الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقَدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: فإنَّ مصنفات الشيخ العلّامة الدكتور بكر أبو زيد -سلمه الله- قد تفرّدت في هذا العصر بجودة انتقاء موضوعاتها، وحُسن بيانها، وصدروها عن علم شرعي مؤصل متين؛ ممَّا أنزلها المحل الأعلى عند طلبة العلم ومحبيه، وجعلها تنتشر في بلاد المسلمين كمرجع أساس فيما احتوته من مسائل وموضوعات.
ويأتي في مقدمة هذه المصنفات الفريدة: "معجم المناهي اللفظية" الَّذي اختار له الشيخ موضوعًا مهمًا متميزًا يحتاجه المسلمون في هذا العصر؛ وهو معرفة كثير من المناهي اللفظية الَّتي ينبغي أن تحيد عنها ألسنتهم؛ ليسلموا من غوائلها وتبعاتها. فكان الشيخ بهذا المصنَّف البديع رائدًا لمن كتب بعده من المؤلفين الذين نسجوا على منواله في هذا الموضوع، بل جعله كثير منهم عمدة له في مؤلفه
(1)
.
(1)
صدرت -بعد كتاب الشيخ- كثير من المؤلفات (الكبيرة والصغيرة) المهتمة بموضوع "المناهي اللفظية" منها على سبيل المثال: "الكلمات النافعة في الأخطاء الشائعة" للشيخ وحيد عبد السلام بالي، و"النبراس في المخالف للشريعة من كلام النَّاس" للشيخ فكري الجزار، و"تحذير المسلمين من ألفاظ الكفر" للدكتور بسام العموش، و"أخطاء شائعة" للأستاذ خَالد الخراز، و"الفريد في المخالفات" الأستاذ أسامة آل عبد اللطيف، و"عبارات موهمة" للشيخ محمد =
فكنتُ حال مطالعتي المتفرقة في الكتب المتنوعة أُقيّد ما يمر بي من منهيات لفظية لم يذكرها الشيخ في "معجمه" بطبعتيه الأولى والثالثة
(1)
؛ حتَّى تجمع عندي منها كثير، وإنَّما السيل في اجتماع النُقَط؛ فأحببتُ أن أفردها في مصنف مستقل يكون بمثابة "مستدرك" على معجم الشيخ، وما كان لمثلي -تقصيرًا وضآلة علم- أن يستدرك على من هو في قامة الشيخ -حفظه الله- وهو من هو علمًا واطلاعًا؛ ولكني آثرتُ أن أتجشم هذا الأمر متمثلًا بقول الشاعر:
أسيرُ خلف، ركاب النُجب ذا عرجٍ
…
مؤملًا كشف ما لاقيت من حرجٍ
فإن لحقتُ بهم من بعدما سبقوا
…
فكم لربّ الورى في ذاك من فرَجِ
ومتعللًا بأن الشيخ لم يرمِ إلى الاستيعاب في "معجمه".
= بازمول، و"الإيقاظ في تصحيح الأمثال والألفاظ" لمحمد بن فتحي آل عبد العزيز، و"ألفاظ مذمومة" للأستاذ أحمد بادويلان، و"أخطاء عقدية" للشيخ عبدالرحمن المحمود، و"مفاهيم خاطئة في أقوال وأمثال شائعة" للأستاذ فيصل الجودي، و"مفاهيم وأخطاء" للدكتور محمد مصطفي مَنْصور، و"مصطلحات ومفاهيم" للأستاذ عبد الآخر الغنيمي، و"أخطاء شائعة" للشيخ محمد جميل زينو، ومصطلحات يهودية احذروها" للأستاذ عيسى القدومي، و"نظرات إسلامية في مصطلحات وأسماء شائعة" للدكتور محمد أبو فارس، و"مفاهيم ومصطلحات إسلامية معاصرة" للأستاذ محمود حموده وصاحبه، و"مفاهيم معاصرة في ضوء الإسلام" للدكتور محمد هلال، و"التنبيه لما يرد من الأخطاء للجاهل والنبيه"، للأستاذ أحمد بن الأمير، واستُل من فتاوى الشيخ ابن عثمين رحمه الله "أسئلة وأجوبة عن ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة" و"المناهي اللفظية"، وغيرها.
(1)
كانت الطبعة الأولى من المعجم تحتوي على (800) لفظ، ثمَّ ضاعفها الشيخ إلى (1500) لفظ في الطبعة الثالثة.
وليتنبه القارئ الكريم قبل ولوج هذا "المستدرك" إلى أمور:
1 -
أنَّه ليس لي من عمل في معظمه سوى نقل تلك المناهي والتعليق عليها من بطون الكتب الَّتي تجد الإشارة إليها في الهامش.
2 -
أنني أذكر -أحيانًا- بعض المنهيات الَّتي سبق للشيخ أن أوردها في "معجمه" مختصرة؛ إذا عثرتُ على من أسهب الكلام عنها وأتى بفوائد لم تأت عند الشيخ.
3 -
أني رتبتُ الألفاظ ترتيبًا ألفبائيًا في الفهرس، أمَّا داخل الكتاب فقد تركتها كما جُمعت دون ترتيب حرفي؛ لتسهل الزيادة عليها في الطبعات القادمة -إن شاء الله- فجمعتُ -فيما أحسب- بين مصلحة المؤلف والقارئ.
4 -
أني قدمتُ هذا "المستدرك" بمقال قَيّم مناسب لهذا الكتاب، للدكتور سيد العربي، نشره في مجلة البيان (العدد 167) بعنوان "مسؤولية الكلمة - دعوة لتصحيح ألفاظنا كما نصحح نياتنا".
5 -
أنني أطلب من إخواني القراء تزويدي بملحوظاتهم أو زياداتهم على هذا "المستدرك" لأفيد منها في الطبعات القادمة.
أسأل الله أن ينفع بما جمعتُ، وأن يضاعف الأجر للشيخ بكر، ويوفقني وإياه وإخواننا المسلمين لما يحب ويرضى، واللهُ أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم
كتبه / سُلَيْمَان الخراشي
مسؤولية الكلمة
دعوة لتصحيح ألفاظنا كما نصحح نياتنا
العقيدة أو التوحيد أو الإِيمان -وهي مسميات لقضية واحدة- تتضمن الاعتقاد القلبي والكلام اللساني وعمل الجوارح، وهذا يعني أن الكلام أو الكلمة من مهمات الاعتقاد؛ وقد دل الدَّليل الشرعي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -بما يفوق الحصر- على أن الكلام من أعمال المسلم الَّتي يحاسب بمقتضاها، وأنَّه يترتب عليه من الثواب أو العقاب ما الله به عليم؛ قال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
(1)
، وقال:{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}
(2)
، وقال:{سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا}
(3)
، وقال:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}
(4)
، وقال:{كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا}
(5)
، وقال:{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
(6)
.
إن هذه النُّصوص القرآنية الجامعة وغيرها تبين خطورة الكلمة والكلام في دين الله عز وجل وأنها معدودة على قائليها، مسجلة عليهم، وأنهم محاسبون على ما يتكلمون؛ لأنَّ الكلام من جملة الدِّين الَّذي يُسأل الإنسان
(1)
سورة ق، الآية (18).
(2)
سورة الزخرف، الآية (19).
(3)
سورة آل عمران، الآية (181).
(4)
سورة الانفطار، الآيات (10 - 12).
(5)
سورة مريم، الآية (79).
(6)
سورة الجاثية، الآية (29).
عنه، وكذلك جاء في السُّنَّة المطهرة الكثير من الأحاديث الَّتي تثبت خطر الكلام وأثره في دين العبد ثوابًا أو عقابًا؛ فمن ذلك ما أخرجه التِّرْمِذِيّ وابن ماجه وأحمد من حديث معاذ بن جبل أنَّه قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب النَّاس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- يوم القيامة إلَّا حصائد ألسنتهم؟ ".
وأخرج التِّرْمِذِيّ وابن ماجه والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار"
(1)
.
وأخرج التِّرْمِذِيّ وابن ماجه وابن حِبَّان عن بلال بن الحارث المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه"
(2)
.
من هذه النُّصوص وغيرها يتبين أن الكلمة في دين الله عظيمة الشأن من حيث الربح أو الخسارة؛ ولله در صاحب الداء والدواء -ابن القيِّم- عندما قال في ذلك الكتاب: "وأمَّا اللفظات فحفظها بألا يخرج لفظة ضائعة، بألا يتكلم إلَّا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل ربح فائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوت بها كلمة هي أربح منها فلا يضيعها بهذه؟ " إلى أن
(1)
صححه الألباني في الصحيحة برقم (540)، وفي صحيح الجامع برقم (1618).
(2)
صححه الألباني في الصحيحة برقم (188)، وفي صحيح الجامع برقم (1619).
قال: "ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر إلى المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحرز من حركة لسانه، حتَّى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالًا، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري أعراض الأحياء والأموات ولا يُبالي ما يقول؛ وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله عز وجل: من ذا الَّذي يتألى
(1)
عليَّ أني لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك". فهذا العابد الَّذي عَبَدَ الله ما شاء أن يعبده، أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله، ثمَّ قال أبو هريرة -صاحب الرِّواية الأخرى من الحديث-: "تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته"
(2)
(3)
.
كل منا على خطر دائم ممَّا يجنيه لسانه، ولو كان مجرد كلام فيما لا يعنيه، وما أكثر ما نتكلم به فيما لا يعنينا، وقد روى التِّرْمِذِيّ في جامعه من حديث أنس رضي الله عنه قال:"توفي رجل من الصَّحابة، فقال رجل: أبشر بالجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه"، وفي لفظ: "إن غلامًا استشهد يوم أحد، فوجد على بطنه
(1)
يتألى من الإيلاء، وهو اليمين.
(2)
رواه أبو داود، برقم (4901)، وأحمد:(2/ 323، 363).
(3)
الداء والدواء لابن قيم الجوزية، ص 17، المطبعة السَّلَفية ومكتبتها.
صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئًا لك يا بني الجَنَّة، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره".
لهذا كان الصمت أحيانًا أضمن طريق للنجاة من ورطات اللسان؛ حيث يمتنع الإنسان عن التكلم إلَّا فيما يعلم حقًا أنَّه خير، وهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّتي أخرجها الشَّيخان في صحيحيهما؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"
(1)
.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف علينا من ألسنتنا، ويأمرنا بالاستقامة الَّتي يدخل فيها استقامة اللسان؛ فقد طلب سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِي من رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبًا عزيزًا: قال له: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قل: آمنت بالله، ثمَّ استقم"
(2)
، فقال: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثمَّ قال:"هذا"
(3)
.
فاحذر أخي -رحمني الله وإياك- أن تخرج من فمك الألفاظ الضائعة الَّتي لا تعي معناها؛ فقد تكون من كلام الشر والسوء الَّذي يضرك في دنياك وآخرتك؛ فالله -تعالى- يقول: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
(1)
متفق عليه: رواه البُخَاري برقم (6475)، ومسلم برقم (47).
(2)
رواه مسلم بنحوه رقم (38).
(3)
أخرجه النّسَائي والتِّرْمِذِيّ وقال التِّرْمِذِيّ: حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4395).
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}
(1)
.
لقد فقه السلف مسؤولية الكلمة، وعرفوا أمانتها، ووعوا خطورتها؛ فهذا صدِّيق هذه الأمة: أبو بكر رضي الله عنه كان يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول:"هذا الَّذي أوردني الموارد"
(2)
.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "والله الَّذي لا إله إلَّا هو! ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان"، وقال طاووس:"لساني سبع؛ إن أرسلته أكلني"
(3)
.
لقد فهم سلفنا الصالح وعلموا أن النجاة في كف اللسان إلَّا من ذلك الَّذي أشار إليه القرآن في التناجي بين النَّاس؛ ولهذا سأل عُقبة بن عامر الجهني رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك"
(4)
.
قال النَّووي رحمه الله: "أعلم أنَّه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلَّا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتي استوى الكلام وتركه في المصلحة؛ فالسنة الإمساك عنه؛ لأنَّه قد ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه؛ وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء"
(5)
.
وقد يقول قائل عند التنبيه بما تقدَّم: "إنني عند تكلمي بالكلمة السيئة
(1)
سورة النور، الآية (15).
(2)
رواه مالك في الموطأ برقم (1855).
(3)
انظر: جامع العلوم والمحكم، لابن رجب الحَنْبَلي، شرح حديث:"قل آمنت بالله ثمَّ استقم".
(4)
أخرجه ابن المُبَارَك في الزُّهْد، وأحمد والتِّرْمِذِيّ، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (890).
(5)
رياض الصالحين، للإمام النَّووي، باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان.
الخبيثة المحرمة؛ فإنَّ نيتي تكون حسنة، ولا أعتقد ما وراء هذه الكلمة من اعتقاد سيء خبيث، ولا أعتقد حِلِّها بل أعتقد حرمتها؛ لأنَّ نيتي وقصدي حسن؛ فهل أعاقب بما أقول والحال كذلك؟ والجواب: أنَّه ينبغي أن يصحح العبد لفظه كما يصحح نيته؛ فمتي علم أن الكلمة في دين الله حرام، وجب عليه تصحيحها، أو التخلي عنها، وإن لم يعتقد حل القول بها أو جوازها، وهذا ما أجاب بنحوه الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عندما سئل:"بعض النَّاس يقول: إن تصحيح الألفاظ غير مهم مع سلامة القلب؛ فهل هذا صحيح؟ فأجاب رحمه الله: إن أراد بتصحيح الألفاظ إجراؤها على اللغة العربية؛ فهذا صحيح؛ فإنَّه لا يهم أن تكون الألفاظ غير جارية على اللغة العربية ما دام المعنى مفهومًا سليمًا، أمَّا إذا أراد بتصحيح الألفاظ ترك الألفاظ الَّتي تدلُّ على الكفر والشرك، فكلام غير صحيح، بل تصحيحها مهم، ولا يمكن أن تقول للإنسان: أطلق لسانك في قول كل شيء ما دامت النِّيَّة صحيحة، بل نقول: الكلمات مقيدة بما جاءت به الشريعة الإِسلامية" ا. هـ
(1)
.
ومن أخطر ما يمكن أن يجري على لسان الإنسان: أن يقع في الاستهزاء بدين الله أو شيء من دين الله ظانًا أن ذلك يجوز على سبيل الفكاهة واللعب؛ يقول ابن تيمية رحمه الله محذرًا من عاقبة ذلك في أثناء بيانه المعنى قول الله -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
(1)
نقلًا عن كتاب (المناهي اللفظية)، للعلامة الشيخ بكر أبو زَيْد، مكتبة السُّنَّة بالقاهرة.
وَنَلْعَبُ}
(1)
: "فاعترفوا واعتذروا، ولهذا قيل لهم:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}
(2)
فدل على أنَّهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرًا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبيَّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه؛ فدل على أنَّهم كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا المحرم الَّذي عرفوا أنَّه محرم، ولكن لم يظنوه كفرًا، وكان كفرًا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه"
(3)
.
فانظر -يرحمني الله وإياك- خطورة الكلمة؛ حيث لا يصح الاعتذار بالنية؛ فإنَّ ذلك تلبيس إبليس؛ فالكلام الفاسد والعمل الفاسد، لا تشفع له النية الصالحة، والنية السيئة الخبيثة لا يشفع لها العمل الصحيح والكلام الحسن، وصدق من قال:
احفظ لسانك أيها الإنسان
…
لا يلدغنك إنَّه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه
…
كانت تهاب لقاءه الشجعان
وقال آخر:
يصاب الفتي من عثرة لسانه
…
وليس يصاب المرء من عثرة الرجِل
فعثرة في القول تُذهب رأسه
…
وعثرة في الرِّجل تبرأ على مَهَل
(1)
سورة التوبة، الآية (65).
(2)
سورة التوبة، الآية (66).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية، (7/ 273).
تجديد الخطاب الديني:
قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- تحت عنوان "ماذا يراد بتجديد الخطاب الديني": "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين. نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان واقتفي أثرهم إلى يوم الدِّين، وبعد:
تدور في هذه الأيام عبارات نسمعها ونقرؤها في وسائل الإعلام حول إصلاح الخطاب الديني. ولا ندري ماذا يقصد بها؟!
هل يقصد بها تغيير نصوص الكتاب والسُّنة الَّتي تأمرنا بجهاد الكفار والمنافقين وبغضهم ومعاداتهم إذا لم يقبلوا هدى الله الَّذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتأمرنا بالقيام بالدعوة إلى الله والدخول في دينه وترك الكفر والشرك والبدع، وتأمرنا بالتقيد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
هل معني إصلاح الخطاب الديني أن نترك هذه المهمات العظيمة تحت شعار: حرية الرأي وعدم كره الآخر والرأي الآخر وحرية العقيدة كما يقولون؟ وكما قاله مَنْ قبلهم للنبي صلى الله عليه وسلم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}
(1)
(2)
. وقال تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}
(3)
. ولو كانت هذه
(1)
سورة يونس، الآية (15).
(2)
سورة الإسراء، الآية (73).
(3)
سورة البقرة، الآية (118).
المقالة تصدر من اليهود والنصارى وحدهم لم نستغربها منهم؛ لأنَّهم حرفوا كتابهم وبدلوا وغيروا فيه، ولكن الغريب والعجيب أن تصدر هذه المقالة من بعض كتابنا وتنشر في بعض صحفنا، وقد تعقد لها ندوات ومؤتمرات تأثرًا بمقالة الكفار وتنفيذًا لها.
أمَّا إن كان المراد بإصلاح الخطاب الديني تغيير الغلط الَّذي يحل من بعض المسلمين في أسلوب الدعوة إلى الله، وفي الاعتداء على النَّاس والغدر في العهد والأمان مع الكفار اللذين يكونان بين المسلمين والكفار، فهذا الأسلوب ليس هو الخطاب الديني؛ لأنَّ الله يقول:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
(1)
ويقول لموسى وهارون عليهما السلام في مخاطبتهما لفرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}
(2)
ويقول جل وعلا: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}
(3)
فالذي يخالف هذا التوجه الإلهي في أسلوبه مع النَّاس لا يسمي خطابه هذا الخطاب الديني، وإنَّما هذا خطابه هو، وإنَّما الخطاب الديني: وضع الأمور في مواضعها، وتسمية الأشياء بأسمائها، والتمييز بين أولياء الله وأعداء الله وإنزال النَّاس منازلهم، وتسمية المسلم مسلمًا والمنافق منافقًا والكافر كافرًا والعاصي عاصيًا أو فاسقًا، والتعامل مع كلٍّ ما يليق به من غير ظلم ولا عدوان ولا غلوٍّ، ويجب تقسيم الكفار إلى
(1)
سورة النحل، الآية (125).
(2)
سورة طه، الآية (44).
(3)
سورة البقرة، الآية (83).
محارب ومعاهد ومستأمن، وإعطاء كلِّ حكمه الشرعي من غير محاباة لأحد ولا تنازل عن شيء من أحكام الدِّين طاعة للكفار والمنافقين؛ قال تعالى:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}
(1)
(2)
أي إلَّا يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، فتوالوا المؤمنين وتعادوا الكافرين، فإنها ستحصل الفتنة في الدِّين فلا يميز بين المؤمن والكافر، وبين الكفر والإيمان، وحينئذ تختلط الأمور وتفسد الأحوال ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العظيم. وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين"
(3)
.
اللهم بأسرار الفاتحة ارحمنا أو فَرِّج عنا:
سُئل فضيلة الشيخ عبد الرَّحمن بن ناصر البراك -حفظه الله- عن هذا الدُّعَاء، فأجاب:
(1)
سورة القلم، الآية (8).
(2)
سورة الأنفال، الآيتان (72 - 73).
(3)
جريدة الجزيرة، الأحد 21/ صفر 1425 هـ وانظر: مجلة الدعوة، 18 / صفر/ 1425 هـ، وكتابًا قيّمًا للأستاذ محمد بن شاكر الشريف بعنوان "تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف".
