الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
كلية الشريعة بالرياض
قسم الفقه
المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية - جمعاً ودراسةً -
رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الفقه
إعداد الطالب:
سناد تسرنكتش
إشراف الأستاذ الدكتور:
عبد الله بن عبد الواحد الخميس
الأستاذ بقسم الفقه بالكلية
العام الجامعي
1440/ 1441 ه
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد جاءت نصوص كثيرة من الكتاب العزيز والسنة الصحيحة في تعظيم العلم ومكانة أهله، بل جعل الله الخير كل الخير لمن وفقه للسعي في تحصيل العلم النافع المورث للخشية، والتفقه في الدين، كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال:(من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)
(1)
.
وإن لعلم الفقه مكانة عالية ومنزلة رفيعة، وهو من أفضل ما يرام له من العلوم الشرعية، إذ به يُعرف الحلال والحرام، وعليه مدار صحة العبادات والمعاملات وصلاح أحوال الناس في الدنيا والآخرة.
ولذلك تسابق السلف الصالح إلى هذا الفضل العظيم، فاهتموا بالعلم الشرعي عامة، وأَوْلَوا الفقه عناية خاصة، فأفنوا أعمارهم في سبيله، تعلماً وتعليماً، جمعاً وتأليفاً وتصنيفاً، حتى تكونت في الأمة الإسلامية ثروة علمية فقهية عظيمة، ما بين متون متينة ومختصرات ومطولات، وشروح وحواشٍ، تحمل في طياتها اجتهادات مستنبَطة، وأحكامًا للحوادث والوقائع المستجدة، ومسائل مفترضة.
وإن الناظر في تاريخ الفقه الإسلامي وبنائه المرحلي بشكل عام، والمذهب الحنفي بشكل خاص، يجد نفسه أمام أدوار الفقه ومراحله المختلفة التي مرت به، ومن أهمها مرحلة المتأخرين التي هي أخصب مراحل الفقه من حيث الكتابة الفقهية.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، 1/ 25، رقم حديث: 71، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم» ، رقم حديث:1037.
فمن الملاحظ في هذه الفترة أنه قد أُلِّفت جُلّ المتون المعتمَدة المعتبَرة لدى الحنفية التي وُضعت لنقل ظاهر الرواية والأقوال المعتمدة في المذهب، ويلاحظ أيضًا تركيز العلماء على كلام أئمة المذهب المتقدمين على الحكم الفقهي المجرد عن الدليل والمناقشات، فحرروا الأقوال، وأكثروا من الأدلة، وتوسعوا في المناقشات والترجيح والردود على المخالف، مما تسبب في إثراء المذهب بكتب تُحرّر الأقوال، وتُبيّن أصول الأئمة وأدلتهم، وقد أدى ذلك إلى تقوية المذهب وتنظيمه.
ومن هذا المنطلق حرصت أن أسهم - ولو بجهد المقل - في تناول موضوع يتعلق بتلك الفترة الزمنية المهمة التي تُعبّر عن قوة المذهب والقول فيه، وهي فترة تعليل الأحكام المنقولة عن الأئمة، والترجيح بينها وبين الأقوال في المذاهب الأخرى بالاستدلال والمناقشات والردود، مقتصراً على المذهب الحنفي وبعض مصطلحاته؛ ليكون عنواناً للأطروحة التي أتقدم بها لنيل درجة ماجستير في قسم الفقه في كلية الشريعة، وقد وقع اختياري - بعد الاستشارة والتأمل - على الكتابة في موضوع:
(المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية - جمعاً ودراسةً -)
وضابط الموضوع هو: جمع المسائل الفقهية التي خصّصها المتأخرون من الحنفية بعلامة من علامات الإفتاء أو التصحيح أو الترجيح في المذهب مثل قولهم: عليه الفتوى، وبه يُفتى، وما شابههما أو في درجتهما، وذلك بالرجوع إلى الكتب المعتمدة التي أُلِّفت في فترة المتأخرين وأصحابها قد اعتنوا بالمسائل المخصصة المذكورة.
وفترة المتأخرين تبدأ من منتصف القرن الخامس، وتستمر حتى نهاية القرن السابع، وهي معتبرة عند أصحاب كتب طبقات الحنفية؛ لأنها فترة الانتصار للمذهب بتعليل الأحكام المنقولة عن الأئمة، والترجيح بينها وبين الأقوال في المذاهب الأخرى بالاستدلال والمناقشات والردود.
وقد جعلت ترتيب الفصول والمسائل موافقاً للتقسيم العام عند الحنفية، وهو: العبادات، والمعاملات، والعقوبات.
أهمية الموضوع:
تظهر أهمية الموضوع في النقاط الآتية:
1 -
المسائل التي عليها الفتوى تمثل الراجح في المذهب الحنفي بحيث لا يجوز الخروج عنه في الإفتاء عند متأخري الحنفية.
2 -
اشتماله على الإضافة العلمية بحيث يجمع اختيارات الحنفية وراجح المذهب الحنفي في فترة تحرير أقوال أئمة المذهب، وبيان أصولهم وأدلتهم وتعليلاتهم مع المناقشة والرد على المخالف، وفي ذلك -كما لا يخفى- قوة المذهب ورسوخه بشكل عام.
3 -
علاقته بموضوع مصطلحات خاصة بالمذهب الحنفي وجانبها التطبيقي.
4 -
الحاجة ماسة إلى جمع مسائل البحث من مظانها، وترتيبها ودراستها دراسة علمية.
5 -
خدمته للعلوم الأخرى مثل التخريج الفقهي بشكل عام وتاريخ الفقه الإسلامي بشكل خاص.
أسباب اختيار الموضوع:
تظهر أسباب اختياري هذا الموضوع في النقاط الآتية:
1 -
أهمية الموضوع كما سبق.
2 -
الرغبة في خدمة الفقه الحنفي بخاصة، والفقه الإسلامي بعامة.
3 -
موضوع الرسالة يلامس حاجة بلاد الباحث، حيث يسود فيها المذهب الحنفي.
أهداف الموضوع:
يهدف البحث في هذا الموضوع إلى ما يأتي:
1 -
جمع المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية ودراستها.
2 -
دراسة مختصرة عن تاريخ المذهب الحنفي وطبقات العلماء فيه، وطبقات الكتب والمسائل، وكذلك المصطلحات وقواعد الترجيح.
3 -
التعرف على الراجح داخل المذهب الحنفي بدراسة المسائل الفقهية التي خُصصت بعلامات التصحيح والإفتاء، وذلك في فترة معينة محددة تعتبر فترة قوة المذهب والقول فيه من حيث الأدلة والردود والمناقشات.
4 -
دراسة مقارنة بين المسائل التي عليها الفتوى عند الحنفية والقول فيها وبين الراجح في المذاهب الأخرى.
5 -
التحقيق في مناهج الحنفية في الاستنباط والاستدلال والفتوى وعلاقتها بالمسائل التي يعتبر الخلاف فيها من اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان.
6 -
التحقيق في أسباب عدول العلماء عن التقيد بقواعد الترجيح الأغلبية في المذهب وعلاقته بالعدول عن ظاهر الرواية.
7 -
التعرف على استمرارية راجح المذهب في المسائل المحددة في الفترة ما بعد القرن السابع الهجري.
8 -
تحقيق بداية إطلاق مصطلحات الترجيح وعلامات الإفتاء في المذهب وشيوع استخدامها عند المتأخرين ومن بعدهم.
الدراسات السابقة:
الرسائل العلمية والبحوث التكميلية:
الدراسة الأولى:
أسباب عدول الحنفية عن الفتيا بظاهر الرواية، دراسةٌ تأصيليةٌ تطبيقيةٌ .... عنوان البحث:
لؤي عبد الرؤوف الخليلي الحنفي .... اسم الباحث:
دكتوراه .... الدرجة العلمية:
جامعة العلوم الإسلامية العالمية - عمان .... جهة الدراسة:
1434 هـ .... تاريخ الدراسة:
مطبوعة .... حالة النشر:
مجلد .... حجم الدراسة:
- بيان المراد بالألفاظ الأساسية التي تضمنها عنوان البحث.
- أسباب العدول (العرف، والضرورة والحاجة، خبرة من يُعدل إلى قوله، عموم البلوى، الأقوى حجة عند أهل الترجيح).
- العدول لعدم ذكر المسألة في ظاهر الرواية وغيرها من الروايات، أو إلى قول في مذهب آخر.
- تأصيل العدول وأثر رسم المفتي فيه.
- العدول للتيسير ورفع الحرج.
- العدول للاحتياط.
- الخاتمة وأهم التوصيات .... التقسيمات الكبرى للدراسة:
هذه تناولت بشيء من الاختصار بيان مفهوم العدول وتأصيله، ومفهوم ظاهر الرواية في المذهب، وطبقات الفقهاء، وطبقات المسائل، والكتب المعتمدة، وأثر ذلك في العدول باختصار، كما بيّنت قواعد الترجيح في المذهب عند اختلاف الأقوال. وتناولت بشيء من التفصيل تأصيل معنى العدول، وأسباب عدول علماء المذهب عن الفتيا بظاهر الرواية، وذلك بتأصيل كل سبب من هذه الأسباب، وإلحاقه بأهم التطبيقات العملية عليه.
وتُعتبر تكملة قوية لموضوع بحثي؛ لأنها تناولت أسباب عدول العلماء عن الفتوى بظاهر الرواية كقاعدة من قواعد الترجيح عند الحنفية بخلاف هذا البحث الذي يهدف إلى دراسة المسائل التي ثبت فيها أن الفتوى عليها سواء بظاهر الرواية أم لا، وسواء تعارض بعضها بقواعد الترجيح المتنوعة الأخرى أم لا، وسواء عدل عنها العلماء في الإفتاء أم لا .... المقارنة بينها وبين موضوع الباحث، والإضافة العلمية عليها:
الدراسة الثانية:
المذهب الحنفي - مراحله طبقاته، ضوابطه ومصطلحاته، خصائصه ومؤلفاته .... عنوان البحث:
أحمد بن محمد نصير الدين النقيب .... اسم الباحث:
ماجستير .... الدرجة العلمية:
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض .... جهة الدراسة:
1419 هـ .... تاريخ الدراسة:
مطبوعة .... حالة النشر:
جزءان في مجلد ضخم .... حجم الدراسة:
- التمهيد في شرح عنوان البحث ونبذة عن حياة الإمام أبي حنيفة.
- معارف أساسية عن المذهب الحنفي (مراحل المذهب الحنفي، طبقات فقهاء المذهب الحنفي ومسائله، ضوابط التمييز بين الكتب والأقوال المعتبرة وغير المعتبرة في المذهب الحنفي، مصطلحات المذهب الحنفي، خصائص المذهب الحنفي)
- مؤلفات علماء المذهب الحنفي.
- والخاتمة في أهم نتائج البحث .... التقسيمات الكبرى للدراسة:
من الدراسات التي تعنى بالمذهب الحنفي من حيث أصوله ومصطلحاته ومؤلفاته، وهذه الدراسة لها علاقة بالبحث من ناحية بيان المصطلحات وأصول المذهب بشكل عام، والإضافة العلمية عليها دراسة بعض مصطلحات الترجيح في المذهب الحنفي بالتفصيل وفي فترة زمنية معينة .... المقارنة بينها وبين موضوع الباحث، والإضافة العلمية عليها:
الدراسة الثالثة
المدخل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان -رحمه الله تعالى- .... عنوان البحث:
أحمد سعيد حوّى .... اسم الباحث:
ماجستير .... الدرجة العلمية:
كلية الشريعة في الجامعة الأردنية .... جهة الدراسة:
1413 هـ .... تاريخ الدراسة:
مطبوعة .... حالة النشر:
مجلد - 477 صفحة .... حجم الدراسة:
- المقدمة والتمهيد.
- أبو حنيفة والمذهب الحنفي.
- أصول فقه المذهب الحنفي.
- مصادر الحنفية ومصطلحاتم.
- الخاتمة .... التقسيمات الكبرى للدراسة:
من الدراسات التي تعنى بالمذهب الحنفي من حيث أصوله ومصطلحاته ومؤلفاته بشكل عام، والإضافة العلمية عليها دراسة بعض مصطلحات الترجيح في المذهب الحنفي بالتفصيل وفي فترة زمنية معينة .... المقارنة بينها وبين موضوع الباحث، والإضافة العلمية عليها:
الدراسة الرابعة:
الكواشف الجلية عن مصطلحات الحنفية .... عنوان البحث:
عبد الإله بن محمد الملا .... اسم الباحث:
دكتوراه .... الدرجة العلمية:
جامعة أم القرى .... جهة الدراسة:
1420 هـ .... تاريخ الدراسة:
مطبوعة .... حالة النشر:
مجلد خفيف .... حجم الدراسة:
- المقدمة
- مصطلحات أقسام الحكم التكليفي.
- المصطلحات الدالة على أئمة المذهب وعلمائه.
- المصطلحات الدالة على كتب المذهب.
- المصطلحات الدالة على مسائل المذهب.
- المصطلحات الدالة على علامات الإفتاء.
- المصطلحات الدالة على بعض أحوال الأقوال والأحكام .... التقسيمات الكبرى للدراسة:
هذه الدراسة أُفردت من الرسالة العلمية التي حقق صاحبها القسم الأول من كتاب النهر الفائق، وهي أيضاً من الدراسات التي تعنى بالمذهب الحنفي من حيث مصطلحاته بشكل عام، والإضافة العلمية عليها دراسة بعض مصطلحات الترجيح والإفتاء في المذهب الحنفي بالتفصيل وفي فترة زمنية معينة .... المقارنة بينها وبين موضوع الباحث، والإضافة العلمية عليها:
إضافة إلى الكتب الكثيرة المؤلفة في تاريخ التشريع الإسلامي التي تعتبر مدخلاً لدراسة الفقه والمذاهب الفقهية بشكل عام.
منهج البحث:
أخذت في إعداد البحث بمنهجيْن: المنهج الخاص والمنهج العام، فأما الخاص فيحتوي على دراسة داخل المذهب الحنفي، وسلكت فيه الطريقة التالية:
o عرفت بالمسألة بوضع عنوان لها، وإرجاعها إلى مكانها في كتب الحنفية مع ذكر أقوى أدلتها الواردة في تلك الكتب.
o تحققت من أن هذه المسألة هي التي عليها الفتوى عند المتأخرين من الحنفية، وأنه لا يوجد خلاف في رجحان الحكم فيها بينهم.
o قارنت بين فترة المتأخرين والمتقدمين عند الحنفية، وكذلك بينها وبين ما جرى بعد سقوط بغداد بحيث يراعى في المقارنة تعارض القول في المسألة مع قواعد الترجيح الأغلبية عند الحنفية، مع ذكر أسباب التعارض وأدلته وأمثلته، وكذلك علاقة المسألة بالمسائل التي يعتبر الخلاف فيها من اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان.
وأما المنهج العام فأخذت بالمنهج المعتمد من قسم الفقه بكلية الشريعة، وهو ما يأتي:
أولاً: صوّرت المسألة المراد بحثها تصويراً دقيقاً قبل بيان حكمها؛ ليتضح المقصود من دراستها.
ثانياً: إذا كانت المسألة من مواضع الاتفاق، ذكرت حكمها بدليلها، مع توثيق الاتفاق من مظانه المعتبرة.
ثالثاً: إذا كانت المسألة من مسائل الخلاف، اتّبعت ما يلي ما يلي:
(1)
حررت محل الخلاف، إذا كانت بعض صور المسألة محل خلاف، وبعضها محل اتفاق.
(2)
ذكرت الأقوال في المسألة، وبينت من قال بها من أهل العلم، ويكون عرض الخلاف بحسب الاتجاهات الفقهية.
(3)
اقتصرت على المذاهب الفقهية المعتبرة، مع العناية بذكر ما تيسر الوقوف عليه من أقوال السلف الصالح، وإذا كنت لم أقف على المسألة في مذهب ما، فقد سلكت بها مسلك التخريج.
(4)
وثّقت الأقوال من كتب أهل المذهب نفسه.
(5)
استقصيت أدلة الأقوال، مع بيان وجه الاستدلال من الأدلة النقلية، وذكرت ما يرد على الأدلة من مناقشات، وما يجاب به عنها إن كانت.
(6)
رجّحت الأقوال مع بيان سبب الترجيح، وذكرت ثمرة الخلاف إن وجدت.
رابعاً: اعتمدت على أمهات المصادر والمراجع الأصيلة في التحرير والتوثيق والتخريج والجمع.
خامساً: ركّزت على موضوع البحث وتجنبت الاستطراد.
سادساً: اعتنيت بضرب الأمثلة؛ وخاصة الواقعية.
سابعاً: تجنبت ذكر الأقوال الشاذة.
ثامناً: اعتنيت بدراسة ما جدَّ من القضايا مما له صلة واضحة بالبحث.
تاسعاً: رقّمت الآيات، وبيّنت سورها.
عاشراً: خرّجت الأحاديث وبيّنت ما ذكره أهل الشأن في درجتها - إن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما - فإن كانت كذلك فقد اكتفيت حينئذٍ بتخريجها.
حادي عشر: خرّجت الآثار من مصادرها الأصيلة، وحكمت عليها.
ثاني عشر: عرّفت بالمصطلحات، وشرحت الغريب الوارد في صلب الموضوع.
ثالث عشر: اعتنيت بقواعد اللغة العربية والإملاء وعلامات الترقيم.
رابع عشر: ترجمت للأعلام غير المشهورين عند أول ورودٍ لها.
خامس عشر: ختمت البحث بملخص للرسالة، يعطي فكرة واضحة عما تضمنته الرسالة، مع إبراز أهم النتائج التي توصّلت إليها من خلال هذا البحث.
سادس عشر: أتبعت الرسالة بالفهارس الفنية المتعارف عليها، وتشمل:
- فهرس الآيات.
- فهرس الأحاديث.
- فهرس الآثار.
- فهرس الأعلام.
- فهرس المصادر والمراجع.
- فهرس الموضوعات.
تقسيمات البحث:
انتظمت خطة البحث في مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة وفهارس:
المقدمة: وفيها أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وأهدافه، والدراسات السابقة، ومنهج البحث وتقسيماته.
التمهيد: التعريف بمفردات عنوان البحث، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: نبذة في تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره.
المبحث الثاني: مقدمة في المذهب الحنفي، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: طبقات علماء المذهب الحنفي.
المطلب الثاني: طبقات الكتب والمسائل في المذهب الحنفي.
المطلب الثالث: مصطلحات المذهب الحنفي.
المطلب الرابع: قواعد الترجيح في المذهب الحنفي.
المبحث الثالث: المراد بالألفاظ الأساسية التي تضمنها عنوان البحث، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المراد بالمتأخرين في المذهب الحنفي، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: طبقة المتأخرين، تعريفها، نوعها، خصائصها وميزاتها.
المسألة الثانية: قوة المذهب والقول فيه في فترة المتأخرين.
المطلب الثاني: المراد بقولهم: (عليه الفتوى) في المذهب الحنفي، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: مصطلح (عليه الفتوى)، تعريفه، نوعه، معناه، وأهميته ومكانته.
المسألة الثانية: مصطلحات مشابهة له في اللفظ والقوة.
المسألة الثالثة: دراسة المصطلح من حيث أول من أطلقه وشيوعه في المذهب.
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العبادات، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: في مسائل الطهارة، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: الوضوء، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الماء المستعمل.
المسألة الثانية: الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة.
المطلب الثاني: المسح على الجوربين.
المطلب الثالث: صلاة المتيمم إذا رأى النبيذ.
المطلب الرابع: الحيض والاستحاضة، وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: ثبوت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة.
المسألة الثانية: نصب العادة للمبتدأة.
المسألة الثالثة: الطهر المتخلل بين الدمين.
المسألة الرابعة: تحديد سن اليأس.
المطلب الخامس: كيفية تطهير الخف ونحوه.
المبحث الثاني: في مسائل الصلاة، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: وقت صلاة المغرب.
المطلب الثاني: السجود على الأنف دون الجبهة.
المطلب الثالث: وقت ابتداء التكبير وانتهائه في أيام عيد الأضحى.
المبحث الثالث: الاحتيال لإسقاط الزكاة.
المبحث الرابع: محرم قتل صيداً في يد محرم آخر.
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في المعاملات، وفيه عشرون مبحثًا:
المبحث الأول: في مسائل النكاح، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: غياب الولي الأقرب غيبة منقطعة.
المطلب الثاني: أثر النكاح الفاسد في تحديد المدة المعتبرة لإثبات النسب.
المطلب الثالث: السفر بالزوجة قبل إعطائها مهرها.
المبحث الثاني: الطلاق بغير العربية.
المبحث الثالث: ظهار الذمي.
المبحث الرابع: في مسائل الأيمان، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: قول: (كل حلال علي حرام).
المطلب الثاني: من حلف ألا يلبس حلياً فلبس عقد اللؤلؤ.
المطلب الثالث: من حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن.
المبحث الخامس: في مسائل النفقة، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: وقت وجوب النفقة للزوجة وقدرها.
المطلب الثاني: نفقة الزوجة إذا حُبست في دين.
المطلب الثالث: نفقة الزوجة إذا حُبست في سفرها مع محرم لأداء الحج.
المطلب الرابع: حد اليسار في النفقة.
المبحث السادس: في مسائل الإجارة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الإجارة على الطاعات.
المطلب الثاني: اختلاف المؤجر والمستأجر في أجرة العمل.
المبحث السابع: إسقاط حق الشفعة بالاحتيال وبتأخير الخصومة والمحاكمة.
المبحث الثامن: تذكية الصيد إذا أدركه المرسل حيّاً.
المبحث التاسع: في مسائل البيوع، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ما يُعرَض بالأنموذج رؤيةُ بعضِه كرؤية كله.
المطلب الثاني: الرجوع بنقصان العيب في الطعام بعد أكله.
المطلب الثالث: الربا، وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً.
المسألة الثانية: بيع الخبز بالحنطة والدقيق نسيئةً.
المسألة الثالثة: بيع الكرباس بالقطن.
المسألة الرابعة: استقراض الخبز وزنًا وعددًا.
المطلب الرابع: السلم في الخبز.
المبحث العاشر: ثبوت الوكالة بالقبض بثبوت الوكالة بالخصومة والتقاضي.
المبحث الحادي عشر: في مسائل المزارعة والمساقاة، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حكم المزارعة.
المطلب الثاني: اشتراط الأعمال في المزارعة التي ليست منها.
المطلب الثالث: حكم المساقاة.
المبحث الثاني عشر: وقف العقار والمنقول.
المبحث الثالث عشر: في مسائل الدعوى والشهادة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحقوق التي يجوز فيها اليمين، والحقوق التي لا يجوز فيها.
المطلب الثاني: الاقتصار على ظاهر العدالة في الشاهد المسلم.
المبحث الرابع عشر: في مسائل القضاء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحقوق التي يُقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي.
المطلب الثاني: إذا قضى القاضي في المجتهَد فيه مخالفاً لرأيه.
المبحث الخامس عشر: في مسائل القسمة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: كيفية قسمة البناء الذي له سفل وعلو.
المطلب الثاني: التعارض بين مصالح الجيران.
المبحث السادس عشر: ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل.
المبحث السابع عشر: في مسائل الضمان، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: ضمان الإتلاف.
المطلب الثاني: ضمان الساعي بغير حق.
المبحث الثامن عشر: في مسائل الحجر، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تحديد سن البلوغ وعلاماته.
المطلب الثاني: بيع القاضي عروض المدين وعقاره.
المبحث التاسع عشر: كيفيّة تقدير حكومة العدل.
المبحث العشرون: مقدار ما يوقف للحمل من الميراث.
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العقوبات، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الحد المتقادم.
المبحث الثاني: أثر المسافة في حد قطاع الطريق.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
الفهارس، وهي:
-فهرس الآيات.
- فهرس الأحاديث.
- فهرس الآثار.
- فهرس الأعلام.
- فهرس المصادر والمراجع.
- فهرس الموضوعات.
وأخيرا فأحمد الله وأشكره على ما أعان ويسر وسدد، ثم أثني الشكر لكل من نصح وساند وعاون، كما أشكر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ممثلة بكلية الشريعة، كما أخص بالشكر المشرف على هذا البحث الأستاذ الدكتور/ عبد الله بن عبد الواحد الخميس -حفظه الله- على ما بذل من جهد ووقت كبيرين في الإشراف والتوجيه والإفادة، سائلا الله أن يجزيه عني خير الجزاء في الدينا والآخرة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد: التعريف بمفردات عنوان البحث،
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: نبذة في تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره.
المبحث الثاني: مقدمة في المذهب الحنفي، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: طبقات علماء المذهب الحنفي.
المطلب الثاني: طبقات الكتب والمسائل في المذهب الحنفي.
المطلب الثالث: مصطلحات المذهب الحنفي.
المطلب الرابع: قواعد الترجيح في المذهب الحنفي.
المبحث الثالث: المراد بالألفاظ الأساسية التي تضمنها عنوان البحث، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المراد بالمتأخرين في المذهب الحنفي، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: طبقة المتأخرين، تعريفها، نوعها، خصائصها وميزاتها.
المسألة الثانية: قوة المذهب والقول فيه في فترة المتأخرين.
المطلب الثاني: المراد بقولهم: (عليه الفتوى) في المذهب الحنفي، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: مصطلح (عليه الفتوى)، تعريفه، نوعه، معناه، وأهميته ومكانته.
المسألة الثانية: مصطلحات مشابهة له في اللفظ والقوة.
المسألة الثالثة: دراسة المصطلح من حيث أول من أطلقه وشيوعه في المذهب.
التمهيد
المبحث الأول: نبذة في تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره
تعريف الفقه لغةً واصطلاحًا:
قبل الدخول في الكلام عن الفقه وتاريخه وأدواره يحسن بنا تعريفه لغة واصطلاحاً حتى يتضح المراد منه.
تعريف الفقه لغةً:
تأتي كلمة الفقه في اللغة بمعنى العلم والنظر والتفطُّن فيما غمض، إذا ضُم عين الفعل أي فَقُه يَفْقُه إذا صار فقيهاً عالماً، وبمعنى مطلق الفهم إذا كُسر عينه أي فَقِه يَفْقَه بمعنى فهِم شيئًا ما
(1)
. وقيل: إنه لا فرق بينهما
(2)
، وكل عالم بشيء فهو فقيه
(3)
.
ثم خُص به علم الشريعة
(4)
وعلم الفروع منها خاصة
(5)
، وحقيقته الشَّقّ وَالفَتْحُ
(6)
، فكأن الفقه في مرحلة التعلّم لا يكون إلا بالشَّقّ (الذي يأتي بمعنى المشقّة والإظهار والطلوع)
(7)
والفتح (لما استُغلِق منه)
(8)
، وفي مرحلة التعليم يمكن أن يقال: إن الفقيه من يشتق الكلام ويفتح به على الآخرين.
(1)
كتاب العين، 3/ 370، الصحاح، 6/ 2243، تاج العروس، 36/ 456، غريب الحديث للحربي، 2/ 736، النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/ 465،
(2)
جمهرة اللغة، 2/ 968.
(3)
تهذيب اللغة، 5/ 263.
(4)
الصحاح، 6/ 2243.
(5)
مقاييس اللغة، 4/ 442.
(6)
لسان العرب، 13/ 522، النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/ 465.
(7)
لسان العرب، 10/ 181.
(8)
مقاييس اللغة، 4/ 469.
تعريف الفقه اصطلاحاً
اتخذ الفقهاء –رحمهم الله تعالى- مسارَين لتعريف الفقه بعد استقلاله عن غيره من العلوم الشرعية
(1)
:
المسار الأول: ذهب أصحابه إلى أن الفقه حفظ مجموعة من مسائل الأحكام الشرعية العملية الواردة في الوحيَيْن، وما يُستنبط منهما، سواء كان قد حفظها بأدلتها أو لا
(2)
.
والمسار الثاني: الذي وافق أصحابه قول الأصوليين في تعريف الفقه، فقالوا: إن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية
(3)
.
شرح التعريف:
(العلم): معرفة المعلوم على ما هو به
(4)
، وضده الجهل بأنواعه.
(الأحكام): الحكم عند الفقهاء هو أثر خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً، فالحكم هو الأثر والنتيجة مثل الوجوب والاستحباب ونحوه، وليس الخطاب نفسه
(5)
.
(الشرعية): المتلقاة من الشرع ومأخوذة منه.
(1)
وما قبل استقلاله عرّف بتعريفات شاملة عامة مثل ما نُسب إلى أبي حنيفة –رحمه الله تعالى- من تعريف الفقه بأنه (معرفة النفس ما لها وما عليها)، وأضاف بعضهم كلمة (عملاً) حتى يُخرج مسائل العقيدة والأخلاق، (ينظر: التوضيح شرح التنقيح، ص: 13، الكافي شرح البزدوي، ص: 1/ 144)، وعلم العقيدة كان يسمى بالفقه الأكبر.
(2)
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، 1/ 5، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، 1/ 7، رد المحتار على الدر المختار، 1/ 37، 6/ 690، الدر الثمين والمورد المعين، ص:110.
(3)
فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب، ص: 22، المبدع في شرح المقنع، 1/ 17، البحر المحيط في أصول الفقه، 1/ 34 - 35، إرشاد الفحول، 1/ 17، نهاية السول شرح منهاج الوصول، ص: 11، الفقه الإسلامي وأدلته، 1/ 30.
(4)
العدة في أصول الفقه، 1/ 76.
(5)
الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، 1/ 286.
(العملية): المنسوبة إلى العمل، بأن يكون المحكوم عليه عملاً من أعمال المكلف غالباً، والمحكوم به حكم شرعي، مثل الزكاة واجبة.
(المكتسب): صفة للعلم، ومعناه المستنبط بالنظر والاجتهاد
(1)
.
(من أدلتها التفصيلية): ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المحتج بها، والإجماع والقياس
(2)
، وترتيبها الزمني يختلف عن ترتيبها الاعتباري.
وهذا التعريف من أجمع التعريفات وأمنعها وأرجحها عند كثير من العلماء، وهو المراد هنا.
(3)
محترزات التعريف:
- احترز بعبارة "العلم بالأحكام" عن العلم بالذوات والصفات الحقيقية
(4)
.
- احترز بلفظ "الشرعية" عن الأحكام العقلية مثل الواحد نصف الاثنين
(5)
، وعن الأحكام الحسية
(6)
مثل النار تحرق.
- احترز بلفظ "العملية" عن الأحكام العلمية مثل القياس حجة
(7)
، وعن الأحكام الاعتقادية كالعلم بأن الله يخلق ويرزق ويدبر
(8)
.
(1)
المدخل إلى علم الفقه، ص:24.
(2)
الفقه الإسلام وأدلته، 1/ 31.
(3)
تحرزاً من التعريفات التي تفيد بأن الفقه هو الحكم نفسه، (ينظر: المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا، 1/ 66)، ويمكن أن يُستدل لها بما ورد من أن حامل فقه (أي الحديث) إلى من هو أفقه منه، فسمى حمل الحديث فقهًا، والحديث هو ذات الحكم فصح أن يقال بهذا الاعتبار: إن الفقه هو الحكم، لكن بالنظر إلى الحديث. وأما التعريف المختار فالحديث فيه من الأدلة التي تستنبط منها الأحكام.
(4)
ينظر: المحصول، 1/ 79.
(5)
ينظر: المحصول، 1/ 79.
(6)
الإحكام في أصول الأحكام، 1/ 6.
(7)
ينظر: المحصول، 1/ 79.
(8)
المدخل إلى علم الفقه، ص:25.
- احترز بلفظ "المكتسب" عن علم الله تعالى وعلم جبريل والنبي فيما علمه بالوحي
(1)
.
- احترز بعبارة "من أدلتها التفصيلية" عن علم المقلد لأئمة الاجتهاد، فإن المقلد لا يستدل بدليل تفصيلي على كل مسألة، بل بدليل واحد يعم جميع أعماله
(2)
.
وعليه فإن النبي –صلى الله عليه وسلم لم يترك لأصحابه –رضي الله عنهم فقهاً مدوّناً، بل جملةً من الأصول والقواعد الكلية المبثوثة في القرآن الكريم والسنة، إضافة إلى كثير من المسائل الفرعية والأقضية التي بيّن حكمها التفصيلي.
وبعد اتساع رقعة دولة الإسلام، وتباعد أطرافها وشمولها لكثير من الشعوب المختلفة لاقى الفقهاء –رحمهم الله تعالى- عادات ومعاملات ووقائع لا عهد لهم بها، فاحتاجوا إلى تنظيمها، وإقامة القواعد لها، وإنزالها المنازل اللائقة بها من أحكام الشريعة ومقاصدها، فصار الفقه الإسلامي يتطور، وتتّسع آفاقه، وتكبر معالمه على أثر تلك المستجدات التي كانت تظهر بصورة تدريجية، ومن هنا بدأ تطور الفقه الإسلامي وظهور أدواره.
(3)
أدوار الفقه الإسلامي:
الفقه الإسلامي مر بأدوار مختلفة، وقد أثرت فيه عوامل عديدة، وتنوّعت مصادره تبعاً لاختلاف أطوار حياته، ولذلك اختلف أصحاب كتب تاريخ الفقه الإسلامي في عدها تبعاً لاختلاف وجهات نظرهم ومناهجهم في الكتابة.
(1)
الإحكام في أصول الأحكام، 1/ 6.
(2)
ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته، 1/ 31.
(3)
ينظر: نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي لعلي حسن عبد القادر، ص: 52 - 53، المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقاء، 1/ 159 - 161.
والواقع أنه لا توجد فواصل زمنية محددة لهذه الأدوار، بل هي نسبيّة
(1)
؛ لأن الفقه لم ينتقل من دور إلى آخر دفعةً واحدةً، بل وُجد بين بعض أدواره تشابه كبير
(2)
، ولأنها وُضعت بحسب المميّزات الغالبة والحالة العامّة التي تكون عليها تلك الحقبة من تاريخ الفقه.
فمن قسم أدوار الفقه إلى ثلاثة أو أربعة فقد راعى ما يستجد في النشاط العلمي، ومن قسمها إلى ستة أدوار أو أكثر ففي الغالب راعى الأحداث السياسية التي مرت بالأمة الإسلامية، والتقسيم الذي فضّلته لقربه من عنوان البحث هو الآتي:
• الدور الأول: دور التأسيس: ويمتد من البعثة النبوية إلى وفاة الرسول –صلى الله عليه وسلم سنة 11 للهجرة.
• الدور الثاني: عصر الصحابة والتابعين: ويمتد من وفاة الرسول –صلى الله عليه وسلم إلى الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة، ويشمل هذا الدور مرحلتين اثنتين:
o المرحلة الأولى: عصر كبار الصحابة، وتشمل فترة الخلفاء الراشدين.
o المرحلة الثانية: عصر صغار الصحابة وكبار التابعين.
• الدور الثالث: دور التأصيل والتفريع: ويمتد من حوالي الثلث الأول من القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث، ويشمل مرحلتين اثنتين:
o المرحلة الأولى: مرحلة التأصيل، وهي مرحلة ظهور أئمة المذاهب الفقهية.
o المرحلة الثانية: مرحلة التفريع، وهي مرحلة كتابة الفقه وتدوينه.
• الدور الرابع: دور التطبيق وهو عصر مجتهدي المسائل، ويمتد من حوالي منتصف القرن الثالث إلى منتصف القرن الخامس، ويشمل مرحلتين اثنتين:
(1)
لم أجد أحداً قال بعدم وجود المجتهدين بعد القرن الرابع الهجري رغم أن هذه المرحلة تكرر تسميتها في كتب تاريخ الفقه الإسلامي بمرحلة الاتّباع والتقليد إلا مقولة نصر فريد محمد واصل في كتابه المدخل الوسيط لدراسة الشريعة الإسلامية والفقه والتشريع (ص: 134)، فقد قال تعليقاً على دور الفقه في عصر التقليد:"فبعد ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ لم يقدم لنا التاريخ فقيهًا بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، بل كان جميع الفقهاء في هذه المرحلة مقلدين في الأصول وقواعد الاستنباط لمن سبقهم من الأئمة المجتهدين، وإن خالف بعضهم إمامه في بعض الفروع أحيانًا".
(2)
ينظر: المدخل في الفقه الإسلامي لمحمد شلبي، ص: 49 - 156.
o المرحلة الأولى: مرحلة النبضات الأخيرة لعصور الاجتهاد المطلق.
o المرحلة الثانية: غلب عليها جنوح الفقهاء إلى التقليد وغلق باب الاجتهاد.
• الدور الخامس: دور النقد والتنقيح والاختيار، ويمتد من منتصف القرن الخامس إلى منتصف القرن السابع الهجري تقريباً.
• الدور السادس: دور التفقّه أو توليد المسائل وابتكار الأنظار والأبحاث، وهو أطول الأدوار زمناً، ويمتد من بداية القرن الثامن تقريبًا إلى أوائل القرن الثالث عشر الهجري.
• الدور السابع: دور احتكاك الفقه بالقوانين الوضعية، وفي هذا الدور محاولات تجديد في كتابة الفقه وإعادة صياغته وإخراجه في ثوب جديد بما يتلاءم مع متطلبات العصر. ويمتد هذا الدور من أوائل القرن الثالث عشر إلى الآن
(1)
.
هذا ما يتعلق بأدوار الفقه الإسلامي عموماً، ولكن تبقى لكل مذهب خصائصه، وقد ذكر بعض الباحثين أن المذهب الحنفي خاصةً مر بثلاثة أدوار هي:
(1)
تاريخ الفقه الإسلامي لإلياس دردور، 1/ 18 - 19، والتقسيم له، ويوافق عليه إلا ما يتعلق بالدور الخامس، حيث يرى الباحث أنه يمتد إلى نهاية القرن السابع الهجري تقريباً لأسباب؛ منها:(1) عناية الفقهاء بالاختصار، وذلك بجمع المسائل الكثيرة في الألفاظ اليسيرة فيما يسمى بالمختصرات الفقهية، وقد استمر الوضع على هذه الحال إلى نهاية القرن السابع تقريباً، (2) النشاط العلمي يتأثر بالأوضاع السياسية والاجتماعية وتقلباتهما، حيث ينبعث وينتشر أيام الأمن والاستقرار، ويكاد يتوقف أيام الاضطرابات والفتن كما كان أيام سقوط بغداد، مما أدى إلى هجرة العلماء وطلبة العلم منها إلى الشام ومصر وغيرها (ينظر: أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار لمحمود بن سليمان الكفوي (ت 990 هـ) - (مخطوط)، ص: 8 - 10)، ولم يستقر الوضع حتى نهاية القرن السابع تقريباً، (3) ولأن زمن المجتهدين في المذهب لم ينتهِ بعد، بل استمر حتى موت النسفي (ت 710 هـ، وقيل: 701 هـ). (ينظر: الفوائد البهية في تراجم الحنفية معه التعليقات السنية، ص: 101.)
1.
دور النشوء والتكوين: وهو دور التأسيس ووضع قواعد المذهب وأصوله الفقهية على يد إمام المذهب وتلاميذه المقربين، ويبدأ من عهد الإمام أبي حنيفة –رحمه الله تعالى- إلى موت آخر الأربعة الكبار، وهو الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي
(1)
(ت 204 هـ) –رحمه الله تعالى-.
2.
دور التوسع والنمو والانتشار: ويبدأ من وفاة الحسن بن زياد اللؤلؤي –رحمه الله تعالى- إلى وفاة عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
(2)
(ت 701 أو 710 هـ).
3.
دور الاستقرار: من وفاة النسفي إلى يومنا هذا
(3)
.
(1)
الحسن بن زِيَاد الؤلؤي الْكُوفِي، تكَرر ذكره فى الْهِدَايَة وَالْخُلَاصَة، صَاحب الإِمَام أبي حنيفَة. كان يقظاً فطنا فقيهاً نبيهًا. قَالَ يحيى ين آدم: مَا رَأَيْت أفقه من الْحسن بن زِيَاد. ولى الْقَضَاء بِالْكُوفَةِ ثمَّ استعفى عَنهُ، وَكَانَ محبًّا للسّنة وأتباعها. مات سنة أربع ومائتين. ينظر: الجواهر المضية، 1/ 193، رقم ترجمة: 600، الفوائد البهية، ص:60.
(2)
عبد الله بن أحمد بن محمود أبو البركات، حافظ الدين النسفي نسبة إلى نَسَف بفتحتين من بلاد السغد فيما وراء النهر. كان إمامًا كاملًا عديم النظير في زمانه، رأسًا في الفقه والأصول، بارعًا في الحديث ومعانيه، تفقّه على شمس الأئمة محمد بن عبد الستار الكردرى وعلى حميد الدين الضرير وبدر الدين خواهر زاده، وله تصانيف معتبرة. اختلف في وفاته، قيل: 701 هـ، وقيل: 710 هـ. ينظر: الفوائد البهية، ص: 102، الطبقات السنية، ص:106.
(3)
دراسات في الفقه الإسلامي لعبد الوهاب إبراهيم، ص: 59 - 60، والتقسيم نتيجة لما ارتضاه الباحث من تقسيم طبقات علماء المذهب الحنفي حسب مكانتهم العلمية بدل وجودهم الزمني، فأدخل طبقة أو أكثر في دور من الأدوار المذكورة، ولذلك يُخالَف في الدور الثاني مثلاً؛ إذ أجمل وطوى فيه عدداً من التطورات التاريخية التي يمكن اعتبارها دوراً جديداً.
كذلك ربطَ الأدوار الزمنية المحضة بطبقات الفقهاء العلمية، وفيه نظر؛ فكم من المتأخر في الزمان سبق المتقدم وبلغ من العلم والفقه مبلغاً عجز عنه من سبقه، بخلاف ما لو ربطَ الأدوار الزمنية بطبقات الفقهاء الزمنية، إلا إذا لاحظنا في الأدوار الزمنية ملحظاً علمياً، وسيأتي الكلام عن طبقات فقهاء المذهب في المبحث الثاني من التمهيد.
ويظهر من ذلك أن الدور الأول يشمل المجتهدين الإمام والأربعة الكبار من تلاميذه، والدور الثاني يشمل المجتهدين في المذهب، ولذلك اختتمه بالنسفي (ت 710 هـ)، والثالث يشمل كل من جاء بعده؛ لأن النسفي عده بعضهم من المجتهدين في المذهب، بل قيل: إنه اختتم به، ولم يوجد بعده مجتهد في المذهب
(1)
.
والفائدة من ذكر هذه الأدوار تظهر في الربط بينها وبين طبقات علماء المذهب، وكذلك طبقات الكتب والمسائل والمصطلحات ربطاً زمنياً.
(1)
ينظر: الفوائد البهية في تراجم الحنفية معه التعليقات السنية، ص:101.
المبحث الثاني: مقدمة في المذهب الحنفي، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: طبقات علماء المذهب الحنفي.
المطلب الثاني: طبقات الكتب والمسائل في المذهب الحنفي.
المطلب الثالث: مصطلحات المذهب الحنفي.
المطلب الرابع: قواعد الترجيح في المذهب الحنفي.
المبحث الثاني: مقدمة في المذهب الحنفي:
المطلب الأول: طبقات علماء المذهب الحنفي:
إن فقهاء المذهب الحنفي كغيرهم من علماء الأمة ليسوا على درجة واحدة، وما عاشوا في فترة واحدة، والباحث عن طبقات فقهاء المذهب الحنفي يجد نفسه أمام عدة تقسيمات لها، صرح بها علماء الحنفية أو ألمحوا إليها في كتبهم، والفائدة من معرفة طبقات الفقهاء كبيرة، إذ ترجع إلى ترجيح الأقوال في المذهب، وتقديم بعضها على بعض
(1)
.
(1)
قال اللكنوي: "هذا أمر لا بد للمفتي من معرفته؛ لينزل الناس منازلهم، ويضعهم في مواضعهم؛ فإن من لا يعرف مراتب الفقهاء ودرجاتهم يقع في الخبط بتقديم من لا يستحق التقديم، وتأخير من يليق بالتقديم، وكم من عالم من علماء زماننا ومن قبلنا لم يعلم بطبقات فقهائنا، فرجّح أقوال من هو أدنى، وهجر تصريحات من هو أعلى، وكم من فاضل ممن عاصرنا ومن سبقنا اعتمد على جامعي الرطب واليابس، واستند بكاتبي المسائل الغريبة والروايات الضعيفة كالناعس". (ينظر: الجامع الصغير مع شرحه النافع الكبير للكنوي، ص: 7).
وقد خلت كتب المتقدمين من الحنفية –فيما اطلعت عليه- من تقسيم يحصر الفقهاء في طبقات، لكن ذكرتْ بعض صفات تشير إلى ذلك مثل المجتهد
(1)
، وقد يُطلقون لفظ المجتهد على غير فقيه
(2)
، وكذلك أهل الاجتهاد
(3)
، والمقلد
(4)
، وما إلى ذلك، وهي بوادر تقسيم طبقات الفقهاء حسب مكانتهم العلمية، وأول من ذكر تقسيمها على هذا النحو –فيما اطلعت عليه- أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا
(5)
(6)
.
(1)
المبسوط، 2/ 42.
(2)
المبسوط، 9/ 168.
(3)
المبسوط، 16/ 84.
(4)
بدائع الصنائع، 1/ 54.
(5)
أحمد بن سليمان الرومى الشهير بابن كمال باشا الإمام العالم، العلامة، الرحلة، الفهامة، أوحد أهل عصره، وجمال أهل مصره، من لم يخلف بعده مثله، ولم ترَ العيون من جمع كماله وفضله. كان -رحمه الله تعالى- إماماً بارعاً، في التفسير، والفقه، والحديث، والنحو، والتصريف، والمعاني، والبيان، والكلام، والمنطق، والأصول، وغير ذلك، بحيث إنه تفرد في إتقان كل علم من هذه العلوم، وقلما يوجد فن من الفنون إلا وله مصنف أو مصنفات. أخذ عن المولى لطفي الرومي، وخطيب زاده، ومعروف زاده، وغيرهم. ينظر: الفوائد البهية، ص: 21، الطبقات السنية، ص:107.
(6)
رسالة في طبقات الفقهاء (مخطوط) لابن كمال باشا، ص: 1 - 3، وقد قسمها إلى سبع طبقات:(1) طبقة المجتهدين في الشرع، (2) طبقة المجتهدين في المذهب، (3) طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، (4) طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، (5) طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، (6) طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف، وظاهر المذهب وظاهر الرواية والرواية النادرة، (7) طبقة المقلدين الذي لا يقدرون على ما ذُكر، ولا يفرقون بين الغث والسمين. انتهى. وغيره قسمها إلى خمس طبقات مثل الكفوي (ت 990 هـ) في أعلام الأخيار (مخطوط)، ص: 6 - 8، واللكنوي (ت 1304 هـ) قسمها إلى ست طبقات في الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص: 6 - 7.
والنوع الثاني تقسيم طبقات الفقهاء بحسب وجودهم الزمني، فيقال: سلف (متقدمون)، وخلف (متوسطون)، ومتأخرون، وأول من ذكر ذلك –فيما اطلعت عليه- القاضي الأحمد نكري
(1)
في دستوره
(2)
.
(1)
الشيخ الفاضل القاضي عبد النبي بن عبد الرسول بن أبي محمد بن عبد الوارث العثماني الأحمد نكري، أحد العلماء المشهورين، ولد ونشأ بأحمد نكر، وقرأ المختصرات على أبيه، وبعد وفاته على عبد الله الأحمد نكري
…
حتى صار أبدع أبناء العصر في النحو والمنطق، وولي القضاء بأحمد نكر، وكان يدرس ويفيد، أخذ عنه خلق كثير. ومن مصنفاته: جامع الغموض ومنبع الفيوض شرح بسيط على كافية ابن الحاجب، ودستور العلماء في اصطلاحات العلوم والفنون في أربعة مجلدات. ينظر: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، 6/ 759.
(2)
دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، 2/ 129، نقلاً عن الخيالات اللطيفة، ولم أقف عليها. قال:"و (السلف) عند الفقهاء هم من أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- (ت 150 هـ) إلى محمد بن الحسن (ت 189 هـ)، والخلف من محمد بن الحسن إلى شمس الأئمة الحلواني (ت 456 هـ)، والمتأخرون من شمس الأئمة الحلواني إلى مولانا حافظ الدين البخاري (ت 693 هـ). هكذا ذكره صاحب الخيالات اللطيفة في الهامش. " ويفهم من كلام بعضهم تقسيم طبقات الفقهاء إلى المتقدمين، وهم من أدرك الأئمة الثلاثة: أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمد بن الحسن، والمتأخرين، وهم من لم يدرك هؤلاء الثلاثة. (ينظر: مقدمة عمدة الرعاية، الدراسة الخامسة، ص: 82). ويظهر أن هذا التقسيم زمني محض لم يراعِ صاحبه الجانب العلمي فيه، وسبب ذلك قوله:"من أدرك الأئمة الثلاثة"، فالإدراك هنا زمني، والإدراك المجرد لا يعني المساواة بين المدرِك والمدرَك علمياً.
إضافة إلى أنه –في نظري- تقسيم آخر ينبغي عدم الخلط بينه وبين تقسيم الأحمد نكري؛ لأن كثيراً من الفقهاء يقصد بالمتأخرين من هو قبل الحلواني (العناية شرح الهداية، 2/ 369)، وبِجعله تقسيماً جديداً يزول الإشكال؛ لأن المتأخرين عندهم غير المتأخرين عند الأحمد نكري. ويدل على ذلك ما قاله ابن الحنائي: "فأيده بالفقهاء المجتهدين المتقدمين من السلف، فجددوا ديباجة مذهبه تجديداً، ومهدوا قواعد طريقه تمهيداً، فصوروا المسائل تصويرًا، وقرروا الدلائل تقريراً، ثم بالعلماء المحققين المتأخرين من الخلف، فبالغوا في شرح المعضلات
…
" إلى آخر كلامه في مقدمة طبقاته. (ينظر: طبقات الحنفية لابن الحنائي، ص: 143 - 144).
والنوع الثالث تقسيمهم على إحدى وعشرين طبقة، وذلك بذكر فقيه أو مجموعة من الفقهاء وجعلهم في طبقة، مع بيان بعض مناقبهم، ثم ذكْر مجموعة أخرى، وجعلها في طبقة أخرى مع بيان بعض مناقبهم، وهكذا
(1)
.
كل هذه التقسيمات لم تسلم من النقد والمآخذ، فالتقسيم الأول انتُقد من حيث انطباقه على الأفراد المدرجين في كل طبقة أو عدم انطباقه
(2)
، وإن كان مقبولاً في الجملة من حيث هو كقاعدة عامة.
والثاني لم يغطِّ التطور الذي أعقب الإمام حافظ الدين البخاري
(3)
ومن جاء بعده من علماء المذهب.
ويمكن أن يجاب عما أُخذ على هذا الدور بما يأتي:
(1)
طبقات الفقهاء لابن الحنائي، ص: 160 وما بعدها، وقد بدأ ببعض مناقب الإمام أبي حنيفة، ثم ثنَّى بذكر الطبقة الأولى وهي طبقة الإمام أبي يوسف وذكر بعض مناقبه، ثم ثلَّث بمحمد بن الحسن الشيباني إلى أن وصل إلى الطبقة الحادية والعشرين، وأدخل فيها ابن كمال باشا، ومن عادته قوله: "ثم انتقل الفقه إلى طبقة
…
" فيذكر الأسماء.
(2)
ناظورة الحق في فرضية العشاء وإن لم يغب الشفق، ص:192.
(3)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نصر الإِمَام حَافظ الدّين البُخَارِيّ أَبُو الْفضل، كَانَتْ وِلَادَته فى حُدُود سنة خمس عشرَة وست مائَة ببخارى. تفقه على شمس الأئمة مُحَمَّد بن عبد الستار الكردري، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْأَدَب وَسَائِر الْعُلُوم، وَسمع مِنْهُ وَمن أبي الْفضل عبد الله بن إِبْرَاهِيم المحبوبي، وسمع مِنْهُ أَبو الْعَلَاء البُخَارِيّ، وَذكره فى مُعْجم شُيُوخه، وَقَالَ: توفّي ببخارى فى النّصْف الثَّانِي من شعْبَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وست مائَة، وَدفن بكلاباذ عِنْد وَالِده جوَار الإِمَام أبي بكر بن طرخان. قَالَ وَكَانَ إِمَامًا عَالما ربانيًا صمدانيًا زاهدًا عابدًا مفتيًا مدرسًا نحريرًا فَقِيهًا قَاضِيًا محققًا مدققًا مُحدثًا جَامعًا لأنواع الْعُلُوم، رَحمَه الله تَعَالَى. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 121 - 122، رقم ترجمة: 375، الفوائد البهية، ص:199.
- أن صاحب التقسيم نظر إلى حال النشاط العلمي إلى نهاية القرن السابع فعلّقه به كما فعل ذلك من كتب عن أدوار الفقه عمومًا وفي الفقه الحنفي خصوصًا، ولو علقه بموت النسفي (ت 710 هـ) –آخر المجتهدين في المذهب- لكان أضبط في نظر الباحث إذا نظرنا إلى التقسيم بأنه تفصيل لفترات زمنية اتصفت بوجود علماء ذوي صفات لا توجد إلا فيهم وفي هذه الفترة
(1)
،
- ومنها أن تضاف طبقة أخرى تسمى ب (ما بعد المتأخرين) إذا نظرنا إلى التقسيم بأنه تفصيل لفترات زمنية مجردة لا علاقة لها بصفات الفقهاء، وهو أظهر عندي؛ لعدم وضوح أسباب علمية لتحديد الفواصل بين طبقة وطبقة.
والثالث لم يُلتفت إليه كثيرًا؛ لأنه مجرد سرد أسماء "المشاهير من الأئمة الذين نقلوا علم الشريعة ونشروه بين الأمة الأقدم فالأقدم".
(2)
وأنسب هذه التقسيمات التقسيم الثاني مع مراعاة الأجوبة عن الإشكال الوارد فيه بحيث تنتهي فترة المتأخرين بموت النسفي، وما بعدها يطلق عليه فترة (ما بعد المتأخرين)، وتستمر إلى الوقت الحاضر.
(1)
وبعضهم صرح بذلك وقال: إن هذا التقسيم "يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقييم آراء المذهب، فطبقة السلف (أو المتقدمين) آراؤها أساس المذهب بلا جدال، وعلى ضوء آراء هذه الطبقة انبعثت اجتهادات وتخريجات طبقة الخلف". (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي، ص: 58). لكن الإشكال ليس في جعل طبقة السلف أو الخلف طبقة علمية بقدر ما هو إشكال في طبقة المتأخرين، وجعل هذه الطبقة من الطبقات الزمنية المحضة لا علاقة لها بالدرجات العلمية يزيل الإشكالات التي أثيرت حول هذا التقسيم.
(2)
ينظر: طبقات الحنفية لابن الحنائي، ص:139.
المطلب الثاني: طبقات الكتب والمسائل في المذهب الحنفي:
كما أن للفقهاء طبقات –كما سبق- فإن للمسائل أو الكتب التي اشتملت عليها ونقلتها طبقات، فيقدم الأعلى منزلة، ويعتمد عليه عند التعارض.
وأما المسائل الفرعية فمنها ما رُوي عن إمام المذهب وأصحابه، ومنها ما استنبطه من جاء بعدهم من الفقهاء؛ فمنها ما يرجح على غيره لأسباب ترجع إلى قوة الدليل أو علو المصدر أو مكانة القائل، ومنها ما هو مردود لعكس ذلك أو غيرها من الأسباب.
وفائدة معرفة طبقات المسائل ترجع إلى تحديد القول الراجح، وتقديم الأقوى على غيره.
وتقسيم المسائل الفرعية عند فقهاء الحنفية إلى ثلاث طبقات
(1)
تقسيم مشهور وشائع
(2)
، وخلاصته:
(1)
بعضهم قسمها إلى أربع طبقات كما فعل شاه ولي الله الدهلوي (عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، ص: 19)، وبعضهم إلى خمس (الجامع الصغير مع شرحه النافع الكبير، ص: 22 - 23)، وبعضهم ذكر قسمة شاملة وصلت إلى الثلاثة والعشرين طبقة (المذهب الحنفي، 1/ 215 - 217).
(2)
وأول من ذكرها –فيما اطلعت عليه- صاحب الطبقات السنية في تراجم الحنفية (ص: 42 - 46) نقلاً عن ابن الحنائي (ت 979 هـ) صاحب طبقات الحنفية، ولم أجدها في طبقاته، ولعله ذكرها في "رسالة في طبقات المسائل" التي نسبها إليه بروكلمان في كتابه: تاريخ الأدب العربي (نسخة مترجمة إلى الإنجليزية)، وذكر لها نسخاً مخطوطة في برلين برقم 4868، وليدن 1884، والفاتيكان: 2/ 1460/ 5. (ينظر: History of the Arabic written tradition، 2/ 506.)
ولم أجدها في النسخة المترجمة إلى العربية (طبعة دار المعارف من ستة أجزاء، وهي ناقصة)، وأفادني بعض الزملاء بوجود النسخة الأخرى طُبعت تحت إشراف الهيئة المصرية العامة للكتاب – ترجمة محمود فهمي حجازي – في عشر مجلدات، لكن لم أطلع عليها.
- الطبقة الأولى: مسائل الأصول، وتسمى ظاهر الرواية أيضاً، وهي مسائل رُويت عن أصحاب المذهب، وهم أبو حنيفة، وأبو يوسف
(1)
، ومحمد
(2)
–رحمهم الله تعالى-، ويقال لهم العلماء الثلاثة، وقد يلحق بهم زُفَر
(3)
، والحسن بن زياد، وغيرهما، ممن أخذ الفقه من أبي حنيفة –رحمه الله تعالى-، لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة أو قول بعضهم.
(1)
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم القَاضِي الْأنْصَارِيّ أَبُو يُوسُف
…
أَخذ الْفِقْه عَنْ الإِمَام وَهُوَ الْمُقدم من أَصْحَاب الإِمَام، وَولى الْقَضَاء لثَلَاثَة خلفاء الْمهْدي وَالْهَادِي والرشيد
…
رُوي عنه أنه قال: مَا قلت قولا خَالَفت فِيهِ أَبَا حنيفَة إِلَّا وَهُوَ قَول قَالَه ثمَّ رغب عَنهُ
…
وكان أبو يوسف هو المقدم من أصحاب الإمام، وأول من وضع الكتب على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل، ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض، وله الأمالي والنوادر. قَالَ أَحْمد وَابْن معِين وَابْن المدينى: ثِقَة مَاتَ بِبَغْدَاد يَوْم الْخَمِيس وَقت الظّهْر لخمس خلون من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَقيل لخمس لَيَالٍ خلون من ربيع الآخر سنة إِحْدَى أَوْ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 221، رقم ترجمة: 693، الفوائد البهية، ص:225.
(2)
مُحَمَّد بن الْحسن بن فرقد أَبُو عبد الله الشَّيْبَانِيّ، الإِمَام صَاحب الإِمَام، تكَرر ذكره فى الْهِدَايَة وَالْخُلَاصَة. أَصله من دمشق من قَرْيَة حرسته، قدم أَبوهُ من الْعرَاق فولد مُحَمَّد بواسط، وَصَحب أَبَا حنيفَة، وَأخذ عَنهُ الْفِقْه، ثمَّ عَنْ أبي يُوسُف، وصنف الْكتب، وَنشر علم أبي حنيفَة، ويروي الحَدِيث عَنْ مَالك، وَدون الْمُوَطَّأ وَحدّث بِهِ عَنْ مَالك
…
وقال عنه الإمام الشافعي رحمه الله: كَانَ إِذا تكلم خُيِّل لَك أَنْ الْقُرْآن أنزل بلغته، قَالَ وَمَا رَأَيْت سمينًا أخف روحًا من مُحَمَّد بن الْحسن، وَمَا رَأَيْت أفْصح مِنْهُ، قَالَ: وَكَانَ يمْلَأ الْقلب وَالْعين
…
وَكَانَ أَيْضًا مقدمًا فى علم الْعَرَبيَّة والنحو والحساب والفطنة. ولى الْقَضَاء للرشيد بالرقة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة، ثمَّ عزل عَنْهَا، ثمَّ سَار مَعَه إِلَى الرّيّ، وولاه الْقَضَاء بهَا، فَتوفي بهَا سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَهُوَ ابْن ثَمَانٍ وَخمسين سنة فى الْيَوْم الذى مَاتَ فِيهِ الْكسَائي فَقَالَ الرشيد: دفنت الْفِقْه والعربية. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 42 - 44، رقم ترجمة: 139، الطبقات الكبرى (تهذيب)، ص:135.
(3)
زفر بن الهذيل بن قيس البصرى، كان أبو حنيفة يبجِّله ويعظِّمه ويقول هو أقيس أصحابي
…
كان ثقةً مأموناً، دخل البصرة في ميراث أخيه فتشبَّث به أهل البصرة فمنعوه الخروج منها، ومات بها سنة ثمان وخمسين ومائة ومولده سنة عشر بعد المائة. ينظر: الفوائد البهية، ص: 75، الجواهر المضية، 1/ 243، رقم ترجمة:622.
وهذه المسائل التي تسمى بظاهر الرواية والأصول هي ما وُجد في كتب محمد التي هي: المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الصغير
(1)
والسير الكبير
(2)
.
وإنما سميت بظاهر الرواية؛ لأنها رُويت عن محمد بروايات الثقات، فهي ثابتة عنه، إما متواترة أو مشهورة
(3)
.
- الطبقة الثانية: مسائل النوادر، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب المذكورين، لكن من غير الكتب المذكورة، إما في كتب أُخر لمحمد كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات والرقيات
(4)
.
(1)
ويرى بعضهم أن السير الصغير هو في الحقيقة كتاب من كتب الأصل، فتصير كتب ظاهر الرواية خمسة وليست ستة. (ينظر: ناظورة الحق بتحقيق أورخان أنجاقاز، عبد القادر بن سلجوق يليماز، ص: 167)
(2)
محمد بن الحسن جمع في كتبه ما رواه أبو يوسف وما رواه هو، فكُتُبُه على هذا الوجه تُمثِّل فقه أبي يوسف وروايته.
وكتب أبي يوسف لم ترقَ إلى درجة كتب محمد لا لطعن في ذاتها، بل لكون روايتها لم تصل إلى الصحة التي وصلتها كتب محمد بن الحسن، ومثلها في ذلك كتب غيره من أصحاب أبي حنيفة، ككتاب المجرد للحسن بن زياد.
وكتب محمد سواء كانت كتب ظاهر الرواية أم كتب غير ظاهر الرواية، هي عين المذهب وأساسه. (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي، ص: 70 - 71.)
ويرى بعض المعاصرين أن كل ما وُصف بالصغير من كتب محمد هو رواية عن أبي يوسف. (ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره آراؤه الفقهية، ص: 337.)
(3)
ويلحق بهذا القسم غير كتب ظاهر الرواية كتاب الآثار وكتاب الرد على أهل المدينة. (ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره – آراؤه الفقهية، ص: 234.)
(4)
"الرقيات جمع رقية نسبة إلى رقية بفتح الراء وتشديد القاف، وهي واسطة ديار ربيعة، وهي مدينة خراب كبيرة مورده على الجانب الغربي من الجانب الشمالي الشرقي
…
و الرقيات مسائل جمعها محمد حين كان قاضياً بالرقية المذكورة". ينظر: البناية شرح الهداية، 1/ 553.
وإنما قيل لها: غير ظاهر الرواية؛ لأنها لم ترد عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى، وإما في كتب غير كتب محمد، ككتاب المجرَّد للحسن بن زياد، وغيره، وإما بروايات مفردة مثل رواية ابن سماعة
(1)
، ومُعَلَّى بن منصور
(2)
، وغيرهما في مسائل معينة.
- الطبقة الثالثة: الفتاوى وتسمى بالواقعات أيضًا، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون، ولم يجدوا فيها روايةً عن أصحاب المذهب وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهلمّ جراًّ، وهم كثيرون.
وقد يتفق لهؤلاء أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت لهم بعدهم.
وأول كتاب جمع فتاواهم كتاب النوازل للفقيه أبي الليث السمرقندي
(3)
، وكذلك العيون له، فإنه جمع صور فتاوى جماعة من الفقهاء، ممن أدركهم بقوله:"سئل أبو القاسم في رجل كذا أو كذا، فقال: كذا وكذا"، و"سئل محمد بن سلمة عن رجل كذا وكذا، فقال: كذا وكذا"، وهكذا
(4)
.
وأما الكتب في المذهب الحنفي من حيث الاعتماد عليها واعتبار المسائل التي فيها يمكن تقسيمها بأكثر من اعتبار:
- الاعتبار الأول:
(1)
محمد بن سماعة بن عبد الله بن هلال بن وكيع أبو عبد الله التميمى، حدث عن الليث بن سعد وأبي يوسف ومحمد، وأخذ الفقه عنهما وعن الحسن بن زياد وكتب النوادر عن أبي يوسف ومحمد، وُلد سنة ثلاثين ومائة ومات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. ينظر: الفوائد البهية، ص: 170، الجواهر المضية، 2/ 58، رقم ترجمة:189.
(2)
معلى بن منصور أبو يحيى الرازي، روى عن أبي يوسف ومحمد الكتب والأمالي والنوادر، مات سنة إحدى عشرة بعد المائتين. ينظر: الفوائد البهية، ص: 215، الجواهر المضية، 2/ 177 - 178، رقم ترجمة:545.
(3)
نصر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم السَّمرقَنْدِي الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث، الْمَعْرُوف بِإِمَام الْهدى، تفقه على الْفَقِيه أبي جَعْفَر الهندواني، وَهُوَ الإِمَام الْكَبِير صَاحب الْأَقْوَال المفيدة والتصانيف الْمَشْهُورَة، توفّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَثَلَاث مائَة. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 196، رقم ترجمة: 610، الفوائد البهية، ص:220.
(4)
ينظر: الطبقات السنية في تراجم الحنفية، ص: 42 - 46، بتصرف واختصار.
تقسيمها من حيث الرواية –وقد سبق الكلام في تقسيم المسائل-، وذلك بأن يقال: كتب ظاهر الرواية، وكتب النوادر، وكتب الفتاوى والواقعات.
- الاعتبار الثاني:
تقسيمها من حيث تقديم بعضها على بعض في الاعتماد إلى:
o المتون
(1)
.
o الشروح
(2)
.
(1)
وهي المختصرات، اعتنى مؤلفوها بنقل المذهب وتمحيصه في الأغلب والأكثر فصارت معتمدة، إلا أن هناك متوناً معتمدة عند المتقدمين، ومتوناً معتمدة عند المتأخرين، التزم مصنفوها بذكر الراجح والمقبول والقوي. والمتون في الغالب ترجع إلى كتب ظاهر الرواية مباشرة أو بالنقل من كتب أخرى، وبعضها ترجع إلى كتب النوادر، ومن هنا اكتسبت قوتها فقُدمت على الشروح، والشروح تقدم على الفتاوى كما سيأتي. فالمتون المعتمدة عند المتقدمين هي متون كبار المشايخ وأجلة الفقهاء كالخصاف (ت 261 هـ)، والطحاوي (ت 321 هـ)، والحاكم (ت 334 هـ) والكرخي (ت 340 هـ)، والجصاص (ت 370 هـ) وغيرهم، فتُلحق بكتب الأصول وظواهر الروايات في صحتها وثقة رواتها. والمتون المعتمدة عند المتأخرين هي التي ذكرها ابن عابدين، وهي: الكتاب للقدوري (ت 428 هـ)، والبداية للمرغيناني (ت 593 هـ)، والوقاية لتاج الشريعة (ت 673 هـ)، والمختار للموصلي (ت 683 هـ)، والكنز للنسفي (ت 710 هـ)، والنقاية لصدر الشريعة (ت 747 هـ)، والملتقى للحلبي (ت 956 هـ). (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي، ص: 92، التعليقات السنية، ص: 107، شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي، ص: 31 - 32). وأضاف اللكنوي متناً ثامناً يعتمد عليه متأخرو الحنفية، وهو مجمع البحرين لابن الساعاتي (ت 694 هـ). (ينظر الجامع الصغير مع شرحه النافع الكبير، ص: 23). ويظهر أن المتون المعتمدة عند المتقدمين مبنية على ما في كتب ظاهر الرواية والترجيح بين آرائها، وأن المتون المعتمدة عند المتأخرين مبنية في مجملها على كتب ظاهر الرواية جمعاً واختصاراً أو ترجيحاً إضافة على احتوائها لآراء المشايخ الكبار وترجيحاتهم، فالنبع واحد، وإن اختلفت الروافد. (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي، ص: 96).
(2)
المقصود بها شروح المتون المعتمدة بوجه خاص، والشروح الأخرى بوجه عام، وما في المتون مقدم على ما في الشروح، وما في الشروح مقدم على ما في الفتاوى؛ لأن ما يورد في الشروح من المسائل إنما هو لاستئناس ما في المتون من الأصول، وكشف حاله غالباً، فيقيد المطلق، ويخص العام، ويبين المبهم وهكذا. (ينظر: رسالة في بيان الكتب التي يعول علها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد على ابن كمال باشا، ص: 71).
o الفتاوى
(1)
.
- الاعتبار الثالث:
تقسيمها من حيث مصدرها وبناء بعضها على بعض، وذلك على النحو الآتي:
o كتب الأصول أو ظاهر الرواية وكتب النوادر.
(1)
وكتب الفتاوى تعد من الدرجة الثالثة بعد كتب المتون والشروح، وما فيها مخلوط بآراء المتأخرين، وليس جميع ما فيها من أقوال صاحب المذهب، وليس لها سند يرفعها إلى قائلها، ولا أصحابها في درجة الأئمة الثلاثة في الفقه والعدالة، ولا في درجة أرباب المتون من حيث الورع والعدالة، ولا من حيث العلم والإتقان والحفظ والضبط، (ينظر: رسالة في بيان الكتب التي يعول علها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد على ابن كمال باشا، ص: 72). وإنما يستأنس بها إذا لم يوجد حكم في المتون أو في الشروح.
o الكتب التي جمعت واختصرت كتب ظاهر الرواية كلها أو بعضها، ومنها على سبيل المثال: الكافي
(1)
، ومختصر القدوري
(2)
(3)
، وبداية المبتدئ
(4)
، وتحفة الفقهاء
(5)
أو التي جمعت واختصرت كتب النوادر مثل المنتقى
(6)
.
o الكتب التي شرحت كتباً من الطبقة السابقة مثل المبسوط
(7)
، وبدائع الصنائع
(8)
، والهداية
(9)
، وهكذا.
وتقسيمها بالاعتبار الثاني هو المراد في هذا البحث.
(1)
للحاكم الشهيد (ت 334 هـ)، وقد جمع فيه كتب محمد بن الحسن الستة. وقيل: إنه خطأ، بل هو مختصر المبسوط أي الأصل فقط دون غيرها من الكتب الستة (أو الخمسة). (ينظر: ناظورة الحق، ص: 170). والقول قول المحققيْن، ودليلهما على ذلك قول السرخسي في مقدمة مبسوطه (1/ 3):"إلى أن رأى الحاكم الشهيد أبو الفضل محمد بن أحمد المروزي رحمه الله إعراضًا من بعض المتعلمين عن قراءة المبسوط لبسط في الألفاظ وتكرار في المسائل، فرأى الصواب في تأليف المختصر بذكر معاني كتب محمد بن الحسن-رحمه الله المبسوطة فيه، وحذف المكرر من مسائله؛ ترغيبًا للمقتبسين ونعم ما صنع".
(2)
أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن جَعْفَر بن حمدَان، الإِمَام الْمَشْهُور، أَبُو الْحسن بن أبي بكر، الْفَقِيه الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بالقدوري صَاحب الْمُخْتَصر الْمُبَارك، تكَرر ذكره فى الْهِدَايَة وَالْخُلَاصَة، مولده سنة اثنتين وَسِتِّينَ وَثَلَاث مائَة
…
وَمَات الْقَدُورِيّ فى يَوْم الْأَحَد الْخَامِس عشر من رَجَب سنة ثَمَانٍ وَعشْرين وَأَرْبع مائَة. ينظر: الجواهر المضية، 1/ 93، رقم الترجمة: 180، الفوائد البهية، ص:30.
(3)
ذكر فيه مؤلفه الراجح من ظاهر الرواية وتخريجات المشايخ. (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي - المذهب عند الحنفية، ص: 94، والمدخل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، ص: 425).
(4)
للمرغيناني (593 هـ)، وقد جمع بين القدوري والجامع الصغير. (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي – المذهب عند الحنفية، ص: 94).
(5)
للسمرقندي (ت 552 هـ)، وقد زاد فيه على مختصر القدوري ورتبه أحسن ترتيب.
(6)
للحاكم الشهيد (ت 334 هـ).
(7)
للسرخسي (ت 483 هـ).
(8)
للكاساني (ت 587 هـ).
(9)
للمرغيناني (ت 593 هـ)، ويقال: إنه شرح على كتابه بداية المبتدئ، لكن في الحقيقة هو شرح على القدوري والجامع الصغير.
المطلب الثالث: مصطلحات المذهب الحنفي:
لفقهاء المذهب الحنفي مصطلحات خاصة بهم ترد في كتبهم، ويقصدون بها معنى معيناً مثل مصطلحات خاصة بالكتب والمصنفات، أو مصطلحات خاصة بالأعلام والأئمة، أو مصطلحات خاصة بعلامات الفتوى والترجيح.
ومن هذه المصطلحات ما هو عام في كتب المذهب، ومنها ما هو خاص بكتاب معين.
فمن المصطلحات الخاصة بالكتب ويتكرر ذكرها في المصنفات بشكل عام ما تقدم عند الكلام عن طبقات الكتب مثل كتب ظاهر الرواية، وكتب النوادر، وكتب الفتاوى والواقعات.
ومن المصطلحات الخاصة بكتاب معين على سبيل المثال صنيع الموصلي في المختار
(1)
.
ومن المصطلحات الخاصة بالأعلام على سبيل المثال لا الحصر
(2)
:
- الأئمة الثلاثة أو أئمتنا الثلاثة: يراد بههم الإمام أبو حنيفة صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني.
- الصاحبان – أبو يوسف ومحمد.
- الشيخان – أبو حنيفة وأبو يوسف.
- الطرفان – أبو حنيفة ومحمد.
- شمس الأئمة – عند الإطلاق يراد به شمس الأئمة السَّرخسي
(3)
(4)
.
(1)
قال: "وجعلت لكل اسم من أسماء الفقهاء حرفًا يدل عليه من حروف الهجاء وهي: لأبي يوسف (س) ولمحمد (م) ولهما (سم) ولزفر (ز) وللشافعي (ف) ". (ينظر: الاختيار لتعليل المختار، 1/ 6).
(2)
ينظر: عمدة الرعاية، 1/ 84 - 85.
(3)
مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي سهل، أَبُو بكر السَّرخسِيّ، تكَرر ذكره فى الْهِدَايَة الإِمَام الْكَبِير شمس الْأَئِمَّة صَاحب الْمَبْسُوط وَغَيره. أحد الفحول الْأَئِمَّة الْكِبَار أَصْحَاب الْفُنُون. كَانَ إِمَامًا عَلامَة حجَّة متكلمًا فَقِيهًا أصوليًا مناظرًا. لزم الإِمَام شمس الْأَئِمَّة أَبَا مُحَمَّد عبد الْعَزِيز الْحلْوانِي حَتَّى تخرج بِهِ وَصَارَ أنظر أهل زَمَانه، وَأخذ في التصنيف وناظر الأقران فَظهر اسْمه وشاع خَبره، أملى الْمَبْسُوط نَحْو خسمة عشر مجلدًا وَهُوَ فى السجْن. مَاتَ فى حُدُود التسعين وَأَرْبع مائَة. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 28، رقم ترجمة: 85، الفوائد البهية، ص:158.
(4)
وفيما عداه يُذكر مقيداً كشمس الأئمة الحَلْواني، وشمس الأئمة الزَّرَنْجَري، وشمس الأئمة الكَرْدَري، وشمس الأئمة الأُوزْجَنْدي. ينظر: جامع المضمرات شرح مختصر القدوري (مخطوط)، ص:2.
والمصطلحات الخاصة بعلامات الفتوى والترجيح هي المصطلحات التي تُستعمل للدلالة على القول المختار في المذهب، ومنها على سبيل المثال: عليه الفتوى، وبه يفتى، وبه نأخذ، وعليه الاعتماد، وعليه عمل اليوم، وهو الصحيح، وهو الأصح، وهو الظاهر، وهو الأظهر، وهو المختار، وعليه فتوى مشايخنا، وهو الأشبه، وهو الأوجه إلخ
(1)
.
فإذا اقترن قول بمصطلح أو لفظ من هذه الألفاظ كان هو القول الراجح أو المفتى به.
وواضح أن بعض هذه الألفاظ أقوى من بعض في الدلالة على القول المفتى به أو الراجح، ومن ثم فيُقدم على غيره.
فلفظ الفتوى –الذي فيه حروف الفتوى الأصلية بأي صيغة عُبِّر بها- أقوى من لفظ الصحيح والأصح والأشبه والأحوط والأظهر، فإذا صُرِّح بمصطلح الفتوى في قول عُلِم أنه المأخوذ به.
ولفظ الأصح آكد من لفظ الصحيح، ولفظ الأحوط آكد من لفظ الاحتياط، ويقال ذلك في كل ما عُبِّر فيه بأفعل التفضيل
(2)
.
وقد تبين من ذلك أن مصطلح (عليه الفتوى) و (به يفتى) من أقوى المصطلحات دلالة على القول الراجح أو المفتى به إذا اقترن بها
(3)
.
(1)
جامع المضمرات شرح مختصر القدوري (مخطوط)، ص:2.
(2)
ينظر: رد المحتار، 1/ 73، نقلاً عن الفتاوى الخيرية، 2/ 230 - 231، وكلاهما ينقلان من جامع المضمرات، ص:2.
(3)
مثاله: " والأصل عند محمد - رحمه الله تعالى - وهو الأصح وعليه الفتوى أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان دون ثلاثة أيام لا يصير فاصلاً". (المبسوط، 3/ 156)
المطلب الرابع: قواعد الترجيح في المذهب الحنفي:
يقصد بالترجيح هنا بيان ما يعتمد عليه من أقوال أئمة المذهب عند التعارض أو ما يعتمد عليه من ورواياتهم المختلفة
(1)
.
إذا ورد عن الإمام أو أحد من أصحابه قولان في مسألة، وصدر كل قول في وقت مختلف
(2)
وعُلم المتأخر فهو معتبر، والآخر متروك، وإذا لم يُعلم المتأخر نُقل القولان معاً
(3)
، وعند ذلك يصار إلى الترجيح بينهما وفقه القواعد الاستقرائية الأغلبية المبثوثة في بطون الكتب المختلفة، وكثيراً ما تتأثر بأمور منها: وصف المرجِّح بالاجتهاد أو عدمه، واختلاف عصر وزمان، والضرورة.
وقواعد الترجيح في المذهب الحنفي يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع:
- النوع الأول: قواعد الترجيح المتعلقة بطبقات الكتب والمسائل، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك
(4)
، وتبين أن رواية الأصول تُقدم على رواية النوادر، وأن المتون تُقدم على الشروح، وهذا في الحقيقة قاعدة الترجيح بين القولين المختلفين.
(1)
ويفهم منه أن اختلاف الروايتين ليس من باب اختلاف القولين؛ لأن القولين نص المجتهد عليها، بخلاف الروايتين، فالاختلاف في القولين من جهة المنقول عنه لا الناقل، والاختلاف في الروايتين من جهة الناقل لا المنقول عنه. (ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 16، نقلاً عن التقرير والتحبير، 3/ 334).
قلت: وهذا فيه إشكال؛ لأن الرواية عن الإمام في الحقيقة رواية قوله، واختلاف الروايتين عنه من هذه الحيثية اختلاف القولين -إلا إذا كان هناك نصان ذكرهما أحد الأئمة في كتابه أو أكثر من كتاب يفيد كل واحد منهما قولاً مختلفاً اختلاف التضاد لا اختلاف التنوع-، وعليه يمكن أن يقال بأن كل رواية قول، وليس كل قول رواية. وتعدد الراوي والمروي عنه أو اتحاد أحدهما وتعدد الآخر لا أثر له هنا من حيث إطلاق لفظ الرواية أو القول ما دام لا توجد نصوص منقولة من كتاب الإمام ألفه بنفسه أو أملاه وأقره، وروايات محمد وأبي يوسف وغيرهما عن أبي حنيفة تُعتبر نصوصًا في حقهما؛ لأنهما مجتهدان مستقلان، وإثباتهم لتلك الروايات روايةٌ عن الإمام وقولُ الإمام من جهة وقولهُم هم من جهة أخرى.
(2)
قلت: لا يتصور صدور قولين مختلفين اختلاف التضاد في وقت واحد من إمام واحد إلا بالتكلف.
(3)
شرح عقود رسم المفتي، ص:16.
(4)
ص: 33 - 39.
فإذا كانت المسألة في غير ظاهر الرواية، ووافقت رواية الأصول، واتفق عليها المتأخرون يُعمل بها، وإن لم يوجد لها رواية عن أئمة المذهب، وإن اختلفوا
(1)
فإن المفتي يجتهد ويفتي بما هو صواب عنده،
(2)
وإن لم يكن مجتهداً فيقدم قول الأكثر مما اعتمد عليه الكبار المعروفون
(3)
. قلت: ويفهم من ذلك أنه لا يُعمل بها إن خالفت رواية الأصول.
وإذا كانت المسألة في كتب ظاهر الرواية أو في المتون فقط، أو في كتب النوادر أو في الشروح فقط، فحينئذ يصار إلى بقية قواعد الترجيح.
- النوع الثاني: قواعد الترجيح المتعلقة بالأشخاص، وفيها شيء من التفصيل:
o إذا اتفق أئمة المذهب على قول فإن على المفتي أن يفتي بقولهم، ولا يلتفت إلى من خالفهم
(4)
.
o وإن اختلف أئمة المذهب على أكثر من قول:
• فإن كان مع أبي حنيفة أحد صاحبيه فإنه يؤخذ بقولهما، إلا لضرورة أو موجب.
• وإذا خالف أبا حنيفة صاحباه، فإن كان اختلافهم اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان؛ فإن المفتي يأخذ بقول صاحبيه، إلا لضرورة أو موجب، وفيما سوى ذلك يتخير ويعمل بما أفضى إليه رأيه، وقيل: لا يتخير إلا المفتي المجتهِد وإلا فيقدم قول الإمام مطلقاً، وقيل: يؤخذ بقول أبي حنيفة مطلقاً؛ لأنه رأى الصحابة، وزاحم التابعين في الفتوى، فقوله أقوى
(5)
. وكذا لو افترضنا انعدام المجتهدين أو المفتين القادرين على الترجيح بالنظر إلى الدليل.
(1)
ولم يوجد لها رواية عن أئمة المذهب أيضًا.
(2)
ينظر: فتاوى قاضيخان، 1/ 9.
(3)
كأبي حفص أحمد بن حفص، وأبي جعفر محمد بن عبيد الله البلخي الهندواني الملقب بأبي حنيفة الصغير، وأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي، والطحاوي وغيرهم. ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص:28.
(4)
ينظر: فتاوى قاضيخان، 1/ 9، شرح عقود رسم المفتي، ص:21.
(5)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص:21.
• وإن كان لكل واحد منهما قول، فيقدم قول أبي حنيفة، وإن لم يوجد له قول قُدّم قول أبي يوسف، ثم قول محمد، ويقدم من بعدهما قول زفر والحسن بن زياد اللؤلؤي؛ لأنهما في مرتبة واحدة. وهذا الترتيب يعمل به المفتي غير المجتهد، وأما المجتهد فيتخير بما ترجح عنده وأفضى إليه اجتهاده
(1)
.
- النوع الثالث: قواعد الترجيح المتعلقة بالموضوعات، وهي ناتجة -في الغالب- عن تطبيق القواعد السابقة، وباستقراء الآراء الراجحة من قبل العلماء تبين ما يلي:
o يقدم قول الإمام أبي حنيفة في مسائل العبادات مطلقاً ما لم يكن عنه رواية ثانية كقول المخالِف
(2)
.
مثال: التيمم عند عدم وجود غير نبيذ التمر، فإن أبا حنيفة قال بأن يتوضأ به ولا يتيمم، وقال أبو يوسف: يتيمم ولا يتوضأ، وهذا رواية عن أبي حنيفة، وقال محمد: يتوضأ به ويتيمم، وقد صحح هذا القول عملاً بالآية
(3)
.
o يقدم قول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء؛ لزيادة تجربته فيه، والشهادات
(4)
.
o يقدم قول محمد في جميع مسائل توريث ذوي الأرحام
(5)
.
o يقدم قول زفر في سبع عشرة مسألة
(6)
.
هذه القواعد خاصة ببعض أبواب الفقه، ويُستعان بها عند الترجيح، وأما بقية أبواب الفقه فيرجع إلى القواعد الأخرى.
(1)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 21 - 22.
(2)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 30، رد المحتار، 1/ 71.
(3)
ينظر: الهداية، 1/ 27. قلت: والتصحيح حاصل أيضًا باجتماع الإمام مع أحد صاحبيه على قول، فإنه يؤخذ بقولهما كما سبق في الصفحة السابقة.
(4)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 30، رد المحتار، 1/ 71.
(5)
المرجع السابق.
(6)
المرجع السابق.
- النوع الرابع: قواعد الترجيح المتعلقة بالمصطلحات، وقد سبقت الإشارة إليها أيضًا عند الكلام عن مصطلحات المذهب الحنفي
(1)
، ومنها عبارات وألفاظ تدل على القول الراجح.
فإذا ورد قولان أحدهما مرجَّح فهو معتبر بخلاف الثاني، لكن إذا ذُيِّل كل قول بلفظ من ألفاظ الترجيح فلا بد من الرجوع إلى ما يُبيِّن مرتبة تلك الألفاظ؛ لأنها ليست على درجة واحدة، فيقدم الآكد.
فعلى سبيل المثال:
o إذا صُحِّح كل من القولين بلفظ واحد مثل الصحيح أو عليه الفتوى تخير المفتي إذا لم يجد مرجِّحاً آخر.
o إذا صُحِّح كل من القولين بلفظين مختلفين مثل عليه الفتوى والصحيح، فإن التصحيح بلفظ الفتوى مقدم على غيره؛ لأنه لا يُفتى إلا بما هو صحيح، وليس كل صحيح يُفتى به؛ لكون غيره أوفق لتغير الزمان وللضرورة ونحو ذلك.
o إذا صُحِّح كل من القولين بلفظين مختلفين وأحدهما يفيد الحصر مثل: عليه الفتوى، وبه يفتى، فالأول يفيد الأصحية، ومعنى الثاني أن الفتوى لا تكون إلا بذلك
(2)
.
(1)
ص: 40 - 42.
(2)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 33 - 34.
المبحث الثالث: المراد بالألفاظ الأساسية التي تضمنها عنوان البحث، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المراد بالمتأخرين في المذهب الحنفي، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: طبقة المتأخرين، تعريفها، نوعها، خصائصها وميزاتها.
المسألة الثانية: قوة المذهب والقول فيه في فترة المتأخرين.
المطلب الثاني: المراد بقولهم: (عليه الفتوى) في المذهب الحنفي، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: مصطلح (عليه الفتوى)، تعريفه، نوعه، معناه، وأهميته ومكانته.
المسألة الثانية: مصطلحات مشابهة له في اللفظ والقوة.
المسألة الثالثة: دراسة المصطلح من حيث أول من أطلقه وشيوعه في المذهب.
المبحث الثالث: المراد بالألفاظ الأساسية التي تضمنها عنوان البحث
المطلب الأول: المراد بالمتأخرين في المذهب الحنفي:
المسألة الأولى: طبقة المتأخرين، تعريفها، نوعها، خصائصها وميزاتها.
المسألة الثانية: قوة المذهب والقول فيه في فترة المتأخرين.
المسألة الأولى: طبقة المتأخرين، تعريفها، نوعها، خصائصها وميزاتها:
قد سبقت الإشارة إلى هذه الطبقة عند الكلام عن طبقات الفقهاء في المذهب الحنفي
(1)
، ولعلي أعيد بعض النقاط بشيء من الاختصار.
تعريف طبقة المتأخرين:
هي طبقة زمنية لا علمية تشمل جميع فقهاء المذهب الحنفي الذين عاشوا من بعد موت شمس الأئمة الحلواني
(2)
(ت 456 هـ) إلى موت حافظ الدين البخاري
(3)
(ت 693 هـ)
(4)
.
نوعها: طبقات الفقهاء يمكن تقسيمها باعتبارات معينة، فمن ذلك تقسيمها بناءً على درجات الفقهاء العلمية، ومنها تقسيمها بناءً على وجود الفقهاء الزمني، وطبقة المتأخرين من هذا نوع من أنواع التقسيم.
ومن خصائصها
(5)
وميزاتها:
- طولها الزمني، فقد امتدت ما يزيد على قرنين والنصف من الزمن.
(1)
ص: 28 - 32.
(2)
عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح شمس الأئمة الحلواني البخاري. تفقه على الحسين أبي علي النسفي عن أبي بكر محمد بن الفضل عن عبد الله السبذموني عن أبي حفص الصغير عن أبيه عن محمد، وروى شرح معاني الآثار عن أبي بكر محمد بن عمر بن حمدان عن أبي إبراهيم محمد بن سعيد اليزدي عن الطحاوي، وتفقه عليه شمس الأئمة بكر الزرنجري، وأبوه محمد على وشمس الأئمة محمد السرخسي، ومن تصانيفه المبسوط. مات ببخارى في شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة. ينظر: الفوائد البهية، ص: 96، الجواهر المضية، 1/ 318، رقم ترجمة:847.
(3)
سبقت ترجمته، ص:31.
(4)
دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، 2/ 129
(5)
تاريخ الفقه الإسلامي لإلياس دردور، 2/ 771 - 887، باختصار.
- حركة تدوين الفقه سارت في اتجاهين اثنين: الأول: تركيز الجهود على دراسة المصنفات القديمة شرحاً وتعليقاً واختصاراً ونظماً أو جمعاً وترتيباً، والثاني: دراسة الفقه على مبدأ النقد والتنقيح والاختيار.
- فترة وضع المصطلحات المتعلقة بعلامات الإفتاء والترجيح.
- فترة انتشار المختصرات الفقهية، والمتون المعتمدة التي أُلفت فيها حقيقة
(1)
أو حكماً
(2)
.
المسألة الثانية: قوة المذهب والقول فيه في فترة المتأخرين:
بناءً على ما سبق من تحديد فترة المتأخرين وذكر بعض خصائصها وميزاتها تبين أنها فترة حافلة بالعلم والعلماء والإبداع وتنظيم العلم وخدمته؛ ففيها ألفت المتون المعتمدة الموضوعة لنقل ظاهر الرواية، وكذلك الشروح عليها.
ويلاحظ فيها تركيز العلماء على أقوال أئمة المذهب المجردة عن الدليل، فحرروها واستدلوا عليها، وبينوا أصول الأئمة، وتوسعوا في المناقشات والرد على المخالف.
وفيها ظهر نوع جديد من النشاط العلمي وهو النقد والتنقيح، ومن ثم اختيار القول الراجح بوضع الألفاظ والمصطلحات الدالة عليه مثل عليه الفتوى.
فما صُحِّح بناءً عليها يعتبر قولًا راجحًا في المذهب.
وكل ذلك أدى إلى تقوية المذهب وتنظيمه، فهي فترة تخريج الأصول، ورجحان القول، والإبداع العلمي، وتنظيم المذهب ومسائله.
(1)
مثل البداية للمرغيناني (593 هـ) والمختار للموصلي (ت 683 هـ) إلخ.
(2)
مثل مختصر القدوري (ت 428 هـ)؛ لأن المرغيناني (ت 593 هـ) في متن البداية جمع فيه بين مختصر القدوري والجامع الصغير، وهذا لما قبل بداية فترة المتأخرين، وأما بعد انتهائها فمثل النقاية لصدر الشريعة (ت 747 هـ)؛ لأنه اختصار للوقاية لتاج الشريعة (ت 673 هـ).
ومثل الملتقى للحلبي (ت 956 هـ) لأنه جمع فيه مسائل القدوري والمختار والكنز والوقاية.
ومثل الكنز للنسفي (ت 710 هـ أو 701 هـ) فإنه من المحتمل أنه ألف الكنز قبل ذلك الوقت.
المطلب الثاني: المراد بقولهم: (عليه الفتوى) في المذهب الحنفي
المسألة الأولى: مصطلح (عليه الفتوى)، تعريفه، نوعه، معناه، وأهميته ومكانته.
المسألة الثانية: مصطلحات مشابهة له في اللفظ والقوة.
المسألة الثالثة: دراسة المصطلح من حيث أول من أطلقه، وشيوعه في المذهب.
المسألة الأولى: مصطلح (عليه الفتوى)، تعريفه، نوعه، معناه، وأهميته ومكانته:
قد سبقت الإشارة إلى مصطلح (عليه الفتوى) عند الكلام عن مصطلحات المذهب الحنفي بشكل عام، ولا بأس أن نعيد بعض الكلام بشيء من الاختصار.
تعريفه ومعناه: مصطلح (عليه الفتوى) من أقوى المصطلحات المستخدمة للدلالة على القول الراجح في المذهب الحنفي. فإذا اقترن قول من الأقوال في المذهب الحنفي بمصطلح (عليه الفتوى) أو بما شابهه فإنه يصيِّره قولاً راجحاً يُعتمد عليه، ويفتى به.
نوعه: يُعتبر من المصطلحات الخاصة بعلامات الفتوى والترجيح.
أهميته: تظهر أهمية المصطلح إذا نظرنا إلى كثرة الروايات والأقوال عن الأئمة فيقف الباحث حائراً عند محاولة الوصول إلى الراجح منها والمعتمد في المذهب، لكن بعد تذييل المسائل بعلامات الترجيح والفتوى سهل الأمر وقرب.
مكانته: لفظ الفتوى بأي صيغة عُبِّر بها يعتبر دلالة على رجحان القول في المذهب، لكن بعضها آكد من بعض، فلفظ (به يُفتى) يفيد الحصر أي أنه لا يفتى إلا به، وهو آكد من لفظ (عليه الفتوى)؛ لأن الثاني يفيد الأصحية، وليس كل صحيح يُفتى به؛ لكون غيره أوفق لتغير الزمان أو للضرورة كما سبق.
(1)
المسألة الثانية: مصطلحات مشابهة له في اللفظ والقوة:
أولا: مصطلحات مشابهة له في اللفظ:
من المصطلحات المشابهة كل ما يمكن التعبير عنه بذكر الحروف الأصلية في كلمة الفتوى، وهي على سبيل المثال لا الحصر: به يُفتى، والفتوى عليه، والفتوى على قوله، وقوله يُفتى به إلخ.
(1)
ص: 41.
لكن مصطلح (به يُفتى) خاصةً إذا اقترن القول به فإنه يفيد الحصر، بمعنى أنه لا يُفتى إلا به
(1)
، بخلاف بقية المصطلحات.
ثانياً: مصطلحات مشابهة له في القوة:
ترد بعض المصطلحات في كتب الفقه الحنفي مثل (وبه نأخذ)، و (عليه العمل)، وقد اعتبرها بعض العلماء من المصطلحات المساوية لمصطلح عليه الفتوى
(2)
، بل بعضها فُضِّل على لفظ الفتوى؛ لإفادتها الإجماع مثل مصطلح (عليه عمل الأمة)
(3)
.
المسألة الثانية: دراسة المصطلح من حيث أول من أطلقه، وشيوعه في المذهب:
بعد دراسة مسائل البحث وفيما اطلعت عليه من الكتب لم أجد أحدًا سبق السرخسي صاحب المبسوط في إطلاق عبارة "عليه الفتوى"
(4)
، أو "به يُفتى"
(5)
، وأما شيوعه في كتب المذهب فقد كثر إطلاقه مع بداية القرن الثامن بخلاف فترة المتأخرين؛ فإنهم لم يطلقوه إلا على مسائل نادرة، والله أعلم.
(1)
شرح عقود رسم المفتي، ص؛ 33 - 34.
(2)
رد المحتار، 1/ 73. قلت: هذا فيه نظر، لأن مصطلح (به نأخذ) ذكره محمد في الأصل (2/ 254)، كما ذكره أبو يوسف في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى (ص: 9)، والمصطلحات الدالة على الترجيح وُضِعت في فترة المتأخرين. إضافة إلى أن صاحب المبسوط يذيل المسائل بهذا المصطلحب (5/ 50) مع تذييل غيرها بمصطلح عليه الفتوى (15/ 17)، وفعله هذا يفيد المغايرة، وإلا لاكتفى بواحد منهما.
(3)
شرح عقود رسم المفتي، ص؛ 34، رد المحتار، 1/ 73.
(4)
كما في مسألة الطهر المتخلل بين الدمين، 3/ 156.
(5)
كما في مسألة محرم قتل صيدًا في يد محرم آخر، 4/ 88 - 89.
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العبادات وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: في مسائل الطهارة، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: الوضوء، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الماء المستعمل.
المسألة الثانية: الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة.
المطلب الثاني: المسح على الجوربين.
المطلب الثالث: صلاة المتيمم إذا رأى النبيذ.
المطلب الرابع: الحيض والاستحاضة، وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: ثبوت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة.
المسألة الثانية: نصب العادة للمبتدأة.
المسألة الثالثة: الطهر المتخلل بين الدمين.
المسألة الرابعة: تحديد سن اليأس.
المطلب الخامس: كيفية تطهير الخف ونحوه.
المبحث الثاني: في مسائل الصلاة، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: وقت صلاة المغرب.
المطلب الثاني: السجود على الأنف دون الجبهة.
المطلب الثالث: وقت ابتداء التكبير وانتهائه في أيام عيد الأضحى.
المبحث الثالث: الاحتيال لإسقاط الزكاة.
المبحث الرابع: محرم قتل صيداً في يد محرم آخر.
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العبادات
المبحث الأول: في مسائل الطهارة
المطلب الأول: في مسائل الوضوء:
المسألة الأولى: الماء المستعمل.
المسألة الثانية: الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة.
المسألة الأولى: الماء المستعمل:
الماء المستعمل عند الحنفية هو الماء "المستخدم في البدن"
(1)
؛ "لإزالة الحدث
(2)
بنية القربة"
(3)
، وقد "زايل
(4)
العضوَ"
(5)
و"استقر في موضع"
(6)
(7)
.
وقيل: يصير مستعملاً بأحد الأمور الثلاثة: رفع الحدث تقرُّباً أو غير تقرُّب، والتقرُّب كان معه رفع الحدث أو لم يكن، وسقوط الفرض عن العضو
(8)
، والأول أولى.
(1)
الهداية، 1/ 23.
(2)
والمراد هنا النجاسة غير الحقيقية، وأما المستعمل لإزالة النجاسات الحقيقية كماء الاستنجاء وغسالة الثياب النجسة، فهو نجس اتفاقًا ما لم يُعطَ للمغسول حكم الطهارة. (ينظر: عمدة الرعاية، 1/ 388).
(3)
شرح الوقاية للمحبوبي ومعه منتهى النقاية على شرح الوقاية، 2/ 48 - 49، وعمدة الرعاية، 1/ 388.
المراد بالقربة نفس الثواب إطلاقاً لاسم الفعل على أثره، والحاصل أن الذي استُعمل لغرض تحصيل الثواب أعم من أن يرتفع به الحدث أو لم يرتفع. وبهذا تبين أن النسبة بين الاستعمال للقربة وبين الاستعمال لرفع الحديث نسبة العموم والخصوص من وجه؛ فمعنى القربة هنا العاقبة أو ما يؤول إليه الأمر لا بما يكون مقصودًا من الفعل وباعثاً له. (ينظر: عمدة الرعاية، 1/ 387). وقد ذكر الطحاوي في مختصره أن الماء الذي توضئ به أو اغتُسل به منه أو تُبرد به منها (أو فيها) فقد صار مستعملًا. (ينظر: مختصر الطحاوي، 16).
(4)
أي فارق. (ينظر: كتاب العين، 7/ 385، مقاييس اللغة، 3/ 41).
(5)
الهداية، 1/ 23.
(6)
السعاية في كشف ما في شرح الوقاية، ص: 394، ولو قيل باستعماله بالانفصال فقط لتنجس ثوب المتوضئ على القول بنجاسة الماء المستعمل، وفيه حرج عظيم. (رد المحتار على الدر المختار، 1/ 200).
(7)
ويؤيده اتفاقهم بأن الماء المستعمل في غسل الأعيان الطاهرة طاهر. (ينظر: عمدة الرعاية، 1/ 388).
(8)
فتح القدير، 1/ 90.
والمسألة مذكورة في كتاب اللباب في بداية كتاب الطهارة عند ذكر الروايات عن أبي حنيفة –رحمه الله تعالى- في الماء المستعمل، فقال: "ذكر مشايخ بلخ عن أبي حنيفة ثلاث روايات في الماء المستعمل:
- إحداها: أنه نجس نجاسة مغلظة (كالبول والخمر)، وهي رواية الحسن بن زياد عنه.
- والثانية: أنه نجس نجاسة خفيفة وهي رواية أبي يوسف عنه.
- والثالثة: أنه طاهر غير طهور، وهي رواية محمد بن الحسن عنه.
ومشايخ العراق رووا عن أبي حنيفة أنه طاهر غير طهور رواية واحدة، واختارها المحققون من أصحابنا، وهي القول الأشهر الأقيس الذي عليه الفتوى"
(1)
.
وقد استدل للرواية الأولى من الكتاب والسنة، وللثانية من المعقول، وللثالثة التي وافقت رواية العراقيين –وعليها الفتوى- بحديث عون بن أبي جحيفة قال:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بياض ساقيه، فتوضأ وأذَّن بلال، وقال: فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يمينًا وشمالًا يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: ثم ركزت له عنزة، فتقدم فصلى الظهر ركعتين يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة"
(2)
. وفي رواية: "فرأيت بلالاً أخرج وضوءًا، فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء. فمن أصاب منه شيئًا تمسَّح به ومن لم يصب منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه"
(3)
.
(1)
ينظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 84، وفي الاختيار (1/ 16) أنه اختيار أكثر المشايخ، لكن لم يعقبه بعلامة الإفتاء، بل لم أجد ذلك إلا عند صاحب اللباب. وجاء في رد المحتار (1/ 71) أن الفتوى على قول الإمام في العبادات مطلقاً، وأنه واقع بالاستقراء، ما لم يكن عنه رواية كقول المخالف كما في طهارة الماء المستعمل.
(2)
أخرجه مسلم، 1/ 359، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، رقم حديث:503.
(3)
أخرجه البخاري، 1/ 84، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الأحمر، رقم حديث:376.
والشاهد قوله: "فمن نائل وناضح، " ومعناه: فمنهم من ينال منه شيئًا، ومنهم من ينضح عليه غيره شيئًا مما ناله ويرش عليه بللاً مما حصل له، وهو معنى ما جاء في الرواية الثانية المذكرة: فمن لم يصب أخذ من يد صاحبه
(1)
.
وعليه فالحديث دليل على طهارة الماء المستعمل، إن كان ما أخرجه بلال غُسالة أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأغلب أنها كانت غُسالة أعضائه وإلا لما فعل بها الصحابة ما فعلوا؛ لأن ما يفضل من وضوئه في الإناء مثل ما يفضل من وضوئه من البئر، فلولا كان الذي أخرجه بلال فضل وضوئه لما فعلوا به ما فعلوا.
وأما ما يدل على أنه غير طهور فترك الأولين بجمعه ليتوضأ به مرة بعد أخرى عند فقد الماء مع قلة المياه في الحجاز، واختلافهم فيما إذا وجد ما لا يكفيه من الماء لحدثه هل يجب استعماله أم لا
(2)
؟
ويلاحظ أن لأبي حنيفة –رحمه الله في هذه المسألة ثلاث روايات، وأن الثالثة عن طريق محمد بن الحسن رحمه الله، وتعتبر ظاهر الرواية، وعليها الفتوى.
فحكم الماء المستعمل عند متأخري الحنفية أنه طاهر غير طهور، والطحاوي من المتقدمين قال بأنه غير طهور فقط، وأنه "لا يجوز توضؤ به ولا الاغتسال"
(3)
، ويفهم من كلام الجصاص في شرحه على مختصر الطحاوي أنه يرجح ما سيستقر عليه الحكم عند المتأخرين وما بعدهم بأن الماء المستعمل طاهر أي في نفسه، غير طهور أي غير مطهِّر لغيره
(4)
.
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، 4/ 218 - 219.
(2)
ينظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 51.
(3)
مختصر الطحاوي، 16.
(4)
ينظر: رد المحتار على الدر المختار، 1/ 201، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 39، شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص:229.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
هذه المسألة تحتوي على شقين: الشق الأول: صفة الماء المستعمل، والشق الثاني: حكم الطهارة به، والثاني مبني على الأول؛ لأن الكثير يعبر عن صفة الماء المستعمل بحكم استعماله ثانيةً.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على طهورية الماء المطلق وجواز الطهارة به، واختلفوا في الماء المستعمل وحكم الطهارة به، وسبب اختلافهم هل الماء المستعمل يتناوله اسم الماء المطلق أم لا
(1)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً كبيرًا، وقد كثرت تفريعاتهم وتنوعت تقسيماتهم، ويمكن إرجاع الخلاف إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: الماء المستعمل طاهر غير طهور، وهو القول الراجح عند الحنفية وعليه الفتوى كما سبق، وقول عند المالكية
(2)
، وظاهر مذهب الشافعي
(3)
، وهو المذهب عند الحنابلة
(4)
.
(1)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 33، وهو من نقل الاتفاق على ذلك.
(2)
الذخيرة، 1/ 147.
(3)
نهاية المطلب، 1/ 231، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 1/ 43، الغاية والتقريب، ص: 3، المجموع شرح المهذب، 1/ 150 - 151.
(4)
المغني، 1/ 16، 1/ 23، الشرح الكبير على متن المقنع، 1/ 32، وكثيراً ما يذكرون مسألة وقوع ماء مستعمل في ماء طاهر. (ينظر: المغني، 1/ 18 - 19، الشرح الكبير، 1/ 11، حاشية الروض المربع، 1/ 69)
القول الثاني: الماء المستعمل طاهر طهور، وهو المشهور من قول المالكية، لكنه يكره عندهم استعماله مع وجود غيره، فإن لم يجد غيره تطهّر به ولا يتيمم مع وجوده
(1)
، وقول عند الشافعية
(2)
، وهو رواية أخرى عند الحنابلة
(3)
.
القول الثالث: الماء المستعمل نجس، وهو ورواية مرجوحة عند الحنفية كما سبق، وقول عند الشافعية
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن الماء المستعمل طاهر غير طهور بعدة أدلة، من أشهرها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48].
وجه الدلالة: ذكر الماء في الآية مطلقًا، والمطلق ما يتعرض للذات دون الصفات، والاستعمال صفة للماء، وعليه فلا يشمله الاسم المطلق فلا يكون طهوراً.
(5)
الدليل الثاني: حديث عون بن أبي جحيفة السابق ذكره وطرفه: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم
…
" الحديث.
(6)
(1)
مواهب الجليل، 1/ 66، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 33، والكراهة مقيدة بأمرين: الأول: أن يكون ذلك الماء المستعمل قليلًا كآنية الوضوء، والثاني: أن يوجد غيره، وإلا فلا كراهة. (ينظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/ 41). وعند المالكية توجد أقوال أخرى، مثل: أن الماء المستعمل غير طهور، فيترك ويتيمم إن لم يجد غيره، أو أنه مشكوك فيه، فيتوضأ به ويتيمم لصلاة واحدة، (ينظر: مواهب الجليل، 1/ 66، مناهج التحصيل، 1/ 103) وقد نوزع فيها؛ لأن لفظ المدونة:"ولا يتوضأ بماء قد توضأ به مرة، ولا خير فيه". (المدونة، 1/ 115).
(2)
المهذب، 1/ 23، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 1/ 43.
(3)
المغني، 1/ 16، الإنصاف، 1/ 36.
(4)
المهذب للشيرازي، 1/ 23.
(5)
العناية شرح الهداية، 1/ 69.
(6)
سبق تخريجه قريبًا.
وجه الدلالة: فيه دليل على طهارة الماء المستعمل؛ لأن ما أخرجه بلال غُسالة أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لما فعل بها الصحابة ما فعلوا، وليس ما فضل عن وَضوئه؛ لأن ما يفضل من وضوئه في الإناء مثل ما يفضل من وضوئه من البئر
(1)
.
وقد يناقش بأنهم كانوا يتمسحون تبركاً وليس طهارة.
فيجاب: بأن التبرك بالنجس لا يجوز
(2)
.
وقد يناقش أيضاً بأنه من خصائص النبي –صلى الله عليه وسلم.
وأما ما يدل على أنه غير طهور فلأن الأولين لم يجمعوا ما سقط عن أعضائهم في أسفارهم مع شدة ضروراتهم لقلة الماء في الحجاز.
وجه الدلالة: ذلك يدل على عدم جواز استعماله وإلا لجمعوه
(3)
.
قد يناقش بأنهم لم يجمعوا ما سقط عن أعضائهم لاستقباحه؛ ولأنه مما تعافه النفوس، وهذا له ملحظ في الشرع، كما يقال في كراهية أكل بعض الأطعمة أو حرمتها؛ لأن النفوس تستخبثه وتكرهه
(4)
.
قد يُجاب بأن النفوس لا تستطيبه للشرب والطبخ وغيره، وأما الطهارة فلا.
فيقال بأنه لا يسلم؛ لأن الماء المستعمل لرفع الحدث لا يُستطاب أيضًا لا لنفسه، بل لما يلاقي مواضع الجسد.
(1)
والمعنى أن أعضاء المحدث طاهرة، ولكنه ممنوع من إقامة القربة، فإذا استعمل الماء تحول ذلك المنع إلى الماء فصارت صفة الماء كصفة العضو قبل الاستعمال فيكون طاهرًا غير طهور، بخلاف ما إذا أزال النجاسة بالماء فالنجاسة هناك تتحول إلى الماء. (المبسوط، 1/ 47).
(2)
المبسوط، 1/ 47، وجاء عن بعض المالكية أن ماء وضوئه –صلى الله عليه وسلم وغسله لا يدخل في الماء المستعمل. (شرح مختصر خليل للخرشي، 1/ 75).
(3)
ينظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 51، الذخيرة، 1/ 174.
(4)
المغني، 3/ 476، بدائع الصنائع، 5/ 38، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 3/ 22، الإنصاف، 10/ 357.
الدليل الثالث: حديث أبي هريرة –رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة، قال:"يتناوله تناولًا"
(1)
.
وجه الدلالة: فيه دليل على أن الماء المستعمل مسلوب الطهورية فلا يتطهر به مرة أخرى؛ إذ لولا أن الاغتسال فيه يخرجه عن كونه يغتسل به مرة أخرى لما نهى عنه
(2)
.
ونوقش بأن المراد بهذا الحديث النهي عن الاغتسال في الدائم وإن كان كثيرًا لئلا يقذره.
(3)
الدليل الرابع: حديث الحكَم بن عمرو "أن النبي –صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة"
(4)
، فإذا ثبت أنه لم يُرد ما بقي في الإناء ثبت أنه أراد ما استعمل
(5)
.
وجه الدلالة: اتفاق العلماء على أن الباقي في الإناء مطهر، فتعين حمله على الساقط وما سال عنها
(6)
.
ونوقش بأن الحديث معارض بأحاديث صحيحة ثابتة عن غير واحد من الصحابة روَوْا جوازَ الوضوء أو الاغتسال بفضل المرأة
(7)
، بل اختلف في صحته
(8)
.
(1)
أخرجه مسلم، 1/ 236، كتاب الطهارة، باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، رقم حديث:283.
(2)
طرح التثريب في شرح التقريب، 2/ 34.
(3)
المجموع شرح المهذب، 1/ 154.
(4)
أخرجه أبو داود، 1/ 21، كتاب الطهارة، باب الوضوء بفضل وضوء المرأة مع باب النهي عن ذلك، رقم حديث: 82، والترمذي، 1/ 93، أبواب الطهارة، باب في كراهية فضل طهور المرأة، رقم حديث: 64، وحسنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 141) وفي الإرواء (1/ 43).
(5)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 1/ 43 - 44.
(6)
المجموع شرح المهذب، 1/ 153، 2/ 191.
(7)
بحر المذهب، 1/ 177.
(8)
منهم من حسَّنه مثل الترمذي كما سبق، وضعَّفه البخاري في تاريخه بقوله:"سوادة بن عاصم أبو حاجب العنزي، بصريٌّ، كنَّاه أحمد وغيره، ويقال: الغفاري- ولا أراه يصحُّ- عن الحكم بن عمرو". (التاريخ الكبير للبخاري بحواشي محمود خليل، 4/ 184، حرف السين، ترجمة سَوادَة بن عاصم العنزي البصري، رقم 2419).
يجاب بأن الأحاديث الصحيحة الثابتة تُحمل على فضل الماء المتبقي في الإناء، وحديث الحكم بن عمرو يُحمل على فضل الماء المتساقط وما سال عنها
(1)
.
وأما ما ورد عن الاختلاف في تصحيحه، فأقوى ما قيل في تضعيفه قول البخاري في تاريخه، لكنه ظنٌّ لم يذكر الدليل عليه
(2)
، ثم هل قوله قصد به النسبة أم حديثه عن الحكم بن عمرو، والسياق يؤيد نفي صحة النسبة
(3)
.
ويجاب بأن الترمذي جزم في علله أن البخاري يضعف الحديث
(4)
.
الدليل الخامس: أنه أُديت به عبادة، فلا تُؤدى به عبادة أخرى قياساً على مسألة تحرير الرقبة في الكفارة
(5)
، أو قياسا على الجماعة تيمموا في موضع واحد
(6)
.
نوقش بأنه قياس مع الفارق، فإن الرقبة إذا حرّرت فلا يمكن تحريرها ثانياً، بخلاف الماء المستعمل.
وأما تيمم الجماعة في موضع واحد فيقال بأن القياس غير صحيح؛ لأن المستعمل ما تعلَّق بالعضو، والأرض ليست كالماء، فلا تقبل صفة الاستعمال
(7)
، وهو خارج الخلاف.
الدليل السادس: عدم سلامة الماء المستعمل من الأوساخ ودهنية البدن
(8)
، فاحتمال تنجسه قائم.
قد يناقش بأن الأوساخ ودهنية البدن ليست من النجاسات الشرعية، بل من الأوساخ، وأكثر ما يقال فيه أنه تستخبثه النفوس ولا تستطيبه.
(1)
المجموع شرح المهذب، 2/ 191.
(2)
تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، 1/ 44.
(3)
تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، 1/ 44، وقد أثار هذه النقطة محقق الكتاب.
(4)
علل الترمذي الكبير، ص:40.
(5)
الذخيرة، 1/ 174.
(6)
البناية شرح الهداية، 1/ 398.
(7)
البناية شرح الهداية، 1/ 398.
(8)
الذخيرة، 1/ 174.
الدليل السابع: إن المحدث في معنى من على بدنه نجاسة في باب المنع من الصلاة، ثم وجدنا الماء المغسول به النجاسة يحل في حكم النجاسة؛ لأنها به زالت، كذلك الماء المزال به الحدث، ينبغي أن ينتقل حكم الحدث إليه؛ لأنه به زال، فوجب أن يمنع ذلك استعماله للطهارة؛ لقيام حكم الحدث فيه، كما لا يجوز استعمال الماء المغسول به النجاسة.
ونوقش بأنه يجب على هذا ألا يكون مستعملًا إذا توضأ به وهو طاهر، إذا لم يزل به حدث.
يجاب عنه بأن حكم الاستعمال إنما أُلحِق بمعنى آخر غير ما ذُكر في الحديث، وهو القربة به، قياسًا على المحدث.
فإن قيل: العلة في المحدث سقوط الفرض به، وذلك معدوم في المتقرب به لغير حدث.
فيجاب عنه بأنه لا يمتنع القياس عليه بوصف آخر، وهو ما تعلق به من الحكم، فكل ما تعلق به حكم صار مستعملًا، والحكم تارة يكون زوال الحدث، وتارة حصول القربة
(1)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن الماء المستعمل طاهر طهور بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48].
وجه الدلالة: قوله: {طَهُورًا} يقتضي جوازَ التطهُّرِ به مرةً بعدَ أخرى، فهو على وزن (فَعولٍ) لِمَا يتكرَّر منه الفِعلُ، مثل: شكورٍ، وصبورٍ
(2)
.
نوقش بأن قوله: {طَهُورًا} معناه مطهرًا، على وجه المبالغة في وصفه بوقوع الطهارة به، ولا دلالة فيه على التكرار، كما يقال: سيف قطوع: ويراد به الوصف بالمبالغة في القطع، ولا يراد به تكرار القطع؛ لأن ذلك قد يحصل بالسيف الكليل، ولا يسمى قطوعًا
(3)
.
ويجاب بأن حمل الآية على المبالغة لا يمنع حملها على التكرار.
(1)
ينظر: شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص: 237، فقد ذكر الدليل والجواب عنه.
(2)
المجموع شرح المهذب، 1/ 153.
(3)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 1/ 235.
الدليل الثاني: الأحاديث الواردة عن النبي –صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن عباس –رضي الله عنهما: "اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء ليتوضأ منها، فقالت: إني كنت جنبًا، فقال: إن الماء لا يُجْنِب"
(1)
، وما روي عن ابن عباس أيضا "أنه –صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لُمعة لم يصبها الماء، فعصر شعره عليها"
(2)
(3)
.
ووجه الدلالة من الحديث الأول أن الماء لا يتعدى إليه حكم الجنابة
(4)
، ومن الثاني لأن النبي –صلى الله عليه وسلم أكمل غسله بالماء المستعمل.
ونوقش بأن الحديث الأول يُحمل على الاغتراف من الماء وليس الانغماس فيه؛ إذ يبعد الاغتسال داخل الجفنة عادة، ولأن (في) بمعنى (من)
(5)
، وعليه يحمل معنى عدم إجناب الماء، وأما الحديث الثاني فلم يثبت.
(1)
أخرجه ابن ماجه، 1/ 132، كتاب الطهارة وسننها، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة، رقم حديث: 370، سنن أبي داود، 1/ 18، كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب، رقم حديث: 68، والترمذي، 1/ 94، أبواب الطهارة، باب في كراهية فضل طهور المرأة مع باب الرخصة في ذلك، رقم حديث: 65، وقال: حديث حسن صحيح، ووافقه ابن رجب في الفتح، 1/ 282، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 118.
(2)
أخرجه ابن ماجه، 1/ 217، كتاب الطهارة وسننها، باب من اغتسل من الجنابة فبقي من جسده لمعة لم يصبها الماء كيف يصنع؟، رقم حديث: 663، وابن أبي شيبة في مصنفه، 1/ 46، كتاب الطهارات، باب في الرجل يتوضأ أو يغتسل فينسى اللمعة من جسده، رقم حديث: 456، وفي سنده أبو علي الرحبي. قال أحمد والنسائي والدارقطني: متروك، وقال أبو زرعة: ضعيف، كما في نصب الراية، 1/ 100، بل أجمعوا على ضعفه كما في مصباح الزجاجة، 1/ 85، وضعَّف الحديث ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 1/ 55، وضعَّفه أيضًا الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه، ص: 53 - 54.
(3)
المغني، 1/ 16، الشرح الكبير، 1/ 14.
(4)
مجموع الفتاوى، 20/ 519.
(5)
مجمع بحار الأنوار، 1/ 396.
الدليل الثالث: ما روي عن علي وغيره قال: إذا توضأ الرجل فنسي أن يمسح برأسه فوجد في لحيته بللاً، أخذ من لحيته فمسح رأسه
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: مسح رأسه ببلل اللحية هو استخدام الماء المستعمل ثانية، فدل على أنه طهور.
نوقش بأن الأثر ضعيف، ثم إن فيه مشكلة فقهية ترد على من يرى الترتيب في الوضوء، وكذلك لو ثبت فإنه لا يفيد استعمال الماء المستعمل؛ لأنه لم ينفصل عن البدن، ولم يستقر في موضع، وعليه فلا يسمى مستعملاً.
يجاب بأنه وإن كان ضعيفاً عن علي –رضي الله عنه فقد ثبت عن غيره
(3)
.
الدليل الرابع: كونه ماءً مطلقًا؛ لأنه في الأغلب ليس ينتهي إلى أن يتغير أحد أوصافه بدنس الأعضاء التي تُغسل به، فإن انتهى إلى ذلك فحكمه حكم الماء الذي تغير أحد أوصافه بشيء طاهر
(4)
.
قد يناقش بأنه استدلال بمحل النزاع.
الدليل الخامس: لأنه غُسل به محل طاهر، فلم تزل به طهوريته، كما لو غُسل به الثوب
(5)
.
قد يناقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن غسل الثوب لا يصيِّر الماء مستعملاً شرعاً، بخلاف البدن عند رفع الحدث.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، 1/ 28، وهو ضعيف؛ لأن في سنده خلاساً ولم يسمع من علي. قال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: كان يحيى بن سعيد يتوقى أن يحدِّث عن خلاس عن علي خاصة، وأظن أنه قد حدثنا عنه بحديث. وقال أبو عبيد الآجري: سئل أبو داود عن خلاس، فقال: ثقة ثقة. قيل: سمع من علي؟ قال: لا. ينظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 8/ 365 - 367.
(2)
المغني، 1/ 16.
(3)
المغني، 1/ 16.
(4)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 34.
(5)
المغني، 1/ 16، الشرح الكبير، 1/ 14.
دليل القول الثالث:
استدل القائلون بأن الماء المستعمل نجس بأنه زال عنه إطلاق اسم الماء فصار كما لو تغير بالزعفران
(1)
.
قد يناقش بأنه استدلال بمحل النزاع –كما سبق في مناقشة الدليل الرابع من القول الثاني.
ثم يقال: إنكم منعتم من استعمال الماء المستعمل ثانيةً، فلِم جوَّزتم استعمال الحجر المستعمل ثانية عند الاستجمار؟
يقال: إنهما سواء، لكن جوزنا إعادة الحجر المستعمل ثانية؛ لأن غسله قد أعاده إلى أصله قبل الاستعمال، وهو الطهارة، وكذلك الماء المستعمل لو عاد إلى أصله قبل الاستعمال في مخالطة الماء الكثير الطاهر جوزنا استعماله ثانيةً
(2)
.
قلت: يمكن مناقشته بأن هناك فرقاً بين غسل الحجر المستعمل وبين مخالطة الماء المستعمل مع الماء الكثير الطاهر؛ لأن الأول يمكن إزالة النجاسة بغير الماء، وكذلك نجاسته منفصلة وليست متحللة بخلاف الثاني، ثم الحجر وما ينوب الماء في الاستجمار يوجد أكثر في الغالب بخلاف الماء الكثير الطاهر حتى نخالطه مع الماء المستعمل.
ثم الصحيح من مذهبكم أن كل ما لا يجوز به رفع الحدث لم يجز إزالة النجاسة به كالماء النجس،
(3)
فكيف يمكن غسل الحجر المستعمل بالماء المستعمل؟!، فإن كان الماء مستعملاً نجساً لم يجز غسل الحجر به، وإن كان الغسل بماء طاهر طهور فالاستنجاء به أولى.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال في المسألة وأدلة كل قول مع المناقشات ظهر لي أن القول الثاني القائل بأن الماء المستعمل طاهر طهور أقرب للصواب؛ لعدم قيام أدلة كافية تخرج الماء المستعمل عن أصله، لكن عدم استعماله أولى لأمور:
(1)
المهذب، 1/ 23.
(2)
ينظر: الحاوي الكبير، 1/ 162.
(3)
ينظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي، 1/ 45.
• خروجاً من الخلاف.
• لأنه مما تعافه النفوس وتستقذره في الغالب.
• وقد يُمنع من الاستخدام إذا ثبت ضرره على صحة الإنسان لكثرة ما يستخدم الآن من الكيماويات في العطور والكريمات والزيوت وغيرها، والله أعلم.
ثمرة الخلاف:
تظهر ثمرة الخلاف في بعض المسائل، منها:
1.
لو توضأ إنسان بالماء المتقاطر عن المتوضئ بأن يكون في موضع عالٍ وهو يأخذ الماء من الهواء قبل وصوله إلى الأرض يصح عند من يرى أن الماء المستعمل طاهر طهور، وعند من يرى أنه لم يصبح مستعملاً بمجرد مفارقة العضو بل لا بد من استقراره في موضع، ولا يصح عند من يرى أن الماء المستعمل طاهر غير طهور وأصبح مستعملًا بمجرد مفارقة العضو، كما لا يصح عند من يرى أن الماء المستعمل نجس.
2.
لو أن إنساناً تطهَّر من حوض صغير، أو من إناء كبير، ثم صب ماءه الذي تطهر فيه في إناء آخر، فتوضأ به آخر صح وضوؤه عند من يرى أن الماء المستعمل طهور، ولا يصح عند من يرى أنه نجس أو غير طهور.
3.
لو أن إنساناً توضأ ومسح رأسه ببلل شعر زوجته بعد غسلها من الجنابة يصح وضوؤه عند من يرى أن الماء المستعمل طهور، ومن يرى أنه نجس أو غير طهور فلا يصح عنده.
4.
لو أن شخصاً جمع ماءً في حوض الاستحمام حتى امتلأ ثم اغتسل فيه من الجنابة، فهل له أن ينغمس فيه ويغتسل فيه من الجنابة مرة أخرى أو يتوضأ منه؟ فمن يرى أن الماء المستعمل نجس أو غير طهور فلا يرى ذلك، والعكس عند من يرى أنه طهور.
المسألة الثانية: الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة
(1)
:
هذه المسألة تأتي في كتب الحنفية تحت باب الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز، وفيه مسائل فرعية كثيرة تتعلق بالمياه وتحديد الراكد منها والجاري، وحكمها إذا خالطتها أشياء طاهرة أو نجسة.
وعند تعيين الحد الفاصل بين الحوض الصغير والكبر
(2)
ذكروا مسألة الغدير العظيم إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيْه، فجوزوا الوضوء منه إذا كان لا يتحرك أحد طرفين بتحريك الطرف الآخر،
(3)
ثم اختلفوا في المعتبر به عند التحريك على ثلاثة أقوال:
(4)
القول الأول: إن التحريك يعتبر بالاغتسال؛ لأن الحاجة إلى الاغتسال أشد منها إلى التوضؤ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف –رحمهما الله-.
القول الثاني: عن أبي يوسف رواية أخرى أنه يعتبر باليد.
القول الثالث: وعن محمد –رحمه الله أنه يعتبر بالتوضؤ.
(1)
الخلاف في هذه المسألة قديم، وهي من المسائل العويصة، وقد قال ابن القيم –رحمه الله:"فهنا معترك النزال وتلاطم أمواج الأقوال، وهي مسألة الماء والمائع إذا خالطته النجاسة فاستهلكت ولم يظهر لها فيه أثر البتة"، (بدائع الفوائد، 3/ 258) وقال الشوكاني –رحمه الله: "وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إلى ما هو الصواب فيها إلا الأفراد". (نيل الأوطار، 1/ 46)
(2)
الحوض الصغير قاسوه على الأواني في حكم الماء إذا وقعت فيه النجاسة، والحوض الكبير قاسوه على البحر. (ينظر: المبسوط، 1/ 70)
(3)
وهو ما يسمَّى عندهم بخلوص الماء، فإن خلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص بعضه إلى بعض فهو كثير، ثم اختلفوا في تفسير الخلوص والمعتبر فيه على ما ذُكر. (ينظر: تحفة الفقهاء، ص: 57).
(4)
ينظر: الهداية، 1/ 21 - 22، العناية شرح الهداية، 1/ 73، البناية شرح الهداية، 1/ 368.
والمتأخرون قدَّروه بالمساحة عشراً في عشر بذراع الكرباس
(1)
توسعة للأمر على الناس
(2)
،
(1)
الكرباس –بكسر الكاف وسكون الراء- ثوب من القطن (الأبيض). ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 4/ 161، تاج العروس، 16/ 432. وعليه فالمراد هنا ذراع القماش، وهو قريب من ذراع اليد، (رد المحتار، 1/ 196)، والهيتمي حدده بالمقارنة بذراع اليد: "
…
بذراع اليد المذكور في باب صلاة المسافر، وقدره من ذراع القماش الآن ذراع إلا ثمن ذراع"، (ينظر: حاشية ابن حجر الهيتمي على شرح الإيضاح في مناسك الحج، ص: 454)، ومن المعاصرين من حدد الذراع بوحدات معاصرة لقياس الأطوال مثل السنتيمترات فقال: إن الذراع يساوي 61. 2 سم، (ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته، 1/ 141)، وعليه فالغدير العظيم ما كان طوله 6 أمتار و 12 سم طولاً وكذا عرضاً. والمعتبر في العمق أن يكون بحال لا ينحسر بالاغتراف، وبعضهم قدره بشبر، وبعضهم بذراع. (ينظر: العناية، 1/ 81 - 82) وقد سبق الكلام عن الذراع، وأما الشبر فهو أحد عشر سنتيمترًا ونصف كما قدره بعض المعاصرين. (ينظر: المكاييل والموازين الشرعية، ص: 51 - 52). وعليه لو قمنا بعملية رياضية (الطول x العرض x العمق) سنحصل على نتيجة 4307 لترات تقريباً أي ما يزيد قليلاً على أربعة أمتار مكعبة وثلث. ولو اعتبر الذراع لزاد قدر الماء ما يقرب من ستة أضعاف. ودليل تقديره قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفر بئراً فله حولها أربعون ذراعاً"، فيكون له حريمها من كل جانب عشرة، ففهم من هذا أنه إذا أراد آخر أن يحفر في حريمها بئراً يُمنع منه؛ لأنه يتجذب الماء إليها، وينقص الماء في البئر الأولى، وإن أراد أن يحفر بئر بالوعة يمنع أيضًا؛ لسراية النجاسة إلى البئر الأولى، وتنجس مائها، ولا يمنع منه فيما وراء الحريم، وهو عشر في عشر، فعلم أن الشرع اعتبر العشرة في العشرة في عدم سريان النجاسة. (ينظر: شرح الوقاية ومعه منتهى النقاية، 2/ 48، والحديث أخرجه ابن ماجه، 2/ 831، كتاب الرهون، باب حريم البئر، رقم: 2486، من حديث عبد الله بن مغفل –رضي الله عنه، وهو ضعيف كما في البدر المنير، 7/ 62).
(2)
المراد من التوسعة هنا طول ذراع القماش؛ لأنه أقصر من ذراع اليد بإصبع، (ينظر: مجمع الأنهر، 1/ 29)، والسبب صعوبة تحرز الغدران من النجاسة، فيحكم على الكثير منها بطهارتها، وفيه توسعة على الناس. وذكر المحبوبي في شرحه على الوقاية أن توسعة الأمر على الناس هي تجويز الوضوء من جميع جوانب الغدير، بغض النظر عن إمكانية رؤية النجاسة الواقعة فيه أم لا. (ينظر: شرح الوقاية ومعه منتهى النقاية، 2/ 48). قلت: وقد يحمل على التوسعة معنى سهولة تحديد الغدير بالمساحة أيضًا، وكله من اختلاف التنوع لا التضاد.
وعليه الفتوى
(1)
.
وجاء في المبسوط ما يفيد أن الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة –رحمه الله أنه اعتبر تحريك المتوضئ (أو ظنه وصول النجاسة إلى الجانب الآخر)
(2)
وأبو يوسف رحمه الله اعتبر تحريك المنغمس، وأما التقدير بالمساحة فقد روي عن محمد –رحمه الله، والمشهور عنه لما سئل عن هذا فقال:"إن كان مثل مسجدي هذا فهو كبير"، فلما قام مسحوا مسجده فروي أنه كان ثمانيًا في ثمانٍ، وروي أنه اثنا عشر في اثني عشر، فكان من روى ثمانيًا في ثمانٍ مسح المسجد من داخل، ومن روى اثني عشر مسحه من خارج، لكنه رجع إلى قول أبي حنيفة-رحمه الله، وقال: لا أقدر فيه شيئًا
(3)
.
وإذا ثبت ذلك فمعناه أن القول المعتمد في هذه المسألة -الذي ينبغي أن تكون عليه الفتوى وفق قواعد الترجيح في المذهب الحنفي- هو ما رُوي عن أبي حنيفة وما رجع إليه محمد –رحمهما الله- من أن المعتبر هو تحريك المتوضئ وغلبة ظنه؛ لأنه اتفق قول الإمام وأحد صاحبيه، فيؤخذ بقولهما إلا لضرورة أو موجب.
ولعل المتأخرين رأووا موجباً فيما ذكروه من توسعة لأمر الناس، والله أعلم.
(1)
ينظر: الهداية، 1/ 21 - 22، وفي العناية:"قال: (وكل ماء وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به) أراد بالماء ما لا يكون جاريًا ولا في حكمه وهو الغدير العظيم لذكره هذا بعد هذا". (العناية شرح الهداية، 1/ 73، البناية شرح الهداية، 1/ 368). فالغدير العظيم وما دونه عند الحنفية مثال للماء الراكد. ويفهم من كلام بعضهم أن الماء الذي زاد على قدر الغدير العظيم يعتبر ماءً جارياً، (ينظر: البناية شرح الهداية، 1/ 368)، كما يفهم من بعضهم أيضًا أن حد الغدير العظيم فاصل بين الماء القليل والكثير. (مجمع الأنهر، 1/ 29).
(2)
مجمع الأنهر، 1/ 29.
(3)
ينظر: المبسوط، 1/ 70 - 71.
وأما المتقدمون من الحنفية فكانوا يقولون أولاً بغلبة الظن والاجتهاد في طلب الطاهر من الماء إذا خالطته النجاسة، فما غلب في الظن أن النجاسة وصلت إليه لم يجز استعماله، ثم جعلوا تحرك أحد الطرفين بتحرك الطرف الآخر جهة تغلب الرأي في بلوغ النجاسة إليه
(1)
، ثم اختلفوا في المعتبر من التحريك –كما سبق-، ثم استقر قول المتأخرين على أن الغدير العظيم يقدر بالمساحة لموجب التوسعة على الناس
(2)
.
وتبين مما سبق أن الغدير العظيم عند الحنفية حد فاصل بين الماء القليل والكثير، وكذلك يعتبر فاصلاً بين الماء الراكد والجاري أو ما في حكم الجاري.
فالحنفية يرون أن الماء القليل الراكد إذا وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به، قليلاً كانت النجاسة أو كثيراً لحديث المستيقظ من منامه، وحديث:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه"، وسيأتي تخريجهما
(3)
.
بخلاف الماء الكثير أو ما في حكم الجاري مثل الغدير العظيم المقدر بعشرة أذرع في عشرة أذرع، لكن إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من موضع النجاسة، بل من الجانب الآخر، وإن كانت غير مرئية يتوضأ من جميع الجوانب، وكذا من موضع غُسالته، ثم استقر القول بجواز الوضوء من جميع جوانب الغدير توسعة لأمر الناس
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن الماء إذا وقعت فيه النجاسة وتغير أحد أوصافه (اللون أو الطعم أو الرائحة) فإنه نجس، سواء كان كثيراً أم قليلاً
(5)
.
(1)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 1/ 249.
(2)
ينظر: البحر الرائق، 1/ 79، مجمع الأنهر، 1/ 29.
(3)
ص: 73.
(4)
شرح الوقاية ومعه منتهى النقاية، 2/ 48، تحفة الفقهاء، ص: 55 - 56.
(5)
الإجماع لابن المنذر، ص: 35، رقم 11.
كما اتفقوا على أن الماء الكثير إذا وقعت فيه النجاسة ولم تغير شيئاً من أوصافه فإنه طاهر
(1)
.
واختلفوا في حكم الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة ولم تغير أحد أوصافه؛ هل يحكم بتنجسه لوقوع النجاسة فيه أم بطهارته لعدم تغير شيء من أوصافه، على قولين رئيسين، وسبب اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في تحديد الماء القليل والكثير، وكذلك اختلافهم في كيفية الجمع بين تعارض ظواهر الأحاديث الواردة فيها.
الأقوال في المسألة
(2)
:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة ولم تغير أحد أوصافه نجسٌ ولا يجوز الوضوء منه:
وهو القول الراجح عند الحنفية، وعليه الفتوى، وعندهم القليل ما دون قدر الغدير العظيم –كما سبق-
(3)
.
وهو قول عند المصريين من أصحاب مالك
(4)
.
(1)
الإجماع لابن المنذر، ص: 35، رقم 12.
(2)
للعلماء في هذه المسألة اتجاهان اثنان: الاتجاه الأول: إجراء الحكم على الماء عموماً بغض النظر عن كثرته أو قلته، والاتجاه الثاني: التفريق بين الماء الكثير والقليل، لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بينهما.
(3)
بداية المبتدي، ص: 4 - 5، الاختيار، 1/ 14، شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص:239.
(4)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 156، بل رُوي عن مالك –رحمه الله أن ذلك الماء مكروه. (ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 30، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/ 44). وجاء في الرسالة للقيرواني:" وقليل الماء ينجسه قليل النجاسة وإن لم تغيره". (الرسالة، ص: 12). وكذا في إرشاد السالك: " ويكره الوضوء بالمستعمل ويسير حلته نجاسة لم تغيره". (إرشاد السالك إلى أشرف المسالك، ص: 3). قلت: يفهم من هذه النقولات أن بعض المالكية يرون التفريق بين الماء القليل والكثير، وأن له أثراً في الحكم، لكن لم أجد لهم ما يفرقون به بينهما إلا ما ذكره صاحب تحفة الفقهاء من الحنفية:" واختلفوا في الحد الفاصل بينهما، فقال مالك: إن كان بحال يتغير طعمه أو لونه أو ريحه فهو قليل، وإن كان لا يتغير فهو كثير". (تحفة الفقهاء، ص: 56).
وهو قول الشافعية إلا أنهم يفرقون بين الماء القليل والكثير بقدر القلتين، فما زاد عليهما فهو كثير، وما نقص منهما فهو قليل،
(1)
.
وهو أيضاً قول الحنابلة إلا أنهم اشترطوا في النجاسة أن تكون غير البول والعذرة المائعة
(2)
، وأدلتهم أدلة الشافعية –كما سيأتي-.
القول الثاني: إذا سقطت في الماء نجاسة فلم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر بغض النظر عن كثرة الماء أو قلته، وهو قول المالكية
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل فقهاء الحنفية بأن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغير أحد أوصافه نجسٌ ولا يجوز الوضوء منه بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وجه الدلالة: أن النجاسات من الخبائث؛ لأنها محرمة إذ كان في استعماله استعمال الخبائث التي حرمها الله.
قد يناقش بأن الآية في المطاعم والمشارب
(4)
، وتحريم الأكل أو الشرب لا يلزم منه تحريم الاستعمال كما في تسميد المزروعات بالنجاسات.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، وقال في الخمر:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].
(1)
الأم، 1/ 18، المهذب في الفقه الشافعي، 1/ 119، الوسيط في المذهب، 1/ 168، الغاية والتقريب، ص:3. ويروى عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد. (ينظر: الأوسط، 1/ 260)
(2)
مختصر الخرقي، ص: 11، الكافي، 1/ 30، المبدع في شرح المقنع، 1/ 36 - 38.
(3)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 156، الذخيرة، 1/ 172.
(4)
تفسير الطبري، 13/ 165.
وجه الدلالة: لم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء، فعموم هذه الآيات يوجب تحريم استعمال الماء الذي فيه جزء من النجاسة
(1)
.
قد يناقش بأن التفريق حصل في حديث الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد عند من يرى نجاسة الخمر، ومن يرى طهارتها فالدليل ليس في محله ابتداءً، ثم هذه الآيات فيما يؤكل ويشرب
(2)
، وتحريم الأكل أو الشرب لا يعني تحريم الاستعمال كما سبق.
الدليل الثالث: حديث أبي هريرة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده"
(3)
.
وجه الدلالة: لما كان النهي عن الغمس لأجل احتمال النجاسة، فحقيقة النجاسة أولى أن يكون نجساً
(4)
.
قد يناقش بأنه ليس لاحتمال النجاسة بل لأمر تعبدي
(5)
، وإلا لما كان هناك فرقاً بين النوم بالليل والنوم بالنهار
(6)
.
الدليل الرابع: حديث أبي هريرة –رضي الله عنه أنه سمع النبي –صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه"
(7)
، وعند مسلم:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه"
(8)
.
(1)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص: 240، وقد ذكر الدليل الأول والثاني مع وجهي دلالتهما.
(2)
تفسير الجلالين، ص: 35
(3)
أخرجه مسلم، 1/ 233، كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، رقم حديث:278.
(4)
العناية، 1/ 74.
(5)
الذخيرة، 1/ 274.
(6)
المغني، 1/ 74.
(7)
أخرجه البخاري، 1/ 57، كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، رقم حديث:239.
(8)
أخرجه مسلم، 1/ 235، كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد، رقم حديث:282.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث يدل على أن قليل النجاسة ينجّس قليل الماء
(1)
.
ونوقش بأنه خاص بالبول
(2)
.
قد يجاب عنه بأن العلة سرعة انتشار البول في الماء وهذا متأتى في غيره من النجاسات.
الدليل الخامس: قياس نجاسة الثوب على نجاسة الماء، فإذا كانت على الثوب منعت الصلاة فيه، سواء كانت مرئية أو غير مرئية إذا كانت معلومة، وكذا الماء إذا وقعت فيه نجاسة
(3)
.
وقد يناقش بأكثر من وجه:
- الوجه الأول: ما ورد من الأحاديث الدالة على طهارة الماء القليل إذا خالطته النجاسة ولم تغيره تفرِّق بين النجاسة على الثوب والنجاسة في الماء، فالأولى تزال وتغسل وكثرتها أو قلتها لا أثر له في الحكم بخلاف الثانية فإن كثرة النجاسة أو قلتها أمر مؤثر في الحكم.
- الوجه الثاني: إن هناك فرقاً بين الثوب والماء؛ لأن الماء إذا كوثر فإنه يطهر بخلاف الثياب فإنها لا تطهر لو افترضنا لبس الملابس الطاهرة على النجسة.
- الوجه الثالث: النجاسة في الماء تستحيل وتنتشر بخلاف الثياب، فهو قياس مع الفارق.
(1)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 30.
(2)
المبدع في شرح المقنع، 1/ 38.
(3)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص:240.
واستدلت الشافعية على أن الماء القليل ينجس إذا وقعت فيه نجاسة بحديث القلتين، وفيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"
(1)
، وقد فرقوا به بين الماء القليل والكثير
(2)
.
وهو دليل الحنابلة أيضاً إلا أنهم اشترطوا في النجاسة أن تكون غير البول والعذرة المائعة
(3)
.
وجه الدلالة: مفهوم الحديث يدل على أن ما كان دون القلتين ينجس.
(1)
أخرجه الترمذي، 1/ 97، أبواب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء ومعه منه آخر، رقم حديث: 67، والنسائي، 1/ 46، كتاب الطهارة، باب التوقيت في الماء، رقم حديث: 52، وعند ابن ماجه من حديث عمر –رضي الله عنه:" إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء"، 1/ 172، كتاب الطهارة وسننها، باب مقدار الماء الذي لا ينجس، رقم حديث: 517، والحاكم في المستدرك، 1/ 224، كتاب الطهارة، رقم حديث: 458، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعًا بجميع رواته ولم يخرجاه، وأظنهما -والله أعلم- لم يخرجاه لخلاف فيه على أبي أسامة على الوليد بن كثير"، وقد صحَّحه ابن دقيق العيد في شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، 1/ 75، وقال:"وقد صحَّح بعضُهم إسنادَ بعض طرقه، وهو -أيضًا- عندنا صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنَّه وإن كان حديثاً مضطربَ الإسناد، مختلفاً فيه في بعض ألفاظه، وهي علة عند المحدثين، إلَّا أن يُجابَ عنها بجواب صحيح، فإنّه يمكنُ أن يُجمعَ بين الروايات، ويجابَ عن بعضها، وينسبَ إلى التصحيح بطريق قوي أصولي، ولكن تركتُه؛ لأنَّه لم يثبتْ عندنا الآنَ - بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعاً - تعيينٌ لمقدار القلتين".
(2)
اللباب في الفقه الشافعي، ص: 56 - 57، قال:"والقلتان خمسمائة رطل"، والرطل هو الرطل البغدادي ويسمونه الرطل الشرعي، وقد اختلف في مقداره، ومن المعاصرين من قدره بالمقاييس المعاصرة، وقال: إنه 408 غرامات أي 204 كيلوغرامات تقريباً، (ينظر: القاموس المحيط، ص: 1006، تهذيب الأسماء واللغات، 3/ 123، تحرير ألفاظ التنبيه، ص: 32، معجم لغة الفقهاء، ص: 449، الموسوعة الفقهية الكويتية، 38/ 307) وهو 204 لترات من الماء تقريباً إذا كان الماء 4 درجات مئوية (° C)، وهذا ما يسمى بشذوذ الماء، وهو وصوله إلى أعلى كثافة ممكنة مع أقل حجم ممكن. (ينظر: الحرارة: تجارب وأنشطة، شذوذ الماء، ص: 13).
(3)
مختصر الخرقي، ص: 11، الكافي، 1/ 30، المبدع في شرح المقنع، 1/ 36 - 38.
ونوقش بأنه دلالة المفهوم، وأصحاب القول الثاني استدلوا –كما سيأتي- بظاهر القرآن، وأيضاً حديث بئر بضاعة استدلال بالمنطوق وهو مقدم على المفهوم إجماعاً
(1)
.
ونوقش أيضًا بأنه حديث مضطرب ومختلف فيه في بعض ألفاظه وبعض رواته.
يجاب عنه بأنه صححه بعض الأئمة، فإنهم جمعوا بين روايات الحديث، وأجابوا عن بعضها
(2)
.
ونوقش أيضاً بأنه يخالف إجماع الصحابة فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أمر في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح ماء البئر كله، ولم يظهر أثره في الماء، وكان الماء أكثر من قلتين، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد فانعقد الإجماع من الصحابة على ذلك
(3)
.
يجاب عنه بأنه أثر لم يثبت
(4)
، ولو صح فإنه يحمل على التنظيف لا الوجوب
(5)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغير أحد أوصافه طاهر مطهر بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48].
وجه الدلالة: ظاهر الآية يدل على أن الماء المنزل من السماء له أوصاف، والنجاسة إذا لم تغير شيئًا من تلك الأوصاف فإن الماء يبقى على ما كان عليه من طهوريته
(6)
.
(1)
الذخيرة، 1/ 172.
(2)
المناقشة والرد عليها ذكرها ابن دقيق العيد في شرح الإلمام، 1/ 75.
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه، 1/ 40، كتاب الطهارة، باب البئر إذا وقع فيها حيوان، رقم 65.
(4)
معرفة السنن والآثار، 2/ 39.
(5)
مختصر المزني، 8/ 101.
(6)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 157.
الدليل الثاني: حديث بئر بضاعة من طريق أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه أن النبي–صلى الله عليه وسلم قال: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء"
(1)
، وفي رواية:"الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه ريحه أو طعمه"
(2)
.
وجه الدلالة: الحديث بمنطوقه دليل على أن الماء لا يتنجس إلا إذا غلب عليه شيء فغير طعمه أو ريحه أو لونه، والنجاسة إذا لم تغيِّر شيئاً من ذلك فإن الماء ما زال طاهرًا مطهرًا
(3)
.
ونوقش بأنه حديث عام أريد به خاص، وهو القلتان فصاعداً
(4)
، فيخصص بحديث القلتين.
ونوقش أيضًا بأن قوله –صلى الله عليه وسلم: "لا ينجسه شيء" يحمل على الماء الذي طرأ بعد إخراج النجاسات من البئر.
ويجاب بأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يخرج، فحمل معنى الحديث على الماء بعد إخراج النجاسة من البئر ليس بصحيح
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي، 1/ 95، أبواب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، رقم حديث: 66، وحسنه، وعند النسائي:"الماء لا ينجسه شيء"، 1/ 174، كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة، رقم حديث: 327، وصححه ابن الملقن في البدر المنير، 1/ 381، كتاب الطهارة، باب الماء الطاهر، الحديث الثاني منه، وقال: إن الترمذي حسَّنه وفي بعض نسخه صحَّحه.
(2)
أخرجه الدارقطني، 1/ 32، كتاب الطهارة، باب الماء المتغير، رقم حديث: 49، من حديث راشد بن سعد، وقال: مرسل.
(3)
الذخيرة، 1/ 172.
(4)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، 1/ 88 - 89.
(5)
شرح معاني الآثار، 1/ 12، وقد ذكر المناقشة والرد عليها.
الدليل الثالث: حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه أن أعرابيًّا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوه". فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذَنوب فصب على بوله
(1)
.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث يدل على أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء؛ لأنه من المعلوم أن ذلك الموضع قد طهّر من الذَّنوب
(2)
.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال في المسألة وأدلة كل قول مع المناقشات ظهر لي أن القول الثاني القائل بأن الماء القليل إذا خالطته النجاسة ولم تغيره طاهر هو أقرب إلى الرجحان لوضوح الأدلة وقوتها.
وما يتعلق بالماء الجاري والراكد فينبغي التنبه إلى أن مفهوم التفريق بينهما قد تغير لوجود المسابح والجاكوزيات والنافورات التي صُممت على أن ماءها يجري لكن بشكل متكرر، وعليه يمكن أن يصبح الماء القليل جداً جارياً
(3)
.
فلذلك تعليق الحكم على قلة الماء أو كثرته أولى من تعليقه على جريانه أو ركوده، وأفضل من ذلك كله تعليق الحكم على أوصاف الماء الظاهرة من اللون والطعم والرائحة.
ومن الآثار المترتبة على رجحان القول الثاني حفظ الماء وعدم هدره، بخلاف القول الأول، فإن في رجحانه هدراً لكثير من المياه إذ لا تستعمل لمجرد وقوع النجاسة فيها إذا كانت دون القلتين كما عند الشافعية والحنابلة أو دون الغدير العظيم كما عند الحنفية.
(1)
أخرجه مسلم، 1/ 236، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأن الأرض تطهر بالماء، من غير حاجة إلى حفرها، رقم حديث:284.
(2)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 31.
(3)
جاء في تحفة الفقهاء عدة تعريفات مثل: "إن كان يجري بالتبن والورق فهو جار وإلا فلا"، "إن وضع رجل يده في الماء عرضًا لم ينقطع جريانه فهو جار وإلا فلا"، "إن كان بحال لو اغترف رجل الماء بكفيه لم ينحسر وجه الأرض ولم ينقطع الجريان فهو جار وإلا فلا"، "وأصح ما قيل فيه إن الماء الجاري ما يعده الناس جارياً". (ينظر: تحفة الفقهاء، 1/ 56). ولو قيل الماء الذي لا يتكرر مع جريانه لكان أولى، وقد يقال بأنه لو تكرر فإنه يصبح ماءً مستعملاً، وقد سبق الكلام عنه في المسألة السابقة. والله أعلم.
ثم فيه تسهيل على الناس؛ لأن ملاحظة اللون والطعم والرائحة أمر متيسر للجميع، بخلاف تقدير الماء بالقلتين أو الغدير العظيم، فإنه لا يتيسر للجميع وقد يدخله الوسواس.
ثمرة الخلاف:
تظهر ثمرة الخلاف في بعض المسائل، منها:
1.
لو أن إنساناً أراد أن يتوضأ من سطل فيه ماء سقطت فيه قطرة من دم، فإن غيرت لونه أو ريحه أو طعمه فإنه نجس بالإجماع، وإن لم تغيره فإنه نجس على القول الأول؛ لأنه دون القلتين، وكذلك دون الغدير العظيم، وعلى القول الثاني طاهر طهور؛ لبقائه على الصفة التي خلقه الله عليها.
