث أبي سعيد ثابتان صحيحان، والله أعلم» .
(3)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (6/ 398).
(4)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 467)، مواهب الجليل (1/ 525)
(5)
يُنظر: حاشية الجمل (1/ 360).
الحنابلة
(1)
.
القول الثاني: الكراهة.
وهو المذهب عند الشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُون بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السترَ، وَقَالَ: ألا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ -أَوْ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ-))
(4)
.
الدليل الثاني: حديث البياضي رضي الله عنه
(5)
: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ عز وجل، فَلْيَنْظُرْ مَاذَا يُنَاجِيهِ بِهِ
(6)
، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ
(7)
(8)
.
وجه الاستدلال: أن في الحديثين نهياً صريحاً عن رفع مصلٍ وغيره الصوت
(1)
يُنظر: مطالب أولي النهى (1/ 597).
(2)
يُنظر: إعانة الطالبين (1/ 180)، حاشية الجمل (1/ 360).
(3)
يُنظر: الفروع (2/ 386)، كشاف القناع (1/ 433)، مطالب أولي النهى (1/ 597).
(4)
سبق تخريجه: ص (473).
(5)
هو: فروَة بن عمرو بن ودَقة بن عبيد بن عامر بن بياضة البياضي الأنصاري، شهد العقبة، وشهد بدراً، وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري. يُنظر: الاستيعاب (3/ 1259)، الإصابة (5/ 278).
(6)
مَاذَا يُنَاجِيهِ بِهِ: أي: من القول على سبيل التعظيم والتبجيل، ومواطأة القلب اللسان، وذلك إنما يحصل إذا لم ينازعه صاحبه بالقراءة. يُنظر: المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 139)، شرح المشكاة (3/ 1009).
(7)
لا يجهر بعضكم على بعض: يعني: ليقرأ كل واحد ما يقرأ من غير رفع صوت، وعُدِّي بـ (على)؛ لإرادة معنى الغلبة، أي: لا يغلب ولا يشوش بعضكم بعضاً جاهراً بالقراءة. يُنظر: المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 140)، شرح المشكاة (3/ 1009).
(8)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الاعتكاف، باب هل يعظ المعتكف؟ وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك (3/ 387) برقم:(3350)، وأحمد (31/ 363) برقم:(19022)، قال ابن عبد البر في (التمهيد) (23/ 319):«حديث البياضي وحديث أبي سعيد ثابتان صحيحان، والله أعلم» ، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (2/ 265):«رجاله رجال الصحيح» ، وله شاهد من حديث ابن عمر في صحيح ابن خزيمة (2/ 1067) برقم:(2237).
بالقراءة، لئلا يؤذِ أحداً أو يغلط ويخلط على مصل إلى جنبه، والنهي للتحريم على الأصل، ولعدم الصارف
(1)
.
الدليل الثالث: أن رفع الصوت بالقراءة فيه خلط على المصلي، وضرر وأذية له ولغيره
(2)
، وأذية المسلمين حرام.
أدلة القول الثاني:
استدلوا بحديثي أبي سعيد الخدري والبياضي رضي الله عنهما، وحملوا النهي على الكراهة؛ لخشية التشويش على نائم أو مُصلٍّ
(3)
.
الترجيح:
بعد عرض الأقوال وأدلتها يتبين أن الراجح -والله أعلم- القول الأول القائل بتحريم رفع الصوت في القراءة إن كان مؤذياً لمن حوله.
أسباب الترجيح:
1 -
أن خطاب النهي صريح في المنع، مع عدم الصارف القوي.
2 -
أن فيه حمايةً للمسلم من الأذية والضرر، والشريعة جاءت بتحريم أذية المسلم.
3 -
أن فيه إعمالاً لقاعدة: الضرر يزال
(4)
.
جاء في كتاب (المدخل): «أن المسجد إنما بُنيت للصلاة، وقراءة القرآن تبع للصلاة ما لم تضر التلاوة بالصلاة التي بنيت المساجد لها، فإذا أضرت بها منعت»
(5)
.
وقال ابن تيمية رحمه الله: «ليس لأحد أن يجهر بالقراءة لا في الصلاة ولا في غير الصلاة إذا كان غيره يصلي في المسجد، وهو يؤذيهم بجهره»
(6)
.
(1)
يُنظر: التمهيد (23/ 319)، مرقاة المفاتيح (2/ 702).
(2)
يُنظر: البيان والتحصيل (1/ 467)، (تحفة المحتاج)(2/ 57)، مطالب أولي النهى (1/ 597).
(3)
حاشية الجمل (1/ 360).
(4)
وهي إحدى القواعد الكلية الكبرى. يُنظر: الأشباه والنظائر، للسبكي (1/ 41)، الأشباه والنظائر، لابن الملقن (1/ 30)، الأشباه والنظائر، للسيوطي (ص: 7)، موسوعة القواعد الفقهية (1/ 1/ 32).
(5)
لابن الحاج (1/ 105).
(6)
مجموع الفتاوى (23/ 64).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين فيما سبق أن أصحاب القول الثاني حملوا النهي على الكراهة لا التحريم، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي: قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد.
ذلك أن النهي عن رفع الصوت بالقراءة هو من باب الآداب، فهو أدب من آداب المسجد، ومن آداب القراءة.
ذكر ذلك ابن مفلح رحمه الله في (الفروع) حيث قال: «
…
ذكرته في آداب القراءة من الآداب الشرعية»
(1)
.
وقال رحمه الله: «إن من جملة الأدب ألا يجهر بين مصلين أو نيام أو تالين جهراً يؤذيهم»
(2)
.
والعلة لهذا الأدب: خوف التشويش على نائم أو مصلٍّ
(3)
.
الحكم على القرينة:
قرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد هنا قرينة ضعيفة؛ لقوة جانب القول بالتحريم إن كانت القراءة تؤذي من حوله؛ للضرر، ولأن الشريعة جاءت بمنع وتحريم أذية المسلمين، والله أعلم.
(1)
الفروع (2/ 386).
(2)
الآداب الشرعية (2/ 327).
(3)
يُنظر: مغني المحتاج (1/ 363)، حاشية الجمل (1/ 360).
المبحث الثالث:
النهي عن ترك قيام الليل
المطلب الأول: حكم ترك قيام الليل:
دليل النهي:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ))
(1)
.
تحرير محل النزاع:
أولاً: أجمع العلماء
(2)
على مشروعية قيام الليل، وأنه مستحب مندوب إليه، وهي أفضل صلاة بعد الفريضة.
قال ابن عبد البر رحمه الله: «نُسخ الأمر بقيام الليل عن سائر أمته، مجتمع عليه بقول الله عز وجل:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}
(3)
، وهذا ندب؛ لأن الفرائض محدودات، وقد شذ بعض التابعين، فأوجب قيام الليل ولو قدْر حلب شاة، والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه مرغوب فيه»
(4)
.
وقال النووي رحمه الله: «قيام الليل سنة مؤكدة
(5)
، وقد تطابقت عليه دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والأحاديث الواردة فيه في الصحيحين وغيرهما أشهر من أن تُذكر وأكثر من أن تُحصر، قال أصحابنا وغيرهم: والتطوع المطلق بلا سبب في الليل أفضل منه في النهار»
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب ما يُكره من ترك قيام الليل لمَن كان يقومه (2/ 54) برقم:(1152)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوَّت به حقاً أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم (2/ 814) برقم:(1159).
(2)
نقل الإجماع: ابن عبد البر في (الاستذكار)(2/ 82)، والنووي في (المجموع)(4/ 44).
(3)
سورة المزمل: جزء من الآية (20).
(4)
الاستذكار (2/ 82).
(5)
الندب، والاستحباب، والتطوع، والسنة: أسماء مترادفة عند الفقهاء. يُنظر: البحر المحيط (1/ 377)، ومن العلماء مَنْ يجعل قيام الليل والوتر شيئاً واحداً، ويُعبَّر عنه بقيام الليل، والذي يظهر أن هذا مراد النووي رحمه الله هنا.
(6)
المجموع (4/ 44).
ثانياً: اتفق الفقهاء
(1)
على كراهة ترك قيام الليل لمن اعتاده بلا عذر.
قال ابن المنذر رحمه الله: «قيام الليل مستحب، ومكروه ترْكُه»
(2)
.
الأدلة:
الدليل الأول: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}
(3)
.
وجه الاستدلال: امتدح الله تعالى عباده الصالحين، وذكر من أوصافهم: أنهم يبيتون ليلهم يراوحون بين سجود في صلاتهم وقيام، ثم ذكر أن جزاءهم التنعم في غرف الجنة
(4)
، وفي ذلك الترغيب في المداومة على قيام الليل وعدم تركه.
الدليل الثاني: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ))
(5)
.
وجه الاستدلال: أن الحديث فيه النهي عن مشابهة تارك قيام الليل بعد أن كان يقومه؛ ذماً لحاله، وذلك إشارة إلى كراهة ترك القيام وقطع العبادة وإن لم تكن واجبة، ولو كان القيام واجباً وتركه محرماً لبالغ في النهي، وشدَّد في الذم على تاركه
(6)
.
الدليل الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ))
(7)
.