"الحمد لله، هذا الدُّعَاء بدعة لا أصل له، وليس له نظير في الأدعية المأثورة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح، فالواجب التوسل بما جعله الله وسيلة من الأسماء والصَّفات؛ كأن تقول: اللَّهُمَّ برحمتك أستجير، وبرحمتك أستغيث، وتقول: يا أرحم الراحمين ارحمنا، وتقول: اللَّهُمَّ فرج عنا يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}
(1)
، فهذا الدُّعَاء المسؤول عنه من الأدعية البدعية الَّتي يخترعها بعض النَّاس ويُعجبون بها. وهذا من تسويل الشيطان، فالخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع"
(2)
.
مصطلح أهل القبلة
يستعمل دعاة التقريب بين أهل السُّنَّة والمبتدعة هذا المصطلح كثيرًا في كتاباتهم، محاولة منهم خلط الحق بالباطل وتمييع قضايا "السُّنَّة" و"البدعة" وما يترتب عليها من أحكام. ويزعمون أنَّه يجب أن تلتقي طوائف الأمة الإِسلامية وتتآلف مع بقاء كل منها على عقيدته وآرائه يعلنها على الملأ، وينشرها مهما كانت! ما دام يصدق عليه أنَّه من "أهل القبلة"؛ ويعنون بهم من يستقبل القبلة في صلاته مهما كانت عقائده (كفرية) أو مخالفة للكتاب والسُّنَّة! دون تفريق.
ولا يرضون -بعد هذا- لأحدٍ أن يرد على أهل البدع أو يكشف
(1)
سورة الأعراف، الآية (180).
(2)
نقلًا عن موقع "صيد الفوائد" على الشبكة العنكبوتية، صفحة الشيخ عبد الرَّحمن البراك.
انحرافاتهم؛ لأنَّ هذا -عندهم- ممَّا يفرق "أهل القبلة"!
ويجهل هؤلاء الواهمون أو يغفلون عِدَّة حقائق تبين هذا المصطلح وما يراد به عند أهل العلم. هذه الحقائق باختصار هي:
1 -
أن هذا المصطلح مقتبس من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: "من صلي صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الَّذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته"
(1)
.
2 -
أن المقصود من هذا الحديث -كما بين العلماء- أن المسلم المصلي لا يجوز تكفيره وإخراجه من الإسلام؛ بل يبقى على هذا الأصل؛ إلَّا أن يأتي بأمر مكفِّر.
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: "فيه أن أمور النَّاس محمولة على الظَّاهر؛ فمن أظهر شعار الذين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك"
(2)
.
ولهذا فقد أخرج البُخَاري عقب هذا الحديث ما يوضحه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يقولوا لا إلهَ إلَّا اللهُ، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلَّا بحقها، وحسابهم على الله"
(3)
.
فهذا الحديث متعلق بمسائل "التكفير"، وأنَّه لا يجوز تكفير المسلم -وإن
(1)
رواه البخاري برقم (391).
(2)
فتح الباري (1/ 592).
(3)
رواه البخاري برقم (393).
كان مبتدعًا- بكل ذنب، ما لم تكن بدعته مكفرة.
3 -
قال الطحاوي في عقيدته: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين".
قال ابن أبي العز في شرحه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا). ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحلَّه.
والمراد بقوله: "أهل قبلتنا" من يدعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ:"ولا تكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه"
(1)
.
وقال في الموضع المشار إليه
(2)
: "قوله: (ولا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله): أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين"، يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير بابٌ عظُمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء،
(1)
شرح العقيدة الطحاوية، ص 426، 427، طبعة التركي والأرناؤوط.
(2)
المرجع السابق نفسه، ص 432 - 434.
وتعارضت فيه دلائلهم؛ فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
فطائفة تقول: لا نكفِّر من أهل القبلة أحدًا، فتنفي التكفير نفيا عامًا، مع العلم بأن في أهل القبلة: المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصاري بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضًا: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل كافرًا مرتدًا.
والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الحلال في كتاب "السنة" بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}
(1)
.
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحدًا بذنب. بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج .. ". انتهى كلام ابن أبي العز رحمه الله.
(1)
سورة الأنعام، الآية (68).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان؛ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعضهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يُعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يُطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد"
(1)
.
وقال -أيضًا-: "قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب، ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذا كان فعلًا منهيًا عنه؛ مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان. وأما إن تضمن ترك ما أمر الله به من الإيمان؛ مثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به"
(2)
.
قال الدكتور إبراهيم الرحيلي معلقًا: "لكن ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنب منصوصًا على الكفر به كفرًا أكبر؛ كترك الشهادتين، أو ترك الصلاة .. وأن لا يكون الذنب مما ينافي الإيمان بالله"
(3)
.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله رادًا على بعض من اغتر
(1)
مجموع الفتاوي (7/ 618 - 619).
(2)
مجموع الفتاوي (20/ 90).
(3)
موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع (1/ 182).
بمقالة "عدم تكفير أهل القبلة" ليحملها على الجهمية: "وأما ما ذكرته من استدلال المخالف بقوله صلى الله عليه وسلم "من صلَّى صلاتنا .. " وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ فإن هذا فرضه ومحلّه في أهل الأهواء من هذه الأمة ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام؛ كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون؛ لأن أصل الإيمان الثابت لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله، والعمدة استصحاب الأصل وجودًا وعدها، لكنهم يُبَدّعون، ويضللون، ويجب هجرهم، وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف.
وأما الجهمية وعباد القبور: فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام"
(1)
.
وقال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: "الآن لما فشا الجهل واشتدت غربة الدين، ظهر ناس من الذين يتسمون بالعلم، ويقولون: لا تكفِّروا الناس، يكفي اسم الإسلام، يكفي أنه يقول: أنا مسلم، ولو فعل ما فعل؛ لو ذبح لغير الله، لو سب الله ورسوله، لو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: أنا مسلم فلا تكفره!! وعلى هذا يدخل في التسمي بالإسلام الباطنية والقرامطة، ويدخل فيه القبوريون، ويدخل فيه الروافض، ويدخل فيه القاديانية، ويدخل فيه كل من يدَّعي الإسلام، يقولون: لا تكفروا أحدًا، ولو فعل ما فعل، أو اعتقد ما اعتقد لا تفرقوا بين المسلمين. سبحان الله! نحن لا نفرق بين المسلمين، ولكن هؤلاء
(1)
إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية، ص 157.
ليسوا مسلمين؛ لأنهم لما ارتكبوا نواقض الإسلام خرجوا من الإسلام، فكلمة:(لا تفرقوا بين المسلمين)، كلمة حق والمراد بها باطل؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لما ارتد من ارتد من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم، ما قالوا: لا تفرقوا بين المسلمين؛ لأنهم ليسوا مسلمين ما داموا على الردة، وهذا أشد من أنك تحكم لكافر بالإسلام، وسيأتيكم أن من الردة: من لم يكفر الكافر، أو شك في كفره، فهذه المسألة وهي من لم يكفر الكافر أو شك في كفره فهو كافر مثله، وهؤلاء يقولون لا تكفروا أحدًا ولو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: لا إله إلا الله، أنتم واجهوا الملاحدة واتركوا هؤلاء الذين يدعون الإسلام!! نقول لهم: هؤلاء أخطر من الملاحدة؛ لأن الملاحدة ما ادعوا الإسلام، ولا ادعوا أن الذي هم عليه إسلام، أما هؤلاء فيخدعون الناس ويدّعون أن الكفر هو الإسلام، فهؤلاء أشد من الملاحدة، فالردة أشد من الإلحاد -والعياذ بالله- فيجب أن تعرف موقفنا من هذه الأمور ونميزها ونتبينها؛ لأننا الآن في تعمية، فهناك ناس يؤلفون ويكتبون وينتقدون ويحاضرون، ويقولون: لا تكفروا المسلمين، ونقول: نحن نكفر من خرج عن الإسلام، أما المسلم فلا يجوز تكفيره"
(1)
.
قلت: فحق -بعد هذا- أن يقال لدعاة "التقريب الموهوم" ما قاله المتنبي:
فإن الجرح ينفر بعد حين
…
إذا كان البناء على فساد!
فلا لقاء ولا تآلف ولا تقارب بين الفرق الإسلامية ما لم تلتق على عقيدة السلف ومنهجهم. وأما بغير ذلك "فستبقى حزازات النفوس كما هي".
(1)
سلسلة شرح الرسائل، ص 213 - 215.
والخلاصة: أن هذا المصطلح لا يؤيد دعاوى العصرانيين ونحوهم من يريد أن يُلبس الحق بالباطل، ويساوي بين أصحاب الصراط المستقيم وغيرهم من المبتدعة المنحرفين. بل تبقى أحكام المبتدعة كما هي: من ارتكب منهم مكفرًا كفرناه، ومن لم تخرجه بدعته عن الإسلام ناصحناه وبينا انحرافه وخطأه، وتعاملنا معه بما هو مقرر في كتب أهل العلم
(1)
.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: كيف يتعامل الإنسان الملتزم بالسنة مع صاحب البدعة؟ وهل يجوز هجره؟
فأجاب: "أقول: إن البدع تنقسم إلى قسمين: بدع مكفرة، وبدع دون ذلك، وفي كلا القسمين يجب علينا نحن أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق؛ بيان الحق دون أن نهاجم ما هم عليه إلا بعد أن نعرف منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله تعالى قال للنبي:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
(2)
فندعوا أولًا هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته، والحق مقبول لدى كل ذي فطرة سليمة، فإذا وُجد العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم، على أن بيان باطلهم في غير مجادلتهم أمر واجب.
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة؛ فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره: إن كان في هجره
(1)
انظر مثلًا: رسالة الدكتور إبراهيم الرحيلي "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدعة".
(2)
سورة الأنعام، الآية (108).
مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه .. "
(1)
.
مصطلح الإصلاح:
مصطلح (الإصلاح) من المصطلحات التي شاع ذكرها وكثر تداولها في وسائل الإعلام هذه السنوات القريبة -لا سيما في بلاد التوحيد- فلا يكاد يمر أسبوع أو أسبوعان -أو شهر على أكثر تقدير! - إلا ونسمع عن ندوة تعقد عن (الإصلاح)، أو مقال يُحبر في (الإصلاح) .. وهكذا. فكلٌ يدعي وصلًا بهذا (الإصلاح) مهما اختلفت المشارب أو التوجهات؛ مما أحدث ربكة في أذهان المتابعين، وعجبًا كثيرًا عندما يرون التباين الواضح والمتناقض بين مدعي (الإصلاح)؛ مما أورث تساؤلًا لديهم عن: من (المصلح) الحقيقي من هؤلاء المدعين؟! لأن (الإصلاح) مصطلح مجمل يستعمله المصلح والمفسد في آن واحد.
وكما قال ابن القيم رحمه الله: "أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل"
(2)
.
وقال -أيضًا-: "أصل ضلال بني آدم: الألفاظ المجملة، والمعاني المشبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهانًا مخطبة"
(3)
قلت: ومصطلح (الإصلاح) في القرآن الكريم نوعان:
1 -
الإصلاح الصادق؛ وهو إصلاح الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ ممن
(1)
الفتاوي (1/ 35).
(2)
شفاء العليل (1/ 324).
(3)
الصواعق (3/ 927).
يدعو إلى توحيد الله وعبادته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن تنتشر الطاعات والخير، وتندثر السيئات والشر.
قال الشيخ أبن سعدي في تفسيره: "الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به؛ لهذا خلق الله الخلق وأسكنهم الأرض"
(1)
.
ومن هذا الإصلاح الحق ما قاله شعيب عليه السلام لقومه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}
(2)
. ثم نهاهم عن الإفساد المضاد للإصلاح: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}
(3)
.
قال ابن كثير في تفسيره: فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك؛ كأن أضر ما يكون على العباد"
(4)
.
وهذا الإصلاح الصادق إذا كثر حملته وظهروا وتصدروا الأمة كان ذلك أمنة -بإذن الله- أن تصيبهم العقوبة ويعمهم الهلاك؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}
(5)
.
قال الطبري في تفسيره: "يقول تعالى ذكره: وما كان ربك يا محمد ليهلك القرى التي أهلكها، التي قص عليك نبأها ظلما وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 51).
(2)
سورة هود، الآية (88).
(3)
سورة الأعراف، الآية (85).
(4)
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (2/ 231).
(5)
سورة هود، الآية (117).
وطاعتهم ربهم ظلمًا. ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم، وركوبهم السيئات
(1)
.
2 -
الإصلاح الكاذب: وهو إصلاح المنافقين والمفسدين ممن يُلبسون على الأمة بتسمية إفسادهم إصلاحًا! كما قال تعالى عن أسلافهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
(2)
لكن الدعاوى لا تنفع أصحابها إن لم تكن حقيقة؛ ولذا رد الله عليهم وبين كذبهم بقوله {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}
(3)
.
قال الطبري رحمه الله في تفسيره: "والإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه؛ فدلك جملة الإفساد
…
فكذلك صفة أهل النفاق: مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملًا إلا بالتصديق والإيقان بحقيقته، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها"
(4)
.
وقال في تفسير قوله تعالى {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} : "أي المخالفون
(1)
جامع البيان للطبري (15/ 530).
(2)
سورة البقرة، الآية (11).
(3)
سورة البقرة، الآية (12).
(4)
جامع البيان (1/ 289 - 290).
أمر الله عز وجل، المتعدون حدوده، الراكبون معصيته، التاركون فروضه"
(1)
.
وذكر ابن الجوزي في تفسيره أن فسادهم هو: (الكفر) و (العمل بالمعاصي) و (النفاق)
(2)
.
وقال القرطبي في تفسير قول المنافقين {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} : "إنما قالوا ذلك على ظنهم؛ لأن إفسادهم عندهم إصلاح"
(3)
.
وقال الراغب: تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح؛ لما في قلوبهم من المرض؛ كما قال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}
(4)
وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(5)
وقوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}
(6)
.
وقال القاشاني: "كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا -لأنفسهم خاصة- لتوغلهم في محبة الدنيا"
(7)
، أي على حساب الدين.
وقال ابن سعدي في تفسيره: "جمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح! قلبًا للحقائق، وجمعًا بين فعل
(1)
المصدر السابق نفسه (1/ 291).
(2)
انظر زاد المسير (1/ 32).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 204).
(4)
سورة فاطر، الآية (8).
(5)
سورة الأنعام، الآية (43).
(6)
سورة الكهف، الآية (104).
(7)
انظر محاسن التأويل القاسمي (1/ 252).
الباطل واعتقاده حقًا. وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها، فهذا أقرب للسلامة، وأرجي لرجوعه"
(1)
.
وقال سيد قطب: "والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدًا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتي اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية"
(2)
.
وقال الطاهر بن عاشور في تفسيره: "إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع
…
-إلى أن قال- فالإفساد في الأرض منه: إفساد المساعي؛ كتكثير الجهل، وتعليم الدعارة، وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين المصلحين. ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق (تفسدوا) تأكيدًا للعموم
(3)
.
قلت: فليتنبه المسلم بعد هذا إلى الفرق بين الإصلاحين؛ حتى لا ينخدع بدعاوى أهل النفاق لا كثرهم الله.
مصطلح الحياد
هذا المصطلح يستخدمه البعض في مجال العلم للدلالة على "ترك الميل
(1)
تيسير الكريم الرحمن، للسعدي (1/ 50).
(2)
في ظلال القرآن (1/ 44).
(3)
التحرير والتنوير (1/ 284).
في بحث قضية من القضايا، والوقوف موقف العدل والإنصاف"
(1)
ويعدون التلبس به مما يمدح به الباحث، ويدل على عدم حيفه واستجابته لعواطفه التي قد تخالف ما يظهر له من حقائق.
ولكن لو نظرنا إلى معنى هذا المصطلح في اللغة لوجدناه لا يدل على شيء من هذا؛ فقد جاء في لسان العرب (مادة: حيد): "حاد عن الشيء: يحيد حيدا وحَيَدانًا ومحيدًا وحيدودة: مال عنه وعدل". ومثله في القاموس المحيط. فلا رابط بين معناها في اللغة وما استخدمت له في مجال العلم. إلا أن يراد أن يميل الإنسان أثناء البحث عن (الهوى) الذي يصده عن الحق، كما قال تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}
(2)
الآية، فعندها يحسن استعمال مصطلح (العدل) الذي يغني في هذا الباب، وقد أمر الله المؤمنين في كتابه بأن يتصفوا به أثناء تصديهم للحكم بين الناس أو بين الأفكار؛ قال سبحانه:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}
(3)
، وقال:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
(4)
فالمسلم مطالب بالعدل في
(1)
منهج كتابة التاريخ الإسلامي؛ للأستاذ محمد بن صامل العلياني (ص 145) وقد نبه وفقه الله على خطأ استعمال هذا المصطلح وغيره من المصطلحات المشابهة.
(2)
سورة ص، الآية (26).
(3)
سورة النساء، الآية (58).
(4)
سورة المائدة، الآية (8).
ما يصدره من أحكام؛ وهو أن يضع الشيء في موضعه الذي وضعه الله فيه شرعًا، فيمدح ما مدحه الله ويذم ما ذمه، ويدور مع ما دل عليه الكتاب والسنة، ولو خالف بذلك عواطفه أو أهواءه، فضلا عن عواطف وأهواء الآخرين.
والذي يظهر أن مصطلح (الحياد) تسرب إلى المجال العلمي من المجال السياسي؛ حيث عرف هذا المصطلح حديثًا في عالم السياسة (بعد الحربين العالميتين) بمعنى عدم التحيز إلى أحد من الطرفين المتصارعين، وذلك بعد أن ذاق العالم ويلات الحربين. يقول الدكتور عبد المنعم زنابيلي:"الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ظاهرة من الظواهر السياسية لعالم كابد الحرب العالمية الثانية"
(1)
، وهو يعني:"عدم التحزب لأجل غير محدوده"
(2)
.
والحياد في السياسة نشأ كما يقول الدكتور أحمد زكي بدوي: "بتأثير الجو العام الذي كان يسود العلاقات الدولية بسبب الحرب الباردة، وقد تجسد بشكل عملي لأول مرة في مؤتمر باندونج"
(3)
.
وهذا الحياد "إمكانية من إمكانيات الخيار التي يحق للدول اللجوء إليها في حال قيام نزاع مسلح لا يعنيها أو لا يتعلق بها بصورة مباشرة"
(4)
، ومن خلاله -كما يقول الدكتور زنابيلي-: "تهدف الدولة المحايدة
…
إلى تجنيب شعبها وأرضها مختلف الاحتمالات الناجمة عن الصراعات المسلحة"
(5)
،
(1)
تطور مفهوم الحياد عبر المؤتمرات الدولية، د. عبد المنعم زنابيلي، ص 5.
(2)
المرجع السابق، ص 13.
(3)
معجم المصطلحات السياسية والدولية، لأحمد زكي بدوي، ص 115.
(4)
موسوعة السياسة، للكيالي، (2/ 594).
(5)
تطور مفهوم الحياد عبر المؤتمرات الدولية، ص 17.
وأكثر من استعمل هذا المصطلح ودعا إليه الدول الآسيوية والأفريقية التي اكتشفت أنها قد أصبحت مجرد دمية تحركها الدول المتقدمة في صراعاتها المتنوعة، فبادرت إلى إطلاق هذا المصطلح لتحمي نفسها ومصالحها من شرور ذلك الصراع بين الكتلتين (الشرقية والغربية).
ثم استعمل هذا المصطلح في مجال البحث العلمي للدلالة على ترك الميل مع العواطف في بحث قضية من القضايا، والوقوف منها -كما يزعمون- موقف الإنصاف، فأصبح الباحث (المسلم المتأثر بهذا المصطلح) يعرض المسائل العلمية عرضًا دون هوية، أو ميل للانتصار للحق أو مدافعة للباطل! ليثبت للآخرين أنه (محايد)! أو لا يُحكِّم عواطفه بل عقله!.
ويتضح خطأ هذا المصطلح وخطورته في ذات الوقت عندما يتلبس به الباحث المسلم أثناء حديثه عن أمور الديانات والعقائد؛ حيث يضطره تأثره بهذا المصطلح واغتراره به إلى أن يستحيي من نصر الحق والمدافعة عنه، والفخر والفرح بالتزامه.