2.
لو تبول طفل في بركة سباحة سعتها 300 لتر مثلاً ولم يتغير ماؤها بسبب البول فإنه نجس عند الحنفية؛ لأنه دون الغدير العظيم، وطاهر عند الشافعية؛ لأنه زاد على القلتين، ونجس عند الحنابلة؛ لأن النجاسة نجاسة بول، ولو كان غير البول لاتفق قولهم مع قول الشافعية، وهو طهور عند المالكية ابتداءً؛ لعدم تغيره بغض النظر إلى كثرته أو قلته.
المطلب الثاني: المسح على الجوربين:
أورد الحنفية هذه المسألة في كتاب الطهارة تحت باب المسح على الخفين، والمسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة –رضي الله عنهم
(1)
، بل نقل الإجماع على ذلك
(2)
، وهو من اختصاص الوضوء دون الغسل
(3)
.
والخف أصله في اللغة ما يدل على خلاف الثقل والرزانة
(4)
، وقيل: إنه سمي خفاً لخفة الحكم به من الغسل إلى المسح
(5)
.
وهو ما يلبسه الإنسان
(6)
على القدم، ويكون أغلظ من النعل
(7)
، وقيل: كل محيط بالقدم ساتر لمحل الفرض، مانع للماء يمكن متابعة المشي فيه
(8)
، وهذا التعريف فيه شيء من الإطلاق.
ومن الفقهاء من قيده بقوله: "ما يستر القدم مع الكعب من شعر أو لبد أو جلد رقيق ونحوها"
(9)
، وعليه فإن الخف يكون من الشعر والصوف كما يكون من الجلد.
(1)
بدائع الصنائع، 1/ 7، إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك، 1/ 9، المجموع شرح المهذب، 1/ 476، المغني، 1/ 206.
(2)
الإجماع لابن المنذر، ص: 35، وقد قال:"وأجمعوا على أنه كل من أكمل طهارته، ثم لبس الخفين وأحدث، وأن له أن يمسح عليهما".
(3)
البدر التمام شرح بلوغ المرام، 1/ 264.
(4)
مقاييس اللغة، 2/ 154.
(5)
رد المحتار، 1/ 260.
(6)
العين، 4/ 143 - 144.
(7)
الصحاح، 4/ 1353.
(8)
التوقيف على مهمات التعاريف، ص:157.
(9)
دستور العلماء، 2/ 62.
وقد ألحقوا الجوربين بالخفين من حيث المسح عليهما في الجملة، والجورب ما كان على شكل الخف من كتّان أو صوف أو غير ذلك
(1)
، وقيل: ما يصنع على هيئة الخف من غير جلد
(2)
.
اتفق فقهاء المذهب الحنفي على جواز المسح على الجوربين إذا كانا مجلدين أو منعلين، كما اتفقوا على عدم جواز المسح عليهما إذا كانا رقيقين يشفان الماء
(3)
، وقد اختلفوا في جواز المسح على الجوربين على قولين:
(1)
التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب، 1/ 213.
(2)
المنح الشافيات، ص: 159، شرح منتهى الإرادات، 1/ 61.
(3)
بدائع الصنائع، 1/ 10، والمراد من الماء بلل اليد عند المسح. (ينظر: رد المحتار، 1/ 268، الحاوي الكبير، 1/ 120، كفاية النبيه في شرح التنبيه، 1/ 360، شرح مختصر خليل للخرشي، 1/ 180).
القول الأول: لا يجوز المسح عليهما عند أبي حنيفة –رحمه الله إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين
(1)
؛ لأنه ليس في معنى الخف الذي يمكن مواظبة المشي فيه إلا إذا كان منعلاً، وهو ما يحمل عليه ما روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه مسح على جوربيه ونعليه
(2)
، وكان
(1)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 1/ 455. المجلد إذا وضع الجلد على أعلاه وأسفله، والمنعل إذا وضع الجلد على أسفله كالنعل. (ينظر: البناية، 1/ 607 - 608)
(2)
أخرجه أبو داود، 1/ 41، كتاب الطهارة، باب المسح على الجوربين، حديث رقم: 159، وعلق بأن المعروف عن المغيرة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، والنسائي في السنن الكبرى، 1/ 123، كتاب الطهارة، باب المسح على الجوربين والنعلين، رقم حديث: 129، وتعقَّبه فقال:(ما نعلم أحدًا تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، والله أعلم)، والترمذي، أبواب الطهارة، باب في المسح على الجوربين والنعلين، حديث رقم: 99، وقال: حديث حسن صحيح، وابن خزيمة، 1/ 99، كتاب الوضوء، باب الرخصة في المسح على الجوربين والنعلين، حديث رقم: 198، وصحَّح إسناده المحقق، وأحمد، 30/ 144، في مسند الكوفيين، حديث المغيرة بن شعبة، رقم 18206، وروي أيضاً من طريق أبي موسى كما في سنن الترمذي (1/ 167)، وسنده في نصب الراية (1/ 97). وهذا الحديث ضعَّفه الأئمة وعلته تفرد أبي قيس –عبد الرحمن بن ثروان-، ولأن المحفوظ عن المغيرة المسح على الخفين. (علل الدارقطني، 7/ 112، رقم: 1240، السنن الكبرى، 1/ 123). وقد صحَّحه الترمذي كما سبق، لكن تعقَّبه النووي في المجموع (1/ 500) وقال بعد أن ذكر من ضعَّفه مثل البيهقي، ونقل تضعيفه أيضَا عن سفيان الثوري وأحمد وعلي بن المديني، ويحيى بن معين ومسلم بن الحجاج:"وإن كان الترمذي قال: حديث حسن فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة". ومن المعاصرين صحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ص: 73، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين، حديث رقم:99. وقال الأرناؤوط في تحقيقه على مسند الإمام أحمد: "وباستعراض أقوال الفريقين نجد من الإنصاف القول: إنَّ من صحَّح المسح على الجوربين بتصحيح هذا الحديث فحسب، قد وهم؛ لأن أكثر الأئمة على تضعيفه، كما سلف، لكن من ذهب إلى عدم جواز المسح على الجوربين مطلقاً بسبب تضعيفه هذا الحديث، قد قصَّر، وفاتَه أنَّ المسح على الجوربين إنما ثبت من أحاديث أُخر، أصحها حديثُ ثوبان. "
ثم قال: "وللمسح على الجوربين شاهدٌ كذلك من حديث ثوبان أخرجه أحمد 37/ 66، - ومن طريقه أبو داود (1/ 102 - 103) - عن يحيى بن سعيد القطان، عن ثور بن يزيد الكلاعي، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله –صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي –صلى الله عليه وسلم، شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين. وإسناده صحيح، رجاله ثقات". (ينظر: مسند أحمد، 30/ 144 - 147).
قلت: قد أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 275)، وقال: إنه حديث صحيح على شرط مسلم، كما صححه الألباني (صحيح أبي داود، 1/ 250) ونقل تصحيح النووي، والذهبي والزيلعي.
والعصائب عمائم (غريب الحديث لابن قتيبة، 1/ 226)، والتساخين بكل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما (غريب الحديث للقاسم بن سلام، 1/ 187، مقاييس اللغة، 3/ 146، غريب الحديث للخطابي، 2/ 61).
مسحه على الجوربين هو الذي يطهر به، ومسحه على النعلين فضلاً
(1)
، أي أنه مسح على الجوربين الملبوس عليهما نعلان منفصلان
(2)
.
القول الثاني: يجوز المسح على الجوربين عند صاحبيه –رحمهما الله- إذا كانا ثخينين لا يشفان، لحديث سابق؛ ولأنه يمكنه المشي فيهما إذا كانا ثخينين، ومعناه أن يستمسك على الساق من غير أن يربط بشيء فأشبه الخف
(3)
.
ويؤيده قول بعض العلماء إن الجورب ما يلبسه أهل البلاد الباردة ويتخذ من غزل الصوف المفتول
(4)
، ومن كان هذا عمله فلا يتحقق غرضه من اتقاء البرد إلا إذا كان ثخيناً غير شفاف.
وإذا رجعنا إلى قواعد الترجيح في المذهب سنجد أنه يقدم قول الصاحبين على قول الإمام إذا كانت المسألة من مسائل اختلاف عصر وزمان وليس اختلاف حجة وبرهان.
(1)
ينظر: شرح معاني الآثار، 1/ 97، نصب الراية، 1/ 189.
(2)
ينظر: عون المعبود مع حاشية ابن القيم، 1/ 189.
(3)
(ثخينين) أي ما يقوم على الساق من غير أن يشد بشيء، و (لا يشفان) أي الذي لا يصف ما تحته. (ينظر: البناية، 1/ 608).
(4)
البناية، 1/ 607، شرح منتهى الإرادات، 1/ 61.
والذي يغلب على الظن من النقولات أن صنعة الجورب قد تطورت أو تغيرت، فما كان يُصنع منه في زمن الإمام لم يكن قابلاً للمشي فيه إلا إذا كان منعلاً أو مجلداً بخلاف ما كان في زمانهما، ويؤيد ذلك تعليقهم الحكم على المشي فيه لا على ما صُنع منه
(1)
.
ولو عُلق الحكم على المصنوع منه فإن الخف والجورب بينهما شبه كبير جداً قد يصل إلى درجة التطابق -كما سبق-، والخلاف حينئذ لا يتصور إلا عند من يرى غير ذلك.
ومن علَّق الحكم بالمصنوع منه فالجورب عنده ما يكون على شكل الخف لكن من غير جلد
(2)
، وعليه فالخف أعم من الجورب، إذ الجورب يُصنع من كل ما يُصنع منه الخف إلا الجلد.
ومع هذا روي أن أبا حنيفة رحمه الله رجع إلى قول صاحبيه، وعليه الفتوى
(3)
، وقد استقر الحكم على ذلك
(4)
.
(1)
بدائع الصنائع، 1/ 13. ويؤيده أيضًا ما روى الدولابي في الكنى والأسماء (2/ 561) من طريق أحمد بن شعيب، عن عمرو بن علي، أخبرني سهل بن زياد أبو زياد الطحان، حدثنا الأزرق بن قيس قال: رأيت أنس بن مالك أحدث، فغسل وجهه ويديه ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما؟ فقال: إنهما خُفان، ولكن من صوف. وصحح سنده أحمد شاكر رحمه الله وقال: إنه موقوف على أنس، من فعله وقوله، ووجه الدلالة فيه أنه لم يكتفِ بالفعل، بل صرَّح بأن الجوربين خفان، لكنهما من صوف، وهو صحابي من أهل اللغة قبل دخول العجمة واختلاط الألسن. وقد بيَّن أن معنى الخف أعم من أن يكون من الجلد وحده، وقوله هذا أقوى حجة من أن يقول مثله مؤلف من مؤلفي اللغة؛ لأنهم ناقلون للغة، وأكثر نقلهم من غير إسناد، ومع ذلك يحتج بهم العلماء، وقول الصحابي العربي من الصدر الأول بإسناد صحيح أولى أن يحتج به. وهذا يفيد أن الجوربين داخلان في مدلول كلمة الخفين بدلالة الوضع اللغوي قبل أن يدخلا بالقياس. (ينظر: مقدمة كتاب المسح على الجوربين لمحمد جمال الدين القاسمي، ويليه إتمام النصح في أحكام المسح للألباني، ص: 13 - 15). قلت: وأقره على ذلك الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- إذ لم يعترض على كلامه كما اعترض عليه في مواضع أخر.
(2)
قلت: ويرده أثر أنس بن مالك السابق، وإن الخف كان من الجلد في الغالب.
(3)
الهداية، 1/ 32، الاختيار، 1/ 25.
(4)
مجمع الأنهر، 1/ 50.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في جواز المسح على الجوربين إذا لم يكونا مجلدين أو منعلين على قولين
(1)
:
القول الأول: يجوز المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين لا يشفان، وهو الراجح عند الحنفية –كما سبق -، وهو قول الحنابلة
(2)
، وقول غير واحد من أهل العلم مثل سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق
(3)
.
القول الثاني: لا يجوز المسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدين من أعلاه وأسفله، وهو قول المالكية
(4)
، وهو قول الشافعية
(5)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بجواز المسح على الجوربين بأدلة، منها:
(1)
وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في المسألة، وكذلك هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها؟ (ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 26).
(2)
مختصر الخرقي، 16، المغني، 1/ 215، والإمام أحمد –رحمه الله تعالى- ذكر الجوربين عند حكم جواز المسح على النعلين، فقال:"إذا كان في القدم جوربين قد ثبتا في القدم فلا بأس بالمسح على النعلين"، (مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، ص: 34)، وعليه فإن الجورب منفرد والنعل منفرد.
(3)
سنن الترمذي، 1/ 167، نسبة إليهم.
(4)
مختصر خليل، ص: 23، وروي عن الإمام مالك أنه رجع إلى عدم جواز المسح على الجوربين مطلقاً. (ينظر: المدونة، 1/ 143). والأول أصح. (ينظر: الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 178، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 26).
(5)
مختصر المزني، مطبوع ملحقًا بالأم للشافعي، 8/ 102، الحاوي الكبير، 1/ 364، المجموع، 1/ 499، إلا أنه لم يذكر المجلد، بل عبر عنه بالصفيق، وهو ما كثف نسْجُه، وقال: إنه صحيح من مذهبه، ويؤيده نسبة القول إلى الشافعي كما سبق في كلام الترمذي.
الدليل الأول: حديث المغيرة بن شعبة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين
(1)
.
وجه الدلالة: هذا يدل على أن النعلين كانا على الجوربين، لكنهما منفصلان؛ لأنه لا يجوز المسح على النعلين فقط، إذ لا يستران القدمين، فلا بد من حمل الحديث على أنه مسح على الجوربين الملبوس عليهما نعلان منفصلان.
ونوقش بأنه ضعيف لا يحتج به، ولو صح لحمل على المنعل أو المجلد الذي يمكن متابعة المشي فيه
(2)
.
ويجاب عنه بأنه اختلف في صحته، ولو تقرر أنه ضعيف فهناك أحاديث صحيحة وآثار ثابتة عن الصحابة –رضي الله عنهم تدل على الجواز، وهي من الشواهد وما يعتضد به.
الدليل الثاني: إجماع الصحابة –رضي الله عنهم، فإنهم مسحوا على الجوارب
(3)
، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعاً
(4)
.
الدليل الثالث: قياس الجورب على الخف، فإنه لا يظهر بينهما فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه
(5)
، والتفريق بينهما يكون تفريقا بين المتماثلين، وهو خلاف ما جاءت به الشريعة.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بعدم جواز المسح على الجوربين إلا أن يكون مجلدين أو منعلين بحديث المغيرة السابق ذكره
(6)
وحموا معناه على الجوربين المنعلين لا غيرهما.
(1)
سبق تخريجه قريباً.
(2)
المجموع، 1/ 500
(3)
سنن أبي داود، 1/ 41.
(4)
المغني، 1/ 215.
(5)
المغني، 1/ 215، عون المعبود مع حاشية ابن القيم، 1/ 188.
(6)
سبق تخريجه قريباً.
وجه الدلالة: كون الجورب ليس في معنى الخف؛ لأنه لا يمكن متابعة المشي فيه إلا إذا كان منعلاً
(1)
، وعليه فلا بد من حمل الحديث على ذلك؛ لأنه حكاية حال.
ونوقش بأن الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته لا يجوز المسح على الجوربين إلا أن يكونا مما يثبت بنفسه، ويمكن متابعة المشي فيه
(2)
، وذلك موجود في الجوربين الثخينين، ولا فرق
(3)
.
ومعنى الحديث الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين الملبوس عليهما نعلان منفصلان، وليس المنعلين، فمسحه على النعل كان فضلاً.
الترجيح:
بعد استعراض القولين بأدلتهما يظهر لي أن القول الأول القائل بجواز المسح على الجوربين أقرب إلى الرجحان من غيره؛ لقوة أدلته وتعليلاته ولورود المناقشة على دليل القول الثاني، ولأن تصنيع الجوارب بطرق حديثة يعتمد في الغالب على ثلاث مواد أساسية: الصوف والنايلون والمطاطة
(4)
، وهذا قريب جداً من الجلد، وقد يكون أفضل منه؛ لأن الصوف للتدفئة، والنايلون لمنع وصول الماء إلى الجسد (ويستخدم في صناعة معاطف المطر
(5)
، والمطاطة للمرونة.
ثم القول بمنع المسح على الجوربين له مآلات ينبغي التنبه لها، ومن ذلك:
- مخالفة معاني الرخصة الشرعية؛ لأن المسح على الخفين جاء تخفيفاً وتسهيلاً على الأمة، والجورب الآن حل محل الخف في الأغلب الأعم، وفي منع المسح عليه مشقة على الناس.
(1)
الحاوي الكبير، 1/ 365.
(2)
المغني، 1/ 215.
(3)
الشرح الكبير على متن المقنع، 1/ 150.
(4)
ينظر: موقع سمارت وول لشركة متخصصة في صناعة منتجات الصوف، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafyone
(5)
ينظر: موقع مصادر الكيمياء، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafytwo
- مخالفة لما جاء به الشرع من الجمع بين المتماثلات والتفريق بين المتفرقات، وفي منع المسح على الجوربين تفريق بين المتماثلات كما مضى.
- تكلفة الخف المصنوع من الجلد تفوق تكلفة الجوارب بأضعاف، وقد لا يتيسر للجميع شراؤه فتنعدم معاني الرخصة، والله أعلم.
ثمرة الخلاف:
تظهر ثمرة الخلاف في بعض المسائل، منها:
1.
لو أن إنسانا توضأ في يوم بارد وأراد أن يمسح على الجوربين الثخينين لا يشفان الماء، لجاز له ذلك على القول الأول؛ لأنه في معنى الخف، بخلاف القول الثاني.
2.
ولو أراد أن يمسح على الجوربين المنعلين جاز له ذلك عند الجميع، ولو مسح على الجوربين الملبوس عليهما نعلان منفصلان يجوز على القول الأول؛ لأن المسح على النعل فضل، وعلى القول الثاني لا يجوز؛ لأن المسح لا يكون إلا على المنعلين.
3.
ولو أراد أن يمسح على الجوربين الرقيقين يشفان ماء المسح أي بلل اليد أو يكشفان ما تحتهما فلا يجوز عند عامةة الفقهاء.
المطلب الثالث: صلاة المتيمم إذا رأى النبيذ
النبيذ في أصل اللغة من النَّبْذ وهو طرحك الشيء من يدك أمامك أو خلفك
(1)
، وهو أي النبيذ تمر يلقى في الآنية ويصب عليه الماء
(2)
، ويصنع من غير التمر مثل العسل ويسمى بالبِتع، والشعير ويسمى بالجَعة، و الذرة ويسمى بالمِزْر وهكذا
(3)
، ولا فرق بين مسكر أو غير مسكر في التسمية
(4)
.
هذه المسألة مبنية على تحديد حقيقة النبيذ وحكمه من حيث جواز الوضوء به، والحنفية يرون أن فاقد الماء ومن في حكمه لا يتيمم مع وجود النبيذ، بل يتعين الوضوء به، وينصون على نبيذ التمر
(5)
.
ويذكرونها في كتاب الطهارة عند ذكر نواقض التيمم مع مسألة بطلان صلاة المتيمم إذا رأى الماء
(6)
، وقد اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
(1)
العين، 8/ 191.
(2)
مقاييس اللغة، 5/ 380، البناية شرح الهداية، 1/ 497.
(3)
غريب الحديث للقاسم بن سلام، 2/ 176.
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر، 5/ 7.
(5)
الأصل للشيباني، 1/ 75، المبسوط، 1/ 89، مجمع البحرين، ص: 87، وفي باب الحلف لا يفرقون بين الأنبذة، وكلها سواء، فلو حلف لا يشرب نبيذاً ولا نية له فأي نبيذ شرب فإنه يحنث. (ينظر: الأصل للشيباني، 3/ 314).
(6)
مجمع البحرين، ص: 86 - 87.
القول الأول: إن الوضوء بنبيذ التمر عند فقدان الماء يتعين
(1)
، وهو رواية عن أبي حنيفة–رحمه الله بدليل من السنة أن النبي –صلى الله عليه وسلم توضأ بالنبيذ ليلة الجن
(2)
.
والقول الثاني: ما روي عن أبي يوسف أنه يتيمم ولا يتوضأ بالنبيذ
(3)
.
والقول الثالث: ما روي عن محمد أنه يتوضأ ويتيمم
(4)
.
لكن روي أن أبا حنيفة –رحمه الله رجع عن قوله وقال: يتيمم ولا يتوضأ بالنبيذ؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم توضأ به بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة.
(5)
(1)
وصفته أن يكون حلواً رقيقاً يسيل على الأعضاء كالماء، لا ثخيناً. (ينظر: المبسوط، 1/ 88، تحفة الفقهاء، 1/ 69).
(2)
أخرجه أبو داود، 1/ 21، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، حديث رقم: 84، وابن ماجه، 1/ 134 - 135، كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بالنبيذ، حديث رقم: 384 و 385، وقد ضعفه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 15)، ورواه في باب سماه بباب منع التطهير بالنبيذ، وضعفه ابن حجر في الفتح (1/ 354) وقال: إن علماء السلف أطبقوا على تضعيفه، ومن المعاصرين ضعفه شعيب الأرناؤوط (سنن أبي داود مع تحقيقه، 1/ 63)، وكذلك الألباني في ضعيف أبي داود، 1/ 30.
(3)
ينظر: المبسوط، 1/ 88.
(4)
ينظر: المبسوط، 1/ 88، تحفة الفقهاء، 1/ 45 - 46.
(5)
الأصل للشيباني، 1/ 75، المبسوط، 1/ 88، بدائع الصنائع، 1/ 15، الهداية، 1/ 27، وصرَّح بأنها رواية ثانية له، النهر الفائق، 1/ 97، وقد صرَّح بتصحيح الرجوع، وكذا في التنبيه على مشكلات الهداية، 1/ 379، والعناية، 1/ 118، ونص على أن رواية الرجوع من طريق الحسن بن زياد، وزاد العيني في البناية رواية أسد بن عمر، ونقل تصحيح قاضي خان رجوعه، وأنه قوله الأخير، وأنه اختيار الطحاوي (1/ 497).
فقد اتفق قول الشيخين فيُقدم، وقد تقرر أن الحنفية يرون عدم جواز الوضوء بالنبيذ عند فقدان الماء، بل ينتقل إلى التيمم، وعليه الفتوى
(1)
، وهو أيضاً قول المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
وعليه فإن المسألة عادت إلى الاتفاق بين الأئمة الأربعة
(5)
.
ومن أدلتها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].
وجه الدلالة: لم يجعل هاهنا وسطاً بين الماء والصعيد، وأمر بالانتقال إلى التيمم لمجرد فقدان الماء
(6)
، وليس النبيذ ماءً مطلقاً، لا في اللغة ولا في الشرع
(7)
، ومن توضأ بالنبيذ فقد ترك المأمور به
(8)
.
ولأن الماء نكرة في سياق النفي، وهي تعم، فلا يجوز التيمم مع وجوده
(9)
.
(1)
مجمع البحرين، ص: 87، ملتقى الأبحر، ص: 57، مجمع الأنهر، 1/ 36 - 37، حلبي كبير، ص:73. وقد جعل العلماء الفتوى على قول أبي حنيفة في العبادات مطلقًا بالاستقراء، ما لم يكن عنه رواية كقول المخالف كما في طهارة الماء المستعمل والتيمم فقط عند عدم غير نبيذ التمر. (ينظر: رد المحتار، 1/ 71، حلبي كبير، ص: 73).
(2)
البيان والتحصيل، 1/ 180 - 182، عيون الأدلة، 2/ 766، الذخيرة، 1/ 168.
(3)
نهاية المطلب في دراية المذهب، 1/ 282، المجموع، 1/ 93.
(4)
مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله، ص: 7، فقرة: 17، وقد قال: إن التيمم أحب إليه من الوضوء بالنبيذ، والمغني، 1/ 10، المبدع في شرح المقنع، 1/ 28، ونص على نجاسته في الإنصاف، 1/ 332.
(5)
البحر الرائق، 1/ 144.
(6)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 39، المغني، 1/ 10.
(7)
الحاوي الكبير، 1/ 48.
(8)
المجموع، 1/ 94.
(9)
المغني، 1/ 11.
الدليل الثاني: حديث أبي ذر –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين"
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: في الحديث دليل على الانتقال إلى التيمم عند فقدان الماء ولو طالت المدة.
وأما مسألة صلاة المتيمم إذا رأى النبيذ فهي متفرعة عن مسألة صلاة المتيمم إذا رأى الماء، ولها أقوالها وأدلتها، وقد اتفق الأئمة على أن النبيذ لا يأخذ حكم الماء من حيث الوضوء به –كما سبق-، وعليه فإن وجوده قبل الصلاة لا يمنع التيمم كما أن رؤيته أثناء الصلاة لا يبطلها.
وعلى فرض وجود الخلاف في مسألتي الوضوء بالنبيذ وما انبنى عليها من رؤيته من قبل المتيمم أثناء الصلاة فإن لها ثمرات عملية، على سبيل المثال:
- لو أن إنساناً أراد أن يتوضأ للصلاة فلم يجد الماء وعنده نبيذ التمر، فإنه يتوضأ به على قول الحنفية المرجوع عنه، ولا يتوضأ به على قول المالكية والشافعية والحنابلة، وعليه لو لم يجد الماء ولا النبيذ فتيمم وأقام الصلاة ثم رأى النبيذ، فعلى قول الحنفية بطل التيمم؛ لأنه زال السبب الشرعي لجوازه، وعند بقية الأئمة لا أثر له؛ لأنه لا يأخذ حكم الماء، فوجوده ابتداءً لم يمنع من التيمم ورؤيته أثناء الصلاة لم يبطلها من باب أولى.
(1)
أخرجه أبو داود، 1/ 90، كتاب الطهارة، باب الجنب يتيمم، رقم حديث: 332، والترمذي، 1/ 171، كتاب الطهارة، باب الصلوات بتيمم واحد، رقم حديث: 322، والحاكم في المستدرك، 1/ 284، كتاب الطهارة، رقم حديث: 627، وصحح إسناده العيني في عمدة القاري (2/ 245)، وابن القيم في تهذيب السنن مع عون المعبود، 1/ 360، ومن المعاصرين صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 149.
(2)
المغني، 1/ 10.
المطلب الرابع: الحيض والاستحاضة:
المسألة الأولى: ثبوت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة.
المسألة الثانية: نصب العادة للمبتدأة.
المسألة الثالثة: الطهر المتخلل بين الدمين.
المسألة الرابعة: تحديد سن اليأس.
المسألة الأولى: ثبوت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة:
الحيض هو الدم الخارج من الرحم (لا يعقب الولادة)
(1)
الممتد إلى وقت معلوم، والنفاس الدم الذي يخرج عقيب الولادة، والاستحاضة هي ما انتقص من أقل الحيض وما زاد على أكثر الحيض والنفاس
(2)
.
وقد جاء في كتب الحنفية ما يفيد أن حكم الحيض والنفاس والاستحاضة لا يثبت إلا بظهور الدم وبروزه
(3)
، وروي عن محمد –رحمه الله في غير الأصول أن حكم الحيض والنفاس يثبت إذا أحست بالبروز، وإن لم يظهر، وحكم الاستحاضة لا يثبت إلا بالظهور؛ لأن الحيض والنفاس لهما وقت معلوم فيمكن إثبات حكمهما باعتبار وقتهما إذا أحست بالبروز، والاستحاضة حدث كسائر الأحداث ليس له وقت معلوم لإثبات حكمه فلا يثبت إلا بالظهور، وسموه ركن الحيض، والفتوى على الأول، وهو ظاهر الرواية
(4)
.
(1)
بدائع الصنائع، 1/ 39.
(2)
تحفة الفقهاء، ص:34.
(3)
المبسوط، 3/ 151.
(4)
ينظر: المبسوط، 3/ 151، بدائع الصنائع، 1/ 39، تبيين الحقائق، 1/ 54، البناية شرح الهداية، 1/ 639، رد المحتار، 1/ 284.
والدليل ما روي أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها إن فلانة تدعو بالمصباح ليلاً فتنظر إليها فقالت عائشة رضي الله عنها: "كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتكلف لذلك إلا بالمس"
(1)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على أن المس لا يكون إلا بعد الخروج، والبروز
(2)
.
ويظهر أنه قول المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
، لأني لم أجدهم يذكرون هذه المسألة بألفاظها، بل في ثنايا الكلام عن تعريف الدماء الخارجة ويقيدونه بخروج الدم ورؤيته، وهو موافق لقول الحنفية، فالمسألة متفق عليها بين المذاهب.
وعلى فرض وجود الخلاف كما عند الحنفية فإن ثمرته تظهر في صوم المرأة إذا أحست بأعراض الحيض قبل غروب الشمس وأن الدم ينزل، لكن لم يخرج حقيقة ولم تره إلا بعد الغروب، فالصوم صحيح عند الجميع، وعند محمد –رحمه الله تقضيه.
(1)
لم أجده بهذا اللفظ، ولا عن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها، وقد ذكره البخاري في كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره، ونصه:"وبلغ بنت زيد بن ثابت أن نساء يدعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر، فقالت: (ما كان النساء يصنعن هذا وعابت عليهن) "، 1/ 71.
وجه الدلالة: الأثر فيه إشارة إلى الظهور وانقطاعه، فبالظهور يثبت الحيض، وبانقطاع الدم يثبت الطهر.
(2)
بدائع الصنائع، 1/ 39.
(3)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 185، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 56، وقد ذكر أنواع الدماء الخارجة من الرحم وعرفها بألفاظ الخروج، وكذلك فعل صاحب التاج والإكليل، 1/ 536.
(4)
دراية المطلب، 1/ 422، الغاية والتقريب (متن أبي شجاع)، ص: 7، المجموع، 2/ 346، روضة الطالبين، 1/ 144.
(5)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 133، الشرح الكبير على متن المقنع، 1/ 349، المبدع في شرح المقنع، 1/ 225.
المسألة الثانية: نصب العادة للمبتدأة:
المبتدأة هي التي لم تتكرر منها رؤية الدم الخارج
(1)
، فإذا رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً مرة واحدة ثم ابتليت بالاستمرار يصير ذلك عادة لها في زمان الاستمرار، فلو رأت خمسة دماً وخمسة عشر طهراً ثم استمر بها الدم فإنها تترك من أول الاستمرار خمسة وتصلي خمسة عشر، ويكون ذلك عادتها التي تقيس عليها الحيضة الموالية، لكن إذا رأت خلاف عادتها مرة واحدة فإن عادتها لا تنتقل على قول أبي حنيفة ومحمد –رحمهما الله-، حتى ترى المخالف مرتين على الأقل، وعلى قول أبي يوسف –رحمه الله تنتقل العادة برؤية المخالف مرة؛ لأن ذلك أيسر على النساء، وعليه الفتوى
(2)
.
والذي يظهر أن التيسير على النساء موجب الأخذ بقول أبي يوسف –رحمه الله بدل قول الطرفين.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء فيما تثبت به العادة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تثبت العادة بمرة واحدة، وهو قول الحنفية –كما سبق-، والمالكية
(3)
، والشافعية في الأصح.
(4)
(1)
تحفة الفقهاء، ص: 34، بدائع الصنائع، 1/ 41.
(2)
ينظر: المبسوط، 3/ 161 - 166، البناية، 1/ 668، درر الحكام، 1/ 42، ملتقى الأبحر، ص: 82، رد المحتار، 1/ 301 - 303. فلو كانت عادتها ستة ثم حاضت حيضة أخرى سبعة، ثم حاضت حيضة أخرى ستة، فعادتها ستة بإجماع علماء المذهب؛ فعند الطرفين؛ لأن العادة من ستة قد تكررت مرتين بصفة المخالف وبنيا الاستمرار عليها، وأما عند أبي يوسف فلأن العادة تنتقل بالمرة الواحدة، وقد بنى الاستمرار على المرة الأخيرة (وهي ستة)؛ لأن العادة انتقلت إليها. (ينظر: بدائع الصنائع، 1/ 42).
(3)
الذخيرة، 1/ 386، شرح مختصر خليل للخرشي، 1/ 205، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/ 169.
(4)
نهاية المطلب في دراية المذهب، 1/ 345، المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، 1/ 81، المجموع شرح المهذب، 2/ 402، روضة الطالبين، 1/ 145.
القول الثاني: تثبت العادة إذا تكررت مرتين، وهذا ما يوافق قول الطرفين من الحنفية –كما سبق-، وهو قول عند الشافعية
(1)
، ورواية عند الحنابلة
(2)
.
القول الثالث: تثبت العادة إذا تكررت ثلاثاً متساوية ابتداءً وانتهاءً، وهو رواية ثانية عند الحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن العادة تثبت بمرة واحدة بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} [الأعراف: 29].
وجه الدلالة: الآية فيها تشبيه العود بالبدء فيفيد إطلاق العود على ما فعل مرة واحدة
(4)
.
نوقش بأن الاستدلال غير ظاهر؛ لأن الآية لا تفيد إطلاق العود على مرة واحدة، وإنما أطلق العود فيها على المرة الثانية
(5)
.
(1)
المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، 1/ 81، المجموع شرح المهذب، 2/ 402.
(2)
المغني، 1/ 230.
(3)
المغني، 1/ 230، الإقناع، 1/ 65.
(4)
ينظر: مواهب الجليل، 1/ 368.
(5)
شرح الزرقاني، 1/ 239.
الدليل الثاني: حديث أم سلمة زوج النبي –صلى الله عليه وسلم أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر، ثم لتصلي"
(1)
.
وجه الدلالة: الحديث قد دل على اعتبار الشهر الذي قبل الاستحاضة، ولأن الظاهر أنها فيه كالذي يليه لقربه إليها، فهو أولى مما انقضى
(2)
.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن العادة لا تثبت إلا إذا تكررت مرتين بكون لفظ العادة مشتق من العود، وذلك لا يتحقق إلا بأكثر من مرة.
نوقش بأن لفظ العادة لم يرد به نص فيتعلق به
(3)
.
دليل القول الثالث:
استدل القائلون بأن العادة لا تثبت إلا إذا تكررت ثلاثاً بالحديث: "دعي الصلاة أيام أقرائك"
(4)
.
(1)
أخرجه مالك في الموطأ، ص: 52، أبواب الصلاة، باب المستحاضة، رقم حديث: 82، وقال عنه البيهقي في السنن الكبرى: إنه حديث مشهور، 1/ 493، وأحمد، 44/ 307، مسند النساء، حديث أم سلمة زوج النبي –صلى الله عليه وسلم، رقم حديث: 26716، وقد صححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه، والنسائي، 1/ 119، كتاب الطهارة، باب ذكر الاغتسال من الحيض، رقم حديث: 208، وكذلك 1/ 182، كتاب الحيض والاستحاضة، باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر، رقم حديث: 355، وقد مال إلى تصحيحه ابن الملقن في البدر المنير، 3/ 121، وقال:" هذا الحديث على شرط الصحيح رواه باللفظ المذكور الأئمة"، وقد صحَّح الحديث الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 33.
(2)
مغني المحتاج، 1/ 288.
(3)
مغني المحتاج، 1/ 288، وقد ذكر الدليل والمناقشة.
(4)
أخرجه الدارقطني، 1/ 394، كتاب الطهارة، رقم حديث 822، ولم يثبت إسناده عند البيهقي كما في السنن الصغير، 3/ 151.
وجه الدلالة: ورد في الحديث لفظ (الأقراء)، وهو جمع قرء، وأقله ثلاثة
(1)
، والعادة إذاً لا تثبت إلا إذا تكررت ثلاثاً.
وقد يناقش بأن الحديث لم يثبت، بل ثبت لفظ:"دعي الصلاة أيام حيضك"
(2)
، وهو مفرد، وإن صح الاستدلال به فهو دليل القول الأول.
الترجيح:
بعد استعراض المسألة بأقوالها وأدلتها لكل قول يظهر لي أن القول الأول أقرب إلى الرجحان؛ لقوة دليله وورود المناقشة على أدلة الأقوال الأخرى، وللخلاف فيها ثمرة عملية تظهر في بعض الأمثلة، ومنها:
- لو أن امرأة رأت في الشهر الأول أربعة دماً وأربعة عشر طهراً، وفي الثاني ستة دماً وأربعة عشر طهراً، وفي الثالث خمسة دماً وخمسة عشر طهراً، فعلى القول الأول تثبت عادتها بحسب الشهر الأخير وهو خمسة، وعلى القول الثاني كذلك؛ لأنها تكررت مرتين ضمناً في الشهر الثاني والثالث
(3)
، وعلى القول الثالث لم تثبت عادتها بعد؛ لأنها غير متساوية ابتداءً وانتهاءً في الشهور الثلاثة.
(1)
مغني المحتاج، 1/ 288.
(2)
أخرجه أحمد، 40/ 173، مسند النساء، منسد الصديقة عائشة بنت أبي بكر –رضي الله عنها، رقم حديث: 24145، وقد صححه المحقق، وقال:"حديث صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير علي بن هاشم، فمن رجال مسلم".
(3)
نهاية المطلب، 1/ 346.
المسألة الثالثة: الطهر المتخلل بين الدمين:
مسألة الطهر المتخلل بين الدمين ترد في كتب الحنفية في كتاب الحيض والنفاس
(1)
، وقد اتفقوا على أن الطهر المتخلل إذا كان خمسة عشر يوماً فأكثر يكون فاصلاً بين الدمين في الحيض، فما بلغ من كل من الدمين نصاباً جعل حيضاً، كما اتفقوا على أنه إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يكون فاصلاً وإن كان أكثر من الدمين
(2)
، واختلفوا فيما بين ذلك على خمس روايات
(3)
:
1.
أن الأصل عند أبي يوسف، وقول آخر عند أبي حنيفة –رحمهما الله- أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يومًا لا يصير فاصلاً، بل يجعل كالدم المتوالي، ومن أصله أيضًا أنه يجوز بداية الحيض بالطهر، وكذلك ختمه، بشرط أن يكون قبله وبعده دم، فإن كان بعده دم، ولم يكن قبله دم يجوز ختم الحيض بالطهر، ولا يجوز بدايته به، وإن كان قبله دم ولم يكن بعده دم يجوز بداية الحيض بالطهر، ولا يجوز ختمه به، ومن أصله أيضاً أنه يجعل زمانًا هو طهر كله حيضًا بإحاطة الدمين به.
ومن الأمثلة على ذلك:
- المبتدأة لو رأت يوماً دماً وأربعة عشر طهراً ويومًا دماً فالعشرة من أول ما رأت عنده حيض يحكم ببلوغها.
- وكذلك إذا رأت يوماً دماً وتسعة طهراً ويوماً دماً.
2.
وروى محمد عن أبي حنيفة –رحمهما الله- إن الشرط أن يكون الدم محيطاً بطرفي العشرة، فإن كان كذلك لم يكن الطهر المتخلل فاصلاً بين الدمين وإلا كان فاصلاً، وعلى هذه الرواية لا يجوز بداية الحيض ولا ختمه بالطهر.
(1)
المبسوط، 3/ 154.
(2)
ينظر: رد المحتار، 1/ 289، والمسألة لها علاقة وثيقة بأقل مدة الحيض وأكثره.
(3)
وقد ذكرها كلها مع الأمثلة صاحب المبسوط، 3/ 154 - 158، وقمت باختصارها وإبقاء ما يتعلق بالمسألة فقط، وينظر أيضاً: بدائع الصنائع، 1/ 43 - 44، العناية شرح الهداية، 1/ 173، البناية، 1/ 655 - 657.
ومن الأمثلة على ذلك:
- لو رأت يوماً دماً وثمانية طهراً ويوماً دماً أو رأت ساعة دماً وعشرة أيام غير ساعتين طهراً وساعة دماً فالعشرة كلها حيض؛ لإحاطة الدم بطرفي العشرة.
- ولو رأت يوماً دماً وسبعة طهراً ويوماً دماً لم يكن شيء منه حيضاً، وهذا خلاف الرواية الأولى.
3.
وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة -رحمهما الله- مع هذا شرطًا آخر، وهو أن يكون المرئي في أكثر الحيض مثل أقله فإن وجد هذا الشرط فالطهر المتخلل لا يكون فاصلاً، وإن لم يوجد كان فاصلاً، ولم يكن شيء منه حيضاً، وهو قول زفر رحمه الله.
وجه الرواية أن الحيض لا يكون أقل من ثلاثة أيام، وهو اسم للدم، فإذا بلغ المرئي هذا المقدار كان قوياً في نفسه فجعل أصلاً وما يتخلله من الطهر تبعاً له، وإن كان الدم دون هذا كان ضعيفاً في نفسه لا حكم له إذا انفرد، فلا يمكن جعل زمان الطهر حيضاً تبعاً.
ومن الأمثلة على ذلك:
- لو رأت يوماً دماً وثمانية طهراً ويوماً دماً لم يكن شيء منه حيضاً على هذه الرواية؛ لأن المرئي من الدم دون الثلاث.
- ولو رأت يومين دماً وسبعة طهراً ويوماً دماً فالعشرة حيض؛ لأن المرئي بلغ أقل مدة الحيض.
- وكذلك إن رأت يوماً دماً وأربعة طهراً ويوماً دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً فالعشرة حيض.
4.
والأصل عند محمد رحمه الله وعليه الفتوى أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان دون ثلاثة أيام لا يصير فاصلاً، فإذا بلغ الطهر ثلاثة أيام أو أكثر نظر فإن استوى الدم بالطهر في أيام الحيض أو كان الدم غالبًا لا يصير فاصلاً، وإن كان الطهر غالباً يصير فاصلاً.
وجه الرواية أن الطهر معتبر بالحيض، فكما تبني ما دون الثلاث من الحيض لا حكم له ويجعل كحال الطهر، فكذلك ما دون الثلاث من الطهر لا حكم له فيجعل كالدم المتوالي.
وإذا بلغ ثلاثة أيام فصاعداً فإن كان الدم غالباً فالمغلوب لا يظهر في مقابلة الغالب.
وإن كانا سواء فكذلك لوجهين:
أحدهما: قياس، وهو تبني اعتبار الدم يوجب حرمة الصوم والصلاة، واعتبار الطهر يوجب حل ذلك، فإذا استوى الحلال والحرام يغلب الحرام الحلال كما في التحري في الأواني إذا كانت الغلبة للنجاسة أو كانا سواء لا يجوز التحري فهذا مثله.
والثاني: استحسان، وهو أن المرأة لا ترى الدم على الولاء؛ لأن ذلك يُضْنيِها فيقتلها فبهذا الاعتبار لا بد أن يجعل بعض الزمان الذي لم يكن فيه الدم معتبراً بالحيض وعند ذلك يغلب الدم على الطهر عند التساوي فلهذا جعلناه كالدم المتوالي.
فأما إذا غلب الطهر الدم يصير فاصلاً؛ لأن حكم الغالب ظاهر شرعًا، وإذا صار فاصلاً بقي كل واحد من الدمين منفرداً عن صاحبه فيعتبر فيه إمكان جعله حيضاً كأنه ليس معه غيره، وإن وجد الإمكان فيهما جعل المتقدم حيضاً؛ لأنه أسرعهما إمكاناً، وأمر الحيض مبني على الإمكان، ثم لا يجعل المتأخر حيضاً؛ لأنه ليس بينهما طهر خمسة عشر يوماً، ولا بد أن يتخلل بين الحيضتين طهر تام، وأقل الطهر التام خمسة عشر يوماً.
ومن الأمثلة على ذلك:
- مبتدأة رأت يوماً دماً ويومين طهراً ويومًا دماً فالأربعة حيض؛ لأن الطهر المتخلل دون الثلاث.
- ولو رأت يوماً دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً لم يكن شيء منه حيضًا؛ لأن الطهر بلغ ثلاثة أيام، وهو غالب على الدمين فصار فاصلاً.
- وكذلك إن زادت في الطهر فإن رأت يوماً دماً وثلاثة طهراً ويومين دماً فالستة كلها حيض؛ لأن الدم استوى بالطهر في طرفي الستة فصار غالباً.
- ولو رأت يومًا دماً وأربعة طهراً ويوماً دماً لم يكن شيء منه حيضًا؛ لأن الطهر غالب.
- وكذلك لو رأت يومين دماً وخمسة طهراً ويوماً دمًا لم يكن شيء منه حيضًا؛ لأن الطهر غالب.
- ولو رأت ثلاثة دماً وأربعة طهراً ويوماً دمًا فالثمانية حيض؛ لاستواء الدم بالطهر.
- ولو رأت ثلاثة دماً وخمسة طهراً ويوماً دماً فحيضها الثلاثة الأولى؛ لأن الطهر غالب فصار فاصلاً، والمتقدم يمكن أن يجعل بانفراده حيضًا فجعلناه حيضاً.
- ولو رأت يوماً دماً وخمسة طهراً وثلاثة دماً فحيضها الثلاثة الأخيرة.
- وإن رأت ثلاثة دماً وستة طهراً وثلاثة دماً فحيضها الثلاثة الأول؛ لأنه أسرعها إمكاناً
(1)
.
5.
الأصل السابق هو الأصل عند الحسن بن زياد –رحمه الله أيضًا إلا أنه خالفه في اعتبار غلبة الدم، وفي مساواة الدم بالطهر
(2)
.
وقد تبين مما سبق أن علماء المذهب الحنفي قد اتفقوا على أن الطهر المتخلل إذا كان خمسة عشر يومًا فأكثر يعتبر فاصلاً بين الدمين، والعكس إن كان دون ثلاثة أيام، وقد اختلفوا فيما بين ذلك، والسرخسي رجَّح الرواية الرابعة، وذكر أن الفتوى عليه
(3)
، والذي يظهر أن ذلك ليس على إطلاقه، لأنه جاء في تبيين الحقائق "وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يومًا لم يفصل؛ لأنه طهر فاسد، فصار بمنزلة الدم، وكثير من المتأخرين أفتوا بهذه الرواية؛ لأنها أسهل على المفتي والمستفتي"
(4)
، ويُستنتج منه ما يلي:
- أنه ذكر المتأخرين مع علامة الترجيح مثل الفتوى.
- قوله (كثير) يدل على أنه ليس من المتفق عليه أيضاً ترجيحهم رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة.
- سبب الترجيح هو الأخذ بالأسهل على المفتي والمستفتي.
وإذا رجعنا إلى قواعد الترجيح رأينا أن رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أقوى من قول محمد، وقد وافق قول الإمام قول أحد صاحبيه فيقدم، ولأن محمداً له رواية عن الإمام أيضاً كما له رأي بناه على أصل، وقد عدل عن الرواية إلى القول.
(1)
ينظر: المبسوط، 3/ 154 - 158، بدائع الصنائع، 1/ 43 - 44، العناية شرح الهداية، 1/ 173، البناية، 1/ 655 - 657.
(2)
ينظر: المبسوط، 3/ 158.
(3)
المبسوط، 3/ 156.
(4)
تبيين الحقائق، 1/ 60.
واختيار ما عليه الفتوى عند كثير من المتأخرين وعليه قول الشيخين أولى أن يُقدَّم على ما عليه الفتوى عند بعضهم وعليه قول أحد صاحبيه فقط.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء في الطهر المتخلل بين الدمين الذي لم يبلغ خمسة عشر يوماً؛ هل يضم الدم إلى الدم ويكون ما بينهما طهراً (وهو قول التلفيق
(1)
،
(2)
أو يكون حيضاً (وهو قول السحب
(3)
،
(4)
على القولين:
القول الأول: قول التلفيق، ومعناه أن الطهر المتخلل يأخذ حكم الطهر المعتبر إذا لم يتجاوز مجموع أيام الدم وما تخلله من طهر خمسة عشر يوماً، وكان مجموع أيام الدم الملفقة يتجاوز أقل الحيض، وهو قول المالكية
(5)
، وقول عند الشافعية
(6)
، وقول الحنابلة
(7)
.
القول الثاني: قول السحب، ومعناه أن الطهر يأخذ حكم الحيض ولا يكون طهراً معتبراً، وهو قول الحنفية الراجح – كما سبق-، والأظهر عند الشافعية.
(8)
(1)
شرح مختصر خليل للخرشي، 1/ 208، روضة الطالبين، 1/ 162.
(2)
من اللفق، وهو خياطة شقتين تَلفِق إحداهما بالأخرى لفقاً أي ضمها (ينظر: العين، 5/ 165)، بمعنى أنها ضمت الدم إلى الدم، وجعلت ما بينهما طهراً.
(3)
روضة الطالبين، 1/ 162.
(4)
من السحب وهو جر الشيء (ينظر: العين، 3/ 151)، بمعنى أن المرأة تسحب حكم الحيض على الطهر.
(5)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 219، الذخيرة، 1/ 379، مختصر خليل، ص:26.
(6)
روضة الطالبين، 1/ 162.
(7)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 148، المغني، 1/ 260، المبدع في شرح المقنع، 1/ 255، الإنصاف، 1/ 386.
(8)
حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، 1/ 228، روضة الطالبين، 1/ 162، والإقناع، 1/ 69، وقد عرفه وأضاف شرطه، فقال:"ومعناه (أي التلفيق) ضم الدماء بعضها إلى بعض إن تخللها طهر وصلح زمانه أن يكون حيضاً، فمن كانت ترى يوماً أو أقل أو أكثر دماً يبلغ مجموعه أقل الحيض فأكثر وطهراً متخللا فالدم حيض ملفق".
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بالتلفيق بأدلة، منها:
الدليل الأول: قد يستدل بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].
وجه الدلالة: في الآية دليل على أن الأذى إذا ارتفع انتفى حكمه.
وقد يناقش بأن ارتفاع الأذى يكون بالقصة البيضاء، فتحمل الآية على عدم عودة الدم.
الدليل الثاني: ما يروى عن ابن عباس في المستحاضة: "إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي"
(1)
.
قد يناقش بأنه مروي من طريق آخر ولم يذكر فيه: "وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي"
(2)
، وليس فيه ما يدل على وجوب الاغتسال وإقامة الصلاة.
كما يمكن مناقشته بأن رؤية الطهر محمولة على القصة البيضاء.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بالسحب بأدلة، منها:
الدليل الأول: قد يستدل بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
(1)
أخرجه الدارمي، 1/ 610، كتاب الطهارة، باب في غسل المستحاضة، رقم حديث: 827، وأبو داود، 1/ 208، كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، رقم حديث: 286، وقال المحقق شعيب الأرناؤوط:(رجاله ثقات)، وقال ابن رجب في الفتح:(إن الإمام أحمد استحسنه)(فتح الباري، 2/ 176)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 63، وقال:"وصله الدارمي بإسناد صحيح على شرط الشيخين".
(2)
كما في السنن الكبرى للبيهقي، 1/ 503، كتاب الحيض، باب المرأة تحيض يوماً وتطهر يوماً، رقم حديث:1605.
وجه الدلالة: الآية دالة على رفع الحرج عنا في ديننا، وتكليف المرأة بالاغتسال زمن حيضها فيه مشقة وحرج.
الدليل الثاني: هذا القدر من الطهر لا يفصل بين الحيضين، فكذا لا يفصل بين الدمين، وصار كطهر يوم واحد
(1)
.
الدليل الثالث: الأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض حتى يقوم دليل على أنه استحاضة.
الدليل الرابع: كونه أيسر للمفتي والمستفتي، والشريعة تتطلع إلى التيسير ورفع الحرج.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني القائل بالسحب أقرب إلى الصواب؛ لقوة دليله، ولورود المناقشة على أدلة القول الثاني، وللخلاف في المسألة ثمرات عملية تظهر في بعض المسائل، منها:
- لو أن المرأة رأت يوماً دماً وسبعة طهراً ويومين دماً وذلك في رمضان، فعلى القول بالتلفيق يكون عدد أيام الدم ثلاثة، وعدد أيام الطهر سبعة، ولها أن تصوم وتصلي في أيام طهرها، وعلى القول بالسحب فإنها كلها أيام الدم، ويحرم عليها أن تصوم وتصلي.
- وكذا في بقية الأمور التي تحرم على الحائض، فمن أثبت الحيض أثبت التحريم والعكس بالعكس.
(1)
خلاصة الدلائل في تنقيح المسائل شرح القدوري، ص:66.
المسألة الرابعة: تحديد سن اليأس
اليأس في اللغة قطع الرجاء
(1)
، والمرأة الآيسة التي انقطع رجاؤها عن رؤية الدم
(2)
.
ومسألة تحديد سن اليأس ترد عند الحنفية في كتاب الطلاق غالباً
(3)
، وقد اختلفوا فيها على عدة أقوال
(4)
:
القول الأول: يعتبر بأقرانها من قرابتها.
القول الثاني: يعتبر بتركيبها؛ لأنه يختلف بالسمن والهزال.
القول الثالث: يقدر بالسنين، وقد روي عن محمد –رحمه الله أنه قدره بستين سنة، وعنه في الروميات بخمس وخمسين، وفي المولدات ستين، وقيل خمسين سنة
(5)
.
والفتوى على خمس وخمسين من غير فصل، والأخير رواية الحسن عن أبي حنيفة، وروي عنه أيضاً ما بين خمس وخمسين إلى ستين
(6)
.
وعليه فإن القول الذي يُفتى به عند متأخري الحنفية هو تحديد سن اليأس بخمس وخمسين سنة، لكن جاء في مجمع الأنهر ما يفيد أنه ليس على إطلاقه، وأنه يُفتى بخمسين في وقته،
(7)
فأفاد بوجود الخلاف في رجحان القول عندهم.
وإذا رجعنا إلى قواعد الترجيح الأغلبية عند الحنفية نجد أنه إذا ثبت الترجيح للقولين المختلفين بعلامة الإفتاء فإن المجتهد يتخير إذا لم يمكن تقديم أحدهما على الآخر، والذي يظهر أنه ممكن، وذلك بأمور، منها:
(1)
مقاييس اللغة، 6/ 153، القاموس المحيط، 1/ 582.
(2)
رد المحتار، 1/ 303.
(3)
ينظر: تبيين الحقائق، 2/ 192، العناية، 1/ 164، البناية، 5/ 596.
(4)
ذكرها صاحب الاختيار بشيء من الإجمال، ينظر: الاختيار، 3/ 176.
(5)
ينظر: بدائع الصنائع، 3/ 91، الاختيار، 3/ 176.
(6)
الاختيار، 3/ 176، تبيين الحقائق، 2/ 192، العناية، 1/ 164، البناية، 5/ 596، البحر الرائق، 3/ 259، بدائع الصنائع، 3/ 91.
(7)
مجمع الأنهر، 1/ 467.
- القول بخمس وخمسين سنة رواية عن أبي حنيفة وهي مقدمة على قول صاحبه، ولأنه يقدم قوله في العبادات إلا في مسائل معدودة –كما سبق-.
- بالنظر إلى طبقات الكتب والمسائل الواردة فيها نجد أنه يقدم ما في المتون المعتمدة المؤلفة في فترة المتأخرين على قول من بعدهم.
فعاد رجحان القول في مسألة تحديد سن اليأس بخمس وخمسين سنة، والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
لم يرد في الشرع ما ينص على تحديد سن اليأس، والعلماء بنوا أقوالهم على التتبع لأصول النساء، وعلى الاستقراء لأحوالهن في الجملة، وقد اختلفوا في المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: سن اليأس لا يقدر بمدة معلومة، بل إذا بلغت المرأة من السن ما لا تحيض فيه مثلها يحكم به، وذلك يعرف بالاجتهاد والمماثلة في أمور، منها:
- تركيب البدن.
- السمن والهزال.
- أقراء قرابتها، وهو قول الشافعية
(1)
.
- البلدان والأزمان.
- الغنى والفقر لأن النعمة تبطؤه، والفقر يسرع به.
- النسب والأجناس.
- الولادة من عدمها إلخ
(2)
.
وهو قول بعض الحنفية –كما سبق-.
القول الثاني: سن اليأس يقدر بمدة، واختلفوا في تحديدها على النحو الآتي:
- منهم من حدَّدها بخمس وخمسين سنة، وهو القول الراجح عند الحنفية –كما مضى-.
(1)
حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المحلي على منهاج الطالبين، 1/ 119، روضة الطالبين، 1/ 143.
(2)
قلت: وفي الوقت الراهن قد تؤثر الأمراض وطرق علاجها، وكذلك استخدام الحبوب لمنع الحمل أو تأخير الحيض إلخ.
- ومنهم من حدَّدها خمسين سنة، وهو قول عند الحنفية –كما سبق-، وهو مذهب الحنابلة
(1)
.
- ومنهم من حدَّدها بسبعين سنة، وما دونها يسأل النساء، وهو قول المالكية
(2)
.
القول الثالث: الجمع بين تحديد سن اليأس بمدة والأجناس، فيحد بخمسين للعجميات وبستين للعربيات القرشيات، وهو رواية عن أحمد
(3)
، ويظهر أنه جمع بين الأقوال في بعض صورها.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن سن اليأس لا يحدد بمدة بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4].
وجه الدلالة: الله –سبحانه وتعالى لم يعلِّق نهاية الحيض ببلوغ سن معينة، بل علقه باليأس من المحيض، وهو أن تيأس المرأة نفسها من المحيض أي عوده
(4)
.
دليل القول الثاني:
لم أجد دليلاً واحداً على جميع التحديدات المذكورة إلا من حدد سن اليأس بمدة خمسين سنة، ودليلهم ما يُروى عن عائشة –رضي الله عنها أنها قالت:"إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض"
(5)
. وعنها أيضًا: "لن ترى المرأة ولدًا في بطنها بعد خمسين سنة"
(6)
.
(1)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 198، شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/ 453.
(2)
مواهب الجليل، 1/ 367، والتاج والإكليل، 5/ 481.
(3)
شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/ 453.
(4)
مجموع الفتاوى لابن تيمية، 19/ 240.
(5)
لم أجد له إسناداً ولا تخريجاً، ويكثر إيراده في كتب الحنابلة، وأن الإمام أحمد ذكره، والشيخ الألباني قال:"لم أقف عليه، ولا أدري في أي كتاب ذكره أحمد، ولعله في بعض كتبه التي لم نقف عليها". (ينظر: إرواء الغليل، 1/ 200).
(6)
التحقيق في أحاديث الخلاف، 1/ 267، لم يسنده ولم يعلق عليه.
نوقش بأنه لم يثبت، وعلى فرض ثبوته يحمل على من التقت هي من النساء، وليس عامًا في كل النساء. وكذلك وُجد الحيض فيما بعد خمسين على وجهه
(1)
.
تعليل القول الثالث:
علَّل القائلون بالجمع بين تحديد المدة وتقديم الأجناس بعضها على بعض بأن المرأة العربية أقوى طبيعة من غيرها
(2)
.
يناقش بأنه تفريق بين المتماثلات، فلا فرق بين نساء العرب وغيرهن؛ لأنهن لا يختلفن في سائر أحكام الحيض، وكذلك هاهنا
(3)
.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال في المسألة، وإيراد أدلة كل قول يظهر أن القول الأول أقرب إلى الصواب، وأن سن اليأس لا يُحدَّد بمدة معلومة، بل يُرجع إلى اعتبارات كثيرة –وقد سبق ذكرها في ثنايا الكلام في المسألة-، وقد وافق الأطباء على بعض تلك الاعتبارات
(4)
.
إضافة إلى أن جميع الأقوال المذكورة آنفاً مبنية في الجملة على الاستقراء والتتبع لأصول النساء وأحوالهن، وهي من اختلاف التنوع وليس التضاد، وكلها لها حظ من النظر، إلا أن القول الأول أشمل، والثاني أسهل، والثالث أولى بالرجحان لو لم يتوقف أصحابه من ربط المدة بالاعتبارات الأخرى.
(1)
المغني، 1/ 263.
(2)
المغني، 8/ 107.
(3)
المغني، 1/ 263.
(4)
وقسموا سن اليأس إلى قسمين:
- قسم غير طبيعي ويرجع إلى نمط الحياة من التغذية واستخدام الأدوية، والتدخين والمسكرات والمخدرات إلخ.
- وقسم طبيعي وربطوه بالأماكن والأعمار والقريبات، والأخير أغلب.
وذلك بحسب الدراسة الطبية على موقع "سن اليأس" – Menopause، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafythree
وعليه لو أمكن الجمع بين هذه الأقوال بأن يقال: إن سن اليأس يحدَّد بالمدة من باب الأغلب أو المتوسط، ويضاف إلى ذلك النظر إلى الاعتبارات المذكورة سواء بعضها أو كلها.
على سبيل المثال: المرأة في أوروبا إن كانت تعيش في أماكن باردة ولم تزاول المحرمات مثل التدخين والمخدرات، ولم تستخدم الأدوية التي تجعل الدورة تضطرب فإنه من المتوقع أن سن اليأس سيتأخر عندها، والعكس بالعكس.
وكذا لو كانت هذه المرأة مدخنة أو مدمنة فإن المتوقع تقدم سن اليأس، وهكذا، والله أعلم.
وهذه المسألة لها ثمرة تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو أن امرأة توقف حيضها وهي تبلغ من عمرها تسعة وأربعين عاماً، وعاشت حياتها فقيرة في أفريقيا مثلاً وقد زاولت أعمالاً شاقة، وكانت هزيلة، فعلى القول الأول قد بلغت سن اليأس؛ لأن تحديده يكون بالنظر إلى الدم، وقد توقف، وعلى القول الثاني لم تبلغ سن اليأس؛ لأنها دون الخمسين، وعلى القول الثالث كذلك سواء كانت عربية أم أعجمية، وعلى فرض الجمع بين الأقوال فإنها بلغت سن اليأس بالنظر إلى عمرها الذي هو قريب مما هو الغالب في النساء وبالنظر إلى نمط حياتها.
المطلب الخامس: كيفية تطهير الخف ونحوه:
ترد هذه المسألة في كتب الحنفية في كتاب الطهارة باب الأنجاس عند ذكر تطهير بدن المصلي وثوبه ومكانه، وكذا خفه، فيقررون أن الخف إن كان عن ذي جرم
(1)
جف فيطهر بالدلك بالأرض، وأبو يوسف –رحمه الله يجوز في رطب ذي جرم إذا بالغ (في الرطوبة)، وبه يفتى
(2)
.
ومعناه أن الخف إذا تنجس بنجس ذي جرم يطهر بالدلك، سواء كان جافاً أو رطباً؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم:"فمن أراد أن يدخل المسجد فليقلب نعليه، فإن رأى بهما أذى فليمسحهما بالأرض، فإن الأرض لهما طهور"
(3)
، ولأن البلوى العامة تحققت، فلا معنى لاشتراط الجفاف إذ يلحق الناس بذلك حرج وهو مدفوع
(4)
.
والمسألة لها علاقة بمسألة: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ أم أن النجاسة تزول بأي مزيل؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في كيفية إزالة نجاسة الخف ونحوه بين غسلها وبين مسحها بالأرض ودلكها بها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن نجاسة الخف ونحوه تطهر بالدلك بالأرض كما تطهر بالغسل، وهو قول الحنفية –كما سبق-، وهو القول القديم للشافعي
(5)
، ورواية عن أحمد
(6)
.
(1)
أي جثة، وهي ما يرى بعد الجفاف. (ينظر: النهر الفائق، 1/ 143).
(2)
شرح الوقاية للمحبوبي، 2/ 95 - 96، استحساناً لا قياساً، وهو كذلك قول أبي حنيفة –رحمه الله كما في المبسوط (1/ 82).
(3)
سيأتي تخريجه عند ذكر أدلة القول الأول.
(4)
بدائع الصنائع، 1/ 84، الهداية، 1/ 36، العناية، 1/ 195، كنز الدقائق، ص: 152، تبيين الحقائق، 1/ 70، ونقل أن أبا يوسف –رحمه الله يشترط زوال الرائحة، البحر الرائق، 1/ 234، مجموع الأنهر، 1/ 59، النهر الفائق، 1/ 143، وقد ذكر شرطًا آخر وهو زوال بقاء الأثر إلا أن يشق.
(5)
حلية العلماء، 1/ 254، روضة الطالبين، 1/ 280.
(6)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 163، المغني، 2/ 62، وذكر أنه أولى، الإنصاف، 1/ 323، وقال:"إنه أظهر، وإنه اختيار جماعة"، والمبدع في شرح المقنع، 1/ 213.
القول الثاني: إن الخف إذا تنجس بنجاسة فلا بد من غسله كسائر النجاسات، وهو القول الجديد للشافعي
(1)
، ورواية ثانية عن أحمد
(2)
.
القول الثالث: التفريق بين النجاسات، فإن كانت مغلظة مثل البول والعذرة فلا بد من الغسل، وإن كانت غير ذلك فالدلك، وهو قول المالكية
(3)
، ورواية ثالثة عن أحمد
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن الخف يطهر بغير الماء مثل الدلك والمسح بأدلة، منها:
الدليل الأول: قول النبي –صلى الله عليه وسلم: "فليمسحهما بالأرض، فإن الأرض لهما طهور"
(5)
.
وجه الدلالة: هذا الحديث نص على أن إزالة النجاسة تكون بغير الماء مثل الدلك بالأرض.
(1)
حلية العلماء، 1/ 254، المجموع، 2/ 598، روضة الطالبين، 1/ 280.
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 163، المغني، 2/ 62.
(3)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 188، والتاج والإكليل، 1/ 221 - 223، مواهب الجليل، 1/ 153 - 154.
(4)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 163، المغني، 2/ 62.
(5)
أخرجه ابن حبان من طريق أبي هريرة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: " إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب"، 4/ 25، كتاب الطهارة، باب تطهير النجاسة، رقم حديث: 1404، وقد صححه المحقق، وابن خزيمة، 1/ 182، كتاب الوضوء، باب ذكر وطء الأذى اليابس بالخف والنعل، والدليل على أن ذلك لا يوجب غسل الخف ولا النعل، وأن تطهيرهما يكون بالمشي على الأرض الطاهرة بعدها، رقم حديث: 292، والحاكم في المستدرك، 1/ 272، كتاب الطهارة، رقم حديث: 591، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم
…
ولم يخرجاه"، ووافقه في نصب الراية، 1/ 207، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، 3/ 80.
الدليل الثاني: إذن النبي –صلى الله عليه وسلم في إزالة النجاسة بغير الماء في مواضع، منها الاستجمار بالأحجار
(1)
.
الدليل الثالث: لأن تنجس الخف ونحوه مما عمت به البلوى فيعفى، دفعًا للمشقة
(2)
.
الدليل الرابع: لأن الخف محل تتكرر إصابة النجاسة له، فأجزأ فيه المسح كالسبيلين
(3)
.
تعليل القول الثاني:
علَّل القائلون بأن الخف ونحوه إذا تنجس فلا بد من غسله بكون الدلك لا يزيل جميع أجزاء النجاسة
(4)
، فلا بد من الماء كبقية النجاسات.
نوقش بأن الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول يرده، والعمل به أولى
(5)
، كما يناقش بأن التنظيف الجاف أو بالبخار في الوقت الراهن يزيل النجاسة بدون ماء
(6)
.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بالتفريق بين النجاسات بأدلة، منها:
الدليل الأول: أن نجاسة البول والعذرة مغلظة وفاحشة باتفاق
(7)
، ومن النجاسات التي اختلف فيها، فلا بد من التفريق بينهما في الحكم.
نوقش بأن النبي –صلى الله عليه وسلم وأصحابه –رضي الله عنهم كانوا يصلون في نعالهم، والظاهر أنه لا يسلم من نجاسة يصيبها، فلولا أن دلكها يجزئ لما صحت الصلاة فيها
(8)
.
(1)
التنبيه على مشكلات الهداية، 1/ 430.
(2)
تبيين الحقائق، 1/ 70.
(3)
المبدع في شرح المقنع، 1/ 213.
(4)
المغني، 2/ 62.
(5)
المغني، 2/ 62.
(6)
مجموع رسائل وفتاوى (ابن العثيمين)، 11/ 87.
(7)
التاج والإكليل، 1/ 233.
(8)
المبدع في شرح المقنع، 1/ 213.
الدليل الثاني: العفو من الغسل هو لما يعسر الاحتراز منه مثل المواضع التي تكثر فيها الدواب، وأما ما لا تكثر فيه فلا يعفى عنه
(1)
.
قد يناقش بأنه يعسر الاحتراز من النجاسات المغلظة في بعض مواضع أخرى مثل الحمامات العامة التي تقل العناية بها.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وأدلتها يظهر أن القول الأول أقرب إلى الرجحان؛ لقوة أدلته، ولورود المناقشة على أدلة القولين الآخرين، ومما يؤيد رجحان القول الأول في الوقت الراهن ما يُسمى بالتنظيف الجاف أو بالبخار، فإنه يزيل النجاسة بدون ماء
(2)
.
والخلاف في المسألة له ثمرات عملية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو أن إنساناً أراد أن يصلي في نعليه مثلاً ورأى عليهما نجاسة الغائط، فعلى القول الأول يمسحهما أو يدلكهما بالأرض ويصلي فيهما إلا أن الحنفية يشترطون زوال عين النجاسة ورائحتها، وعلى القول الثاني لا بد من غسلهما، وعلى القول الثالث لا بد من غسلهما أيضاً؛ لأن النجاسة غائط وهي مغلظة، ولو كانت غير مغلظة لكفى الدلك.
- لو أراد إنسان أن يصلي وعنده ثوب تنجس بروث الإبل وآخر تنجس ببول الإنسان، وقد نظفهما بالبخار، فعلى القول الأول يصلي في أيهما شاء ولا شيء عليه، وعلى الثاني لا يصلي فيهما؛ لأنه لم يغسلهما، وعلى الثالث يصلي في الأول لأن النجاسة ليست مغلظة فيكفي الدلك وما ينوبه من المزيلات، والتنظيف بالبخار منها، ولا يصلي في الثاني؛ لأن النجاسة مغلظة فلا بد من غسلها.
(1)
مواهب الجليل، 1/ 154.
(2)
مجموع فتاوى ورسائل (ابن العثيمين)، 11/ 87.
المبحث الثاني: في مسائل الصلاة
المطلب الأول: وقت صلاة المغرب:
هذه المسألة ترد في كتب الحنفية في كتاب الصلاة تحت باب أوقاتها، فيذكرون أولاً صلاة الظهر ثم العصر ثم المغرب، ويقولون: إن وقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق، وهو الحمرة عند الصاحبين، وعند أبي حنيفة هو البياض
(1)
، وروي ما يوافق قولهما
(2)
، وعليه الفتوى
(3)
.
فهو اتفاق الأئمة الثلاثة في المذهب، وعلى فرض وجود الخلاف بين الإمام وصاحبيه فيقدم قولهما وفق قواعد الترجيح في حالة وجود الضرورة أو الموجب، وبعض العلماء تطرق لذلك فقال إن قولهما أوسع للناس، وقوله أحوط
(4)
؛ لأن الحمرة قبل البياض
(5)
.
(1)
المبسوط، 1/ 144، شرح الوقاية للمحبوبي، 2/ 105 - 106، ونسبه السرخسي إلى أبي بكر وعائشة، وأنه إحدى الروايتين عن ابن عباس –رضي الله عنهم أجمعين-.
(2)
الأصل، 1/ 145، المبسوط، 1/ 144، وذكر أنه قول عمر وعلي وابن مسعود ورواية ثانية عن ابن عباس –رضي الله عنهم، وهي رواية عن أبي حنيفة رواها أسد بن عمرو –رحمهم الله، واللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 165.
(3)
شرح الوقاية للمحبوبي، 2/ 105، تبيين الحقائق، 1/ 80. قلت: ويؤيده قول اللغويين: إن أصل الكلمة يدل على الرقة، سُمي الشفق بالحمرة للونها ورقتها. (ينظر: العين، 5/ 45، مقاييس اللغة، 3/ 198).
(4)
الجوهرة النيرة، 1/ 42.
(5)
المبسوط، 1/ 144.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن وقت صلاة المغرب يبدأ حين تغرب الشمس (تمامًا)
(1)
(2)
، واختلفوا في نهايته
(3)
، على قولين:
القول الأول: ليس للمغرب إلا وقت واحد مقدر بفعله، فإذا مضى بعد غروب الشمس مقدار ما يصلى فيه ثلاث ركعات خرج وقت المغرب، وهو الأشهر عند المالكية
(4)
، وقول الشافعي في الجديد
(5)
.
القول الثاني: وقت المغرب ينتهي بغياب الشفق، وهو الحمرة، وهو قول الحنفية –كما سبق-، وقول عند المالكية
(6)
، وقول الشافعي في القديم
(7)
، وقول الحنابلة
(8)
.
(1)
مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله، ص:52.
(2)
تحفة الفقهاء، ص: 101، بدائع الصنائع، 1/ 123، المغني، 1/ 276.
(3)
وسبب اختلافهم معارضة حديث إمامة جبريل لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه، (ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 130) وسيأتي عند ذكر الأدلة.
(4)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 191، التاج والإكليل، 2/ 23.
(5)
الأم، 1/ 92، الحاوي الكبير، 2/ 19، نهاية المطلب، 2/ 14، الغاية والتقريب، ص: 8، وقال:"والمغرب ووقتها واحد وهو غروب الشمس وبمقدار ما يؤذن ويتوضأ ويستر العورة ويقيم الصلاة ويصلي خمس ركعات". قلت: وفيه توضيح للمراد من أن المغرب ليس له إلا وقت واحد مقدر بفعل الصلاة ومقدماتها.
(6)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 225، ونصره في الذخيرة، 2/ 15، بل جاء في الموطأ ما يفيد أن البياض ليس من الشفق أصلاً. (ينظر: موطأ مالك، 1/ 149).
(7)
نهاية المطلب، 2/ 14، الحاوي الكبير، 2/ 20، وقد اختلفوا في ذلك، فمنهم من أنكر ذلك، ومنهم من أثبته قولاً ثانياً.
(8)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 189، المغني، 1/ 276، الشرح الكبير، 1/ 438، الإنصاف، 1/ 434، وقال إنه مذهب. وعنه أنه فرق بين السفر والحضر، ففي السفر حمرة، وفي الحضر البياض. (ينظر: مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، ص: 42، الإنصاف، 1/ 434، وفي مخصر الخرقي أنه لا يستحب تأخير المغرب إلى أن يغيب الشفق، ص: 19).
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن المغرب ليس له إلا وقت واحد بحديث إمامة جبريل –عليه السلام، وفيه:"ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم"، وفي اليوم الثاني:" ثم صلى المغرب لوقته الأول"
(1)
.
وجه الدلالة: كونه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد، مما يدل على أن وقته واحد.
نوقش بأنه محمول على بيان استحباب الأداء، وليس وقت الإدراك
(2)
.
ونوقش أيضاً أنه جاء ليعلمه المباح من الأوقات؛ لأنه لم يؤخر العصر إلى الغروب مع بقاء الوقت إليه، وكذا لم يؤخر العشاء إلى ما بعد ثلث الليل وإن كان بعده وقت العشاء بالإجماع
(3)
.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن وقت المغرب ينتهي مع غياب الشفق (الحمرة) بما روي عن ابن عمرو بن العاص –رضي الله عنه عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق"
(4)
(5)
.
وفي الرواية: "فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق"
(6)
.
(1)
أخرجه الترمذي، 1/ 278، أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي –صلى الله عليه وسلم، رقم حديث: 149، من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما، ونحوه من طريق جابر، وقال الترمذي:"حديث ابن عباس حسن، أصح شيء في المواقيت حديث جابر".
وقد صحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ص: 1/ 156.
(2)
المبسوط، 1/ 144.
(3)
بدائع الصنائع، 1/ 123 - 124.
(4)
مسلم، 1/ 427، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، رقم حديث:173.
(5)
بدائع الصنائع، 1/ 123.
(6)
أخرجه مسلم،/ 426، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، رقم حديث: 171، وكذا حديث رقم: 173، 178.
وجه الدلالة: في الحديثين نص على أن وقت المغرب يمتد إلى حين غياب الشفق، وهو الحمرة. ولفظ (يسقط) في الحديث الثاني يدل على أن الشفق يغيب سريعاً، والله أعلم.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني أقرب إلى الصواب؛ لقوة دليله وورود المناقشة على دليل القول الأول، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو أن إنساناً سمع أذان المغرب ثم توضأ وجهز نفسه للصلاة ثم صلى فصلاته صحيحة على القولين.
- ولو أخرها قليلاً بشرب القهوة أم برد على الهاتف وما إلى ذلك من الأعمال التي ليست من الصلاة ولا من مقدماتها، فإن صلاها بعد ذلك فصلاته قضاء لا أداء على القول الأول، وعلى القول الثاني قد صلاها في وقتها؛ لأن الشفق لم يغب بعد.
المطلب الثاني: السجود على الأنف دون الجبهة:
ورد في هذه المسألة خلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه –رحمهم الله؛
فالقول الأول: إن السجود على الأنف دون الجبهة جائز عند الإمام مع الكراهة
(1)
، لكن رواية أسد بن عمرو
(2)
عن الإمام توافِق قول الصاحبين الآتي
(3)
.
والقول الثاني: إنه لا يجوز السجود على الأنف دون الجبهة، وهو قول صاحبيه
(4)
، وعليه فقول المذهب هو عدم جواز السجود على الأنف دون الجبهة
(5)
، وعليه الفتوى
(6)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن السجود يكون على سبعة أعضاء، ومنها الوجه، واتفقوا أيضا على أن من سجد على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه
(7)
.
واختلفوا في السجود على أحدهما
(8)
.
(1)
ولذلك يذكرونها في كتاب الصلاة تحت باب مكروهاتها كما في المبسوط، 1/ 34.
(2)
أَسد بن عَمْرو بن عَامر بن عبد الله بن عَمْرو بن عَامر بن أسلم. صاحب الإمام، وأحد الأعلام. سمع أبا حنيفة رحمه الله وتفقه عليه، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ووثقه يحيى بن معين رحمه الله. وهو من الأوائل الذين كتبوا كتب أبي حنيفة رحمه الله. مات سنة ثمان وثمانين ومائة، وقيل: سنة تسعين ومائة. ينظر: الجواهر المضية، 1/ 141، الفوائد البهية، ص: 44 - 45.
(3)
المبسوط، 1/ 34، العناية، 1/ 303.
(4)
مختصر القدوري، ص:27.
(5)
الهداية، 1/ 51، وعلَّقه بعدم العذر، وكذا في الاختيار، 1/ 51، وذكر الإجماع على جواز الاقتصار على الجبهة دون الأنف، العناية، 1/ 303.
(6)
مجمع البحرين وملتقى النيرين، ص:124.
(7)
ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 147.
(8)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 147، وذكر أن سببه اختلافهم فيما يتناوله اسم الوجه.
فإن كان الاقتصار على الجبهة دون الأنف فقد سجد على وجهه كذلك، وإن كان الاقتصار على الأنف دون الجبهة فلا خلاف؛ لأنه لم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة –رحمه الله
(1)
، وصاحباه على خلاف ذلك، وله رواية أخرى توافق قولهما
(2)
.
فعلى كل الاحتمالات لا يوجد خلاف بين المذاهب، لأن الفتوى على قول الصاحبين لو لم يرو عن أبي حنيفة موافقة قولهما، فكيف إذا رُوي ذلك؟
وعليه فإن السجود على الأنف دون الجبهة لا يجوز، والمسألة متفق عليها بين المذاهب الأربعة
(3)
.
أدلة المسألة:
استدل العلماء على عدم جواز السجود على الأنف دون الجبهة بأدلة، من أبرزها:
(1)
وذكر ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري أنه قول أبي حنيفة وجزم، ثم ذكر أنه رُوي مثله عن طاوس وابن سيرين –كذا بصيغة التمريض-. (ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال، 2/ 431).
(2)
وقد سبق ذكر الأقوال في المذهب الحنفي.
(3)
أما الحنفية فقد سبق. وأما المالكية ففي المدونة، 1/ 167، وقد جوز الاقتصار على الجبهة دون الأنف كما في بداية المجتهد، 1/ 147، الذخيرة، 2/ 193، وينصون على بطلان الصلاة، وكذا في التاج والإكليل، 2/ 216. وأما الشافعية ففي الأم، 1/ 136، نهاية المطلب في دراية المذهب، 2/ 176، وبعضهم قالوا بأن السجود على الأنف سنة مع الجبهة. (ينظر: حاشيتا قليوبي وعميرة، 1/ 183). وأما الحنابلة ففي الإنصاف، 2/ 67، قولاً واحداً مع القدرة، الشرح الكبير، 1/ 660، وقال بسنية السجود على الأنف مع الجبهة، فيستفاد منه عدم جواز الاقتصار عليه، وإلا لم يتحقق الواجب –كما سبق-. قلت: ويؤيده الإجماع المنقول عن ابن المنذر في كثير من الكتب، مثل: فتح الباري لابن حجر، 2/ 296، ونيل الأوطار، 2/ 299، وعون المعبود (مع حاشية ابن القيم)، 3/ 114، لكن لم أجده في مظانه من كتب ابن المنذر، بل قال في الأوسط ما يخالف ذلك:"ذكر اختلاف أهل العلم في الساجد على الجبهة دون الأنف، وعلى الأنف دون الجبهة"، فأثبت وجود الخلاف في مسألة الاقتصار على الأنف دون الجبهة، ويظهر أنه يحمل على قول أبي حنيفة –رحمه الله المرجوع عنه؛ لأنه لم يذكر غيره عند ذكر تفاصيل المسألة. (ينظر: الأوسط، 3/ 174).
الدليل الأول: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة، وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين، وأطراف القدمين"
(1)
، وعدَّ منها الجبهة.
وجه الدلالة: لو كان الأنف محلاً للسجود لذكره وعدّه
(2)
، وإنما أشار إليه من باب التبعية للجبهة
(3)
.
الدليل الثاني: قد يستدل بأن المقصود بالسجود التذلل والخضوع، وذلك لا يتحقق إلا بالجمع بين الجبهة والأنف.
الدليل الثالث: لم يثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الأنف صريحاً لا بفعل ولا بقول
(4)
.
وعلى فرض وجود الخلاف فإن له ثمرات علمية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو سجد المصلي على الجبهة دون الأنف فصلاته صحيحة على الخلاف في المسألة، ولو اقتصر على الأنف دون الجبهة فصلاته باطلة بالاتفاق، ولو سجد على الجبهة والأنف معاً فصلاته صحيح بالإجماع.
- لو أن إنساناً سجد على الأنف دون الجبهة فإنه لا تشترط طهارة موضع الأنف؛ لأنه أقل من الدرهم عند من يجوِّز مثل هذا السجود
(5)
، بخلاف من يقول بالجمع بين الجبهة والأنف، فإنه كله موضع الوجه فلا بد من طهارته.
(1)
أخرجه البخاري، 1/ 162، كتاب الأذان، باب السجود على الأنف، رقم حديث: 812، ويؤيده حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه القادم، وفيه:"حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله –صلى الله عليه وسلم وأرنبته"، رقمه:813.
ومسلم، 1/ 354، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، رقم حديث:230.
(2)
تبيين الحقائق، 1/ 117.
(3)
شرح صحيح البخاري لابن بطال، 2/ 432.
(4)
المجموع، 3/ 425.
(5)
رد المحتار، 1/ 403.
المطلب الثالث: وقت ابتداء التكبير وانتهائه في أيام عيد الأضحى
وقت تكبير التشريق في كتب الحنفية من المسائل التي ترد في كتاب الصلاة تحت باب صلاة العيدين
(1)
، فيقولون: إنه واجب عقيب الصلوات المفروضة في جماعات الرجال المقيمين بالأمصار
(2)
، واختلفوا في وقته على قولين:
القول الأول: وقته من عقيب صلاة الفجر يوم عرفة بالاتفاق
(3)
إلى عقيب صلاة العصر أول أيام النحر أي ثمان صلوات؛ لأن الأصل فيه الإخفاء، فالمصير إلى الأقل جهراً أولى
(4)
(5)
.
والقول الثاني: إلى عصر آخر يوم التشريق أي ثلاث وعشرون صلاة؛ لأن التكبير من العبادة، والاحتياط فيها الوجوب
(6)
، وهو قول الصاحبين، والفتوى على ذلك
(7)
.
وسلف الحنفية لا يخرجون عما ورد من اختلاف الصحابة في ذلك، ويخيِّرون في الأخذ بأحد القولين، وأن كله حسن
(8)
.
(1)
مختصر القدوري، ص:42.
(2)
الاختيار، 1/ 88.
(3)
اللباب في شرح الكتاب، 1/ 118، إلا أن صاحب البدائع ذكر اختلاف الصحابة –رضي الله عنهم في ابتداء التكبير، لكن اتفق كبارهم نحو عمر وعلي وابن مسعود على البداية بصلاة الفجر من يوم عرفة. (ينظر: بدائع الصنائع، 1/ 195).
(4)
الاختيار، 1/ 88.
(5)
وإن قيل: إن التكبير على قول أبي حنيفة –رحمه الله يتم قبل أيام التشريق حقيقة، فيقال: إنه سمي بذلك لقربه من أيام التشريق، والشيء إذا قرب من الشيء سمي باسمه. (ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 95).
(6)
فأخذوا بالأكثر؛ لأن التكبير فيما لم يجب أولى من أن يترك فيما قد وجب.
(7)
مختصر القدوري، ص: 42، ولم يرجح، الاختيار، 1/ 88، تبيين الحقائق، 1/ 227، وذكر أن أوله عقيب صلاة الفجر من يوم عرفة على قول عمر وعلي وابن مسعود، وأما آخره فعقيب صلاة العصر من يوم النحر على قول ابن مسعود، وعلى قول عمر وعلي عقيب صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وعليه بني الخلاف بينهما، وقرر أن الصاحبين أخذا بالثاني؛ لأنه أكثر، الجوهرة النيرة، 1/ 95، شرح الوقاية، 2/ 185.
(8)
الأصل، 1/ 348.
والمتأخرون أخذوا بقول الصاحبين، وعليه العمل
(1)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء في ابتداء تكبير التشريق وانتهائه على ثلاثة أقوال
(2)
:
القول الأول: وقت تكبير التشريق من عقيب صلاة الفجر يوم عرفة إلى عقيب صلاة العصر آخر يوم التشريق، وبه قال الحنفية على الراجح –كما سبق-، وهو قول عند المالكية في الانتهاء
(3)
، والقول الأظهر عند الشافعية
(4)
، وقول عند الحنابلة
(5)
.
القول الثاني: وقته من دبر صلاة الظهر من يوم النحر، وآخره دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهو قول مالك على المشهور
(6)
، والشافعي
(7)
، ورواية عن أحمد
(8)
.
القول الثالث: وقته من بعد غروب الشمس من ليلة العيد، وآخره دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهو قول عند الشافعي
(9)
.
(1)
مجمع الأنهر، 1/ 176، رد المحتار، 2/ 180.
(2)
وسبب اختلافهم اختلاف الروايات الواردة عن الصحابة، كبارهم وصغارهم في ذلك، ولأن المنقول عمل وليس قولاً محدوداً، فلما اختلف الصحابة في ذلك اختلف من بعدهم. (ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 232).
(3)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 265.
(4)
اللباب في الفقه الشافعي، ص: 132، وهو أظهر عند المحققين للحديث كما في روضة الطالبين، 2/ 80.
(5)
مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله، ص: 129، رقم: 476، مختصر الخرقي، ص: 33، الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 343.
(6)
المدونة، 1/ 249، الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 265، الذخيرة، 2/ 426، شرح مختصر خليل للخرشي، 2/ 104، الحاوي الكبير، 2/ 498.
(7)
الأم، 1/ 275، مختصر المزني (مطبوع ملحقاً بالأم)، 8/ 126.
(8)
المقنع في شرح المقنع، 2/ 194.
(9)
المجموع، 5/ 31.
والأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن وقت تكبير التشريق يبدأ من بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى عقيب صلاة العصر آخر أيام التشريق بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203].
وجه الدلالة: أيام معدودات هي أيام التشريق، فينبغي أن يكون التكبير فيها مشروعاً
(1)
.
ولأن الله تعالى أمر بالذكر فيها أي أيام معدودات؛ وهي أيام يُرمى فيها، فأشبهت يوم النحر
(2)
.
الدليل الثاني: حديث جابر –رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة يقبل على أصحابه فيقول: "على مكانكم"، ويقول:"الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، فيكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق
(3)
.
وجه الدلالة: حديث نص في ابتداء تكبير التشريق وانتهائه.
نوقش بأنه ضعيف -كما سبق في تخريجه-، فلا يعتمد عليه.
(1)
بدائع الصنائع، 1/ 196، المبسوط، 2/ 43، وكذا الدليل الرابع والخامس، وجاء في العناية، 2/ 81، نقلاً عن الخلاصة:"أن أيام النحر ثلاثة وأيام التشريق ثلاثة ويمضي ذلك في أربعة أيام، فإن العاشر من ذي الحجة نحر خاص، والثالث عشر تشريق خاص، واليومان فيما بينهما للنحر والتشريق".
(2)
المبدع في شرح المقنع، 2/ 194، وفي كتب الحنفية:"ولأن التكبير شرع لتعظيم أمر المناسك، وأمر المناسك إنما ينتهي بالرمي فيمتد بالتكبير إلى آخر وقت الرمي". (بدائع الصنائع، 1/ 196).
وهما متقاربان.
(3)
أخرجه الدارقطني بمعناه، 2/ 390، كتاب العيدين، رقم حديث: 1737، وضعَّفه الذهبي في تنقيح التحقيق، ص: 291، وضعَّفه ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف، 1/ 513، وكذا الألباني في الإرواء، 3/ 124.
الدليل الثالث: ما روي عن الصحابة –رضي الله عنهم أنهم كانوا يكبرون بعد صلاة الصبح إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وأصح ما فيه رواية علي –رضي الله عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق
(1)
.
الدليل الرابع: أمرنا بإكثار الذكر، وهذا يتحقق في الأكثر.
الدليل الخامس: لأن يكبر ما لم يجب أولى من أن يترك ما وجب
(2)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن وقت تكبير التشريق يمتد من دبر صلاة الظهر يوم النحر إلى دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200]، وهو في الابتداء.
وجه الدلالة: والفاء للتعقيب وقضاء المناسك وقت الضحى من يوم النحر فينبغي أن يكون التكبير عقيبه.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، 1/ 488، كتاب الصلوات، كتاب صلاة العيدين، التكبير من أي يوم هو إلى أي ساعة، رقم: 5632، وصححه أحمد في مسائله برواية ابنه (ص: 129، رقم: 477)، وقد صححه الألباني في الإرواء، 3/ 125، وكذا فيما صح من آثار الصحابة، 1/ 502، اعتضاداً. ونُقل عن الإمام أحمد أنه اعتبره إجماعاً عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود –رضي الله عنهم. (ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 343).
(2)
وهو الاحتياط؛ لأن الصحابة –رضي الله عنهم اختلفوا فيه كما في بدائع الصنائع، 1/ 196.
وقد يناقش في أصل معنى الذكر المذكور في الآية، ففي تفسير الطبري
(1)
(2)
أن له معنى عام وهو الطاعة والعبادة لله، ومعنى خاص وهو التكبير، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال.
الدليل الثاني: الناس تبع للحاج، وآخر صلاة يصليها الحاج بمنى صلاة الصبح ثم يخرج، وهو في انتهاء
(3)
.
يناقش بأن الناس ليسوا تبعاً للحجيج في كل شيء، فقياس بقية الناس على الحجيج قياس مع الفارق.
دليل القول الثالث:
استدل القائلون بأن وقت تكبير التشريق يبتدأ مع غروب الشمس من ليلة العيد قياساً على عيد الفطر، وعلى انتهائه كون الناس تبعًا للحاج، وصلاة الصبح هي آخر صلاة يصليها الحاج بمنى، وقد سبق.
ويناقش بما ورد من الصحابة من الآثار المخالفة، وأن قياس الناس على الحجيج قياس مع الفارق –كما سبق-.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وسبب اختلافها وأدلة كل قول يظهر أن القول الأول أظهر؛ لقوة دليله، ولورود المناقشة على أدلة القولين الآخرين، وعليه كبار الصحابة، وهو أظهر عند المحققين للحديث.
والخلاف في المسألة له ثمرات عملية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
(1)
محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر، من مشاهير المؤرخين والمفسرين وأئمة العلماء، ولد في آمل طبرستان، وبها نشأ وحفظ القرآن صغيرًا، ثم رحل في طلب العلم، فسمع بالري وبغداد والبصرة والكوفة والشام ومصر، وعاد فاستوطن بغداد، واعتنق المذهب الشافعي، وعارض الحنابلة، وأسَّس مذهب "الجريرية" في الفقه، وهو فرع من الشافعية، فلم يعمر طويلاً. من كتبه جامع البيان في تفسير القرآن، ويعرف بتفسير الطبري، طبع في 30 جزءًا، وهو أوسع كتاب وصلنا في التفسير بالمأثور. ينظر: طبقات المفسرين للسيوطي، ص: 95، معجم المفسرين، 2/ 508.
(2)
ينظر: تفسير الطبري، 3/ 540.
(3)
المجموع، 5/ 31، وقد ذكرهما مع وجه دلالة الثاني.
- لو بدأ شخص بتكبير التشريق ليلة العيد لم يكن مشروعاً إلا على القول الثالث.
- ولو أنهاه بعد صلاة الصبح آخر أيام التشريق فقد وافق وقته على القول الثاني والثالث، بخلاف الأول.
- لو بدأ شخص بتكبير التشريق عقيب صلاة الفجر يوم النحر فقد تأخر به على القول الأول والثالث بخلاف الثاني، ولو أنهاه عقيب صلاة العصر آخر أيام التشريق فقد أخرجه عن وقته على القول الثاني والثالث بخلاف الأول.
المبحث الثالث: الاحتيال لإسقاط الزكاة
هذه المسألة من المسائل المشكلة الشائكة، وقد ذكرها صاحب الوقاية في كتاب الشفعة تحت باب ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب، ونصها:"ولا يكره حيلة إسقاط الشفعة والزكاة عند أبي يوسف –رحمه الله، وبه يفتى في الشفعة، وبضده في الزكاة"
(1)
، وقد نص على أن الفتوى عليها.
جاء في الوقاية: "اعلم أن حيلة إسقاطهما لا يكره عند أبي يوسف –رحمه الله، ويكره عند محمد –رحمه الله، ويفتى في الشفعة بقول أبي يوسف –رحمه الله؛ لأنه منع عن وجوب الحق لا إسقاط للحق الثابت، وهكذا يقول في الزكاة، لكن هذا في غاية الشناعة؛ لأنه إيثار للبخل، وقطع رزق الفقراء الذين قدره الله تعالى في مال الأغنياء، والانخراط في سلك الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، والاستبشار بما بشرهم الله تعالى"
(2)
.
ومن العلماء من تطرق إلى هذه المسألة وحمل قول أبي يوسف –رحمه الله على أن الخلاف في إسقاط الزكاة بالحيلة قبل مضي الحول
(3)
؛ لأنه "امتناع من التزام الحق مخافة أن لا يخرج منه إذا التزمه فلا يكون مكروهاً كمن امتنع من جمع المال حتى لا يلزمه حج أو زكاة؛ وهذا لأن المذموم منع الحق الواجب وليس في هذا الاستبدال من منع الحق الواجب شيء"
(4)
، ويؤيده قولهم "إن الحيلة في إسقاط الشفعة قبل وجوبها لا تكره، والحيلة في إسقاط الزكاة على هذا"
(5)
.
(1)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 63.
(2)
المرجع السابق.
(3)
تحفة الفقهاء، 3/ 61،
(4)
تعليل نسبه السرخسي لأبي يوسف في المبسوط، 2/ 167
(5)
الاختيار، 2/ 48، وكذا في العناية، 9/ 421 - 422.
وروي عن أبي حنيفة –رحمه الله مثله
(1)
.
ومن الأمثلة على ذلك:
(1)
الأصل (2/ 58): " قلت: أرأيت الرجل يكون له الإبل، فإذا خاف أن تجب عليها الصدقة باعها قبل ذلك بيوم بغنم أو بقر أو دراهم، يريد بذلك الفرار من الصدقة؟ قال: ليس عليه صدقة حتى يحول عليها الحول وهي عنده. قلت: فإن باع الإبل بإبل قبل أن تجب عليه فيها صدقة يريد بذلك الفرار من الصدقة؟ قال: ليس عليه صدقة حتى يحول الحول على ما بقي في يديه
…
قلت: فإن باعها ولا ينوي الفرار من الصدقة؟ قال: ليس عليه صدقة حتى يحول الحول على ما في يديه"، فلم يذكر مأخذ القول، ولم يفرق بين من يفر من الزكاة وغيره، وإنما كان نظره إلى ثبوت الوجوب، فإن ما لا يتم به الوجوب (وليس الواجب) فليس بواجب مطلقاً إجماعاً، كما في تحرير المنقول (ص: 111)، فالزكاة لا تجب إلا إذا اجتمعت ثلاثة أمور: السبب وهو النصاب، والشرط وهو مضي الحول، وانتفاء المانع وهو الدين وقت الوجوب. وفي هذه المسألة وُجد السبب قبل تحقق الشرط، ثم أُزيل السبب ثم تحقق الشرط وانتفى المانع، فلم تجتمع الأمور كلها، وعليه فلا زكاة عليه تخريجاً لقوله.
لكن ربط المسألة بقاعدة ما لا يتم به الوجوب فليس بواجب مطلقاً فيه نظر؛ لأن القاعدة فيمن يسعى لتحقيق الشرط ابتداءً، والمسألة في إزالة الشرط بعد تحققه عمداً وقبل اجتماعه مع السبب. وكذا يقال في التحايل لإسقاط الحج، فمن تجمعت عنده أموال تجعله مستطيعاً للقيام بفريضة الحج ثم صرفها في شراء سكن أو تزوج ونحوه قبل أشهر الحج، فلا حج عليه؛ لأنه لم يجتمع شرط وجوبه مع سببه وهو دخول أشهر الحج. ونكتة المسألة في إزالة سبب الحكم عمداً وغرضاً أي بنية، وأما زواله بلا اختيار ولا نية، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. فمن راعى هذا الأمر حرم التحايل لإسقاط الزكاة ديانةً، ومن لم يراعه ولم ير فيه بأساً ولا أثراً أمضاه حكماً وقضاءً لا ديانة، والله أعلم. ثم اطلعت على كلام الشاطبي –رحمه الله عن الحيل وموقف الإمام أبي حنيفة –رحمه الله منها، فقال:"ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة، فإنه اعتبر المآل أيضًا، لكن على حكم الانفراد، فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة، كإنفاق المال عند رأس الحول، وأداء الدين منه، وشراء العروض به، وغيرها مما لا تجب فيه زكاة، وهذا الإبطال صحيح جائز؛ لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق، لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم، فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع؛ لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة، فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحًا ممنوع، وأما إبطالها ضمنا، فلا، وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقًا، ولا يقول بهذا واحد منهم. " ينظر: الموافقات، 5/ 188. قلت: ويخالفه ما جاء في الأصل –كما سبق- من التصريح بالفرار من الصدقة، لكن لو قيل بوجود احتمال أنه كان من المسائل الافتراضية التي لم تقع بعد، فلم يلتفت إلى ذلك، لكنه احتمال ضعيف؛ لأن الفرار من الزكاة معروف من الزمن الأول.
- "لو وهب النصاب في خلال الحول ثم تم الحول عند الموهوب له ثم رجع الواهب بقضاء، أو غيره فلا زكاة على واحد منهما"
(1)
.
- شخص لديه مليون ريال أوشك أن يحول عليه الحول فيقوم بشراء عمارة سكنية ثم بعد فترة وجيزة ببيعها ليستأنف حولاً.
- امرأة لها حلي معد للاستعمال وهبته لابنتها قبل تمام الحول، ثم تسترجعه فيما بعد؛ لتستأنف حولاً.
- شخص له أرض ينوي بها التجارة ثم يغير نيبته قبل تمام الحول فيجعلها للبناء والسكن.
- شخص لديه نصاب ماشية فقام فذبح بعضها وادخر لحمها قبل تمام الحول بنية نقصانها دون النصاب.
وتعقَّب بعض العلماء وقالوا: إنه رجع عن قوله في آخر أمره، وقال:"لا يحتال في إسقاط الزكاة ولا جزء منها"، وذلك في رسالته إلى هارون الرشيد
(2)
.
مع أن قول محمد أقوى من قول أبي يوسف –رحمهما الله-، والمكروه عنده أي محمد حرام
(3)
، وعليه فلا خلاف بين الصاحبين على أن التحايل لإسقاط الزكاة أمر محرم في دين الله.
(1)
البحر الرائق، 2/ 236، وفي رد المحتار قريب من ذلك، 2/ 284، 2/ 308، والغريب أنه ينقل من كتاب الخراج لأبي يوسف (4/ 178) ولم ينقل كلامه عن تحريم التحايل لإسقاط الزكاة.
(2)
التنبيه على مشكلات الهداية، 5/ 699، ويقصد من ذلك كتاب الخراج له، ص:93.
(3)
المرجع السابق، 5/ 697.
وقد سبق في قواعد الترجيح الأغلبية في المذهب الحنفي أن قول أبي يوسف مقدم في مسائل القضاء، ومسألة التحايل على الزكاة من المسائل التي يمكن حملها على أن المراد من قوله:(لا يكره) هو تنفيذ الحيلة قضاءً
(1)
، وأما الديانة فقد جاء عنه في كتاب الخراج ما نصه:"لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر منع الصدقة ولا إخراجها من ملكه إلى ملك جماعة غيره ليفرقها بذلك؛ فتبطل الصدقة عنها بأن يصير لكل واحد منهم من الإبل والبقر والغنم ما لا يجب فيه الصدقة، ولا يحتال في إبطال الصدقة بوجه ولا سبب"
(2)
، وكذا يمكن حمل قول أبي حنيفة –رحمه الله، فيصير اتفاقهم على تحريم التحايل ديانة، واختلافهم في حكمه قضاء، وقد رجع أبو يوسف عن قوله، ووافق قول محمد، والذي يقدم هنا هو قول الصاحبين بأن التحايل لإسقاط الزكاة محرم مطلقاً.
والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
بعد الاطلاع على مذاهب الفقهاء في هذه المسألة تبين لي أنه لا خلاف بينهم في أن التحايل لإسقاط الزكاة أمر لا يجوز، وعليه الحنفية –كما سبق- على القول المفتى به، والمالكية قالوا بتحريم أي فعل غرضه الفرار من الزكاة، والفرار منها إسقاطها
(3)
، والشافعية قالوا بكراهة ذلك كراهة تنزيه
(4)
، وقيل: الحرام
(5)
، وهو قول الحنابلة.
(6)
(1)
وعليه يحمل قول الإمام أبي حنيفة –رحمه الله كما سبق.
(2)
الخراج، ص:93.
(3)
شرح مختصر خليل للخرشي، 2/ 166، التاج والإكليل، 3/ 95، حاشية الدسوقي، 1/ 440، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 2/ 200.
(4)
روضة الطالبين، 2/ 190، المجموع، 5/ 364، مغني المحتاج، 2/ 78، وقال بعضهم إن الكراهة عند الشافعي تكون للتحريم. (ينظر: المستصفى، ص: 53).
(5)
المجموع، 5/ 364، حاشيتا قليوبي وعميرة، 2/ 18.
(6)
كشاف القناع، 5/ 321، المبدع في شرح المقنع، 2/ 305.
أدلة المسألة:
الدليل الأول: قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} [القلم: 17 - 20].
وجه الدلالة: جاء في تفسير الآية
(1)
أن الله –سبحانه وتعالى عاقبهم بذلك؛ لفرارهم من الزكاة
(2)
.
الدليل الثاني: يمكن أن يُستدل بقوله –صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"
(3)
.
وجه الدلالة: كون الأمور بمقاصدها
(4)
، وكذا قصد الفارّ من الزكاة بالحيل.
الدليل الثالث: قوله –صلى الله عليه وسلم: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"
(5)
.
وجه الدلالة: الحديث نص على تحريم الحيل لاستحلال محارم الله، وكذا المتحايل لإسقاط الزكاة بالحيل.
قد يناقش بأن الحديث فيمن يتحايل على الأحكام الثابتة الواجبة، والمسألة في التحايل لإسقاط ثبوت الأحكام أو منعها.
(1)
تفسير ابن كثير، 8/ 194 - 195.
(2)
المبدع في شرح المقنع، 2/ 305، وقد ذكر الدليل ووجهه.
(3)
أخرجه البخاري، 1/ 6، بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم، رقم حديث: 1، ومسلم، 3/ 1515، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الأعمال بالنية"، رقم حديث:1907.
(4)
الأشباه والنظائر للسيوطي، ص:8.
(5)
إبطال الحيل، ص: 46 - 47، وحسن إسناده ابن تيمية في الفتاوى الكبرى، 4/ 20، وابن القيم في حاشيته على عون المعبود، 9/ 244، وقال إن إسناده مما يصحِّحه الترمذي.
الدليل الرابع: قياس الفار من الزكاة على المطلق في مرض موته؛ لأنه يقصد به إسقاط حق غيره
(1)
.
وثمرة المسألة عدم جواز التحايل لإسقاط الزكاة أو الفرار منها، ولو فعلها شخص فإن الزكاة لا تسقط عنه، ولو نفذت الحيلة قضاءً.
(1)
المبدع في شرح المقنع، 2/ 305.
المبحث الرابع: محرم قتل صيداً في يد محرم آخر
وردت هذه المسألة في المبسوط في كتاب المناسك تحت باب جزاء الصيد، وقد ذكر محرماً قتل صيداً في يد محرم آخر، وأن على كل واحد منهما جزاؤه؛ فأما القاتل فلأنه جنى على إحرامه بقتل الصيد، وأما الآخذ فلأنه كان متلفاً لمعنى الصيدية فيه حكماً بإثبات يده، ثم يرجع الآخذ بما ضمن من الجزاء على القاتل
(1)
، وعند زفر –رحمه الله لا يرجع عليه بشيء؛ لأن الآخذ لم يملك الصيد، ولا كانت له فيه يد محترمة، ووجوب الضمان له على القاتل باعتبار أحد هذين المعنيين، وعليه الفتوى
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في محرم قتل صيداً في يد محرم آخر؛ هل جزاؤه على القاتل دون الآخذ أم عليهما معاً؟
وإذا كان عليهما معاً هل يرجع الآخذ على القاتل أم لا؟
وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا قتل محرم صيداً في يد محرم آخر فعلى كل واحد منهما الجزاء كاملاً، والآخذ لا يرجع على القاتل، وهو قول الحنفية –كما سبق-.
وقول المالكية إذا كانت نية الآخذ أن يمسك الصيد ليقتله الآخر
(3)
.
ورواية عن الإمام أحمد.
(4)
القول الثاني: يجب الجزاء كله على القاتل وحده.
وهو القول الأصح عند الشافعية
(5)
.
(1)
الأصل، 2/ 433، بداية المبتدي، ص: 53، العناية، 3/ 100، كنز الدقائق، ص:242.
(2)
المبسوط، 4/ 89.
(3)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 616، التاج والإكليل، 4/ 260.
(4)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 492، المغني، 3/ 451.
(5)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 4/ 248، المجموع، 7/ 437.
القول الثالث: يجب الجزاء بينهما نصفين، وهي أصح الروايات عن أحمد
(1)
.
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن الجزاء على القاتل والآخذ معاً بأدلة، منها:
الدليل الأول:
دليل وجوب الجزاء عليهما: لأن الآخذ متعرض للصيد بأخذه، والقاتل متعرض له بقتله.
ودليل رجوع الآخذ على القاتل: لأن الآخذ متمكن من الإرسال والقاتل مقرر بقتل ما كان على شرف الزوال، والتقرير كالابتداء في حق التضمين، فيضمن كشهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا، حيث يرجع الزوج بما ضمنه من نصف المهر عليهم
(2)
.
قد يناقش بأن الآخذ يأخذه لأسباب غير القتل، فلا يضمن ابتداءً.
الدليل الثاني: أي دليل عدم رجوع الآخذ على القاتل؛ وهو كون الآخذ لم يكن يملك الصيد، ولا كانت له فيه يد محترمة، ووجوب الضمان له على القاتل يرجع إلى أحد هذين الاعتبارين، ولم يكن كذلك، فعلى ذلك لا يرجع، ويبقى الضمان عليه؛ لأنه جزاء في مقابل صنعه
(3)
.
يُناقش بما ورد في الشق الثاني من الدليل الأول السابق ذكره بأنه متمكن من الإرسال، ولم يفعله.
(1)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 492، المغني، 3/ 451، والثانية: على كل واحد جزاء، والثالثة: إن كان صومًا صام كل واحد صومًا تامًّا، وإن كان غير ذلك فجزاء واحد، وإن كان على أحدهما هدي والآخر صوم، فعلى المهدي بحصته، وعلى الآخر صوم تام.
(2)
الهداية، 1/ 171، فتح باب العناية، 1/ 723.
(3)
المبسوط، 4/ 88 - 89.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن الجزاء على القاتل فقط بدليل اجتماع السبب والمباشرة، فقالوا: إنه وُجد من الآخذ أو الممسك سبب، ومن القاتل مباشرة، وإذا اجتمع السبب والمباشرة تعلق الضمان بالمباشرة قياساً على قتل الآدمي
(1)
.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بأن الجزاء على نصفين، لكل واحد منهما النصف بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
وجه الدلالة: لو أن جماعة قتلوا صيداً، فيلزمهم مثله، والزائد خارج عن المثل، فلا يجب.
نوقش بأن قوله تعالى: {من النعم} لم يخرج تفسيراً للمثل، وبيانه أن قوله:{فجزاء مثل ما قتل} كلام تام بنفسه مفيد بذاته من غير وصله بغيره؛ لكونه مبتدأً وخبراً، وقوله:{مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل؛ لأنه كما يرجع إلى الحكمين في تقويم الصيد المتلف يرجع إليهما في تقويم الهدي الذي يوجد بذلك القدر من القيمة، فلا يجعل قوله:{مثل ما قتل} مربوطاً بقوله عز وجل: {من النعم} مع استغناء الكلام عنه
(2)
.
الدليل الثاني: لأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه، فكان واحداً كالدية، أو كما لو كان القاتل واحداً
(3)
.
(1)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 4/ 248، المجموع، 7/ 437.
(2)
بدائع الصنائع، 2/ 199.
(3)
المغني، 3/ 452، وقد ذكر الدليلين ووجههما، نسب القول إلى عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، ومن غيرهم عطاء، والزهري، والنخعي، والشعبي، والشافعي، وإسحاق، ولم أقف عليه إلا ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه:"عن ابن عمر أنه سئل عن قوم من المشاة قتلوا صيداً، قال: (عليهم جزاء واحد) ". ينظر: المصنف، 3/ 392، كتاب الحج، في القوم يشتركون في الصيد وهم محرمون، برقم: 15247، وفي سنده انقطاع.
نُوقش بأن الكفارة في قتل الآدمي تفارقه؛ لأنها تختلف باختلاف المقتول ولا تتبعَّض
(1)
.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وأدلتها يظهر أن القول الثاني أقرب إلى الصواب؛ لقوة دليله، ولورود المناقشة على أدلة المخالفين، وللمسألة ثمرات عملية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو أن إنساناً قتل أرنباً في يد محرم آخر فعلى القول الثاني: القاتل يضمن ولا شيء على الآخذ، وعلى القول الأول: على كل واحد منهما جزاء كاملاً، وعلى القول الثالث: على كل واحد نصف الجزاء ويشتركان فيها.
- وكذا في بقية أنواع الصيد مثل النعامة والظبي والغزال والضبع واليربوع إلخ.
(1)
الممتع في شرح المقنع، 2/ 156.
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في المعاملات، وفيه عشرون مبحثًا:
المبحث الأول: في مسائل النكاح، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: غياب الولي الأقرب غيبة منقطعة.
المطلب الثاني: أثر النكاح الفاسد في تحديد المدة المعتبرة لإثبات النسب.
المطلب الثالث: السفر بالزوجة قبل إعطائها مهرها.
المبحث الثاني: الطلاق بغير العربية.
المبحث الثالث: ظهار الذمي.
المبحث الرابع: في مسائل الأيمان، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: قول: (كل حلال علي حرام).
المطلب الثاني: من حلف ألا يلبس حلياً فلبس عقد اللؤلؤ.
المطلب الثالث: من حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن.
المبحث الخامس: في مسائل النفقة، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: وقت وجوب النفقة للزوجة وقدرها.
المطلب الثاني: نفقة الزوجة إذا حُبست في دين.
المطلب الثالث: نفقة الزوجة إذا حُبست في سفرها مع محرم لأداء الحج.
المطلب الرابع: حد اليسار في النفقة.
المبحث السادس: في مسائل الإجارة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الإجارة على الطاعات.
المطلب الثاني: اختلاف المؤجر والمستأجر في أجرة العمل.
المبحث السابع: إسقاط حق الشفعة بالاحتيال وبتأخير الخصومة والمحاكمة.
المبحث الثامن: تذكية الصيد إذا أدركه المرسل حيّاً.
المبحث التاسع: في مسائل البيوع، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ما يُعرَض بالأنموذج رؤيةُ بعضِه كرؤية كله.
المطلب الثاني: الرجوع بنقصان العيب في الطعام بعد أكله.
المطلب الثالث: الربا، وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً.
المسألة الثانية: بيع الخبز بالحنطة والدقيق نسيئةً.
المسألة الثالثة: بيع الكرباس بالقطن.
المسألة الرابعة: استقراض الخبز وزنًا وعددًا.
المطلب الرابع: السلم في الخبز.
المبحث العاشر: ثبوت الوكالة بالقبض بثبوت الوكالة بالخصومة والتقاضي.
المبحث الحادي عشر: في مسائل المزارعة والمساقاة، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حكم المزارعة.
المطلب الثاني: اشتراط الأعمال في المزارعة التي ليست منها.
المطلب الثالث: حكم المساقاة.
المبحث الثاني عشر: وقف العقار والمنقول.
المبحث الثالث عشر: في مسائل الدعوى والشهادة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحقوق التي يجوز فيها اليمين، والحقوق التي لا يجوز فيها.
المطلب الثاني: الاقتصار على ظاهر العدالة في الشاهد المسلم.
المبحث الرابع عشر: في مسائل القضاء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحقوق التي يُقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي.
المطلب الثاني: إذا قضى القاضي في المجتهَد فيه مخالفاً لرأيه.
المبحث الخامس عشر: في مسائل القسمة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: كيفية قسمة البناء الذي له سفل وعلو.
المطلب الثاني: التعارض بين مصالح الجيران.
المبحث السادس عشر: ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل.
المبحث السابع عشر: في مسائل الضمان، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: ضمان الإتلاف.
المطلب الثاني: ضمان الساعي بغير حق.
المبحث الثامن عشر: في مسائل الحجر، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تحديد سن البلوغ وعلاماته.
المطلب الثاني: بيع القاضي عروض المدين وعقاره.
المبحث التاسع عشر: كيفيّة تقدير حكومة العدل.
المبحث العشرون: مقدار ما يوقف للحمل من الميراث.
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في المعاملات:
المبحث الأول: في مسائل النكاح:
المطلب الأول: غياب الولي الأقرب غيبة منقطعة:
مسألة غيابة الولي ترد في كتب الحنفية في كتاب النكاح عند مسألة الولي في نكاح الصغير والصغيرة؛ فإذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة فهل يجوز للولي الأبعد أن يقوم بتزويجهما قبل رجوع الولي الأقرب؟ الصحيح أنه يجوز
(1)
، لكن اختلفوا في تعريف الغيبة المنقطعة التي إذا تحققت يجوز حينها للولي الأبعد أن ينوب الولي الأقرب في التزويج.
منهم من قال: إنها تتحقق إذا كان الولي في بلد لا تصل القوافل إليه في السنة إلا مرة واحدة
(2)
، ومنهم من قدَّرها بأدنى مدة السفر؛ لأنه ليس لأقصاه نهاية، فيعتبر الأدنى، وعليه الفتوى
(3)
.
وقيل: إن كان الأقرب في موضع يفوت الكفء الخاطب باستطلاع رأيه فهو غيبة منقطعة، وإن كان لا يفوت فليست بمنقطعة، وهذا أقرب إلى الفقه؛ لأن التعويل في الولاية على تحصيل النظر للمولى عليه، ودفع الضرر عنه
(4)
.
وعليه فتوى جماعة من المتأخرين
(5)
.
(1)
الهداية، 1/ 195.
(2)
ينظر: بداية المبتدي، ص: 60، تبيين الحقائق، 2/ 127، ونصره في الاختيار، 3/ 96، وذكر أقوالاً أخرى في المسألة مثل ما روي عن أبي يوسف أنه مسيرة شهر، وعن محمد من الكوفة إلى الري (خمس عشرة مرحلة)، وعنه أيضاً من بغداد إلى الري (عشرون مرحلة)، وعن زفر: إذا كان في مكان لا يدرى أين هو فهي غيبة منقطعة، وحسَّنه.
(3)
ذكره الإسبيجاني في شرحه على القدوري (زاد الفقهاء)، ص: 132، وصاحب الجوهرة النيرة قال إنه اختيار القدوري، وأن الفتوى على غيره. (ينظر: الجوهرة النيرة، 2/ 10).
(4)
ينظر: بدائع الصنائع، 2/ 251، ونسبه للشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري، والجوهرة النيرة، 2/ 10.
(5)
الجوهرة النيرة، 2/ 10.
وقيل إن الفتوى على غيره
(1)
.
والذي يظهر أن اختلافهم اختلاف عصر وزمان وليس حجة وبرهان؛ فكل كان يقدِّر ويحدِّد بناءً ما عنده من معطيات عصره أو مصره، وذلك يرجع إلى العادة في الغالب.
وفي العصر الحاضر مع وجود التقنيات الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي من الصعب أن نتصور الغيبة المنقطعة بما ذكر من التعريفات من حيث المسافة والبعد المكاني.
ولذلك عند تعريف الغيبة المنقطعة لا بد من الرجوع إلى حقيقة الولاية والهدف منها وهو تحصيل المنفعة للمولى عليه ودفع الضرر عنه –كما سبق-.
وعليه فإن التعريف المختار –الذي عليه فتوى جماعة من متأخري الحنفية
(2)
- هو كون غيابه يفوِّت الكفء الخاطب باستطلاع رأيه، وهذا لا ينضبط، بل يُرجع إلى العرف والعادة، والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن الغيبة لها أثر على تزويج الصغير والصغيرة من حيث انتقال الولاية في الجملة
(3)
، واختلفوا في تحديد صفة الغيبة المؤثرة، على ثلاثة أقوال إجمالاً:
(1)
مجمع الأنهر، 1/ 339.
(2)
وصححه كثير من العلماء كما في اللباب في شرح الكتاب، 3/ 12، ورد المحتار، 3/ 81.
(3)
الهداية، 1/ 195، المدونة، 2/ 106، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 9/ 176، الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص:386.
القول الأول: الغيبة المنقطعة غياب الولي الأقرب بحيث يفوت الكفء باستطلاع رأيه، وعليه متأخرو الحنفية، وعليه الفتوى –كما مضى-، وهو أيضاً قول الشافعية إلا أنهم فرقوا بين الغيبة القريبة والبعيدة بمسافة يوم وليلة، لكن علَّقوا الأمر على فوات حق البنت من عقدها، فإذا غاب مسافة يوم وليلة وفي ذلك فوات لمصلحة البنت فإنها غيبة بعيدة أي منقطعة التي تنتقل بها الولاية من الأقرب إلى غيره
(1)
.
القول الثاني: النظر إلى سبب الغياب وإرادة الإقامة؛ فإن كان لأجل التجارة ونحوها في بلاد بعيدة مثل إفريقيا ولم يُرد المقام فيها فالغيبة ليست منقطعة، وإن كان ممن خرج في المغازي إلى أفريقيا أو الأندلس فأقام في تلك البلاد فالغيبة منقطعة، وهو قول المالكية
(2)
.
القول الثالث: النظر إلى المشقة والكلفة الناتجة عن مراجعة الغائب، وهو قول الحنابلة
(3)
.
بعد البحث لم أظفر بأدلة الأقوال، وقد يُستدل بما ذُكر من العرف والعادة، وهذا يختلف باختلاف الأمصار والأزمان، وكلٌّ له عادته، فلا ينضبط إلا إذا عُلِّق الأمر على مصلحة المولى عليه ودفع ضرره.
(1)
ينظر: الحاوي الكبير، 9/ 11، وقيل: إنه لا فرق بين الغيبة البعيدة والقريبة في عدم تأثيرها على انتقال الولاية، فلو غاب الولي غيبة قريبة أم بعيدة فإن الولاية تنتقل إلى السلطان مباشرة؛ استناداً على قول الشافعي في الأم (5/ 15)، كما في المجموع (تكملة المطيعي)، 16/ 163، وفي نهاية المحتاج علق الغيبة عن المرأة بالعرف (6/ 209).
(2)
المدونة، 2/ 106، التهذيب في اختصار المدونة، 2/ 142، التاج والإكليل، 5/ 67، مواهب الجليل، 3/ 436.
(3)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 13، وقد رد المسألة إلى العرف، وأن المعتبر في الانتظار والمراجعة ما جرت به العادة؛ لعدم التحديد فيه من الشارع.
وعليه فقد تبيَّن لي أن الاختلاف بين الأقوال اختلاف تنوع، وأنها تدور حول تحصيل المنفعة ودفع المضرة، وكيفية ذلك ترجع إلى العرف وما جرت به العادة؛ فالجمع بينها هو التعريف المختار، فيقال: إن الغيبة المنقطعة غياب الولي الذي يفوت مصلحة المولى عليه أو يجلب له الضرر عرفاً
(1)
.
وفي قديم الزمان كانوا يقدرون ذلك بالمدة أو بالمسافة أو بالمشقة والكلفة أو بالإقامة، والآن يمكن استطلاع رأي الولي الأقرب في دقائق وهو في أقصى الدنيا، ثم لو حددنا الغيبة بالمسافة وحضور الولي شخصياً فإنه لو كان في مشرق الأرض سيصل إلى مغربها في حدود يوم أو يومين بالطائرات، وانتظار الكفء هذا الوقت من الأمور المقبولة عرفاً، والله تعالى أعلم.
(1)
وقد مال إليه ابن قدامة في المغني (7/ 32): "فإن التحديدات بابها التوقيف، ولا توقيف في هذه المسألة، فتُرَدُّ إلى ما يتعارفه الناس بينهم، مما لم تجر العادة بالانتظار فيه، ويلحق المرأة الضرر بمنعها من التزويج في مثله، فإنه يتعذر في ذلك الوصول إلى المصلحة من نظر الأقرب، فيكون كالمعدوم".
المطلب الثاني: أثر النكاح الفاسد في تحديد المدة المعتبرة لإثبات النسب:
النكاح الفاسد كل نكاح فقد شرطاً من شروطه أو ركناً من أركانه، ومثاله: نكاح بلا ولي عند غير الحنفية، أو نكاح بلا شهود عند غير المالكية، أو عقد على الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، أو عقد على أخت مطلقته قبل انقضاء عدتها منه إلخ
(1)
. وقد نص فقهاء الحنفية على أن النكاح الفاسد يلزم منه العدة، وإثبات النسب، ومدته من حين الدخول، وهو قول محمد –رحمه الله، وبه يُفتى
(2)
، وعند الشيخين من وقت النكاح
(3)
.
ودليل القول الراجح كون النكاح الفاسد ليس بداعٍ إلى الوطء والإقامة باعتباره، أي إقامة النكاح مقام الوطء باعتبار أن النكاح داعٍ إلى الوطء، والنكاح الفاسد ليس بداعٍ إليه، فلا يقام مقامه
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن النسب يثبت في النكاح الفاسد إذا اتصل به دخول حقيقي
(5)
، واختلفوا في بدء اعتبار مدة النسب فيه على قولين:
القول الأول: مدة النسب تبدأ من حين الدخول أو الوطء، وهو الراجح عند الحنفية –كما مضى-، والصحيح عند الشافعية
(6)
، وقول الحنابلة
(7)
.
(1)
ذكر السُّغدي في النتف ثمانية أوجه له، ص: 266، وإن كانت بعضها من المختلف فيه بين المذاهب.
(2)
الهداية، 1/ 205، مجمع البحرين، ص: 534، ملتقى الأبحر، ص: 523 - 524، مجمع الأنهر، 1/ 356، رد المحتار، 3/ 517، وقد استقر القول على هذا.
(3)
مجمع الأنهر، 1/ 356، رد المحتار، 3/ 517.
(4)
العناية، 3/ 367، البناية، 5/ 182، تبيين الحقائق، 2/ 153، مجمع الأنهر، 1/ 356.
(5)
الهداية، 1/ 205، رد المحتار، 3/ 517، الذخيرة، 4/ 299، الحاوي الكبير، 11/ 308، المغني، 7/ 299، كشاف القناع، 5/ 410 - 411، وقد نص عليه ابن تيمية في فتاواه، 34/ 14.
(6)
الوسيط في المذهب، 6/ 134، روضة الطالبين، 8/ 382، وصححه.
(7)
المغني، 7/ 299، الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، 4/ 106.
القول الثاني: مدة النسب تبدأ من وقت النكاح، وهو قول المالكية
(1)
، وقول مرجوح عند الشافعية
(2)
، وقول مرجوح عند الحنفية –كما سبق-.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن مدة النسب تبدأ من حين الدخول وليس وقت النكاح بالتفريق بين النكاح الصحيح وبين النكاح الفاسد، فقالوا بأن النكاح الفاسد ليس بداعٍ إلى الوطء الذي يُعتبر في إقامة النكاح بخلاف النكاح الصحيح فإنه داعٍ إليه.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن المدة تبدأ من وقت النكاح بقياس النكاح الفاسد على الصحيح، وأنه لا فرق بينهما من حيث إثبات مدة النسب
(3)
.
ونوقش بأنه قياس مع الفارق، وذلك بدليل القول الأول أي أن إقامة العقد مقام الوطء في النكاح الصحيح باعتبار أن العقد داعٍ إلى الوطء، والنكاح الفاسد ليس بداعٍ إلى الوطء؛ لكونه حراماً واجب الرفع فلا يقام العقد مقام الوطء، ولا تعتبر المدة من حيث العقد
(4)
.
(1)
الذخيرة، 4/ 299، الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 532، وإنما ذكره ضمناً بقوله:"ولو جاءت المنكوحة في العدة بولد لأقل من ستة أشهر من يوم عقد عليها الثاني فرق بينه وبينها ولم تحل له أبداً"، فعلق الحكم على العقد لا على الوطء.
(2)
روضة الطالبين، 8/ 382.
(3)
رد المحتار، 3/ 517.
(4)
البناية، 5/ 183، وقال في العناية (3/ 367) إن فيه إشارة إلى فساد القياس.
الترجيح:
بعد استعراض القولين ودليليهما يظهر أن القول الأول أوفق وأقرب للصواب لقوة دليله وورود المناقشة على دليل القول الآخر، وللخلاف في المسألة ثمرة عملية تظهر فيما لو تزوج شخص امرأة في العدة مثلاً، ثم أتت بولد لستة أشهر كأقل مدة الحمل؛ فعل القول الأول يثبت النسب إذا جاءت بولد لستة أشهر من وقت الدخول، وعلى الثاني يثبت إذا جاءت به لستة أشهر من وقت العقد
(1)
.
(1)
رد المحتار، 3/ 517.
المطلب الثالث: السفر بالزوجة قبل إعطائها مهرها:
من المسائل المهمة في كتاب النكاح ما يتعلق بالمهر ونوعه، وأقله وأكثره، ووقت إعطائه وأثر ذلك على النكاح والحياة الزوجية؛ ففي كتب الحنفية ينصون على أن للمرأة أن تمنع نفسها عن زوجها، وألا تسافر معه حتى يعطيها مهرها إلا إذا كان مؤجلاً
(1)
، واختلفوا في سفرها معه فيما لو أعطاها مهرها كله، فمنهم من قال: إنه يسافر بها إلى أي مكان يريد
(2)
، ومنهم من قال: إنه لا يسافر بها
(3)
(4)
، وعليه الفتوى، بدليل أن الزمان قد فسد، والغريب يؤذى
(5)
.
وبعضهم فصَّل المراد من عدم السفر بها بألا يخرجها إلى بلد غير بلدها؛ لأن الغريبة تؤذى فيه، والغربة لا تتحقق في الذهاب إلى القرى القريبة
(6)
.
وهذه المسألة من مسائل اختلاف العصر والزمان وليس الحجة والبرهان
(7)
، وبيان ذلك أن الأمر اختلف مما كان في زمان الإمام، ففي زمانه الغالب من حال الناس الصلاح، وأما في الأزمنة المتأخرة فعكس ذلك؛ وعليه فلا يملك الزوج أن يسافر بها وإن أوفى مهرها، والسبب أن المرأة إذا كانت بين عشيرتها فالزوج لا يقدر على أن يظلمها، ومتى نقلها إلى بلد آخر ظلمها
(8)
.
(1)
الاختيار، 3/ 109.
(2)
بدائع الصنائع، 2/ 290، ونسبه إلى أبي حنيفة –رحمه الله.
(3)
بدائع الصنائع، 2/ 290، ونسبه إلى محمد بن سلمة، وأنه كان يفتي بذلك بحكاية أبي جعفر الهندواني عنه.
(4)
والذي يظهر أنه ليس له أن يسافر بها إلا بإذنها، بمعنى لو امتنعت فلا يعد نشوزاً، والله أعلم.
ثم وجدت في رد المحتار ما يفيد ذلك، (3/ 146).
(5)
الاختيار، 3/ 109.
(6)
الهداية، 1/ 206، قلت: الذي يظهر أن له أن يذهب بها إلى أي مكان يريد، لكن دون مسافة السفر، ولذلك نصوا على القرى القريبة.
(7)
رد المحتار، 3/ 146.
(8)
المرجع السابق، 3/ 146 - 147، فأضاف على أذية الغريب أذية الرجل الظالم لزوجته، وهما جانبا المنع، والله المستعان.
بل قال بعضهم إن من عادة زمانهم حصول مُضارة قطعية في الاغتراب بها
(1)
.
فاستقر القول على ذلك وليس فيه العدول عن ظاهر الرواية؛ لأن الإمام لو عاش أو رأى ذلك لقال به، فهو مذهبه حكماً
(2)
، ويفهم منه أن الحكم لن يختلف لولا الغربة والظلم.
وبعد الاطلاع على بقية المذاهب تبين لي أن المسألة أقرب إلى الوفاق بينهم، وأن الخلاف بينهم أشبه بالخلاف اللفظي، وبيانه على النحو الآتي:
- المالكية نصوا على أن للزوج أن يظعن أي أن يسافر بزوجته من بلد إلى بلد وإن كرهت، وينفق عليها، واشترطوا حرية الزوج وأمانته وإحسانه إليها، وأمن الطريق وأن تكون البلد قريبة بحيث لا ينقطع خبرها عن أهلها
(3)
.
- وعند الشافعية للزوج أن يسافر بزوجته إلى أي بلد شاء
(4)
، لكن بشرط أمن الطريق، وإذا امتنعت عن السفر معه كانت ناشزاً
(5)
.
- وعند الحنابلة للزوج أن يسافر بزوجته الحرة إلى الجهة التي يريد بشرط أمن الطريق
(6)
.
وإن الناظر في الأقوال السابقة وتعليلاتها سيجد أن من منع سفر الزوجة مع زوجها تعليله عدم أمن الطريق أو ظلم المرأة، وهو شرط لم يتحقق فيمنع، ومن أوجب سفرها مع زوجها لاستيفاء حقه منها اشترط عدم وجود ما علل به من منع، فلا فرق.
(1)
المبسوط، 3/ 147.
(2)
المبسوط، 3/ 147.
(3)
التهذيب في اختصار المدونة، 2/ 404، شرح الزرقاني على مختصر خليل، 4/ 10، مواهب الجليل، 3/ 503، الجامع لمسائل المدونة، 9/ 532.
(4)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 9/ 269، المجموع (تكملة المطيعي)، 16/ 240، روضة الطالبين، 4/ 81.
(5)
نهاية المحتاج، 7/ 206.
(6)
الإقناع، 3/ 239، منتهى الإرادات، 4/ 176، الإنصاف، 8/ 347.
وعليه فإن المسألة لها ثمرة عملية تظهر في تحديد نشوز الزوجة إذا امتنعت من السفر مع زوجها؛ فإن امتنعت فإنه ينظر إلى أمن الطريق وصلاح الزوج وأمن البلد التي يسافر إليها إلخ.، وهذه الأمور نسبية، وقد تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، والله أعلم.
المبحث الثاني: الطلاق بغير العربية:
مسألة الطلاق بغير العربية ترد في كتب الفقه الحنفي في الغالب عند ذكر الطلاق بالفارسية، فيذكرون بعض الألفاظ مثل (بِهَشْتَم
(1)
إن زن)، أو (بِهَشْتَم) بلا (إن زن)، أو (دها كنم)
(2)
، فيقررون أن الطلاق الذي يقع في الشرع نوعان: صريح وكناية.
والصريح كل لفظ لا يستعمل إلا في حل قيد النكاح، ومثاله لفظ الطلاق أو التطليق مثل: أنتِ طالق أو أنتِ الطلاق أو طلقتك، وسُمي صريحاً؛ لأن الصريح يطلق على ظاهر المراد مكشوف المعنى؛ فهو لا يستعمل إلا في الطلاق عن قيد النكاح فلا يُحتاج فيه إلى النية؛ لأن النية عملها في تعيين المبهم، ولا إبهام هنا
(3)
.
وأما الكناية فكل لفظ يُستعمل في الطلاق كما يستعمل في غيره، مثل أمرك بيدك، اعتدي، خليت سبيلك، لا سبيل لي عليك، أنت حرة، قومي، اخرجي، انتقلي إلخ.، وسمي كناية؛ لأنها ما استُتر المراد منه عند السامع، فاحتاج إلى قريبة النية، الطلاق لا يقع إلا بها.
(4)
واختلفوا في بعض الألفاظ الفارسية هل هي من الصريح أم الكناية، فقوله:(بِهَشْتَم إن زن) عند أبي يوسف ومحمد من الصريح؛ لأن أبا يوسف خالط العجم فعرف أنه في لغتهم من الصريح، بخلاف لفظ (بِهَشْتَم) فقط الذي معناه خلَّيت، وهو عند أبي يوسف من الكنايات إذا لم يضفه إلى النكاح أو الزوجة، فلا يحمل على الطلاق إلا بقرينة نية أو دلالة حال، وعند محمد مطلقاً؛ لأن معناه في العربية أنت مخلاة أو قد خليتك
(5)
.
(1)
وجدتها مع التشكيل اللفظي في كشاف القناع (5/ 249) حيث قال: " (وصريحه) أي الطلاق (بلسان العجم بهشتم) بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وفتح المثناة فوق".
(2)
في الكتب هي هكذا (دها كنم)، وقد سألت أصحاب اللغة الفارسية الذين هي لغتهم الأم، فقالوا إنها (رِهاَ كُنَمْ) ومعناها:(أُطْلِقُ صَرَاحَهَا).
(3)
بدائع الصنائع، 3/ 101 - 102، بتصرف.
(4)
بدائع الصنائع، 3/ 105 - 106، بتصرف يسير.
(5)
وابن قدامة نسبه إلى أبي حنيفة أيضاً في المغني، 7/ 388، ولم أجده في كتب الحنفية.
والذي عليه الفتوى هو أن الطلاق بغير العربية -قياساً على الفارسية- إن كان فيها لفظ لا يُستعمل إلا في الطلاق فهو الصريح يقع به الطلاق من غير نية إذا أضيف إلى المرأة مثل (دها كنم)
(1)
أو (بِهَشْتَم)؛ لأن الصريح لا يختلف باختلاف اللغات، وما كان في الفارسية من الألفاظ تستعمل في الطلاق وغيره فهو من كنايات الفارسية، فيكون حكمه حكم كنايات العربية في جميع الأحكام
(2)
.
قلت: ولعل المتأخرين عدلوا عن قول الصاحبين لتغير العرف اللغوي، ففي زمانهما لفظ (بِهَشْتَم) لم يكن صريحاً إلا إذا أضيف إليه (إن زن)، ثم أصبح من الألفاظ الصريحة التي لا تستعمل إلا في الطلاق، والله أعلم.
والمسألة كسابقتها من مسائل الوفاق بين الفقهاء، وقد سبق قول الحنفية، وأما بقية المذاهب:
- فعند المالكية: جاء في المدونة أنه لم يُسمع من مالك شيء في الطلاق بالعجمية
(3)
، لكن قالوا تخريجاً أن من طلق بالعجمية لزمه الطلاق إن شهد بذلك عدلان يعرفان تلك اللغة
(4)
.
- والشافعية: قالوا إن ترجمة الطلاق بالعجمية صريح على المذهب؛ لشهرة استعماله اللفظة في معناها عند أهلها شهرة استعمال العربية عند أهلها
(5)
.
- والحنابلة: نصوا على أن "صريح الطلاق بالعجمية بِهَشْتَم، فإذا أتى بها العجمي، وقع الطلاق منه بغير نية"
(6)
.
(1)
أو (رِهاَ كُنَمْ) بمعنى: (أُطْلِقُ صَرَاحَهَا) –كما سبق-.
(2)
اختصاراً من بدائع الصنائع، 3/ 102، والمحيط البرهاني، 3/ 233، البحر الرائق، 3/ 323، رد المحتار، 3/ 247.
(3)
المدونة، 2/ 69.
(4)
المدونة، 2/ 69، مواهب الجليل، 4/ 44، الجامع لمسائل المدونة، 10/ 680.
(5)
روضة الطالبين، 8/ 25، منهاج الطالبين، ص: 230، مغني المحتاج، 4/ 458.
(6)
المغني، 7/ 388، الشرح الكبير على متن المقنع، 8/ 284، كشاف القناع، 5/ 249.
ويستنتج من هذا أن الطلاق بغير العربية يقع إذا كان بالألفاظ التي لا تستعمل إلا في الطلاق في تلك اللغة؛ فيكون صريحاً كما في العربية، إذ المدار على المعنى
(1)
.
ومن الأمثلة على المسألة:
- لو قال البريطاني لزوجته: (You are divorced) ومعناه: أنت طالق، فإن الطلاق يقع بلا نية؛ لأنها من الألفاظ الصريحة التي لا تستعمل في الإنجليزي إلا للطلاق، وقد أضافها للمخاطبة بلفظ:(You are).
- وعكسه في الكنايات لو قال لها: (You are not my wife) بمعنى أنت لست زوجتي، فإن الطلاق لا يقع؛ لأنها من الألفاظ التي تستخدم في اللغة الإنجليزية في الطلاق وغيره.
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى، 15/ 449.
المبحث الثالث: ظهار الذمي
تعريف الظهار والذمي لغة واصطلاحاً:
الظهار من الظهر وهو خلاف البطن من كل شيء
(1)
، ويدل على قوة وبروز، ومن ذلك الظهيرة؛ لأنها أظهر أوقات النهار وأضوؤها
(2)
.
وفي الاصطلاح قول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي
(3)
، ثم انتقل إلى غيره من الأعضاء، وإلى غيرها من المحرمات
(4)
.
والذمي في اللغة من الذمة وهي العهد
(5)
والكفالة
(6)
.
(1)
العين، 4/ 37.
(2)
مقاييس اللغة، 3/ 471.
(3)
المبسوط، 6/ 224، بداية المبتدي، ص: 81، تبيين الحقائق، 3/ 2، تحفة الفقهاء، 2/ 211، وقال:"ولو شبه امرأته بعضو من أمه غير الظهر فإن كان لا يجوز النظر إليه فهو ظهار نحو البطن والفخذ والفرج، ولو شبه امرأته بذوات المحارم غير الأم إن كانت الحرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة فإنه يكون ظهاراً، ولو شبه امرأته بامرأة محرمة عليه في الحال وهي ممن تحل له في حالة أخرى مثل أخت امرأته ومثل امرأة لها زوج أو مجوسية أو مرتدة لم يكن مظاهرًا؛ لأن النص ورد في الأم وهي محرمة على التأبيد".
وكذا عند المالكية كما في المدونة، 2/ 308، والكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 603، وعند الشافعية كما في الأم، 5/ 259، ونهاية المطلب، 14/ 471، وعند الحنابلة كما في مسائل الإمام أحمد برواية ابنه، ص: 367، رقم: 1350، الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 165.
(4)
الاختيار، 3/ 161، ثم قال:" (وهو أن يشبه امرأته أو عضوًا يعبر به عن بدنها) كالرأس والوجه، (أو جزءًا شائعًا منها) كالثلث والربع، (بعضو لا يحل النظر إليه) كالظهر والفخذ والبطن والفرج؛ لأن الكل في معنى الظهر في الحرمة (من أعضاء من لا يحل له نكاحها على التأبيد) كأمه وبنته وجدته وعمته وخالته وأخته وغيرهن من المحرمات على التأبيد؛ لأن الكل كالأم في تأبيد الحرمة. "
(5)
تهذيب اللغة، 14/ 299 - 300.
(6)
القاموس المحيط، ص:1110.
وفي الاصطلاح من التزم أحكام الإسلام في المعاملات مدة عمره
(1)
، وقيل:"الذمي نسبة إلى الذمة أي العهد من الإمام بالأمن على نفسه وماله في نظير التزامه الجزية ونفوذ أحكام الإسلام فيه"
(2)
.
والظهار من حيث أصله كان طلاقاً في الجاهلية فقرر الشرع أصله، ونقل حكمه إلى تحريم مؤقت بالكفارة من غير أن يكون مزيلاً للملك
(3)
.
(1)
الهداية، 2/ 347، ولم يذكر الجزية.
(2)
جواهر الإكليل، 1/ 105.
وقريب من ذلك ما جاء في كشاف القناع (3/ 116)، وعند الشافعية كذلك كما في المهذب في فقه الإمام الشافعي (3/ 318)، لكن بطريقة عكسية إذ قال:"إذا امتنع الذمي من التزام الجزية أو امتنع من التزام أحكام المسلمين انتقض عهده لأن عقد الذمة لا ينعقد إلا بهما، فلم يبقَ دونهما"، فيمكن استخلاص التعريف منه.
(3)
المبسوط، 6/ 223 - 224، الأم للشافعي، 5/ 294.
وجاء في كتب الحنفية ما يفيد عدم التفريق بين المسلم والذمي في بعض المسائل مثل الإيلاء
(1)
، ووجوب النفقة على الزوجة
(2)
، والإجارة؛ لأنها من عقود المعاوضات، وجريان الربا، والشفعة
(3)
، والدية
(4)
، والحدود
(5)
، وغيرها، وينصون على أن الذمي قد التزم أحكام الإسلام في المعاملات
(6)
، وفرقوا بينهما في مسائل مبناها على العبادة
(7)
، ومنها الظهار؛ ولأن الظهار يلزم منه الكفارة وهي التكفير والتطهير، والكافر ليس بأهل لذلك، وما فيه من الشرك أعظم من الظهار، ولأن معنى العبادة يترجح في الكفارة حتى تتأدى بالصوم الذي هو محض عبادة لا يتأدى إلا بنية العبادة، وعليه الفتوى
(8)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
ينص الفقهاء على أن الذمي كالمسلم في المعاملات، فيصح منه البيع، وله حق الشفعة وغيرها -وقد سبق ذكر بعضها-، واختلفوا في المسائل التي لها جانب العبادة وجانب المعاملات مثل الظهار على قولين:
القول الأول: ظهار الذمي لا يصح، وهو قول الحنفية –كما مضى-، والمالكية
(9)
.
(1)
بدائع الصنائع، 3/ 175، وعلله بأنه يعظم أسماء الله، وخالفه القدوري في تجريده، 10/ 5067، بل قال: إن الطلاق لا يصح منه، ومن صح منه الطلاق صح ظهاره.
(2)
بدائع الصنائع، 4/ 22، 4/ 176، 5/ 194، ويشمل مسائل الإجارة والربا والشفعة.
(3)
الهداية، 4/ 316.
(4)
الاختيار، 5/ 30، وهو قول الحنفية.
(5)
المبسوط، 6/ 231.
(6)
الهداية، 2/ 347، العناية، 5/ 268.
(7)
الاختيار، 1/ 114.
(8)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 5/ 201، المبسوط، 6/ 231، بدائع الصنائع، 3/ 230، تبيين الحقائق، 3/ 2، البناية، 5/ 531، مجمع الأنهر، 1/ 446.
(9)
التاج والإكليل، 5/ 422، جواهر الإكليل، 1/ 371، إلا أنه ذكر في التعريف أنه تشبيه المسلم البالغ، فدل على أنه لا يصح من غير المسلم.
القول الثاني: ظهار الذمي يجوز، وهو قول الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن ظهار الذمي لا يصح بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة: 2].
وجل الدلالة: من وجهين:
الوجه الأول: قوله تعالى: {مِنْكُمْ} كناية عن المسلمين
(3)
.
ونوقش بأوجه، منها:
- أن الكفارة إنما وجبت على المسلم زجراً له عن هذا الفعل الذي هو منكر من القول وزور، وهذا المعنى قائم في حق الذمي فوجب أن يصح.
قد يجاب بآخر الآية الرابعة من سورة المجادلة بعد ذكر أحكام الظهار: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 4]، واللام لام التعليل،
(4)
فالكفارة شرعت إيماناً كما شرعت زجراً
(5)
.
- وأن قوله: (والذين يظاهرون من نسائهم) متأخر في الذكر عن قوله: (الذين يظاهرون منكم)، والظاهر أنه كان متأخراً في النزول، فيكون العام قد ورد بعد الخاص، وعند أبي حنيفة –رحمه الله إذا ورد العام بعد الخاص كان ناسخاً له.
(1)
الحاوي الكبير، 10، 412، الوسيط في المذهب، 6/ 29.
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 165، المغني، 8/ 4.
(3)
تفسير القرطبي، 17/ 276، وقال:" قوله تعالى: (منكم) يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. فإن قيل: هذا استدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو استدلال بالاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم)، وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال"، وهو قوي.
(4)
إعراب القرآن وبيانه، 10/ 8.
(5)
تفسير الطبري، 23/ 234.
وقد يجاب بأن القاعدة تقيد بكون الورود بعد حضور وقت العمل بالخاص
(1)
، وآيات الظهار نزلت دفعة واحدة كما في بيان سبب نزولها
(2)
، وعليه فلا نسخ.
- وأنه لم يذكر بيان حكم الظهار في الأول، وذكره في الثاني، وكون المبين متأخراً في النزول عن المجمل أولى
(3)
.
وقد يجاب بأنه لا يسلم أن الآية لم يُذكر فيها حكم الظهار، فالآية الأولى فيها بيان لحكم الظهار، والثانية بيان لحكم كفارته، فكلتا الآيتين بينتْ.
- وأن قوله تعالى: {مِنْكُمْ} المراد به العرب، وفيه توبيخ لهم وتهجين لعادتهم في الظهار، لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصة دون سائر الأمم
(4)
.
(1)
نهاية الوصول في دراية الأصول، 4/ 1657.
(2)
تفسير الطبري، 23/ 222.
(3)
ذكرها الرازي في تفسيره، 29/ 480، وبعض العلماء استدل بالكفارة على الإيمان بالله كما في تفسير الطبري، 17/ 287.
(4)
تفسير الرازي، 29/ 481.
قد يجاب بأن الآيات في سياق الحديث عن المؤمنين، ويؤيده قوله تعالى في الآية الرابعة:{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 4]، وقد جاء في تفسيرها:"وقوله: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) يقول جلّ ثناؤه: هذا الذي فرضت على من ظاهر منكم، ما فرضت في حال القدرة على الرقبة، ثم خففت عنه مع العجز بالصوم، ومع فقد الاستطاعة على الصوم بالإطعام، وإنما فعلته كي تقر الناس بتوحيد الله ورسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويصدّقوا بذلك، ويعملوا به، وينتهوا عن قول الزور والكذب، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وهذه الحدود التي حدّها الله لكم، والفروض التي بينها لكم حدود الله فلا تتعدّوها أيها الناس، (وَلِلْكَافِرِينَ) بها، وهم جاحدو هذه الحدود وغيرها -من فرائض الله أن تكون من عند الله-، (عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: عذاب مؤلم"
(1)
، فحمل الآيات على الكافر والحالة هذه لا يتصور، والله أعلم.
الثاني: الآية فيها أمر بتحرير يخلفه الصيام إذا لم يجد الرقبة، والصيام يخلفه الطعام إذا لم يستطع، وكل ذلك لا يتصور إلا في حق المسلم.
ونُوقش بأن الصوم بدل عن الإعتاق، والبدل أضعف من المبدل، ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره، فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب المنع، مع صحة الظهار، ففوات أضعف اللازمين كيف يمنع من القول بصحة الظهار
(2)
.
قد يجاب عنه بأن المنع من صحة الظهار مبني على عدم إمكانية الكفارة بلا نية في صورة عبادة، وهذا لا يتصور من الكافر.
ثم إن العبد يعجز عن الإعتاق كما يعجز عنه الحر؛ فالتفريق بين فوات أقوى اللازمين وبين أضعف اللازمين لا أثر له هنا، لأن الفوات ممكن على الجميع.
(1)
تفسير الطبري، 23/ 234.
(2)
تفسير الرازي، 29/ 480.
وكذلك العبد يعجز عن الإعتاق حقيقة، وأما الذمي فلا يعجز عن الصوم مطلقاً؛ لأنه يمكنه الدخول في الإسلام حتى يصبح قادراً على الصوم، فقياس فوات الأقوى على فوات الأضعف قياس مع الفارق.
الدليل الثاني: لأنه لا يصح من الذمي الصوم الذي تتأدى به الكفارة
(1)
، وقيل: إن الظهار يوجب تحريماً ترفعه الكفارة، والذمي لا كفارة عليه، فلم يتعلق بقوله حكم التحريم، إذ لو حرمناها لم يكن تحريماً مؤقتاً بالكفارة
(2)
.
نُوقش بأنه لا يسلم أن التكفير لا يصح منه، فإنه يصح منه العتق والإطعام، وإنما لا يصح منه الصوم، فلا تمتنع صحة الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة كما في حق العبد، والنية معتبرة في تعيين الفعل للكفارة فلا يمتنع ذلك في حق الذمي، كالنية في كنايات الطلاق
(3)
.
وقد يجاب بأن معنى العبودية يترجح بسبب الصوم فيها كلها؛ لأنها على الترتيب وليس التخيير، فمن عجز عن العتق لزمه الصوم، ولا يجوز الانتقال عنه إلا للعجز أيضًا، والكفر ليس من العجز المبيح للانتقال، ويمكن إزالته بمجرد إسلامه، وأما العتق والإطعام فإن النية معتبرة في تعيين الفعل، لكنها في صورة عبادة، ولأجلها يمتنع ذلك في حق الذمي.
كما نوقش بأنه لو أتلف كافر صيداً في الحرم فإنه يضمن
(4)
.
وقد يجاب بأن الضمان من المعاملات، وكفارته لا تنبني على العبادة كما في كفارة الظهار، والله أعلم.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن ظهار الذمي يقع بأدلة، منها:
الدليل الأول: عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3].
(1)
الجوهرة النيرة، 2/ 68.
(2)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 5/ 201.
(3)
المجموع (تكملة المطيعي)، 17/ 342 - 343.
(4)
الإنصاف، 3/ 548.
وجه الدلالة: لم يفصل بين المسلم والكافر؛ لأن الكافر من أهل الظهار؛ لأن حكمه الحُرمة، والكفار مخاطبون بشرائع هي حُرُمات، ولهذا كان أهلاً للطلاق، فكذا للظهار
(1)
.
نوقش بأن الآية خاصة بالمسلمين
(2)
؛ فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ، فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال
(3)
.
الدليل الثاني: قياس ظهاره على طلاقه، فكل من صح طلاقه صح ظهاره
(4)
.