وجه الاستدلال: في الحديث أن مَنْ يقوم الليل ممدوح؛ لما هو عليه من الخير، وفي ذلك ترغيب إلى المحافظة على قيام الليل؛ لفضيلته، وكراهة تركه، وأنه مما يُتقى به
(1)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (2/ 25)، شرح ابن ناجي (1/ 164)، مواهب الجليل (1/ 417)، الإقناع، للشربيني (1/ 117)، المجموع (4/ 46)، المغني (2/ 104)، الشرح الكبير (4/ 197).
(2)
الإقناع (1/ 138).
(3)
سورة الفرقان: آية (64).
(4)
يُنظر: تفسير الطبري (19/ 296).
(5)
سبق تخريجه: ص (477).
(6)
يُنظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (9/ 125)، عمدة القاري (7/ 210)، فتح الباري، لابن حجر (3/ 38).
(7)
أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل (2/ 49) برقم:(1122)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (4/ 1927) برقم:(2479)، وفي الحديث قصة رؤيا لعبد الله بن عمر، فكان ما قاله صلى الله عليه وسلم تأويلاً لتلك الرؤيا.
النار
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله: «ثم إنه حصل لعبد الله رضي الله عنه من تلك الرؤية يقين مشاهدة النار والاحتراز منها، والتنبيه على أن قيام الليل مما يُتقى به النار، ولذلك لم يترك رضي الله عنه قيام الليل بعد ذلك»
(2)
.
الدليل الرابع: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ))
(3)
.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم حضَّ أمته على القصد والمداومة على العمل وإن قل؛ خشية الانقطاع عن العمل الكثير، فكأنه رجوع في فعل الطاعات، وقد ذم الله ذلك
(4)
، وقيام الليل من أفضل الطاعات، فينبغي المداومة عليه.
قال النووي رحمه الله: «يُستحب لمن أراد قيام الليل ألا يعتاد منه إلا قدراً يغلب على ظنه بقرائن حاله أنه يمكنه الدوام عليه مدة حياته، ويُكره بعد ذلك تركه والنقص منه لغير ضرورة، ودلائل هذا كله في الصحيحين مشهورة»
(5)
.
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
تبين فيما سبق اتفاق الفقهاء على أن النهي عن ترك قيام الليل محمول على الكراهة لا التحريم، والذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي: قرينة المقصد من النهي:
ذكر بعض أهل العلم أن مقصود النهي: الحث والترغيب في ملازمة قيام الليل مع التوسط والقصد، والتحذير من تركه؛ فإن مَنْ دخل في طاعة ثم قطعها بلا عذر، فإنه مذموم؛ لما فيه من الإشعار بالتهاون بالطاعات.
قال ابن حجر رحمه الله: «والحاصل من الحديث الترغيب في ملازمة العبادة والطريق
(1)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 547)، المفهم (6/ 410).
(2)
المفهم (6/ 410).
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (8/ 98) برقم:(6464)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (1/ 541) برقم:(783) واللفظ له.
(4)
يُنظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 179)، الكواكب الدراري (22/ 224).
(5)
المجموع (4/ 46).
الموصل إلى ذلك الاقتصاد فيها؛ لأن التشديد فيها قد يؤدي إلى تركها، وهو مذموم»
(1)
.
وقال زكريا الأنصاري رحمه الله: «الحديث فيه الحث على قيام الليل، والذم على مَنْ اعتاد قيامه، ثم تركه»
(2)
.
الحكم على القرينة:
يظهر أن قرينة المقصد قوية ومعتبرة؛ إذ يُفهم الحث والترغيب في قيام الليل من سياق النهي ودلالته، فهو حث على ملازمة الطاعة وملازمة الأفضل، وليس ذلك على سبيل الحتم والالزام، ولا المنع من تركه على سبيل الحظر والتحريم، والله أعلم.
(1)
فتح الباري (3/ 38).
(2)
فتح العلام (ص: 237).
المبحث الرابع:
النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي
المطلب الأول: حكم تخصيص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي:
دليل النهي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ))
(1)
.
صورة المسألة:
إذا لم تكن للمرء عادة في صلاة قيام الليل، فهل يجوز له أن يخص ليلة الجمعة بالقيام من بين الليالي؟
حكم المسألة:
اتفق الفقهاء
(2)
على كراهة تخصيص ليلة الجمعة بقيام؛ للنهي الصريح عنه في حديث أبي هريرة، وأما مَنْ جرى على عادته من القيام في سائر الليالي وقام ليلة الجمعة، فلم يتناوله النهي.
قال النووي رحمه الله: «في هذا الحديث النهي الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي، ويومها بصوم، كما تقدم، وهذا متفق على كراهيته»
(3)
.
وقال ابن مفلح رحمه الله في (الفروع): «النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة، وهو متفق على كراهته»
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً (2/ 801) برقم:(1144).
(2)
يُنظر: حاشية ابن عابدين (2/ 165)، إكمال المعلم (4/ 97)، المدخل، لابن الحاج (4/ 275)، أسنى المطالب (1/ 208)، مغني المحتاج (1/ 463)، الفروع (5/ 104).
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم (8/ 20).
(4)
(5/ 104).
المطلب الثاني: القرينة الصارفة عن التحريم:
الذي يظهر من كلام أهل العلم أن الصارف للنهي عن التحريم القرائن التالية:
القرينة الأولى: أن النهي عنه في حال دون حال.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «أصل النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما نهى عنه فهو محرم، حتى تأتي عنه دلالة تدل على أنه إنما نهى عنه لمعنى غير التحريم: إما أراد به نهياً عن بعض الأمور دون بعض
…
»
(1)
.
ذلك أن النهي عن قيام ليلة الجمعة مقيد بتخصيصه وتحريه، دون غيره من الليالي، فأما إن كانت عادة المرء القيام سائر الليالي: فلا يُمنع من قيام ليلة الجمعة، وذلك اتباعاً لعادته، ويشير إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:(من بين الليالي) فنهى عنه حال تخصيصه دون غيره من الليالي؛ فجوازه في حال دون حال: أي جوازه في حال عدم التخصيص ومنعه في حال التخصيص: قرينة على حمل النهي على الكراهة.
ويؤيد ذلك: اعتبار هذه القرينة في النهي عن صيام يوم الجمعة كما في قوله: (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم): أي: إذا وافق يوم الجمعة صياماً اعتاده فلا يُمنع، فتجويز الصيام في حال دون حال قرينة لصرف النهي عن التحريم، والله أعلم.
جاء في فتاوى الشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله الإشارة إلى هذا الصارف في مسألة تخصيص يوم الجمعة بصيام: فحُمل به النهي على الكراهة لا التحريم، حيث سُئل:«إذا كان الأصل في النهي التحريم، فلِم صار في الجمعة للكراهة؟ فأجاب: لعله لكونه رُخص في الشرع في صيامه وصيام يومٍ معه، فلو كان حراماً لما ساغ صومه بالكلية»
(2)
.
القرينة الثانية: القياس:
قال علي القاري رحمه الله: «قوله: (إلا أن يكون في صوم) تقديره: إلا أن يكون يوم الجمعة واقعاً في يوم صوم (يصومه أحدكم)، أي: من نَذْرٍ أو وِرد.
الظاهر أن الاستثناء من ليلة الجمعة كذلك، ولعله ترك ذِكره للمقايسة، والله
(1)
الأم (7/ 305).
(2)
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ/ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (4/ 206).
أعلم»
(1)
.
وبالمقايسة يكون المعنى: إلا أن يكون قيام ليلة الجمعة واقعاً مع قيامه المعتاد من سائر الليالي، فلا يُمنع، وعلة المنع فيهما: تخصيصه وإفراده عن غيره.
القرينة الثالثة: ورود النهي في باب الأدب والإرشاد:
أن في النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام إرشاداً إلى الأصلح للعبادة في يوم الجمعة.
ومما ذكره العلماء علة للنهي:
1 -
أن ترك تخصيص ليلة الجمعة بقيام، أعون للمرء على القيام بالعبادات المشروعة في يوم الجمعة بنشاط وانشراح.
قال زكريا الأنصاري رحمه الله: «حكمة النهي عنهما أنَّ يوم الجمعة يوم دعاء وذِكر وعبادة: كغسل، وتبكير إلى الصلاة، وانتظار لها، واستماع خطبة، وإكثار ذِكر بعدها، فسُن الفطر فيه، وترك تخصيص ليلة الجمعة بقيام؛ ليكون أعون له على هذه الوظائف بأدائها بنشاط وانشراح لها والتذاذ بها»
(2)
.
2 -
أن النهي فيه سدٌ لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله، من تخصيص زمان بعبادة لم يخصه بها الشرع.
(3)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: «
…
أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم، وليلتها بالقيام؛ سداً لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله -من
(1)
مرقاة المفاتيح (4/ 1419).
(2)
فتح العلام (ص: 364).
(3)
شرح المشكاة (5/ 1611).
تخصيص زمان أو مكان بما لم يخصه به- ففي ذلك وقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب»
(1)
.
الحكم على القرينة:
الذي يظهر أن القرائن قوية ومعتبرة: فالقرينة الأولى ترجع في الأصل إلى قرينة نصية دلت على تخصيص حال دون حال، وقرينة القياس قوية؛ لورود المقيس عليه في النص، وبيان أن علة المنع تخصيصه وافراده، وقرينة ورود النهي في باب الأدب والإرشاد معتبرة؛ لقوة المعاني ومناسبتها، والله تعالى أعلم.