قد تقول: لا يلزم كل هذا؛ لأن الباحث المسلم عندما يتعرض لتلكم المسائل أو غيرها (بحياد) فإن ذلك سيوصله -حتمًا- إلى الحق والصواب فيها، وهو ما يوافق الكتاب والسنة؛ لأن الشرع والعقل (المحايد) يلتقيان ولا يتناقضان، وبهذا نضمن قبول الآخرين لهذا الحق والصواب الذي تمحض نتيجة هذا الموقف الحيادي لا العاطفي.
فأقول: قد يكون هذا صحيحًا في المسائل الظاهرة التي يدركها العقل.
لكنه ليس بصحيح في المسائل الكثيرة المتعلقة بالإيمان والتسليم، لا سيما في مجال الغيبيات والعقائد، أو المسائل التي يتوهم المحايدون أنها تعارض العدل! كأحكام أهل الذمة، وأحكام المرأة، أو المسائل التي لم تتبين حكمتها لكثير من الناس؛ فمثل هذه المسائل تجعل الباحث المسلم في محك خطير بين أن يرفضها وينكرها متابعة منه لما يسمى الحياد العلمي، وبين أن يقبلها ويُسلم بها استجابةً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اختار الأولى صدق عليه قوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}
(1)
، وإن اختار الثانية كان من المرحومين الذين قال الله فيهم:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
(2)
.
ويتضح لك هذا بالمثال: فإن الباحث المسلم عندما يتعرض لقضية جريان الشمس من عدمه، هو بين أمرين: إما أن يمارس ما يسمى بالحياد العلمي، فيعتقد ثبوت الشمس ودوران الكواكب حولها؛ متابعة منه لما أقامه علماء الغرب من دلائل علمية -زعموا- على هذا الأمر، ويُبطل غيره ولو كان قد قرره القرآن بصراحة ووضوح؛ وهو أن الشمس ليست بثابتة، بل تجري؛ كما قال تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}
(3)
.
والأمثلة على هذا كثيرة لا يسعها المقام، لا سيما -كما قلت سابقًا- في
(1)
سورة يونس، الآية (39).
(2)
سورة آل عمران، الآية (123).
(3)
سورة يس، الآية (38).
مسائل الغيبيات، أو في أحكام المرأة، أو أحكام أهل الذمة؛ حيث تتصادم النصوص الشرعية (الصريحة) مع ما يظنه المتأثرون بالحياد إنصافًا أو عدلًا! فيبقون بعدها محتارين بين ما يعلمونه يقينًا من نصوص الشريعة، وبين ما تلبسوا به من حياد كاذب خدعهم به الآخرون. وهذا ابتلاء عظيم صرفه الله عمن عظم وحيه وشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فعلى الباحث المسلم أن يتقي الله ربه، ويحذر من الانسياق وراء هذه المصطلحات المخادعة التي هي في حقيقة أمرها تؤول إلى تعظيم العقل البشري القاصر على حساب النصوص الشرعية، كما أنها تجعل من المسلم إنسانا ماديًا متمردًا لا يقبل التسليم لما قاله الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والله يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}
(1)
، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
نديم الباري:
لما وصف الشيخ علي القاري أحد العلماء بقوله: "
…
نديم الباري" تعقبه الشيخ مشهور حسن سلمان بقوله: "في إضافة هذه اللفظة إلى المولى عز وجل نظر، ولا سيما إذا علمت معنى النديم في اللغة، راجع مادة ندم في معجم مقاييس اللغة
…
"
(2)
.
قلت: راجعتُ المعجم فإذا فيه: "شريب الرجل: منادمه ونديمه"
(3)
،
(1)
سورة الأنفال، الآية (24).
(2)
المقدمة السالمة في خوف الخاتمة؛ لعلي القاري، (ص 30).
(3)
معجم مقاييس اللغة، (6/ 411).
فتعالى الله عن هذا الوصف علوًا كبيرًا.
روح الإسلام:
قال الشيخ علي حسن عبد الحميد -حفظه الله-: "كلمة: (روح الإسلام) خدعة عقلانية علمانية فاسدة، تسربت -وللأسف- إلى بعض من يُطلق عليهم أنهم من رموز الحركة الإسلامية! فانظر فضحًا لها وكشفًا لحقيقتها في: "حقائق الإسلام بين الجهل والجحود" تأليف عبد المجيد صُبح"
(1)
.
قلتُ: نظرت كتاب الأستاذ صُبح فإذا فيه: "يتكلم المعارضون كثيرًا عما يسمى (روح الإسلام)، ويتخذون هذا المصطلح قاعدتهم في ترك نصوص الشريعة، وهدم أحكامها المأخوذة مباشرة من تلك النصوص، حتى وإن كان النص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة -مع اعترافهم وشهادتهم على أنفسهم بهذا القطع- وتجد هذا في كتابات نور فرحات مكررًا مؤكدًا.
كما يتخذون (روح الإسلام) طريقًا إلى وضع أحكام جديدة من عند أنفسهم تعارض ما جاء به الإسلام، ويزعمون أنفسهم أنهم أفهم للإسلام من الدعاة الحرفيين، الذين أهملوا -بحسب قولهم- العمل بروح الإسلام، كما أهملوا -بزعمهم- إعمال العقل!
وهكذا، باسم (روح الإسلام ينتهون إلى وقف نصوص الشريعة، ووضع قانون يخترعونه، وباطل يشترعونه، بزعم أنه روح الإسلام، أو أنه يتفق وروح الإسلام.
(1)
العقلانيون أفراخ المعتزلة، (ص 66).
ولكي نعرف حكم ما عند القوم، ولتكون معرفتنا على بصيرة: يلزم ألا نطلق القول كإطلاقهم من غير تحديد لما يريدنه من قولهم: روح الإسلام، بل يجب أن نعرف المقصود من روح الإسلام، وما فائدة العمل بها؟ وهل معرفتها، والعمل بها تبطل نصًا أو تعطل حكمًا من أحكام الشريعة بمعناها الخاص؟
تعريف (روح الإسلام):
روح الإسلام مصطلح جديد -فيما أعلم- تكلم به العلماء المحدثون ليقيسوا عليه بعض العبارات المستخدمة في المذاهب السياسية والاجتماعية وغيرها.
وأول ما تحدد معناها -عندي- كان وقت إذ سمعت أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله يتحدث عنه ويشرحه.
ويقصدون به: ما يفهمه (المجتهد) من مجموع النصوص مجموعا بعضها إلى بعض، بحيث تعطي معنى جديدًا، أو مبدأ جديدًا، من غير أن يكون هناك نص جزئي خاص بهذا الذي انطبع عند المجتهد من مجموع النصوص.
مثال ذلك: أن نقول: روح الإسلام النظافة، روح الإسلام الذوق؛ من غير أن يكون هناك نص خاص يتحدث عن النظافة أو عن الذوق بمعني الرقة والرقي في المعاملة الاجتماعية، وإنما ينظر المجتهد في قول الله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
…
}
(1)
الخ الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم:
(1)
سورة المائدة، الآية (6).
من أكل ثومًا أو بصلًا فليعْتزلنا"
(1)
. وقوله: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده"
(2)
وأشباه هذه النصوص، فيقول: روح الإسلام: النظافة.
وهذا الذي استخلصه المجتهد، وانطبع عنده، ويسمى روح الإسلام، لا بد أن يكون قابلًا للبرهنة عليه بأحد أدلة الشرع، وأن يكون متفقًا ونصوص الشريعة، وإلا كان اجتهادًا خاطئًا، وقولًا بالهوى، وتشريعًا بالرأي الصرف غير المستند إلى الشريعة، يجب على المجتهد الرجوع عنه إذا كان يناقض الشريعة.
وهذا الذي يفهمه المجتهد من مجموع النصوص شبيه بدلالة النص على معني تابع غير معناه الذي سبق له النص، يأخذ منه المجتهد حكمًا فقهيًا، مع الحكم الأصلي الذي سبق النص من أجله. وذلك مثل قول الله سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}
(3)
فالمراد الأصلي من الآية هو: إيجاب السعي إلى صلاة الجمعة عند النداء لها، ولكن المجتهد يأخذ من هذا النص الموجب للسعي حكما آخر هو: بطلان عقد البيع وفساده؛ لأنه يرى أن الدلالة على فساده لزمته من النهي عن ترك السعي، والأمر بالسعي إلى المسجد، وذلك من غير إبطال للحكم الأصلي الذي سيقت له الآية.
(1)
متفق عليه: رواه البخاري برقم (855)، ومسلم برقم (564).
(2)
متفق عليه: رواه البخاري بنحوه، رقم (162)، ومسلم بلفظه، رقم (278).
(3)
سورة الجمعة، الآية (9).
وعملية: روح الإسلام هذه أشبه بعملية الفرض في العلوم الطبيعية، وهو عبارة عن رأي ظني لتفسير الظاهرة؛ إذ يقوم العالم باستخلاص هذا الفرض من المعلومات الجزئية التي جمعها في موضوع البحث، ثم يبتدئ من هذا الفرض، لينتهي إلى نتائج تكون أحكامًا علمية في موضوع بحثه، فإذا ما تبين العالم خطأ الفرض الذي وضعه واستخلصه من الجزئيات افترض فرضًا آخر، حتى ينتهي إلى الصحيح الذي تؤيده التجارب.
ومن عملية روح الإسلام انتهى العلماء إلى وضع مبادئ كلية قالوا: إنها مقصود الإسلام، سمّوها مصالح، وهذه المصالح من حيث درجة الإلزام بها ليست على مكان سُوي، بل منها ما هو ضروري: تفوت الحياة بفوته، ومنها ما هو أقل من ذلك: لا تفوت به الحياة، بل تضطرب لفوته، ومنها ما هو للحياة زينة وجمال وكمال. وذلك مبحث معروف في علم أصول الفقه قديمًا.
ولا يزال من حق المجتهد المستوفي شروط الاجتهاد أن يستخلص من نصوص الإسلام ما يكوّن قواعد عامة، وكليات جامعة، ومبادئ للحكم والسلوك.
ولسوف يظل للمجتهدين المستحقين لصفة الاجتهاد هذا الحق الذي يفرضه الإسلام فرضًا؛ وذلك مثل مبادئ: الحرية، الكرامة، حق تقرير المصير .. إلى آخر هذه الكلمات المستحدثة في أفكار البشر، من كل ما يكون حقا في ذاته، وصحيحًا في العقل السليم، والتجارب المنتجة.
ومن خطل الرأي وخطئه أن يقول قائل: لماذا لم يقل بالحرية والكرامة
…
المسلمون من قبل. أو يقال: إنكم لم تقولوا بهذا إلا بعد أن اطلعتم على
ثقافة قوم آخرين، وأفكارهم؛ كما قال ذلك كاتب الوهم -د. فؤاد زكريا- في رده على الأستاذ خالد محمد خالد، عندما عرض (مستخلصاته، وانطباعاته) من نصوص الإسلام في الحكم الإسلامي من تعدد الصحف والأحزاب .. إلى آخر ما اجتهد فيه الأستاذ خالد.
لا يقال ذلك للآتي:
1 -
لأن قاعدة الفقه الإسلامي تقرر: أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلا حظر إلا بنص. قرر العلماء هذه القاعدة بحكم العقل، واستخلاصًا من مجموع نصوص الإسلام؛ فالعقل يدل على أن الأصل براءة الذمة من التكليف قبل ورود الشرع، ونصوص الشريعة التي تنكر التحريم من غير إذن الله دلت على أن الأصل إنما هو الإباحة، ليس التحريم
2 -
وقرر العلماء بطريق تلك القاعدة: أن موقف الإسلام من الأمر الجديد، ومما لم يرد في الشرع أنه مقبول ما لم يعارض الشرع معارضة حقيقية.
3 -
لا يمنع الإسلام أن يستفيد المسلم من أي أحد من الناس، ما يعينه على فهم الإسلام وتنفيذ ذلك المفهوم.
4 -
ولأن العقل -والإسلام هو الدين الوحيد الذي اعتدّ به في الاستدلال- لا يمنع أن أمرًا ما يعين المسلم على فهم أمر آخر، لم يفهمه من لم يطلع على ذلك الأمر الأول.
5 -
ولأن العقل لا يقول -عند هذه الاستعانة- إن الأمر المستعان به قد ألغي الأمر المستعان عليه، أو أنه لم يكن متضمنًا هذا المفهوم الجديد؛
فقد يكون أمرٌ ما متضمنًا لجملة حقائق، يستخلص بعضها قوم في زمانهم، ثم يأتي آخرون، فيهتدون إلى حقائق أخر مما كان مكنونًا في الأمر نفسه.
ومن الأمر العجيب أن هذه الحقيقة التي ينكرها د. زكريا المسلم، أدركها مسيحي من قوم خصمين؛ ذلك هو السير:(ريتشارد وود) قنصل إنجلترا في تونس، حين كانت دول أوربا إلبًا على الدولة العثمانية تعمل على هدمها واقتسام إمبراطوريتها، واتهامها بأن دينها الإسلامي هو سبب تخلفها، وأنه العقبة في تحقيق ما تعتزمه من إصلاح.
وكتب قنصل الإنجليز تقريرا في 7/ 11/ 1878 إلى وزير خارجيته، ومما جاء في هذا التقرير قوله: وحاصل ما قرره الفقهاء أن النظم التي رأت الدولة العثمانية العمل بها، خصوصًا تأسيس المجلس النيابي لا ينافي أصول الشرع، بل هو مطابق لصريح قواعده ونصوصه، وإني بسطت القول في أصول الشريعة الإسلامية لإزالة ما توهمه الناس من أن الدولة العثمانية لا تقدر على إتمام ما وعدت به من أنظمة؛ لأنها مخالفة لما جاء في القرآن، ومن أوهام الناس هذه: أن الإسلام ينبو عن الأخذ بأسباب التقدم والحضارة؛ لأنه لا يجيز انتشار المعارف، والتحلي بالعلوم
…
لكننا إذا أمعنا النظر في أصول الشريعة لا نرى فيها ما ينافي تأليف مجلس نيابي عثماني. وللعالمين الشهيرين: ابن العربي، وسعد الدين التفتازاني كلام في ذلك:
يقول ابن العربي: .... ، ويقول السعد:
…
، ويقول حجة الإسلام الغزالي:
…
، (ونقل كلامهم المؤيد لما قال) وعلّق بقوله: وكلهم متفقون
على أن اشتراك رأي الأمة في شؤون المملكة ليس جائزًا فقط، بل هو القاعدة الأساسية في الإسلام.
أقول: من قبل أن أعلم هذا التقرير، كنت أعلم قول الغزالي:"فالإمام من انعقدت له البيعة من أكثر الخلق، والمخالف للأكثر باغ يجب ردّه إلى الانقياد إلى الخلق"
(1)
.
ويقول ابن نجيم: "إذا كان فعل الإمام مبنيًا على المصلحة فيما يتعلق بالأمور العامة، لم ينفذ أمره شرعًا إلا إذا وافق الشرع، فإن خالفه لم ينفذ، ولهذا قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتاب الخراج من باب إحياء الموات: وليس للإمام أن يخرج شيئًا من يد أحد إلا بحق ثابت معروف"
(2)
.
هذه أقوال العلماء الذين مضى على أكثرهم قرون، ولا يستطيع د. زكريا القول بأنهم تأثروا بالغرب تأثر خالد محمد خالد، ولا يستطيع حسين أحمد أمين أن يقول عن القنصل البريطاني: إنه أراد أن يصدم مشاعر قومه، أو انه أراد أن يظهر بمظهر الكاتب الحر، ولا أنه كتب ذلك طمعًا في نفط العرب، كما قال عمن كتبوا صادقين عن سيرة الرسول وحقيقة الإسلام، فليست كتابة القنصل البريطاني ترجمة عن نبي الإسلام أريد بها البحث العلمي
…
إنما تقرير رسمي قدمه دبلوماسي إلى دولته، وشهادة بالواقع الذي رآه، وشهادة بما علم.
(1)
إحياء علوم الدين، 1/ 120.
(2)
الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 124.
فائدة العلم (بروح الإسلام):
مما تقدم يتبين لنا أن فائدة العلم بما سماه العلماء (روح الإسلام)، وفائدة تطبيق العلم بها هي:
- استخلاص مبادئ من النصوص تحكم حياة الناس في صورتها الحاضرة.
- معرفة حكم ما يضع غير المسلمين من مبادئ تحكم حياتهم؛ فإن كانت هذه مبادئ يمكن استخلاصها من مجموع النصوص كانت مقبولة ويمكن للمسلمين العمل بها، حتى ولو لم يعرفها الأسلاف. أما إذا كانت متعارضة وبعض نصوص الإسلام كانت مرفوضة، ولا يحل العمل بها ولو أجمع عليها كل غير المسلمين.
هذه حقيقة (روح الإسلام) ووظيفتها، ومنها يتبين أن ليست وظيفتها إبطال حكم منصوص عليه كما فعل حسين أمين، وأربى عليه نور فرحات، وليست وظيفتها أيضًا تشريع ما يخالف ما شرع الله في نصوصه الجزئية، حتى ولو حاول (المجتهدون غير المؤهلين) إدخاله في نصوصه العامة، أو حاولوا إدخاله تحت مظلة روح الإسلام؛ كما فعل العلمانيون جميعًا، ومعهم خالد محيي الدين في كتيبه:"الدين والاشتراكية".
ملتزم: (وصف الإنسان المستقيم به):
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "لا ينبغي تسمية المسلم (ملتزمًا)؛ لأنه لم يرد في الكتاب والسنة، إنما يسمى مستقيمًا؛ لقوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} .
(1)
الآية"
(2)
.
الإسلام السياسي:
قال الأستاذ عطية الويشي: "أول من استخدم هذا المصطلح هو هتلر، حين التقى الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين آنذاك؛ إذ قال له: إنني لا أخشى من اليهود ولا من الشيوعية، بل إنني أخشى الإسلام السياسي"
(3)
!! قلت: وهتلر وأضرابه من أعداء الإسلام يريدون معاملة الإسلام كدينهم النصراني المحرف الذي حصروه في الكنيسة، فلم تعد له هيمنة على أمور حياتهم. وفاتهم أن الإسلام لا يقبل هذا الفصام النكد، بل هو يوجه جميع أطوار حياة المسلم.
وقال الدكتور جعفر شيخ إدريس: "عبارة الإسلام السياسي كأختها: الأصولية؛ صناعة غربية استوردها مستهلكو قبائح الفكر الغربي إلى بلادنا وفرحوا بها، وجعلوها حيلة يحتالون بها على إنكارهم للدين والصد عنه. فما المقصود بالإسلام السياسي عند الغربيين؟ كان المقصود به أولًا الجماعات الإسلامية التي انتشرت في العالم العربي وفي باكستان والهند وأندونيسيا وماليزيا وغيرها؛ تدعو إلى أن تكون دولهم إسلامية تحكم بما أنزل الله تعالى.
ما الذي يأخذه خصوم الإسلام السياسي عليه؟
أما الغربيون فاعتبروه أولًا ظاهرة غريبة بعد سني الحكم الاستعماري
(1)
سورة فصلت، الآية (30).
(2)
برنامج نور على الدرب، حلقة يوم الخميس 7/ 2/ 1421 هـ.
(3)
حوار الحضارات، (ص 210). وقارن بما سيأتي عن الدكتور محمد عمارة.
الذي ظنوا أنه وطَّد الحكم العلماني على المنهاج الغربي، ووضع أسسًا متينة للتبعية وضمان المحافظة على المصالح الغربية، فشق عليهم أن تنبت في بلاد المسلمين نابتة تعارض هذه العلمانية التي يرونها تعم العالم بأسره. كيف تنشأ جماعات تسير عكس هذا التيار العالمي، وتدعو إلى الرجوع إلى حكم ديني إسلامي؟
وثانيًا: لأن الرأي السائد بينهم -لا أقول الذي يعتقده كل واحد منهم- هو أن الدين ينبغي أن يكون شأنًا فرديًا بين العبد وربه، لا مدخل له في الحياة العامة، ولا سيما السياسية منها التي يرون أن تكون متروكة لما يراه الناس، وأن تكون مبنية على المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم.