قد يناقش بأنه لا يسلم أن الطلاق يصح من الذمي؛ لأن أنكحة الكفار فاسدة، ولا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، ولو تنوزل إلى أنه يصح فإنه قياس مع الفارق، إذ الظهار تحريم مؤقت للجماع وقبله المس، ويفتقر إلى الكفارة بخلاف الطلاق.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما والمناقشات والردود يظهر لي أن القول الأول القائل بأن ظهار الذمي لا يصح أولى وأقرب للصواب؛ لقوة أدلته ولغلبة معنى العبادة في كفارة الظهار، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض المسائل المتشابهة، ولعل القضاء مجال تطبيقها، فعلى سبيل المثال:
- لو أن ذمِّيًّا قال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي فإن قوله لاغٍ على القول الأول ولا أثر له، وعلى القول الثاني يؤخذ به، وعليه الكفارة في غير الصوم.
- وكذا لو قاله لها: إنك علي كبطن أختي أو خالتي إلخ.
(1)
بدائع الصنائع، 3/ 230.
(2)
المرجع السابق.
(3)
تفسير القرطبي، 17/ 276.
(4)
المجموع (تكملة المطيعي)، 17/ 342.
المبحث الرابع: في مسائل الأيمان
المطلب الأول: قول كل حلال عليّ حرام:
مسائل الأيمان
(1)
مبناها على العرف
(2)
، ومن أمثلتها التي يكثر ذكرها في كتب الحنفية في كتاب الأيمان قول رجل: كل حل أو حلال علي حرام؛ هل يحمل على الطعام و الشراب أم يحمل على الطلاق ولو بدون نية.
وقد اختلف فقهاء الحنفية في هذه المسألة؛ فمنهم من قال: إنه يحمل على المأكولات والمشروبات، وهو ظاهر الرواية
(3)
، ومنهم من قال: إنه يحمل على الطلاق من غير نية، والفتوى عند المتأخرين على الثاني
(4)
.
(1)
مفردها اليمين، وهو تقوية أحد طرفي الخبر بالمقسم به. (كنز الدقائق، ص: 327).
(2)
المبسوط، 5/ 117، الذخيرة للقرافي، 7/ 53، مغني المحتاج، 5/ 458، حاشيتا قليوبي وعميرة، 2/ 210، وعند بعض الحنابلة مبناها النية أو سببها كما في الشرح الكبير (11/ 209)، وقيل: إن مبناها على اللفظ كما في المبدع شرح المقنع، 6/ 403.
ولا تعارض بين من قال: إن الأيمان تنبني على الألفاظ أو النيات، وبين من قال: إن مبناها العرف؛ لأن الأول يقصد تحكيم القصد أو النية من حيث التعميم والتخصيص، والثاني من حيث المعنى اللغوي أو العرفي. ذكره البورنو في موسوعة القواعد الفقهية، 1/ 344.
قلت: واختلاف العلماء فيما تنبني عليه الأيمان سبب اختلافهم في تطبيق بعضها على أرض الواقع كما سيأتي.
(3)
الهداية، 2/ 320، وبعضهم اشترط ألا ينوي غير ذلك كما في اللباب (4/ 10).
(4)
كنز الدقائق، ص: 329، الهداية، 2/ 321، الاختيار، 4/ 54، شرح الوقاية للمحبوبي، 3/ 170، مجمع البحرين، ص:720.
وجاء في تبيين الحقائق (3/ 115): "فالصحيح أن يقيد الجواب في هذا ونقول: إن نوى الطلاق يكون طلاقًا فأما من غير دلالة فالاحتياط أن يقف الإنسان فيه ولا يخالف المتقدمين"، وفيه تمسك بظاهر الرواية، لكن العدول عنها جائز إذا كانت من مسائل اختلاف عصر وزمان وليس حجة وبرهان.
وفي رد المحتار (3/ 434) ما يفيد أن حمله على الطلاق بغير نية عرف حادث يعمل به في زمانهم، ولا يعمل بعرف أصلي الذي هو كونه يميناً بمعنى الإيلاء.
ودليل وقوع الطلاق من غير نية غلبة الاستعمال والعرف السائد آنذاك
(1)
، فصار كالصريح
(2)
.
ويظهر أن سبب الاختلاف اختلاف عصر وزمان، فالقول المذكور كان يحمل على المأكول والمشروب عرفاً
(3)
، ثم تغير العرف فصار يحمل على الطلاق بغير نية كالصريح
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء فيما لو قال رجل: كل حلال عليّ حرام؛ على ماذا يحمل قوله؟ على قولين:
القول الأول: إنه يحمل على الطلاق بغير نية، وهو قول الحنفية –كما مضى-، وقول المالكية؛ لقولهم إنه يحمل على الطلاق إذا كان لمطلق التحريم لا إن حاشاها أي استثناها في قلبه
(5)
، وقول الشافعية؛ لأنه من الألفاظ الصريحة وتحمل على الطلاق لغلبة استعمالها في العرف وحصول التفاهم
(6)
.
(1)
الهداية، 2/ 321، مجمع البحرين، ص:720.
(2)
الاختيار، 4/ 54.
(3)
المبسوط، 6/ 71، تحفة الفقهاء، 2/ 197 - 198، بدائع الصنائع، 3/ 170.
(4)
ويؤيده ما يروى عن أبي حنيفة –رحمه الله تعالى- في ذلك، وخلاصته أنه كان يرى أن صاحب القول يدين، فإن لم ينوِ الطلاق فليس بطلاق، وإنما يمين يكفرها، وإن نوى الطلاق ثلاثاً فثلاث، وإن نوى واحدة فواحدة، وهكذا. (ينظر: اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص: 186 - 187).
(5)
المدونة، 2/ 286، التهذيب في اختصار المدونة، 2/ 302، الجامع لمسائل المدونة، 10/ 852.
(6)
روضة الطالبين، 8/ 25، أسنى المطالب، 3/ 270، وقيل إنه يحمل على ما نوى به ويدين. (ينظر: العزيز شرح الوجيز، 8/ 513).
القول الثاني: إنه يحمل على الظهار، وهو قول الحنابلة في الجملة
(1)
؛ لأنه صريح فيه
(2)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن قول رجل: كل حلال عليّ حرام يحمل على الطلاق بدليل العرف وغلبة الاستعمال فيه، والأيمان تنبني على العرف، والعرف أن الحرام يراد به الطلاق
(3)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن قول رجل: كل حلال عليّ حرام يحمل على الظهار بأدلة، منها:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].
وجه الدلالة: الله –سبحانه وتعالى سمى تحريم ما أحله يميناً، وفرض لذلك تحلة، وهي الكفارة
(4)
.
يناقش بأن التحريم لا يطلق على الحلف لغةً، والصواب في تفسير الآية أن النبي –صلى الله عليه وسلم كان قد جمع بين تحريم وحلف، وتحلة اليمين للحلف لا التحريم
(5)
.
(1)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه أبي الفضل صالح، ص: 206، رقم: 134، المغني، 8/ 8، الشرح الكبير على متن المقنع، 8/ 563، وقيل: إنه كناية ظاهرة، وقيل: إنه ظاهر في الظهار، وقيل: إنه ظاهر في اليمين، وحمله على الظهار من مفردات المذهب كما في الإنصاف (8/ 487).
(2)
كشاف القناع، 5/ 253.
(3)
وقد سبق ذكر المصادر عند إيراد الأقوال.
(4)
المغني، 9/ 508.
(5)
تفسير الطبري، 23/ 480.
وكما يناقش بآيات أخر التي فيها ذم تحريم الحلال والمحرم أيضاً ولم يوجب عليه الكفارة، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، وقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59]
(1)
.
الدليل الثاني: إن الله –سبحانه وتعالى جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهاراً، وجعله منكراً من القول وزوراً، فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهراً فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار
(2)
.
قد يناقش بأن حمله على المرأة ممكن إن غلب استعماله في ذلك عرفاً، لكن يرده لو غلب استعماله في غير ذلك -كما عند المتقدمين من الحنفية- مثل الطعام والشراب، فلا يمكن حمله على الظهار ولا الطلاق والحالة هذه.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الأول أقرب للصواب؛ لقوة دليله وإيراد المناقشة على دليلي القول الثاني، وفي ترجيح الأول إعمال للعرف السائد، وإن تغير فإن الحكم يختلف باختلافه.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض المسائل، منها:
(1)
تفسير القرطبي، 18/ 180.
(2)
إعلام الموقعين، 3/ 59، وقال: إنه أقيس الأقوال وأفقهها، ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل، وإنما ذلك إليه –سبحانه وتعالى، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحريم والتحليل، فالسبب إلى العبد، وحكمه إلى الله –سبحانه وتعالى.
قلت: العرف يؤثر في السبب ومراده ويغيره، وباختلافه يختلف حكم الله فيه كما في هذه المسألة، فمن حرم حلالاً فإن قوله يحمل على ما غلب استعماله عرفاً، فإن كان الطعام والشراب فيمين، وإن كان الزوجة فإما طلاق وإما ظهار، وليس كل التحريم يميناً كما سبق عند مناقشة الدليل الأول.
ويؤيده إطلاق الناس اليوم لفظ المحروم على الغني البخيل، وإن كان أصل اللفظ يدل على الفقر والعوز.
وعليه يمكن تصور حمل قوله على لباس مثلاً إذا غلب في عرف الناس استعمالهم كلمة حلال على لباس، والله أعلم.
- لو قال رجل: كل حل عليّ حرام، فعلى القول الأول طلقت زوجته إن كان متزوجاً، وعلى الثاني ظاهر وعليه كفارة الظهار.
- وفائدة إعمال العرف تظهر فيما لو كان يحمل على الشرب أو الأكل، فالقول لاغٍ على القولين؛ لأن الطلاق والظهار متعلقان بالزواج الذي قد يوجد وقد لا يوجد، بخلاف المأكولات والمشروبات.
المطلب الثاني: من حلف ألا يلبس حلياً فلبس عقد اللؤلؤ
هذه مسألة تُذكر في كتاب الأيمان، والأيمان عند الحنفية تنبني على العرف –كما سبق- في المسألة السابقة، فلو حلف شخص ألا يلبس حلياً، فلبس عقد لؤلؤ، فإنه لا يحنث في قول أبي حنيفة –رحمه الله؛ لأنه ليس بحلي حتى يُرصّع بالذهب والفضة
(1)
، وعند صاحبيه هو حلي، فيحنث فيه بدليل قوله تعالى:{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]، والمستخرج من الجوهر اللؤلؤ غير مرصع
(2)
، وقولِه:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23]
(3)
، وكذلك من حيث العرف يستعمل استعمال الحلي، فالمرأة قد تلبس عقد لؤلؤ للتحلي بها، ولكن أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- شاهد العرف في عصره، وأن النساء يتحلَّيْنَ باللؤلؤ مرصعاً بالذهب أو الفضة، ولا يتحلَّيْنَ باللؤلؤ وحده فبنى الجواب على ما شاهده
(4)
.
(1)
المبسوط، 9/ 30.
(2)
البناية، 6/ 240.
(3)
الأصل، 3/ 394.
(4)
ينظر: المبسوط، 9/ 30، بتصرف يسير.
وقد يقال: إن فيه إشكالاً بحيث بنى الإمام قوله على العرف السائد، وبنيا قولهما على عرف زمانهما، إضافة إلى أنه موافق لما جاء في القرآن؛ فهل غابت هذه الآيات عن الإمام؟ يقال –والله أعلم-: إن الإمام حمل معنى اللؤلؤ على المرصع فقط وهو محتمل لغةً، ففي العين (8/ 354) وغيره يُعرف اللؤلؤ بكلمة معروف، لكن جاء بعده ببيت غير منسوب لأحد مقراً به:
دُرّةٌ من عقائل البَحْر بكرٌ
…
لم تخنها مثاقب اللئال
فسماه درة بكراً قبل أن تخنها مثاقب اللئال. ويؤيد ذلك ما جاء في بعض التفاسير المتأخرة مثل تفسير الجلالين (ص: 576)، فإنها تنص على أن اللؤلؤ المذكور في آية فاطر مرصع بالذهب. أو يقال: إن سبب ذلك قولهم في الأيمان: إنها مبنية على العرف لا على الحقائق اللغوية ولا على ألفاظ القرآن الكريم (ينظر: مجمع الأنهر، 1/ 580، المبسوط، 8/ 184)، وهو أولى؛ فقدم العرف السائد في وقته لأجل ذلك، والمسألة عادت إلى اختلاف الأعراف، فصح أن يقال فيها: إنها اختلاف عصر وزمان، والله أعلم. (ينظر: البناية، 6/ 240)
والفتوى على قولهما بدليل من القرآن الكريم والاستعمال العرفي
(1)
.
وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان؛ لأن التحلي به على الانفراد أصبح عادة في وقتهما
(2)
، فكل واحد منهم قال على عادة زمانه
(3)
، وهو سبب ترجيح قولهما على قول إمامهما.
والقول بأن اللؤلؤ حلي هو قول بقية المذاهب من المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
، وخلاصة المسألة أن من حلف ألا يلبس حلياً فلبس اللؤلؤ حنث؛ لأنه من الحلي.
وقد استدلوا على هذه المسألة بأدلة من القرآن الكريم والقياس والعرف.
أما القرآن فقوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14].
وجه الدلالة: المستخرج من الجوهر اللؤلؤ غير مرصع وقد سماه حلياً.
وأما القياس فلأن اللؤلؤ حلي مع غيره فكان حلياً وحده كالذهب
(7)
.
قد يناقش بأن القياس مع الفارق، ويرده إجماع العلماء على أنه لا زكاة في الحلي إذا كان جوهراً لا ذهب فيه ولا فضة إلا أن يكون للتجارة
(8)
.
والعرف يؤيده، فإن اللؤلؤ ولو كان غير مرصع يسمى حلياً.
وعلى فرض وجود الخلاف فإن المسألة لها فائدة عملية تظهر في هذه الصورة إذا حلف ألا يلبس حلياً، فلا يحنث على قول أبي حنيفة، ويحنث على قول غيره من الأئمة.
(1)
الاختيار، 4/ 71، والهداية، 2/ 336، شرح الوقاية للمحبوبي، 3/ 186، مجمع البحرين، ص 735.
(2)
الهداية، 2/ 336، مجمع البحرين، ص: 735، العناية، 5/ 191.
(3)
البناية، 6/ 240.
(4)
الإشراف على نكت مسائل الخلاف، 2/ 900، وقال:"إنه وجد الجواهر مسماة بالحلي ومعدودة من أفخره وأنفسه فكانت كالذهب". ولم أجد غيره من المالكية تكلم عن هذه المسألة.
(5)
المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 77، مغني المحتاج، 6/ 215.
(6)
الشرح الكبير، 11/ 240، الإنصاف، 11/ 78.
(7)
الشرح الكبير، 11/ 240.
(8)
الاستذكار، 3/ 153.
المطلب الثالث: من حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن:
هذه مسألة أخيرة من مسائل الأيمان في هذا المبحث، وصورتها شخص حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن؛ فهل يحنث أم لا؟
وفقهاء الحنفية يذكرونها في كتاب الأيمان، ويفرقون بين من قرأ القرآن في الصلاة وغيرها، فإن قرأه في الصلاة لم يحنث؛ لأنه لا يسمى كلاماً شرعاً
(1)
، ولأن ذاك غير مراد ولا مقصود باليمين
(2)
، وإن قرأه خارجها كذلك
(3)
؛ لأنه لا يسمى متكلما عرفاً، بل قارئاً
(4)
، والفتوى على ذلك
(5)
.
وهو خلاف ظاهر الرواية الذي بُني على عرف المتقدمين، واختير للفتوى خلافه بناءً على العرف المتأخر، والأيمان مبناها على العرف
(6)
، وقد استقر قول الحنفية على ذلك.
والقول بأن من حلف أن لا يتكلم لا يحنث بقراءة القرآن مطلقاً سواء داخل الصلاة أم خارجها هو قول بقية المذاهب من المالكية
(7)
، والشافعية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
وعليه فإن المسألة محل اتفاق الفقهاء، ومن أدلتها ما يلي:
(1)
العناية، 5/ 146.
(2)
لأن الإنسان لا يحلف على ترك الكلام كي يترك الصلاة، فعلم أن الموجود في الصلاة لا يسمى كلامًا حرفًا، ولأن الكلام حرام في الصلاة، وهذا مباح. (ينظر: البناية، 6/ 196 - 197)
(3)
وظاهر الرواية على أنه يحنث. (ينظر: شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 7/ 448، رد المحتار، 3/ 794).
(4)
الهداية، 2/ 329، الاختيار، 4/ 59، الجوهرة النيرة، 2/ 198،
(5)
زاد الفقهاء، 586 - 587، البناية، 6/ 197.
(6)
رد المحتار، 3/ 794.
(7)
التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 3/ 342، ولم أجد غيره ذكر حكم المسألة.
(8)
المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 109، نهاية المطلب، 18/ 400، المجموع، 18/ 84.
(9)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 209، المغني، 9/ 618، الإنصاف، 11/ 93.
الدليل الأول: قوله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)} [آل عمران: 41]
(1)
.
وجه الدلالة: أمره بالذكر والتسبيح بعد قطع الكلام عنه، فدل على أن الذكر ليس بكلام
(2)
.
الدليل الثاني: قوله –صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة"
(3)
(4)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على أن ما يقرأ في الصلاة ليس من الكلام.
الدليل الثالث: قوله –صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"
(5)
.
وجه الدلالة: الكلام مفسد للصلاة، ولو كانت هذه الأشياء من كلام الناس لأفسدت أيضاً
(6)
.
الدليل الرابع: العرف؛ لأن الكلام فيه لا يطلق إلا على كلام الآدميين
(7)
، فمن قرأ القرآن لا يسمى متكلماً، بل قارئاً –كما سبق-.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو حلف شخص أن لا يتكلم فقرأ القرآن، فإنه لا يحنث مطلقاً، وعلى فرض الخلاف
(8)
–كما في القول المرجوح في المذهب الحنفي- فإنه يحنث لو قرأ القرآن خارج الصلاة وليس داخلها.
(1)
ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 209.
(2)
المغني، 9/ 619.
(3)
أخرجه البخاري، 9/ 152، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29].
(4)
ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 209.
(5)
أخرجه مسلم، 1/ 381، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم حديث:537.
(6)
تبيين الحقائق، 3/ 137، وقد ذكر الدليل ووجهه.
(7)
المغني، 9/ 618.
(8)
وعلى فرضه فإن الإجماع على أنه لا يحنث لو قرأ داخل الصلاة.
المبحث الخامس: في مسائل النفقة
المطلب الأول: وقت وجوب النفقة للزوجة وقدرها:
هذه مسألة من أولى مسائل كتاب النفقات عند الحنفية، ويقررون أنه تجب للمرأة النفقة والكسوة والسكنى بتسليم نفسها في منزل زوجها
(1)
، وتكون على قدر حال الزوج؛ لقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]
(2)
، فالآية تبين أن التكليف بحسب الوسع، وأن النفقة على الرجال بحسب حالهم
(3)
، وقيل: على قدر حالهما جمعاً بالآية السابقة وحديث عائشة –رضي الله عنها أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال لهند –رضي الله عنها: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك"
(4)
(5)
، وبه يفتى
(6)
، وعليه المتون والشروح
(7)
.
(1)
وكذا عند المالكية بمعنى التمكن من الاستمتاع كما في شرح مختصر خليل الخرشي، 4/ 183، والشافعية كما في المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 148، والحنابلة كما في الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 227، فالمسألة محل الاتفاق بين المذاهب.
(2)
تبيين الحقائق، 3/ 51، وهو ظاهر الرواية كما في اللباب، 3/ 92.
(3)
المبسوط، 5/ 182.
(4)
أخرجه مسلم، 3/ 1338، كتاب الأقضية، باب قضية هند، رقم حديث: 1714، وهو حديث عائشة –رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك".
(5)
مختصر القدوري، ص: 172، تبيين الحقائق، 3/ 51، وقال:"فقد اعتبر حالها، والحديث صحيح مذكور في الصحيحين، وما تلاه [من الآيتين] يقتضي اعتبار حال الرجل فاعتبرنا حالهما عملاً بهما".
(6)
مجمع البحرين، ص: 600، البداية، ص: 88، الهداية، 2/ 285.
(7)
رد المحتار، 3/ 574. قلت: لعلهم عدلوا عن الفتوى بظاهر الرواية؛ لتبدل العرف، وذلك سبب معتبر عند الحنفية، أو لأنه أرفق بالناس.
وحاصله أنه إن كانا موسرين نفقة اليسار، وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار
(1)
، وإن كانا مختلفين فعلى ظاهر الرواية يعتبر حال الزوج، وأما على ما يفتى به فبين الحالين
(2)
، إلا أنه إذا كان هو المعسر يطالب بقدر وسعه والباقي دين عليه
(3)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن المعتبر في نفقة الزوجة حال الزوج إذا كان معسرين أو موسرين
(4)
، واختلفوا إذا كان أحدهما موسراً والآخر معسراً على القولين:
(1)
باتفاق في الصورتين. ينظر: رد المحتار، 3/ 575.
(2)
وهي نفقة الوسط، والوسط فوق نفقة المعسرة ودون نفقة الموسرة. (ينظر: رد المحتار، 3/ 575).
(3)
ينظر: الهداية، 2/ 285، اللباب، 3/ 92.
(4)
ينظر: الرد المحتار، 3/ 575.
القول الأول: إن المعتبر حالهما معاً، فتكون نفقة الوسط، فوق نفقة المعسرة ودون نفقة الموسرة، وهو المفتى به عند الحنفية –كما سبق-، وقول المالكية
(1)
والحنابلة
(2)
.
القول الثاني: إن المعتبر حال الزوج فقط، وهو قول الشافعية
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن المعتبر حال الزوج والزوجة معاً بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
(1)
وقالوا: إنه يرجع إلى قدر وسعه وحالها. ينظر: شرح مختصر خليل للخرشي، 4/ 184. وقد ذكر سبب التفريق بين الحال والوسع المقدر:"فلا تجاب هي لأكثر من لائق بها ولا هو لأنقص منه. فإن قيل: لمَ عبَّر به في الرجل بالسعة والمرأة بحالها ولو قال: بحالهما لكان أخصر؟ يقال: إنما عبر بالسعة في جانب الزوج اقتداءً بالقرآن {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، والبلد والسعر، يعني أنه لا بد من وجوب النفقة على الزوج من اعتبار حال بلده وحال السعر فيه؛ إذ ليس بلد الخصب كبلد الجدب، ولا بلد الرخاء كبلد الغلاء، ولا حال الموسر كحال المعسر"، وهو تفريق لفظي تأدباً بالقرآن الكريم لا أثر له. ويدل على ذلك ما جاء في الشرح الكبير (2/ 509):"واعلم أن اعتبار حالهما لا بد منه سواء تساويا غنى أو فقراً أو كان أحدهما غنياً، والآخر فقيراً، لكن اعتبار حالهما عند تساويهما فقراً أو غنى ظاهر، وأما عند اختلافهما فاللازم حالة وسطى بين الحالتين، وحينئذ فنفقة الفقير على الغنية أَزْيَد من نفقته على الفقيرة كما أن نفقة الغني على الفقيرة أقل من نفقته على الغنية هذا هو المعتمد".
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 232، وذكر تعليلاً مهماً:"إذا كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا، ما بينهما، كل على حسب عادته؛ لأنه إيجاب نفقة الموسرين على المعسر، وإنفاق الموسر نفقة المعسرين، ليس من المعروف، وفيه إضرار بصاحبه". ينظر: المغني، 8/ 195 - 196، الشرح الكبير على متن المقنع، 9/ 230، المبدع، 7/ 142.
(3)
الحاوي الكبير، 11/ 423، المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 250.
وجه الدلالة: الآية تبين أن التكليف بحسب الوسع، وأن النفقة على الرجال بحسب حالهم
(1)
.
الدليل الثاني: حديث عائشة –رضي الله عنها أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال لهند –رضي الله عنها: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك"
(2)
.
ونوقش بأنه أذن لها أن تأخذ بالمعروف، والمعروف ألا تأخذ في الإعسار ما تأخذه في اليسار
(3)
.
وأجيب عن المناقشة بأنه أذن لها أن تأخذ بالمعروف الذي فيه كفايتها وكفاية بنيها، فالنفقة على كفاية الزوجة فتعتبر حالها أيضاً
(4)
.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن المعبر حال الزوج فقط بآية الطلاق مثل أصحاب القول الأول، وهو قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وجه الدلالة: أنه أراد أن الغنى ينفق على حسب حاله، والفقير على حسب حاله
(5)
.
نوقش بأن الآية دليل على اعتبار حال الزوج، وهذا صحيح، وحديث عائشة –رضي الله عنها دليل على اعتبار حال الزوجة، فيجمع بينهما.
(1)
وقد سبق ذكر مصادر الدليل ووجه.
(2)
وقد سبق تخريجه عند تحرير مذهب الحنفية في المسألة.
(3)
الحاوي الكبير، 11/ 424.
(4)
ينظر: شرح النووي على مسلم، 12/ 7، وقال: إن فيه رداً على الشافعية في إخراج نفقة الزوجة من تقديرها بالكفاية، وهو منهم.
(5)
المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 250.
الترجيح:
بعد استعراض القولين بأدلتهما يظهر أن القول بالجمع بين حال الزوج والزوجة معاً في اعتبار النفقة أقرب للصواب؛ لأنه جمع بين الدليلين، وفيه عمل بكلا النصين، وفيه أيضاً رعاية لكل الجانبين، فيكون أولى
(1)
.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن ابن الوزير تزوج بنت الوزير الآخر أو لو أن شخصاً فقيراً تزوج بفقيرة فإن المعتبر في النفقة حال الزوج عند الجميع؛ لأنهما في مرتبة واحدة.
- ولو أن ابن الوزير تزوج فقيرة أو فقيرًا تزوج بنت الوزير، فعلى القول الأول يعتبر حالهما معاً، ولها نفقة فوق المعسرة ودون الموسرة، وعلى الثاني فإن زوجة ابن الوزير لها نفقة بقدر وسع زوجها وحاله، وزوجة الفقير لها نفقة بقدر وسع زوجها وحاله ولو كانت من أغنى الناس.
(1)
ينظر: المغني، 8/ 196.
المطلب الثاني: نفقة الزوجة إذا حُبست في دين:
جاء في المسألة السابقة ما يفيد الاتفاق على أن نفقة الزوجة واجبة بمجرد تسليم نفسها وتمكن زوجها من الاستمتاع بها
(1)
.
والنفقة لها موانع، ومنها: حبس الزوجة في دَين عليها؛ لأن فوت الاحتباس منها
(2)
، وعليه الفتوى
(3)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
وصورة المسألة في زوجة استدانت المال ولم تسدده حتى حبست فيه؛ فهل لها نفقة في هذه الحالة؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إن لها نفقة مدة حبسها، وهو قول المالكية
(4)
.
القول الثاني: إن النفقة تسقط، وهو قول الحنفية –كما مضى-، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
(1)
ص: 169، من هذا البحث، هامش رقم:1.
(2)
فيه بيان أن النفقة عوض عن الاحتباس في بيته. (ينظر: البناية، 5/ 667)
(3)
بداية المبتدي، ص: 89، الهداية، 2/ 286، وذكر رواية عن أبي يوسف –رحمه الله أن لها نفقة، وانظر أيضا: رد المحتار، 3/ 578.
(4)
شرح مختصر خليل للخرشي، 4/ 195، الشرح الكبير، 2/ 517.
(5)
روضة الطالبين، 9/ 60، أسنى المطالب، 1/ 390، حاشية الجمل، 3/ 322.
(6)
المبدع في شرح المقنع، 7/ 158، الإنصاف، 9/ 381.
التعليلات والمناقشات:
تعليل القول الأول:
علَّل القائلون بأن النفقة لم تسقط إذا حبست الزوجة في دين عليها بتعليل مفاده أن المنع من الاستمتاع لم يحصل من جهتها
(1)
.
قد يناقش بأنه بسببها وإن لم يكن من جهتها.
قد يجاب عنه بأنه إذا اجتمع المباشر والمتسبب، أضيف الحُكم إلى المباشر
(2)
، فالذي باشر الحبس هو السلطان وليست الزوجة، فالحكم يضاف إليه لا إليها، فلا تسقط نفقتها.
قد يناقش أيضاً بأنه يُستثنى من ذلك إذا كان المتسبب متعدياً بفعله.
وقد يجاب عنه بأن الحكم يضاف إلى المباشر وحده دون المتسبب في حالة كون السبب لا يعمل في فوت الاحتباس إذا انفرد عن المباشرة
(3)
.
تعليل القول الثاني:
علَّل القائلون بأن النفقة تسقط؛ لأن فوت الاحتباس حصل بسببها.
يناقش –كما مر- بأنه إذا اجتمع السبب والمباشرة، غلب جانب المباشرة.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وتعليليهما يظهر أن القول الأول أقرب للصواب؛ لأن الزوجة متسببة وليست مباشرة لفوت الاحتباس، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو حبست في السجن بسبب الدين، فإن النفقة ما زالت لها وقت حبسها بخلاف القول الثاني.
ويظهر من ذلك أن لها نفقة حتى لو كانت الدولة تصرف عليها وقت سجنها، والله أعلم.
(1)
الشرح الكبير، 2/ 517.
(2)
شرح مختصر الروضة، 1/ 427، التحبير شرح التحرير، 3/ 1036.
(3)
ينظر: شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص:448.
المطلب الثالث: نفقة الزوجة إذا حبست في سفرها مع محرم
(1)
لأداء الحج:
هذه المسألة ملحقة بالسابقة؛ إذ الحنفية لم يفرقوا بينهما من حيث عدم وجوب نفقة الزوجة؛ لأن فوت الاحتباس منها.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورتها فيما لو سافرت الزوجة لأداء الحج الفرض مع محرم هل تسقط نفقتها حتى ترجع إلى بيتها؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إن النفقة تسقط، وهو قول الحنفية –كما مر في المسألة السابقة-، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
القول الثاني: لا تسقط نفقتها إلا أن لها نفقة حضر وليس سفر، وهو قول المالكية
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن نفقة الزوجة تسقط إذا كانت محبوسة في سفرها لأداء الحج الفرض مع محرم لها بدليل أن فوت الاحتباس من جهتها
(5)
.
قد يناقش بأنها مأمورة بأداء فريضة الحج على الفور متى توفرت أسبابه وتحققت شروطه.
(1)
أي غير الزوج. (ينظر: بدائع الصنائع، 4/ 20)
(2)
روضة الطالبين، 9/ 61، أسنى المطالب، 2/ 198، وقالوا: إن سافر معها زوجها فلا تسقط على المذهب، وإلا فتسقط سواء بإذنه أو بدونه. قلت: وهو مقتضى قول الحنفية: إذ العلة في وجوب النفقة الاحتباس في بيته، والاحتباس لأجل الاستمتاع بها، وهذا يتأتى في السفر معها.
(3)
الإقناع، 4/ 144، المبدع في شرح المقنع، 7/ 158، وقالوا: تسقط نفقتها حتى مع إذنه، إلا أن يكون مسافراً معها متمكناً من استمتاعها، والصحيح أنها بإحرامها مانعة له من التمكين فلا نفقة.
(4)
شرح مختصر خليل للخرشي، 4/ 195، الشرح الكبير، 2/ 517.
(5)
وقد سبق ذكر مصادر الأدلة في المسألة السابقة.
دليل القول الثاني:
لم أجدهم يذكرون الدليل لهذه المسألة، لكن يمكن الاستدلال بقولهم: إن الحج على الفور، وليس للزوج منعها حينئذ
(1)
، وعليه فلا تسقط النفقة.
قد يجاب بأنه ليس له منعها، لكن له أن يمنع النفقة لفوات الاستمتاع بها.
الترجيح:
بعد استعراض القولين يظهر أن القول الثاني أقرب للصواب؛ لأن فوت الاحتباس الآن تغير؛ ففي قديم الزمان حج المرأة كان يأخذ ثلاثة أشهر وأكثر
(2)
، وأما الآن فكلها أيام قليلة، وقد لا تتجاوز زيارة الزوجة أهلها في الغالب، ويكون من الصعب إطلاق القول إنها محبوسة في سفرها لأداء الحج، وما دون ذلك من باب أولى، والله أعلم.
والمسألة لها فائدة عملية تظهر فيما لو سافرت الزوجة مع محرم لها غير الزوج لأداء الحج الفرض، وكانت نفقتها مائة ريال لكل يوم مثلاً، فعلى القول الأول تسقط نفقتها عنه بقدر عدد أيام غيابها، وعلى الثاني لا تسقط، ولها بعد عودتها عن كل يوم مائة ريال.
وينغي التنبيه إلى أن غياب الزوجة في القديم لمدة تتجاوز ثلاثة أشهر له أثر بالغ، وإيجاب النفقة في هذه المدة مع عدم التمكن الذي هو شرط وجوب النفقة فيه إضرار بالزوج، ولذلك كان لهذا القول حظ من النظر والحالة كما ذُكر، وأما الآن فقد لا يكون فيه إضرار بالزوج، وإن قلنا بأن النفقة تسقط فليست كثيرة لقلة أيام غياب الزوجة.
وفي كثير من الأحايين الزوج يدفع لزوجته تكاليف أداء الفريضة وتكلفة سفر أغلى من تكلفة حضر؛ لوجود وسائل النقل، والفنادق وغيرها.
ولذلك يمكن الجمع بين القولين بهذه الطريقة، بحيث ينظر إلى حقيقة فوت الاحتباس عرفاً، والله أعلم.
(1)
التاج والإكليل، 4/ 306، مواهب الجليل، 2/ 472.
(2)
بدائع الصنائع، 4/ 20.
المطلب الرابع: حد اليسار في النفقة
(1)
:
هذه آخر مسألة من مسائل النفقات في هذا البحث، وفقهاء الحنفية اختلفوا في حد اليسار الموجب لنفقة الأقارب على قولين:
القول الأول: إنه يقدر بنصاب الزكاة، وهذا روي عن أبي يوسف رحمه الله
(2)
.
القول الثاني: ما روي عن محمد رحمه الله أنه قدره بما يفضل على نفقة نفسه وعياله شهراً أو بما يفضل على ذلك من كسبه الدائم كل يوم
(3)
.
والفتوى على الأول لكن النصاب نصاب حرمان الصدقة
(4)
، وهو مائتا درهم
(5)
إذا كان فاضلاً عن حوائجه الأصلية] من أي مال كان
(6)
[، بدليل أن النفقة أشبه بصدقة الفطر؛ لكونها مئونة من وجه، وصدقة من وجه، والنفقة مئونة من كل وجه، فلما لم يشترط لوجوب الفطر الغنى الموجب للزكاة فلأن لا يشترط هاهنا -وهي مئونة من كل وجه- أولى
(7)
.
وقدم قول محمد رحمه الله؛ لأنه أرفق بالناس
(8)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة في شخص له ما يفضل من ماله على حوائجه الأصلية؛ فمتى يوصف بأنه أدنى حد اليسار الذي تجب بعده النفقة على الأقارب؟
(1)
أي الذي تعلق به وجوب نفقة الأقارب.
(2)
الهداية، 2/ 293.
(3)
الهداية، 2/ 293.
(4)
ينظر: الهداية، 2/ 293، مجمع الأنهر، 1/ 223، مجمع البحرين، ص: 605 - 606، إلا أنه قدر نصاب حرمان الصدقة بما روي عن محمد، وهو ما يفضل على نفقة نفسه وعياله شهراً أو بما يفضل على ذلك من كسبه الدائم كل يوم، وذيّله بعلامة الإفتاء أيضاً، وتبيين الحقائق، 3/ 64، الجوهرة النيرة، 2/ 93.
(5)
وهو أقل نصاب زكاة الفضة كما في الاختيار، 1/ 111.
(6)
البناية، 5/ 708.
(7)
العناية، 4/ 423.
(8)
البحر الرائق، 4/ 230، رد المحتار، 3/ 621.
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء في حد اليسار الموجب لنفقة الأقارب على القولين:
القول الأول: إن اليسار نصاب حرمان الصدقة، ويقدر بمائتي درهم إذا كان يفضل على حوائجه الأصلية من أي مال كان، وهو قول الحنفية – كما سبق-.
القول الثاني: إن اليسار المذكور مقدر بما يفضل عن قوته وقوت زوجته في يومه وليله، وهو قول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن حد اليسار يتعلق بنصاب حرمان الصدقة بأدلة، منها:
الدليل الأول: قياس الأولى؛ لأن صدقة الفطر لم يشترط فيها النصاب الموجب للزكاة مع كونها مئونة وصدقة، فالنفقة من باب أولى؛ لأنها مئونة فقط.
قد يناقش بأن صدقة الفطر مرة واحدة في السنة فلم يشترط لها النصاب الموجب للزكاة، وأما النفقة فمستمرة طوال العام.
الدليل الثاني: لأن حد اليسار بنصاب حرمان الصدقة أرفق بالناس
(4)
.
قد يناقش بأن الضرر يلحق بعض الموسرين بهذا الاعتبار، وبخاصة إذا كان عدد الأقرباء المحتاجين كثير.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن اليسار ما فضل عن قوت نفسه وزوجته في يومه وليله بأدلة، منها:
(1)
الشرح الكبير، 2/ 524، شرح الزرقاني، 4/ 465.
(2)
المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 159، روضة الطالبين، 9/ 83.
(3)
الإنصاف، 19/ 33، شرح منتهى الإرادات، 3/ 239.
(4)
ولعل قصدهم الفقراء؛ لأنهم يستفيدون من جعل الأقارب موسرين بأقل قدر ممكن من المال، والله أعلم.
الدليل الأول: ما روى جابر –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم فقيرًا، فليبدأ بنفسه، فإن كان فيها فضل فعلى عياله، فإن كان فيها فضل، فعلى ذي قرابته -أو قال: على ذي رحمه- فإن كان فضل فهاهنا وهاهنا"
(1)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على أن من لا يفضل عن نفقته شيء لا تجب عليه
(2)
، وإنما تجب بأدنى ما يفضل عنها.
الدليل الثاني: تقديم نفقة الزوجة على القريب؛ لأن نفقة الزوجة عوض، فَقُدِّمت على نفقة القريب التي هي المواساة، ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كنفقة نفسه
(3)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر للباحث أن القول الثاني أقرب للصواب؛ إذ يؤيده النص الشرعي، وفيه رفق بالفقراء أيضاً، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو كان لشخص موسر أقارب فقراء، فعلى القول الأول لا تجب نفقتهم إلا إذا كان يفضل من ماله مائتا درهم، وعلى الثاني تجب إذا كان فاضلاً عن قوت نفسه وزوجته في يومه وليله.
(1)
أخرجه أبو داود، 6/ 90، أول كتاب العتاق، باب فيمن أعتق عبيداً له لم يبلغهم الثلث، رقم حديث: 3957، وقد صحَّح إسناده محقق الكتاب شعيب الأرناؤوط، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، 4/ 100، كتاب الزكاة، باب ذكر الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فضل صدقة المقل إذا كان فضلاً عمن يعول، لا إذا تصدق على الأباعد وترك من يعول جياعاً عراة إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببدء من يعول، رقم حديث: 2444، والنسائي، 7/ 304، كتاب البيوع، بيع المدبر، رقم حديث: 4653، وصحَّحه الألباني في الإرواء، 7/ 231، رقم حديث: 2165، ونقل تصحيح الترمذي ولم أجده، وأصله في مسلم (2/ 692، كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، رقم حديث 997)، ولفظه:"ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا".
(2)
المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 286، المغني، 8/ 221، ذكر الدليل ووجهه.
(3)
المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 286.
المبحث السادس: في مسائل الإجارة
المطلب الأول: الإجارة على الطاعات:
يذكر فقهاء الحنفية هذه المسألة في كتاب الإجارة، لكن تحت باب الإجارة الفاسدة، ويفهم من ذلك حكمها ابتداءً، وينصون على أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها، لكن حينما ظهر التواني في أمور الدين استحسن بعض الفقهاء الاستئجار على تعليم القرآن؛ لأن في الامتناع عن ذلك تضييع حفظ القرآن، ولأن حاجة الناس داعية إلى ذلك
(1)
، وعليه الفتوى
(2)
.
وعليه فإن جواز الاستئجار اقتُصِر على تعليم القرآن، وزاد بعضهم الأذان والإقامة والوعظ والفقه وغيره، لكن أكثرهم على جواز الاستئجار لتعليم القرآن. وقد اتفقت كلمتهم في الشروح على التعليل بالضرورة، وهي خشية ضياع القرآن، كما اتفقت كلمتهم على التصريح بأصل المذهب من عدم الجواز، ثم استثنوا ما ذُكر آنفاً، فهذا دليل على أن المفتى به ليس جواز الاستئجار على كل طاعة، بل على ما ذكروه فقط ولأجل الحاجة، وتعليم القرآن في ذلك أظهر
(3)
.
والخلاف في هذه المسألة اختلاف زمان، وليس حجة وبرهان
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المسألة فيما لو أن إنساناً أراد أن يعلّم ابنه القرآن الكريم، فوجد شخصاً يقوم بذلك بأجر؛ فهل تصح هذه الإجارة؟
(1)
الاختيار، 2/ 60، وأضاف أيضًا كسل الناس في الاحتساب، وصاحب مجمع البحرين (ص: 387) أضاف التعليم وأطلقه، والإمامة والفقه.
(2)
الهداية، 3/ 238، شرح الوقاية للمحبوبي، 4/ 285.
(3)
ينظر: رد المحتار، 6/ 56.
(4)
تبيين الحقائق، 5/ 125.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على جواز أخذ الرزق من بيت مال المسلمين لتعليم القرآن الكريم
(1)
، واختلفوا في جواز الاستئجار على تعليمه وأخذ الأجر من ذلك على قولين:
القول الأول: جواز الاستئجار على تعليم القرآن، وهو قول الحنفية للحاجة فقط
(2)
–كما سبق-، والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، ورواية عند الحنابلة
(5)
.
القول الثاني: عدم جواز الاستئجار على تعليم القرآن، وهو قول عند الحنفية، وهو الأصل في المذهب -كما سبق-، ورواية أخرى عن الحنابلة
(6)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بجواز الاستئجار لتعليم القرآن بأدلة، منها:
(1)
رد المحتار، 2/ 596، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك مع حاشية الصاوي، 2/ 16، حاشيتا قليوبي وعميرة، 4/ 297، المغني، 5/ 411.
(2)
ويفهم من ذلك أن قول المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة من باب الأصل في المذهب، وأما الحنفية فألحقت قولهم بهم، لموافقتهم لهم في حالة الحاجة الماسة إلى الاستئجار خوفاً من تضييع حفظ القرآن الكريم، وإلا فيمكن القول بأن الحنفية يمنعون ذلك، لكن على الأصل في مذهبهم هم.
(3)
المدونة، 1/ 160، شرح مختصر خليل للخرشي، 7/ 17، وأكد على أن الإجارة تجوز لأجل الحفظ، منح الجليل، 7/ 476.
(4)
الأم، 2/ 140، المجموع (تكملة المطيعي)، 15/ 15.
(5)
الشرح الكبير، 6/ 63.
(6)
الشرح الكبير، 6/ 63، وقد حملوها على الكراهة لا التحريم.
وذكر في مجموع الفتاوى (24/ 316) رواية ثالثة -لم أجدها عند غيره- أنه يجوز أخذ الأجرة عليها للفقير دون الغني، للحاجة، وأنه أقوى من غيره. قلت: وهو قريب من قول الحنفية المفتى به؛ لأن الضرورة التي جعلتهم يجيزون الاستئجار سببها فساد بيت المال وعدم صرف الدول على عطيات القراء والمحفظين، مما اضطرهم إلى البحث عما يكفي حاجتهم وحاجة عيالهم، وفي غيابهم عن منصات التعليم خوف على ضياع حفظ كتاب الله –جل وعلا-، والله أعلم.
الدليل الأول: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء، فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راقٍ، إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً، فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على جواز أخذ الأجر على كتاب الله، وعليه يجوز الاستئجار على تعليمه
(3)
.
نوقش بأنه يحمل على الجعل في الرقية؛ لأنه ذكر ذلك في سياق خبر الرقية، كما نوقش أيضًا بأن المراد من الأجر ثواب
(4)
.
وقد يجاب عنه بحديث: "وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم"
(5)
، فلا يمكن حمله على الثواب.
كما يمكن مناقشته أيضاً بأن البخاري أدرج هذا الحديث في كتاب الطب
(6)
، وهو من فقهه –رحمه الله.
ويجاب عنه بأن البخاري أدرج الحديث نفسه في كتاب الإجارة
(7)
، فدل على أنه يحمل عليها.
(1)
أخرجه البخاري، 7/ 131، كتاب الطب، باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، رقم حديث:5737.
(2)
المغني، 5/ 411.
(3)
المغني، 5/ 411.
(4)
عمدة القاري، 12/ 96.
(5)
أخرجه البخاري، 7/ 133، كتاب الطب، باب النفث في الرقية، رقم حديث:5749.
(6)
المرجع السابق.
(7)
صحيح البخاري، 3/ 92، كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب.
الدليل الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: إذا جاز تعليم القرآن عوضاً في النكاح، وقام مقام المهر جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة
(3)
.
نوقش بأنه ليس في الحديث تصريح بأن التعليم صداق، وإنما قال:"فقد زوجتكها بما معك من القرآن"
(4)
، فيحتمل أنه زوجها إياه بغير صداق إكرامًا كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه
(5)
، أو أن يقال إنه زوجه لإسلامه
(6)
(7)
.
الدليل الثالث: حديث أبي سعيد أن رجلاً رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على جُعل فبرأ، وأخذ أصحابه الجعل، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه وسألوه فقال:"وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم"
(8)
(9)
.
وجه الدلالة: وإذا جاز أخذ الجعل جاز أخذ الأجر، لأنه في معناه
(10)
.
(1)
أخرجه البخاري، 6/ 192، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم حديث: 5029، ومسلم، 2/ 1040، كتاب النكاح، باب الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن، وخاتم حديد، وغير ذلك من قليل وكثير، واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به، رقم حديث:1425.
(2)
المغني، 5/ 411.
(3)
المغني، 5/ 411.
(4)
سبق تخريجه عند سرد الدليل الثاني من القول الأول.
(5)
أخرجه النسائي، 6/ 114، كتاب النكاح، التزويج على الإسلام، رقم حديث: 3340، وأقره الإمام أحمد –رحمه الله في مسنده (20/ 227) بروايته التي فيها ذكر زواجه بها لكن ليس فيها ذكر المهر، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 449.
(6)
شرح معاني الآثار، 3/ 17، وذكر زيادة بعضهم أنه ما كان لها مهر غيره، وأجاب عنه بأن معناه أنها ما أرادت منه مهراً غيره.
(7)
المغني، 5/ 412.
(8)
سبق تخريجه، وهو قريب من الدليل الأول.
(9)
المغني، 5/ 411.
(10)
المرجع السابق.
نوقش بأنه من باب المداواة، والمأخوذ عليها جعل، والمداواة يباح أخذ الأجر عليها، ثم الجعالة أوسع من الإجارة، ولذلك تجوز مع جهالة العمل والمدة
(1)
.
الدليل الرابع: ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال، فجاز أخذ الأجر عليه كبناء المساجد
(2)
.
نوقش بأنه يجوز أخذ الرزق من بيت المال على ما يتعدى نفعه؛ لأنه من مصالح المسلمين، فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجاً إليه كان من المصالح، وكان له أخذه؛ لأنه من أهله، وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح بخلاف الأجر
(3)
.
الدليل الخامس: الضرورة
(4)
أو ما تعم به البلوى
(5)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بعدم جواز الاستئجار على تعليم القرآن بأدلة، منها:
الدليل الأول: روي أن عثمان بن أبي العاص قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: "أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجرًا
(6)
(7)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على عدم جواز أخذ الأجر على التأذين، وكذا على تعليم القرآن بجامع العبادة
(8)
.
(1)
المغني، 5/ 412.
(2)
المغني، 5/ 411.
(3)
المغني، 5/ 412، وينظر: الشرح الكبير على المقنع، 14/ 378 - 387 بتصرف.
(4)
الدر المختار، 6/ 56.
(5)
وما قيل عن ظهور التواني في الأمور الدينية (الاختيار، 2/ 60) يمكن حمله على ما تعم به البلوى، والله أعلم.
(6)
أخرجه أبو داود، 1/ 146، كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين، رقم حديث: 531، والترمذي، 1/ 409، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على الأذان أجراً، رقم حديث: 209، وحسَّنه، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 131.
(7)
المغني، 3/ 224.
(8)
المرجع السابق.
الدليل الثاني: حديث عبادة بن الصامت –رضي الله عنه قال: علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إليّ رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال، وأرمي عنها في سبيل الله، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال:"إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها"
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على حرمة التكسب من تعليم الناس القرآن.
نوقش بأنه منسوخ بحديث: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" السابق ذكره
(3)
.
الدليل الثالث: عن أبي بن كعب –رضي الله عنه أنه علم رجلاً سورة من القرآن فأهدى له خميصة أو ثوباً فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار"
(4)
.
وجه الدلالة: في الحديث دليل على منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن أو سورة منه.
نوقش الدليل الثاني والثالث بأنهما قضيتان في عين، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهما فعلا ذلك لله خالصاً، فكره أخذ العوض عنه من غير الله تعالى
(5)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه، 2/ 730، كتاب التجارات، باب الأجر على تعليم القرآن، رقم حديث: 2157، وفي سنده الأسود بن ثعلبة، ولا يُعرف كما في ميزان الاعتدال (1/ 256) نقلاً عن ابن المديني، وفي تهذيب الكمال (3/ 220) عن ابن المديني أيضاً أنه قال:"لا أحفظ عنه غير هذا الحديث"، أي حديث عبادة بن الصامت، وجاء في تهذيب التهذيب (1/ 338)، أن ابن حبان ذكره في الثقات (4/ 33، رقم ترجمة: 1078)، وأخرج الحاكم له في المستدرك هذا الحديث، وصحَّحه (2/ 48، رقم حديث: 2277)، وقال في موضع آخر: إنه شامي معروف (1/ 284، رقم حديث: 626)، وصحّح في عمدة القاري، 12/ 96، وقد صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 210.
(2)
المغني، 5/ 411.
(3)
شرح سنن ابن ماجه للسيوطي وغيره، ص:156.
(4)
الحديث ذكره في المغني، 5/ 411، والشرح الكبير، 6/ 65، وشرح منتهى الإرادات، 2/ 258، كلهم نقلاً من سنن الأثرم، ولم أجدها في النسخة المتوفرة منه عندي.
(5)
المغني، 5/ 412.
الدليل الرابع: عن أبيّ –رضي الله عنه أيضاً أنه قال: كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن، فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له هلمي طعام أخي فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة، فحاك في نفسي منه شيء، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إن كان ذاك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه، وإن كان يتحفك به فلا تأكله"
(1)
.
وجه الدلالة: في الأثر دليل على حرمة أخذ الأجر على تعليم القرآن الكريم حتى لو كان في صورة الضيافة الخاصة إذا ظُنّ أن التعليل سببها.
الدليل الخامس: عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به"
(2)
(3)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على منع الأكل بالقرآن والتكسب به، ومن الأكل به الاستئجار لتعليمه.
الدليل السادس: من شرط صحة هذه الأفعال كونها قربة إلى الله –سبحانه وتعالى، فلم يجز أخذ الأجر عليها كما لو استأجر قومًا يصلون خلفه الجمعة أو التراويح
(4)
.
(1)
يقال فيه مثل ما قيل في الدليل الثالث من القول الثاني.
(2)
أخرجه أحمد، 24/ 288، مسند المكيين، زيادة في حديث عبد الرحمن بن شبل –رضي الله عنه، رقم حديث: 15529، وقد صحَّحه محققو الكتاب، وصرحوا بأن سنده قوي، وأن رجاله ثقات رجال الشيخين إلا أبا راشد الحبراني، لكن وثقه ابن حبان في الثقات (4/ 63)، وأن أهل الشام رووا عنه، وقوَّى سنده ابن حجر في الفتح (9/ 101).
(3)
المغني، 5/ 412.
(4)
المغني، 5/ 412، الشرح الكبير، 14/ 383.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول بالمنع أقرب للصواب، وينبغي أن يكون الأصل في المسألة، لكن قد يستثنى للضرورة أو الحاجة الماسة أو ما تعم به البلوى فيقال بجواز الاستئجار على تعليم القرآن؛ خشية ضياع الحفظ، وفي ذلك حمل كل قول على محمله الصحيح.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن إنساناً أراد تعليم بنيه وتحفيظهم القرآن ولم يجد إلا من يقوم بذلك بالأجر، فعلى القول الأول يجوز ذلك عند الحنفية وقت الضرورة فقط، وعند البقية ابتداءً، وعلى القول الثاني لا يجوز ابتداءً.
- لو أن الدولة تكفلت ببناء وقف لتحفيظ القرآن أو لها بيت المال يصرف منه لذلك وأراد شخص أن يعلم ابنه القرآن، فعلى القول الأول يجوز الاستئجار على تعليمه مطلقاً إلا عند الحنفية؛ لأن الضرورة زالت بزوال الخوف من تضييع حفظ القرآن، وعلى القول الثاني لا يجوز مطلقاً، والمنع أقوى مع وجود دور تحفيظ القرآن التي يصرف عليها من وقف أو بيت المال أو ما شابههما.
المطلب الثاني: اختلاف المؤجر والمستأجر في أجرة العمل
(1)
:
من المسائل التي يذكرها علماء الحنفية كمثال على اختلاف المؤجر والمستأجر مسألة خياطة الثوب ونحوه، فلو قال المستأجر: خِطتَ الثوب بغير أجر، وقال المؤجر: بل بأجر، فإن كان قبل العمل يتحالفان ويبدأ بيمين المستأجر، وإن كان بعد العمل فقد اختلف فقهاء الحنفية في ذلك على قولين:
القول الأول: القول قول صاحب الثوب؛ لأنه منكر، ولأنه لا قيمة للعمل بدون العقد، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله
(2)
.
القول الثاني: إن تكررت المعاملة بينهما بأجر فإن ذلك يؤيد جهة الطلب بأجر جرياً على معتادهما، وهو قول أبي يوسف –رحمه الله
(3)
.
القول الثالث: إن اتخذ حانوتاً
(4)
وانتصب لهذه الصناعة فله الأجرة وإلا فلا، وهو قول محمد
(5)
؛ لأن ذلك دليل على العمل بالأجرة عرفاً (واعتباراً للظاهر)
(6)
، والمعروف كالمشروط
(7)
، وعليه الفتوى
(8)
.
وبعضهم رجح قول الإمام لأنه قياس، ورد قوليهما إلى الاستحسان والاعتبار للظاهر، وأن الظاهر مردود؛ لأنه يصلح للدفع عن نفسه، والحاجة هنا إلى الاستحقاق وليس الدفع
(9)
.
(1)
ومن الأمثلة أيضاً اختلافهما في نوع المعقود عليه مثل القميص أو الثوب أو السراويل إلخ. ينظر: العناية، 9/ 142، رد المحتار، 6/ 41.
(2)
والرواية الأخرى عنه (الاختيار، 2/ 61): "إن كانت الخياطة حرفته فله أجر مثله عملاً بالعرف، وإلا فلا أجر له، ويكون متبرعاً".
(3)
الاختيار، 2/ 61.
(4)
أي دكاناً. ينظر: البناية، 10/ 339.
(5)
الاختيار، 2/ 61.
(6)
العناية، 9/ 143.
(7)
ذكر القاعدة ابن نجيم في الأشباه والنظائر، ص:85.
(8)
الاختيار، 2/ 60 - 61.
(9)
الهداية، 3/ 246، العناية، 9/ 143، البناية، 10/ 339، ومال إليه في بدائع الصنائع، 4/ 222.
مثاله: دار في يد رجل، فزعم آخر أنها ملكه فالقول للذي في يده، فلو بيعت دار بجنبها فأراد أن يأخذها بالشفعة لا يأخذها بمجرد اليد حتى يقيم بينة أنها ملكه؛ لأن ثبوت الملك بظاهر اليد يصلح للدفع لا للاستحقاق والأخذ من يد المشتري استحقاق فلا يملكه بدون البينة، كذا هنا
(1)
.
وبعد الاطلاع على الكتب المتوفرة لدي ظهر أن الحنفية اعتمدوا على قول محمد رحمه الله، وأكدوا أن الفتوى عليه
(2)
.
وقد يقال أن الاختلاف نشأ بسبب اختلافهم في تحديد المدعي والمدعى عليه.
فمن رأى أن المدعي الصانع، والمدعى عليه رب الثوب، ولا بينة، فإن القول قول رب الثوب بيمينه لأنه منكر.
ومن رأى أن القرائن مثل فتح الدكان والانتصاب للصنعة كافية لتقوية جانب على جانب، قال بأن القول قول الصانع، والله أعلم.
وهو أيضاً قول المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بالعرف الجاري
(6)
، ووجهه أن ما يُعطى للخياط مثلاً هو للعمل بالأجرة عرفاً، والعرف قام مقام القول.
(1)
البناية، 10/ 339.
(2)
رد المحتار، 6/ 75، شرح الوقاية للمحبوبي، 4/ 294.
(3)
التاج والإكليل لمختصر خليل، 7/ 586، منح الجليل، 8/ 47، شرح مختصر خليل للخرشي، 7/ 54، الشرح الكبير، 4/ 56.
(4)
مغني المحتاج، 3/ 487، المجموع (تكملة المطيعي)، 15/ 111.
(5)
الشرح الكبير على متن المقنع، 14/ 290 - 291، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 176، المغني، 7/ 330.
(6)
ينظر: الاختيار، 2/ 61.
والمسألة إذا افترضنا الخلاف فيها فإن لها ثمرة عملية تظهر في صورة لو أن إنساناً دخل محل الخياطة الرجالية وطلب خياطة الثوب بمواصفات معينة وخرج، وقبل صاحب المحل بدون أن يذكرا الأجرة، ثم جاء صاحب الثوب بعد فترة ليأخذه، لكن منعه صاحب المحل؛ لعدم دفع قيمته، فله ذلك؛ لأن العرف على أن الخياط لا يخيط بلا أجرة، وعلى القول المرجوح عند الحنفية فإن الثوب له، وكل ذلك إذا انعدمت البينة.
وفي الوقت الراهن وجود كاميرات المراقبة والفواتير الورقية والإلكترونية، وأن الأجر مقدم في الأغلب كل ذلك من القرائن التي قد تؤثر في تحديد المدعي والمدعى عليه، والله أعلم.
المبحث السابع: إسقاط حق الشفعة بالاحتيال وبتأخير الخصومة والمحاكمة:
هذه المسألة مدارها على نفي الضرر وتحقيق المصالح، ولها شقان، شق يتعلق بالاحتيال
(1)
، وشق يتعلق بالتأخير.
إسقاط حق الشفعة بتأخير الخصومة والمحاكمة
وأما إسقاط الشفعة بتأخير الخصومة والمحاكمة فقد اختلف أئمة المذهب الحنفي في ذلك؛ فعند أبي يوسف –رحمه الله أن حق الشفعة يسقط إذا ترك الشفيع مجلساً أو مجلسين من مجالس الحكم، وعنه ثلاثة أيام، لأنه دليل الإعراض، ومحمد –رحمه الله قدَّر ذلك بشهر
(2)
، لأن المشتري يتضرر بالتأخير؛ لنقض تصرفاته، فقدَّره بالشهر؛ لأنه أقل الآجل وأكثر العاجل، ومرادهما إذا ترك لغير عذر.
وعند أبي حنيفة –رحمه الله ورواية أخرى عن أبي يوسف –رحمه الله
(3)
أنه حق ثابت لا يسقط بالتأخير كسائر الحقوق، وضرر المشتري يمكن دفعه بالمرافعة إلى القاضي حتى يوقِّت له وقتاً يوفيه فيه الثمن وإلا بطل حقه بإسقاطه هو
(4)
، إلا لعذر مثل مرض أو حبس
(5)
.
والفتوى على قول أبي حنيفة –رحمه الله
(6)
.
(1)
ومعنى الحيلة أن يظهروا في البيع شيئاً لا يؤخذ بالشفعة معه ويتواطؤون في الباطن على خلافه. ينظر: الشرح الكبير على متن المقنع، 5/ 461، المغني، 5/ 262.
(2)
وقيل: إن عليه الفتوى أيضاً. ينظر: شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 56.
(3)
تبيين الحقائق، 5/ 244، وأكد على أنه ظاهر الرواية.
(4)
الهداية، 4/ 312.
(5)
تبيين الحقائق، 5/ 244.
(6)
الهداية، 4/ 312، الاختيار، 2/ 45، البحر الرائق، 8/ 148، اللباب في شرح الكتاب، 2/ 108، وقيل: إن الفتوى على قولهما، ومفاده تحديد المدة، ونسبه إلى المحيط. قلت: هو المحيط الرضوي؛ لأنه المراد عند الإطلاق. ويلاحظ أن أقوالهم -إلا قول أبي يوسف الأول- تدور حول المدة، وأن حق الشفعة يسقط بطولها، لكنهما قالا بمدة معينة ابتداءً، والإمام أرجع التحديد إلى القاضي، والقاضي قد يوافق المدة التي حدَّداها وقد لا يوافق. وإلا فيقدم ترجيح الهداية على المحيط؛ لأن كتاب الهداية شرح معتمد على متن معتمد.
وهو قول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
ويظهر مما سبق أن الفقهاء متفقون على أن الشفعة حق ثابت، ولا يسقط بمجرد التأخير، وإنما إذا فرَّط الشفيع بتأخير المطالبة تأخيراً يضر بالمشتري أو البائع عرفاً، وبلا عذر، وحينها يكون هو من أسقط حقه، والله أعلم.
إسقاط حق الشفعة بالاحتيال:
أما إسقاط حق الشفعة بالاحتيال فإن الحنيفة يرون جواز ذلك (قبل وجوبها)
(4)
؛ للمصلحة أو لدفع الضرر
(5)
، فيقولون: إن الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الجوار، فالمشتري إن كان ممن يتضرر به الجيران فلا يحل إسقاطها، وإن كان رجلاً صالحا ينتفع به الجيران، والشفيع متعنت لا يحب جواره فحينئذ يحتال في إسقاطها
(6)
.
ومثال ذلك لو أن شخصاً باع داراً إلا ذراعاً منها في طول الحد الذي يلي دار الشفيع، فالشفيع لا يستحق الشفعة؛ أما في قدر الذراع فلانعدام الشرط وهو البيع، وأما فيما وراء ذلك فلانعدام السبب وهو الجوار
(7)
.
(1)
التاج والإكليل، 7/ 383، منح الجليل، 7/ 212، وقالوا بأن الشفعة لا تسقط إلا إذا مضى من طول الأمد ما يُرى أن الشفيع تارك لحقه، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأمصار، ولا ينضبط إلا بالعرف.
(2)
مختصر المزني، 8/ 219، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 7/ 134. وقيَّدوا ذلك بوجود عذر، فإن سأل التوقف حتى يحضر الثمن جاز أن ينظره الحاكم به يوماً أو يومين وأكثره ثلاثاً، فإن جاء بالثمن كان على حقه من الشفعة، وإن أخَّره عن المدة التي أنظره الحاكم بها بطلت شفعته. ينظر: المجموع (تكملة المطيعي)، 14/ 312. ويظهر من ذلك أن العجز عن السداد في وقته لا يعد عذراً إلا فيما يحدده القاضي.
(3)
المغني، 5/ 241، الشرح الكبير على متن المقنع، 5/ 474 - 475، الإنصاف، 6/ 263.
(4)
الاختيار، 2/ 48، بدائع الصنائع، 2/ 15.
(5)
وقيَّدوا ذلك أن يحتال لإسقاطها قبل وجوبها. ينظر: الاختيار، 2/ 48.
(6)
بداية المبتدي، ص: 211، الاختيار، 2/ 48، شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 63.
(7)
بدائع الصنائع، 5/ 34، رد المحتار، 6/ 244.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء في إسقاط الشفعة بالحيل قبل وجوبها على قولين:
القول الأول: لا يكره إسقاط حق الشفعة بالحيل قبل وجوبه، وهو قول الحنفية كما سبق.
القول الثاني: الحيل مكروهة مطلقاً، ولا يجوز إعمالها لإسقاط حق الشفعة، وهو قول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بجواز استخدام الحيل لإسقاط الشفعة قبل وجوبها بدليلين:
الدليل الأول: التحايل ليس فيه إسقاط حق ثابت، بل منع ثبوت الحق، فلا يعد ضرراً.
(4)
يناقش بأن فيه الخداع، ويؤدي إلى الغرر فيكره.
الدليل الثاني: الحاجة فيما لو كان الشفيع لا يحب جواره فيسقط حقه دفعاً لضرره
(5)
.
(1)
الذخيرة، 7/ 336، الجامع لمسائل المدونة، 20/ 69، وذلك إذا ظهر للحاكم أن الثمن تجاوز إلى حد الحيلة لقطع الشفعة، فيرد إلى الأشبه.
(2)
نهاية المطلب، 7/ 435، روضة الطالبين، 5/ 115 - 116، مغني المحتاج، 3/ 384. وهم يذكرون صوراً من التعسير على الشفيع وتعقيد الأمر عليه، ويقررون أنها تحتوي على التغرير، فتكون مكروهة.
(3)
المغني، 5/ 262، الشرح الكبير على متن المقنع، 5/ 460.
وينصون على أن الاحتيال لإسقاط حق الشفعة لا يجوز؛ لأنه خداع.
(4)
الهداية، 4/ 323.
(5)
بداية المبتدي، ص:211.
قد يناقش بأن الجيران تؤثر بعضهم على بعض، فتأثيره عليهم تأثير فرد على جماعة، وتأثيرهم عليه تأثير جماعة على فرد، وتأثير الجماعة أقوى، فاحتمال تحسين ظاهره وباطنه وحوله جيران صالحون مصلحون أظهر من عكسه، والله أعلم.
تعليل القول الثاني:
علَّل القائلون بمنع استخدام الحيل لإسقاط حق الشفعة بتعليل الغرر -كما عند الشافعية-
(1)
، والخداع -كما عند الحنابلة-
(2)
، وهو ظاهر.
الترجيح:
بعد عرض القولين وتعليليهما يظهر أن القول بمنع الاحتيال أوفق وأبعد عن الريبة وأقرب إلى أخلاق المسلم السوي، وما ذكروه من الحاجة فيما لو كان الشفيع لا يُحب جواره فليس بقوي، لأن الفرد يرسل إلى بيئة صالحة لإصلاح نفسه والبعد عن المعاصي كما في تغريب الزاني بعد جلده.
(1)
ومثاله أن يبيع الشقص بأضعاف ثمنه دنانير مثلاً، ثم يأخذ عَرْضاً قيمته مثل ثمن الشقص، أو أقل عن الثمن المسمى، فلا يرغب الشفيع في الشفعة؛ لأنه لو رغب فيها، لأخذ الشقص بالثمن المسمى أوّلاً. وهذا وإن كان يعسّر الشفعة، ففيه تغرير؛ لأن البائع إذا التزم له المشتري الثمن فربما لا يرضى بالعَرْض الذي قيمته دون ذلك المبلغ. (ينظر: نهاية المطلب، 7/ 434).
(2)
المغني، 5/ 262.
المبحث الثامن: تذكية الصيد إذا أدركه المرسل
(1)
حيًّا:
تأتي هذه المسألة في كتاب الصيد عند ذكر أحكام الجوارح -وهي حيوانات معلمة
(2)
-، وصورة المسألة لو أن صائداً أرسل كلبه المعلم، وذكر اسم الله عليه عند إرساله وجرح الكلب الصيدَ أي المصِيدَ فمات ولم يأكل منه حل أكله
(3)
، لكن لو وجد المرسل الصيدَ حيًّا، فلا يخلو إما أن يتمكن من ذبحه أو لا، فإن تمكن من ذبحه ولم يذبحه حتى مات لم يؤكل سواء كانت الحياة فيه بينة أو خفية
(4)
، وإن ذبح حل عند الجميع
(5)
، وذلك إذا كان يتوهم بقاء الصيد على قيد الحياة، وأما إذا شق الكلب المعلم بطنَ الصيد مثلاً وأخرج ما فيه، ثم وقع في يد المرسل حيًّا حل عند الصاحبين؛ لأن ما بقي فيه من الحياة اضطراب المذبوح فقط ولا عبرة بذلك، كما إذا وقعت شاة في الماء بعد ذبحها، وأما عند أبي حنيفة فلا يؤكل؛ لأنه وقع في يده حيًّا، فلا يحل إلا بذكاة الاختيار
(6)
، بدليل قوله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وقد استثناه مطلقًا من غير فصل، وعليه الفتوى
(7)
.
(1)
وهو من أرسل الكلب المعلم أو البازي المعلم أو السهم ليصيد به. ينظر: بداية المبتدي، ص: 228، العناية، 10/ 121.
(2)
العناية، 10/ 113، ويصفونها بأنها آلة الصيد.
(3)
اللباب في شرح الكتاب، 3/ 218.
(4)
الحياة الخفية: القدر الذي يعلم به أن المصيد حي، والبينة أو الظاهرة: القدر الذي فوق الخفية. ينظر: البناية، 12/ 425.
(5)
المراد به علماء المذهب.
(6)
وهي الأصل، وبدلها ذكاة الاضطرار وهي الصيد. ينظر: البناية، 12/ 422.
(7)
الهداية، 4/ 403 - 404، العناية، 10/ 121 - 122.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن المرسل إذا أدرك الصيد وبه حياة مستقرة، ويتوهم بقاؤه على قيد الحياة فإنه لا يحل إلا بالتذكية
(1)
، واختلفوا فيما لو أدركه وبه حياة غير مستقرة على قولين:
القول الأول: لا يحل أكله إلا بعد التذكية، وهو قول الحنفية كما ذُكر، وعليه الفتوى، والمالكية
(2)
.
القول الثاني: يحل أكله ولا حاجة إلى التذكية، وهو القول المرجوح في المذهب الحنفي، وقول الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
(1)
الهداية، 4/ 403 - 404، العناية، 10/ 121 - 122، التاج والإكليل، 4/ 334، نهاية المطلب، 18/ 116، المغني، 9/ 373.
(2)
التهذيب في اختصار المدونة، 2/ 18، التاج والإكليل، 4/ 334، ونصهم:"وإن قطع الباز أو الكلب عضواً من الصيد من يد أو رجل أو فخذ أو جناح أو خطم فأبانه فمات منه قبل أن يدرك ذكاته لم يؤكل ما بان، وتؤكل بقيته، وإن أدرك ذكاته فليذكه ويأكل بقيته دون ما بان منه"، فدل على أنه يذكَّى حتى في حالة لا يتوهم فيه بقاء الصيد على قيد الحياة.
(3)
استحباباً كما في المهذب للشيرازي، 1/ 426، وقال:"وإن رمى صيداً أو أرسل عليه كلباً فعقره ولم يقتله نظرت فإن أدركه ولم يبق فيه حياة مستقرة بأن شق جوفه وخرجت الحشوة أو أصاب العقر مقتلاً فالمستحب أن يمر السكين على الحلق ليريحه، وإن لم يفعل حتى مات حل؛ لأن العقر قد ذبحه، وإنما بقيت فيه حركة المذبوح". وكما في نهاية المطلب، 18/ 116:"إذا أرسل كلبه أو سلاحه، فإن أصاب مذبحَ الصيد ما أجهزه وأنجزه، فلا كلام، فهو حلال. وإذا أدركه، وهو في حركة المذبوح، فلا نتعرض له ونتركه يهدأ. وكذلك لو أصاب موضعاً آخرَ منه صار به إلى حركة المذبوح، فالأمر على ما ذكرناه".
(4)
الإنصاف، 10/ 417، الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 555، المغني، 9/ 373، وينصون على أنه متى أدرك الصيد متحركاً كحركة المذبوح فهو كالميت.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بعدم حل أكل الصيد إذا أدركه الصائد وبه حياة غير مستقرة بدليل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].
وجه الدلالة: أن الله –سبحانه وتعالى استثنى كل ما سبق بإطلاق من غير فصل، والآية تشمل ما أدركه الصائد وبه حياة
(1)
.
قد يناقش بأنه استثناء من التحريم وليس من المحرمات
(2)
.
دليل القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بجواز أكل الصيد إذا أدركه الصائد وبه حياة غير مستقرة بقياس هذا الصيد على الصيد الميت بجامع أن الموت سببه الجارحة، وما فيه من الحياة في حكم الميت ولا عبرة بها
(3)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين ودليليهما يظهر أن القول الثاني أوفق وأقرب؛ لقوة دليله، وما ورد من المناقشة على دليل القول الأول، والمسألة لها أثر يظهر فيما لو أن إنساناً أرسل كلبه المعلم ليصيد الأرنب مثلاً فشق بطنه وأخرج ما فيه، فأدركه المرسل يتحرك حركة المذبوح، فعلى القول الأول لا يحل أكله حتى يذكيه ما دام فيه حياة، وعلى القول الثاني يحل أكله؛ لأنه مات من العقر، وذلك ذبحه.
(1)
الهداية، 4/ 403 - 404، العناية، 10/ 121 - 122.
(2)
تفسير الطبري، 9/ 505، وذلك تفسير آخر للآية.
(3)
الهداية، 4/ 403 - 404، المغني، 9/ 373.
المبحث التاسع: في مسائل البيوع
المطلب الأول: ما يُعرَض بالأنموذج رؤية بعضه كرؤية كله:
فقهاء الحنفية يذكرون أنواعاً من الخيارات مثل خيار الشرط وخيار العيب وخيار الرؤية وغيرها، ومسألة ما يعرض بالأنموذج من مسائل خيار الرؤية
(1)
.
ومن أمثلته أن يرى المشتري نموذجاً من المبيع دون سائره، كما لو كان المبيع طاولات متعددة من نمط واحد لا تختلف عرفاً، فيشتريها المشتري بعد أن يرى عيِّنات منها.
وحينها يسقط خيار الرؤية
(2)
؛ لأن رؤية بعض المبيع كرؤية كله، وذلك عند الصاحبين –رحمهما الله- للحاجة، وجريان التعامل به، ولأن المقصود معرفة الصفة وقد حصلت
(3)
، وعند أبي حنيفة –رحمه الله الخيار لا يبطل وإن كان مما يباع عدداً، والفتوى على قولهما
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
(1)
وهو مانع من تمام الحكم وهو لزوم الملك وانتقاله. ينظر: تبيين الحقائق، 4/ 24.
(2)
وهو ما كان مكيلاً (كالقمح) أو موزوناً (كقطن) أو معدوداً (كالبيض، والقلم والجوال إلخ.) متقارباً بخلاف العدديات المتفاوتة. ينظر: الاختيار، 2/ 17.
(3)
ولو اختلف بقية المبيع عن النموذج أو العيِّنة وكان أردأ منه فله الخيار، لكن خيار العيب. ينظر: اللباب، 2/ 16.
(4)
الاختيار، 2/ 17، الهداية، 3/ 35، تبيين الحقائق، 4/ 26، البحر الرائق، 6/ 31، المبسوط، 13/ 72، مجمع الأنهر، 2/ 37، البناية، 6/ 342، رد المحتار، 4/ 598. قلت: والحنفية يقدمون قول الصاحبين على قول الإمام؛ لضرورة أو موجب، ومنه ما ذكروا من الحاجة والعرف، والعرف يتغير بتغير الزمان والمكان، فعادت المسألة إلى اختلاف عصر وزمان وليس حجة وبرهان، والله أعلم.
القول الأول: يصح بيع ما يعرض بالنموذج، ورؤية النموذج أو العينة من المبيع تبطل خيار الرؤية في كله، وهو قول الحنفية المفتى به -كما سبق-، والمالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، وقول عند الحنابلة
(3)
.
القول الثاني: لا يصح بيع ما يعرض بالنموذج، وعليه لا خيار رؤية، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله كما مضى، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بصحة بيع ما يعرض بالنموذج بأدلة، منها:
الدليل الأول: العرف، فقد تعارف الناس على التعامل به، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً
(5)
أي أن ما تعارف عليه الناس في معاملاتهم قائم مقام الشرط في الالتزام والتقيد، وإن لم يُذكر صريحًا، وعليه فلا خيار الرؤية إذا لم يذكروه في العقد.
الدليل الثاني: لأن رؤية بعض ما يعرض بالنموذج توجب العلم بالمقصود، وهو معرفة الصفة.
الدليل الثالث: الحاجة تدعو إلى مثل هذه البيوع
(6)
.
(1)
الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 678، منح الجليل، 4/ 484، شرح مختصر خليل للخرشي، 5/ 33، الشرح الكبير، 3/ 24، ويسمون ما يعرف بالنموذج بالمثلي، وهو خلاف المقوَّم.
(2)
نهاية المحتاج، 3/ 419، حاشيتا قليوبي وعميرة، 2/ 207، وقد منعوا خيار الرؤية في بيع عين غائبة وليس فيما يعرض بالنموذج. ينظر: الأم، 3/ 3، نهاية المطلب، 5/ 10.
(3)
المبدع في شرح المقنع، 4/ 25، وصححه صاحب الإنصاف، 4/ 295.
(4)
كشاف القناع، 3/ 163، الإنصاف، 4/ 295، المبدع في شرح المقنع، 4/ 25، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 9، ومنعوا بيع الأعيان بغير رؤية أو صفة تحصل بها معرفة المبيع، وخيار الرؤية في هذه الحالة مختلف فيه، فعلى الرواية الأولى لا يثبت وعلى الثانية يثبت.
(5)
الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص:84.
(6)
سبق ذكر مصادر الأدلة الثلاثة عند تقرير قول الحنفية في المسألة.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بعدم صحة بيع ما يعرض بالنموذج بعدم رؤية المبيع وقت العقد
(1)
.
وقد يُناقش بأن رؤية المبيع حصلت برؤية النموذج، ولا فرق بين النموذج والآخر، ثم في منعه حرج شديد على الناس وبخاصة إذا كانت البضاعة كثيرة.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الأول أقرب لقوة دليله وورود المناقشة على دليل القول الثاني، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك خاصة مع التجارة الإلكترونية التي تتيح شراء بضاعة من أقصى الدنيا، ولا سبيل إلى رؤية كلها إلا بالنموذج، ثم الصناعة اليوم وصلت منتهى الدقة والانضباط في أوصاف السلعة المنتجة حجماً وشكلاً، وفي مثل هذه البيوع مصلحة اقتصادية كبيرة للمتعاقدين طالما انتفى الضرر، والله أعلم.
والمسألة له ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة من المعاملات، منها:
- لو أن إنساناً له محل بيع الأجهزة الإلكترونية وسافر إلى الصين مثلاً ليجلب البضاعة، وقد رأى النماذج منها والذي سيشتريه يصل إلى آلاف القطع، فعلى القول الأول صح البيع؛ لأن رؤية العينة كرؤية الكل، ولا خيار الرؤية، ولو ظهرت البضاعة أردأ من العينة فإن له خيار العيب، وعلى القول الثاني لم يصح البيع حتى يرى جميع البضاعة.
- لو أن شخصاً أراد أن يشتري بضاعة كثيرة مختلفة من موقع أمازون (التجارة الإلكترونية) والمعروض صورة عينة فقط لكل نوع من أنواع البضاعة؛ فعلى القول الأول يصح البيع؛ لأن رؤية صورة العينة الواحدة كرؤية جميع العينات؛ لتطابقها حجماً وشكلاً وجودةً وغير ذلك، وعلى القول الثاني لا يصح البيع؛ لعدم رؤية جميع البضاعة.
- لو أن شخصاً له محل بيع فواكه وخضروات، وذهب إلى السوق العامة ليجلب البضاعة، فأراد أن يشتري عشرة كراتين تمر، وقد رأى بعضها فقط دون سائرها، فعلى القول الأول يصح البيع ولا خيار رؤية، وعلى الثاني لم يصح البيع حتى يرى البضاعة كلها.
(1)
كشاف القناع، 3/ 163.
- ولو أراد أن يشتري خمسين حبة من البطيخ فالبيع لا يصح على القولين؛ لأن البطيخ يتفاوت حجمه في الغالب، فلا بد من رؤيتها كلها.
المطلب الثاني: الرجوع بنقصان العيب في الطعام بعد أكله:
هذه المسألة من مسائل خيار العيب -وقد سبقت الإشارة إليه في المسألة السابقة-، ومعناه لو اطلع المشتري على عيب
(1)
في السلعة بعد العقد فله أخذها بجميع الثمن وله ردها
(2)
.
ومن صور المسألة شخص اشترى طعاماً فأكل بعضه ثم علم بالعيب فيه، فعند أبي حنيفة –رحمه الله (ليس له أن يرد الباقي)
(3)
، ولا أن يرجع بنقصانه
(4)
؛ لأن الطعام كشيء واحد فلا يرد بعضه دون بعض كما إذا باع البعض، وعندهما يرجع بنقصان العيب في كله
(5)
(وليس له أن يرد الباقي؛ لأن الطعام كالشيء الواحد فيتعيب بالتبعيض؛ لأن أكل الكل لا يمنع الرجوع فالبعض أولى)
(6)
، ورواية أخرى عنهما أنه يرد ما بقي، ويرجع بنقصان ما أكله
(7)
؛ لأنه لا يضره التبعيض، وعليه الفتوى
(8)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف الفقهاء في مسألة الرجوع بنقصان العيب في الطعام بعد أكله على ثلاثة أقوال:
(1)
وهو كل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار. ينظر: الاختيار، 2/ 18.
(2)
تبيين الحقائق، 4/ 31، وقال:"لأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب فكانت السلامة كالمشروطة في العقد صريحاً لكونها مطلوبة عادة فعند فواتها يتخير كي لا يتضرر بإلزام ما لا يرضى به".
(3)
تبيين الحقائق، 4/ 37.
(4)
أي بالأرش فيما أكل ولا فيما بقي. ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(5)
أي بأرش جميع الطعام. ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(6)
تبيين الحقائق، 4/ 37.
(7)
يعني يرجع بأرش ما أكل. ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(8)
الاختيار، 2/ 20، الهداية، 3/ 39، رد المحتار، 5/ 23. قلت: ويظهر أن اختلاف روايتي الصاحبين اختلاف تنوع، بحيث تحمل كل رواية على نوع من الأطعمة، فالرواية الأولى تحمل على الطعام الذي يضره التبعيض ويتعيب به مثل الساندويتشات، والأخرى تحمل على ما لا يضره التبعيض ولا يتعيب به مثل الفطائر، فإنها تباع مقطعة (كاملة أو جزءاً جزءاً).
القول الأول: لا يجوز الرجوع فيه بنقصان العيب بأن يرجع بنقصانه ويرد الباقي، وهو قول منسوب لأبي حنيفة رحمه الله
(1)
.
القول الثاني: يجوز الرجوع فيه بنقصان العيب في كله، ولا يرد الباقي، وهو قول الصاحبين الأول
(2)
.
القول الثالث: يجوز الرجوع فيه بنقصان العيب في كله ويرد الباقي، وهو قول للصاحبين الثاني
(3)
. وهو قول المالكية
(4)
، والشافعية تخريجاً
(5)
، وكذلك الحنابلة
(6)
.
الأدلة والمناقشات:
تعليل القول الأول:
علّل القائلون بعدم جواز الرجوع بنقصان العيب في الطعام بتعليل عدم تبعيضه، فهو كشيء واحد، فإذا أكل بعضه كأنه أكل كله
(7)
.
قد يناقش بأن الأطعمة ليست على شكل واحد، فمنها ما يتبعض ولا يضره ولا يتعيب بذلك.
(1)
تبيين الحقائق، 4/ 37، الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(2)
المرجع السابق.
(3)
الاختيار، 2/ 20، الهداية، 3/ 39، الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(4)
المختصر الفقهي لابن عرفة، 5/ 472، الذخيرة، 5/ 71، ونصه عن العيب القديم الذي ينسب إلى الثمن يوم العقد:"ولو أكل بعض الطعام ورد بالعيب فعليه المأكول بحصته من الثمن"، فقوله:"بحصته" يدل على حصة الطعام المعيب، والله أعلم.
(5)
لم أجدهم يذكرون هذه المسألة بعينها، لكن يمكن تخريجها على ما قالوه في هلاك المبيع عند المشتري مثل الطعام، فلو أكله كله ثم علم بالعيب به ينقص قيمته فإنهم يقولون بأنه يرجع بالأرش؛ لتعذر الرد بفوات المبيع حساً أو شرعاً. ينظر: أسنى المطالب، 2/ 63، مغني المحتاج، 2/ 433.
قلت: ويفهم من ذلك أنه لو أمكن الرد ولو جزءاً منه لقالوا به مع الأرش فيما يتعذر رده؛ لأن الطعام يتبعض، والله أعلم.
(6)
المغني، 4/ 123، الشرح الكبير على المقنع، 11/ 397، المبدع في شرح المقنع، 4/ 86،
(7)
تبيين الحقائق، 4/ 37، الجوهرة النيرة، 1/ 199.
تعليل القول الثاني:
علّل القائلون بجواز الرجوع في الطعام بنقصان العيب في كله، بلا رد الباقي بأن الطعام يتعيب بالتبعيض فلا يرد الباقي، ولو أكل كله لا يمنع الرجوع فيه فالبعض من باب أولى
(1)
.
تعليل القول الثالث:
علل القائلون بجواز الرجوع في الطعام بنقصان العيب فيما أُكل منه ويُرد الباقي بأن تبعيض الطعام لا يضره
(2)
.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وتعليلاتها يظهر أن القول الثالث أقرب؛ لقوة تعليله ولأن واقع صناعة الأطعمة اليوم يسانده بحيث لا يضره تبعيضه ولا يتعيب بذلك.
والمسألة لها ثمرات عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن إنساناً اشترى فطيرة طازجة في مطعم ما بعشرين ريالاً، وأكل نصفها وعلم بالعيب (مثل ما لو كانت قديمة وليست طازجة)، فله أن يرد ما تبقى منها، ويرجع بنقصان فيما أكله.
وتفصيلها فيما يلي: لو كان سعر الفطيرة عشرين ريالاً سليمة وعشرة ريالات معيبة، والفطيرة مقطعة إلى عشرة أجزاء مثلاً، وقد أكل نصفها أي خمسة أجزاء؛ وعليه فإنه سيرد الباقي بقيمته، أي يرجع بنصف الفطيرة بعشرة ريالات، والنصف الآخر يقوَّم سليماً ومعيباً، ويأخذ الفرق وهو الأرش، فالنصف الآخر عشرة ريالات سليماً، وسبعة ريالات مثلاً معيباً، فيرجع بنقصانه وهو ثلاثة ريالات.
- ولو كان قد اشترى ساندويتش فإنه لا يقال بهذا القول؛ لأن تبعيض الساندويتش يضره ويتعيب به ولا يباع إلا كاملاً، فيصار إلى القول بأنه يرجع بنقصان العيب في كله؛ لأن ما تبقى من الطعام في حكم المتلف وتعذر الرد.
(1)
المرجع السابق.
(2)
الاختيار، 2/ 20، الهداية، 3/ 39، الجوهرة النيرة، 1/ 199.
المطلب الثالث: في مسائل الربا
المسألة الأولى: بيع الخبز
(1)
بالحنطة والدقيق
(2)
متفاضلاً
(3)
:
هذه المسألة من مسائل الربا، والربا في اللغة الفضل والزيادة والعلو
(4)
، وفي الاصطلاح الزيادة المشروطة في العقد -وهذا إنما يكون عند المقابلة بالجنس-، وقيل: الربا في الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفة سواء كان فيه زيادة أو لم يكن، فإن بيع الدراهم بالدنانير نسيئة ربا ولا زيادة فيه، وبه يتبين أن الربا نوعان: ربا الفضل وربا النسيئة
(5)
.
والأصناف الربوية التي نص عليها الشارع ستة، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد"
(6)
.
وقد اختلف الفقهاء في علة الربا في هذه الأصناف، وموضوع المسألة يتعلق بالأصناف الأربعة الأخيرة أي غير الذهب والفضة، والحنفية يقررون أن العلة فيها الكيل مع الجنس أو الوزن مع الجنس
(7)
، وهذا له أثر بالغ في مسألة بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً.
(1)
الخبز أنواع، والذي يتبادر إلى الذهن هو مطلق الخبز، وبعضهم قيَّده بخبز الحنطة. ينظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي، 5/ 219. والحنطة بر كما في القاموس المحيط، ص: 663.
(2)
أي ودقيق الحنطة.
(3)
والبيع عند الحنفية: "مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب"، ولفظ البيع من الأضداد، يقال: باع كذا إذا أخرجه عن ملك أو أدخله فيه. ينظر: بدائع الصنائع، 5/ 133، تبيين الحقائق، 4/ 2. وهذه المسألة لو حُملت على معنى الشراء لكان أفضل، فيقال: شراء الخبز بالحنطة والدقيق بحيث يكونان ثمناً والخبز مثمناً؛ لأن شراء ما أجله قصير -مثل الخبز- بما أجله طويل –مثل الدقيق والحنطة- ممكن وواقع، وتصوره سهل، لكن شراء الحنطة والدقيق بالخبز المخبوز الجاهز لا يقع في الغالب، وتصوره صعب، والله أعلم.
(4)
المصباح المنير، 1/ 217، مقاييس اللغة، 2/ 483.
(5)
ينظر: الاختيار، 2/ 30.
(6)
أخرجه مسلم، 3/ 1211، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، رقم حديث:1587.
(7)
الاختيار، 2/ 30، تبيين الحقائق، 4/ 85.
وفقهاء الحنفية ينصون على أنه يجوز ذلك لأن الخبز بعد صنعه صار عددياً أو موزوناً فخرج من أن يكون مكيلاً من كل وجه، والحنطة مكيلة (فلم توجد علة الربا إذا كانا نقدين)
(1)
، وذلك عند الصاحبين، وعند أبي حنيفة لا خير فيه
(2)
، والفتوى على الأول
(3)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف الفقهاء
(4)
في جواز بيع الخبز بالحنطة والدقيق من جنسه متفاضلاً على قولين:
القول الأول: يجوز بيعه بالحنطة والدقيق متفاضلاً، وهو قول الحنفية –كما سبق- والمالكية
(5)
، وقول عند الشافعية
(6)
.
القول الثاني: لا يجوز بيعه بالحنطة والدقيق متفاضلاً، وهو قول آخر عند الشافعية،
(7)
والحنابلة.
(8)
الأدلة والمناقشات:
(1)
مجمع الأنهر، 2/ 88، وأما النسيئة فسيأتي ذكرها في المسألة القادمة.
(2)
وعنه في أصح الروايتين أنه يجوز، وهو ظاهر مذهب الأئمة الثلاثة من الحنفية، وعليه الفتوى. ينظر: رد المحتار، 5/ 182.
(3)
الهداية، 3/ 65، الاختيار، 2/ 32، تبيين الحقائق، 4/ 95.
(4)
قلت: ويظهر أن سبب اختلافهم في هذه المسألة مبني على اختلافهم في علة ربا الفضل في غير الذهب والفضة، فمن رأى أن علة ربا الفضل الكيل في المكيلات والوزن في الأثمان والمثمنات، أو أنها الاقتيات والادخار قال بجواز بيع الخبز بالحنطة لما ذكروا أن الخبز أصبح عددياً أو موزوناً، وخرج من أن يكون مكيلاً، ولأنه لا يدخر وإن يقتات، ومن قال بأن علة الطعام الطعم أو الطعم مع الكيل والوزن فقد منع بيع الخبز بالحنطة؛ لأنه مطعوم موزون، وإذا كان الخبز مطعوماً عددياً لا يكال ولا يوزن فهو خارج المسألة بالتأكيد؛ لأن العددية ليست بعلة. والله أعلم. ينظر: تحفة الفقهاء، 2/ 25، شرح مختصر خليل للخرشي، 5/ 57، المجموع شرح المهذب، 9/ 401، المغني، 4/ 6.
(5)
الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 651، التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس، 2/ 80.
(6)
المجموع (تكملة السبكي)، 11/ 122.
(7)
المجموع (تكملة السبكي)، 11/ 122، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 5/ 219.
(8)
الإنصاف، 5/ 26، شرح منتهى الإرادات، 2/ 67.
دليل القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بجواز بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً بكونه أصبح عددياً أو موزوناً وليس بمكيل مطلقاً، والحنطة مكيلة
(1)
، فهما جنسان.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بعدم جواز بيع الخبز بالحنطة والدقيق بأدلة، منها:
الدليل الأول: الخبز فيه الماء، وعليه فإننا نجهل التساوي
(2)
، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل
(3)
.
قد يناقش بأنه كذلك، لكن الجهل هنا لا يضر؛ لأنهما جنسان، فلا بأس بالتفاضل.
الدليل الثاني: كون الخبز فرعاً لأصل يحرم فيه الربا، فلم يجز بيعه به، كالدقيق بالحنطة
(4)
.
قد يناقش بأن الدقيق هو الحنطة المدقوقة فيمنع، وأما الخبز فيختلف عن الحنطة ودقيقها
(5)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين بأدلتهما يظهر أن الترجيح في هذه المسألة ينبني على مسألة علة الربا في غير الذهب والفضة، وأن الخلاف فيها خلاف تنوع، فمن رأى أن علة الربا موجودة في الخبز قال بالمنع، ومن لا فلا.
(1)
الاختيار، 2/ 32، تبيين الحقائق، 4/ 95.
(2)
شرح منتهى الإرادات، 2/ 68.
(3)
قواعد ابن رجب، 2/ 478.
(4)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 5/ 219.
(5)
لأنه وإن اتحد الأصل فقد اختلفت الصفة. ينظر: رد المحتار، 5/ 180.
إلا إذا قلنا: إن الخبز أصبح عددياً -والعددية ليست بعلة-، وهو ظاهر الآن في صناعة الخبز، فإنه يباع بالعدد، ولا يشكل وضعهم وزن الخبز على خارج الغلاف؛ لأن العدد مقصود وليس الوزن، والله أعلم.
وعليه فالراجح هو القول الأول، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن إنساناً عنده من الخبز خمسة أكياس واحتاج إلى البر أو دقيقه لغرض ما، فإنه يجوز بيعه بالبر؛ لأن الخبز موزون والبر مكيل، والعلة هي الوزن مع الجنس أو الكيل مع الجنس، أو لأن الخبز عددي، وهذا خارج علة الربا، وهو على قول الحنفية من القول الأول، وعلى القول الثاني لا يجوز ذلك؛ لأن الخبز مطعوم، وعلة الربا الطعم مثلاً.
- وإذا قلنا: إن البيع هنا شراء: فلو أن إنساناً عنده أكياس من البر أو دقيقه مثلاً، ولا يقدر على صنع الخبز؛ لانشغاله أو لجهله بصناعته، فيذهب إلى الخباز ويشتري الخبز بما عنده من الدقيق، فعلى القول الأول يجوز؛ لأنهما جنسان، أو لأن الخبز عددي، وعلى القول الثاني لا يجوز؛ لأن الربا طعم وهي موجودة في كليهما.
المسألة الثانية: بيع الخبز بالحنطة والدقيق نسيئة:
هذه المسألة شبيهة بالسابقة، إلا أن هذه في ربا النسيئة، وتلك في ربا الفضل.
وربا النسيئة أو النساء عند الحنفية فضل الحلول على الأجل وفضل العين على الدين في المكيلين والموزونين عند اختلاف الجنس أو في غير المكيلين وغير الموزونين عند اتحاد الجنس
(1)
، وعلته وجود أحد وصفي علة ربا الفضل، وهي الكيل في المكيلات أو الوزن المتَّفِق، ومعناه أن يكونا ثمنين أو مثمنين؛ لأن وزن الثمن يخالف وزن المثمن
(2)
.
وعند المالكية مجرد الطعم على غير وجه التداوي كان مدخراً مقتاتاً أم لا
(3)
، وكذا أي الطعم عند الشافعية
(4)
، وعند الحنابلة ربا النسيئة كل شيئين -ليس أحدهما نقداً- علة ربا الفضل فيهما واحدة لا يجوز بيع أحدهما بالآخر نسأ، وعلة ربا الفضل عندهم كونه مطعوماً مكيلاً أو مطعوماً موزوناً
(5)
.
ثم الحنفية ينصون على أنه يجوز بيع الخبز بالحنطة والدقيق نسيئة إذا كانت الحنطة نسيئة، وذلك عند الصاحبين، وإن كان الخبز نسيئة يجوز عند أبي يوسف، وعليه الفتوى
(6)
، بدليل ما ذكروه أنه خرج من أن يكون مكيلاً، بل صار عددياً أو موزوناً، والحنطة مكيلة، فجاز التفاضل، وإذا قلنا: إنه عددي فلا علة الربا
(7)
.
(1)
تحفة الفقهاء، 2/ 25، بدائع الصنائع، 5/ 138.
(2)
تحفة الفقهاء، 2/ 25.
(3)
شرح مختصر خليل للخرشي، 5/ 56، حاشية الصاوي، 3/ 72.
(4)
المجموع شرح المهذب، 9/ 401.
(5)
الشرح الكبير على متن المقنع، 4/ 163.
(6)
الهداية، 3/ 65، الاختيار، 2/ 32، العناية، 7/ 37، شرح الوقاية للمحبوبي، 4/ 58، وقد سبق في المسألة السابقة أن أبا حنيفة يرى عدم جواز ذلك، وقال: إنه لا خير فيه.
(7)
بدائع الصنائع، 5/ 245.
ولأنه من باب السلم، وقد أسلم موزوناً (الخبز) في مكيل (الحنطة والبر) يمكن ضبط صفته ومقداره، وكذلك إذا أسلم في موزون (الخبز) إذا كان الخبز نسيئة
(1)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
لم أجد هذه المسألة بعينها في كتب بقية المذاهب، لكن يمكن تخريجها بناءً على ما مر في المسألة السابقة:
- فالحنفية جوَّزوا بيع الخبز بالحنطة متفاضلاً؛ لأنهما جنسان، أو لأن الخبز ليس مكيلاً والحنطة مكيلة، وفي بيع هذا بهذا لم يوجد أحد وصفي علة ربا الفضل، فيجوز نسيئة، ويجعلونه سلماً لأجل التأخير.
- وأما المالكية فعلة ربا الفضل عندهم الاقتيات والادخار، فجوزوا بيع الخبز بالحنطة متفاضلاً؛ لأنه لا يدخر، لكن علة ربا النسيئة عندهم مجرد الطعم، فيخرج على أنه لا يجوز بيع الخبز بالحنطة نسيئة؛ لأنهما مطعومان.
- وأما الشافعية فعلة ربا الفضل عندهم الطعم، وكذا ربا النسيئة، فيخرج قولهم كقول المالكية.
- وأما الحنابلة فعلة ربا الفضل عندهم الطعم مع الوزن أو الطعم مع الكيل، وواقع أدلتهم في المسألة السابقة أن الخبز عندهم مكيلاً كالحنطة، وعلة ربا النسيئة هي وجود أحد وصفي علة ربا الفضل، وعليه فإن الخبز والحنطة مطعومان مكيلان، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر نسيئة.
والذي يظهر في هذه المسألة أن الخبز عددي، وبخاصة في هذا الوقت، والعددي ليس من أموال الربا
(2)
، والله أعلم.
(1)
البناية، 8/ 296.
(2)
بدائع الصنائع، 5/ 245.
المسألة الثالثة: بيع الكرباس
(1)
بالقطن:
جاء في كتب الحنفية ما يدل على صحة بيع الكرباس بالقطن؛ لاختلاف الجنس باعتبار المقصود والمعيار
(2)
، ولا خلاف فيه، والقطن
(3)
بالغزل يجوز عند محمد؛ لأن الثوب لا ينقض ليعود غزلاً أو قطناً
(4)
، وأبو يوسف منعه للمجانسة
(5)
، والفتوى على قول محمد –رحمهم الله جميعاً-
(6)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
لم أجد ذكراً لهذه المسألة بعينها في كتب بقية المذاهب، والذي يظهر أن سبب إيرادها في كتب الحنفية كون القطن من الأموال الربوية عندهم؛ لأنه موزون
(7)
، وقد سبق في مسألة بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً أن علة ربا الفضل عندهم الكيل مع الجنس أو الوزن مع الجنس
(8)
.
وقد نصوا على أن الثياب ليسب بموزونة، وعليه فيجوز بيع الكرباس الذي هو الثياب المصنوع من القطن بالقطن؛ لأنه بيع غير الموزون، بل بيع العددي بالموزون، فلا علة الربا.
وإذا راجعنا ما قاله فقهاء المذاهب غير الحنفية في علة ربا الفضل نجد أقوالهم تدور حول الادخار والاقتيات أو الطعم أو الطعم مع الكيل أو الوزن، والقطن ليس من هذه أصلاً.
(1)
الكرباس -بكسر الكاف وسكون الراء- ثوب من القطن (الأبيض). ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 4/ 161، تاج العروس، 16/ 432.
(2)
لأن الثوب لا ينقض فيعود قطناً، ولأنه موزون، والثوب غير كذلك. ينظر: النهر الفائق، 3/ 476.
(3)
المثبت في كثير من المراجع بيع الكرباس بالغزل خلافاً لما في الاختيار، وليس بيع القطن بالغزل، والله أعلم. ينظر: رد المحتار، 5/ 180، النهر الفائق، 3/ 476، درر الحكام، 2/ 188.
(4)
مجمع الأنهر، 2/ 87.
(5)
لأن القطن يصير غزلاً ثم يصير كرباسًا، فالغزل أقرب إلى القطن من الكرباس. ينظر: رد المحتار، 5/ 181.
(6)
الاختيار، 2/ 33، ملتقى الأبحر، ص: 123، رد المحتار، 5/ 180 - 181.
(7)
النهر الفائق، 3/ 476.
(8)
الاختيار، 2/ 30، تبيين الحقائق، 4/ 85.
وعليه يمكن القول بجواز بيع الكرباس بالقطن عند المالكية والشافعية والحنابلة تخريجاً
(1)
.
وإذا كان كذلك فهي من مواضع الاتفاق بينهم، والله أعلم.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن إنساناً يملك مزرعة القطن وأراد أن يبيع بعضه في مقابل الثياب الجاهزة المصنوعة من القطن، فإن ذلك جائز، لأن القطن موزون، والثياب عددية، والصناعة غيرتها فلا تشبهه؛ لأنها لا تنقض لتعود قطناً.
- لو أن صاحب محل الخياطة أراد أن يبيع الثياب الشتوية الجاهزة عنده حين حلول الربيع بالغزل أي خيوط القطن، فإن ذلك جائز؛ لما سبق في الصورة الأولى، والله أعلم.
(1)
ينظر: ص: 206، من هذا البحث، هامش رقم:4.
وقد يؤيد ذلك ما قاله بعض الفقهاء في جواز كراء الأرض بثياب القطن والكتان؛ لأن الصنعة غيرتها. ينظر: مواهب الجليل، 5/ 403.
المسألة الرابعة: استقراض الخبز وزناً وعدداً:
الاستقراض من القرض، وهو ما تعطيه من مثلي لتتقاضى مثله
(1)
، وفقهاء الحنفية يقررون بأن الإقراض جائز في كل مكيل وموزون، وكذلك في العدديات المتقاربة مثل البيض؛ لأنها مضمونة المثل، وإنما يختلفون في إقراض الخبز
(2)
، وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المروي عن أبي حنيفة –رحمه الله أن ذلك لا يجوز وزناً ولا عدداً.
والقول الثاني: عند أبي يوسف –رحمه الله أنه يجوز وزناً ولا يجوز عدداً.
والقول الثالث: عند محمد –رحمه الله أنه يجوز عدداً، واستعظم أن يستقرض وزناً
(3)
.
ودليل المنع كونه لا يوقف على حده معناه أنه يتفاوت بالعجن والنضج عند الخبز، ويكون منه الخفيف، والثقيل، وفي كل نوع عرف
(4)
.
وعند أبي يوسف الخبز موزون عادة، والاستقراض في الموزونات وزناً يجوز، ولا يجوز عدداً؛ لأنه متفاوت، فيه الكبير والصغير
(5)
.
(1)
رد المحتار، 5/ 161.
(2)
بدائع الصنائع، 7/ 395.
(3)
ينظر: المبسوط، 14/ 31، بدائع الصنائع، 7/ 395.
(4)
بدائع الصنائع، 7/ 395.
(5)
المبسوط، 14/ 31.
وعند محمد يجوز عدداً؛ لأنه صنع الناس وقد اعتادوه، -وقد استعظم جواز استقراضه وزناً
(1)
لأن القياس فيه ما قاله أبو حنيفة: إنه لا يوقف على حده، وإنما ترك هذا القياس (استحساناً)
(2)
- ولتعارف الناس (ولحاجتهم)
(3)
و (تيسيراً) عليهم
(4)
، وذلك في استقراضه عدداً وبقي استقراضه وزناً على أصل القياس، والفتوى على استقراضه عدداً
(5)
، وقيل أيضاً: عدداً ووزناً
(6)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المسألة: لو أن إنساناً استقرض خبزاً من جاره على أن يرد بدله، فهل يجوز ذلك أم لا؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين رئيسين:
القول الأول: يجوز استقراض الخبز، لكن اختلفوا في كيفية ذلك:
- فمنهم من قال: يجوز وزناً وعدداً، وهو قول الحنفية المفتى به –كما سبق-، والمالكية
(7)
، وقول عند الشافعية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
(1)
ورواية أخرى عنه أنه يرى جواز استقراضه عدداً ووزناً. ينظر: العناية، 7/ 37، تبيين الحقائق، 4/ 95.
(2)
بدائع الصنائع، 7/ 395.
(3)
تحفة الفقهاء، 2/ 17.
(4)
رد المحتار، 5/ 162.
(5)
الهداية، 3/ 65، الاختيار، 2/ 34، المبسوط، 14/ 31 - 32 (بتصرف يسير)، رد المحتار، 5/ 162.
(6)
رد المحتار، 5/ 162. وقيل أيضاً: وزناً لا عدداً كما في شرح الوقاية للمحبوبي (4/ 59)، لكن الشارح أعرض عنه ولم يعلِّق عليه بخلاف بقية المواضع التي فيها ذكر الفتوى، والأولى ما أثبته صاحب رد المحتار، والله أعلم.
(7)
الشرح الكبير، 3/ 53، شرح الزرقاني، 5/ 127.
(8)
المجموع شرح المهذب (تكملة المطيعي)، 13/ 174، نهاية المطلب، 5/ 451 - 452.
(9)
الشرح الكبير على متن المقنع، 4/ 359، ومال إلى أنه راجح عندهم.
- ومنهم من قال: لا يجوز إلا وزناً، وهو رواية عند الحنابلة
(1)
.
- ومنهم من قال: يجوز عدداً في الشيء اليسير، وهو رواية أخرى عند الحنابلة
(2)
.
القول الثاني: لا يجوز استقراض الخبز، وهو الصحيح من مذهب الشافعية
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
استدل أصحاب القول الأول بأدلة، كل بحسب ما تقرر عنده في المسألة، فمن قال بجواز استقراضه وزناً وعدداً استدل بأدلة، منها:
الدليل الأول: العرف، وقد تعارف الناس على ذلك، ولا يقصدون البيع
(4)
.
الدليل الثاني: الحاجة داعية إلى مثل هذه المعاملة
(5)
.
الدليل الثالث: في جوازه توسعة على الناس
(6)
، وفي منعه حرج شديد.
ومن قال بعدم جوازه إلا وزناً استدل بقياسه على الموزونات
(7)
؛ لأن المثلية تتحقق بذلك.
ومن قال بجوازه عدداً بغير وزن استدل بحديث عائشة –رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخميرة والخبز نقرضه الجيران فيردون أكثر أو أقل، فقال:"ليس بذلك بأس إنما هو أمر موافق بين الجيران وليس يراد به الفضل"
(8)
.
(1)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 71، المغني، 4/ 239 - 240.
(2)
المغني، 4/ 239 - 240.
(3)
المجموع شرح المهذب، 13/ 174، نهاية المطلب، 5/ 451 - 452.
(4)
تحفة الفقهاء، 2/ 17، الشرح الكبير، 3/ 53، شرح الزرقاني، 5/ 127.
(5)
تحفة الفقهاء، 2/ 17، المجموع شرح المهذب (تكملة المطيعي)، 13/ 174، نهاية المطلب، 5/ 451 - 452.
(6)
رد المحتار، 5/ 162.
(7)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 71، المغني، 4/ 239 - 240.
(8)
أخرجه ابن الجوزي في التحقيق، 2/ 194، رقم حديث: 1502، وقال ابن عبد الهادي في تحقيق التنقيح (4/ 106):"هذا الحديث غير مخرَّجٍ في شيءٍ من الكتب السِّتَّة، وفي إسناده من تجهل حاله"، وقد ضعَّفه الألباني في الإرواء، 5/ 232.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث دليل على اعتبار العدد في استقراض الخبز والخميرة وليس الوزن، بل اعتبار الوزن في ذلك يشق، والحديث يدل على المسامحة.
وقد يناقش بأن الحديث ضعيف ولم يثبت، فلا تقوم به الحجة.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بمنع استقراض الخبز بتعليل كون ذلك يؤدي إلى مقابلة الخبز بالخبز، وبيانه عندهم على النحو الآتي:"وأما إقراض الخبز وكل ما لا يجوز بيعُ بعضِه ببعض ينبني على أن ما ليس من ذوات الأمثالِ يَضمن المقترض مثلَه أو قيمتَه. فإن ألزمناه القيمةَ، والخبز ليس من ذواتِ الأمثال، فيجوز إقراضه، فإنه ليس فيه مقابلة الخبز بالخبز. وإن قلنا: يضمن المقترض المثل، فهذا يؤدي إلى مقابلة الخبز بالخبز"
(1)
.
قد يناقش بأن الخبز من ذوات الأمثال وتحقق المثلية أمر ممكن؛ لأن الخبز من يخبزه في بيته متقارب في الغالب، وإن كان يجلبه من خارج البيت من المخابز فالمثلية أوضح وأظهر.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وأدلتها يظهر أن القول بجواز استقراض الخبز عدداً ووزناً أقرب، فمن استقرضه وزناً فإنه يرد مثله بالوزن، وإن استقرضه عدداً فإنه يرد مثله بالعدد؛ وذلك لقوة دليل هذا القول، وورود المناقشة على دليل القول الثاني، ولأن الخبز موزون أو عددي، والمثلية فيه متحققة، وخصوصًا الآن مع تطور صناعة الأفران وغيرها من الآلات التي تضمن مثلية الخبز، مع ضرورة التفرقة بين ما يخبز في بيوتات الناس وبين ما يخبز في المخابز العامة، والله أعلم.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو استقرض إنسان من جاره خبزاً خبزه هو في بيته، فعلى القول الثاني لا يجوز ذلك مطلقاً، وعلى الأول يجوز عند من يقول بالعدد؛ لأن ما يخبز في البيت لا يوزن في الغالب ويشق كما مضى، ولو اشتُرِط ردُّ المخبوز في البيت لكان أوفق؛ لاختلاف صناعة البيت من صناعة المخابز.
(1)
نهاية المطلب، 5/ 451 - 452.
وإذا أقرضه خبزاً اشتراه في البقالة، فعلى القول الثاني لا يجوز كذلك، وعلى الأول يجوز عند من قال بالوزن والعدد؛ لأنه يباع بالوزن وبالعدد، وإن كان العدد غالباً على الوزن، ولذلك يجوز أيضاً عند من قال بالوزن فقط أو بالعدد فقط، ولو اشتُرِط أيضاً رد المخبوز في المخابز لكان أوفق لما ذُكر، والله أعلم.
المطلب الرابع: السلم في الخبز:
السلم
(1)
عند الحنفية شراء آجل بعاجل
(2)
-وهو بخلاف القياس؛ لأن الأصل أن يكون العوض حاضراً وقت العقد-، ومعناه بيع عوض موصوف في الذمة إلى أجل معلوم بثمن يُعطى عاجلاً، وعليه فإنه لا بد من قبض رأس المال في مجلس العقد وتأجيل المسلَم فيه أي ما وصف في الذمة، وهو جائز في المكيلات مثل الحنطة والذرة والموزونات كالحديد -غير النقدين؛ لأنهما أثمان، والمسلَم فيه لا يكون إلا مثمناً-، والمعدودات التي لا تتفاوت
(3)
.
وكل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه، وإلا فلا؛ لأنه يصير مجهولاً يفضي إلى المنازعة
(4)
.
والسلم في الخبز من المسائل المختلف فيها لصعوبة ضبط صفته؛ وذلك على قولين:
القول الأول: لا يجوز السلم في الخبز لا وزناً ولا عدداً؛ لأن الخبز يختلف بالعجن والنضج وكيفية الخبز، فمنه الخفيف ومنه الثقيل، ومع التفاوت لا يمكن تجويز السلم فيه، فتبقى الجهالة المفضية إلى المنازعة
(5)
، وهو قول الطرفين
(6)
–رحمهما الله-.
(1)
وهو بمعنى السلف. ينظر: الاختيار، 2/ 33، تبيين الحقائق، 4/ 110.
(2)
رد المحتار، 5/ 209،
(3)
الجوهرة النيرة، 1/ 217.
(4)
الجوهرة النيرة، 1/ 200.
(5)
بدائع الصنائع، 5/ 211.
(6)
ورواية أخرى عن الصاحبين أنه يجوز قياساً على اللحم. ينظر: المبسوط، 14/ 31.
القول الثاني: يجوز وزناً إذا أتى بشرائط السلم
(1)
لحاجة الناس
(2)
، لكن يجب أن يحتاط وقت القبض بقبض الجنس المسمى، حتى لا يصير استبدالاً بالسلم فيه قبل قبضه إذا قبض دون المسمى صفة، وإذا كان كذلك فالاحتياط في منعه؛ لأنه قل أن يأخذ من النوع المسمى خصوصاً فيمن يقبض في كل يوم كذا وكذا رغيفاً، وهو قول أبي يوسف –رحمه الله
(3)
.
وأما عدداً فلا يجوز بالإجماع
(4)
، ومراده إجماع الأئمة الثلاثة من الحنفية، لكن فيه نظر لأنه جاء في رد المحتار مفاده جواز السلم في الخبز عدداً، والفتوى على ذلك
(5)
.
وخلاصة المسألة أن الحنفية يرون جواز السلم في الخبر وزناً وعدداً؛ لأنه صنع الناس وقد اعتادوه
(6)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في جواز السلم في الخبز على قولين:
القول الأول: جواز السلم فيه، وهو قول الحنفية –كما سبق- والمالكية
(7)
، والصحيح من مذهب الشافعية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
(1)
الجوهرة النيرة، 1/ 220.
(2)
المبسوط، 14/ 31، الهداية، 3/ 65، تبيين الحقائق، 4/ 95.
(3)
رد المحتار، 5/ 184.
(4)
بدائع الصنائع، 5/ 211.
(5)
رد المحتار، 5/ 183.
(6)
المبسوط، 14/ 31.
(7)
الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 692، شرح الزرقاني على مختصر خليل، 5/ 397.
(8)
نهاية المطلب، 6/ 44، بلا خلاف، وذكر وجهاً بعيداً في منع السلم في الخبز، وتفصيله في المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 127، حيث قال: "ولا يصح السلم في الخبز، وذلك عند أكثر الأصحاب
…
لتأثير النار فيه تأثيراً لا ينضبط، ولأن ملحه يقل ويكثر، والقول الثاني صححه الشافعي ومن تبعه
…
لأن ناره مضبوطة، والملح غير مقصود، والله أعلم".
(9)
المغني، 4/ 209، الشرح الكبير، 4/ 316.
القول الثاني: لا يجوز السلم في الخبز، وهو وجه عند الشافعية
(1)
.
الأدلة والمناقشات:
استدل أصحاب القول الأول القائل بجواز السلم في الخبز بأدلة، منها:
الدليل الأول: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"
(2)
.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث إباحة السلم في كل مكيل وموزون ومعدود
(3)
.
الدليل الثاني: لأن عمل الناس فيه معلوم بالعادة، ويمكن ضبطه بالنشافة والرطوبة، فصح السلم فيه
(4)
.
الدليل الثالث: العرف، وقد اعتاد الناس على هذه المعاملة
(5)
؛ لعدم الجهالة المفضية إلى المنازعة.
الدليل الرابع: الحاجة داعية إليه
(6)
، وفي منعه حرج شديد.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بعدم جواز السلم في الخبز بأدلة، منها:
الدليل الأول: تأثير النار على ما تمسه لا ينضبط، ومن ذلك الخبز، فالنار تؤثر فيه تأثيراً لا يمكن ضبطه.
يناقش بأن ما مسته النار لا يفارق ما لم تمسه النار إذا انضبط، فتأثير النار يمكن ضبطه.
(1)
المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 127، نهاية المطلب، 6/ 44، العزيز شرح الوجيز، 4/ 417.
(2)
أخرجه البخاري، 3/ 85، كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم، رقم حديث: 2240، ومسلم، 3/ 1226، كتاب المساقاة، باب السلم، رقم حديث: 1604، ونصه:"من أسلف في تمر، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم".
(3)
المغني، 4/ 209، وقد ذكر الدليل ووجهه.
(4)
نهاية المطلب، 6/ 44، المغني، 4/ 209،
(5)
المبسوط، 13/ 31.
(6)
الهداية، 3/ 65، تبيين الحقائق، 4/ 95.
الدليل الثاني: لأن الملح الذي يوضع في الخبز يقل ويكثر.
يناقش بأنه غير مقصود، فلا ينظر إلى ذلك
(1)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الأول أوفق وأقرب لمقاصد الشريعة، وفيه توسعة على الناس، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن صاحب المطعم أسلم في الخبز عند الخباز خمسين رغيف خبز يومياً طوال العام، فعلى القول الأول يجوز؛ لأنه يمكن ضبط صنع الخبز من حيث الحجم والشكل والمكونات، وعلى الثاني لا يجوز ذلك لتأثير النار عليه تأثيراً لا ينضبط.
(1)
المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 127، وقد ذكر الدليلين ووجههما.
المبحث العاشر: ثبوت الوكالة بالقبض وثبوت الوكالة بالخصومة والتقاضي
قد يعجز الإنسان عن التصرف في ماله؛ لقلة خبرته وكثرة انشغاله، أو لكثرة ماله، فيحتاج إلى تفويض التصرف إلى الغير بطريق الوكالة
(1)
، والوكالة تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل
(2)
.
ومسألة ثبوت الوكالة تبين ما يملكه الوكيل من التصرف بموجب التوكيل بعد صحته
(3)
، وفقهاء الحنفية يقولون: إن الوكيل بقبض الدين مثلاً وكيل بالخصومة لأجله
(4)
، والوكيل بالتقاضي في أمور مالية مثلاً يملك قبضها بالإجماع إذا قضى القاضي له؛ لأنه لا فائدة للتقاضي بدون القبض
(5)
، وأما الوكيل بالخصومة فيها فقد اختلفوا في ذلك؛ فعند الأئمة الثلاثة يملك قبضها أيضاً؛ لأن المقصود من الخصومة استيفاء الدين فكان المقصود من الوكالة الاستيفاء فيملكه، ولأن من ملك شيئًا ملك إتمامه وإتمام الخصومة وانتهاؤها بالقبض
(6)
، وعند زفر لا يملك؛ لأن الموكل رضي بخصومته لا بقبضه، وليس كل من يصلح للخصومة يؤتمن على القبض
(7)
.
(1)
المبسوط، 19/ 2، بتصرف يسير.
(2)
بدائع الصنائع، 6/ 19.
(3)
بدائع الصنائع، 6/ 24.
(4)
تبيين الحقائق، 4/ 278، ونسبه إلى أبي حنيفة –رحمه الله.
(5)
الاختيار، 2/ 165، ولم أجد غيره يذكر الإجماع، بل يرده ما جاء في الهداية (3/ 149) أن الوكيل بالتقاضي يملك القبض على أصل الرواية؛ لأنه في معناه وضعاً، إلا أن العرف بخلافه، والعرف قاضٍ على الوضع، والفتوى على أنه لا يملك. قلت: لعله قصد بالإجماع إجماع الأئمة الثلاثة من الحنفية، والله أعلم.
(6)
الهداية، 3/ 149.
(7)
تحفة الفقهاء، 3/ 229، بدائع الصنائع، 6/ 24، الاختيار، 2/ 164 - 165. جاء في العناية، 8/ 106: "لأن الخصومة قول يستعمل في إظهار الحق والقبض فعل حسي".
والفتوى على قول زفر لفساد الزمان وكثرة ظهور الخيانة في الوكلاء
(1)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المسألة
لو أن صاحب عبارة مؤجرة وكل شركة محاماة بالخصومة والتقاضي في قضية استيفاء الديون على بعض سكان عمارته، وإذا قضى القاضي له هل تملك شركة المحاماة قبض الديون أم لا؟
تحرير محل النزاع
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: الوكيل بالخصومة لا يملك قبض الأموال، وهو قول الحنفية المفتى به–كما سبق-، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
القول الثاني: الوكيل بالخصومة يملك قبض الأموال، وهو قول الحنفية المرجوح –كما سبق-، وقول المالكية
(4)
، ورواية عند الحنابلة
(5)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن الوكيل بالخصومة لا يملك القبض بأدلة، منها:
(1)
الاختيار، 2/ 165، الهداية، 3/ 149، مجمع البحرين، ص: 425، البناية، 9/ 289، شرح الوقاية للمحبوبي، 4/ 178، وأكد ما ذكره صاحب الهداية أن الوكيل بالتقاضي لا يملك القبض أيضاً كالوكيل بالخصومة والتعليل واحد: ظهور الخيانة في الوكلاء. قلت: يظهر أن المسألة الخلاف فيها من خلاف العصر والزمان وليس الحجة والبرهان؛ ولذلك قدموا قول زفر على ظاهر الرواية، والله أعلم. ومنهم من ردَّها إلى العرف كما في اللباب، 2/ 150.
(2)
الوسيط في المذهب، 3/ 289، العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير، 5/ 228.
(3)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 138، الإنصاف، 5/ 393، وقال إنه الصحيح من المذهب.
(4)
مواهب الجليل، 5/ 212، ونصهم في حكم الوكالة على الدعوى:"إنه إذا صدقه على الوكالة، وأقر بالدين أُلزم بالدفع إليه"، ولم أجدها إلا عنده.
(5)
الإنصاف، 5/ 393، المبدع في شرح المقنع، 4/ 345.
الدليل الأول: كون الإذن بالوكالة لم يتناوله نطقاً، ولا عرفاً
(1)
.
الدليل الثاني: لأن الموكل رضي بخصومته، ولا يلزم من ذلك رضاه بقبضه.
الدليل الثالث: ليس كل من يصلح للخصومة يؤتمن على القبض
(2)
.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن الوكيل بالخصومة يملك القبض بأدلة، منها:
الدليل الأول: كون الوكيل مأموراً بقطع الخصومة، ولا تنقطع إلا به
(3)
.
قد يناقش بأنه ليس على إطلاقه، بل تنقطع بمجرد إنهائها، والقبض أمر زائد على إنهائها.
الدليل الثاني: لأن المقصود من الخصومة استيفاء الدين فكان المقصود من الوكالة الاستيفاء فيملكه
(4)
.
قد يناقش بأن المقصود من الخصومة ليس استيفاء الدين فحسب، بل هناك أمور معنوية تتحقق قبل استيفاء المال مثل رضا النفس والتعديل، ولو كانت الخصومة لأجل استيفاء المال فقط فإن الاستيفاء أمر زائد على الوكالة، فلا تشمله.
الترجيح:
بعد استعراض القولين يظهر أن القول الأول أقرب؛ لقوة أدلته، وورود المناقشة على أدلة المخالفين، والمسألة لها ثمرة تظهر فيما ذكر من صورتها، فإنه على القول الأول شركة المحاماة لا تملك القبض نيابة عن صاحب العمارة، وعلى القول الثاني تملك ذلك؛ لأن الوكالة تشمل ذلك، والله أعلم.
(1)
المبدع في شرح المقنع، 4/ 345.
(2)
تحفة الفقهاء، 3/ 229، بدائع الصنائع، 6/ 24، الاختيار، 2/ 164 - 165، وقد ذكروا الدليل الثاني والثالث، وله علاقة بفساد الوكلاء وفقدان الأمانة.
(3)
الإنصاف، 5/ 393، المبدع في شرح المقنع، 4/ 345، وهو قريب مما جاء في كتب الحنفية، وقد سبق.
(4)
الهداية، 3/ 149.
المبحث الحادي عشر: في مسائل المزارعة والمساقاة
المطلب الأول: حكم المزارعة:
المزارعة مفاعلة من الزرع والزراعة وهي الحرث والفِلاحَة، وتسمى مخابرة، مشتقة من خيبر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دفع خيبر مزارعة، فسُميت المزارعة مخابرة لذلك، أو من الخيبر وهو الإكَّار، أو من الخُبْرَة –بالضم- وهي النصيب، أو من الخَبَار وهي الأرض اللينة، وتسمى المحاقَلة من الحقل وهو الزرع إذا تشعّب قبل أن يغلظ سوقه أو هو الأرض الطيبة الخالصة الصالحة للزراعة.
(1)
وفي اصطلاح الحنفية عقد على الزرع ببعض الخارج.
(2)
وقد اختلفوا في مشروعيتها على قولين:
القول الأول: إنها مشروعة، وهو قول الصاحبين –رحمهما الله-؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع
(3)
(4)
.
(1)
ينظر: الاختيار، 3/ 74.
(2)
الهداية، 4/ 337، الاختيار، 3/ 74.
(3)
أخرجه مسلم، 3/ 1186، كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما، رقم حديث:1551.
(4)
الاختيار، 3/ 74.
القول الثاني: إنها فاسدة
(1)
، وهو قول أبي حنيفة –رحمه الله بدليل أن النبي –صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة
(2)
وهي المزارعة، ولأن الأجر مجهول أو معدوم، وكل ذلك مفسد، ومعاملة النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر كانت خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز
(3)
.
والفتوى على قول الصاحبين؛ لحاجة الناس إليها
(4)
، ولظهور تعامل الأمة بها، والقياس يترك بالتعامل
(5)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم المزارعة على قولين:
القول الأول: إنها فاسدة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله
(6)
.
(1)
إلا إذا كان البذر والآلات لصاحب الأرض والعامل، فيكون الصاحب مستأجرًا للعامل والعامل للأرض بأجرة ومدة معلومتين، ويكون له بعض الخارج بالتراضي. ينظر: رد المحتار، 6/ 275.
(2)
أخرجه مسلم، 3/ 1174، كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، وعن المخابرة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وعن بيع المعاومة وهو بيع السنين، من حديث جابر بن عبد الله –رضي الله عنه، رقم حديث:1536.
(3)
ينظر: الهداية، 4/ 337، تبيين الحقائق، 5/ 278.
(4)
لأن صاحب الأرض قد لا يقدر على العمل بنفسه، ولا يجد ما يستأجر به. والقادر على العمل لا يجد أرضًا، ولا ما يعمل به. فدعت الحاجة إلى جوازها؛ دفعا للحاجة كالمضاربة. ينظر: الاختيار، 3/ 74 - 75.
(5)
الهداية، 4/ 337، تبيين الحقائق، 5/ 278، ملتقى الأبحر، ص: 140، البحر الرائق، 8/ 181، رد المحتار، 6/ 275.
(6)
رد المحتار، 6/ 275.
القول الثاني: إنها مشروعة، وهو القول المفتى به في المذهب الحنفي -كما سبق-، وقول المالكية
(1)
، وعند الشافعية تبعاً للمساقة المعقودة على النخيل
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أبو حنيفة رحمه الله على فساد المزارعة بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة
(4)
، وهي المزارعة، والأجر فيها مجهول أو معدوم.
نوقش بأن هناك فرقًا بين المخابرة والمزارعة، وهو أن البذر في المزارعة يكون على مالك الأرض وفي المخابرة على العامل
(5)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: استدل أصحاب القول الثاني على مشروعية المزارعة بأن النبي عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع
(6)
.
نوقش بأن معاملة النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر كانت خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز
(7)
.
الدليل الثاني: حاجة الناس داعية إلى ذلك، وفي منعها مشقة عليهم
(8)
.
(1)
التاج والإكليل، 7/ 153، شرح مختصر خليل للخرشي، 6/ 63.
(2)
نهاية المطلب، 8/ 217، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 7/ 277.
(3)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، ص: 403، رقم: 1446، مختصر الخرقي، ص: 79، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 167.
(4)
سبق تخريجه قريبًا.
(5)
شرح النووي على مسلم، 10/ 193.
(6)
سبق تخريجه قريبًا.
(7)
ينظر: الهداية، 4/ 337، تبيين الحقائق، 5/ 278.
(8)
الهداية، 4/ 337، تبيين الحقائق، 5/ 278، ملتقى الأبحر، ص: 140، البحر الرائق، 8/ 181، رد المحتار، 6/ 275.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلة كل قول يظهر أن القول الثاني أرجح؛ لوجود الفرق بين المزارعة والمخابرة، ولما ورد من المناقشة على دليل القول الأول.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو أن إنساناً ملك أرضاً صالحة للزرع، لكن لم يقدر على العمل فيها؛ لانشغاله بوظيفته في شركة ما أو بتجارته، ودفعها إلى عامل؛ ليقوم بالعمل عليها وما يلزم منه مثل البذور والسماد والآلات وغيرهما على أن له نصف الخارج أو ثلثه أو ربعه فإنه مشروع على القول الثاني، بخلاف القول الأول.
المطلب الثاني: اشتراط الأعمال في المزارعة التي ليست منها
قد سبق في المسألة السابقة ذكر أقوال المذاهب الأربعة في مشروعية المزارعة، ويذكرون شروطها مثل التأقيت، وصلاحية الأرض للزراعة، ومعرفة مقدار البذر، ومعرفة جنسه، ونصيب الطرف الآخر، والتخلية بينه وبين الأرض إلخ
(1)
، لكن ينصون على أنه ليس للعامل مطالبة صاحب الأرض بأجرة الحصاد مثلاً، ولو شُرط ذلك على العامل لا يجوز؛ لأن الأصل أنه متى شُرِط في المزارعة ما ليس من أعمالها فسدت؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد، وفيه نفع لأحدهما، فصار كاشتراط الحمل عليه، وكل عمل يُنبت ويزيد في الخارج من أعمال الزراعة واجب على العامل شُرط عليه ذلك أو لم يشرط عليه ذلك كالسفر وغيره، وما لا فلا، وهي ظاهر الرواية
(2)
. وعند أبي يوسف يجوز؛ لأن المزارعة على هذه الشروط متعاملة بين الناس ويجوز ترك القياس بالتعامل، وعليه الفتوى
(3)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة: إذا اتفق صاحب الأرض والعامل على اشتراط الأعمال في المزارعة التي ليست منها مثل الحصاد ونقله، فهل يصح ذلك الشرط أم لا؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يجوز اشتراط الأعمال التي ليست من المزارعة، وهو قول الحنفية – كما سبق-، وقول عند المالكية إذا كان مما تعارف الناس عليه
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
(1)
الاختيار، 3/ 75.
(2)
البحر الرائق، 8/ 186.
(3)
الاختيار، 3/ 78، البحر الرائق، 8/ 186.
(4)
التاج والإكليل، 7/ 153، منح الجليل، 6/ 352.
(5)
نهاية المطلب، 8/ 24، روضة الطالبين، 5/ 159.
(6)
المبدع في شرح المقنع، 4/ 404، الإنصاف، 5/ 485، المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، 1/ 355.
القول الثاني: الشرط غير صحيح، وهو قول عند الحنفية -كما سبق-، وقول آخر عند المالكية
(1)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بصحة اشتراط الأعمال التي ليست من المزارعة بدليل العرف، فإن الناس قد تعارفوا على ذلك
(2)
، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً
(3)
.
دليل القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بعدم جواز اشتراط الأعمال التي ليست من المزارعة بتعليل كونه شرط الجهالة المفضية إلى النزاع
(4)
.
قد يناقش بأن واقع الناس وتعاملهم بهذه المعاملة تنفي الجهالة المفضية إلى المنازعة، ويبقى الشرط صحيحاً.
الترجيح:
بعد استعراض القولين بدليليهما يظهر أن القول الأول أقرب؛ نظراً لعرف الناس في معاملاتهم، والمسألة لها ثمرات عملية تظهر في صورة كثيرة، منها:
- لو أن إنساناً دفع أرضه للعامل أن يزرع القمح على أن الخارج بينهما، وشرطا أن يكون الحصاد ونقله وإحضاره وتجفيفه على العامل، فإن الشرط جائز ولا شيء فيه لتعارف الناس على ذلك.
- ويقال مثل ذلك في غيرها من الزروع والثمار، والله أعلم.
(1)
منح الجليل، 6/ 352.
(2)
الاختيار، 3/ 78، البحر الرائق، 8/ 186، التاج والإكليل، 7/ 153.
(3)
الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص:84.
(4)
منح الجليل، 6/ 352.
المطلب الثالث: حكم المساقاة:
المساقاة من المفاعلة، وهي معاقدة دفع الأشجار إلى من يعمل فيها على أن الثمر بينهما
(1)
، وهي عند فقهاء الحنفية كالمزارعة حكماً وخلافاً وشروطاً إلا المدة، فإنها تصح بلا ذكرها
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المساقاة: لو أن إنساناً دفع شجره إلى العامل ليقوم بسقيه وسائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمره.
وبعد الاطلاع على كتب بقية المذاهب تبين أنها جائزة عند الجميع
(3)
.
(1)
تبيين الحقائق، 5/ 284.
(2)
الاختيار، 3/ 79، بدائع الصنائع، 6/ 185، الهداية، 4/ 343، تبيين الحقائق، 5/ 284، شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 78.
(3)
التهذيب في اختصار المدونة، 3/ 409، الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 766، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 28، الإقناع في الفقه الشافعي، ص: 110، نهاية المطلب، 8/ 5، مختصر الخرقي، ص: 79، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 163.
المبحث الثاني عشر: وقف العقار والمنقول:
الوقف معناه الحبس
(1)
، وفقهاء الحنفية يعرفونه بأنه عبارة عن حبس المملوك عن التمليك من الغير
(2)
، والتصدق بمنفعته
(3)
.
والعين الموقوفة عند الحنفية تنقسم إلى العقار
(4)
والمنقول، ويجوزون صحة وقف العقار
(5)
، ويختلفون في وقف المنقول؛ وذلك على قولين:
القول الأول: إنه يجوز إذا كان تابعاً للعقار (مثل المواقف للمبنى) بالإجماع
(6)
، وهو قول أبي يوسف –رحمه الله
(7)
.
القول الثاني: إنه يجوز وقف كل ما جرى فيه التعامل كالمصاحف والكتب إلخ، بخلاف ما لا تعامل فيه، وهو قول محمد، وعليه الفتوى
(8)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المسألة فيما لو أراد شخص أن يوقف شيئاً يمكن نقله من مكان لآخر مثل الكتب، فهل يجوز ذلك أم لا؟
(1)
المصباح المنير، 2/ 669.
(2)
المبسوط، 12/ 27.
(3)
الاختيار، 3/ 40.
(4)
كل ما دل على ثبات ودوام. ينظر: مقاييس اللغة، 4/ 90.
(5)
وما عثر عن أبي حنيفة –رحمه الله أنه لا يجيز الوقف من أصله فإن مراده ألا يُجعل لازماً، وأما أصل الجواز فثابت عنده، لأنه يجعل الواقف حابسا للعين على ملكه صارفا للمنفعة إلى الجهة التي سماها فيكون بمنزلة العارية والعارية جائزة غير لازمة. ينظر: المبسوط، 12/ 17.
(6)
تبيين الحقائق، 3/ 327.
(7)
الاختيار، 3/ 42.
(8)
الاختيار، 3/ 42 - 43، تحفة الفقهاء، 3/ 378، رد المحتار، 4/ 363، 4/ 390.
تحرير محل النزاع:
اتفقت المذاهب على جواز وقف العقار
(1)
، وبعد الاطلاع على أقوالهم في حكم وقف المنقول تبين أنه جائز عند المالكية في أصل الجواز على جهة خيرية، وإنما يختلفون في وقف المنقول في المعقب أي الذرية وعلى قوم بأعيانهم
(2)
، والقول بالجواز بشرط هو قول الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وذلك من حيث أصل الجواز
(5)
، ومن أدلتهم:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "
…
وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أَدْراعَه وأَعْتُدَه في سبيل الله"
(6)
(7)
.
وجه الدلالة: دل الحديث بمنطوقه ومفهومه على أن خالداً احتبس أي وقف أدراعه وأعتده في سبيل الله، وهي من المنقولات
(8)
.
الدليل الثاني: تعامل الناس بذلك، وهو مما يترك القياس لأجله، والقياس عدم جواز وقف المنقولات؛ لأن منفعتها لا تدوم أو ليست على الدوام
(9)
.
(1)
الاختيار، 3/ 42 - 43، تحفة الفقهاء، 3/ 378، المبسوط، 12/ 17، الشرح الكبير، 4/ 76 - 77، روضة الطالبين، 5/ 314، الإنصاف، 7/ 7.
(2)
الشرح الكبير، 4/ 76 - 77، التوضيح في شرح مختصر بن الحاجب، 7/ 280.
(3)
نهاية المطلب، 8/ 334، الوسيط في المذهب، 4/ 239، روضة الطالبين، 5/ 314.
(4)
الإنصاف، 7/ 7، المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، 1/ 369.
وجاء في الإنصاف ذكر رواية أخرى ومن منع دلالتها وجعل المذهب رواية واحدة. ينظر: الإنصاف، 7/ 7.
(5)
وإلا فقد اختلفوا في تعريف المنقول وما يدل في مسماه عند التطبيق.
(6)
أخرجه البخاري، 2/ 122، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى:{وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله} [التوبة: 60]، رقم حديث: 1468، ومسلم، 2/ 676، كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، رقم حديث:983.
(7)
الهداية، 3/ 17.
(8)
مواهب الجليل، 6/ 21.
(9)
الاختيار، 3/ 42 - 43، تحفة الفقهاء، 3/ 378.
والمسألة لها ثمرات عملية تظهر في صور كثيرة جدًّا، منها:
- لو أن إنساناً أراد أن يوقف المصاحف في المسجد أو الكتب في المكتبة للنفع العام فإنه جائز.
- وكذلك لو أراد أن يوقف الماء في المسجد، أو الورق في حلقات التحفيظ أو الحقائب والأدوات المدرسية للطلاب الفقراء إلخ، فإنه جائز؛ لأنها من المنقولات.
المبحث الثالث عشر: في مسائل الدعوى والشهادة
المطلب الأول: الحقوق التي يجوز فيها اليمين، والحقوق التي لا يجوز فيها:
هذه المسألة ترد في كتب الحنفية في كتاب الشهادات عند ذكر الحقوق التي يستحلف عليها
(1)
المدعى عليه في الخصومات، فلو ادَّعى شخص على آخر في حق معين، ولا بينة عند المدعي، فعلى المدعى عليه اليمين، لكن ما الحقوق التي يجوز فيها اليمين؟
اختلف فقهاء الحنفية في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إن الاستحلاف يجوز في كل ما يجوز فيه القضاء بالنكول أي نكول المدعى عليه؛ فلا يستحلف في الحدود
(2)
؛ لأنه لا يُقضى فيها بالنكول
(3)
، وفي غيرها لا يُستحلف في النكاح والرجعة والفيء وفي الإتلاف والرق والنسب والولاء، وهو قول أبي حنيفة –رحمه الله؛ لأنه لا يجوز القضاء فيها بالنكول، والنكول عنده بمنزلة البدل
(4)
.
(1)
في باب الاستحلاف -على وزن استفعال-، وهو مصدر الفعل السداسي المبدوء بالهمزة الدال على الطلب، ومعناه طلب الحلف، واليمين عند الحنفية في الخصومات لا تكون إلا عند طلب المدعي، ويظهر أنه سبب قولهم الاستحلاف وليس الحلف أو اليمين. ينظر: المبسوط، 16/ 116.
(2)
واللعان، لأنه في معنى الحد. ينظر: الاختيار، 2/ 112.
(3)
يعنى الحدود التي هي لله تعالى خالصاً لا يجوز إقامتها بالإقرار بعد الرجوع، فكيف يقام بالنكول والنكول قائم مقام الإقرار؟ ينظر: المبسوط، 16/ 117.
(4)
أو البذل لدفع الخصومة. ينظر: تبيين الحقائق، 4/ 297، العناية، 8/ 183 - 184.
القول الثاني: يستحلف في هذه الأشياء ويقضى بالنكول، وهو قول الصاحبين، لأن النكول عندهما قائم مقام الإقرار
(1)
الذي فيه شبهة (العدم؛ لأنه ليس بصريح إقرار، بل هو إقرار بطريق السكوت)
(2)
، وهذه الأشياء مما تثبت بدليل فيه شبهة
(3)
، (بخلاف الحدود)
(4)
.
والفتوى على قول الصاحبين؛ لعموم البلوى
(5)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
لو أن إنساناً ادعى على فلان أنه ابنه ولا بينة؛ فهل يحلف المدعى عليه؟ وإذا نكل هل يحكم بالنكول؟
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أنه لا استحلاف في الحدود؛ لأنها حق الله إلا إذا تعلق بها حق الآدمي مثل حد القذف، وأما حقوق الآدميين فإن كانت بمال أو المقصود منه المال فاليمين مشروعة بلا خلاف أيضاً
(6)
، وأما ما ليس بمال ولا المقصود منه المال -وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء- فقد اختلفوا في ذلك على ستة أقوال:
(1)
المبسوط، 16/ 117.
(2)
بدائع الصنائع، 7/ 52، الاختيار، 2/ 112، العناية، 8/ 182؛ لأن الناكل ممتنع عن اليمين الكاذبة ظاهراً فيصير معترفاً بالمدعى دلالة، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين الصادقة إقامة للواجب فكان إقراراً أو بدلاً عنه، إلا أنه إقرار فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
(3)
تحفة الفقهاء، 3/ 183.
(4)
بدائع الصنائع، 7/ 52.
(5)
الاختيار، 2/ 113، مجمع البحرين، ص:747.
(6)
الاختيار، 2/ 112، نهاية المطلب، 18/ 665، المغني، 10/ 213 - 214، وقال في المال:"بلا خلاف بين أهل العلم"، وفي حقوق الله:"لا نعلم في هذا خلافاً"، وجاء في الكافي في فقه أهل المدينة (2/ 923) أن القسامة وأيمان اللعان تستثنى.
القول الأول: اليمين واجبة على المنكر في كل حق سُمعت الدعوى فيه وجازت المطالبة به سواء كان الحق مالًا كالعين والدين أو غير مال من قصاص أو نكاح أو طلاق أو عتق أو نسب، وهو قول الشافعية
(1)
.
القول الثاني: تشرع اليمين في كل حق لآدمي إلا في النكاح والطلاق، وهو الرواية ذكرها بعض الحنابلة
(2)
.
القول الثالث: يستحلف في كل الحقوق التي يجوز فيها القضاء بالنكول
(3)
، وهو قول الحنفية
(4)
.
(1)
الحاوي الكبير، 17/ 146، نهاية المطلب، 18/ 665.
(2)
العدة شرح العمدة، ص:697.
(3)
أي كل ما تصح فيه اليمين مالاً كان أو غيره؛ أما المال فبنقل الإجماع، وأما غير المال فبتحقيق القول الذي عليه الفتوى في المذهب.
(4)
بدائع الصنائع، 7/ 52، الاختيار، 2/ 112، العناية، 8/ 182.
القول الرابع: كل دعوى لا تثبت إلا بشاهدين
(1)
لا يحلف (أو لا يمينَ) فيها بمجردها -أي لا بد من شاهد واحد على الأقل-
(2)
دون الخلطة المتصلة
(3)
، وهو قول المالكية
(4)
.
القول الخامس: يستحلف في الطلاق، والقصاص، والقذف فقط، وهو الرواية الثانية عند الحنابلة
(5)
.
القول السادس: لا يستحلف فيها
(6)
، وهي ظاهر المذهب عند الحنابلة
(7)
.
(1)
قالوا: "ما ليس بزنى ولا مال ولا آيل إليه -كالنكاح، والرجعة، والطلاق، والعتق، والإسلام، والردة، والبلوغ، والولاء، والعدد، والجرح والتعديل، والعفو عن القصاص، وثبوته، والنسب، والموت، والكتابة، والتدبير- شرطه: اثنان ذكران". ينظر: جامع الأمهات، ص:474. ويفهم من ذلك أن ما كان أعلى منه مثل شهود الزنا أنه لا يمينَ بمجرد الدعوى أيضاً؛ لأنه من الحدود، وأن ما دونه من المال وما يؤول إليه مما يكون فيه الشاهد واليمين عند النكول، فإن المدعى عليه يحلف بمجرد الدعوى بلا بينة، وإن نكل فتُرد اليمين على المدعي. ينظر: التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 8/ 49، الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 911. وعند الحنابلة القصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء. ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 266، المغني، 10/ 213 - 214.
(2)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 255، الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 911، وذلك في أمور الطلاق والعتق، وبعضهم يضيف القذف. إلا النكاح فلا بد من شاهدين؛ لأن النكاح لشهرته لا يكاد يخفى على الأهل والجران، فالعجز عن إقامة شاهدين به قرينة على كذب مدعيه. شرح مختصر خليل للخرشي، 7/ 214.
(3)
البيان والتحصيل، 9/ 289، 9/ 291، والخلطة عندهم الأخذ والعطاء أي المبايعة والمداينة، ولو مرة واحدة كما في التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 8/ 48.
(4)
الذخيرة، 11/ 58، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 8/ 49، الكافي في فقه أهل المدينة، 3/ 921.
(5)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 266،
(6)
أي في القصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء.
(7)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 266.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن اليمين تثبت في كل حق سمعت فيه الدعوى وجازت المطالبة به بأدلة، منها:
الدليل الأول: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"
(1)
.
وجه الدلالة: الحديث بعمومه يدل على أن اليمين تثبت في كل دعوى أنكرها المدعى عليه.
الدليل الثاني: كل دعوى لزمت الإجابة عنها وجبت اليمين فيها، كالقصاص.
قد يناقش بأن القصاص محل النزاع، فلا يستدل به على نقطة الخلاف.
الدليل الثالث: حقوق الآدميين لا يمتنع فيها استحقاق اليمين اعتباراً بسائر حقوقهم
(2)
.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل على الاستحلاف في كل حقوق الآدميين إلا النكاح والطلاق بأدلة، منها:
الدليل الأول: لأن هذا مما لا يحل بدله فلم يستحلف فيه كحقوق الله –سبحانه وتعالى.
(1)
أخرجه الترمذي، 3/ 618، أبواب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، رقم حديث: 1342، الجزء الأول منه، وقال:"هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم: أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"، وذكر البخاري معناه في صحيحه، 3/ 143، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، وصححه الألباني في الإرواء، 8/ 279.
(2)
الحاوي الكبير، 17/ 146، فقد ذكر الأدلة، ووجه أولها.
قد يناقش بأن قياسها على حقوق الله أي الحدود قياس مع الفارق؛ لأن الحدود تُدرأ بالشبهات، والبدل -وهو النكول- فيه شبهة، وأما النكاح والرجعة فيثبتان بدليل فيه شبهة
(1)
.
قد يجاب بأن النكول ليس بحجة قوية؛ لأنه يحتمل أن يكون بسبب الخوف من اليمين أو بسبب الجهل بحقيقة الحال
(2)
.
الدليل الثاني: ولأن الأبضاع مما يحتاط لها فلا تستباح بالنكول
(3)
(4)
.
قد يناقش بأن الاحتياط يكون في مسائل غامضة، وهو من الاجتهاد، وأما مع وجود النص فلا اجتهاد.
ثم أصل المسألة حديث ابن عباس –رضي الله عنهما، وهو عام لم يخصص، فيبقى على عمومه.
الدليل الثالث: قد يستدل لهذا القول بأن النكاح خاصة لا يستحلف فيه المدعى عليه؛ لاشتهار أمر النكاح بين الجيران والأهل، فمن عجز عن الإتيان بالشهود على أن فلانة زوجته فإنما ذلك دلالة على كذب ما ادعاه
(5)
.
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب القول الثالث القائل بأن الاستحلاف يكون في كل حقوق يجوز فيها القضاء بالنكول بأدلة، منها:
(1)
بدائع الصنائع، 6/ 227، ووجهه:"أن نكول المدعى عليه دليل كونه كاذبا في إنكاره لأنه لو كان صادقا لما امتنع من اليمين الصادقة فكان النكول إقرارا دلالة إلا أنه دلالة قاصرة فيها شبهة العدم وهذه الأشياء تثبت بدليل قاصر فيه شبهة العدم".
(2)
العدة شرح العمدة، ص:697.
(3)
قلت: ذكره النكول هنا قرينة قوية لتشابه هذا القول بقول الحنفية؛ لأنه أثبت القضاء بالنكول في غير المذكور، والله أعلم.
(4)
العدة شرح العمدة، ص: 697، وقد ذكر الدليلين.
(5)
شرح مختصر خليل للخرشي، 7/ 214.
الدليل الأول: كون هذه الحقوق مما يجوز فيها القضاء بالنكول، والنكول عن اليمين إقرار فيه شبهة، وهذه الأمور تثبت بدليل فيه شبهة
(1)
.
يناقش بأنه ليس بحجة قوية؛ لأنه سكوت مجرد يحتمل أن يكون للخوف من اليمين، ويحتمل أن يكون للجهل بحقيقة الحال، ويحتمل أن يكون لعلمه بصدق المدعي، ومع هذه الاحتمالات لا ينبغي أن يقضي به فيما يحتاط له
(2)
.
قد يجاب بأنه ليس مجرد سكوت، بل يجوز أن يقول إنه ناكلٌ، وفي قوله هذا تنتفي احتمالات الخوف أو الجهل بحقيقة الحال.
الدليل الثاني: عموم البلوى
(3)
، ولعل مراده انعدام البينة غالباً في تلك الحقوق
(4)
.
دليل القول الرابع:
لم أجد أصحاب القول الرابع -القائل بأن كل دعوى لا تثبت إلا بشاهدين لا يحلف فيها بمجردها- يذكرون دليلهم، لكن يمكن استخلاصه من القول نفسه؛ فإنهم ذكروا شرطي الدعوى التي يستحلف فيها، وهما وجود شاهد واحد وخلطة، وفي ذلك دليل على أن قول المدعي ليس دعوى مجردة، فيحلف المدعى عليه ليرد التهمة عن نفسه، وأما مجرد الدعوى فلا نهاية لها.
دليل القول الخامس:
كذلك لم أجد أصحاب هذا القول يذكرون دليلهم، لكن قد يستدل على قولهم بعموم البلوى؛ لأن الطلاق والقصاص والقذف من الأمور التي يصعب الإتيان بالبينة فيها مع كثرتها بخلاف النسب والنكاح والرق.
(1)
تحفة الفقهاء، 3/ 183، بدائع الصنائع، 7/ 52.
(2)
العدة شرح العمدة، ص:697.
(3)
الاختيار، 2/ 113، مجمع البحرين، ص:747.
(4)
إن صح تعليله به فهو دليل القول الأول أيضًا.
دليل القول السادس:
استدل أصحاب القول السادس القائل بعدم الاستحلاف في الحقوق المذكورة بالقياس؛ فقد قاسوها على حقوق الله –سبحانه وتعالى بجامع أنها لا يدخلها البدل
(1)
.
قد يناقش بأنها من الحقوق التي يقضى فيها بالنكول، والنكول بدل.
ثم قياس حقوق الآدميين على حقوق الله تعالى قياس مع الفارق؛ لأن حقوق الله مثل الحديد تدرأ بالشبهات، وأما هذه فتثبت بدليل فيه شبهة.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال يظهر أن القول الأول القائل بجواز الاستحلاف في كل الحقوق أوفق وأقرب؛ لقوة دليله، ولورود المناقشة على أدلة الأقوال الأخرى، إلا أن من أخرج النكاح لاشتهاره له حظ من النظر.