(1)
إعلام الموقعين (3/ 116).
الخاتمة
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فلا يسعني في ختام هذا البحث إلا أن أتوجه إلى المولى عز وجل بالحمد والشكر على ما أنعم وتَفضَّل: بأن وفَّقني وأعانني على إتمام هذا البحث، أحمده وأشكره حمداً وشكراً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأسأله عز وجل المزيد من فضله والتوفيق لما يحب ويرضى.
ويحسن هنا أن أشير باختصار إلى جملة من النتائج التي توصلتُ إليها من خلال البحث:
1 -
تأكيد ما قرره العلماء من أن معرفة القرائن المُحتفَّة بالنصوص لها أهمية بالغة في فهم النصوص الشرعية فهماً صحيحاً موافقاً لمراد الشارع؛ ولذا: فإن استنباط القرائن الصارفة للنهي عن التحريم تتطلب مزيداً من العناية بالجمع والبحث والتدقيق في النصوص الواردة في موضوع النهي.
2 -
أن الحديث عن القرائن الصارفة للنهي عن التحريم، فرعٌ عن ثبوت النهي، فإذا لم يثبت النهي لم يثبت التحريم أصلاً.
3 -
أن القرائن الصارفة تتفاوت من حيث التأثير في حكم المسألة -قوةً وضعفاً- لعدة اعتبارات، من ذلك:
أ - اعتبار أصل القرينة: من حيث كونها قرينة إجماع أو قرينة نصية أو غير نصية.
ب - اعتبار مصاحبتها لدليل النهي في نفس النص، أو في نص آخر.
ت - اعتبار درجة صحة القرينة وثبوتها.
ث - اعتبار دلالة القرينة على موضوع النهي الخاص، أو كون دلالته دلالة عموم.
ج - اعتبار الإنكار وعدمه، أو وجود المخالف وعدمه، إن كانت القرينة: فهم الصحابة وتطبيقهم العملي للمسألة.
ح - اعتبار قوة دليل النهي وصيغته، أو قوة القرائن المؤكدة المُحتفَّة به.
خ - اعتبار الكثرة والقلة: من حيث: الأدلة والروايات، أو ثبوت كثرة الفعل.
د - اعتبار علاقة القرينة أو التعليل بموضوع النهي قُرباً وبُعداً.
ذ - عدم معارضة القرينة غير النصية لنصٍ صريح أو قرينة أقوى.
4 -
تناولت الرسالة ثمانين مسألة من مسائل المنهيات الشرعية.
وبعد دراسة المسائل دراسة فقهية مقارنة ودراسة القرائن المصاحبة للمسألة، خلُصت نتيجة الدراسة والترجيح، بتقسيم المسائل إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: المسائل التي ترجح بقاؤها على أصل النهي -التحريم- إذ لم تؤثر فيها القرينة الصارفة؛ لاعتبار أو أكثر من الاعتبارات السابقة، وعدد هذه المسائل: سبع عشرة مسألة، وهي:
1.
النهي عن البول في الماء الراكد.
2.
النهي عن استعمال آنية الذهب والفضة.
3.
النهي عن البول في طريق الناس وظِلِّهم.
4.
النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول في الفضاء.
5.
النهي عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار.
6.
النهي عن الاستجمار برَوْث أو عَظْم.
7.
النهي عن دخول المرأة إلى الحمامات بغير عذر.
8.
النهي عن حلق المرأةِ رأسَها.
9.
النهي عن وصْل المرأةِ رأسَها بغير الشعر مما يشبه الشعر.
10.
النهي عن السفر بالمصحف إلى دار الحرب.
11.
النهي عن أكْل الجَلَّالة وشرب ألبانها قبل حبسها.
12.
النهي عن تخليل الخمر.
13.
النهي عن البُصاق جهة القبلة أو اليمين للمصلي في المسجد.
14.
النهي عن صلاة غير المكتوبة، بعد إقامة الصلاة.
15.
النهي عن تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس.
16.
النهي عن إسبال الرجل شيئاً من ثيابه للخيلاء ولغير الخيلاء.
17.
النهي عن رفع الصوت بالقراءة في صلاة التطوع إن كان مؤذياً لمَن حوله.
المجموعة الثانية: المسائل التي أثَّرت فيها القرائن الصارفة، فحُمل النهي فيها على غير التحريم، وعددها: اثنتان وخمسون مسألة، وهي:
1.
النهي عن الغسل في الماء الراكد.
2.
النهي عن غمس يد المستيقظ من النوم في الإناء قبل غسلها.
3.
النهي عن استعمال آنية أهل الكتاب.
4.
النهي عن البول في الجحور.
5.
النهي عن البول في المغتسل.
6.
النهي عن الاستنجاء باليمين.
7.
النهي عن القَزَع.
8.
النهي عن نَتْف الشَّيْب.
9.
النهي عن الإسراف في الماء.
10.
النهي عن الوضوء من أكل لحم الغنم.
11.
النهي عن الالتفات إلى الشك في الوضوء إن تيقن الطهارة وشكَّ في الحدث.
12.
النهي عن أخذ الأجرة على الأذان.
13.
النهي عن إدخال الصبيان والمجانين للمساجد.
14.
النهي عن إيطان الرجلِ المكانَ في المسجد.
15.
النهي عن تباهي الناس في المساجد.
16.
النهي عن الاستلقاء في المسجد ووضع إحدى الرجلين على الأخرى.
17.
النهي عن الجلوس لداخلِ المسجد قبل أن يصلي تحية المسجد.
18.
النهي عن استدامة الإمام الصلاة في مكان المكتوبة.
19.
النهي عن تسمية العشاء العَتَمة.
20.
النهي عن تسمية المغرب العشاء.
21.
النهي عن صلاة المصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء.
22.
النهي عن لبس المزَعْفَر والمُعَصْفَر.
23.
النهي عن السَّدْل في الصلاة.
24.
النهي عن اشتمال الصَّمَّاء.
25.
النهي عن تغطية الوجه أو التلثُّم.
26.
النهي عن الصلاة في السراويل وليس عليه رداء.
27.
النهي عن شد الوسط بما يشبه شد الزُّنَّار.
28.
النهي عن تشبيك اليدين عند الذهاب إلى المسجد.
29.
النهي عن الاستعجال أثناء المشي إلى الصلاة.
30.
النهي عن المشي في نعل واحدة.
31.
النهي عن الانتعال قائماً.
32.
النهي عن وضْع النعل عن يمينه أو عن يساره في المسجد.
33.
النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث.
34.
النهي عن الصلاة لمن كان بحضرة طعام أو حاقناً أو يدافع الأخبثين.
35.
النهي عن القيام للصلاة قبل رؤية الإمام.
36.
النهي عن الالتفات في الصلاة.
37.
النهي عن رفْع البصر إلى السماء أثناء الصلاة.
38.
النهي عن تَغْميض العين في الصلاة.
39.
النهي عن التثاؤب.
40.
النهي عن فَرْقعة الأصابع أثناء الصلاة.
41.
النهي عن تشبيك الأصابع أثناء الصلاة.
42.
النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.
43.
النهي عن بُروك المصلي كما يبرك البعير.
44.
النهي عن افْتِراش السِّباع.
45.
النهي عن الإقْعَاء في الصلاة.
46.
النهي عن كفِّ المصلي الشعرَ والثيابَ أثناء الصلاة.
47.
النهي عن اعتماد المصلي على يديه إذا نهض في الصلاة.
48.
النهي عن جلوس المصلي في الصلاة وهو معتمد على يديه.
49.
النهي عن: مسح الحصى من موضع السجود، والعبث أثناء الصلاة.
50.
النهي عن وِترين في ليلة.
51.
النهي عن ترك قيام الليل.
52.
النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي.
المجموعة الثالثة: المسائل التي ترجَّح فيها القول بالجواز والإباحة، أو التوقف؛ لعدم ثبوت دليل النهي، أو اضطرابه، أو النسخ، أو لأن النهي لم يتناول هذه الصورة، أو للتوقف عن الترجيح، وعددها: إحدى عشرة مسألة، وهي:
1.
النهي عن وضوء الرجل بفضل طهور المرأة.
2.
النهي عن استعمال الماء المُسخَّن بالشمس.
3.
النهي عن البول قائماً.
4.
النهي عن استقبال بيت المقدس بغائط أو بول.
5.
النهي عن حلق الرأس في غير الحج والعمرة.
6.
النهي عن تغيير الشَّيْب بالسواد.
7.
النهي عن مسِّ الصغيرِ المصحفَ من غير طهارة.
8.
النهي عن قراءة الحائض والنفساء شيئاً من القرآن.
9.
النهي عن الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها.
10.
النهي عن تَتبُّع المساجد لمن فاتته الجماعة.
11.
النهي عن رد السلام في الصلاة بالإشارة.