وثالثا: لأن الرأي الشائع بينهم أن النصوص الدينية محدودة بزمانها ومكانها الذي ظهرت فيه، وأنها لذلك ينبغي أن لا تفهم على ظاهرها، بل يجب أن تؤول تأويلًا يجعلها متناسبة مع ثقافة العصر.
ورابعا: لأن منهم من ظن أن الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله -تعالى- ظاهرة جديدة لم تكن في الإسلام من قبل؛ فلذلك ناسب أن توصف بالإسلام السياسي تمييزًا له عن الإسلام الديني.
وخامسا: لأنهم رأوا فيها صورة من صور استغلال الدين للمآرب السياسية.
لهذه الأسباب وأمثالها كانوا وما يزالون شديدي العداوة الفكرية
والعملية للجماعات التي تتسم بما أسموه بالإسلام السياسي؛ يحرشون الحكومات عليها، ويدعونها لكبتها حتى لو كان ذلك على حساب الديمقراطية التي كانت سائدة آنذاك في العالم الإسلامي، والتي استفادت منها تلك الجماعات، ويكتبون الكتب والمقالات، ويسخرون سائر وسائل الإعلام لحربها. ينصرهم في هذه الحرب أذنابهم المنافقون في بلاد المسلمين الذين يقتاتون على فضلات فكرهم ودعاياتهم، وقد امتدت حربهم في أيامنا هذه للدول التي تؤمن بمبدأ تطبيق الشريعة.
ولما كان الغربيون يرون أن ما هم عليه من دين أو فكر أو ثقافة أو حتي عادات في المأكل والملبس والجد واللعب، بل وما كان لهم من تاريخ وما مارسوه من تجارب، وسائر ما ألفوا من جوانب الحياة، هو الأمر الطبيعي، وأن ما خالفه هو الشذوذ الذي يحتاج إلى تفسير؛ فقد اجتهد بعضهم في أن يجد تفسيرًا لهذه (الظاهرة). فكان مما سلُّوا به أنفسهم أنها نتيجة لظروف طارئة هي: الحكم القهري، والتخلف الاقتصادي، والضعف العسكري الذي ابتليت به البلاد التي ظهرت فيها هذه الحركات -ولا سيما العالم العربي- وأن علاجها لذلك هو الضغط على تلك الحكومات لتكون أكثر انفتاحًا وديمقراطية، ومساعدتهم على شيء من النمو الاقتصادي يحسن من أوضاع الشباب المتذمرين؛ فإذا ما حدثت هذه الإصلاحات، وزالت الأوضاع القديمة زالت بزوالها نتائجها التي من أهمها ظاهرة الإسلام السياسي.
ونقول: إن ما ذكروه من أسباب ربما كان فعلًا من عوامل تشجيع ما يسمونه بظاهرة الإسلام السياسي، لكن مما لا شك فيه أنه ليس منشأها؛
فكل من له أدنى معرفة بدين المسلمين وتاريخهم يعلم أن قضية الالتزام بما أنزل الله في شؤون السياسية والحكم هي أمر عريق فية: في نصوص كتابه، وسنة نبيه، وأقوال علمائه، وأن تصديق ذلك في واقعة التاريخي الذي لم يعرف شيئًا اسمه الحكم العلماني، وأن هذا الحكم إنما فرض عليه من خارجه يوم استولت جيوش الغرب على بلاده. وحتى هذه العلمانية الدخيلة لم تبلغ مبلغ علمانيتهم في مدى بُعدها عن الدين، حتى إن الكثيرين منهم لينفون أن تكون حكومة من حكومات العالم الإسلامي علمانية، ويرون أنه من الخطأ لذلك أن توضع الإسلامية (بمعنى النشاط السياسي للحركات الإسلامية) في مقابل العلمانية.
وإذن فالقول بأنه مجرد استغلال للدين لتحقيق أهداف سياسية ليس بصحيح أيضًا؛ أولا: لأن من أعظم من دعا إلى الحكم بما أنزل الله وبين أنه جزءٌ لا يتجزأ عن دين الإسلام علماء أعلام لم تكن لهم أطماع سياسية، ولا كانت لهم في يوم من الأيام علاقة بالأحزاب الإسلامية السياسية؛ علماء من أمثال: الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز بن باز.
هل استغل بعض الأفراد وبعض الجماعات الدين لتحقيق أهداف دنيوية سياسية أو غير سياسية؟ نعم! وقد ظل كثير منهم يفعل ذلك على مر التاريخ، ومع كل رسالات السماء، ولا أعرف كتابا تطرق لهذه المشكلة وبيَّن أسبابها وأنواع مرتكبيها ونتائجها وحذر منها مثل كتاب الله تعالى. فعلى الذين يتحدثون عن هذه المشكلة أن يعلموا أنهم لم يأتوا بجديد. إن
هؤلاء يدعوننا لأن نترك ديننا؛ لأن بعض الناس استغله الأسباب سياسية، ولو تابعنا منطقهم هذا لتركنا بناء المساجد؛ لأن بعض المنافقين استغل بناءها لأسباب سياسية، فاتخذها:{ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}
(1)
.
وكانوا مع ذلك يحلفون بأنهم ما أرادوا إلا الحسني: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى}
(2)
ولو اتبعناه لتركنا الإنفاق في سبيل الله؛ لأن بعض الناس يتخذ ما ينفق مغرمًا (أي غرامة) ويتربص بنا الدوائر، وأقررنا أن لا يكون لنا علماء؛ لأن بعض علماء السوء يستغل علمه لأغراض دنيوية:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
(3)
.
وكما أن بعض الناس يستغل الدين لتحقيق أهداف سياسية فيكون انحرافه بسبب سوء قصده، فإن آخرين ينحرفون بسبب سوء فهمهم وقلة
(1)
سورة التوبة، الآية (107).
(2)
سورة التوبة، الآية (107).
(3)
سورة التوبة، الآيات (98 - 100).
علمهم، فيحاولون تحقيق بعض الأهداف السياسية بوسائل وطرق مخالفة لدين الله، وتحريفًا له وفتنة للناس عنه؛ فهل نترك العمل السياسي على أساس ديني؛ لأن بعض الناس يسيء فهم الدين؟
يقول بعض الغربيين: (لكن المشكلة أن كل إنسان يمكن أن يدَّعي أن فهمه هو الفهم الصحيح للتوراة أو الإنجيل أو القرآن، بل يزعم بعضهم أنه -يعني القرآن- كالكتاب المقدس: العهد القديم والعهد الجديد؛ بإمكانك أن تجد فيه أيًا ما تريد لتسوغ به كل ما تريد تقريبًا)، نقول فرق بين أن يدّعي مدّع أن ما استدل به من قول يدل على ما يريد وأن يكون دالًا فعلًا على ما يريد. أما القرآن فنحن نعلم أنه -وهو كتاب الله- لا يمكن أن يدل على الشيء ونقيضه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
(1)
.
يقول بعضهم: (إذا سلّمنا بهذا فتبقى مشكلة هي: أن النص بحسب معناه الذي تدل عليه ألفاظه ويدل عليه سياقه لا يتناسب مع ثقافة العصر؛ فلا بد إذن من تأويله لجعله مناسبًا معها)، لكن أليست هذه دعوة إلى خداع النفس؟ أنت تقرأ نصًا تقول: إنه كلام الله، وتفهمه على وجهه الصحيح، ثم تقول: إن هذا الذي فهمته لا يتناسب مع ما أريد، لذلك يجب أن أغيِّره لكي أجعله مناسبًا مع ما أهوى، ثم تقول: إن هذا الذي هويت هو ما عناه الله تعالى بكلامه. هل يقول هذا إنسان مؤمن؟ بل هل يقول هذا إنسان
(1)
سورة النساء، الآية (82).
أمين يحترم نفسه؟ إنك إما أن تعتقد أن ما يقوله الله هو الحق كما قاله، وإما أن تعتقد أنه ليس بالحق أو ليس بالعدل، فتقول: إنه لا يمكن أن يكون كلام الله، فتكفر بالكتاب الذي كنت تظن أنه كلام الله. أمَّا أن تجمع بين الفهم الصحيح والتحريف فلا. وهذا الأمر المنكر خُلُقًا ودينًا هو الذي حذرنا الله تعالى من الاطمئنان إلى ممارسيه:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
(1)
.
تأمل قوله تعالى: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ؛ أي إنهم فهموا ما قال الله تعالى وتصوروه على وجهه الصحيح، ثم عمدوا إلى تحريفه وهم يعلمون أنهم محرفون له.
ثم نقول: إن الدين الحق إنما جاء لنفع الناس في دنياهم وآخرتهم، فلا يمكن أن يكون فيه ما يمنع من الأخذ بشيء هو من ضرورات العصر، أما أهواء العصر وما يشيع فيه من قيم وأفكار وعادات وتقاليد؛ فإن الدين لم يأت لموافقتها، بل جاء لإقرار ما فيها من حق وإنكار ما فيها من باطل؛ فالمعيار هو كلام الله لا أهواء البشر.
ثم إن كثيرًا مما يسمى بثقافة العصر مما يخالف الدين الحق ليس هو في حقيقته بالأمر الجديد الذي يقال إنه مما امتاز به عصرنا، وإنما هو الثقافة التي اتسمت بها الجاهلية على مر العصور. خذ مثلًا استبشاعهم للحدود -ولا سيما حد الزنا- ودعوتهم إلى تغييره. هذا الحد موجود في التوارة، لكن
(1)
سورة البقرة، الآية (75).
اليهود غيروه حتى قبل مجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الذي دعاهم إلى ذلك هو فُشُوُّ الزنا بينهم، ولا سيما في أشرافهم. وهذا هو عين السبب الذي يدعو الغربيين وأمثالهم إلى استبشاع هذا الحد. إن الناس إذا فشت فيهم الفاحشة واعتادوها مات فيهم الشعور بأنها فاحشة، ودعك أن تكون جريمة تستحق هذا العقاب الأليم! "
(1)
.
وقال الدكتور محمد عمارة في كتابه "الإسلام السياسي والتعددية السياسية من منظور إسلامي": "إني لا أستريح كثيرًا لمصطلح الإسلام السياسي، رغم شيوع هذا المصطلح، وصدور كثير من الكتابات حول هذا الموضوع، وتحت هذا العنوان، وفيما أذكر وفي حدود قراءتي؛ فإن أول من استخدم مصطلح الإسلام السياسي هو الشيخ محمد رشيد رضا، لكنه استخدمه في التعبير عن الحكومات الإسلامية التي سماها الإسلام السياسي، ويعني الذين يسوسون الأمة في إطار الأمة الإسلامية، لكن مصطلح الإسلام السياسي يستخدم الآن ومنذ العقود الثلاثة الماضية وصعود المد الإسلامي والظاهرة الإسلامية بمعنى الحركات الإسلامية التي تشتغل بالسياسة. وهذا المصطلح "الإسلام السياسي" شبهة اختزال الإسلام في السياسة؛ لأنه ليس هناك إسلام بدون سياسة"
(2)
.
حظ:
قال الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله:
(1)
مجلة البيان (العدد 202).
(2)
ص 5 - 6.
"كلمة حظ إذا أريد منها ما قدره الله عز وجل على العبد أن يكون نصيبًا له في هذه الحياة؛ كما قال تعالى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}
(1)
؛ يعني: ينالهم حظهم الذي كتبه الله لهم: فهي بهذا المعنى صحيحة.
أما إذا أريد بالحظ: أن الأمور تجري بالصدفة والاتفاق دون تقدير سابق، فمعتقد هذا كافر.
فإن من أركان الإيمان: أن يؤمن العبد بالقدر كله؛ خيره وشره، حلوه ومره، من الله تعالى. والله أعلم"
(2)
.
منصف: (تسمية الله بذلك):
سئل الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله:
"هل يمكن إطلاق الصفات الآتية على الله عز وجل: موجود، منصف، معطي، بالرغم من عدم وجودها في القرآن؟!
فأجاب: "لا. المعنى صحيح، ولكن إطلاقها كأسماء لا يجوز؛ لأن أسماء الله توقيفية، فلا يجوز أن نسمِّي الله إلا بما سمَّي به نفسه، أو سمَّاه به رسوله صلى الله عليه وسلم، الأسماء التسعة والتسعين التي ورد بها الحديث الصحيح: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا"
(3)
.
موجود: الله موجود صحيح نخبر عنه هذا خبر؛ يعني إذا قيل: الله
(1)
سورة الأعراف، الآية (37).
(2)
فتاوي محمد خليل هراس، جمع عبد الكريم الدرويش، (ص 83).
(3)
رواه البخاري في كتاب الشروط (2736)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء (2677)، لكن ليس فيهما ذكر هذه الأسماء.
موجود، فنحن لا نسميه بموجود إنما نخبر عنه بأنه موجود، وفرق بين الإخبار والتبليغ، فأنا أقول:(أنت موجود) ليس اسمك موجود. إنت اسمك محمد أو إبراهيم لكن كون (أنت موجود) يعني: (لست معدومًا) يعني: (لست ميتًا)، فلا يقصد بموجود أن يكون اسمًا من الأسماء. إنما يقصد الإخبار عنه، فيجوز الإخبار عن الله بأنه موجود.
أما لفظ منصف: فاسم: (العدل) أحسن من (منصف)، والله سمَّى نفسه العدل، ونحن نسميه العدل ولا نسميه المنصف، وإن كان المنصف بمعني العدل، لكن نطلق الاسم الذي ورد، ولا نعدل عنه إلى اسم غيره.
وأما المعطي: فالله هو المعطي، لكن لا يجوز أن يفرد هذا الاسم عن قرينه؛ لأن هناك أسماء مزدوجة لا يجوز إفراد اسم منها عن قرينه، فلا يقال: المعطي فقط، بل يقال: المعطي المانع، الضار النافع، المعز المذل، الخافض الرافع، القابض الباسط؛ فهذه أسماء مزدوجة، فالكمال في أن تذكر معًا ولا تفرد. فقولك: المعطي صحيح، لكن لكي يكون اسما كاملًا من الأسماء الحسني يجب أن يقرن به الاسم الآخر، فيقال: المعطي المانع"
(1)
.
موسي بدين وعيسى بدين:
سئل الشيخ ابن جبرين -حفظه الله-:
ما الحكم الشرعي في هذه العبارة التي يرددها بعض عوام المسلمين: (موسي بدين وعيسي بدين) حيث يفهم من هذه العبارة أن الأنبياء دينهم مختلف، نرجو توضيح هذا الأمر؟
(1)
فتاوى الشيخ محمد خليل هراس، (ص 87 - 89).
فأجاب: "هذا الكلام ليس صحيحًا على إطلاقه؛ فإن دين الأنبياء واحد في باب الاعتقاد والتوحيد؛ فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
(1)
فأخبر بأن رسول كل أمة دعاهم قائلا: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، أي أخلصوا له العبادة واتركوا عبادة الطواغيت؛ وهي كل ما يعبد من دون الله، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
(2)
. أي كل واحد من الرسل أوحى الله تعالى إليه أن يدعو إلى (لا إله إلا الله) وإلى عبادة الله، وأخبر تعالى أن كل رسول بدأ دعوته بقوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
(3)
.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتي ودينهم واحد"
(4)
. وروى البخاري عن أبي سلمة وأبي عمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتي ودينهم واحد"
(5)
، وفي رواية لأحمد:"إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتي"
(6)
. وفي الباب أحاديث بهذا
(1)
سورة النحل، الآية (36).
(2)
سورة الأنبياء، الآية (25).
(3)
سورة الأعراف، الآية (59).
(4)
رواه الإمام أحمد: 2/ 406، وأبو داود بمعناه، كتاب السنة، رقم (4675).
(5)
رواه البخاري في صحيحه برقم (443).
(6)
رواه أحمد: 2/ 437.
المعنى، فأخبر بأن دينهم واحد: يعني في التوحيد، وأمهاتهم شتي: أي الملل والشرائع، وهو معنى قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
(1)
أي سبيلًا وسنة في الفروع؛ فالعبادات الفرعية في زمن موسي مخالفة لمن قبله بعض المخالفة، وكذا وجد خلاف في شريعة عيسى؛ فقد أحل لهم بعض الأشياء التي كانت محرمة عليهم، والله أعلم"
(2)
.
السلطان المغتصب من الله
؛
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن مقولة أحد المؤلفين: "فإذا جاء الرسول من عند الله يقول: {فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
(3)
. وهو ما قاله كل رسول لقومه، فهو في الحقيقة ينادي برد السلطان المغتصب إلى الله صاحب الحق وحده في التشريع للناس، وفي تقرير الحلال والحرام والمباح وغير المباح".
فأجابت: "لا نعلم بأسًا فيما ذكرته من حيث المعنى؛ ولكن الأسلوب فيه سوء أدب مع الله؛ لأنه سبحانه لا يستطيع أحد أن يقهره على أخذ حقه، بل هو القاهر فوق عباده، ولكن المشرك والحاكم بغير ما أنزل الله قد اعتديا على حق الله وحكمه وخالفا شرعه"
(4)
.
(1)
سورة المائدة، الآية (48).
(2)
فتاوى وأحكام في نبي الله عيسى عليه السلام، إعداد الأخ علي العماري، (ص 56 - 57).
(3)
سورة هود، الآية (84).
(4)
مجلة البحوث الإسلامية (33/ 67).
تسمية الله أو وصفه بأسماء وصفات مخترعة:
كقول بعضهم: إن الله هو "العقل العام"، وإنه:"مجموع عقول الكون صغيرها وكبيرها"
(1)
.
أو: "إن الله يعقل ذاته ولا يعقل ما دونها"
(2)
. وإنه: "العقل الفعال"
(3)
.
وكقولهم: "الإسلام يؤله العمل؛ لأن الله ذاته عمل في خلق السماوات والأرض"
(4)
.
وكقولهم: "الله وراء المادة"
(5)
.. أو "الله مادة له"
(6)
.
أو إنه: "حقيقة مطلقة"
(7)
، أو وصف الله تعالى بـ "الوجود الكلي"
(8)
، "والعلة الأولى"
(9)
.
أو: "السبب الأول"
(10)
.. "والإرادة الكلية"
(11)
، أو: "إنه هو أصل
(1)
أطلق هذه العبارات على الله تعالى: عبد الجبار الوائلي في كتابه "وحدة الوجود العقلية" في صفحات عديدة منها ص 122، 156، 170، 177، وغيرها.
(2)
المصدر السابق ص 156.
(3)
أطلقها حسن صعب في (الإسلام وتحديات العصر) ص 62.
(4)
قال هذه العبارة أيضا حسن صعب -المصدر السابق، ص 45.
(5)
قالها احمد أمين في (فجر الإسلام) ص 74، 75.
(6)
المرجع السابق نفسه.
(7)
قالها مالك بن نبي في (الظاهرة القرآنية) ص 92.
(8)
أطلقها سيد أمير علي في (روح الإسلام) ص 191.
(9)
أطلقها سيد أمير علي في (روح الإسلام) ص 191.
(10)
قالها حسن صعب (في الإسلام وتحديات العصر) ص 62.
(11)
سيد أمير علي (روح الإسلام) ص 29.
المكونات"
(1)
.
أو: "المحيط الأعظم الذي تخرج منه الحياة جميعها ثم تصب فيه"
(2)
.
"وأنه تعالى هو الأثير"
(3)
. أو: إن وحدانية الله تشمل "الوحدة في الوجود"
(4)
، "والوحدة في التركيب"
(5)
.
ومثله قول خالد محمد خالد عن الله تعالى: "
…
إن ذراعيه مفتوحتان
…
"!
(6)
إلخ.
ونحو ذلك من العبارات والأسماء والصفات المبتدعة التي تطلقها المدرسة العقلية الحديثة على الله تعالى، وبعضها مستمد من العقلانيين القدامي، كالفلاسفة وغلاة الصوفية، وأتباع الديانات والنحل الضالة، وبعضها من نسج خيالاتهم الفاسدة"
(7)
.
الشهر الكريم قد أظلنا ببركاته وفيوضه:
قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله:
(1)
قالها محمد عبد الله دراز في كتابه (الدين) ص 90 الهامش.
(2)
قالها أبو شادي في كتابه (ثورة الإسلام) ص 18.