والمسألة لها ثمرة علمية تظهر في صور كثيرة –وقد سبق ذكر بعضها-، منها:
- لو أن إنساناً ادعى على الآخر في حق مالي، ولا بينة، وأنكر المدعى عليه فإنه سيحلف بالاتفاق.
- ولو ادعى على شخص على أنه شرب الخمر فلا يستحلف المدعى عليه بالاتفاق، لأنه من الحدود.
- لو أن إنساناً ادعى على فلانة أنها زوجته، ولا بينة وأنكرت، فإنها تحلف على القول الأول والثالث، ولا تحلف على بقية الأقوال.
- ولو ادعى على فلان أنه ابنه، ولا بينة وأنكر المدعى عليه، فإنه سيحلف على القول الأول والثاني والثالث والرابع إذا كان معه شاهد واحد مع الخلطة، والخامس أيضاً، ولا يستحلف على القول السادس.
(1)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 266.
المطلب الثاني: الاقتصار على ظاهر العدالة في الشاهد المسلم:
مسألة عدالة الشاهد المسلم تذكر في كتاب الشهادات عند بيان مراتب الشهادة، وفقهاء الحنفية قد اختلفوا فيها على قولين:
القول الأول: يكتفى ويقتصر في المسلم على ظاهر عدالته
(1)
إلا في الحدود والقصاص؛ (لأنه يحتال لإسقاطها، ولأن الشبهة بها دارئة)
(2)
، فإن طعن فيه الخصم سأل القاضي عنه، وهذا عند أبي حنيفة –رحمه الله
(3)
.
القول الثاني: يسأل القاضي في جميع الحقوق سراً وعلانيةً
(4)
؛ صيانةً لحكم القاضي من النقض، وهو قول الصاحبين
(5)
.
ويظهر أن الخلاف خلاف تنوع أو أنه خلاف لفظي غير حقيقي؛ لأن أبا حنيفة أفتى في زمان كانت العدالة في الشهود ظاهرة، والنبي –صلى الله عليه وسلم قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"
(6)
، واكتفى بتعديل النبي –صلى الله عليه وسلم، وفي زمانهما فشا الكذب فاحتاجا إلى السؤال، ولو كانا في زمانه ما سألا، ولو كان في زمانهما لسأل، والفتوى على قولهما لفساد أهل الزمان وقلة مبالاتهم بالأمور الدينية
(7)
.
(1)
وهي عند الحنفية عدالة الإسلام. ينظر: تبيين الحقائق، 4/ 210. وعند المالكية مثلاً شهوده الصلوات في المساجد، وألا يعرف بأمر قبيح. ينظر: المختصر الفقهي لابن عرفة، 9/ 253. قلت: الفرق بينهما واضح، فلو أسلم شخص ثم شهد فإن شهادته مقبولة عند الحنفية، ولا تقبل عند المالكية حتى يُعلم بإتيانه الأعمال الظاهرة المشروعة مثل الصلاة، ويُعلم أيضاً بتجنبه الأعمال الظاهرة المنهية مثل المعاصي، والأول بعيد، والثاني قريب جداً من عدالة الباطن؛ لقوة العدالة الظاهرة واشتهارها، والله أعلم.
(2)
الهداية، 3/ 118.
(3)
المرجع السابق.
(4)
قلت: وهو في الحقيقة معرفة عدالة الشاهد باطناً بعد أن عرفها ظاهراً.
(5)
الهداية 3/ 118.
(6)
أخرجه البخاري، 3/ 171، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم حديث:2652.
(7)
الاختيار، 2/ 142، مجمع البحرين، ص:769.
ويظهر أن اختلافهم في هذه المسألة اختلاف عصر وزمان وليس حجة وبرهان، ومن هذا الباب قُدم قول الصاحبين على قول الإمام، والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
لو جاء إلى القاضي شاهد مسلم ظاهر العدالة ليشهد في قضية معينة؛ فهل يكتفى بهذا الظاهر منه للحكم بعدالته، ومن ثم قبول شهادته أو أنه يتعين على القاضي السؤال عنه؟
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن السؤال عن حال الشهود إذا طُعنوا من قبل الخصم يتعين على القاضي
(1)
، واختلفوا فيما لو لم يطعن فيه وعدالته ظاهرة على قولين:
القول الأول: على القاضي أن لا يقبل شهادة الشاهد حتى يسأل عن حال الشاهد، وهو القول المفتى عند الحنفية –كما سبق-، والشافعية
(2)
، والمالكية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: للقاضي أن يقبل شهادة الشاهد بظاهر العدالة من غير أن يسأل عن عدالته باطناً حتى يطعن فيه خصمه، وهو القول المرجوح في المذهب الحنفي –كما سبق-، ورواية أخرى عن مالك، لكن فيما يقع في الأسفار بين المسافرين من المعاملات والتجارات
(5)
، ورواية أخرى عن أحمد
(6)
.
(1)
الاختيار، 2/ 142، مجمع البحرين، ص: 769، الحاوي الكبير، 16/ 179، منح الجليل، 8/ 387، الشرح الكبير، 28/ 477.
(2)
الحاوي الكبير، 16/ 179، جواهر العقود، 2/ 291 - 292.
(3)
البيان والتحصيل، 10/ 80، منح الجليل، 8/ 387، المختصر الفقهي لابن عرفة، 9/ 253.
(4)
المغني، 10/ 57، الشرح الكبير، 28/ 477.
(5)
البيان والتحصيل، 10/ 80، منح الجليل، 8/ 387، المختصر الفقهي لابن عرفة، 9/ 253، وهو قول الحسن ومذهب الليث بن سعد.
(6)
المغني، 10/ 57، الشرح الكبير، 28/ 477.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بعدم قبول شهادة الشاهد حتى يسأل عنه بأدلة، منها:
الدليل الأول: على القاضي أن يحتاط في حكمه صيانة له عن النقض، وذلك سؤال السر والعلانية
(1)
.
قد يناقش بالنصوص الشرعية الدالة على أن سلف الأمة اكتفى بظاهر العدالة لقبول شهادة الشاهد
(2)
، وأن الاحتياط من نقض الحكم أمر زائد على الأصل.
ثم ظاهر العدالة أمر متحقق بخلاف نقض الحكم فإنه محتمل.
الدليل الثاني: عموم البلوى، وهو ما علَّل به فقهاء الحنفية من فساد أهل الزمان وقلة المبالات بالأمور الدينية
(3)
.
قد يناقش بأن الدليل نسبي، وينتفي بانتفاء فساد الشهود وكذبهم.
فلو انتشر العلم والصدق والعدل في مجتمع من المجتمعات، فإنه يقال بقبول الشهادة لمجرد العدالة الظاهرة.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بقبول شهادة الشاهد بظاهر عدالته ولا يسأل عنه حتى يطعن فيه الخصم بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]
(4)
.
(1)
الاختيار، 2/ 142.
(2)
وهي أدلة القول الثاني.
(3)
الاختيار، 2/ 142.
(4)
تبيين الحقائق، 4/ 210.
وجه الدلالة: قوله (وسطاً) أي عدلاً
(1)
، فدلت الآية على أن المسلمين عدول، ورتب على ذلك قبول شهادتهم على بقية الأمم
(2)
.
الدليل الثاني: حديث: "المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد أو مجرباً في شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو قرابة"
(3)
(4)
.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث يدل على أن المسلمين عدول بدليل الاستثناء، فلو لم يكونوا عدولاً فلا فائدة من الاستثناء.
قد يناقش بأن الحديث ضعيف فلا تقوم به الحجة، ولو صح فإنه يُحمل على من ثبت عدالتهم.
الدليل الثالث: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الهلال، قال:"أتشهد أن لا إله إلا الله، أتشهد أن محمدًا رسول الله"، قال: نعم، قال:"يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غدًا"
(5)
(6)
.
(1)
تفسير القرطبي، 2/ 155، تفسير ابن كثير، 1/ 455.
(2)
بدائع الصنائع، 6/ 270، بتصرف يسير.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 10/ 262، كتاب الشهادات، باب من قال: لا تقبل شهادته (أي القاذف)، رقم حديث: 20572، وقال:"وهذا إنما أراد به قبل أن يتوب"، والحديث الذي قبله في الباب نفسه (20571):" ألا، لا تجوز شهادة الخائن، ولا الخائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا الموقوف على حد"، ثم قال معلقاً عليه:"لا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعتمد عليه"، وفيه الحكم على الحديث الأول ضمناً، فلا يصح عنده، والله أعلم.
(4)
اللباب في شرح الكتاب، 4/ 57.
(5)
أخرجه أبو داود، 2/ 302، كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان، رقم حديث: 2340، والترمذي، 3/ 65، أبواب الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة، رقم حديث: 691، وذكر أن الحديث مختلف فيه، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، والحديث ضعَّفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ص:74.
(6)
اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 43.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث يدل على أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي لمجرد إسلامه.
قد يناقش بأنه كان صحابياً، وهو قدر زائد على مجرد الإسلام، والصحابة عدول، والكذب مأمون من قبلهم
(1)
.
الدليل الرابع: كون العدالة هي الأصل؛ لأن الإنسان يولد غير فاسق، والفسق مظنون، فلا يجوز ترك الأصل بالظن
(2)
.
قد يناقش بأن العدالة ليست أصلاً، بل الأصل ظلم وجهل، كما قال تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].
الدليل الخامس: كون العدالة أمراً خفياً سببها الخوف من الله، ودليل ذلك الإسلام، فإذا وُجد فليكتفِ به ما لم يقم دليل على خلافه
(3)
.
قد يناقش بأن الدليل الأدنى للعدالة هو مجرد الإسلام وهو كافٍ في مجتمع مسلم يسود فيه العلم والعدل، لكن إذا كثر فيه الظلم والجهل احتجنا إلى الدليل الأقوى على العدالة، ويحصل ذلك بالسؤال عن حال الشهود.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن كلا القولين لهما حظ من النظر، والذي يظهر أنه يمكن الجمع بينهما بحيث يرجح القول الثاني في مجتمعات انتشر فيها العلم والعدل ولم يظهر على الناس فساد، ويرجح القول الأول عند خلاف ذلك.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة تتعلق بشهادة الشهود، منها:
(1)
فتح الباري لابن حجر، 6/ 499، وقد ذكر الجزء الثاني من المناقشة أي أن الصحابة عدول وما بعدها.
(2)
الاختيار، 2/ 142.
(3)
المغني، 10/ 57.
- لو أن إنساناً ادعى على آخر أن له عنده عشرة آلاف ريال وأتى بشاهدين ظاهرهما العدالة، ويبدو عليهما الصلاح، فعلى القول الأول على القاضي أن يتحقق من عدالتهم باطناً أيضًا بسؤال عنهما، وعلى الثاني يكتفي بالعدالة الظاهرة ويقبل شهادتهما، وعلى ما رجحته ينظر القاضي إلى حال المجتمع الذي يقضي فيه، فإن كان مجتمعاً صالحاً فإنه سيكتفي بالعدالة الظاهرة، وإلا فيتعين السؤال، والله أعلم.
المبحث الرابع عشر: في مسائل القضاء
المطلب الأول: الحقوق التي يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي:
هذه المسألة من أهم المسائل في كتاب القضاء
(1)
؛ لأن القاضي يحكم والعين المدعى بها في بلده، ولو كانت في غير بلده فإنه يكتب إلى قاضي تلك البلد فيما ثبت عنده ليحكم به القاضي المكتوب له أو لينفذ ما قد حكم به القاضي الكاتب.
ويتبين من ذلك أن المراد بالمسألة محل القضاء بكتاب القاضي، وفقهاء الحنفية قد اتفقوا على أن كتاب القاضي يقبل في كل حق إلا في المنقولات –للحاجة إلى الشهادة بالإشارة- وما يسقط بالشبهة كالحدود والقصاص
(2)
، وعند محمد يُقبل في جميع المنقولات، والفتوى عليه للحاجة إلى ذلك
(3)
، والمنقول يمكن تعريفه بأوصافه ومقداره وغير ذلك
(4)
، فعاد القول إلى أنه يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في جميع الحقوق إلا في الحدود والقصاص.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
لو ادعى شخص على شخص في حق من الحقوق، وأتى ببينة والمدعى عليه ينكر، وقد ثبتت الدعوى عند القاضي، فكتبها مع شهادة الشهود، ثم دفع القضية إلى القاضي المكتوب له ليقضي فيها؛ فما الحقوق التي يجوز فيها كتاب القاضي إلى الآخر؟
وكذا لو حكم فيها ثم دفعها إلى القاضي المكتوب له لينفذ حكمه.
(1)
وقيل: إنها ليست من كتاب القضاء؛ لأنها إما نقل شهادة أو نقل حكم، وكل ذلك ليس منه، وإنما أوردوها فيه؛ لأنها من عمل القضاة، فكان ذكرها فيه أنسب. ينظر: تبيين الحقائق، 4/ 182.
(2)
ينظر: الاختيار، 2/ 91.
(3)
الاختيار: 2/ 91.
(4)
ينظر: الاختيار، 2/ 91، المبسوط، 16/ 95، تبيين الحقائق، 4/ 128، وذكروا أنه استحسان والقياس أنه لا يجوز، لأن كتاب القاضي فيه شبهة البدلية، والحدود والقصاص يدرآن بالشبهة، أو لأن كتابه بمنزلة الشهادة على الشهادة، وهي لا تُقبل في الحدود والقصاص.
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في مسألة الحقوق التي يُقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي على قولين:
القول الأول: يجوز كتاب القاضي إلى القاضي في كل الحقوق إلا الحدود والقصاص، وهو قول الحنفية المفتى به، وهو مذهب الحنابلة
(1)
.
القول الثاني: يجب على القاضي المكتوب له قبول ما يرد إليه عن القاضي الكاتب في المال والقصاص والعقوبات والعفو وغيرها إن كان القاضي الكاتب أهلاً للقضاء، وكذا رده إن كان غير أهل، وهو قول المالكية
(2)
، وهو قول الشافعية كذلك
(3)
(4)
، وتفصيله على النحو الآتي:
يقبل كتاب القاضي في كل حق تقبل فيه الشهادة على الشهادة، وهي مقبولة في كل حق مالي لله وللآدميين، وأما العقوبات فحاصل مذهبهم ثلاثة أقوال:
- لا يثبت شيء من العقوبات بالشهادة على الشهادة؛ لأن مبناها على الدرء،
- يثبت القصاص دون العقوبات التي هي من حق الله، وحد القذف جارٍ مجرى القصاص.
(1)
العدة شرح العمدة، ص: 675، الإقناع، 4/ 407، الإنصاف، 11/ 321.
(2)
جامع الأمهات، ص: 467، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 7/ 449.
(3)
لأن كون القاضي أهلاً للقاضي أصل في المسألة، واشتراط الأصل لا فائدة منه، ولأنه تصوره صعب، ووجوده نادر، ثم عند إزالة أهلية القاضي يذكرون الجنون والإغماء والغفلة ونسيان يخل بالضبط وفسق ونحوهما. ينظر: حاشية الجمل، 5/ 340. قلت: الذي يظهر أن المراد من قولهم: (أهلاً للقضاء) أي في لحظة كتابة الكتاب، وإلا فما ذكروه من إزالة الأهلية عوارض لا تثبت، والله أعلم.
(4)
إلا أنهم فرقوا بين ما ثبت عند القاضي الكاتب وبين ما حكم به لينفذه القاضي المكتوب له؛ فما حكم به فيقبل بغض النظر عن المسافة؛ لأن ما حكم به يلزم كل أحد إمضاؤه، وأما ما ثبت عنده فلم يجز قبوله إذا كانت بينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة. ينظر: المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 401.
- قياس العقوبات على المال فتثبت بالشهادة على الشهادة، وحاصل المذهب أنه يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل الحقوق من الأموال والحدود والقصاص
(1)
.
وهو رواية أخرى عند الحنابلة يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق تقبل الشهادة على الشهادة
(2)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن كتاب القاضي يقبل في كل حق إلا الحدود والقصاص بأدلة، منها:
الدليل الأول: حدود الله –سبحانه وتعالى مبنية على الستر والدرء بالشبهات، والإسقاط بالرجوع عن الإقرار بها، والشهادة على الشهادة لا تخلو من الشبهة
(3)
.
قد يناقش بأن الشبهة يمكن إرجاعها إلى التزوير أو شبهة البدلية، فأما التزوير فالشبهة تقوى وتضعف بحسب تغير الأزمان والأعراف، وأما شبهة البدلية –وهي كون كتابه ينقل شهادة الأصول كما أن الفروع ينقلون بشهادتهم شهادة الأصول- فهي ضعيفة؛ لأن الكتاب موثق ومختوم، وأما الشهادة المجردة بالكلام قد تتأثر بالنسيان وتتغير بالقدرة على الكلام.
(1)
الحاوي الكبير، 11/ 147، نهاية المطلب، 18/ 533، 19/ 35 - 36، والوسيط في المذهب، 7/ 331 - 332، المجموع (تكملة المطيعي)، 20/ 268، وأجملها الماوردي في الإقناع (ص: 203): "وتجوز الشهادة على الشهادة بكتاب القاضي في كل حق للآدميين مالاً أو حدًّا أو قصاصًا"، وبها أخرج حقوق الآدميين من كونها مالاً فقط. وجاء في الحاوي الكبير (11/ 147) ما يؤيد قول الماوردي في الإقناع بأن قول الشافعية في المسألة قبول كتاب القاضي في الحقوق كلها من الأموال والحدود والقصاص، والله أعلم.
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 289، الشرح الكبير على متن المقنع، 11/ 468، الإنصاف، 11/ 321، وخلاصة المذهب أن كتاب القاضي مقبول في الأموال بالاتفاق، والحدود على روايتين، وما عدا ذلك يخرّج على الحدود، فمن منع الحدود منع غيرها، وإلا فلا.
(3)
العدة شرح العمدة، ص: 675 - 676.
ثم لو اعتبر كتاب القاضي شهادة الفرع على شهادة الأصل، فالقاضي فرع قريب جدًّا من الأصل؛ لأنه لازم القضية من أولها إلى آخرها ويعرف تفاصيلها بدقة، فقياس كتابه على شهادة الفرع قياس مع الفارق، وعليه فشبهة البدلية هنا ضعيفة، ولا يلتفت إليها.
الدليل الثاني: من أتى ما يوجب لله –سبحانه وتعالى حدًّا فعليه أن يستره، ومن لزمه حق الآدميين فعليه أن يظهره، فذلك وجب الاستظهار في حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى
(1)
.
قد يناقش بأنه لا يتصور إلا إذا كان كتاب القاضي ينقل الشهادة، وأما إذا كان ينقل الحكم فلا؛ لأن الاستظهار في الحكم يحصل شرعاً ولا بد، وذلك بإقامة الحد بحضور طائفة من المؤمنين، وأما ما يتعلق بنقل الشهادة –وهو موضع الدليل- فالاستظهار قد حصل برفع القضية إلى القاضي.
ثم كتاب القاضي إلى القاضي من أمور الضبط والاستيثاق، والحكم يترتب عليه وقد يتوقف عليه، وهذا شامل في كل الحقوق، فاعتباره في الحدود كاعتباره في الأموال.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن كتاب القاضي يقبل في كل الحقوق بأدلة، منها:
الدليل الأول: كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، فيثبت كسائر الحقوق أو كالشهادة على الأموال
(2)
، ومعناه أن كتاب القاضي لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة
(3)
.
الدليل الثاني: قياس الحدود على الأموال بجامع أنها حقوق، فكما تقبل الشهادة على الشهادة في الأموال فلتقبل في الحدود، وكتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة
(4)
.
(1)
الحاوي الكبير، 11/ 147.
(2)
العدة شرح العمدة، ص:675.
(3)
الشرح الكبير على متن المقنع، 11/ 468.
(4)
نهاية المطلب، 18/ 533، 19/ 35 - 36.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني أقرب؛ لقوة دليله، والرد على دليلي القول الأول، ولأن كتاب القاضي من الوسائل التي تتبدل صورها بتغير الأزمان، ومن هنا قبلت أنظمة المرافعات المعاصرة؛ لأنها كلها تعود إلى الضبط ولا تنافي النصوص الشرعية، وما دام عُرف أن الكتاب صدر من القاضي فلان حقيقةً ووصل إلى القاضي المكتوب له حقيقةً فيعمل بما فيه من نقل الشهادة أو الحكم وفي كل الحقوق.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة، منها:
- لو أن قاضياً كتب الكتاب إلى قاضٍ في منطقة أخرى يذكر فيه ما ثبت عنده من دعوى فلان على فلان في حق مالي وشهادة الشهود، ويطلب منه الحكم في ذلك، فيقبل عند الجميع؛ لأنه حق مالي، لكن لو كان الطلاق فيقال بالتفصيل: يجوز عند الحنفية؛ لأنه ليس بحد ولا قصاص، وعند الحنابلة على رواية، وعند المالكية يجوز أيضاً لأن القاضي الكاتب أهل للقضاء، وعند الشافعية على الصحيح عندهم.
- ولو أن قاضياً كتب ذلك في حد من حدود الله، وأنه حكم على فلان ويطلب من القاضي المكتوب له أن ينفذ الحكم، فلا يقبل على القول الأول بخلاف الثاني.
المطلب الثاني: إذا قضى القاضي في المجتهد فيه مخالفاً لرأيه:
هذه المسألة متصوَّرة فيما لو حصل من القاضي المجتهد أن يقضي في المسائل الاجتهادية بما يخالف رأيه فيها ناسياً مذهبه، عمداً أو من غير عمد، فهل ينفذ حكمه والحالة هذه
(1)
؟
وفقهاء الحنفية قد اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: ينفذ حكمه، وإذا كان عامداً فعنه روايتان، ودليل النفاذ أنه ليس بخطأ متيقن، وهو قول أبي حنيفة
(2)
.
القول الثاني: لا ينفذ في الوجهين؛ لأنه قضى بما هو خطأ عنده، وهو قول الصاحبين
(3)
.
والفتوى على قولهما، وقيل: على قول الإمام
(4)
.
(1)
قلت: ظاهره يدل على القضاء من غير اجتهاد منه، وعليه لو اجتهد فقضى بما يخالف اجتهاده السابق فينفذ، والله أعلم.
(2)
الهداية، 3/ 107.
(3)
الهداية، 3/ 107.
(4)
الهداية، 3/ 107، مجمع البحرين، ص: 742، وقيل: إن الفتوى على النفاذ كما في تبيين الحقائق، 4/ 189، وأكثرهم على الأول. جاء في رد المحتار (5/ 407) ما يؤيد القول بالنفاذ، ووجهه أن القاضي المجتهد اجتهد، فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير، وقد حمل الخلاف على هذا. وجاء أيضًا (5/ 408) ما يدل على أن تغير الزمان له أثر في ذلك، فقال:"فقد اختلف في الفتوى والوجه في هذا الزمان أن يفتى بقولهما؛ لأن التارك لمذهبه عمداً لا يفعله إلا لهوى باطل لا لقصد جميل، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره هذا كله في القاضي المجتهد، فأما المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة، فلا يملك المخالفة، فيكون معزولاً بالنسبة إلى ذلك الحكم". قلت: هذا يندفع بما قاله بعضهم: إنه قضى باجتهاد جديد، فلا يؤثر فيه نسيان الاجتهاد السابق، ومن قال بالمنع فلأنه قضى بما يراه خطأ، لكن الاجتهاد الجديد ينافي ذلك، وقد قضى بما يراه صواباً، وأما العمد فبعيد، وفيه إساءة للقضاة، وفيه قول على الله بغير علم، ثم ما الطريق إلى معرفة عمده، وهي في نظري افتراضية أكثر من أن تكون واقعية، والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
لم أجد هذه المسألة بنصها في كتب بقية المذاهب، لكن سأسلك مسلك التخريج بناءً على ما قالوه في اشتراط الاجتهاد في القاضي، فالحنفية قالوا بأن الأولى أن يكون القاضي مجتهداً
(1)
، وفي هذه المسألة يندفع اختلافهم إذا اعتبرنا أن القاضي قد اجتهد وقال بما أداه اجتهاده، وبقية المذاهب من المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
نصوا على شرط الاجتهاد في القاضي، فيُخرَّج قولهم كقول الحنفية، وهو أن القاضي المجتهد إذا اجتهد وقضى بما يخالف رأيه الأول فإن حكمه نافذ، لأن اجتهاد المجتهد يتغير لا لتغير الأحكام بل لتغير نظرته إلى الأحكام.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو قضى القاضي في قضية بعد الاجتهاد فيها، ثم تكررت القضية بعد فترة فحكم بما يخالف حكمه السابق بعد الاجتهاد أيضاً، فحكمه نافذ؛ لأن فرضه الاجتهاد
(5)
وعليه أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده، وكذا لو نسي حكمه السابق، ولو حكم به عمداً ومن غير اجتهاد فلا يجوز ولا ينفذ حكمه؛ لفقد شرط أو أكثر من شروط القاضي، لكن لا ينبغي أن يُظن ذلك بالقضاة، والله أعلم.
(1)
الاختيار، 2/ 83، ولم أجد غيره أنه ذكرها بهذه الطريقة، لكن يفهم من قولهم:"وإن كان القاضي مجتهداً يقضي بما أدى إليه اجتهاده"، كما في البناية، 8/ 109.
(2)
جامع الأمهات، ص: 462، إرشاد السالك، ص: 117، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 7/ 387.
(3)
التهذيب في فقه الإمام الشافعي، 8/ 168، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 13/ 20.
(4)
المبدع في شرح المقنع، 8/ 154، شرح منتهى الإرادات، 3/ 492.
(5)
المسودة في أصول الفقه، ص:468.
المبحث الخامس عشر: في مسائل القسمة
المطلب الأول: كيفية قسمة البناء الذي له سفل وعلو:
تعريف القسمة لغة واصطلاحاً:
تعريف القسمة لغة:
القسمة –بكسر القاف- في أصلها اللغوي تدل على تجزئة الشيء
(1)
، وتطلق على الحظ والنصيب من الخير
(2)
.
تعريف القسمة عند الحنفية اصطلاحاً:
فقهاء الحنفية ينصون على أنها جمع نصيب شائع له في مكان معين
(3)
، وجاء في مجلة الأحكام العدلية ما يشرح التعريف ويوضحه:"القسمة هي تعيين الحصة الشائعة، يعني إفراز وتمييز الحصص بعضها عن بعض بمقياس ما كالكيل والوزن والذراع"
(4)
، وحاصلها رفع الشيوع وقطع الشركة
(5)
.
(1)
مقاييس اللغة، 5/ 86.
(2)
العين، 5/ 86، تهذيب اللغة، 8/ 319، مختار الصحاح، ص: 253، تاج العروس، 33/ 266.
(3)
رد المحتار، 6/ 253، مجمع الأنهر، 2/ 487. قلت: ولعلهم قالوا الجمع أولاً لأنه كان شائعاً فلا بد من جمعه حتى يتميز عن غيره.
(4)
مجلة الأحكام العدلية، ص: 214، رقم مادة:1114.
(5)
الاختيار، 2/ 72.
والقسمة مشروعة وتعتبر من الأحكام الشرعية التي لا غنى للناس عنها
(1)
، ومعناها طلب الشركاء أو بعضهم الانتفاع بملكه على وجه الخصوص لأن كل واحد من الشركاء منتفع بنصيب غيره فالطالب للقسمة يسأل القاضي
(2)
أن يخصه بالانتفاع بنصيبه ويمنع غيره عن الانتفاع بنصيبه
(3)
، وشرطها عدم فوت المنفعة بها
(4)
.
وتكون إفرازاً ومبادلة، وأما الإفراز ففيما لا يتفاوت مثل المكيل والموزون، وسائر المثليات، وأما المبادلة ففيما يتفاوت كالحيوان والعقار وكل ما ليس بمثلي حتى لا يكون لأحد الشريكين أخذ نصيبه مع غيبة الآخر
(5)
.
ومسألة البحث في طريقة قسمة البناء مثل البيت الذي له سفل وعلو، وفقهاء الحنفية قد اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المنسوب لأبي حنيفة –رحمه الله أن ما له سفل وعلو يقسم سهمين من العلو بسهم من السفل.
القول الثاني: المنسورب لأبي يوسف –رحمه الله سهم بسهم.
القول الثالث: المنسوب لمحمد –رحمه الله بالقيمة، والفتوى على ذلك؛ لأن العلو والسفل أجناس بالنظر إلى اختلاف المنافع، فالسفل يصلح لما لا يصلح العلو، وكذلك تختلف قيمتهما باختلاف البلدان، فلا يمكن التعديل إلا بالقيمة
(6)
.
(1)
المبسوط، 15/ 2.
(2)
ولو اقتسموا بأنفسهم جاز. ينظر: الاختيار، 2/ 73.
(3)
تبيين الحقائق، 5/ 264.
(4)
اللباب في شرح الكتاب، 4/ 91.
(5)
الاختيار، 2/ 73.
(6)
ينظر: الاختيار، 2/ 77، وقد ذكر الأقوال إجمالاً، وتعقب الأخير بعلامة الإفتاء.
وقيل: إن أبا حنيفة رحمه الله بنى قوله على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في اختيار السفل على العلو، وأبو يوسف رحمه الله بناه على ما شاهده من عادة أهل بغداد في التسوية بين العلو والسفل في منفعة السكنى، ومحمد شاهد اختلاف العادات في البلدان فقال: إنما يقسم على القيمة
(1)
، فالاختلاف مبني على اختلاف العادات، ولذلك كان من حيث الصورة لا من حيث المعنى
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
بعد الاطلاع على أقوال بقية المذاهب تبين أنهم يقولون بقول الحنفية المفتى به أي أن قسمة البناء الذي له علو وسفل تكون بالقيمة، وهو قول المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
وعليه فإن مما يؤيد هذا القول ما يجري الآن من بناء العمائر الطويلة والفنادق والأبراج والبيوت من ثلاثة أدوار وأكثر؛ فقيمة الأدوار تختلف اختلافاً كبيراً، والناس يفضلون العلو أو السفل لاعتبارات كثيرة.
(1)
ينظر: المبسوط، 15/ 16، الاختيار، 2/ 77.
(2)
بدائع الصنائع، 7/ 27.
(3)
حاشية الصاوي، 3/ 665، الشرح الكبير، 3/ 501، تخريجاً لأن العقار عندهم يقسم بالقيمة.
(4)
جاء في الحاوي الكبير (6/ 38) أن الدور والأرضين من غير المنقول أي العقار. وجاء في حاشية الجمل (5/ 374) أن القسمة بالتعديل أي: تعديل السهام بالقيمة وضرب المثال بأرض تختلف قيمة أجزائها. قلت: وكذا الدُّور التي تختلف قيمة أجزائها مثل العلو والسفل. وجاء في البيان في مذهب الإمام الشافعي (11/ 54) وفي العزيز شرح الوجيز (12/ 556) أن العلو والسفل كالدارين المتلاصقين، بل قالوا في التفرقة بينهما: إن العلو تابع، والسفل متبوع، ولا يجوز أن يجعل أحد النصيبين تابعاً والآخر متبوعاً. قلت: وعليه يخرج قول الشافعية في هذه المسألة، وهو قياس الدار له علو وسفل على الأرض بجامع اختلاف قيمة الأجزاء. ثم وجدت النووي –رحمه الله يقول: إن لم يمكن القسمة سفلاً وعلواً، جُعل السفل لأحدهما والعلو لآخر من جملة قسمة التعديل. ينظر: روضة الطالبين، 11/ 213.
(5)
منتهى الإرادات، 5/ 316، المبدع في شرح المقنع، 8/ 233، فإنهم ينصُّون على التعديل بالقيمة لو طلب أحد الشريكين قسمة البناء علوه وسفله.
مثاله: السكن في العمارة السكنية في الدور الأخير بدون مصعد يشق بخلاف الدور الأول، وإن وُجد المصعد فالسكن في الدور الأعلى مفضل إما لأجل العلو نفسه والنظر إلى ما حول المبنى كما في الفنادق أو للبعد قليلاً عن ضجة الشوارع، أو للأغراض الصحية مثل تخفيف السمنة بتنفس الأكسجين بكمية أقل، لأن كمية الأكسجين في الهواء تقل بزيادة الارتفاع
(1)
.
وإذا كان الدور الأول هو أعلى وفوقه السقف فإن الدور الأرضي مفضل؛ لأن الدور الأول يحمي الأرضي من حرارة الشمس، ويحفظ برودته، لأنه سقفه، وكذا الدور الأول مفضل لأن الأرضي معرض للحشرات أكثر وهكذا.
كل هذا يدل على أن اعتبار الأزمان والأماكن والعادات وطرق البناء له أثر في المسألة.
ومن الآثار العملية للمسألة: عمارة مشتركة بين اثنين، ذات ثلاثة أدوار، في كل دور عدد معين من شقق، وأرادا القسمة، فإنها تكون بالتعديل أي بالقيمة، وهذا يعني أن أحد الشريكين قد يحصل على الدور الأول فقط، والثاني بقية العمارة؛ لاختلاف القيمة، وبالعكس إذا كانت الأدوار الأعلى بقيمة أعلى لأسباب ذُكرت أعلاه.
(1)
ينظر: موقع الحمية، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafyfour
المطلب الثاني: التعارض بين مصالح الجيران:
من مسائل تعارض مصالح الجيران مسألة وقوع الشجرة في نصيب أحد الشريكين وأغصانها متدلية إلى نصيب الآخر، وهي من آثار القسمة.
فعند محمد –رحمه الله له أن يجبره على قطع تلك الأغصان؛ لأنه لا يستحق إقراره في ملك الغير، وعنه رواية أخرى أنه يترك كذلك؛ لأنه استحق الشجرة بأغصانها بالقسمة، فتُترك على ما كانت عليه عند تمام القسمة
(1)
، وعليه الفتوى
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: تُترك الشجرة مع أغصانها في هواء الشريك، وهو قول الحنفية المفتى به، كما سبق-.
القول الثاني: من حق الشريك الأول أن تزال أغصان الشجرة من هوائه، إما بتكليف الشريك الآخر بذلك، أو أن يقوم هو بقطعها، وهو القول المرجوح عند الحنفية –كما سبق-، وقول المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
(1)
المبسوط، 15/ 21.
(2)
الاختيار، 2/ 77، رد المحتار، 6/ 268، ولم أجد نسبها إلى غيره من أئمة المذهب.
(3)
التاج والإكليل، 7/ 149، المختصر الفقهي، 8/ 269.
(4)
فتاوى ابن الصلاح، 2/ 592، 2/ 722، ولم أجد غيره من الشافعية يذكر هذه المسألة.
(5)
المغني، 5/ 227، الشرح الكبير، 5/ 24، ويذكرونها فيما لو أوقد شخص ناراً فأيبست أغصان شجرة غيره، فإنه يضمنها؛ لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة، إلا أن تكون الأغصان في هوائه، فلا يضمنها، لأن دخولها عليه غير مستحق.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن أغصان الشجرة المتدلية إلى نصيب الشريك تُترك بدليل أنه استحق الشجرة بأغصانها بالقسمة، فتُترك على ما كانت عليه عند تمام القسمة
(1)
.
قد يناقش بأن المال المشترك قبل القسمة لم يكن فيه ضرر على شريكه، وإنه ظهر ضرره بعد القسمة؛ لأنها ميزت الأنصباء، وحُقَّ لكل شريك أن يعمل في نصيبه ما يريد، وأغصان الشجرة المتدلية قد تمنعه من تمام التصرف، وقد يتضرر بظلها أو يتأذى بورقها المتساقط.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن أغصان الشجرة المتدلية إلى نصيب الشريك الآخر تُقطع بأدلة، منها:
الدليل الأول: كونه غير مستحق
(2)
، بمعنى أنه ليس من حقوقه في ذلك، وهو عكس دليل القول الأول.
الدليل الثاني: يمكن الاستدلال بأنها تُقطع لأنواع من الضرر والأذى التي تحصل للشريك الآخر بسبب الظل أو الورق أو ما يتساقط منها.
الدليل الثالث: كما يمكن الاستدلال بقاعدة: إن الهواء ملك لصاحب القرار
(3)
، والقرار الأرض، فمن ملك الأرض ملكاً شرعياً فإنه يملك معها سماءها، وعليه فلا يجوز لأحد أن يعلو عليه في هوائه إلا بإذنه.
الترجيح:
بعد استعراض القولين في المسألة وأدلتهما يظهر أن القول الثاني القائل بأن أغصان الشجرة المتدلية تُزال أظهر وأقرب لقواعد الشرع؛ لأن ملك الأرض يتبعه ملك سمائها.
(1)
المبسوط، 15/ 21.
(2)
الشرح الكبير، 5/ 24.
(3)
المغني، 4/ 365.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة، منها:
- لو أن إنساناً له شجرة أغصانها متدلية إلى أرض جاره أي في نصيبه، فعلى القول الأول لا يجوز له قطعها؛ لأن ذلك من استحقاقه بالقسمة، وعلى الثاني له تكليف شريكه بالقطع، وله أن يقطعها بنفسه؛ لأنها خارجة إلى هوائه، وهواء أرضه ملك له، ولا يتصرف في ملكه إلا بإذنه.
المبحث السادس عشر: ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل
فقهاء الحنيفة يذكرون هذه المسألة في كتاب السير
(1)
، كما يذكرونها في كتاب الزكاة
(2)
عند بيان أحكام العُشر والخراج وسبب وجوبهما
(3)
، والعُشر عشر الخارج من الأرض، والخراج ما يضعه الإمام على أرض فتحها ومنّ على أهلها بها من نصف الخارج أو ثلثه أو ربعه، ويُسمَّى خراج المقاسمة
(4)
، أو ما يُوظِّفه على الأرض بأن يكون الواجب شيئاً في الذمة يتعلق بالتمكن من زراعتها، ويكون واجباً على مالك الأرض ولو لم يزرعها، ويُسمَّى خراج الوظيفة
(5)
.
وعند الحنفية لا يُزاد على ما وظَّفه عمر رضي الله عنه، وهو على كل جَريِب
(6)
يبلغه الماء صاع ودرهم، وجريب الرَّطْبَة خمسة دراهم، والكَرْم
(7)
والنخل المتصل عشرة دراهم، وما لم يُوظِّفه عمر رضي الله عنه يوضع عليه بحسب الطاقة، ونهاية الطاقة نصف الخارج، فلا يزاد عليه، وينقص منه عند العجز
(8)
.
وباعتبار أنهما يتعلقان بالأرض فقد قسم فقهاء الحنفية الأرض قسمين: أرض عُشرية، وأرض خراجية أي أرض يجب فيها العشر، والثانية يجب فيها الخراج على أحد نوعيه.
فالعشرية خمسة أنواع:
(1)
الاختيار، 4/ 142.
(2)
وسبب ذلك إلحاقهم الركاز بالزكاة؛ لكونه من الوظائف المالية، ويُستخرج من الأرض العشرية والخراجية، والعشر هو عشر الخارج من الأرض. ينظر: رد المحتار، 2/ 318 - 319، 2/ 325.
(3)
تحفة الفقهاء، ص:319.
(4)
حتى لو أخرجت الأرض مراراً وجب في كل مرة؛ لإطلاق النصوص عن قيد الحول، وكذا في العشر أيضاً، بخلاف خراج الوظيفة فلا يجب في السنة إلا مرة، لأنه ليس في الخارج بل في الذمة. ينظر: رد المحتار، 2/ 326.
(5)
رد المحتار، 2/ 325، اختصاراً.
(6)
ستون ذراعًا في ستين. المغرب في ترتيب المعرب، ص: 78، وانظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 160.
(7)
العنب. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، 2/ 532.
(8)
ينظر: الاختيار، 4/ 144 بتصرف يسير.
- أرض العرب.
- أرض أسلم أهلها طوعاً.
- أرض فُتحت قهراً وقُسمت بين الغانمين.
- المسلم إذا اتخذ داره بستاناً.
- المسلم إذا أحيا الأرض الميتة بإذن الإمام وهي من توابع الأراضي العشرية أو تسقى بماء العشر –وهو ماء السماء وماء العيون المستنبطة من الأراضي العشرية-.
والخراجية أنواع كذلك، منها:
- سواد العراق كلها.
- كل أرض فُتحت قهراً وتُركت على أيدي أربابها ومنّ عليهم الإمام فإنه يضع الجزية على أعناقهم إذ لم يسلموا، والخراج على أراضيهم إذا أسلموا أو لم يسلموا.
- كذلك إذا جلاهم ونقل إليها قوماً آخرين.
- والمسلم إذا أحيا أرضاً ميتة وتسقى بماء الخراج.
- والذمي إذا اتخذ داره بستاناً.
- والذمي إذا اشترى من مسلم أرض العشر فإنها تصير خراجية على الصحيح
(1)
.
وعلى ضوء ما سبق لو ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل جاز في الخراج دون العشر عند أبي يوسف –رحمه الله؛ لأن صاحب الخراج له حق فيه فصحَّ تركه له، والعشر حق الفقراء على الخلوص فلا يجوز تركه، ولا يجوز فيهما عند محمد –رحمه الله؛ لأنهما فيء للمسلمين، والفتوى على قول أبي يوسف
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
اختلف الفقهاء في حكم ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل على قولين:
(1)
اختصارًا من كتاب الخراج، ص: 82، وانظر: تحفة الفقهاء، ص: 319 - 320، بتصرف.
(2)
الاختيار، 4/ 145.
القول الأول: الجواز في الخراج والعشر، وهو القول المرجوح عند الحنفية -كما سبق، ولم أجد قولاً للمالكية والشافعية في هذه المسألة بعينها، لكن باعتبار أنهم يقولون بقاعدة: إن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة
(1)
يمكن تخريج قولهم على ذلك، وهو الجواز أيضًا، وهو قول الحنابلة
(2)
.
القول الثاني: الجواز في الخراج دون العشر، وهو القول المفتى به عند الحنفية -كما سبق-.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بجواز ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل بأدلة، منها:
الدليل الأول: قاعدة: تصرّف الإمام على الرّعيّة منوط بالمصلحة
(3)
.
قد يناقش بأنه ليس على الإطلاق، بل تصرفه مقيد بالمصلحة، وفي ترك العشر الذي هو حق الفقراء مفسدة.
الدليل الثاني: لأن الخراج بمثابة فيء، فكان النظر فيه إلى الإمام
(4)
.
الدليل الثالث: لو أخذ الإمام أو السلطان الخراج وصار في يده جاز له أن يخص به شخصاً إذا رأى المصلحة فيه، فجاز له تركه بطريق الأولى
(5)
.
الدليل الرابع: لأن صاحب الخراج له حق فيه فصح تركه له
(6)
.
(1)
بحر المذهب، 1/ 432، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 3/ 482.
(2)
شرح منتهى الإرادات، 1/ 650، الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 159، ويشترطون أن يكون لمن يقوم بعمل من الأعمال التي يحتاجها المسلمون فيستحقون الخراج مثل القاضي والفقيه والمؤذن.
(3)
الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص:104.
(4)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 159.
(5)
الشارح الكبير، 10/ 546.
(6)
الاختيار، 4/ 145.
دليل القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بجواز ترك الخراج دون العشر بأن السلطان صاحب الخراج، وله حق فيه فصحَّ تركه، والعشر حق الفقراء على الخلوص فلا يجوز تركه.
قد يناقش بأنه تفريق بين المتماثلات إذ العشر والخراج كلاهما مما يجب على غير المسلم، ويصرف في مصارف الفيء.
الترجيح:
بعد استعراض القولين في المسألة يظهر أن القول الأول أقرب للصواب؛ لقوة أدلته، ولورود المناقشة على دليل القول الثاني.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو قرر الإمام أو السلطان ألا يؤخذ الخراج أو العشر من صاحبه، فله ذلك على القول المخرج للمالكية والشافعية للمصلحة، كما يجوز على قول الحنابلة على من يستحق ذلك مثل القاضي والمدرس، وعلى قول الحنفية يجوز في الخراج فقط، دون العشر.
المبحث السابع عشر: في مسائل الضمان
المطلب الأول: ضمان الإتلاف:
مسألة الإتلاف وضمانه تذكر في كتب الحنفية في كتاب الغصب
(1)
، والإتلاف لا يخلو إما أن يرد على بني آدم وإما أن يرد على غيرهم؛ فإن ورد على غيرهم فإنه يوجب الضمان إذا تحققت شروط وجوبه، ومن شروطه على سبيل المثال لا الحصر أن يكون مالاً، فلا يجب الضمان بإتلاف الميتة والدم وغير ذلك مما ليس بمال، وأن يكون متقوّماً، فلا يجب الضمان بإتلاف الخمر والخنزير على المسلم سواء كان المتلِف مسلماً أو ذمياً؛ لسقوط تقوُّم الخمر والخنزير في حق المسلم
(2)
.
(1)
بدائع الصنائع، 7/ 164، الهداية 4/ 307.
(2)
ينظر: بدائع الصنائع، 7/ 164، 7/ 167 - 168.
وقد وقع الخلاف بين فقهاء الحنفية في بعض أنواع المال هل يتقوم أم لا، فيقولون: من كسر لمسلم بربطاً
(1)
أو طبلاً
(2)
أو دفاً
(3)
(4)
أو مزماراً
(5)
أو أراق له سكراً
(6)
أو منصفاً
(7)
فهو ضامن عند أبي حنيفة –رحمه الله تعالى-؛ لأنها كما تصلح للهو والفساد يصلح للانتفاع بها من وجه آخر، فكان مالاً متقوماً من ذلك الوجه
(8)
، فيجوز بيعه
(9)
، وعند الصاحبين لا يضمن؛ لأن البربط والطبل من آلة اللهو والفساد، فلم يكن متقوّماً كالخمر
(10)
، أي أن هذه الأشياء أُعدت للمعصية فبطل تقوّمها كالخمر، ولأنه فعل آمر بالمعروف، وهو بأمر الشرع فلا يضمنه كما إذا فعل بإذن الإمام، والفتوى على قولهما
(11)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
اختلف الفقهاء في تقدير الأموال المتقومة بحيث تُضمن عند إتلافها على قولين:
(1)
العود، من ملاهي غير العرب. ينظر: العين، 7/ 472، لسان العرب، 7/ 258.
(2)
معروف الذي يضرب به وهو ذو الوجه الواحد والوجهين. ينظر: لسان العرب، 11/ 398.
(3)
تَضرِب به النساء. ينظر: الصحاح، 4/ 1360.
(4)
الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو. فأما طبل الغزاة والدف الذي يباح ضربه في العرس يضمن بالإتلاف من غير خلاف. ينظر: الهداية، 4/ 307.
(5)
من الزَّمْر، إذا غنّى في القصب. ينظر: لسان العرب، 4/ 327.
(6)
اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد. ينظر: الهداية، 4/ 307.
(7)
اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد وذهب نصفه بالطبخ. ينظر: الهداية، 4/ 307.
(8)
لأنها أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع وإن صلحت لما لا يحل فصار كالأمة المغنية. ينظر: الهداية، 4/ 307. وجاء في رد المحتار (6/ 212) ما يوضح أكثر، فقال: "لأنها أموال متقومة لصلاحيتها للانتفاع بها لغير اللهو، فلم تنافِ الضمان كالأمة المغنية، بخلاف الخمر فإنها حرام لعينها. وأما السكر ونحوه فحرمته عرفت بالاجتهاد وبأخبار الآحاد، فقصرت عن حرمة الخمر، فجوزنا البيع".
(9)
هذا الاختلاف في الضمان دون إباحة إتلاف المعازف، وفيما يصلح لعمل آخر وإلا لم يضمن شيئاً اتفاقاً. ينظر: رد المحتار، 6/ 212.
(10)
الهداية، 4/ 307، بدائع الصنائع، 7/ 167 - 168، شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 6/ 309.
(11)
الهداية، 4/ 307.
القول الأول: عليها ضمان، مثل آلات اللهو والفساد، وهو قول أبي حنيفة
(1)
.
القول الثاني: لا ضمان عليها، وهو القول المفتى به عند الحنفية -كما سبق-، وقول المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أبو حنيفة رحمه الله على قوله بأنها أموال متقومة تصلح للانتفاع بها في غير اللهو، فلم تنافِ الضمان
(5)
.
قد يناقش بأن في جعلها متقومة تساهلاً مع من يصنعها وينشرها بين الناس.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بعدم الضمان بأدلة، منها
الدليل الأول: قياسها على الخمر بجامع أنها مال غير متقوم
(6)
.
يناقش بأن القياس مع الفارق إذ الخمر حرام بعينها، بخلاف غيرها
(7)
.
الدليل الثاني: لأن هذه الأموال ليست محترمة، فلا يحل بيعها ولا تملكها، فأشبهت الميتة
(8)
.
الدليل الثالث: لأنها محرمة الاستعمال، ولا حرمة لصنعتها
(9)
.
(1)
الهداية، 4/ 307، رد المحتار، 6/ 212.
(2)
الشرح الكبير، 4/ 336، حاشية الصاوي، 4/ 474.
(3)
بحر المذهب، 13/ 435، الحاوي الكبير، 14/ 389، 7/ 221.
(4)
الشرح الكبير على المقنع، 15/ 351، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 229.
(5)
رد المحتار، 6/ 212.
(6)
الهداية، 4/ 307، بدائع الصنائع، 7/ 167 - 168.
(7)
رد المحتار، 6/ 212.
(8)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 229، حاشية الصاوي، 4/ 474.
(9)
حاشيتا قليوبي وعميرة، 3/ 34.
الدليل الرابع: لأنه فعل آمر بالمعروف، وهو بأمر الشرع، فلا يضمنه كما إذا فعل بإذن الإمام
(1)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين في المسألة وأدلتها يظهر أن القول الثاني أوفق، لقوة أدلته، وورود المناقشة على دليل القول الأول، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور منها:
- لو أن إنساناً رأى جاره بيده آلة الطرب فقام بكسرها آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر فإنه لا يضمن ذلك. وكذا في بقية آلات الطرب.
قلت: ينبغي أن يقال: إنه لما بعد وقوع الإتلاف، وأما قبله فينبغي الأخذ بضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهمها ألا يترتب على الإنكار حدوث منكر أشد وأعظم؛ فالحيطة مطلوبة من حيث الدعوة والإرشاد والنصح، وإلا فلا ضمان على كل حال على القول الراجح.
(1)
بدائع الصنائع، 7/ 167 - 168.
المطلب الثاني: ضمان الساعي بغير حق:
هذه المسألة كسابقتها تذكر غالباً في كتاب الغصب
(1)
، والسعاية لغة أن تسعى بصاحبك إلى والٍ أو من فوقه
(2)
، وهو ما يفهم من كلام فقهاء الحنفية عند تقريرهم أنواعها والضمان عليها
(3)
، فيقولون: إنه لا ضمان على السعاية بحق مثل من سعى إلى الوالي بمن يؤذيه ولا يندفع إلا بالسعي والرفع إليه، أو بمن يفسق ولا يمتنع لنهي الساعي
(4)
، ودفع المنكرات واجب بما أمكن
(5)
.
وينصُّون على ضمان السعاية بغير حق، وأمثلتها عكس ما ضُرب منها في السعاية بحق، وهو قول محمد –رحمه الله وبه يُفتى دفعاً للفساد وزجراً له (عن السعاية)
(6)
(7)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
وبعد الاطلاع على مذاهب الفقهاء تبين أن القول بضمان الساعي بغير حق هو أيضاً قول المالكية
(8)
، والشافعية
(9)
، والحنابلة
(10)
، بدليل ما قد سبق ذكره من دفع للفاسد وزجر للساعي من السعاية.
قلت: ويمكن أن يُستدل له بكل دليل يحرم الكذب والنميمة.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة، منها:
(1)
رد المحتار، 6/ 213.
(2)
العين، 2/ 202.
(3)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 53.
(4)
ينظر: ملتقى الأبحر، 1/ 98.
(5)
مجمع الأنهر، 2/ 470.
(6)
درر الحكام، 2/ 269.
(7)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 53، وانظر: مجمع الأنهر، 2/ 471، رد المحتار، 4/ 88، 6/ 213.
(8)
التاج والإكليل، 7/ 330، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 6/ 509.
(9)
روضة الطالبين، 11/ 223، العزيز شرح الوجيز، 13/ 7.
(10)
لم أجدهم يذكرون مسألة الساعي بغير حق، لكن يقولون في كتاب الحجر:"إذا غرم شخص لكذب عليه عند ولي الأمر رجع الغارم بما غرمه على مضمون وكاذب لتسببه". ينظر: شرح منتهى الإرادات، 2/ 157.
- لو أن إنساناً له مدير في مقر العمل يأخذ الرشوة أو يظلم الموظفين، وحاول نصحه ولم يمتنع فله رفع أمره إلى القاضي أو وزارة العمل، ولو غرمه القاضي بعد ذلك فلا ضمان على الساعي؛ لأنه قد سعى بحق، بخلاف ما لو سعى بغيره.
- لو أن إنساناً له جار يبغضه وأراد أن ينتقم منه فسعى إلى القاضي بأنه يزاول أنواعاً من المحرمات، فغرمه القاضي، ثم تبين كذب الساعي؛ فإنه يضمن ما غرم القاضي لأن سعايته كانت بغير حق.
المبحث الثامن عشر: في مسائل الحجر
المطلب الأول: تحديد سن البلوغ وعلاماته:
ترد هذه المسألة في كتب الحنفية في كتاب الطلاق
(1)
، كما ترد في كتاب السرقة
(2)
، وفي كتاب الحجر والحبس
(3)
، و لعل سبب ذلك كون تصرفات الصغير -مثل طلاقه وإقراره بالسرقة- تتأثر بالبلوغ، فلا بد من ذكر ما يتقدر به.
ويقررون أن البلوغ قد يكون بالعلامة، وقد يكون بالسن، فأما البلوغ بالعلامة فالغلام بالاحتلام أو بالإحبال (والإنزال إذا وطئ)
(4)
، وأقل المدة في ذلك اثنتا عشرة سنة، وفي الجارية بالحيض أو بالحبل أو الاحتلام، وأدنى المدة في ذلك تسع سنين، وعند عدم ذلك فعلى قول أبي يوسف ومحمد –رحمهما الله- يحكم ببلوغهما إذا بلغا خمس عشرة سنة
(5)
، إذ العلامات تظهر في هذه المدة غالبًا فجعلت المدة علامة في حق من لم تظهر له العلامة
(6)
، وعند أبي حنيفة رحمه الله التقدير في الجارية بسبع عشرة سنة، وفي الغلام في إحدى الروايتين بثمان عشرة سنة، وفي الرواية الأخرى بتسع عشرة سنة
(7)
، والفتوى على قولهما؛ للعادة الغالبة (ولقصر أعمار أهل زماننا)
(8)
(9)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف الفقهاء في تحديد سن البلوغ بمدة معينة إذا لم تظهر بقية العلامات على قولين:
(1)
المبسوط، 6/ 53.
(2)
المبسوط، 9/ 184.
(3)
بدائع الصنائع، 7/ 172.
(4)
الهداية، 3/ 281. وبعضهم ذكر نبات العانة الخشن الذي يحتاج في إزالته إلى حلق، وكذا نهود الثدي، وقد اختلفوا في شعر الإبط والشارب وثقل الصوت، وقيل: لا عبرة به. ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 245.
(5)
وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً. ينظر: الهداية، 3/ 281، درر الحكام، 2/ 275.
(6)
درر الحكام، 2/ 275.
(7)
المبسوط، 9/ 184، الاختيار، 2/ 95.
(8)
رد المحتار، 6/ 153.
(9)
درر الحكام، 2/ 275، شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 34.
القول الأول: في الجارية بسبع عشرة سنة وفي الغلام ثمان عشرة سنة أو تسع عشرة سنة، وهو قول أبي حنيفة – كما سبق-.
القول الثاني: إذا بلغ خمس عشرة سنة، ولا فرق بين الغلام والجارية، وهو رواية أخرى عن أبي حنيفة والقول المفتى به عند الحنفية -كما سبق-، وهو قول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
لم أجد دليلاً لهذا القول عند الحنفية، لكن يمنكن أن يُستدل بواقع الحال وهو أن الغلام لا يبلغ من العمر 18 سنة أو 19 سنة إلا وقد بلغ، وكذا البنت عند بلوغها 17 سنة.
ويؤيد هذا الدليل أن البنت في الغالب تبلغ قبل الغلام، ولذلك اختلفت الروايات عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وبعضها وافقت القول الثاني، والمدة جُعلت علامة في حق من لم تظهر له علامات أخرى.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن المدة 15 سنة، بأدلة، منها:
الدليل الأول: حديث ابن عمر –رضي الله عنهما أنه قال: "عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني"
(4)
(5)
.
(1)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 332، البيان والتحصيل، 10/ 235 - 236، الجامع لمسائل المدونة، 6/ 183.
(2)
الأم، 1/ 87، 3/ 220، نهاية المطلب، 6/ 432، المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 359.
(3)
المغني، 4/ 346.
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري، 3/ 177، كتاب الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم، رقم حديث: 2664، وصحيح مسلم، 3/ 1490، كتاب الإمارة، باب بيان سن البلوغ، رقم حديث:1868.
(5)
المبسوط، 6/ 54، بدائع الصنائع، 7/ 172، الاختيار، 2/ 95، المغني، 4/ 346.
وجه الدلالة: المعنى فيه أن العادة الظاهرة أن البلوغ لا يتأخر عن هذه المدة
(1)
، ولو قيل بأن الحديث بين الحد الأعلى لتأخر البلوغ لكان أضبط.
الدليل الثاني: حديث أنس –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كُتب ما له وما عليه، وأُخذت منه الحدود"
(2)
(3)
.
وجه الدلالة: الحديث نص على أن بداية كتابة الأعمال والمآخذة عليها تكون بعد استكمال خمس عشرة سنة.
يناقش بأنه ضعيف أو موضوع، ولا تقوم به الحجة
(4)
.
الدليل الثالث: ما فُسِّر به حديث ابن عمر –رضي الله عنهما من العادة الغالبة
(5)
بمعنى أنه يندر أن يستكمل المولود خمس عشرة سنة إلا وقد بلغ.
(1)
المبسوط، 6/ 45.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 6/ 94، كتاب الحجر، باب البلوغ بالسن، رقم حديث: 11307، ذكره ضمناً بلا سند، ونصه:"الصبي إذا بلغ خمس عشرة أقيمت عليه الحدود"، وضعَّفه، وذكر أنه في الخلافيات بسنده، وقد راجعت النسخة التي عندي بتحقيق مشهور آل سلمان في ثلاثة مجلدات -وهي ناقصة لا تتجاوز أحكام الطهارة، وآخر مسألتها برقم 50 - فلم أجده. لكن بعد مراجعة مختصر خلافيات البيهقي (3/ 390) للخمي الشافعي وجدته بشيء من الاختلاف بدون سند أيضاً، ونصه:"الصبي يكتب له حسناته، ولا يكتب عليه سيئاته، حتى إذا بلغ ثلاث عشرة سنة كتب له وعليه، فإذا بلغ خمس عشرة أقيمت عليه الحدود، أو أخذت منه الحدود"، ثم قال:"فإسناده ضعيف، لا يثبت مثله". وجاء في التجريد للقدوري (6/ 2914) ما نصه: "وقد ذكر بعضهم حديثًا زعم أنه أسند إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه، وأخذت منه الحدود". وهذا حديث موضوع لا يمكن أن يضاف إلى كتاب صحيح ولا فاسد، ولا يعرفه أحد من أصحاب الحديث، وكيف يسوغ التسامح بذكره ومبنى هذا الحكم مع عموم الحاجة إليه لا يثبت بخبر واحد صحيح، فكيف بخبر لا يعرف؟ ".
(3)
المغني، 4/ 346.
(4)
سبق الكلام على صحته عند تخريجه.
(5)
درر الحكام، 2/ 275.
الدليل الرابع: لقصر أعمار أهل زماننا
(1)
، ولا أراه تعليلاً مستقلاً بقدر ما هو بيان لعلة قبول تفسير حديث ابن عمر –رضي الله عنهما، والله أعلم.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني أضبط؛ لقوة أدلته وما فيه من الاحتياط المعتدل.
والمسألة لها ثمرات عملية تظهر في كل مسألة يشترط فيها البلوغ، ومنها الصلاة على سبيل المثال، فإن الغلام لو لم تظهر عليه علامة من علامات البلوغ وعمره دون خمس عشرة سنة وقد ترك الصلاة فلا يأثم عند الجميع؛ لأنه غير مكلف. ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى.
(1)
رد المحتار، 6/ 153.
المطلب الثاني: بيع القاضي عروض المدين وعقاره:
فقهاء الحنفية يوردون هذه المسألة في كتبهم عند ذكر أحكام الحجر وأسبابه وأنواعه
(1)
، فيقولون إن الحجر –بفتح الحاء وسكون الجيم- مطلق المنع، ومنه حِجر الكعبة؛ لأنه مُنع من الدخول فيها، وسُمِّي الحرام حجرًا؛ لأنه ممنوع من التصرف فيه، وفي الشرع المنع عن أشياء مخصوصة بأوصاف مخصوصة
(2)
.
وقد اختلفوا في الحجر على الحر العاقل البالغ ولو كان سفيهاً على قولين:
القول الأول: المنسوب لأبي حنيفة –رحمه الله إنه لا يحجر عليه، لا يبيع العُروض ولا العقار؛ لأنه حجر عليه وهو تجارة لا عن تراضٍ
(3)
.
القول الثاني: المنسوب للصاحبين –رحمهما الله- إنه يحجر عليه، ودليلهما قياس المديون على السفيه، ويوجبون على القاضي حبسه إن طلب غرماؤه ذلك حتى يبيع ويوفي الدين، حتى لو كان المال المبيع عروضاً أو عقاراً، وإن امتنع المدين عن بيع ماله باع القاضي عليه نيابة عنه، والفتوى على قولهما
(4)
.
والبيع يكون بالترتيب فتباع النقود أولاً ثم العروض ثانياً ثم العقار ثالثاً
(5)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
لو أن شخصاً مديوناً أفلس وطلب الغرماء حقوقهم فإن عليه أن يبيع ماله؛ ليوفي الدين، وإن أبى فللقاضي أن يبيع عليه ماله، لكن أي نوع من المال؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
(1)
الاختيار، 2/ 98.
(2)
المرجع السابق، 2/ 94.
(3)
المرجع السابق، 2/ 99.
(4)
المرجع السابق، 2/ 98 - 99، بتصرف.
(5)
الهداية، 3/ 282، ملتقى الأبحر، ص: 58 - 59، البناية، 11/ 119، رد المحتار، 6/ 151.
القول الأول: ليس للقاضي أن يبيع شيئًا من عروض المدين أو عقاره، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله كما سبق في تقرير قول الحنفية.
القول الثاني: يحجر عليه وإن امتنع عن بيع ماله باع القاضي عليه نيابة عنه، وهو قول الحنفية المفتى به –كما مر-، وقول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أبو حنيفة رحمه الله على قوله بعدم الحجر ومنع بيع عروض المدين وعقاره بأنه تجارة عن غير تراض
(4)
.
قد يناقش بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يرده، كما في حديث معاذ رضي الله عنه الآتي
(5)
.
كما يمكن مناقشته بأن التجارة هنا عن تراض؛ لأنها في الحقيقة بين القاضي وغرماء المدين، ولا اعتبار برضاه هنا لأنه محجور عليه.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بالحجر على المدين وبيع مالي حتى يوفي دينه بأدلة، منها:
(1)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 422، التاج والإكليل، 6/ 605، وقال محاكياً لما في المدونة:"يبيع الإمام عليه عروضه كلها وداره وخادمه وسرجه وسلاحه وخاتمه وغير ذلك إلا ما لا بد له من ثياب جسده". ينظر: المدونة، 1/ 325.
(2)
الحاوي الكبير، 17/ 414، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 6/ 141.
(3)
الإنصاف، 5/ 276، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 96، المغني، 4/ 328 - 329.
(4)
الاختيار، 2/ 99.
(5)
انظر الدليل الأول من القول الثاني.
الدليل الأول: ما وري أن معاذ بن جبل –رضي الله عنه ركبه الدين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم غرماؤه النبي صلى الله عليه وسلم، فحجر عليه، وباع عليه ماله حتى قام معاذ –رضي الله عنه بغير شيء
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: الحديث نص في الحجر على المديون وبيع ماله.
الدليل الثاني: ما روي أن عمر –رضي الله عنه قال: "إن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سابق الحاج، فادَّان معرضاً، فمن كان له عليه مال فليحضر، فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه"
(3)
(4)
.
الدليل الثالث: قياس المدين على الميت، فإن جميع ديون الميت تُقضى من جميع الأموال فكذا المديون
(5)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني أقرب للصواب؛ لقوة أدلته ولورود المناقشة على دليل القول الأول.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور، منها على سبيل المثال:
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك، 3/ 306، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر مناقب أحد الفقهاء الستة من الصحابة معاذ بن جبل –رضي الله عنه، رقم حديث: 5192، وصحَّحه، وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في التلخيص (3/ 273)، والبيهقي في السنن الكبرى، 6/ 80، في كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه، رقم حديث: 11261، وقد صحَّحه أيضاً الألباني في الإرواء (5/ 261).
(2)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 6/ 141، المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 279.
(3)
أخرجه مالك في الموطأ، 4/ 1118، كتاب الوصية، جامع القضاء وكراهيته، رقم أثر: 2846، بإسناد منقطع (ينظر: سبل السلام، 2/ 79)، وابن أبي شيبة في مصنفه، 4/ 536، كتاب البيوع والأقضية، في رجل يركبه الدين، رقم أثر: 22915، وضعفه الألباني في الإرواء (5/ 262)، وأومأ إلى أن إسناده محتمل للتحسين.
(4)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 96.
(5)
الحاوي الكبير، 17/ 414
- لو أن إنساناً أفلس وعليه ديون وأبى أن يبيع ماله ليوفيها، فإن للقاضي أن يبيع عليه ماله، عروضه وعقاره، ويدخل في ذلك الأثاث والسيارة والأرض والأسهم وغيرها.
المبحث التاسع عشر: كيفية تقدير حكومة العدل
عرف الحنفية حكومة العدل بأنها أرش غير مقدر
(1)
، ومثالها أن يقوّم المجني عليه بدون أثر الجرح ويقوم وبه هذا الأثر، ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين
(2)
، سواء كان المجني عليه حرًّا أو مملوكًا، فإن كان مملوكاً فذَا، وإن كان حراً فيقوم كأنه مملوك
(3)
، وبه يفتى
(4)
.
ويذكرون هذه المسألة في كتاب الديات عند ذكر الشجاج وأنواعها وما يجب فيها
(5)
، وصورتها لو جنى جانٍ على شخص فجرحه جرحًا لا أرش فيه بل حكومة، كيف يكون تقدير ما يأخذ المجني عليه من الدية عن طريقها؟
وبعد البحث تبين أن العلماء عامة اختلفوا فيما فيه الحكومة، واتفقوا على كيفية تقديرها:
فعند المالكية تُقدَّر بما نقص من قيمة المجني عليه أن لو كان عبدًا
(6)
.
والشافعية عرفوها بمثال الجارية فُقئت عينها كم كانت قيمتها وعينها قائمة وكم قيمتها بعد فقء عينها
(7)
.
(1)
بدائع الصنائع، 7/ 323، ومفهومه أن ما لا قصاص فيه من الجنايات ما دون النفس وليس له أرش مقدر ففيه الحكومة، ومن أمثلة ما تلزم به الحكومة: كسر العظام إلا السن، وقطع لسان الأخرس وإتلاف العين القائمة الذاهب نورها وهكذا.
(2)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 165، الهداية، 4/ 466.
(3)
بدائع الصنائع، 7/ 324.
(4)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 165.
(5)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 165، الهداية، 4/ 466. وبعضهم يذكرها أيضاً عند ذكر الجنايات في الحج، ويمثلون بذلك من أخذ من شاربه وهو محرم. ينظر: تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي، 2/ 55.
(6)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 204، ونص على أنه عند مالك –رحمه الله. وبعض المتأخرين من المالكية انتقد تعريف الحكومة بالمحكوم به فقال: إنها الاجتهاد وإعمال الفكر فيما يستحقه المجني عليه من الجاني. ينظر: حاشية الصاوي، 4/ 381. وجاء في المدونة ما يؤيد ذلك. ينظر: المدونة، 4/ 604.
(7)
الأم، 6/ 71، المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 233.
وعند الحنابلة أن يُقوّم الحر كأنه عبد لا جناية به ثم يُقوّم وبه الجناية المبدلة فما نقص من قيمته سليماً وجب من ديته بقسط ذلك
(1)
، وبعضهم يسميها اجتهادًا
(2)
.
ولم أجد ضابطاً للأخذ بالحكومة، لكن أومأ بعضهم بأن ما ليس في أرشه نص وجب التقدير بالاجتهاد، وقدر النقصان لا يُعرف عن طريق الاجتهاد إلا بالتقويم
(3)
.
وبناءً على ما سبق يمكننا القول بأن المذاهب الأربعة متقاربة في طريقة تقدير الحكومة –إذا ثبتت-، فتقدر بتقويم المجني عليه كأنه مملوك قبل الجناية ثم يقومه بعد الجناية والبرء منها؛ فيؤخذ من الدية بنسبة التفاوت
(4)
.
هذا ما ذكره الفقهاء –رحمهم الله في كيفية تقدير حكومة العدل وهي طريقة التقويم، وهي اجتهاد منهم لا نص عليها، وعليه فلا مانع من الاجتهاد في طرق أخرى لتحديد الحكومة، وبخاصة في وقتنا الذي لا يوجد فيه الرق، ولا يوجد فيه من يعرف أو يمكن أن يستند إلى قوله في تحديد قيمة المملوك
(5)
.
وعلى هذا فطريقة التقويم هي الأصل لتحديد الحكومة، لكن يمكن أن تضاف إليها طرق أخرى، مثل:
- طريقة قياس غير المقدر على المقدر بأن يرد كل جرح إلى أقرب شيء فيه مقدر، فتؤخذ النسبة بينه وبين ما ورد التقدير فيه من جنسه
(6)
.
(1)
الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص: 523، المغني، 8/ 428، المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد، 2/ 144، الإنصاف، 10/ 116.
(2)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، 7/ 3289، ولعل مراده أن القدر الواجب في الجناية غير محدد فلا بد من اجتهاد أهل العلم في ذلك، والله أعلم.
(3)
المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 233.
(4)
ونقل ابن منذر الإجماع على ذلك. ينظر: الإجماع، ص:171.
(5)
ينظر: المجموع (تكملة المطيعي)، 19/ 133.
(6)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 165، المغني، 8/ 481.
مثالها: إن كان الجرح ليس فيه شيء مقدر كالجروح التي دون الموضحة (لأنها أدنى شيء مقدر) فإننا نقدر الواجب فيها بالنسبة من دية الموضحة -وهي خمس من الإبل-، فينظر إلى ما دون الموضحة، فإن أخذت نصف اللحم وبقي نصفه إلى العظم كان أرش هذه الجناية نصف دية الموضحة وهكذا، ويكون المرجع في هذا التقدير إلى أهل الخبرة والمعرفة بالجنايات، ولهم خبرة دقيقة بالمقاييس وخبرة كبيرة بالطب؛ ليستعين بهم القاضي، ولا مانع من إحالة المجني عليه إلى الأطباء العدول لمعرفة قدر الجناية على وجه الدقة
(1)
.
- طريقة قياس إنتاج المجني عليه وعجزه، وصورتها اعتبار الإنسان مقوماً بديته فالدية أصل ثابت، فإن نقص عمل المجني عليه وإنتاجه قدرًا معينًا أخذ من الدية بقدر من نقص من جهده
(2)
(3)
.
ويبقى أن هذه الطرق اجتهادية تقريبية غير يقينية من حيث الأصل، وقد تكون بعضها أوفر للمجني عليه من حيث ما يستحق من الدية، وهذا من الأمور التي ينبغي مراعاتها عند العمل بطريقة دون أخرى. والله أعلم.
(1)
الأرش وأحكامه لحسين بن عبد الله العبيدي، الجزء الثاني، ص:548.
(2)
ينظر: المجموع (تكملة المطيعي)، 19/ 133، ونص على أنها في نقص السمع والبصر.
(3)
الأرش وأحكامه، الجزء الثاني، ص: 550 - 551، وقد نقل المؤلف كلام المطيعي السابق وأطلق القول ولم يقيده؛ وفي عدم تقييده توسيع نطاق العمل بهذه الطريقة.
المبحث العشرون: مقدار ما يوقف للحمل من الميراث:
تذكر هذه المسألة في كتب الحنفية في كتاب المفقود
(1)
أو ميراث الحمل تحديداً
(2)
، وصورتها لو أن شخصاً مات وترك الورثة من بينهم الحمل في بطن أمه، فكم يوقف له من الميراث ما يضمن حقه كاملاً بعد الولادة؟
واختلفت الروايات عن الأئمة الثلاثة في ذلك على النحو الآتي:
- روي عن أبي حنيفة –رحمه الله أنه يوقف للحمل نصيب أربع بنين
(3)
، ودليله الأول أن قسمة التركة لا تكون إلا باعتبار المتيقن، ولم ينقل عن المتقدمين أن المرأة ولدت أكثر من أربع بنين.
والدليل الثاني: لأن في ذلك احتياطاً
(4)
.
- وروي عن أبي يوسف –رحمه الله أنه يوقف للحمل ميراث ابنين، وهو قول محمد–رحمه الله أيضاً، ودليله العادة، وأكثر وقوعاً
(5)
، وهو أن ولادة اثنين في بطن واحد أقرب إلى عادة من ندرة.
- وروي عن أبي يوسف –رحمه الله رواية أخرى أنه يوقف للحمل ميراث ابن واحد فقط
(6)
، وهو الأصل، وعليه الفتوى
(7)
، ودليله أن النادر لا يعارض الظاهر، والعام الغالب أن المرأة لا تلد في بطن واحد إلا ولداً واحداً
(8)
.
(1)
الهداية، 2/ 425.
(2)
المبسوط، 30/ 52، الاختيار، 5/ 114.
(3)
أو البنات، أيهما أكثر. ينظر: الاختيار، 5/ 114.
(4)
الاختيار، 5/ 114.
(5)
الاختيار، 5/ 114.
(6)
أو بنت واحدة أيهما كان أكثر. ينظر: تحفة الملوك، ص:265.
(7)
ينظر: المبسوط، 30/ 52، الهداية، 2/ 425.
(8)
المبسوط، 30/ 52.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
إذا مات إنسان ومن بين ورثته حمل في بطن أمه، فكيف تكون قسمة التركة؟
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن الحمل يرث في الجملة
(1)
، واختلفوا في ثبوت الملك له؛ هل يكون بمجرد موت مورثه ويتبين ذلك بخروجه حياً أم لا يثبت له الملك حتى ينفصل حياً؟ وبناءً عليه هل تقسم التركة حالاً أم يُنتظر حتى يتبين حال الحمل، على قولين:
القول الأول: إن التركة تُقسم حالاً ويُوقف للحمل مقدار ميراث ابن واحد، وهو قول الحنفية المفتى به –كما سبق-
(2)
، وقول الشافعية إلا أن مقدار ما يوقف للحمل ليس بثابت، بل معاملة بقية الورثة تكون بالأضر بحيث يُعطى كل الورثة المتيقن من نصيبه ويوقف الباقي إلى ظهور حال الحمل
(3)
.
القول الثاني: أن التركة لا تقسم حتى يتبين أمر الحمل، وهو قول المالكية،
(4)
والحنابلة.
(5)
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن التركة تقسم حالاً ويوقف للحمل مقدار معين من الميراث بأدلة، منها:
الدليل الأول: واقع الحال وهو أن المرأة في الغالب لا تلد إلا ولداً واحداً، وهو دليل الحنفية في المسألة.
(1)
الإنصاف، 7/ 329.
(2)
وبقية أقوال المذهب الحنفي تندرج تحت هذا القول.
(3)
الحاوي الكبير، 8/ 171، بحر المذهب، 7/ 493،
(4)
النوادر والزيادات، 13/ 272، البيان والتحصيل، 14/ 486.
(5)
الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص: 632، المغني، 6/ 382.
قد يناقش بأن الأمر راجع إلى المرأة نفسها فبعض النساء لا تلد إلا ولداً واحداً وهكذا أمها وجدتها وكل قريباتها، وبعض النساء من عادتهن ولادة أكثر من واحد وكذا أمها وجدتها وهكذا.
الدليل الثاني: الاحتياط بأن يُعطى كل وارث نصيبه المتيقن، وهو دليل الشافعية في المسألة المستخلص من نص قولهم.
دليل القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن التركة لا تقسم حتى يتبين أمر الحمل بأن الحمل لا حد له
(1)
. ويؤيده ما نقله بعضهم أن المرأة ولدت سبعة أولاد ذكوراً عاشوا جميعاً وكانوا خلقاً سوياً إلا أن في أعضائهم قصرًا
(2)
.
قد يناقش بأن الورثة يتضررون إذا لم تُقسم التركة حالاً، فعليه لا بد من وجود الطريقة حتى يحصلوا على حقهم الذي ثبت بمجرد موت المورث.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وتعليلاتهما يظهر للباحث أن القول الأول القائل بتقسيم التركة حالاً أقرب للصواب، إلا أن مقدار ما يوقف للحمل ليس بثابت، بل بقية الورثة معاملتهم تكون بالأضر بحيث يعطى كل الورثة المتيقن من نصيبه ويوقف الباقي إلى ظهور حال الحمل.
(1)
المغني، 6/ 382.
(2)
الحاوي الكبير، 8/ 171.
وقد يقال بأنه يمكن الجمع بين القولين عن طريق الأجهزة الطبية الحديثة
(1)
التي تكشف ما في بطن الحبلى من حيث العدد والجنس بشرط أن لا خطأ
(2)
فيها فيعتمد على تقرير الأطباء وبناءً عليه تقسم التركة، لكن الواقع أنها توجد فترات الحمل لا يمكن كشف عدد الجنين ولا جنسه، وفي هذه الحالة نحكم في المسألة بما قرره الفقهاء من أن التركة تقسم حالاً؛ ويعامل بقية الورثة بالأضر، والله أعلم.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صورة فيما لو مات إنسان ومن بين ورثته حمل لا يُعرف حاله من حيث العدد والجنس، فعلى القول الأول يقسم التركة حالاً، ونعامل بقية الورقة بالأضر حتى نضمن نصيب الحمل، وعلى القول الثاني لا تُقسم التركة حتى يتبين حال الحمل بعد الولادة، وعلى طريقة الجمع بين القولين يطلب من الدكتور فحص الأم ورفع تقرير بحال الحمل من حيث العدد والجنس، وبناءً عليه تقسم التركة.
(1)
الموجات فوق الصوتية أو ألتراساوند.
(2)
يمكن معرفة عدد الحمل في أوقات متقدمة (فترة بين الأسبوع الرابع إلى السادس)، وأما جنس الحمل فنسبة الصواب تزيد على 90% بعد الأسبوع الثامن عشر، ونسبة الخطأ في هذه الفترة راجعة إلى وضعية الولد في الرحم ووضوح الصور وخبرة الطبيب في التعامل مع الأجهزة، فالخطأ ليس بسبب الأجهزة بل بسبب عدم معرفة التعامل معها بشكل متقن. وأما ما قبل الأسبوع الرابع عشر فإن الحمل لا يظهر عليه الفرق من حيث الذكورة أو الأنوثة، فلا يمكن الاعتماد على نتائج الموجات فوق الصوتية. والفروقات بين الجنسين تبدأ أن تظهر قليلاً بعد الأسبوع الرابع عشر حتى الأسبوع الثامن عشر، مما يجعل الأمر سهلاً في كشف جنس الحمل. ينظر: موقع العلوم الحية والدراسة الطبية عليه، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafysix
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العقوبات، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الحد المتقادم.
المبحث الثاني: أثر المسافة في حد قطاع الطريق.
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العقوبات
المبحث الأول: الحد المتقادم:
صورة المسألة: لو ارتكب شخص حداً ولم تُرفع الدعوى إلا بعد مرور مدة من الزمن، فهل لذلك أثر في إقامة الحد أو قبول الشهادة؟
ترد هذه المسألة في كتب الحنفية عند ذكر مسائل الحدود والشهادة عليها
(1)
، ويقررون بأن الشهادة على حد متقادم مثل الزنا بلا مانع أو عذر للتأخير لا تقبل،
(2)
إلا في حد القذف خاصة،
(3)
وقد اختلفوا في ضبط التقادم؛ هل يتوقف أم لا؟ وما حده من حيث الزمن؟ وذلك على قولين:
القول الأول: ما روي عن أبي حنيفة –رحمه الله أن التقادم لا يتوقف بل يُفوض ذلك إلى رأي الإمام أو القاضي
(4)
.
والقول الثاني: إن التقادم يتوقف ويحدَّد بمدة، وروي ذلك عن أبي حنيفة –رحمه الله وقال: إنه يتوقف بعد ستة أشهر أو سنة
(5)
، والقول بتوقف التقادم هو قول الصاحبين أيضاً وحده عندهما شهر
(6)
، والفتوى على هذا
(7)
؛ لأن الشهر أدنى الأجل فكان ما دونه في حكم العاجل
(8)
.
(1)
المبسوط، 9/ 115، الهداية، 2/ 349، الاختيار، 4/ 81.
(2)
الهداية، 2/ 349، الاختيار، 4/ 81.
(3)
زاد الفقهاء، ص: 478 - 479.
(4)
زاد الفقهاء، ص: 479، وعبارة بدائع الصنائع أضبط حيث قال:"وفوض ذلك إلى اجتهاد كل حاكم في زمانه". بدائع الصنائع، 7/ 47.
(5)
كذا قال محقق الكتاب وذكر أن في نسخة (أ) من المخطوطة "وروى الحسن عنه ستة أشهر"، وفي نسخة (ج) "وقال الحسن عنه سنة". انظر: زاد الفقهاء، ص: 479
(6)
بدائع الصنائع، 4/ 47، الهداية، 2/ 350،
(7)
زاد الفقهاء، ص:479.
(8)
بدائع الصنائع، 4/ 74.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف العلماء في مسألة قبول الشهادة بحد متقادم –ما عدا الإقرار- على قولين:
القول الأول: القائل بأن تقادم الحد له أثر من حيث قبول الشهادة عليه وحدّدوه بمدة شهر، وهو قول الحنفية
(1)
.
القول الثاني: إن تقادم الحد لا أثر له من حيث قبول الشهادة عليه عند جمهور العلماء، فالشهادة تسمع عند المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة على الصحيح من المذهب
(4)
بغض النظر عن تقادم العهد، ولذلك لم يذكروا المدة التي جاء ذكرها عند الحنفية.
وعليه فاعتبار تقادم الحد ومن ثم مدته من مفردات الحنفية.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأثر تقادم الحد على الشهادة بأدلة، منها:
الدليل الأول: ما روي عن عمر –رضي الله عنه أنه خطب فقال: "أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا عند حضرته فإنما هم شهود ضَغَنٍ لا تقبل شهادتهم"
(5)
(6)
.
(1)
الهداية، 2/ 349، الاختيار، 4/ 81، زاد الفقهاء، ص:479.
(2)
المدونة، 4/ 542، المختصر الفقهي لابن عرفة، 9/ 363.
(3)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 12/ 529، الوسيط في المذهب، 7/ 365.
(4)
الإنصاف، 29/ 258، الإقناع، 4/ 431.
(5)
لم أجده بهذا اللفظ عن الحسن، وإنما رواه أبو عون عن عمر بلفظ قريب منه كما في مصنف عبد الرزاق الصنعاني برواية أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن عمر:" أَيُّمَا رَجُلٍ شَهِدَ عَلَى حَدٍّ، لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَنْ ضِغْنٍ"، 7/ 431، باب لا يؤجل في الحدود، رقم أثر: 13760، وقد حكم البيهقي بالانقطاع بين أبي عون وبين عمر كما في السنن الكبرى (10/ 269).
(6)
الاختيار، 4/ 81.
وجه الدلالة: يمكن أن يقال: إن تقييد الشهادة بقوله: "عند حضرته" يفيد قرب الشهادة من الواقعة، مما دل على أن الزمن له أثر في ذلك.
ونوقش بأنه من مراسيل الحسن البصري ولم يثبت، وإن ثبت فيحمل على معنى عدم مشاهدتهم إياه
(1)
.
ويعضد هذا المعنى ما روي عن عمر –رضي الله عنه أيضاً أنه كتب: "من كانت عنده شهادة فلم يشهد بها حيث رآها أو حيث علم، فإنما يشهد على ضغن"
(2)
، فذكر الرؤية والعلم.
وقيل: إنه لا يسلم ذلك؛ لأنه روي من أكثر من طريق، والمرسل إذا تعدَّد مخرجه حجة عند الجميع، وكذلك مراسيل الحسن صحيحة عند ابن المديني ويحيى بن سعيد القطان وأبي زرعة
(3)
.
يجاب عنه بأن مراسيل الحسن مختلَف فيها، بل قيل بأن مراسيله أضعف المراسيل
(4)
، وعند بعضهم "شبه الريح"
(5)
، وجاء أيضاً عن أبي زرعة أنه لا يُحتج بالمراسيل ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح
(6)
.
الدليل الثاني: كونها شهادة تمكنت فيها تهمة فتبطل لأجلها
(7)
.
(1)
بحر المذهب، 13/ 33.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 10/ 269، كتاب الشهادات، باب ما جاء في خير الشهداء، رقم أثر: 20597، وقال البيهقي: إنه منقطع بين عمر وراوي الأثر وهو محمد بن عبيد الله الثقافي.
(3)
ينظر: تدريب الراوي، 1/ 230، وإعلاء السنن، 11/ 609، ويؤيده ما قرر علماء المصطلح من أنه "ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت
…
وإذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل، يزول بروايته من وجه آخر". (مقدمة ابن صلاح، ص: 34)
(4)
شرح علل الترمذي، ص: 192، 538.
(5)
تدريب الراوي، 1/ 339.
(6)
شرح علل الترمذي، ص:541.
(7)
الاختيار، 4/ 81.
وجه الدلالة: "أن الشهود إذا عاينوا الفاحشة فهم بالخيار إن شاءوا شهدوا به حسبة لإقامة الحد، وإن شاءوا ستروا على المسلم حسبة أيضًا، فإن اختاروا الأداء حرم عليهم التأخير؛ لأن تأخير الحد حرام، فيحمل تأخيرهم على الستر حسبة حملاً لهم على الأحسن، فإذا أخروا ثم شهدوا اتهموا أنهم إنما شهدوا لضغينة حملتهم على ذلك كما قال عمر رضي الله عنه، وإن كان تأخيرهم لا لحسبة الستر ثبت فسقهم ورُدَّت شهادتهم"
(1)
.
وقد يناقش بأن هذا الدليل مبني على الأثر المروي عن عمر –رضي الله عنه وقد تبين أنه لم يثبت، وعليه فلا يصح الاستدلال به.
كما يمكن حمله على معنى عدم قبول شهادة من يشهد ولم يشاهد الواقعة المشهود عليها.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بسماع الشهادة ولو تقادم الحد بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4]، وقوله:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} [النور: 13].
وجه الدلالة: عموم الآية
(2)
فإنه يفيد عدم تخصيص الشهادة بزمن معين.
الدليل الثاني: أنه حق ثبت بالشهادة على الفور فوجب أن يثبت بها بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق
(3)
.
(1)
المرجع السابق.
(2)
المغني، 9/ 76.
(3)
البحر المذهب، 13/ 33، المغني، 9/ 76.
الدليل الثالث: لأن الشهادة صارت حجة باعتبار وصف الصدق، وتقادم العهد لا يخل بالصدق، فلا يخرج من أن يكون حجة كالإقرار وحقوق العباد
(1)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني القائل بقبول الشهادة ولو تقادم الحد أقرب للصواب؛ لقوة أدلته، ومما ورد من مناقشة على أدلة القول الأول؛ فإن مراسيل الحسن البصري مما يستأنس بها لكن القول بأنها حجة لا يتوافق مع صنيع عامة المحدثين من السلف ولا قواعدهم
(2)
.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة، منها:
- لو أن إنساناً شهد مع من يشهد على زنا بعد سنة من وقوع الفاحشة، فعلى القول الأول لا تُسمع شهادتهم؛ لتقادم الحد أكثر من شهر واحد، وعلى القول الثاني تُسمع شهادتهم؛ لأن المدة لا أثر لها هنا في قبولها.
- ولو أن إنساناً شهد على القاذف بعد شهرين من قذفه إياه، فإن الشهادة تُقبل وتسمع عند الجميع؛ لأن حق القذف من حقوق العباد على القول الأول وعلى القول الثاني هو كسائر الحقوق –كما سبق-.
(1)
تبيين الحقائق، 3/ 188. تنبيه: نسبه بعض الحنيفية للشافعي، ولم أجده في كتب الشافعية فيما اطلعت عليه من المصادر.
(2)
ينظر: مراسيل الحسن البصري عن الصحابة جمعًا ودراسة، بحث منشور في مجلة أصول الشريعة للأبحاث التخصصية، ص: 99، للدكتور عادل بن عبد الشكور الزرقي (أستاذ الحديث الشريف بجامعة الملك سعود).
المبحث الثاني: أثر المسافة في حد قطاع الطريق:
تعريف قطاع الطريق:
جاء في كتب الحنفية ما يفيد تعريف قطاع الطريق وهو قولهم: قوم "لهم منعة وشوكة بحيث لا تمكن للمارة المقاومة معهم، وقطعوا الطريق عليهم سواء كان بالسلاح أو بالعصا الكبيرة والحجر وغيرها"
(1)
.
صورة المسألة:
لو أن أشخاصًا أشهروا السلاح على الأبرياء داخل المدينة أو قريباً منها هل يعدون من قطاع الطرق أم لا؟
هذه مسألة ترد في كتب الحنفية في كتاب السرقة عند ذكر شروط حد قطع الطريق
(2)
، ومن تلك الشروط البعد عن العمران، وقد اختلفوا فيه على قولين:
القول الأول: قطع الطريق يكون خارج المصر بعيداً عنه وليس فيه أو قريبًا منه أو بين مصرين؛ لأن قطع الطريق بانقطاع المارة لا يمتنعون عن المشي في هذه المواضع فيلحقهم الغوث ساعة بعد ساعة من المسلمين أو من جهة الإمام، وهو قول الطرفَيْن
(3)
.
القول الثاني: ما يكون في المصر ليلاً
(4)
أو بينهم وبين المصر أقل من مسيرة سفر، وهو قول أبي يوسف، وعليه الفتوى لمصلحة الناس بدفع شر المتغلبة المفسدين
(5)
.
ويظهر أن هذه المسألة من مسائل اختلاف العصر والزمان وليس الحجة والبرهان، لأن قول أبي حنيفة مبني على ما شاهد في زمانه، فإن أهل الأمصار كان يحملون الأسلحة، فلا يتمكن قاطع الطريق من مغالبتهم، بخلاف ما كان في زمن أبي يوسف، والله أعلم
(6)
.
(1)
تحفة الفقهاء، 3/ 155.
(2)
المرجع السابق.
(3)
تحفة الفقهاء، 3/ 155، الاختيار، 4/ 116.
(4)
الهداية، 2/ 377.
(5)
الاختيار، 4/ 116.
(6)
ينظر: الاختيار، 4/ 116.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن من أشهر السلاح على المارة خارج الأمصار فيغصب المال مجاهرة يعد من قطاع الطرق
(1)
، واختلفوا فيما لو فعل ذلك داخل المدينة أو قريباً منها على قولين:
القول الأول: لا يشترط البعد عن العمران إنما فقد الغوث، وهو قول الحنفية المفتى به –كما سبق-، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، وكثير من الحنابلة
(4)
.
القول الثاني: اشتراط البعد عن العمران، وهو قول مرجوح عند الحنفية –كما سبق-، وقول عند الحنابلة
(5)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بعدم اشتراط البعد عن العمران بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 33].
(1)
ينظر: تحفة الفقهاء، 3/ 155، الاختيار، 4/ 116، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 238، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 4/ 348، مغني المحتاج، 5/ 499، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، 8/ 4، المبدع في شرح المقنع، 7/ 458، زاد المستقنع، ص:223.
(2)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 238، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 4/ 348.
(3)
مغني المحتاج، 5/ 499، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، 8/ 4، حاشية الجمل على شرح المنهج، 5/ 153.
(4)
المبدع في شرح المقنع، 7/ 458، زاد المستقنع، ص: 223، وصاحب الروض المربع ذكر البحر أيضاً. ينظر: الروض المربع، ص:677. وخالفهم الخرقي والكلذاني بحيث نصوا على الصحارى والبراري دون البنيان. ينظر: مختصر الخرقي، ص: 136، الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص:540.
(5)
مختصر الخرقي، ص: 136، الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص:540.
وجه الدلالة: عموم آية الحرابة، ولا يوجد تخصيص لها من حيث مكان الحرابة
(1)
.
الدليل الثاني: لأن ضررهم في المصر أعظم، فكانوا بالحد أولى
(2)
.
يمكن أن يناقش بأنه في حالة لم تكن الأسلحة موجودة بأيدي الناس مع تمكنهم منها، وهذا يختلف من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان، فلا يمكن إطلاق القول فيه.
أدلة القول الثاني:
اسدل القائلون باشتراط البعد عن العمران بأدلة، منها:
الدليل الأول: الواجب في ذلك يُسمَّى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء.
(3)
يمكن أن يناقش بالدليل الثاني من القول الأول بحيث يقال: إن ضررهم في الأمصار والقرى أعظم، كما يمكن أن يقال بأنه من يسافر ويخرج إلى الصحارى يتهيأ لذلك غالباً، فيصطحب من يدله الطريق حتى يتجنب قطاع الطريق، وأيضاً يحمل السلاح بخلاف أهل القرى، والله أعلم.
الدليل الثاني: ولأن من في المصر يلحق به الغوث غالباً
(4)
، فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع، ولا حد عليه
(5)
.
يمكن أن يُناقش بأنه يختلف باختلاف الزمان والمكان، ومعرفة الناس بأمور القتال والأسلحة وتوفرها عندهم وحال البلد وحزم الحكومات مع هؤلاء.
(1)
ينظر: المبدع في شرح المقنع، 7/ 458.
(2)
ينظر: المبدع في شرح المقنع، 7/ 458، وقد ذكر الدليلين ووجه دلالة الأول.
(3)
المغني، 9/ 144.
(4)
الاختيار، 4/ 116.
(5)
المغني، 9/ 144.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر للباحث أن الخلاف بينهما خلاف تنوع وليس خلاف تضاد؛ لأن كل واحد منهم تمسك بمبدأ الغوث ولحوقه بالمتضررين من الحرابة؛ فمن كان خارج الأمصار فالغوث يتأخر فسموا المحاربين، وكذا من كان داخل الأمصار لكن لا يوجد الغوث من السلطان للبعد أو لو افترضنا أنه سيتأخر بسبب من الأسباب مثل الكوارث الطبيعية كالسيول والثلوج وغيرها
(1)
، وكذا عدم وجود الأسلحة بأيدي الناس حتى يدافعوا عن أنفسهم في حين تأخر الغوث من الشرطة أو الجيش، وهو حال الناس اليوم في أغلب الدول.
وعليه فإن القول بأن البعد عن العمران ليس بشرط لتطبيق حد الحرابة متجه لما ذكرتُ من الأسباب، ويقال بعكس ذلك لو لم تتوفر تلك الأسباب، والله أعلم.
(1)
رابط الدراسة على موقع العلوم التطبيقية، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafyfive
الخاتمة
في خاتمة هذا الجهد المتواضع أشكر الله –عز وجل على ما منّ علي من نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يسر لي إتمام البحث مع ما فيه من القصور، فما كان صواباً فمن الله، وما كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان.
كما أشكر كل شخص أفادني بملحوظة أو اقتراح أو تعديل أو إضافة، وأسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء في الدارين.
كما أسأله –سبحانه وتعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به كاتبه وقارئه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن أبرز النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث ما يلي:
1.
أدوار الفقه الإسلامي بشكل عام سبعة، وهي: دور التأسيس، ثم عصر الصحابة والتابعين، ثم دور التأصيل والتفريع، ثم دور التطبيق ثم دور النقد والتنقيح والاختيار، ثم دور التفقه أو توليد المسائل، وفي الأخير دور احتكاك الفقه بالقوانين الوضعية.
2.
أدوار المذهب الحنفي ثلاثة، وهي دور النشوء والتكوين، ثم دور التوسع والنمو والانتشار، ثم دور الاستقرار.
3.
تنوَّعت طرائق علماء المذهب الحنفي في تقسيم الفقهاء في طبقات، فمنهم من قسمهم بحسب مكانتهم العلمية، ومنهم من قسمهم بحسب وجودهم الزمني ومنهم من قسمهم بحسب المجموعات مع ذكر بعض مناقبهم، وتقسيمهم بحسب وجودهم الزمني أضبط.
4.
طبقات المسائل الفرعية عند الحنفية ثلاث: الأولى: مسائل الأصول وهي مسائل ظاهر الرواية، وهي المسائل التي رُويت عن العلماء الثلاثة أصحاب المذهب، وقد يلحق بهم زفر والحسن، وهي ما وجد في كتب محمد وهي المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير والجامع الكبير والسير الصغير والسير الكبير، الثانية: مسائل النوادر وهي مسائل رويت عن أصحاب المذهب المذكورين، لكن في غير الكتب المذكورة، الثالثة: الفتاوى وتسمى الواقعات، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون ولم يجدوا فيها رواية عن أصحاب المذهب.
5.
تقسيم الكتب في المذهب الحنفي من حيث الاعتماد عليها واعتبار المسائل التي فيها يكون بأكثر من اعتبار: أولاً: من حيث الرواية وهي ظاهر الرواية والنوادر والفتاوى، ثانيا: من حيث تقديم بعضها على بعض في الاعتماد وهي المتون ثم الشروح ثم الفتاوى، ثالثاً: من حيث مصدرها وبناء بعضها على بعض، وهي كتب الأصول وكتب النوادر، ثم الكتب التي جمعت واختصرت كتب ظاهر الرواية كلها أو بعضها، ثم الكتب التي شرحت ما جمع واختصر من كتب ظاهر الرواية.
6.
لفقهاء المذهب الحنفي مصطلحات خاصة بهم ترد في كتبهم ويقصدون بها معنى معيناً مثل مصطلحات خاصة بالكتب والمصنفات، أو مصطلحات خاصة بالأعلام والأئمة، أو مصطلحات خاصة بعلامات الفتوى والترجيح، ومن هذه المصطلحات ما هو عام في كتب المذهب، ومنها ما هو خاص بكتاب معين.
7.
المصطلحات الخاصة بعلامات الفتوى والترجيح في المذهب الحنفي هي المصطلحات التي تُستعمل للدلالة على القول المختار في المذهب، ومنها على سبيل المثال: عليه الفتوى، وبه يُفتى، وبه نأخذ، وعليه الاعتماد، وعليه عمل اليوم، وهو الصحيح، وهو الأصح، وهو الظاهر، وهو الأظهر، وهو المختار، وعليه فتوى مشايخنا، وهو الأشبه، وهو الأوجه، وأقواها عليه الفتوى أو به يُفتى، ولم أجد أحداً سبق السرخسي في إطلاق اللفظ.
8.
قواعد الترجيح في المذهب الحنفي يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع: الأول: قواعد الترجيح المتعلقة بطبقات الكتب والمسائل، الثاني: قواعد الترجيح المتعلقة بالأشخاص، الثالث: قواعد الترجيح المتعلقة بالموضوعات، الرابع: قواعد الترجيح المتعلقة بالمصطلحات.
9.
طبقة العلماء المتأخرين في المذهب الحنفي هي طبقة زمنية لا علمية تشمل جميع فقهاء المذهب الحنفي الذين عاشوا من بعد موت شمس الدين الحلواني (ت 456 هـ) إلى موت حافظ الدين البخاري (ت 693 هـ).
10.
الماء المستعمل عند الحنفية طاهر غير طهور، والراجح في المسألة أنه طاهر طهور مع أن عدم استعماله أولى.
11.
الحنفية يرون أن الماء القليل الراكد إذا وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به، قليلاً كانت النجاسة أو كثيراً، والراجح أن الماء القليل إذا خالطته النجاسة ولم تغيره طاهر.
12.
يجوز عند الحنفية المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين لا يشفان، وهو الراجح في المسألة.
13.
النبيذ لا يأخذ حكم الماء من حيث الوضوء به، وعليه فإن وجوده قبل الصلاة لا يمنع التيمم، كما أن رؤيته أثناء الصلاة لا يبطلها.
14.
عند الحنفية حكم الحيض والنفاس والاستحاضة لا يثبت إلا بظهور الدم وبروزه، وهو قول بقية المذاهب.
15.
عند الحنفية تثبت العادة الشهرية في وقتها الجديد بعد رؤيتها مرة، وهو الراجح في المسألة.
16.
يحدد سن اليأس عند الحنفية بخمس وخمسين سنة، والراجح في المسألة أنه لا يحدد بمدة معلومة، بل يرجع إلى اعتبارات كثيرة مختلفة.
17.
نجاسة الخف ونحوه تطهر بالدلك بالأرض كما تطهر بالغسل عند الحنفية، وهو الراجح في المسألة.
18.
اتفق العلماء على أن وقت صلاة المغرب يبدأ حين تغرب الشمس تماماً وعند الحنفية ينتهي وقت المغرب بغياب الشفق، وهو الحمرة، وهو الراجح في المسألة.
19.
لا يجوز السجود على الأنف دون الجبهة عند الجميع.
20.
عند الحنفية يبدأ وقت تكبير التشريق من عقيب صلاة الفجر يوم عرفة وينتهي عقيب صلاة العصر آخر يوم التشريق، وهو الراجح في المسألة.
21.
لا خلاف بين العلماء في أن التحايل لإسقاط الزكاة أمر لا يجوز في دين الله.
22.
إذا قتل محرم صيداً في يد محرم آخر فعلى كل واحد منهما الجزاء كاملاً، والآخذ لا يرجع على القاتل، وذلك عند الحنفية، والراجح أن الجزاء على القاتل وحده.
23.
عند تحديد الغيبة المنقطعة للولي الأقرب يرجع إلى العرف.
24.
اتفق الفقهاء على أن النسب يثبت في النكاح الفاسد إذا اتصل به دخول حقيقي، واختلفوا في بدء اعتبار مدة النسب فيه، والراحج أنها تبدأ من حين الدخول أو الوطء.
25.
يجوز للزوج أن يسافر بالزوجة إذا أعطاها مهرها إلى أي مكان يريد بشرط أمن الطريق والبلد وصلاح الزوج.
26.
الطلاق بغير العربية يقع إذا كان بالألفاظ التي لا تستعمل إلا في الطلاق في تلك اللغة، فيكون صريحاً كما في العربية.
27.
عند الحنفية لا يصح ظهار الذمي، وهو الراجح في المسألة.
28.
عند الحنفية قول: كل حلال عليّ حرام يحمل على الطلاق بغير نية، وهو الراجح في المسألة.
29.
اللؤلؤ من الحلي، فمن حلف ألا يلبس حلياً فلبس اللؤلؤ حنث عند الجميع.
30.
من حلف أن لا يتكلم فإنه لا يحنث بقراءة القرآن مطلقاً سواء داخل الصلاة أم خارجها.
31.
اتفق الفقهاء على أن المعتبر في نفقة الزوجة حال الزوج إذا كانا معسرين أو موسرين، واختلفوا إذا كان أحدهما موسراً والآخر معسراً، والراجح أن المعتبر حالهما معاً.
32.
لو حُبست امرأة في دين عليها فإن لها نفقة وقت حبسها وكذا في السفر مع المحرم لأداء الحج.
33.
حد اليسار الموجب لنفقة الأقارب هو مقدر بما يفضل عن قوته وقوت زوجته في يومه وليله.
34.
القول بمنع الاستئجار لتعليم القرآن أقرب للصواب، لكن قد يُستثنى للضرورة أو الحاجة الماسة أو ما تعم به البلوى فيقال بجواز الاستئجار خشية ضياع الحفظ.
35.
الشفعة حق ثابت يسقط بمجرد التأخير، وإنما إذا فرط الشفيع بتأخير المطالبة تأخيراً يضر بالمشتري أو البائع عرفاً، وبلا عذر، ولا تسقط بالتحايل على ذلك.
36.
اتفق الفقهاء على أن المرسل إذا أدرك الصيد وبه حياة مستقرة ويتوهم بقاؤه على قيد الحياة فإنه لا يحل إلا بالتذكية، ولو أدركه وبه حياة غير مستقرة فالراجح أنه يحل أكله، ولا حاجة إلى التذكية.
37.
يصح بيع ما يعرض بالنموذج، ورؤية النموذج أو العينة من المبيع تبطل خيار الرؤية في كله.
38.
شخص اشترى طعاماً فأكل بعضه ثم علم بالعيب فيه فله أن يرد الباقي ويرجع بنقصان ما أكل منه.
39.
يجوز بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً، وكذا نسيئة إذا كان الخبز نسيئة عند الحنفية، والراجح أن الخبز الآن عددي.
40.
يجوز بيع الكرباس الذي هو الثياب المصنوع من القطن بالقطن؛ لأنه بيع غير الموزون، بل بيع العددي بالموزون فلا علة الربا.
41.
جمهور العلماء على أنه يجوز استقراض الخبز ما عدا الشافعية، والخلاف في كيفية استقراضه وليس أصل الحكم.
42.
الحنفية يرون جواز السلم في الخبر وزناً وعدداً؛ لأنه صنع الناس وقد اعتادوه، وهو الراجح في المسألة.
43.
المزارعة مشروعة عند الجميع مع اختلافهم في بعض صورها وشروطها.
44.
يجوز في الزراعة اشتراط الأعمال التي ليست منها للعرف والعادة.
45.
المساقاة عند فقهاء الحنفية كالمزارعة حكماً وخلافاً وشروطاً إلا المدة، وهي جائزة عند الجميع.
46.
اتفقت المذاهب على جواز وقف العقار، والمنقول في الجملة.
47.
اتفق الفقهاء على أنه لا استحلاف في الحدود؛ لأنها حق الله إلا إذا تعلق بها حق الآدمي مثل حد القذف، وأما حقوق الآدميين فإن كانت بمال أو المقصود منه المال فاليمين مشروعة بلا خلاف أيضاً، وأما ما ليس بمال ولا المقصود منه المال -وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء- فقد اختلفوا في ذلك، والراجح جوازه.
48.
اتفق الفقهاء على أن السؤال عن حال الشهود إذا طُعنوا من قبل الخصم يتعين على القاضي، واختلفوا فيما لو لم يطعن فيه وعدالته ظاهرة، والراجح أن يرجع إلى اختلاف زمان ومكان.
49.
الحقوق التي يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي هي: المال والقصاص والعقوبات والعفو وغيرها إن كان القاضي الكاتب أهلاً للقضاء، وكذا رده إن كان غير أهل لذلك.
50.
عند الحنفية قسمة البناء الذي له علو وسفل تكون بالقيمة على الراجح، وهو قول بقية المذاهب.
51.
القول بتحديد سن البلوغ بخمس عشرة سنة إذا لم تظهر بقية العلامات هو قول عامة الفقهاء.
52.
القول بأن القاضي له أن يبيع على المديون عروضه وعقاره هو قول المذاهب الأربعة.
53.
اتفق الفقهاء على كيفية تقدير الحكومة وهي طريقة تقويم المملوك وما نقص من قيمته بعد الجناية عليه، وهي اجتهاد منهم لا نص عليها، وعليه فلا مانع من الاجتهاد في طرق أخرى لتحديد الحكومة، وخاصة في وقتنا الذي لا يوجد فيه الرق ولا يوجد فيه من يعرف أو يمكن أن يستند إلى قوله في تحديد قيمة المملوك.
54.
إن تقادم الحد لا أثر له من حيث قبول الشهادة عليه عند جمهور العلماء.
55.
حد الحرابة يطبق على قطاع الطريق الذين أشهروا سلاحهم داخل القرى والمدن والبعد عن العمران ليس شرطاً لتطبيق الحد.
وأما توصيات البحث فهي على النحو الآتي:
• توسيع النطاق في موضوعات المذهب الحنفي من حيث المصطلحات ومناهج العلماء وأثر البيئة المحيطة بهم على ذلك، وقد مر في مسألة القسمة شيء من ذلك.
• تسجيل رسائل علمية في موضوعات أثر التقنية الحديثة والصناعة المتقدمة على ترجيحات العلماء، وقد سبق في هذا البحث أن الباحث رجح قولاً على قول أو جمع بينهما؛ نظراً لما في هذا العصر من المعطيات العلمية الحديثة.
• ربط الفقه ومسائله بعلوم تطبيقية وبيان أثرها عليه في هذا الوقت، وما يمكن الاستفادة منها في دراسة المسائل الفقهية وترجيح الأقوال فيها.
أسأل الله –عز وجل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني وأن ينفع به كاتبه وقارئه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفهارس
فهرس الآيات
نص الآية
…
رقم الآية
…
الصفحة
سورة البقرة
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}
…
143
…
246
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}
…
200
…
123
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}
…
203
…
122
…
222
…
102
سورة آل عمران
…
41
…
168
سورة النساء
…
15
…
293
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}
…
43
…
89
سورة المائدة
…
3
…
70، 196، 198
…
33
…
296
…
87
…
163
{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}
…
90
…
70
…
95
…
134
سورة الأعراف
{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)}
…
29
…
94
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
…
157
…
70
سورة يونس
…
59
…
163
سورة النحل
{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}
…
14
…
165، 166
سورة الحج
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}
…
23
…
165
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
…
78
…
102
سورة النور
…
4
…
293
…
13
…
293
سورة الفرقان
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)}
…
48
…
56، 60، 74
سورة الأحزاب
{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}
…
72
…
248
سورة المجادلة
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ}
…
2
…
155
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}
…
3
…
158
…
4
…
155، 157
سورة الطلاق
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
…
2
…
159
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ}
…
4
…
106
…
7
…
169، 171، 172
سورة التحريم
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}
…
1
…
162
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}
…
2
…
162
سورة القلم
…
17 - 20
…
130
فهرس الأحاديث
رقم
…
نص الحديث
…
الراوي
…
الصفحة
1 .
... أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم ...... عون بن أبي جحيفة
…
53، 56
2 .
... إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه، وأخذت منه الحدود .... أنس
…
276
3 .
... إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا .... أبو هريرة
…
71
4 .
... إذا كان أحدكم فقيرًا، فليبدأ بنفسه، فإن كان فيها فضل فعلى عياله، فإن كان فيها فضل، فعلى ذي قرابته -أو قال: على ذي رحمه- فإن كان فضل فهاهنا وهاهنا .... جابر
…
180
5 .
... إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث .... عمر
…
73
6 .
... اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة ...... ابن عباس
…
61
7 .
... اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به .... عبد الرحمن بن شبل الأنصاري
…
187
8 .
... أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة، وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين، وأطراف القدمين .... ابن عباس
…
119
9 .
... إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله .... ابن عباس
…
183، 186
10 .
... أن أعرابيًا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس ...... أنس بن مالك
…
76
11 .
... إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث: أن لا
تكلموا في الصلاة ...... ابن مسعود
…
168
12 .
... إن الماء طهور لا ينجسه شيء .... أبو سعيد الخدري
…
75
13 .
... أن النبي –صلى الله عليه وسلم توضأ بالنبيذ ليلة الجن ...... ابن مسعود
…
88
14 .
... أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن .... سهل بن سعد
…
184
15 .
... أن النبي –صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة .... الحكم بن عمرو
…
58
16 .
... أن النبي –صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة ...... جابر بن عبد الله
…
227، 228،
17 .
... أن النبي عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع ...... ابن عمر
…
226، 228
18 .
... إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها .... عبادة بن الصامت
…
186
19 .
... أن معاذ بن جبل –رضي الله عنه ركبه الدين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم غرماؤه النبي صلى الله عليه وسلم، فحجر عليه، وباع عليه ماله حتى قام معاذ –رضي الله عنه بغير شيء .... معاذ بن جبل
…
280
20 .
... إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن .... معاوية بن الحكم
…
168
21 .
... أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجرًا .... عثمان بن أبي العاص
…
185
22 .
... إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى .... عمر
…
130
23 .
... أنه –صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لُمعة لم
يصبها الماء، فعصر شعره عليها .... ابن عباس
…
61
24 .
... أنه مسح على جوربيه ونعليه .... المغيرة
…
80، 84
25 .
... البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه .... ابن عباس
…
240
26 .
... ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم"، وفي اليوم الثاني: "ثم صلى المغرب لوقته الأول .... ابن عباس
…
115
27 .
... خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك .... عائشة
…
169، 172
28 .
... خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم .... ابن مسعود
…
244
29 .
... دعي الصلاة أيام أقرائك .... عائشة
…
95
30 .
... دعي الصلاة أيام حيضك .... عائشة
…
96
31 .
... الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد .... عبادة بن الصامت
…
206
32 .
... الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين .... أبو ذر
…
90
33 .
... عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني .... ابن عمر
…
275
34 .
... فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق .... ابن عمرو بن العاص
…
115
35 .
... فرأيت بلالاً أخرج وضوءًا فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء ...... عون بن أبي جحيفة
…
53، 56
36 .
... فمن أراد أن يدخل المسجد فليقلب نعليه فإن رأى بهما أذى فليمسحهما بالأرض، فإن الأرض لهما طهور .... أبو هريرة
…
109، 110
37 .
... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة يقبل على أصحابه فيقول: "على مكانكم" ...... جابر
…
122
38 .
... كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتكلف لذلك إلا بالمس .... عائشة
…
92
39 .
... لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل .... أبو هريرة
…
130
40 .
... لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه .... أبو هريرة
…
71
41 .
... لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه .... أبو هريرة
…
68، 71
42 .
... لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب .... أبو هريرة
…
58
43 .
... لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها .... أم سلمة
…
95
44 .
... لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوبًا من نار .... أبي بن كعب
…
186
45 .
... ليس بذلك بأس إنما هو أمر موافق بين الجيران وليس يراد به الفضل ...... عائشة
…
216
46 .
... الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه ريحه أو طعمه .... أبو سعيد الخدري
…
75
47 .
... المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد أو مجرباً في شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو قرابة .... أبو موسى الأشعري
…
247
48 .
... من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم .... ابن عباس
…
221
49 .
... من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين .... معاوية بن أبي سفيان
…
3
50 .
... وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أَدْراعَه وأَعْتُدَه في سبيل الله .... أبو هريرة
…
234
51 .
... وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم .... أبو سعيد
…
183، 184
52 .
... ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق .... ابن عمرو بن العاص
…
115
53 .
... يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غدًا .... ابن عباس
…
247
فهرس الآثار
رقم
…
الأثر
…
الراوي
…
الصفحة
1 .
... إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض .... عائشة
…
106
2 .
... إذا توضأ الرجل فنسي أن يمسح برأسه فوجد في لحيته بللاً، أخذ من لحيته فمسح رأسه .... علي وغيره
…
62
3 .
... إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي .... ابن عباس
…
102
4 .
... إن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سابق الحاج، فادَّان معرضاً، فمن كان له عليه مال فليحضر، فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه .... عمر
…
280
5 .
... أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق .... علي
…
123
6 .
... أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا عند حضرته فإنما هم شهود ضَغَنٍ لا تقبل شهادتهم .... عمر
…
291
7 .
... كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له: هلمي طعام أخي فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة .... أبي
…
187
8 .
... لن ترى المرأة ولدًا في بطنها بعد خمسين سنة .... عائشة
…
106
9 .
... من كانت عنده شهادة فلم يشهد بها حيث رآها أو حيث علم، فإنما يشهد على ضغن .... عمر
…
292
فهرس الأعلام
العلم
…
الصفحة
أحمد بن سليمان الرومى الشهير بابن كمال باشا
…
29
أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن جَعْفَر بن حمدَان القدوري
…
39
حافظ الدين البخاري
…
31
الْحسن بن زِيَاد الؤلؤي الْكُوفِي
…
25
زفر بن الهذيل بن قيس البصرى
…
34
عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح شمس الأئمة الحلواني البخاري
…
47
عبد الله بن أحمد بن محمود أبو البركات حافظ الدين النسفي
…
25
القاضي عبد النبي بن عبد الرسول بن أبي محمد بن عبد الوارث العثماني الأحمد نكري
…
30
مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي سهل أَبُو بكر السَّرخسِيّ
…
40
مُحَمَّد بن الْحسن بن فرقد أَبُو عبد الله الشَّيْبَانِيّ
…
34
محمد بن سماعة بن عبد الله بن هلال
…
36
معلى بن منصور أبو يحيى الرازي
…
36
نصر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم السَّمرقَنْدِي أبو الليث
…
36
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم القَاضِي الْأنْصَارِيّ أَبُو يُوسُف
…
34
فهرس المصادر والمراجع
1.
القرآن الكريم.
كتب التفسير وعلومه
1.
إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين بن أحمد مصطفى درويش (المتوفى: 1403 هـ)، دار الإرشاد للشئون الجامعية - حمص - سورية، (دار اليمامة - دمشق - بيروت)، (دار ابن كثير - دمشق - بيروت)، الطبعة الرابعة، 1415 هـ.
2.
تفسير الجلالين، جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى: 864 هـ) وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، دار الحديث – القاهرة، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.
3.
تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ)، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 1990 م.
4.
جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
5.
الجامع لأحكام القرآن أو تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671 هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة الثانية، 1348 هـ - 1964 م.
6.
مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 هـ)، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثالثة، 1420 هـ.
كتب الحديث وعلومه
مصطلح الحديث
1.
تدريب الراوي، لعبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، تحقيق: أبي قتيبة نظر محمد الفارياني، دار الطيبة، بدون طبعة وتاريخها.
2.
معرفة أنواع علوم الحديث، ويُعرف بمقدمة ابن الصلاح، لعثمان بن عبد الرحمن، أبوعمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (المتوفى: 643 هـ)، تحقيق: نور الدين عتر، دار الفكر – سوريا، دار الفكر المعاصر – بيروت، بدون طبعة، 1406 هـ - 1986 م.
المتون الحديثية وشروحها
1.
الاستذكار، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى: 463 هـ)، تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
2.
البدر التمام شرح بلوغ المرام، الحسين بن محمد بن سعيد اللاعيّ، المعروف بالمَغرِبي (المتوفى: 1119 هـ)، تحقيق: علي بن عبد الله الزبن، دار هجر، الطبعة الأولى، ج 1 - 2 (1414 هـ - 1994)، ج 3 - 5 (1424 هـ - 2003 م)، ج 6 - 10 (1428 هـ - 2007 م).
3.
سبل السلام، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير (المتوفى: 1182 هـ)، دار الحديث، بدون طبعة وتاريخ.
4.
سنن ابن ماجه، ابن ماجه أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجه اسم أبيه يزيد (المتوفى: 273 هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، بدون طبعة وتاريخ.
5.
سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275 هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
6.
سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275 هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد كامل قرة بللي، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، 1430 هـ - 2009 م.
7.
سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279 هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، الطبعة الثانية، 1395 هـ - 1975 م.
8.
سنن الدارقطني، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار البغدادي الدارقطني (المتوفى: 385 هـ)، حقَّقه وضبط نصه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، حسن عبد المنعم شلبي، عبد اللطيف حرز الله، أحمد برهوم، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م.
9.
السنن الصغير للبيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458 هـ)، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي باكستان، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1989 م.
10.
السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303 هـ)، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي بإشراف شعيب الأرناؤوط، وقدَّم له عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م.
11.
السنن الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458 هـ)، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية، 1424 هـ - 2003 م.
12.
شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المعروف بابن دقيق العيد (المتوفى: 702 هـ)، حقَّقه وعلَّق عليه وخرج أحاديثه: محمد خلوف العبد الله، دار النوادر، سوريا، الطبعة الثانية، 1430 هـ - 2009 م.
13.
شرح سنن ابن ماجه، مجموع من ثلاثة شروح: الأول: «مصباح الزجاجة» للسيوطي (ت 911 هـ)، والثاني:«إنجاح الحاجة» لمحمد عبد الغني المجددي الحنفي (ت 1296 هـ)، والثالث:«ما يليق من حل اللغات وشرح المشكلات» لفخر الحسن بن عبد الرحمن الحنفي الكنكوهي (1315 هـ)، قديمي كتب خانة – كراتشي، بدون طبعة وتاريخ.
14.
شرح صحيح البخاري لابن بطال، ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (المتوفى: 449 هـ)، تحقيق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد – السعودية، الرياض، الطبعة الثانية، 1423 هـ - 2003 م.
15.
شرح معاني الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي (المتوفى: 321 هـ)، حقَّقه وقدَّم له:(محمد زهري النجار - محمد سيد جاد الحق) من علماء الأزهر الشريف، راجعه ورقَّم كتبه وأبوابه وأحاديثه: د يوسف عبد الرحمن المرعشلي - الباحث بمركز خدمة السنة بالمدينة النبوية، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م.
16.
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354 هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1993 م.
17.
صحيح ابن خزيمة، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311 هـ)، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي – بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
18.
صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422 هـ.
19.
صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261 هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
20.
طرح التثريب في شرح التقريب (المقصود بالتقريب: تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد)، أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي (المتوفى: 806 هـ)، أكمله ابنه: أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين الكردي الرازياني ثم المصري، أبو زرعة ولي الدين، ابن العراقي (المتوفى: 826 هـ)، الطبعة المصرية القديمة، بدون رقم الطبعة وتاريخها.
21.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى (المتوفى: 855 هـ)، دار إحياء التراث العربي–بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
22.
عون المعبود شرح سنن أبي داود، ومعه حاشية ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، محمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر، أبو عبد الرحمن، شرف الحق، الصديقي، العظيم آبادي (المتوفى: 1329 هـ)، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الثانية، 1415 هـ.
23.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار المعرفة، بيروت، بدون طبعة، 1379 هـ.
24.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَّلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795 هـ)، تحقيق مجموعة من المحققين، مكتبة الغرباء الأثرية – المدينة النبوية، الحقوق لمكتب تحقيق دار الحرمين–القاهرة، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 هـ.
25.
الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235 هـ)، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد – الرياض، الطبعة الأولى، 1409 هـ.
26.
الكنى والأسماء، أبو بِشْر محمد بن أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الدولابي الرازي (المتوفى: 310 هـ)، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، دار بن حزم – بيروت \ لبنان، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
27.
المجتبى من السنن أو السنن الصغرى للنسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303 هـ)، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م.
28.
المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405 هـ)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990 م.
29.
المستدرك مع تلخيصه، الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت 848 هـ)، دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1341 هـ.
30.
مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241 هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد وآخرون، بإشراف عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م.
31.
مسند الدارمي المعروف ب (سنن الدارمي)، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي، التميمي السمرقندي (المتوفى: 255 هـ)، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 2000 م.
32.
معرفة الآثار والسنن، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458 هـ)، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، الناشرون: جامعة الدراسات الإسلامية (كراتشي - باكستان)، دار قتيبة (دمشق -بيروت)، دار الوعي (حلب - دمشق)، دار الوفاء (المنصورة - القاهرة)، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 1991 م.
33.
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ.
34.
موطأ مالك برواية محمد بن الحسن الشيباني، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179 هـ)، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، المكتبة العلمية، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
35.
الموطأ، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179 هـ)، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي – الإمارات، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م.
36.
نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250 هـ)، تحقيق: عصام الدين الصابطي، دار الحديث، مصر، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م.
علل الحديث
1.
شرح علل الترمذي، لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795 هـ)، تحقيق: الدكتور همام عبد الرحيم سعيد، مكتبة المنار – الزرقاء – الأردن، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م.
2.
علل الترمذي الكبير، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279 هـ)، رتبه على كتب الجامع أبو طالب القاضي، تحقيق: صبحي السامرائي، أبو المعاطي النوري، محمد خليل الصعيدي، عالم الكتاب، مكتبة النهضة العربية – بيروت، الطبعة الأولى، 1409 ه
3.
علل الدارقطني أو العلل الواردة في الأحاديث النبوية، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار البغدادي الدارقطني (المتوفى: 385 هـ)، تحقيق (من المجلد الأول إلى الحادي عشر): محفوظ الرحمن زين الله السلفي، دار طيبة – الرياض، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م، مع تعليق (من المجلد الثاني عشر إلى الخامس عشر): محمد بن صالح بن محمد الدباسي، دار ابن الجوزي – الدمام، الطبعة الأولى، 1427 هـ.
الجرح والتعديل
1.
تهذيب التهذيب، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 هـ)، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1326 هـ.
2.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال، يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي (المتوفى: 742 هـ)، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م.
3.
الثقات، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354 هـ)، طبع بإعانة: وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية، تحت مراقبة: محمد عبد المعيد خان مدير دائرة المعارف العثمانية، دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند، الطبعة الأولى، 1393 هـ - 1973 م.
4.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748 هـ)، علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1382 هـ - 1963 م.
الأجزاء الحديثية
1.
إبطال الحيل، أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة العكبري (المتوفى: 387 هـ)، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ.
التجريج والزوائد
1.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، إشراف زهير الشاوش، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ - 1985 م.
2.
إعلاء السنن لظفر أحمد العثماني التهاوني (المتوفى: 1394 هـ)، تحقيق: محمد تقي عثماني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1418 هـ
3.
البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري (المتوفى: 804 هـ)، تحقيق: مصطفى أبو الغيط وعبد الله بن سليمان وياسر بن كمال، دار الهجرة للنشر والتوزيع – الرياض – السعودية، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 هـ.
4.
التحقيق في أحاديث الخلاف، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ)، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.
5.
التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان وتمييز سقيمه من صحيحه، وشاذه من محفوظه، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، دار باوزير للنشر والتوزيع، جدة - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م.
6.
تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: 744 هـ)، تحقيق: سامي بن محمد بن جاد الله وعبد العزيز بن ناصر الخباني، أضواء السلف – الرياض، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.
7.
تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: 744 هـ)، تحقيق: سامي بن محمد بن جاد الله وعبد العزيز بن ناصر الخباني، أضواء السلف، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.
8.
الدراية في تخريج أحاديث الهداية، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 هـ)، تحقق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، دار المعرفة – بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
9.
صحيح أبي داود، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع – الكويت، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م.
10.
صحيح سنن الترمذي - ضعيف سنن الترمذي، ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م.
11.
صحيح سنن النسائي، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1419 هـ - 1998 م.
12.
صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ)، ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع لصاحبها سعد بن عبد الرحمن الراشد – الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1417 هـ - 1997 م.
13.
ضعيف أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى، 1423 هـ.
14.
ما صح من آثار الصحابة في الفقه، زكريا بن غلام قادر الباكستاني، دار الخراز- جدة، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
15.
مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى: 840 هـ)، تحقيق: محمد المنتقي الكشناوي، دار العربية – بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ.
16.
نصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي، جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي (المتوفى: 762 هـ)، صححه ووضع الحاشية: عبد العزيز الديوبندي الفنجاني، إلى كتاب الحج، ثم أكملها محمد يوسف الكاملفوري، تحقيق: محمد عوامة، مؤسسة الريان للطباعة والنشر - بيروت -لبنان/ دار القبلة للثقافة الإسلامية- جدة – السعودية، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.
كتب الفقه وأصوله
تاريخ الفقه الإسلامي
1.
أبو حنيفة حياته وعصره آراؤه الفقهية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
2.
تاريخ الفقه الإسلامي، إلياس دردور، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1431 هـ - 2010 م.
3.
دراسات في الفقه الإسلامي، عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان ومحمد إبراهيم أحمد علي، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، الكتاب السادس والعشرون، بدون تاريخ وطبعة.
4.
رسالة في بيان الكتب التي يعول علها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد على ابن كمال باشا، محمد بخيت المطيعي، بعناية حسن السماحي سويدان، دار القادري للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1429 هـ - 2008 م.
5.
المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقاء، دار البشير – جدة، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1998 م.
6.
المدخل الوسيط لدراسة الشريعة الإسلامية والفقه والتشريع، نضر فريد محمد واصل، المكتبة التوفيقية، بدون طبعة وتاريخها.
7.
المدخل إلى علم الفقه، سليمان بن عبد الله بن حمود أبا الخيل، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2016 هـ
8.
المدخل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، أحمد سعيد حوى، دار الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى، 1432 هـ - 2002 م.
9.
المدخل في الفقه الإسلامي، محمد مصطفى الشلبي، الدار الجامعية، الطبعة العاشرة، 1405 هـ - 1985 م.
10.
نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي، علي حسن عبد القادر، مكتبة القاهرة الحديثة، الطبعة الثانية، 1956 م.
أصول الفقه
1.
الإحكام في أصول الأحكام، أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631 هـ)، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت – دمشق – لبنان، بدون طبعة وتاريخها.
2.
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250 هـ)، تحقيق: الشيخ أحمد عزو عناية، دمشق - كفر بطنا، قدم له الشيخ خليل الميس والدكتور ولي الدين صالح فرفور، دار الكتاب العربي، الطبعة الطبعة الأولى 1419 هـ - 1999 م.
3.
الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري (المتوفى: 970 هـ)، وضع حواشيه وخرج أحاديثه: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1999 م.
4.
الأشباه والنظائر، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990 م.
5.
إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ)، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م.
6.
البحر المحيط في أصول الفقه، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794 هـ)، دار الكتبي، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م.
7.
التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885 هـ)، تحقيق: عبد الرحمن الجبرين، عوض القرني، أحمد السراح، مكتبة الرشد – السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
8.
تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885 هـ)، تحقيق: عبد الله هاشم، د. هشام العربي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، الطبعة الأولى، 1434 هـ - 2013 م.
9.
تقرير القواعد وتحرير الفوائد [المشهور ب «قواعد ابن رجب»]، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (المتوفى: 795 هـ)، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
10.
التوضيح شرح التنقيح، للقاضي صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي، نسخة مصورة من قِبل شركة غوغل، وموجودة في مكتبة جامعة برينستون، المطبعة الإمبراطورية، أذنت بطباعتها نظارة المعارف الروسية، 1301 هـ.
11.
شرح القواعد الفقهية، أحمد بن الشيخ محمد الزرقا [1285 هـ - 1357 هـ]، صححه وعلق عليه: مصطفى أحمد الزرقا، دار القلم – دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 1409 هـ - 1989 م.
12.
شرح مختصر الروضة، سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (المتوفى: 716 هـ)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م.
13.
العدة في أصول الفقه، القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458 هـ)، حققه وعلق عليه وخرج نصه: د أحمد بن علي بن سير المباركي، الأستاذ المشارك في كلية الشريعة بالرياض - جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الثانية 1410 هـ - 1990 م.
14.
الكافي شرح البزدوي، حسام الدين السِّغْنَاقي، تحقيق: فخر الدين سيد محمد قانت (رسالة دكتوراه)، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.
15.
المحصول، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 هـ)، تحيق: طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1418 هـ - 1997 م.
16.
المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505 هـ)، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م.
17.
المسودة في أصول الفقه، آل تيمية [بدأ بتصنيفها الجدّ: مجد الدين عبد السلام بن تيمية (ت: 652 هـ)، وأضاف إليها الأب: عبد الحليم بن تيمية (ت: 682 هـ)، ثم أكملها الابن الحفيد: أحمد بن تيمية (728 هـ)]، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي، بدون طبعة وتاريخ.
18.
الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790 هـ)، تحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.
19.
موسوعة القواعد الفقهية، محمد صدقي بن أحمد بن محمد آل بورنو أبو الحارث الغزي، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م.
20.
نهاية السول شرح منهاج الوصول، عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعيّ، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 772 هـ)، دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1420 هـ- 1999 م.
21.
نهاية الوصول في دراية الأصول، صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي الهندي (715 هـ)، تحقيق: صالح بن سليمان اليوسف - د. سعد بن سالم السويح، أصل الكتاب رسالتا دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المكتبة التجارية بمكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م.
22.
الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق – سوريا، الطبعة: الثانية، 1427 هـ - 2006 م.
الفقه الحنفي
1.
اختلاف أبي حَنيفة وابن أبي ليلى، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة الأنصاري (المتوفى: 182 هـ)، عني بتصحيحه والتعليق عليه: أبو الوفا الأفغاني، لجنة إحياء المعارف النعمانية، الهند، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.
2.
الاختيار لتعليل المختار، عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي البلدحي، مجد الدين أبو الفضل الحنفي (المتوفى: 683 هـ)، عليها تعليقات الشيخ محمود أبو دقيقة، مطبعة الحلبي – القاهرة، 1356 هـ - 1937 م.
3.
الأصل المعروف بالمبسوط، أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني (المتوفى: 189 هـ)، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية – كراتشي، بدون طبعة وتاريخ.
4.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري (المتوفى: 970 هـ)، وفي آخره: تكملة البحر الرائق لمحمد بن حسين بن علي الطوري الحنفي القادري (ت بعد 1138 هـ)، وبالحاشية: منحة الخالق لابن عابدين، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية - بدون تاريخ.
5.
بداية المبتدي في فقه الإمام أبي حنيفة، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، أبو الحسن برهان الدين (المتوفى: 593 هـ)، مكتبة ومطبعة محمد علي صبح – القاهرة، بدون تاريخ وطبعة.
6.
بدائع الصنائع، علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي (المتوفى: 587 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م.
7.
البناية شرح الهداية، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى (المتوفى: 855 هـ)، دار الكتب العلمية – بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
8.
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ، عثمان بن علي بن محجن البارعي، فخر الدين الزيلعي الحنفي (المتوفى: 743 هـ)، والحاشية: شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن يونس بن إسماعيل بن يونس الشِّلْبِيُّ (المتوفى: 1021 هـ)، المطبعة الكبرى الأميرية - بولاق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1313 هـ.
9.
التجريد، أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان أبو الحسين القدوري (المتوفى: 428 هـ)، تحقيق: مركز الدراسات الفقهية والاقتصادية، محمد أحمد سراج وعلي جمعة محمد، دار السلام – القاهرة، الطبعة الثانية، 1427 هـ - 2006 م.
10.
تحفة الفقهاء، محمد بن أحمد بن أبي أحمد، أبو بكر علاء الدين السمرقندي (المتوفى: نحو 540 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1994 م.
11.
تحفة الملوك (في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان)، زين الدين محمد بن أبي بكر الرازي الحنفي (المتوفى: 666 هـ)، تحقيق: عبد الله نذير أحمد، دار البشائر الإسلامية – بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
12.
التقرير والتحبير، أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن أمير حاج ويقال له ابن الموقت الحنفي (المتوفى: 879 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م.
13.
التنبيه على مشكلات الهداية، صدر الدين عليّ بن عليّ ابن أبي العز الحنفي (المتوفى 792 هـ)، تحقيق: عبد الحكيم بن محمد شاكر (ج 1، 2، 3) - أنور صالح أبو زيد (ج 4، 5)، أصل الكتاب: رسالة ماجستير- الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م.
14.
الجامع الصغير مع شرحه النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير، أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، باكستان – كراتشي، بدون طبعة، 1411 هـ - 1990 م
15.
جامع المضمرات شرح مختصر القدوري (مخطوط)، يوسف بن عمر بن يوسف الكدوري (ت 832 هـ)، موجود في مكتبة الملك عبد العزيز العامة، عدد الصفحات: 657، بدون معلومات إضافية.
16.
الجوهرة النيرة على مختصر القدوري، أبو بكر بن علي بن محمد الحدادي العبادي الزَّبِيدِيّ اليمني الحنفي (المتوفى: 800 هـ)، المطبعة الخيرية، الطبعة الأولى، 1322 هـ.
17.
حلبي كبير (غنية المتملي في شرح منية المصلي المشتهر بشرح الكبير)، إبراهيم الحلبي، دار سعادت، بدون طبعة، 1325 هـ.
18.
الخراج، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة الأنصاري (المتوفى: 182 هـ)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد وسعد حسن محمد، المكتبة الأزهرية للتراث، طبعة جديدة مضبوطة مفهرسة ومحققة، بدون تاريخ.
19.
خلاصة الدلائل في تنقيح المسائل (شرح مختصر القدوري)، علي بن أحمد الرازي (ت 598 هـ)، تحقيق الكتاب: من بدايته إلى آخر باب الهدي، بحث أعد لنيل درجة الماجستير، إعداد الطالب: خالد بن راشد بن محمد المشعان، إشراف: حسن بن خلف الجبوري، جامعة أم القرى، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، 1422 هـ.
20.
درر الحكام شرح غرر الأحكام، محمد بن فرامرز بن علي الشهير بملا - أو منلا أو المولى - خسرو (المتوفى: 885 هـ)، دار إحياء الكتب العربية، بدون طبعة وتاريخ.
21.
رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي (المتوفى: 1252 هـ)، دار الفكر-بيروت، الطبعة الثانية، 1412 هـ - 1992 م.
22.
زاد الفقهاء شرح مختصر القدوري (من بداية كتاب إحياء الموات إلى نهاية الكتاب)، أبو المعالي بهاء الدين محمد بن أحمد الإسبيجاني (ت 591 هـ)، رسالة دكتوراه في الفقه – جامعة أم القرى، دراسة وتحقيق: عيد بن محمد بن حمد الدوسري، تاريخ المناقشة: 1435 هـ - 2014 م، ولم تطبع بعد.
23.
السعاية في كشف ما في شرح الوقاية، محمد عبد الحي اللكنوي (ت 1304 هـ)، اعتنى به الدكتور صلاح محمد أبو الحاج، مركز العلماء العالمي للدراسات وتقنية المعلومات، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.
24.
شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي (المتوفى: 1252 هـ)، مركز توعية الفقه الإسلامي، حيدر أباد، الطبعة الثانية، 1422 هـ
25.
شرح الوقاية لصدر الشريعة عبيد الله مسعود المحبوبي ومعه منتهى النقاية على شرح الوقاية لصلاح محمد أبو الحاج، الوراق للنشر والتوزيع - عمان، الطبعة الأولى، 2006.
26.
شرح مختصر الطحاوي، أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (المتوفى: 370 هـ)، تحقيق: د. عصمت الله عنايت الله محمد - أ. د. سائد بكداش - د محمد عبيد الله خان - د زينب محمد حسن فلاتة، دار البشائر الإسلامية – ودار السراج، الطبعة الأولى، 1431 هـ - 2010 م.
27.
عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، أحمد بن عبد الرحيم بن الشهيد وجيه الدين بن معظم بن منصور المعروف بالشاه ولي الله الدهلوي، تحقيق: محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية – القاهرة، بدون طبعة وتاريخ.
28.
عمدة الرعاية على شرح الوقاية، عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي، بهامشه غاية العناية على عمدة الرعاية لصلاح أبو الحاج، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 2009 م.
29.
العناية شرح الهداية، محمد بن محمد بن محمود الرومي البابرتي، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
30.
الفتاوى الخيرية لنفع البرية، خير الدين بن أحمد بن علي بن زين الدين ابن عبد الوهّاب الأيوبي، العليمي الفاروقي الرملي الحنفي (ت 1081 هـ)، الطبعة الثانية بالمطبعة الكبرى الميرية ببولاق مصر المحمية، 1300 هـ
31.
فتاوى قاضيخان في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، فخر الدين أبي المحاسن الحسن بن منصور المعروف بقاضيخان الأوزجندي الفرغاني (ت 592 هـ)، اعتنى بها سالم مصطفى البدري، دار الكتب العلمية، 2009 م.
32.
فتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861 هـ)، وبأعلى الصفحة كتاب الهداية، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
33.
فتح باب العناية بشرح النقاية، نور الدين أبو الحسن علي بن سلطان محمد الهروي القاري (ت 1014 هـ)، اعتنى به محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، بدون طبعة، 1418 هـ - 1997 م.
34.
كنز الدقائق، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (المتوفى: 710 هـ)، تحقيق: سائد بكداش، دار البشائر الإسلامية ودار السراج، الطبعة الأولى، 1432 هـ - 2011 م.
35.
اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، جمال الدين أبو محمد علي بن أبي يحيى زكريا بن مسعود الأنصاري الخزرجي المنبجي (المتوفى: 686 هـ)، تحقيق: محمد فضل عبد العزيز المراد، دار القلم - الدار الشامية - سوريا/ دمشق - لبنان/ بيروت، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1994 م.
36.
المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483 هـ)، دار المعرفة – بيروت، بدون طبعة، 1414 هـ - 1993 م
37.
مجلة الأحكام العدلية، لجنة مكونة من عدة علماء وفقهاء في الخلافة العثمانية، تحقيق: نجيب هواويني، نور محمد كارخانه تجارت كتب، آرام باغ، كراتشي، بدون طبعة وتاريخ.
38.
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن محمد بن سليمان المدعو بشيخي زاده، يعرف بداماد أفندي (المتوفى: 1078 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بدون طبعة وبدون تاريخ.
39.
مجمع البحرين وملتقى النيرين في الفقه الحنفي، مظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب المعروف بابن الساعاتي الحنفي (ت 694 هـ)، تحقيق: إلياس قبلان، دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م.
40.
المحيط البرهاني في الفقه النعماني فقه الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، أبو المعالي برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مَازَةَ البخاري الحنفي (المتوفى: 616 هـ)، تحقق: عبد الكريم سامي الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م.
41.
مختصر الطحاوي، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي (ت 321 هـ)، عنى بتحقيق أصوله والتعليق عليها أبو الوفاء الأفغاني، عنيت بنشره لجنة إحياء المعارف النعمانية بحدرآباد بالهند، بدون طبعة وتاريخ.
42.
مختصر القدوري في الفقه الحنفي، أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان أبو الحسين القدوري (المتوفى: 428 هـ)، تحقيق: كامل محمد محمد عويضة، دار الكتب العلمية، 1418 هـ - 1997 م.
43.
ملتقى الأبحر، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحَلَبي الحنفي (المتوفى: 956 هـ)، خرج آياته وأحاديثه خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية – لبنان – بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م.
44.
ناظورة الحق في فرضية العشاء وإن لم يغب الشفق، شهاب الدين هارون بن بهاء الدين المرجاني، تحقيق: أورخان بن إدريس أنجقار وعبد القادر بن سلجوق ييلماز، دار الفتح للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1433 هـ - 2012 م
45.
النهر الفائق شرح كنز الدقائق، سراج الدين عمر بن إبراهيم بن نجيم الحنفي (ت 1005 هـ)، تحقيق: أحمد عزو عناية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 هـ.
46.
الهداية في شرح بداية المبتدي، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، أبو الحسن برهان الدين (المتوفى: 593 هـ)، تحقيق طلال يوسف، دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان، بدون تاريخ.
الفقه المالكي
1.
إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك، عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي، أبو زيد أو أبو محمد، شهاب الدين المالكي (المتوفى: 732 هـ)، وبهامشه تقريرات مفيدة لإبراهيم بن حسن، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ.
2.
الإشراف على نكت مسائل الخلاف، القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي (422 هـ)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.
3.
بداية المجتهد ونهاية (كفاية) المقتصد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (المتوفى: 595 هـ)، دار الحديث – القاهرة، بدون طبعة، 1425 هـ - 2004 م.
4.
بلغة السالك لأقرب المسالك المعروف بحاشية الصاوي على الشرح الصغير (الشرح الصغير هو شرح الشيخ الدردير لكتابه المسمى أقرب المسالك لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ)، أبو العباس أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي المالكي (المتوفى: 1241 هـ)، دار المعارف، بدون طبعة وتاريخ.
5.
البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (المتوفى: 520 هـ)، تحقيق: محمد حجي وآخرون، دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م.
6.
التاج والإكليل لمختصر خليل، محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي، أبو عبد الله المواق المالكي (المتوفى: 897 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1994 م.
7.
التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، عبيد الله بن الحسين بن الحسن أبو القاسم ابن الجَلَّاب المالكي (المتوفى: 378 هـ)، تحقيق: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1428 – 2007 م
8.
التهذيب في اختصار المدونة، خلف بن أبي القاسم محمد، الأزدي القيرواني، أبو سعيد ابن البراذعي المالكي (المتوفى: 372 هـ)، محمد الأمين ولد محمد سالم بن الشيخ، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م.
9.
التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب، خليل بن إسحاق الجندي المالكي، تحقيق: أبو الفضل الدمياطي، مركز التراث الثقافي المغربي – دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1433 هـ - 2012 م
10.
جامع الأمهات، عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب الكردي المالكي (المتوفى: 646 هـ)، تحقيق: أبو عبد الرحمن الأخضر الأخضري، اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1421 هـ - 2000 م.
11.
الجامع لمسائل المدونة، أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي (المتوفى: 451 هـ)، تحقيق مجموعة باحثين في رسائل دكتوراه، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي - جامعة أم القرى (سلسلة الرسائل الجامعية الموصى بطبعها)، توزيع دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1434 هـ - 2013 م.
12.
جواهر الإكليل شرح مختصر الشيخ خليل، صالح عبد السميع الآبي الأزهري، المكتبة الثقافية، بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
13.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (المتوفى: 1230 هـ)، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
14.
الدر الثمين والمورد المعين (شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين)، محمد بن أحمد ميارة المالكي، تحقيق: عبد الله المنشاوي، دار الحديث القاهرة، 1429 هـ - 2008 م.
15.
الذخيرة، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684 هـ)، تحقيق محمد حجي، سعيد أعراب ومحمد بو خبزة، دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى، 1994 م.
16.
الرسالة، أبو محمد عبد الله بن (أبي زيد) عبد الرحمن النفزي، القيرواني، المالكي (المتوفى: 386 هـ)، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
17.
شرح الزرقاني على مختصر خليل ومعه الفتح الرباني فيما ذهل عنه الزرقاني، عبد الباقي بن يوسف بن أحمد الزرقاني المصري (المتوفى: 1099 هـ)، ضبطه وصححه وخرج آياته: عبد السلام محمد أمين، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 م.
18.
شرح مختصر خليل للخرشي، محمد بن عبد الله الخرشي المالكي أبو عبد الله (المتوفى: 1101 هـ)، وبهامشه حاشية العدوي، دار الفكر للطباعة – بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
19.
عيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد البغدادي المالكي المعروف بابن القصار (المتوفى: 397 هـ)، عبد الحميد بن سعد بن ناصر السعودي، مكتبة الملك فهد الوطنية – الرياض، بدون طبعة، 1426 هـ - 2006 م.
20.
الكافي في فقه أهل المدينة، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى: 463 هـ)، تحقيق: محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1400 هـ - 1980 م.
21.
المختصر الفقهي لابن عرفة، محمد بن محمد ابن عرفة الورغمي التونسي المالكي، أبو عبد الله (المتوفى: 803 هـ)، تحقيق: حافظ عبد الرحمن محمد خير، مؤسسة خلف أحمد الخبتور للأعمال الخيرية، الطبعة الأولى، 1435 هـ - 2014 م
22.
مختصر خليل، خليل بن إسحاق بن موسى، ضياء الدين الجندي المالكي المصري (المتوفى: 776 هـ)، تحقيق: أحمد جاد، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م.
23.
المدونة، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1994 هـ.
24.
مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها، أبو الحسن علي بن سعيد الرجراجي (المتوفى: بعد 633 هـ)، اعتنى به أبو الفضل الدمياطي – أحمد بن علي، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م
25.
مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (المتوفى: 954 هـ)، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1412 هـ - 1992 م.
26.
النوادر والزيادات على ما في المدونة وغيرها من الأمهات، أبو محمد بن عبد الرحمن النفزي القيرواني المالكي (المتوفى: 386 هـ)، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1999 هـ.
الفقه الشافعي
1.
أسنى المطالب في شرح روض الطالب، زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري، زين الدين أبو يحيى السنيكي (المتوفى: 926 هـ)، دار الكتاب الإسلامي، بدون طبعة وتاريخ.
2.
الإقناع في الفقه الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450 هـ)، كتابخانه ملى ايران، الطبعة الأولى، 1420 هـ.
3.
الأم، الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204 هـ)، دار المعرفة، بيروت، بدون طبعة، 1410 هـ - 1990 م.
4.
الأم، الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204 هـ)، دار المعرفة – بيروت، بطون طبعة، 1410 هـ - 1990 م.
5.
بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي، أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني (ت 502 هـ)، طارق فتحي السيد، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2009 م
6.
البيان في مذهب الإمام الشافعي، أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي (المتوفى: 558 هـ)، تحقيق: قاسم محمد النوري، دار المنهاج – جدة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
7.
التهذيب في فقه الإمام الشافعي، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 516 هـ)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.
8.
جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود، شمس الدين محمد بن أحمد بن علي بن عبد الخالق، المنهاجي الأسيوطي ثم القاهري الشافعي (المتوفى: 880 هـ)، حققها وخرج أحاديثها: مسعد عبد الحميد محمد السعدني، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م.
9.
حاشية ابن حجر الهيتمي على شرح الإيضاح في مناسك الحج للنووي، ابن حجر الهيتمي – النووي، دار الحديث للطباعة والنش والتوزيع، بيروت – لبنان، بدون طبعة وتاريخ.
10.
حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المحلي على منهاج الطالبين، أحمد سلامة القليوبي وأحمد البرلسي عميرة، دار الفكر، بيروت، بدون طبعة، 1415 هـ - 1995 م.
11.
الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450 هـ)، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض - الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1419 م - 1999 م.
12.
حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر، أبو بكر الشاشي القفال الفارقيّ، الملقب فخر الإسلام، المستظهري الشافعي (المتوفى: 507 هـ)، تحقيق: ياسين أحمد إبراهيم درادكة، مؤسسة الرسالة/ دار الأرقم - بيروت/ عمان، الطبعة الأولى، 1980 م.
13.
روضة الطالبين وعمدة المفتين، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت-دمشق-عمان، الطبعة الثالثة، 1412 هـ - 1991 م.
14.
العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير، عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، أبو القاسم الرافعي القزويني (المتوفى: 623 هـ)، تحقيق: علي محمد عوض - عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.
15.
فتاوى ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن، أبو عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (المتوفى: 643 هـ)، تحقيق: موفق عبد الله عبد القادر، مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب – بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ.
16.
فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب = القول المختار في شرح غاية الاختصار (ويعرف بشرح ابن قاسم على متن أبي شجاع)، محمد بن قاسم بن محمد بن محمد، أبو عبد الله، شمس الدين الغزي، ويعرف بابن قاسم وبابن الغرابيلي (المتوفى: 918 هـ)، بعناية: بسام عبد الوهاب الجابي، الجفان والجابي للطباعة والنشر، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2005 م.
17.
فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب المعروف بحاشية الجمل (منهج الطلاب اختصره زكريا الأنصاري من منهاج الطالبين للنووي ثم شرحه في شرح منهج الطلاب)، سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري، المعروف بالجمل (المتوفى: 1204 هـ)، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
18.
اللباب في الفقه الشافعي، أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم الضبي، أبو الحسن ابن المحاملي الشافعيّ (المتوفى: 415 هـ)، تحقيق: عبد الكريم صنيتان العمري، دار البخاري، المدينة النبوية، السعودية، الطبعة الأولى، 1416 هـ.
19.
متن أبي شجاع المسمى الغاية والتقريب، أحمد بن الحسين بن أحمد، أبو شجاع، شهاب الدين أبو الطيب الأصفهاني (المتوفى: 593 هـ)، عالم الكتب، بدون طبعة وتاريخ.
20.
المجموع شرح المهذب مع تكملة السبكي والمطيعي، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
21.
مختصر المزني (مطبوع ملحقا بالأم للشافعي)، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، أبو إبراهيم المزني (المتوفى: 264 هـ)، دار المعرفة – بيروت، 1410 هـ - 1990 م.
22.
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (المتوفى: 977 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1994 م.