أما التوصية: فهي:
القيام بمزيد من الدراسات -الأصولية والفقهية- حول بعض القرائن التي لم تَحْظَ بدراسة وافية، مثل: وورود النهي عن الشيء في حال دون حال، واعتبار ضعف الحديث قرينة صارفة، فهذه القرائن بحاجة إلى جمع واستقراء فروعها الفقهية ودراستها -تأصيلاً وتقعيداً- للضوابط الحاكمة لها في: حمل النهي على غير التحريم، والأمر على غير الوجوب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
فهرس
المصادر والمراجع
• الإبهاج في شرح المنهاج للقاضي البيضاوي، لتقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي بن علي السبكي، وولده تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب، دار الكتب العلمية - بيروت، 1416 هـ - 1995 م.
• إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الشافعي، تحقيق: دار المشكاة، بإشراف: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، دار الوطن - الرياض، الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م.
• إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: مركز خدمة السنة والسيرة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1994 م.
• الإجماع، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: أبو عبد الأعلى خالد بن محمد بن عثمان، دار الآثار - القاهرة، الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م.
• إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد، مطبعة السنة المحمدية.
• أحكام القرآن الكريم، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الأزدي المصري المعروف بالطحاوي، تحقيق: د. سعد الدين أونال، مركز البحوث الإسلامية - استانبول، الطبعة الأولى (المجلد الأول: 1416 هـ - 1995 م)، (المجلد الثاني: 1418 هـ - 1998 م).
• أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي، تحقيق: محمد صادق القمحاوي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، 1405 هـ.
• الأحكام الوسطى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لعبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين بن سعيد إبراهيم الأندلسي الإشبيلي، المعروف بابن الخراط، تحقيق: حمدي السلفي، وصبحي السامرائي، مكتبة الرشد - الرياض، 1416 هـ - 1995 م.
• أحكام أهل الذمة، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد، شمس الدين
ابن قيم الجوزية، تحقيق: يوسف بن أحمد البكري، وشاكر بن توفيق العاروري، رمادي للنشر - الدمام، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م.
• الإحكام في أصول الأحكام، لأبي الحسن علي بن أبي علي الثعلبي الآمدي، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت.
• اختلاف الأئمة العلماء، لأبي المظفر يحيى بن هُبَيْرَة بن محمد بن هبيرة الذهلي الشيبانيّ، تحقيق: السيد يوسف أحمد، دار الكتب العلمية - لبنان، الطبعة الأولى 1423 هـ - 2002 م.
• الاختيار لتعليل المختار، لمجد الدين أبي الفضل عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي البلدحي الحنفي، مطبعة الحلبي - القاهرة، 1356 هـ - 1937 م.
• الآداب الشرعية والمنح المرعية، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي الرامينى ثم الصالحي الحنبلي، عالم الكتب - بيروت.
• إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، تحقيق: الشيخ أحمد عزو عناية، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1419 هـ - 1999 م.
• إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثانية 1405 هـ - 1985 م.
• الأساليب الشرعية الدالة على الأحكام التكليفية، لـ د. علي بن عبد العزيز بن إبراهيم المطرودي، دار ابن الجوزي - الرياض، الطبعة الأولى 1437 هـ.
• الاستذكار، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: سالم محمد عطا، ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1421 هـ - 2000 م.
• الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م.
• أسد الغابة في معرفة الصحابة، لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير، تحقيق: علي
محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1994 م.
• أسنى المطالب في شرح روض الطالب، لزين الدين أبي يحيى زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري، السنيكي، دار الكتاب الإسلامي.
• الأشباه والنظائر في قواعد الفقه، لسراج الدين أبي حفص عمر بن علي الأنصاري، المعروف بـ ابن الملقن، تحقيق: مصطفى محمود الأزهري، دار ابن القيم - الرياض، دار ابن عفان - القاهرة، الطبعة الأولى 1431 هـ - 2010 م.
• الأشباه والنظائر، لتاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1991 م.
• الأشباه والنظائر، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1990 م.
• الإشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي، تحقيق: الحبيب بن طاهر، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م.
• الإصابة في تمييز الصحابة، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلى محمد معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ.
• أصول السرخسي، لمحمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة - بيروت.
• أصول الفقه، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي الحنبلي، تحقيق: د. فهد السدحان، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م.
• أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي، دار الفكر - بيروت، طبعة عام 1415 هـ - 1995 م.
• إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين، لأبي بكر (المشهور بالبكري) عثمان بن محمد شطا الدمياطي الشافعي، دار الفكر، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م.
• أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري)، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، تحقيق: د. محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود، جامعة أم القرى - مركز البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، الطبعة الأولى 1409 هـ - 1988 م.
• إعلام الساجد بأحكام المساجد، لبدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشافعي، تحقيق: أبو الوفا مصطفى المراغي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الطبعة الرابعة 1416 هـ - 1996 م.
• إعلام الموقعين عن رب العالمين، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد، شمس الدين ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1991 م.
• الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لسراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، المعروف بـ ابن الملقن، تحقيق: عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح، دار العاصمة - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م.
• الأعلام، لخير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي الدمشقي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر 2002 م.
• اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، تحقيق: ناصر عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب - بيروت، الطبعة السابعة 1419 هـ - 1999 م.
• الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، لشمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات - دار الفكر - بيروت.
• الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، لموسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى بن سالم الحجاوي المقدسي، تحقيق: عبد اللطيف محمد موسى السبكي، دار المعرفة - بيروت.
• الإقناع في مسائل الإجماع، لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الكتامي
الحميري الفاسي، المعروف بابن القطان، تحقيق: حسن فوزي الصعيدي، دار الفاروق الحديثة، الطبعة الأولى 1424 هـ - 2004 م.
• الإقناع، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: د. عبد الله الجبرين، الطبعة الأولى 1408 هـ.
• إكمال المعلم بفوائد مسلم، لأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، تحقيق: د. يحي إسماعيل، دار الوفاء - مصر، الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998 م.
• إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لأبي عبد الله علاء الدين مُغَلْطاي بن قَلِيج بن عبد الله البكجري المصري الحنفي، تحقيق: أبو عبد الرحمن عادل بن محمد، وأبو محمد أسامة بن إبراهيم، دار الفاروق، الطبعة الأولى 1422 هـ - 2001 م.
• الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال سوى من ذكر في تهذيب الكمال، لشمس الدين أبي المحاسن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة الحسيني الدمشقي الشافعي، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، منشورات جامعة الدراسات الإسلامية - كراتشي - باكستان.
• الأم، للإمام الشافعي، أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان المطلبي القرشي المكي، دار المعرفة - بيروت.
• الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان بن أحمد المَرْداوي، تحقيق: د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح الحلو، دار هجر - القاهرة، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م.
• الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: أبو حماد صغير أحمد بن محمد حنيف، دار طيبة - الرياض، الطبعة الأولى 1405 هـ -1985 م.
• الإيجاز في شرح سنن أبي داود السجستاني، لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، الدار الأثرية - عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 م.
• البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لزين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن
نجيم المصري، وفي آخره: تكملة البحر الرائق لمحمد بن حسين بن علي الطوري الحنفي القادري، وبالحاشية: منحة الخالق لابن عابدين، دار الكتاب الإسلامي.
• البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، دار الكتبي، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1994 م.
• بحر المذهب (في فروع المذهب الشافعي)، للروياني، أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل، تحقيق: طارق فتحي السيد، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2009 م.
• بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد، دار الحديث - القاهرة، 1425 هـ - 2004 م.
• بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1406 هـ - 1986 م.
• البدر التمام شرح بلوغ المرام، للحسين اللاعي المغربي، دار ابن خزيمة.
• البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، دار المعرفة - بيروت.
• البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير، لسراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، المعروف بابن الملقن، تحقيق: مصطفى أبو الغيط، وعبد الله بن سليمان، وياسر بن كمال، دار الهجرة - الرياض، الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م.
• بذل المجهود في حل سنن أبي داود، للشيخ خليل أحمد السهارنفوري، اعتني به وعلق عليه: د. تقي الدين الندوي، مركز الشيخ أبي الحسن الندوي - الهند، الطبعة الأولى 1427 هـ - 2006 م.
• بلوغ المرام من أدلة الأحكام، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: سمير بن أمين الزهري، دار الفلق - الرياض، الطبعة السابعة 1424 هـ.
• البناية شرح الهداية، لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابي العيني الحنفي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1420 هـ -
2000 م.
• بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، لشمس الدين أبي الثناء محمود بن عبد الرحمن (أبي القاسم) ابن أحمد بن محمد الأصفهاني، تحقيق: محمد مظهر بقا، دار المدني - السعودية، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.
• البيان في مذهب الإمام الشافعي، لأبي الحسين يحيى بن أبي الخير العمراني اليمني الشافعي، تحقيق: قاسم محمد النوري، دار المنهاج - جدة، الطبعة الأولى 1421 هـ - 2000 م.
• البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: د. محمد حجي وآخرون، دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثانية 1408 هـ - 1988 م.
• تاج العروس من جواهر القاموس، لأبي الفيض محمد بن محمد بن عبد الرزّاق الحسيني، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية.
• التاج والإكليل لمختصر خليل، لمحمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي المالكي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1994 م.
• التبصرة في أصول الفقه، لأبي اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، دار الفكر - دمشق، الطبعة الأولى 1403 هـ.