(3)
نسبها الشيخ مصطفي صبري إلى الشاعر العراقي أمجد الزهاوي ص 121، ج 1 موقف العقل (الهامش).
(4)
قالهما أحمد شلبي في كتابه: مقارنة الأديان (الإسلام) ص 98.
(5)
المرجع السابق.
(6)
إنسانيات محمد خالد محمد خالد ص 33، وما أدري ماذا سيقول العقلانيون عن مثل هذا الكلام من صاحبهم إذا كانوا وصفوا السلف بالمجسمة حينما أثبتوا لله تعالى اليدين كما وصف نفسه سبحانه، فكيف بهذا الآثم الذي أطلق (الذراعين) كذبًا وافتراءً؟ تعالى الله عما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا.
(7)
الاتجاهات العقلانية الحديثة؛ للشيخ ناصر العقل (150 - 151) وجميع الهوامش منه.
"وفي كلام مصطفى العطار كلمة يجب التنبيه عليها؛ وهي قوله: "والشهر الكريم قد أظلنا ببركاته وفيوضه".
والجواب أن يقال: ليست البركات والفيوض من الأشهر ولا من غيرها من المخلوقات، وإنما هي من الله وحده لا شريك له؛ قال تعالى:{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}
(1)
. وقال تعالى: {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}
(2)
. وقال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ}
(3)
. وقال تعالى مخبرًا عن عيسي عليه الصلاة والسلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ}
(4)
. وقال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا}
(5)
الآية. وقال تعالى {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}
(6)
(7)
. وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}
(8)
. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
(1)
سورة هود، الآية (73).
(2)
سورة هود، الآية (48).
(3)
سورة الصافات، الآية (113).
(4)
سورة مريم، الآية (31).
(5)
سورة فصلت، الآية (10).
(6)
سورة الأنبياء، الآية (71).
(7)
سورة الأنبياء، الآية (81).
(8)
سورة آل عمران، الآية (96).
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}
(1)
، الآية. وقال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}
(2)
. وفي الحديث الصحيح: "وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد"، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًا.
ومن أضاف البركات والفيوض إلى غير الله تعالى فقد جعل ذلك الغير شريكا لله تعالى فيما هو من خصائص ربوبيته. وحيث إن هذا قد خفي على العطار أحببنا أن ننبه عليه"
(3)
.
يوضع سره في أضعف خلقه:
هذه من العبارات المنتشرة بين القبوريين لإضفاء هالات من التعظيم على قبور من يدعون فيهم الولاية. وقد كشفها وغيرها من العبارات القبورية الأستاذ خالد أبو الفتوح في مقاله: "دوافع تقديس القبور والأضرحة وآثارها"
(4)
. وقال: "المفهوم من كلمة: (سره) أنها القدرة المستندة إلى أسباب غيبية ومحيرة. و (أضعف خلقه) مقصود بهم: المجانين والمجاذيب
…
الخ"!
إننا نحترم جميع الأديان السماوية:
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في تعليقه على أحد الكتاب:
(1)
سورة الأعراف، الآية (96).
(2)
سورة النحل، الآية (53).
(3)
ذيل الصواعق، ص (358 - 359).
(4)
مجلة البيان، العدد (131).
"أمَّا قول الكاتب: (وإننا نحترم جميع الأديان السماوية) فهذا حق، ولكن ينبغي أن يعلم القارئ أن الأديان السماوية قد دخلها من التحريف والتغيير ما لا يحصيه إلَّا الله سبحانه، ما عدا دين الإسلام الَّذي بعث الله به نبيه وخليله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد حماه الله وحفظه من التغيير والتبديل، وذلك بحفظه لكتابه العزيز وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصَّلاة والتسليم؛ حيث قال الله عز وجل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(1)
. فقد حفظ الله الدِّين وصانه من مكائد الأعداء بجهابذة نقاد أمناء ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وكذب المفترين، وتأويل الجاهلين. فلا يقدم أحد على تغيير أو تبديل إلَّا فضحه الله وأبطل كيده. أمَّا الأديان الأخرى فلم يضمن حفظها سبحانه، بل استحفظ عليها بعض عباده، فلم يستطيعوا حفظها؛ فدخلها من التغيير والتحريف ما الله به عليم
…
"
(2)
.
اسم النبي حارسك:
بعض النِّساء في بعض البلاد إذا رأت من تنظر إلى طفلها، وخافت عليه من الحسد قالت:"اسم النَّبِي حارسك"، وهذا اعتقاد باطل؛ لأنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البشر لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا؛ كما قال تعالى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}
(3)
، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا
(1)
سورة الحجر، الآية (9).
(2)
مجموع فتاواه (2/ 183 - 184).
(3)
سورة الأعراف، الآية (188).
رَشَدًا}
(1)
، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
(2)
.
قول "زمزم" للمتوضئ:
بعض النَّاس إذا رأى رجلًا يتوضأ قال له: (زمزم) ويعني بذلك الدُّعَاء للمتوضئ أن يوفقه الله للحج أو العمرة ويتوضأ من زمزم، فيرد عليه المتوضئ قائلًا:(جمعًا) أي: نسأل الله أن يرزقنا ذلك جميعًا، أو يجمعنا الله هناك.
وهذا أمر ظاهرة الدُّعَاء والخير، ولكنه في هذا الموطن يُعَدُّ بدعةً؛ لأنَّه زيادة في عبادة لم يفعله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؛ حيث كانوا يتوضؤون في المدينة بعيدًا عن مكة، ولم ينقل عنهم هذا الدُّعَاء عند الوضوء، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أَمْرُنَا فهو رد"
(3)
.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم"
(4)
.
المصطلح اليهودي: التطبيع:
التطبيع يعني باختصار: تحويل السلوك الطارئ أو الجديد إلى ما يشبه الطبيعي ليصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان، أي إقامة علاقات تجنح
(1)
سورة الجن، الآية (21)، وانظر الكلمات النافعة في الأخطاء الشائعة؛ للشيخ وحيد عبد السلام بالي، ص 34 بتصرف. وانظر:"مختصر النبراس" للشيخ فكري الجزار، (ص 65).
(2)
سورة يوسف، الآية (64).
(3)
رواه بهذا اللَّفظ: مسلم برقم (1718).
(4)
ينظر: أخطاء شائعة، ص (39)، والمناهي اللفظية للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص (26، 27).
نحو الطبيعي الَّذي يسود علاقة النَّاس بحيث تصبح اعتيادية في القبول والتعامل المتبادلين.
ومن خلال مسيرة الصراع مع اليهود نجد أن الكيان اليهودي هو الَّذي أصر على جعل العلاقات مع العرب تبدو وكأنها طبيعية؛ حيث طرح استراتيجيات كبرى تطالب بالسلام والتعايش مع اليهود الغاصبين لضمان بقائهم في المنطقة.
والتطبيع برز كمصطلح واستراتيجية لتذويب العداء مع اليهود وكيانهم المغتصب الأرض فلسطين، ولإجراء عملية تغيير في النفسية العربية والإِسلامية وتعديلها لتتواءم وتتعايش وتتقبل الكيان اليهودي كجزء طبيعي مع حفاظ اليهود الصهاينة على مشروعهم العدواني.
وعمل الإعلام اليهودي للوصول بالعقل العربي إلى الاقتناع بأن التعايش مع العدو اليهودي هو المفتاح للأمن والاستقرار والسلام والرخاء، والذي يعني القبول بالكيان اليهودي كدولة مستقلة ذات حدود يسهل الدفاع عنها، والتسليم بالكيان اليهودي كحقيقة قائمة، والاستسلام لإرادة العدو ومخططاته، ولهذا أصبحت مصطلحات السلام والتعايش مع اليهود مصطلحات تتكرر على مسامعنا ويشدو بها الإعلام صباح مساء، وتُعقد لها المؤتمرات والندوات.
والتطبيع أي: جعل العلاقات طبيعية؛ وكان من لم يرتبط بمعاهدات سلام مع اليهود يكون أمره غير طبيعي، فأسموه السلام العادل والشامل،
وهذه كلها مصطلحات يحاولون التأثير بها علينا وعلى أدمغتنا بجعلها أمرًا واقعًا، باعتبار ذلك هو الأقرب للعقلانية.
وأصبحوا ينعتون كل من هو رافض للعلاقة والتعايش السلمي مع اليهود بالجهل؛ لأنَّهم لا يقبلون وجهة نظر الطرف الآخر!! "
(1)
.
المصطلح اليهودي: هيكل سليمان:
" يزعم اليهود أن المسلمين بنوا المسجد الأقصى مكان المعبد الَّذي يعتقدون سليمان عليه السلام قد بناه، ولهذا يطلقون على البقعة المقام عليها المسجد الأقصى -وهو كل ما دار عليه السور ويحوي مبنى المسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة- "هيكل سليمان"؛ وذلك للتهيئة والعمل لهدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم المزعوم على أنقاضه.
هذه الخرافات والأكاذيب أشاعها اليهود ويعملون على ترويجها؛ حتَّى أقنعوا بذلك أنفسهم والكثير من نصارى العالم - وخاصة البروتستانت- لأنَّهم يتوقعون أن النصارى سيساعدونهم في بناء هيكلهم، وأن بناءه سوف يُعَجل بقدوم المسيح الَّذي سيتخذُ من الهيكل مقرًا لحكمه، لذا فهم يستعطفون النصارى للعمل من أجل بناء الهيكل.
وعلى الرغم من التناقض الشديد عند اليهود وعدم اتفاقهم حول شكل الهيكل وموقعه، إلَّا أنَّهم متفقون جميعًا على هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، ولهذا تُوزع الملصقات والرسومات على اليهود من طلاب المدارس
(1)
مصطلحات يهودية: احذروها، عيسى القدومي، (ص 14 - 15).
والجامعات الَّتي تُجَسِّد الهيكل المزعوم، هذا بالإضافة لإنتاج نماذج صغيرة للهيكل المزعوم، حيث تقوم المنظمات والجامعات اليهودية بتوزيعها داخل وخارج فلسطين من أجل كسب الدعم والتعاطف المادي والمعنوي لهذه القضية، ووصل الأمر بأن يهدي قادة اليهود للزائرين لكيانهم مجسمًا ونقشًا للحي القديم في القدس، يظهر فيه الهيكل المزعوم!! بدلًا من المسجد الأقصى المُبَارَك.
والثابت في مصادرنا الإِسلامية أن ما قام به سليمان عليه السلام في بيت المقدس ليس بناء الهيكل، وإنَّما هو تجديد للمسجد الأقصى المُبَارَك الَّذي هو ثاني مسجد وضع في الأرض؛ فهو قبل سليمان وموسي عليهما السلام، والمسجد الأقصى لم يكن معبدا لليهود، ولكنه كان ولا يزال وسيبقى إن شاء الله مسجدًا للأمة المسلمة ممن صَدَّقَ بدعوة نبيه.
جاء بالسند عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "إن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم لما بني بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالًا ثلاثة؛ سأل الله عز وجل حكمًا يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلَّا الصَّلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه"
(1)
. وما عليه جمهور العلماء أن بناء سليمان عليه السلام بناء تجديد وليس بناء تأسيس، كما بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والخلفاء من بعده تجديدًا"
(2)
.
(1)
رواه النّسَائي، كتاب المساجد، باب فضل المسجد الأقصى، رقم (693).
(2)
مصطلحات يهودية احذروها، ص (48 - 49).
الإسلام لا يصلح لهذا الزمان
!
هذه كلمة كفرية روجت لها المذاهب الهدامة؛ كالشيوعية والعلمانية، فصدقتها عقول بعض الجهلة من المسلمين.
وإلَّا كيف يقول هذا القول مسلم؟ وهو يعلم من نصوص القرآن والسنة أن الإسلام هو خاتم الأديان الَّذي ارتضاه الله لعباده إلى قيام الساعة؛ كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
(1)
(2)
(3)
. وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
(4)
فكيف يرضاه الله لعباده تعالى وهو لا يصلح لهذا الزمان؟! ألا ساء ما يحكمون؟!
ألا يرى هؤلاء المفاسد والشرور الَّتي جرتها المذاهب المنحرفة عندما حكمت ديار المسلمين فأورثتهم الذل والمهانة والتخلف الديني والدنيوي؟!
(5)
بيان بعضٍ من (مظاهر) البراءة من المشركين:
قال الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله تعليقًا على هذه العبارة: "الصَّواب: (بيان بعضٍ من صور البراءة من المشركين)؛
(1)
سورة المائدة، الآية (3).
(2)
سورة آل عِمْران، الآية (85).
(3)
سورة المائدة، الآية (3).
(4)
سورة الأنعام، الآية (38).
(5)
انظر: "تحذير المسلمين من ألفاظ الكفر" للدكتور بسام العموش، (ص 65).
كلمة مظاهر: عصرية لا تشمل الباطن. قد يتبرأ من الظَّاهر ولا يتبرأ من الباطن"
(1)
.
وكان الشيخ محمد رحمه الله يقول عن الشرك الَّذي حول القبور والأضرحة: "لا تقولوا: مظاهر الشرك، فمعناه أن باطنهم خلاف ذلك! بل هذا هو الشرك! "
(2)
.
التيار الإِسلامي:
" إن هذا الوصف من اختراع المناوئين للدعوة إلى الله والدعاة إلى سبيله سبحانه. ومن المسلمات أن هذا العصر قد كثر فيه خصوم الإسلام والدعوة إليه؛ ليس في بلاد الكفر، بل وفي بلاد الإسلام، ومنهم من وُلدوا لأبوين مسلمين ولكنهم ضلوا الطريق نسأل الله لهم الهداية. أقول لقد أطلق هذا الوصف على الدعاة إلى الله وذلك لتحقيق غايات منها:
1 -
اعتبار الإسلام والدعوة إليه فكرة من الأفكار وحزبًا من الأحزاب وعقيدة من العقائد الموجودة في الساحة، أو في أي بلد من بلاد المسلمين؛ فالدعاة إلى الله بهذا يعدون فئة مثلها مثل الفئات الأخرى الَّتي تدعو إلى العقائد والملل والأفكار الأخرى؛ كالقومية والوطنية والشيوعية والليبرالية والوجودية والديمقراطية والعلمانية، فلكل عقيدة وفكرة من هاته الأفكار والعقائد تيار يمثلها ويدافع عنها ويدعو إليها،
(1)
"العالم العابد: الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم"، إعداد: ابنه الشيخ عبد الملك بن محمد القاسم، (ص 323).
(2)
السابق، (ص 328)، (ص 335).
وهنا مكمن الخطورة؛ لأنَّ الأمر أمر دعوة إلى التساوي بين من يدعو إلى الله وإلى دين الله الَّذي هو الإسلام وبين من يدعو إلى الإلحاد أو الشهوانية العلمانية الليبرالية أو الطاغوتية الديموقراطية.
2 -
ترسيخ فكرة أن الدعاة إلى الله باعتبارهم تيارًا إنَّما يريدون السلطة والحكم، وأنَّه لا يعنيهم الإسلام في شيء، بل هم تيار اجتمع من أجل غرض الحكم بأعيانهم وأسمائهم، وأنهم ما ساروا في طريق الدعوة إلى تطبيق شرع الله وحكمه إلَّا من أجل السلطة فقط، وهم في هذا متماثلون مع من يدعو إلى المذاهب والعقائد الأخرى، ولا شكَّ أن هذا التشويه للدعوة إلى الله ليس جديدًا، بل لقد وصف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بأوصاف مثل هذه الأوصاف، وذهب المشركون إلى عمه أبي طالب وقالوا له: إن كان محمد يريد جمالًا زوجناه أجمل النِّساء، وإن كان يريد مالًا أعطيناه حتَّى يكون أغنانا، وإن كان يريد حكمًا واستعلاء ملكناه، وقالوا: هو ساحر أو مجنون، وقالوا: كاذب، وهم يعلمون أنَّهم هم الكاذبون، كما أنَّ أعداء وخصوم الدعوة إلى الله يعلمون أنَّهم كاذبون في ادعاءاتهم وتخرصاتهم على الدعاة إلى الله في هذا العصر.
3 -
تدعيم الفكرة الَّتي يحاول خصومُ الإسلام وخصوم شريعته أن يكرسوها في عقول النَّاس؛ وهي -وبناء على ما تقدَّم- أن الدعاة إلى الله لا يمثلون الأمة، بل هم يمثلون أنفسهم، وما هم إلَّا تبار من التيارات لا يمثلون إلَّا أعيانهم وأسماءهم، وأنهم بهذا لا يمثلون المسلمين، وأن بقيَّة المواطنين -وفي بعض الأقطار جميعهم مسلمون أي 100 %- ليسوا معنيين بالدعاة،
بينما الحق في هذا أن الدعاة هم في الواقع الأمة بأسرها؛ لأنَّهم الذين يعملون من أجل دين الله، الَّذي هو دين كل مسلم، وقد أمر الله تعالى بموالاة المؤمنين والبراءة من غيرهم؛ قال الله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
(1)
. وهذه الآية دليل كاف على أن هذه الأمة أمة دعوة، وأن المؤمنين جميعًا يد واحدة وجسد واحد، وأن الدعاة إلى الله -بالمعنى الخاص- هم في القلب من هذه الأمة الواحدة، ولذا فالدعاة إلى الله الذين فرغوا أنفسهم لهذا الأمر يمثلون الأمة كلها، والمسلمون جميعًا هم دعاة إلى الله، وتأمل في الآية الكريمة السابقة، حيث الولاية والتولي للمؤمنين جميعًا، وهذه هي الأمة، وحيث الدعوة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحيث إقامة الصَّلاة والزكاة وطاعة الله، وهذه صفات المؤمنين جميعًا، وفي هذا رد وتكذيب لمن تخرص وسمى الدعاة تيارًا من التيارات الموجودة في البلد، بل هو الأمة جمعاء وهم البلد جميعًا. ولنسأل الواقع كما قد آمنا بما جاء في النُّصوص الشرعية، فسيؤكد الواقع لنا هذه الحقيقة، فالحمد لله وله المنة والفضل.
وأمَّا التيارات الهدامة؛ كالأحزاب العلمانية، والتجمعات الفكرية الضالة فهي الدخيلة على الأمة وهي السموم الَّتي دخلت إلى بلاد الإسلام، ولكن
(1)
سورة التوبة، الآية (71).
الجسد الإِسلامي جدير بطردها، كما طرد سلفها من قبل.
إن من الخطورة أن يتقبل كثير من الدعاة هذا اللَّفظِ أو وصف: (تيار إسلامي)، ومطابقة:(الإِسلاميون)، بل هو الإسلام وهم المسلمون، ولسنا تيارًا من التيارات، ويجب أن نبين هذا وأن نحذره وأن نحذِّر منه، واللهُ غالب على أمره.