23.
منهاج الطالبين وعمدة المفتين في الفقه، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، تحقيق: عوض قاسم أحمد عوض، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2005 م.
24.
المهذب في فقه الإمام الشافعي، أبو اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (المتوفى: 476 هـ)، دار الكتب العلمية، بدون طبعة وتاريخ.
25.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة شهاب الدين الرملي (المتوفى: 1004 هـ)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأخيرة، 1404 هـ - 1984 م.
26.
نهاية المطلب في دراية المذهب، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (المتوفى: 478 هـ)، حققه وصنع فهارسه: عبد العظيم محمود الديب، دار المنهاج، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.
27.
الوسيط في المذهب، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505 هـ)، تحقيق: أحمد محمود إبراهيم ومحمد محمد تامر، دار السلام – القاهرة، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
الفقه الحنبلي
1.
الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى بن سالم الحجاوي المقدسي، ثم الصالحي، شرف الدين، أبو النجا (المتوفى: 968 هـ)، تحقيق: عبد اللطيف محمد موسى السبكي، دار المعرفة، بيروت – لبنان، بدون طبعة وتاريخ.
2.
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885 هـ)، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
3.
حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي النجدي (المتوفى: 1392 هـ)، الطبعة الأولى، 1397 هـ.
4.
دقائق أولي النهى لشرح المنتهى المعروف بشرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتى الحنبلى (المتوفى: 1051 هـ)، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م.
5.
الشرح الكبير (المطبوع مع المقنع والإنصاف)، شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي (المتوفى: 682 هـ)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة - جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م.
6.
الشرح الكبير على متن المقنع، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الحنبلي، أبو الفرج، شمس الدين (المتوفى: 682 هـ)، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، أشرف على طباعته: محمد رشيد رضا (صاحب المنار)، بدون طبعة وتاريخ.
7.
العدة شرح العمدة، عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد، أبو محمد بهاء الدين المقدسي (المتوفى: 624 هـ)، دار الحديث، بدون طبعة، 1424 هـ - 2003 م.
8.
عمدة الفقه، موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (المتوفى: 620 هـ)، تحقيق: أحمد محمد عزوز، المكتبة المصرية، طبعة العام 1425 هـ - 2004 م، بدون رقمها.
9.
الكافي في فقه الإمام أحمد، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م.
10.
كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتى الحنبلى (المتوفى: 1051 هـ)، دار الكتب العلمية، بدون طبعة وتاريخ.
11.
كفاية النبيه في شرح التنبيه، أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، أبو العباس، نجم الدين، المعروف بابن الرفعة (المتوفى: 710 هـ)، تحقيق: مجدي محمد سرور باسلوم، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2000 م
12.
المبدع في شرح المقنع، إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبو إسحاق، برهان الدين (المتوفى: 884 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.
13.
المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد، ابن تيمية الحراني، أبو البركات، مجد الدين (المتوفى: 652 هـ)، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م.
14.
مختصر الخرقي على مذهب ابي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي (المتوفى: 334 هـ)، دار الصحابة للتراث، بدون طبعة، 1413 هـ - 1993 هـ.
15.
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241 هـ)، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م.
16.
مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابن أبي الفضل صالح [203 هـ - 266 هـ]، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241 هـ)، الدار العلمية – الهند، بدون طبعة وتاريخ.
17.
مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، إسحاق بن منصور بن بهرام المعروف بالكوسج (المتوفى: 251 هـ)، الناشر عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2002 م.
18.
مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275 هـ)، تحقيق: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد، مكتبة ابن تيمية، مصر، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.
19.
المغني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620 هـ)، مكتبة القاهرة، بدون طبعة، 1388 هـ - 1968 هـ.
20.
الممتع في شرح المقنع، زين الدين المُنَجَّى بن عثمان بن أسعد ابن المنجى التنوخي الحنبلي (631 - 695 هـ)، تحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة الأسدي، مكة المكرمة، الطبعة الثالثة، 1424 هـ - 2003 م
21.
المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد، منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتى الحنبلى، تحيق: عبد الله بن محمد المطلق، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2006 م.
22.
الهداية على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، محفوظ بن أحمد بن الحسن، أبو الخطاب الكلوذاني، تحقيق: عبد اللطيف هميم وماهر ياسين الفحل، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م.
الفقه المقارن
1.
الأرش وأحكامه، حسين بن عبد الله العبيدي، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م.
2.
الخلافيات، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 هـ)، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان، دار الصميعي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.
3.
الفقه الإسلامي وأدلته، أ. د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ، دار الفكر - سوريَّة – دمشق، الطبعة الرَّابعة المنقَّحة المعدَّلة بالنِّسبة لما سبقها (وهي الطبعة الثانية عشرة لما تقدمها من طبعات مصورة)، بدون تاريخ الطبعة.
4.
مختصر خلافيات البيهقي، أحمد بن فرح اللخمي الإشبيلي الشافعي، تحقيق: ذياب العقل وإبراهيم الخضير، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.
5.
المسح على الجوربين، محمد جمال الدين القاسمي ويليه إتمام النصح في أحكام المسح للأباني، قدم لأصل الكتاب أحمد محمد شاكر، وحققه ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1399 هـ - 1979 م.
6.
الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت، الطبعة الثانية، دار السلاسل – الكويت (1 - 23)، الطبعة الأولى، مطابع دار الصفوة – مصر (24 - 38)، الطبعة الثانية، طبع الوزارة (39 - 45)، الطبعة العامة (1404 م - 1427 م).
الفقه العام
1.
الإجماع، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (المتوفى: 319 هـ)، تحقيق: فوائد عبد المنعم أحمد، دار المسلم للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م
2.
الإجماع، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (المتوفى: 319 هـ)، تحقيق: صغير أحمد بن محمد حنيف، مكتبة مكة الثقافية (رأس الخيمة) ومكتبة الفرقان (عجمان)، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 1999 م.
3.
الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (المتوفى: 319 هـ)، تحقيق: أبو حماد صغير أحمد بن محمد حنيف، دار طيبة، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى، (ستة أجزاء فقط)، 1405 هـ - 1985 م.
4.
المكاييل والموازين الشرعية، على جمعة محمد، القدس للإعلان والنشر والتسويق – القاهرة، الطبعة الثانية، 1421 هـ - 2001 م.
الفتاوى
1.
الفتاوى الكبرى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م.
2.
مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ)، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، بدون طبعة، 1416 هـ - 1995 م.
3.
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)، جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، دار الوطن – دار الثريا، الطبعة الأخيرة، 1413 هـ.
4.
النتف في الفتاوى، أبو الحسن علي بن الحسين بن محمد السُّغْدي، حنفي (المتوفى: 461 هـ)، تحقيق: صلاح الدين الناهي، دار الفرقان/ مؤسسة الرسالة، عمان الأردن/ بيروت لبنان، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م.
كتب الغريب والمعاجم
1.
تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 هـ)، مجموعة من المحققين، دار الهداية، بدون تاريخ.
2.
تحرير ألفاظ التنبيه، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، تحقيق: عبد الغني الدقر، دار القلم – دمشق، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
3.
تهذيب الأسماء واللغات، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه ومقابلة أصوله: شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، بدون طبعة وتاريخ.
4.
تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370 هـ)، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م.
5.
التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031 هـ)، عالم الكتب 38 عبد الخالق ثروت-القاهرة، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م.
6.
جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (المتوفى: 321 هـ)، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة الأولى، 1987 م.
7.
دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، القاضي الأحمد نكري، دار الكتب العلمية، لبنان – بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
8.
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393 هـ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة الرابعة 1407 هـ - 1987 م.
9.
غريب الحديث، إبراهيم بن إسحاق الحرْبي أبو إسحاق [198 - 285]، تحقيق: د. سليمان إبراهيم محمد العايد، جامعة أم القرى - مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1405 هـ.
10.
غريب الحديث، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي (المتوفى: 388 هـ)، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم الغرباوي، خرج أحاديثه: عبد القيوم عبد رب النبي، دار الفكر – دمشق، 1402 هـ - 1982 م.
11.
غريب الحديث، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224 هـ)، تحقيق: محمد عبد المعيد خان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد- الدكن، الطبعة الأولى، 1384 هـ - 1964 م.
12.
غريب الحديث، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276 هـ)، تحقيق: عبد الله الجبوري، مطبعة العاني – بغداد، الطبعة الأولى، 1397 هـ.
13.
القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى: 817 هـ)، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة الثامنة، 1426 هـ - 2005 م.
14.
كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (المتوفى: 170 هـ)، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، بدون طبعة وتاريخ.
15.
لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711 هـ)، دار صادر – بيروت، الطبعة الثالثة - 1414 هـ.
16.
مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار، جمال الدين، محمد طاهر بن علي الصديقي الهندي الفَتَّنِي الكجراتي (المتوفى: 986 هـ)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الثالثة، 1387 م - 1967 م.
17.
مختار الصحاح، زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (المتوفى: 666 هـ)، تحقيق: يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية – الدار النموذجية، بيروت – صيدا، الطبعة الخامسة، 1420 هـ - 1999 م.
18.
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس (المتوفى: نحو 770 هـ)، المكتبة العلمية، بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
19.
معجم لغة الفقهاء، محمد رواس قلعجي - حامد صادق قنيبي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م.
20.
المغرب في ترتيب المعرب، ناصر بن عبد السيد الخوارزمي المطرزي (المتوفى: 610 هـ)، دار الكتاب العربي، بدون طبعة وتاريخ.
21.
مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفى: 395 هـ)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399 هـ - 1979 م.
22.
النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفى: 606 هـ)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى - محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 هـ - 1979 م.
كتب التراجم
1.
أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار (مخطوط)، محمود بن سليمان الحنفي الرومي الكفوي، المصدر: مخطوطات كتابخانة مجلس شوراي ملي بإيران، 652 ورقة، ويوجد قطعة منه بالجامعة الإسلامية برقم 601 و 4366.
2.
التاريخ الكبير للبخاري بحواشي محمود خليل، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256 هـ)، دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد – الدكن، طبع تحت مراقبة محمد عبد المعيد خان، بدون طبعة وتاريخ.
3.
رسالة في طبقات الفقهاء (مخطوط)، ابن كمال باشا، معهد الثقافة والدراسات الشرقية، جامعة طوكيو – يابان، بدون تاريخ.
4.
طبقات الحنفية، علاء الدين بن أمر الله الحميدي المعروف بابن الحنائي، تحقيق ودراسة: محي هلال السرحان، الناشر مطبعة ديوان الوقف السني - بغداد - الطبعة الأولى – 2005 م
5.
الطبقات السنية في تراجم الحنفية، التميمي الغزي، تحقيق: محمد عبد الفتاح الحلو، القاهرة، 1390 هـ - 1970 م، بدون طبعة.
6.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية معه التعليقات السنية، أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، بدون طبعة وتاريخ.
7.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية، أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، عني بتصحيحه وتعليق بعض الزوائد عليه: محمد بدر الدين أبو فراس النعاني، دار الكتاب الإسلامي – قاهرة، 1324 هـ.
8.
الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام المسمى ب (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر)، عبد الحي بن فخر الدين بن عبد العلي الحسني الطالبي (المتوفى: 1341 هـ)، دار ابن حزم - بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.
9.
الجواهر المضية في طبقات الحنفية، عبد القادر بن محمد بن نصر الله القرشي، أبو محمد، محيي الدين الحنفي (المتوفى: 775 هـ)، مير محمد كتب خانه – كراتشي، بدون طبعة وتاريخ.
10.
طبقات الفقهاء، أبو اسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (المتوفى: 476 هـ)، هذبه محمد بن مكرم ابن منظور (المتوفى: 711 هـ)، تحقيق: إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1970 م.
11.
معجم المفسرين «من صدر الإسلام وحتى العصر الحاضر» ، عادل نويهض، قدم له: مُفتي الجمهورية اللبنانية الشَّيْخ حسن خالد، مسؤسسة نويهض الثقافية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة، 1409 هـ - 1988 م.
12.
طبقات المفسرين العشرين، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، تحقيق: علي محمد عمر، مكتبة وهبة – القاهرة، الطبعة الأولى، 1396 هـ.
كتب عامة
1.
بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، بدون طبعة وتاريخها.
2.
تجارب وأنشطة وألعاب وتطبيقات علمية، د. خير سليمان شواهين، بدون طبعة وتاريخها.
المجلات العلمية
1.
مجلة أصول الشريعة للأبحاث التخصصية، المجلد 2، العدد 4، تشرين الأول، أكتوبر 2016 م.
المصادر باللغات الأخرى
1.
تاريخ الأدب العربي (النسخة الإنجليزية)، كارل بروكلمان، ترجمة جوؤب لامير، ليدن بروستن – بريل، طبعة أولى، 2016 هـ.
2.
موقع "سن اليأس": https:// www.menopause.org
3.
موقع الحمية: http:// www.weightlossforall.com
4.
موقع العلوم التطبيقية: https:// www.zmescience.com/
5.
موقع العلوم الحية: https:// www.livescience.com
6.
موقع سمارت وول (الصوف الذكي): https:// www.smartwool.com
7.
موقع مصادر الكيمياء: www.chemistrysources.com
فهرس الموضوعات
مقدمة 2
أهمية الموضوع: 4
أسباب اختيار الموضوع: 5
أهداف الموضوع: 5
الدراسات السابقة: 6
منهج البحث: 11
التمهيد 19
المبحث الأول: نبذة في تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره 19
تعريف الفقه لغةً واصطلاحًا: 19
أدوار الفقه الإسلامي: 22
المبحث الثاني: مقدمة في المذهب الحنفي: 28
المطلب الأول: طبقات علماء المذهب الحنفي: 28
المطلب الثاني: طبقات الكتب والمسائل في المذهب الحنفي: 33
المطلب الثالث: مصطلحات المذهب الحنفي: 40
المطلب الرابع: قواعد الترجيح في المذهب الحنفي: 42
المبحث الثالث: المراد بالألفاظ الأساسية التي تضمنها عنوان البحث 47
المطلب الأول: المراد بالمتأخرين في المذهب الحنفي: 47
المطلب الثاني: المراد بقولهم: (عليه الفتوى) في المذهب الحنفي 49
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العبادات 52
المبحث الأول: في مسائل الطهارة 52
المطلب الأول: في مسائل الوضوء: 52
المطلب الثاني: المسح على الجوربين: 78
المطلب الثالث: صلاة المتيمم إذا رأى النبيذ 87
المطلب الرابع: الحيض والاستحاضة: 91
المطلب الخامس: كيفية تطهير الخف ونحوه: 109
المبحث الثاني: في مسائل الصلاة 113
المطلب الأول: وقت صلاة المغرب: 113
المطلب الثاني: السجود على الأنف دون الجبهة: 117
المطلب الثالث: وقت ابتداء التكبير وانتهائه في أيام عيد الأضحى 120
المبحث الثالث: الاحتيال لإسقاط الزكاة 126
المبحث الرابع: محرم قتل صيداً في يد محرم آخر 132
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في المعاملات: 139
المبحث الأول: في مسائل النكاح: 139
المطلب الأول: غياب الولي الأقرب غيبة منقطعة: 139
المطلب الثاني: أثر النكاح الفاسد في تحديد المدة المعتبرة لإثبات النسب: 143
المطلب الثالث: السفر بالزوجة قبل إعطائها مهرها: 146
المبحث الثاني: الطلاق بغير العربية: 149
المبحث الثالث: ظهار الذمي 152
المبحث الرابع: في مسائل الأيمان 160
المطلب الأول: قول كل حلال عليّ حرام: 160
المطلب الثاني: من حلف ألا يلبس حلياً فلبس عقد اللؤلؤ 165
المطلب الثالث: من حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن: 167
المبحث الخامس: في مسائل النفقة 169
المطلب الأول: وقت وجوب النفقة للزوجة وقدرها: 169
المطلب الثاني: نفقة الزوجة إذا حُبست في دين: 174
المطلب الثالث: نفقة الزوجة إذا حبست في سفرها مع محرم لأداء الحج: 176
المطلب الرابع: حد اليسار في النفقة: 178
المبحث السادس: في مسائل الإجارة 181
المطلب الأول: الإجارة على الطاعات: 181
المطلب الثاني: اختلاف المؤجر والمستأجر في أجرة العمل: 189
المبحث السابع: إسقاط حق الشفعة بالاحتيال وبتأخير الخصومة والمحاكمة: 192
المبحث الثامن: تذكية الصيد إذا أدركه المرسل حيًّا: 196
المبحث التاسع: في مسائل البيوع 199
المطلب الأول: ما يُعرَض بالأنموذج رؤية بعضه كرؤية كله: 199
المطلب الثاني: الرجوع بنقصان العيب في الطعام بعد أكله: 203
المطلب الثالث: في مسائل الربا 206
المطلب الرابع: السلم في الخبز: 219
المبحث العاشر: ثبوت الوكالة بالقبض وثبوت الوكالة بالخصومة والتقاضي 223
المبحث الحادي عشر: في مسائل المزارعة والمساقاة 226
المطلب الأول: حكم المزارعة: 226
المطلب الثاني: اشتراط الأعمال في المزارعة التي ليست منها 230
المطلب الثالث: حكم المساقاة: 232
المبحث الثاني عشر: وقف العقار والمنقول: 233
المبحث الثالث عشر: في مسائل الدعوى والشهادة 236
المطلب الأول: الحقوق التي يجوز فيها اليمين، والحقوق التي لا يجوز فيها: 236
المطلب الثاني: الاقتصار على ظاهر العدالة في الشاهد المسلم: 244
المبحث الرابع عشر: في مسائل القضاء 250
المطلب الأول: الحقوق التي يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي: 250
المطلب الثاني: إذا قضى القاضي في المجتهد فيه مخالفاً لرأيه: 255
المبحث الخامس عشر: في مسائل القسمة 257
المطلب الأول: كيفية قسمة البناء الذي له سفل وعلو: 257
المطلب الثاني: التعارض بين مصالح الجيران: 261
المبحث السادس عشر: ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل 264
المبحث السابع عشر: في مسائل الضمان 268
المطلب الأول: ضمان الإتلاف: 268
المطلب الثاني: ضمان الساعي بغير حق: 272
المبحث الثامن عشر: في مسائل الحجر 274
المطلب الأول: تحديد سن البلوغ وعلاماته: 274
المطلب الثاني: بيع القاضي عروض المدين وعقاره: 278
المبحث التاسع عشر: كيفية تقدير حكومة العدل 282
المبحث العشرون: مقدار ما يوقف للحمل من الميراث: 285
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العقوبات 290
المبحث الأول: الحد المتقادم: 290
المبحث الثاني: أثر المسافة في حد قطاع الطريق: 295
الخاتمة 299
الفهارس 305
فهرس الآيات 306
فهرس الأحاديث 309
فهرس الآثار 314
فهرس الأعلام 315
فهرس المصادر والمراجع 316
كتب التفسير وعلومه 316
كتب الحديث وعلومه 317
كتب الفقه وأصوله 326
كتب الغريب والمعاجم 347
كتب التراجم 349
كتب عامة 351
المجلات العلمية 351
المصادر باللغات الأخرى 351
فهرس الموضوعات 352
التمهيد
المبحث الأول: نبذة في تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره
تعريف الفقه لغةً واصطلاحًا:
قبل الدخول في الكلام عن الفقه وتاريخه وأدواره يحسن بنا تعريفه لغة واصطلاحاً حتى يتضح المراد منه.
تعريف الفقه لغةً:
تأتي كلمة الفقه في اللغة بمعنى العلم والنظر والتفطُّن فيما غمض، إذا ضُم عين الفعل أي فَقُه يَفْقُه إذا صار فقيهاً عالماً، وبمعنى مطلق الفهم إذا كُسر عينه أي فَقِه يَفْقَه بمعنى فهِم شيئًا ما
(1)
. وقيل: إنه لا فرق بينهما
(2)
، وكل عالم بشيء فهو فقيه
(3)
.
ثم خُص به علم الشريعة
(4)
وعلم الفروع منها خاصة
(5)
، وحقيقته الشَّقّ وَالفَتْحُ
(6)
، فكأن الفقه في مرحلة التعلّم لا يكون إلا بالشَّقّ (الذي يأتي بمعنى المشقّة والإظهار والطلوع)
(7)
والفتح (لما استُغلِق منه)
(8)
، وفي مرحلة التعليم يمكن أن يقال: إن الفقيه من يشتق الكلام ويفتح به على الآخرين.
(1)
كتاب العين، 3/ 370، الصحاح، 6/ 2243، تاج العروس، 36/ 456، غريب الحديث للحربي، 2/ 736، النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/ 465،
(2)
جمهرة اللغة، 2/ 968.
(3)
تهذيب اللغة، 5/ 263.
(4)
الصحاح، 6/ 2243.
(5)
مقاييس اللغة، 4/ 442.
(6)
لسان العرب، 13/ 522، النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/ 465.
(7)
لسان العرب، 10/ 181.
(8)
مقاييس اللغة، 4/ 469.
تعريف الفقه اصطلاحاً
اتخذ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- مسارَين لتعريف الفقه بعد استقلاله عن غيره من العلوم الشرعية
(1)
:
المسار الأول: ذهب أصحابه إلى أن الفقه حفظ مجموعة من مسائل الأحكام الشرعية العملية الواردة في الوحيَيْن، وما يُستنبط منهما، سواء كان قد حفظها بأدلتها أو لا
(2)
.
والمسار الثاني: الذي وافق أصحابه قول الأصوليين في تعريف الفقه، فقالوا: إن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية
(3)
.
شرح التعريف:
(العلم): معرفة المعلوم على ما هو به
(4)
، وضده الجهل بأنواعه.
(الأحكام): الحكم عند الفقهاء هو أثر خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً، فالحكم هو الأثر والنتيجة مثل الوجوب والاستحباب ونحوه، وليس الخطاب نفسه
(5)
.
(الشرعية): المتلقاة من الشرع ومأخوذة منه.
(1)
وما قبل استقلاله عرّف بتعريفات شاملة عامة مثل ما نُسب إلى أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- من تعريف الفقه بأنه (معرفة النفس ما لها وما عليها)، وأضاف بعضهم كلمة (عملاً) حتى يُخرج مسائل العقيدة والأخلاق، (ينظر: التوضيح شرح التنقيح، ص: 13، الكافي شرح البزدوي، ص: 1/ 144)، وعلم العقيدة كان يسمى بالفقه الأكبر.
(2)
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، 1/ 5، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، 1/ 7، رد المحتار على الدر المختار، 1/ 37، 6/ 690، الدر الثمين والمورد المعين، ص:110.
(3)
فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب، ص: 22، المبدع في شرح المقنع، 1/ 17، البحر المحيط في أصول الفقه، 1/ 34 - 35، إرشاد الفحول، 1/ 17، نهاية السول شرح منهاج الوصول، ص: 11، الفقه الإسلامي وأدلته، 1/ 30.
(4)
العدة في أصول الفقه، 1/ 76.
(5)
الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، 1/ 286.
(العملية): المنسوبة إلى العمل، بأن يكون المحكوم عليه عملاً من أعمال المكلف غالباً، والمحكوم به حكم شرعي، مثل الزكاة واجبة.
(المكتسب): صفة للعلم، ومعناه المستنبط بالنظر والاجتهاد
(1)
.
(من أدلتها التفصيلية): ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المحتج بها، والإجماع والقياس
(2)
، وترتيبها الزمني يختلف عن ترتيبها الاعتباري.
وهذا التعريف من أجمع التعريفات وأمنعها وأرجحها عند كثير من العلماء، وهو المراد هنا.
(3)
محترزات التعريف:
- احترز بعبارة "العلم بالأحكام" عن العلم بالذوات والصفات الحقيقية
(4)
.
- احترز بلفظ "الشرعية" عن الأحكام العقلية مثل الواحد نصف الاثنين
(5)
، وعن الأحكام الحسية
(6)
مثل النار تحرق.
- احترز بلفظ "العملية" عن الأحكام العلمية مثل القياس حجة
(7)
، وعن الأحكام الاعتقادية كالعلم بأن الله يخلق ويرزق ويدبر
(8)
.
(1)
المدخل إلى علم الفقه، ص:24.
(2)
الفقه الإسلام وأدلته، 1/ 31.
(3)
تحرزاً من التعريفات التي تفيد بأن الفقه هو الحكم نفسه، (ينظر: المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا، 1/ 66)، ويمكن أن يُستدل لها بما ورد من أن حامل فقه (أي الحديث) إلى من هو أفقه منه، فسمى حمل الحديث فقهًا، والحديث هو ذات الحكم فصح أن يقال بهذا الاعتبار: إن الفقه هو الحكم، لكن بالنظر إلى الحديث. وأما التعريف المختار فالحديث فيه من الأدلة التي تستنبط منها الأحكام.
(4)
ينظر: المحصول، 1/ 79.
(5)
ينظر: المحصول، 1/ 79.
(6)
الإحكام في أصول الأحكام، 1/ 6.
(7)
ينظر: المحصول، 1/ 79.
(8)
المدخل إلى علم الفقه، ص:25.
- احترز بلفظ "المكتسب" عن علم الله تعالى وعلم جبريل والنبي فيما علمه بالوحي
(1)
.
- احترز بعبارة "من أدلتها التفصيلية" عن علم المقلد لأئمة الاجتهاد، فإن المقلد لا يستدل بدليل تفصيلي على كل مسألة، بل بدليل واحد يعم جميع أعماله
(2)
.
وعليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك لأصحابه رضي الله عنهم فقهاً مدوّناً، بل جملةً من الأصول والقواعد الكلية المبثوثة في القرآن الكريم والسنة، إضافة إلى كثير من المسائل الفرعية والأقضية التي بيّن حكمها التفصيلي.
وبعد اتساع رقعة دولة الإسلام، وتباعد أطرافها وشمولها لكثير من الشعوب المختلفة لاقى الفقهاء -رحمهم الله تعالى- عادات ومعاملات ووقائع لا عهد لهم بها، فاحتاجوا إلى تنظيمها، وإقامة القواعد لها، وإنزالها المنازل اللائقة بها من أحكام الشريعة ومقاصدها، فصار الفقه الإسلامي يتطور، وتتّسع آفاقه، وتكبر معالمه على أثر تلك المستجدات التي كانت تظهر بصورة تدريجية، ومن هنا بدأ تطور الفقه الإسلامي وظهور أدواره.
(3)
أدوار الفقه الإسلامي:
الفقه الإسلامي مر بأدوار مختلفة، وقد أثرت فيه عوامل عديدة، وتنوّعت مصادره تبعاً لاختلاف أطوار حياته، ولذلك اختلف أصحاب كتب تاريخ الفقه الإسلامي في عدها تبعاً لاختلاف وجهات نظرهم ومناهجهم في الكتابة.
(1)
الإحكام في أصول الأحكام، 1/ 6.
(2)
ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته، 1/ 31.
(3)
ينظر: نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي لعلي حسن عبد القادر، ص: 52 - 53، المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقاء، 1/ 159 - 161.
والواقع أنه لا توجد فواصل زمنية محددة لهذه الأدوار، بل هي نسبيّة
(1)
؛ لأن الفقه لم ينتقل من دور إلى آخر دفعةً واحدةً، بل وُجد بين بعض أدواره تشابه كبير
(2)
، ولأنها وُضعت بحسب المميّزات الغالبة والحالة العامّة التي تكون عليها تلك الحقبة من تاريخ الفقه.
فمن قسم أدوار الفقه إلى ثلاثة أو أربعة فقد راعى ما يستجد في النشاط العلمي، ومن قسمها إلى ستة أدوار أو أكثر ففي الغالب راعى الأحداث السياسية التي مرت بالأمة الإسلامية، والتقسيم الذي فضّلته لقربه من عنوان البحث هو الآتي:
• الدور الأول: دور التأسيس: ويمتد من البعثة النبوية إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 11 للهجرة.
• الدور الثاني: عصر الصحابة والتابعين: ويمتد من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة، ويشمل هذا الدور مرحلتين اثنتين:
o المرحلة الأولى: عصر كبار الصحابة، وتشمل فترة الخلفاء الراشدين.
o المرحلة الثانية: عصر صغار الصحابة وكبار التابعين.
• الدور الثالث: دور التأصيل والتفريع: ويمتد من حوالي الثلث الأول من القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث، ويشمل مرحلتين اثنتين:
o المرحلة الأولى: مرحلة التأصيل، وهي مرحلة ظهور أئمة المذاهب الفقهية.
o المرحلة الثانية: مرحلة التفريع، وهي مرحلة كتابة الفقه وتدوينه.
• الدور الرابع: دور التطبيق وهو عصر مجتهدي المسائل، ويمتد من حوالي منتصف القرن الثالث إلى منتصف القرن الخامس، ويشمل مرحلتين اثنتين:
(1)
لم أجد أحداً قال بعدم وجود المجتهدين بعد القرن الرابع الهجري رغم أن هذه المرحلة تكرر تسميتها في كتب تاريخ الفقه الإسلامي بمرحلة الاتّباع والتقليد إلا مقولة نصر فريد محمد واصل في كتابه المدخل الوسيط لدراسة الشريعة الإسلامية والفقه والتشريع (ص: 134)، فقد قال تعليقاً على دور الفقه في عصر التقليد:"فبعد ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ لم يقدم لنا التاريخ فقيهًا بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، بل كان جميع الفقهاء في هذه المرحلة مقلدين في الأصول وقواعد الاستنباط لمن سبقهم من الأئمة المجتهدين، وإن خالف بعضهم إمامه في بعض الفروع أحيانًا".
(2)
ينظر: المدخل في الفقه الإسلامي لمحمد شلبي، ص: 49 - 156.
o المرحلة الأولى: مرحلة النبضات الأخيرة لعصور الاجتهاد المطلق.
o المرحلة الثانية: غلب عليها جنوح الفقهاء إلى التقليد وغلق باب الاجتهاد.
• الدور الخامس: دور النقد والتنقيح والاختيار، ويمتد من منتصف القرن الخامس إلى منتصف القرن السابع الهجري تقريباً.
• الدور السادس: دور التفقّه أو توليد المسائل وابتكار الأنظار والأبحاث، وهو أطول الأدوار زمناً، ويمتد من بداية القرن الثامن تقريبًا إلى أوائل القرن الثالث عشر الهجري.
• الدور السابع: دور احتكاك الفقه بالقوانين الوضعية، وفي هذا الدور محاولات تجديد في كتابة الفقه وإعادة صياغته وإخراجه في ثوب جديد بما يتلاءم مع متطلبات العصر. ويمتد هذا الدور من أوائل القرن الثالث عشر إلى الآن
(1)
.
هذا ما يتعلق بأدوار الفقه الإسلامي عموماً، ولكن تبقى لكل مذهب خصائصه، وقد ذكر بعض الباحثين أن المذهب الحنفي خاصةً مر بثلاثة أدوار هي:
(1)
تاريخ الفقه الإسلامي لإلياس دردور، 1/ 18 - 19، والتقسيم له، ويوافق عليه إلا ما يتعلق بالدور الخامس، حيث يرى الباحث أنه يمتد إلى نهاية القرن السابع الهجري تقريباً لأسباب؛ منها:(1) عناية الفقهاء بالاختصار، وذلك بجمع المسائل الكثيرة في الألفاظ اليسيرة فيما يسمى بالمختصرات الفقهية، وقد استمر الوضع على هذه الحال إلى نهاية القرن السابع تقريباً، (2) النشاط العلمي يتأثر بالأوضاع السياسية والاجتماعية وتقلباتهما، حيث ينبعث وينتشر أيام الأمن والاستقرار، ويكاد يتوقف أيام الاضطرابات والفتن كما كان أيام سقوط بغداد، مما أدى إلى هجرة العلماء وطلبة العلم منها إلى الشام ومصر وغيرها (ينظر: أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار لمحمود بن سليمان الكفوي (ت 990 هـ) - (مخطوط)، ص: 8 - 10)، ولم يستقر الوضع حتى نهاية القرن السابع تقريباً، (3) ولأن زمن المجتهدين في المذهب لم ينتهِ بعد، بل استمر حتى موت النسفي (ت 710 هـ، وقيل: 701 هـ). (ينظر: الفوائد البهية في تراجم الحنفية معه التعليقات السنية، ص: 101.)
1.
دور النشوء والتكوين: وهو دور التأسيس ووضع قواعد المذهب وأصوله الفقهية على يد إمام المذهب وتلاميذه المقربين، ويبدأ من عهد الإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- إلى موت آخر الأربعة الكبار، وهو الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي
(1)
(ت 204 هـ) -رحمه الله تعالى-.
2.
دور التوسع والنمو والانتشار: ويبدأ من وفاة الحسن بن زياد اللؤلؤي -رحمه الله تعالى- إلى وفاة عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
(2)
(ت 701 أو 710 هـ).
3.
دور الاستقرار: من وفاة النسفي إلى يومنا هذا
(3)
.
(1)
الحسن بن زِيَاد الؤلؤي الْكُوفِي، تكَرر ذكره فى الْهِدَايَة وَالْخُلَاصَة، صَاحب الإِمَام أبي حنيفَة. كان يقظاً فطنا فقيهاً نبيهًا. قَالَ يحيى ين آدم: مَا رَأَيْت أفقه من الْحسن بن زِيَاد. ولى الْقَضَاء بِالْكُوفَةِ ثمَّ استعفى عَنهُ، وَكَانَ محبًّا للسّنة وأتباعها. مات سنة أربع ومائتين. ينظر: الجواهر المضية، 1/ 193، رقم ترجمة: 600، الفوائد البهية، ص:60.
(2)
عبد الله بن أحمد بن محمود أبو البركات، حافظ الدين النسفي نسبة إلى نَسَف بفتحتين من بلاد السغد فيما وراء النهر. كان إمامًا كاملًا عديم النظير في زمانه، رأسًا في الفقه والأصول، بارعًا في الحديث ومعانيه، تفقّه على شمس الأئمة محمد بن عبد الستار الكردرى وعلى حميد الدين الضرير وبدر الدين خواهر زاده، وله تصانيف معتبرة. اختلف في وفاته، قيل: 701 هـ، وقيل: 710 هـ. ينظر: الفوائد البهية، ص: 102، الطبقات السنية، ص:106.
(3)
دراسات في الفقه الإسلامي لعبد الوهاب إبراهيم، ص: 59 - 60، والتقسيم نتيجة لما ارتضاه الباحث من تقسيم طبقات علماء المذهب الحنفي حسب مكانتهم العلمية بدل وجودهم الزمني، فأدخل طبقة أو أكثر في دور من الأدوار المذكورة، ولذلك يُخالَف في الدور الثاني مثلاً؛ إذ أجمل وطوى فيه عدداً من التطورات التاريخية التي يمكن اعتبارها دوراً جديداً.
كذلك ربطَ الأدوار الزمنية المحضة بطبقات الفقهاء العلمية، وفيه نظر؛ فكم من المتأخر في الزمان سبق المتقدم وبلغ من العلم والفقه مبلغاً عجز عنه من سبقه، بخلاف ما لو ربطَ الأدوار الزمنية بطبقات الفقهاء الزمنية، إلا إذا لاحظنا في الأدوار الزمنية ملحظاً علمياً، وسيأتي الكلام عن طبقات فقهاء المذهب في المبحث الثاني من التمهيد.
ويظهر من ذلك أن الدور الأول يشمل المجتهدين الإمام والأربعة الكبار من تلاميذه، والدور الثاني يشمل المجتهدين في المذهب، ولذلك اختتمه بالنسفي (ت 710 هـ)، والثالث يشمل كل من جاء بعده؛ لأن النسفي عده بعضهم من المجتهدين في المذهب، بل قيل: إنه اختتم به، ولم يوجد بعده مجتهد في المذهب
(1)
.
والفائدة من ذكر هذه الأدوار تظهر في الربط بينها وبين طبقات علماء المذهب، وكذلك طبقات الكتب والمسائل والمصطلحات ربطاً زمنياً.
(1)
ينظر: الفوائد البهية في تراجم الحنفية معه التعليقات السنية، ص:101.
المبحث الثاني: مقدمة في المذهب الحنفي، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: طبقات علماء المذهب الحنفي.
المطلب الثاني: طبقات الكتب والمسائل في المذهب الحنفي.
المطلب الثالث: مصطلحات المذهب الحنفي.
المطلب الرابع: قواعد الترجيح في المذهب الحنفي.
المبحث الثاني: مقدمة في المذهب الحنفي:
المطلب الأول: طبقات علماء المذهب الحنفي:
إن فقهاء المذهب الحنفي كغيرهم من علماء الأمة ليسوا على درجة واحدة، وما عاشوا في فترة واحدة، والباحث عن طبقات فقهاء المذهب الحنفي يجد نفسه أمام عدة تقسيمات لها، صرح بها علماء الحنفية أو ألمحوا إليها في كتبهم، والفائدة من معرفة طبقات الفقهاء كبيرة، إذ ترجع إلى ترجيح الأقوال في المذهب، وتقديم بعضها على بعض
(1)
.
(1)
قال اللكنوي: "هذا أمر لا بد للمفتي من معرفته؛ لينزل الناس منازلهم، ويضعهم في مواضعهم؛ فإن من لا يعرف مراتب الفقهاء ودرجاتهم يقع في الخبط بتقديم من لا يستحق التقديم، وتأخير من يليق بالتقديم، وكم من عالم من علماء زماننا ومن قبلنا لم يعلم بطبقات فقهائنا، فرجّح أقوال من هو أدنى، وهجر تصريحات من هو أعلى، وكم من فاضل ممن عاصرنا ومن سبقنا اعتمد على جامعي الرطب واليابس، واستند بكاتبي المسائل الغريبة والروايات الضعيفة كالناعس". (ينظر: الجامع الصغير مع شرحه النافع الكبير للكنوي، ص: 7).
وقد خلت كتب المتقدمين من الحنفية –فيما اطلعت عليه- من تقسيم يحصر الفقهاء في طبقات، لكن ذكرتْ بعض صفات تشير إلى ذلك مثل المجتهد
(1)
، وقد يُطلقون لفظ المجتهد على غير فقيه
(2)
، وكذلك أهل الاجتهاد
(3)
، والمقلد
(4)
، وما إلى ذلك، وهي بوادر تقسيم طبقات الفقهاء حسب مكانتهم العلمية، وأول من ذكر تقسيمها على هذا النحو –فيما اطلعت عليه- أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا
(5)
(6)
.
(1)
المبسوط، 2/ 42.
(2)
المبسوط، 9/ 168.
(3)
المبسوط، 16/ 84.
(4)
بدائع الصنائع، 1/ 54.
(5)
أحمد بن سليمان الرومى الشهير بابن كمال باشا الإمام العالم، العلامة، الرحلة، الفهامة، أوحد أهل عصره، وجمال أهل مصره، من لم يخلف بعده مثله، ولم ترَ العيون من جمع كماله وفضله. كان -رحمه الله تعالى- إماماً بارعاً، في التفسير، والفقه، والحديث، والنحو، والتصريف، والمعاني، والبيان، والكلام، والمنطق، والأصول، وغير ذلك، بحيث إنه تفرد في إتقان كل علم من هذه العلوم، وقلما يوجد فن من الفنون إلا وله مصنف أو مصنفات. أخذ عن المولى لطفي الرومي، وخطيب زاده، ومعروف زاده، وغيرهم. ينظر: الفوائد البهية، ص: 21، الطبقات السنية، ص:107.
(6)
رسالة في طبقات الفقهاء (مخطوط) لابن كمال باشا، ص: 1 - 3، وقد قسمها إلى سبع طبقات:(1) طبقة المجتهدين في الشرع، (2) طبقة المجتهدين في المذهب، (3) طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، (4) طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، (5) طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، (6) طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف، وظاهر المذهب وظاهر الرواية والرواية النادرة، (7) طبقة المقلدين الذي لا يقدرون على ما ذُكر، ولا يفرقون بين الغث والسمين. انتهى. وغيره قسمها إلى خمس طبقات مثل الكفوي (ت 990 هـ) في أعلام الأخيار (مخطوط)، ص: 6 - 8، واللكنوي (ت 1304 هـ) قسمها إلى ست طبقات في الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص: 6 - 7.
والنوع الثاني تقسيم طبقات الفقهاء بحسب وجودهم الزمني، فيقال: سلف (متقدمون)، وخلف (متوسطون)، ومتأخرون، وأول من ذكر ذلك –فيما اطلعت عليه- القاضي الأحمد نكري
(1)
في دستوره
(2)
.
(1)
الشيخ الفاضل القاضي عبد النبي بن عبد الرسول بن أبي محمد بن عبد الوارث العثماني الأحمد نكري، أحد العلماء المشهورين، ولد ونشأ بأحمد نكر، وقرأ المختصرات على أبيه، وبعد وفاته على عبد الله الأحمد نكري
…
حتى صار أبدع أبناء العصر في النحو والمنطق، وولي القضاء بأحمد نكر، وكان يدرس ويفيد، أخذ عنه خلق كثير. ومن مصنفاته: جامع الغموض ومنبع الفيوض شرح بسيط على كافية ابن الحاجب، ودستور العلماء في اصطلاحات العلوم والفنون في أربعة مجلدات. ينظر: نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، 6/ 759.
(2)
دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، 2/ 129، نقلاً عن الخيالات اللطيفة، ولم أقف عليها. قال:"و (السلف) عند الفقهاء هم من أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- (ت 150 هـ) إلى محمد بن الحسن (ت 189 هـ)، والخلف من محمد بن الحسن إلى شمس الأئمة الحلواني (ت 456 هـ)، والمتأخرون من شمس الأئمة الحلواني إلى مولانا حافظ الدين البخاري (ت 693 هـ). هكذا ذكره صاحب الخيالات اللطيفة في الهامش. " ويفهم من كلام بعضهم تقسيم طبقات الفقهاء إلى المتقدمين، وهم من أدرك الأئمة الثلاثة: أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمد بن الحسن، والمتأخرين، وهم من لم يدرك هؤلاء الثلاثة. (ينظر: مقدمة عمدة الرعاية، الدراسة الخامسة، ص: 82). ويظهر أن هذا التقسيم زمني محض لم يراعِ صاحبه الجانب العلمي فيه، وسبب ذلك قوله:"من أدرك الأئمة الثلاثة"، فالإدراك هنا زمني، والإدراك المجرد لا يعني المساواة بين المدرِك والمدرَك علمياً.
إضافة إلى أنه –في نظري- تقسيم آخر ينبغي عدم الخلط بينه وبين تقسيم الأحمد نكري؛ لأن كثيراً من الفقهاء يقصد بالمتأخرين من هو قبل الحلواني (العناية شرح الهداية، 2/ 369)، وبِجعله تقسيماً جديداً يزول الإشكال؛ لأن المتأخرين عندهم غير المتأخرين عند الأحمد نكري. ويدل على ذلك ما قاله ابن الحنائي: "فأيده بالفقهاء المجتهدين المتقدمين من السلف، فجددوا ديباجة مذهبه تجديداً، ومهدوا قواعد طريقه تمهيداً، فصوروا المسائل تصويرًا، وقرروا الدلائل تقريراً، ثم بالعلماء المحققين المتأخرين من الخلف، فبالغوا في شرح المعضلات
…
" إلى آخر كلامه في مقدمة طبقاته. (ينظر: طبقات الحنفية لابن الحنائي، ص: 143 - 144).
والنوع الثالث تقسيمهم على إحدى وعشرين طبقة، وذلك بذكر فقيه أو مجموعة من الفقهاء وجعلهم في طبقة، مع بيان بعض مناقبهم، ثم ذكْر مجموعة أخرى، وجعلها في طبقة أخرى مع بيان بعض مناقبهم، وهكذا
(1)
.
كل هذه التقسيمات لم تسلم من النقد والمآخذ، فالتقسيم الأول انتُقد من حيث انطباقه على الأفراد المدرجين في كل طبقة أو عدم انطباقه
(2)
، وإن كان مقبولاً في الجملة من حيث هو كقاعدة عامة.
والثاني لم يغطِّ التطور الذي أعقب الإمام حافظ الدين البخاري
(3)
ومن جاء بعده من علماء المذهب.
ويمكن أن يجاب عما أُخذ على هذا الدور بما يأتي:
(1)
طبقات الفقهاء لابن الحنائي، ص: 160 وما بعدها، وقد بدأ ببعض مناقب الإمام أبي حنيفة، ثم ثنَّى بذكر الطبقة الأولى وهي طبقة الإمام أبي يوسف وذكر بعض مناقبه، ثم ثلَّث بمحمد بن الحسن الشيباني إلى أن وصل إلى الطبقة الحادية والعشرين، وأدخل فيها ابن كمال باشا، ومن عادته قوله: "ثم انتقل الفقه إلى طبقة
…
" فيذكر الأسماء.
(2)
ناظورة الحق في فرضية العشاء وإن لم يغب الشفق، ص:192.
(3)
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نصر الإِمَام حَافظ الدّين البُخَارِيّ أَبُو الْفضل، كَانَتْ وِلَادَته فى حُدُود سنة خمس عشرَة وست مائَة ببخارى. تفقه على شمس الأئمة مُحَمَّد بن عبد الستار الكردري، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْأَدَب وَسَائِر الْعُلُوم، وَسمع مِنْهُ وَمن أبي الْفضل عبد الله بن إِبْرَاهِيم المحبوبي، وسمع مِنْهُ أَبو الْعَلَاء البُخَارِيّ، وَذكره فى مُعْجم شُيُوخه، وَقَالَ: توفّي ببخارى فى النّصْف الثَّانِي من شعْبَان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وست مائَة، وَدفن بكلاباذ عِنْد وَالِده جوَار الإِمَام أبي بكر بن طرخان. قَالَ وَكَانَ إِمَامًا عَالما ربانيًا صمدانيًا زاهدًا عابدًا مفتيًا مدرسًا نحريرًا فَقِيهًا قَاضِيًا محققًا مدققًا مُحدثًا جَامعًا لأنواع الْعُلُوم، رَحمَه الله تَعَالَى. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 121 - 122، رقم ترجمة: 375، الفوائد البهية، ص:199.
- أن صاحب التقسيم نظر إلى حال النشاط العلمي إلى نهاية القرن السابع فعلّقه به كما فعل ذلك من كتب عن أدوار الفقه عمومًا وفي الفقه الحنفي خصوصًا، ولو علقه بموت النسفي (ت 710 هـ) –آخر المجتهدين في المذهب- لكان أضبط في نظر الباحث إذا نظرنا إلى التقسيم بأنه تفصيل لفترات زمنية اتصفت بوجود علماء ذوي صفات لا توجد إلا فيهم وفي هذه الفترة
(1)
،
- ومنها أن تضاف طبقة أخرى تسمى ب (ما بعد المتأخرين) إذا نظرنا إلى التقسيم بأنه تفصيل لفترات زمنية مجردة لا علاقة لها بصفات الفقهاء، وهو أظهر عندي؛ لعدم وضوح أسباب علمية لتحديد الفواصل بين طبقة وطبقة.
والثالث لم يُلتفت إليه كثيرًا؛ لأنه مجرد سرد أسماء "المشاهير من الأئمة الذين نقلوا علم الشريعة ونشروه بين الأمة الأقدم فالأقدم".
(2)
وأنسب هذه التقسيمات التقسيم الثاني مع مراعاة الأجوبة عن الإشكال الوارد فيه بحيث تنتهي فترة المتأخرين بموت النسفي، وما بعدها يطلق عليه فترة (ما بعد المتأخرين)، وتستمر إلى الوقت الحاضر.
(1)
وبعضهم صرح بذلك وقال: إن هذا التقسيم "يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقييم آراء المذهب، فطبقة السلف (أو المتقدمين) آراؤها أساس المذهب بلا جدال، وعلى ضوء آراء هذه الطبقة انبعثت اجتهادات وتخريجات طبقة الخلف". (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي، ص: 58). لكن الإشكال ليس في جعل طبقة السلف أو الخلف طبقة علمية بقدر ما هو إشكال في طبقة المتأخرين، وجعل هذه الطبقة من الطبقات الزمنية المحضة لا علاقة لها بالدرجات العلمية يزيل الإشكالات التي أثيرت حول هذا التقسيم.
(2)
ينظر: طبقات الحنفية لابن الحنائي، ص:139.
المطلب الثاني: طبقات الكتب والمسائل في المذهب الحنفي:
كما أن للفقهاء طبقات -كما سبق- فإن للمسائل أو الكتب التي اشتملت عليها ونقلتها طبقات، فيقدم الأعلى منزلة، ويعتمد عليه عند التعارض.
وأما المسائل الفرعية فمنها ما رُوي عن إمام المذهب وأصحابه، ومنها ما استنبطه من جاء بعدهم من الفقهاء؛ فمنها ما يرجح على غيره لأسباب ترجع إلى قوة الدليل أو علو المصدر أو مكانة القائل، ومنها ما هو مردود لعكس ذلك أو غيرها من الأسباب.
وفائدة معرفة طبقات المسائل ترجع إلى تحديد القول الراجح، وتقديم الأقوى على غيره.
وتقسيم المسائل الفرعية عند فقهاء الحنفية إلى ثلاث طبقات
(1)
تقسيم مشهور وشائع
(2)
، وخلاصته:
(1)
بعضهم قسمها إلى أربع طبقات كما فعل شاه ولي الله الدهلوي (عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، ص: 19)، وبعضهم إلى خمس (الجامع الصغير مع شرحه النافع الكبير، ص: 22 - 23)، وبعضهم ذكر قسمة شاملة وصلت إلى الثلاثة والعشرين طبقة (المذهب الحنفي، 1/ 215 - 217).
(2)
وأول من ذكرها -فيما اطلعت عليه- صاحب الطبقات السنية في تراجم الحنفية (ص: 42 - 46) نقلاً عن ابن الحنائي (ت 979 هـ) صاحب طبقات الحنفية، ولم أجدها في طبقاته، ولعله ذكرها في "رسالة في طبقات المسائل" التي نسبها إليه بروكلمان في كتابه: تاريخ الأدب العربي (نسخة مترجمة إلى الإنجليزية)، وذكر لها نسخاً مخطوطة في برلين برقم 4868، وليدن 1884، والفاتيكان: 2/ 1460/ 5. (ينظر: History of the Arabic written tradition، 2/ 506.)
ولم أجدها في النسخة المترجمة إلى العربية (طبعة دار المعارف من ستة أجزاء، وهي ناقصة)، وأفادني بعض الزملاء بوجود النسخة الأخرى طُبعت تحت إشراف الهيئة المصرية العامة للكتاب - ترجمة محمود فهمي حجازي - في عشر مجلدات، لكن لم أطلع عليها.
- الطبقة الأولى: مسائل الأصول، وتسمى ظاهر الرواية أيضاً، وهي مسائل رُويت عن أصحاب المذهب، وهم أبو حنيفة، وأبو يوسف
(1)
، ومحمد
(2)
–رحمهم الله تعالى-، ويقال لهم العلماء الثلاثة، وقد يلحق بهم زُفَر
(3)
، والحسن بن زياد، وغيرهما، ممن أخذ الفقه من أبي حنيفة –رحمه الله تعالى-، لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة أو قول بعضهم.
(1)
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم القَاضِي الْأنْصَارِيّ أَبُو يُوسُف
…
أَخذ الْفِقْه عَنْ الإِمَام وَهُوَ الْمُقدم من أَصْحَاب الإِمَام، وَولى الْقَضَاء لثَلَاثَة خلفاء الْمهْدي وَالْهَادِي والرشيد
…
رُوي عنه أنه قال: مَا قلت قولا خَالَفت فِيهِ أَبَا حنيفَة إِلَّا وَهُوَ قَول قَالَه ثمَّ رغب عَنهُ
…
وكان أبو يوسف هو المقدم من أصحاب الإمام، وأول من وضع الكتب على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل، ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض، وله الأمالي والنوادر. قَالَ أَحْمد وَابْن معِين وَابْن المدينى: ثِقَة مَاتَ بِبَغْدَاد يَوْم الْخَمِيس وَقت الظّهْر لخمس خلون من ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَقيل لخمس لَيَالٍ خلون من ربيع الآخر سنة إِحْدَى أَوْ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 221، رقم ترجمة: 693، الفوائد البهية، ص:225.
(2)
مُحَمَّد بن الْحسن بن فرقد أَبُو عبد الله الشَّيْبَانِيّ، الإِمَام صَاحب الإِمَام، تكَرر ذكره فى الْهِدَايَة وَالْخُلَاصَة. أَصله من دمشق من قَرْيَة حرسته، قدم أَبوهُ من الْعرَاق فولد مُحَمَّد بواسط، وَصَحب أَبَا حنيفَة، وَأخذ عَنهُ الْفِقْه، ثمَّ عَنْ أبي يُوسُف، وصنف الْكتب، وَنشر علم أبي حنيفَة، ويروي الحَدِيث عَنْ مَالك، وَدون الْمُوَطَّأ وَحدّث بِهِ عَنْ مَالك
…
وقال عنه الإمام الشافعي رحمه الله: كَانَ إِذا تكلم خُيِّل لَك أَنْ الْقُرْآن أنزل بلغته، قَالَ وَمَا رَأَيْت سمينًا أخف روحًا من مُحَمَّد بن الْحسن، وَمَا رَأَيْت أفْصح مِنْهُ، قَالَ: وَكَانَ يمْلَأ الْقلب وَالْعين
…
وَكَانَ أَيْضًا مقدمًا فى علم الْعَرَبيَّة والنحو والحساب والفطنة. ولى الْقَضَاء للرشيد بالرقة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة، ثمَّ عزل عَنْهَا، ثمَّ سَار مَعَه إِلَى الرّيّ، وولاه الْقَضَاء بهَا، فَتوفي بهَا سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَهُوَ ابْن ثَمَانٍ وَخمسين سنة فى الْيَوْم الذى مَاتَ فِيهِ الْكسَائي فَقَالَ الرشيد: دفنت الْفِقْه والعربية. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 42 - 44، رقم ترجمة: 139، الطبقات الكبرى (تهذيب)، ص:135.
(3)
زفر بن الهذيل بن قيس البصرى، كان أبو حنيفة يبجِّله ويعظِّمه ويقول هو أقيس أصحابي
…
كان ثقةً مأموناً، دخل البصرة في ميراث أخيه فتشبَّث به أهل البصرة فمنعوه الخروج منها، ومات بها سنة ثمان وخمسين ومائة ومولده سنة عشر بعد المائة. ينظر: الفوائد البهية، ص: 75، الجواهر المضية، 1/ 243، رقم ترجمة:622.
وهذه المسائل التي تسمى بظاهر الرواية والأصول هي ما وُجد في كتب محمد التي هي: المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الصغير
(1)
والسير الكبير
(2)
.
وإنما سميت بظاهر الرواية؛ لأنها رُويت عن محمد بروايات الثقات، فهي ثابتة عنه، إما متواترة أو مشهورة
(3)
.
- الطبقة الثانية: مسائل النوادر، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب المذكورين، لكن من غير الكتب المذكورة، إما في كتب أُخر لمحمد كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات والرقيات
(4)
.
(1)
ويرى بعضهم أن السير الصغير هو في الحقيقة كتاب من كتب الأصل، فتصير كتب ظاهر الرواية خمسة وليست ستة. (ينظر: ناظورة الحق بتحقيق أورخان أنجاقاز، عبد القادر بن سلجوق يليماز، ص: 167)
(2)
محمد بن الحسن جمع في كتبه ما رواه أبو يوسف وما رواه هو، فكُتُبُه على هذا الوجه تُمثِّل فقه أبي يوسف وروايته.
وكتب أبي يوسف لم ترقَ إلى درجة كتب محمد لا لطعن في ذاتها، بل لكون روايتها لم تصل إلى الصحة التي وصلتها كتب محمد بن الحسن، ومثلها في ذلك كتب غيره من أصحاب أبي حنيفة، ككتاب المجرد للحسن بن زياد.
وكتب محمد سواء كانت كتب ظاهر الرواية أم كتب غير ظاهر الرواية، هي عين المذهب وأساسه. (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي، ص: 70 - 71.)
ويرى بعض المعاصرين أن كل ما وُصف بالصغير من كتب محمد هو رواية عن أبي يوسف. (ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره آراؤه الفقهية، ص: 337.)
(3)
ويلحق بهذا القسم غير كتب ظاهر الرواية كتاب الآثار وكتاب الرد على أهل المدينة. (ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره – آراؤه الفقهية، ص: 234.)
(4)
"الرقيات جمع رقية نسبة إلى رقية بفتح الراء وتشديد القاف، وهي واسطة ديار ربيعة، وهي مدينة خراب كبيرة مورده على الجانب الغربي من الجانب الشمالي الشرقي
…
و الرقيات مسائل جمعها محمد حين كان قاضياً بالرقية المذكورة". ينظر: البناية شرح الهداية، 1/ 553.
وإنما قيل لها: غير ظاهر الرواية؛ لأنها لم ترد عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى، وإما في كتب غير كتب محمد، ككتاب المجرَّد للحسن بن زياد، وغيره، وإما بروايات مفردة مثل رواية ابن سماعة
(1)
، ومُعَلَّى بن منصور
(2)
، وغيرهما في مسائل معينة.
- الطبقة الثالثة: الفتاوى وتسمى بالواقعات أيضًا، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون، ولم يجدوا فيها روايةً عن أصحاب المذهب وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهلمّ جراًّ، وهم كثيرون.
وقد يتفق لهؤلاء أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت لهم بعدهم.
وأول كتاب جمع فتاواهم كتاب النوازل للفقيه أبي الليث السمرقندي
(3)
، وكذلك العيون له، فإنه جمع صور فتاوى جماعة من الفقهاء، ممن أدركهم بقوله:"سئل أبو القاسم في رجل كذا أو كذا، فقال: كذا وكذا"، و"سئل محمد بن سلمة عن رجل كذا وكذا، فقال: كذا وكذا"، وهكذا
(4)
.
وأما الكتب في المذهب الحنفي من حيث الاعتماد عليها واعتبار المسائل التي فيها يمكن تقسيمها بأكثر من اعتبار:
- الاعتبار الأول:
(1)
محمد بن سماعة بن عبد الله بن هلال بن وكيع أبو عبد الله التميمى، حدث عن الليث بن سعد وأبي يوسف ومحمد، وأخذ الفقه عنهما وعن الحسن بن زياد وكتب النوادر عن أبي يوسف ومحمد، وُلد سنة ثلاثين ومائة ومات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. ينظر: الفوائد البهية، ص: 170، الجواهر المضية، 2/ 58، رقم ترجمة:189.
(2)
معلى بن منصور أبو يحيى الرازي، روى عن أبي يوسف ومحمد الكتب والأمالي والنوادر، مات سنة إحدى عشرة بعد المائتين. ينظر: الفوائد البهية، ص: 215، الجواهر المضية، 2/ 177 - 178، رقم ترجمة:545.
(3)
نصر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم السَّمرقَنْدِي الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث، الْمَعْرُوف بِإِمَام الْهدى، تفقه على الْفَقِيه أبي جَعْفَر الهندواني، وَهُوَ الإِمَام الْكَبِير صَاحب الْأَقْوَال المفيدة والتصانيف الْمَشْهُورَة، توفّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَسبعين وَثَلَاث مائَة. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 196، رقم ترجمة: 610، الفوائد البهية، ص:220.
(4)
ينظر: الطبقات السنية في تراجم الحنفية، ص: 42 - 46، بتصرف واختصار.
تقسيمها من حيث الرواية –وقد سبق الكلام في تقسيم المسائل-، وذلك بأن يقال: كتب ظاهر الرواية، وكتب النوادر، وكتب الفتاوى والواقعات.
- الاعتبار الثاني:
تقسيمها من حيث تقديم بعضها على بعض في الاعتماد إلى:
o المتون
(1)
.
o الشروح
(2)
.
(1)
وهي المختصرات، اعتنى مؤلفوها بنقل المذهب وتمحيصه في الأغلب والأكثر فصارت معتمدة، إلا أن هناك متوناً معتمدة عند المتقدمين، ومتوناً معتمدة عند المتأخرين، التزم مصنفوها بذكر الراجح والمقبول والقوي. والمتون في الغالب ترجع إلى كتب ظاهر الرواية مباشرة أو بالنقل من كتب أخرى، وبعضها ترجع إلى كتب النوادر، ومن هنا اكتسبت قوتها فقُدمت على الشروح، والشروح تقدم على الفتاوى كما سيأتي. فالمتون المعتمدة عند المتقدمين هي متون كبار المشايخ وأجلة الفقهاء كالخصاف (ت 261 هـ)، والطحاوي (ت 321 هـ)، والحاكم (ت 334 هـ) والكرخي (ت 340 هـ)، والجصاص (ت 370 هـ) وغيرهم، فتُلحق بكتب الأصول وظواهر الروايات في صحتها وثقة رواتها. والمتون المعتمدة عند المتأخرين هي التي ذكرها ابن عابدين، وهي: الكتاب للقدوري (ت 428 هـ)، والبداية للمرغيناني (ت 593 هـ)، والوقاية لتاج الشريعة (ت 673 هـ)، والمختار للموصلي (ت 683 هـ)، والكنز للنسفي (ت 710 هـ)، والنقاية لصدر الشريعة (ت 747 هـ)، والملتقى للحلبي (ت 956 هـ). (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي، ص: 92، التعليقات السنية، ص: 107، شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي، ص: 31 - 32). وأضاف اللكنوي متناً ثامناً يعتمد عليه متأخرو الحنفية، وهو مجمع البحرين لابن الساعاتي (ت 694 هـ). (ينظر الجامع الصغير مع شرحه النافع الكبير، ص: 23). ويظهر أن المتون المعتمدة عند المتقدمين مبنية على ما في كتب ظاهر الرواية والترجيح بين آرائها، وأن المتون المعتمدة عند المتأخرين مبنية في مجملها على كتب ظاهر الرواية جمعاً واختصاراً أو ترجيحاً إضافة على احتوائها لآراء المشايخ الكبار وترجيحاتهم، فالنبع واحد، وإن اختلفت الروافد. (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي، ص: 96).
(2)
المقصود بها شروح المتون المعتمدة بوجه خاص، والشروح الأخرى بوجه عام، وما في المتون مقدم على ما في الشروح، وما في الشروح مقدم على ما في الفتاوى؛ لأن ما يورد في الشروح من المسائل إنما هو لاستئناس ما في المتون من الأصول، وكشف حاله غالباً، فيقيد المطلق، ويخص العام، ويبين المبهم وهكذا. (ينظر: رسالة في بيان الكتب التي يعول علها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد على ابن كمال باشا، ص: 71).
o الفتاوى
(1)
.
- الاعتبار الثالث:
تقسيمها من حيث مصدرها وبناء بعضها على بعض، وذلك على النحو الآتي:
o كتب الأصول أو ظاهر الرواية وكتب النوادر.
(1)
وكتب الفتاوى تعد من الدرجة الثالثة بعد كتب المتون والشروح، وما فيها مخلوط بآراء المتأخرين، وليس جميع ما فيها من أقوال صاحب المذهب، وليس لها سند يرفعها إلى قائلها، ولا أصحابها في درجة الأئمة الثلاثة في الفقه والعدالة، ولا في درجة أرباب المتون من حيث الورع والعدالة، ولا من حيث العلم والإتقان والحفظ والضبط، (ينظر: رسالة في بيان الكتب التي يعول علها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد على ابن كمال باشا، ص: 72). وإنما يستأنس بها إذا لم يوجد حكم في المتون أو في الشروح.
o الكتب التي جمعت واختصرت كتب ظاهر الرواية كلها أو بعضها، ومنها على سبيل المثال: الكافي
(1)
، ومختصر القدوري
(2)
(3)
، وبداية المبتدئ
(4)
، وتحفة الفقهاء
(5)
أو التي جمعت واختصرت كتب النوادر مثل المنتقى
(6)
.
o الكتب التي شرحت كتباً من الطبقة السابقة مثل المبسوط
(7)
، وبدائع الصنائع
(8)
، والهداية
(9)
، وهكذا.
وتقسيمها بالاعتبار الثاني هو المراد في هذا البحث.
(1)
للحاكم الشهيد (ت 334 هـ)، وقد جمع فيه كتب محمد بن الحسن الستة. وقيل: إنه خطأ، بل هو مختصر المبسوط أي الأصل فقط دون غيرها من الكتب الستة (أو الخمسة). (ينظر: ناظورة الحق، ص: 170). والقول قول المحققيْن، ودليلهما على ذلك قول السرخسي في مقدمة مبسوطه (1/ 3):"إلى أن رأى الحاكم الشهيد أبو الفضل محمد بن أحمد المروزي رحمه الله إعراضًا من بعض المتعلمين عن قراءة المبسوط لبسط في الألفاظ وتكرار في المسائل، فرأى الصواب في تأليف المختصر بذكر معاني كتب محمد بن الحسن-رحمه الله المبسوطة فيه، وحذف المكرر من مسائله؛ ترغيبًا للمقتبسين ونعم ما صنع".
(2)
أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن جَعْفَر بن حمدَان، الإِمَام الْمَشْهُور، أَبُو الْحسن بن أبي بكر، الْفَقِيه الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بالقدوري صَاحب الْمُخْتَصر الْمُبَارك، تكَرر ذكره فى الْهِدَايَة وَالْخُلَاصَة، مولده سنة اثنتين وَسِتِّينَ وَثَلَاث مائَة
…
وَمَات الْقَدُورِيّ فى يَوْم الْأَحَد الْخَامِس عشر من رَجَب سنة ثَمَانٍ وَعشْرين وَأَرْبع مائَة. ينظر: الجواهر المضية، 1/ 93، رقم الترجمة: 180، الفوائد البهية، ص:30.
(3)
ذكر فيه مؤلفه الراجح من ظاهر الرواية وتخريجات المشايخ. (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي - المذهب عند الحنفية، ص: 94، والمدخل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، ص: 425).
(4)
للمرغيناني (593 هـ)، وقد جمع بين القدوري والجامع الصغير. (ينظر: دراسات في الفقه الإسلامي – المذهب عند الحنفية، ص: 94).
(5)
للسمرقندي (ت 552 هـ)، وقد زاد فيه على مختصر القدوري ورتبه أحسن ترتيب.
(6)
للحاكم الشهيد (ت 334 هـ).
(7)
للسرخسي (ت 483 هـ).
(8)
للكاساني (ت 587 هـ).
(9)
للمرغيناني (ت 593 هـ)، ويقال: إنه شرح على كتابه بداية المبتدئ، لكن في الحقيقة هو شرح على القدوري والجامع الصغير.
المطلب الثالث: مصطلحات المذهب الحنفي:
لفقهاء المذهب الحنفي مصطلحات خاصة بهم ترد في كتبهم، ويقصدون بها معنى معيناً مثل مصطلحات خاصة بالكتب والمصنفات، أو مصطلحات خاصة بالأعلام والأئمة، أو مصطلحات خاصة بعلامات الفتوى والترجيح.
ومن هذه المصطلحات ما هو عام في كتب المذهب، ومنها ما هو خاص بكتاب معين.
فمن المصطلحات الخاصة بالكتب ويتكرر ذكرها في المصنفات بشكل عام ما تقدم عند الكلام عن طبقات الكتب مثل كتب ظاهر الرواية، وكتب النوادر، وكتب الفتاوى والواقعات.
ومن المصطلحات الخاصة بكتاب معين على سبيل المثال صنيع الموصلي في المختار
(1)
.
ومن المصطلحات الخاصة بالأعلام على سبيل المثال لا الحصر
(2)
:
- الأئمة الثلاثة أو أئمتنا الثلاثة: يراد بههم الإمام أبو حنيفة صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني.
- الصاحبان - أبو يوسف ومحمد.
- الشيخان - أبو حنيفة وأبو يوسف.
- الطرفان - أبو حنيفة ومحمد.
- شمس الأئمة - عند الإطلاق يراد به شمس الأئمة السَّرخسي
(3)
(4)
.
(1)
قال: "وجعلت لكل اسم من أسماء الفقهاء حرفًا يدل عليه من حروف الهجاء وهي: لأبي يوسف (س) ولمحمد (م) ولهما (سم) ولزفر (ز) وللشافعي (ف) ". (ينظر: الاختيار لتعليل المختار، 1/ 6).
(2)
ينظر: عمدة الرعاية، 1/ 84 - 85.
(3)
مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي سهل، أَبُو بكر السَّرخسِيّ، تكَرر ذكره فى الْهِدَايَة الإِمَام الْكَبِير شمس الْأَئِمَّة صَاحب الْمَبْسُوط وَغَيره. أحد الفحول الْأَئِمَّة الْكِبَار أَصْحَاب الْفُنُون. كَانَ إِمَامًا عَلامَة حجَّة متكلمًا فَقِيهًا أصوليًا مناظرًا. لزم الإِمَام شمس الْأَئِمَّة أَبَا مُحَمَّد عبد الْعَزِيز الْحلْوانِي حَتَّى تخرج بِهِ وَصَارَ أنظر أهل زَمَانه، وَأخذ في التصنيف وناظر الأقران فَظهر اسْمه وشاع خَبره، أملى الْمَبْسُوط نَحْو خسمة عشر مجلدًا وَهُوَ فى السجْن. مَاتَ فى حُدُود التسعين وَأَرْبع مائَة. ينظر: الجواهر المضية، 2/ 28، رقم ترجمة: 85، الفوائد البهية، ص:158.
(4)
وفيما عداه يُذكر مقيداً كشمس الأئمة الحَلْواني، وشمس الأئمة الزَّرَنْجَري، وشمس الأئمة الكَرْدَري، وشمس الأئمة الأُوزْجَنْدي. ينظر: جامع المضمرات شرح مختصر القدوري (مخطوط)، ص:2.
والمصطلحات الخاصة بعلامات الفتوى والترجيح هي المصطلحات التي تُستعمل للدلالة على القول المختار في المذهب، ومنها على سبيل المثال: عليه الفتوى، وبه يفتى، وبه نأخذ، وعليه الاعتماد، وعليه عمل اليوم، وهو الصحيح، وهو الأصح، وهو الظاهر، وهو الأظهر، وهو المختار، وعليه فتوى مشايخنا، وهو الأشبه، وهو الأوجه إلخ
(1)
.
فإذا اقترن قول بمصطلح أو لفظ من هذه الألفاظ كان هو القول الراجح أو المفتى به.
وواضح أن بعض هذه الألفاظ أقوى من بعض في الدلالة على القول المفتى به أو الراجح، ومن ثم فيُقدم على غيره.
فلفظ الفتوى –الذي فيه حروف الفتوى الأصلية بأي صيغة عُبِّر بها- أقوى من لفظ الصحيح والأصح والأشبه والأحوط والأظهر، فإذا صُرِّح بمصطلح الفتوى في قول عُلِم أنه المأخوذ به.
ولفظ الأصح آكد من لفظ الصحيح، ولفظ الأحوط آكد من لفظ الاحتياط، ويقال ذلك في كل ما عُبِّر فيه بأفعل التفضيل
(2)
.
وقد تبين من ذلك أن مصطلح (عليه الفتوى) و (به يفتى) من أقوى المصطلحات دلالة على القول الراجح أو المفتى به إذا اقترن بها
(3)
.
(1)
جامع المضمرات شرح مختصر القدوري (مخطوط)، ص:2.
(2)
ينظر: رد المحتار، 1/ 73، نقلاً عن الفتاوى الخيرية، 2/ 230 - 231، وكلاهما ينقلان من جامع المضمرات، ص:2.
(3)
مثاله: " والأصل عند محمد - رحمه الله تعالى - وهو الأصح وعليه الفتوى أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان دون ثلاثة أيام لا يصير فاصلاً". (المبسوط، 3/ 156)
المطلب الرابع: قواعد الترجيح في المذهب الحنفي:
يقصد بالترجيح هنا بيان ما يعتمد عليه من أقوال أئمة المذهب عند التعارض أو ما يعتمد عليه من ورواياتهم المختلفة
(1)
.
إذا ورد عن الإمام أو أحد من أصحابه قولان في مسألة، وصدر كل قول في وقت مختلف
(2)
وعُلم المتأخر فهو معتبر، والآخر متروك، وإذا لم يُعلم المتأخر نُقل القولان معاً
(3)
، وعند ذلك يصار إلى الترجيح بينهما وفقه القواعد الاستقرائية الأغلبية المبثوثة في بطون الكتب المختلفة، وكثيراً ما تتأثر بأمور منها: وصف المرجِّح بالاجتهاد أو عدمه، واختلاف عصر وزمان، والضرورة.
وقواعد الترجيح في المذهب الحنفي يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع:
- النوع الأول: قواعد الترجيح المتعلقة بطبقات الكتب والمسائل، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك
(4)
، وتبين أن رواية الأصول تُقدم على رواية النوادر، وأن المتون تُقدم على الشروح، وهذا في الحقيقة قاعدة الترجيح بين القولين المختلفين.
(1)
ويفهم منه أن اختلاف الروايتين ليس من باب اختلاف القولين؛ لأن القولين نص المجتهد عليها، بخلاف الروايتين، فالاختلاف في القولين من جهة المنقول عنه لا الناقل، والاختلاف في الروايتين من جهة الناقل لا المنقول عنه. (ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 16، نقلاً عن التقرير والتحبير، 3/ 334).
قلت: وهذا فيه إشكال؛ لأن الرواية عن الإمام في الحقيقة رواية قوله، واختلاف الروايتين عنه من هذه الحيثية اختلاف القولين -إلا إذا كان هناك نصان ذكرهما أحد الأئمة في كتابه أو أكثر من كتاب يفيد كل واحد منهما قولاً مختلفاً اختلاف التضاد لا اختلاف التنوع-، وعليه يمكن أن يقال بأن كل رواية قول، وليس كل قول رواية. وتعدد الراوي والمروي عنه أو اتحاد أحدهما وتعدد الآخر لا أثر له هنا من حيث إطلاق لفظ الرواية أو القول ما دام لا توجد نصوص منقولة من كتاب الإمام ألفه بنفسه أو أملاه وأقره، وروايات محمد وأبي يوسف وغيرهما عن أبي حنيفة تُعتبر نصوصًا في حقهما؛ لأنهما مجتهدان مستقلان، وإثباتهم لتلك الروايات روايةٌ عن الإمام وقولُ الإمام من جهة وقولهُم هم من جهة أخرى.
(2)
قلت: لا يتصور صدور قولين مختلفين اختلاف التضاد في وقت واحد من إمام واحد إلا بالتكلف.
(3)
شرح عقود رسم المفتي، ص:16.
(4)
ص: 33 - 39.
فإذا كانت المسألة في غير ظاهر الرواية، ووافقت رواية الأصول، واتفق عليها المتأخرون يُعمل بها، وإن لم يوجد لها رواية عن أئمة المذهب، وإن اختلفوا
(1)
فإن المفتي يجتهد ويفتي بما هو صواب عنده،
(2)
وإن لم يكن مجتهداً فيقدم قول الأكثر مما اعتمد عليه الكبار المعروفون
(3)
. قلت: ويفهم من ذلك أنه لا يُعمل بها إن خالفت رواية الأصول.
وإذا كانت المسألة في كتب ظاهر الرواية أو في المتون فقط، أو في كتب النوادر أو في الشروح فقط، فحينئذ يصار إلى بقية قواعد الترجيح.
- النوع الثاني: قواعد الترجيح المتعلقة بالأشخاص، وفيها شيء من التفصيل:
o إذا اتفق أئمة المذهب على قول فإن على المفتي أن يفتي بقولهم، ولا يلتفت إلى من خالفهم
(4)
.
o وإن اختلف أئمة المذهب على أكثر من قول:
• فإن كان مع أبي حنيفة أحد صاحبيه فإنه يؤخذ بقولهما، إلا لضرورة أو موجب.
• وإذا خالف أبا حنيفة صاحباه، فإن كان اختلافهم اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان؛ فإن المفتي يأخذ بقول صاحبيه، إلا لضرورة أو موجب، وفيما سوى ذلك يتخير ويعمل بما أفضى إليه رأيه، وقيل: لا يتخير إلا المفتي المجتهِد وإلا فيقدم قول الإمام مطلقاً، وقيل: يؤخذ بقول أبي حنيفة مطلقاً؛ لأنه رأى الصحابة، وزاحم التابعين في الفتوى، فقوله أقوى
(5)
. وكذا لو افترضنا انعدام المجتهدين أو المفتين القادرين على الترجيح بالنظر إلى الدليل.
(1)
ولم يوجد لها رواية عن أئمة المذهب أيضًا.
(2)
ينظر: فتاوى قاضيخان، 1/ 9.
(3)
كأبي حفص أحمد بن حفص، وأبي جعفر محمد بن عبيد الله البلخي الهندواني الملقب بأبي حنيفة الصغير، وأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي، والطحاوي وغيرهم. ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص:28.
(4)
ينظر: فتاوى قاضيخان، 1/ 9، شرح عقود رسم المفتي، ص:21.
(5)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص:21.
• وإن كان لكل واحد منهما قول، فيقدم قول أبي حنيفة، وإن لم يوجد له قول قُدّم قول أبي يوسف، ثم قول محمد، ويقدم من بعدهما قول زفر والحسن بن زياد اللؤلؤي؛ لأنهما في مرتبة واحدة. وهذا الترتيب يعمل به المفتي غير المجتهد، وأما المجتهد فيتخير بما ترجح عنده وأفضى إليه اجتهاده
(1)
.
- النوع الثالث: قواعد الترجيح المتعلقة بالموضوعات، وهي ناتجة -في الغالب- عن تطبيق القواعد السابقة، وباستقراء الآراء الراجحة من قبل العلماء تبين ما يلي:
o يقدم قول الإمام أبي حنيفة في مسائل العبادات مطلقاً ما لم يكن عنه رواية ثانية كقول المخالِف
(2)
.
مثال: التيمم عند عدم وجود غير نبيذ التمر، فإن أبا حنيفة قال بأن يتوضأ به ولا يتيمم، وقال أبو يوسف: يتيمم ولا يتوضأ، وهذا رواية عن أبي حنيفة، وقال محمد: يتوضأ به ويتيمم، وقد صحح هذا القول عملاً بالآية
(3)
.
o يقدم قول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء؛ لزيادة تجربته فيه، والشهادات
(4)
.
o يقدم قول محمد في جميع مسائل توريث ذوي الأرحام
(5)
.
o يقدم قول زفر في سبع عشرة مسألة
(6)
.
هذه القواعد خاصة ببعض أبواب الفقه، ويُستعان بها عند الترجيح، وأما بقية أبواب الفقه فيرجع إلى القواعد الأخرى.
(1)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 21 - 22.
(2)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 30، رد المحتار، 1/ 71.
(3)
ينظر: الهداية، 1/ 27. قلت: والتصحيح حاصل أيضًا باجتماع الإمام مع أحد صاحبيه على قول، فإنه يؤخذ بقولهما كما سبق في الصفحة السابقة.
(4)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 30، رد المحتار، 1/ 71.
(5)
المرجع السابق.
(6)
المرجع السابق.
- النوع الرابع: قواعد الترجيح المتعلقة بالمصطلحات، وقد سبقت الإشارة إليها أيضًا عند الكلام عن مصطلحات المذهب الحنفي
(1)
، ومنها عبارات وألفاظ تدل على القول الراجح.
فإذا ورد قولان أحدهما مرجَّح فهو معتبر بخلاف الثاني، لكن إذا ذُيِّل كل قول بلفظ من ألفاظ الترجيح فلا بد من الرجوع إلى ما يُبيِّن مرتبة تلك الألفاظ؛ لأنها ليست على درجة واحدة، فيقدم الآكد.
فعلى سبيل المثال:
o إذا صُحِّح كل من القولين بلفظ واحد مثل الصحيح أو عليه الفتوى تخير المفتي إذا لم يجد مرجِّحاً آخر.
o إذا صُحِّح كل من القولين بلفظين مختلفين مثل عليه الفتوى والصحيح، فإن التصحيح بلفظ الفتوى مقدم على غيره؛ لأنه لا يُفتى إلا بما هو صحيح، وليس كل صحيح يُفتى به؛ لكون غيره أوفق لتغير الزمان وللضرورة ونحو ذلك.
o إذا صُحِّح كل من القولين بلفظين مختلفين وأحدهما يفيد الحصر مثل: عليه الفتوى، وبه يفتى، فالأول يفيد الأصحية، ومعنى الثاني أن الفتوى لا تكون إلا بذلك
(2)
.
(1)
ص: 40 - 42.
(2)
ينظر: شرح عقود رسم المفتي، ص: 33 - 34.
المبحث الثالث: المراد بالألفاظ الأساسية التي تضمنها عنوان البحث، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المراد بالمتأخرين في المذهب الحنفي، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: طبقة المتأخرين، تعريفها، نوعها، خصائصها وميزاتها.
المسألة الثانية: قوة المذهب والقول فيه في فترة المتأخرين.
المطلب الثاني: المراد بقولهم: (عليه الفتوى) في المذهب الحنفي، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: مصطلح (عليه الفتوى)، تعريفه، نوعه، معناه، وأهميته ومكانته.
المسألة الثانية: مصطلحات مشابهة له في اللفظ والقوة.
المسألة الثالثة: دراسة المصطلح من حيث أول من أطلقه وشيوعه في المذهب.
المبحث الثالث: المراد بالألفاظ الأساسية التي تضمنها عنوان البحث
المطلب الأول: المراد بالمتأخرين في المذهب الحنفي:
المسألة الأولى: طبقة المتأخرين، تعريفها، نوعها، خصائصها وميزاتها.
المسألة الثانية: قوة المذهب والقول فيه في فترة المتأخرين.
المسألة الأولى: طبقة المتأخرين، تعريفها، نوعها، خصائصها وميزاتها:
قد سبقت الإشارة إلى هذه الطبقة عند الكلام عن طبقات الفقهاء في المذهب الحنفي
(1)
، ولعلي أعيد بعض النقاط بشيء من الاختصار.
تعريف طبقة المتأخرين:
هي طبقة زمنية لا علمية تشمل جميع فقهاء المذهب الحنفي الذين عاشوا من بعد موت شمس الأئمة الحلواني
(2)
(ت 456 هـ) إلى موت حافظ الدين البخاري
(3)
(ت 693 هـ)
(4)
.
نوعها: طبقات الفقهاء يمكن تقسيمها باعتبارات معينة، فمن ذلك تقسيمها بناءً على درجات الفقهاء العلمية، ومنها تقسيمها بناءً على وجود الفقهاء الزمني، وطبقة المتأخرين من هذا نوع من أنواع التقسيم.
ومن خصائصها
(5)
وميزاتها:
- طولها الزمني، فقد امتدت ما يزيد على قرنين والنصف من الزمن.
(1)
ص: 28 - 32.
(2)
عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح شمس الأئمة الحلواني البخاري. تفقه على الحسين أبي علي النسفي عن أبي بكر محمد بن الفضل عن عبد الله السبذموني عن أبي حفص الصغير عن أبيه عن محمد، وروى شرح معاني الآثار عن أبي بكر محمد بن عمر بن حمدان عن أبي إبراهيم محمد بن سعيد اليزدي عن الطحاوي، وتفقه عليه شمس الأئمة بكر الزرنجري، وأبوه محمد على وشمس الأئمة محمد السرخسي، ومن تصانيفه المبسوط. مات ببخارى في شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة. ينظر: الفوائد البهية، ص: 96، الجواهر المضية، 1/ 318، رقم ترجمة:847.
(3)
سبقت ترجمته، ص:31.
(4)
دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، 2/ 129
(5)
تاريخ الفقه الإسلامي لإلياس دردور، 2/ 771 - 887، باختصار.
- حركة تدوين الفقه سارت في اتجاهين اثنين: الأول: تركيز الجهود على دراسة المصنفات القديمة شرحاً وتعليقاً واختصاراً ونظماً أو جمعاً وترتيباً، والثاني: دراسة الفقه على مبدأ النقد والتنقيح والاختيار.
- فترة وضع المصطلحات المتعلقة بعلامات الإفتاء والترجيح.
- فترة انتشار المختصرات الفقهية، والمتون المعتمدة التي أُلفت فيها حقيقة
(1)
أو حكماً
(2)
.
المسألة الثانية: قوة المذهب والقول فيه في فترة المتأخرين:
بناءً على ما سبق من تحديد فترة المتأخرين وذكر بعض خصائصها وميزاتها تبين أنها فترة حافلة بالعلم والعلماء والإبداع وتنظيم العلم وخدمته؛ ففيها ألفت المتون المعتمدة الموضوعة لنقل ظاهر الرواية، وكذلك الشروح عليها.
ويلاحظ فيها تركيز العلماء على أقوال أئمة المذهب المجردة عن الدليل، فحرروها واستدلوا عليها، وبينوا أصول الأئمة، وتوسعوا في المناقشات والرد على المخالف.
وفيها ظهر نوع جديد من النشاط العلمي وهو النقد والتنقيح، ومن ثم اختيار القول الراجح بوضع الألفاظ والمصطلحات الدالة عليه مثل عليه الفتوى.
فما صُحِّح بناءً عليها يعتبر قولًا راجحًا في المذهب.
وكل ذلك أدى إلى تقوية المذهب وتنظيمه، فهي فترة تخريج الأصول، ورجحان القول، والإبداع العلمي، وتنظيم المذهب ومسائله.
(1)
مثل البداية للمرغيناني (593 هـ) والمختار للموصلي (ت 683 هـ) إلخ.
(2)
مثل مختصر القدوري (ت 428 هـ)؛ لأن المرغيناني (ت 593 هـ) في متن البداية جمع فيه بين مختصر القدوري والجامع الصغير، وهذا لما قبل بداية فترة المتأخرين، وأما بعد انتهائها فمثل النقاية لصدر الشريعة (ت 747 هـ)؛ لأنه اختصار للوقاية لتاج الشريعة (ت 673 هـ).
ومثل الملتقى للحلبي (ت 956 هـ) لأنه جمع فيه مسائل القدوري والمختار والكنز والوقاية.
ومثل الكنز للنسفي (ت 710 هـ أو 701 هـ) فإنه من المحتمل أنه ألف الكنز قبل ذلك الوقت.
المطلب الثاني: المراد بقولهم: (عليه الفتوى) في المذهب الحنفي
المسألة الأولى: مصطلح (عليه الفتوى)، تعريفه، نوعه، معناه، وأهميته ومكانته.
المسألة الثانية: مصطلحات مشابهة له في اللفظ والقوة.
المسألة الثالثة: دراسة المصطلح من حيث أول من أطلقه، وشيوعه في المذهب.
المسألة الأولى: مصطلح (عليه الفتوى)، تعريفه، نوعه، معناه، وأهميته ومكانته:
قد سبقت الإشارة إلى مصطلح (عليه الفتوى) عند الكلام عن مصطلحات المذهب الحنفي بشكل عام، ولا بأس أن نعيد بعض الكلام بشيء من الاختصار.
تعريفه ومعناه: مصطلح (عليه الفتوى) من أقوى المصطلحات المستخدمة للدلالة على القول الراجح في المذهب الحنفي. فإذا اقترن قول من الأقوال في المذهب الحنفي بمصطلح (عليه الفتوى) أو بما شابهه فإنه يصيِّره قولاً راجحاً يُعتمد عليه، ويفتى به.
نوعه: يُعتبر من المصطلحات الخاصة بعلامات الفتوى والترجيح.
أهميته: تظهر أهمية المصطلح إذا نظرنا إلى كثرة الروايات والأقوال عن الأئمة فيقف الباحث حائراً عند محاولة الوصول إلى الراجح منها والمعتمد في المذهب، لكن بعد تذييل المسائل بعلامات الترجيح والفتوى سهل الأمر وقرب.
مكانته: لفظ الفتوى بأي صيغة عُبِّر بها يعتبر دلالة على رجحان القول في المذهب، لكن بعضها آكد من بعض، فلفظ (به يُفتى) يفيد الحصر أي أنه لا يفتى إلا به، وهو آكد من لفظ (عليه الفتوى)؛ لأن الثاني يفيد الأصحية، وليس كل صحيح يُفتى به؛ لكون غيره أوفق لتغير الزمان أو للضرورة كما سبق.
(1)
المسألة الثانية: مصطلحات مشابهة له في اللفظ والقوة:
أولا: مصطلحات مشابهة له في اللفظ:
من المصطلحات المشابهة كل ما يمكن التعبير عنه بذكر الحروف الأصلية في كلمة الفتوى، وهي على سبيل المثال لا الحصر: به يُفتى، والفتوى عليه، والفتوى على قوله، وقوله يُفتى به إلخ.
(1)
ص: 41.
لكن مصطلح (به يُفتى) خاصةً إذا اقترن القول به فإنه يفيد الحصر، بمعنى أنه لا يُفتى إلا به
(1)
، بخلاف بقية المصطلحات.
ثانياً: مصطلحات مشابهة له في القوة:
ترد بعض المصطلحات في كتب الفقه الحنفي مثل (وبه نأخذ)، و (عليه العمل)، وقد اعتبرها بعض العلماء من المصطلحات المساوية لمصطلح عليه الفتوى
(2)
، بل بعضها فُضِّل على لفظ الفتوى؛ لإفادتها الإجماع مثل مصطلح (عليه عمل الأمة)
(3)
.
المسألة الثانية: دراسة المصطلح من حيث أول من أطلقه، وشيوعه في المذهب:
بعد دراسة مسائل البحث وفيما اطلعت عليه من الكتب لم أجد أحدًا سبق السرخسي صاحب المبسوط في إطلاق عبارة "عليه الفتوى"
(4)
، أو "به يُفتى"
(5)
، وأما شيوعه في كتب المذهب فقد كثر إطلاقه مع بداية القرن الثامن بخلاف فترة المتأخرين؛ فإنهم لم يطلقوه إلا على مسائل نادرة، والله أعلم.
(1)
شرح عقود رسم المفتي، ص؛ 33 - 34.
(2)
رد المحتار، 1/ 73. قلت: هذا فيه نظر، لأن مصطلح (به نأخذ) ذكره محمد في الأصل (2/ 254)، كما ذكره أبو يوسف في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى (ص: 9)، والمصطلحات الدالة على الترجيح وُضِعت في فترة المتأخرين. إضافة إلى أن صاحب المبسوط يذيل المسائل بهذا المصطلحب (5/ 50) مع تذييل غيرها بمصطلح عليه الفتوى (15/ 17)، وفعله هذا يفيد المغايرة، وإلا لاكتفى بواحد منهما.
(3)
شرح عقود رسم المفتي، ص؛ 34، رد المحتار، 1/ 73.
(4)
كما في مسألة الطهر المتخلل بين الدمين، 3/ 156.
(5)
كما في مسألة محرم قتل صيدًا في يد محرم آخر، 4/ 88 - 89.
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العبادات وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: في مسائل الطهارة، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: الوضوء، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الماء المستعمل.
المسألة الثانية: الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة.
المطلب الثاني: المسح على الجوربين.
المطلب الثالث: صلاة المتيمم إذا رأى النبيذ.
المطلب الرابع: الحيض والاستحاضة، وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: ثبوت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة.
المسألة الثانية: نصب العادة للمبتدأة.
المسألة الثالثة: الطهر المتخلل بين الدمين.
المسألة الرابعة: تحديد سن اليأس.
المطلب الخامس: كيفية تطهير الخف ونحوه.
المبحث الثاني: في مسائل الصلاة، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: وقت صلاة المغرب.
المطلب الثاني: السجود على الأنف دون الجبهة.
المطلب الثالث: وقت ابتداء التكبير وانتهائه في أيام عيد الأضحى.
المبحث الثالث: الاحتيال لإسقاط الزكاة.
المبحث الرابع: محرم قتل صيداً في يد محرم آخر.
الفصل الأول: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العبادات
المبحث الأول: في مسائل الطهارة
المطلب الأول: في مسائل الوضوء:
المسألة الأولى: الماء المستعمل.
المسألة الثانية: الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة.
المسألة الأولى: الماء المستعمل:
الماء المستعمل عند الحنفية هو الماء "المستخدم في البدن"
(1)
؛ "لإزالة الحدث
(2)
بنية القربة"
(3)
، وقد "زايل
(4)
العضوَ"
(5)
و"استقر في موضع"
(6)
(7)
.
وقيل: يصير مستعملاً بأحد الأمور الثلاثة: رفع الحدث تقرُّباً أو غير تقرُّب، والتقرُّب كان معه رفع الحدث أو لم يكن، وسقوط الفرض عن العضو
(8)
، والأول أولى.
(1)
الهداية، 1/ 23.
(2)
والمراد هنا النجاسة غير الحقيقية، وأما المستعمل لإزالة النجاسات الحقيقية كماء الاستنجاء وغسالة الثياب النجسة، فهو نجس اتفاقًا ما لم يُعطَ للمغسول حكم الطهارة. (ينظر: عمدة الرعاية، 1/ 388).
(3)
شرح الوقاية للمحبوبي ومعه منتهى النقاية على شرح الوقاية، 2/ 48 - 49، وعمدة الرعاية، 1/ 388.
المراد بالقربة نفس الثواب إطلاقاً لاسم الفعل على أثره، والحاصل أن الذي استُعمل لغرض تحصيل الثواب أعم من أن يرتفع به الحدث أو لم يرتفع. وبهذا تبين أن النسبة بين الاستعمال للقربة وبين الاستعمال لرفع الحديث نسبة العموم والخصوص من وجه؛ فمعنى القربة هنا العاقبة أو ما يؤول إليه الأمر لا بما يكون مقصودًا من الفعل وباعثاً له. (ينظر: عمدة الرعاية، 1/ 387). وقد ذكر الطحاوي في مختصره أن الماء الذي توضئ به أو اغتُسل به منه أو تُبرد به منها (أو فيها) فقد صار مستعملًا. (ينظر: مختصر الطحاوي، 16).
(4)
أي فارق. (ينظر: كتاب العين، 7/ 385، مقاييس اللغة، 3/ 41).
(5)
الهداية، 1/ 23.
(6)
السعاية في كشف ما في شرح الوقاية، ص: 394، ولو قيل باستعماله بالانفصال فقط لتنجس ثوب المتوضئ على القول بنجاسة الماء المستعمل، وفيه حرج عظيم. (رد المحتار على الدر المختار، 1/ 200).
(7)
ويؤيده اتفاقهم بأن الماء المستعمل في غسل الأعيان الطاهرة طاهر. (ينظر: عمدة الرعاية، 1/ 388).
(8)
فتح القدير، 1/ 90.
والمسألة مذكورة في كتاب اللباب في بداية كتاب الطهارة عند ذكر الروايات عن أبي حنيفة –رحمه الله تعالى- في الماء المستعمل، فقال: "ذكر مشايخ بلخ عن أبي حنيفة ثلاث روايات في الماء المستعمل:
- إحداها: أنه نجس نجاسة مغلظة (كالبول والخمر)، وهي رواية الحسن بن زياد عنه.
- والثانية: أنه نجس نجاسة خفيفة وهي رواية أبي يوسف عنه.
- والثالثة: أنه طاهر غير طهور، وهي رواية محمد بن الحسن عنه.
ومشايخ العراق رووا عن أبي حنيفة أنه طاهر غير طهور رواية واحدة، واختارها المحققون من أصحابنا، وهي القول الأشهر الأقيس الذي عليه الفتوى"
(1)
.
وقد استدل للرواية الأولى من الكتاب والسنة، وللثانية من المعقول، وللثالثة التي وافقت رواية العراقيين –وعليها الفتوى- بحديث عون بن أبي جحيفة قال:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بياض ساقيه، فتوضأ وأذَّن بلال، وقال: فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يمينًا وشمالًا يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: ثم ركزت له عنزة، فتقدم فصلى الظهر ركعتين يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة"
(2)
. وفي رواية: "فرأيت بلالاً أخرج وضوءًا، فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء. فمن أصاب منه شيئًا تمسَّح به ومن لم يصب منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه"
(3)
.
(1)
ينظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 84، وفي الاختيار (1/ 16) أنه اختيار أكثر المشايخ، لكن لم يعقبه بعلامة الإفتاء، بل لم أجد ذلك إلا عند صاحب اللباب. وجاء في رد المحتار (1/ 71) أن الفتوى على قول الإمام في العبادات مطلقاً، وأنه واقع بالاستقراء، ما لم يكن عنه رواية كقول المخالف كما في طهارة الماء المستعمل.
(2)
أخرجه مسلم، 1/ 359، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، رقم حديث:503.
(3)
أخرجه البخاري، 1/ 84، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الأحمر، رقم حديث:376.
والشاهد قوله: "فمن نائل وناضح، " ومعناه: فمنهم من ينال منه شيئًا، ومنهم من ينضح عليه غيره شيئًا مما ناله ويرش عليه بللاً مما حصل له، وهو معنى ما جاء في الرواية الثانية المذكرة: فمن لم يصب أخذ من يد صاحبه
(1)
.
وعليه فالحديث دليل على طهارة الماء المستعمل، إن كان ما أخرجه بلال غُسالة أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأغلب أنها كانت غُسالة أعضائه وإلا لما فعل بها الصحابة ما فعلوا؛ لأن ما يفضل من وضوئه في الإناء مثل ما يفضل من وضوئه من البئر، فلولا كان الذي أخرجه بلال فضل وضوئه لما فعلوا به ما فعلوا.
وأما ما يدل على أنه غير طهور فترك الأولين بجمعه ليتوضأ به مرة بعد أخرى عند فقد الماء مع قلة المياه في الحجاز، واختلافهم فيما إذا وجد ما لا يكفيه من الماء لحدثه هل يجب استعماله أم لا
(2)
؟
ويلاحظ أن لأبي حنيفة –رحمه الله في هذه المسألة ثلاث روايات، وأن الثالثة عن طريق محمد بن الحسن رحمه الله، وتعتبر ظاهر الرواية، وعليها الفتوى.
فحكم الماء المستعمل عند متأخري الحنفية أنه طاهر غير طهور، والطحاوي من المتقدمين قال بأنه غير طهور فقط، وأنه "لا يجوز توضؤ به ولا الاغتسال"
(3)
، ويفهم من كلام الجصاص في شرحه على مختصر الطحاوي أنه يرجح ما سيستقر عليه الحكم عند المتأخرين وما بعدهم بأن الماء المستعمل طاهر أي في نفسه، غير طهور أي غير مطهِّر لغيره
(4)
.
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، 4/ 218 - 219.
(2)
ينظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 51.
(3)
مختصر الطحاوي، 16.
(4)
ينظر: رد المحتار على الدر المختار، 1/ 201، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 39، شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص:229.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
هذه المسألة تحتوي على شقين: الشق الأول: صفة الماء المستعمل، والشق الثاني: حكم الطهارة به، والثاني مبني على الأول؛ لأن الكثير يعبر عن صفة الماء المستعمل بحكم استعماله ثانيةً.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على طهورية الماء المطلق وجواز الطهارة به، واختلفوا في الماء المستعمل وحكم الطهارة به، وسبب اختلافهم هل الماء المستعمل يتناوله اسم الماء المطلق أم لا
(1)
.
الأقوال في المسألة:
اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً كبيرًا، وقد كثرت تفريعاتهم وتنوعت تقسيماتهم، ويمكن إرجاع الخلاف إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: الماء المستعمل طاهر غير طهور، وهو القول الراجح عند الحنفية وعليه الفتوى كما سبق، وقول عند المالكية
(2)
، وظاهر مذهب الشافعي
(3)
، وهو المذهب عند الحنابلة
(4)
.
(1)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 33، وهو من نقل الاتفاق على ذلك.
(2)
الذخيرة، 1/ 147.
(3)
نهاية المطلب، 1/ 231، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 1/ 43، الغاية والتقريب، ص: 3، المجموع شرح المهذب، 1/ 150 - 151.
(4)
المغني، 1/ 16، 1/ 23، الشرح الكبير على متن المقنع، 1/ 32، وكثيراً ما يذكرون مسألة وقوع ماء مستعمل في ماء طاهر. (ينظر: المغني، 1/ 18 - 19، الشرح الكبير، 1/ 11، حاشية الروض المربع، 1/ 69)
القول الثاني: الماء المستعمل طاهر طهور، وهو المشهور من قول المالكية، لكنه يكره عندهم استعماله مع وجود غيره، فإن لم يجد غيره تطهّر به ولا يتيمم مع وجوده
(1)
، وقول عند الشافعية
(2)
، وهو رواية أخرى عند الحنابلة
(3)
.
القول الثالث: الماء المستعمل نجس، وهو ورواية مرجوحة عند الحنفية كما سبق، وقول عند الشافعية
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن الماء المستعمل طاهر غير طهور بعدة أدلة، من أشهرها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48].
وجه الدلالة: ذكر الماء في الآية مطلقًا، والمطلق ما يتعرض للذات دون الصفات، والاستعمال صفة للماء، وعليه فلا يشمله الاسم المطلق فلا يكون طهوراً.
(5)
الدليل الثاني: حديث عون بن أبي جحيفة السابق ذكره وطرفه: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم
…
" الحديث.
(6)
(1)
مواهب الجليل، 1/ 66، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 33، والكراهة مقيدة بأمرين: الأول: أن يكون ذلك الماء المستعمل قليلًا كآنية الوضوء، والثاني: أن يوجد غيره، وإلا فلا كراهة. (ينظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/ 41). وعند المالكية توجد أقوال أخرى، مثل: أن الماء المستعمل غير طهور، فيترك ويتيمم إن لم يجد غيره، أو أنه مشكوك فيه، فيتوضأ به ويتيمم لصلاة واحدة، (ينظر: مواهب الجليل، 1/ 66، مناهج التحصيل، 1/ 103) وقد نوزع فيها؛ لأن لفظ المدونة:"ولا يتوضأ بماء قد توضأ به مرة، ولا خير فيه". (المدونة، 1/ 115).
(2)
المهذب، 1/ 23، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 1/ 43.
(3)
المغني، 1/ 16، الإنصاف، 1/ 36.
(4)
المهذب للشيرازي، 1/ 23.
(5)
العناية شرح الهداية، 1/ 69.
(6)
سبق تخريجه قريبًا.
وجه الدلالة: فيه دليل على طهارة الماء المستعمل؛ لأن ما أخرجه بلال غُسالة أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لما فعل بها الصحابة ما فعلوا، وليس ما فضل عن وَضوئه؛ لأن ما يفضل من وضوئه في الإناء مثل ما يفضل من وضوئه من البئر
(1)
.
وقد يناقش بأنهم كانوا يتمسحون تبركاً وليس طهارة.
فيجاب: بأن التبرك بالنجس لا يجوز
(2)
.
وقد يناقش أيضاً بأنه من خصائص النبي –صلى الله عليه وسلم.
وأما ما يدل على أنه غير طهور فلأن الأولين لم يجمعوا ما سقط عن أعضائهم في أسفارهم مع شدة ضروراتهم لقلة الماء في الحجاز.
وجه الدلالة: ذلك يدل على عدم جواز استعماله وإلا لجمعوه
(3)
.
قد يناقش بأنهم لم يجمعوا ما سقط عن أعضائهم لاستقباحه؛ ولأنه مما تعافه النفوس، وهذا له ملحظ في الشرع، كما يقال في كراهية أكل بعض الأطعمة أو حرمتها؛ لأن النفوس تستخبثه وتكرهه
(4)
.
قد يُجاب بأن النفوس لا تستطيبه للشرب والطبخ وغيره، وأما الطهارة فلا.
فيقال بأنه لا يسلم؛ لأن الماء المستعمل لرفع الحدث لا يُستطاب أيضًا لا لنفسه، بل لما يلاقي مواضع الجسد.
(1)
والمعنى أن أعضاء المحدث طاهرة، ولكنه ممنوع من إقامة القربة، فإذا استعمل الماء تحول ذلك المنع إلى الماء فصارت صفة الماء كصفة العضو قبل الاستعمال فيكون طاهرًا غير طهور، بخلاف ما إذا أزال النجاسة بالماء فالنجاسة هناك تتحول إلى الماء. (المبسوط، 1/ 47).
(2)
المبسوط، 1/ 47، وجاء عن بعض المالكية أن ماء وضوئه –صلى الله عليه وسلم وغسله لا يدخل في الماء المستعمل. (شرح مختصر خليل للخرشي، 1/ 75).
(3)
ينظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 51، الذخيرة، 1/ 174.
(4)
المغني، 3/ 476، بدائع الصنائع، 5/ 38، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 3/ 22، الإنصاف، 10/ 357.
الدليل الثالث: حديث أبي هريرة –رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة، قال:"يتناوله تناولًا"
(1)
.
وجه الدلالة: فيه دليل على أن الماء المستعمل مسلوب الطهورية فلا يتطهر به مرة أخرى؛ إذ لولا أن الاغتسال فيه يخرجه عن كونه يغتسل به مرة أخرى لما نهى عنه
(2)
.
ونوقش بأن المراد بهذا الحديث النهي عن الاغتسال في الدائم وإن كان كثيرًا لئلا يقذره.
(3)
الدليل الرابع: حديث الحكَم بن عمرو "أن النبي –صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة"
(4)
، فإذا ثبت أنه لم يُرد ما بقي في الإناء ثبت أنه أراد ما استعمل
(5)
.
وجه الدلالة: اتفاق العلماء على أن الباقي في الإناء مطهر، فتعين حمله على الساقط وما سال عنها
(6)
.
ونوقش بأن الحديث معارض بأحاديث صحيحة ثابتة عن غير واحد من الصحابة روَوْا جوازَ الوضوء أو الاغتسال بفضل المرأة
(7)
، بل اختلف في صحته
(8)
.
(1)
أخرجه مسلم، 1/ 236، كتاب الطهارة، باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، رقم حديث:283.
(2)
طرح التثريب في شرح التقريب، 2/ 34.
(3)
المجموع شرح المهذب، 1/ 154.
(4)
أخرجه أبو داود، 1/ 21، كتاب الطهارة، باب الوضوء بفضل وضوء المرأة مع باب النهي عن ذلك، رقم حديث: 82، والترمذي، 1/ 93، أبواب الطهارة، باب في كراهية فضل طهور المرأة، رقم حديث: 64، وحسنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 141) وفي الإرواء (1/ 43).
(5)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 1/ 43 - 44.
(6)
المجموع شرح المهذب، 1/ 153، 2/ 191.
(7)
بحر المذهب، 1/ 177.
(8)
منهم من حسَّنه مثل الترمذي كما سبق، وضعَّفه البخاري في تاريخه بقوله:"سوادة بن عاصم أبو حاجب العنزي، بصريٌّ، كنَّاه أحمد وغيره، ويقال: الغفاري- ولا أراه يصحُّ- عن الحكم بن عمرو". (التاريخ الكبير للبخاري بحواشي محمود خليل، 4/ 184، حرف السين، ترجمة سَوادَة بن عاصم العنزي البصري، رقم 2419).
يجاب بأن الأحاديث الصحيحة الثابتة تُحمل على فضل الماء المتبقي في الإناء، وحديث الحكم بن عمرو يُحمل على فضل الماء المتساقط وما سال عنها
(1)
.
وأما ما ورد عن الاختلاف في تصحيحه، فأقوى ما قيل في تضعيفه قول البخاري في تاريخه، لكنه ظنٌّ لم يذكر الدليل عليه
(2)
، ثم هل قوله قصد به النسبة أم حديثه عن الحكم بن عمرو، والسياق يؤيد نفي صحة النسبة
(3)
.
ويجاب بأن الترمذي جزم في علله أن البخاري يضعف الحديث
(4)
.
الدليل الخامس: أنه أُديت به عبادة، فلا تُؤدى به عبادة أخرى قياساً على مسألة تحرير الرقبة في الكفارة
(5)
، أو قياسا على الجماعة تيمموا في موضع واحد
(6)
.
نوقش بأنه قياس مع الفارق، فإن الرقبة إذا حرّرت فلا يمكن تحريرها ثانياً، بخلاف الماء المستعمل.
وأما تيمم الجماعة في موضع واحد فيقال بأن القياس غير صحيح؛ لأن المستعمل ما تعلَّق بالعضو، والأرض ليست كالماء، فلا تقبل صفة الاستعمال
(7)
، وهو خارج الخلاف.
الدليل السادس: عدم سلامة الماء المستعمل من الأوساخ ودهنية البدن
(8)
، فاحتمال تنجسه قائم.
قد يناقش بأن الأوساخ ودهنية البدن ليست من النجاسات الشرعية، بل من الأوساخ، وأكثر ما يقال فيه أنه تستخبثه النفوس ولا تستطيبه.
(1)
المجموع شرح المهذب، 2/ 191.
(2)
تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، 1/ 44.
(3)
تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، 1/ 44، وقد أثار هذه النقطة محقق الكتاب.
(4)
علل الترمذي الكبير، ص:40.
(5)
الذخيرة، 1/ 174.
(6)
البناية شرح الهداية، 1/ 398.
(7)
البناية شرح الهداية، 1/ 398.
(8)
الذخيرة، 1/ 174.
الدليل السابع: إن المحدث في معنى من على بدنه نجاسة في باب المنع من الصلاة، ثم وجدنا الماء المغسول به النجاسة يحل في حكم النجاسة؛ لأنها به زالت، كذلك الماء المزال به الحدث، ينبغي أن ينتقل حكم الحدث إليه؛ لأنه به زال، فوجب أن يمنع ذلك استعماله للطهارة؛ لقيام حكم الحدث فيه، كما لا يجوز استعمال الماء المغسول به النجاسة.
ونوقش بأنه يجب على هذا ألا يكون مستعملًا إذا توضأ به وهو طاهر، إذا لم يزل به حدث.
يجاب عنه بأن حكم الاستعمال إنما أُلحِق بمعنى آخر غير ما ذُكر في الحديث، وهو القربة به، قياسًا على المحدث.
فإن قيل: العلة في المحدث سقوط الفرض به، وذلك معدوم في المتقرب به لغير حدث.
فيجاب عنه بأنه لا يمتنع القياس عليه بوصف آخر، وهو ما تعلق به من الحكم، فكل ما تعلق به حكم صار مستعملًا، والحكم تارة يكون زوال الحدث، وتارة حصول القربة
(1)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن الماء المستعمل طاهر طهور بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48].
وجه الدلالة: قوله: {طَهُورًا} يقتضي جوازَ التطهُّرِ به مرةً بعدَ أخرى، فهو على وزن (فَعولٍ) لِمَا يتكرَّر منه الفِعلُ، مثل: شكورٍ، وصبورٍ
(2)
.
نوقش بأن قوله: {طَهُورًا} معناه مطهرًا، على وجه المبالغة في وصفه بوقوع الطهارة به، ولا دلالة فيه على التكرار، كما يقال: سيف قطوع: ويراد به الوصف بالمبالغة في القطع، ولا يراد به تكرار القطع؛ لأن ذلك قد يحصل بالسيف الكليل، ولا يسمى قطوعًا
(3)
.
ويجاب بأن حمل الآية على المبالغة لا يمنع حملها على التكرار.
(1)
ينظر: شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص: 237، فقد ذكر الدليل والجواب عنه.
(2)
المجموع شرح المهذب، 1/ 153.
(3)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 1/ 235.
الدليل الثاني: الأحاديث الواردة عن النبي –صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن عباس –رضي الله عنهما: "اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء ليتوضأ منها، فقالت: إني كنت جنبًا، فقال: إن الماء لا يُجْنِب"
(1)
، وما روي عن ابن عباس أيضا "أنه –صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لُمعة لم يصبها الماء، فعصر شعره عليها"
(2)
(3)
.
ووجه الدلالة من الحديث الأول أن الماء لا يتعدى إليه حكم الجنابة
(4)
، ومن الثاني لأن النبي –صلى الله عليه وسلم أكمل غسله بالماء المستعمل.
ونوقش بأن الحديث الأول يُحمل على الاغتراف من الماء وليس الانغماس فيه؛ إذ يبعد الاغتسال داخل الجفنة عادة، ولأن (في) بمعنى (من)
(5)
، وعليه يحمل معنى عدم إجناب الماء، وأما الحديث الثاني فلم يثبت.
(1)
أخرجه ابن ماجه، 1/ 132، كتاب الطهارة وسننها، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة، رقم حديث: 370، سنن أبي داود، 1/ 18، كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب، رقم حديث: 68، والترمذي، 1/ 94، أبواب الطهارة، باب في كراهية فضل طهور المرأة مع باب الرخصة في ذلك، رقم حديث: 65، وقال: حديث حسن صحيح، ووافقه ابن رجب في الفتح، 1/ 282، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 118.
(2)
أخرجه ابن ماجه، 1/ 217، كتاب الطهارة وسننها، باب من اغتسل من الجنابة فبقي من جسده لمعة لم يصبها الماء كيف يصنع؟، رقم حديث: 663، وابن أبي شيبة في مصنفه، 1/ 46، كتاب الطهارات، باب في الرجل يتوضأ أو يغتسل فينسى اللمعة من جسده، رقم حديث: 456، وفي سنده أبو علي الرحبي. قال أحمد والنسائي والدارقطني: متروك، وقال أبو زرعة: ضعيف، كما في نصب الراية، 1/ 100، بل أجمعوا على ضعفه كما في مصباح الزجاجة، 1/ 85، وضعَّف الحديث ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 1/ 55، وضعَّفه أيضًا الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه، ص: 53 - 54.
(3)
المغني، 1/ 16، الشرح الكبير، 1/ 14.
(4)
مجموع الفتاوى، 20/ 519.
(5)
مجمع بحار الأنوار، 1/ 396.
الدليل الثالث: ما روي عن علي وغيره قال: إذا توضأ الرجل فنسي أن يمسح برأسه فوجد في لحيته بللاً، أخذ من لحيته فمسح رأسه
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: مسح رأسه ببلل اللحية هو استخدام الماء المستعمل ثانية، فدل على أنه طهور.
نوقش بأن الأثر ضعيف، ثم إن فيه مشكلة فقهية ترد على من يرى الترتيب في الوضوء، وكذلك لو ثبت فإنه لا يفيد استعمال الماء المستعمل؛ لأنه لم ينفصل عن البدن، ولم يستقر في موضع، وعليه فلا يسمى مستعملاً.
يجاب بأنه وإن كان ضعيفاً عن علي –رضي الله عنه فقد ثبت عن غيره
(3)
.
الدليل الرابع: كونه ماءً مطلقًا؛ لأنه في الأغلب ليس ينتهي إلى أن يتغير أحد أوصافه بدنس الأعضاء التي تُغسل به، فإن انتهى إلى ذلك فحكمه حكم الماء الذي تغير أحد أوصافه بشيء طاهر
(4)
.
قد يناقش بأنه استدلال بمحل النزاع.
الدليل الخامس: لأنه غُسل به محل طاهر، فلم تزل به طهوريته، كما لو غُسل به الثوب
(5)
.
قد يناقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن غسل الثوب لا يصيِّر الماء مستعملاً شرعاً، بخلاف البدن عند رفع الحدث.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، 1/ 28، وهو ضعيف؛ لأن في سنده خلاساً ولم يسمع من علي. قال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: كان يحيى بن سعيد يتوقى أن يحدِّث عن خلاس عن علي خاصة، وأظن أنه قد حدثنا عنه بحديث. وقال أبو عبيد الآجري: سئل أبو داود عن خلاس، فقال: ثقة ثقة. قيل: سمع من علي؟ قال: لا. ينظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 8/ 365 - 367.
(2)
المغني، 1/ 16.
(3)
المغني، 1/ 16.
(4)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 34.
(5)
المغني، 1/ 16، الشرح الكبير، 1/ 14.
دليل القول الثالث:
استدل القائلون بأن الماء المستعمل نجس بأنه زال عنه إطلاق اسم الماء فصار كما لو تغير بالزعفران
(1)
.
قد يناقش بأنه استدلال بمحل النزاع –كما سبق في مناقشة الدليل الرابع من القول الثاني.
ثم يقال: إنكم منعتم من استعمال الماء المستعمل ثانيةً، فلِم جوَّزتم استعمال الحجر المستعمل ثانية عند الاستجمار؟
يقال: إنهما سواء، لكن جوزنا إعادة الحجر المستعمل ثانية؛ لأن غسله قد أعاده إلى أصله قبل الاستعمال، وهو الطهارة، وكذلك الماء المستعمل لو عاد إلى أصله قبل الاستعمال في مخالطة الماء الكثير الطاهر جوزنا استعماله ثانيةً
(2)
.
قلت: يمكن مناقشته بأن هناك فرقاً بين غسل الحجر المستعمل وبين مخالطة الماء المستعمل مع الماء الكثير الطاهر؛ لأن الأول يمكن إزالة النجاسة بغير الماء، وكذلك نجاسته منفصلة وليست متحللة بخلاف الثاني، ثم الحجر وما ينوب الماء في الاستجمار يوجد أكثر في الغالب بخلاف الماء الكثير الطاهر حتى نخالطه مع الماء المستعمل.
ثم الصحيح من مذهبكم أن كل ما لا يجوز به رفع الحدث لم يجز إزالة النجاسة به كالماء النجس،
(3)
فكيف يمكن غسل الحجر المستعمل بالماء المستعمل؟!، فإن كان الماء مستعملاً نجساً لم يجز غسل الحجر به، وإن كان الغسل بماء طاهر طهور فالاستنجاء به أولى.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال في المسألة وأدلة كل قول مع المناقشات ظهر لي أن القول الثاني القائل بأن الماء المستعمل طاهر طهور أقرب للصواب؛ لعدم قيام أدلة كافية تخرج الماء المستعمل عن أصله، لكن عدم استعماله أولى لأمور:
(1)
المهذب، 1/ 23.
(2)
ينظر: الحاوي الكبير، 1/ 162.
(3)
ينظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي، 1/ 45.
• خروجاً من الخلاف.
• لأنه مما تعافه النفوس وتستقذره في الغالب.
• وقد يُمنع من الاستخدام إذا ثبت ضرره على صحة الإنسان لكثرة ما يستخدم الآن من الكيماويات في العطور والكريمات والزيوت وغيرها، والله أعلم.
ثمرة الخلاف:
تظهر ثمرة الخلاف في بعض المسائل، منها:
1.
لو توضأ إنسان بالماء المتقاطر عن المتوضئ بأن يكون في موضع عالٍ وهو يأخذ الماء من الهواء قبل وصوله إلى الأرض يصح عند من يرى أن الماء المستعمل طاهر طهور، وعند من يرى أنه لم يصبح مستعملاً بمجرد مفارقة العضو بل لا بد من استقراره في موضع، ولا يصح عند من يرى أن الماء المستعمل طاهر غير طهور وأصبح مستعملًا بمجرد مفارقة العضو، كما لا يصح عند من يرى أن الماء المستعمل نجس.
2.
لو أن إنساناً تطهَّر من حوض صغير، أو من إناء كبير، ثم صب ماءه الذي تطهر فيه في إناء آخر، فتوضأ به آخر صح وضوؤه عند من يرى أن الماء المستعمل طهور، ولا يصح عند من يرى أنه نجس أو غير طهور.
3.
لو أن إنساناً توضأ ومسح رأسه ببلل شعر زوجته بعد غسلها من الجنابة يصح وضوؤه عند من يرى أن الماء المستعمل طهور، ومن يرى أنه نجس أو غير طهور فلا يصح عنده.
4.
لو أن شخصاً جمع ماءً في حوض الاستحمام حتى امتلأ ثم اغتسل فيه من الجنابة، فهل له أن ينغمس فيه ويغتسل فيه من الجنابة مرة أخرى أو يتوضأ منه؟ فمن يرى أن الماء المستعمل نجس أو غير طهور فلا يرى ذلك، والعكس عند من يرى أنه طهور.
المسألة الثانية: الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة
(1)
:
هذه المسألة تأتي في كتب الحنفية تحت باب الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز، وفيه مسائل فرعية كثيرة تتعلق بالمياه وتحديد الراكد منها والجاري، وحكمها إذا خالطتها أشياء طاهرة أو نجسة.
وعند تعيين الحد الفاصل بين الحوض الصغير والكبر
(2)
ذكروا مسألة الغدير العظيم إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيْه، فجوزوا الوضوء منه إذا كان لا يتحرك أحد طرفين بتحريك الطرف الآخر،
(3)
ثم اختلفوا في المعتبر به عند التحريك على ثلاثة أقوال:
(4)
القول الأول: إن التحريك يعتبر بالاغتسال؛ لأن الحاجة إلى الاغتسال أشد منها إلى التوضؤ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف –رحمهما الله-.
القول الثاني: عن أبي يوسف رواية أخرى أنه يعتبر باليد.
القول الثالث: وعن محمد –رحمه الله أنه يعتبر بالتوضؤ.
(1)
الخلاف في هذه المسألة قديم، وهي من المسائل العويصة، وقد قال ابن القيم –رحمه الله:"فهنا معترك النزال وتلاطم أمواج الأقوال، وهي مسألة الماء والمائع إذا خالطته النجاسة فاستهلكت ولم يظهر لها فيه أثر البتة"، (بدائع الفوائد، 3/ 258) وقال الشوكاني –رحمه الله: "وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إلى ما هو الصواب فيها إلا الأفراد". (نيل الأوطار، 1/ 46)
(2)
الحوض الصغير قاسوه على الأواني في حكم الماء إذا وقعت فيه النجاسة، والحوض الكبير قاسوه على البحر. (ينظر: المبسوط، 1/ 70)
(3)
وهو ما يسمَّى عندهم بخلوص الماء، فإن خلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص بعضه إلى بعض فهو كثير، ثم اختلفوا في تفسير الخلوص والمعتبر فيه على ما ذُكر. (ينظر: تحفة الفقهاء، ص: 57).
(4)
ينظر: الهداية، 1/ 21 - 22، العناية شرح الهداية، 1/ 73، البناية شرح الهداية، 1/ 368.
والمتأخرون قدَّروه بالمساحة عشراً في عشر بذراع الكرباس
(1)
توسعة للأمر على الناس
(2)
،
(1)
الكرباس –بكسر الكاف وسكون الراء- ثوب من القطن (الأبيض). ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 4/ 161، تاج العروس، 16/ 432. وعليه فالمراد هنا ذراع القماش، وهو قريب من ذراع اليد، (رد المحتار، 1/ 196)، والهيتمي حدده بالمقارنة بذراع اليد: "
…
بذراع اليد المذكور في باب صلاة المسافر، وقدره من ذراع القماش الآن ذراع إلا ثمن ذراع"، (ينظر: حاشية ابن حجر الهيتمي على شرح الإيضاح في مناسك الحج، ص: 454)، ومن المعاصرين من حدد الذراع بوحدات معاصرة لقياس الأطوال مثل السنتيمترات فقال: إن الذراع يساوي 61. 2 سم، (ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته، 1/ 141)، وعليه فالغدير العظيم ما كان طوله 6 أمتار و 12 سم طولاً وكذا عرضاً. والمعتبر في العمق أن يكون بحال لا ينحسر بالاغتراف، وبعضهم قدره بشبر، وبعضهم بذراع. (ينظر: العناية، 1/ 81 - 82) وقد سبق الكلام عن الذراع، وأما الشبر فهو أحد عشر سنتيمترًا ونصف كما قدره بعض المعاصرين. (ينظر: المكاييل والموازين الشرعية، ص: 51 - 52). وعليه لو قمنا بعملية رياضية (الطول x العرض x العمق) سنحصل على نتيجة 4307 لترات تقريباً أي ما يزيد قليلاً على أربعة أمتار مكعبة وثلث. ولو اعتبر الذراع لزاد قدر الماء ما يقرب من ستة أضعاف. ودليل تقديره قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفر بئراً فله حولها أربعون ذراعاً"، فيكون له حريمها من كل جانب عشرة، ففهم من هذا أنه إذا أراد آخر أن يحفر في حريمها بئراً يُمنع منه؛ لأنه يتجذب الماء إليها، وينقص الماء في البئر الأولى، وإن أراد أن يحفر بئر بالوعة يمنع أيضًا؛ لسراية النجاسة إلى البئر الأولى، وتنجس مائها، ولا يمنع منه فيما وراء الحريم، وهو عشر في عشر، فعلم أن الشرع اعتبر العشرة في العشرة في عدم سريان النجاسة. (ينظر: شرح الوقاية ومعه منتهى النقاية، 2/ 48، والحديث أخرجه ابن ماجه، 2/ 831، كتاب الرهون، باب حريم البئر، رقم: 2486، من حديث عبد الله بن مغفل –رضي الله عنه، وهو ضعيف كما في البدر المنير، 7/ 62).
(2)
المراد من التوسعة هنا طول ذراع القماش؛ لأنه أقصر من ذراع اليد بإصبع، (ينظر: مجمع الأنهر، 1/ 29)، والسبب صعوبة تحرز الغدران من النجاسة، فيحكم على الكثير منها بطهارتها، وفيه توسعة على الناس. وذكر المحبوبي في شرحه على الوقاية أن توسعة الأمر على الناس هي تجويز الوضوء من جميع جوانب الغدير، بغض النظر عن إمكانية رؤية النجاسة الواقعة فيه أم لا. (ينظر: شرح الوقاية ومعه منتهى النقاية، 2/ 48). قلت: وقد يحمل على التوسعة معنى سهولة تحديد الغدير بالمساحة أيضًا، وكله من اختلاف التنوع لا التضاد.
وعليه الفتوى
(1)
.
وجاء في المبسوط ما يفيد أن الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة –رحمه الله أنه اعتبر تحريك المتوضئ (أو ظنه وصول النجاسة إلى الجانب الآخر)
(2)
وأبو يوسف رحمه الله اعتبر تحريك المنغمس، وأما التقدير بالمساحة فقد روي عن محمد –رحمه الله، والمشهور عنه لما سئل عن هذا فقال:"إن كان مثل مسجدي هذا فهو كبير"، فلما قام مسحوا مسجده فروي أنه كان ثمانيًا في ثمانٍ، وروي أنه اثنا عشر في اثني عشر، فكان من روى ثمانيًا في ثمانٍ مسح المسجد من داخل، ومن روى اثني عشر مسحه من خارج، لكنه رجع إلى قول أبي حنيفة-رحمه الله، وقال: لا أقدر فيه شيئًا
(3)
.
وإذا ثبت ذلك فمعناه أن القول المعتمد في هذه المسألة -الذي ينبغي أن تكون عليه الفتوى وفق قواعد الترجيح في المذهب الحنفي- هو ما رُوي عن أبي حنيفة وما رجع إليه محمد –رحمهما الله- من أن المعتبر هو تحريك المتوضئ وغلبة ظنه؛ لأنه اتفق قول الإمام وأحد صاحبيه، فيؤخذ بقولهما إلا لضرورة أو موجب.
ولعل المتأخرين رأووا موجباً فيما ذكروه من توسعة لأمر الناس، والله أعلم.
(1)
ينظر: الهداية، 1/ 21 - 22، وفي العناية:"قال: (وكل ماء وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به) أراد بالماء ما لا يكون جاريًا ولا في حكمه وهو الغدير العظيم لذكره هذا بعد هذا". (العناية شرح الهداية، 1/ 73، البناية شرح الهداية، 1/ 368). فالغدير العظيم وما دونه عند الحنفية مثال للماء الراكد. ويفهم من كلام بعضهم أن الماء الذي زاد على قدر الغدير العظيم يعتبر ماءً جارياً، (ينظر: البناية شرح الهداية، 1/ 368)، كما يفهم من بعضهم أيضًا أن حد الغدير العظيم فاصل بين الماء القليل والكثير. (مجمع الأنهر، 1/ 29).
(2)
مجمع الأنهر، 1/ 29.
(3)
ينظر: المبسوط، 1/ 70 - 71.
وأما المتقدمون من الحنفية فكانوا يقولون أولاً بغلبة الظن والاجتهاد في طلب الطاهر من الماء إذا خالطته النجاسة، فما غلب في الظن أن النجاسة وصلت إليه لم يجز استعماله، ثم جعلوا تحرك أحد الطرفين بتحرك الطرف الآخر جهة تغلب الرأي في بلوغ النجاسة إليه
(1)
، ثم اختلفوا في المعتبر من التحريك –كما سبق-، ثم استقر قول المتأخرين على أن الغدير العظيم يقدر بالمساحة لموجب التوسعة على الناس
(2)
.
وتبين مما سبق أن الغدير العظيم عند الحنفية حد فاصل بين الماء القليل والكثير، وكذلك يعتبر فاصلاً بين الماء الراكد والجاري أو ما في حكم الجاري.
فالحنفية يرون أن الماء القليل الراكد إذا وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به، قليلاً كانت النجاسة أو كثيراً لحديث المستيقظ من منامه، وحديث:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه"، وسيأتي تخريجهما
(3)
.
بخلاف الماء الكثير أو ما في حكم الجاري مثل الغدير العظيم المقدر بعشرة أذرع في عشرة أذرع، لكن إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من موضع النجاسة، بل من الجانب الآخر، وإن كانت غير مرئية يتوضأ من جميع الجوانب، وكذا من موضع غُسالته، ثم استقر القول بجواز الوضوء من جميع جوانب الغدير توسعة لأمر الناس
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن الماء إذا وقعت فيه النجاسة وتغير أحد أوصافه (اللون أو الطعم أو الرائحة) فإنه نجس، سواء كان كثيراً أم قليلاً
(5)
.
(1)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 1/ 249.
(2)
ينظر: البحر الرائق، 1/ 79، مجمع الأنهر، 1/ 29.
(3)
ص: 73.
(4)
شرح الوقاية ومعه منتهى النقاية، 2/ 48، تحفة الفقهاء، ص: 55 - 56.
(5)
الإجماع لابن المنذر، ص: 35، رقم 11.
كما اتفقوا على أن الماء الكثير إذا وقعت فيه النجاسة ولم تغير شيئاً من أوصافه فإنه طاهر
(1)
.
واختلفوا في حكم الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة ولم تغير أحد أوصافه؛ هل يحكم بتنجسه لوقوع النجاسة فيه أم بطهارته لعدم تغير شيء من أوصافه، على قولين رئيسين، وسبب اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في تحديد الماء القليل والكثير، وكذلك اختلافهم في كيفية الجمع بين تعارض ظواهر الأحاديث الواردة فيها.
الأقوال في المسألة
(2)
:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة ولم تغير أحد أوصافه نجسٌ ولا يجوز الوضوء منه:
وهو القول الراجح عند الحنفية، وعليه الفتوى، وعندهم القليل ما دون قدر الغدير العظيم –كما سبق-
(3)
.
وهو قول عند المصريين من أصحاب مالك
(4)
.
(1)
الإجماع لابن المنذر، ص: 35، رقم 12.
(2)
للعلماء في هذه المسألة اتجاهان اثنان: الاتجاه الأول: إجراء الحكم على الماء عموماً بغض النظر عن كثرته أو قلته، والاتجاه الثاني: التفريق بين الماء الكثير والقليل، لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بينهما.
(3)
بداية المبتدي، ص: 4 - 5، الاختيار، 1/ 14، شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص:239.
(4)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 156، بل رُوي عن مالك –رحمه الله أن ذلك الماء مكروه. (ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 30، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/ 44). وجاء في الرسالة للقيرواني:" وقليل الماء ينجسه قليل النجاسة وإن لم تغيره". (الرسالة، ص: 12). وكذا في إرشاد السالك: " ويكره الوضوء بالمستعمل ويسير حلته نجاسة لم تغيره". (إرشاد السالك إلى أشرف المسالك، ص: 3). قلت: يفهم من هذه النقولات أن بعض المالكية يرون التفريق بين الماء القليل والكثير، وأن له أثراً في الحكم، لكن لم أجد لهم ما يفرقون به بينهما إلا ما ذكره صاحب تحفة الفقهاء من الحنفية:" واختلفوا في الحد الفاصل بينهما، فقال مالك: إن كان بحال يتغير طعمه أو لونه أو ريحه فهو قليل، وإن كان لا يتغير فهو كثير". (تحفة الفقهاء، ص: 56).
وهو قول الشافعية إلا أنهم يفرقون بين الماء القليل والكثير بقدر القلتين، فما زاد عليهما فهو كثير، وما نقص منهما فهو قليل،
(1)
.
وهو أيضاً قول الحنابلة إلا أنهم اشترطوا في النجاسة أن تكون غير البول والعذرة المائعة
(2)
، وأدلتهم أدلة الشافعية –كما سيأتي-.
القول الثاني: إذا سقطت في الماء نجاسة فلم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر بغض النظر عن كثرة الماء أو قلته، وهو قول المالكية
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل فقهاء الحنفية بأن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغير أحد أوصافه نجسٌ ولا يجوز الوضوء منه بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وجه الدلالة: أن النجاسات من الخبائث؛ لأنها محرمة إذ كان في استعماله استعمال الخبائث التي حرمها الله.
قد يناقش بأن الآية في المطاعم والمشارب
(4)
، وتحريم الأكل أو الشرب لا يلزم منه تحريم الاستعمال كما في تسميد المزروعات بالنجاسات.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، وقال في الخمر:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].
(1)
الأم، 1/ 18، المهذب في الفقه الشافعي، 1/ 119، الوسيط في المذهب، 1/ 168، الغاية والتقريب، ص:3. ويروى عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد. (ينظر: الأوسط، 1/ 260)
(2)
مختصر الخرقي، ص: 11، الكافي، 1/ 30، المبدع في شرح المقنع، 1/ 36 - 38.
(3)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 156، الذخيرة، 1/ 172.
(4)
تفسير الطبري، 13/ 165.
وجه الدلالة: لم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء، فعموم هذه الآيات يوجب تحريم استعمال الماء الذي فيه جزء من النجاسة
(1)
.
قد يناقش بأن التفريق حصل في حديث الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد عند من يرى نجاسة الخمر، ومن يرى طهارتها فالدليل ليس في محله ابتداءً، ثم هذه الآيات فيما يؤكل ويشرب
(2)
، وتحريم الأكل أو الشرب لا يعني تحريم الاستعمال كما سبق.
الدليل الثالث: حديث أبي هريرة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده"
(3)
.
وجه الدلالة: لما كان النهي عن الغمس لأجل احتمال النجاسة، فحقيقة النجاسة أولى أن يكون نجساً
(4)
.
قد يناقش بأنه ليس لاحتمال النجاسة بل لأمر تعبدي
(5)
، وإلا لما كان هناك فرقاً بين النوم بالليل والنوم بالنهار
(6)
.
الدليل الرابع: حديث أبي هريرة –رضي الله عنه أنه سمع النبي –صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه"
(7)
، وعند مسلم:"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه"
(8)
.
(1)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص: 240، وقد ذكر الدليل الأول والثاني مع وجهي دلالتهما.
(2)
تفسير الجلالين، ص: 35
(3)
أخرجه مسلم، 1/ 233، كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، رقم حديث:278.
(4)
العناية، 1/ 74.
(5)
الذخيرة، 1/ 274.
(6)
المغني، 1/ 74.
(7)
أخرجه البخاري، 1/ 57، كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، رقم حديث:239.
(8)
أخرجه مسلم، 1/ 235، كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد، رقم حديث:282.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث يدل على أن قليل النجاسة ينجّس قليل الماء
(1)
.
ونوقش بأنه خاص بالبول
(2)
.
قد يجاب عنه بأن العلة سرعة انتشار البول في الماء وهذا متأتى في غيره من النجاسات.
الدليل الخامس: قياس نجاسة الثوب على نجاسة الماء، فإذا كانت على الثوب منعت الصلاة فيه، سواء كانت مرئية أو غير مرئية إذا كانت معلومة، وكذا الماء إذا وقعت فيه نجاسة
(3)
.
وقد يناقش بأكثر من وجه:
- الوجه الأول: ما ورد من الأحاديث الدالة على طهارة الماء القليل إذا خالطته النجاسة ولم تغيره تفرِّق بين النجاسة على الثوب والنجاسة في الماء، فالأولى تزال وتغسل وكثرتها أو قلتها لا أثر له في الحكم بخلاف الثانية فإن كثرة النجاسة أو قلتها أمر مؤثر في الحكم.
- الوجه الثاني: إن هناك فرقاً بين الثوب والماء؛ لأن الماء إذا كوثر فإنه يطهر بخلاف الثياب فإنها لا تطهر لو افترضنا لبس الملابس الطاهرة على النجسة.
- الوجه الثالث: النجاسة في الماء تستحيل وتنتشر بخلاف الثياب، فهو قياس مع الفارق.
(1)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 30.
(2)
المبدع في شرح المقنع، 1/ 38.
(3)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، ص:240.
واستدلت الشافعية على أن الماء القليل ينجس إذا وقعت فيه نجاسة بحديث القلتين، وفيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"
(1)
، وقد فرقوا به بين الماء القليل والكثير
(2)
.
وهو دليل الحنابلة أيضاً إلا أنهم اشترطوا في النجاسة أن تكون غير البول والعذرة المائعة
(3)
.
وجه الدلالة: مفهوم الحديث يدل على أن ما كان دون القلتين ينجس.
(1)
أخرجه الترمذي، 1/ 97، أبواب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء ومعه منه آخر، رقم حديث: 67، والنسائي، 1/ 46، كتاب الطهارة، باب التوقيت في الماء، رقم حديث: 52، وعند ابن ماجه من حديث عمر –رضي الله عنه:" إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء"، 1/ 172، كتاب الطهارة وسننها، باب مقدار الماء الذي لا ينجس، رقم حديث: 517، والحاكم في المستدرك، 1/ 224، كتاب الطهارة، رقم حديث: 458، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعًا بجميع رواته ولم يخرجاه، وأظنهما -والله أعلم- لم يخرجاه لخلاف فيه على أبي أسامة على الوليد بن كثير"، وقد صحَّحه ابن دقيق العيد في شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، 1/ 75، وقال:"وقد صحَّح بعضُهم إسنادَ بعض طرقه، وهو -أيضًا- عندنا صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنَّه وإن كان حديثاً مضطربَ الإسناد، مختلفاً فيه في بعض ألفاظه، وهي علة عند المحدثين، إلَّا أن يُجابَ عنها بجواب صحيح، فإنّه يمكنُ أن يُجمعَ بين الروايات، ويجابَ عن بعضها، وينسبَ إلى التصحيح بطريق قوي أصولي، ولكن تركتُه؛ لأنَّه لم يثبتْ عندنا الآنَ - بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعاً - تعيينٌ لمقدار القلتين".
(2)
اللباب في الفقه الشافعي، ص: 56 - 57، قال:"والقلتان خمسمائة رطل"، والرطل هو الرطل البغدادي ويسمونه الرطل الشرعي، وقد اختلف في مقداره، ومن المعاصرين من قدره بالمقاييس المعاصرة، وقال: إنه 408 غرامات أي 204 كيلوغرامات تقريباً، (ينظر: القاموس المحيط، ص: 1006، تهذيب الأسماء واللغات، 3/ 123، تحرير ألفاظ التنبيه، ص: 32، معجم لغة الفقهاء، ص: 449، الموسوعة الفقهية الكويتية، 38/ 307) وهو 204 لترات من الماء تقريباً إذا كان الماء 4 درجات مئوية (° C)، وهذا ما يسمى بشذوذ الماء، وهو وصوله إلى أعلى كثافة ممكنة مع أقل حجم ممكن. (ينظر: الحرارة: تجارب وأنشطة، شذوذ الماء، ص: 13).
(3)
مختصر الخرقي، ص: 11، الكافي، 1/ 30، المبدع في شرح المقنع، 1/ 36 - 38.
ونوقش بأنه دلالة المفهوم، وأصحاب القول الثاني استدلوا –كما سيأتي- بظاهر القرآن، وأيضاً حديث بئر بضاعة استدلال بالمنطوق وهو مقدم على المفهوم إجماعاً
(1)
.
ونوقش أيضًا بأنه حديث مضطرب ومختلف فيه في بعض ألفاظه وبعض رواته.
يجاب عنه بأنه صححه بعض الأئمة، فإنهم جمعوا بين روايات الحديث، وأجابوا عن بعضها
(2)
.
ونوقش أيضاً بأنه يخالف إجماع الصحابة فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أمر في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح ماء البئر كله، ولم يظهر أثره في الماء، وكان الماء أكثر من قلتين، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد فانعقد الإجماع من الصحابة على ذلك
(3)
.
يجاب عنه بأنه أثر لم يثبت
(4)
، ولو صح فإنه يحمل على التنظيف لا الوجوب
(5)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغير أحد أوصافه طاهر مطهر بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48].
وجه الدلالة: ظاهر الآية يدل على أن الماء المنزل من السماء له أوصاف، والنجاسة إذا لم تغير شيئًا من تلك الأوصاف فإن الماء يبقى على ما كان عليه من طهوريته
(6)
.
(1)
الذخيرة، 1/ 172.
(2)
المناقشة والرد عليها ذكرها ابن دقيق العيد في شرح الإلمام، 1/ 75.
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه، 1/ 40، كتاب الطهارة، باب البئر إذا وقع فيها حيوان، رقم 65.
(4)
معرفة السنن والآثار، 2/ 39.
(5)
مختصر المزني، 8/ 101.
(6)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 157.
الدليل الثاني: حديث بئر بضاعة من طريق أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه أن النبي–صلى الله عليه وسلم قال: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء"
(1)
، وفي رواية:"الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه ريحه أو طعمه"
(2)
.
وجه الدلالة: الحديث بمنطوقه دليل على أن الماء لا يتنجس إلا إذا غلب عليه شيء فغير طعمه أو ريحه أو لونه، والنجاسة إذا لم تغيِّر شيئاً من ذلك فإن الماء ما زال طاهرًا مطهرًا
(3)
.
ونوقش بأنه حديث عام أريد به خاص، وهو القلتان فصاعداً
(4)
، فيخصص بحديث القلتين.
ونوقش أيضًا بأن قوله –صلى الله عليه وسلم: "لا ينجسه شيء" يحمل على الماء الذي طرأ بعد إخراج النجاسات من البئر.
ويجاب بأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يخرج، فحمل معنى الحديث على الماء بعد إخراج النجاسة من البئر ليس بصحيح
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي، 1/ 95، أبواب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، رقم حديث: 66، وحسنه، وعند النسائي:"الماء لا ينجسه شيء"، 1/ 174، كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة، رقم حديث: 327، وصححه ابن الملقن في البدر المنير، 1/ 381، كتاب الطهارة، باب الماء الطاهر، الحديث الثاني منه، وقال: إن الترمذي حسَّنه وفي بعض نسخه صحَّحه.
(2)
أخرجه الدارقطني، 1/ 32، كتاب الطهارة، باب الماء المتغير، رقم حديث: 49، من حديث راشد بن سعد، وقال: مرسل.
(3)
الذخيرة، 1/ 172.
(4)
أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، 1/ 88 - 89.
(5)
شرح معاني الآثار، 1/ 12، وقد ذكر المناقشة والرد عليها.
الدليل الثالث: حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه أن أعرابيًّا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوه". فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذَنوب فصب على بوله
(1)
.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث يدل على أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء؛ لأنه من المعلوم أن ذلك الموضع قد طهّر من الذَّنوب
(2)
.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال في المسألة وأدلة كل قول مع المناقشات ظهر لي أن القول الثاني القائل بأن الماء القليل إذا خالطته النجاسة ولم تغيره طاهر هو أقرب إلى الرجحان لوضوح الأدلة وقوتها.
وما يتعلق بالماء الجاري والراكد فينبغي التنبه إلى أن مفهوم التفريق بينهما قد تغير لوجود المسابح والجاكوزيات والنافورات التي صُممت على أن ماءها يجري لكن بشكل متكرر، وعليه يمكن أن يصبح الماء القليل جداً جارياً
(3)
.
فلذلك تعليق الحكم على قلة الماء أو كثرته أولى من تعليقه على جريانه أو ركوده، وأفضل من ذلك كله تعليق الحكم على أوصاف الماء الظاهرة من اللون والطعم والرائحة.
ومن الآثار المترتبة على رجحان القول الثاني حفظ الماء وعدم هدره، بخلاف القول الأول، فإن في رجحانه هدراً لكثير من المياه إذ لا تستعمل لمجرد وقوع النجاسة فيها إذا كانت دون القلتين كما عند الشافعية والحنابلة أو دون الغدير العظيم كما عند الحنفية.
(1)
أخرجه مسلم، 1/ 236، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأن الأرض تطهر بالماء، من غير حاجة إلى حفرها، رقم حديث:284.
(2)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 31.
(3)
جاء في تحفة الفقهاء عدة تعريفات مثل: "إن كان يجري بالتبن والورق فهو جار وإلا فلا"، "إن وضع رجل يده في الماء عرضًا لم ينقطع جريانه فهو جار وإلا فلا"، "إن كان بحال لو اغترف رجل الماء بكفيه لم ينحسر وجه الأرض ولم ينقطع الجريان فهو جار وإلا فلا"، "وأصح ما قيل فيه إن الماء الجاري ما يعده الناس جارياً". (ينظر: تحفة الفقهاء، 1/ 56). ولو قيل الماء الذي لا يتكرر مع جريانه لكان أولى، وقد يقال بأنه لو تكرر فإنه يصبح ماءً مستعملاً، وقد سبق الكلام عنه في المسألة السابقة. والله أعلم.
ثم فيه تسهيل على الناس؛ لأن ملاحظة اللون والطعم والرائحة أمر متيسر للجميع، بخلاف تقدير الماء بالقلتين أو الغدير العظيم، فإنه لا يتيسر للجميع وقد يدخله الوسواس.
ثمرة الخلاف:
تظهر ثمرة الخلاف في بعض المسائل، منها:
1.
لو أن إنساناً أراد أن يتوضأ من سطل فيه ماء سقطت فيه قطرة من دم، فإن غيرت لونه أو ريحه أو طعمه فإنه نجس بالإجماع، وإن لم تغيره فإنه نجس على القول الأول؛ لأنه دون القلتين، وكذلك دون الغدير العظيم، وعلى القول الثاني طاهر طهور؛ لبقائه على الصفة التي خلقه الله عليها.
2.
لو تبول طفل في بركة سباحة سعتها 300 لتر مثلاً ولم يتغير ماؤها بسبب البول فإنه نجس عند الحنفية؛ لأنه دون الغدير العظيم، وطاهر عند الشافعية؛ لأنه زاد على القلتين، ونجس عند الحنابلة؛ لأن النجاسة نجاسة بول، ولو كان غير البول لاتفق قولهم مع قول الشافعية، وهو طهور عند المالكية ابتداءً؛ لعدم تغيره بغض النظر إلى كثرته أو قلته.
المطلب الثاني: المسح على الجوربين:
أورد الحنفية هذه المسألة في كتاب الطهارة تحت باب المسح على الخفين، والمسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة رضي الله عنهم
(1)
، بل نقل الإجماع على ذلك
(2)
، وهو من اختصاص الوضوء دون الغسل
(3)
.
والخف أصله في اللغة ما يدل على خلاف الثقل والرزانة
(4)
، وقيل: إنه سمي خفاً لخفة الحكم به من الغسل إلى المسح
(5)
.
وهو ما يلبسه الإنسان
(6)
على القدم، ويكون أغلظ من النعل
(7)
، وقيل: كل محيط بالقدم ساتر لمحل الفرض، مانع للماء يمكن متابعة المشي فيه
(8)
، وهذا التعريف فيه شيء من الإطلاق.
ومن الفقهاء من قيده بقوله: "ما يستر القدم مع الكعب من شعر أو لبد أو جلد رقيق ونحوها"
(9)
، وعليه فإن الخف يكون من الشعر والصوف كما يكون من الجلد.
(1)
بدائع الصنائع، 1/ 7، إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك، 1/ 9، المجموع شرح المهذب، 1/ 476، المغني، 1/ 206.
(2)
الإجماع لابن المنذر، ص: 35، وقد قال:"وأجمعوا على أنه كل من أكمل طهارته، ثم لبس الخفين وأحدث، وأن له أن يمسح عليهما".
(3)
البدر التمام شرح بلوغ المرام، 1/ 264.
(4)
مقاييس اللغة، 2/ 154.
(5)
رد المحتار، 1/ 260.
(6)
العين، 4/ 143 - 144.
(7)
الصحاح، 4/ 1353.
(8)
التوقيف على مهمات التعاريف، ص:157.
(9)
دستور العلماء، 2/ 62.
وقد ألحقوا الجوربين بالخفين من حيث المسح عليهما في الجملة، والجورب ما كان على شكل الخف من كتّان أو صوف أو غير ذلك
(1)
، وقيل: ما يصنع على هيئة الخف من غير جلد
(2)
.
اتفق فقهاء المذهب الحنفي على جواز المسح على الجوربين إذا كانا مجلدين أو منعلين، كما اتفقوا على عدم جواز المسح عليهما إذا كانا رقيقين يشفان الماء
(3)
، وقد اختلفوا في جواز المسح على الجوربين على قولين:
(1)
التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب، 1/ 213.
(2)
المنح الشافيات، ص: 159، شرح منتهى الإرادات، 1/ 61.
(3)
بدائع الصنائع، 1/ 10، والمراد من الماء بلل اليد عند المسح. (ينظر: رد المحتار، 1/ 268، الحاوي الكبير، 1/ 120، كفاية النبيه في شرح التنبيه، 1/ 360، شرح مختصر خليل للخرشي، 1/ 180).
القول الأول: لا يجوز المسح عليهما عند أبي حنيفة –رحمه الله إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين
(1)
؛ لأنه ليس في معنى الخف الذي يمكن مواظبة المشي فيه إلا إذا كان منعلاً، وهو ما يحمل عليه ما روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه مسح على جوربيه ونعليه
(2)
، وكان
(1)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 1/ 455. المجلد إذا وضع الجلد على أعلاه وأسفله، والمنعل إذا وضع الجلد على أسفله كالنعل. (ينظر: البناية، 1/ 607 - 608)
(2)
أخرجه أبو داود، 1/ 41، كتاب الطهارة، باب المسح على الجوربين، حديث رقم: 159، وعلق بأن المعروف عن المغيرة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، والنسائي في السنن الكبرى، 1/ 123، كتاب الطهارة، باب المسح على الجوربين والنعلين، رقم حديث: 129، وتعقَّبه فقال:(ما نعلم أحدًا تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، والله أعلم)، والترمذي، أبواب الطهارة، باب في المسح على الجوربين والنعلين، حديث رقم: 99، وقال: حديث حسن صحيح، وابن خزيمة، 1/ 99، كتاب الوضوء، باب الرخصة في المسح على الجوربين والنعلين، حديث رقم: 198، وصحَّح إسناده المحقق، وأحمد، 30/ 144، في مسند الكوفيين، حديث المغيرة بن شعبة، رقم 18206، وروي أيضاً من طريق أبي موسى كما في سنن الترمذي (1/ 167)، وسنده في نصب الراية (1/ 97). وهذا الحديث ضعَّفه الأئمة وعلته تفرد أبي قيس –عبد الرحمن بن ثروان-، ولأن المحفوظ عن المغيرة المسح على الخفين. (علل الدارقطني، 7/ 112، رقم: 1240، السنن الكبرى، 1/ 123). وقد صحَّحه الترمذي كما سبق، لكن تعقَّبه النووي في المجموع (1/ 500) وقال بعد أن ذكر من ضعَّفه مثل البيهقي، ونقل تضعيفه أيضَا عن سفيان الثوري وأحمد وعلي بن المديني، ويحيى بن معين ومسلم بن الحجاج:"وإن كان الترمذي قال: حديث حسن فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة". ومن المعاصرين صحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ص: 73، كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين، حديث رقم:99. وقال الأرناؤوط في تحقيقه على مسند الإمام أحمد: "وباستعراض أقوال الفريقين نجد من الإنصاف القول: إنَّ من صحَّح المسح على الجوربين بتصحيح هذا الحديث فحسب، قد وهم؛ لأن أكثر الأئمة على تضعيفه، كما سلف، لكن من ذهب إلى عدم جواز المسح على الجوربين مطلقاً بسبب تضعيفه هذا الحديث، قد قصَّر، وفاتَه أنَّ المسح على الجوربين إنما ثبت من أحاديث أُخر، أصحها حديثُ ثوبان. "
ثم قال: "وللمسح على الجوربين شاهدٌ كذلك من حديث ثوبان أخرجه أحمد 37/ 66، - ومن طريقه أبو داود (1/ 102 - 103) - عن يحيى بن سعيد القطان، عن ثور بن يزيد الكلاعي، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، قال: بعث رسول الله –صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي –صلى الله عليه وسلم، شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين. وإسناده صحيح، رجاله ثقات". (ينظر: مسند أحمد، 30/ 144 - 147).