• التبصرة، لأبي الحسن علي بن محمد الربعي، المعروف باللخمي، تحقيق: د. أحمد عبد الكريم نجيب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - قطر، الطبعة الأولى 1432 هـ - 2011 م.
• تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ، لفخر الدين عثمان بن علي بن محجن البارعي الزيلعي الحنفي، والحاشية لشهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن يونس بن إسماعيل بن يونس الشِّلْبِيُّ، المطبعة الكبرى الأميرية - بولاق، القاهرة، الطبعة الأولى 1313 هـ.
• تجريد الأسماء والكنى المذكورة في كتاب المتفق والمفترق للخطيب البغدادي، لعُبَيْد الله بن علي بن محمد بن محمد بن الحسين ابن الفرّاء، أبي القاسم بن أبي الفرج بن أَبِي خازم ابْن القاضي أَبِي يَعْلَى البغدادي الحنبلي، تحقيق: د. شادي بن محمد بن
سالم آل نعمان، مركز النعمان - اليمن، الطبعة الأولى 1432 هـ - 2011 م.
• التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي، تحقيق: د. عبد الرحمن الجبرين، ود. عوض القرني، ود. أحمد السراح، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى 1421 هـ - 2000 م.
• تحرير الفتاوى على «التنبيه» و «المنهاج» و «الحاوي» المسمى (النكت على المختصرات الثلاث)، لولي الدين أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين القاهري الشافعي، تحقيق: عبد الرحمن فهمي محمد الزواوي، دار المنهاج - جدة، الطبعة الأولى 1432 هـ - 2011 م.
• تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، لجمال الدين أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي، تحقيق: عبد الصمد شرف الدين، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1403 هـ - 1983 م.
• تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد، لأبي بكر بن زيد الجراعي الصالحي الحنبلي، اعتنى به: مجموعة من الباحثين، وزارة الأوقاف الكويتية - إدارة مساجد محافظة الفروانية - المراقبة الثقافية، الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م.
• تحفة المحتاج في شرح المنهاج، لأحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي، روجعت وصححت: على عدة نسخ بمعرفة لجنة من العلماء، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، 1357 هـ - 1983 م.
• التحقيق في أحاديث الخلاف، لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق: مسعد السعدني، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1415 هـ.
• التدريب في الفقه الشافعي المسمى بـ «تدريب المبتدي وتهذيب المنتهي» ومعه «تتمة التدريب» ، لعلم الدين صالح ابن الشيخ سراج الدين البلقيني، لسراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان البلقيني الشافعي، حققه وعلق عليه: أبو يعقوب نشأت بن كمال المصري، دار القبلتين - الرياض، الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م.
• ترتيب الفروق واختصارها، لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم البقوري، تحقيق: عمر ابن عباد، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - المملكة المغربية، 1414 هـ - 1994 م.
• الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، لأبي محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، زكي الدين المنذري، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1417 هـ.
• تسهيل السابلة لمريد معرفة الحنابلة ويليه «فائت التسهيل» ، لصالح بن عبد العزيز بن علي آل عثيمين الحنبلي، تحقق: بكر بن عبد الله أبو زيد، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى 1422 هـ - 2001 م.
• تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي، لبدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشافعي، تحقيق: د. سيد عبد العزيز، ود. عبد الله ربيع، مكتبة قرطبة للبحث العلمي وإحياء التراث، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1998 م.
• كتاب التعريفات، لعلي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، تحقيق: جماعة من العلماء، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م.
• التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة، لأبي يعلى الفراء محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي الحنبلي، تحقيق: محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح، دار النوادر - دمشق، الطبعة الأولى 1435 هـ - 2014 م.
• التعليقة للقاضي حسين (على مختصر المزني)، للقاضي أبي محمد الحسين بن محمد بن أحمد المَرْوَرُّوْذِيّ. تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة.
• تغليق التعليق على صحيح البخاري، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: سعيد عبد الرحمن موسى القزقي، المكتب الإسلامي، دار عمار - بيروت، عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1405 هـ.
• التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس، لعبيد الله بن الحسين بن الحسن، ابن الجَلَّاب المالكي، تحقيق: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 م.
• تفسير البغوي = معالم التنزيل في تفسير القرآن، لمحيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: محمد عبد الله النمر وآخرون، دار طيبة، الطبعة الرابعة 1417 هـ - 1997 م.
• تفسير الطبري = جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1420 هـ - 2000 م.
• تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة الثانية 1384 هـ - 1964 م.
• تقريب التهذيب، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عوامة، دار الرشيد - سوريا، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.
• التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1419 هـ - 1989 م.
• التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكَلْوَذَاني الحنبلي، تحقيق: مفيد محمد أبو عمشة، ومحمد بن علي بن إبراهيم، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي - جامعة أم القرى، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1985 م.
• التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد النمري القرطبي، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب، 1387 هـ.
• تهذيب التهذيب، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، مطبعة دائرة المعارف النظامية - الهند، الطبعة الأولى 1326 هـ.
• تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ليوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى 1400 هـ - 1980 م.
• التهذيب في اختصار المدونة، لأبي سعيد ابن البراذعي، خلف بن أبي القاسم محمد الأزدي القيرواني المالكي، تحقيق: د. محمد الأمين ولد محمد سالم بن الشيخ، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث - دبي، الطبعة الأولى 1423 هـ - 2002 م.
• التهذيب في فقه الإمام الشافعي، لمحيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود بن
محمد بن الفراء البغوي الشافعي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م.
• التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب، لضياء الدين خليل بن إسحاق بن موسى الجندي المالكي المصري، تحقيق: د. أحمد بن عبد الكريم نجيب، مركز نجيبويه، الطبعة الأولى 1429 هـ - 2008 م.
• التوضيح لشرح الجامع الصحيح، لسراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، المعروف بـ ابن الملقن، تحقيق: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، دار النوادر - دمشق، الطبعة الأولى 1429 هـ - 2008 م.
• التوقيف على مهمات التعاريف، لعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، عالم الكتب - القاهرة، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م.
• التيسير بشرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، مكتبة الإمام الشافعي - الرياض، الطبعة الثالثة 1408 هـ - 1988 م.
• تيسير علم أصول الفقه، لعبد الله بن يوسف بن عيسى بن يعقوب اليعقوب الجديع العنزي، مؤسسة الريان - بيروت، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م.
• الثقات، لأبي حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ التميمي الدارمي، دائرة المعارف العثمانية - الهند، الطبعة الأولى 1393 هـ - 1973 م.
• الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب، لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، دار غراس، الطبعة الأولى 1422 هـ.
• الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه، لخالد الرباط وسيد عزت عيد، دار الفلاح - الفيوم - مصر، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م.
• الجامع لمسائل المدونة، لأبي بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي، تحقيق: مجموعة باحثين في رسائل دكتوراه، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي - جامعة أم القرى، دار الفكر، الطبعة الأولى 1434 هـ - 2013 م.
• الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لأبي محمد محيي الدين عبد القادر بن محمد
بن نصر الله القرشي الحنفي، مير محمد كتب خانه - كراتشي.
• الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، لشمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي، تحقيق: إبراهيم عبد المجيد، دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأولى 1419 هـ - 1999 م.
• الجوهرة النيرة، لأبي بكر بن علي بن محمد الحدادي العبادي الزَّبِيدِيّ اليمني الحنفي، المطبعة الخيرية، الطبعة الأولى 1322 هـ.
• حاشية ابن عابدين = رد المحتار على الدر المختار، لمحمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي، دار الفكر - بيروت، الطبعة الثانية 1412 هـ - 1992 م.
• حاشية الجمل = فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب، لسليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري، المعروف بالجمل، دار الفكر.
• حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لمحمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، دار الفكر.
• حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي النجدي، الطبعة الأولى 1397 هـ.
• حاشية السندي على سنن ابن ماجه = كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه، لأبي الحسن محمد بن عبد الهادي التتوي، نور الدين السندي، دار الجيل - بيروت.
• حاشية السيوطي على سنن النسائي، لجلال الدين السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م.
• حاشية الصاوي على الشرح الصغير = بلغة السالك لأقرب المسالك، لأبي العباس أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي المالكي، دار المعارف.
• حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح، لأحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي الحنفي، تحقيق: محمد عبد العزيز الخالدي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م.
• حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، لأبي الحسن علي بن أحمد بن مكرم الصعيدي العدوي، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر - بيروت، 1414 هـ -
1994 م.
• الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني، لأبي الحسن علي بن محمد البغدادي، الشهير بالماوردي، تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1419 هـ - 1999 م.
• حَلبة المجلي وبغية المهتدي في شرح منية المصلي وغنية المبتدي في الفقه الحنفي، لشمس الدين محمد بن محمد، المعروف بـ ابن أمير حاج، تحقيق: أحمد بن محمد الغلاييني، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1436 هـ - 2015 م.
• حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، لعبد الرزاق بن حسن بن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي، تحقيق: الحفيد محمد بهجة البيطار، دار صادر - بيروت، الطبعة الثانية 1413 هـ - 1993 م.
• خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، لمحمد أمين بن فضل الله بن محب الدين بن محمد الحموي الدمشقي، دار صادر - بيروت.
• خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام، لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، تحقيق: حسين إسماعيل الجمل، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الاولى 1418 هـ - 1997 م.
• الدراية في تخريج أحاديث الهداية، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، دار المعرفة - بيروت.
• الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عبد المعيد ضان، مجلس دائرة المعارف العثمانية - الهند، الطبعة الثانية 1392 هـ - 1972 م.
• الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لابن فرحون إبراهيم بن علي بن محمد، برهان الدين اليعمري، تحقيق: د. محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث - القاهرة.
• ديوان الإسلام، لشمس الدين أبي المعالي محمد بن عبد الرحمن بن الغزي، تحقيق: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1990 م.
• الذخيرة، لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي، تحقيق:
مجموعة من الباحثين، دار الغرب الإسلامي- بيروت، الطبعة الأولى 1994 م.
• ذيل طبقات الحفاظ للذهبي، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية.
• ذيل طبقات الحنابلة، لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن السَلامي البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة الأولى 1425 هـ - 2005 م.
• روضة الطالبين وعمدة المفتين، لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثالثة 1412 هـ - 1991 م.
• روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي، مؤسسة الريّان، الطبعة الثانية 1423 هـ - 2002 م.
• رياض الصالحين، لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثالثة 1419 هـ - 1998 م.
• زاد المعاد في هدي خير العباد، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد، شمس الدين ابن قيم الجوزية، مؤسسة الرسالة - بيروت، مكتبة المنار الإسلامية - الكويت، الطبعة السابعة والعشرون 1415 هـ - 1994 م.
• الزواجر عن اقتراف الكبائر، لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، دار الفكر، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م.
• سبل السلام، لمحمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الكحلاني ثم الصنعاني، المعروف بالأمير، دار الحديث.
• السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، لمحمد بن عبد الله بن حميد النجدي ثم المكي، تحقيق: بكر بن عبد الله أبو زيد، وعبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1996 م.
• سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة الأولى:(المجلد الأول وحتى الرابع: 1415 هـ - 1995 م)، (المجلد السادس: 1416 هـ - 1996 م)، (المجلد السابع: 1422 هـ -
2002 م).
• سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، دار المعارف - الرياض، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م.
• سنن ابن ماجه، لابن ماجه أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، دار الرسالة العالمية.
• سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، ومحمد كامل قره بلل، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م.
• سنن الترمذي (جامع الترمذي)، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر، الطبعة الثانية 1395 هـ - 1975 م.
• سنن الدارقطني، لأبي الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار البغدادي الدارقطني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة - بيروت.
• السنن الصغرى للنسائي = المجتبى، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني النسائي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، الطبعة الثانية 1406 هـ - 1986 م.
• السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحُسَين بن علي البيهقي، تحقيق: د. عبد الله التركي، مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، الطبعة الأولى 1432 هـ - 2011 م.
• السنن الكبرى، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني النسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة - بيروت.
• سير أعلام النبلاء، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، دار الحديث - القاهرة، 1427 هـ - 2006 م.
• شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد بن محمد بن عمر بن علي ابن سالم مخلوف، دار الكتب العلمية - لبنان، الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م.
• شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لأبي الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمد ابن العماد الحنبلي، تحقيق: محمود الأرناؤوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، دار ابن كثير - دمشق، بيروت، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م.
• شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة، لابن أبي زيد قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القيرواني، اعتنى به: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 م.
• شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، لتقي الدين أبي الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المعروف بابن دقيق العيد، تحقيق: محمد خلوف العبد الله، دار النوادر - سوريا، الطبعة الثانية 1430 هـ - 2009 م.
• شرح التلقين، لأبي عبد الله محمد بن علي المازري المالكي، دار الغرب الإِسلامي، الطبعة الأولى 2008 م.
• شرح الزُّرقاني على مختصر خليل، ومعه: الفتح الرباني فيما ذهل عنه الزرقاني، لعبد الباقي بن يوسف بن أحمد الزرقاني المصري، تحقيق: عبد السلام محمد أمين، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1422 هـ - 2002 م.
• شرح الزركشي على مختصر الخرقي، لشمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي، دار العبيكان، الطبعة الأولى 1413 هـ - 1993 م.
• شرح السيوطي على مسلم = الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: أبو إسحاق الحويني الأثري، دار ابن عفان - الخبر، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1996 م.
• شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمى بـ (الكاشف عن حقائق السنن)، لشرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز (مكة المكرمة - الرياض)، الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م.
• شرح العمدة في الفقه - كتاب الطهارة، لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، تحقيق: د. سعود بن صالح العطيشان، مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة الأولى. 141 هـ.
• شرح العمدة في الفقه - كتاب صفة الصلاة، لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، تحقيق: عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن حمود المشيقح، دار العاصمة - الرياض، الطبعة الأولى 1429 هـ - 2008 م.
• الشرح الكبير على المقنع، لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح الحلو، دار هجر - القاهرة، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م.
• شرح سنن ابن ماجه للسيوطي، وهو مجموع من ثلاثة شروح:
1 -
«مصباح الزجاجة» للسيوطي.
2 -
«إنجاح الحاجة» لمحمد عبد الغني المجددي الحنفي.
3 -
«ما يليق من حل اللغات وشرح المشكلات» لفخر الحسن بن عبد الرحمن الحنفي الكنكوهي، قديمي كتب خانة - كراتشي.
• شرح سنن أبي داود، لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابي الحنفي العيني، تحقيق: أبو المنذر خالد بن إبراهيم المصري، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م.
• شرح سنن أبي داود، لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن حسين بن علي بن رسلان المقدسي الرملي الشافعي، تحقيق: عدد من الباحثين بإشراف خالد الرباط، دار الفلاح - الفيوم - مصر، الطبعة الأولى 1437 هـ - 2016 م.
• شرح صحيح البخاري لابن بطال، لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك، المعروف بابن بطال، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الثانية 1423 هـ - 2003 م.
• شرح مختصر الروضة، لنجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م.
• شرح مختصر الطحاوي، لأحمد بن علي أبي بكر الرازي الجصاص الحنفي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، دار البشائر الإسلامية - ودار السراج، الطبعة الأولى 1431 هـ - 2010 م.
• شرح مختصر خليل للخرشي، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي المالكي، دار الفكر - بيروت.
• شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الأزدي المصري المعروف بالطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1494 م.
• شرح مصابيح السنة للإمام البغوي، لمحمد بن عز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز بن أمين الدين بن فِرِشْتَا، الرُّوميُّ الكَرماني الحنفي، المشهور بـ ابن الملَك، تحقيق ودراسة: لجنة مختصة من المحققين بإشراف: نور الدين طالب، إدارة الثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م.
• شرح معاني الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي المصري، المعروف بالطحاوي، تحقيق: محمد زهري النجار، ومحمد سيد جاد الحق، عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1994 م.
• شرح منتهى الإرادات = دقائق أولي النهى لشرح المنتهى، لمنصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتي الحنبلي، عالم الكتب، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م.
• الشريعة، لأبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي، تحقيق: د. عبد الله الدميجي، دار الوطن - الرياض، الطبعة الثانية 1420 هـ - 1999 م.
• الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الرابعة 1407 هـ - 1987 م.
• صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، لأبي حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ التميمي الدارمي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثانية 1414 هـ - 1993 م.
• صحيح ابن خزيمة، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي - بيروت.
• صحيح البخاري = الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، لأبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى 1422 هـ.
• صحيح الجامع الصغير وزياداته، لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي.
• صحيح مسلم = المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
• صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، مصدر الكتاب: برنامج منظومة التحقيقات الحديثية - المجاني - من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.
• صحيح وضعيف سنن أبي داود، لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة - الإسكندرية.
• الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، لشمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن بن السخاوي، منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت.
• طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي، د. عبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر، الطبعة الثانية 1413 هـ.
• طبقات الشافعية، لتقي الدين أبي بكر بن أحمد بن محمد بن عمر الأسدي الشهبي الدمشقي، المعروف بـ ابن قاضي شهبة، تحقيق: د. الحافظ عبد العليم خان، عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى 1407 هـ.
• طبقات الشافعيين، لأبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، تحقيق: د. أحمد عمر هاشم، ود. محمد زينهم محمد عزب، مكتبة الثقافة الدينية، 1413 هـ - 1993 م.
• الطبقات الكبرى، لأبي عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي البغدادي، المعروف بابن سعد، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة
الأولى 1410 هـ - 1990 م.
• طرح التثريب في شرح التقريب (المقصود بالتقريب: تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد)، لأبي الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي، أكمله ابنه: أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين الكردي الرازياني ثم المصري، أبو زرعة ولي الدين، الطبعة المصرية القديمة.
• طلبة الطلبة، لنجم الدين أبي حفص عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل النسفي، مكتبة المثنى - بغداد، 1311 هـ.
• العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء، تحقيق: د. أحمد بن علي بن سير المباركي، الطبعة الثانية 1410 هـ - 1990 م.
• العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير، لأبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني، تحقيق: علي محمد عوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م.
• عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابي الحنفي العيني، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
• العناية شرح الهداية، لمحمد بن محمد بن محمود أكمل الدين أبي عبد الله ابن الشيخ شمس الدين ابن الشيخ جمال الدين الرومي البابرتي، دار الفكر.
• عون المعبود شرح سنن أبي داود، ومعه حاشية ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، لأبي عبد الرحمن محمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر، الصديقي العظيم آبادي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الثانية 1415 هـ.
• عيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار، لأبي الحسن علي بن عمر بن أحمد البغدادي المالكي، المعروف بابن القصار، تحقيق: د. عبد الحميد بن سعد السعودي، مكتبة الملك فهد الوطنية - الرياض، 1426 هـ - 2006 م.
• عيون المسائل، لأبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي المالكي، تحقيق: علي محمَّد إبراهيم بورويبة، دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م.
• غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين
الألباني، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثالثة 1405 هـ.
• غريب الحديث، لأبي عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي، تحقيق: د. محمد عبد المعيد خان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد - الدكن، الطبعة الأولى 1384 هـ - 1964 م.
• غريب الحديث، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، تحقيق: د. عبد الله الجبور، مطبعة العاني - بغداد، الطبعة الأولى 1397 هـ.
• غريب الحديث، لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق: د. عبد المعطي أمين القلعجي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م.
• الغيث الهامع شرح جمع الجوامع، لولي الدين أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي، تحقيق: محمد تامر حجازي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م.
• الفتاوى الكبرى، لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1987 م.
• الفتاوى الهندية، تأليف: لجنة علماء برئاسة نظام الدين البلخي، دار الفكر، الطبعة الثانية 1310 هـ.
• فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، لمحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، الطبعة الأولى 1399 هـ.
• فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ.
• فتح الباري شرح صحيح البخاري، لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن السَلامي البغدادي الحنبلي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، مكتبة الغرباء
الأثرية - المدينة النبوية، الطبعة الأولى 1417 هـ - 1996 م.
• فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام، لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي الخزرجي، تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1421 هـ - 2000 م.
• فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي، المعروف بابن الهمام، دار الفكر.
• فتح القدير، لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت، الطبعة الأولى 1414 هـ.
• فتح الودود في شرح سنن أبي داود، لأبي الحسن السندي، تحقيق: محمد زكي الخولي، مكتبة لينة - دمنهور - مصر، مكتبة أضواء المنار - المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1431 هـ - 2010 م.
• فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها، لـ د. غالب بن علي عواجي، المكتبة العصرية الذهبية - جدة، الطبعة الرابعة 1422 هـ - 2001 م.
• الفروع ومعه تصحيح الفروع لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، لأبي عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، شمس الدين المقدسي الرامينى ثم الصالحي الحنبلي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م.
• الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي، عالم الكتب.
• فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، لمحمد عبد الحيّ بن عبد الكبير ابن محمد الحسني الإدريسي، المعروف بعبد الحي الكتاني، تحقيق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة العشرون 1982 م.
• فوات الوفيات، لمحمد بن شاكر بن أحمد بن عبد الرحمن بن شاكر، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت، الطبعة الأولى.
• الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، لأحمد بن غانم (أو غنيم) بن
سالم الأزهري المالكي، دار الفكر، 1415 هـ - 1995 م.
• الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، دار السعادة - مصر، الطبعة الأولى 1324 هـ.
• فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، الطبعة الأولى 1356 هـ.
• القاموس المحيط، لمجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروزآبادي، تحقيق: مكتب تحقيق التراث، بإشراف: محمد نعيم العرقسُوسي، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثامنة 1426 هـ - 2005 م.
• القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، للقاضي محمد بن عبد الله، أبي بكر بن العربي المعافري الإشبيلي المالكي، تحقيق: د. محمد عبد الله ولد كريم، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1992 م.
• القرائن الصارفة للأوامر والنواهي عن حقيقتها، مجدي حسن أبو الفضل شقوير، بحث منشور في مجلة كلية الحقوق للبحوث القانونية والاقتصادية - العدد الثاني، 2013 م.
• القرائن عند الأصوليين، لـ د. محمد بن عبد العزيز المبارك، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عمادة البحث العلمي، الطبعة الأولى 1426 هـ - 2005 م.
• القرائن والنص - دراسة في المنهج الأصولي في فقه النص، لأيمن علي صالح، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 1431 هـ - 2010 م.
• القرينة عند الأصوليين وأثرها في فهم النصوص، لمحمد قاسم الأسطل، الجامعة الإسلامية - غزة - كلية الشريعة - قسم أصول الفقه، رسالة ماجستير، 1425 هـ - 2004 م.
• قواطع الأدلة في الأصول، لأبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني الحنفي ثم الشافعي، تحقيق: محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1999 م.
• القواعد، لأبي بكر بن محمد بن عبد المؤمن، المعروف بـ تقي الدين الحصني، تحقيق: د. عبد الرحمن الشعلان، ود. جبريل البصيلي، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م.
• القوانين الفقهية، لأبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي.
• الكافي في فقه الإمام أحمد، لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1994 م.
• الكافي في فقه أهل المدينة، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة - الرياض، الطبعة الثانية 1400 هـ - 1980 م.
• كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتى الحنبلي، دار الكتب العلمية.
• كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، لعبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري الحنفي، دار الكتاب الإسلامي.
• كشف اللثام شرح عمدة الأحكام، لشمس الدين أبي العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي، تحقيق: نور الدين طالب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الكويت، دار النوادر - سوريا، الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 م.
• كشف المشكل من حديث الصحيحين، لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب، دار الوطن - الرياض.
• كفاية النبيه في شرح التنبيه، لأبي العباس أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، المعروف بابن الرفعة، تحقيق: مجدي محمد سرور باسلوم، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2009 م.
• الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، الحنفي، تحقيق: عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة - بيروت.
• الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، لمحمد بن يوسف بن علي بن سعيد شمس الدين الكرماني، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الأولى 1356 هـ - 1937 م. الطبعة الثانية 1401 هـ - 1981 م.
• الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، لنجم الدين محمد بن محمد الغزي، تحقيق: خليل المنصور، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م.
• اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح، لشمس الدين البِرْماوي، أبي عبد الله محمد بن عبد الدائم بن موسى النعيمي العسقلاني المصري الشافعي، تحقيق: لجنة مختصة من المحققين، بإشراف: نور الدين طالب، دار النوادر - سوريا، الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م.
• اللباب في شرح الكتاب، لعبد الغني بن طالب بن حمادة بن إبراهيم الغنيمي الدمشقي الميداني الحنفي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العلمية - بيروت.
• لسان العرب، لجمال الدين ابن منظور محمد بن مكرم بن علي الأنصاري الرويفعى الإفريقي، دار صادر - بيروت، الطبعة الثالثة 1414 هـ.
• لسان الميزان، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: دائرة المعارف النظامية - الهند، مؤسسة الأعلمي - بيروت، الطبعة الثانية 1390 هـ -1971 م.
• اللمع في أصول الفقه، لأبي اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1424 هـ - 2003 م.
• ما صح من آثار الصحابة في الفقه، لزكريا بن غلام قادر الباكستاني، دار الخراز - جدة، دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأولى 1421 هـ - 2000 م.
• المبدع في شرح المقنع، لبرهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م.
• المبسوط، لمحمد بن أحمد بن أبي سهل، شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة - بيروت، 1414 هـ - 1993 م.
• المتواري على تراجم أبواب البخاري، لناصر الدين أحمد بن محمد بن منصور بن القاسم بن مختار القاضي، ابن المنير الجذامي الجروي الإسكندراني، تحقيق: صلاح الدين مقبول أحمد، مكتبة المعلا - الكويت.
• مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لأبي الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، تحقيق: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي - القاهرة، 1414 هـ - 1994 م.
• مجمل اللغة لابن فارس، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثانية 1406 هـ - 1986 م.
• مجموع الفتاوى، لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مطبعة الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - المدينة النبوية، 1416 هـ - 1995 م.
• المجموع شرح المهذب (مع تكملة السبكي والمطيعي)، لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار الفكر.
• المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد، ابن تيمية الحراني، مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة الثانية 1404 هـ - 1984 م.
• المحيط البرهاني في الفقه النعماني، فقه الإمام أبي حنيفة، لأبي المعالي برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مَازَةَ البخاري الحنفي، تحقيق: عبد الكريم سامي الجندي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1424 هـ - 2004 م.
• مختار الصحاح، لزين الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي، تحقيق: يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية - بيروت، صيدا، الطبعة الخامسة 1420 هـ - 1999 م.
• مختصر اختلاف العلماء، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي المصري المعروف بالطحاوي، تحقيق: د. عبد الله نذير أحمد، دار البشائر الإسلامية - بيروت، الطبعة الثانية 1417 هـ.
• مختصر التحرير شرح الكوكب المنير، لتقي الدين محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن
علي الفتوحي، المعروف بابن النجار الحنبلي، تحقيق: محمد الزحيلي، ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، الطبعة الثانية 1418 هـ - 1997 م.