ومثل وصف (التيار الإِسلامي) في الخطورة ومجافاة الحق: وصف: (التيارات الإِسلامية)، وهو وصف يحاول من خلاله أعداء الإسلام تصوير الإسلام على أنَّه إسلامات وليس إسلامًا واحدًا؛ وذلك لهدف تفريق كلمة الأمة والتشكيك في صحة الإسلام والتشكيك في مصدريه الربانيين: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وقد استغل هؤلاء كثيرًا من أخطاء بعض المنتسبين إلى سبيل الدعوة إلى الله -إن حقًا وإن باطلًا-، فمن كان من الدعاة سائرًا في دعوته على هدي الكتاب والسنة فهو المهدي، وقد تقع منه أخطاء لأنَّه لا عصمة لبشر، وهنا يستغل أعداء الدعوة وخصوم الإسلام هذه الأخطاء، بل لقد استغلوا الاختلاف في مسائل الأحكام بين العلماء، وهذا أمر معلوم في الفقه الإِسلامي؛ فالاختلاف في كثير من الأحكام قائم وليس -كما زعم الكاذبون والمغرضون- دليلًا على أن هناك أكثر من إسلام، فالحوادث مستمرة والمتغيرات والمستجدات في حياة النَّاس دائمة ولا بد لها من حكم شرعي يضبطها، وهكذا احتاجت الأمة إلى الاجتهاد منذ عصر الصَّحابة، والعقول والأفهام متفاوتة، وبناء عليه تتفاوت نتائج
الاجتهاد وتتفاوت الأحكام الاجتهادية، وقد ثبت أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر اجتهاد من صلَّى العصر في الطريق إلى بني قُرَيْظَة من الصَّحابة رضي الله عنهم في وقتها، ومن صلاها في بني قُرَيْظَة بعد وصولهم وبعد فوات وقتها، حين أمر أَلَّا يصلينّ أحد العصر إلَّا في بني قُرَيْظَة، فالاختلاف موجود وهذه سُنَّةٌ من سنن الله تعالى، غير أن هناك فرقًا بين اختلاف في استنباط حكم مع إيمان ثابت بالإسلام كاملًا كما أراده الله وبلغه نبيه صلى الله عليه وسلم وبلغنا إياه صحابته رضي الله عنهم، وبين اختلاف ينسف أصول الإسلام وأسسه، وقد استغل أعداء الدعوة هذا الأمر ووسعوه حتَّى جعلوا الاختلاف في أساس العقيدة وفي أركان الإسلام وأركان الإِيمان من الاختلاف السائغ! ولبَّسوا على النَّاس، ولكن الله سينقض ما دبروا؛ قال الله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
(1)
. وأمَّا من انتسب إلى الدعوة إلى الله وهو من أهل الباطل فمعلوم، ولسنا هنا في حاجة إلى التفصيل؛ فالباطنية والفرق الهدامة الَّتي تنتسب للإسلام كذبًا وزورًا لأنها قد خالفت كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصَّحابة رضي الله عنهم وجماعة المسلمين، فهذه فرق ضالة، ولكن أعداء الدعوة إلى الله يعتبرونها تيارات إسلامية، ومن ثمَّ يحاولون أن يقنعوا النَّاس أن هنالك (إسلامات) أو أنواع متعددة من الإسلام، وليس إسلامًا واحدًا.
(1)
سورة العنكبوت، الآية (41).
إنَّه من الضروري أن يتداعى الدعاة والعلماء وأهل النظر من المسلمين إلى الحذر والتحذير من الأوصاف والألفاظ الَّتي تُلقي في ساحة الرأي والتداول، وخاصة فيما يتعلق بالأوصاف المتعلقة بالدعوة والدعاة وبالأمة المسلمة الواحدة، وأن يحذروا ممَّا يدسّه خصومُ وأعداء الدعوة في ثنايا الخطاب الدعوي، وأن يبينوا الحق في ذلك؛ وذلك لأنَّ اللَّفظِ إذا سُكِتَ عنه ذاع وانتشر على عِلَّاته، وهو بانتشاره كما يريد خصوم الدعوة المناوئون لها يسيء كثيرًا إلى الدعوة إلى الله، ويفتك بكثير من حصون الدعوة ويقلص كثيرًا من مكاسبها، واللهُ المستعان"
(1)
.
القرون الوسطى (المظلمة)
!
درج الغربيون المؤرخون على استعمال لفظ (القرون الوسطى) على الفترة التاريخية الَّتي قبل عصر النهضة في أوروبا والثورة الفرنسية، وتسمية ما بعد ذلك بالقرون الحديثة. والواقع أن ما أسموه بالقرون الوسطى كانت قرون الأزدهار في تاريخ الإسلام. وقد يكون هذا السبب الدافع لهم لتسميتها هكذا؛ حقدًا على المسلمين. ولذا فلا داعي لاستعمال هذا اللَّفظ"
(2)
.
قال الأستاذ أنور الجندي رحمه الله:
ما تزال كلمة العصور الوسطى في إطلاقها تعني الفترة ما بين القرن الخامس الميلادي والقرن الخامس عشر الميلادي أيضًا، وهي الفترة الَّتي
(1)
مجلة الجسور، (العدد السابع).
(2)
"محمد رشيد رضا - طود وإصلاح، دعوة وداعية" للأستاذ خَالد فوزي، (ص 311) بتصرف يسير.
سقطت فيها الحضارة الرومانية خلال عشرة قرون كاملة إلى أن بدأت حركة النهضة الأوربية، وتحاول كتب الغرب أن تصف هذه الفترة بالعصور المظلمية، وهذا المفهوم صحيح وصادق بالنسبة لأوربا، ولكنه كاذب ومضلل بالنسبة للعالم كله وللفكر البشري عامّة. ذلك أنَّه خلال هذه الفترة ظهر الإسلام في القرن السادس الميلادي وأشرقت شمسه فعمت العالم كله وامتدت من حدود الصين شرقًا إلى حدود فرنسا، وقدمت للإنسانية مجدًا أقيم على التوحيد والعدل والإخاء كمقومات الحضارة إنسانية كانت بعيدة المدى والأثر في الحضارة البشرية وفي النهضة الَّتي بزغت في أوربا بعد ذلك.
لذلك فإنَّ إطلاق القول بأن فترة العصور الوسطى كانت فترة ظلام دامس هو قول باطل، وهي محاولة لتجاهل العصر الإِسلامي الزاهر، وذلك وفق اتجاه الفكر الغربي الَّذي يحاول أن يربط بين الحضارة الرومانية المنهارة وبين الحضارة الأوربية الجديدة؛ كأنما ليس في العالم إلَّا أوربا وحدها.
ولذلك فإنَّ إطلاق كلمة العصور الوسطى على العالم كله إنَّما هو إطلاق ظالم؛ فالعصور الوسطى المظلمة إنَّما كانت كذلك بالنسبة للغرب وحده، ولكنها كانت مضيئة مشرقة بالنسبة للعالم الإِسلامي (الهند وفارس والأمة العربية والأندلس).
وتعبير العصور الوسطى تعبير غربي ينطبق على أوربا وحدها؛ فقد سقطت هذه القارة في الظلمات فترة ما بين سقوط الحضارة الرومانية وعصر النهضة)، أمَّا في العالم الإِسلامي فإنَّ هذه الفترة بالذات كانت الفترة الذهبية بالنسبة للإسلام وحضارته.
فإذا أراد دعاة التَّغريب إذاعة هذا المفهوم فإنَّما يراد به إنكار فضل الحضارة الإِسلامية على العالم"
(1)
.
الثقافة:
قال الأستاذ جمال سلطان: "يمثل مصطلح (الثقافة) واحدًا من أشهر المصطلحات الَّتي عرفها الفكر الإنساني في "تاريخه المعاصر، وذلك على الرغم من أنَّه مصطلح حديث نسبيًا، ولم يعرفه الفكر القديم بتلك الدلالات الَّتي حملها في القرن الميلادي الأخير، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ معظم من كتبوا عن هذا المصطلح وتاريخه أجمعوا على صعوبة وضع تعريف واضح ومحدد له، وهذه هي آفة المصطلحات المعاصرة بشكل عام، وربما كان الأمر فيه قُصد قصدًا؛ حيث تفعل مساحات التطاوع والغموض في المصطلح فعلها الكبير في إمكانيات توجيه المصطلحات إلى غير ما وجهة وبحيث يكون لها عند كل فريق معنى، وبطبيعة الحال يكون من يملك الإمكانات التسويقية والإعلامية الأكثر هو الأكثر قدرة على تسويق المعني الَّذي يريد والإيحاءات الَّتي يرغب.
ومن أجل ذلك حذَّرتُ وحذَّر كثير من الناصحين في (الفكر الإِسلامي) من خطورة التسليم بالمصطلحات الوافدة، وخطورة أن نخلي لها في خطابنا الدعوي مكانًا أو ركنًا، والأخطر أن نستبدلها بمصطلحاتنا التراثية والعلمية الأصيلة الَّتي ضُبطت وحُررت واختُبرت على مر القرون حتي ضبطت لنا معالم الشَّريعة وعالمنا الفكري الإِسلامي. ولا يمكن التساهل في هذا السياق
(1)
الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإِسلامي، (ص 210 - 211).
وفق مقولة: "لا مُشاحَّة في المصطلح"؛ إذ إن هذه وإن كانت كلمة حق إلَّا أنَّها توضع في غير مكانها وتاريخها وسياقها، بل إن أصل النزاع الحضاري الآن إنَّما مفتاحه ومدخله هو المصطلح؛ فكيف لا تكون فيه مشاحة ومنازعة؟!
وبعيدًا عن هذا الاستطراد الضروري نعود إلى مصطلح (الثقافة) فنجد أنَّه حمل أكثر من معنى وأكثر من دلالة؛ فهناك من وَجَّهه وجهة المعرفة والعلم؛ فكانت الثقافة عنده أن تعلم شيئًا عن كل شيء؛ بحيث تكون لك رؤية موسوعية ولو سطحية عن مختلف الأفكار والآراء والعلوم والمعارف والفنون والآداب ونحو ذلك، وهناك من جعلها دلالة نخبوية بمعنى: أن المثقف هو من استجمع بعضًا من قيم وخصوصيات فكرية وفنية رفيعة في المجتمع، وهناك من جعلها دلالة على مجمل القيم العامة في المجتمع والسلوك الإنساني فيه، وهي تلك القيم الحاضنة للنمو الاجتماعي وتواصل الأجيال وفق أذواق معينة ومفاهيم إنسانية وأخلاقية معينة، وهذا هو الأكثر قبولًا في أوساط دارسي المصطلح، وهو الألصق بالاشتقاق اللغوي للمصطلح في كثير من اللغات الأوروبية المعاصرة، حيث تشتق الثقافة من مادة الحرث والنماء (cultuer)، وفي تقديري أن هذا هو التوجيه الأكثر دقة، والأكثر قربًا وضبطًا لمصطلح الثقافة، وهو الأكثر قربًا من الإطار الإِسلامي كذلك؛ لأنَّه يعطي دلالة أقرب إلى مفهوم (العرف)
(1)
في السياق الإِسلامي، ومن المعروف أن (العرف) معتبر لدى الجمهور من الأصوليين بوصفه مصدرًا من مصادر التشريع له حجيته وإلزاميته في بعض القضايا والأحكام، وقد
(1)
مع ملاحظة أن العرف أقرب إلى العمل، والثقافة أقرب إلى العلم.
خرَّج بعضهم على ذلك قاعدة: "المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا"، ولعل هذا الربط بين دلالة مصطلح الثقافة ومصطلح العرف -إن صح وجاز- يعطي ثقافة المجتمع موقعًا شديد الحساسية والخطورة في الوعي الإِسلامي المعاصر، ويكشف الغطاء عن محاولات التزوير والتخدير الَّتي تمارس ضد العقل الإِسلامي لحرمانه من ممارسة واجبه المشروع في حماية ثقافته من عمليات الاختراق الأجنبي المتنوعة؛ حيث شاعت في العقود الأخيرة الكتابات الَّتي تهزأ من الحديث عن (الغزو الثقافي)، وتحاول أن تربط ذلك بالتشدد أو التطرف الديني، أو العنصرية القومية، أو ما شابه ذلك من اتهامات وتلويحات؛ يحدث ذلك على الرغم ممَّا تحمله لنا التقارير والأخبار من حالات سخط واستنفار في دوائر المثقفين والأجهزة الرسمية في بعض الدول الأوروبية -مثل فرنسا- ضد ما يسمونه:"الغزو الثقافي الأمريكي"؛ وذلك من خلال المسلسلات والأفلام والمطاعم الأمريكية وغيرها الَّتي تصبغ المجتمع بصبغة غربية وطارئة، وتمزق العرف العام في المجتمع وتشوه الأجيال الجديدة، وهذا كله صحيح بالنسبة لفرنسا، ولكنه أكثر صحة وخطرًا بالنسبة لنا نحن المسلمين؛ وذلك أن أواصر القربي بين الثقافتين الأمريكية والفرنسية أكثر من أن تحصى، فإذا كان الفرنسيون يفزعون من الغزو الثقافي الأمريكي، وهم على هذا الوجه من القربي؛ فكيف بنا ونحن على النقيض من الثقافة الأمريكية قيمًا وأخلاقًا، ونظام حياة وسلوكًا أسريًا، ودينًا وحضارة؟!
إن (الثقافة) أو (العرف) -إن شئنا الدقة- هو البوتقة الَّتي تنصهر فيها
فعاليات البشر في المجتمع، وهي ماء الحياة فيه؛ لأنها تمنح النَّاس الحساسية الإنسانية تجاه الذوق الاجتماعي، وتجاه محددات (العيب)، و (الجائز وغير الجائز) من السلوك.
إن النَّاس قد ينسون الأصل الشرعي لحرمة الفعل أو عيبه أو نكرته، ولكنه يبقى في وعيهم أن هذا عيب أو حرام أو منكر. وعندما يقع التشتت والتمزق في الوعي الثقافي يتبعه التمزق في النسيج الاجتماعي، والتمرد على القيّم والتقاليد الحافظة لتواصل المجتمع ونقائه ومجمل أخلاقه؛ ولذا فلا غرو في أن الغزو الثقافي يؤثر جوهريًا في الأصل العام في الإسلام؛ ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ وذلك أن (المعروف والمنكر) رغم أنهما ينبعان من الأصل الديني مباشرة إلَّا أنهما -في السلوك الاجتماعي- وعي ثقافي عند العامة بشكل أساس، وعرف عام تغلغل في نسيج المجتمع، وعندما يضعف إلمام النَّاس بالشريعة وعلومها وحججها يبقى هذا العرف الاجتماعي أو "الثقافة" الَّتي تصبغ نسيج المجتمع وعفويته تبقى هي الحافظة المعنى المنكر والمعروف. صحيح أن بعضًا من الخلط والانحراف يقع، وهذا أمر محتوم، ولكن يبقى أن النسيج العام للمجتمع يعرف المعروف وينكر المنكر.
ولعل القرآن الكريم قد ضرب لنا مثلًا واضحًا في خطورة التخريب الثقافي الَّذي يصل إلى حد الانقلاب في العرف العام في المجتمع من خلال قصة "قوم لوط" ومقولتهم العجيبة: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ
أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}
(1)
، ولعلنا نرى الآن في بعض الدول الأوروبية كيف أن العرف قد انتكس بالفطرة الإنسانية إلى قريب من هذا الدمار الَّذي حَدَثَ مع قوم لوط في أخلاق النَّاس وفوضى السلوك الاجتماعي، وينبغي أن نتذكر جيدًا أن هذه الانتكاسات لم تأت عبر خطب أو بيانات أو إقناعات مباشرة أو منطق مفترض، وإنَّما أتت عبر عمليات التآكل المستمرة في القيم والأعراف، والتي تؤدي مع الوقت إلى اختراق "ثقافة المجتمع" وإفقادها مناعتها وحصانتها، وبذلك تخرج أجيال جديدة متمردة ومفرغة من كل قيمة أو وعي رشيد؛ فإنَّ استمر هذا التفريغ انتهى الأمر إلى انتكاسة الفطرة بكاملها، أو أن يقيض الله للمجتمع من يوقف هذا الانهيار ويجدد عهد النَّاس بالقيم والدين منبع العرف في المجتمع الإِسلامي والبوتقة الَّتي تنصهر فيها كل فعاليات المجتمع المسلم على مر التاريخ، لتتحول إلى وعي ثقافي عام يطبع نسيج المجتمع بطابعه، بل يصبح هو نسيج المجتمع ولُحمته.
ويبقى أن نشير إلى باب آخر من أبواب الغزو الثقافي ينبغي التحذير منه في هذا السياق؛ ألا هو الحديث الشيق الطريف عن العالم الَّذي أصبح قرية واحدة"، وهي المقولة الَّتي تتسرب الآن في المقالات والكتابات -حتَّى الإِسلامية منها مع الأسف- غير متنبهة إلى أنَّها مزلق يُستغل لتخدير الوعي الإِسلامي وشله عن المقاومة للغزو الثقافي، بل لإصابته باليأس أصلًا باعتبار أن الطوفان التغريبي قدر مقدور، ولأن العالم أصبح قرية واحدة؛ فكيف نستطيع أن نتحوط منه ونتحصن ثقافيًا وقيميًا؟! ورغم أننا في هذا العالم الَّذي أصبح قرية
(1)
سورة النمل، الآية (56).
واحدة نجد في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا العديد من حالات مصادرة الكتب أو المحاكمات على أفكار نشرت، وحظر برامج تلفزيونية أو حتَّى حجب مواقع على الإنترنت، وهذا يعني أن العالم لم يكن قرية واحدة ولن يكون، صحيح أن قدرات التواصل مع ما يدور في العالم أصبحت أكثر وأوفر، ولكن تبقى هناك حواجز مهمة وخنادق يمثلها قوة العرف في المجتمع وحيويته الثقافية بما في ذلك حضور الدين حيًا وفاعلًا في ضمير أجياله الجديدة"
(1)
.
المسجد الأقصى ثالث الحرمين:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "هل يُطلق على المسجد الأقصى اسم الحرم؟ وما تعليق فضيلتكم على كلمة: المسجد الأقصى ثالث الحرمين؟ ".
فأجاب رحمه الله: "أمَّا المسجد الأقصى فإنَّه لا يطلق عليه حرم، وليس محرم. وقولهم: (ثالث الحرمين) توهم أنَّه منها. وليس كذلك"
(2)
.
رجم الجمار:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ضمن فتوىً له في أحكام الحجّ: " .. ولكن عندي ملاحظة على قولها (ترجم)؛ لأن الأولى أن لا يكون التعبير بترجم، وإنما يكون التعبير بالرمي. فيقال: رمي الجمار. ولا يقال: رجم الجمار".
(3)
.
(1)
مجلة البيان (العدد 159).
(2)
مجموع الفتاوي (22/ 239). وانظر: "مخالفات متنوعة" للشيخ عبد العزيز السدحان (ص 22 - 23).
(3)
الفتاوي (23/ 110).
وقال رحمه الله في فتوى أخرى: "أحب أن يكون تعبيره عن رمي الجمرات بلفظ (الرمي) لا (الرجم)؛ وذلك لأن هذا هو التعبير الَّذي عبر به النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنَّما جعل الطَّواف بالبيت، والسعي بين الصَّفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله". وكلما كان الإنسان في لفظه متبعًا لما في الكتاب والسنة كان أولى وأحسن"
(1)
.
العلوم الحديثة:
وقد وصل الأمر أنَّه حينما طالب بعض العلماء بدراسة بعض العلوم الَّتي أهملت دراستها وقرر الأَزْهَر إضافتها إلى مناهج الدراسة، أن أطلق عليها اسم (العلوم الحديثة).
وفي رأينا هذه التسمية خاطئة ومضللة. فهي خاطئة لأنها تعكس الحقيقة التاريخية الثابتة؛ فكل هذه العلوم الَّتي سميت خطأ "حديثة" ليست حديثة إطلاقًا على الحضارة الإِسلامية، فالعلوم الإِسلامية الَّتي لا تزال المؤلفات فيها باقية، وطبعته ونشرت، تشتمل على جميع فروع العلوم من هندسة وطب وزراعة وكيمياء، ممَّا كانت تدرسة الجامعات الأوربية في بدء عصر النهضة ولقرون تالية
(2)
.
وهذه التسمية مضللة لأنها توحي إلى الدارسين في المعاهد والجامعات الإِسلامية وغيرهم بأن هذه العلوم حديثة بمعنى أن علماء المسلمين الأوائل
(1)
الفتاوى (23/ 281).
(2)
عبد الحليم منتصر، تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه، دار المعارف بمصر 1975 م، تحت عنوان:"أثر العرب في النهضة الأوربية"، ص 281 وما بعدها.
لم يعرفوا عنها شيئًا، وإنما تم نقلها حديثًا من العلوم الغربية الحديثة، مع أن "علم الجبر" لا يزال يسمى باسمه العربي في اللغات الأوروبية
(1)
.
ومن الثابت تاريخيًا أن عبد اللطيف البغدادي (557 - 619 هـ)"كان يلقي دروسه في الطب بالأزهر ظهر كل يوم"، كما يقول الدكتور عبدالحليم منتصر
(2)
.
فلا يجوز -والحال هذه- أن تطلق معاهد التعليم الإسلامية اسم "العلوم الحديثة" على علوم كان للعلماء المسلمين القدامى فضل ترجمة ونقل أسسها عمن سبقهم في المشرق، من الهنود والفرس، أو في المغرب من اليونان، والزيادة فيها وإضافة قواعد ونظريات ابتكروها، وأضافوها إليها، أو علوم كان لهم فضل ابتكارها كعلم الجبر"
(3)
.