قلت: قد أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 275)، وقال: إنه حديث صحيح على شرط مسلم، كما صححه الألباني (صحيح أبي داود، 1/ 250) ونقل تصحيح النووي، والذهبي والزيلعي.
والعصائب عمائم (غريب الحديث لابن قتيبة، 1/ 226)، والتساخين بكل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما (غريب الحديث للقاسم بن سلام، 1/ 187، مقاييس اللغة، 3/ 146، غريب الحديث للخطابي، 2/ 61).
مسحه على الجوربين هو الذي يطهر به، ومسحه على النعلين فضلاً
(1)
، أي أنه مسح على الجوربين الملبوس عليهما نعلان منفصلان
(2)
.
القول الثاني: يجوز المسح على الجوربين عند صاحبيه –رحمهما الله- إذا كانا ثخينين لا يشفان، لحديث سابق؛ ولأنه يمكنه المشي فيهما إذا كانا ثخينين، ومعناه أن يستمسك على الساق من غير أن يربط بشيء فأشبه الخف
(3)
.
ويؤيده قول بعض العلماء إن الجورب ما يلبسه أهل البلاد الباردة ويتخذ من غزل الصوف المفتول
(4)
، ومن كان هذا عمله فلا يتحقق غرضه من اتقاء البرد إلا إذا كان ثخيناً غير شفاف.
وإذا رجعنا إلى قواعد الترجيح في المذهب سنجد أنه يقدم قول الصاحبين على قول الإمام إذا كانت المسألة من مسائل اختلاف عصر وزمان وليس اختلاف حجة وبرهان.
(1)
ينظر: شرح معاني الآثار، 1/ 97، نصب الراية، 1/ 189.
(2)
ينظر: عون المعبود مع حاشية ابن القيم، 1/ 189.
(3)
(ثخينين) أي ما يقوم على الساق من غير أن يشد بشيء، و (لا يشفان) أي الذي لا يصف ما تحته. (ينظر: البناية، 1/ 608).
(4)
البناية، 1/ 607، شرح منتهى الإرادات، 1/ 61.
والذي يغلب على الظن من النقولات أن صنعة الجورب قد تطورت أو تغيرت، فما كان يُصنع منه في زمن الإمام لم يكن قابلاً للمشي فيه إلا إذا كان منعلاً أو مجلداً بخلاف ما كان في زمانهما، ويؤيد ذلك تعليقهم الحكم على المشي فيه لا على ما صُنع منه
(1)
.
ولو عُلق الحكم على المصنوع منه فإن الخف والجورب بينهما شبه كبير جداً قد يصل إلى درجة التطابق -كما سبق-، والخلاف حينئذ لا يتصور إلا عند من يرى غير ذلك.
ومن علَّق الحكم بالمصنوع منه فالجورب عنده ما يكون على شكل الخف لكن من غير جلد
(2)
، وعليه فالخف أعم من الجورب، إذ الجورب يُصنع من كل ما يُصنع منه الخف إلا الجلد.
ومع هذا روي أن أبا حنيفة رحمه الله رجع إلى قول صاحبيه، وعليه الفتوى
(3)
، وقد استقر الحكم على ذلك
(4)
.
(1)
بدائع الصنائع، 1/ 13. ويؤيده أيضًا ما روى الدولابي في الكنى والأسماء (2/ 561) من طريق أحمد بن شعيب، عن عمرو بن علي، أخبرني سهل بن زياد أبو زياد الطحان، حدثنا الأزرق بن قيس قال: رأيت أنس بن مالك أحدث، فغسل وجهه ويديه ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما؟ فقال: إنهما خُفان، ولكن من صوف. وصحح سنده أحمد شاكر رحمه الله وقال: إنه موقوف على أنس، من فعله وقوله، ووجه الدلالة فيه أنه لم يكتفِ بالفعل، بل صرَّح بأن الجوربين خفان، لكنهما من صوف، وهو صحابي من أهل اللغة قبل دخول العجمة واختلاط الألسن. وقد بيَّن أن معنى الخف أعم من أن يكون من الجلد وحده، وقوله هذا أقوى حجة من أن يقول مثله مؤلف من مؤلفي اللغة؛ لأنهم ناقلون للغة، وأكثر نقلهم من غير إسناد، ومع ذلك يحتج بهم العلماء، وقول الصحابي العربي من الصدر الأول بإسناد صحيح أولى أن يحتج به. وهذا يفيد أن الجوربين داخلان في مدلول كلمة الخفين بدلالة الوضع اللغوي قبل أن يدخلا بالقياس. (ينظر: مقدمة كتاب المسح على الجوربين لمحمد جمال الدين القاسمي، ويليه إتمام النصح في أحكام المسح للألباني، ص: 13 - 15). قلت: وأقره على ذلك الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- إذ لم يعترض على كلامه كما اعترض عليه في مواضع أخر.
(2)
قلت: ويرده أثر أنس بن مالك السابق، وإن الخف كان من الجلد في الغالب.
(3)
الهداية، 1/ 32، الاختيار، 1/ 25.
(4)
مجمع الأنهر، 1/ 50.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في جواز المسح على الجوربين إذا لم يكونا مجلدين أو منعلين على قولين
(1)
:
القول الأول: يجوز المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين لا يشفان، وهو الراجح عند الحنفية –كما سبق -، وهو قول الحنابلة
(2)
، وقول غير واحد من أهل العلم مثل سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق
(3)
.
القول الثاني: لا يجوز المسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدين من أعلاه وأسفله، وهو قول المالكية
(4)
، وهو قول الشافعية
(5)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بجواز المسح على الجوربين بأدلة، منها:
(1)
وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في المسألة، وكذلك هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها؟ (ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 26).
(2)
مختصر الخرقي، 16، المغني، 1/ 215، والإمام أحمد –رحمه الله تعالى- ذكر الجوربين عند حكم جواز المسح على النعلين، فقال:"إذا كان في القدم جوربين قد ثبتا في القدم فلا بأس بالمسح على النعلين"، (مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، ص: 34)، وعليه فإن الجورب منفرد والنعل منفرد.
(3)
سنن الترمذي، 1/ 167، نسبة إليهم.
(4)
مختصر خليل، ص: 23، وروي عن الإمام مالك أنه رجع إلى عدم جواز المسح على الجوربين مطلقاً. (ينظر: المدونة، 1/ 143). والأول أصح. (ينظر: الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 178، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 26).
(5)
مختصر المزني، مطبوع ملحقًا بالأم للشافعي، 8/ 102، الحاوي الكبير، 1/ 364، المجموع، 1/ 499، إلا أنه لم يذكر المجلد، بل عبر عنه بالصفيق، وهو ما كثف نسْجُه، وقال: إنه صحيح من مذهبه، ويؤيده نسبة القول إلى الشافعي كما سبق في كلام الترمذي.
الدليل الأول: حديث المغيرة بن شعبة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين
(1)
.
وجه الدلالة: هذا يدل على أن النعلين كانا على الجوربين، لكنهما منفصلان؛ لأنه لا يجوز المسح على النعلين فقط، إذ لا يستران القدمين، فلا بد من حمل الحديث على أنه مسح على الجوربين الملبوس عليهما نعلان منفصلان.
ونوقش بأنه ضعيف لا يحتج به، ولو صح لحمل على المنعل أو المجلد الذي يمكن متابعة المشي فيه
(2)
.
ويجاب عنه بأنه اختلف في صحته، ولو تقرر أنه ضعيف فهناك أحاديث صحيحة وآثار ثابتة عن الصحابة –رضي الله عنهم تدل على الجواز، وهي من الشواهد وما يعتضد به.
الدليل الثاني: إجماع الصحابة –رضي الله عنهم، فإنهم مسحوا على الجوارب
(3)
، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعاً
(4)
.
الدليل الثالث: قياس الجورب على الخف، فإنه لا يظهر بينهما فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه
(5)
، والتفريق بينهما يكون تفريقا بين المتماثلين، وهو خلاف ما جاءت به الشريعة.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بعدم جواز المسح على الجوربين إلا أن يكون مجلدين أو منعلين بحديث المغيرة السابق ذكره
(6)
وحموا معناه على الجوربين المنعلين لا غيرهما.
(1)
سبق تخريجه قريباً.
(2)
المجموع، 1/ 500
(3)
سنن أبي داود، 1/ 41.
(4)
المغني، 1/ 215.
(5)
المغني، 1/ 215، عون المعبود مع حاشية ابن القيم، 1/ 188.
(6)
سبق تخريجه قريباً.
وجه الدلالة: كون الجورب ليس في معنى الخف؛ لأنه لا يمكن متابعة المشي فيه إلا إذا كان منعلاً
(1)
، وعليه فلا بد من حمل الحديث على ذلك؛ لأنه حكاية حال.
ونوقش بأن الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته لا يجوز المسح على الجوربين إلا أن يكونا مما يثبت بنفسه، ويمكن متابعة المشي فيه
(2)
، وذلك موجود في الجوربين الثخينين، ولا فرق
(3)
.
ومعنى الحديث الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين الملبوس عليهما نعلان منفصلان، وليس المنعلين، فمسحه على النعل كان فضلاً.
الترجيح:
بعد استعراض القولين بأدلتهما يظهر لي أن القول الأول القائل بجواز المسح على الجوربين أقرب إلى الرجحان من غيره؛ لقوة أدلته وتعليلاته ولورود المناقشة على دليل القول الثاني، ولأن تصنيع الجوارب بطرق حديثة يعتمد في الغالب على ثلاث مواد أساسية: الصوف والنايلون والمطاطة
(4)
، وهذا قريب جداً من الجلد، وقد يكون أفضل منه؛ لأن الصوف للتدفئة، والنايلون لمنع وصول الماء إلى الجسد (ويستخدم في صناعة معاطف المطر
(5)
، والمطاطة للمرونة.
ثم القول بمنع المسح على الجوربين له مآلات ينبغي التنبه لها، ومن ذلك:
- مخالفة معاني الرخصة الشرعية؛ لأن المسح على الخفين جاء تخفيفاً وتسهيلاً على الأمة، والجورب الآن حل محل الخف في الأغلب الأعم، وفي منع المسح عليه مشقة على الناس.
(1)
الحاوي الكبير، 1/ 365.
(2)
المغني، 1/ 215.
(3)
الشرح الكبير على متن المقنع، 1/ 150.
(4)
ينظر: موقع سمارت وول لشركة متخصصة في صناعة منتجات الصوف، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafyone
(5)
ينظر: موقع مصادر الكيمياء، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafytwo
- مخالفة لما جاء به الشرع من الجمع بين المتماثلات والتفريق بين المتفرقات، وفي منع المسح على الجوربين تفريق بين المتماثلات كما مضى.
- تكلفة الخف المصنوع من الجلد تفوق تكلفة الجوارب بأضعاف، وقد لا يتيسر للجميع شراؤه فتنعدم معاني الرخصة، والله أعلم.
ثمرة الخلاف:
تظهر ثمرة الخلاف في بعض المسائل، منها:
1.
لو أن إنسانا توضأ في يوم بارد وأراد أن يمسح على الجوربين الثخينين لا يشفان الماء، لجاز له ذلك على القول الأول؛ لأنه في معنى الخف، بخلاف القول الثاني.
2.
ولو أراد أن يمسح على الجوربين المنعلين جاز له ذلك عند الجميع، ولو مسح على الجوربين الملبوس عليهما نعلان منفصلان يجوز على القول الأول؛ لأن المسح على النعل فضل، وعلى القول الثاني لا يجوز؛ لأن المسح لا يكون إلا على المنعلين.
3.
ولو أراد أن يمسح على الجوربين الرقيقين يشفان ماء المسح أي بلل اليد أو يكشفان ما تحتهما فلا يجوز عند عامةة الفقهاء.
المطلب الثالث: صلاة المتيمم إذا رأى النبيذ
النبيذ في أصل اللغة من النَّبْذ وهو طرحك الشيء من يدك أمامك أو خلفك
(1)
، وهو أي النبيذ تمر يلقى في الآنية ويصب عليه الماء
(2)
، ويصنع من غير التمر مثل العسل ويسمى بالبِتع، والشعير ويسمى بالجَعة، و الذرة ويسمى بالمِزْر وهكذا
(3)
، ولا فرق بين مسكر أو غير مسكر في التسمية
(4)
.
هذه المسألة مبنية على تحديد حقيقة النبيذ وحكمه من حيث جواز الوضوء به، والحنفية يرون أن فاقد الماء ومن في حكمه لا يتيمم مع وجود النبيذ، بل يتعين الوضوء به، وينصون على نبيذ التمر
(5)
.
ويذكرونها في كتاب الطهارة عند ذكر نواقض التيمم مع مسألة بطلان صلاة المتيمم إذا رأى الماء
(6)
، وقد اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
(1)
العين، 8/ 191.
(2)
مقاييس اللغة، 5/ 380، البناية شرح الهداية، 1/ 497.
(3)
غريب الحديث للقاسم بن سلام، 2/ 176.
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر، 5/ 7.
(5)
الأصل للشيباني، 1/ 75، المبسوط، 1/ 89، مجمع البحرين، ص: 87، وفي باب الحلف لا يفرقون بين الأنبذة، وكلها سواء، فلو حلف لا يشرب نبيذاً ولا نية له فأي نبيذ شرب فإنه يحنث. (ينظر: الأصل للشيباني، 3/ 314).
(6)
مجمع البحرين، ص: 86 - 87.
القول الأول: إن الوضوء بنبيذ التمر عند فقدان الماء يتعين
(1)
، وهو رواية عن أبي حنيفة–رحمه الله بدليل من السنة أن النبي –صلى الله عليه وسلم توضأ بالنبيذ ليلة الجن
(2)
.
والقول الثاني: ما روي عن أبي يوسف أنه يتيمم ولا يتوضأ بالنبيذ
(3)
.
والقول الثالث: ما روي عن محمد أنه يتوضأ ويتيمم
(4)
.
لكن روي أن أبا حنيفة –رحمه الله رجع عن قوله وقال: يتيمم ولا يتوضأ بالنبيذ؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم توضأ به بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة.
(5)
(1)
وصفته أن يكون حلواً رقيقاً يسيل على الأعضاء كالماء، لا ثخيناً. (ينظر: المبسوط، 1/ 88، تحفة الفقهاء، 1/ 69).
(2)
أخرجه أبو داود، 1/ 21، كتاب الطهارة، باب الوضوء بالنبيذ، حديث رقم: 84، وابن ماجه، 1/ 134 - 135، كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بالنبيذ، حديث رقم: 384 و 385، وقد ضعفه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 15)، ورواه في باب سماه بباب منع التطهير بالنبيذ، وضعفه ابن حجر في الفتح (1/ 354) وقال: إن علماء السلف أطبقوا على تضعيفه، ومن المعاصرين ضعفه شعيب الأرناؤوط (سنن أبي داود مع تحقيقه، 1/ 63)، وكذلك الألباني في ضعيف أبي داود، 1/ 30.
(3)
ينظر: المبسوط، 1/ 88.
(4)
ينظر: المبسوط، 1/ 88، تحفة الفقهاء، 1/ 45 - 46.
(5)
الأصل للشيباني، 1/ 75، المبسوط، 1/ 88، بدائع الصنائع، 1/ 15، الهداية، 1/ 27، وصرَّح بأنها رواية ثانية له، النهر الفائق، 1/ 97، وقد صرَّح بتصحيح الرجوع، وكذا في التنبيه على مشكلات الهداية، 1/ 379، والعناية، 1/ 118، ونص على أن رواية الرجوع من طريق الحسن بن زياد، وزاد العيني في البناية رواية أسد بن عمر، ونقل تصحيح قاضي خان رجوعه، وأنه قوله الأخير، وأنه اختيار الطحاوي (1/ 497).
فقد اتفق قول الشيخين فيُقدم، وقد تقرر أن الحنفية يرون عدم جواز الوضوء بالنبيذ عند فقدان الماء، بل ينتقل إلى التيمم، وعليه الفتوى
(1)
، وهو أيضاً قول المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
وعليه فإن المسألة عادت إلى الاتفاق بين الأئمة الأربعة
(5)
.
ومن أدلتها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].
وجه الدلالة: لم يجعل هاهنا وسطاً بين الماء والصعيد، وأمر بالانتقال إلى التيمم لمجرد فقدان الماء
(6)
، وليس النبيذ ماءً مطلقاً، لا في اللغة ولا في الشرع
(7)
، ومن توضأ بالنبيذ فقد ترك المأمور به
(8)
.
ولأن الماء نكرة في سياق النفي، وهي تعم، فلا يجوز التيمم مع وجوده
(9)
.
(1)
مجمع البحرين، ص: 87، ملتقى الأبحر، ص: 57، مجمع الأنهر، 1/ 36 - 37، حلبي كبير، ص:73. وقد جعل العلماء الفتوى على قول أبي حنيفة في العبادات مطلقًا بالاستقراء، ما لم يكن عنه رواية كقول المخالف كما في طهارة الماء المستعمل والتيمم فقط عند عدم غير نبيذ التمر. (ينظر: رد المحتار، 1/ 71، حلبي كبير، ص: 73).
(2)
البيان والتحصيل، 1/ 180 - 182، عيون الأدلة، 2/ 766، الذخيرة، 1/ 168.
(3)
نهاية المطلب في دراية المذهب، 1/ 282، المجموع، 1/ 93.
(4)
مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله، ص: 7، فقرة: 17، وقد قال: إن التيمم أحب إليه من الوضوء بالنبيذ، والمغني، 1/ 10، المبدع في شرح المقنع، 1/ 28، ونص على نجاسته في الإنصاف، 1/ 332.
(5)
البحر الرائق، 1/ 144.
(6)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 39، المغني، 1/ 10.
(7)
الحاوي الكبير، 1/ 48.
(8)
المجموع، 1/ 94.
(9)
المغني، 1/ 11.
الدليل الثاني: حديث أبي ذر –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين"
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: في الحديث دليل على الانتقال إلى التيمم عند فقدان الماء ولو طالت المدة.
وأما مسألة صلاة المتيمم إذا رأى النبيذ فهي متفرعة عن مسألة صلاة المتيمم إذا رأى الماء، ولها أقوالها وأدلتها، وقد اتفق الأئمة على أن النبيذ لا يأخذ حكم الماء من حيث الوضوء به –كما سبق-، وعليه فإن وجوده قبل الصلاة لا يمنع التيمم كما أن رؤيته أثناء الصلاة لا يبطلها.
وعلى فرض وجود الخلاف في مسألتي الوضوء بالنبيذ وما انبنى عليها من رؤيته من قبل المتيمم أثناء الصلاة فإن لها ثمرات عملية، على سبيل المثال:
- لو أن إنساناً أراد أن يتوضأ للصلاة فلم يجد الماء وعنده نبيذ التمر، فإنه يتوضأ به على قول الحنفية المرجوع عنه، ولا يتوضأ به على قول المالكية والشافعية والحنابلة، وعليه لو لم يجد الماء ولا النبيذ فتيمم وأقام الصلاة ثم رأى النبيذ، فعلى قول الحنفية بطل التيمم؛ لأنه زال السبب الشرعي لجوازه، وعند بقية الأئمة لا أثر له؛ لأنه لا يأخذ حكم الماء، فوجوده ابتداءً لم يمنع من التيمم ورؤيته أثناء الصلاة لم يبطلها من باب أولى.
(1)
أخرجه أبو داود، 1/ 90، كتاب الطهارة، باب الجنب يتيمم، رقم حديث: 332، والترمذي، 1/ 171، كتاب الطهارة، باب الصلوات بتيمم واحد، رقم حديث: 322، والحاكم في المستدرك، 1/ 284، كتاب الطهارة، رقم حديث: 627، وصحح إسناده العيني في عمدة القاري (2/ 245)، وابن القيم في تهذيب السنن مع عون المعبود، 1/ 360، ومن المعاصرين صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 149.
(2)
المغني، 1/ 10.
المطلب الرابع: الحيض والاستحاضة:
المسألة الأولى: ثبوت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة.
المسألة الثانية: نصب العادة للمبتدأة.
المسألة الثالثة: الطهر المتخلل بين الدمين.
المسألة الرابعة: تحديد سن اليأس.
المسألة الأولى: ثبوت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة:
الحيض هو الدم الخارج من الرحم (لا يعقب الولادة)
(1)
الممتد إلى وقت معلوم، والنفاس الدم الذي يخرج عقيب الولادة، والاستحاضة هي ما انتقص من أقل الحيض وما زاد على أكثر الحيض والنفاس
(2)
.
وقد جاء في كتب الحنفية ما يفيد أن حكم الحيض والنفاس والاستحاضة لا يثبت إلا بظهور الدم وبروزه
(3)
، وروي عن محمد رحمه الله في غير الأصول أن حكم الحيض والنفاس يثبت إذا أحست بالبروز، وإن لم يظهر، وحكم الاستحاضة لا يثبت إلا بالظهور؛ لأن الحيض والنفاس لهما وقت معلوم فيمكن إثبات حكمهما باعتبار وقتهما إذا أحست بالبروز، والاستحاضة حدث كسائر الأحداث ليس له وقت معلوم لإثبات حكمه فلا يثبت إلا بالظهور، وسموه ركن الحيض، والفتوى على الأول، وهو ظاهر الرواية
(4)
.
(1)
بدائع الصنائع، 1/ 39.
(2)
تحفة الفقهاء، ص:34.
(3)
المبسوط، 3/ 151.
(4)
ينظر: المبسوط، 3/ 151، بدائع الصنائع، 1/ 39، تبيين الحقائق، 1/ 54، البناية شرح الهداية، 1/ 639، رد المحتار، 1/ 284.
والدليل ما روي أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها إن فلانة تدعو بالمصباح ليلاً فتنظر إليها فقالت عائشة رضي الله عنها: "كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتكلف لذلك إلا بالمس"
(1)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على أن المس لا يكون إلا بعد الخروج، والبروز
(2)
.
ويظهر أنه قول المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
، لأني لم أجدهم يذكرون هذه المسألة بألفاظها، بل في ثنايا الكلام عن تعريف الدماء الخارجة ويقيدونه بخروج الدم ورؤيته، وهو موافق لقول الحنفية، فالمسألة متفق عليها بين المذاهب.
وعلى فرض وجود الخلاف كما عند الحنفية فإن ثمرته تظهر في صوم المرأة إذا أحست بأعراض الحيض قبل غروب الشمس وأن الدم ينزل، لكن لم يخرج حقيقة ولم تره إلا بعد الغروب، فالصوم صحيح عند الجميع، وعند محمد –رحمه الله تقضيه.
(1)
لم أجده بهذا اللفظ، ولا عن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها، وقد ذكره البخاري في كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره، ونصه:"وبلغ بنت زيد بن ثابت أن نساء يدعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر، فقالت: (ما كان النساء يصنعن هذا وعابت عليهن) "، 1/ 71.
وجه الدلالة: الأثر فيه إشارة إلى الظهور وانقطاعه، فبالظهور يثبت الحيض، وبانقطاع الدم يثبت الطهر.
(2)
بدائع الصنائع، 1/ 39.
(3)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 185، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 56، وقد ذكر أنواع الدماء الخارجة من الرحم وعرفها بألفاظ الخروج، وكذلك فعل صاحب التاج والإكليل، 1/ 536.
(4)
دراية المطلب، 1/ 422، الغاية والتقريب (متن أبي شجاع)، ص: 7، المجموع، 2/ 346، روضة الطالبين، 1/ 144.
(5)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 133، الشرح الكبير على متن المقنع، 1/ 349، المبدع في شرح المقنع، 1/ 225.
المسألة الثانية: نصب العادة للمبتدأة:
المبتدأة هي التي لم تتكرر منها رؤية الدم الخارج
(1)
، فإذا رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً مرة واحدة ثم ابتليت بالاستمرار يصير ذلك عادة لها في زمان الاستمرار، فلو رأت خمسة دماً وخمسة عشر طهراً ثم استمر بها الدم فإنها تترك من أول الاستمرار خمسة وتصلي خمسة عشر، ويكون ذلك عادتها التي تقيس عليها الحيضة الموالية، لكن إذا رأت خلاف عادتها مرة واحدة فإن عادتها لا تنتقل على قول أبي حنيفة ومحمد –رحمهما الله-، حتى ترى المخالف مرتين على الأقل، وعلى قول أبي يوسف –رحمه الله تنتقل العادة برؤية المخالف مرة؛ لأن ذلك أيسر على النساء، وعليه الفتوى
(2)
.
والذي يظهر أن التيسير على النساء موجب الأخذ بقول أبي يوسف –رحمه الله بدل قول الطرفين.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء فيما تثبت به العادة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تثبت العادة بمرة واحدة، وهو قول الحنفية –كما سبق-، والمالكية
(3)
، والشافعية في الأصح.
(4)
(1)
تحفة الفقهاء، ص: 34، بدائع الصنائع، 1/ 41.
(2)
ينظر: المبسوط، 3/ 161 - 166، البناية، 1/ 668، درر الحكام، 1/ 42، ملتقى الأبحر، ص: 82، رد المحتار، 1/ 301 - 303. فلو كانت عادتها ستة ثم حاضت حيضة أخرى سبعة، ثم حاضت حيضة أخرى ستة، فعادتها ستة بإجماع علماء المذهب؛ فعند الطرفين؛ لأن العادة من ستة قد تكررت مرتين بصفة المخالف وبنيا الاستمرار عليها، وأما عند أبي يوسف فلأن العادة تنتقل بالمرة الواحدة، وقد بنى الاستمرار على المرة الأخيرة (وهي ستة)؛ لأن العادة انتقلت إليها. (ينظر: بدائع الصنائع، 1/ 42).
(3)
الذخيرة، 1/ 386، شرح مختصر خليل للخرشي، 1/ 205، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 1/ 169.
(4)
نهاية المطلب في دراية المذهب، 1/ 345، المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، 1/ 81، المجموع شرح المهذب، 2/ 402، روضة الطالبين، 1/ 145.
القول الثاني: تثبت العادة إذا تكررت مرتين، وهذا ما يوافق قول الطرفين من الحنفية –كما سبق-، وهو قول عند الشافعية
(1)
، ورواية عند الحنابلة
(2)
.
القول الثالث: تثبت العادة إذا تكررت ثلاثاً متساوية ابتداءً وانتهاءً، وهو رواية ثانية عند الحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن العادة تثبت بمرة واحدة بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} [الأعراف: 29].
وجه الدلالة: الآية فيها تشبيه العود بالبدء فيفيد إطلاق العود على ما فعل مرة واحدة
(4)
.
نوقش بأن الاستدلال غير ظاهر؛ لأن الآية لا تفيد إطلاق العود على مرة واحدة، وإنما أطلق العود فيها على المرة الثانية
(5)
.
(1)
المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، 1/ 81، المجموع شرح المهذب، 2/ 402.
(2)
المغني، 1/ 230.
(3)
المغني، 1/ 230، الإقناع، 1/ 65.
(4)
ينظر: مواهب الجليل، 1/ 368.
(5)
شرح الزرقاني، 1/ 239.
الدليل الثاني: حديث أم سلمة زوج النبي –صلى الله عليه وسلم أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر، ثم لتصلي"
(1)
.
وجه الدلالة: الحديث قد دل على اعتبار الشهر الذي قبل الاستحاضة، ولأن الظاهر أنها فيه كالذي يليه لقربه إليها، فهو أولى مما انقضى
(2)
.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن العادة لا تثبت إلا إذا تكررت مرتين بكون لفظ العادة مشتق من العود، وذلك لا يتحقق إلا بأكثر من مرة.
نوقش بأن لفظ العادة لم يرد به نص فيتعلق به
(3)
.
دليل القول الثالث:
استدل القائلون بأن العادة لا تثبت إلا إذا تكررت ثلاثاً بالحديث: "دعي الصلاة أيام أقرائك"
(4)
.
(1)
أخرجه مالك في الموطأ، ص: 52، أبواب الصلاة، باب المستحاضة، رقم حديث: 82، وقال عنه البيهقي في السنن الكبرى: إنه حديث مشهور، 1/ 493، وأحمد، 44/ 307، مسند النساء، حديث أم سلمة زوج النبي –صلى الله عليه وسلم، رقم حديث: 26716، وقد صححه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه، والنسائي، 1/ 119، كتاب الطهارة، باب ذكر الاغتسال من الحيض، رقم حديث: 208، وكذلك 1/ 182، كتاب الحيض والاستحاضة، باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر، رقم حديث: 355، وقد مال إلى تصحيحه ابن الملقن في البدر المنير، 3/ 121، وقال:" هذا الحديث على شرط الصحيح رواه باللفظ المذكور الأئمة"، وقد صحَّح الحديث الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 33.
(2)
مغني المحتاج، 1/ 288.
(3)
مغني المحتاج، 1/ 288، وقد ذكر الدليل والمناقشة.
(4)
أخرجه الدارقطني، 1/ 394، كتاب الطهارة، رقم حديث 822، ولم يثبت إسناده عند البيهقي كما في السنن الصغير، 3/ 151.
وجه الدلالة: ورد في الحديث لفظ (الأقراء)، وهو جمع قرء، وأقله ثلاثة
(1)
، والعادة إذاً لا تثبت إلا إذا تكررت ثلاثاً.
وقد يناقش بأن الحديث لم يثبت، بل ثبت لفظ:"دعي الصلاة أيام حيضك"
(2)
، وهو مفرد، وإن صح الاستدلال به فهو دليل القول الأول.
الترجيح:
بعد استعراض المسألة بأقوالها وأدلتها لكل قول يظهر لي أن القول الأول أقرب إلى الرجحان؛ لقوة دليله وورود المناقشة على أدلة الأقوال الأخرى، وللخلاف فيها ثمرة عملية تظهر في بعض الأمثلة، ومنها:
- لو أن امرأة رأت في الشهر الأول أربعة دماً وأربعة عشر طهراً، وفي الثاني ستة دماً وأربعة عشر طهراً، وفي الثالث خمسة دماً وخمسة عشر طهراً، فعلى القول الأول تثبت عادتها بحسب الشهر الأخير وهو خمسة، وعلى القول الثاني كذلك؛ لأنها تكررت مرتين ضمناً في الشهر الثاني والثالث
(3)
، وعلى القول الثالث لم تثبت عادتها بعد؛ لأنها غير متساوية ابتداءً وانتهاءً في الشهور الثلاثة.
(1)
مغني المحتاج، 1/ 288.
(2)
أخرجه أحمد، 40/ 173، مسند النساء، منسد الصديقة عائشة بنت أبي بكر –رضي الله عنها، رقم حديث: 24145، وقد صححه المحقق، وقال:"حديث صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير علي بن هاشم، فمن رجال مسلم".
(3)
نهاية المطلب، 1/ 346.
المسألة الثالثة: الطهر المتخلل بين الدمين:
مسألة الطهر المتخلل بين الدمين ترد في كتب الحنفية في كتاب الحيض والنفاس
(1)
، وقد اتفقوا على أن الطهر المتخلل إذا كان خمسة عشر يوماً فأكثر يكون فاصلاً بين الدمين في الحيض، فما بلغ من كل من الدمين نصاباً جعل حيضاً، كما اتفقوا على أنه إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يكون فاصلاً وإن كان أكثر من الدمين
(2)
، واختلفوا فيما بين ذلك على خمس روايات
(3)
:
1.
أن الأصل عند أبي يوسف، وقول آخر عند أبي حنيفة –رحمهما الله- أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يومًا لا يصير فاصلاً، بل يجعل كالدم المتوالي، ومن أصله أيضًا أنه يجوز بداية الحيض بالطهر، وكذلك ختمه، بشرط أن يكون قبله وبعده دم، فإن كان بعده دم، ولم يكن قبله دم يجوز ختم الحيض بالطهر، ولا يجوز بدايته به، وإن كان قبله دم ولم يكن بعده دم يجوز بداية الحيض بالطهر، ولا يجوز ختمه به، ومن أصله أيضاً أنه يجعل زمانًا هو طهر كله حيضًا بإحاطة الدمين به.
ومن الأمثلة على ذلك:
- المبتدأة لو رأت يوماً دماً وأربعة عشر طهراً ويومًا دماً فالعشرة من أول ما رأت عنده حيض يحكم ببلوغها.
- وكذلك إذا رأت يوماً دماً وتسعة طهراً ويوماً دماً.
2.
وروى محمد عن أبي حنيفة –رحمهما الله- إن الشرط أن يكون الدم محيطاً بطرفي العشرة، فإن كان كذلك لم يكن الطهر المتخلل فاصلاً بين الدمين وإلا كان فاصلاً، وعلى هذه الرواية لا يجوز بداية الحيض ولا ختمه بالطهر.
(1)
المبسوط، 3/ 154.
(2)
ينظر: رد المحتار، 1/ 289، والمسألة لها علاقة وثيقة بأقل مدة الحيض وأكثره.
(3)
وقد ذكرها كلها مع الأمثلة صاحب المبسوط، 3/ 154 - 158، وقمت باختصارها وإبقاء ما يتعلق بالمسألة فقط، وينظر أيضاً: بدائع الصنائع، 1/ 43 - 44، العناية شرح الهداية، 1/ 173، البناية، 1/ 655 - 657.
ومن الأمثلة على ذلك:
- لو رأت يوماً دماً وثمانية طهراً ويوماً دماً أو رأت ساعة دماً وعشرة أيام غير ساعتين طهراً وساعة دماً فالعشرة كلها حيض؛ لإحاطة الدم بطرفي العشرة.
- ولو رأت يوماً دماً وسبعة طهراً ويوماً دماً لم يكن شيء منه حيضاً، وهذا خلاف الرواية الأولى.
3.
وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة -رحمهما الله- مع هذا شرطًا آخر، وهو أن يكون المرئي في أكثر الحيض مثل أقله فإن وجد هذا الشرط فالطهر المتخلل لا يكون فاصلاً، وإن لم يوجد كان فاصلاً، ولم يكن شيء منه حيضاً، وهو قول زفر رحمه الله.
وجه الرواية أن الحيض لا يكون أقل من ثلاثة أيام، وهو اسم للدم، فإذا بلغ المرئي هذا المقدار كان قوياً في نفسه فجعل أصلاً وما يتخلله من الطهر تبعاً له، وإن كان الدم دون هذا كان ضعيفاً في نفسه لا حكم له إذا انفرد، فلا يمكن جعل زمان الطهر حيضاً تبعاً.
ومن الأمثلة على ذلك:
- لو رأت يوماً دماً وثمانية طهراً ويوماً دماً لم يكن شيء منه حيضاً على هذه الرواية؛ لأن المرئي من الدم دون الثلاث.
- ولو رأت يومين دماً وسبعة طهراً ويوماً دماً فالعشرة حيض؛ لأن المرئي بلغ أقل مدة الحيض.
- وكذلك إن رأت يوماً دماً وأربعة طهراً ويوماً دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً فالعشرة حيض.
4.
والأصل عند محمد رحمه الله وعليه الفتوى أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان دون ثلاثة أيام لا يصير فاصلاً، فإذا بلغ الطهر ثلاثة أيام أو أكثر نظر فإن استوى الدم بالطهر في أيام الحيض أو كان الدم غالبًا لا يصير فاصلاً، وإن كان الطهر غالباً يصير فاصلاً.
وجه الرواية أن الطهر معتبر بالحيض، فكما تبني ما دون الثلاث من الحيض لا حكم له ويجعل كحال الطهر، فكذلك ما دون الثلاث من الطهر لا حكم له فيجعل كالدم المتوالي.
وإذا بلغ ثلاثة أيام فصاعداً فإن كان الدم غالباً فالمغلوب لا يظهر في مقابلة الغالب.
وإن كانا سواء فكذلك لوجهين:
أحدهما: قياس، وهو تبني اعتبار الدم يوجب حرمة الصوم والصلاة، واعتبار الطهر يوجب حل ذلك، فإذا استوى الحلال والحرام يغلب الحرام الحلال كما في التحري في الأواني إذا كانت الغلبة للنجاسة أو كانا سواء لا يجوز التحري فهذا مثله.
والثاني: استحسان، وهو أن المرأة لا ترى الدم على الولاء؛ لأن ذلك يُضْنيِها فيقتلها فبهذا الاعتبار لا بد أن يجعل بعض الزمان الذي لم يكن فيه الدم معتبراً بالحيض وعند ذلك يغلب الدم على الطهر عند التساوي فلهذا جعلناه كالدم المتوالي.
فأما إذا غلب الطهر الدم يصير فاصلاً؛ لأن حكم الغالب ظاهر شرعًا، وإذا صار فاصلاً بقي كل واحد من الدمين منفرداً عن صاحبه فيعتبر فيه إمكان جعله حيضاً كأنه ليس معه غيره، وإن وجد الإمكان فيهما جعل المتقدم حيضاً؛ لأنه أسرعهما إمكاناً، وأمر الحيض مبني على الإمكان، ثم لا يجعل المتأخر حيضاً؛ لأنه ليس بينهما طهر خمسة عشر يوماً، ولا بد أن يتخلل بين الحيضتين طهر تام، وأقل الطهر التام خمسة عشر يوماً.
ومن الأمثلة على ذلك:
- مبتدأة رأت يوماً دماً ويومين طهراً ويومًا دماً فالأربعة حيض؛ لأن الطهر المتخلل دون الثلاث.
- ولو رأت يوماً دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً لم يكن شيء منه حيضًا؛ لأن الطهر بلغ ثلاثة أيام، وهو غالب على الدمين فصار فاصلاً.
- وكذلك إن زادت في الطهر فإن رأت يوماً دماً وثلاثة طهراً ويومين دماً فالستة كلها حيض؛ لأن الدم استوى بالطهر في طرفي الستة فصار غالباً.
- ولو رأت يومًا دماً وأربعة طهراً ويوماً دماً لم يكن شيء منه حيضًا؛ لأن الطهر غالب.
- وكذلك لو رأت يومين دماً وخمسة طهراً ويوماً دمًا لم يكن شيء منه حيضًا؛ لأن الطهر غالب.
- ولو رأت ثلاثة دماً وأربعة طهراً ويوماً دمًا فالثمانية حيض؛ لاستواء الدم بالطهر.
- ولو رأت ثلاثة دماً وخمسة طهراً ويوماً دماً فحيضها الثلاثة الأولى؛ لأن الطهر غالب فصار فاصلاً، والمتقدم يمكن أن يجعل بانفراده حيضًا فجعلناه حيضاً.
- ولو رأت يوماً دماً وخمسة طهراً وثلاثة دماً فحيضها الثلاثة الأخيرة.
- وإن رأت ثلاثة دماً وستة طهراً وثلاثة دماً فحيضها الثلاثة الأول؛ لأنه أسرعها إمكاناً
(1)
.
5.
الأصل السابق هو الأصل عند الحسن بن زياد –رحمه الله أيضًا إلا أنه خالفه في اعتبار غلبة الدم، وفي مساواة الدم بالطهر
(2)
.
وقد تبين مما سبق أن علماء المذهب الحنفي قد اتفقوا على أن الطهر المتخلل إذا كان خمسة عشر يومًا فأكثر يعتبر فاصلاً بين الدمين، والعكس إن كان دون ثلاثة أيام، وقد اختلفوا فيما بين ذلك، والسرخسي رجَّح الرواية الرابعة، وذكر أن الفتوى عليه
(3)
، والذي يظهر أن ذلك ليس على إطلاقه، لأنه جاء في تبيين الحقائق "وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يومًا لم يفصل؛ لأنه طهر فاسد، فصار بمنزلة الدم، وكثير من المتأخرين أفتوا بهذه الرواية؛ لأنها أسهل على المفتي والمستفتي"
(4)
، ويُستنتج منه ما يلي:
- أنه ذكر المتأخرين مع علامة الترجيح مثل الفتوى.
- قوله (كثير) يدل على أنه ليس من المتفق عليه أيضاً ترجيحهم رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة.
- سبب الترجيح هو الأخذ بالأسهل على المفتي والمستفتي.
وإذا رجعنا إلى قواعد الترجيح رأينا أن رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أقوى من قول محمد، وقد وافق قول الإمام قول أحد صاحبيه فيقدم، ولأن محمداً له رواية عن الإمام أيضاً كما له رأي بناه على أصل، وقد عدل عن الرواية إلى القول.
(1)
ينظر: المبسوط، 3/ 154 - 158، بدائع الصنائع، 1/ 43 - 44، العناية شرح الهداية، 1/ 173، البناية، 1/ 655 - 657.
(2)
ينظر: المبسوط، 3/ 158.
(3)
المبسوط، 3/ 156.
(4)
تبيين الحقائق، 1/ 60.
واختيار ما عليه الفتوى عند كثير من المتأخرين وعليه قول الشيخين أولى أن يُقدَّم على ما عليه الفتوى عند بعضهم وعليه قول أحد صاحبيه فقط.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء في الطهر المتخلل بين الدمين الذي لم يبلغ خمسة عشر يوماً؛ هل يضم الدم إلى الدم ويكون ما بينهما طهراً (وهو قول التلفيق
(1)
،
(2)
أو يكون حيضاً (وهو قول السحب
(3)
،
(4)
على القولين:
القول الأول: قول التلفيق، ومعناه أن الطهر المتخلل يأخذ حكم الطهر المعتبر إذا لم يتجاوز مجموع أيام الدم وما تخلله من طهر خمسة عشر يوماً، وكان مجموع أيام الدم الملفقة يتجاوز أقل الحيض، وهو قول المالكية
(5)
، وقول عند الشافعية
(6)
، وقول الحنابلة
(7)
.
القول الثاني: قول السحب، ومعناه أن الطهر يأخذ حكم الحيض ولا يكون طهراً معتبراً، وهو قول الحنفية الراجح – كما سبق-، والأظهر عند الشافعية.
(8)
(1)
شرح مختصر خليل للخرشي، 1/ 208، روضة الطالبين، 1/ 162.
(2)
من اللفق، وهو خياطة شقتين تَلفِق إحداهما بالأخرى لفقاً أي ضمها (ينظر: العين، 5/ 165)، بمعنى أنها ضمت الدم إلى الدم، وجعلت ما بينهما طهراً.
(3)
روضة الطالبين، 1/ 162.
(4)
من السحب وهو جر الشيء (ينظر: العين، 3/ 151)، بمعنى أن المرأة تسحب حكم الحيض على الطهر.
(5)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 219، الذخيرة، 1/ 379، مختصر خليل، ص:26.
(6)
روضة الطالبين، 1/ 162.
(7)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 148، المغني، 1/ 260، المبدع في شرح المقنع، 1/ 255، الإنصاف، 1/ 386.
(8)
حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، 1/ 228، روضة الطالبين، 1/ 162، والإقناع، 1/ 69، وقد عرفه وأضاف شرطه، فقال:"ومعناه (أي التلفيق) ضم الدماء بعضها إلى بعض إن تخللها طهر وصلح زمانه أن يكون حيضاً، فمن كانت ترى يوماً أو أقل أو أكثر دماً يبلغ مجموعه أقل الحيض فأكثر وطهراً متخللا فالدم حيض ملفق".
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بالتلفيق بأدلة، منها:
الدليل الأول: قد يستدل بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].
وجه الدلالة: في الآية دليل على أن الأذى إذا ارتفع انتفى حكمه.
وقد يناقش بأن ارتفاع الأذى يكون بالقصة البيضاء، فتحمل الآية على عدم عودة الدم.
الدليل الثاني: ما يروى عن ابن عباس في المستحاضة: "إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي"
(1)
.
قد يناقش بأنه مروي من طريق آخر ولم يذكر فيه: "وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي"
(2)
، وليس فيه ما يدل على وجوب الاغتسال وإقامة الصلاة.
كما يمكن مناقشته بأن رؤية الطهر محمولة على القصة البيضاء.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بالسحب بأدلة، منها:
الدليل الأول: قد يستدل بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
(1)
أخرجه الدارمي، 1/ 610، كتاب الطهارة، باب في غسل المستحاضة، رقم حديث: 827، وأبو داود، 1/ 208، كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، رقم حديث: 286، وقال المحقق شعيب الأرناؤوط:(رجاله ثقات)، وقال ابن رجب في الفتح:(إن الإمام أحمد استحسنه)(فتح الباري، 2/ 176)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 63، وقال:"وصله الدارمي بإسناد صحيح على شرط الشيخين".
(2)
كما في السنن الكبرى للبيهقي، 1/ 503، كتاب الحيض، باب المرأة تحيض يوماً وتطهر يوماً، رقم حديث:1605.
وجه الدلالة: الآية دالة على رفع الحرج عنا في ديننا، وتكليف المرأة بالاغتسال زمن حيضها فيه مشقة وحرج.
الدليل الثاني: هذا القدر من الطهر لا يفصل بين الحيضين، فكذا لا يفصل بين الدمين، وصار كطهر يوم واحد
(1)
.
الدليل الثالث: الأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض حتى يقوم دليل على أنه استحاضة.
الدليل الرابع: كونه أيسر للمفتي والمستفتي، والشريعة تتطلع إلى التيسير ورفع الحرج.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني القائل بالسحب أقرب إلى الصواب؛ لقوة دليله، ولورود المناقشة على أدلة القول الثاني، وللخلاف في المسألة ثمرات عملية تظهر في بعض المسائل، منها:
- لو أن المرأة رأت يوماً دماً وسبعة طهراً ويومين دماً وذلك في رمضان، فعلى القول بالتلفيق يكون عدد أيام الدم ثلاثة، وعدد أيام الطهر سبعة، ولها أن تصوم وتصلي في أيام طهرها، وعلى القول بالسحب فإنها كلها أيام الدم، ويحرم عليها أن تصوم وتصلي.
- وكذا في بقية الأمور التي تحرم على الحائض، فمن أثبت الحيض أثبت التحريم والعكس بالعكس.
(1)
خلاصة الدلائل في تنقيح المسائل شرح القدوري، ص:66.
المسألة الرابعة: تحديد سن اليأس
اليأس في اللغة قطع الرجاء
(1)
، والمرأة الآيسة التي انقطع رجاؤها عن رؤية الدم
(2)
.
ومسألة تحديد سن اليأس ترد عند الحنفية في كتاب الطلاق غالباً
(3)
، وقد اختلفوا فيها على عدة أقوال
(4)
:
القول الأول: يعتبر بأقرانها من قرابتها.
القول الثاني: يعتبر بتركيبها؛ لأنه يختلف بالسمن والهزال.
القول الثالث: يقدر بالسنين، وقد روي عن محمد –رحمه الله أنه قدره بستين سنة، وعنه في الروميات بخمس وخمسين، وفي المولدات ستين، وقيل خمسين سنة
(5)
.
والفتوى على خمس وخمسين من غير فصل، والأخير رواية الحسن عن أبي حنيفة، وروي عنه أيضاً ما بين خمس وخمسين إلى ستين
(6)
.
وعليه فإن القول الذي يُفتى به عند متأخري الحنفية هو تحديد سن اليأس بخمس وخمسين سنة، لكن جاء في مجمع الأنهر ما يفيد أنه ليس على إطلاقه، وأنه يُفتى بخمسين في وقته،
(7)
فأفاد بوجود الخلاف في رجحان القول عندهم.
وإذا رجعنا إلى قواعد الترجيح الأغلبية عند الحنفية نجد أنه إذا ثبت الترجيح للقولين المختلفين بعلامة الإفتاء فإن المجتهد يتخير إذا لم يمكن تقديم أحدهما على الآخر، والذي يظهر أنه ممكن، وذلك بأمور، منها:
(1)
مقاييس اللغة، 6/ 153، القاموس المحيط، 1/ 582.
(2)
رد المحتار، 1/ 303.
(3)
ينظر: تبيين الحقائق، 2/ 192، العناية، 1/ 164، البناية، 5/ 596.
(4)
ذكرها صاحب الاختيار بشيء من الإجمال، ينظر: الاختيار، 3/ 176.
(5)
ينظر: بدائع الصنائع، 3/ 91، الاختيار، 3/ 176.
(6)
الاختيار، 3/ 176، تبيين الحقائق، 2/ 192، العناية، 1/ 164، البناية، 5/ 596، البحر الرائق، 3/ 259، بدائع الصنائع، 3/ 91.
(7)
مجمع الأنهر، 1/ 467.
- القول بخمس وخمسين سنة رواية عن أبي حنيفة وهي مقدمة على قول صاحبه، ولأنه يقدم قوله في العبادات إلا في مسائل معدودة –كما سبق-.
- بالنظر إلى طبقات الكتب والمسائل الواردة فيها نجد أنه يقدم ما في المتون المعتمدة المؤلفة في فترة المتأخرين على قول من بعدهم.
فعاد رجحان القول في مسألة تحديد سن اليأس بخمس وخمسين سنة، والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
لم يرد في الشرع ما ينص على تحديد سن اليأس، والعلماء بنوا أقوالهم على التتبع لأصول النساء، وعلى الاستقراء لأحوالهن في الجملة، وقد اختلفوا في المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: سن اليأس لا يقدر بمدة معلومة، بل إذا بلغت المرأة من السن ما لا تحيض فيه مثلها يحكم به، وذلك يعرف بالاجتهاد والمماثلة في أمور، منها:
- تركيب البدن.
- السمن والهزال.
- أقراء قرابتها، وهو قول الشافعية
(1)
.
- البلدان والأزمان.
- الغنى والفقر لأن النعمة تبطؤه، والفقر يسرع به.
- النسب والأجناس.
- الولادة من عدمها إلخ
(2)
.
وهو قول بعض الحنفية –كما سبق-.
القول الثاني: سن اليأس يقدر بمدة، واختلفوا في تحديدها على النحو الآتي:
- منهم من حدَّدها بخمس وخمسين سنة، وهو القول الراجح عند الحنفية –كما مضى-.
(1)
حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المحلي على منهاج الطالبين، 1/ 119، روضة الطالبين، 1/ 143.
(2)
قلت: وفي الوقت الراهن قد تؤثر الأمراض وطرق علاجها، وكذلك استخدام الحبوب لمنع الحمل أو تأخير الحيض إلخ.
- ومنهم من حدَّدها خمسين سنة، وهو قول عند الحنفية –كما سبق-، وهو مذهب الحنابلة
(1)
.
- ومنهم من حدَّدها بسبعين سنة، وما دونها يسأل النساء، وهو قول المالكية
(2)
.
القول الثالث: الجمع بين تحديد سن اليأس بمدة والأجناس، فيحد بخمسين للعجميات وبستين للعربيات القرشيات، وهو رواية عن أحمد
(3)
، ويظهر أنه جمع بين الأقوال في بعض صورها.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن سن اليأس لا يحدد بمدة بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4].
وجه الدلالة: الله –سبحانه وتعالى لم يعلِّق نهاية الحيض ببلوغ سن معينة، بل علقه باليأس من المحيض، وهو أن تيأس المرأة نفسها من المحيض أي عوده
(4)
.
دليل القول الثاني:
لم أجد دليلاً واحداً على جميع التحديدات المذكورة إلا من حدد سن اليأس بمدة خمسين سنة، ودليلهم ما يُروى عن عائشة –رضي الله عنها أنها قالت:"إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض"
(5)
. وعنها أيضًا: "لن ترى المرأة ولدًا في بطنها بعد خمسين سنة"
(6)
.
(1)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 198، شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/ 453.
(2)
مواهب الجليل، 1/ 367، والتاج والإكليل، 5/ 481.
(3)
شرح الزركشي على مختصر الخرقي، 1/ 453.
(4)
مجموع الفتاوى لابن تيمية، 19/ 240.
(5)
لم أجد له إسناداً ولا تخريجاً، ويكثر إيراده في كتب الحنابلة، وأن الإمام أحمد ذكره، والشيخ الألباني قال:"لم أقف عليه، ولا أدري في أي كتاب ذكره أحمد، ولعله في بعض كتبه التي لم نقف عليها". (ينظر: إرواء الغليل، 1/ 200).
(6)
التحقيق في أحاديث الخلاف، 1/ 267، لم يسنده ولم يعلق عليه.
نوقش بأنه لم يثبت، وعلى فرض ثبوته يحمل على من التقت هي من النساء، وليس عامًا في كل النساء. وكذلك وُجد الحيض فيما بعد خمسين على وجهه
(1)
.
تعليل القول الثالث:
علَّل القائلون بالجمع بين تحديد المدة وتقديم الأجناس بعضها على بعض بأن المرأة العربية أقوى طبيعة من غيرها
(2)
.
يناقش بأنه تفريق بين المتماثلات، فلا فرق بين نساء العرب وغيرهن؛ لأنهن لا يختلفن في سائر أحكام الحيض، وكذلك هاهنا
(3)
.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال في المسألة، وإيراد أدلة كل قول يظهر أن القول الأول أقرب إلى الصواب، وأن سن اليأس لا يُحدَّد بمدة معلومة، بل يُرجع إلى اعتبارات كثيرة –وقد سبق ذكرها في ثنايا الكلام في المسألة-، وقد وافق الأطباء على بعض تلك الاعتبارات
(4)
.
إضافة إلى أن جميع الأقوال المذكورة آنفاً مبنية في الجملة على الاستقراء والتتبع لأصول النساء وأحوالهن، وهي من اختلاف التنوع وليس التضاد، وكلها لها حظ من النظر، إلا أن القول الأول أشمل، والثاني أسهل، والثالث أولى بالرجحان لو لم يتوقف أصحابه من ربط المدة بالاعتبارات الأخرى.
(1)
المغني، 1/ 263.
(2)
المغني، 8/ 107.
(3)
المغني، 1/ 263.
(4)
وقسموا سن اليأس إلى قسمين:
- قسم غير طبيعي ويرجع إلى نمط الحياة من التغذية واستخدام الأدوية، والتدخين والمسكرات والمخدرات إلخ.
- وقسم طبيعي وربطوه بالأماكن والأعمار والقريبات، والأخير أغلب.
وذلك بحسب الدراسة الطبية على موقع "سن اليأس" – Menopause، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafythree
وعليه لو أمكن الجمع بين هذه الأقوال بأن يقال: إن سن اليأس يحدَّد بالمدة من باب الأغلب أو المتوسط، ويضاف إلى ذلك النظر إلى الاعتبارات المذكورة سواء بعضها أو كلها.
على سبيل المثال: المرأة في أوروبا إن كانت تعيش في أماكن باردة ولم تزاول المحرمات مثل التدخين والمخدرات، ولم تستخدم الأدوية التي تجعل الدورة تضطرب فإنه من المتوقع أن سن اليأس سيتأخر عندها، والعكس بالعكس.
وكذا لو كانت هذه المرأة مدخنة أو مدمنة فإن المتوقع تقدم سن اليأس، وهكذا، والله أعلم.
وهذه المسألة لها ثمرة تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو أن امرأة توقف حيضها وهي تبلغ من عمرها تسعة وأربعين عاماً، وعاشت حياتها فقيرة في أفريقيا مثلاً وقد زاولت أعمالاً شاقة، وكانت هزيلة، فعلى القول الأول قد بلغت سن اليأس؛ لأن تحديده يكون بالنظر إلى الدم، وقد توقف، وعلى القول الثاني لم تبلغ سن اليأس؛ لأنها دون الخمسين، وعلى القول الثالث كذلك سواء كانت عربية أم أعجمية، وعلى فرض الجمع بين الأقوال فإنها بلغت سن اليأس بالنظر إلى عمرها الذي هو قريب مما هو الغالب في النساء وبالنظر إلى نمط حياتها.
المطلب الخامس: كيفية تطهير الخف ونحوه:
ترد هذه المسألة في كتب الحنفية في كتاب الطهارة باب الأنجاس عند ذكر تطهير بدن المصلي وثوبه ومكانه، وكذا خفه، فيقررون أن الخف إن كان عن ذي جرم
(1)
جف فيطهر بالدلك بالأرض، وأبو يوسف رحمه الله يجوز في رطب ذي جرم إذا بالغ (في الرطوبة)، وبه يفتى
(2)
.
ومعناه أن الخف إذا تنجس بنجس ذي جرم يطهر بالدلك، سواء كان جافاً أو رطباً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فمن أراد أن يدخل المسجد فليقلب نعليه، فإن رأى بهما أذى فليمسحهما بالأرض، فإن الأرض لهما طهور"
(3)
، ولأن البلوى العامة تحققت، فلا معنى لاشتراط الجفاف إذ يلحق الناس بذلك حرج وهو مدفوع
(4)
.
والمسألة لها علاقة بمسألة: هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ أم أن النجاسة تزول بأي مزيل؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في كيفية إزالة نجاسة الخف ونحوه بين غسلها وبين مسحها بالأرض ودلكها بها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن نجاسة الخف ونحوه تطهر بالدلك بالأرض كما تطهر بالغسل، وهو قول الحنفية -كما سبق-، وهو القول القديم للشافعي
(5)
، ورواية عن أحمد
(6)
.
(1)
أي جثة، وهي ما يرى بعد الجفاف. (ينظر: النهر الفائق، 1/ 143).
(2)
شرح الوقاية للمحبوبي، 2/ 95 - 96، استحساناً لا قياساً، وهو كذلك قول أبي حنيفة رحمه الله كما في المبسوط (1/ 82).
(3)
سيأتي تخريجه عند ذكر أدلة القول الأول.
(4)
بدائع الصنائع، 1/ 84، الهداية، 1/ 36، العناية، 1/ 195، كنز الدقائق، ص: 152، تبيين الحقائق، 1/ 70، ونقل أن أبا يوسف رحمه الله يشترط زوال الرائحة، البحر الرائق، 1/ 234، مجموع الأنهر، 1/ 59، النهر الفائق، 1/ 143، وقد ذكر شرطًا آخر وهو زوال بقاء الأثر إلا أن يشق.
(5)
حلية العلماء، 1/ 254، روضة الطالبين، 1/ 280.
(6)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 163، المغني، 2/ 62، وذكر أنه أولى، الإنصاف، 1/ 323، وقال:"إنه أظهر، وإنه اختيار جماعة"، والمبدع في شرح المقنع، 1/ 213.
القول الثاني: إن الخف إذا تنجس بنجاسة فلا بد من غسله كسائر النجاسات، وهو القول الجديد للشافعي
(1)
، ورواية ثانية عن أحمد
(2)
.
القول الثالث: التفريق بين النجاسات، فإن كانت مغلظة مثل البول والعذرة فلا بد من الغسل، وإن كانت غير ذلك فالدلك، وهو قول المالكية
(3)
، ورواية ثالثة عن أحمد
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن الخف يطهر بغير الماء مثل الدلك والمسح بأدلة، منها:
الدليل الأول: قول النبي –صلى الله عليه وسلم: "فليمسحهما بالأرض، فإن الأرض لهما طهور"
(5)
.
وجه الدلالة: هذا الحديث نص على أن إزالة النجاسة تكون بغير الماء مثل الدلك بالأرض.
(1)
حلية العلماء، 1/ 254، المجموع، 2/ 598، روضة الطالبين، 1/ 280.
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 163، المغني، 2/ 62.
(3)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 188، والتاج والإكليل، 1/ 221 - 223، مواهب الجليل، 1/ 153 - 154.
(4)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 163، المغني، 2/ 62.
(5)
أخرجه ابن حبان من طريق أبي هريرة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: " إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب"، 4/ 25، كتاب الطهارة، باب تطهير النجاسة، رقم حديث: 1404، وقد صححه المحقق، وابن خزيمة، 1/ 182، كتاب الوضوء، باب ذكر وطء الأذى اليابس بالخف والنعل، والدليل على أن ذلك لا يوجب غسل الخف ولا النعل، وأن تطهيرهما يكون بالمشي على الأرض الطاهرة بعدها، رقم حديث: 292، والحاكم في المستدرك، 1/ 272، كتاب الطهارة، رقم حديث: 591، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم
…
ولم يخرجاه"، ووافقه في نصب الراية، 1/ 207، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، 3/ 80.
الدليل الثاني: إذن النبي –صلى الله عليه وسلم في إزالة النجاسة بغير الماء في مواضع، منها الاستجمار بالأحجار
(1)
.
الدليل الثالث: لأن تنجس الخف ونحوه مما عمت به البلوى فيعفى، دفعًا للمشقة
(2)
.
الدليل الرابع: لأن الخف محل تتكرر إصابة النجاسة له، فأجزأ فيه المسح كالسبيلين
(3)
.
تعليل القول الثاني:
علَّل القائلون بأن الخف ونحوه إذا تنجس فلا بد من غسله بكون الدلك لا يزيل جميع أجزاء النجاسة
(4)
، فلا بد من الماء كبقية النجاسات.
نوقش بأن الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول يرده، والعمل به أولى
(5)
، كما يناقش بأن التنظيف الجاف أو بالبخار في الوقت الراهن يزيل النجاسة بدون ماء
(6)
.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بالتفريق بين النجاسات بأدلة، منها:
الدليل الأول: أن نجاسة البول والعذرة مغلظة وفاحشة باتفاق
(7)
، ومن النجاسات التي اختلف فيها، فلا بد من التفريق بينهما في الحكم.
نوقش بأن النبي –صلى الله عليه وسلم وأصحابه –رضي الله عنهم كانوا يصلون في نعالهم، والظاهر أنه لا يسلم من نجاسة يصيبها، فلولا أن دلكها يجزئ لما صحت الصلاة فيها
(8)
.
(1)
التنبيه على مشكلات الهداية، 1/ 430.
(2)
تبيين الحقائق، 1/ 70.
(3)
المبدع في شرح المقنع، 1/ 213.
(4)
المغني، 2/ 62.
(5)
المغني، 2/ 62.
(6)
مجموع رسائل وفتاوى (ابن العثيمين)، 11/ 87.
(7)
التاج والإكليل، 1/ 233.
(8)
المبدع في شرح المقنع، 1/ 213.
الدليل الثاني: العفو من الغسل هو لما يعسر الاحتراز منه مثل المواضع التي تكثر فيها الدواب، وأما ما لا تكثر فيه فلا يعفى عنه
(1)
.
قد يناقش بأنه يعسر الاحتراز من النجاسات المغلظة في بعض مواضع أخرى مثل الحمامات العامة التي تقل العناية بها.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وأدلتها يظهر أن القول الأول أقرب إلى الرجحان؛ لقوة أدلته، ولورود المناقشة على أدلة القولين الآخرين، ومما يؤيد رجحان القول الأول في الوقت الراهن ما يُسمى بالتنظيف الجاف أو بالبخار، فإنه يزيل النجاسة بدون ماء
(2)
.
والخلاف في المسألة له ثمرات عملية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو أن إنساناً أراد أن يصلي في نعليه مثلاً ورأى عليهما نجاسة الغائط، فعلى القول الأول يمسحهما أو يدلكهما بالأرض ويصلي فيهما إلا أن الحنفية يشترطون زوال عين النجاسة ورائحتها، وعلى القول الثاني لا بد من غسلهما، وعلى القول الثالث لا بد من غسلهما أيضاً؛ لأن النجاسة غائط وهي مغلظة، ولو كانت غير مغلظة لكفى الدلك.
- لو أراد إنسان أن يصلي وعنده ثوب تنجس بروث الإبل وآخر تنجس ببول الإنسان، وقد نظفهما بالبخار، فعلى القول الأول يصلي في أيهما شاء ولا شيء عليه، وعلى الثاني لا يصلي فيهما؛ لأنه لم يغسلهما، وعلى الثالث يصلي في الأول لأن النجاسة ليست مغلظة فيكفي الدلك وما ينوبه من المزيلات، والتنظيف بالبخار منها، ولا يصلي في الثاني؛ لأن النجاسة مغلظة فلا بد من غسلها.
(1)
مواهب الجليل، 1/ 154.
(2)
مجموع فتاوى ورسائل (ابن العثيمين)، 11/ 87.
المبحث الثاني: في مسائل الصلاة
المطلب الأول: وقت صلاة المغرب:
هذه المسألة ترد في كتب الحنفية في كتاب الصلاة تحت باب أوقاتها، فيذكرون أولاً صلاة الظهر ثم العصر ثم المغرب، ويقولون: إن وقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق، وهو الحمرة عند الصاحبين، وعند أبي حنيفة هو البياض
(1)
، وروي ما يوافق قولهما
(2)
، وعليه الفتوى
(3)
.
فهو اتفاق الأئمة الثلاثة في المذهب، وعلى فرض وجود الخلاف بين الإمام وصاحبيه فيقدم قولهما وفق قواعد الترجيح في حالة وجود الضرورة أو الموجب، وبعض العلماء تطرق لذلك فقال إن قولهما أوسع للناس، وقوله أحوط
(4)
؛ لأن الحمرة قبل البياض
(5)
.
(1)
المبسوط، 1/ 144، شرح الوقاية للمحبوبي، 2/ 105 - 106، ونسبه السرخسي إلى أبي بكر وعائشة، وأنه إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين-.
(2)
الأصل، 1/ 145، المبسوط، 1/ 144، وذكر أنه قول عمر وعلي وابن مسعود ورواية ثانية عن ابن عباس رضي الله عنهم، وهي رواية عن أبي حنيفة رواها أسد بن عمرو رحمهم الله، واللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 165.
(3)
شرح الوقاية للمحبوبي، 2/ 105، تبيين الحقائق، 1/ 80. قلت: ويؤيده قول اللغويين: إن أصل الكلمة يدل على الرقة، سُمي الشفق بالحمرة للونها ورقتها. (ينظر: العين، 5/ 45، مقاييس اللغة، 3/ 198).
(4)
الجوهرة النيرة، 1/ 42.
(5)
المبسوط، 1/ 144.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن وقت صلاة المغرب يبدأ حين تغرب الشمس (تمامًا)
(1)
(2)
، واختلفوا في نهايته
(3)
، على قولين:
القول الأول: ليس للمغرب إلا وقت واحد مقدر بفعله، فإذا مضى بعد غروب الشمس مقدار ما يصلى فيه ثلاث ركعات خرج وقت المغرب، وهو الأشهر عند المالكية
(4)
، وقول الشافعي في الجديد
(5)
.
القول الثاني: وقت المغرب ينتهي بغياب الشفق، وهو الحمرة، وهو قول الحنفية –كما سبق-، وقول عند المالكية
(6)
، وقول الشافعي في القديم
(7)
، وقول الحنابلة
(8)
.
(1)
مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله، ص:52.
(2)
تحفة الفقهاء، ص: 101، بدائع الصنائع، 1/ 123، المغني، 1/ 276.
(3)
وسبب اختلافهم معارضة حديث إمامة جبريل لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه، (ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 130) وسيأتي عند ذكر الأدلة.
(4)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 191، التاج والإكليل، 2/ 23.
(5)
الأم، 1/ 92، الحاوي الكبير، 2/ 19، نهاية المطلب، 2/ 14، الغاية والتقريب، ص: 8، وقال:"والمغرب ووقتها واحد وهو غروب الشمس وبمقدار ما يؤذن ويتوضأ ويستر العورة ويقيم الصلاة ويصلي خمس ركعات". قلت: وفيه توضيح للمراد من أن المغرب ليس له إلا وقت واحد مقدر بفعل الصلاة ومقدماتها.
(6)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 225، ونصره في الذخيرة، 2/ 15، بل جاء في الموطأ ما يفيد أن البياض ليس من الشفق أصلاً. (ينظر: موطأ مالك، 1/ 149).
(7)
نهاية المطلب، 2/ 14، الحاوي الكبير، 2/ 20، وقد اختلفوا في ذلك، فمنهم من أنكر ذلك، ومنهم من أثبته قولاً ثانياً.
(8)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 189، المغني، 1/ 276، الشرح الكبير، 1/ 438، الإنصاف، 1/ 434، وقال إنه مذهب. وعنه أنه فرق بين السفر والحضر، ففي السفر حمرة، وفي الحضر البياض. (ينظر: مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، ص: 42، الإنصاف، 1/ 434، وفي مخصر الخرقي أنه لا يستحب تأخير المغرب إلى أن يغيب الشفق، ص: 19).
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن المغرب ليس له إلا وقت واحد بحديث إمامة جبريل –عليه السلام، وفيه:"ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم"، وفي اليوم الثاني:" ثم صلى المغرب لوقته الأول"
(1)
.
وجه الدلالة: كونه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد، مما يدل على أن وقته واحد.
نوقش بأنه محمول على بيان استحباب الأداء، وليس وقت الإدراك
(2)
.
ونوقش أيضاً أنه جاء ليعلمه المباح من الأوقات؛ لأنه لم يؤخر العصر إلى الغروب مع بقاء الوقت إليه، وكذا لم يؤخر العشاء إلى ما بعد ثلث الليل وإن كان بعده وقت العشاء بالإجماع
(3)
.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن وقت المغرب ينتهي مع غياب الشفق (الحمرة) بما روي عن ابن عمرو بن العاص –رضي الله عنه عن النبي –صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق"
(4)
(5)
.
وفي الرواية: "فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق"
(6)
.
(1)
أخرجه الترمذي، 1/ 278، أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي –صلى الله عليه وسلم، رقم حديث: 149، من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما، ونحوه من طريق جابر، وقال الترمذي:"حديث ابن عباس حسن، أصح شيء في المواقيت حديث جابر".
وقد صحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ص: 1/ 156.
(2)
المبسوط، 1/ 144.
(3)
بدائع الصنائع، 1/ 123 - 124.
(4)
مسلم، 1/ 427، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، رقم حديث:173.
(5)
بدائع الصنائع، 1/ 123.
(6)
أخرجه مسلم،/ 426، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، رقم حديث: 171، وكذا حديث رقم: 173، 178.
وجه الدلالة: في الحديثين نص على أن وقت المغرب يمتد إلى حين غياب الشفق، وهو الحمرة. ولفظ (يسقط) في الحديث الثاني يدل على أن الشفق يغيب سريعاً، والله أعلم.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني أقرب إلى الصواب؛ لقوة دليله وورود المناقشة على دليل القول الأول، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو أن إنساناً سمع أذان المغرب ثم توضأ وجهز نفسه للصلاة ثم صلى فصلاته صحيحة على القولين.
- ولو أخرها قليلاً بشرب القهوة أم برد على الهاتف وما إلى ذلك من الأعمال التي ليست من الصلاة ولا من مقدماتها، فإن صلاها بعد ذلك فصلاته قضاء لا أداء على القول الأول، وعلى القول الثاني قد صلاها في وقتها؛ لأن الشفق لم يغب بعد.
المطلب الثاني: السجود على الأنف دون الجبهة:
ورد في هذه المسألة خلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله؛
فالقول الأول: إن السجود على الأنف دون الجبهة جائز عند الإمام مع الكراهة
(1)
، لكن رواية أسد بن عمرو
(2)
عن الإمام توافِق قول الصاحبين الآتي
(3)
.
والقول الثاني: إنه لا يجوز السجود على الأنف دون الجبهة، وهو قول صاحبيه
(4)
، وعليه فقول المذهب هو عدم جواز السجود على الأنف دون الجبهة
(5)
، وعليه الفتوى
(6)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن السجود يكون على سبعة أعضاء، ومنها الوجه، واتفقوا أيضا على أن من سجد على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه
(7)
.
واختلفوا في السجود على أحدهما
(8)
.
(1)
ولذلك يذكرونها في كتاب الصلاة تحت باب مكروهاتها كما في المبسوط، 1/ 34.
(2)
أَسد بن عَمْرو بن عَامر بن عبد الله بن عَمْرو بن عَامر بن أسلم. صاحب الإمام، وأحد الأعلام. سمع أبا حنيفة رحمه الله وتفقه عليه، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ووثقه يحيى بن معين رحمه الله. وهو من الأوائل الذين كتبوا كتب أبي حنيفة رحمه الله. مات سنة ثمان وثمانين ومائة، وقيل: سنة تسعين ومائة. ينظر: الجواهر المضية، 1/ 141، الفوائد البهية، ص: 44 - 45.
(3)
المبسوط، 1/ 34، العناية، 1/ 303.
(4)
مختصر القدوري، ص:27.
(5)
الهداية، 1/ 51، وعلَّقه بعدم العذر، وكذا في الاختيار، 1/ 51، وذكر الإجماع على جواز الاقتصار على الجبهة دون الأنف، العناية، 1/ 303.
(6)
مجمع البحرين وملتقى النيرين، ص:124.
(7)
ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 147.
(8)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 147، وذكر أن سببه اختلافهم فيما يتناوله اسم الوجه.
فإن كان الاقتصار على الجبهة دون الأنف فقد سجد على وجهه كذلك، وإن كان الاقتصار على الأنف دون الجبهة فلا خلاف؛ لأنه لم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة –رحمه الله
(1)
، وصاحباه على خلاف ذلك، وله رواية أخرى توافق قولهما
(2)
.
فعلى كل الاحتمالات لا يوجد خلاف بين المذاهب، لأن الفتوى على قول الصاحبين لو لم يرو عن أبي حنيفة موافقة قولهما، فكيف إذا رُوي ذلك؟
وعليه فإن السجود على الأنف دون الجبهة لا يجوز، والمسألة متفق عليها بين المذاهب الأربعة
(3)
.
أدلة المسألة:
استدل العلماء على عدم جواز السجود على الأنف دون الجبهة بأدلة، من أبرزها:
(1)
وذكر ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري أنه قول أبي حنيفة وجزم، ثم ذكر أنه رُوي مثله عن طاوس وابن سيرين –كذا بصيغة التمريض-. (ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال، 2/ 431).
(2)
وقد سبق ذكر الأقوال في المذهب الحنفي.
(3)
أما الحنفية فقد سبق. وأما المالكية ففي المدونة، 1/ 167، وقد جوز الاقتصار على الجبهة دون الأنف كما في بداية المجتهد، 1/ 147، الذخيرة، 2/ 193، وينصون على بطلان الصلاة، وكذا في التاج والإكليل، 2/ 216. وأما الشافعية ففي الأم، 1/ 136، نهاية المطلب في دراية المذهب، 2/ 176، وبعضهم قالوا بأن السجود على الأنف سنة مع الجبهة. (ينظر: حاشيتا قليوبي وعميرة، 1/ 183). وأما الحنابلة ففي الإنصاف، 2/ 67، قولاً واحداً مع القدرة، الشرح الكبير، 1/ 660، وقال بسنية السجود على الأنف مع الجبهة، فيستفاد منه عدم جواز الاقتصار عليه، وإلا لم يتحقق الواجب –كما سبق-. قلت: ويؤيده الإجماع المنقول عن ابن المنذر في كثير من الكتب، مثل: فتح الباري لابن حجر، 2/ 296، ونيل الأوطار، 2/ 299، وعون المعبود (مع حاشية ابن القيم)، 3/ 114، لكن لم أجده في مظانه من كتب ابن المنذر، بل قال في الأوسط ما يخالف ذلك:"ذكر اختلاف أهل العلم في الساجد على الجبهة دون الأنف، وعلى الأنف دون الجبهة"، فأثبت وجود الخلاف في مسألة الاقتصار على الأنف دون الجبهة، ويظهر أنه يحمل على قول أبي حنيفة –رحمه الله المرجوع عنه؛ لأنه لم يذكر غيره عند ذكر تفاصيل المسألة. (ينظر: الأوسط، 3/ 174).
الدليل الأول: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة، وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين، وأطراف القدمين"
(1)
، وعدَّ منها الجبهة.
وجه الدلالة: لو كان الأنف محلاً للسجود لذكره وعدّه
(2)
، وإنما أشار إليه من باب التبعية للجبهة
(3)
.
الدليل الثاني: قد يستدل بأن المقصود بالسجود التذلل والخضوع، وذلك لا يتحقق إلا بالجمع بين الجبهة والأنف.
الدليل الثالث: لم يثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الأنف صريحاً لا بفعل ولا بقول
(4)
.
وعلى فرض وجود الخلاف فإن له ثمرات علمية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو سجد المصلي على الجبهة دون الأنف فصلاته صحيحة على الخلاف في المسألة، ولو اقتصر على الأنف دون الجبهة فصلاته باطلة بالاتفاق، ولو سجد على الجبهة والأنف معاً فصلاته صحيح بالإجماع.
- لو أن إنساناً سجد على الأنف دون الجبهة فإنه لا تشترط طهارة موضع الأنف؛ لأنه أقل من الدرهم عند من يجوِّز مثل هذا السجود
(5)
، بخلاف من يقول بالجمع بين الجبهة والأنف، فإنه كله موضع الوجه فلا بد من طهارته.
(1)
أخرجه البخاري، 1/ 162، كتاب الأذان، باب السجود على الأنف، رقم حديث: 812، ويؤيده حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه القادم، وفيه:"حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله –صلى الله عليه وسلم وأرنبته"، رقمه:813.
ومسلم، 1/ 354، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، رقم حديث:230.
(2)
تبيين الحقائق، 1/ 117.
(3)
شرح صحيح البخاري لابن بطال، 2/ 432.
(4)
المجموع، 3/ 425.
(5)
رد المحتار، 1/ 403.
المطلب الثالث: وقت ابتداء التكبير وانتهائه في أيام عيد الأضحى
وقت تكبير التشريق في كتب الحنفية من المسائل التي ترد في كتاب الصلاة تحت باب صلاة العيدين
(1)
، فيقولون: إنه واجب عقيب الصلوات المفروضة في جماعات الرجال المقيمين بالأمصار
(2)
، واختلفوا في وقته على قولين:
القول الأول: وقته من عقيب صلاة الفجر يوم عرفة بالاتفاق
(3)
إلى عقيب صلاة العصر أول أيام النحر أي ثمان صلوات؛ لأن الأصل فيه الإخفاء، فالمصير إلى الأقل جهراً أولى
(4)
(5)
.
والقول الثاني: إلى عصر آخر يوم التشريق أي ثلاث وعشرون صلاة؛ لأن التكبير من العبادة، والاحتياط فيها الوجوب
(6)
، وهو قول الصاحبين، والفتوى على ذلك
(7)
.
وسلف الحنفية لا يخرجون عما ورد من اختلاف الصحابة في ذلك، ويخيِّرون في الأخذ بأحد القولين، وأن كله حسن
(8)
.
(1)
مختصر القدوري، ص:42.
(2)
الاختيار، 1/ 88.
(3)
اللباب في شرح الكتاب، 1/ 118، إلا أن صاحب البدائع ذكر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في ابتداء التكبير، لكن اتفق كبارهم نحو عمر وعلي وابن مسعود على البداية بصلاة الفجر من يوم عرفة. (ينظر: بدائع الصنائع، 1/ 195).
(4)
الاختيار، 1/ 88.
(5)
وإن قيل: إن التكبير على قول أبي حنيفة رحمه الله يتم قبل أيام التشريق حقيقة، فيقال: إنه سمي بذلك لقربه من أيام التشريق، والشيء إذا قرب من الشيء سمي باسمه. (ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 95).
(6)
فأخذوا بالأكثر؛ لأن التكبير فيما لم يجب أولى من أن يترك فيما قد وجب.
(7)
مختصر القدوري، ص: 42، ولم يرجح، الاختيار، 1/ 88، تبيين الحقائق، 1/ 227، وذكر أن أوله عقيب صلاة الفجر من يوم عرفة على قول عمر وعلي وابن مسعود، وأما آخره فعقيب صلاة العصر من يوم النحر على قول ابن مسعود، وعلى قول عمر وعلي عقيب صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وعليه بني الخلاف بينهما، وقرر أن الصاحبين أخذا بالثاني؛ لأنه أكثر، الجوهرة النيرة، 1/ 95، شرح الوقاية، 2/ 185.
(8)
الأصل، 1/ 348.
والمتأخرون أخذوا بقول الصاحبين، وعليه العمل
(1)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء في ابتداء تكبير التشريق وانتهائه على ثلاثة أقوال
(2)
:
القول الأول: وقت تكبير التشريق من عقيب صلاة الفجر يوم عرفة إلى عقيب صلاة العصر آخر يوم التشريق، وبه قال الحنفية على الراجح –كما سبق-، وهو قول عند المالكية في الانتهاء
(3)
، والقول الأظهر عند الشافعية
(4)
، وقول عند الحنابلة
(5)
.
القول الثاني: وقته من دبر صلاة الظهر من يوم النحر، وآخره دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهو قول مالك على المشهور
(6)
، والشافعي
(7)
، ورواية عن أحمد
(8)
.
القول الثالث: وقته من بعد غروب الشمس من ليلة العيد، وآخره دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهو قول عند الشافعي
(9)
.
(1)
مجمع الأنهر، 1/ 176، رد المحتار، 2/ 180.
(2)
وسبب اختلافهم اختلاف الروايات الواردة عن الصحابة، كبارهم وصغارهم في ذلك، ولأن المنقول عمل وليس قولاً محدوداً، فلما اختلف الصحابة في ذلك اختلف من بعدهم. (ينظر: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 1/ 232).
(3)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 265.
(4)
اللباب في الفقه الشافعي، ص: 132، وهو أظهر عند المحققين للحديث كما في روضة الطالبين، 2/ 80.
(5)
مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله، ص: 129، رقم: 476، مختصر الخرقي، ص: 33، الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 343.
(6)
المدونة، 1/ 249، الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 265، الذخيرة، 2/ 426، شرح مختصر خليل للخرشي، 2/ 104، الحاوي الكبير، 2/ 498.
(7)
الأم، 1/ 275، مختصر المزني (مطبوع ملحقاً بالأم)، 8/ 126.
(8)
المقنع في شرح المقنع، 2/ 194.
(9)
المجموع، 5/ 31.
والأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن وقت تكبير التشريق يبدأ من بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى عقيب صلاة العصر آخر أيام التشريق بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203].
وجه الدلالة: أيام معدودات هي أيام التشريق، فينبغي أن يكون التكبير فيها مشروعاً
(1)
.
ولأن الله تعالى أمر بالذكر فيها أي أيام معدودات؛ وهي أيام يُرمى فيها، فأشبهت يوم النحر
(2)
.
الدليل الثاني: حديث جابر –رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة يقبل على أصحابه فيقول: "على مكانكم"، ويقول:"الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، فيكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق
(3)
.
وجه الدلالة: حديث نص في ابتداء تكبير التشريق وانتهائه.
نوقش بأنه ضعيف -كما سبق في تخريجه-، فلا يعتمد عليه.
(1)
بدائع الصنائع، 1/ 196، المبسوط، 2/ 43، وكذا الدليل الرابع والخامس، وجاء في العناية، 2/ 81، نقلاً عن الخلاصة:"أن أيام النحر ثلاثة وأيام التشريق ثلاثة ويمضي ذلك في أربعة أيام، فإن العاشر من ذي الحجة نحر خاص، والثالث عشر تشريق خاص، واليومان فيما بينهما للنحر والتشريق".
(2)
المبدع في شرح المقنع، 2/ 194، وفي كتب الحنفية:"ولأن التكبير شرع لتعظيم أمر المناسك، وأمر المناسك إنما ينتهي بالرمي فيمتد بالتكبير إلى آخر وقت الرمي". (بدائع الصنائع، 1/ 196).
وهما متقاربان.
(3)
أخرجه الدارقطني بمعناه، 2/ 390، كتاب العيدين، رقم حديث: 1737، وضعَّفه الذهبي في تنقيح التحقيق، ص: 291، وضعَّفه ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف، 1/ 513، وكذا الألباني في الإرواء، 3/ 124.
الدليل الثالث: ما روي عن الصحابة –رضي الله عنهم أنهم كانوا يكبرون بعد صلاة الصبح إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وأصح ما فيه رواية علي –رضي الله عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق
(1)
.
الدليل الرابع: أمرنا بإكثار الذكر، وهذا يتحقق في الأكثر.
الدليل الخامس: لأن يكبر ما لم يجب أولى من أن يترك ما وجب
(2)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن وقت تكبير التشريق يمتد من دبر صلاة الظهر يوم النحر إلى دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200]، وهو في الابتداء.
وجه الدلالة: والفاء للتعقيب وقضاء المناسك وقت الضحى من يوم النحر فينبغي أن يكون التكبير عقيبه.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، 1/ 488، كتاب الصلوات، كتاب صلاة العيدين، التكبير من أي يوم هو إلى أي ساعة، رقم: 5632، وصححه أحمد في مسائله برواية ابنه (ص: 129، رقم: 477)، وقد صححه الألباني في الإرواء، 3/ 125، وكذا فيما صح من آثار الصحابة، 1/ 502، اعتضاداً. ونُقل عن الإمام أحمد أنه اعتبره إجماعاً عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود –رضي الله عنهم. (ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 343).
(2)
وهو الاحتياط؛ لأن الصحابة –رضي الله عنهم اختلفوا فيه كما في بدائع الصنائع، 1/ 196.
وقد يناقش في أصل معنى الذكر المذكور في الآية، ففي تفسير الطبري
(1)
(2)
أن له معنى عام وهو الطاعة والعبادة لله، ومعنى خاص وهو التكبير، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال.
الدليل الثاني: الناس تبع للحاج، وآخر صلاة يصليها الحاج بمنى صلاة الصبح ثم يخرج، وهو في انتهاء
(3)
.
يناقش بأن الناس ليسوا تبعاً للحجيج في كل شيء، فقياس بقية الناس على الحجيج قياس مع الفارق.
دليل القول الثالث:
استدل القائلون بأن وقت تكبير التشريق يبتدأ مع غروب الشمس من ليلة العيد قياساً على عيد الفطر، وعلى انتهائه كون الناس تبعًا للحاج، وصلاة الصبح هي آخر صلاة يصليها الحاج بمنى، وقد سبق.
ويناقش بما ورد من الصحابة من الآثار المخالفة، وأن قياس الناس على الحجيج قياس مع الفارق –كما سبق-.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وسبب اختلافها وأدلة كل قول يظهر أن القول الأول أظهر؛ لقوة دليله، ولورود المناقشة على أدلة القولين الآخرين، وعليه كبار الصحابة، وهو أظهر عند المحققين للحديث.
والخلاف في المسألة له ثمرات عملية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
(1)
محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر، من مشاهير المؤرخين والمفسرين وأئمة العلماء، ولد في آمل طبرستان، وبها نشأ وحفظ القرآن صغيرًا، ثم رحل في طلب العلم، فسمع بالري وبغداد والبصرة والكوفة والشام ومصر، وعاد فاستوطن بغداد، واعتنق المذهب الشافعي، وعارض الحنابلة، وأسَّس مذهب "الجريرية" في الفقه، وهو فرع من الشافعية، فلم يعمر طويلاً. من كتبه جامع البيان في تفسير القرآن، ويعرف بتفسير الطبري، طبع في 30 جزءًا، وهو أوسع كتاب وصلنا في التفسير بالمأثور. ينظر: طبقات المفسرين للسيوطي، ص: 95، معجم المفسرين، 2/ 508.
(2)
ينظر: تفسير الطبري، 3/ 540.
(3)
المجموع، 5/ 31، وقد ذكرهما مع وجه دلالة الثاني.
- لو بدأ شخص بتكبير التشريق ليلة العيد لم يكن مشروعاً إلا على القول الثالث.
- ولو أنهاه بعد صلاة الصبح آخر أيام التشريق فقد وافق وقته على القول الثاني والثالث، بخلاف الأول.
- لو بدأ شخص بتكبير التشريق عقيب صلاة الفجر يوم النحر فقد تأخر به على القول الأول والثالث بخلاف الثاني، ولو أنهاه عقيب صلاة العصر آخر أيام التشريق فقد أخرجه عن وقته على القول الثاني والثالث بخلاف الأول.
المبحث الثالث: الاحتيال لإسقاط الزكاة
هذه المسألة من المسائل المشكلة الشائكة، وقد ذكرها صاحب الوقاية في كتاب الشفعة تحت باب ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب، ونصها:"ولا يكره حيلة إسقاط الشفعة والزكاة عند أبي يوسف رحمه الله، وبه يفتى في الشفعة، وبضده في الزكاة"
(1)
، وقد نص على أن الفتوى عليها.
جاء في الوقاية: "اعلم أن حيلة إسقاطهما لا يكره عند أبي يوسف رحمه الله، ويكره عند محمد رحمه الله، ويفتى في الشفعة بقول أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه منع عن وجوب الحق لا إسقاط للحق الثابت، وهكذا يقول في الزكاة، لكن هذا في غاية الشناعة؛ لأنه إيثار للبخل، وقطع رزق الفقراء الذين قدره الله تعالى في مال الأغنياء، والانخراط في سلك الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، والاستبشار بما بشرهم الله تعالى"
(2)
.
ومن العلماء من تطرق إلى هذه المسألة وحمل قول أبي يوسف رحمه الله على أن الخلاف في إسقاط الزكاة بالحيلة قبل مضي الحول
(3)
؛ لأنه "امتناع من التزام الحق مخافة أن لا يخرج منه إذا التزمه فلا يكون مكروهاً كمن امتنع من جمع المال حتى لا يلزمه حج أو زكاة؛ وهذا لأن المذموم منع الحق الواجب وليس في هذا الاستبدال من منع الحق الواجب شيء"
(4)
، ويؤيده قولهم "إن الحيلة في إسقاط الشفعة قبل وجوبها لا تكره، والحيلة في إسقاط الزكاة على هذا"
(5)
.
(1)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 63.
(2)
المرجع السابق.
(3)
تحفة الفقهاء، 3/ 61،
(4)
تعليل نسبه السرخسي لأبي يوسف في المبسوط، 2/ 167
(5)
الاختيار، 2/ 48، وكذا في العناية، 9/ 421 - 422.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله مثله
(1)
.
ومن الأمثلة على ذلك:
(1)
الأصل (2/ 58): " قلت: أرأيت الرجل يكون له الإبل، فإذا خاف أن تجب عليها الصدقة باعها قبل ذلك بيوم بغنم أو بقر أو دراهم، يريد بذلك الفرار من الصدقة؟ قال: ليس عليه صدقة حتى يحول عليها الحول وهي عنده. قلت: فإن باع الإبل بإبل قبل أن تجب عليه فيها صدقة يريد بذلك الفرار من الصدقة؟ قال: ليس عليه صدقة حتى يحول الحول على ما بقي في يديه
…
قلت: فإن باعها ولا ينوي الفرار من الصدقة؟ قال: ليس عليه صدقة حتى يحول الحول على ما في يديه"، فلم يذكر مأخذ القول، ولم يفرق بين من يفر من الزكاة وغيره، وإنما كان نظره إلى ثبوت الوجوب، فإن ما لا يتم به الوجوب (وليس الواجب) فليس بواجب مطلقاً إجماعاً، كما في تحرير المنقول (ص: 111)، فالزكاة لا تجب إلا إذا اجتمعت ثلاثة أمور: السبب وهو النصاب، والشرط وهو مضي الحول، وانتفاء المانع وهو الدين وقت الوجوب. وفي هذه المسألة وُجد السبب قبل تحقق الشرط، ثم أُزيل السبب ثم تحقق الشرط وانتفى المانع، فلم تجتمع الأمور كلها، وعليه فلا زكاة عليه تخريجاً لقوله.
لكن ربط المسألة بقاعدة ما لا يتم به الوجوب فليس بواجب مطلقاً فيه نظر؛ لأن القاعدة فيمن يسعى لتحقيق الشرط ابتداءً، والمسألة في إزالة الشرط بعد تحققه عمداً وقبل اجتماعه مع السبب. وكذا يقال في التحايل لإسقاط الحج، فمن تجمعت عنده أموال تجعله مستطيعاً للقيام بفريضة الحج ثم صرفها في شراء سكن أو تزوج ونحوه قبل أشهر الحج، فلا حج عليه؛ لأنه لم يجتمع شرط وجوبه مع سببه وهو دخول أشهر الحج. ونكتة المسألة في إزالة سبب الحكم عمداً وغرضاً أي بنية، وأما زواله بلا اختيار ولا نية، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. فمن راعى هذا الأمر حرم التحايل لإسقاط الزكاة ديانةً، ومن لم يراعه ولم ير فيه بأساً ولا أثراً أمضاه حكماً وقضاءً لا ديانة، والله أعلم. ثم اطلعت على كلام الشاطبي رحمه الله عن الحيل وموقف الإمام أبي حنيفة رحمه الله منها، فقال:"ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة، فإنه اعتبر المآل أيضًا، لكن على حكم الانفراد، فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة، كإنفاق المال عند رأس الحول، وأداء الدين منه، وشراء العروض به، وغيرها مما لا تجب فيه زكاة، وهذا الإبطال صحيح جائز؛ لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق، لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم، فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع؛ لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة، فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحًا ممنوع، وأما إبطالها ضمنا، فلا، وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقًا، ولا يقول بهذا واحد منهم. " ينظر: الموافقات، 5/ 188. قلت: ويخالفه ما جاء في الأصل -كما سبق- من التصريح بالفرار من الصدقة، لكن لو قيل بوجود احتمال أنه كان من المسائل الافتراضية التي لم تقع بعد، فلم يلتفت إلى ذلك، لكنه احتمال ضعيف؛ لأن الفرار من الزكاة معروف من الزمن الأول.
- "لو وهب النصاب في خلال الحول ثم تم الحول عند الموهوب له ثم رجع الواهب بقضاء، أو غيره فلا زكاة على واحد منهما"
(1)
.
- شخص لديه مليون ريال أوشك أن يحول عليه الحول فيقوم بشراء عمارة سكنية ثم بعد فترة وجيزة ببيعها ليستأنف حولاً.
- امرأة لها حلي معد للاستعمال وهبته لابنتها قبل تمام الحول، ثم تسترجعه فيما بعد؛ لتستأنف حولاً.
- شخص له أرض ينوي بها التجارة ثم يغير نيبته قبل تمام الحول فيجعلها للبناء والسكن.
- شخص لديه نصاب ماشية فقام فذبح بعضها وادخر لحمها قبل تمام الحول بنية نقصانها دون النصاب.
وتعقَّب بعض العلماء وقالوا: إنه رجع عن قوله في آخر أمره، وقال:"لا يحتال في إسقاط الزكاة ولا جزء منها"، وذلك في رسالته إلى هارون الرشيد
(2)
.
مع أن قول محمد أقوى من قول أبي يوسف -رحمهما الله-، والمكروه عنده أي محمد حرام
(3)
، وعليه فلا خلاف بين الصاحبين على أن التحايل لإسقاط الزكاة أمر محرم في دين الله.
(1)
البحر الرائق، 2/ 236، وفي رد المحتار قريب من ذلك، 2/ 284، 2/ 308، والغريب أنه ينقل من كتاب الخراج لأبي يوسف (4/ 178) ولم ينقل كلامه عن تحريم التحايل لإسقاط الزكاة.
(2)
التنبيه على مشكلات الهداية، 5/ 699، ويقصد من ذلك كتاب الخراج له، ص:93.
(3)
المرجع السابق، 5/ 697.
وقد سبق في قواعد الترجيح الأغلبية في المذهب الحنفي أن قول أبي يوسف مقدم في مسائل القضاء، ومسألة التحايل على الزكاة من المسائل التي يمكن حملها على أن المراد من قوله:(لا يكره) هو تنفيذ الحيلة قضاءً
(1)
، وأما الديانة فقد جاء عنه في كتاب الخراج ما نصه:"لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر منع الصدقة ولا إخراجها من ملكه إلى ملك جماعة غيره ليفرقها بذلك؛ فتبطل الصدقة عنها بأن يصير لكل واحد منهم من الإبل والبقر والغنم ما لا يجب فيه الصدقة، ولا يحتال في إبطال الصدقة بوجه ولا سبب"
(2)
، وكذا يمكن حمل قول أبي حنيفة رحمه الله، فيصير اتفاقهم على تحريم التحايل ديانة، واختلافهم في حكمه قضاء، وقد رجع أبو يوسف عن قوله، ووافق قول محمد، والذي يقدم هنا هو قول الصاحبين بأن التحايل لإسقاط الزكاة محرم مطلقاً.
والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
بعد الاطلاع على مذاهب الفقهاء في هذه المسألة تبين لي أنه لا خلاف بينهم في أن التحايل لإسقاط الزكاة أمر لا يجوز، وعليه الحنفية -كما سبق- على القول المفتى به، والمالكية قالوا بتحريم أي فعل غرضه الفرار من الزكاة، والفرار منها إسقاطها
(3)
، والشافعية قالوا بكراهة ذلك كراهة تنزيه
(4)
، وقيل: الحرام
(5)
، وهو قول الحنابلة.
(6)
(1)
وعليه يحمل قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله كما سبق.
(2)
الخراج، ص:93.
(3)
شرح مختصر خليل للخرشي، 2/ 166، التاج والإكليل، 3/ 95، حاشية الدسوقي، 1/ 440، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 2/ 200.
(4)
روضة الطالبين، 2/ 190، المجموع، 5/ 364، مغني المحتاج، 2/ 78، وقال بعضهم إن الكراهة عند الشافعي تكون للتحريم. (ينظر: المستصفى، ص: 53).
(5)
المجموع، 5/ 364، حاشيتا قليوبي وعميرة، 2/ 18.
(6)
كشاف القناع، 5/ 321، المبدع في شرح المقنع، 2/ 305.
أدلة المسألة:
الدليل الأول: قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} [القلم: 17 - 20].
وجه الدلالة: جاء في تفسير الآية
(1)
أن الله سبحانه وتعالى عاقبهم بذلك؛ لفرارهم من الزكاة
(2)
.
الدليل الثاني: يمكن أن يُستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"
(3)
.
وجه الدلالة: كون الأمور بمقاصدها
(4)
، وكذا قصد الفارّ من الزكاة بالحيل.
الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"
(5)
.
وجه الدلالة: الحديث نص على تحريم الحيل لاستحلال محارم الله، وكذا المتحايل لإسقاط الزكاة بالحيل.
قد يناقش بأن الحديث فيمن يتحايل على الأحكام الثابتة الواجبة، والمسألة في التحايل لإسقاط ثبوت الأحكام أو منعها.
(1)
تفسير ابن كثير، 8/ 194 - 195.
(2)
المبدع في شرح المقنع، 2/ 305، وقد ذكر الدليل ووجهه.
(3)
أخرجه البخاري، 1/ 6، بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم حديث: 1، ومسلم، 3/ 1515، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الأعمال بالنية"، رقم حديث:1907.
(4)
الأشباه والنظائر للسيوطي، ص:8.
(5)
إبطال الحيل، ص: 46 - 47، وحسن إسناده ابن تيمية في الفتاوى الكبرى، 4/ 20، وابن القيم في حاشيته على عون المعبود، 9/ 244، وقال إن إسناده مما يصحِّحه الترمذي.
الدليل الرابع: قياس الفار من الزكاة على المطلق في مرض موته؛ لأنه يقصد به إسقاط حق غيره
(1)
.
وثمرة المسألة عدم جواز التحايل لإسقاط الزكاة أو الفرار منها، ولو فعلها شخص فإن الزكاة لا تسقط عنه، ولو نفذت الحيلة قضاءً.
(1)
المبدع في شرح المقنع، 2/ 305.
المبحث الرابع: محرم قتل صيداً في يد محرم آخر
وردت هذه المسألة في المبسوط في كتاب المناسك تحت باب جزاء الصيد، وقد ذكر محرماً قتل صيداً في يد محرم آخر، وأن على كل واحد منهما جزاؤه؛ فأما القاتل فلأنه جنى على إحرامه بقتل الصيد، وأما الآخذ فلأنه كان متلفاً لمعنى الصيدية فيه حكماً بإثبات يده، ثم يرجع الآخذ بما ضمن من الجزاء على القاتل
(1)
، وعند زفر رحمه الله لا يرجع عليه بشيء؛ لأن الآخذ لم يملك الصيد، ولا كانت له فيه يد محترمة، ووجوب الضمان له على القاتل باعتبار أحد هذين المعنيين، وعليه الفتوى
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في محرم قتل صيداً في يد محرم آخر؛ هل جزاؤه على القاتل دون الآخذ أم عليهما معاً؟
وإذا كان عليهما معاً هل يرجع الآخذ على القاتل أم لا؟
وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا قتل محرم صيداً في يد محرم آخر فعلى كل واحد منهما الجزاء كاملاً، والآخذ لا يرجع على القاتل، وهو قول الحنفية -كما سبق-.
وقول المالكية إذا كانت نية الآخذ أن يمسك الصيد ليقتله الآخر
(3)
.
ورواية عن الإمام أحمد.
(4)
القول الثاني: يجب الجزاء كله على القاتل وحده.
وهو القول الأصح عند الشافعية
(5)
.
(1)
الأصل، 2/ 433، بداية المبتدي، ص: 53، العناية، 3/ 100، كنز الدقائق، ص:242.
(2)
المبسوط، 4/ 89.
(3)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 616، التاج والإكليل، 4/ 260.
(4)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 492، المغني، 3/ 451.
(5)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 4/ 248، المجموع، 7/ 437.
القول الثالث: يجب الجزاء بينهما نصفين، وهي أصح الروايات عن أحمد
(1)
.
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن الجزاء على القاتل والآخذ معاً بأدلة، منها:
الدليل الأول:
دليل وجوب الجزاء عليهما: لأن الآخذ متعرض للصيد بأخذه، والقاتل متعرض له بقتله.
ودليل رجوع الآخذ على القاتل: لأن الآخذ متمكن من الإرسال والقاتل مقرر بقتل ما كان على شرف الزوال، والتقرير كالابتداء في حق التضمين، فيضمن كشهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا، حيث يرجع الزوج بما ضمنه من نصف المهر عليهم
(2)
.
قد يناقش بأن الآخذ يأخذه لأسباب غير القتل، فلا يضمن ابتداءً.
الدليل الثاني: أي دليل عدم رجوع الآخذ على القاتل؛ وهو كون الآخذ لم يكن يملك الصيد، ولا كانت له فيه يد محترمة، ووجوب الضمان له على القاتل يرجع إلى أحد هذين الاعتبارين، ولم يكن كذلك، فعلى ذلك لا يرجع، ويبقى الضمان عليه؛ لأنه جزاء في مقابل صنعه
(3)
.
يُناقش بما ورد في الشق الثاني من الدليل الأول السابق ذكره بأنه متمكن من الإرسال، ولم يفعله.
(1)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 492، المغني، 3/ 451، والثانية: على كل واحد جزاء، والثالثة: إن كان صومًا صام كل واحد صومًا تامًّا، وإن كان غير ذلك فجزاء واحد، وإن كان على أحدهما هدي والآخر صوم، فعلى المهدي بحصته، وعلى الآخر صوم تام.
(2)
الهداية، 1/ 171، فتح باب العناية، 1/ 723.
(3)
المبسوط، 4/ 88 - 89.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن الجزاء على القاتل فقط بدليل اجتماع السبب والمباشرة، فقالوا: إنه وُجد من الآخذ أو الممسك سبب، ومن القاتل مباشرة، وإذا اجتمع السبب والمباشرة تعلق الضمان بالمباشرة قياساً على قتل الآدمي
(1)
.
أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بأن الجزاء على نصفين، لكل واحد منهما النصف بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
وجه الدلالة: لو أن جماعة قتلوا صيداً، فيلزمهم مثله، والزائد خارج عن المثل، فلا يجب.
نوقش بأن قوله تعالى: {من النعم} لم يخرج تفسيراً للمثل، وبيانه أن قوله:{فجزاء مثل ما قتل} كلام تام بنفسه مفيد بذاته من غير وصله بغيره؛ لكونه مبتدأً وخبراً، وقوله:{مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل؛ لأنه كما يرجع إلى الحكمين في تقويم الصيد المتلف يرجع إليهما في تقويم الهدي الذي يوجد بذلك القدر من القيمة، فلا يجعل قوله:{مثل ما قتل} مربوطاً بقوله عز وجل: {من النعم} مع استغناء الكلام عنه
(2)
.
الدليل الثاني: لأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه، فكان واحداً كالدية، أو كما لو كان القاتل واحداً
(3)
.
(1)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 4/ 248، المجموع، 7/ 437.
(2)
بدائع الصنائع، 2/ 199.
(3)
المغني، 3/ 452، وقد ذكر الدليلين ووجههما، نسب القول إلى عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، ومن غيرهم عطاء، والزهري، والنخعي، والشعبي، والشافعي، وإسحاق، ولم أقف عليه إلا ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه:"عن ابن عمر أنه سئل عن قوم من المشاة قتلوا صيداً، قال: (عليهم جزاء واحد) ". ينظر: المصنف، 3/ 392، كتاب الحج، في القوم يشتركون في الصيد وهم محرمون، برقم: 15247، وفي سنده انقطاع.
نُوقش بأن الكفارة في قتل الآدمي تفارقه؛ لأنها تختلف باختلاف المقتول ولا تتبعَّض
(1)
.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وأدلتها يظهر أن القول الثاني أقرب إلى الصواب؛ لقوة دليله، ولورود المناقشة على أدلة المخالفين، وللمسألة ثمرات عملية تظهر في بعض الأمثلة، منها:
- لو أن إنساناً قتل أرنباً في يد محرم آخر فعلى القول الثاني: القاتل يضمن ولا شيء على الآخذ، وعلى القول الأول: على كل واحد منهما جزاء كاملاً، وعلى القول الثالث: على كل واحد نصف الجزاء ويشتركان فيها.
- وكذا في بقية أنواع الصيد مثل النعامة والظبي والغزال والضبع واليربوع إلخ.
(1)
الممتع في شرح المقنع، 2/ 156.
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في المعاملات، وفيه عشرون مبحثًا:
المبحث الأول: في مسائل النكاح، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: غياب الولي الأقرب غيبة منقطعة.
المطلب الثاني: أثر النكاح الفاسد في تحديد المدة المعتبرة لإثبات النسب.
المطلب الثالث: السفر بالزوجة قبل إعطائها مهرها.
المبحث الثاني: الطلاق بغير العربية.
المبحث الثالث: ظهار الذمي.
المبحث الرابع: في مسائل الأيمان، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: قول: (كل حلال علي حرام).
المطلب الثاني: من حلف ألا يلبس حلياً فلبس عقد اللؤلؤ.
المطلب الثالث: من حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن.
المبحث الخامس: في مسائل النفقة، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: وقت وجوب النفقة للزوجة وقدرها.
المطلب الثاني: نفقة الزوجة إذا حُبست في دين.
المطلب الثالث: نفقة الزوجة إذا حُبست في سفرها مع محرم لأداء الحج.
المطلب الرابع: حد اليسار في النفقة.
المبحث السادس: في مسائل الإجارة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الإجارة على الطاعات.
المطلب الثاني: اختلاف المؤجر والمستأجر في أجرة العمل.
المبحث السابع: إسقاط حق الشفعة بالاحتيال وبتأخير الخصومة والمحاكمة.
المبحث الثامن: تذكية الصيد إذا أدركه المرسل حيّاً.
المبحث التاسع: في مسائل البيوع، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: ما يُعرَض بالأنموذج رؤيةُ بعضِه كرؤية كله.
المطلب الثاني: الرجوع بنقصان العيب في الطعام بعد أكله.
المطلب الثالث: الربا، وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً.
المسألة الثانية: بيع الخبز بالحنطة والدقيق نسيئةً.
المسألة الثالثة: بيع الكرباس بالقطن.
المسألة الرابعة: استقراض الخبز وزنًا وعددًا.
المطلب الرابع: السلم في الخبز.
المبحث العاشر: ثبوت الوكالة بالقبض بثبوت الوكالة بالخصومة والتقاضي.
المبحث الحادي عشر: في مسائل المزارعة والمساقاة، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حكم المزارعة.
المطلب الثاني: اشتراط الأعمال في المزارعة التي ليست منها.
المطلب الثالث: حكم المساقاة.
المبحث الثاني عشر: وقف العقار والمنقول.
المبحث الثالث عشر: في مسائل الدعوى والشهادة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحقوق التي يجوز فيها اليمين، والحقوق التي لا يجوز فيها.
المطلب الثاني: الاقتصار على ظاهر العدالة في الشاهد المسلم.
المبحث الرابع عشر: في مسائل القضاء، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحقوق التي يُقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي.
المطلب الثاني: إذا قضى القاضي في المجتهَد فيه مخالفاً لرأيه.
المبحث الخامس عشر: في مسائل القسمة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: كيفية قسمة البناء الذي له سفل وعلو.
المطلب الثاني: التعارض بين مصالح الجيران.
المبحث السادس عشر: ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل.
المبحث السابع عشر: في مسائل الضمان، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: ضمان الإتلاف.
المطلب الثاني: ضمان الساعي بغير حق.
المبحث الثامن عشر: في مسائل الحجر، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تحديد سن البلوغ وعلاماته.
المطلب الثاني: بيع القاضي عروض المدين وعقاره.
المبحث التاسع عشر: كيفيّة تقدير حكومة العدل.
المبحث العشرون: مقدار ما يوقف للحمل من الميراث.
الفصل الثاني: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في المعاملات:
المبحث الأول: في مسائل النكاح:
المطلب الأول: غياب الولي الأقرب غيبة منقطعة:
مسألة غيابة الولي ترد في كتب الحنفية في كتاب النكاح عند مسألة الولي في نكاح الصغير والصغيرة؛ فإذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة فهل يجوز للولي الأبعد أن يقوم بتزويجهما قبل رجوع الولي الأقرب؟ الصحيح أنه يجوز
(1)
، لكن اختلفوا في تعريف الغيبة المنقطعة التي إذا تحققت يجوز حينها للولي الأبعد أن ينوب الولي الأقرب في التزويج.
منهم من قال: إنها تتحقق إذا كان الولي في بلد لا تصل القوافل إليه في السنة إلا مرة واحدة
(2)
، ومنهم من قدَّرها بأدنى مدة السفر؛ لأنه ليس لأقصاه نهاية، فيعتبر الأدنى، وعليه الفتوى
(3)
.
وقيل: إن كان الأقرب في موضع يفوت الكفء الخاطب باستطلاع رأيه فهو غيبة منقطعة، وإن كان لا يفوت فليست بمنقطعة، وهذا أقرب إلى الفقه؛ لأن التعويل في الولاية على تحصيل النظر للمولى عليه، ودفع الضرر عنه
(4)
.
وعليه فتوى جماعة من المتأخرين
(5)
.
(1)
الهداية، 1/ 195.
(2)
ينظر: بداية المبتدي، ص: 60، تبيين الحقائق، 2/ 127، ونصره في الاختيار، 3/ 96، وذكر أقوالاً أخرى في المسألة مثل ما روي عن أبي يوسف أنه مسيرة شهر، وعن محمد من الكوفة إلى الري (خمس عشرة مرحلة)، وعنه أيضاً من بغداد إلى الري (عشرون مرحلة)، وعن زفر: إذا كان في مكان لا يدرى أين هو فهي غيبة منقطعة، وحسَّنه.
(3)
ذكره الإسبيجاني في شرحه على القدوري (زاد الفقهاء)، ص: 132، وصاحب الجوهرة النيرة قال إنه اختيار القدوري، وأن الفتوى على غيره. (ينظر: الجوهرة النيرة، 2/ 10).
(4)
ينظر: بدائع الصنائع، 2/ 251، ونسبه للشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري، والجوهرة النيرة، 2/ 10.
(5)
الجوهرة النيرة، 2/ 10.
وقيل إن الفتوى على غيره
(1)
.
والذي يظهر أن اختلافهم اختلاف عصر وزمان وليس حجة وبرهان؛ فكل كان يقدِّر ويحدِّد بناءً ما عنده من معطيات عصره أو مصره، وذلك يرجع إلى العادة في الغالب.
وفي العصر الحاضر مع وجود التقنيات الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي من الصعب أن نتصور الغيبة المنقطعة بما ذكر من التعريفات من حيث المسافة والبعد المكاني.
ولذلك عند تعريف الغيبة المنقطعة لا بد من الرجوع إلى حقيقة الولاية والهدف منها وهو تحصيل المنفعة للمولى عليه ودفع الضرر عنه –كما سبق-.
وعليه فإن التعريف المختار –الذي عليه فتوى جماعة من متأخري الحنفية
(2)
- هو كون غيابه يفوِّت الكفء الخاطب باستطلاع رأيه، وهذا لا ينضبط، بل يُرجع إلى العرف والعادة، والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن الغيبة لها أثر على تزويج الصغير والصغيرة من حيث انتقال الولاية في الجملة
(3)
، واختلفوا في تحديد صفة الغيبة المؤثرة، على ثلاثة أقوال إجمالاً:
(1)
مجمع الأنهر، 1/ 339.
(2)
وصححه كثير من العلماء كما في اللباب في شرح الكتاب، 3/ 12، ورد المحتار، 3/ 81.
(3)
الهداية، 1/ 195، المدونة، 2/ 106، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 9/ 176، الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص:386.
القول الأول: الغيبة المنقطعة غياب الولي الأقرب بحيث يفوت الكفء باستطلاع رأيه، وعليه متأخرو الحنفية، وعليه الفتوى –كما مضى-، وهو أيضاً قول الشافعية إلا أنهم فرقوا بين الغيبة القريبة والبعيدة بمسافة يوم وليلة، لكن علَّقوا الأمر على فوات حق البنت من عقدها، فإذا غاب مسافة يوم وليلة وفي ذلك فوات لمصلحة البنت فإنها غيبة بعيدة أي منقطعة التي تنتقل بها الولاية من الأقرب إلى غيره
(1)
.
القول الثاني: النظر إلى سبب الغياب وإرادة الإقامة؛ فإن كان لأجل التجارة ونحوها في بلاد بعيدة مثل إفريقيا ولم يُرد المقام فيها فالغيبة ليست منقطعة، وإن كان ممن خرج في المغازي إلى أفريقيا أو الأندلس فأقام في تلك البلاد فالغيبة منقطعة، وهو قول المالكية
(2)
.
القول الثالث: النظر إلى المشقة والكلفة الناتجة عن مراجعة الغائب، وهو قول الحنابلة
(3)
.
بعد البحث لم أظفر بأدلة الأقوال، وقد يُستدل بما ذُكر من العرف والعادة، وهذا يختلف باختلاف الأمصار والأزمان، وكلٌّ له عادته، فلا ينضبط إلا إذا عُلِّق الأمر على مصلحة المولى عليه ودفع ضرره.
(1)
ينظر: الحاوي الكبير، 9/ 11، وقيل: إنه لا فرق بين الغيبة البعيدة والقريبة في عدم تأثيرها على انتقال الولاية، فلو غاب الولي غيبة قريبة أم بعيدة فإن الولاية تنتقل إلى السلطان مباشرة؛ استناداً على قول الشافعي في الأم (5/ 15)، كما في المجموع (تكملة المطيعي)، 16/ 163، وفي نهاية المحتاج علق الغيبة عن المرأة بالعرف (6/ 209).
(2)
المدونة، 2/ 106، التهذيب في اختصار المدونة، 2/ 142، التاج والإكليل، 5/ 67، مواهب الجليل، 3/ 436.
(3)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 13، وقد رد المسألة إلى العرف، وأن المعتبر في الانتظار والمراجعة ما جرت به العادة؛ لعدم التحديد فيه من الشارع.
وعليه فقد تبيَّن لي أن الاختلاف بين الأقوال اختلاف تنوع، وأنها تدور حول تحصيل المنفعة ودفع المضرة، وكيفية ذلك ترجع إلى العرف وما جرت به العادة؛ فالجمع بينها هو التعريف المختار، فيقال: إن الغيبة المنقطعة غياب الولي الذي يفوت مصلحة المولى عليه أو يجلب له الضرر عرفاً
(1)
.
وفي قديم الزمان كانوا يقدرون ذلك بالمدة أو بالمسافة أو بالمشقة والكلفة أو بالإقامة، والآن يمكن استطلاع رأي الولي الأقرب في دقائق وهو في أقصى الدنيا، ثم لو حددنا الغيبة بالمسافة وحضور الولي شخصياً فإنه لو كان في مشرق الأرض سيصل إلى مغربها في حدود يوم أو يومين بالطائرات، وانتظار الكفء هذا الوقت من الأمور المقبولة عرفاً، والله تعالى أعلم.
(1)
وقد مال إليه ابن قدامة في المغني (7/ 32): "فإن التحديدات بابها التوقيف، ولا توقيف في هذه المسألة، فتُرَدُّ إلى ما يتعارفه الناس بينهم، مما لم تجر العادة بالانتظار فيه، ويلحق المرأة الضرر بمنعها من التزويج في مثله، فإنه يتعذر في ذلك الوصول إلى المصلحة من نظر الأقرب، فيكون كالمعدوم".
المطلب الثاني: أثر النكاح الفاسد في تحديد المدة المعتبرة لإثبات النسب:
النكاح الفاسد كل نكاح فقد شرطاً من شروطه أو ركناً من أركانه، ومثاله: نكاح بلا ولي عند غير الحنفية، أو نكاح بلا شهود عند غير المالكية، أو عقد على الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، أو عقد على أخت مطلقته قبل انقضاء عدتها منه إلخ
(1)
. وقد نص فقهاء الحنفية على أن النكاح الفاسد يلزم منه العدة، وإثبات النسب، ومدته من حين الدخول، وهو قول محمد –رحمه الله، وبه يُفتى
(2)
، وعند الشيخين من وقت النكاح
(3)
.
ودليل القول الراجح كون النكاح الفاسد ليس بداعٍ إلى الوطء والإقامة باعتباره، أي إقامة النكاح مقام الوطء باعتبار أن النكاح داعٍ إلى الوطء، والنكاح الفاسد ليس بداعٍ إليه، فلا يقام مقامه
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن النسب يثبت في النكاح الفاسد إذا اتصل به دخول حقيقي
(5)
، واختلفوا في بدء اعتبار مدة النسب فيه على قولين:
القول الأول: مدة النسب تبدأ من حين الدخول أو الوطء، وهو الراجح عند الحنفية –كما مضى-، والصحيح عند الشافعية
(6)
، وقول الحنابلة
(7)
.
(1)
ذكر السُّغدي في النتف ثمانية أوجه له، ص: 266، وإن كانت بعضها من المختلف فيه بين المذاهب.
(2)
الهداية، 1/ 205، مجمع البحرين، ص: 534، ملتقى الأبحر، ص: 523 - 524، مجمع الأنهر، 1/ 356، رد المحتار، 3/ 517، وقد استقر القول على هذا.
(3)
مجمع الأنهر، 1/ 356، رد المحتار، 3/ 517.
(4)
العناية، 3/ 367، البناية، 5/ 182، تبيين الحقائق، 2/ 153، مجمع الأنهر، 1/ 356.
(5)
الهداية، 1/ 205، رد المحتار، 3/ 517، الذخيرة، 4/ 299، الحاوي الكبير، 11/ 308، المغني، 7/ 299، كشاف القناع، 5/ 410 - 411، وقد نص عليه ابن تيمية في فتاواه، 34/ 14.
(6)
الوسيط في المذهب، 6/ 134، روضة الطالبين، 8/ 382، وصححه.
(7)
المغني، 7/ 299، الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، 4/ 106.
القول الثاني: مدة النسب تبدأ من وقت النكاح، وهو قول المالكية
(1)
، وقول مرجوح عند الشافعية
(2)
، وقول مرجوح عند الحنفية –كما سبق-.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن مدة النسب تبدأ من حين الدخول وليس وقت النكاح بالتفريق بين النكاح الصحيح وبين النكاح الفاسد، فقالوا بأن النكاح الفاسد ليس بداعٍ إلى الوطء الذي يُعتبر في إقامة النكاح بخلاف النكاح الصحيح فإنه داعٍ إليه.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن المدة تبدأ من وقت النكاح بقياس النكاح الفاسد على الصحيح، وأنه لا فرق بينهما من حيث إثبات مدة النسب
(3)
.
ونوقش بأنه قياس مع الفارق، وذلك بدليل القول الأول أي أن إقامة العقد مقام الوطء في النكاح الصحيح باعتبار أن العقد داعٍ إلى الوطء، والنكاح الفاسد ليس بداعٍ إلى الوطء؛ لكونه حراماً واجب الرفع فلا يقام العقد مقام الوطء، ولا تعتبر المدة من حيث العقد
(4)
.
(1)
الذخيرة، 4/ 299، الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 532، وإنما ذكره ضمناً بقوله:"ولو جاءت المنكوحة في العدة بولد لأقل من ستة أشهر من يوم عقد عليها الثاني فرق بينه وبينها ولم تحل له أبداً"، فعلق الحكم على العقد لا على الوطء.
(2)
روضة الطالبين، 8/ 382.
(3)
رد المحتار، 3/ 517.
(4)
البناية، 5/ 183، وقال في العناية (3/ 367) إن فيه إشارة إلى فساد القياس.
الترجيح:
بعد استعراض القولين ودليليهما يظهر أن القول الأول أوفق وأقرب للصواب لقوة دليله وورود المناقشة على دليل القول الآخر، وللخلاف في المسألة ثمرة عملية تظهر فيما لو تزوج شخص امرأة في العدة مثلاً، ثم أتت بولد لستة أشهر كأقل مدة الحمل؛ فعل القول الأول يثبت النسب إذا جاءت بولد لستة أشهر من وقت الدخول، وعلى الثاني يثبت إذا جاءت به لستة أشهر من وقت العقد
(1)
.
(1)
رد المحتار، 3/ 517.
المطلب الثالث: السفر بالزوجة قبل إعطائها مهرها:
من المسائل المهمة في كتاب النكاح ما يتعلق بالمهر ونوعه، وأقله وأكثره، ووقت إعطائه وأثر ذلك على النكاح والحياة الزوجية؛ ففي كتب الحنفية ينصون على أن للمرأة أن تمنع نفسها عن زوجها، وألا تسافر معه حتى يعطيها مهرها إلا إذا كان مؤجلاً
(1)
، واختلفوا في سفرها معه فيما لو أعطاها مهرها كله، فمنهم من قال: إنه يسافر بها إلى أي مكان يريد
(2)
، ومنهم من قال: إنه لا يسافر بها
(3)
(4)
، وعليه الفتوى، بدليل أن الزمان قد فسد، والغريب يؤذى
(5)
.
وبعضهم فصَّل المراد من عدم السفر بها بألا يخرجها إلى بلد غير بلدها؛ لأن الغريبة تؤذى فيه، والغربة لا تتحقق في الذهاب إلى القرى القريبة
(6)
.
وهذه المسألة من مسائل اختلاف العصر والزمان وليس الحجة والبرهان
(7)
، وبيان ذلك أن الأمر اختلف مما كان في زمان الإمام، ففي زمانه الغالب من حال الناس الصلاح، وأما في الأزمنة المتأخرة فعكس ذلك؛ وعليه فلا يملك الزوج أن يسافر بها وإن أوفى مهرها، والسبب أن المرأة إذا كانت بين عشيرتها فالزوج لا يقدر على أن يظلمها، ومتى نقلها إلى بلد آخر ظلمها
(8)
.
(1)
الاختيار، 3/ 109.
(2)
بدائع الصنائع، 2/ 290، ونسبه إلى أبي حنيفة –رحمه الله.
(3)
بدائع الصنائع، 2/ 290، ونسبه إلى محمد بن سلمة، وأنه كان يفتي بذلك بحكاية أبي جعفر الهندواني عنه.
(4)
والذي يظهر أنه ليس له أن يسافر بها إلا بإذنها، بمعنى لو امتنعت فلا يعد نشوزاً، والله أعلم.
ثم وجدت في رد المحتار ما يفيد ذلك، (3/ 146).
(5)
الاختيار، 3/ 109.
(6)
الهداية، 1/ 206، قلت: الذي يظهر أن له أن يذهب بها إلى أي مكان يريد، لكن دون مسافة السفر، ولذلك نصوا على القرى القريبة.
(7)
رد المحتار، 3/ 146.
(8)
المرجع السابق، 3/ 146 - 147، فأضاف على أذية الغريب أذية الرجل الظالم لزوجته، وهما جانبا المنع، والله المستعان.
بل قال بعضهم إن من عادة زمانهم حصول مُضارة قطعية في الاغتراب بها
(1)
.
فاستقر القول على ذلك وليس فيه العدول عن ظاهر الرواية؛ لأن الإمام لو عاش أو رأى ذلك لقال به، فهو مذهبه حكماً
(2)
، ويفهم منه أن الحكم لن يختلف لولا الغربة والظلم.
وبعد الاطلاع على بقية المذاهب تبين لي أن المسألة أقرب إلى الوفاق بينهم، وأن الخلاف بينهم أشبه بالخلاف اللفظي، وبيانه على النحو الآتي:
- المالكية نصوا على أن للزوج أن يظعن أي أن يسافر بزوجته من بلد إلى بلد وإن كرهت، وينفق عليها، واشترطوا حرية الزوج وأمانته وإحسانه إليها، وأمن الطريق وأن تكون البلد قريبة بحيث لا ينقطع خبرها عن أهلها
(3)
.
- وعند الشافعية للزوج أن يسافر بزوجته إلى أي بلد شاء
(4)
، لكن بشرط أمن الطريق، وإذا امتنعت عن السفر معه كانت ناشزاً
(5)
.
- وعند الحنابلة للزوج أن يسافر بزوجته الحرة إلى الجهة التي يريد بشرط أمن الطريق
(6)
.
وإن الناظر في الأقوال السابقة وتعليلاتها سيجد أن من منع سفر الزوجة مع زوجها تعليله عدم أمن الطريق أو ظلم المرأة، وهو شرط لم يتحقق فيمنع، ومن أوجب سفرها مع زوجها لاستيفاء حقه منها اشترط عدم وجود ما علل به من منع، فلا فرق.
(1)
المبسوط، 3/ 147.
(2)
المبسوط، 3/ 147.
(3)
التهذيب في اختصار المدونة، 2/ 404، شرح الزرقاني على مختصر خليل، 4/ 10، مواهب الجليل، 3/ 503، الجامع لمسائل المدونة، 9/ 532.
(4)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 9/ 269، المجموع (تكملة المطيعي)، 16/ 240، روضة الطالبين، 4/ 81.
(5)
نهاية المحتاج، 7/ 206.
(6)
الإقناع، 3/ 239، منتهى الإرادات، 4/ 176، الإنصاف، 8/ 347.
وعليه فإن المسألة لها ثمرة عملية تظهر في تحديد نشوز الزوجة إذا امتنعت من السفر مع زوجها؛ فإن امتنعت فإنه ينظر إلى أمن الطريق وصلاح الزوج وأمن البلد التي يسافر إليها إلخ.، وهذه الأمور نسبية، وقد تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، والله أعلم.
المبحث الثاني: الطلاق بغير العربية:
مسألة الطلاق بغير العربية ترد في كتب الفقه الحنفي في الغالب عند ذكر الطلاق بالفارسية، فيذكرون بعض الألفاظ مثل (بِهَشْتَم
(1)
إن زن)، أو (بِهَشْتَم) بلا (إن زن)، أو (دها كنم)
(2)
، فيقررون أن الطلاق الذي يقع في الشرع نوعان: صريح وكناية.
والصريح كل لفظ لا يستعمل إلا في حل قيد النكاح، ومثاله لفظ الطلاق أو التطليق مثل: أنتِ طالق أو أنتِ الطلاق أو طلقتك، وسُمي صريحاً؛ لأن الصريح يطلق على ظاهر المراد مكشوف المعنى؛ فهو لا يستعمل إلا في الطلاق عن قيد النكاح فلا يُحتاج فيه إلى النية؛ لأن النية عملها في تعيين المبهم، ولا إبهام هنا
(3)
.
وأما الكناية فكل لفظ يُستعمل في الطلاق كما يستعمل في غيره، مثل أمرك بيدك، اعتدي، خليت سبيلك، لا سبيل لي عليك، أنت حرة، قومي، اخرجي، انتقلي إلخ.، وسمي كناية؛ لأنها ما استُتر المراد منه عند السامع، فاحتاج إلى قريبة النية، الطلاق لا يقع إلا بها.
(4)
واختلفوا في بعض الألفاظ الفارسية هل هي من الصريح أم الكناية، فقوله:(بِهَشْتَم إن زن) عند أبي يوسف ومحمد من الصريح؛ لأن أبا يوسف خالط العجم فعرف أنه في لغتهم من الصريح، بخلاف لفظ (بِهَشْتَم) فقط الذي معناه خلَّيت، وهو عند أبي يوسف من الكنايات إذا لم يضفه إلى النكاح أو الزوجة، فلا يحمل على الطلاق إلا بقرينة نية أو دلالة حال، وعند محمد مطلقاً؛ لأن معناه في العربية أنت مخلاة أو قد خليتك
(5)
.
(1)
وجدتها مع التشكيل اللفظي في كشاف القناع (5/ 249) حيث قال: " (وصريحه) أي الطلاق (بلسان العجم بهشتم) بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وفتح المثناة فوق".
(2)
في الكتب هي هكذا (دها كنم)، وقد سألت أصحاب اللغة الفارسية الذين هي لغتهم الأم، فقالوا إنها (رِهاَ كُنَمْ) ومعناها:(أُطْلِقُ صَرَاحَهَا).
(3)
بدائع الصنائع، 3/ 101 - 102، بتصرف.
(4)
بدائع الصنائع، 3/ 105 - 106، بتصرف يسير.
(5)
وابن قدامة نسبه إلى أبي حنيفة أيضاً في المغني، 7/ 388، ولم أجده في كتب الحنفية.
والذي عليه الفتوى هو أن الطلاق بغير العربية -قياساً على الفارسية- إن كان فيها لفظ لا يُستعمل إلا في الطلاق فهو الصريح يقع به الطلاق من غير نية إذا أضيف إلى المرأة مثل (دها كنم)
(1)
أو (بِهَشْتَم)؛ لأن الصريح لا يختلف باختلاف اللغات، وما كان في الفارسية من الألفاظ تستعمل في الطلاق وغيره فهو من كنايات الفارسية، فيكون حكمه حكم كنايات العربية في جميع الأحكام
(2)
.
قلت: ولعل المتأخرين عدلوا عن قول الصاحبين لتغير العرف اللغوي، ففي زمانهما لفظ (بِهَشْتَم) لم يكن صريحاً إلا إذا أضيف إليه (إن زن)، ثم أصبح من الألفاظ الصريحة التي لا تستعمل إلا في الطلاق، والله أعلم.
والمسألة كسابقتها من مسائل الوفاق بين الفقهاء، وقد سبق قول الحنفية، وأما بقية المذاهب:
- فعند المالكية: جاء في المدونة أنه لم يُسمع من مالك شيء في الطلاق بالعجمية
(3)
، لكن قالوا تخريجاً أن من طلق بالعجمية لزمه الطلاق إن شهد بذلك عدلان يعرفان تلك اللغة
(4)
.
- والشافعية: قالوا إن ترجمة الطلاق بالعجمية صريح على المذهب؛ لشهرة استعماله اللفظة في معناها عند أهلها شهرة استعمال العربية عند أهلها
(5)
.
- والحنابلة: نصوا على أن "صريح الطلاق بالعجمية بِهَشْتَم، فإذا أتى بها العجمي، وقع الطلاق منه بغير نية"
(6)
.
(1)
أو (رِهاَ كُنَمْ) بمعنى: (أُطْلِقُ صَرَاحَهَا) -كما سبق-.
(2)
اختصاراً من بدائع الصنائع، 3/ 102، والمحيط البرهاني، 3/ 233، البحر الرائق، 3/ 323، رد المحتار، 3/ 247.
(3)
المدونة، 2/ 69.
(4)
المدونة، 2/ 69، مواهب الجليل، 4/ 44، الجامع لمسائل المدونة، 10/ 680.
(5)
روضة الطالبين، 8/ 25، منهاج الطالبين، ص: 230، مغني المحتاج، 4/ 458.
(6)
المغني، 7/ 388، الشرح الكبير على متن المقنع، 8/ 284، كشاف القناع، 5/ 249.
ويستنتج من هذا أن الطلاق بغير العربية يقع إذا كان بالألفاظ التي لا تستعمل إلا في الطلاق في تلك اللغة؛ فيكون صريحاً كما في العربية، إذ المدار على المعنى
(1)
.
ومن الأمثلة على المسألة:
- لو قال البريطاني لزوجته: (You are divorced) ومعناه: أنت طالق، فإن الطلاق يقع بلا نية؛ لأنها من الألفاظ الصريحة التي لا تستعمل في الإنجليزي إلا للطلاق، وقد أضافها للمخاطبة بلفظ:(You are).
- وعكسه في الكنايات لو قال لها: (You are not my wife) بمعنى أنت لست زوجتي، فإن الطلاق لا يقع؛ لأنها من الألفاظ التي تستخدم في اللغة الإنجليزية في الطلاق وغيره.
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى، 15/ 449.
المبحث الثالث: ظهار الذمي
تعريف الظهار والذمي لغة واصطلاحاً:
الظهار من الظهر وهو خلاف البطن من كل شيء
(1)
، ويدل على قوة وبروز، ومن ذلك الظهيرة؛ لأنها أظهر أوقات النهار وأضوؤها
(2)
.
وفي الاصطلاح قول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي
(3)
، ثم انتقل إلى غيره من الأعضاء، وإلى غيرها من المحرمات
(4)
.
والذمي في اللغة من الذمة وهي العهد
(5)
والكفالة
(6)
.
(1)
العين، 4/ 37.
(2)
مقاييس اللغة، 3/ 471.
(3)
المبسوط، 6/ 224، بداية المبتدي، ص: 81، تبيين الحقائق، 3/ 2، تحفة الفقهاء، 2/ 211، وقال:"ولو شبه امرأته بعضو من أمه غير الظهر فإن كان لا يجوز النظر إليه فهو ظهار نحو البطن والفخذ والفرج، ولو شبه امرأته بذوات المحارم غير الأم إن كانت الحرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة فإنه يكون ظهاراً، ولو شبه امرأته بامرأة محرمة عليه في الحال وهي ممن تحل له في حالة أخرى مثل أخت امرأته ومثل امرأة لها زوج أو مجوسية أو مرتدة لم يكن مظاهرًا؛ لأن النص ورد في الأم وهي محرمة على التأبيد".
وكذا عند المالكية كما في المدونة، 2/ 308، والكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 603، وعند الشافعية كما في الأم، 5/ 259، ونهاية المطلب، 14/ 471، وعند الحنابلة كما في مسائل الإمام أحمد برواية ابنه، ص: 367، رقم: 1350، الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 165.
(4)
الاختيار، 3/ 161، ثم قال:" (وهو أن يشبه امرأته أو عضوًا يعبر به عن بدنها) كالرأس والوجه، (أو جزءًا شائعًا منها) كالثلث والربع، (بعضو لا يحل النظر إليه) كالظهر والفخذ والبطن والفرج؛ لأن الكل في معنى الظهر في الحرمة (من أعضاء من لا يحل له نكاحها على التأبيد) كأمه وبنته وجدته وعمته وخالته وأخته وغيرهن من المحرمات على التأبيد؛ لأن الكل كالأم في تأبيد الحرمة. "
(5)
تهذيب اللغة، 14/ 299 - 300.
(6)
القاموس المحيط، ص:1110.
وفي الاصطلاح من التزم أحكام الإسلام في المعاملات مدة عمره
(1)
، وقيل:"الذمي نسبة إلى الذمة أي العهد من الإمام بالأمن على نفسه وماله في نظير التزامه الجزية ونفوذ أحكام الإسلام فيه"
(2)
.
والظهار من حيث أصله كان طلاقاً في الجاهلية فقرر الشرع أصله، ونقل حكمه إلى تحريم مؤقت بالكفارة من غير أن يكون مزيلاً للملك
(3)
.
(1)
الهداية، 2/ 347، ولم يذكر الجزية.
(2)
جواهر الإكليل، 1/ 105.
وقريب من ذلك ما جاء في كشاف القناع (3/ 116)، وعند الشافعية كذلك كما في المهذب في فقه الإمام الشافعي (3/ 318)، لكن بطريقة عكسية إذ قال:"إذا امتنع الذمي من التزام الجزية أو امتنع من التزام أحكام المسلمين انتقض عهده لأن عقد الذمة لا ينعقد إلا بهما، فلم يبقَ دونهما"، فيمكن استخلاص التعريف منه.
(3)
المبسوط، 6/ 223 - 224، الأم للشافعي، 5/ 294.
وجاء في كتب الحنفية ما يفيد عدم التفريق بين المسلم والذمي في بعض المسائل مثل الإيلاء
(1)
، ووجوب النفقة على الزوجة
(2)
، والإجارة؛ لأنها من عقود المعاوضات، وجريان الربا، والشفعة
(3)
، والدية
(4)
، والحدود
(5)
، وغيرها، وينصون على أن الذمي قد التزم أحكام الإسلام في المعاملات
(6)
، وفرقوا بينهما في مسائل مبناها على العبادة
(7)
، ومنها الظهار؛ ولأن الظهار يلزم منه الكفارة وهي التكفير والتطهير، والكافر ليس بأهل لذلك، وما فيه من الشرك أعظم من الظهار، ولأن معنى العبادة يترجح في الكفارة حتى تتأدى بالصوم الذي هو محض عبادة لا يتأدى إلا بنية العبادة، وعليه الفتوى
(8)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
ينص الفقهاء على أن الذمي كالمسلم في المعاملات، فيصح منه البيع، وله حق الشفعة وغيرها -وقد سبق ذكر بعضها-، واختلفوا في المسائل التي لها جانب العبادة وجانب المعاملات مثل الظهار على قولين:
القول الأول: ظهار الذمي لا يصح، وهو قول الحنفية -كما مضى-، والمالكية
(9)
.
(1)
بدائع الصنائع، 3/ 175، وعلله بأنه يعظم أسماء الله، وخالفه القدوري في تجريده، 10/ 5067، بل قال: إن الطلاق لا يصح منه، ومن صح منه الطلاق صح ظهاره.
(2)
بدائع الصنائع، 4/ 22، 4/ 176، 5/ 194، ويشمل مسائل الإجارة والربا والشفعة.
(3)
الهداية، 4/ 316.
(4)
الاختيار، 5/ 30، وهو قول الحنفية.
(5)
المبسوط، 6/ 231.
(6)
الهداية، 2/ 347، العناية، 5/ 268.
(7)
الاختيار، 1/ 114.
(8)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 5/ 201، المبسوط، 6/ 231، بدائع الصنائع، 3/ 230، تبيين الحقائق، 3/ 2، البناية، 5/ 531، مجمع الأنهر، 1/ 446.
(9)
التاج والإكليل، 5/ 422، جواهر الإكليل، 1/ 371، إلا أنه ذكر في التعريف أنه تشبيه المسلم البالغ، فدل على أنه لا يصح من غير المسلم.
القول الثاني: ظهار الذمي يجوز، وهو قول الشافعية
(1)
، والحنابلة
(2)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن ظهار الذمي لا يصح بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة: 2].
وجل الدلالة: من وجهين:
الوجه الأول: قوله تعالى: {مِنْكُمْ} كناية عن المسلمين
(3)
.
ونوقش بأوجه، منها:
- أن الكفارة إنما وجبت على المسلم زجراً له عن هذا الفعل الذي هو منكر من القول وزور، وهذا المعنى قائم في حق الذمي فوجب أن يصح.
قد يجاب بآخر الآية الرابعة من سورة المجادلة بعد ذكر أحكام الظهار: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 4]، واللام لام التعليل،
(4)
فالكفارة شرعت إيماناً كما شرعت زجراً
(5)
.
- وأن قوله: (والذين يظاهرون من نسائهم) متأخر في الذكر عن قوله: (الذين يظاهرون منكم)، والظاهر أنه كان متأخراً في النزول، فيكون العام قد ورد بعد الخاص، وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا ورد العام بعد الخاص كان ناسخاً له.
(1)
الحاوي الكبير، 10، 412، الوسيط في المذهب، 6/ 29.
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 165، المغني، 8/ 4.
(3)
تفسير القرطبي، 17/ 276، وقال:" قوله تعالى: (منكم) يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. فإن قيل: هذا استدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو استدلال بالاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم)، وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال"، وهو قوي.
(4)
إعراب القرآن وبيانه، 10/ 8.
(5)
تفسير الطبري، 23/ 234.
وقد يجاب بأن القاعدة تقيد بكون الورود بعد حضور وقت العمل بالخاص
(1)
، وآيات الظهار نزلت دفعة واحدة كما في بيان سبب نزولها
(2)
، وعليه فلا نسخ.
- وأنه لم يذكر بيان حكم الظهار في الأول، وذكره في الثاني، وكون المبين متأخراً في النزول عن المجمل أولى
(3)
.
وقد يجاب بأنه لا يسلم أن الآية لم يُذكر فيها حكم الظهار، فالآية الأولى فيها بيان لحكم الظهار، والثانية بيان لحكم كفارته، فكلتا الآيتين بينتْ.
- وأن قوله تعالى: {مِنْكُمْ} المراد به العرب، وفيه توبيخ لهم وتهجين لعادتهم في الظهار، لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصة دون سائر الأمم
(4)
.
(1)
نهاية الوصول في دراية الأصول، 4/ 1657.
(2)
تفسير الطبري، 23/ 222.
(3)
ذكرها الرازي في تفسيره، 29/ 480، وبعض العلماء استدل بالكفارة على الإيمان بالله كما في تفسير الطبري، 17/ 287.
(4)
تفسير الرازي، 29/ 481.
قد يجاب بأن الآيات في سياق الحديث عن المؤمنين، ويؤيده قوله تعالى في الآية الرابعة:{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 4]، وقد جاء في تفسيرها:"وقوله: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) يقول جلّ ثناؤه: هذا الذي فرضت على من ظاهر منكم، ما فرضت في حال القدرة على الرقبة، ثم خففت عنه مع العجز بالصوم، ومع فقد الاستطاعة على الصوم بالإطعام، وإنما فعلته كي تقر الناس بتوحيد الله ورسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويصدّقوا بذلك، ويعملوا به، وينتهوا عن قول الزور والكذب، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وهذه الحدود التي حدّها الله لكم، والفروض التي بينها لكم حدود الله فلا تتعدّوها أيها الناس، (وَلِلْكَافِرِينَ) بها، وهم جاحدو هذه الحدود وغيرها -من فرائض الله أن تكون من عند الله-، (عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: عذاب مؤلم"
(1)
، فحمل الآيات على الكافر والحالة هذه لا يتصور، والله أعلم.
الثاني: الآية فيها أمر بتحرير يخلفه الصيام إذا لم يجد الرقبة، والصيام يخلفه الطعام إذا لم يستطع، وكل ذلك لا يتصور إلا في حق المسلم.
ونُوقش بأن الصوم بدل عن الإعتاق، والبدل أضعف من المبدل، ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره، فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب المنع، مع صحة الظهار، ففوات أضعف اللازمين كيف يمنع من القول بصحة الظهار
(2)
.
قد يجاب عنه بأن المنع من صحة الظهار مبني على عدم إمكانية الكفارة بلا نية في صورة عبادة، وهذا لا يتصور من الكافر.
ثم إن العبد يعجز عن الإعتاق كما يعجز عنه الحر؛ فالتفريق بين فوات أقوى اللازمين وبين أضعف اللازمين لا أثر له هنا، لأن الفوات ممكن على الجميع.
(1)
تفسير الطبري، 23/ 234.
(2)
تفسير الرازي، 29/ 480.
وكذلك العبد يعجز عن الإعتاق حقيقة، وأما الذمي فلا يعجز عن الصوم مطلقاً؛ لأنه يمكنه الدخول في الإسلام حتى يصبح قادراً على الصوم، فقياس فوات الأقوى على فوات الأضعف قياس مع الفارق.
الدليل الثاني: لأنه لا يصح من الذمي الصوم الذي تتأدى به الكفارة
(1)
، وقيل: إن الظهار يوجب تحريماً ترفعه الكفارة، والذمي لا كفارة عليه، فلم يتعلق بقوله حكم التحريم، إذ لو حرمناها لم يكن تحريماً مؤقتاً بالكفارة
(2)
.
نُوقش بأنه لا يسلم أن التكفير لا يصح منه، فإنه يصح منه العتق والإطعام، وإنما لا يصح منه الصوم، فلا تمتنع صحة الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة كما في حق العبد، والنية معتبرة في تعيين الفعل للكفارة فلا يمتنع ذلك في حق الذمي، كالنية في كنايات الطلاق
(3)
.
وقد يجاب بأن معنى العبودية يترجح بسبب الصوم فيها كلها؛ لأنها على الترتيب وليس التخيير، فمن عجز عن العتق لزمه الصوم، ولا يجوز الانتقال عنه إلا للعجز أيضًا، والكفر ليس من العجز المبيح للانتقال، ويمكن إزالته بمجرد إسلامه، وأما العتق والإطعام فإن النية معتبرة في تعيين الفعل، لكنها في صورة عبادة، ولأجلها يمتنع ذلك في حق الذمي.
كما نوقش بأنه لو أتلف كافر صيداً في الحرم فإنه يضمن
(4)
.
وقد يجاب بأن الضمان من المعاملات، وكفارته لا تنبني على العبادة كما في كفارة الظهار، والله أعلم.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن ظهار الذمي يقع بأدلة، منها:
الدليل الأول: عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3].
(1)
الجوهرة النيرة، 2/ 68.
(2)
شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 5/ 201.
(3)
المجموع (تكملة المطيعي)، 17/ 342 - 343.
(4)
الإنصاف، 3/ 548.
وجه الدلالة: لم يفصل بين المسلم والكافر؛ لأن الكافر من أهل الظهار؛ لأن حكمه الحُرمة، والكفار مخاطبون بشرائع هي حُرُمات، ولهذا كان أهلاً للطلاق، فكذا للظهار
(1)
.
نوقش بأن الآية خاصة بالمسلمين
(2)
؛ فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ، فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال
(3)
.
الدليل الثاني: قياس ظهاره على طلاقه، فكل من صح طلاقه صح ظهاره
(4)
.
قد يناقش بأنه لا يسلم أن الطلاق يصح من الذمي؛ لأن أنكحة الكفار فاسدة، ولا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، ولو تنوزل إلى أنه يصح فإنه قياس مع الفارق، إذ الظهار تحريم مؤقت للجماع وقبله المس، ويفتقر إلى الكفارة بخلاف الطلاق.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما والمناقشات والردود يظهر لي أن القول الأول القائل بأن ظهار الذمي لا يصح أولى وأقرب للصواب؛ لقوة أدلته ولغلبة معنى العبادة في كفارة الظهار، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض المسائل المتشابهة، ولعل القضاء مجال تطبيقها، فعلى سبيل المثال:
- لو أن ذمِّيًّا قال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي فإن قوله لاغٍ على القول الأول ولا أثر له، وعلى القول الثاني يؤخذ به، وعليه الكفارة في غير الصوم.
- وكذا لو قاله لها: إنك علي كبطن أختي أو خالتي إلخ.
(1)
بدائع الصنائع، 3/ 230.
(2)
المرجع السابق.
(3)
تفسير القرطبي، 17/ 276.
(4)
المجموع (تكملة المطيعي)، 17/ 342.
المبحث الرابع: في مسائل الأيمان
المطلب الأول: قول كل حلال عليّ حرام:
مسائل الأيمان
(1)
مبناها على العرف
(2)
، ومن أمثلتها التي يكثر ذكرها في كتب الحنفية في كتاب الأيمان قول رجل: كل حل أو حلال علي حرام؛ هل يحمل على الطعام و الشراب أم يحمل على الطلاق ولو بدون نية.
وقد اختلف فقهاء الحنفية في هذه المسألة؛ فمنهم من قال: إنه يحمل على المأكولات والمشروبات، وهو ظاهر الرواية
(3)
، ومنهم من قال: إنه يحمل على الطلاق من غير نية، والفتوى عند المتأخرين على الثاني
(4)
.
(1)
مفردها اليمين، وهو تقوية أحد طرفي الخبر بالمقسم به. (كنز الدقائق، ص: 327).
(2)
المبسوط، 5/ 117، الذخيرة للقرافي، 7/ 53، مغني المحتاج، 5/ 458، حاشيتا قليوبي وعميرة، 2/ 210، وعند بعض الحنابلة مبناها النية أو سببها كما في الشرح الكبير (11/ 209)، وقيل: إن مبناها على اللفظ كما في المبدع شرح المقنع، 6/ 403.
ولا تعارض بين من قال: إن الأيمان تنبني على الألفاظ أو النيات، وبين من قال: إن مبناها العرف؛ لأن الأول يقصد تحكيم القصد أو النية من حيث التعميم والتخصيص، والثاني من حيث المعنى اللغوي أو العرفي. ذكره البورنو في موسوعة القواعد الفقهية، 1/ 344.
قلت: واختلاف العلماء فيما تنبني عليه الأيمان سبب اختلافهم في تطبيق بعضها على أرض الواقع كما سيأتي.
(3)
الهداية، 2/ 320، وبعضهم اشترط ألا ينوي غير ذلك كما في اللباب (4/ 10).
(4)
كنز الدقائق، ص: 329، الهداية، 2/ 321، الاختيار، 4/ 54، شرح الوقاية للمحبوبي، 3/ 170، مجمع البحرين، ص:720.
وجاء في تبيين الحقائق (3/ 115): "فالصحيح أن يقيد الجواب في هذا ونقول: إن نوى الطلاق يكون طلاقًا فأما من غير دلالة فالاحتياط أن يقف الإنسان فيه ولا يخالف المتقدمين"، وفيه تمسك بظاهر الرواية، لكن العدول عنها جائز إذا كانت من مسائل اختلاف عصر وزمان وليس حجة وبرهان.
وفي رد المحتار (3/ 434) ما يفيد أن حمله على الطلاق بغير نية عرف حادث يعمل به في زمانهم، ولا يعمل بعرف أصلي الذي هو كونه يميناً بمعنى الإيلاء.
ودليل وقوع الطلاق من غير نية غلبة الاستعمال والعرف السائد آنذاك
(1)
، فصار كالصريح
(2)
.
ويظهر أن سبب الاختلاف اختلاف عصر وزمان، فالقول المذكور كان يحمل على المأكول والمشروب عرفاً
(3)
، ثم تغير العرف فصار يحمل على الطلاق بغير نية كالصريح
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء فيما لو قال رجل: كل حلال عليّ حرام؛ على ماذا يحمل قوله؟ على قولين:
القول الأول: إنه يحمل على الطلاق بغير نية، وهو قول الحنفية –كما مضى-، وقول المالكية؛ لقولهم إنه يحمل على الطلاق إذا كان لمطلق التحريم لا إن حاشاها أي استثناها في قلبه
(5)
، وقول الشافعية؛ لأنه من الألفاظ الصريحة وتحمل على الطلاق لغلبة استعمالها في العرف وحصول التفاهم
(6)
.
(1)
الهداية، 2/ 321، مجمع البحرين، ص:720.
(2)
الاختيار، 4/ 54.
(3)
المبسوط، 6/ 71، تحفة الفقهاء، 2/ 197 - 198، بدائع الصنائع، 3/ 170.
(4)
ويؤيده ما يروى عن أبي حنيفة –رحمه الله تعالى- في ذلك، وخلاصته أنه كان يرى أن صاحب القول يدين، فإن لم ينوِ الطلاق فليس بطلاق، وإنما يمين يكفرها، وإن نوى الطلاق ثلاثاً فثلاث، وإن نوى واحدة فواحدة، وهكذا. (ينظر: اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص: 186 - 187).
(5)
المدونة، 2/ 286، التهذيب في اختصار المدونة، 2/ 302، الجامع لمسائل المدونة، 10/ 852.
(6)
روضة الطالبين، 8/ 25، أسنى المطالب، 3/ 270، وقيل إنه يحمل على ما نوى به ويدين. (ينظر: العزيز شرح الوجيز، 8/ 513).
القول الثاني: إنه يحمل على الظهار، وهو قول الحنابلة في الجملة
(1)
؛ لأنه صريح فيه
(2)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن قول رجل: كل حلال عليّ حرام يحمل على الطلاق بدليل العرف وغلبة الاستعمال فيه، والأيمان تنبني على العرف، والعرف أن الحرام يراد به الطلاق
(3)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن قول رجل: كل حلال عليّ حرام يحمل على الظهار بأدلة، منها:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].
وجه الدلالة: الله –سبحانه وتعالى سمى تحريم ما أحله يميناً، وفرض لذلك تحلة، وهي الكفارة
(4)
.
يناقش بأن التحريم لا يطلق على الحلف لغةً، والصواب في تفسير الآية أن النبي –صلى الله عليه وسلم كان قد جمع بين تحريم وحلف، وتحلة اليمين للحلف لا التحريم
(5)
.