• المختصر الفقهي، لأبي عبد الله محمد بن محمد ابن عرفة التونسي المالكي، تحقيق: د. حافظ عبد الرحمن محمد خير، مؤسسة خلف أحمد الخبتور للأعمال الخيرية، الطبعة الأولى 1435 هـ - 2014 م.
• مختصر المزني، لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني، دار المعرفة - بيروت، 1410 هـ - 1990 م.
• مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد، شمس الدين ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة 1416 هـ - 1996 م.
• المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب، لبكر بن عبد الله أبو زيد بن محمد بن عبد الله بن بكر، دار العاصمة - مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي - جدة، الطبعة الأولى 1417 هـ.
• المدخل، لأبي عبد الله محمد بن محمد المالكي الشهير بابن الحاج، دار التراث.
• المدونة، للإمام مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1994 م.
• المذهب المعتمد عند الحنفية واصطلاحاته الفقهية، لـ د. مرضي بن مشوح العنزي، بحث منشور في مجلة الجمعية الفقهية السعودية - العدد الخامس والأربعون، 1439 هـ - 2018 م.
• مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، دار الكتب العلمية - بيروت.
• مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، لصفيّ الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، ابن شمائل القطيعي البغدادي، الحنبلي، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ.
• مراقي الفلاح شرح متن نور الإيضاح، لحسن بن عمار بن علي الشرنبلالي المصري الحنفي، اعتنى به وراجعه: نعيم زرزور، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى 1425 هـ - 2005 م.
• مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، لجلال الدين أبي الفضل عبد الرحمن السيوطي، عناية: محمد شايب شريف، دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م.
• مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لأبي الحسن علي بن سلطان محمد، نور الدين الملا الهروي القاري، دار الفكر - بيروت، الطبعة الأولى 1422 هـ - 2002 م.
• المسالك في شرح موطأ مالك، للقاضي محمد بن عبد الله، أبي بكر بن العربي المعافري الإشبيلي المالكي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 م.
• المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف المعروف بـ ابن الفراء، تحقيق: د. عبد الكريم بن محمد اللاحم، مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة الأولى 1405 هـ - 1985 م.
• المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1990 م.
• مسند الإمام أحمد بن حنبل، لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة.
• المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية (بدأ بتصنيفها الجدّ: مجد الدين عبد السلام بن تيمية، وأضاف إليها الأب،: عبد الحليم بن تيمية، ثم أكملها الابن الحفيد: أحمد بن تيمية)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي.
• مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، لأبي العباس أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الشافعي، تحقيق: محمد المنتقى الكشناوي، دار العربية - بيروت، الطبعة الثانية 1403 هـ.
• المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، لأبي العباس أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، المكتبة العلمية - بيروت.
• المصنف في الأحاديث والآثار، لأبي بكر بن أبي شيبة عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى 1409 هـ.
• المصنف، لأبي بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي - الهند، الطبعة الثانية 1403 هـ.
• مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، لمصطفى بن سعد بن عبده السيوطي الرحيباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1415 هـ - 1994 م.
• المطلع على ألفاظ المقنع، لأبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي الفتح بن أبي الفضل البعلي، تحقيق: محمود الأرناؤوط، وياسين محمود الخطيب، مكتبة السوادي، الطبعة الأولى 1423 هـ - 2003 م.
• معالم السنن، وهو شرح سنن أبي داود، لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي، المطبعة العلمية - حلب، الطبعة الأولى 1351 هـ - 1932 م.
• معالم مكة التأريخية والأثرية، لعاتق بن غيث البلادي الحربي، دار مكة، الطبعة الأولى 1400 هـ - 1980 م.
• المعجم الأوسط، لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي الطبراني، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين - القاهرة.
• معجم البلدان، لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، دار صادر- بيروت، الطبعة الثانية 1995 م.
• المعجم الكبير، لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية - القاهرة، الطبعة الثانية.
• المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، إبراهيم مصطفى، وأحمد الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد النجار، دار الدعوة.
• معجم لغة الفقهاء، لمحمد رواس قلعجي، وحامد صادق قنيبي، دار النفائس، الطبعة الثانية 1408 هـ - 1988 م.
• معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبي الحسين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399 هـ - 1979 م.
• المُعْلم بفوائد مسلم، لأبي عبد الله محمد بن علي بن عمر التَّمِيمي المازري المالكي، تحقيق: محمد الشاذلي النيفر، المؤسّسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدّراسات -
بيت الحكمة، الطبعة الثانية 1988 م، والجزء الثالث صدر بتاريخ 1991 م.
• المعونة على مذهب عالم المدينة (الإمام مالك بن أنس)، لأبي محمد عبد الوهاب بن علي البغدادي المالكي، تحقيق: حميش عبد الحقّ، المكتبة التجارية - مكة المكرمة.
• مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لشمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1994 م.
• المغني لابن قدامة، لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي، مكتبة القاهرة.
• المفاتيح في شرح المصابيح، لمظهر الدين الحسين بن محمود بن الحسن، الزيداني الكوفي الضرير الشيرازي الحَنَفيُّ المشهور بالمُظْهِري، تحقيق: لجنة مختصة من المحققين، دار النوادر - وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م.
• المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، دار ابن كثير، دمشق - بيروت، دار الكلم الطيب، دمشق - بيروت، الطبعة الأولى 1417 هـ - 1996 م.
• المقدمات الممهدات، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: د. محمد حجي، دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م.
• المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، تحقيق: د. عبد الرحمن العثيمين، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م.
• الملل والنحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني، مؤسسة الحلبي.
• من أصول الفقه على منهج أهل الحديث، لزكريا بن غلام قادر الباكستاني، دار الخراز، الطبعة الأولى 1423 هـ - 2002 م.
• المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي، مطبعة السعادة - مصر، الطبعة الأولى 1332 هـ.
• منح الجليل شرح مختصر خليل، لمحمد بن أحمد بن محمد عليش أبي عبد الله المالكي، دار الفكر - بيروت، 1409 هـ - 1989 م.
• منحة الباري بشرح صحيح البخاري المسمى «تحفة الباري» ، لزين الدين أبي يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السنيكي المصري، الشافعي، تحقيق: سليمان العازمي، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى 1426 هـ - 2005 م.
• المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثانية 1392 هـ.
• المهذب في علم أصول الفقه المقارن، لـ د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م.
• المهذب في فقه الإمام الشافعي، لأبي اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، دار الكتب العلمية.
• الموافقات، لإبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، الشهير بالشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م.
• مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد الطرابلسي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي، دار الفكر، الطبعة الثالثة 1412 هـ - 1992 م.
• موسوعة أحكام الطهارة، لأبي عمر دُبْيَانِ بن محمد الدُّبْيَانِ، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الثانية 1426 هـ - 2005 م.
• موسوعة القواعد الفقهية، لمحمد صدقي بن أحمد بن محمد آل بورنو أبو الحارث الغزي، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م.
•
…
الموسوعة الفقهية الكويتية، صادر عن: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت، سنة الطبعة:(من 1404 - 1427 هـ) عدة دور طباعة.
• الموسوعة الفقهية، إعداد: مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ/ عَلوي بن عبد القادر السقاف، الناشر: موقع الدرر السنية على الإنترنت dorar.net.
• الموضوعات، لجمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية - المدينة المنورة، الطبعة الأولى (الجزأين الأول والثاني: 1386 هـ - 1966 م)، (الجزء الثالث: 1388 هـ - 1968 م).
• موطأ الإمام مالك، لمالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، دار إحياء التراث العربي - بيروت، 1406 هـ - 1985 م.
• ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى دار المعرفة - بيروت، 1382 هـ - 1963 م.
• النجم الوهاج في شرح المنهاج، لكمال الدين أبي البقاء محمد بن موسى بن عيسى بن علي الدَّمِيري الشافعي، تحقيق: لجنة علمية، دار المنهاج - جدة، الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م.
• نصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي، لأبي محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي، تحقيق: محمد عوامة، مؤسسة الريان - بيروت، دار القبلة للثقافة الإسلامية - جدة، الطبعة الأولى 1418 هـ - 1997 م.
• نفائس الأصول في شرح المحصول، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م.
• النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر لمجد الدين ابن تيمية، لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة الثانية 1404 هـ.
• نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لمحمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة شهاب الدين الرملي، دار الفكر - بيروت، الطبعة الأخيرة 1404 هـ - 1984 م.
• النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى، ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 هـ - 1979 م.
• النهر الفائق شرح كنز الدقائق، لسراج الدين عمر بن إبراهيم بن نجيم الحنفي،
تحقيق: أحمد عزو عناية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1422 هـ - 2002 م.
• النَّوادر والزِّيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن القيرواني المالكي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة الأولى 1999 م.
• نيل الأوطار، لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، دار الحديث - مصر، الطبعة الأولى 1413 هـ - 1993 م.
• الهداية في شرح بداية المبتدي، لبرهان الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، تحقيق: طلال يوسف، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
• الوافي بالوفيات، لصلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي، تحقيق: أحمد الأرناؤوط، وتركي مصطفى، دار إحياء التراث - بيروت، 1420 هـ - 2000 م.
• وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لشمس الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر، ابن خلكان البرمكي الإربلي، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت، 1994 م.