القرآن مُنْتَج ثقافي:
يقول الدكتور محمد سالم محمد: "بدأت تشيع في عبارات بعض الباحثين أن القرآن منتج ثقافي -بفتح التاء في منتج- وذلك حين يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه مفهوم النص: "إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة
…
الخ" (ص 24)
(1)
ينقل الدكتور عبد الحليم منتصر عن العالم الغربي "كاجوري" قوله: "إن العقل ليدهش عندما يرى ما عمله العرب في الجبر، وهي أول من أطلق لفظة "جبر" على العلم المعروف الآن بهذا الاسم. وعنهم أخذ الإفرنج هذا الاسم، وكان محمد بن موسي الخوارزمي أول من ألف فيه، في عهد المأمون، وبذلك يصح أن يقال أن الخوارزمي واضع علم الحساب. المرجع السابق نفسه، ص 89".
(2)
المرجع السابق نفسه، ص 198.
(3)
التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية، للدكتور محمد عبد الجواد، (ص 58 - 59).
وكذلك ما يقوله المستشار محمد سعيد العشماوي بإن نصوص القرآن مرتبطة بأسباب النزول. والحقيقة أن مذهب هؤلاء في ربط القرآن بأسبابه يجعل القرآن منتجًا (بفتح التاء) ثقافيًا هو تطبيق للنظرية التي عرفتها فلسفة التنوير الغربي العلماني في القرن السابع عشر والثامن عشر باسم "تاريخية النصوص المقدسة" .. فإذا كان الإسلام تاريخيًا، ونصوصه مرتبطة بأسباب النزول، ومرتبطة كذلك بحوادث تاريخية، فهدف هؤلاء محو الإسلام وتفريغه من محتواه"
(1)
.
النظام العالمي الجديد:
ويقال "النظام العالمي المعاصر"، "وهو كلمة أعلنها الرئيس الأمريكي "بوش" بعد أزمة الخليج 1411، وليس له لائحة معلنة ذات مواد! وإنما حقيقته من خلال القوى العاملة في "المؤسسات الدولية" مثل: "مؤتمر وحدة الأديان" و "مؤتمر المرأة والإسكان" و "مؤتمر التعليم الدولي" فهو: نظام استعماري غربي من وجه جديد ضد أمم وحضارات وديانة الجنوب، وفي مقدمتها "الأمة الإسلامية"؛ يهدف إلى سلب الدين والأخلاق، وفرض التقاليد والتبعية لهم في خصوصيات حضارتهم في الدين والأخلاق، ونشر الإلحاد والإباحية"
(2)
.
(1)
أسباب النزول بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني، (ص 30، 75 - 77) بتصرف يسير. وانظر الرسالة القيمة للدكتور محمد سالم أبو عاصي: "مقالتان في التأويل .. معالم في المنهج ورصد للإنحراف"، (ص 94 وما بعدها).
(2)
الإبطال .. للشيخ بكر أبو زيد، (ص 30).
مفاهيم (تسمية العقيدة بهذا الاسم):
قال الشيخ بكر أبو زيد -سلمه الله-: "غلط من ألف في التوحيد من نصوص الكتاب والسنة بما جرى عليه الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من سلف هذه الأمة؛ ثم سمي مؤلفه في العقيدة الإسلامية والتوحيد بقوله: "عقيدتنا" أو "عقيدة فلان"؛ لأنه لا اختصاص لأحد فيها؛ بل هي العقيدة الإسلامية التي أجمع عليها سلف الأمة وصالحها، وفلان من الأئمة مبلغ لها. نعم إذا ألف مخالف لها صح أن يقصرها على نفسه من تابع أو متبوع؛ لأنها ليست العقيدة الإسلامية بصفائها. بل لو سماها: "العقيدة الإسلامية" وفيها ما فيها من مخالفات لكانت تسمية ينازع فيها؛ لما فيها من التدليس واللبس -إلى أن قال- وأما من كتب في العقيدة الإسلامية وسماها "مفاهيم" فهو غلط من وجهين:
الوجه المذكور.
والثاني: أن أسس العقيدة ليست مفاهيم؛ بل هي نصوص قطعية الدلالة؛ كقطعيتها في الثبوت. والله أعلم"
(1)
.
تغير الأحكام:
قال الشيخ بكر أبو زيد -سلمه الله-: "حصل من بعض المعاصرين خطأ في قوله: تغير الأحكام؛ فالحكم ثابت لا يتغير؛ وإنما الفتوى به حسب المقتضى الشرعي؛ كما في سهم المؤلفة قلوبهم. والله أعلم
(2)
.
(1)
المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (1/ 45).
(2)
المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (1/ 84).
الوسطية:
" وسطية الإسلام بدهية لا تحتاج إلى كثير بيان، وكيف يحتاج إلى بيان ما أوضحه محكم التنزيل بأجلي بيان؛ كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
(1)
.
وقد أفاض أهل العلم من السلف والخلف في بيان وسطية هذا الدين وبراءته من كل إفراط أو تفريط، ومن ذلك ما قاله الإمام الطبري رحمه الله:"وأرى أن الله تعالى ذِكْرُه إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلوّ النصارى الذين غلوا بالترهب وقبلهم في عيسي ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بذلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها"
(2)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين؛ فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له؛ هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد"
(3)
.
وكما أن أهل الإسلام وسط بين أهل الملل، فإن أهل السنة والجماعة وسط بين فرق الأمة: "فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال
(1)
سورة البقرة، الآية (143).
(2)
تفسير الطبري (3/ 142).
(3)
مدارج السالكين (2/ 496).
العباد بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب الوعد والوعيد بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج"
(1)
.
بيد أن مفهوم الوسطية في الإسلام قد تعرض كما تعرض غيره من المفاهيم إلى قدر غير يسير من الخلط والتشويه؛ إن بحسن نية وإن بسوء نية.
فتحت دعوى وسطية الإسلام تميعت كثير من القضايا الإسلامية واختلط فيها الحق بالباطل، وضل عن معرفة الحق الكثيرون.
فنحن نجد بين الإسلاميين مثلًا من ينادي بالديمقراطية نظامًا للحكم، ثم لا يخجل من أن ينسب ذلك إلى الإسلام، بل يعتبر ذلك من وسطية الإسلام، وأنه لا يخالفه في ذلك إلا من شذ عن مجمل الخطاب الإسلامي العام، ونجد بعض أهل العلم المعاصرين يفتي بأن الإسلام لا يحرم النهج الديمقراطي، بل يقول إنه إن وصل الإسلاميون إلى الحكم ثم اختار الشعب غيرهم من انتخابات تالية فعليهم أن يتنازلوا طواعية عن الحكم لمن يحكم الناس بالعلمانية أو الشيوعية أو غيرها من المذاهب الأرضية!
ويوم أن أعلن أن تركيا قد سحبت أعترافها بجامعة الأزهر، لم يجد رئيس جامعة الأزهر دفاعًا عن جامعته إلا أن يقول إنها تمثل الوسطية وتنبذ التطرف، هذا مع أن الحكومة التركية لم تقدم على قرارها المذكور خوفًا مما
(1)
العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، بشرح خليل هراس ص: 124 - 132.
يسمونه بالتطرف، وطلبًا للوسطية والاعتدال، بل القاصي والداني يعلم أنها إنما فعلت ذلك تنفيذًا لمبادئ علمانيتها العادية لكل ما هو إسلامي.
وليس من غرضي في هذه العجالة أن أستقصي مظاهر الخطأ في فهم قضية الوسطية، وإنما أريد هنا أن أُذكر بعدة حقائق أرى أنها لا بد من أن تكون مائلة في الأذهان عند كل حديث عن قضية الوسطية:
الحقيقة الأولى: أن الوسطية من الناحية اللغوية مصدر صناعي من الوسط وهو العدل الخيار؛ قال في القاموس: "الوسط محركة من كل شيء"، وقال في النهاية:"يقال: هو من أوسط قومه؛ أي من خيارهم"، ومنه قول الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة عن قريش:(هم أوسط العرب نسبًا ودارًا)
(1)
.
وعلى هذا المعنى اللغوي ينبغي أن تُفسر وسطية الإسلام، وبهذا التفسير جاءت السنة المطهرة؛ ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء نوح وأمته، فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم، أي رب. فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فنشهد أنه قد بلَّغ، وهو قوله جل ذكره:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}
(2)
. والوسط العدل"
(3)
.
والشاهد من ذلك قوله: (والوسط العدل)، وقد بين الحافظ في الفتح أن قوله:
(1)
أخرجه البخاري (6830).
(2)
سورة البقرة، الآية (143).
(3)
أخرجه البخاري (3339).
(والوسط العدل) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس مدرجًا كما توهم البعض
(1)
.
وأيضًا فهذا التفسير هو المتسق مع كون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؛ قال الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} : "أي خيارًا عدولًا، ويدل لأن الوسط الخيار العدول قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
(2)
"
(3)
.
ثم إن تفسير الوسطية بالعدالة والخيرية هو المتفق مع مرتبة الشهادة التي نالتها هذه الأمة؛ فالشاهد لا بد أن يكون عدلا، وفي فتح الباري:"وشرط قبول الشهادة العدالة، وقد ثبت لهم هذه الصفة بقوله وسطا، والوسط العدل"
(4)
.
وهذا التفسير مروي عن جمع غفير من السلف؛ منهم: ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم
(5)
.
وقد قال الطبري رحمه الله: "فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطًا: عدولًا لتكونوا شهداء لأنبيائي ورسلي على أممهم بالبلاغ
…
"
(6)
.
وقال الحافظ ابن كثير: "والوسط ههنا: الخيار والأجود؛ كما يقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا؛ أي خيرها، وكان رسول الله وسطًا في قومه؛ أي أشرفهم نسبًا"
(7)
، ثم استدل رحمه الله بحديث أبي سعيد السابق.
(1)
فتح الباري (8/ 172).
(2)
سورة آل عمران، الآية (110).
(3)
أضواء البيان (1/ 75).
(4)
فتح الباري (13/ 316).
(5)
انظر تفسير الطبري (3/ 144 - 145).
(6)
المصدر السابق (3/ 145).
(7)
تفسير القرآن العظيم (1/ 191).
الحقيقة الثانية: أن هذا الذي ذكرناه من أن الوسطية هي الخيرية لا ينافي ما صدرنا به الكلام من كون الوسط هو الجزء بين طرفين؛ إذ قد ظهر بالاستقراء صحة هذا المعنى أيضًا، لكنا نقول -والله أعلم-: إن هذا المعنى للوسطية هو كالنتيجة لكون الإسلام وسطًا بالمعنى الأول؛ ذلك أن الله تعالى قد جعل شريعته الغراء هي الحق في مقابل أهواء البشر وضلالاتهم؛ كما قال تعالى لرسوله الكريم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)}
(1)
، ولما كانت الأهواء متناقضة يميل بعضها إلى الغلو وبعضها إلى التقصير، فإن الحق الذي هو شريعة الله لا بد أن يكون وسطًا بين هذه الأهواء المتضاربة.
والمقصود من ذلك بيان أنه وإن كان الغالب أن يوجد في كل قضية طرفان مذمومان بينهما وسط ممدوح، إلا أن ذلك ليس بحتم لازم، ولا يقدح ذلك في فكرة الوسطية؛ لأن معناها الأصلي وهو الخيرية موجود على كل حال.
ولذلك فإن ما يقرره أهل الفلسفة من أن الفضيلة وسط بين رذيلتين ليس صحيحًا على إطلاقه؛ فلئن صح أن تكون الشجاعة وسطًا بين الجبن والتهور، وأن يكون الكرم وسطًا بين الإسراف والبخل، إلى آخر ما ذكروه، فإن قاعدتهم لا تنطبق على مثل فضيلة الصدق وفضيلة العدل؛ فالصدق يقابله الكذب، ومثله العدل يقابله الظلم، وليس أي منهما وسطًا بين رذيلتين.
وربما يجد الناظر وسطا بين باطلين، ومع ذلك فليس هو بالحق بل هو
(1)
سورة الجاثية، الآية (18).
باطل مثلهما؛ ألا ترى أن المعتزلة قد توسطوا في باب الإيمان بين الخوارج القائلين بتكفير أهل الكبائر، وبين المرجئة القائلين بأن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان؛ حيث قال المعتزلة: إن مرتكب الكبيرة فاسق خرج من الإيمان لكنه لم يدخل في الكفر، فوسطية المعتزلة في هذه الجزئية ليست مما يمدح لما اقترن بها من الباطل مثل الحكم على أهل الكبائر بالخلود في النار، فهي وسطية تخالف الوسط الذي بمعنى الخيرية، وهو الذي جاءت به نصوص الشرع الحنيف.
الحقيقة الثالثة: أن وسطية الإسلام ليست بمعنى الوسط الحسابي الذي يُعرِّفونه في علم الإحصاء المعاصر بأنه: ناتج قسمة مجموع القيم على عددها، ولا هو بمعنى الوسيط؛ وهو القيمة التي تقسم المجتمع إلى قسمين بحيث يكون ما قبلها مساويًا لما بعدها؛ أي أن الإسلام ليس وسطًا بمعنى أنه يحتوي على نسبة متساوية من كل من الطرفين، أو أنه يقف في نقطة تبعد بنفس المسافة عن كل من الطرفين.
فنحن نعلم مثلًا أن أهل السنة والجماعة وسط في باب الصفات بين الشبهة والمعطلة، ومع ذلك فمسافة ما بين أهل السنة وأهل التعطيل أبعد من مسافة ما بين أهل السنة وأهل التشبيه؛ قال في شرح الطحاوية:"وشبهة النفي أردأ من شبهة التشبيه؛ فإن شبهة النفي رد وتكذيب لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وشبهة التشبيه غلو ومجاوزة للحد فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
وفي واقعنا المعاصر كان يقال دائمًا: إن الإسلام وسط في باب المال
(1)
شرح الطحاوية لابن أبي العز، بتحقيق التركي والأرناؤوط ص:259.
والاقتصاد بين الرأسمالية والشيوعية، ومع ذلك فالرأسمالية مع فسادها وخلالها أقرب منهجًا إلى الإسلام من الشيوعية، ولا يصح أن يقال إن الإسلام يقف في المنتصف تمامًا بين الرأسمالية والشيوعية.
الحقيقة الرابعة: أن الوسطية وصف ثبت هذه الأمة بالجعل الإلهي القدري؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} . أي أن الوسطية ليست منهجًا في استنباط الأحكام، ولا هي حتى طريقة من طرق الترجيح التي قد يلجأ إليها المجتهد عند تعارض الأدلة، أو عند تناقض الأقوال الواردة عن السلف في مسألة ما.
ومعني ذلك أنه ليس على طالب الحق أن يسعى إلى الرأي الوسط في كل أمر يعرض له، وإنما الواجب عليه أن يسعى لمعرفة حكم الشرع عن طريق الأدلة الشرعية، فإذا وصل إليه كان هذا هو الوسط الذي أراده الل سمة من سمات هذه الملة.
وبعد؛ فلعله قد استبان من هذه الحقائق التي ذكرناها بطلان ما يدعيه دعاة العصرية، الذين ينهجون نهجا توفيقيًا يحاولون فيه المواءمة بين حقائق الإسلام وبين ما يفد إلينا من ثقافة الغرب وحضارته، ولعله قد أستبان أيضًا عدم صحة ما يبديه بعض الإسلاميين من تنازلات وتساهلات في الأحكام الشرعية بدعوى الحفاظ على مبدأ الوسطية.
وعلى ذلك فلا يصح أن يجعل البعض من قضية الوسطية سيفًا مسلطًا على كل من خالفه، فيرميه بأنه قد غلا وخالف الوسطية والاعتدال، وقد
يكون الحق أن ذاك المتهم بالغلو هو الأقرب إلى الصواب، وأن هذا الذي يدَّعي الوسطية هو التساهل المفرِّط.
وإذا كنا قد لا نجد حيلة في إقناع أولئك الذين يريدون أن يُخضعوا الدين لمقتضيات العصر، فإن واجب النصيحة يلزمنا أن ننصح المتساهلين من المنتسبين للعلم والدعوة بأن يراجعوا مواقفهم، وأن لا يسمحوا لضغط الواقع المرير الذي تعيشه الأمة بأن يؤثر على الرؤية الشرعية التي يجب أن تحتكم إلى مقتضى الدليل الشرعي، فما قضى الدليل بأنه غلو يخالف الوسطية فهو كذلك وما لا فلا.
وليعلم هؤلاء أن مما يعدونه مخالفة لمبدأ الوسطية ما قد وقع الإجماع على أنه الحق الذي ما بعده إلا الضلال، وأكتفي هنا بذكر مثال واحد يبين صحة ما أقول؛ وهو ما يتعلق بالموقف من أهل الكتاب في ديار المسلمين:
فإن الشريعة المطهرة قد جاءت بأحكام واضحة في شأن معاملة أهل الكتاب المقيمين في دار الإسلام منها: وجوب إلزامهم بأحكام الإسلام فيهم، وعلى رأسها دفع الجزية؛ كما قال تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
(1)
. ومنها: أنه يجب على المسلمين بغضهم وعدم موالاتهم كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
(1)
سورة التوبة، الآية (29).
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
(1)
(2)
.
لكن هذه الأحكام القطعية صارت عند بعض المنتسبين للعلم والدعوة في بعض بلاد المسلمين غلوًا، وصار القائل بها متطرفًا مخالفًا لوسطية الإسلام تجب البراءة منه، إن لم نقل يجب تحريض السلطات عليه! فها هو شيخ الأزهر (الشيخ طنطاوي) يزور كاتدرائية النصارى في القاهرة ليهنئ (الأنبا شنودة) بما يسمونه عيد الفصح، ويصرح طبقًا لما أوردته جريدة الحياة بتاريخ 24/ 12/ 1418 هـ بأن "اللقاء مع شنودة وقيادات الكنيسة يعبر عن الإخاء الصادق، والمحبة الخالصة لوجه الله"، ويقول:"إننا دائمًا نلتقي حيث لا عداوة ولا بغضاء بين أي مسلم وأي مسيحي في مصر، والقيادات الإسلامية والمسيحية متحابة، بل وأصدقاء"!! أما المفتي (الشيخ نصر فريد) فقد قال في نفس اللقاء: "إن لقاءنا مع البابا وقيادات الكنيسة هو تجسيد لوحدة هدف المصريين جميعًا، ونموذج عملي للعالم كله على تسامح مصر الديني، ونبذها بل وتحريمها التعصب والفرقة والانقسام بسبب العقائد".
وكذلك قد اعتادت إحدى الجماعات الاسلامية بمصر أن ترسل إلى الكنيسة وفدًا في كل عيد من أعياد النصارى لتهنئتهم به، وقد أصدرت تلك الجماعة منذ سنوات بيانًا تبين فيه موقفها من الأقباط، فكان مما جاء فيه أن
(1)
سورة المائدة، الآية (51).
(2)
سورة المجادلة، الآية (22).
الجماعة ترى: "أن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلَّت محل مفهوم أهل الذمة، وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات
…
"
(1)
.
وهذا الذي يزعمون أنه من وسطية الإسلام واعتداله -باطل بيِّن البطلان، يرده ما أوردناه من الآيات وغيرها من أدلة بغض الكافرين وإلزامهم بدفع الجزية وعدم مساواتهم بأهل الإسلام، وقد جاء في فتاوي اللجنة الدائمة (1/ 541):"وأما من لم يفرق بين اليهود والنصاري وسائر الكفرة وبين المسلمين إلا بالوطن، وجعل أحكامهم واحدة فهو كافر".
بل إن مجرد تهنئته أولئك النصارى بأعيادهم مما وقع الاتفاق على تحريمه كما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله، كما بين أن فاعله إن سلم من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئهم بسجودهم للصليب
(2)
، فإنا لله وإنا إليه راجعون"
(3)
.
البساط أحمدي:
قال الشيخ فكري الجزار في "مختصر النبراس"
(4)
: "يقولونها لمن رأوا
(1)
نشر البيان بجريدة الحياة، تاريخ 30/ 2/ 1415 هـ.
(2)
انظر: أحكام أهل الذمة (1/ 205).