(1)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه أبي الفضل صالح، ص: 206، رقم: 134، المغني، 8/ 8، الشرح الكبير على متن المقنع، 8/ 563، وقيل: إنه كناية ظاهرة، وقيل: إنه ظاهر في الظهار، وقيل: إنه ظاهر في اليمين، وحمله على الظهار من مفردات المذهب كما في الإنصاف (8/ 487).
(2)
كشاف القناع، 5/ 253.
(3)
وقد سبق ذكر المصادر عند إيراد الأقوال.
(4)
المغني، 9/ 508.
(5)
تفسير الطبري، 23/ 480.
وكما يناقش بآيات أخر التي فيها ذم تحريم الحلال والمحرم أيضاً ولم يوجب عليه الكفارة، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، وقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59]
(1)
.
الدليل الثاني: إن الله –سبحانه وتعالى جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهاراً، وجعله منكراً من القول وزوراً، فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهراً فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار
(2)
.
قد يناقش بأن حمله على المرأة ممكن إن غلب استعماله في ذلك عرفاً، لكن يرده لو غلب استعماله في غير ذلك -كما عند المتقدمين من الحنفية- مثل الطعام والشراب، فلا يمكن حمله على الظهار ولا الطلاق والحالة هذه.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الأول أقرب للصواب؛ لقوة دليله وإيراد المناقشة على دليلي القول الثاني، وفي ترجيح الأول إعمال للعرف السائد، وإن تغير فإن الحكم يختلف باختلافه.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض المسائل، منها:
(1)
تفسير القرطبي، 18/ 180.
(2)
إعلام الموقعين، 3/ 59، وقال: إنه أقيس الأقوال وأفقهها، ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل، وإنما ذلك إليه –سبحانه وتعالى، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحريم والتحليل، فالسبب إلى العبد، وحكمه إلى الله –سبحانه وتعالى.
قلت: العرف يؤثر في السبب ومراده ويغيره، وباختلافه يختلف حكم الله فيه كما في هذه المسألة، فمن حرم حلالاً فإن قوله يحمل على ما غلب استعماله عرفاً، فإن كان الطعام والشراب فيمين، وإن كان الزوجة فإما طلاق وإما ظهار، وليس كل التحريم يميناً كما سبق عند مناقشة الدليل الأول.
ويؤيده إطلاق الناس اليوم لفظ المحروم على الغني البخيل، وإن كان أصل اللفظ يدل على الفقر والعوز.
وعليه يمكن تصور حمل قوله على لباس مثلاً إذا غلب في عرف الناس استعمالهم كلمة حلال على لباس، والله أعلم.
- لو قال رجل: كل حل عليّ حرام، فعلى القول الأول طلقت زوجته إن كان متزوجاً، وعلى الثاني ظاهر وعليه كفارة الظهار.
- وفائدة إعمال العرف تظهر فيما لو كان يحمل على الشرب أو الأكل، فالقول لاغٍ على القولين؛ لأن الطلاق والظهار متعلقان بالزواج الذي قد يوجد وقد لا يوجد، بخلاف المأكولات والمشروبات.
المطلب الثاني: من حلف ألا يلبس حلياً فلبس عقد اللؤلؤ
هذه مسألة تُذكر في كتاب الأيمان، والأيمان عند الحنفية تنبني على العرف –كما سبق- في المسألة السابقة، فلو حلف شخص ألا يلبس حلياً، فلبس عقد لؤلؤ، فإنه لا يحنث في قول أبي حنيفة –رحمه الله؛ لأنه ليس بحلي حتى يُرصّع بالذهب والفضة
(1)
، وعند صاحبيه هو حلي، فيحنث فيه بدليل قوله تعالى:{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]، والمستخرج من الجوهر اللؤلؤ غير مرصع
(2)
، وقولِه:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23]
(3)
، وكذلك من حيث العرف يستعمل استعمال الحلي، فالمرأة قد تلبس عقد لؤلؤ للتحلي بها، ولكن أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- شاهد العرف في عصره، وأن النساء يتحلَّيْنَ باللؤلؤ مرصعاً بالذهب أو الفضة، ولا يتحلَّيْنَ باللؤلؤ وحده فبنى الجواب على ما شاهده
(4)
.
(1)
المبسوط، 9/ 30.
(2)
البناية، 6/ 240.
(3)
الأصل، 3/ 394.
(4)
ينظر: المبسوط، 9/ 30، بتصرف يسير.
وقد يقال: إن فيه إشكالاً بحيث بنى الإمام قوله على العرف السائد، وبنيا قولهما على عرف زمانهما، إضافة إلى أنه موافق لما جاء في القرآن؛ فهل غابت هذه الآيات عن الإمام؟ يقال –والله أعلم-: إن الإمام حمل معنى اللؤلؤ على المرصع فقط وهو محتمل لغةً، ففي العين (8/ 354) وغيره يُعرف اللؤلؤ بكلمة معروف، لكن جاء بعده ببيت غير منسوب لأحد مقراً به:
دُرّةٌ من عقائل البَحْر بكرٌ
…
لم تخنها مثاقب اللئال
فسماه درة بكراً قبل أن تخنها مثاقب اللئال. ويؤيد ذلك ما جاء في بعض التفاسير المتأخرة مثل تفسير الجلالين (ص: 576)، فإنها تنص على أن اللؤلؤ المذكور في آية فاطر مرصع بالذهب. أو يقال: إن سبب ذلك قولهم في الأيمان: إنها مبنية على العرف لا على الحقائق اللغوية ولا على ألفاظ القرآن الكريم (ينظر: مجمع الأنهر، 1/ 580، المبسوط، 8/ 184)، وهو أولى؛ فقدم العرف السائد في وقته لأجل ذلك، والمسألة عادت إلى اختلاف الأعراف، فصح أن يقال فيها: إنها اختلاف عصر وزمان، والله أعلم. (ينظر: البناية، 6/ 240)
والفتوى على قولهما بدليل من القرآن الكريم والاستعمال العرفي
(1)
.
وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان؛ لأن التحلي به على الانفراد أصبح عادة في وقتهما
(2)
، فكل واحد منهم قال على عادة زمانه
(3)
، وهو سبب ترجيح قولهما على قول إمامهما.
والقول بأن اللؤلؤ حلي هو قول بقية المذاهب من المالكية
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
، وخلاصة المسألة أن من حلف ألا يلبس حلياً فلبس اللؤلؤ حنث؛ لأنه من الحلي.
وقد استدلوا على هذه المسألة بأدلة من القرآن الكريم والقياس والعرف.
أما القرآن فقوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14].
وجه الدلالة: المستخرج من الجوهر اللؤلؤ غير مرصع وقد سماه حلياً.
وأما القياس فلأن اللؤلؤ حلي مع غيره فكان حلياً وحده كالذهب
(7)
.
قد يناقش بأن القياس مع الفارق، ويرده إجماع العلماء على أنه لا زكاة في الحلي إذا كان جوهراً لا ذهب فيه ولا فضة إلا أن يكون للتجارة
(8)
.
والعرف يؤيده، فإن اللؤلؤ ولو كان غير مرصع يسمى حلياً.
وعلى فرض وجود الخلاف فإن المسألة لها فائدة عملية تظهر في هذه الصورة إذا حلف ألا يلبس حلياً، فلا يحنث على قول أبي حنيفة، ويحنث على قول غيره من الأئمة.
(1)
الاختيار، 4/ 71، والهداية، 2/ 336، شرح الوقاية للمحبوبي، 3/ 186، مجمع البحرين، ص 735.
(2)
الهداية، 2/ 336، مجمع البحرين، ص: 735، العناية، 5/ 191.
(3)
البناية، 6/ 240.
(4)
الإشراف على نكت مسائل الخلاف، 2/ 900، وقال:"إنه وجد الجواهر مسماة بالحلي ومعدودة من أفخره وأنفسه فكانت كالذهب". ولم أجد غيره من المالكية تكلم عن هذه المسألة.
(5)
المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 77، مغني المحتاج، 6/ 215.
(6)
الشرح الكبير، 11/ 240، الإنصاف، 11/ 78.
(7)
الشرح الكبير، 11/ 240.
(8)
الاستذكار، 3/ 153.
المطلب الثالث: من حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن:
هذه مسألة أخيرة من مسائل الأيمان في هذا المبحث، وصورتها شخص حلف أن لا يتكلم فقرأ القرآن؛ فهل يحنث أم لا؟
وفقهاء الحنفية يذكرونها في كتاب الأيمان، ويفرقون بين من قرأ القرآن في الصلاة وغيرها، فإن قرأه في الصلاة لم يحنث؛ لأنه لا يسمى كلاماً شرعاً
(1)
، ولأن ذاك غير مراد ولا مقصود باليمين
(2)
، وإن قرأه خارجها كذلك
(3)
؛ لأنه لا يسمى متكلما عرفاً، بل قارئاً
(4)
، والفتوى على ذلك
(5)
.
وهو خلاف ظاهر الرواية الذي بُني على عرف المتقدمين، واختير للفتوى خلافه بناءً على العرف المتأخر، والأيمان مبناها على العرف
(6)
، وقد استقر قول الحنفية على ذلك.
والقول بأن من حلف أن لا يتكلم لا يحنث بقراءة القرآن مطلقاً سواء داخل الصلاة أم خارجها هو قول بقية المذاهب من المالكية
(7)
، والشافعية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
وعليه فإن المسألة محل اتفاق الفقهاء، ومن أدلتها ما يلي:
(1)
العناية، 5/ 146.
(2)
لأن الإنسان لا يحلف على ترك الكلام كي يترك الصلاة، فعلم أن الموجود في الصلاة لا يسمى كلامًا حرفًا، ولأن الكلام حرام في الصلاة، وهذا مباح. (ينظر: البناية، 6/ 196 - 197)
(3)
وظاهر الرواية على أنه يحنث. (ينظر: شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 7/ 448، رد المحتار، 3/ 794).
(4)
الهداية، 2/ 329، الاختيار، 4/ 59، الجوهرة النيرة، 2/ 198،
(5)
زاد الفقهاء، 586 - 587، البناية، 6/ 197.
(6)
رد المحتار، 3/ 794.
(7)
التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 3/ 342، ولم أجد غيره ذكر حكم المسألة.
(8)
المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 109، نهاية المطلب، 18/ 400، المجموع، 18/ 84.
(9)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 209، المغني، 9/ 618، الإنصاف، 11/ 93.
الدليل الأول: قوله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)} [آل عمران: 41]
(1)
.
وجه الدلالة: أمره بالذكر والتسبيح بعد قطع الكلام عنه، فدل على أن الذكر ليس بكلام
(2)
.
الدليل الثاني: قوله –صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة"
(3)
(4)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على أن ما يقرأ في الصلاة ليس من الكلام.
الدليل الثالث: قوله –صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"
(5)
.
وجه الدلالة: الكلام مفسد للصلاة، ولو كانت هذه الأشياء من كلام الناس لأفسدت أيضاً
(6)
.
الدليل الرابع: العرف؛ لأن الكلام فيه لا يطلق إلا على كلام الآدميين
(7)
، فمن قرأ القرآن لا يسمى متكلماً، بل قارئاً –كما سبق-.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو حلف شخص أن لا يتكلم فقرأ القرآن، فإنه لا يحنث مطلقاً، وعلى فرض الخلاف
(8)
–كما في القول المرجوح في المذهب الحنفي- فإنه يحنث لو قرأ القرآن خارج الصلاة وليس داخلها.
(1)
ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 209.
(2)
المغني، 9/ 619.
(3)
أخرجه البخاري، 9/ 152، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29].
(4)
ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 209.
(5)
أخرجه مسلم، 1/ 381، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم حديث:537.
(6)
تبيين الحقائق، 3/ 137، وقد ذكر الدليل ووجهه.
(7)
المغني، 9/ 618.
(8)
وعلى فرضه فإن الإجماع على أنه لا يحنث لو قرأ داخل الصلاة.
المبحث الخامس: في مسائل النفقة
المطلب الأول: وقت وجوب النفقة للزوجة وقدرها:
هذه مسألة من أولى مسائل كتاب النفقات عند الحنفية، ويقررون أنه تجب للمرأة النفقة والكسوة والسكنى بتسليم نفسها في منزل زوجها
(1)
، وتكون على قدر حال الزوج؛ لقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]
(2)
، فالآية تبين أن التكليف بحسب الوسع، وأن النفقة على الرجال بحسب حالهم
(3)
، وقيل: على قدر حالهما جمعاً بالآية السابقة وحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند رضي الله عنها: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك"
(4)
(5)
، وبه يفتى
(6)
، وعليه المتون والشروح
(7)
.
(1)
وكذا عند المالكية بمعنى التمكن من الاستمتاع كما في شرح مختصر خليل الخرشي، 4/ 183، والشافعية كما في المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 148، والحنابلة كما في الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 227، فالمسألة محل الاتفاق بين المذاهب.
(2)
تبيين الحقائق، 3/ 51، وهو ظاهر الرواية كما في اللباب، 3/ 92.
(3)
المبسوط، 5/ 182.
(4)
أخرجه مسلم، 3/ 1338، كتاب الأقضية، باب قضية هند، رقم حديث: 1714، وهو حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك".
(5)
مختصر القدوري، ص: 172، تبيين الحقائق، 3/ 51، وقال:"فقد اعتبر حالها، والحديث صحيح مذكور في الصحيحين، وما تلاه [من الآيتين] يقتضي اعتبار حال الرجل فاعتبرنا حالهما عملاً بهما".
(6)
مجمع البحرين، ص: 600، البداية، ص: 88، الهداية، 2/ 285.
(7)
رد المحتار، 3/ 574. قلت: لعلهم عدلوا عن الفتوى بظاهر الرواية؛ لتبدل العرف، وذلك سبب معتبر عند الحنفية، أو لأنه أرفق بالناس.
وحاصله أنه إن كانا موسرين نفقة اليسار، وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار
(1)
، وإن كانا مختلفين فعلى ظاهر الرواية يعتبر حال الزوج، وأما على ما يفتى به فبين الحالين
(2)
، إلا أنه إذا كان هو المعسر يطالب بقدر وسعه والباقي دين عليه
(3)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن المعتبر في نفقة الزوجة حال الزوج إذا كان معسرين أو موسرين
(4)
، واختلفوا إذا كان أحدهما موسراً والآخر معسراً على القولين:
(1)
باتفاق في الصورتين. ينظر: رد المحتار، 3/ 575.
(2)
وهي نفقة الوسط، والوسط فوق نفقة المعسرة ودون نفقة الموسرة. (ينظر: رد المحتار، 3/ 575).
(3)
ينظر: الهداية، 2/ 285، اللباب، 3/ 92.
(4)
ينظر: الرد المحتار، 3/ 575.
القول الأول: إن المعتبر حالهما معاً، فتكون نفقة الوسط، فوق نفقة المعسرة ودون نفقة الموسرة، وهو المفتى به عند الحنفية –كما سبق-، وقول المالكية
(1)
والحنابلة
(2)
.
القول الثاني: إن المعتبر حال الزوج فقط، وهو قول الشافعية
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأن المعتبر حال الزوج والزوجة معاً بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
(1)
وقالوا: إنه يرجع إلى قدر وسعه وحالها. ينظر: شرح مختصر خليل للخرشي، 4/ 184. وقد ذكر سبب التفريق بين الحال والوسع المقدر:"فلا تجاب هي لأكثر من لائق بها ولا هو لأنقص منه. فإن قيل: لمَ عبَّر به في الرجل بالسعة والمرأة بحالها ولو قال: بحالهما لكان أخصر؟ يقال: إنما عبر بالسعة في جانب الزوج اقتداءً بالقرآن {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، والبلد والسعر، يعني أنه لا بد من وجوب النفقة على الزوج من اعتبار حال بلده وحال السعر فيه؛ إذ ليس بلد الخصب كبلد الجدب، ولا بلد الرخاء كبلد الغلاء، ولا حال الموسر كحال المعسر"، وهو تفريق لفظي تأدباً بالقرآن الكريم لا أثر له. ويدل على ذلك ما جاء في الشرح الكبير (2/ 509):"واعلم أن اعتبار حالهما لا بد منه سواء تساويا غنى أو فقراً أو كان أحدهما غنياً، والآخر فقيراً، لكن اعتبار حالهما عند تساويهما فقراً أو غنى ظاهر، وأما عند اختلافهما فاللازم حالة وسطى بين الحالتين، وحينئذ فنفقة الفقير على الغنية أَزْيَد من نفقته على الفقيرة كما أن نفقة الغني على الفقيرة أقل من نفقته على الغنية هذا هو المعتمد".
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 3/ 232، وذكر تعليلاً مهماً:"إذا كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا، ما بينهما، كل على حسب عادته؛ لأنه إيجاب نفقة الموسرين على المعسر، وإنفاق الموسر نفقة المعسرين، ليس من المعروف، وفيه إضرار بصاحبه". ينظر: المغني، 8/ 195 - 196، الشرح الكبير على متن المقنع، 9/ 230، المبدع، 7/ 142.
(3)
الحاوي الكبير، 11/ 423، المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 250.
وجه الدلالة: الآية تبين أن التكليف بحسب الوسع، وأن النفقة على الرجال بحسب حالهم
(1)
.
الدليل الثاني: حديث عائشة –رضي الله عنها أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال لهند –رضي الله عنها: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك"
(2)
.
ونوقش بأنه أذن لها أن تأخذ بالمعروف، والمعروف ألا تأخذ في الإعسار ما تأخذه في اليسار
(3)
.
وأجيب عن المناقشة بأنه أذن لها أن تأخذ بالمعروف الذي فيه كفايتها وكفاية بنيها، فالنفقة على كفاية الزوجة فتعتبر حالها أيضاً
(4)
.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بأن المعبر حال الزوج فقط بآية الطلاق مثل أصحاب القول الأول، وهو قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وجه الدلالة: أنه أراد أن الغنى ينفق على حسب حاله، والفقير على حسب حاله
(5)
.
نوقش بأن الآية دليل على اعتبار حال الزوج، وهذا صحيح، وحديث عائشة –رضي الله عنها دليل على اعتبار حال الزوجة، فيجمع بينهما.
(1)
وقد سبق ذكر مصادر الدليل ووجه.
(2)
وقد سبق تخريجه عند تحرير مذهب الحنفية في المسألة.
(3)
الحاوي الكبير، 11/ 424.
(4)
ينظر: شرح النووي على مسلم، 12/ 7، وقال: إن فيه رداً على الشافعية في إخراج نفقة الزوجة من تقديرها بالكفاية، وهو منهم.
(5)
المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 250.
الترجيح:
بعد استعراض القولين بأدلتهما يظهر أن القول بالجمع بين حال الزوج والزوجة معاً في اعتبار النفقة أقرب للصواب؛ لأنه جمع بين الدليلين، وفيه عمل بكلا النصين، وفيه أيضاً رعاية لكل الجانبين، فيكون أولى
(1)
.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن ابن الوزير تزوج بنت الوزير الآخر أو لو أن شخصاً فقيراً تزوج بفقيرة فإن المعتبر في النفقة حال الزوج عند الجميع؛ لأنهما في مرتبة واحدة.
- ولو أن ابن الوزير تزوج فقيرة أو فقيرًا تزوج بنت الوزير، فعلى القول الأول يعتبر حالهما معاً، ولها نفقة فوق المعسرة ودون الموسرة، وعلى الثاني فإن زوجة ابن الوزير لها نفقة بقدر وسع زوجها وحاله، وزوجة الفقير لها نفقة بقدر وسع زوجها وحاله ولو كانت من أغنى الناس.
(1)
ينظر: المغني، 8/ 196.
المطلب الثاني: نفقة الزوجة إذا حُبست في دين:
جاء في المسألة السابقة ما يفيد الاتفاق على أن نفقة الزوجة واجبة بمجرد تسليم نفسها وتمكن زوجها من الاستمتاع بها
(1)
.
والنفقة لها موانع، ومنها: حبس الزوجة في دَين عليها؛ لأن فوت الاحتباس منها
(2)
، وعليه الفتوى
(3)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
وصورة المسألة في زوجة استدانت المال ولم تسدده حتى حبست فيه؛ فهل لها نفقة في هذه الحالة؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إن لها نفقة مدة حبسها، وهو قول المالكية
(4)
.
القول الثاني: إن النفقة تسقط، وهو قول الحنفية –كما مضى-، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
(1)
ص: 169، من هذا البحث، هامش رقم:1.
(2)
فيه بيان أن النفقة عوض عن الاحتباس في بيته. (ينظر: البناية، 5/ 667)
(3)
بداية المبتدي، ص: 89، الهداية، 2/ 286، وذكر رواية عن أبي يوسف –رحمه الله أن لها نفقة، وانظر أيضا: رد المحتار، 3/ 578.
(4)
شرح مختصر خليل للخرشي، 4/ 195، الشرح الكبير، 2/ 517.
(5)
روضة الطالبين، 9/ 60، أسنى المطالب، 1/ 390، حاشية الجمل، 3/ 322.
(6)
المبدع في شرح المقنع، 7/ 158، الإنصاف، 9/ 381.
التعليلات والمناقشات:
تعليل القول الأول:
علَّل القائلون بأن النفقة لم تسقط إذا حبست الزوجة في دين عليها بتعليل مفاده أن المنع من الاستمتاع لم يحصل من جهتها
(1)
.
قد يناقش بأنه بسببها وإن لم يكن من جهتها.
قد يجاب عنه بأنه إذا اجتمع المباشر والمتسبب، أضيف الحُكم إلى المباشر
(2)
، فالذي باشر الحبس هو السلطان وليست الزوجة، فالحكم يضاف إليه لا إليها، فلا تسقط نفقتها.
قد يناقش أيضاً بأنه يُستثنى من ذلك إذا كان المتسبب متعدياً بفعله.
وقد يجاب عنه بأن الحكم يضاف إلى المباشر وحده دون المتسبب في حالة كون السبب لا يعمل في فوت الاحتباس إذا انفرد عن المباشرة
(3)
.
تعليل القول الثاني:
علَّل القائلون بأن النفقة تسقط؛ لأن فوت الاحتباس حصل بسببها.
يناقش –كما مر- بأنه إذا اجتمع السبب والمباشرة، غلب جانب المباشرة.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وتعليليهما يظهر أن القول الأول أقرب للصواب؛ لأن الزوجة متسببة وليست مباشرة لفوت الاحتباس، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو حبست في السجن بسبب الدين، فإن النفقة ما زالت لها وقت حبسها بخلاف القول الثاني.
ويظهر من ذلك أن لها نفقة حتى لو كانت الدولة تصرف عليها وقت سجنها، والله أعلم.
(1)
الشرح الكبير، 2/ 517.
(2)
شرح مختصر الروضة، 1/ 427، التحبير شرح التحرير، 3/ 1036.
(3)
ينظر: شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص:448.
المطلب الثالث: نفقة الزوجة إذا حبست في سفرها مع محرم
(1)
لأداء الحج:
هذه المسألة ملحقة بالسابقة؛ إذ الحنفية لم يفرقوا بينهما من حيث عدم وجوب نفقة الزوجة؛ لأن فوت الاحتباس منها.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورتها فيما لو سافرت الزوجة لأداء الحج الفرض مع محرم هل تسقط نفقتها حتى ترجع إلى بيتها؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إن النفقة تسقط، وهو قول الحنفية –كما مر في المسألة السابقة-، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
القول الثاني: لا تسقط نفقتها إلا أن لها نفقة حضر وليس سفر، وهو قول المالكية
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل القائلون بأن نفقة الزوجة تسقط إذا كانت محبوسة في سفرها لأداء الحج الفرض مع محرم لها بدليل أن فوت الاحتباس من جهتها
(5)
.
قد يناقش بأنها مأمورة بأداء فريضة الحج على الفور متى توفرت أسبابه وتحققت شروطه.
(1)
أي غير الزوج. (ينظر: بدائع الصنائع، 4/ 20)
(2)
روضة الطالبين، 9/ 61، أسنى المطالب، 2/ 198، وقالوا: إن سافر معها زوجها فلا تسقط على المذهب، وإلا فتسقط سواء بإذنه أو بدونه. قلت: وهو مقتضى قول الحنفية: إذ العلة في وجوب النفقة الاحتباس في بيته، والاحتباس لأجل الاستمتاع بها، وهذا يتأتى في السفر معها.
(3)
الإقناع، 4/ 144، المبدع في شرح المقنع، 7/ 158، وقالوا: تسقط نفقتها حتى مع إذنه، إلا أن يكون مسافراً معها متمكناً من استمتاعها، والصحيح أنها بإحرامها مانعة له من التمكين فلا نفقة.
(4)
شرح مختصر خليل للخرشي، 4/ 195، الشرح الكبير، 2/ 517.
(5)
وقد سبق ذكر مصادر الأدلة في المسألة السابقة.
دليل القول الثاني:
لم أجدهم يذكرون الدليل لهذه المسألة، لكن يمكن الاستدلال بقولهم: إن الحج على الفور، وليس للزوج منعها حينئذ
(1)
، وعليه فلا تسقط النفقة.
قد يجاب بأنه ليس له منعها، لكن له أن يمنع النفقة لفوات الاستمتاع بها.
الترجيح:
بعد استعراض القولين يظهر أن القول الثاني أقرب للصواب؛ لأن فوت الاحتباس الآن تغير؛ ففي قديم الزمان حج المرأة كان يأخذ ثلاثة أشهر وأكثر
(2)
، وأما الآن فكلها أيام قليلة، وقد لا تتجاوز زيارة الزوجة أهلها في الغالب، ويكون من الصعب إطلاق القول إنها محبوسة في سفرها لأداء الحج، وما دون ذلك من باب أولى، والله أعلم.
والمسألة لها فائدة عملية تظهر فيما لو سافرت الزوجة مع محرم لها غير الزوج لأداء الحج الفرض، وكانت نفقتها مائة ريال لكل يوم مثلاً، فعلى القول الأول تسقط نفقتها عنه بقدر عدد أيام غيابها، وعلى الثاني لا تسقط، ولها بعد عودتها عن كل يوم مائة ريال.
وينغي التنبيه إلى أن غياب الزوجة في القديم لمدة تتجاوز ثلاثة أشهر له أثر بالغ، وإيجاب النفقة في هذه المدة مع عدم التمكن الذي هو شرط وجوب النفقة فيه إضرار بالزوج، ولذلك كان لهذا القول حظ من النظر والحالة كما ذُكر، وأما الآن فقد لا يكون فيه إضرار بالزوج، وإن قلنا بأن النفقة تسقط فليست كثيرة لقلة أيام غياب الزوجة.
وفي كثير من الأحايين الزوج يدفع لزوجته تكاليف أداء الفريضة وتكلفة سفر أغلى من تكلفة حضر؛ لوجود وسائل النقل، والفنادق وغيرها.
ولذلك يمكن الجمع بين القولين بهذه الطريقة، بحيث ينظر إلى حقيقة فوت الاحتباس عرفاً، والله أعلم.
(1)
التاج والإكليل، 4/ 306، مواهب الجليل، 2/ 472.
(2)
بدائع الصنائع، 4/ 20.
المطلب الرابع: حد اليسار في النفقة
(1)
:
هذه آخر مسألة من مسائل النفقات في هذا البحث، وفقهاء الحنفية اختلفوا في حد اليسار الموجب لنفقة الأقارب على قولين:
القول الأول: إنه يقدر بنصاب الزكاة، وهذا روي عن أبي يوسف رحمه الله
(2)
.
القول الثاني: ما روي عن محمد رحمه الله أنه قدره بما يفضل على نفقة نفسه وعياله شهراً أو بما يفضل على ذلك من كسبه الدائم كل يوم
(3)
.
والفتوى على الأول لكن النصاب نصاب حرمان الصدقة
(4)
، وهو مائتا درهم
(5)
إذا كان فاضلاً عن حوائجه الأصلية] من أي مال كان
(6)
[، بدليل أن النفقة أشبه بصدقة الفطر؛ لكونها مئونة من وجه، وصدقة من وجه، والنفقة مئونة من كل وجه، فلما لم يشترط لوجوب الفطر الغنى الموجب للزكاة فلأن لا يشترط هاهنا -وهي مئونة من كل وجه- أولى
(7)
.
وقدم قول محمد رحمه الله؛ لأنه أرفق بالناس
(8)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة في شخص له ما يفضل من ماله على حوائجه الأصلية؛ فمتى يوصف بأنه أدنى حد اليسار الذي تجب بعده النفقة على الأقارب؟
(1)
أي الذي تعلق به وجوب نفقة الأقارب.
(2)
الهداية، 2/ 293.
(3)
الهداية، 2/ 293.
(4)
ينظر: الهداية، 2/ 293، مجمع الأنهر، 1/ 223، مجمع البحرين، ص: 605 - 606، إلا أنه قدر نصاب حرمان الصدقة بما روي عن محمد، وهو ما يفضل على نفقة نفسه وعياله شهراً أو بما يفضل على ذلك من كسبه الدائم كل يوم، وذيّله بعلامة الإفتاء أيضاً، وتبيين الحقائق، 3/ 64، الجوهرة النيرة، 2/ 93.
(5)
وهو أقل نصاب زكاة الفضة كما في الاختيار، 1/ 111.
(6)
البناية، 5/ 708.
(7)
العناية، 4/ 423.
(8)
البحر الرائق، 4/ 230، رد المحتار، 3/ 621.
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء في حد اليسار الموجب لنفقة الأقارب على القولين:
القول الأول: إن اليسار نصاب حرمان الصدقة، ويقدر بمائتي درهم إذا كان يفضل على حوائجه الأصلية من أي مال كان، وهو قول الحنفية – كما سبق-.
القول الثاني: إن اليسار المذكور مقدر بما يفضل عن قوته وقوت زوجته في يومه وليله، وهو قول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن حد اليسار يتعلق بنصاب حرمان الصدقة بأدلة، منها:
الدليل الأول: قياس الأولى؛ لأن صدقة الفطر لم يشترط فيها النصاب الموجب للزكاة مع كونها مئونة وصدقة، فالنفقة من باب أولى؛ لأنها مئونة فقط.
قد يناقش بأن صدقة الفطر مرة واحدة في السنة فلم يشترط لها النصاب الموجب للزكاة، وأما النفقة فمستمرة طوال العام.
الدليل الثاني: لأن حد اليسار بنصاب حرمان الصدقة أرفق بالناس
(4)
.
قد يناقش بأن الضرر يلحق بعض الموسرين بهذا الاعتبار، وبخاصة إذا كان عدد الأقرباء المحتاجين كثير.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن اليسار ما فضل عن قوت نفسه وزوجته في يومه وليله بأدلة، منها:
(1)
الشرح الكبير، 2/ 524، شرح الزرقاني، 4/ 465.
(2)
المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 159، روضة الطالبين، 9/ 83.
(3)
الإنصاف، 19/ 33، شرح منتهى الإرادات، 3/ 239.
(4)
ولعل قصدهم الفقراء؛ لأنهم يستفيدون من جعل الأقارب موسرين بأقل قدر ممكن من المال، والله أعلم.
الدليل الأول: ما روى جابر –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم فقيرًا، فليبدأ بنفسه، فإن كان فيها فضل فعلى عياله، فإن كان فيها فضل، فعلى ذي قرابته -أو قال: على ذي رحمه- فإن كان فضل فهاهنا وهاهنا"
(1)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على أن من لا يفضل عن نفقته شيء لا تجب عليه
(2)
، وإنما تجب بأدنى ما يفضل عنها.
الدليل الثاني: تقديم نفقة الزوجة على القريب؛ لأن نفقة الزوجة عوض، فَقُدِّمت على نفقة القريب التي هي المواساة، ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كنفقة نفسه
(3)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر للباحث أن القول الثاني أقرب للصواب؛ إذ يؤيده النص الشرعي، وفيه رفق بالفقراء أيضاً، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو كان لشخص موسر أقارب فقراء، فعلى القول الأول لا تجب نفقتهم إلا إذا كان يفضل من ماله مائتا درهم، وعلى الثاني تجب إذا كان فاضلاً عن قوت نفسه وزوجته في يومه وليله.
(1)
أخرجه أبو داود، 6/ 90، أول كتاب العتاق، باب فيمن أعتق عبيداً له لم يبلغهم الثلث، رقم حديث: 3957، وقد صحَّح إسناده محقق الكتاب شعيب الأرناؤوط، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، 4/ 100، كتاب الزكاة، باب ذكر الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فضل صدقة المقل إذا كان فضلاً عمن يعول، لا إذا تصدق على الأباعد وترك من يعول جياعاً عراة إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببدء من يعول، رقم حديث: 2444، والنسائي، 7/ 304، كتاب البيوع، بيع المدبر، رقم حديث: 4653، وصحَّحه الألباني في الإرواء، 7/ 231، رقم حديث: 2165، ونقل تصحيح الترمذي ولم أجده، وأصله في مسلم (2/ 692، كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، رقم حديث 997)، ولفظه:"ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا".
(2)
المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 286، المغني، 8/ 221، ذكر الدليل ووجهه.
(3)
المجموع (تكملة المطيعي)، 18/ 286.
المبحث السادس: في مسائل الإجارة
المطلب الأول: الإجارة على الطاعات:
يذكر فقهاء الحنفية هذه المسألة في كتاب الإجارة، لكن تحت باب الإجارة الفاسدة، ويفهم من ذلك حكمها ابتداءً، وينصون على أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها، لكن حينما ظهر التواني في أمور الدين استحسن بعض الفقهاء الاستئجار على تعليم القرآن؛ لأن في الامتناع عن ذلك تضييع حفظ القرآن، ولأن حاجة الناس داعية إلى ذلك
(1)
، وعليه الفتوى
(2)
.
وعليه فإن جواز الاستئجار اقتُصِر على تعليم القرآن، وزاد بعضهم الأذان والإقامة والوعظ والفقه وغيره، لكن أكثرهم على جواز الاستئجار لتعليم القرآن. وقد اتفقت كلمتهم في الشروح على التعليل بالضرورة، وهي خشية ضياع القرآن، كما اتفقت كلمتهم على التصريح بأصل المذهب من عدم الجواز، ثم استثنوا ما ذُكر آنفاً، فهذا دليل على أن المفتى به ليس جواز الاستئجار على كل طاعة، بل على ما ذكروه فقط ولأجل الحاجة، وتعليم القرآن في ذلك أظهر
(3)
.
والخلاف في هذه المسألة اختلاف زمان، وليس حجة وبرهان
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المسألة فيما لو أن إنساناً أراد أن يعلّم ابنه القرآن الكريم، فوجد شخصاً يقوم بذلك بأجر؛ فهل تصح هذه الإجارة؟
(1)
الاختيار، 2/ 60، وأضاف أيضًا كسل الناس في الاحتساب، وصاحب مجمع البحرين (ص: 387) أضاف التعليم وأطلقه، والإمامة والفقه.
(2)
الهداية، 3/ 238، شرح الوقاية للمحبوبي، 4/ 285.
(3)
ينظر: رد المحتار، 6/ 56.
(4)
تبيين الحقائق، 5/ 125.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على جواز أخذ الرزق من بيت مال المسلمين لتعليم القرآن الكريم
(1)
، واختلفوا في جواز الاستئجار على تعليمه وأخذ الأجر من ذلك على قولين:
القول الأول: جواز الاستئجار على تعليم القرآن، وهو قول الحنفية للحاجة فقط
(2)
–كما سبق-، والمالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، ورواية عند الحنابلة
(5)
.
القول الثاني: عدم جواز الاستئجار على تعليم القرآن، وهو قول عند الحنفية، وهو الأصل في المذهب -كما سبق-، ورواية أخرى عن الحنابلة
(6)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بجواز الاستئجار لتعليم القرآن بأدلة، منها:
(1)
رد المحتار، 2/ 596، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك مع حاشية الصاوي، 2/ 16، حاشيتا قليوبي وعميرة، 4/ 297، المغني، 5/ 411.
(2)
ويفهم من ذلك أن قول المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة من باب الأصل في المذهب، وأما الحنفية فألحقت قولهم بهم، لموافقتهم لهم في حالة الحاجة الماسة إلى الاستئجار خوفاً من تضييع حفظ القرآن الكريم، وإلا فيمكن القول بأن الحنفية يمنعون ذلك، لكن على الأصل في مذهبهم هم.
(3)
المدونة، 1/ 160، شرح مختصر خليل للخرشي، 7/ 17، وأكد على أن الإجارة تجوز لأجل الحفظ، منح الجليل، 7/ 476.
(4)
الأم، 2/ 140، المجموع (تكملة المطيعي)، 15/ 15.
(5)
الشرح الكبير، 6/ 63.
(6)
الشرح الكبير، 6/ 63، وقد حملوها على الكراهة لا التحريم.
وذكر في مجموع الفتاوى (24/ 316) رواية ثالثة -لم أجدها عند غيره- أنه يجوز أخذ الأجرة عليها للفقير دون الغني، للحاجة، وأنه أقوى من غيره. قلت: وهو قريب من قول الحنفية المفتى به؛ لأن الضرورة التي جعلتهم يجيزون الاستئجار سببها فساد بيت المال وعدم صرف الدول على عطيات القراء والمحفظين، مما اضطرهم إلى البحث عما يكفي حاجتهم وحاجة عيالهم، وفي غيابهم عن منصات التعليم خوف على ضياع حفظ كتاب الله –جل وعلا-، والله أعلم.
الدليل الأول: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء، فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راقٍ، إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً، فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على جواز أخذ الأجر على كتاب الله، وعليه يجوز الاستئجار على تعليمه
(3)
.
نوقش بأنه يحمل على الجعل في الرقية؛ لأنه ذكر ذلك في سياق خبر الرقية، كما نوقش أيضًا بأن المراد من الأجر ثواب
(4)
.
وقد يجاب عنه بحديث: "وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم"
(5)
، فلا يمكن حمله على الثواب.
كما يمكن مناقشته أيضاً بأن البخاري أدرج هذا الحديث في كتاب الطب
(6)
، وهو من فقهه –رحمه الله.
ويجاب عنه بأن البخاري أدرج الحديث نفسه في كتاب الإجارة
(7)
، فدل على أنه يحمل عليها.
(1)
أخرجه البخاري، 7/ 131، كتاب الطب، باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، رقم حديث:5737.
(2)
المغني، 5/ 411.
(3)
المغني، 5/ 411.
(4)
عمدة القاري، 12/ 96.
(5)
أخرجه البخاري، 7/ 133، كتاب الطب، باب النفث في الرقية، رقم حديث:5749.
(6)
المرجع السابق.
(7)
صحيح البخاري، 3/ 92، كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب.
الدليل الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: إذا جاز تعليم القرآن عوضاً في النكاح، وقام مقام المهر جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة
(3)
.
نوقش بأنه ليس في الحديث تصريح بأن التعليم صداق، وإنما قال:"فقد زوجتكها بما معك من القرآن"
(4)
، فيحتمل أنه زوجها إياه بغير صداق إكرامًا كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه
(5)
، أو أن يقال إنه زوجه لإسلامه
(6)
(7)
.
الدليل الثالث: حديث أبي سعيد أن رجلاً رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على جُعل فبرأ، وأخذ أصحابه الجعل، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه وسألوه فقال:"وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم"
(8)
(9)
.
وجه الدلالة: وإذا جاز أخذ الجعل جاز أخذ الأجر، لأنه في معناه
(10)
.
(1)
أخرجه البخاري، 6/ 192، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم حديث: 5029، ومسلم، 2/ 1040، كتاب النكاح، باب الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن، وخاتم حديد، وغير ذلك من قليل وكثير، واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به، رقم حديث:1425.
(2)
المغني، 5/ 411.
(3)
المغني، 5/ 411.
(4)
سبق تخريجه عند سرد الدليل الثاني من القول الأول.
(5)
أخرجه النسائي، 6/ 114، كتاب النكاح، التزويج على الإسلام، رقم حديث: 3340، وأقره الإمام أحمد –رحمه الله في مسنده (20/ 227) بروايته التي فيها ذكر زواجه بها لكن ليس فيها ذكر المهر، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن النسائي، 2/ 449.
(6)
شرح معاني الآثار، 3/ 17، وذكر زيادة بعضهم أنه ما كان لها مهر غيره، وأجاب عنه بأن معناه أنها ما أرادت منه مهراً غيره.
(7)
المغني، 5/ 412.
(8)
سبق تخريجه، وهو قريب من الدليل الأول.
(9)
المغني، 5/ 411.
(10)
المرجع السابق.
نوقش بأنه من باب المداواة، والمأخوذ عليها جعل، والمداواة يباح أخذ الأجر عليها، ثم الجعالة أوسع من الإجارة، ولذلك تجوز مع جهالة العمل والمدة
(1)
.
الدليل الرابع: ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال، فجاز أخذ الأجر عليه كبناء المساجد
(2)
.
نوقش بأنه يجوز أخذ الرزق من بيت المال على ما يتعدى نفعه؛ لأنه من مصالح المسلمين، فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجاً إليه كان من المصالح، وكان له أخذه؛ لأنه من أهله، وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح بخلاف الأجر
(3)
.
الدليل الخامس: الضرورة
(4)
أو ما تعم به البلوى
(5)
.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بعدم جواز الاستئجار على تعليم القرآن بأدلة، منها:
الدليل الأول: روي أن عثمان بن أبي العاص قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: "أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجرًا
(6)
(7)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على عدم جواز أخذ الأجر على التأذين، وكذا على تعليم القرآن بجامع العبادة
(8)
.
(1)
المغني، 5/ 412.
(2)
المغني، 5/ 411.
(3)
المغني، 5/ 412، وينظر: الشرح الكبير على المقنع، 14/ 378 - 387 بتصرف.
(4)
الدر المختار، 6/ 56.
(5)
وما قيل عن ظهور التواني في الأمور الدينية (الاختيار، 2/ 60) يمكن حمله على ما تعم به البلوى، والله أعلم.
(6)
أخرجه أبو داود، 1/ 146، كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين، رقم حديث: 531، والترمذي، 1/ 409، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على الأذان أجراً، رقم حديث: 209، وحسَّنه، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 131.
(7)
المغني، 3/ 224.
(8)
المرجع السابق.
الدليل الثاني: حديث عبادة بن الصامت –رضي الله عنه قال: علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إليّ رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال، وأرمي عنها في سبيل الله، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال:"إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها"
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على حرمة التكسب من تعليم الناس القرآن.
نوقش بأنه منسوخ بحديث: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" السابق ذكره
(3)
.
الدليل الثالث: عن أبي بن كعب –رضي الله عنه أنه علم رجلاً سورة من القرآن فأهدى له خميصة أو ثوباً فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار"
(4)
.
وجه الدلالة: في الحديث دليل على منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن أو سورة منه.
نوقش الدليل الثاني والثالث بأنهما قضيتان في عين، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهما فعلا ذلك لله خالصاً، فكره أخذ العوض عنه من غير الله تعالى
(5)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه، 2/ 730، كتاب التجارات، باب الأجر على تعليم القرآن، رقم حديث: 2157، وفي سنده الأسود بن ثعلبة، ولا يُعرف كما في ميزان الاعتدال (1/ 256) نقلاً عن ابن المديني، وفي تهذيب الكمال (3/ 220) عن ابن المديني أيضاً أنه قال:"لا أحفظ عنه غير هذا الحديث"، أي حديث عبادة بن الصامت، وجاء في تهذيب التهذيب (1/ 338)، أن ابن حبان ذكره في الثقات (4/ 33، رقم ترجمة: 1078)، وأخرج الحاكم له في المستدرك هذا الحديث، وصحَّحه (2/ 48، رقم حديث: 2277)، وقال في موضع آخر: إنه شامي معروف (1/ 284، رقم حديث: 626)، وصحّح في عمدة القاري، 12/ 96، وقد صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 210.
(2)
المغني، 5/ 411.
(3)
شرح سنن ابن ماجه للسيوطي وغيره، ص:156.
(4)
الحديث ذكره في المغني، 5/ 411، والشرح الكبير، 6/ 65، وشرح منتهى الإرادات، 2/ 258، كلهم نقلاً من سنن الأثرم، ولم أجدها في النسخة المتوفرة منه عندي.
(5)
المغني، 5/ 412.
الدليل الرابع: عن أبيّ –رضي الله عنه أيضاً أنه قال: كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن، فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له هلمي طعام أخي فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة، فحاك في نفسي منه شيء، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إن كان ذاك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه، وإن كان يتحفك به فلا تأكله"
(1)
.
وجه الدلالة: في الأثر دليل على حرمة أخذ الأجر على تعليم القرآن الكريم حتى لو كان في صورة الضيافة الخاصة إذا ظُنّ أن التعليل سببها.
الدليل الخامس: عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به"
(2)
(3)
.
وجه الدلالة: الحديث دليل على منع الأكل بالقرآن والتكسب به، ومن الأكل به الاستئجار لتعليمه.
الدليل السادس: من شرط صحة هذه الأفعال كونها قربة إلى الله –سبحانه وتعالى، فلم يجز أخذ الأجر عليها كما لو استأجر قومًا يصلون خلفه الجمعة أو التراويح
(4)
.
(1)
يقال فيه مثل ما قيل في الدليل الثالث من القول الثاني.
(2)
أخرجه أحمد، 24/ 288، مسند المكيين، زيادة في حديث عبد الرحمن بن شبل –رضي الله عنه، رقم حديث: 15529، وقد صحَّحه محققو الكتاب، وصرحوا بأن سنده قوي، وأن رجاله ثقات رجال الشيخين إلا أبا راشد الحبراني، لكن وثقه ابن حبان في الثقات (4/ 63)، وأن أهل الشام رووا عنه، وقوَّى سنده ابن حجر في الفتح (9/ 101).
(3)
المغني، 5/ 412.
(4)
المغني، 5/ 412، الشرح الكبير، 14/ 383.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول بالمنع أقرب للصواب، وينبغي أن يكون الأصل في المسألة، لكن قد يستثنى للضرورة أو الحاجة الماسة أو ما تعم به البلوى فيقال بجواز الاستئجار على تعليم القرآن؛ خشية ضياع الحفظ، وفي ذلك حمل كل قول على محمله الصحيح.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن إنساناً أراد تعليم بنيه وتحفيظهم القرآن ولم يجد إلا من يقوم بذلك بالأجر، فعلى القول الأول يجوز ذلك عند الحنفية وقت الضرورة فقط، وعند البقية ابتداءً، وعلى القول الثاني لا يجوز ابتداءً.
- لو أن الدولة تكفلت ببناء وقف لتحفيظ القرآن أو لها بيت المال يصرف منه لذلك وأراد شخص أن يعلم ابنه القرآن، فعلى القول الأول يجوز الاستئجار على تعليمه مطلقاً إلا عند الحنفية؛ لأن الضرورة زالت بزوال الخوف من تضييع حفظ القرآن، وعلى القول الثاني لا يجوز مطلقاً، والمنع أقوى مع وجود دور تحفيظ القرآن التي يصرف عليها من وقف أو بيت المال أو ما شابههما.
المطلب الثاني: اختلاف المؤجر والمستأجر في أجرة العمل
(1)
:
من المسائل التي يذكرها علماء الحنفية كمثال على اختلاف المؤجر والمستأجر مسألة خياطة الثوب ونحوه، فلو قال المستأجر: خِطتَ الثوب بغير أجر، وقال المؤجر: بل بأجر، فإن كان قبل العمل يتحالفان ويبدأ بيمين المستأجر، وإن كان بعد العمل فقد اختلف فقهاء الحنفية في ذلك على قولين:
القول الأول: القول قول صاحب الثوب؛ لأنه منكر، ولأنه لا قيمة للعمل بدون العقد، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله
(2)
.
القول الثاني: إن تكررت المعاملة بينهما بأجر فإن ذلك يؤيد جهة الطلب بأجر جرياً على معتادهما، وهو قول أبي يوسف –رحمه الله
(3)
.
القول الثالث: إن اتخذ حانوتاً
(4)
وانتصب لهذه الصناعة فله الأجرة وإلا فلا، وهو قول محمد
(5)
؛ لأن ذلك دليل على العمل بالأجرة عرفاً (واعتباراً للظاهر)
(6)
، والمعروف كالمشروط
(7)
، وعليه الفتوى
(8)
.
وبعضهم رجح قول الإمام لأنه قياس، ورد قوليهما إلى الاستحسان والاعتبار للظاهر، وأن الظاهر مردود؛ لأنه يصلح للدفع عن نفسه، والحاجة هنا إلى الاستحقاق وليس الدفع
(9)
.
(1)
ومن الأمثلة أيضاً اختلافهما في نوع المعقود عليه مثل القميص أو الثوب أو السراويل إلخ. ينظر: العناية، 9/ 142، رد المحتار، 6/ 41.
(2)
والرواية الأخرى عنه (الاختيار، 2/ 61): "إن كانت الخياطة حرفته فله أجر مثله عملاً بالعرف، وإلا فلا أجر له، ويكون متبرعاً".
(3)
الاختيار، 2/ 61.
(4)
أي دكاناً. ينظر: البناية، 10/ 339.
(5)
الاختيار، 2/ 61.
(6)
العناية، 9/ 143.
(7)
ذكر القاعدة ابن نجيم في الأشباه والنظائر، ص:85.
(8)
الاختيار، 2/ 60 - 61.
(9)
الهداية، 3/ 246، العناية، 9/ 143، البناية، 10/ 339، ومال إليه في بدائع الصنائع، 4/ 222.
مثاله: دار في يد رجل، فزعم آخر أنها ملكه فالقول للذي في يده، فلو بيعت دار بجنبها فأراد أن يأخذها بالشفعة لا يأخذها بمجرد اليد حتى يقيم بينة أنها ملكه؛ لأن ثبوت الملك بظاهر اليد يصلح للدفع لا للاستحقاق والأخذ من يد المشتري استحقاق فلا يملكه بدون البينة، كذا هنا
(1)
.
وبعد الاطلاع على الكتب المتوفرة لدي ظهر أن الحنفية اعتمدوا على قول محمد رحمه الله، وأكدوا أن الفتوى عليه
(2)
.
وقد يقال أن الاختلاف نشأ بسبب اختلافهم في تحديد المدعي والمدعى عليه.
فمن رأى أن المدعي الصانع، والمدعى عليه رب الثوب، ولا بينة، فإن القول قول رب الثوب بيمينه لأنه منكر.
ومن رأى أن القرائن مثل فتح الدكان والانتصاب للصنعة كافية لتقوية جانب على جانب، قال بأن القول قول الصانع، والله أعلم.
وهو أيضاً قول المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بالعرف الجاري
(6)
، ووجهه أن ما يُعطى للخياط مثلاً هو للعمل بالأجرة عرفاً، والعرف قام مقام القول.
(1)
البناية، 10/ 339.
(2)
رد المحتار، 6/ 75، شرح الوقاية للمحبوبي، 4/ 294.
(3)
التاج والإكليل لمختصر خليل، 7/ 586، منح الجليل، 8/ 47، شرح مختصر خليل للخرشي، 7/ 54، الشرح الكبير، 4/ 56.
(4)
مغني المحتاج، 3/ 487، المجموع (تكملة المطيعي)، 15/ 111.
(5)
الشرح الكبير على متن المقنع، 14/ 290 - 291، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 176، المغني، 7/ 330.
(6)
ينظر: الاختيار، 2/ 61.
والمسألة إذا افترضنا الخلاف فيها فإن لها ثمرة عملية تظهر في صورة لو أن إنساناً دخل محل الخياطة الرجالية وطلب خياطة الثوب بمواصفات معينة وخرج، وقبل صاحب المحل بدون أن يذكرا الأجرة، ثم جاء صاحب الثوب بعد فترة ليأخذه، لكن منعه صاحب المحل؛ لعدم دفع قيمته، فله ذلك؛ لأن العرف على أن الخياط لا يخيط بلا أجرة، وعلى القول المرجوح عند الحنفية فإن الثوب له، وكل ذلك إذا انعدمت البينة.
وفي الوقت الراهن وجود كاميرات المراقبة والفواتير الورقية والإلكترونية، وأن الأجر مقدم في الأغلب كل ذلك من القرائن التي قد تؤثر في تحديد المدعي والمدعى عليه، والله أعلم.
المبحث السابع: إسقاط حق الشفعة بالاحتيال وبتأخير الخصومة والمحاكمة:
هذه المسألة مدارها على نفي الضرر وتحقيق المصالح، ولها شقان، شق يتعلق بالاحتيال
(1)
، وشق يتعلق بالتأخير.
إسقاط حق الشفعة بتأخير الخصومة والمحاكمة
وأما إسقاط الشفعة بتأخير الخصومة والمحاكمة فقد اختلف أئمة المذهب الحنفي في ذلك؛ فعند أبي يوسف رحمه الله أن حق الشفعة يسقط إذا ترك الشفيع مجلساً أو مجلسين من مجالس الحكم، وعنه ثلاثة أيام، لأنه دليل الإعراض، ومحمد رحمه الله قدَّر ذلك بشهر
(2)
، لأن المشتري يتضرر بالتأخير؛ لنقض تصرفاته، فقدَّره بالشهر؛ لأنه أقل الآجل وأكثر العاجل، ومرادهما إذا ترك لغير عذر.
وعند أبي حنيفة رحمه الله ورواية أخرى عن أبي يوسف رحمه الله
(3)
أنه حق ثابت لا يسقط بالتأخير كسائر الحقوق، وضرر المشتري يمكن دفعه بالمرافعة إلى القاضي حتى يوقِّت له وقتاً يوفيه فيه الثمن وإلا بطل حقه بإسقاطه هو
(4)
، إلا لعذر مثل مرض أو حبس
(5)
.
والفتوى على قول أبي حنيفة رحمه الله
(6)
.
(1)
ومعنى الحيلة أن يظهروا في البيع شيئاً لا يؤخذ بالشفعة معه ويتواطؤون في الباطن على خلافه. ينظر: الشرح الكبير على متن المقنع، 5/ 461، المغني، 5/ 262.
(2)
وقيل: إن عليه الفتوى أيضاً. ينظر: شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 56.
(3)
تبيين الحقائق، 5/ 244، وأكد على أنه ظاهر الرواية.
(4)
الهداية، 4/ 312.
(5)
تبيين الحقائق، 5/ 244.
(6)
الهداية، 4/ 312، الاختيار، 2/ 45، البحر الرائق، 8/ 148، اللباب في شرح الكتاب، 2/ 108، وقيل: إن الفتوى على قولهما، ومفاده تحديد المدة، ونسبه إلى المحيط. قلت: هو المحيط الرضوي؛ لأنه المراد عند الإطلاق. ويلاحظ أن أقوالهم -إلا قول أبي يوسف الأول- تدور حول المدة، وأن حق الشفعة يسقط بطولها، لكنهما قالا بمدة معينة ابتداءً، والإمام أرجع التحديد إلى القاضي، والقاضي قد يوافق المدة التي حدَّداها وقد لا يوافق. وإلا فيقدم ترجيح الهداية على المحيط؛ لأن كتاب الهداية شرح معتمد على متن معتمد.
وهو قول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
ويظهر مما سبق أن الفقهاء متفقون على أن الشفعة حق ثابت، ولا يسقط بمجرد التأخير، وإنما إذا فرَّط الشفيع بتأخير المطالبة تأخيراً يضر بالمشتري أو البائع عرفاً، وبلا عذر، وحينها يكون هو من أسقط حقه، والله أعلم.
إسقاط حق الشفعة بالاحتيال:
أما إسقاط حق الشفعة بالاحتيال فإن الحنيفة يرون جواز ذلك (قبل وجوبها)
(4)
؛ للمصلحة أو لدفع الضرر
(5)
، فيقولون: إن الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الجوار، فالمشتري إن كان ممن يتضرر به الجيران فلا يحل إسقاطها، وإن كان رجلاً صالحا ينتفع به الجيران، والشفيع متعنت لا يحب جواره فحينئذ يحتال في إسقاطها
(6)
.
ومثال ذلك لو أن شخصاً باع داراً إلا ذراعاً منها في طول الحد الذي يلي دار الشفيع، فالشفيع لا يستحق الشفعة؛ أما في قدر الذراع فلانعدام الشرط وهو البيع، وأما فيما وراء ذلك فلانعدام السبب وهو الجوار
(7)
.
(1)
التاج والإكليل، 7/ 383، منح الجليل، 7/ 212، وقالوا بأن الشفعة لا تسقط إلا إذا مضى من طول الأمد ما يُرى أن الشفيع تارك لحقه، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأمصار، ولا ينضبط إلا بالعرف.
(2)
مختصر المزني، 8/ 219، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 7/ 134. وقيَّدوا ذلك بوجود عذر، فإن سأل التوقف حتى يحضر الثمن جاز أن ينظره الحاكم به يوماً أو يومين وأكثره ثلاثاً، فإن جاء بالثمن كان على حقه من الشفعة، وإن أخَّره عن المدة التي أنظره الحاكم بها بطلت شفعته. ينظر: المجموع (تكملة المطيعي)، 14/ 312. ويظهر من ذلك أن العجز عن السداد في وقته لا يعد عذراً إلا فيما يحدده القاضي.
(3)
المغني، 5/ 241، الشرح الكبير على متن المقنع، 5/ 474 - 475، الإنصاف، 6/ 263.
(4)
الاختيار، 2/ 48، بدائع الصنائع، 2/ 15.
(5)
وقيَّدوا ذلك أن يحتال لإسقاطها قبل وجوبها. ينظر: الاختيار، 2/ 48.
(6)
بداية المبتدي، ص: 211، الاختيار، 2/ 48، شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 63.
(7)
بدائع الصنائع، 5/ 34، رد المحتار، 6/ 244.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اختلف العلماء في إسقاط الشفعة بالحيل قبل وجوبها على قولين:
القول الأول: لا يكره إسقاط حق الشفعة بالحيل قبل وجوبه، وهو قول الحنفية كما سبق.
القول الثاني: الحيل مكروهة مطلقاً، ولا يجوز إعمالها لإسقاط حق الشفعة، وهو قول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بجواز استخدام الحيل لإسقاط الشفعة قبل وجوبها بدليلين:
الدليل الأول: التحايل ليس فيه إسقاط حق ثابت، بل منع ثبوت الحق، فلا يعد ضرراً.
(4)
يناقش بأن فيه الخداع، ويؤدي إلى الغرر فيكره.
الدليل الثاني: الحاجة فيما لو كان الشفيع لا يحب جواره فيسقط حقه دفعاً لضرره
(5)
.
(1)
الذخيرة، 7/ 336، الجامع لمسائل المدونة، 20/ 69، وذلك إذا ظهر للحاكم أن الثمن تجاوز إلى حد الحيلة لقطع الشفعة، فيرد إلى الأشبه.
(2)
نهاية المطلب، 7/ 435، روضة الطالبين، 5/ 115 - 116، مغني المحتاج، 3/ 384. وهم يذكرون صوراً من التعسير على الشفيع وتعقيد الأمر عليه، ويقررون أنها تحتوي على التغرير، فتكون مكروهة.
(3)
المغني، 5/ 262، الشرح الكبير على متن المقنع، 5/ 460.
وينصون على أن الاحتيال لإسقاط حق الشفعة لا يجوز؛ لأنه خداع.
(4)
الهداية، 4/ 323.
(5)
بداية المبتدي، ص:211.
قد يناقش بأن الجيران تؤثر بعضهم على بعض، فتأثيره عليهم تأثير فرد على جماعة، وتأثيرهم عليه تأثير جماعة على فرد، وتأثير الجماعة أقوى، فاحتمال تحسين ظاهره وباطنه وحوله جيران صالحون مصلحون أظهر من عكسه، والله أعلم.
تعليل القول الثاني:
علَّل القائلون بمنع استخدام الحيل لإسقاط حق الشفعة بتعليل الغرر -كما عند الشافعية-
(1)
، والخداع -كما عند الحنابلة-
(2)
، وهو ظاهر.
الترجيح:
بعد عرض القولين وتعليليهما يظهر أن القول بمنع الاحتيال أوفق وأبعد عن الريبة وأقرب إلى أخلاق المسلم السوي، وما ذكروه من الحاجة فيما لو كان الشفيع لا يُحب جواره فليس بقوي، لأن الفرد يرسل إلى بيئة صالحة لإصلاح نفسه والبعد عن المعاصي كما في تغريب الزاني بعد جلده.
(1)
ومثاله أن يبيع الشقص بأضعاف ثمنه دنانير مثلاً، ثم يأخذ عَرْضاً قيمته مثل ثمن الشقص، أو أقل عن الثمن المسمى، فلا يرغب الشفيع في الشفعة؛ لأنه لو رغب فيها، لأخذ الشقص بالثمن المسمى أوّلاً. وهذا وإن كان يعسّر الشفعة، ففيه تغرير؛ لأن البائع إذا التزم له المشتري الثمن فربما لا يرضى بالعَرْض الذي قيمته دون ذلك المبلغ. (ينظر: نهاية المطلب، 7/ 434).
(2)
المغني، 5/ 262.
المبحث الثامن: تذكية الصيد إذا أدركه المرسل
(1)
حيًّا:
تأتي هذه المسألة في كتاب الصيد عند ذكر أحكام الجوارح -وهي حيوانات معلمة
(2)
-، وصورة المسألة لو أن صائداً أرسل كلبه المعلم، وذكر اسم الله عليه عند إرساله وجرح الكلب الصيدَ أي المصِيدَ فمات ولم يأكل منه حل أكله
(3)
، لكن لو وجد المرسل الصيدَ حيًّا، فلا يخلو إما أن يتمكن من ذبحه أو لا، فإن تمكن من ذبحه ولم يذبحه حتى مات لم يؤكل سواء كانت الحياة فيه بينة أو خفية
(4)
، وإن ذبح حل عند الجميع
(5)
، وذلك إذا كان يتوهم بقاء الصيد على قيد الحياة، وأما إذا شق الكلب المعلم بطنَ الصيد مثلاً وأخرج ما فيه، ثم وقع في يد المرسل حيًّا حل عند الصاحبين؛ لأن ما بقي فيه من الحياة اضطراب المذبوح فقط ولا عبرة بذلك، كما إذا وقعت شاة في الماء بعد ذبحها، وأما عند أبي حنيفة فلا يؤكل؛ لأنه وقع في يده حيًّا، فلا يحل إلا بذكاة الاختيار
(6)
، بدليل قوله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وقد استثناه مطلقًا من غير فصل، وعليه الفتوى
(7)
.
(1)
وهو من أرسل الكلب المعلم أو البازي المعلم أو السهم ليصيد به. ينظر: بداية المبتدي، ص: 228، العناية، 10/ 121.
(2)
العناية، 10/ 113، ويصفونها بأنها آلة الصيد.
(3)
اللباب في شرح الكتاب، 3/ 218.
(4)
الحياة الخفية: القدر الذي يعلم به أن المصيد حي، والبينة أو الظاهرة: القدر الذي فوق الخفية. ينظر: البناية، 12/ 425.
(5)
المراد به علماء المذهب.
(6)
وهي الأصل، وبدلها ذكاة الاضطرار وهي الصيد. ينظر: البناية، 12/ 422.
(7)
الهداية، 4/ 403 - 404، العناية، 10/ 121 - 122.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن المرسل إذا أدرك الصيد وبه حياة مستقرة، ويتوهم بقاؤه على قيد الحياة فإنه لا يحل إلا بالتذكية
(1)
، واختلفوا فيما لو أدركه وبه حياة غير مستقرة على قولين:
القول الأول: لا يحل أكله إلا بعد التذكية، وهو قول الحنفية كما ذُكر، وعليه الفتوى، والمالكية
(2)
.
القول الثاني: يحل أكله ولا حاجة إلى التذكية، وهو القول المرجوح في المذهب الحنفي، وقول الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
(1)
الهداية، 4/ 403 - 404، العناية، 10/ 121 - 122، التاج والإكليل، 4/ 334، نهاية المطلب، 18/ 116، المغني، 9/ 373.
(2)
التهذيب في اختصار المدونة، 2/ 18، التاج والإكليل، 4/ 334، ونصهم:"وإن قطع الباز أو الكلب عضواً من الصيد من يد أو رجل أو فخذ أو جناح أو خطم فأبانه فمات منه قبل أن يدرك ذكاته لم يؤكل ما بان، وتؤكل بقيته، وإن أدرك ذكاته فليذكه ويأكل بقيته دون ما بان منه"، فدل على أنه يذكَّى حتى في حالة لا يتوهم فيه بقاء الصيد على قيد الحياة.
(3)
استحباباً كما في المهذب للشيرازي، 1/ 426، وقال:"وإن رمى صيداً أو أرسل عليه كلباً فعقره ولم يقتله نظرت فإن أدركه ولم يبق فيه حياة مستقرة بأن شق جوفه وخرجت الحشوة أو أصاب العقر مقتلاً فالمستحب أن يمر السكين على الحلق ليريحه، وإن لم يفعل حتى مات حل؛ لأن العقر قد ذبحه، وإنما بقيت فيه حركة المذبوح". وكما في نهاية المطلب، 18/ 116:"إذا أرسل كلبه أو سلاحه، فإن أصاب مذبحَ الصيد ما أجهزه وأنجزه، فلا كلام، فهو حلال. وإذا أدركه، وهو في حركة المذبوح، فلا نتعرض له ونتركه يهدأ. وكذلك لو أصاب موضعاً آخرَ منه صار به إلى حركة المذبوح، فالأمر على ما ذكرناه".
(4)
الإنصاف، 10/ 417، الكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 555، المغني، 9/ 373، وينصون على أنه متى أدرك الصيد متحركاً كحركة المذبوح فهو كالميت.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بعدم حل أكل الصيد إذا أدركه الصائد وبه حياة غير مستقرة بدليل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].
وجه الدلالة: أن الله –سبحانه وتعالى استثنى كل ما سبق بإطلاق من غير فصل، والآية تشمل ما أدركه الصائد وبه حياة
(1)
.
قد يناقش بأنه استثناء من التحريم وليس من المحرمات
(2)
.
دليل القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بجواز أكل الصيد إذا أدركه الصائد وبه حياة غير مستقرة بقياس هذا الصيد على الصيد الميت بجامع أن الموت سببه الجارحة، وما فيه من الحياة في حكم الميت ولا عبرة بها
(3)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين ودليليهما يظهر أن القول الثاني أوفق وأقرب؛ لقوة دليله، وما ورد من المناقشة على دليل القول الأول، والمسألة لها أثر يظهر فيما لو أن إنساناً أرسل كلبه المعلم ليصيد الأرنب مثلاً فشق بطنه وأخرج ما فيه، فأدركه المرسل يتحرك حركة المذبوح، فعلى القول الأول لا يحل أكله حتى يذكيه ما دام فيه حياة، وعلى القول الثاني يحل أكله؛ لأنه مات من العقر، وذلك ذبحه.
(1)
الهداية، 4/ 403 - 404، العناية، 10/ 121 - 122.
(2)
تفسير الطبري، 9/ 505، وذلك تفسير آخر للآية.
(3)
الهداية، 4/ 403 - 404، المغني، 9/ 373.
المبحث التاسع: في مسائل البيوع
المطلب الأول: ما يُعرَض بالأنموذج رؤية بعضه كرؤية كله:
فقهاء الحنفية يذكرون أنواعاً من الخيارات مثل خيار الشرط وخيار العيب وخيار الرؤية وغيرها، ومسألة ما يعرض بالأنموذج من مسائل خيار الرؤية
(1)
.
ومن أمثلته أن يرى المشتري نموذجاً من المبيع دون سائره، كما لو كان المبيع طاولات متعددة من نمط واحد لا تختلف عرفاً، فيشتريها المشتري بعد أن يرى عيِّنات منها.
وحينها يسقط خيار الرؤية
(2)
؛ لأن رؤية بعض المبيع كرؤية كله، وذلك عند الصاحبين -رحمهما الله- للحاجة، وجريان التعامل به، ولأن المقصود معرفة الصفة وقد حصلت
(3)
، وعند أبي حنيفة رحمه الله الخيار لا يبطل وإن كان مما يباع عدداً، والفتوى على قولهما
(4)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
(1)
وهو مانع من تمام الحكم وهو لزوم الملك وانتقاله. ينظر: تبيين الحقائق، 4/ 24.
(2)
وهو ما كان مكيلاً (كالقمح) أو موزوناً (كقطن) أو معدوداً (كالبيض، والقلم والجوال إلخ.) متقارباً بخلاف العدديات المتفاوتة. ينظر: الاختيار، 2/ 17.
(3)
ولو اختلف بقية المبيع عن النموذج أو العيِّنة وكان أردأ منه فله الخيار، لكن خيار العيب. ينظر: اللباب، 2/ 16.
(4)
الاختيار، 2/ 17، الهداية، 3/ 35، تبيين الحقائق، 4/ 26، البحر الرائق، 6/ 31، المبسوط، 13/ 72، مجمع الأنهر، 2/ 37، البناية، 6/ 342، رد المحتار، 4/ 598. قلت: والحنفية يقدمون قول الصاحبين على قول الإمام؛ لضرورة أو موجب، ومنه ما ذكروا من الحاجة والعرف، والعرف يتغير بتغير الزمان والمكان، فعادت المسألة إلى اختلاف عصر وزمان وليس حجة وبرهان، والله أعلم.
القول الأول: يصح بيع ما يعرض بالنموذج، ورؤية النموذج أو العينة من المبيع تبطل خيار الرؤية في كله، وهو قول الحنفية المفتى به -كما سبق-، والمالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، وقول عند الحنابلة
(3)
.
القول الثاني: لا يصح بيع ما يعرض بالنموذج، وعليه لا خيار رؤية، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله كما مضى، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بصحة بيع ما يعرض بالنموذج بأدلة، منها:
الدليل الأول: العرف، فقد تعارف الناس على التعامل به، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً
(5)
أي أن ما تعارف عليه الناس في معاملاتهم قائم مقام الشرط في الالتزام والتقيد، وإن لم يُذكر صريحًا، وعليه فلا خيار الرؤية إذا لم يذكروه في العقد.
الدليل الثاني: لأن رؤية بعض ما يعرض بالنموذج توجب العلم بالمقصود، وهو معرفة الصفة.
الدليل الثالث: الحاجة تدعو إلى مثل هذه البيوع
(6)
.
(1)
الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 678، منح الجليل، 4/ 484، شرح مختصر خليل للخرشي، 5/ 33، الشرح الكبير، 3/ 24، ويسمون ما يعرف بالنموذج بالمثلي، وهو خلاف المقوَّم.
(2)
نهاية المحتاج، 3/ 419، حاشيتا قليوبي وعميرة، 2/ 207، وقد منعوا خيار الرؤية في بيع عين غائبة وليس فيما يعرض بالنموذج. ينظر: الأم، 3/ 3، نهاية المطلب، 5/ 10.
(3)
المبدع في شرح المقنع، 4/ 25، وصححه صاحب الإنصاف، 4/ 295.
(4)
كشاف القناع، 3/ 163، الإنصاف، 4/ 295، المبدع في شرح المقنع، 4/ 25، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 9، ومنعوا بيع الأعيان بغير رؤية أو صفة تحصل بها معرفة المبيع، وخيار الرؤية في هذه الحالة مختلف فيه، فعلى الرواية الأولى لا يثبت وعلى الثانية يثبت.
(5)
الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص:84.
(6)
سبق ذكر مصادر الأدلة الثلاثة عند تقرير قول الحنفية في المسألة.
دليل القول الثاني:
استدل القائلون بعدم صحة بيع ما يعرض بالنموذج بعدم رؤية المبيع وقت العقد
(1)
.
وقد يُناقش بأن رؤية المبيع حصلت برؤية النموذج، ولا فرق بين النموذج والآخر، ثم في منعه حرج شديد على الناس وبخاصة إذا كانت البضاعة كثيرة.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الأول أقرب لقوة دليله وورود المناقشة على دليل القول الثاني، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك خاصة مع التجارة الإلكترونية التي تتيح شراء بضاعة من أقصى الدنيا، ولا سبيل إلى رؤية كلها إلا بالنموذج، ثم الصناعة اليوم وصلت منتهى الدقة والانضباط في أوصاف السلعة المنتجة حجماً وشكلاً، وفي مثل هذه البيوع مصلحة اقتصادية كبيرة للمتعاقدين طالما انتفى الضرر، والله أعلم.
والمسألة له ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة من المعاملات، منها:
- لو أن إنساناً له محل بيع الأجهزة الإلكترونية وسافر إلى الصين مثلاً ليجلب البضاعة، وقد رأى النماذج منها والذي سيشتريه يصل إلى آلاف القطع، فعلى القول الأول صح البيع؛ لأن رؤية العينة كرؤية الكل، ولا خيار الرؤية، ولو ظهرت البضاعة أردأ من العينة فإن له خيار العيب، وعلى القول الثاني لم يصح البيع حتى يرى جميع البضاعة.
- لو أن شخصاً أراد أن يشتري بضاعة كثيرة مختلفة من موقع أمازون (التجارة الإلكترونية) والمعروض صورة عينة فقط لكل نوع من أنواع البضاعة؛ فعلى القول الأول يصح البيع؛ لأن رؤية صورة العينة الواحدة كرؤية جميع العينات؛ لتطابقها حجماً وشكلاً وجودةً وغير ذلك، وعلى القول الثاني لا يصح البيع؛ لعدم رؤية جميع البضاعة.
- لو أن شخصاً له محل بيع فواكه وخضروات، وذهب إلى السوق العامة ليجلب البضاعة، فأراد أن يشتري عشرة كراتين تمر، وقد رأى بعضها فقط دون سائرها، فعلى القول الأول يصح البيع ولا خيار رؤية، وعلى الثاني لم يصح البيع حتى يرى البضاعة كلها.
(1)
كشاف القناع، 3/ 163.
- ولو أراد أن يشتري خمسين حبة من البطيخ فالبيع لا يصح على القولين؛ لأن البطيخ يتفاوت حجمه في الغالب، فلا بد من رؤيتها كلها.
المطلب الثاني: الرجوع بنقصان العيب في الطعام بعد أكله:
هذه المسألة من مسائل خيار العيب -وقد سبقت الإشارة إليه في المسألة السابقة-، ومعناه لو اطلع المشتري على عيب
(1)
في السلعة بعد العقد فله أخذها بجميع الثمن وله ردها
(2)
.
ومن صور المسألة شخص اشترى طعاماً فأكل بعضه ثم علم بالعيب فيه، فعند أبي حنيفة –رحمه الله (ليس له أن يرد الباقي)
(3)
، ولا أن يرجع بنقصانه
(4)
؛ لأن الطعام كشيء واحد فلا يرد بعضه دون بعض كما إذا باع البعض، وعندهما يرجع بنقصان العيب في كله
(5)
(وليس له أن يرد الباقي؛ لأن الطعام كالشيء الواحد فيتعيب بالتبعيض؛ لأن أكل الكل لا يمنع الرجوع فالبعض أولى)
(6)
، ورواية أخرى عنهما أنه يرد ما بقي، ويرجع بنقصان ما أكله
(7)
؛ لأنه لا يضره التبعيض، وعليه الفتوى
(8)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف الفقهاء في مسألة الرجوع بنقصان العيب في الطعام بعد أكله على ثلاثة أقوال:
(1)
وهو كل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار. ينظر: الاختيار، 2/ 18.
(2)
تبيين الحقائق، 4/ 31، وقال:"لأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب فكانت السلامة كالمشروطة في العقد صريحاً لكونها مطلوبة عادة فعند فواتها يتخير كي لا يتضرر بإلزام ما لا يرضى به".
(3)
تبيين الحقائق، 4/ 37.
(4)
أي بالأرش فيما أكل ولا فيما بقي. ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(5)
أي بأرش جميع الطعام. ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(6)
تبيين الحقائق، 4/ 37.
(7)
يعني يرجع بأرش ما أكل. ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(8)
الاختيار، 2/ 20، الهداية، 3/ 39، رد المحتار، 5/ 23. قلت: ويظهر أن اختلاف روايتي الصاحبين اختلاف تنوع، بحيث تحمل كل رواية على نوع من الأطعمة، فالرواية الأولى تحمل على الطعام الذي يضره التبعيض ويتعيب به مثل الساندويتشات، والأخرى تحمل على ما لا يضره التبعيض ولا يتعيب به مثل الفطائر، فإنها تباع مقطعة (كاملة أو جزءاً جزءاً).
القول الأول: لا يجوز الرجوع فيه بنقصان العيب بأن يرجع بنقصانه ويرد الباقي، وهو قول منسوب لأبي حنيفة رحمه الله
(1)
.
القول الثاني: يجوز الرجوع فيه بنقصان العيب في كله، ولا يرد الباقي، وهو قول الصاحبين الأول
(2)
.
القول الثالث: يجوز الرجوع فيه بنقصان العيب في كله ويرد الباقي، وهو قول للصاحبين الثاني
(3)
. وهو قول المالكية
(4)
، والشافعية تخريجاً
(5)
، وكذلك الحنابلة
(6)
.
الأدلة والمناقشات:
تعليل القول الأول:
علّل القائلون بعدم جواز الرجوع بنقصان العيب في الطعام بتعليل عدم تبعيضه، فهو كشيء واحد، فإذا أكل بعضه كأنه أكل كله
(7)
.
قد يناقش بأن الأطعمة ليست على شكل واحد، فمنها ما يتبعض ولا يضره ولا يتعيب بذلك.
(1)
تبيين الحقائق، 4/ 37، الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(2)
المرجع السابق.
(3)
الاختيار، 2/ 20، الهداية، 3/ 39، الجوهرة النيرة، 1/ 199.
(4)
المختصر الفقهي لابن عرفة، 5/ 472، الذخيرة، 5/ 71، ونصه عن العيب القديم الذي ينسب إلى الثمن يوم العقد:"ولو أكل بعض الطعام ورد بالعيب فعليه المأكول بحصته من الثمن"، فقوله:"بحصته" يدل على حصة الطعام المعيب، والله أعلم.
(5)
لم أجدهم يذكرون هذه المسألة بعينها، لكن يمكن تخريجها على ما قالوه في هلاك المبيع عند المشتري مثل الطعام، فلو أكله كله ثم علم بالعيب به ينقص قيمته فإنهم يقولون بأنه يرجع بالأرش؛ لتعذر الرد بفوات المبيع حساً أو شرعاً. ينظر: أسنى المطالب، 2/ 63، مغني المحتاج، 2/ 433.
قلت: ويفهم من ذلك أنه لو أمكن الرد ولو جزءاً منه لقالوا به مع الأرش فيما يتعذر رده؛ لأن الطعام يتبعض، والله أعلم.
(6)
المغني، 4/ 123، الشرح الكبير على المقنع، 11/ 397، المبدع في شرح المقنع، 4/ 86،
(7)
تبيين الحقائق، 4/ 37، الجوهرة النيرة، 1/ 199.
تعليل القول الثاني:
علّل القائلون بجواز الرجوع في الطعام بنقصان العيب في كله، بلا رد الباقي بأن الطعام يتعيب بالتبعيض فلا يرد الباقي، ولو أكل كله لا يمنع الرجوع فيه فالبعض من باب أولى
(1)
.
تعليل القول الثالث:
علل القائلون بجواز الرجوع في الطعام بنقصان العيب فيما أُكل منه ويُرد الباقي بأن تبعيض الطعام لا يضره
(2)
.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وتعليلاتها يظهر أن القول الثالث أقرب؛ لقوة تعليله ولأن واقع صناعة الأطعمة اليوم يسانده بحيث لا يضره تبعيضه ولا يتعيب بذلك.
والمسألة لها ثمرات عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن إنساناً اشترى فطيرة طازجة في مطعم ما بعشرين ريالاً، وأكل نصفها وعلم بالعيب (مثل ما لو كانت قديمة وليست طازجة)، فله أن يرد ما تبقى منها، ويرجع بنقصان فيما أكله.
وتفصيلها فيما يلي: لو كان سعر الفطيرة عشرين ريالاً سليمة وعشرة ريالات معيبة، والفطيرة مقطعة إلى عشرة أجزاء مثلاً، وقد أكل نصفها أي خمسة أجزاء؛ وعليه فإنه سيرد الباقي بقيمته، أي يرجع بنصف الفطيرة بعشرة ريالات، والنصف الآخر يقوَّم سليماً ومعيباً، ويأخذ الفرق وهو الأرش، فالنصف الآخر عشرة ريالات سليماً، وسبعة ريالات مثلاً معيباً، فيرجع بنقصانه وهو ثلاثة ريالات.
- ولو كان قد اشترى ساندويتش فإنه لا يقال بهذا القول؛ لأن تبعيض الساندويتش يضره ويتعيب به ولا يباع إلا كاملاً، فيصار إلى القول بأنه يرجع بنقصان العيب في كله؛ لأن ما تبقى من الطعام في حكم المتلف وتعذر الرد.
(1)
المرجع السابق.
(2)
الاختيار، 2/ 20، الهداية، 3/ 39، الجوهرة النيرة، 1/ 199.
المطلب الثالث: في مسائل الربا
المسألة الأولى: بيع الخبز
(1)
بالحنطة والدقيق
(2)
متفاضلاً
(3)
:
هذه المسألة من مسائل الربا، والربا في اللغة الفضل والزيادة والعلو
(4)
، وفي الاصطلاح الزيادة المشروطة في العقد -وهذا إنما يكون عند المقابلة بالجنس-، وقيل: الربا في الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفة سواء كان فيه زيادة أو لم يكن، فإن بيع الدراهم بالدنانير نسيئة ربا ولا زيادة فيه، وبه يتبين أن الربا نوعان: ربا الفضل وربا النسيئة
(5)
.
والأصناف الربوية التي نص عليها الشارع ستة، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد"
(6)
.
وقد اختلف الفقهاء في علة الربا في هذه الأصناف، وموضوع المسألة يتعلق بالأصناف الأربعة الأخيرة أي غير الذهب والفضة، والحنفية يقررون أن العلة فيها الكيل مع الجنس أو الوزن مع الجنس
(7)
، وهذا له أثر بالغ في مسألة بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً.
(1)
الخبز أنواع، والذي يتبادر إلى الذهن هو مطلق الخبز، وبعضهم قيَّده بخبز الحنطة. ينظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي، 5/ 219. والحنطة بر كما في القاموس المحيط، ص: 663.
(2)
أي ودقيق الحنطة.
(3)
والبيع عند الحنفية: "مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب"، ولفظ البيع من الأضداد، يقال: باع كذا إذا أخرجه عن ملك أو أدخله فيه. ينظر: بدائع الصنائع، 5/ 133، تبيين الحقائق، 4/ 2. وهذه المسألة لو حُملت على معنى الشراء لكان أفضل، فيقال: شراء الخبز بالحنطة والدقيق بحيث يكونان ثمناً والخبز مثمناً؛ لأن شراء ما أجله قصير -مثل الخبز- بما أجله طويل –مثل الدقيق والحنطة- ممكن وواقع، وتصوره سهل، لكن شراء الحنطة والدقيق بالخبز المخبوز الجاهز لا يقع في الغالب، وتصوره صعب، والله أعلم.
(4)
المصباح المنير، 1/ 217، مقاييس اللغة، 2/ 483.
(5)
ينظر: الاختيار، 2/ 30.
(6)
أخرجه مسلم، 3/ 1211، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، رقم حديث:1587.
(7)
الاختيار، 2/ 30، تبيين الحقائق، 4/ 85.
وفقهاء الحنفية ينصون على أنه يجوز ذلك لأن الخبز بعد صنعه صار عددياً أو موزوناً فخرج من أن يكون مكيلاً من كل وجه، والحنطة مكيلة (فلم توجد علة الربا إذا كانا نقدين)
(1)
، وذلك عند الصاحبين، وعند أبي حنيفة لا خير فيه
(2)
، والفتوى على الأول
(3)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف الفقهاء
(4)
في جواز بيع الخبز بالحنطة والدقيق من جنسه متفاضلاً على قولين:
القول الأول: يجوز بيعه بالحنطة والدقيق متفاضلاً، وهو قول الحنفية –كما سبق- والمالكية
(5)
، وقول عند الشافعية
(6)
.
القول الثاني: لا يجوز بيعه بالحنطة والدقيق متفاضلاً، وهو قول آخر عند الشافعية،
(7)
والحنابلة.
(8)
الأدلة والمناقشات:
(1)
مجمع الأنهر، 2/ 88، وأما النسيئة فسيأتي ذكرها في المسألة القادمة.
(2)
وعنه في أصح الروايتين أنه يجوز، وهو ظاهر مذهب الأئمة الثلاثة من الحنفية، وعليه الفتوى. ينظر: رد المحتار، 5/ 182.
(3)
الهداية، 3/ 65، الاختيار، 2/ 32، تبيين الحقائق، 4/ 95.
(4)
قلت: ويظهر أن سبب اختلافهم في هذه المسألة مبني على اختلافهم في علة ربا الفضل في غير الذهب والفضة، فمن رأى أن علة ربا الفضل الكيل في المكيلات والوزن في الأثمان والمثمنات، أو أنها الاقتيات والادخار قال بجواز بيع الخبز بالحنطة لما ذكروا أن الخبز أصبح عددياً أو موزوناً، وخرج من أن يكون مكيلاً، ولأنه لا يدخر وإن يقتات، ومن قال بأن علة الطعام الطعم أو الطعم مع الكيل والوزن فقد منع بيع الخبز بالحنطة؛ لأنه مطعوم موزون، وإذا كان الخبز مطعوماً عددياً لا يكال ولا يوزن فهو خارج المسألة بالتأكيد؛ لأن العددية ليست بعلة. والله أعلم. ينظر: تحفة الفقهاء، 2/ 25، شرح مختصر خليل للخرشي، 5/ 57، المجموع شرح المهذب، 9/ 401، المغني، 4/ 6.
(5)
الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 651، التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس، 2/ 80.
(6)
المجموع (تكملة السبكي)، 11/ 122.
(7)
المجموع (تكملة السبكي)، 11/ 122، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 5/ 219.
(8)
الإنصاف، 5/ 26، شرح منتهى الإرادات، 2/ 67.
دليل القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بجواز بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً بكونه أصبح عددياً أو موزوناً وليس بمكيل مطلقاً، والحنطة مكيلة
(1)
، فهما جنسان.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بعدم جواز بيع الخبز بالحنطة والدقيق بأدلة، منها:
الدليل الأول: الخبز فيه الماء، وعليه فإننا نجهل التساوي
(2)
، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل
(3)
.
قد يناقش بأنه كذلك، لكن الجهل هنا لا يضر؛ لأنهما جنسان، فلا بأس بالتفاضل.
الدليل الثاني: كون الخبز فرعاً لأصل يحرم فيه الربا، فلم يجز بيعه به، كالدقيق بالحنطة
(4)
.
قد يناقش بأن الدقيق هو الحنطة المدقوقة فيمنع، وأما الخبز فيختلف عن الحنطة ودقيقها
(5)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين بأدلتهما يظهر أن الترجيح في هذه المسألة ينبني على مسألة علة الربا في غير الذهب والفضة، وأن الخلاف فيها خلاف تنوع، فمن رأى أن علة الربا موجودة في الخبز قال بالمنع، ومن لا فلا.
(1)
الاختيار، 2/ 32، تبيين الحقائق، 4/ 95.
(2)
شرح منتهى الإرادات، 2/ 68.
(3)
قواعد ابن رجب، 2/ 478.
(4)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 5/ 219.
(5)
لأنه وإن اتحد الأصل فقد اختلفت الصفة. ينظر: رد المحتار، 5/ 180.
إلا إذا قلنا: إن الخبز أصبح عددياً -والعددية ليست بعلة-، وهو ظاهر الآن في صناعة الخبز، فإنه يباع بالعدد، ولا يشكل وضعهم وزن الخبز على خارج الغلاف؛ لأن العدد مقصود وليس الوزن، والله أعلم.
وعليه فالراجح هو القول الأول، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن إنساناً عنده من الخبز خمسة أكياس واحتاج إلى البر أو دقيقه لغرض ما، فإنه يجوز بيعه بالبر؛ لأن الخبز موزون والبر مكيل، والعلة هي الوزن مع الجنس أو الكيل مع الجنس، أو لأن الخبز عددي، وهذا خارج علة الربا، وهو على قول الحنفية من القول الأول، وعلى القول الثاني لا يجوز ذلك؛ لأن الخبز مطعوم، وعلة الربا الطعم مثلاً.
- وإذا قلنا: إن البيع هنا شراء: فلو أن إنساناً عنده أكياس من البر أو دقيقه مثلاً، ولا يقدر على صنع الخبز؛ لانشغاله أو لجهله بصناعته، فيذهب إلى الخباز ويشتري الخبز بما عنده من الدقيق، فعلى القول الأول يجوز؛ لأنهما جنسان، أو لأن الخبز عددي، وعلى القول الثاني لا يجوز؛ لأن الربا طعم وهي موجودة في كليهما.
المسألة الثانية: بيع الخبز بالحنطة والدقيق نسيئة:
هذه المسألة شبيهة بالسابقة، إلا أن هذه في ربا النسيئة، وتلك في ربا الفضل.
وربا النسيئة أو النساء عند الحنفية فضل الحلول على الأجل وفضل العين على الدين في المكيلين والموزونين عند اختلاف الجنس أو في غير المكيلين وغير الموزونين عند اتحاد الجنس
(1)
، وعلته وجود أحد وصفي علة ربا الفضل، وهي الكيل في المكيلات أو الوزن المتَّفِق، ومعناه أن يكونا ثمنين أو مثمنين؛ لأن وزن الثمن يخالف وزن المثمن
(2)
.
وعند المالكية مجرد الطعم على غير وجه التداوي كان مدخراً مقتاتاً أم لا
(3)
، وكذا أي الطعم عند الشافعية
(4)
، وعند الحنابلة ربا النسيئة كل شيئين -ليس أحدهما نقداً- علة ربا الفضل فيهما واحدة لا يجوز بيع أحدهما بالآخر نسأ، وعلة ربا الفضل عندهم كونه مطعوماً مكيلاً أو مطعوماً موزوناً
(5)
.
ثم الحنفية ينصون على أنه يجوز بيع الخبز بالحنطة والدقيق نسيئة إذا كانت الحنطة نسيئة، وذلك عند الصاحبين، وإن كان الخبز نسيئة يجوز عند أبي يوسف، وعليه الفتوى
(6)
، بدليل ما ذكروه أنه خرج من أن يكون مكيلاً، بل صار عددياً أو موزوناً، والحنطة مكيلة، فجاز التفاضل، وإذا قلنا: إنه عددي فلا علة الربا
(7)
.
(1)
تحفة الفقهاء، 2/ 25، بدائع الصنائع، 5/ 138.
(2)
تحفة الفقهاء، 2/ 25.
(3)
شرح مختصر خليل للخرشي، 5/ 56، حاشية الصاوي، 3/ 72.
(4)
المجموع شرح المهذب، 9/ 401.
(5)
الشرح الكبير على متن المقنع، 4/ 163.
(6)
الهداية، 3/ 65، الاختيار، 2/ 32، العناية، 7/ 37، شرح الوقاية للمحبوبي، 4/ 58، وقد سبق في المسألة السابقة أن أبا حنيفة يرى عدم جواز ذلك، وقال: إنه لا خير فيه.
(7)
بدائع الصنائع، 5/ 245.
ولأنه من باب السلم، وقد أسلم موزوناً (الخبز) في مكيل (الحنطة والبر) يمكن ضبط صفته ومقداره، وكذلك إذا أسلم في موزون (الخبز) إذا كان الخبز نسيئة
(1)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
لم أجد هذه المسألة بعينها في كتب بقية المذاهب، لكن يمكن تخريجها بناءً على ما مر في المسألة السابقة:
- فالحنفية جوَّزوا بيع الخبز بالحنطة متفاضلاً؛ لأنهما جنسان، أو لأن الخبز ليس مكيلاً والحنطة مكيلة، وفي بيع هذا بهذا لم يوجد أحد وصفي علة ربا الفضل، فيجوز نسيئة، ويجعلونه سلماً لأجل التأخير.
- وأما المالكية فعلة ربا الفضل عندهم الاقتيات والادخار، فجوزوا بيع الخبز بالحنطة متفاضلاً؛ لأنه لا يدخر، لكن علة ربا النسيئة عندهم مجرد الطعم، فيخرج على أنه لا يجوز بيع الخبز بالحنطة نسيئة؛ لأنهما مطعومان.
- وأما الشافعية فعلة ربا الفضل عندهم الطعم، وكذا ربا النسيئة، فيخرج قولهم كقول المالكية.
- وأما الحنابلة فعلة ربا الفضل عندهم الطعم مع الوزن أو الطعم مع الكيل، وواقع أدلتهم في المسألة السابقة أن الخبز عندهم مكيلاً كالحنطة، وعلة ربا النسيئة هي وجود أحد وصفي علة ربا الفضل، وعليه فإن الخبز والحنطة مطعومان مكيلان، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر نسيئة.
والذي يظهر في هذه المسألة أن الخبز عددي، وبخاصة في هذا الوقت، والعددي ليس من أموال الربا
(2)
، والله أعلم.
(1)
البناية، 8/ 296.
(2)
بدائع الصنائع، 5/ 245.
المسألة الثالثة: بيع الكرباس
(1)
بالقطن:
جاء في كتب الحنفية ما يدل على صحة بيع الكرباس بالقطن؛ لاختلاف الجنس باعتبار المقصود والمعيار
(2)
، ولا خلاف فيه، والقطن
(3)
بالغزل يجوز عند محمد؛ لأن الثوب لا ينقض ليعود غزلاً أو قطناً
(4)
، وأبو يوسف منعه للمجانسة
(5)
، والفتوى على قول محمد –رحمهم الله جميعاً-
(6)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
لم أجد ذكراً لهذه المسألة بعينها في كتب بقية المذاهب، والذي يظهر أن سبب إيرادها في كتب الحنفية كون القطن من الأموال الربوية عندهم؛ لأنه موزون
(7)
، وقد سبق في مسألة بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً أن علة ربا الفضل عندهم الكيل مع الجنس أو الوزن مع الجنس
(8)
.
وقد نصوا على أن الثياب ليسب بموزونة، وعليه فيجوز بيع الكرباس الذي هو الثياب المصنوع من القطن بالقطن؛ لأنه بيع غير الموزون، بل بيع العددي بالموزون، فلا علة الربا.
وإذا راجعنا ما قاله فقهاء المذاهب غير الحنفية في علة ربا الفضل نجد أقوالهم تدور حول الادخار والاقتيات أو الطعم أو الطعم مع الكيل أو الوزن، والقطن ليس من هذه أصلاً.
(1)
الكرباس -بكسر الكاف وسكون الراء- ثوب من القطن (الأبيض). ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 4/ 161، تاج العروس، 16/ 432.
(2)
لأن الثوب لا ينقض فيعود قطناً، ولأنه موزون، والثوب غير كذلك. ينظر: النهر الفائق، 3/ 476.
(3)
المثبت في كثير من المراجع بيع الكرباس بالغزل خلافاً لما في الاختيار، وليس بيع القطن بالغزل، والله أعلم. ينظر: رد المحتار، 5/ 180، النهر الفائق، 3/ 476، درر الحكام، 2/ 188.
(4)
مجمع الأنهر، 2/ 87.
(5)
لأن القطن يصير غزلاً ثم يصير كرباسًا، فالغزل أقرب إلى القطن من الكرباس. ينظر: رد المحتار، 5/ 181.
(6)
الاختيار، 2/ 33، ملتقى الأبحر، ص: 123، رد المحتار، 5/ 180 - 181.
(7)
النهر الفائق، 3/ 476.
(8)
الاختيار، 2/ 30، تبيين الحقائق، 4/ 85.
وعليه يمكن القول بجواز بيع الكرباس بالقطن عند المالكية والشافعية والحنابلة تخريجاً
(1)
.
وإذا كان كذلك فهي من مواضع الاتفاق بينهم، والله أعلم.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن إنساناً يملك مزرعة القطن وأراد أن يبيع بعضه في مقابل الثياب الجاهزة المصنوعة من القطن، فإن ذلك جائز، لأن القطن موزون، والثياب عددية، والصناعة غيرتها فلا تشبهه؛ لأنها لا تنقض لتعود قطناً.
- لو أن صاحب محل الخياطة أراد أن يبيع الثياب الشتوية الجاهزة عنده حين حلول الربيع بالغزل أي خيوط القطن، فإن ذلك جائز؛ لما سبق في الصورة الأولى، والله أعلم.
(1)
ينظر: ص: 206، من هذا البحث، هامش رقم:4.
وقد يؤيد ذلك ما قاله بعض الفقهاء في جواز كراء الأرض بثياب القطن والكتان؛ لأن الصنعة غيرتها. ينظر: مواهب الجليل، 5/ 403.
المسألة الرابعة: استقراض الخبز وزناً وعدداً:
الاستقراض من القرض، وهو ما تعطيه من مثلي لتتقاضى مثله
(1)
، وفقهاء الحنفية يقررون بأن الإقراض جائز في كل مكيل وموزون، وكذلك في العدديات المتقاربة مثل البيض؛ لأنها مضمونة المثل، وإنما يختلفون في إقراض الخبز
(2)
، وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المروي عن أبي حنيفة –رحمه الله أن ذلك لا يجوز وزناً ولا عدداً.
والقول الثاني: عند أبي يوسف –رحمه الله أنه يجوز وزناً ولا يجوز عدداً.
والقول الثالث: عند محمد –رحمه الله أنه يجوز عدداً، واستعظم أن يستقرض وزناً
(3)
.
ودليل المنع كونه لا يوقف على حده معناه أنه يتفاوت بالعجن والنضج عند الخبز، ويكون منه الخفيف، والثقيل، وفي كل نوع عرف
(4)
.
وعند أبي يوسف الخبز موزون عادة، والاستقراض في الموزونات وزناً يجوز، ولا يجوز عدداً؛ لأنه متفاوت، فيه الكبير والصغير
(5)
.
(1)
رد المحتار، 5/ 161.
(2)
بدائع الصنائع، 7/ 395.
(3)
ينظر: المبسوط، 14/ 31، بدائع الصنائع، 7/ 395.
(4)
بدائع الصنائع، 7/ 395.
(5)
المبسوط، 14/ 31.
وعند محمد يجوز عدداً؛ لأنه صنع الناس وقد اعتادوه، -وقد استعظم جواز استقراضه وزناً
(1)
لأن القياس فيه ما قاله أبو حنيفة: إنه لا يوقف على حده، وإنما ترك هذا القياس (استحساناً)
(2)
- ولتعارف الناس (ولحاجتهم)
(3)
و (تيسيراً) عليهم
(4)
، وذلك في استقراضه عدداً وبقي استقراضه وزناً على أصل القياس، والفتوى على استقراضه عدداً
(5)
، وقيل أيضاً: عدداً ووزناً
(6)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المسألة: لو أن إنساناً استقرض خبزاً من جاره على أن يرد بدله، فهل يجوز ذلك أم لا؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين رئيسين:
القول الأول: يجوز استقراض الخبز، لكن اختلفوا في كيفية ذلك:
- فمنهم من قال: يجوز وزناً وعدداً، وهو قول الحنفية المفتى به –كما سبق-، والمالكية
(7)
، وقول عند الشافعية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
(1)
ورواية أخرى عنه أنه يرى جواز استقراضه عدداً ووزناً. ينظر: العناية، 7/ 37، تبيين الحقائق، 4/ 95.
(2)
بدائع الصنائع، 7/ 395.
(3)
تحفة الفقهاء، 2/ 17.
(4)
رد المحتار، 5/ 162.
(5)
الهداية، 3/ 65، الاختيار، 2/ 34، المبسوط، 14/ 31 - 32 (بتصرف يسير)، رد المحتار، 5/ 162.
(6)
رد المحتار، 5/ 162. وقيل أيضاً: وزناً لا عدداً كما في شرح الوقاية للمحبوبي (4/ 59)، لكن الشارح أعرض عنه ولم يعلِّق عليه بخلاف بقية المواضع التي فيها ذكر الفتوى، والأولى ما أثبته صاحب رد المحتار، والله أعلم.
(7)
الشرح الكبير، 3/ 53، شرح الزرقاني، 5/ 127.
(8)
المجموع شرح المهذب (تكملة المطيعي)، 13/ 174، نهاية المطلب، 5/ 451 - 452.
(9)
الشرح الكبير على متن المقنع، 4/ 359، ومال إلى أنه راجح عندهم.
- ومنهم من قال: لا يجوز إلا وزناً، وهو رواية عند الحنابلة
(1)
.
- ومنهم من قال: يجوز عدداً في الشيء اليسير، وهو رواية أخرى عند الحنابلة
(2)
.
القول الثاني: لا يجوز استقراض الخبز، وهو الصحيح من مذهب الشافعية
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
استدل أصحاب القول الأول بأدلة، كل بحسب ما تقرر عنده في المسألة، فمن قال بجواز استقراضه وزناً وعدداً استدل بأدلة، منها:
الدليل الأول: العرف، وقد تعارف الناس على ذلك، ولا يقصدون البيع
(4)
.
الدليل الثاني: الحاجة داعية إلى مثل هذه المعاملة
(5)
.
الدليل الثالث: في جوازه توسعة على الناس
(6)
، وفي منعه حرج شديد.
ومن قال بعدم جوازه إلا وزناً استدل بقياسه على الموزونات
(7)
؛ لأن المثلية تتحقق بذلك.
ومن قال بجوازه عدداً بغير وزن استدل بحديث عائشة –رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخميرة والخبز نقرضه الجيران فيردون أكثر أو أقل، فقال:"ليس بذلك بأس إنما هو أمر موافق بين الجيران وليس يراد به الفضل"
(8)
.
(1)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 71، المغني، 4/ 239 - 240.
(2)
المغني، 4/ 239 - 240.
(3)
المجموع شرح المهذب، 13/ 174، نهاية المطلب، 5/ 451 - 452.
(4)
تحفة الفقهاء، 2/ 17، الشرح الكبير، 3/ 53، شرح الزرقاني، 5/ 127.
(5)
تحفة الفقهاء، 2/ 17، المجموع شرح المهذب (تكملة المطيعي)، 13/ 174، نهاية المطلب، 5/ 451 - 452.
(6)
رد المحتار، 5/ 162.
(7)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 71، المغني، 4/ 239 - 240.
(8)
أخرجه ابن الجوزي في التحقيق، 2/ 194، رقم حديث: 1502، وقال ابن عبد الهادي في تحقيق التنقيح (4/ 106):"هذا الحديث غير مخرَّجٍ في شيءٍ من الكتب السِّتَّة، وفي إسناده من تجهل حاله"، وقد ضعَّفه الألباني في الإرواء، 5/ 232.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث دليل على اعتبار العدد في استقراض الخبز والخميرة وليس الوزن، بل اعتبار الوزن في ذلك يشق، والحديث يدل على المسامحة.
وقد يناقش بأن الحديث ضعيف ولم يثبت، فلا تقوم به الحجة.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بمنع استقراض الخبز بتعليل كون ذلك يؤدي إلى مقابلة الخبز بالخبز، وبيانه عندهم على النحو الآتي:"وأما إقراض الخبز وكل ما لا يجوز بيعُ بعضِه ببعض ينبني على أن ما ليس من ذوات الأمثالِ يَضمن المقترض مثلَه أو قيمتَه. فإن ألزمناه القيمةَ، والخبز ليس من ذواتِ الأمثال، فيجوز إقراضه، فإنه ليس فيه مقابلة الخبز بالخبز. وإن قلنا: يضمن المقترض المثل، فهذا يؤدي إلى مقابلة الخبز بالخبز"
(1)
.
قد يناقش بأن الخبز من ذوات الأمثال وتحقق المثلية أمر ممكن؛ لأن الخبز من يخبزه في بيته متقارب في الغالب، وإن كان يجلبه من خارج البيت من المخابز فالمثلية أوضح وأظهر.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال وأدلتها يظهر أن القول بجواز استقراض الخبز عدداً ووزناً أقرب، فمن استقرضه وزناً فإنه يرد مثله بالوزن، وإن استقرضه عدداً فإنه يرد مثله بالعدد؛ وذلك لقوة دليل هذا القول، وورود المناقشة على دليل القول الثاني، ولأن الخبز موزون أو عددي، والمثلية فيه متحققة، وخصوصًا الآن مع تطور صناعة الأفران وغيرها من الآلات التي تضمن مثلية الخبز، مع ضرورة التفرقة بين ما يخبز في بيوتات الناس وبين ما يخبز في المخابز العامة، والله أعلم.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو استقرض إنسان من جاره خبزاً خبزه هو في بيته، فعلى القول الثاني لا يجوز ذلك مطلقاً، وعلى الأول يجوز عند من يقول بالعدد؛ لأن ما يخبز في البيت لا يوزن في الغالب ويشق كما مضى، ولو اشتُرِط ردُّ المخبوز في البيت لكان أوفق؛ لاختلاف صناعة البيت من صناعة المخابز.
(1)
نهاية المطلب، 5/ 451 - 452.
وإذا أقرضه خبزاً اشتراه في البقالة، فعلى القول الثاني لا يجوز كذلك، وعلى الأول يجوز عند من قال بالوزن والعدد؛ لأنه يباع بالوزن وبالعدد، وإن كان العدد غالباً على الوزن، ولذلك يجوز أيضاً عند من قال بالوزن فقط أو بالعدد فقط، ولو اشتُرِط أيضاً رد المخبوز في المخابز لكان أوفق لما ذُكر، والله أعلم.
المطلب الرابع: السلم في الخبز:
السلم
(1)
عند الحنفية شراء آجل بعاجل
(2)
-وهو بخلاف القياس؛ لأن الأصل أن يكون العوض حاضراً وقت العقد-، ومعناه بيع عوض موصوف في الذمة إلى أجل معلوم بثمن يُعطى عاجلاً، وعليه فإنه لا بد من قبض رأس المال في مجلس العقد وتأجيل المسلَم فيه أي ما وصف في الذمة، وهو جائز في المكيلات مثل الحنطة والذرة والموزونات كالحديد -غير النقدين؛ لأنهما أثمان، والمسلَم فيه لا يكون إلا مثمناً-، والمعدودات التي لا تتفاوت
(3)
.
وكل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه، وإلا فلا؛ لأنه يصير مجهولاً يفضي إلى المنازعة
(4)
.
والسلم في الخبز من المسائل المختلف فيها لصعوبة ضبط صفته؛ وذلك على قولين:
القول الأول: لا يجوز السلم في الخبز لا وزناً ولا عدداً؛ لأن الخبز يختلف بالعجن والنضج وكيفية الخبز، فمنه الخفيف ومنه الثقيل، ومع التفاوت لا يمكن تجويز السلم فيه، فتبقى الجهالة المفضية إلى المنازعة
(5)
، وهو قول الطرفين
(6)
–رحمهما الله-.
(1)
وهو بمعنى السلف. ينظر: الاختيار، 2/ 33، تبيين الحقائق، 4/ 110.
(2)
رد المحتار، 5/ 209،
(3)
الجوهرة النيرة، 1/ 217.
(4)
الجوهرة النيرة، 1/ 200.
(5)
بدائع الصنائع، 5/ 211.
(6)
ورواية أخرى عن الصاحبين أنه يجوز قياساً على اللحم. ينظر: المبسوط، 14/ 31.
القول الثاني: يجوز وزناً إذا أتى بشرائط السلم
(1)
لحاجة الناس
(2)
، لكن يجب أن يحتاط وقت القبض بقبض الجنس المسمى، حتى لا يصير استبدالاً بالسلم فيه قبل قبضه إذا قبض دون المسمى صفة، وإذا كان كذلك فالاحتياط في منعه؛ لأنه قل أن يأخذ من النوع المسمى خصوصاً فيمن يقبض في كل يوم كذا وكذا رغيفاً، وهو قول أبي يوسف –رحمه الله
(3)
.
وأما عدداً فلا يجوز بالإجماع
(4)
، ومراده إجماع الأئمة الثلاثة من الحنفية، لكن فيه نظر لأنه جاء في رد المحتار مفاده جواز السلم في الخبز عدداً، والفتوى على ذلك
(5)
.
وخلاصة المسألة أن الحنفية يرون جواز السلم في الخبر وزناً وعدداً؛ لأنه صنع الناس وقد اعتادوه
(6)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في جواز السلم في الخبز على قولين:
القول الأول: جواز السلم فيه، وهو قول الحنفية –كما سبق- والمالكية
(7)
، والصحيح من مذهب الشافعية
(8)
، والحنابلة
(9)
.
(1)
الجوهرة النيرة، 1/ 220.
(2)
المبسوط، 14/ 31، الهداية، 3/ 65، تبيين الحقائق، 4/ 95.
(3)
رد المحتار، 5/ 184.
(4)
بدائع الصنائع، 5/ 211.
(5)
رد المحتار، 5/ 183.
(6)
المبسوط، 14/ 31.
(7)
الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 692، شرح الزرقاني على مختصر خليل، 5/ 397.
(8)
نهاية المطلب، 6/ 44، بلا خلاف، وذكر وجهاً بعيداً في منع السلم في الخبز، وتفصيله في المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 127، حيث قال: "ولا يصح السلم في الخبز، وذلك عند أكثر الأصحاب
…
لتأثير النار فيه تأثيراً لا ينضبط، ولأن ملحه يقل ويكثر، والقول الثاني صححه الشافعي ومن تبعه
…
لأن ناره مضبوطة، والملح غير مقصود، والله أعلم".
(9)
المغني، 4/ 209، الشرح الكبير، 4/ 316.
القول الثاني: لا يجوز السلم في الخبز، وهو وجه عند الشافعية
(1)
.
الأدلة والمناقشات:
استدل أصحاب القول الأول القائل بجواز السلم في الخبز بأدلة، منها:
الدليل الأول: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"
(2)
.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث إباحة السلم في كل مكيل وموزون ومعدود
(3)
.
الدليل الثاني: لأن عمل الناس فيه معلوم بالعادة، ويمكن ضبطه بالنشافة والرطوبة، فصح السلم فيه
(4)
.
الدليل الثالث: العرف، وقد اعتاد الناس على هذه المعاملة
(5)
؛ لعدم الجهالة المفضية إلى المنازعة.
الدليل الرابع: الحاجة داعية إليه
(6)
، وفي منعه حرج شديد.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بعدم جواز السلم في الخبز بأدلة، منها:
الدليل الأول: تأثير النار على ما تمسه لا ينضبط، ومن ذلك الخبز، فالنار تؤثر فيه تأثيراً لا يمكن ضبطه.
يناقش بأن ما مسته النار لا يفارق ما لم تمسه النار إذا انضبط، فتأثير النار يمكن ضبطه.
(1)
المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 127، نهاية المطلب، 6/ 44، العزيز شرح الوجيز، 4/ 417.
(2)
أخرجه البخاري، 3/ 85، كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم، رقم حديث: 2240، ومسلم، 3/ 1226، كتاب المساقاة، باب السلم، رقم حديث: 1604، ونصه:"من أسلف في تمر، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم".
(3)
المغني، 4/ 209، وقد ذكر الدليل ووجهه.
(4)
نهاية المطلب، 6/ 44، المغني، 4/ 209،
(5)
المبسوط، 13/ 31.
(6)
الهداية، 3/ 65، تبيين الحقائق، 4/ 95.
الدليل الثاني: لأن الملح الذي يوضع في الخبز يقل ويكثر.
يناقش بأنه غير مقصود، فلا ينظر إلى ذلك
(1)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الأول أوفق وأقرب لمقاصد الشريعة، وفيه توسعة على الناس، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في بعض الصور، منها:
- لو أن صاحب المطعم أسلم في الخبز عند الخباز خمسين رغيف خبز يومياً طوال العام، فعلى القول الأول يجوز؛ لأنه يمكن ضبط صنع الخبز من حيث الحجم والشكل والمكونات، وعلى الثاني لا يجوز ذلك لتأثير النار عليه تأثيراً لا ينضبط.
(1)
المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 127، وقد ذكر الدليلين ووجههما.
المبحث العاشر: ثبوت الوكالة بالقبض وثبوت الوكالة بالخصومة والتقاضي
قد يعجز الإنسان عن التصرف في ماله؛ لقلة خبرته وكثرة انشغاله، أو لكثرة ماله، فيحتاج إلى تفويض التصرف إلى الغير بطريق الوكالة
(1)
، والوكالة تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل
(2)
.
ومسألة ثبوت الوكالة تبين ما يملكه الوكيل من التصرف بموجب التوكيل بعد صحته
(3)
، وفقهاء الحنفية يقولون: إن الوكيل بقبض الدين مثلاً وكيل بالخصومة لأجله
(4)
، والوكيل بالتقاضي في أمور مالية مثلاً يملك قبضها بالإجماع إذا قضى القاضي له؛ لأنه لا فائدة للتقاضي بدون القبض
(5)
، وأما الوكيل بالخصومة فيها فقد اختلفوا في ذلك؛ فعند الأئمة الثلاثة يملك قبضها أيضاً؛ لأن المقصود من الخصومة استيفاء الدين فكان المقصود من الوكالة الاستيفاء فيملكه، ولأن من ملك شيئًا ملك إتمامه وإتمام الخصومة وانتهاؤها بالقبض
(6)
، وعند زفر لا يملك؛ لأن الموكل رضي بخصومته لا بقبضه، وليس كل من يصلح للخصومة يؤتمن على القبض
(7)
.
(1)
المبسوط، 19/ 2، بتصرف يسير.
(2)
بدائع الصنائع، 6/ 19.
(3)
بدائع الصنائع، 6/ 24.
(4)
تبيين الحقائق، 4/ 278، ونسبه إلى أبي حنيفة رحمه الله.
(5)
الاختيار، 2/ 165، ولم أجد غيره يذكر الإجماع، بل يرده ما جاء في الهداية (3/ 149) أن الوكيل بالتقاضي يملك القبض على أصل الرواية؛ لأنه في معناه وضعاً، إلا أن العرف بخلافه، والعرف قاضٍ على الوضع، والفتوى على أنه لا يملك. قلت: لعله قصد بالإجماع إجماع الأئمة الثلاثة من الحنفية، والله أعلم.
(6)
الهداية، 3/ 149.
(7)
تحفة الفقهاء، 3/ 229، بدائع الصنائع، 6/ 24، الاختيار، 2/ 164 - 165. جاء في العناية، 8/ 106: "لأن الخصومة قول يستعمل في إظهار الحق والقبض فعل حسي".
والفتوى على قول زفر لفساد الزمان وكثرة ظهور الخيانة في الوكلاء
(1)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المسألة
لو أن صاحب عبارة مؤجرة وكل شركة محاماة بالخصومة والتقاضي في قضية استيفاء الديون على بعض سكان عمارته، وإذا قضى القاضي له هل تملك شركة المحاماة قبض الديون أم لا؟
تحرير محل النزاع
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: الوكيل بالخصومة لا يملك قبض الأموال، وهو قول الحنفية المفتى به–كما سبق-، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
القول الثاني: الوكيل بالخصومة يملك قبض الأموال، وهو قول الحنفية المرجوح –كما سبق-، وقول المالكية
(4)
، ورواية عند الحنابلة
(5)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن الوكيل بالخصومة لا يملك القبض بأدلة، منها:
(1)
الاختيار، 2/ 165، الهداية، 3/ 149، مجمع البحرين، ص: 425، البناية، 9/ 289، شرح الوقاية للمحبوبي، 4/ 178، وأكد ما ذكره صاحب الهداية أن الوكيل بالتقاضي لا يملك القبض أيضاً كالوكيل بالخصومة والتعليل واحد: ظهور الخيانة في الوكلاء. قلت: يظهر أن المسألة الخلاف فيها من خلاف العصر والزمان وليس الحجة والبرهان؛ ولذلك قدموا قول زفر على ظاهر الرواية، والله أعلم. ومنهم من ردَّها إلى العرف كما في اللباب، 2/ 150.
(2)
الوسيط في المذهب، 3/ 289، العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير، 5/ 228.
(3)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 138، الإنصاف، 5/ 393، وقال إنه الصحيح من المذهب.
(4)
مواهب الجليل، 5/ 212، ونصهم في حكم الوكالة على الدعوى:"إنه إذا صدقه على الوكالة، وأقر بالدين أُلزم بالدفع إليه"، ولم أجدها إلا عنده.
(5)
الإنصاف، 5/ 393، المبدع في شرح المقنع، 4/ 345.
الدليل الأول: كون الإذن بالوكالة لم يتناوله نطقاً، ولا عرفاً
(1)
.
الدليل الثاني: لأن الموكل رضي بخصومته، ولا يلزم من ذلك رضاه بقبضه.
الدليل الثالث: ليس كل من يصلح للخصومة يؤتمن على القبض
(2)
.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن الوكيل بالخصومة يملك القبض بأدلة، منها:
الدليل الأول: كون الوكيل مأموراً بقطع الخصومة، ولا تنقطع إلا به
(3)
.
قد يناقش بأنه ليس على إطلاقه، بل تنقطع بمجرد إنهائها، والقبض أمر زائد على إنهائها.
الدليل الثاني: لأن المقصود من الخصومة استيفاء الدين فكان المقصود من الوكالة الاستيفاء فيملكه
(4)
.
قد يناقش بأن المقصود من الخصومة ليس استيفاء الدين فحسب، بل هناك أمور معنوية تتحقق قبل استيفاء المال مثل رضا النفس والتعديل، ولو كانت الخصومة لأجل استيفاء المال فقط فإن الاستيفاء أمر زائد على الوكالة، فلا تشمله.
الترجيح:
بعد استعراض القولين يظهر أن القول الأول أقرب؛ لقوة أدلته، وورود المناقشة على أدلة المخالفين، والمسألة لها ثمرة تظهر فيما ذكر من صورتها، فإنه على القول الأول شركة المحاماة لا تملك القبض نيابة عن صاحب العمارة، وعلى القول الثاني تملك ذلك؛ لأن الوكالة تشمل ذلك، والله أعلم.
(1)
المبدع في شرح المقنع، 4/ 345.
(2)
تحفة الفقهاء، 3/ 229، بدائع الصنائع، 6/ 24، الاختيار، 2/ 164 - 165، وقد ذكروا الدليل الثاني والثالث، وله علاقة بفساد الوكلاء وفقدان الأمانة.
(3)
الإنصاف، 5/ 393، المبدع في شرح المقنع، 4/ 345، وهو قريب مما جاء في كتب الحنفية، وقد سبق.
(4)
الهداية، 3/ 149.
المبحث الحادي عشر: في مسائل المزارعة والمساقاة
المطلب الأول: حكم المزارعة:
المزارعة مفاعلة من الزرع والزراعة وهي الحرث والفِلاحَة، وتسمى مخابرة، مشتقة من خيبر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دفع خيبر مزارعة، فسُميت المزارعة مخابرة لذلك، أو من الخيبر وهو الإكَّار، أو من الخُبْرَة -بالضم- وهي النصيب، أو من الخَبَار وهي الأرض اللينة، وتسمى المحاقَلة من الحقل وهو الزرع إذا تشعّب قبل أن يغلظ سوقه أو هو الأرض الطيبة الخالصة الصالحة للزراعة.
(1)
وفي اصطلاح الحنفية عقد على الزرع ببعض الخارج.
(2)
وقد اختلفوا في مشروعيتها على قولين:
القول الأول: إنها مشروعة، وهو قول الصاحبين -رحمهما الله-؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع
(3)
(4)
.
(1)
ينظر: الاختيار، 3/ 74.
(2)
الهداية، 4/ 337، الاختيار، 3/ 74.
(3)
أخرجه مسلم، 3/ 1186، كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، رقم حديث:1551.
(4)
الاختيار، 3/ 74.
القول الثاني: إنها فاسدة
(1)
، وهو قول أبي حنيفة –رحمه الله بدليل أن النبي –صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة
(2)
وهي المزارعة، ولأن الأجر مجهول أو معدوم، وكل ذلك مفسد، ومعاملة النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر كانت خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز
(3)
.
والفتوى على قول الصاحبين؛ لحاجة الناس إليها
(4)
، ولظهور تعامل الأمة بها، والقياس يترك بالتعامل
(5)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في حكم المزارعة على قولين:
القول الأول: إنها فاسدة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله
(6)
.
(1)
إلا إذا كان البذر والآلات لصاحب الأرض والعامل، فيكون الصاحب مستأجرًا للعامل والعامل للأرض بأجرة ومدة معلومتين، ويكون له بعض الخارج بالتراضي. ينظر: رد المحتار، 6/ 275.
(2)
أخرجه مسلم، 3/ 1174، كتاب البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، وعن المخابرة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وعن بيع المعاومة وهو بيع السنين، من حديث جابر بن عبد الله –رضي الله عنه، رقم حديث:1536.
(3)
ينظر: الهداية، 4/ 337، تبيين الحقائق، 5/ 278.
(4)
لأن صاحب الأرض قد لا يقدر على العمل بنفسه، ولا يجد ما يستأجر به. والقادر على العمل لا يجد أرضًا، ولا ما يعمل به. فدعت الحاجة إلى جوازها؛ دفعا للحاجة كالمضاربة. ينظر: الاختيار، 3/ 74 - 75.
(5)
الهداية، 4/ 337، تبيين الحقائق، 5/ 278، ملتقى الأبحر، ص: 140، البحر الرائق، 8/ 181، رد المحتار، 6/ 275.
(6)
رد المحتار، 6/ 275.
القول الثاني: إنها مشروعة، وهو القول المفتى به في المذهب الحنفي -كما سبق-، وقول المالكية
(1)
، وعند الشافعية تبعاً للمساقة المعقودة على النخيل
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أبو حنيفة رحمه الله على فساد المزارعة بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة
(4)
، وهي المزارعة، والأجر فيها مجهول أو معدوم.
نوقش بأن هناك فرقًا بين المخابرة والمزارعة، وهو أن البذر في المزارعة يكون على مالك الأرض وفي المخابرة على العامل
(5)
.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: استدل أصحاب القول الثاني على مشروعية المزارعة بأن النبي عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع
(6)
.
نوقش بأن معاملة النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر كانت خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز
(7)
.
الدليل الثاني: حاجة الناس داعية إلى ذلك، وفي منعها مشقة عليهم
(8)
.
(1)
التاج والإكليل، 7/ 153، شرح مختصر خليل للخرشي، 6/ 63.
(2)
نهاية المطلب، 8/ 217، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 7/ 277.
(3)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، ص: 403، رقم: 1446، مختصر الخرقي، ص: 79، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 167.
(4)
سبق تخريجه قريبًا.
(5)
شرح النووي على مسلم، 10/ 193.
(6)
سبق تخريجه قريبًا.
(7)
ينظر: الهداية، 4/ 337، تبيين الحقائق، 5/ 278.
(8)
الهداية، 4/ 337، تبيين الحقائق، 5/ 278، ملتقى الأبحر، ص: 140، البحر الرائق، 8/ 181، رد المحتار، 6/ 275.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلة كل قول يظهر أن القول الثاني أرجح؛ لوجود الفرق بين المزارعة والمخابرة، ولما ورد من المناقشة على دليل القول الأول.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو أن إنساناً ملك أرضاً صالحة للزرع، لكن لم يقدر على العمل فيها؛ لانشغاله بوظيفته في شركة ما أو بتجارته، ودفعها إلى عامل؛ ليقوم بالعمل عليها وما يلزم منه مثل البذور والسماد والآلات وغيرهما على أن له نصف الخارج أو ثلثه أو ربعه فإنه مشروع على القول الثاني، بخلاف القول الأول.
المطلب الثاني: اشتراط الأعمال في المزارعة التي ليست منها
قد سبق في المسألة السابقة ذكر أقوال المذاهب الأربعة في مشروعية المزارعة، ويذكرون شروطها مثل التأقيت، وصلاحية الأرض للزراعة، ومعرفة مقدار البذر، ومعرفة جنسه، ونصيب الطرف الآخر، والتخلية بينه وبين الأرض إلخ
(1)
، لكن ينصون على أنه ليس للعامل مطالبة صاحب الأرض بأجرة الحصاد مثلاً، ولو شُرط ذلك على العامل لا يجوز؛ لأن الأصل أنه متى شُرِط في المزارعة ما ليس من أعمالها فسدت؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد، وفيه نفع لأحدهما، فصار كاشتراط الحمل عليه، وكل عمل يُنبت ويزيد في الخارج من أعمال الزراعة واجب على العامل شُرط عليه ذلك أو لم يشرط عليه ذلك كالسفر وغيره، وما لا فلا، وهي ظاهر الرواية
(2)
. وعند أبي يوسف يجوز؛ لأن المزارعة على هذه الشروط متعاملة بين الناس ويجوز ترك القياس بالتعامل، وعليه الفتوى
(3)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة: إذا اتفق صاحب الأرض والعامل على اشتراط الأعمال في المزارعة التي ليست منها مثل الحصاد ونقله، فهل يصح ذلك الشرط أم لا؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يجوز اشتراط الأعمال التي ليست من المزارعة، وهو قول الحنفية – كما سبق-، وقول عند المالكية إذا كان مما تعارف الناس عليه
(4)
، والشافعية
(5)
، والحنابلة
(6)
.
(1)
الاختيار، 3/ 75.
(2)
البحر الرائق، 8/ 186.
(3)
الاختيار، 3/ 78، البحر الرائق، 8/ 186.
(4)
التاج والإكليل، 7/ 153، منح الجليل، 6/ 352.
(5)
نهاية المطلب، 8/ 24، روضة الطالبين، 5/ 159.
(6)
المبدع في شرح المقنع، 4/ 404، الإنصاف، 5/ 485، المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، 1/ 355.
القول الثاني: الشرط غير صحيح، وهو قول عند الحنفية -كما سبق-، وقول آخر عند المالكية
(1)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بصحة اشتراط الأعمال التي ليست من المزارعة بدليل العرف، فإن الناس قد تعارفوا على ذلك
(2)
، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً
(3)
.
دليل القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بعدم جواز اشتراط الأعمال التي ليست من المزارعة بتعليل كونه شرط الجهالة المفضية إلى النزاع
(4)
.
قد يناقش بأن واقع الناس وتعاملهم بهذه المعاملة تنفي الجهالة المفضية إلى المنازعة، ويبقى الشرط صحيحاً.
الترجيح:
بعد استعراض القولين بدليليهما يظهر أن القول الأول أقرب؛ نظراً لعرف الناس في معاملاتهم، والمسألة لها ثمرات عملية تظهر في صورة كثيرة، منها:
- لو أن إنساناً دفع أرضه للعامل أن يزرع القمح على أن الخارج بينهما، وشرطا أن يكون الحصاد ونقله وإحضاره وتجفيفه على العامل، فإن الشرط جائز ولا شيء فيه لتعارف الناس على ذلك.
- ويقال مثل ذلك في غيرها من الزروع والثمار، والله أعلم.
(1)
منح الجليل، 6/ 352.
(2)
الاختيار، 3/ 78، البحر الرائق، 8/ 186، التاج والإكليل، 7/ 153.
(3)
الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص:84.
(4)
منح الجليل، 6/ 352.
المطلب الثالث: حكم المساقاة:
المساقاة من المفاعلة، وهي معاقدة دفع الأشجار إلى من يعمل فيها على أن الثمر بينهما
(1)
، وهي عند فقهاء الحنفية كالمزارعة حكماً وخلافاً وشروطاً إلا المدة، فإنها تصح بلا ذكرها
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المساقاة: لو أن إنساناً دفع شجره إلى العامل ليقوم بسقيه وسائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمره.
وبعد الاطلاع على كتب بقية المذاهب تبين أنها جائزة عند الجميع
(3)
.
(1)
تبيين الحقائق، 5/ 284.
(2)
الاختيار، 3/ 79، بدائع الصنائع، 6/ 185، الهداية، 4/ 343، تبيين الحقائق، 5/ 284، شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 78.
(3)
التهذيب في اختصار المدونة، 3/ 409، الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 766، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 28، الإقناع في الفقه الشافعي، ص: 110، نهاية المطلب، 8/ 5، مختصر الخرقي، ص: 79، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 163.
المبحث الثاني عشر: وقف العقار والمنقول:
الوقف معناه الحبس
(1)
، وفقهاء الحنفية يعرفونه بأنه عبارة عن حبس المملوك عن التمليك من الغير
(2)
، والتصدق بمنفعته
(3)
.
والعين الموقوفة عند الحنفية تنقسم إلى العقار
(4)
والمنقول، ويجوزون صحة وقف العقار
(5)
، ويختلفون في وقف المنقول؛ وذلك على قولين:
القول الأول: إنه يجوز إذا كان تابعاً للعقار (مثل المواقف للمبنى) بالإجماع
(6)
، وهو قول أبي يوسف رحمه الله
(7)
.
القول الثاني: إنه يجوز وقف كل ما جرى فيه التعامل كالمصاحف والكتب إلخ، بخلاف ما لا تعامل فيه، وهو قول محمد، وعليه الفتوى
(8)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
صورة المسألة فيما لو أراد شخص أن يوقف شيئاً يمكن نقله من مكان لآخر مثل الكتب، فهل يجوز ذلك أم لا؟
(1)
المصباح المنير، 2/ 669.
(2)
المبسوط، 12/ 27.
(3)
الاختيار، 3/ 40.
(4)
كل ما دل على ثبات ودوام. ينظر: مقاييس اللغة، 4/ 90.
(5)
وما عثر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجيز الوقف من أصله فإن مراده ألا يُجعل لازماً، وأما أصل الجواز فثابت عنده، لأنه يجعل الواقف حابسا للعين على ملكه صارفا للمنفعة إلى الجهة التي سماها فيكون بمنزلة العارية والعارية جائزة غير لازمة. ينظر: المبسوط، 12/ 17.
(6)
تبيين الحقائق، 3/ 327.
(7)
الاختيار، 3/ 42.
(8)
الاختيار، 3/ 42 - 43، تحفة الفقهاء، 3/ 378، رد المحتار، 4/ 363، 4/ 390.
تحرير محل النزاع:
اتفقت المذاهب على جواز وقف العقار
(1)
، وبعد الاطلاع على أقوالهم في حكم وقف المنقول تبين أنه جائز عند المالكية في أصل الجواز على جهة خيرية، وإنما يختلفون في وقف المنقول في المعقب أي الذرية وعلى قوم بأعيانهم
(2)
، والقول بالجواز بشرط هو قول الشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
، وذلك من حيث أصل الجواز
(5)
، ومن أدلتهم:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "
…
وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أَدْراعَه وأَعْتُدَه في سبيل الله"
(6)
(7)
.
وجه الدلالة: دل الحديث بمنطوقه ومفهومه على أن خالداً احتبس أي وقف أدراعه وأعتده في سبيل الله، وهي من المنقولات
(8)
.
الدليل الثاني: تعامل الناس بذلك، وهو مما يترك القياس لأجله، والقياس عدم جواز وقف المنقولات؛ لأن منفعتها لا تدوم أو ليست على الدوام
(9)
.
(1)
الاختيار، 3/ 42 - 43، تحفة الفقهاء، 3/ 378، المبسوط، 12/ 17، الشرح الكبير، 4/ 76 - 77، روضة الطالبين، 5/ 314، الإنصاف، 7/ 7.
(2)
الشرح الكبير، 4/ 76 - 77، التوضيح في شرح مختصر بن الحاجب، 7/ 280.
(3)
نهاية المطلب، 8/ 334، الوسيط في المذهب، 4/ 239، روضة الطالبين، 5/ 314.
(4)
الإنصاف، 7/ 7، المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، 1/ 369.
وجاء في الإنصاف ذكر رواية أخرى ومن منع دلالتها وجعل المذهب رواية واحدة. ينظر: الإنصاف، 7/ 7.
(5)
وإلا فقد اختلفوا في تعريف المنقول وما يدل في مسماه عند التطبيق.
(6)
أخرجه البخاري، 2/ 122، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى:{وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله} [التوبة: 60]، رقم حديث: 1468، ومسلم، 2/ 676، كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، رقم حديث:983.
(7)
الهداية، 3/ 17.
(8)
مواهب الجليل، 6/ 21.
(9)
الاختيار، 3/ 42 - 43، تحفة الفقهاء، 3/ 378.
والمسألة لها ثمرات عملية تظهر في صور كثيرة جدًّا، منها:
- لو أن إنسانًا أراد أن يوقف المصاحف في المسجد أو الكتب في المكتبة للنفع العام فإنه جائز.
- وكذلك لو أراد أن يوقف الماء في المسجد، أو الورق في حلقات التحفيظ أو الحقائب والأدوات المدرسية للطلاب الفقراء إلخ، فإنه جائز؛ لأنها من المنقولات.
المبحث الثالث عشر: في مسائل الدعوى والشهادة
المطلب الأول: الحقوق التي يجوز فيها اليمين، والحقوق التي لا يجوز فيها:
هذه المسألة ترد في كتب الحنفية في كتاب الشهادات عند ذكر الحقوق التي يستحلف عليها
(1)
المدعى عليه في الخصومات، فلو ادَّعى شخص على آخر في حق معين، ولا بينة عند المدعي، فعلى المدعى عليه اليمين، لكن ما الحقوق التي يجوز فيها اليمين؟
اختلف فقهاء الحنفية في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إن الاستحلاف يجوز في كل ما يجوز فيه القضاء بالنكول أي نكول المدعى عليه؛ فلا يستحلف في الحدود
(2)
؛ لأنه لا يُقضى فيها بالنكول
(3)
، وفي غيرها لا يُستحلف في النكاح والرجعة والفيء وفي الإتلاف والرق والنسب والولاء، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه لا يجوز القضاء فيها بالنكول، والنكول عنده بمنزلة البدل
(4)
.
(1)
في باب الاستحلاف -على وزن استفعال-، وهو مصدر الفعل السداسي المبدوء بالهمزة الدال على الطلب، ومعناه طلب الحلف، واليمين عند الحنفية في الخصومات لا تكون إلا عند طلب المدعي، ويظهر أنه سبب قولهم الاستحلاف وليس الحلف أو اليمين. ينظر: المبسوط، 16/ 116.
(2)
واللعان، لأنه في معنى الحد. ينظر: الاختيار، 2/ 112.
(3)
يعنى الحدود التي هي لله تعالى خالصاً لا يجوز إقامتها بالإقرار بعد الرجوع، فكيف يقام بالنكول والنكول قائم مقام الإقرار؟ ينظر: المبسوط، 16/ 117.
(4)
أو البذل لدفع الخصومة. ينظر: تبيين الحقائق، 4/ 297، العناية، 8/ 183 - 184.
القول الثاني: يستحلف في هذه الأشياء ويقضى بالنكول، وهو قول الصاحبين، لأن النكول عندهما قائم مقام الإقرار
(1)
الذي فيه شبهة (العدم؛ لأنه ليس بصريح إقرار، بل هو إقرار بطريق السكوت)
(2)
، وهذه الأشياء مما تثبت بدليل فيه شبهة
(3)
، (بخلاف الحدود)
(4)
.
والفتوى على قول الصاحبين؛ لعموم البلوى
(5)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
لو أن إنساناً ادعى على فلان أنه ابنه ولا بينة؛ فهل يحلف المدعى عليه؟ وإذا نكل هل يحكم بالنكول؟
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أنه لا استحلاف في الحدود؛ لأنها حق الله إلا إذا تعلق بها حق الآدمي مثل حد القذف، وأما حقوق الآدميين فإن كانت بمال أو المقصود منه المال فاليمين مشروعة بلا خلاف أيضاً
(6)
، وأما ما ليس بمال ولا المقصود منه المال -وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء- فقد اختلفوا في ذلك على ستة أقوال:
(1)
المبسوط، 16/ 117.
(2)
بدائع الصنائع، 7/ 52، الاختيار، 2/ 112، العناية، 8/ 182؛ لأن الناكل ممتنع عن اليمين الكاذبة ظاهراً فيصير معترفاً بالمدعى دلالة، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين الصادقة إقامة للواجب فكان إقراراً أو بدلاً عنه، إلا أنه إقرار فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
(3)
تحفة الفقهاء، 3/ 183.
(4)
بدائع الصنائع، 7/ 52.
(5)
الاختيار، 2/ 113، مجمع البحرين، ص:747.
(6)
الاختيار، 2/ 112، نهاية المطلب، 18/ 665، المغني، 10/ 213 - 214، وقال في المال:"بلا خلاف بين أهل العلم"، وفي حقوق الله:"لا نعلم في هذا خلافاً"، وجاء في الكافي في فقه أهل المدينة (2/ 923) أن القسامة وأيمان اللعان تستثنى.
القول الأول: اليمين واجبة على المنكر في كل حق سُمعت الدعوى فيه وجازت المطالبة به سواء كان الحق مالًا كالعين والدين أو غير مال من قصاص أو نكاح أو طلاق أو عتق أو نسب، وهو قول الشافعية
(1)
.
القول الثاني: تشرع اليمين في كل حق لآدمي إلا في النكاح والطلاق، وهو الرواية ذكرها بعض الحنابلة
(2)
.
القول الثالث: يستحلف في كل الحقوق التي يجوز فيها القضاء بالنكول
(3)
، وهو قول الحنفية
(4)
.
(1)
الحاوي الكبير، 17/ 146، نهاية المطلب، 18/ 665.
(2)
العدة شرح العمدة، ص:697.
(3)
أي كل ما تصح فيه اليمين مالاً كان أو غيره؛ أما المال فبنقل الإجماع، وأما غير المال فبتحقيق القول الذي عليه الفتوى في المذهب.
(4)
بدائع الصنائع، 7/ 52، الاختيار، 2/ 112، العناية، 8/ 182.
القول الرابع: كل دعوى لا تثبت إلا بشاهدين
(1)
لا يحلف (أو لا يمينَ) فيها بمجردها -أي لا بد من شاهد واحد على الأقل-
(2)
دون الخلطة المتصلة
(3)
، وهو قول المالكية
(4)
.
القول الخامس: يستحلف في الطلاق، والقصاص، والقذف فقط، وهو الرواية الثانية عند الحنابلة
(5)
.
القول السادس: لا يستحلف فيها
(6)
، وهي ظاهر المذهب عند الحنابلة
(7)
.
(1)
قالوا: "ما ليس بزنى ولا مال ولا آيل إليه -كالنكاح، والرجعة، والطلاق، والعتق، والإسلام، والردة، والبلوغ، والولاء، والعدد، والجرح والتعديل، والعفو عن القصاص، وثبوته، والنسب، والموت، والكتابة، والتدبير- شرطه: اثنان ذكران". ينظر: جامع الأمهات، ص:474. ويفهم من ذلك أن ما كان أعلى منه مثل شهود الزنا أنه لا يمينَ بمجرد الدعوى أيضاً؛ لأنه من الحدود، وأن ما دونه من المال وما يؤول إليه مما يكون فيه الشاهد واليمين عند النكول، فإن المدعى عليه يحلف بمجرد الدعوى بلا بينة، وإن نكل فتُرد اليمين على المدعي. ينظر: التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 8/ 49، الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 911. وعند الحنابلة القصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء. ينظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 266، المغني، 10/ 213 - 214.
(2)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 255، الكافي في فقه أهل المدينة، 2/ 911، وذلك في أمور الطلاق والعتق، وبعضهم يضيف القذف. إلا النكاح فلا بد من شاهدين؛ لأن النكاح لشهرته لا يكاد يخفى على الأهل والجران، فالعجز عن إقامة شاهدين به قرينة على كذب مدعيه. شرح مختصر خليل للخرشي، 7/ 214.
(3)
البيان والتحصيل، 9/ 289، 9/ 291، والخلطة عندهم الأخذ والعطاء أي المبايعة والمداينة، ولو مرة واحدة كما في التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 8/ 48.
(4)
الذخيرة، 11/ 58، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 8/ 49، الكافي في فقه أهل المدينة، 3/ 921.
(5)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 266،
(6)
أي في القصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء.
(7)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 266.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن اليمين تثبت في كل حق سمعت فيه الدعوى وجازت المطالبة به بأدلة، منها:
الدليل الأول: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"
(1)
.
وجه الدلالة: الحديث بعمومه يدل على أن اليمين تثبت في كل دعوى أنكرها المدعى عليه.
الدليل الثاني: كل دعوى لزمت الإجابة عنها وجبت اليمين فيها، كالقصاص.
قد يناقش بأن القصاص محل النزاع، فلا يستدل به على نقطة الخلاف.
الدليل الثالث: حقوق الآدميين لا يمتنع فيها استحقاق اليمين اعتباراً بسائر حقوقهم
(2)
.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل على الاستحلاف في كل حقوق الآدميين إلا النكاح والطلاق بأدلة، منها:
الدليل الأول: لأن هذا مما لا يحل بدله فلم يستحلف فيه كحقوق الله –سبحانه وتعالى.
(1)
أخرجه الترمذي، 3/ 618، أبواب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، رقم حديث: 1342، الجزء الأول منه، وقال:"هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم: أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه"، وذكر البخاري معناه في صحيحه، 3/ 143، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، وصححه الألباني في الإرواء، 8/ 279.
(2)
الحاوي الكبير، 17/ 146، فقد ذكر الأدلة، ووجه أولها.
قد يناقش بأن قياسها على حقوق الله أي الحدود قياس مع الفارق؛ لأن الحدود تُدرأ بالشبهات، والبدل -وهو النكول- فيه شبهة، وأما النكاح والرجعة فيثبتان بدليل فيه شبهة
(1)
.
قد يجاب بأن النكول ليس بحجة قوية؛ لأنه يحتمل أن يكون بسبب الخوف من اليمين أو بسبب الجهل بحقيقة الحال
(2)
.
الدليل الثاني: ولأن الأبضاع مما يحتاط لها فلا تستباح بالنكول
(3)
(4)
.
قد يناقش بأن الاحتياط يكون في مسائل غامضة، وهو من الاجتهاد، وأما مع وجود النص فلا اجتهاد.
ثم أصل المسألة حديث ابن عباس –رضي الله عنهما، وهو عام لم يخصص، فيبقى على عمومه.
الدليل الثالث: قد يستدل لهذا القول بأن النكاح خاصة لا يستحلف فيه المدعى عليه؛ لاشتهار أمر النكاح بين الجيران والأهل، فمن عجز عن الإتيان بالشهود على أن فلانة زوجته فإنما ذلك دلالة على كذب ما ادعاه
(5)
.
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب القول الثالث القائل بأن الاستحلاف يكون في كل حقوق يجوز فيها القضاء بالنكول بأدلة، منها:
(1)
بدائع الصنائع، 6/ 227، ووجهه:"أن نكول المدعى عليه دليل كونه كاذبا في إنكاره لأنه لو كان صادقا لما امتنع من اليمين الصادقة فكان النكول إقرارا دلالة إلا أنه دلالة قاصرة فيها شبهة العدم وهذه الأشياء تثبت بدليل قاصر فيه شبهة العدم".
(2)
العدة شرح العمدة، ص:697.
(3)
قلت: ذكره النكول هنا قرينة قوية لتشابه هذا القول بقول الحنفية؛ لأنه أثبت القضاء بالنكول في غير المذكور، والله أعلم.
(4)
العدة شرح العمدة، ص: 697، وقد ذكر الدليلين.
(5)
شرح مختصر خليل للخرشي، 7/ 214.
الدليل الأول: كون هذه الحقوق مما يجوز فيها القضاء بالنكول، والنكول عن اليمين إقرار فيه شبهة، وهذه الأمور تثبت بدليل فيه شبهة
(1)
.
يناقش بأنه ليس بحجة قوية؛ لأنه سكوت مجرد يحتمل أن يكون للخوف من اليمين، ويحتمل أن يكون للجهل بحقيقة الحال، ويحتمل أن يكون لعلمه بصدق المدعي، ومع هذه الاحتمالات لا ينبغي أن يقضي به فيما يحتاط له
(2)
.
قد يجاب بأنه ليس مجرد سكوت، بل يجوز أن يقول إنه ناكلٌ، وفي قوله هذا تنتفي احتمالات الخوف أو الجهل بحقيقة الحال.
الدليل الثاني: عموم البلوى
(3)
، ولعل مراده انعدام البينة غالباً في تلك الحقوق
(4)
.
دليل القول الرابع:
لم أجد أصحاب القول الرابع -القائل بأن كل دعوى لا تثبت إلا بشاهدين لا يحلف فيها بمجردها- يذكرون دليلهم، لكن يمكن استخلاصه من القول نفسه؛ فإنهم ذكروا شرطي الدعوى التي يستحلف فيها، وهما وجود شاهد واحد وخلطة، وفي ذلك دليل على أن قول المدعي ليس دعوى مجردة، فيحلف المدعى عليه ليرد التهمة عن نفسه، وأما مجرد الدعوى فلا نهاية لها.
دليل القول الخامس:
كذلك لم أجد أصحاب هذا القول يذكرون دليلهم، لكن قد يستدل على قولهم بعموم البلوى؛ لأن الطلاق والقصاص والقذف من الأمور التي يصعب الإتيان بالبينة فيها مع كثرتها بخلاف النسب والنكاح والرق.
(1)
تحفة الفقهاء، 3/ 183، بدائع الصنائع، 7/ 52.
(2)
العدة شرح العمدة، ص:697.
(3)
الاختيار، 2/ 113، مجمع البحرين، ص:747.
(4)
إن صح تعليله به فهو دليل القول الأول أيضًا.
دليل القول السادس:
استدل أصحاب القول السادس القائل بعدم الاستحلاف في الحقوق المذكورة بالقياس؛ فقد قاسوها على حقوق الله –سبحانه وتعالى بجامع أنها لا يدخلها البدل
(1)
.
قد يناقش بأنها من الحقوق التي يقضى فيها بالنكول، والنكول بدل.
ثم قياس حقوق الآدميين على حقوق الله تعالى قياس مع الفارق؛ لأن حقوق الله مثل الحديد تدرأ بالشبهات، وأما هذه فتثبت بدليل فيه شبهة.
الترجيح:
بعد استعراض الأقوال يظهر أن القول الأول القائل بجواز الاستحلاف في كل الحقوق أوفق وأقرب؛ لقوة دليله، ولورود المناقشة على أدلة الأقوال الأخرى، إلا أن من أخرج النكاح لاشتهاره له حظ من النظر.
والمسألة لها ثمرة علمية تظهر في صور كثيرة –وقد سبق ذكر بعضها-، منها:
- لو أن إنساناً ادعى على الآخر في حق مالي، ولا بينة، وأنكر المدعى عليه فإنه سيحلف بالاتفاق.
- ولو ادعى على شخص على أنه شرب الخمر فلا يستحلف المدعى عليه بالاتفاق، لأنه من الحدود.
- لو أن إنساناً ادعى على فلانة أنها زوجته، ولا بينة وأنكرت، فإنها تحلف على القول الأول والثالث، ولا تحلف على بقية الأقوال.
- ولو ادعى على فلان أنه ابنه، ولا بينة وأنكر المدعى عليه، فإنه سيحلف على القول الأول والثاني والثالث والرابع إذا كان معه شاهد واحد مع الخلطة، والخامس أيضاً، ولا يستحلف على القول السادس.
(1)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 266.
المطلب الثاني: الاقتصار على ظاهر العدالة في الشاهد المسلم:
مسألة عدالة الشاهد المسلم تذكر في كتاب الشهادات عند بيان مراتب الشهادة، وفقهاء الحنفية قد اختلفوا فيها على قولين:
القول الأول: يكتفى ويقتصر في المسلم على ظاهر عدالته
(1)
إلا في الحدود والقصاص؛ (لأنه يحتال لإسقاطها، ولأن الشبهة بها دارئة)
(2)
، فإن طعن فيه الخصم سأل القاضي عنه، وهذا عند أبي حنيفة –رحمه الله
(3)
.
القول الثاني: يسأل القاضي في جميع الحقوق سراً وعلانيةً
(4)
؛ صيانةً لحكم القاضي من النقض، وهو قول الصاحبين
(5)
.
ويظهر أن الخلاف خلاف تنوع أو أنه خلاف لفظي غير حقيقي؛ لأن أبا حنيفة أفتى في زمان كانت العدالة في الشهود ظاهرة، والنبي –صلى الله عليه وسلم قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"
(6)
، واكتفى بتعديل النبي –صلى الله عليه وسلم، وفي زمانهما فشا الكذب فاحتاجا إلى السؤال، ولو كانا في زمانه ما سألا، ولو كان في زمانهما لسأل، والفتوى على قولهما لفساد أهل الزمان وقلة مبالاتهم بالأمور الدينية
(7)
.
(1)
وهي عند الحنفية عدالة الإسلام. ينظر: تبيين الحقائق، 4/ 210. وعند المالكية مثلاً شهوده الصلوات في المساجد، وألا يعرف بأمر قبيح. ينظر: المختصر الفقهي لابن عرفة، 9/ 253. قلت: الفرق بينهما واضح، فلو أسلم شخص ثم شهد فإن شهادته مقبولة عند الحنفية، ولا تقبل عند المالكية حتى يُعلم بإتيانه الأعمال الظاهرة المشروعة مثل الصلاة، ويُعلم أيضاً بتجنبه الأعمال الظاهرة المنهية مثل المعاصي، والأول بعيد، والثاني قريب جداً من عدالة الباطن؛ لقوة العدالة الظاهرة واشتهارها، والله أعلم.
(2)
الهداية، 3/ 118.
(3)
المرجع السابق.
(4)
قلت: وهو في الحقيقة معرفة عدالة الشاهد باطناً بعد أن عرفها ظاهراً.
(5)
الهداية 3/ 118.
(6)
أخرجه البخاري، 3/ 171، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم حديث:2652.
(7)
الاختيار، 2/ 142، مجمع البحرين، ص:769.
ويظهر أن اختلافهم في هذه المسألة اختلاف عصر وزمان وليس حجة وبرهان، ومن هذا الباب قُدم قول الصاحبين على قول الإمام، والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
لو جاء إلى القاضي شاهد مسلم ظاهر العدالة ليشهد في قضية معينة؛ فهل يكتفى بهذا الظاهر منه للحكم بعدالته، ومن ثم قبول شهادته أو أنه يتعين على القاضي السؤال عنه؟
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن السؤال عن حال الشهود إذا طُعنوا من قبل الخصم يتعين على القاضي
(1)
، واختلفوا فيما لو لم يطعن فيه وعدالته ظاهرة على قولين:
القول الأول: على القاضي أن لا يقبل شهادة الشاهد حتى يسأل عن حال الشاهد، وهو القول المفتى عند الحنفية –كما سبق-، والشافعية
(2)
، والمالكية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
القول الثاني: للقاضي أن يقبل شهادة الشاهد بظاهر العدالة من غير أن يسأل عن عدالته باطناً حتى يطعن فيه خصمه، وهو القول المرجوح في المذهب الحنفي –كما سبق-، ورواية أخرى عن مالك، لكن فيما يقع في الأسفار بين المسافرين من المعاملات والتجارات
(5)
، ورواية أخرى عن أحمد
(6)
.
(1)
الاختيار، 2/ 142، مجمع البحرين، ص: 769، الحاوي الكبير، 16/ 179، منح الجليل، 8/ 387، الشرح الكبير، 28/ 477.
(2)
الحاوي الكبير، 16/ 179، جواهر العقود، 2/ 291 - 292.
(3)
البيان والتحصيل، 10/ 80، منح الجليل، 8/ 387، المختصر الفقهي لابن عرفة، 9/ 253.
(4)
المغني، 10/ 57، الشرح الكبير، 28/ 477.
(5)
البيان والتحصيل، 10/ 80، منح الجليل، 8/ 387، المختصر الفقهي لابن عرفة، 9/ 253، وهو قول الحسن ومذهب الليث بن سعد.
(6)
المغني، 10/ 57، الشرح الكبير، 28/ 477.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بعدم قبول شهادة الشاهد حتى يسأل عنه بأدلة، منها:
الدليل الأول: على القاضي أن يحتاط في حكمه صيانة له عن النقض، وذلك سؤال السر والعلانية
(1)
.
قد يناقش بالنصوص الشرعية الدالة على أن سلف الأمة اكتفى بظاهر العدالة لقبول شهادة الشاهد
(2)
، وأن الاحتياط من نقض الحكم أمر زائد على الأصل.
ثم ظاهر العدالة أمر متحقق بخلاف نقض الحكم فإنه محتمل.
الدليل الثاني: عموم البلوى، وهو ما علَّل به فقهاء الحنفية من فساد أهل الزمان وقلة المبالات بالأمور الدينية
(3)
.
قد يناقش بأن الدليل نسبي، وينتفي بانتفاء فساد الشهود وكذبهم.
فلو انتشر العلم والصدق والعدل في مجتمع من المجتمعات، فإنه يقال بقبول الشهادة لمجرد العدالة الظاهرة.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بقبول شهادة الشاهد بظاهر عدالته ولا يسأل عنه حتى يطعن فيه الخصم بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]
(4)
.
(1)
الاختيار، 2/ 142.
(2)
وهي أدلة القول الثاني.
(3)
الاختيار، 2/ 142.
(4)
تبيين الحقائق، 4/ 210.
وجه الدلالة: قوله (وسطاً) أي عدلاً
(1)
، فدلت الآية على أن المسلمين عدول، ورتب على ذلك قبول شهادتهم على بقية الأمم
(2)
.
الدليل الثاني: حديث: "المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد أو مجرباً في شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو قرابة"
(3)
(4)
.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث يدل على أن المسلمين عدول بدليل الاستثناء، فلو لم يكونوا عدولاً فلا فائدة من الاستثناء.
قد يناقش بأن الحديث ضعيف فلا تقوم به الحجة، ولو صح فإنه يُحمل على من ثبت عدالتهم.
الدليل الثالث: حديث ابن عباس –رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الهلال، قال:"أتشهد أن لا إله إلا الله، أتشهد أن محمدًا رسول الله"، قال: نعم، قال:"يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غدًا"
(5)
(6)
.
(1)
تفسير القرطبي، 2/ 155، تفسير ابن كثير، 1/ 455.
(2)
بدائع الصنائع، 6/ 270، بتصرف يسير.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 10/ 262، كتاب الشهادات، باب من قال: لا تقبل شهادته (أي القاذف)، رقم حديث: 20572، وقال:"وهذا إنما أراد به قبل أن يتوب"، والحديث الذي قبله في الباب نفسه (20571):" ألا، لا تجوز شهادة الخائن، ولا الخائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا الموقوف على حد"، ثم قال معلقاً عليه:"لا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعتمد عليه"، وفيه الحكم على الحديث الأول ضمناً، فلا يصح عنده، والله أعلم.
(4)
اللباب في شرح الكتاب، 4/ 57.
(5)
أخرجه أبو داود، 2/ 302، كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان، رقم حديث: 2340، والترمذي، 3/ 65، أبواب الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة، رقم حديث: 691، وذكر أن الحديث مختلف فيه، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، والحديث ضعَّفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ص:74.
(6)
اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، 1/ 43.
وجه الدلالة: ظاهر الحديث يدل على أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي لمجرد إسلامه.
قد يناقش بأنه كان صحابياً، وهو قدر زائد على مجرد الإسلام، والصحابة عدول، والكذب مأمون من قبلهم
(1)
.
الدليل الرابع: كون العدالة هي الأصل؛ لأن الإنسان يولد غير فاسق، والفسق مظنون، فلا يجوز ترك الأصل بالظن
(2)
.
قد يناقش بأن العدالة ليست أصلاً، بل الأصل ظلم وجهل، كما قال تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].
الدليل الخامس: كون العدالة أمراً خفياً سببها الخوف من الله، ودليل ذلك الإسلام، فإذا وُجد فليكتفِ به ما لم يقم دليل على خلافه
(3)
.
قد يناقش بأن الدليل الأدنى للعدالة هو مجرد الإسلام وهو كافٍ في مجتمع مسلم يسود فيه العلم والعدل، لكن إذا كثر فيه الظلم والجهل احتجنا إلى الدليل الأقوى على العدالة، ويحصل ذلك بالسؤال عن حال الشهود.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن كلا القولين لهما حظ من النظر، والذي يظهر أنه يمكن الجمع بينهما بحيث يرجح القول الثاني في مجتمعات انتشر فيها العلم والعدل ولم يظهر على الناس فساد، ويرجح القول الأول عند خلاف ذلك.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة تتعلق بشهادة الشهود، منها:
(1)
فتح الباري لابن حجر، 6/ 499، وقد ذكر الجزء الثاني من المناقشة أي أن الصحابة عدول وما بعدها.
(2)
الاختيار، 2/ 142.
(3)
المغني، 10/ 57.
- لو أن إنساناً ادعى على آخر أن له عنده عشرة آلاف ريال وأتى بشاهدين ظاهرهما العدالة، ويبدو عليهما الصلاح، فعلى القول الأول على القاضي أن يتحقق من عدالتهم باطناً أيضًا بسؤال عنهما، وعلى الثاني يكتفي بالعدالة الظاهرة ويقبل شهادتهما، وعلى ما رجحته ينظر القاضي إلى حال المجتمع الذي يقضي فيه، فإن كان مجتمعاً صالحاً فإنه سيكتفي بالعدالة الظاهرة، وإلا فيتعين السؤال، والله أعلم.
المبحث الرابع عشر: في مسائل القضاء
المطلب الأول: الحقوق التي يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي:
هذه المسألة من أهم المسائل في كتاب القضاء
(1)
؛ لأن القاضي يحكم والعين المدعى بها في بلده، ولو كانت في غير بلده فإنه يكتب إلى قاضي تلك البلد فيما ثبت عنده ليحكم به القاضي المكتوب له أو لينفذ ما قد حكم به القاضي الكاتب.
ويتبين من ذلك أن المراد بالمسألة محل القضاء بكتاب القاضي، وفقهاء الحنفية قد اتفقوا على أن كتاب القاضي يقبل في كل حق إلا في المنقولات -للحاجة إلى الشهادة بالإشارة- وما يسقط بالشبهة كالحدود والقصاص
(2)
، وعند محمد يُقبل في جميع المنقولات، والفتوى عليه للحاجة إلى ذلك
(3)
، والمنقول يمكن تعريفه بأوصافه ومقداره وغير ذلك
(4)
، فعاد القول إلى أنه يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في جميع الحقوق إلا في الحدود والقصاص.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
لو ادعى شخص على شخص في حق من الحقوق، وأتى ببينة والمدعى عليه ينكر، وقد ثبتت الدعوى عند القاضي، فكتبها مع شهادة الشهود، ثم دفع القضية إلى القاضي المكتوب له ليقضي فيها؛ فما الحقوق التي يجوز فيها كتاب القاضي إلى الآخر؟
وكذا لو حكم فيها ثم دفعها إلى القاضي المكتوب له لينفذ حكمه.
(1)
وقيل: إنها ليست من كتاب القضاء؛ لأنها إما نقل شهادة أو نقل حكم، وكل ذلك ليس منه، وإنما أوردوها فيه؛ لأنها من عمل القضاة، فكان ذكرها فيه أنسب. ينظر: تبيين الحقائق، 4/ 182.
(2)
ينظر: الاختيار، 2/ 91.
(3)
الاختيار: 2/ 91.
(4)
ينظر: الاختيار، 2/ 91، المبسوط، 16/ 95، تبيين الحقائق، 4/ 128، وذكروا أنه استحسان والقياس أنه لا يجوز، لأن كتاب القاضي فيه شبهة البدلية، والحدود والقصاص يدرآن بالشبهة، أو لأن كتابه بمنزلة الشهادة على الشهادة، وهي لا تُقبل في الحدود والقصاص.
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في مسألة الحقوق التي يُقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي على قولين:
القول الأول: يجوز كتاب القاضي إلى القاضي في كل الحقوق إلا الحدود والقصاص، وهو قول الحنفية المفتى به، وهو مذهب الحنابلة
(1)
.
القول الثاني: يجب على القاضي المكتوب له قبول ما يرد إليه عن القاضي الكاتب في المال والقصاص والعقوبات والعفو وغيرها إن كان القاضي الكاتب أهلاً للقضاء، وكذا رده إن كان غير أهل، وهو قول المالكية
(2)
، وهو قول الشافعية كذلك
(3)
(4)
، وتفصيله على النحو الآتي:
يقبل كتاب القاضي في كل حق تقبل فيه الشهادة على الشهادة، وهي مقبولة في كل حق مالي لله وللآدميين، وأما العقوبات فحاصل مذهبهم ثلاثة أقوال:
- لا يثبت شيء من العقوبات بالشهادة على الشهادة؛ لأن مبناها على الدرء،
- يثبت القصاص دون العقوبات التي هي من حق الله، وحد القذف جارٍ مجرى القصاص.
(1)
العدة شرح العمدة، ص: 675، الإقناع، 4/ 407، الإنصاف، 11/ 321.
(2)
جامع الأمهات، ص: 467، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 7/ 449.
(3)
لأن كون القاضي أهلاً للقاضي أصل في المسألة، واشتراط الأصل لا فائدة منه، ولأنه تصوره صعب، ووجوده نادر، ثم عند إزالة أهلية القاضي يذكرون الجنون والإغماء والغفلة ونسيان يخل بالضبط وفسق ونحوهما. ينظر: حاشية الجمل، 5/ 340. قلت: الذي يظهر أن المراد من قولهم: (أهلاً للقضاء) أي في لحظة كتابة الكتاب، وإلا فما ذكروه من إزالة الأهلية عوارض لا تثبت، والله أعلم.
(4)
إلا أنهم فرقوا بين ما ثبت عند القاضي الكاتب وبين ما حكم به لينفذه القاضي المكتوب له؛ فما حكم به فيقبل بغض النظر عن المسافة؛ لأن ما حكم به يلزم كل أحد إمضاؤه، وأما ما ثبت عنده فلم يجز قبوله إذا كانت بينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة. ينظر: المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 401.
- قياس العقوبات على المال فتثبت بالشهادة على الشهادة، وحاصل المذهب أنه يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل الحقوق من الأموال والحدود والقصاص
(1)
.
وهو رواية أخرى عند الحنابلة يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق تقبل الشهادة على الشهادة
(2)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن كتاب القاضي يقبل في كل حق إلا الحدود والقصاص بأدلة، منها:
الدليل الأول: حدود الله –سبحانه وتعالى مبنية على الستر والدرء بالشبهات، والإسقاط بالرجوع عن الإقرار بها، والشهادة على الشهادة لا تخلو من الشبهة
(3)
.
قد يناقش بأن الشبهة يمكن إرجاعها إلى التزوير أو شبهة البدلية، فأما التزوير فالشبهة تقوى وتضعف بحسب تغير الأزمان والأعراف، وأما شبهة البدلية –وهي كون كتابه ينقل شهادة الأصول كما أن الفروع ينقلون بشهادتهم شهادة الأصول- فهي ضعيفة؛ لأن الكتاب موثق ومختوم، وأما الشهادة المجردة بالكلام قد تتأثر بالنسيان وتتغير بالقدرة على الكلام.
(1)
الحاوي الكبير، 11/ 147، نهاية المطلب، 18/ 533، 19/ 35 - 36، والوسيط في المذهب، 7/ 331 - 332، المجموع (تكملة المطيعي)، 20/ 268، وأجملها الماوردي في الإقناع (ص: 203): "وتجوز الشهادة على الشهادة بكتاب القاضي في كل حق للآدميين مالاً أو حدًّا أو قصاصًا"، وبها أخرج حقوق الآدميين من كونها مالاً فقط. وجاء في الحاوي الكبير (11/ 147) ما يؤيد قول الماوردي في الإقناع بأن قول الشافعية في المسألة قبول كتاب القاضي في الحقوق كلها من الأموال والحدود والقصاص، والله أعلم.
(2)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 289، الشرح الكبير على متن المقنع، 11/ 468، الإنصاف، 11/ 321، وخلاصة المذهب أن كتاب القاضي مقبول في الأموال بالاتفاق، والحدود على روايتين، وما عدا ذلك يخرّج على الحدود، فمن منع الحدود منع غيرها، وإلا فلا.
(3)
العدة شرح العمدة، ص: 675 - 676.
ثم لو اعتبر كتاب القاضي شهادة الفرع على شهادة الأصل، فالقاضي فرع قريب جدًّا من الأصل؛ لأنه لازم القضية من أولها إلى آخرها ويعرف تفاصيلها بدقة، فقياس كتابه على شهادة الفرع قياس مع الفارق، وعليه فشبهة البدلية هنا ضعيفة، ولا يلتفت إليها.
الدليل الثاني: من أتى ما يوجب لله –سبحانه وتعالى حدًّا فعليه أن يستره، ومن لزمه حق الآدميين فعليه أن يظهره، فذلك وجب الاستظهار في حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى
(1)
.
قد يناقش بأنه لا يتصور إلا إذا كان كتاب القاضي ينقل الشهادة، وأما إذا كان ينقل الحكم فلا؛ لأن الاستظهار في الحكم يحصل شرعاً ولا بد، وذلك بإقامة الحد بحضور طائفة من المؤمنين، وأما ما يتعلق بنقل الشهادة –وهو موضع الدليل- فالاستظهار قد حصل برفع القضية إلى القاضي.
ثم كتاب القاضي إلى القاضي من أمور الضبط والاستيثاق، والحكم يترتب عليه وقد يتوقف عليه، وهذا شامل في كل الحقوق، فاعتباره في الحدود كاعتباره في الأموال.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن كتاب القاضي يقبل في كل الحقوق بأدلة، منها:
الدليل الأول: كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، فيثبت كسائر الحقوق أو كالشهادة على الأموال
(2)
، ومعناه أن كتاب القاضي لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة
(3)
.
الدليل الثاني: قياس الحدود على الأموال بجامع أنها حقوق، فكما تقبل الشهادة على الشهادة في الأموال فلتقبل في الحدود، وكتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة
(4)
.
(1)
الحاوي الكبير، 11/ 147.
(2)
العدة شرح العمدة، ص:675.
(3)
الشرح الكبير على متن المقنع، 11/ 468.
(4)
نهاية المطلب، 18/ 533، 19/ 35 - 36.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني أقرب؛ لقوة دليله، والرد على دليلي القول الأول، ولأن كتاب القاضي من الوسائل التي تتبدل صورها بتغير الأزمان، ومن هنا قبلت أنظمة المرافعات المعاصرة؛ لأنها كلها تعود إلى الضبط ولا تنافي النصوص الشرعية، وما دام عُرف أن الكتاب صدر من القاضي فلان حقيقةً ووصل إلى القاضي المكتوب له حقيقةً فيعمل بما فيه من نقل الشهادة أو الحكم وفي كل الحقوق.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة، منها:
- لو أن قاضياً كتب الكتاب إلى قاضٍ في منطقة أخرى يذكر فيه ما ثبت عنده من دعوى فلان على فلان في حق مالي وشهادة الشهود، ويطلب منه الحكم في ذلك، فيقبل عند الجميع؛ لأنه حق مالي، لكن لو كان الطلاق فيقال بالتفصيل: يجوز عند الحنفية؛ لأنه ليس بحد ولا قصاص، وعند الحنابلة على رواية، وعند المالكية يجوز أيضاً لأن القاضي الكاتب أهل للقضاء، وعند الشافعية على الصحيح عندهم.
- ولو أن قاضياً كتب ذلك في حد من حدود الله، وأنه حكم على فلان ويطلب من القاضي المكتوب له أن ينفذ الحكم، فلا يقبل على القول الأول بخلاف الثاني.
المطلب الثاني: إذا قضى القاضي في المجتهد فيه مخالفاً لرأيه:
هذه المسألة متصوَّرة فيما لو حصل من القاضي المجتهد أن يقضي في المسائل الاجتهادية بما يخالف رأيه فيها ناسياً مذهبه، عمداً أو من غير عمد، فهل ينفذ حكمه والحالة هذه
(1)
؟
وفقهاء الحنفية قد اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: ينفذ حكمه، وإذا كان عامداً فعنه روايتان، ودليل النفاذ أنه ليس بخطأ متيقن، وهو قول أبي حنيفة
(2)
.
القول الثاني: لا ينفذ في الوجهين؛ لأنه قضى بما هو خطأ عنده، وهو قول الصاحبين
(3)
.
والفتوى على قولهما، وقيل: على قول الإمام
(4)
.
(1)
قلت: ظاهره يدل على القضاء من غير اجتهاد منه، وعليه لو اجتهد فقضى بما يخالف اجتهاده السابق فينفذ، والله أعلم.
(2)
الهداية، 3/ 107.
(3)
الهداية، 3/ 107.
(4)
الهداية، 3/ 107، مجمع البحرين، ص: 742، وقيل: إن الفتوى على النفاذ كما في تبيين الحقائق، 4/ 189، وأكثرهم على الأول. جاء في رد المحتار (5/ 407) ما يؤيد القول بالنفاذ، ووجهه أن القاضي المجتهد اجتهد، فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير، وقد حمل الخلاف على هذا. وجاء أيضًا (5/ 408) ما يدل على أن تغير الزمان له أثر في ذلك، فقال:"فقد اختلف في الفتوى والوجه في هذا الزمان أن يفتى بقولهما؛ لأن التارك لمذهبه عمداً لا يفعله إلا لهوى باطل لا لقصد جميل، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره هذا كله في القاضي المجتهد، فأما المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة، فلا يملك المخالفة، فيكون معزولاً بالنسبة إلى ذلك الحكم". قلت: هذا يندفع بما قاله بعضهم: إنه قضى باجتهاد جديد، فلا يؤثر فيه نسيان الاجتهاد السابق، ومن قال بالمنع فلأنه قضى بما يراه خطأ، لكن الاجتهاد الجديد ينافي ذلك، وقد قضى بما يراه صواباً، وأما العمد فبعيد، وفيه إساءة للقضاة، وفيه قول على الله بغير علم، ثم ما الطريق إلى معرفة عمده، وهي في نظري افتراضية أكثر من أن تكون واقعية، والله أعلم.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
لم أجد هذه المسألة بنصها في كتب بقية المذاهب، لكن سأسلك مسلك التخريج بناءً على ما قالوه في اشتراط الاجتهاد في القاضي، فالحنفية قالوا بأن الأولى أن يكون القاضي مجتهداً
(1)
، وفي هذه المسألة يندفع اختلافهم إذا اعتبرنا أن القاضي قد اجتهد وقال بما أداه اجتهاده، وبقية المذاهب من المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
نصوا على شرط الاجتهاد في القاضي، فيُخرَّج قولهم كقول الحنفية، وهو أن القاضي المجتهد إذا اجتهد وقضى بما يخالف رأيه الأول فإن حكمه نافذ، لأن اجتهاد المجتهد يتغير لا لتغير الأحكام بل لتغير نظرته إلى الأحكام.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو قضى القاضي في قضية بعد الاجتهاد فيها، ثم تكررت القضية بعد فترة فحكم بما يخالف حكمه السابق بعد الاجتهاد أيضاً، فحكمه نافذ؛ لأن فرضه الاجتهاد
(5)
وعليه أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده، وكذا لو نسي حكمه السابق، ولو حكم به عمداً ومن غير اجتهاد فلا يجوز ولا ينفذ حكمه؛ لفقد شرط أو أكثر من شروط القاضي، لكن لا ينبغي أن يُظن ذلك بالقضاة، والله أعلم.
(1)
الاختيار، 2/ 83، ولم أجد غيره أنه ذكرها بهذه الطريقة، لكن يفهم من قولهم:"وإن كان القاضي مجتهداً يقضي بما أدى إليه اجتهاده"، كما في البناية، 8/ 109.
(2)
جامع الأمهات، ص: 462، إرشاد السالك، ص: 117، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 7/ 387.
(3)
التهذيب في فقه الإمام الشافعي، 8/ 168، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 13/ 20.
(4)
المبدع في شرح المقنع، 8/ 154، شرح منتهى الإرادات، 3/ 492.
(5)
المسودة في أصول الفقه، ص:468.
المبحث الخامس عشر: في مسائل القسمة
المطلب الأول: كيفية قسمة البناء الذي له سفل وعلو:
تعريف القسمة لغة واصطلاحاً:
تعريف القسمة لغة:
القسمة -بكسر القاف- في أصلها اللغوي تدل على تجزئة الشيء
(1)
، وتطلق على الحظ والنصيب من الخير
(2)
.
تعريف القسمة عند الحنفية اصطلاحاً:
فقهاء الحنفية ينصون على أنها جمع نصيب شائع له في مكان معين
(3)
، وجاء في مجلة الأحكام العدلية ما يشرح التعريف ويوضحه:"القسمة هي تعيين الحصة الشائعة، يعني إفراز وتمييز الحصص بعضها عن بعض بمقياس ما كالكيل والوزن والذراع"
(4)
، وحاصلها رفع الشيوع وقطع الشركة
(5)
.
(1)
مقاييس اللغة، 5/ 86.
(2)
العين، 5/ 86، تهذيب اللغة، 8/ 319، مختار الصحاح، ص: 253، تاج العروس، 33/ 266.
(3)
رد المحتار، 6/ 253، مجمع الأنهر، 2/ 487. قلت: ولعلهم قالوا الجمع أولاً لأنه كان شائعاً فلا بد من جمعه حتى يتميز عن غيره.
(4)
مجلة الأحكام العدلية، ص: 214، رقم مادة:1114.
(5)
الاختيار، 2/ 72.
والقسمة مشروعة وتعتبر من الأحكام الشرعية التي لا غنى للناس عنها
(1)
، ومعناها طلب الشركاء أو بعضهم الانتفاع بملكه على وجه الخصوص لأن كل واحد من الشركاء منتفع بنصيب غيره فالطالب للقسمة يسأل القاضي
(2)
أن يخصه بالانتفاع بنصيبه ويمنع غيره عن الانتفاع بنصيبه
(3)
، وشرطها عدم فوت المنفعة بها
(4)
.
وتكون إفرازاً ومبادلة، وأما الإفراز ففيما لا يتفاوت مثل المكيل والموزون، وسائر المثليات، وأما المبادلة ففيما يتفاوت كالحيوان والعقار وكل ما ليس بمثلي حتى لا يكون لأحد الشريكين أخذ نصيبه مع غيبة الآخر
(5)
.
ومسألة البحث في طريقة قسمة البناء مثل البيت الذي له سفل وعلو، وفقهاء الحنفية قد اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المنسوب لأبي حنيفة –رحمه الله أن ما له سفل وعلو يقسم سهمين من العلو بسهم من السفل.
القول الثاني: المنسورب لأبي يوسف –رحمه الله سهم بسهم.
القول الثالث: المنسوب لمحمد –رحمه الله بالقيمة، والفتوى على ذلك؛ لأن العلو والسفل أجناس بالنظر إلى اختلاف المنافع، فالسفل يصلح لما لا يصلح العلو، وكذلك تختلف قيمتهما باختلاف البلدان، فلا يمكن التعديل إلا بالقيمة
(6)
.
(1)
المبسوط، 15/ 2.
(2)
ولو اقتسموا بأنفسهم جاز. ينظر: الاختيار، 2/ 73.
(3)
تبيين الحقائق، 5/ 264.
(4)
اللباب في شرح الكتاب، 4/ 91.
(5)
الاختيار، 2/ 73.
(6)
ينظر: الاختيار، 2/ 77، وقد ذكر الأقوال إجمالاً، وتعقب الأخير بعلامة الإفتاء.
وقيل: إن أبا حنيفة رحمه الله بنى قوله على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في اختيار السفل على العلو، وأبو يوسف رحمه الله بناه على ما شاهده من عادة أهل بغداد في التسوية بين العلو والسفل في منفعة السكنى، ومحمد شاهد اختلاف العادات في البلدان فقال: إنما يقسم على القيمة
(1)
، فالاختلاف مبني على اختلاف العادات، ولذلك كان من حيث الصورة لا من حيث المعنى
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
بعد الاطلاع على أقوال بقية المذاهب تبين أنهم يقولون بقول الحنفية المفتى به أي أن قسمة البناء الذي له علو وسفل تكون بالقيمة، وهو قول المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
وعليه فإن مما يؤيد هذا القول ما يجري الآن من بناء العمائر الطويلة والفنادق والأبراج والبيوت من ثلاثة أدوار وأكثر؛ فقيمة الأدوار تختلف اختلافاً كبيراً، والناس يفضلون العلو أو السفل لاعتبارات كثيرة.
(1)
ينظر: المبسوط، 15/ 16، الاختيار، 2/ 77.
(2)
بدائع الصنائع، 7/ 27.
(3)
حاشية الصاوي، 3/ 665، الشرح الكبير، 3/ 501، تخريجاً لأن العقار عندهم يقسم بالقيمة.
(4)
جاء في الحاوي الكبير (6/ 38) أن الدور والأرضين من غير المنقول أي العقار. وجاء في حاشية الجمل (5/ 374) أن القسمة بالتعديل أي: تعديل السهام بالقيمة وضرب المثال بأرض تختلف قيمة أجزائها. قلت: وكذا الدُّور التي تختلف قيمة أجزائها مثل العلو والسفل. وجاء في البيان في مذهب الإمام الشافعي (11/ 54) وفي العزيز شرح الوجيز (12/ 556) أن العلو والسفل كالدارين المتلاصقين، بل قالوا في التفرقة بينهما: إن العلو تابع، والسفل متبوع، ولا يجوز أن يجعل أحد النصيبين تابعاً والآخر متبوعاً. قلت: وعليه يخرج قول الشافعية في هذه المسألة، وهو قياس الدار له علو وسفل على الأرض بجامع اختلاف قيمة الأجزاء. ثم وجدت النووي –رحمه الله يقول: إن لم يمكن القسمة سفلاً وعلواً، جُعل السفل لأحدهما والعلو لآخر من جملة قسمة التعديل. ينظر: روضة الطالبين، 11/ 213.
(5)
منتهى الإرادات، 5/ 316، المبدع في شرح المقنع، 8/ 233، فإنهم ينصُّون على التعديل بالقيمة لو طلب أحد الشريكين قسمة البناء علوه وسفله.
مثاله: السكن في العمارة السكنية في الدور الأخير بدون مصعد يشق بخلاف الدور الأول، وإن وُجد المصعد فالسكن في الدور الأعلى مفضل إما لأجل العلو نفسه والنظر إلى ما حول المبنى كما في الفنادق أو للبعد قليلاً عن ضجة الشوارع، أو للأغراض الصحية مثل تخفيف السمنة بتنفس الأكسجين بكمية أقل، لأن كمية الأكسجين في الهواء تقل بزيادة الارتفاع
(1)
.
وإذا كان الدور الأول هو أعلى وفوقه السقف فإن الدور الأرضي مفضل؛ لأن الدور الأول يحمي الأرضي من حرارة الشمس، ويحفظ برودته، لأنه سقفه، وكذا الدور الأول مفضل لأن الأرضي معرض للحشرات أكثر وهكذا.
كل هذا يدل على أن اعتبار الأزمان والأماكن والعادات وطرق البناء له أثر في المسألة.
ومن الآثار العملية للمسألة: عمارة مشتركة بين اثنين، ذات ثلاثة أدوار، في كل دور عدد معين من شقق، وأرادا القسمة، فإنها تكون بالتعديل أي بالقيمة، وهذا يعني أن أحد الشريكين قد يحصل على الدور الأول فقط، والثاني بقية العمارة؛ لاختلاف القيمة، وبالعكس إذا كانت الأدوار الأعلى بقيمة أعلى لأسباب ذُكرت أعلاه.
(1)
ينظر: موقع الحمية، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafyfour
المطلب الثاني: التعارض بين مصالح الجيران:
من مسائل تعارض مصالح الجيران مسألة وقوع الشجرة في نصيب أحد الشريكين وأغصانها متدلية إلى نصيب الآخر، وهي من آثار القسمة.
فعند محمد –رحمه الله له أن يجبره على قطع تلك الأغصان؛ لأنه لا يستحق إقراره في ملك الغير، وعنه رواية أخرى أنه يترك كذلك؛ لأنه استحق الشجرة بأغصانها بالقسمة، فتُترك على ما كانت عليه عند تمام القسمة
(1)
، وعليه الفتوى
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: تُترك الشجرة مع أغصانها في هواء الشريك، وهو قول الحنفية المفتى به، كما سبق-.
القول الثاني: من حق الشريك الأول أن تزال أغصان الشجرة من هوائه، إما بتكليف الشريك الآخر بذلك، أو أن يقوم هو بقطعها، وهو القول المرجوح عند الحنفية –كما سبق-، وقول المالكية
(3)
، والشافعية
(4)
، والحنابلة
(5)
.
(1)
المبسوط، 15/ 21.
(2)
الاختيار، 2/ 77، رد المحتار، 6/ 268، ولم أجد نسبها إلى غيره من أئمة المذهب.
(3)
التاج والإكليل، 7/ 149، المختصر الفقهي، 8/ 269.
(4)
فتاوى ابن الصلاح، 2/ 592، 2/ 722، ولم أجد غيره من الشافعية يذكر هذه المسألة.
(5)
المغني، 5/ 227، الشرح الكبير، 5/ 24، ويذكرونها فيما لو أوقد شخص ناراً فأيبست أغصان شجرة غيره، فإنه يضمنها؛ لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة، إلا أن تكون الأغصان في هوائه، فلا يضمنها، لأن دخولها عليه غير مستحق.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن أغصان الشجرة المتدلية إلى نصيب الشريك تُترك بدليل أنه استحق الشجرة بأغصانها بالقسمة، فتُترك على ما كانت عليه عند تمام القسمة
(1)
.
قد يناقش بأن المال المشترك قبل القسمة لم يكن فيه ضرر على شريكه، وإنه ظهر ضرره بعد القسمة؛ لأنها ميزت الأنصباء، وحُقَّ لكل شريك أن يعمل في نصيبه ما يريد، وأغصان الشجرة المتدلية قد تمنعه من تمام التصرف، وقد يتضرر بظلها أو يتأذى بورقها المتساقط.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن أغصان الشجرة المتدلية إلى نصيب الشريك الآخر تُقطع بأدلة، منها:
الدليل الأول: كونه غير مستحق
(2)
، بمعنى أنه ليس من حقوقه في ذلك، وهو عكس دليل القول الأول.
الدليل الثاني: يمكن الاستدلال بأنها تُقطع لأنواع من الضرر والأذى التي تحصل للشريك الآخر بسبب الظل أو الورق أو ما يتساقط منها.
الدليل الثالث: كما يمكن الاستدلال بقاعدة: إن الهواء ملك لصاحب القرار
(3)
، والقرار الأرض، فمن ملك الأرض ملكاً شرعياً فإنه يملك معها سماءها، وعليه فلا يجوز لأحد أن يعلو عليه في هوائه إلا بإذنه.
الترجيح:
بعد استعراض القولين في المسألة وأدلتهما يظهر أن القول الثاني القائل بأن أغصان الشجرة المتدلية تُزال أظهر وأقرب لقواعد الشرع؛ لأن ملك الأرض يتبعه ملك سمائها.
(1)
المبسوط، 15/ 21.
(2)
الشرح الكبير، 5/ 24.
(3)
المغني، 4/ 365.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة، منها:
- لو أن إنساناً له شجرة أغصانها متدلية إلى أرض جاره أي في نصيبه، فعلى القول الأول لا يجوز له قطعها؛ لأن ذلك من استحقاقه بالقسمة، وعلى الثاني له تكليف شريكه بالقطع، وله أن يقطعها بنفسه؛ لأنها خارجة إلى هوائه، وهواء أرضه ملك له، ولا يتصرف في ملكه إلا بإذنه.
المبحث السادس عشر: ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل
فقهاء الحنيفة يذكرون هذه المسألة في كتاب السير
(1)
، كما يذكرونها في كتاب الزكاة
(2)
عند بيان أحكام العُشر والخراج وسبب وجوبهما
(3)
، والعُشر عشر الخارج من الأرض، والخراج ما يضعه الإمام على أرض فتحها ومنّ على أهلها بها من نصف الخارج أو ثلثه أو ربعه، ويُسمَّى خراج المقاسمة
(4)
، أو ما يُوظِّفه على الأرض بأن يكون الواجب شيئاً في الذمة يتعلق بالتمكن من زراعتها، ويكون واجباً على مالك الأرض ولو لم يزرعها، ويُسمَّى خراج الوظيفة
(5)
.
وعند الحنفية لا يُزاد على ما وظَّفه عمر رضي الله عنه، وهو على كل جَريِب
(6)
يبلغه الماء صاع ودرهم، وجريب الرَّطْبَة خمسة دراهم، والكَرْم
(7)
والنخل المتصل عشرة دراهم، وما لم يُوظِّفه عمر رضي الله عنه يوضع عليه بحسب الطاقة، ونهاية الطاقة نصف الخارج، فلا يزاد عليه، وينقص منه عند العجز
(8)
.
وباعتبار أنهما يتعلقان بالأرض فقد قسم فقهاء الحنفية الأرض قسمين: أرض عُشرية، وأرض خراجية أي أرض يجب فيها العشر، والثانية يجب فيها الخراج على أحد نوعيه.
فالعشرية خمسة أنواع:
(1)
الاختيار، 4/ 142.
(2)
وسبب ذلك إلحاقهم الركاز بالزكاة؛ لكونه من الوظائف المالية، ويُستخرج من الأرض العشرية والخراجية، والعشر هو عشر الخارج من الأرض. ينظر: رد المحتار، 2/ 318 - 319، 2/ 325.
(3)
تحفة الفقهاء، ص:319.
(4)
حتى لو أخرجت الأرض مراراً وجب في كل مرة؛ لإطلاق النصوص عن قيد الحول، وكذا في العشر أيضاً، بخلاف خراج الوظيفة فلا يجب في السنة إلا مرة، لأنه ليس في الخارج بل في الذمة. ينظر: رد المحتار، 2/ 326.
(5)
رد المحتار، 2/ 325، اختصاراً.
(6)
ستون ذراعًا في ستين. المغرب في ترتيب المعرب، ص: 78، وانظر: الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 160.
(7)
العنب. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، 2/ 532.
(8)
ينظر: الاختيار، 4/ 144 بتصرف يسير.
- أرض العرب.
- أرض أسلم أهلها طوعاً.
- أرض فُتحت قهراً وقُسمت بين الغانمين.
- المسلم إذا اتخذ داره بستاناً.
- المسلم إذا أحيا الأرض الميتة بإذن الإمام وهي من توابع الأراضي العشرية أو تسقى بماء العشر -وهو ماء السماء وماء العيون المستنبطة من الأراضي العشرية-.
والخراجية أنواع كذلك، منها:
- سواد العراق كلها.
- كل أرض فُتحت قهراً وتُركت على أيدي أربابها ومنّ عليهم الإمام فإنه يضع الجزية على أعناقهم إذ لم يسلموا، والخراج على أراضيهم إذا أسلموا أو لم يسلموا.
- كذلك إذا جلاهم ونقل إليها قوماً آخرين.
- والمسلم إذا أحيا أرضاً ميتة وتسقى بماء الخراج.
- والذمي إذا اتخذ داره بستاناً.
- والذمي إذا اشترى من مسلم أرض العشر فإنها تصير خراجية على الصحيح
(1)
.
وعلى ضوء ما سبق لو ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل جاز في الخراج دون العشر عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأن صاحب الخراج له حق فيه فصحَّ تركه له، والعشر حق الفقراء على الخلوص فلا يجوز تركه، ولا يجوز فيهما عند محمد رحمه الله؛ لأنهما فيء للمسلمين، والفتوى على قول أبي يوسف
(2)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
اختلف الفقهاء في حكم ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل على قولين:
(1)
اختصارًا من كتاب الخراج، ص: 82، وانظر: تحفة الفقهاء، ص: 319 - 320، بتصرف.
(2)
الاختيار، 4/ 145.
القول الأول: الجواز في الخراج والعشر، وهو القول المرجوح عند الحنفية -كما سبق، ولم أجد قولاً للمالكية والشافعية في هذه المسألة بعينها، لكن باعتبار أنهم يقولون بقاعدة: إن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة
(1)
يمكن تخريج قولهم على ذلك، وهو الجواز أيضًا، وهو قول الحنابلة
(2)
.
القول الثاني: الجواز في الخراج دون العشر، وهو القول المفتى به عند الحنفية -كما سبق-.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بجواز ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل بأدلة، منها:
الدليل الأول: قاعدة: تصرّف الإمام على الرّعيّة منوط بالمصلحة
(3)
.
قد يناقش بأنه ليس على الإطلاق، بل تصرفه مقيد بالمصلحة، وفي ترك العشر الذي هو حق الفقراء مفسدة.
الدليل الثاني: لأن الخراج بمثابة فيء، فكان النظر فيه إلى الإمام
(4)
.
الدليل الثالث: لو أخذ الإمام أو السلطان الخراج وصار في يده جاز له أن يخص به شخصاً إذا رأى المصلحة فيه، فجاز له تركه بطريق الأولى
(5)
.
الدليل الرابع: لأن صاحب الخراج له حق فيه فصح تركه له
(6)
.
(1)
بحر المذهب، 1/ 432، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 3/ 482.
(2)
شرح منتهى الإرادات، 1/ 650، الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 159، ويشترطون أن يكون لمن يقوم بعمل من الأعمال التي يحتاجها المسلمون فيستحقون الخراج مثل القاضي والفقيه والمؤذن.
(3)
الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص:104.
(4)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 4/ 159.
(5)
الشارح الكبير، 10/ 546.
(6)
الاختيار، 4/ 145.
دليل القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بجواز ترك الخراج دون العشر بأن السلطان صاحب الخراج، وله حق فيه فصحَّ تركه، والعشر حق الفقراء على الخلوص فلا يجوز تركه.
قد يناقش بأنه تفريق بين المتماثلات إذ العشر والخراج كلاهما مما يجب على غير المسلم، ويصرف في مصارف الفيء.
الترجيح:
بعد استعراض القولين في المسألة يظهر أن القول الأول أقرب للصواب؛ لقوة أدلته، ولورود المناقشة على دليل القول الثاني.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر فيما لو قرر الإمام أو السلطان ألا يؤخذ الخراج أو العشر من صاحبه، فله ذلك على القول المخرج للمالكية والشافعية للمصلحة، كما يجوز على قول الحنابلة على من يستحق ذلك مثل القاضي والمدرس، وعلى قول الحنفية يجوز في الخراج فقط، دون العشر.
المبحث السابع عشر: في مسائل الضمان
المطلب الأول: ضمان الإتلاف:
مسألة الإتلاف وضمانه تذكر في كتب الحنفية في كتاب الغصب
(1)
، والإتلاف لا يخلو إما أن يرد على بني آدم وإما أن يرد على غيرهم؛ فإن ورد على غيرهم فإنه يوجب الضمان إذا تحققت شروط وجوبه، ومن شروطه على سبيل المثال لا الحصر أن يكون مالاً، فلا يجب الضمان بإتلاف الميتة والدم وغير ذلك مما ليس بمال، وأن يكون متقوّماً، فلا يجب الضمان بإتلاف الخمر والخنزير على المسلم سواء كان المتلِف مسلماً أو ذمياً؛ لسقوط تقوُّم الخمر والخنزير في حق المسلم
(2)
.
(1)
بدائع الصنائع، 7/ 164، الهداية 4/ 307.
(2)
ينظر: بدائع الصنائع، 7/ 164، 7/ 167 - 168.
وقد وقع الخلاف بين فقهاء الحنفية في بعض أنواع المال هل يتقوم أم لا، فيقولون: من كسر لمسلم بربطاً
(1)
أو طبلاً
(2)
أو دفاً
(3)
(4)
أو مزماراً
(5)
أو أراق له سكراً
(6)
أو منصفاً
(7)
فهو ضامن عند أبي حنيفة –رحمه الله تعالى-؛ لأنها كما تصلح للهو والفساد يصلح للانتفاع بها من وجه آخر، فكان مالاً متقوماً من ذلك الوجه
(8)
، فيجوز بيعه
(9)
، وعند الصاحبين لا يضمن؛ لأن البربط والطبل من آلة اللهو والفساد، فلم يكن متقوّماً كالخمر
(10)
، أي أن هذه الأشياء أُعدت للمعصية فبطل تقوّمها كالخمر، ولأنه فعل آمر بالمعروف، وهو بأمر الشرع فلا يضمنه كما إذا فعل بإذن الإمام، والفتوى على قولهما
(11)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
اختلف الفقهاء في تقدير الأموال المتقومة بحيث تُضمن عند إتلافها على قولين:
(1)
العود، من ملاهي غير العرب. ينظر: العين، 7/ 472، لسان العرب، 7/ 258.
(2)
معروف الذي يضرب به وهو ذو الوجه الواحد والوجهين. ينظر: لسان العرب، 11/ 398.
(3)
تَضرِب به النساء. ينظر: الصحاح، 4/ 1360.
(4)
الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو. فأما طبل الغزاة والدف الذي يباح ضربه في العرس يضمن بالإتلاف من غير خلاف. ينظر: الهداية، 4/ 307.
(5)
من الزَّمْر، إذا غنّى في القصب. ينظر: لسان العرب، 4/ 327.
(6)
اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد. ينظر: الهداية، 4/ 307.
(7)
اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد وذهب نصفه بالطبخ. ينظر: الهداية، 4/ 307.
(8)
لأنها أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع وإن صلحت لما لا يحل فصار كالأمة المغنية. ينظر: الهداية، 4/ 307. وجاء في رد المحتار (6/ 212) ما يوضح أكثر، فقال: "لأنها أموال متقومة لصلاحيتها للانتفاع بها لغير اللهو، فلم تنافِ الضمان كالأمة المغنية، بخلاف الخمر فإنها حرام لعينها. وأما السكر ونحوه فحرمته عرفت بالاجتهاد وبأخبار الآحاد، فقصرت عن حرمة الخمر، فجوزنا البيع".
(9)
هذا الاختلاف في الضمان دون إباحة إتلاف المعازف، وفيما يصلح لعمل آخر وإلا لم يضمن شيئاً اتفاقاً. ينظر: رد المحتار، 6/ 212.
(10)
الهداية، 4/ 307، بدائع الصنائع، 7/ 167 - 168، شرح مختصر الطحاوي للجصاص، 6/ 309.
(11)
الهداية، 4/ 307.
القول الأول: عليها ضمان، مثل آلات اللهو والفساد، وهو قول أبي حنيفة
(1)
.
القول الثاني: لا ضمان عليها، وهو القول المفتى به عند الحنفية -كما سبق-، وقول المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة
(4)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أبو حنيفة رحمه الله على قوله بأنها أموال متقومة تصلح للانتفاع بها في غير اللهو، فلم تنافِ الضمان
(5)
.
قد يناقش بأن في جعلها متقومة تساهلاً مع من يصنعها وينشرها بين الناس.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بعدم الضمان بأدلة، منها
الدليل الأول: قياسها على الخمر بجامع أنها مال غير متقوم
(6)
.
يناقش بأن القياس مع الفارق إذ الخمر حرام بعينها، بخلاف غيرها
(7)
.
الدليل الثاني: لأن هذه الأموال ليست محترمة، فلا يحل بيعها ولا تملكها، فأشبهت الميتة
(8)
.
الدليل الثالث: لأنها محرمة الاستعمال، ولا حرمة لصنعتها
(9)
.
(1)
الهداية، 4/ 307، رد المحتار، 6/ 212.
(2)
الشرح الكبير، 4/ 336، حاشية الصاوي، 4/ 474.
(3)
بحر المذهب، 13/ 435، الحاوي الكبير، 14/ 389، 7/ 221.
(4)
الشرح الكبير على المقنع، 15/ 351، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 229.
(5)
رد المحتار، 6/ 212.
(6)
الهداية، 4/ 307، بدائع الصنائع، 7/ 167 - 168.
(7)
رد المحتار، 6/ 212.
(8)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 229، حاشية الصاوي، 4/ 474.
(9)
حاشيتا قليوبي وعميرة، 3/ 34.
الدليل الرابع: لأنه فعل آمر بالمعروف، وهو بأمر الشرع، فلا يضمنه كما إذا فعل بإذن الإمام
(1)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين في المسألة وأدلتها يظهر أن القول الثاني أوفق، لقوة أدلته، وورود المناقشة على دليل القول الأول، والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور منها:
- لو أن إنساناً رأى جاره بيده آلة الطرب فقام بكسرها آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر فإنه لا يضمن ذلك. وكذا في بقية آلات الطرب.
قلت: ينبغي أن يقال: إنه لما بعد وقوع الإتلاف، وأما قبله فينبغي الأخذ بضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهمها ألا يترتب على الإنكار حدوث منكر أشد وأعظم؛ فالحيطة مطلوبة من حيث الدعوة والإرشاد والنصح، وإلا فلا ضمان على كل حال على القول الراجح.
(1)
بدائع الصنائع، 7/ 167 - 168.
المطلب الثاني: ضمان الساعي بغير حق:
هذه المسألة كسابقتها تذكر غالباً في كتاب الغصب
(1)
، والسعاية لغة أن تسعى بصاحبك إلى والٍ أو من فوقه
(2)
، وهو ما يفهم من كلام فقهاء الحنفية عند تقريرهم أنواعها والضمان عليها
(3)
، فيقولون: إنه لا ضمان على السعاية بحق مثل من سعى إلى الوالي بمن يؤذيه ولا يندفع إلا بالسعي والرفع إليه، أو بمن يفسق ولا يمتنع لنهي الساعي
(4)
، ودفع المنكرات واجب بما أمكن
(5)
.
وينصُّون على ضمان السعاية بغير حق، وأمثلتها عكس ما ضُرب منها في السعاية بحق، وهو قول محمد –رحمه الله وبه يُفتى دفعاً للفساد وزجراً له (عن السعاية)
(6)
(7)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
وبعد الاطلاع على مذاهب الفقهاء تبين أن القول بضمان الساعي بغير حق هو أيضاً قول المالكية
(8)
، والشافعية
(9)
، والحنابلة
(10)
، بدليل ما قد سبق ذكره من دفع للفاسد وزجر للساعي من السعاية.
قلت: ويمكن أن يُستدل له بكل دليل يحرم الكذب والنميمة.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة، منها:
(1)
رد المحتار، 6/ 213.
(2)
العين، 2/ 202.
(3)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 53.
(4)
ينظر: ملتقى الأبحر، 1/ 98.
(5)
مجمع الأنهر، 2/ 470.
(6)
درر الحكام، 2/ 269.
(7)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 53، وانظر: مجمع الأنهر، 2/ 471، رد المحتار، 4/ 88، 6/ 213.
(8)
التاج والإكليل، 7/ 330، التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب، 6/ 509.
(9)
روضة الطالبين، 11/ 223، العزيز شرح الوجيز، 13/ 7.
(10)
لم أجدهم يذكرون مسألة الساعي بغير حق، لكن يقولون في كتاب الحجر:"إذا غرم شخص لكذب عليه عند ولي الأمر رجع الغارم بما غرمه على مضمون وكاذب لتسببه". ينظر: شرح منتهى الإرادات، 2/ 157.
- لو أن إنساناً له مدير في مقر العمل يأخذ الرشوة أو يظلم الموظفين، وحاول نصحه ولم يمتنع فله رفع أمره إلى القاضي أو وزارة العمل، ولو غرمه القاضي بعد ذلك فلا ضمان على الساعي؛ لأنه قد سعى بحق، بخلاف ما لو سعى بغيره.
- لو أن إنساناً له جار يبغضه وأراد أن ينتقم منه فسعى إلى القاضي بأنه يزاول أنواعاً من المحرمات، فغرمه القاضي، ثم تبين كذب الساعي؛ فإنه يضمن ما غرم القاضي لأن سعايته كانت بغير حق.
المبحث الثامن عشر: في مسائل الحجر
المطلب الأول: تحديد سن البلوغ وعلاماته:
ترد هذه المسألة في كتب الحنفية في كتاب الطلاق
(1)
، كما ترد في كتاب السرقة
(2)
، وفي كتاب الحجر والحبس
(3)
، و لعل سبب ذلك كون تصرفات الصغير -مثل طلاقه وإقراره بالسرقة- تتأثر بالبلوغ، فلا بد من ذكر ما يتقدر به.
ويقررون أن البلوغ قد يكون بالعلامة، وقد يكون بالسن، فأما البلوغ بالعلامة فالغلام بالاحتلام أو بالإحبال (والإنزال إذا وطئ)
(4)
، وأقل المدة في ذلك اثنتا عشرة سنة، وفي الجارية بالحيض أو بالحبل أو الاحتلام، وأدنى المدة في ذلك تسع سنين، وعند عدم ذلك فعلى قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- يحكم ببلوغهما إذا بلغا خمس عشرة سنة
(5)
، إذ العلامات تظهر في هذه المدة غالبًا فجعلت المدة علامة في حق من لم تظهر له العلامة
(6)
، وعند أبي حنيفة رحمه الله التقدير في الجارية بسبع عشرة سنة، وفي الغلام في إحدى الروايتين بثمان عشرة سنة، وفي الرواية الأخرى بتسع عشرة سنة
(7)
، والفتوى على قولهما؛ للعادة الغالبة (ولقصر أعمار أهل زماننا)
(8)
(9)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف الفقهاء في تحديد سن البلوغ بمدة معينة إذا لم تظهر بقية العلامات على قولين:
(1)
المبسوط، 6/ 53.
(2)
المبسوط، 9/ 184.
(3)
بدائع الصنائع، 7/ 172.
(4)
الهداية، 3/ 281. وبعضهم ذكر نبات العانة الخشن الذي يحتاج في إزالته إلى حلق، وكذا نهود الثدي، وقد اختلفوا في شعر الإبط والشارب وثقل الصوت، وقيل: لا عبرة به. ينظر: الجوهرة النيرة، 1/ 245.
(5)
وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً. ينظر: الهداية، 3/ 281، درر الحكام، 2/ 275.
(6)
درر الحكام، 2/ 275.
(7)
المبسوط، 9/ 184، الاختيار، 2/ 95.
(8)
رد المحتار، 6/ 153.
(9)
درر الحكام، 2/ 275، شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 34.
القول الأول: في الجارية بسبع عشرة سنة وفي الغلام ثمان عشرة سنة أو تسع عشرة سنة، وهو قول أبي حنيفة – كما سبق-.
القول الثاني: إذا بلغ خمس عشرة سنة، ولا فرق بين الغلام والجارية، وهو رواية أخرى عن أبي حنيفة والقول المفتى به عند الحنفية -كما سبق-، وهو قول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
لم أجد دليلاً لهذا القول عند الحنفية، لكن يمنكن أن يُستدل بواقع الحال وهو أن الغلام لا يبلغ من العمر 18 سنة أو 19 سنة إلا وقد بلغ، وكذا البنت عند بلوغها 17 سنة.
ويؤيد هذا الدليل أن البنت في الغالب تبلغ قبل الغلام، ولذلك اختلفت الروايات عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وبعضها وافقت القول الثاني، والمدة جُعلت علامة في حق من لم تظهر له علامات أخرى.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن المدة 15 سنة، بأدلة، منها:
الدليل الأول: حديث ابن عمر –رضي الله عنهما أنه قال: "عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني"
(4)
(5)
.
(1)
الكافي في فقه أهل المدينة، 1/ 332، البيان والتحصيل، 10/ 235 - 236، الجامع لمسائل المدونة، 6/ 183.
(2)
الأم، 1/ 87، 3/ 220، نهاية المطلب، 6/ 432، المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 359.
(3)
المغني، 4/ 346.
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري، 3/ 177، كتاب الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم، رقم حديث: 2664، وصحيح مسلم، 3/ 1490، كتاب الإمارة، باب بيان سن البلوغ، رقم حديث:1868.
(5)
المبسوط، 6/ 54، بدائع الصنائع، 7/ 172، الاختيار، 2/ 95، المغني، 4/ 346.
وجه الدلالة: المعنى فيه أن العادة الظاهرة أن البلوغ لا يتأخر عن هذه المدة
(1)
، ولو قيل بأن الحديث بين الحد الأعلى لتأخر البلوغ لكان أضبط.
الدليل الثاني: حديث أنس –رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كُتب ما له وما عليه، وأُخذت منه الحدود"
(2)
(3)
.
وجه الدلالة: الحديث نص على أن بداية كتابة الأعمال والمآخذة عليها تكون بعد استكمال خمس عشرة سنة.
يناقش بأنه ضعيف أو موضوع، ولا تقوم به الحجة
(4)
.
الدليل الثالث: ما فُسِّر به حديث ابن عمر –رضي الله عنهما من العادة الغالبة
(5)
بمعنى أنه يندر أن يستكمل المولود خمس عشرة سنة إلا وقد بلغ.
(1)
المبسوط، 6/ 45.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 6/ 94، كتاب الحجر، باب البلوغ بالسن، رقم حديث: 11307، ذكره ضمناً بلا سند، ونصه:"الصبي إذا بلغ خمس عشرة أقيمت عليه الحدود"، وضعَّفه، وذكر أنه في الخلافيات بسنده، وقد راجعت النسخة التي عندي بتحقيق مشهور آل سلمان في ثلاثة مجلدات -وهي ناقصة لا تتجاوز أحكام الطهارة، وآخر مسألتها برقم 50 - فلم أجده. لكن بعد مراجعة مختصر خلافيات البيهقي (3/ 390) للخمي الشافعي وجدته بشيء من الاختلاف بدون سند أيضاً، ونصه:"الصبي يكتب له حسناته، ولا يكتب عليه سيئاته، حتى إذا بلغ ثلاث عشرة سنة كتب له وعليه، فإذا بلغ خمس عشرة أقيمت عليه الحدود، أو أخذت منه الحدود"، ثم قال:"فإسناده ضعيف، لا يثبت مثله". وجاء في التجريد للقدوري (6/ 2914) ما نصه: "وقد ذكر بعضهم حديثًا زعم أنه أسند إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه، وأخذت منه الحدود". وهذا حديث موضوع لا يمكن أن يضاف إلى كتاب صحيح ولا فاسد، ولا يعرفه أحد من أصحاب الحديث، وكيف يسوغ التسامح بذكره ومبنى هذا الحكم مع عموم الحاجة إليه لا يثبت بخبر واحد صحيح، فكيف بخبر لا يعرف؟ ".
(3)
المغني، 4/ 346.
(4)
سبق الكلام على صحته عند تخريجه.
(5)
درر الحكام، 2/ 275.
الدليل الرابع: لقصر أعمار أهل زماننا
(1)
، ولا أراه تعليلاً مستقلاً بقدر ما هو بيان لعلة قبول تفسير حديث ابن عمر –رضي الله عنهما، والله أعلم.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني أضبط؛ لقوة أدلته وما فيه من الاحتياط المعتدل.
والمسألة لها ثمرات عملية تظهر في كل مسألة يشترط فيها البلوغ، ومنها الصلاة على سبيل المثال، فإن الغلام لو لم تظهر عليه علامة من علامات البلوغ وعمره دون خمس عشرة سنة وقد ترك الصلاة فلا يأثم عند الجميع؛ لأنه غير مكلف. ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى.
(1)
رد المحتار، 6/ 153.
المطلب الثاني: بيع القاضي عروض المدين وعقاره:
فقهاء الحنفية يوردون هذه المسألة في كتبهم عند ذكر أحكام الحجر وأسبابه وأنواعه
(1)
، فيقولون إن الحجر –بفتح الحاء وسكون الجيم- مطلق المنع، ومنه حِجر الكعبة؛ لأنه مُنع من الدخول فيها، وسُمِّي الحرام حجرًا؛ لأنه ممنوع من التصرف فيه، وفي الشرع المنع عن أشياء مخصوصة بأوصاف مخصوصة
(2)
.
وقد اختلفوا في الحجر على الحر العاقل البالغ ولو كان سفيهاً على قولين:
القول الأول: المنسوب لأبي حنيفة –رحمه الله إنه لا يحجر عليه، لا يبيع العُروض ولا العقار؛ لأنه حجر عليه وهو تجارة لا عن تراضٍ
(3)
.
القول الثاني: المنسوب للصاحبين –رحمهما الله- إنه يحجر عليه، ودليلهما قياس المديون على السفيه، ويوجبون على القاضي حبسه إن طلب غرماؤه ذلك حتى يبيع ويوفي الدين، حتى لو كان المال المبيع عروضاً أو عقاراً، وإن امتنع المدين عن بيع ماله باع القاضي عليه نيابة عنه، والفتوى على قولهما
(4)
.
والبيع يكون بالترتيب فتباع النقود أولاً ثم العروض ثانياً ثم العقار ثالثاً
(5)
.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
لو أن شخصاً مديوناً أفلس وطلب الغرماء حقوقهم فإن عليه أن يبيع ماله؛ ليوفي الدين، وإن أبى فللقاضي أن يبيع عليه ماله، لكن أي نوع من المال؟
تحرير محل النزاع:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
(1)
الاختيار، 2/ 98.
(2)
المرجع السابق، 2/ 94.
(3)
المرجع السابق، 2/ 99.
(4)
المرجع السابق، 2/ 98 - 99، بتصرف.
(5)
الهداية، 3/ 282، ملتقى الأبحر، ص: 58 - 59، البناية، 11/ 119، رد المحتار، 6/ 151.
القول الأول: ليس للقاضي أن يبيع شيئًا من عروض المدين أو عقاره، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله كما سبق في تقرير قول الحنفية.
القول الثاني: يحجر عليه وإن امتنع عن بيع ماله باع القاضي عليه نيابة عنه، وهو قول الحنفية المفتى به –كما مر-، وقول المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
الأدلة والمناقشات:
دليل القول الأول:
استدل أبو حنيفة رحمه الله على قوله بعدم الحجر ومنع بيع عروض المدين وعقاره بأنه تجارة عن غير تراض
(4)
.
قد يناقش بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يرده، كما في حديث معاذ رضي الله عنه الآتي
(5)
.
كما يمكن مناقشته بأن التجارة هنا عن تراض؛ لأنها في الحقيقة بين القاضي وغرماء المدين، ولا اعتبار برضاه هنا لأنه محجور عليه.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بالحجر على المدين وبيع مالي حتى يوفي دينه بأدلة، منها:
(1)
التهذيب في اختصار المدونة، 1/ 422، التاج والإكليل، 6/ 605، وقال محاكياً لما في المدونة:"يبيع الإمام عليه عروضه كلها وداره وخادمه وسرجه وسلاحه وخاتمه وغير ذلك إلا ما لا بد له من ثياب جسده". ينظر: المدونة، 1/ 325.
(2)
الحاوي الكبير، 17/ 414، البيان في مذهب الإمام الشافعي، 6/ 141.
(3)
الإنصاف، 5/ 276، الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 96، المغني، 4/ 328 - 329.
(4)
الاختيار، 2/ 99.
(5)
انظر الدليل الأول من القول الثاني.
الدليل الأول: ما وري أن معاذ بن جبل –رضي الله عنه ركبه الدين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم غرماؤه النبي صلى الله عليه وسلم، فحجر عليه، وباع عليه ماله حتى قام معاذ –رضي الله عنه بغير شيء
(1)
(2)
.
وجه الدلالة: الحديث نص في الحجر على المديون وبيع ماله.
الدليل الثاني: ما روي أن عمر –رضي الله عنه قال: "إن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سابق الحاج، فادَّان معرضاً، فمن كان له عليه مال فليحضر، فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه"
(3)
(4)
.
الدليل الثالث: قياس المدين على الميت، فإن جميع ديون الميت تُقضى من جميع الأموال فكذا المديون
(5)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني أقرب للصواب؛ لقوة أدلته ولورود المناقشة على دليل القول الأول.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور، منها على سبيل المثال:
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك، 3/ 306، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر مناقب أحد الفقهاء الستة من الصحابة معاذ بن جبل –رضي الله عنه، رقم حديث: 5192، وصحَّحه، وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في التلخيص (3/ 273)، والبيهقي في السنن الكبرى، 6/ 80، في كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه، رقم حديث: 11261، وقد صحَّحه أيضاً الألباني في الإرواء (5/ 261).
(2)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 6/ 141، المجموع (تكملة المطيعي)، 13/ 279.
(3)
أخرجه مالك في الموطأ، 4/ 1118، كتاب الوصية، جامع القضاء وكراهيته، رقم أثر: 2846، بإسناد منقطع (ينظر: سبل السلام، 2/ 79)، وابن أبي شيبة في مصنفه، 4/ 536، كتاب البيوع والأقضية، في رجل يركبه الدين، رقم أثر: 22915، وضعفه الألباني في الإرواء (5/ 262)، وأومأ إلى أن إسناده محتمل للتحسين.
(4)
الكافي في فقه الإمام أحمد، 2/ 96.
(5)
الحاوي الكبير، 17/ 414
- لو أن إنساناً أفلس وعليه ديون وأبى أن يبيع ماله ليوفيها، فإن للقاضي أن يبيع عليه ماله، عروضه وعقاره، ويدخل في ذلك الأثاث والسيارة والأرض والأسهم وغيرها.
المبحث التاسع عشر: كيفية تقدير حكومة العدل
عرف الحنفية حكومة العدل بأنها أرش غير مقدر
(1)
، ومثالها أن يقوّم المجني عليه بدون أثر الجرح ويقوم وبه هذا الأثر، ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين
(2)
، سواء كان المجني عليه حرًّا أو مملوكًا، فإن كان مملوكاً فذَا، وإن كان حراً فيقوم كأنه مملوك
(3)
، وبه يفتى
(4)
.
ويذكرون هذه المسألة في كتاب الديات عند ذكر الشجاج وأنواعها وما يجب فيها
(5)
، وصورتها لو جنى جانٍ على شخص فجرحه جرحًا لا أرش فيه بل حكومة، كيف يكون تقدير ما يأخذ المجني عليه من الدية عن طريقها؟
وبعد البحث تبين أن العلماء عامة اختلفوا فيما فيه الحكومة، واتفقوا على كيفية تقديرها:
فعند المالكية تُقدَّر بما نقص من قيمة المجني عليه أن لو كان عبدًا
(6)
.
والشافعية عرفوها بمثال الجارية فُقئت عينها كم كانت قيمتها وعينها قائمة وكم قيمتها بعد فقء عينها
(7)
.
(1)
بدائع الصنائع، 7/ 323، ومفهومه أن ما لا قصاص فيه من الجنايات ما دون النفس وليس له أرش مقدر ففيه الحكومة، ومن أمثلة ما تلزم به الحكومة: كسر العظام إلا السن، وقطع لسان الأخرس وإتلاف العين القائمة الذاهب نورها وهكذا.
(2)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 165، الهداية، 4/ 466.
(3)
بدائع الصنائع، 7/ 324.
(4)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 165.
(5)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 165، الهداية، 4/ 466. وبعضهم يذكرها أيضاً عند ذكر الجنايات في الحج، ويمثلون بذلك من أخذ من شاربه وهو محرم. ينظر: تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي، 2/ 55.
(6)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 204، ونص على أنه عند مالك رحمه الله. وبعض المتأخرين من المالكية انتقد تعريف الحكومة بالمحكوم به فقال: إنها الاجتهاد وإعمال الفكر فيما يستحقه المجني عليه من الجاني. ينظر: حاشية الصاوي، 4/ 381. وجاء في المدونة ما يؤيد ذلك. ينظر: المدونة، 4/ 604.
(7)
الأم، 6/ 71، المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 233.
وعند الحنابلة أن يُقوّم الحر كأنه عبد لا جناية به ثم يُقوّم وبه الجناية المبدلة فما نقص من قيمته سليماً وجب من ديته بقسط ذلك
(1)
، وبعضهم يسميها اجتهادًا
(2)
.
ولم أجد ضابطاً للأخذ بالحكومة، لكن أومأ بعضهم بأن ما ليس في أرشه نص وجب التقدير بالاجتهاد، وقدر النقصان لا يُعرف عن طريق الاجتهاد إلا بالتقويم
(3)
.
وبناءً على ما سبق يمكننا القول بأن المذاهب الأربعة متقاربة في طريقة تقدير الحكومة –إذا ثبتت-، فتقدر بتقويم المجني عليه كأنه مملوك قبل الجناية ثم يقومه بعد الجناية والبرء منها؛ فيؤخذ من الدية بنسبة التفاوت
(4)
.
هذا ما ذكره الفقهاء –رحمهم الله في كيفية تقدير حكومة العدل وهي طريقة التقويم، وهي اجتهاد منهم لا نص عليها، وعليه فلا مانع من الاجتهاد في طرق أخرى لتحديد الحكومة، وبخاصة في وقتنا الذي لا يوجد فيه الرق، ولا يوجد فيه من يعرف أو يمكن أن يستند إلى قوله في تحديد قيمة المملوك
(5)
.
وعلى هذا فطريقة التقويم هي الأصل لتحديد الحكومة، لكن يمكن أن تضاف إليها طرق أخرى، مثل:
- طريقة قياس غير المقدر على المقدر بأن يرد كل جرح إلى أقرب شيء فيه مقدر، فتؤخذ النسبة بينه وبين ما ورد التقدير فيه من جنسه
(6)
.
(1)
الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص: 523، المغني، 8/ 428، المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد، 2/ 144، الإنصاف، 10/ 116.
(2)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، 7/ 3289، ولعل مراده أن القدر الواجب في الجناية غير محدد فلا بد من اجتهاد أهل العلم في ذلك، والله أعلم.
(3)
المهذب في فقه الإمام الشافعي، 3/ 233.
(4)
ونقل ابن منذر الإجماع على ذلك. ينظر: الإجماع، ص:171.
(5)
ينظر: المجموع (تكملة المطيعي)، 19/ 133.
(6)
شرح الوقاية للمحبوبي، 5/ 165، المغني، 8/ 481.
مثالها: إن كان الجرح ليس فيه شيء مقدر كالجروح التي دون الموضحة (لأنها أدنى شيء مقدر) فإننا نقدر الواجب فيها بالنسبة من دية الموضحة -وهي خمس من الإبل-، فينظر إلى ما دون الموضحة، فإن أخذت نصف اللحم وبقي نصفه إلى العظم كان أرش هذه الجناية نصف دية الموضحة وهكذا، ويكون المرجع في هذا التقدير إلى أهل الخبرة والمعرفة بالجنايات، ولهم خبرة دقيقة بالمقاييس وخبرة كبيرة بالطب؛ ليستعين بهم القاضي، ولا مانع من إحالة المجني عليه إلى الأطباء العدول لمعرفة قدر الجناية على وجه الدقة
(1)
.
- طريقة قياس إنتاج المجني عليه وعجزه، وصورتها اعتبار الإنسان مقوماً بديته فالدية أصل ثابت، فإن نقص عمل المجني عليه وإنتاجه قدرًا معينًا أخذ من الدية بقدر من نقص من جهده
(2)
(3)
.
ويبقى أن هذه الطرق اجتهادية تقريبية غير يقينية من حيث الأصل، وقد تكون بعضها أوفر للمجني عليه من حيث ما يستحق من الدية، وهذا من الأمور التي ينبغي مراعاتها عند العمل بطريقة دون أخرى. والله أعلم.
(1)
الأرش وأحكامه لحسين بن عبد الله العبيدي، الجزء الثاني، ص:548.
(2)
ينظر: المجموع (تكملة المطيعي)، 19/ 133، ونص على أنها في نقص السمع والبصر.
(3)
الأرش وأحكامه، الجزء الثاني، ص: 550 - 551، وقد نقل المؤلف كلام المطيعي السابق وأطلق القول ولم يقيده؛ وفي عدم تقييده توسيع نطاق العمل بهذه الطريقة.
المبحث العشرون: مقدار ما يوقف للحمل من الميراث:
تذكر هذه المسألة في كتب الحنفية في كتاب المفقود
(1)
أو ميراث الحمل تحديداً
(2)
، وصورتها لو أن شخصاً مات وترك الورثة من بينهم الحمل في بطن أمه، فكم يوقف له من الميراث ما يضمن حقه كاملاً بعد الولادة؟
واختلفت الروايات عن الأئمة الثلاثة في ذلك على النحو الآتي:
- روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يوقف للحمل نصيب أربع بنين
(3)
، ودليله الأول أن قسمة التركة لا تكون إلا باعتبار المتيقن، ولم ينقل عن المتقدمين أن المرأة ولدت أكثر من أربع بنين.
والدليل الثاني: لأن في ذلك احتياطاً
(4)
.
- وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يوقف للحمل ميراث ابنين، وهو قول محمد-رحمه الله أيضاً، ودليله العادة، وأكثر وقوعاً
(5)
، وهو أن ولادة اثنين في بطن واحد أقرب إلى عادة من ندرة.
- وروي عن أبي يوسف رحمه الله رواية أخرى أنه يوقف للحمل ميراث ابن واحد فقط
(6)
، وهو الأصل، وعليه الفتوى
(7)
، ودليله أن النادر لا يعارض الظاهر، والعام الغالب أن المرأة لا تلد في بطن واحد إلا ولداً واحداً
(8)
.
(1)
الهداية، 2/ 425.
(2)
المبسوط، 30/ 52، الاختيار، 5/ 114.
(3)
أو البنات، أيهما أكثر. ينظر: الاختيار، 5/ 114.
(4)
الاختيار، 5/ 114.
(5)
الاختيار، 5/ 114.
(6)
أو بنت واحدة أيهما كان أكثر. ينظر: تحفة الملوك، ص:265.
(7)
ينظر: المبسوط، 30/ 52، الهداية، 2/ 425.
(8)
المبسوط، 30/ 52.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
صورة المسألة:
إذا مات إنسان ومن بين ورثته حمل في بطن أمه، فكيف تكون قسمة التركة؟
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن الحمل يرث في الجملة
(1)
، واختلفوا في ثبوت الملك له؛ هل يكون بمجرد موت مورثه ويتبين ذلك بخروجه حياً أم لا يثبت له الملك حتى ينفصل حياً؟ وبناءً عليه هل تقسم التركة حالاً أم يُنتظر حتى يتبين حال الحمل، على قولين:
القول الأول: إن التركة تُقسم حالاً ويُوقف للحمل مقدار ميراث ابن واحد، وهو قول الحنفية المفتى به –كما سبق-
(2)
، وقول الشافعية إلا أن مقدار ما يوقف للحمل ليس بثابت، بل معاملة بقية الورثة تكون بالأضر بحيث يُعطى كل الورثة المتيقن من نصيبه ويوقف الباقي إلى ظهور حال الحمل
(3)
.
القول الثاني: أن التركة لا تقسم حتى يتبين أمر الحمل، وهو قول المالكية،
(4)
والحنابلة.
(5)
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن التركة تقسم حالاً ويوقف للحمل مقدار معين من الميراث بأدلة، منها:
الدليل الأول: واقع الحال وهو أن المرأة في الغالب لا تلد إلا ولداً واحداً، وهو دليل الحنفية في المسألة.
(1)
الإنصاف، 7/ 329.
(2)
وبقية أقوال المذهب الحنفي تندرج تحت هذا القول.
(3)
الحاوي الكبير، 8/ 171، بحر المذهب، 7/ 493،
(4)
النوادر والزيادات، 13/ 272، البيان والتحصيل، 14/ 486.
(5)
الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص: 632، المغني، 6/ 382.
قد يناقش بأن الأمر راجع إلى المرأة نفسها فبعض النساء لا تلد إلا ولداً واحداً وهكذا أمها وجدتها وكل قريباتها، وبعض النساء من عادتهن ولادة أكثر من واحد وكذا أمها وجدتها وهكذا.
الدليل الثاني: الاحتياط بأن يُعطى كل وارث نصيبه المتيقن، وهو دليل الشافعية في المسألة المستخلص من نص قولهم.
دليل القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائل بأن التركة لا تقسم حتى يتبين أمر الحمل بأن الحمل لا حد له
(1)
. ويؤيده ما نقله بعضهم أن المرأة ولدت سبعة أولاد ذكوراً عاشوا جميعاً وكانوا خلقاً سوياً إلا أن في أعضائهم قصرًا
(2)
.
قد يناقش بأن الورثة يتضررون إذا لم تُقسم التركة حالاً، فعليه لا بد من وجود الطريقة حتى يحصلوا على حقهم الذي ثبت بمجرد موت المورث.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وتعليلاتهما يظهر للباحث أن القول الأول القائل بتقسيم التركة حالاً أقرب للصواب، إلا أن مقدار ما يوقف للحمل ليس بثابت، بل بقية الورثة معاملتهم تكون بالأضر بحيث يعطى كل الورثة المتيقن من نصيبه ويوقف الباقي إلى ظهور حال الحمل.
(1)
المغني، 6/ 382.
(2)
الحاوي الكبير، 8/ 171.
وقد يقال بأنه يمكن الجمع بين القولين عن طريق الأجهزة الطبية الحديثة
(1)
التي تكشف ما في بطن الحبلى من حيث العدد والجنس بشرط أن لا خطأ
(2)
فيها فيعتمد على تقرير الأطباء وبناءً عليه تقسم التركة، لكن الواقع أنها توجد فترات الحمل لا يمكن كشف عدد الجنين ولا جنسه، وفي هذه الحالة نحكم في المسألة بما قرره الفقهاء من أن التركة تقسم حالاً؛ ويعامل بقية الورثة بالأضر، والله أعلم.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صورة فيما لو مات إنسان ومن بين ورثته حمل لا يُعرف حاله من حيث العدد والجنس، فعلى القول الأول يقسم التركة حالاً، ونعامل بقية الورقة بالأضر حتى نضمن نصيب الحمل، وعلى القول الثاني لا تُقسم التركة حتى يتبين حال الحمل بعد الولادة، وعلى طريقة الجمع بين القولين يطلب من الدكتور فحص الأم ورفع تقرير بحال الحمل من حيث العدد والجنس، وبناءً عليه تقسم التركة.
(1)
الموجات فوق الصوتية أو ألتراساوند.
(2)
يمكن معرفة عدد الحمل في أوقات متقدمة (فترة بين الأسبوع الرابع إلى السادس)، وأما جنس الحمل فنسبة الصواب تزيد على 90% بعد الأسبوع الثامن عشر، ونسبة الخطأ في هذه الفترة راجعة إلى وضعية الولد في الرحم ووضوح الصور وخبرة الطبيب في التعامل مع الأجهزة، فالخطأ ليس بسبب الأجهزة بل بسبب عدم معرفة التعامل معها بشكل متقن. وأما ما قبل الأسبوع الرابع عشر فإن الحمل لا يظهر عليه الفرق من حيث الذكورة أو الأنوثة، فلا يمكن الاعتماد على نتائج الموجات فوق الصوتية. والفروقات بين الجنسين تبدأ أن تظهر قليلاً بعد الأسبوع الرابع عشر حتى الأسبوع الثامن عشر، مما يجعل الأمر سهلاً في كشف جنس الحمل. ينظر: موقع العلوم الحية والدراسة الطبية عليه، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafysix
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العقوبات، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الحد المتقادم.
المبحث الثاني: أثر المسافة في حد قطاع الطريق.
الفصل الثالث: المسائل الفقهية التي عليها الفتوى عند متأخري الحنفية في العقوبات
المبحث الأول: الحد المتقادم:
صورة المسألة: لو ارتكب شخص حداً ولم تُرفع الدعوى إلا بعد مرور مدة من الزمن، فهل لذلك أثر في إقامة الحد أو قبول الشهادة؟
ترد هذه المسألة في كتب الحنفية عند ذكر مسائل الحدود والشهادة عليها
(1)
، ويقررون بأن الشهادة على حد متقادم مثل الزنا بلا مانع أو عذر للتأخير لا تقبل،
(2)
إلا في حد القذف خاصة،
(3)
وقد اختلفوا في ضبط التقادم؛ هل يتوقف أم لا؟ وما حده من حيث الزمن؟ وذلك على قولين:
القول الأول: ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أن التقادم لا يتوقف بل يُفوض ذلك إلى رأي الإمام أو القاضي
(4)
.
والقول الثاني: إن التقادم يتوقف ويحدَّد بمدة، وروي ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله وقال: إنه يتوقف بعد ستة أشهر أو سنة
(5)
، والقول بتوقف التقادم هو قول الصاحبين أيضاً وحده عندهما شهر
(6)
، والفتوى على هذا
(7)
؛ لأن الشهر أدنى الأجل فكان ما دونه في حكم العاجل
(8)
.
(1)
المبسوط، 9/ 115، الهداية، 2/ 349، الاختيار، 4/ 81.
(2)
الهداية، 2/ 349، الاختيار، 4/ 81.
(3)
زاد الفقهاء، ص: 478 - 479.
(4)
زاد الفقهاء، ص: 479، وعبارة بدائع الصنائع أضبط حيث قال:"وفوض ذلك إلى اجتهاد كل حاكم في زمانه". بدائع الصنائع، 7/ 47.
(5)
كذا قال محقق الكتاب وذكر أن في نسخة (أ) من المخطوطة "وروى الحسن عنه ستة أشهر"، وفي نسخة (ج) "وقال الحسن عنه سنة". انظر: زاد الفقهاء، ص: 479
(6)
بدائع الصنائع، 4/ 47، الهداية، 2/ 350،
(7)
زاد الفقهاء، ص:479.
(8)
بدائع الصنائع، 4/ 74.
دراسة المسألة دراسة مقارنة
اختلف العلماء في مسألة قبول الشهادة بحد متقادم -ما عدا الإقرار- على قولين:
القول الأول: القائل بأن تقادم الحد له أثر من حيث قبول الشهادة عليه وحدّدوه بمدة شهر، وهو قول الحنفية
(1)
.
القول الثاني: إن تقادم الحد لا أثر له من حيث قبول الشهادة عليه عند جمهور العلماء، فالشهادة تسمع عند المالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، والحنابلة على الصحيح من المذهب
(4)
بغض النظر عن تقادم العهد، ولذلك لم يذكروا المدة التي جاء ذكرها عند الحنفية.
وعليه فاعتبار تقادم الحد ومن ثم مدته من مفردات الحنفية.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بأثر تقادم الحد على الشهادة بأدلة، منها:
الدليل الأول: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال: "أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا عند حضرته فإنما هم شهود ضَغَنٍ لا تقبل شهادتهم"
(5)
(6)
.
(1)
الهداية، 2/ 349، الاختيار، 4/ 81، زاد الفقهاء، ص:479.
(2)
المدونة، 4/ 542، المختصر الفقهي لابن عرفة، 9/ 363.
(3)
البيان في مذهب الإمام الشافعي، 12/ 529، الوسيط في المذهب، 7/ 365.
(4)
الإنصاف، 29/ 258، الإقناع، 4/ 431.
(5)
لم أجده بهذا اللفظ عن الحسن، وإنما رواه أبو عون عن عمر بلفظ قريب منه كما في مصنف عبد الرزاق الصنعاني برواية أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن عمر:" أَيُّمَا رَجُلٍ شَهِدَ عَلَى حَدٍّ، لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَنْ ضِغْنٍ"، 7/ 431، باب لا يؤجل في الحدود، رقم أثر: 13760، وقد حكم البيهقي بالانقطاع بين أبي عون وبين عمر كما في السنن الكبرى (10/ 269).
(6)
الاختيار، 4/ 81.
وجه الدلالة: يمكن أن يقال: إن تقييد الشهادة بقوله: "عند حضرته" يفيد قرب الشهادة من الواقعة، مما دل على أن الزمن له أثر في ذلك.
ونوقش بأنه من مراسيل الحسن البصري ولم يثبت، وإن ثبت فيحمل على معنى عدم مشاهدتهم إياه
(1)
.
ويعضد هذا المعنى ما روي عن عمر رضي الله عنه أيضاً أنه كتب: "من كانت عنده شهادة فلم يشهد بها حيث رآها أو حيث علم، فإنما يشهد على ضغن"
(2)
، فذكر الرؤية والعلم.
وقيل: إنه لا يسلم ذلك؛ لأنه روي من أكثر من طريق، والمرسل إذا تعدَّد مخرجه حجة عند الجميع، وكذلك مراسيل الحسن صحيحة عند ابن المديني ويحيى بن سعيد القطان وأبي زرعة
(3)
.
يجاب عنه بأن مراسيل الحسن مختلَف فيها، بل قيل بأن مراسيله أضعف المراسيل
(4)
، وعند بعضهم "شبه الريح"
(5)
، وجاء أيضاً عن أبي زرعة أنه لا يُحتج بالمراسيل ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح
(6)
.
الدليل الثاني: كونها شهادة تمكنت فيها تهمة فتبطل لأجلها
(7)
.
(1)
بحر المذهب، 13/ 33.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 10/ 269، كتاب الشهادات، باب ما جاء في خير الشهداء، رقم أثر: 20597، وقال البيهقي: إنه منقطع بين عمر وراوي الأثر وهو محمد بن عبيد الله الثقافي.
(3)
ينظر: تدريب الراوي، 1/ 230، وإعلاء السنن، 11/ 609، ويؤيده ما قرر علماء المصطلح من أنه "ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت
…
وإذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل، يزول بروايته من وجه آخر". (مقدمة ابن صلاح، ص: 34)
(4)
شرح علل الترمذي، ص: 192، 538.
(5)
تدريب الراوي، 1/ 339.
(6)
شرح علل الترمذي، ص:541.
(7)
الاختيار، 4/ 81.
وجه الدلالة: "أن الشهود إذا عاينوا الفاحشة فهم بالخيار إن شاءوا شهدوا به حسبة لإقامة الحد، وإن شاءوا ستروا على المسلم حسبة أيضًا، فإن اختاروا الأداء حرم عليهم التأخير؛ لأن تأخير الحد حرام، فيحمل تأخيرهم على الستر حسبة حملاً لهم على الأحسن، فإذا أخروا ثم شهدوا اتهموا أنهم إنما شهدوا لضغينة حملتهم على ذلك كما قال عمر رضي الله عنه، وإن كان تأخيرهم لا لحسبة الستر ثبت فسقهم ورُدَّت شهادتهم"
(1)
.
وقد يناقش بأن هذا الدليل مبني على الأثر المروي عن عمر رضي الله عنه وقد تبين أنه لم يثبت، وعليه فلا يصح الاستدلال به.
كما يمكن حمله على معنى عدم قبول شهادة من يشهد ولم يشاهد الواقعة المشهود عليها.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بسماع الشهادة ولو تقادم الحد بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4]، وقوله:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} [النور: 13].
وجه الدلالة: عموم الآية
(2)
فإنه يفيد عدم تخصيص الشهادة بزمن معين.
الدليل الثاني: أنه حق ثبت بالشهادة على الفور فوجب أن يثبت بها بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق
(3)
.
(1)
المرجع السابق.
(2)
المغني، 9/ 76.
(3)
البحر المذهب، 13/ 33، المغني، 9/ 76.
الدليل الثالث: لأن الشهادة صارت حجة باعتبار وصف الصدق، وتقادم العهد لا يخل بالصدق، فلا يخرج من أن يكون حجة كالإقرار وحقوق العباد
(1)
.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر أن القول الثاني القائل بقبول الشهادة ولو تقادم الحد أقرب للصواب؛ لقوة أدلته، ومما ورد من مناقشة على أدلة القول الأول؛ فإن مراسيل الحسن البصري مما يستأنس بها لكن القول بأنها حجة لا يتوافق مع صنيع عامة المحدثين من السلف ولا قواعدهم
(2)
.
والمسألة لها ثمرة عملية تظهر في صور كثيرة، منها:
- لو أن إنساناً شهد مع من يشهد على زنا بعد سنة من وقوع الفاحشة، فعلى القول الأول لا تُسمع شهادتهم؛ لتقادم الحد أكثر من شهر واحد، وعلى القول الثاني تُسمع شهادتهم؛ لأن المدة لا أثر لها هنا في قبولها.
- ولو أن إنساناً شهد على القاذف بعد شهرين من قذفه إياه، فإن الشهادة تُقبل وتسمع عند الجميع؛ لأن حق القذف من حقوق العباد على القول الأول وعلى القول الثاني هو كسائر الحقوق –كما سبق-.
(1)
تبيين الحقائق، 3/ 188. تنبيه: نسبه بعض الحنيفية للشافعي، ولم أجده في كتب الشافعية فيما اطلعت عليه من المصادر.
(2)
ينظر: مراسيل الحسن البصري عن الصحابة جمعًا ودراسة، بحث منشور في مجلة أصول الشريعة للأبحاث التخصصية، ص: 99، للدكتور عادل بن عبد الشكور الزرقي (أستاذ الحديث الشريف بجامعة الملك سعود).
المبحث الثاني: أثر المسافة في حد قطاع الطريق:
تعريف قطاع الطريق:
جاء في كتب الحنفية ما يفيد تعريف قطاع الطريق وهو قولهم: قوم "لهم منعة وشوكة بحيث لا تمكن للمارة المقاومة معهم، وقطعوا الطريق عليهم سواء كان بالسلاح أو بالعصا الكبيرة والحجر وغيرها"
(1)
.
صورة المسألة:
لو أن أشخاصًا أشهروا السلاح على الأبرياء داخل المدينة أو قريباً منها هل يعدون من قطاع الطرق أم لا؟
هذه مسألة ترد في كتب الحنفية في كتاب السرقة عند ذكر شروط حد قطع الطريق
(2)
، ومن تلك الشروط البعد عن العمران، وقد اختلفوا فيه على قولين:
القول الأول: قطع الطريق يكون خارج المصر بعيداً عنه وليس فيه أو قريبًا منه أو بين مصرين؛ لأن قطع الطريق بانقطاع المارة لا يمتنعون عن المشي في هذه المواضع فيلحقهم الغوث ساعة بعد ساعة من المسلمين أو من جهة الإمام، وهو قول الطرفَيْن
(3)
.
القول الثاني: ما يكون في المصر ليلاً
(4)
أو بينهم وبين المصر أقل من مسيرة سفر، وهو قول أبي يوسف، وعليه الفتوى لمصلحة الناس بدفع شر المتغلبة المفسدين
(5)
.
ويظهر أن هذه المسألة من مسائل اختلاف العصر والزمان وليس الحجة والبرهان، لأن قول أبي حنيفة مبني على ما شاهد في زمانه، فإن أهل الأمصار كان يحملون الأسلحة، فلا يتمكن قاطع الطريق من مغالبتهم، بخلاف ما كان في زمن أبي يوسف، والله أعلم
(6)
.
(1)
تحفة الفقهاء، 3/ 155.
(2)
المرجع السابق.
(3)
تحفة الفقهاء، 3/ 155، الاختيار، 4/ 116.
(4)
الهداية، 2/ 377.
(5)
الاختيار، 4/ 116.
(6)
ينظر: الاختيار، 4/ 116.
دراسة المسألة دراسة مقارنة:
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن من أشهر السلاح على المارة خارج الأمصار فيغصب المال مجاهرة يعد من قطاع الطرق
(1)
، واختلفوا فيما لو فعل ذلك داخل المدينة أو قريباً منها على قولين:
القول الأول: لا يشترط البعد عن العمران إنما فقد الغوث، وهو قول الحنفية المفتى به -كما سبق-، والمالكية
(2)
، والشافعية
(3)
، وكثير من الحنابلة
(4)
.
القول الثاني: اشتراط البعد عن العمران، وهو قول مرجوح عند الحنفية -كما سبق-، وقول عند الحنابلة
(5)
.
الأدلة والمناقشات:
أدلة القول الأول:
استدل القائلون بعدم اشتراط البعد عن العمران بأدلة، منها:
الدليل الأول: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 33].
(1)
ينظر: تحفة الفقهاء، 3/ 155، الاختيار، 4/ 116، بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 238، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 4/ 348، مغني المحتاج، 5/ 499، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، 8/ 4، المبدع في شرح المقنع، 7/ 458، زاد المستقنع، ص:223.
(2)
بداية المجتهد وكفاية المقتصد، 4/ 238، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 4/ 348.
(3)
مغني المحتاج، 5/ 499، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، 8/ 4، حاشية الجمل على شرح المنهج، 5/ 153.
(4)
المبدع في شرح المقنع، 7/ 458، زاد المستقنع، ص: 223، وصاحب الروض المربع ذكر البحر أيضاً. ينظر: الروض المربع، ص:677. وخالفهم الخرقي والكلذاني بحيث نصوا على الصحارى والبراري دون البنيان. ينظر: مختصر الخرقي، ص: 136، الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص:540.
(5)
مختصر الخرقي، ص: 136، الهداية على مذهب الإمام أحمد، ص:540.
وجه الدلالة: عموم آية الحرابة، ولا يوجد تخصيص لها من حيث مكان الحرابة
(1)
.
الدليل الثاني: لأن ضررهم في المصر أعظم، فكانوا بالحد أولى
(2)
.
يمكن أن يناقش بأنه في حالة لم تكن الأسلحة موجودة بأيدي الناس مع تمكنهم منها، وهذا يختلف من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان، فلا يمكن إطلاق القول فيه.
أدلة القول الثاني:
اسدل القائلون باشتراط البعد عن العمران بأدلة، منها:
الدليل الأول: الواجب في ذلك يُسمَّى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء.
(3)
يمكن أن يناقش بالدليل الثاني من القول الأول بحيث يقال: إن ضررهم في الأمصار والقرى أعظم، كما يمكن أن يقال بأنه من يسافر ويخرج إلى الصحارى يتهيأ لذلك غالباً، فيصطحب من يدله الطريق حتى يتجنب قطاع الطريق، وأيضاً يحمل السلاح بخلاف أهل القرى، والله أعلم.
الدليل الثاني: ولأن من في المصر يلحق به الغوث غالباً
(4)
، فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع، ولا حد عليه
(5)
.
يمكن أن يُناقش بأنه يختلف باختلاف الزمان والمكان، ومعرفة الناس بأمور القتال والأسلحة وتوفرها عندهم وحال البلد وحزم الحكومات مع هؤلاء.
(1)
ينظر: المبدع في شرح المقنع، 7/ 458.
(2)
ينظر: المبدع في شرح المقنع، 7/ 458، وقد ذكر الدليلين ووجه دلالة الأول.
(3)
المغني، 9/ 144.
(4)
الاختيار، 4/ 116.
(5)
المغني، 9/ 144.
الترجيح:
بعد استعراض القولين وأدلتهما يظهر للباحث أن الخلاف بينهما خلاف تنوع وليس خلاف تضاد؛ لأن كل واحد منهم تمسك بمبدأ الغوث ولحوقه بالمتضررين من الحرابة؛ فمن كان خارج الأمصار فالغوث يتأخر فسموا المحاربين، وكذا من كان داخل الأمصار لكن لا يوجد الغوث من السلطان للبعد أو لو افترضنا أنه سيتأخر بسبب من الأسباب مثل الكوارث الطبيعية كالسيول والثلوج وغيرها
(1)
، وكذا عدم وجود الأسلحة بأيدي الناس حتى يدافعوا عن أنفسهم في حين تأخر الغوث من الشرطة أو الجيش، وهو حال الناس اليوم في أغلب الدول.
وعليه فإن القول بأن البعد عن العمران ليس بشرط لتطبيق حد الحرابة متجه لما ذكرتُ من الأسباب، ويقال بعكس ذلك لو لم تتوفر تلك الأسباب، والله أعلم.
(1)
رابط الدراسة على موقع العلوم التطبيقية، ورابطه:
http:// bit.ly/ hanafyfive
الخاتمة
في خاتمة هذا الجهد المتواضع أشكر الله عز وجل على ما منّ علي من نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يسر لي إتمام البحث مع ما فيه من القصور، فما كان صواباً فمن الله، وما كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان.
كما أشكر كل شخص أفادني بملحوظة أو اقتراح أو تعديل أو إضافة، وأسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء في الدارين.
كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به كاتبه وقارئه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن أبرز النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث ما يلي:
1.
أدوار الفقه الإسلامي بشكل عام سبعة، وهي: دور التأسيس، ثم عصر الصحابة والتابعين، ثم دور التأصيل والتفريع، ثم دور التطبيق ثم دور النقد والتنقيح والاختيار، ثم دور التفقه أو توليد المسائل، وفي الأخير دور احتكاك الفقه بالقوانين الوضعية.
2.
أدوار المذهب الحنفي ثلاثة، وهي دور النشوء والتكوين، ثم دور التوسع والنمو والانتشار، ثم دور الاستقرار.
3.
تنوَّعت طرائق علماء المذهب الحنفي في تقسيم الفقهاء في طبقات، فمنهم من قسمهم بحسب مكانتهم العلمية، ومنهم من قسمهم بحسب وجودهم الزمني ومنهم من قسمهم بحسب المجموعات مع ذكر بعض مناقبهم، وتقسيمهم بحسب وجودهم الزمني أضبط.
4.
طبقات المسائل الفرعية عند الحنفية ثلاث: الأولى: مسائل الأصول وهي مسائل ظاهر الرواية، وهي المسائل التي رُويت عن العلماء الثلاثة أصحاب المذهب، وقد يلحق بهم زفر والحسن، وهي ما وجد في كتب محمد وهي المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير والجامع الكبير والسير الصغير والسير الكبير، الثانية: مسائل النوادر وهي مسائل رويت عن أصحاب المذهب المذكورين، لكن في غير الكتب المذكورة، الثالثة: الفتاوى وتسمى الواقعات، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون ولم يجدوا فيها رواية عن أصحاب المذهب.
5.
تقسيم الكتب في المذهب الحنفي من حيث الاعتماد عليها واعتبار المسائل التي فيها يكون بأكثر من اعتبار: أولاً: من حيث الرواية وهي ظاهر الرواية والنوادر والفتاوى، ثانيا: من حيث تقديم بعضها على بعض في الاعتماد وهي المتون ثم الشروح ثم الفتاوى، ثالثاً: من حيث مصدرها وبناء بعضها على بعض، وهي كتب الأصول وكتب النوادر، ثم الكتب التي جمعت واختصرت كتب ظاهر الرواية كلها أو بعضها، ثم الكتب التي شرحت ما جمع واختصر من كتب ظاهر الرواية.
6.
لفقهاء المذهب الحنفي مصطلحات خاصة بهم ترد في كتبهم ويقصدون بها معنى معيناً مثل مصطلحات خاصة بالكتب والمصنفات، أو مصطلحات خاصة بالأعلام والأئمة، أو مصطلحات خاصة بعلامات الفتوى والترجيح، ومن هذه المصطلحات ما هو عام في كتب المذهب، ومنها ما هو خاص بكتاب معين.
7.
المصطلحات الخاصة بعلامات الفتوى والترجيح في المذهب الحنفي هي المصطلحات التي تُستعمل للدلالة على القول المختار في المذهب، ومنها على سبيل المثال: عليه الفتوى، وبه يُفتى، وبه نأخذ، وعليه الاعتماد، وعليه عمل اليوم، وهو الصحيح، وهو الأصح، وهو الظاهر، وهو الأظهر، وهو المختار، وعليه فتوى مشايخنا، وهو الأشبه، وهو الأوجه، وأقواها عليه الفتوى أو به يُفتى، ولم أجد أحداً سبق السرخسي في إطلاق اللفظ.
8.
قواعد الترجيح في المذهب الحنفي يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع: الأول: قواعد الترجيح المتعلقة بطبقات الكتب والمسائل، الثاني: قواعد الترجيح المتعلقة بالأشخاص، الثالث: قواعد الترجيح المتعلقة بالموضوعات، الرابع: قواعد الترجيح المتعلقة بالمصطلحات.
9.
طبقة العلماء المتأخرين في المذهب الحنفي هي طبقة زمنية لا علمية تشمل جميع فقهاء المذهب الحنفي الذين عاشوا من بعد موت شمس الدين الحلواني (ت 456 هـ) إلى موت حافظ الدين البخاري (ت 693 هـ).
10.
الماء المستعمل عند الحنفية طاهر غير طهور، والراجح في المسألة أنه طاهر طهور مع أن عدم استعماله أولى.
11.
الحنفية يرون أن الماء القليل الراكد إذا وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به، قليلاً كانت النجاسة أو كثيراً، والراجح أن الماء القليل إذا خالطته النجاسة ولم تغيره طاهر.
12.
يجوز عند الحنفية المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين لا يشفان، وهو الراجح في المسألة.
13.
النبيذ لا يأخذ حكم الماء من حيث الوضوء به، وعليه فإن وجوده قبل الصلاة لا يمنع التيمم، كما أن رؤيته أثناء الصلاة لا يبطلها.
14.
عند الحنفية حكم الحيض والنفاس والاستحاضة لا يثبت إلا بظهور الدم وبروزه، وهو قول بقية المذاهب.
15.
عند الحنفية تثبت العادة الشهرية في وقتها الجديد بعد رؤيتها مرة، وهو الراجح في المسألة.
16.
يحدد سن اليأس عند الحنفية بخمس وخمسين سنة، والراجح في المسألة أنه لا يحدد بمدة معلومة، بل يرجع إلى اعتبارات كثيرة مختلفة.
17.
نجاسة الخف ونحوه تطهر بالدلك بالأرض كما تطهر بالغسل عند الحنفية، وهو الراجح في المسألة.
18.
اتفق العلماء على أن وقت صلاة المغرب يبدأ حين تغرب الشمس تماماً وعند الحنفية ينتهي وقت المغرب بغياب الشفق، وهو الحمرة، وهو الراجح في المسألة.
19.
لا يجوز السجود على الأنف دون الجبهة عند الجميع.
20.
عند الحنفية يبدأ وقت تكبير التشريق من عقيب صلاة الفجر يوم عرفة وينتهي عقيب صلاة العصر آخر يوم التشريق، وهو الراجح في المسألة.
21.
لا خلاف بين العلماء في أن التحايل لإسقاط الزكاة أمر لا يجوز في دين الله.
22.
إذا قتل محرم صيداً في يد محرم آخر فعلى كل واحد منهما الجزاء كاملاً، والآخذ لا يرجع على القاتل، وذلك عند الحنفية، والراجح أن الجزاء على القاتل وحده.
23.
عند تحديد الغيبة المنقطعة للولي الأقرب يرجع إلى العرف.
24.
اتفق الفقهاء على أن النسب يثبت في النكاح الفاسد إذا اتصل به دخول حقيقي، واختلفوا في بدء اعتبار مدة النسب فيه، والراحج أنها تبدأ من حين الدخول أو الوطء.
25.
يجوز للزوج أن يسافر بالزوجة إذا أعطاها مهرها إلى أي مكان يريد بشرط أمن الطريق والبلد وصلاح الزوج.
26.
الطلاق بغير العربية يقع إذا كان بالألفاظ التي لا تستعمل إلا في الطلاق في تلك اللغة، فيكون صريحاً كما في العربية.
27.
عند الحنفية لا يصح ظهار الذمي، وهو الراجح في المسألة.
28.
عند الحنفية قول: كل حلال عليّ حرام يحمل على الطلاق بغير نية، وهو الراجح في المسألة.
29.
اللؤلؤ من الحلي، فمن حلف ألا يلبس حلياً فلبس اللؤلؤ حنث عند الجميع.
30.
من حلف أن لا يتكلم فإنه لا يحنث بقراءة القرآن مطلقاً سواء داخل الصلاة أم خارجها.
31.
اتفق الفقهاء على أن المعتبر في نفقة الزوجة حال الزوج إذا كانا معسرين أو موسرين، واختلفوا إذا كان أحدهما موسراً والآخر معسراً، والراجح أن المعتبر حالهما معاً.
32.
لو حُبست امرأة في دين عليها فإن لها نفقة وقت حبسها وكذا في السفر مع المحرم لأداء الحج.
33.
حد اليسار الموجب لنفقة الأقارب هو مقدر بما يفضل عن قوته وقوت زوجته في يومه وليله.
34.
القول بمنع الاستئجار لتعليم القرآن أقرب للصواب، لكن قد يُستثنى للضرورة أو الحاجة الماسة أو ما تعم به البلوى فيقال بجواز الاستئجار خشية ضياع الحفظ.
35.
الشفعة حق ثابت يسقط بمجرد التأخير، وإنما إذا فرط الشفيع بتأخير المطالبة تأخيراً يضر بالمشتري أو البائع عرفاً، وبلا عذر، ولا تسقط بالتحايل على ذلك.
36.
اتفق الفقهاء على أن المرسل إذا أدرك الصيد وبه حياة مستقرة ويتوهم بقاؤه على قيد الحياة فإنه لا يحل إلا بالتذكية، ولو أدركه وبه حياة غير مستقرة فالراجح أنه يحل أكله، ولا حاجة إلى التذكية.
37.
يصح بيع ما يعرض بالنموذج، ورؤية النموذج أو العينة من المبيع تبطل خيار الرؤية في كله.
38.
شخص اشترى طعاماً فأكل بعضه ثم علم بالعيب فيه فله أن يرد الباقي ويرجع بنقصان ما أكل منه.
39.
يجوز بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلاً، وكذا نسيئة إذا كان الخبز نسيئة عند الحنفية، والراجح أن الخبز الآن عددي.
40.
يجوز بيع الكرباس الذي هو الثياب المصنوع من القطن بالقطن؛ لأنه بيع غير الموزون، بل بيع العددي بالموزون فلا علة الربا.
41.
جمهور العلماء على أنه يجوز استقراض الخبز ما عدا الشافعية، والخلاف في كيفية استقراضه وليس أصل الحكم.
42.
الحنفية يرون جواز السلم في الخبر وزناً وعدداً؛ لأنه صنع الناس وقد اعتادوه، وهو الراجح في المسألة.
43.
المزارعة مشروعة عند الجميع مع اختلافهم في بعض صورها وشروطها.
44.
يجوز في الزراعة اشتراط الأعمال التي ليست منها للعرف والعادة.
45.
المساقاة عند فقهاء الحنفية كالمزارعة حكماً وخلافاً وشروطاً إلا المدة، وهي جائزة عند الجميع.
46.
اتفقت المذاهب على جواز وقف العقار، والمنقول في الجملة.
47.
اتفق الفقهاء على أنه لا استحلاف في الحدود؛ لأنها حق الله إلا إذا تعلق بها حق الآدمي مثل حد القذف، وأما حقوق الآدميين فإن كانت بمال أو المقصود منه المال فاليمين مشروعة بلا خلاف أيضاً، وأما ما ليس بمال ولا المقصود منه المال -وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء- فقد اختلفوا في ذلك، والراجح جوازه.
48.
اتفق الفقهاء على أن السؤال عن حال الشهود إذا طُعنوا من قبل الخصم يتعين على القاضي، واختلفوا فيما لو لم يطعن فيه وعدالته ظاهرة، والراجح أن يرجع إلى اختلاف زمان ومكان.
49.
الحقوق التي يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي هي: المال والقصاص والعقوبات والعفو وغيرها إن كان القاضي الكاتب أهلاً للقضاء، وكذا رده إن كان غير أهل لذلك.
50.
عند الحنفية قسمة البناء الذي له علو وسفل تكون بالقيمة على الراجح، وهو قول بقية المذاهب.
51.
القول بتحديد سن البلوغ بخمس عشرة سنة إذا لم تظهر بقية العلامات هو قول عامة الفقهاء.
52.
القول بأن القاضي له أن يبيع على المديون عروضه وعقاره هو قول المذاهب الأربعة.
53.
اتفق الفقهاء على كيفية تقدير الحكومة وهي طريقة تقويم المملوك وما نقص من قيمته بعد الجناية عليه، وهي اجتهاد منهم لا نص عليها، وعليه فلا مانع من الاجتهاد في طرق أخرى لتحديد الحكومة، وخاصة في وقتنا الذي لا يوجد فيه الرق ولا يوجد فيه من يعرف أو يمكن أن يستند إلى قوله في تحديد قيمة المملوك.
54.
إن تقادم الحد لا أثر له من حيث قبول الشهادة عليه عند جمهور العلماء.
55.
حد الحرابة يطبق على قطاع الطريق الذين أشهروا سلاحهم داخل القرى والمدن والبعد عن العمران ليس شرطاً لتطبيق الحد.
وأما توصيات البحث فهي على النحو الآتي:
• توسيع النطاق في موضوعات المذهب الحنفي من حيث المصطلحات ومناهج العلماء وأثر البيئة المحيطة بهم على ذلك، وقد مر في مسألة القسمة شيء من ذلك.
• تسجيل رسائل علمية في موضوعات أثر التقنية الحديثة والصناعة المتقدمة على ترجيحات العلماء، وقد سبق في هذا البحث أن الباحث رجح قولاً على قول أو جمع بينهما؛ نظراً لما في هذا العصر من المعطيات العلمية الحديثة.
• ربط الفقه ومسائله بعلوم تطبيقية وبيان أثرها عليه في هذا الوقت، وما يمكن الاستفادة منها في دراسة المسائل الفقهية وترجيح الأقوال فيها.
أسأل الله عز وجل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني وأن ينفع به كاتبه وقارئه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فهرس
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
كتب التفسير وعلومه
1.
إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين بن أحمد مصطفى درويش (المتوفى: 1403 هـ)، دار الإرشاد للشئون الجامعية - حمص - سورية، (دار اليمامة - دمشق - بيروت)، (دار ابن كثير - دمشق - بيروت)، الطبعة الرابعة، 1415 هـ.
2.
تفسير الجلالين، جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى: 864 هـ) وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، دار الحديث - القاهرة، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.
3.
تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ)، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 1990 م.
4.
جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
5.
الجامع لأحكام القرآن أو تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671 هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة الثانية، 1348 هـ - 1964 م.
6.
مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 هـ)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثالثة، 1420 هـ.
كتب الحديث وعلومه
مصطلح الحديث
1.
تدريب الراوي، لعبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، تحقيق: أبي قتيبة نظر محمد الفارياني، دار الطيبة، بدون طبعة وتاريخها.
2.
معرفة أنواع علوم الحديث، ويُعرف بمقدمة ابن الصلاح، لعثمان بن عبد الرحمن، أبوعمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (المتوفى: 643 هـ)، تحقيق: نور الدين عتر، دار الفكر - سوريا، دار الفكر المعاصر - بيروت، بدون طبعة، 1406 هـ - 1986 م.
المتون الحديثية وشروحها
1.
الاستذكار، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى: 463 هـ)، تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
2.
البدر التمام شرح بلوغ المرام، الحسين بن محمد بن سعيد اللاعيّ، المعروف بالمَغرِبي (المتوفى: 1119 هـ)، تحقيق: علي بن عبد الله الزبن، دار هجر، الطبعة الأولى، ج 1 - 2 (1414 هـ - 1994)، ج 3 - 5 (1424 هـ - 2003 م)، ج 6 - 10 (1428 هـ - 2007 م).
3.
سبل السلام، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير (المتوفى: 1182 هـ)، دار الحديث، بدون طبعة وتاريخ.
4.
سنن ابن ماجه، ابن ماجه أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجه اسم أبيه يزيد (المتوفى: 273 هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، بدون طبعة وتاريخ.
5.
سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275 هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
6.
سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275 هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد كامل قرة بللي، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، 1430 هـ - 2009 م.
7.
سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279 هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر، الطبعة الثانية، 1395 هـ - 1975 م.
8.
سنن الدارقطني، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار البغدادي الدارقطني (المتوفى: 385 هـ)، حقَّقه وضبط نصه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، حسن عبد المنعم شلبي، عبد اللطيف حرز الله، أحمد برهوم، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م.
9.
السنن الصغير للبيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458 هـ)، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي باكستان، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1989 م.
10.
السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303 هـ)، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي بإشراف شعيب الأرناؤوط، وقدَّم له عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م.
11.
السنن الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458 هـ)، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1424 هـ - 2003 م.
12.
شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المعروف بابن دقيق العيد (المتوفى: 702 هـ)، حقَّقه وعلَّق عليه وخرج أحاديثه: محمد خلوف العبد الله، دار النوادر، سوريا، الطبعة الثانية، 1430 هـ - 2009 م.
13.
شرح سنن ابن ماجه، مجموع من ثلاثة شروح: الأول: «مصباح الزجاجة» للسيوطي (ت 911 هـ)، والثاني:«إنجاح الحاجة» لمحمد عبد الغني المجددي الحنفي (ت 1296 هـ)، والثالث:«ما يليق من حل اللغات وشرح المشكلات» لفخر الحسن بن عبد الرحمن الحنفي الكنكوهي (1315 هـ)، قديمي كتب خانة - كراتشي، بدون طبعة وتاريخ.
14.
شرح صحيح البخاري لابن بطال، ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (المتوفى: 449 هـ)، تحقيق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد - السعودية، الرياض، الطبعة الثانية، 1423 هـ - 2003 م.
15.
شرح معاني الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي (المتوفى: 321 هـ)، حقَّقه وقدَّم له:(محمد زهري النجار - محمد سيد جاد الحق) من علماء الأزهر الشريف، راجعه ورقَّم كتبه وأبوابه وأحاديثه: د يوسف عبد الرحمن المرعشلي - الباحث بمركز خدمة السنة بالمدينة النبوية، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م.
16.
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354 هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1993 م.
17.
صحيح ابن خزيمة، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311 هـ)، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي - بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
18.
صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422 هـ.
19.
صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261 هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
20.
طرح التثريب في شرح التقريب (المقصود بالتقريب: تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد)، أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي (المتوفى: 806 هـ)، أكمله ابنه: أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين الكردي الرازياني ثم المصري، أبو زرعة ولي الدين، ابن العراقي (المتوفى: 826 هـ)، الطبعة المصرية القديمة، بدون رقم الطبعة وتاريخها.
21.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى (المتوفى: 855 هـ)، دار إحياء التراث العربي-بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
22.
عون المعبود شرح سنن أبي داود، ومعه حاشية ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، محمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر، أبو عبد الرحمن، شرف الحق، الصديقي، العظيم آبادي (المتوفى: 1329 هـ)، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الثانية، 1415 هـ.
23.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار المعرفة، بيروت، بدون طبعة، 1379 هـ.
24.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَّلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795 هـ)، تحقيق مجموعة من المحققين، مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة النبوية، الحقوق لمكتب تحقيق دار الحرمين-القاهرة، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 هـ.
25.
الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235 هـ)، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى، 1409 هـ.
26.
الكنى والأسماء، أبو بِشْر محمد بن أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الدولابي الرازي (المتوفى: 310 هـ)، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، دار بن حزم - بيروت \ لبنان، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
27.
المجتبى من السنن أو السنن الصغرى للنسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303 هـ)، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م.
28.
المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405 هـ)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990 م.
29.
المستدرك مع تلخيصه، الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت 848 هـ)، دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1341 هـ.
30.
مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241 هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد وآخرون، بإشراف عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م.
31.
مسند الدارمي المعروف ب (سنن الدارمي)، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي، التميمي السمرقندي (المتوفى: 255 هـ)، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 2000 م.
32.
معرفة الآثار والسنن، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (المتوفى: 458 هـ)، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، الناشرون: جامعة الدراسات الإسلامية (كراتشي - باكستان)، دار قتيبة (دمشق -بيروت)، دار الوعي (حلب - دمشق)، دار الوفاء (المنصورة - القاهرة)، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 1991 م.
33.
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ.
34.
موطأ مالك برواية محمد بن الحسن الشيباني، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179 هـ)، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، المكتبة العلمية، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
35.
الموطأ، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179 هـ)، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي - الإمارات، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م.
36.
نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250 هـ)، تحقيق: عصام الدين الصابطي، دار الحديث، مصر، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م.
علل الحديث
1.
شرح علل الترمذي، لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795 هـ)، تحقيق: الدكتور همام عبد الرحيم سعيد، مكتبة المنار - الزرقاء - الأردن، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م.
2.
علل الترمذي الكبير، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279 هـ)، رتبه على كتب الجامع أبو طالب القاضي، تحقيق: صبحي السامرائي، أبو المعاطي النوري، محمد خليل الصعيدي، عالم الكتاب، مكتبة النهضة العربية - بيروت، الطبعة الأولى، 1409 ه
3.
علل الدارقطني أو العلل الواردة في الأحاديث النبوية، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار البغدادي الدارقطني (المتوفى: 385 هـ)، تحقيق (من المجلد الأول إلى الحادي عشر): محفوظ الرحمن زين الله السلفي، دار طيبة - الرياض، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م، مع تعليق (من المجلد الثاني عشر إلى الخامس عشر): محمد بن صالح بن محمد الدباسي، دار ابن الجوزي - الدمام، الطبعة الأولى، 1427 هـ.
الجرح والتعديل
1.
تهذيب التهذيب، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 هـ)، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1326 هـ.
2.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال، يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي (المتوفى: 742 هـ)، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م.
3.
الثقات، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354 هـ)، طبع بإعانة: وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية، تحت مراقبة: محمد عبد المعيد خان مدير دائرة المعارف العثمانية، دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند، الطبعة الأولى، 1393 هـ - 1973 م.
4.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748 هـ)، علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1382 هـ - 1963 م.
الأجزاء الحديثية
1.
إبطال الحيل، أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة العكبري (المتوفى: 387 هـ)، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ.
التخريج والزوائد
1.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، إشراف زهير الشاوش، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ - 1985 م.
2.
إعلاء السنن لظفر أحمد العثماني التهاوني (المتوفى: 1394 هـ)، تحقيق: محمد تقي عثماني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1418 هـ
3.
البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري (المتوفى: 804 هـ)، تحقيق: مصطفى أبو الغيط وعبد الله بن سليمان وياسر بن كمال، دار الهجرة للنشر والتوزيع - الرياض - السعودية، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 هـ.
4.
التحقيق في أحاديث الخلاف، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ)، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.
5.
التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان وتمييز سقيمه من صحيحه، وشاذه من محفوظه، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، دار باوزير للنشر والتوزيع، جدة - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م.
6.
تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: 744 هـ)، تحقيق: سامي بن محمد بن جاد الله وعبد العزيز بن ناصر الخباني، أضواء السلف - الرياض، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.
7.
تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: 744 هـ)، تحقيق: سامي بن محمد بن جاد الله وعبد العزيز بن ناصر الخباني، أضواء السلف، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.
8.
الدراية في تخريج أحاديث الهداية، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 هـ)، تحقق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، دار المعرفة - بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
9.
صحيح أبي داود، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع - الكويت، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م.
10.
صحيح سنن الترمذي - ضعيف سنن الترمذي، ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م.
11.
صحيح سنن النسائي، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1419 هـ - 1998 م.
12.
صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ)، ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع لصاحبها سعد بن عبد الرحمن الراشد - الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1417 هـ - 1997 م.
13.
ضعيف أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى: 1420 هـ)، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى، 1423 هـ.
14.
ما صح من آثار الصحابة في الفقه، زكريا بن غلام قادر الباكستاني، دار الخراز- جدة، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
15.
مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى: 840 هـ)، تحقيق: محمد المنتقي الكشناوي، دار العربية - بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ.
16.
نصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي، جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي (المتوفى: 762 هـ)، صححه ووضع الحاشية: عبد العزيز الديوبندي الفنجاني، إلى كتاب الحج، ثم أكملها محمد يوسف الكاملفوري، تحقيق: محمد عوامة، مؤسسة الريان للطباعة والنشر - بيروت -لبنان/ دار القبلة للثقافة الإسلامية- جدة - السعودية، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.
كتب الفقه وأصوله
تاريخ الفقه الإسلامي
1.
أبو حنيفة حياته وعصره آراؤه الفقهية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
2.
تاريخ الفقه الإسلامي، إلياس دردور، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1431 هـ - 2010 م.
3.
دراسات في الفقه الإسلامي، عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان ومحمد إبراهيم أحمد علي، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، الكتاب السادس والعشرون، بدون تاريخ وطبعة.
4.
رسالة في بيان الكتب التي يعول علها وبيان طبقات علماء المذهب الحنفي والرد على ابن كمال باشا، محمد بخيت المطيعي، بعناية حسن السماحي سويدان، دار القادري للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1429 هـ - 2008 م.
5.
المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقاء، دار البشير - جدة، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1998 م.
6.
المدخل الوسيط لدراسة الشريعة الإسلامية والفقه والتشريع، نضر فريد محمد واصل، المكتبة التوفيقية، بدون طبعة وتاريخها.
7.
المدخل إلى علم الفقه، سليمان بن عبد الله بن حمود أبا الخيل، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2016 هـ
8.
المدخل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، أحمد سعيد حوى، دار الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى، 1432 هـ - 2002 م.
9.
المدخل في الفقه الإسلامي، محمد مصطفى الشلبي، الدار الجامعية، الطبعة العاشرة، 1405 هـ - 1985 م.
10.
نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي، علي حسن عبد القادر، مكتبة القاهرة الحديثة، الطبعة الثانية، 1956 م.
أصول الفقه
1.
الإحكام في أصول الأحكام، أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631 هـ)، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت - دمشق - لبنان، بدون طبعة وتاريخها.
2.
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250 هـ)، تحقيق: الشيخ أحمد عزو عناية، دمشق - كفر بطنا، قدم له الشيخ خليل الميس والدكتور ولي الدين صالح فرفور، دار الكتاب العربي، الطبعة الطبعة الأولى 1419 هـ - 1999 م.
3.
الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري (المتوفى: 970 هـ)، وضع حواشيه وخرج أحاديثه: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1999 م.
4.
الأشباه والنظائر، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990 م.
5.
إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ)، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م.
6.
البحر المحيط في أصول الفقه، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794 هـ)، دار الكتبي، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م.
7.
التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885 هـ)، تحقيق: عبد الرحمن الجبرين، عوض القرني، أحمد السراح، مكتبة الرشد - السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
8.
تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885 هـ)، تحقيق: عبد الله هاشم، د. هشام العربي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، الطبعة الأولى، 1434 هـ - 2013 م.
9.
تقرير القواعد وتحرير الفوائد [المشهور ب «قواعد ابن رجب»]، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (المتوفى: 795 هـ)، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
10.
التوضيح شرح التنقيح، للقاضي صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي، نسخة مصورة من قِبل شركة غوغل، وموجودة في مكتبة جامعة برينستون، المطبعة الإمبراطورية، أذنت بطباعتها نظارة المعارف الروسية، 1301 هـ.
11.
شرح القواعد الفقهية، أحمد بن الشيخ محمد الزرقا [1285 هـ - 1357 هـ]، صححه وعلق عليه: مصطفى أحمد الزرقا، دار القلم - دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 1409 هـ - 1989 م.
12.
شرح مختصر الروضة، سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (المتوفى: 716 هـ)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م.
13.
العدة في أصول الفقه، القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458 هـ)، حققه وعلق عليه وخرج نصه: د أحمد بن علي بن سير المباركي، الأستاذ المشارك في كلية الشريعة بالرياض - جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الثانية 1410 هـ - 1990 م.
14.
الكافي شرح البزدوي، حسام الدين السِّغْنَاقي، تحقيق: فخر الدين سيد محمد قانت (رسالة دكتوراه)، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.
15.
المحصول، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 هـ)، تحيق: طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1418 هـ - 1997 م.
16.
المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505 هـ)، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م.
17.
المسودة في أصول الفقه، آل تيمية [بدأ بتصنيفها الجدّ: مجد الدين عبد السلام بن تيمية (ت: 652 هـ)، وأضاف إليها الأب: عبد الحليم بن تيمية (ت: 682 هـ)، ثم أكملها الابن الحفيد: أحمد بن تيمية (728 هـ)]، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربي، بدون طبعة وتاريخ.
18.
الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790 هـ)، تحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.
19.
موسوعة القواعد الفقهية، محمد صدقي بن أحمد بن محمد آل بورنو أبو الحارث الغزي، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م.
20.
نهاية السول شرح منهاج الوصول، عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعيّ، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 772 هـ)، دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1420 هـ- 1999 م.
21.
نهاية الوصول في دراية الأصول، صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي الهندي (715 هـ)، تحقيق: صالح بن سليمان اليوسف - د. سعد بن سالم السويح، أصل الكتاب رسالتا دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المكتبة التجارية بمكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م.
22.
الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق - سوريا، الطبعة: الثانية، 1427 هـ - 2006 م.
الفقه الحنفي
1.
اختلاف أبي حَنيفة وابن أبي ليلى، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة الأنصاري (المتوفى: 182 هـ)، عني بتصحيحه والتعليق عليه: أبو الوفا الأفغاني، لجنة إحياء المعارف النعمانية، الهند، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.
2.
الاختيار لتعليل المختار، عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي البلدحي، مجد الدين أبو الفضل الحنفي (المتوفى: 683 هـ)، عليها تعليقات الشيخ محمود أبو دقيقة، مطبعة الحلبي - القاهرة، 1356 هـ - 1937 م.
3.
الأصل المعروف بالمبسوط، أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني (المتوفى: 189 هـ)، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية - كراتشي، بدون طبعة وتاريخ.
4.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري (المتوفى: 970 هـ)، وفي آخره: تكملة البحر الرائق لمحمد بن حسين بن علي الطوري الحنفي القادري (ت بعد 1138 هـ)، وبالحاشية: منحة الخالق لابن عابدين، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية - بدون تاريخ.
5.
بداية المبتدي في فقه الإمام أبي حنيفة، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، أبو الحسن برهان الدين (المتوفى: 593 هـ)، مكتبة ومطبعة محمد علي صبح - القاهرة، بدون تاريخ وطبعة.
6.
بدائع الصنائع، علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي (المتوفى: 587 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م.
7.
البناية شرح الهداية، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى (المتوفى: 855 هـ)، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
8.
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ، عثمان بن علي بن محجن البارعي، فخر الدين الزيلعي الحنفي (المتوفى: 743 هـ)، والحاشية: شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن يونس بن إسماعيل بن يونس الشِّلْبِيُّ (المتوفى: 1021 هـ)، المطبعة الكبرى الأميرية - بولاق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1313 هـ.
9.
التجريد، أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان أبو الحسين القدوري (المتوفى: 428 هـ)، تحقيق: مركز الدراسات الفقهية والاقتصادية، محمد أحمد سراج وعلي جمعة محمد، دار السلام - القاهرة، الطبعة الثانية، 1427 هـ - 2006 م.
10.
تحفة الفقهاء، محمد بن أحمد بن أبي أحمد، أبو بكر علاء الدين السمرقندي (المتوفى: نحو 540 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1994 م.
11.
تحفة الملوك (في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان)، زين الدين محمد بن أبي بكر الرازي الحنفي (المتوفى: 666 هـ)، تحقيق: عبد الله نذير أحمد، دار البشائر الإسلامية - بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
12.
التقرير والتحبير، أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن أمير حاج ويقال له ابن الموقت الحنفي (المتوفى: 879 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م.
13.
التنبيه على مشكلات الهداية، صدر الدين عليّ بن عليّ ابن أبي العز الحنفي (المتوفى 792 هـ)، تحقيق: عبد الحكيم بن محمد شاكر (ج 1، 2، 3) - أنور صالح أبو زيد (ج 4، 5)، أصل الكتاب: رسالة ماجستير- الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م.
14.
الجامع الصغير مع شرحه النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير، أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، باكستان - كراتشي، بدون طبعة، 1411 هـ - 1990 م
15.
جامع المضمرات شرح مختصر القدوري (مخطوط)، يوسف بن عمر بن يوسف الكدوري (ت 832 هـ)، موجود في مكتبة الملك عبد العزيز العامة، عدد الصفحات: 657، بدون معلومات إضافية.
16.
الجوهرة النيرة على مختصر القدوري، أبو بكر بن علي بن محمد الحدادي العبادي الزَّبِيدِيّ اليمني الحنفي (المتوفى: 800 هـ)، المطبعة الخيرية، الطبعة الأولى، 1322 هـ.
17.
حلبي كبير (غنية المتملي في شرح منية المصلي المشتهر بشرح الكبير)، إبراهيم الحلبي، دار سعادت، بدون طبعة، 1325 هـ.
18.
الخراج، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة الأنصاري (المتوفى: 182 هـ)، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد وسعد حسن محمد، المكتبة الأزهرية للتراث، طبعة جديدة مضبوطة مفهرسة ومحققة، بدون تاريخ.
19.
خلاصة الدلائل في تنقيح المسائل (شرح مختصر القدوري)، علي بن أحمد الرازي (ت 598 هـ)، تحقيق الكتاب: من بدايته إلى آخر باب الهدي، بحث أعد لنيل درجة الماجستير، إعداد الطالب: خالد بن راشد بن محمد المشعان، إشراف: حسن بن خلف الجبوري، جامعة أم القرى، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، 1422 هـ.
20.
درر الحكام شرح غرر الأحكام، محمد بن فرامرز بن علي الشهير بملا - أو منلا أو المولى - خسرو (المتوفى: 885 هـ)، دار إحياء الكتب العربية، بدون طبعة وتاريخ.
21.
رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي (المتوفى: 1252 هـ)، دار الفكر-بيروت، الطبعة الثانية، 1412 هـ - 1992 م.
22.
زاد الفقهاء شرح مختصر القدوري (من بداية كتاب إحياء الموات إلى نهاية الكتاب)، أبو المعالي بهاء الدين محمد بن أحمد الإسبيجاني (ت 591 هـ)، رسالة دكتوراه في الفقه - جامعة أم القرى، دراسة وتحقيق: عيد بن محمد بن حمد الدوسري، تاريخ المناقشة: 1435 هـ - 2014 م، ولم تطبع بعد.
23.
السعاية في كشف ما في شرح الوقاية، محمد عبد الحي اللكنوي (ت 1304 هـ)، اعتنى به الدكتور صلاح محمد أبو الحاج، مركز العلماء العالمي للدراسات وتقنية المعلومات، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.
24.
شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي (المتوفى: 1252 هـ)، مركز توعية الفقه الإسلامي، حيدر أباد، الطبعة الثانية، 1422 هـ
25.
شرح الوقاية لصدر الشريعة عبيد الله مسعود المحبوبي ومعه منتهى النقاية على شرح الوقاية لصلاح محمد أبو الحاج، الوراق للنشر والتوزيع - عمان، الطبعة الأولى، 2006.
26.
شرح مختصر الطحاوي، أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (المتوفى: 370 هـ)، تحقيق: د. عصمت الله عنايت الله محمد - أ. د. سائد بكداش - د محمد عبيد الله خان - د زينب محمد حسن فلاتة، دار البشائر الإسلامية - ودار السراج، الطبعة الأولى، 1431 هـ - 2010 م.
27.
عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، أحمد بن عبد الرحيم بن الشهيد وجيه الدين بن معظم بن منصور المعروف بالشاه ولي الله الدهلوي، تحقيق: محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية - القاهرة، بدون طبعة وتاريخ.
28.
عمدة الرعاية على شرح الوقاية، عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي، بهامشه غاية العناية على عمدة الرعاية لصلاح أبو الحاج، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2009 م.
29.
العناية شرح الهداية، محمد بن محمد بن محمود الرومي البابرتي، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
30.
الفتاوى الخيرية لنفع البرية، خير الدين بن أحمد بن علي بن زين الدين ابن عبد الوهّاب الأيوبي، العليمي الفاروقي الرملي الحنفي (ت 1081 هـ)، الطبعة الثانية بالمطبعة الكبرى الميرية ببولاق مصر المحمية، 1300 هـ
31.
فتاوى قاضيخان في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، فخر الدين أبي المحاسن الحسن بن منصور المعروف بقاضيخان الأوزجندي الفرغاني (ت 592 هـ)، اعتنى بها سالم مصطفى البدري، دار الكتب العلمية، 2009 م.
32.
فتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861 هـ)، وبأعلى الصفحة كتاب الهداية، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
33.
فتح باب العناية بشرح النقاية، نور الدين أبو الحسن علي بن سلطان محمد الهروي القاري (ت 1014 هـ)، اعتنى به محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، بدون طبعة، 1418 هـ - 1997 م.
34.
كنز الدقائق، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (المتوفى: 710 هـ)، تحقيق: سائد بكداش، دار البشائر الإسلامية ودار السراج، الطبعة الأولى، 1432 هـ - 2011 م.
35.
اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، جمال الدين أبو محمد علي بن أبي يحيى زكريا بن مسعود الأنصاري الخزرجي المنبجي (المتوفى: 686 هـ)، تحقيق: محمد فضل عبد العزيز المراد، دار القلم - الدار الشامية - سوريا/ دمشق - لبنان/ بيروت، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1994 م.
36.
المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483 هـ)، دار المعرفة - بيروت، بدون طبعة، 1414 هـ - 1993 م
37.
مجلة الأحكام العدلية، لجنة مكونة من عدة علماء وفقهاء في الخلافة العثمانية، تحقيق: نجيب هواويني، نور محمد كارخانه تجارت كتب، آرام باغ، كراتشي، بدون طبعة وتاريخ.
38.
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن محمد بن سليمان المدعو بشيخي زاده، يعرف بداماد أفندي (المتوفى: 1078 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بدون طبعة وبدون تاريخ.
39.
مجمع البحرين وملتقى النيرين في الفقه الحنفي، مظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب المعروف بابن الساعاتي الحنفي (ت 694 هـ)، تحقيق: إلياس قبلان، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م.
40.
المحيط البرهاني في الفقه النعماني فقه الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، أبو المعالي برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مَازَةَ البخاري الحنفي (المتوفى: 616 هـ)، تحقق: عبد الكريم سامي الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م.
41.
مختصر الطحاوي، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي (ت 321 هـ)، عنى بتحقيق أصوله والتعليق عليها أبو الوفاء الأفغاني، عنيت بنشره لجنة إحياء المعارف النعمانية بحدرآباد بالهند، بدون طبعة وتاريخ.
42.
مختصر القدوري في الفقه الحنفي، أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان أبو الحسين القدوري (المتوفى: 428 هـ)، تحقيق: كامل محمد محمد عويضة، دار الكتب العلمية، 1418 هـ - 1997 م.
43.
ملتقى الأبحر، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحَلَبي الحنفي (المتوفى: 956 هـ)، خرج آياته وأحاديثه خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية - لبنان - بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م.
44.
ناظورة الحق في فرضية العشاء وإن لم يغب الشفق، شهاب الدين هارون بن بهاء الدين المرجاني، تحقيق: أورخان بن إدريس أنجقار وعبد القادر بن سلجوق ييلماز، دار الفتح للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1433 هـ - 2012 م
45.
النهر الفائق شرح كنز الدقائق، سراج الدين عمر بن إبراهيم بن نجيم الحنفي (ت 1005 هـ)، تحقيق: أحمد عزو عناية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 هـ.
46.
الهداية في شرح بداية المبتدي، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، أبو الحسن برهان الدين (المتوفى: 593 هـ)، تحقيق طلال يوسف، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، بدون تاريخ.
الفقه المالكي
1.
إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك، عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي، أبو زيد أو أبو محمد، شهاب الدين المالكي (المتوفى: 732 هـ)، وبهامشه تقريرات مفيدة لإبراهيم بن حسن، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ.
2.
الإشراف على نكت مسائل الخلاف، القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي (422 هـ)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.
3.
بداية المجتهد ونهاية (كفاية) المقتصد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (المتوفى: 595 هـ)، دار الحديث - القاهرة، بدون طبعة، 1425 هـ - 2004 م.
4.
بلغة السالك لأقرب المسالك المعروف بحاشية الصاوي على الشرح الصغير (الشرح الصغير هو شرح الشيخ الدردير لكتابه المسمى أقرب المسالك لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ)، أبو العباس أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي المالكي (المتوفى: 1241 هـ)، دار المعارف، بدون طبعة وتاريخ.
5.
البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (المتوفى: 520 هـ)، تحقيق: محمد حجي وآخرون، دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م.
6.
التاج والإكليل لمختصر خليل، محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي، أبو عبد الله المواق المالكي (المتوفى: 897 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1994 م.
7.
التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، عبيد الله بن الحسين بن الحسن أبو القاسم ابن الجَلَّاب المالكي (المتوفى: 378 هـ)، تحقيق: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1428 - 2007 م
8.
التهذيب في اختصار المدونة، خلف بن أبي القاسم محمد، الأزدي القيرواني، أبو سعيد ابن البراذعي المالكي (المتوفى: 372 هـ)، محمد الأمين ولد محمد سالم بن الشيخ، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م.
9.
التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب، خليل بن إسحاق الجندي المالكي، تحقيق: أبو الفضل الدمياطي، مركز التراث الثقافي المغربي - دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1433 هـ - 2012 م
10.
جامع الأمهات، عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب الكردي المالكي (المتوفى: 646 هـ)، تحقيق: أبو عبد الرحمن الأخضر الأخضري، اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1421 هـ - 2000 م.
11.
الجامع لمسائل المدونة، أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي (المتوفى: 451 هـ)، تحقيق مجموعة باحثين في رسائل دكتوراه، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي - جامعة أم القرى (سلسلة الرسائل الجامعية الموصى بطبعها)، توزيع دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1434 هـ - 2013 م.
12.
جواهر الإكليل شرح مختصر الشيخ خليل، صالح عبد السميع الآبي الأزهري، المكتبة الثقافية، بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
13.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (المتوفى: 1230 هـ)، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
14.
الدر الثمين والمورد المعين (شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين)، محمد بن أحمد ميارة المالكي، تحقيق: عبد الله المنشاوي، دار الحديث القاهرة، 1429 هـ - 2008 م.
15.
الذخيرة، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684 هـ)، تحقيق محمد حجي، سعيد أعراب ومحمد بو خبزة، دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة الأولى، 1994 م.
16.
الرسالة، أبو محمد عبد الله بن (أبي زيد) عبد الرحمن النفزي، القيرواني، المالكي (المتوفى: 386 هـ)، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
17.
شرح الزرقاني على مختصر خليل ومعه الفتح الرباني فيما ذهل عنه الزرقاني، عبد الباقي بن يوسف بن أحمد الزرقاني المصري (المتوفى: 1099 هـ)، ضبطه وصححه وخرج آياته: عبد السلام محمد أمين، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 م.
18.
شرح مختصر خليل للخرشي، محمد بن عبد الله الخرشي المالكي أبو عبد الله (المتوفى: 1101 هـ)، وبهامشه حاشية العدوي، دار الفكر للطباعة - بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
19.
عيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد البغدادي المالكي المعروف بابن القصار (المتوفى: 397 هـ)، عبد الحميد بن سعد بن ناصر السعودي، مكتبة الملك فهد الوطنية - الرياض، بدون طبعة، 1426 هـ - 2006 م.
20.
الكافي في فقه أهل المدينة، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفى: 463 هـ)، تحقيق: محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1400 هـ - 1980 م.
21.
المختصر الفقهي لابن عرفة، محمد بن محمد ابن عرفة الورغمي التونسي المالكي، أبو عبد الله (المتوفى: 803 هـ)، تحقيق: حافظ عبد الرحمن محمد خير، مؤسسة خلف أحمد الخبتور للأعمال الخيرية، الطبعة الأولى، 1435 هـ - 2014 م
22.
مختصر خليل، خليل بن إسحاق بن موسى، ضياء الدين الجندي المالكي المصري (المتوفى: 776 هـ)، تحقيق: أحمد جاد، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م.
23.
المدونة، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1994 هـ.
24.
مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها، أبو الحسن علي بن سعيد الرجراجي (المتوفى: بعد 633 هـ)، اعتنى به أبو الفضل الدمياطي - أحمد بن علي، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م
25.
مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (المتوفى: 954 هـ)، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1412 هـ - 1992 م.
26.
النوادر والزيادات على ما في المدونة وغيرها من الأمهات، أبو محمد بن عبد الرحمن النفزي القيرواني المالكي (المتوفى: 386 هـ)، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1999 هـ.
الفقه الشافعي
1.
أسنى المطالب في شرح روض الطالب، زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري، زين الدين أبو يحيى السنيكي (المتوفى: 926 هـ)، دار الكتاب الإسلامي، بدون طبعة وتاريخ.
2.
الإقناع في الفقه الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450 هـ)، كتابخانه ملى ايران، الطبعة الأولى، 1420 هـ.
3.
الأم، الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204 هـ)، دار المعرفة، بيروت، بدون طبعة، 1410 هـ - 1990 م.
4.
الأم، الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204 هـ)، دار المعرفة - بيروت، بطون طبعة، 1410 هـ - 1990 م.
5.
بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي، أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني (ت 502 هـ)، طارق فتحي السيد، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2009 م
6.
البيان في مذهب الإمام الشافعي، أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي (المتوفى: 558 هـ)، تحقيق: قاسم محمد النوري، دار المنهاج - جدة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
7.
التهذيب في فقه الإمام الشافعي، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 516 هـ)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.
8.
جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود، شمس الدين محمد بن أحمد بن علي بن عبد الخالق، المنهاجي الأسيوطي ثم القاهري الشافعي (المتوفى: 880 هـ)، حققها وخرج أحاديثها: مسعد عبد الحميد محمد السعدني، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م.
9.
حاشية ابن حجر الهيتمي على شرح الإيضاح في مناسك الحج للنووي، ابن حجر الهيتمي - النووي، دار الحديث للطباعة والنش والتوزيع، بيروت - لبنان، بدون طبعة وتاريخ.
10.
حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المحلي على منهاج الطالبين، أحمد سلامة القليوبي وأحمد البرلسي عميرة، دار الفكر، بيروت، بدون طبعة، 1415 هـ - 1995 م.
11.
الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450 هـ)، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض - الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1419 م - 1999 م.
12.
حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر، أبو بكر الشاشي القفال الفارقيّ، الملقب فخر الإسلام، المستظهري الشافعي (المتوفى: 507 هـ)، تحقيق: ياسين أحمد إبراهيم درادكة، مؤسسة الرسالة/ دار الأرقم - بيروت/ عمان، الطبعة الأولى، 1980 م.
13.
روضة الطالبين وعمدة المفتين، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت-دمشق-عمان، الطبعة الثالثة، 1412 هـ - 1991 م.
14.
العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير، عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، أبو القاسم الرافعي القزويني (المتوفى: 623 هـ)، تحقيق: علي محمد عوض - عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.
15.
فتاوى ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن، أبو عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (المتوفى: 643 هـ)، تحقيق: موفق عبد الله عبد القادر، مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ.
16.
فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب = القول المختار في شرح غاية الاختصار (ويعرف بشرح ابن قاسم على متن أبي شجاع)، محمد بن قاسم بن محمد بن محمد، أبو عبد الله، شمس الدين الغزي، ويعرف بابن قاسم وبابن الغرابيلي (المتوفى: 918 هـ)، بعناية: بسام عبد الوهاب الجابي، الجفان والجابي للطباعة والنشر، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2005 م.
17.
فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب المعروف بحاشية الجمل (منهج الطلاب اختصره زكريا الأنصاري من منهاج الطالبين للنووي ثم شرحه في شرح منهج الطلاب)، سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري، المعروف بالجمل (المتوفى: 1204 هـ)، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
18.
اللباب في الفقه الشافعي، أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم الضبي، أبو الحسن ابن المحاملي الشافعيّ (المتوفى: 415 هـ)، تحقيق: عبد الكريم صنيتان العمري، دار البخاري، المدينة النبوية، السعودية، الطبعة الأولى، 1416 هـ.
19.
متن أبي شجاع المسمى الغاية والتقريب، أحمد بن الحسين بن أحمد، أبو شجاع، شهاب الدين أبو الطيب الأصفهاني (المتوفى: 593 هـ)، عالم الكتب، بدون طبعة وتاريخ.
20.
المجموع شرح المهذب مع تكملة السبكي والمطيعي، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، دار الفكر، بدون طبعة وتاريخ.
21.
مختصر المزني (مطبوع ملحقا بالأم للشافعي)، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، أبو إبراهيم المزني (المتوفى: 264 هـ)، دار المعرفة - بيروت، 1410 هـ - 1990 م.
22.
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (المتوفى: 977 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1994 م.
23.
منهاج الطالبين وعمدة المفتين في الفقه، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، تحقيق: عوض قاسم أحمد عوض، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2005 م.
24.
المهذب في فقه الإمام الشافعي، أبو اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (المتوفى: 476 هـ)، دار الكتب العلمية، بدون طبعة وتاريخ.
25.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة شهاب الدين الرملي (المتوفى: 1004 هـ)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأخيرة، 1404 هـ - 1984 م.
26.
نهاية المطلب في دراية المذهب، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (المتوفى: 478 هـ)، حققه وصنع فهارسه: عبد العظيم محمود الديب، دار المنهاج، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.
27.
الوسيط في المذهب، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505 هـ)، تحقيق: أحمد محمود إبراهيم ومحمد محمد تامر، دار السلام - القاهرة، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
الفقه الحنبلي
1.
الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى بن سالم الحجاوي المقدسي، ثم الصالحي، شرف الدين، أبو النجا (المتوفى: 968 هـ)، تحقيق: عبد اللطيف محمد موسى السبكي، دار المعرفة، بيروت - لبنان، بدون طبعة وتاريخ.
2.
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي (المتوفى: 885 هـ)، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
3.
حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي النجدي (المتوفى: 1392 هـ)، الطبعة الأولى، 1397 هـ.
4.
دقائق أولي النهى لشرح المنتهى المعروف بشرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتى الحنبلى (المتوفى: 1051 هـ)، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م.
5.
الشرح الكبير (المطبوع مع المقنع والإنصاف)، شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي (المتوفى: 682 هـ)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة - جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م.
6.
الشرح الكبير على متن المقنع، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الحنبلي، أبو الفرج، شمس الدين (المتوفى: 682 هـ)، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، أشرف على طباعته: محمد رشيد رضا (صاحب المنار)، بدون طبعة وتاريخ.
7.
العدة شرح العمدة، عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد، أبو محمد بهاء الدين المقدسي (المتوفى: 624 هـ)، دار الحديث، بدون طبعة، 1424 هـ - 2003 م.
8.
عمدة الفقه، موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (المتوفى: 620 هـ)، تحقيق: أحمد محمد عزوز، المكتبة المصرية، طبعة العام 1425 هـ - 2004 م، بدون رقمها.
9.
الكافي في فقه الإمام أحمد، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م.
10.
كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتى الحنبلى (المتوفى: 1051 هـ)، دار الكتب العلمية، بدون طبعة وتاريخ.
11.
كفاية النبيه في شرح التنبيه، أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، أبو العباس، نجم الدين، المعروف بابن الرفعة (المتوفى: 710 هـ)، تحقيق: مجدي محمد سرور باسلوم، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2000 م
12.
المبدع في شرح المقنع، إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبو إسحاق، برهان الدين (المتوفى: 884 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.
13.
المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد، ابن تيمية الحراني، أبو البركات، مجد الدين (المتوفى: 652 هـ)، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م.
14.
مختصر الخرقي على مذهب ابي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي (المتوفى: 334 هـ)، دار الصحابة للتراث، بدون طبعة، 1413 هـ - 1993 هـ.
15.
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241 هـ)، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م.
16.
مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابن أبي الفضل صالح [203 هـ - 266 هـ]، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241 هـ)، الدار العلمية - الهند، بدون طبعة وتاريخ.
17.
مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، إسحاق بن منصور بن بهرام المعروف بالكوسج (المتوفى: 251 هـ)، الناشر عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2002 م.
18.
مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275 هـ)، تحقيق: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد، مكتبة ابن تيمية، مصر، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.
19.
المغني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620 هـ)، مكتبة القاهرة، بدون طبعة، 1388 هـ - 1968 هـ.
20.
الممتع في شرح المقنع، زين الدين المُنَجَّى بن عثمان بن أسعد ابن المنجى التنوخي الحنبلي (631 - 695 هـ)، تحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة الأسدي، مكة المكرمة، الطبعة الثالثة، 1424 هـ - 2003 م
21.
المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد، منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتى الحنبلى، تحيق: عبد الله بن محمد المطلق، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2006 م.
22.
الهداية على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، محفوظ بن أحمد بن الحسن، أبو الخطاب الكلوذاني، تحقيق: عبد اللطيف هميم وماهر ياسين الفحل، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م.
الفقه المقارن
1.
الأرش وأحكامه، حسين بن عبد الله العبيدي، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م.
2.
الخلافيات، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 هـ)، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان، دار الصميعي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.
3.
الفقه الإسلامي وأدلته، أ. د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ، دار الفكر - سوريَّة - دمشق، الطبعة الرَّابعة المنقَّحة المعدَّلة بالنِّسبة لما سبقها (وهي الطبعة الثانية عشرة لما تقدمها من طبعات مصورة)، بدون تاريخ الطبعة.
4.
مختصر خلافيات البيهقي، أحمد بن فرح اللخمي الإشبيلي الشافعي، تحقيق: ذياب العقل وإبراهيم الخضير، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م.
5.
المسح على الجوربين، محمد جمال الدين القاسمي ويليه إتمام النصح في أحكام المسح للأباني، قدم لأصل الكتاب أحمد محمد شاكر، وحققه ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1399 هـ - 1979 م.
6.
الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت، الطبعة الثانية، دار السلاسل - الكويت (1 - 23)، الطبعة الأولى، مطابع دار الصفوة - مصر (24 - 38)، الطبعة الثانية، طبع الوزارة (39 - 45)، الطبعة العامة (1404 م - 1427 م).
الفقه العام
1.
الإجماع، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (المتوفى: 319 هـ)، تحقيق: فوائد عبد المنعم أحمد، دار المسلم للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م
2.
الإجماع، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (المتوفى: 319 هـ)، تحقيق: صغير أحمد بن محمد حنيف، مكتبة مكة الثقافية (رأس الخيمة) ومكتبة الفرقان (عجمان)، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 1999 م.
3.
الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (المتوفى: 319 هـ)، تحقيق: أبو حماد صغير أحمد بن محمد حنيف، دار طيبة، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى، (ستة أجزاء فقط)، 1405 هـ - 1985 م.
4.
المكاييل والموازين الشرعية، على جمعة محمد، القدس للإعلان والنشر والتسويق - القاهرة، الطبعة الثانية، 1421 هـ - 2001 م.
الفتاوى
1.
الفتاوى الكبرى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728 هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م.
2.
مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ)، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، بدون طبعة، 1416 هـ - 1995 م.
3.
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)، جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، دار الوطن - دار الثريا، الطبعة الأخيرة، 1413 هـ.
4.
النتف في الفتاوى، أبو الحسن علي بن الحسين بن محمد السُّغْدي، حنفي (المتوفى: 461 هـ)، تحقيق: صلاح الدين الناهي، دار الفرقان/ مؤسسة الرسالة، عمان الأردن/ بيروت لبنان، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م.
كتب الغريب والمعاجم
1.
تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 هـ)، مجموعة من المحققين، دار الهداية، بدون تاريخ.
2.
تحرير ألفاظ التنبيه، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، تحقيق: عبد الغني الدقر، دار القلم - دمشق، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
3.
تهذيب الأسماء واللغات، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه ومقابلة أصوله: شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، بدون طبعة وتاريخ.
4.
تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370 هـ)، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م.
5.
التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031 هـ)، عالم الكتب 38 عبد الخالق ثروت-القاهرة، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م.
6.
جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (المتوفى: 321 هـ)، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الأولى، 1987 م.
7.
دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، القاضي الأحمد نكري، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.
8.
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393 هـ)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الرابعة 1407 هـ - 1987 م.
9.
غريب الحديث، إبراهيم بن إسحاق الحرْبي أبو إسحاق [198 - 285]، تحقيق: د. سليمان إبراهيم محمد العايد، جامعة أم القرى - مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1405 هـ.
10.
غريب الحديث، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي (المتوفى: 388 هـ)، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم الغرباوي، خرج أحاديثه: عبد القيوم عبد رب النبي، دار الفكر - دمشق، 1402 هـ - 1982 م.
11.
غريب الحديث، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224 هـ)، تحقيق: محمد عبد المعيد خان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد- الدكن، الطبعة الأولى، 1384 هـ - 1964 م.
12.
غريب الحديث، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276 هـ)، تحقيق: عبد الله الجبوري، مطبعة العاني - بغداد، الطبعة الأولى، 1397 هـ.
13.
القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى: 817 هـ)، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، الطبعة الثامنة، 1426 هـ - 2005 م.
14.
كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (المتوفى: 170 هـ)، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، بدون طبعة وتاريخ.
15.
لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: 711 هـ)، دار صادر - بيروت، الطبعة الثالثة - 1414 هـ.
16.
مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار، جمال الدين، محمد طاهر بن علي الصديقي الهندي الفَتَّنِي الكجراتي (المتوفى: 986 هـ)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الثالثة، 1387 م - 1967 م.
17.
مختار الصحاح، زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (المتوفى: 666 هـ)، تحقيق: يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية - الدار النموذجية، بيروت - صيدا، الطبعة الخامسة، 1420 هـ - 1999 م.
18.
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس (المتوفى: نحو 770 هـ)، المكتبة العلمية، بيروت، بدون طبعة وتاريخ.
19.
معجم لغة الفقهاء، محمد رواس قلعجي - حامد صادق قنيبي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م.
20.
المغرب في ترتيب المعرب، ناصر بن عبد السيد الخوارزمي المطرزي (المتوفى: 610 هـ)، دار الكتاب العربي، بدون طبعة وتاريخ.
21.
مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفى: 395 هـ)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399 هـ - 1979 م.
22.
النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفى: 606 هـ)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى - محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 هـ - 1979 م.
كتب التراجم
1.
أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار (مخطوط)، محمود بن سليمان الحنفي الرومي الكفوي، المصدر: مخطوطات كتابخانة مجلس شوراي ملي بإيران، 652 ورقة، ويوجد قطعة منه بالجامعة الإسلامية برقم 601 و 4366.
2.
التاريخ الكبير للبخاري بحواشي محمود خليل، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256 هـ)، دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد - الدكن، طبع تحت مراقبة محمد عبد المعيد خان، بدون طبعة وتاريخ.
3.
رسالة في طبقات الفقهاء (مخطوط)، ابن كمال باشا، معهد الثقافة والدراسات الشرقية، جامعة طوكيو - يابان، بدون تاريخ.
4.
طبقات الحنفية، علاء الدين بن أمر الله الحميدي المعروف بابن الحنائي، تحقيق ودراسة: محي هلال السرحان، الناشر مطبعة ديوان الوقف السني - بغداد - الطبعة الأولى - 2005 م
5.
الطبقات السنية في تراجم الحنفية، التميمي الغزي، تحقيق: محمد عبد الفتاح الحلو، القاهرة، 1390 هـ - 1970 م، بدون طبعة.
6.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية معه التعليقات السنية، أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، بدون طبعة وتاريخ.
7.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية، أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، عني بتصحيحه وتعليق بعض الزوائد عليه: محمد بدر الدين أبو فراس النعاني، دار الكتاب الإسلامي - قاهرة، 1324 هـ.
8.
الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام المسمى ب (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر)، عبد الحي بن فخر الدين بن عبد العلي الحسني الطالبي (المتوفى: 1341 هـ)، دار ابن حزم - بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.
9.
الجواهر المضية في طبقات الحنفية، عبد القادر بن محمد بن نصر الله القرشي، أبو محمد، محيي الدين الحنفي (المتوفى: 775 هـ)، مير محمد كتب خانه - كراتشي، بدون طبعة وتاريخ.
10.
طبقات الفقهاء، أبو اسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (المتوفى: 476 هـ)، هذبه محمد بن مكرم ابن منظور (المتوفى: 711 هـ)، تحقيق: إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1970 م.
11.
معجم المفسرين «من صدر الإسلام وحتى العصر الحاضر» ، عادل نويهض، قدم له: مُفتي الجمهورية اللبنانية الشَّيْخ حسن خالد، مسؤسسة نويهض الثقافية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1409 هـ - 1988 م.
12.
طبقات المفسرين العشرين، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، تحقيق: علي محمد عمر، مكتبة وهبة - القاهرة، الطبعة الأولى، 1396 هـ.
كتب عامة
1.
بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، بدون طبعة وتاريخها.
2.
تجارب وأنشطة وألعاب وتطبيقات علمية، د. خير سليمان شواهين، بدون طبعة وتاريخها.
المجلات العلمية
1.
مجلة أصول الشريعة للأبحاث التخصصية، المجلد 2، العدد 4، تشرين الأول، أكتوبر 2016 م.
المصادر باللغات الأخرى
1.
تاريخ الأدب العربي (النسخة الإنجليزية)، كارل بروكلمان، ترجمة جوؤب لامير، ليدن بروستن - بريل، طبعة أولى، 2016 هـ.
2.
موقع "سن اليأس":https://www.menopause.org
3.
موقع الحمية:http://www.weightlossforall.com
4.
موقع العلوم التطبيقية:https://www.zmescience.com
5.
موقع العلوم الحية:https://www.livescience.com
6.
موقع سمارت وول (الصوف الذكي):https://www.smartwool.com
7.
موقع مصادر الكيمياء:https://www.chemistrysources.com