(3)
مصطلحات ومفاهيم، عبد الآخر الغنيمي (ص 151 - 159). وانظر مقالًا ماتعًا للدكتور علي الصياح في مجلة البيان (العدد 202) بعنوان "هذه هي الوسطية: رؤية حقيقية لا اوهام مُتخيلة بين فيه انحراف بعض المنتسبين للدعوة ممن يدعون الوسطية ويفتحون وسائلهم الإعلامية لذوي الأقلام المسمومة والأفكار المشبوهة لينفثوا سمومهم من خلالها.
(4)
ص 99 - 100 (بتصرف). وانظر: "الألوهية في العقائد الشعبية" تعبد السلام بسيوني، (ص 247).
منه تحرجًا أو تكلفًا أو تشددًا في أمر ما. ويقصدون بها: طرح التكلف والاحتشام بين الحاضرين. ولكنها نسبة غير شرعية:
1 -
لأنها نسبة إلى "أحمد البدوي" الصوفي صاحب الطريقة الصوفية المبتدعة.
2 -
ولأنه كما ذكر الأستاذ تيمور في كتابه عن الأمثال العامية: قد كان لهذا البدوي الصوفي بساط صغير على قدر جلوسه، ولكنه -لكرامة هذا الصوفي! - يسع كل من جلس عليه ولو كان ألف شخص!! كعادة الصوفية في خرافاتهم التي يريدون بها ترويج مذهبهم المبتدع".
اتصفوا بصفات الله:
" من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ عبدالله السليمان الحميد سلمه الله وتولاه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
كتابكم الكريم المؤرخ 23/ 3/ 86 وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤال عما قاله بعض الخطباء في خطبة الجمعة من الحثِّ على الاتصاف بصفات الله، والتخلق بأخلاقه هل لها محمل؟ وهل سبق أن قالها أحد .. إلخ؟ كان معلومًا.
والجواب: هذا التعبير غير لائق، ولكن له محمل صحيح، وهو الحث على التخلق بمقتضي صفات الله وأسمائه وموجبها؛ وذلك بالنظر إلى الصفات التي يحسن من المخلوق أن يتصف بمقتضاها، بخلاف الصفات
المختصة بالله، كالخلّاق، والزراق، والإله، ونحو ذلك؛ لأن هذا شيء لا يمكن أن يتصف به المخلوق، ولا يجوز أن يدعيه، وهكذا ما أشبه هذه الأسماء.
وإنما المقصود الصفات التي يحبُّ الله من عباده أن يتصفوا بمقتضاها، كالعلم، والقوة، والرحمة، والحلم، والكرم، والجود، والعفو، وأشباه ذلك.
فهو -سبحانه- عليم يحب العلماء، قوي يحب المؤمن القوي أكثر من حبه للمؤمن الضعيف، كريم يحب الكرماء، رحيم يحب الرحماء، عفو يحب العفو، إلخ.
لكن الذي لله -سبحانه- من هذه الصفات وغيرها أكمل، وأعظم من الذي للمخلوق، بل لا مقارنة بينهما؛ لأنه -سبحانه- ليس كمثله شيء في صفاته وأفعاله، كما أنه لا مثل له في ذاته، وإنما حسب المخلوق أن يكون له نصيب من معاني هذه الصفات يليق به، ويناسبه على الحد الشرعي؛ فلو تجاوز في الكرم الحد صار مسرفًا، ولو تجاوز في الرحمة الحد عطّل الحدود والتعزيرات الشرعية، وهكذا لو زاد في العفو على الحد الشرعي وضعه في غير موضعه.
وهذه الأمثلة تدل على سواها، وقد نص العلامة ابن القيم رحمه الله على هذا المعنى في كتابيه (عدة الصابرين) و (الوابل الصيب)، ولعله نصَّ على ذلك في غيرهما؛ كالمدارج، وزاد المعاد، وغيرهما، وإليك نص كلامه في العدة والوابل:
قال في العدة صفحة 31: "ولما كان -سبحانه- هو الشكور على الحقيقة، كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من
عطَّلها، أو اتصف بضدها، وهذا شأن أسمائه الحسنى أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها، وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها؛ ولهذا يبغض الكفور، والظالم، والجاهل، والقاسي القلب، والبخيل، والجبان، والمهين، واللئيم، وهو -سبحانه- جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، ستِّير يحب أهل الستر، قادر يلوم على العجز. والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، عفو تحب العفو، وتر يحب الوتر، وكلما يحبه من آثار أسمائه وصفاته وموجبها وكلما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها ا. هـ".
وقال في الوابل الصيب صفحة 543 من مجموعة الحديث: "والجود من صفات الرب جل جلاله فإنه يعطي، ولا يأخذ، ويطعم ولا يُطعَم، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأحب الخلق إليه من اتصف بمقتضيات صفاته؛ فإنه كريم يحب الكرماء من عباده، وعالم يحب العلماء، وقادر يحب الشجعان، وجميل يحب الجمال" انتهى.
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية وحصول للفائدة، وأسأل الله -سبحانه- أن يوفقنا جميعًا للفقه في دينه، والقيام بحقه؛ إنه سميع قريب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
(1)
.
الأديان أفكار:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الأديان ليست أفكارًا، ولكنها
(1)
جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز، (ص 480 - 482).
وحي من الله عز وجل، ينزله على رسله ليسير عباده عليه، وهذه الكلمة -أعني كلمة فكر- التي يقصد بها الدين، يجب أن تحذف من قواميس الكتب الإسلامية؛ لأنها تؤدي إلى هذا المعنى الفاسد، وهو أن يقال عن الإسلام: فكر، والنصرانية فكر، واليهودية فكر، فيؤدي إلى أن تكون هذه الشرائع مجرد أفكار أرضية يعتنقها من شاء من الناس، والواقع أن الأديان السماوية أديان من عند الله عز وجل يعتقدها الإنسان على أنها وحي من الله تعبّد بها عباده، ولا يجوز أن يطلق عليها فكر"
(1)
.
قال رسول ال صلى الله عليه وسلم على لسان الله:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه اللفظة فقال: "لا يجوز هذا"
(2)
.
فلان ما فيه خير أبدًا:
وسئل عن قول "فلان ما فيه خير أبدًا"
فأجاب: "في الخير أبدًا عن المؤمن لا يجوز؛ لأن المؤمن خيِّر. وإذا كان عاميِّا؛ فإن فيه خيرًا وشرًا"
(3)
.
أسجد لعظمة الله:
وسئل عن قول: "أسجد لعظمة الله، أو أسجد لكبرياء الله"
فأجاب: "لا يجوز: إنما يقال: أسجد لله"
(4)
.
(1)
مجلة الحرس الوطني. (ربيع الأول - 1413 هـ).
(2)
أسئلة وأجوبة عن ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة، (2/ 42).
(3)
السابق، (ص 44).
(4)
السابق، (ص 44).
الله لا يُدرك بالحواس أو (الله لا يدركه العقل بحواسه):
قال الشيخ بكر أبو زيد: "هي من عبارات الجهمية، يرمون بها إلى قصد نفي الرؤية، وإلى نفي سماع كلام الله لمن كلمهم الله -سبحانه- من أنبيائه"
(1)
.
التصور الإسلامي:
قال الشيخ بكر أبو زيد: "أطلق سيد قطب -رحمه الله تعالى- لقب التصور الإسلامي" على "علم التوحيد"، وطُبع كتاب له بذلك باسم "خصائص التصور الإسلامي"، وهو خطأ لغة وشرعًا؛ لأن التصور ما يقبل الصواب والخطأ، والصدق والكذب، وهو من مصطلحات المناطقة، ثم ليس له ما يؤيده شرعًا، وقد غلط بعض من كتب مدخلًا إلى العقيدة الإسلامية فذكره مصطلحًا مسلمًا في تطور أسماء هذا العلم الشريف، فليتنبه"
(2)
.
اللهم رب القرآن:
قال الشيخ بكر أبو زيد: "النهي عن: اللهم رب القرآن: عن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم رب القرآن أوسع عليه مدخله، اللهم رب القرآن اغفر له. فالتفت إليه ابن عباس فقال: "مه: القرآن كلام الله وليس بمربوب، منه خرج وإليه يعود" رواه البيهقي والضياء بسند ضعيف"
(3)
أ. هـ
(1)
"تصحيح الدعاء" للشيخ بكر أبو زيد، ص 212.
(2)
المصدر السابق نفسه، ص 228.
(3)
المصدر السابق نفسه، ص 71 - 72.
قلت: وهذا الأثر وإن لم يصح فإن اللفظ السابق لا يجوز إطلاقه لمخالفته العقيدة أهل السنة من أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكلامه سبحانه صفة من صفاته.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان أو فوق كل أرض وتحت كل سماء:
قال الشيخ بكر أبو زيد منبهًا على بعض الأخطاء التي تقع في دعاء القنوت في الوتر: "ويُترك زيادة ألفاظ لا حاجة إليها، في مثل قول الداعي: "اللهم انصر المجاهدين في سبيلك فيزيد "في كل مكان" أو يزيد "فوق كل أرض وتحت كل سماء" ونحو ذلك من زيادة ألفاظ لا محل لها، بل بعضها قد يحتمل معنى مرفوضًا شرعًا"
(1)
.
النساء ناقصات عقل ودين (على سبيل السخرية بالنساء):
هذه العبارة يتفوه بها -كثيرًا- بعض الجهلة من الرجال، منتقصين بها النساء على سبيل التهكم والسخرية، وأنهن حمقاوات وقليلات دين، زاعمين بأن هذا مراد قوله صلى الله عليه وسلم في النساء: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن
…
"
(2)
.
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "دائمًا نسمع الحديث الشريف (النساء ناقصات عقل ودين) ويأتي به بعض الرجال للإساءة للمرأة، نرجو من سماحتكم توضيح معنى هذا الحديث؟ " فأجاب رحمه الله بقوله:
(1)
المصدر السابق نفسه، ص 474.
(2)
متفق عليه: رواه البخاري برقم (304)، ومسلم برقم (80).
"معني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، فقيل: يا رسول الله: ما نقصان عقلها؟ قال: أليست شهادة المرأتين بشهادة رجل؟ قيل: يا رسول الله ما نقصان دينها؟ قال: أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟) بيَّن عليه الصلاة والسلام أن نقصان عقلها من جهة ضعف حفظها، وأن شهادتها تجبر بشهادة امرأة أخرى؛ وذلك لضبط الشهادة بسبب أنها قد تنسى فتزيد في الشهادة أو تنقصها كما قال سبحانه:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
(1)
. وأما نقصان دينها فلأنها في حالة الحيض والنفاس تدع الصلاة وتدع الصوم ولا تقضي الصلاة؛ فهذا من نقصان الدين، ولكن هذا النقص ليست مؤاخذة عليه، وإنما هو نقص حاصل بشرع الله عز وجل، هو الذي شرعه عز وجل رفقًا بها وتيسيرًا عليها؛ لأنها إذا صامت مع وجود الحيض والنفاس يضرها ذلك، فمن رحمة الله شرع لها ترك الصيام وقت الحيض والنفاس والقضاء بعد ذلك.
وأما الصلاة فإنها حال الحيض قد وجد ما يمنع الطهارة، فمن رحمة الله جل وعلا أن شرع لها ترك الصلاة، وهكذا في النفاس. ثم شرع لها أنها لا تقضي؛ لأن في القضاء مشقة كبيرة؛ لأن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة
(1)
سورة البقرة، الآية (282).
خمس مرات، والحيض قد تكثر أيامه، فتبلغ سبعة أيام أو ثمانية أيام أو أكثر، والنفاس قد يبلغ أربعين يومًا، فكان من رحمة الله لها وإحسانه إليها أن أسقط عنها الصلاة أداءً وقضاءً، ولا يلزم من هذا أن يكون نقص عقلها في كل شيء، ونقص دينها في كل شيء، وإنما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقص عقلها من جهة ما قد يحصل من عدم الضبط للشهادة، ونقص دينها من جهة ما يحصل لها من ترك الصلاة والصوم في حال الحيض والنفاس. ولا يلزم من هذا أن تكون أيضًا دون الرجل في كل شيء، وأن الرجل أفضل منها في كل شيء؛ نعم جنس الرجال أفضل من جنس النساء في الجملة لأسباب كثيرة؛ كما قال سبحانه وتعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}
(1)
لكن قد تفوقه في بعض الأحيان في أشياء كثيرة، فكم لله من امرأة فوق كثير من الرجال في عقلها ودينها وضبطها، وإنما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جنس النساء دون جنس الرجال في العقل وفي الدين من هاتين الحيثيتين اللتين بينهما النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تكثر منها الأعمال الصالحات فتربو على كثير من الرجال في عملها الصالح، وفي تقواها الله عز وجل، وفي منزلتها في الآخرة، وقد تكون لها عناية في بعض الأمور فتضبط ضبطًا كثيرًا من ضبط بعض الرجال في كثير من المسائل التي تعنى بها وتجتهد في حفظها وضبطها، فتكون مرجعًا في التاريخ الإسلامي وفي أمور كثيرة، وهذا واضح لمن تأمل أحوال النساء في
(1)
سورة النساء، الآية (34).
عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك، وبهذا يعلم أن هذا النقص لا يمنع من الاعتماد عليها في الرواية، وهكذا في الشهادة إذا انجبرت بامرأة أخرى، ولا يمنع أيضًا تقواها لله وكونها من خيرة عباد الله ومن خيرة إماء الله إذا استقامت في دينها، وإن سقط عنها الصوم في الحيض والنفاس أداءً لا قضاء، وإن سقطت عنها الصلاة أداءً وقضاءً؛ فإن هذا لا يلزم منه نقصها في كل شيء من جهة تقواها الله، ومن جهة قيامها بأمره، ومن جهة ضبطها لما تعتني به من الأمور، فهو نقص خاص في العقل والدين كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي للمؤمن أن يرميها بالنقص في كل شيء وضعف الدين في كل شيء، وإنما ضعف خاص بدينها، وضعف في عقلها فيما يتعلق بضبط الشهادة ونحو ذلك، فينبغي إنصافها وحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على خير المحامل وأحسنها والله تعالى أعلم"
(1)
.
العقد شريعة المتعاقدين:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "كتب أحد الكُتاب في إحدى الجرائد اليومية في دولة الإمارات العربية المتحدة مقالًا ذكر فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "العقد شريعة المتعاقدين إلا عقدًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا"؟
ونظرًا لأن المحفوظ عندي هو: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا. . ." الخ الحديث أو "المؤمنون عند شروطهم" كما في الرواية الأخرى، أخذت أبحث عن هذا الحديث في كتب الحديث التي تحت يدي فلم أجده، أرجو من
(1)
مجلة البحوث الإسلامية (29/ 100 - 102). و"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (4/ 292 - 294).
سماحتكم إفادتنا عن مدى صحة هذا الحديث بالنص الذي ذكره الكاتب.
فأجابت: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، ويعد: ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العقد شريعة المتعاقدين
…
" لا نعلم حديثًا عن النبي بهذا اللفظ، وإنما هو مما فهمه بعض المتعلمين من نصوص الشريعة؛ كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
(1)
، وقوله عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
(2)
الآية. فعبر عن فهمه من عند نفسه بالعبارة المذكورة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(3)
.
أبغض الحلال إلى الله الطلاق:
يعتقد بعض الناس أن هذا اللفظ مما لا يجوز إطلاقه، مستشكلين أن يكون الطلاق حلالًا ومبغوضًا في وقت واحد، وهذا تناقض حسب فهمهم.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "ما مدى صحة الحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"؛ لأن هناك من يضعفه
(4)
ويقول:
(1)
سورة النساء، الآية (29).
(2)
سورة المائدة، الآية (1).
(3)
مجلة البحوث الإسلامية (56/ 104 - 105).
(4)
كالألباني رحمه الله في "ضعيف أبي داود، 472"، وعمرو بن عبد المنعم سليم في كتابه (الجامع في أحكام الطلاق)(13 - 16).
إنه مرسل، وكذلك متنه؛ يقولون: هل يبغض الله شيئًا ويحله؛ فإن الله لا مكره له؟ ".
فأجابت: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جاء في مختصر السنن لأبي داود عن محارب بن دثار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطلاق"
(1)
قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه، والمشهور فيه المرسل، وهو غريب، وقال البيهقي: وفي رواية ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمر موصولًا، ولا أراه يحفظه
(2)
.
وفي رواية عن محارب بن دثار قال: قال رسول الله: "ما أحل شيئًا أبغض إليه من الطلاق" وهذا مرسل.
قال ابن القيم: وقد روى الدارقطني من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق" وفيه حميد بن مالك وهو ضعيف.
ونقل المناوي في فيض القدير أن ابن حجر قال: ورجح أبو حاتم الدارقطني الإرسال في حديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".
وأورده ابن الجوزي في العلل بسند أبي داود وابن ماجه، وضعفه بعبيد الله الوصافي، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث،
(1)
أبو داود 2/ 631، رقم (2177)، وابن ماجه 1/ 650، رقم (2018).
(2)
السنن الكبري ج 7/ 322.
لكن رواه أبو داود رحمه الله بإسناد متصل صحيح عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعًا، وليس فيه عبيد الله بن الوليد الوصافي الذي أعله به ابن الجوزي، وبذلك يتضح لك صحة الحديث متصلًا لا مرسلا، ويكون المرسل حينئذ مؤيدًا للمتصل لا قادحًا فيه، أما متنه فليس فيه نكارة؛ لأنه ليس في إحلال الطلاق وبغضه تنافٍ؛ لأن الله سبحانه حكيم عليم أحله للعباد عند حاجتهم إليه وكرهه لهم عند عدم الحاجة إليه، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم:"أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها". خرجه الإمام مسلم في صحيحه
(1)
.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(2)
.
الإسلام انتشر بالسيف:
هذه المقولة أطلقها المستشرقون نكاية بالإسلام وأهله، زاعمين بأن الإسلام دين لا يقوم على الحجة والبرهان، إنما على السيف والسنان، وإكراه الناس على الدخول فيه.
وقابل غلو هؤلاء المستشرقين طائفة من كتاب المسلمين أرادت أن تدفع عن الإسلام هذه الفرية التي ألصقها به أعداؤه، لكنها غلت في الجانب الآخر، وطمست بعض أحكام الإسلام، وتحايلت على بعضها الآخر لتلائم هذا الدفاع، فقصروا جهاد المسلمين لأعدائهم على جهاد الدفع لا جهاد
(1)
مسلم برقم 671، والبيهقي 3/ 65، وأبو عوانة في مسنده 1/ 390، والإمام أحمد 4/ 181، والحاكم 2/ 8.
(2)
مجلة البحوث الإسلامية (56/ 79 - 81).
الطلب
(1)
، وتبنوا الأقوال الضعيفة التي تتوافق مع أقوالهم (بل أهوائهم)؛ كأخذ الجزية من المشركين وعدم قتلهم، خشية أن يزعم زاعم أن الإسلام انتشر بالسيف
(2)
!!
وتوسط أهل العلم من المحققين، فلم ينساقوا خلف هذه المقولة الجائرة، بل أنكروها، ولكنهم لم يقابلوها (بتمييع) أحكام الإسلام إرضاء للآخرين.
فقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "ما رأيكم في قول من قال: إن الإسلام انتشر بالسيف ونريد أن نرد عليهم ردًا منطقيًا؟
فأجاب: هذا القول على إطلاقه باطل؛ فالإسلام انتشر بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأيد بالسيف، فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغه بالدعوة في مكة ثلاثة عشر عامًا ثم في المدينة قبل أن يؤمر بالقتال، والصحابة والمسلمون انتشروا في الأرض ودعوا إلى الله، ومن أبى جاهدوه؛ لأن السيف منفذ، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}
(3)
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا
(1)
انظر: كلمة للدكتور عبد الصبور شاهين، نشرتها جريدة السياسة الكويتية (9/ 17 / 1421 هـ) تحت عنوان (أباطيل وافتراءات ضد الإسلام: الإسلام انتشر بالسيف). وكتاب: "سماحة الإسلام" للدكتور عمر قريشي، تقديم الشيخ عائض القرني! (ص 175 - 188) وأكثره نقولات عن محمد الغزالي، وانظر أيضًا: دعوة التقريب بين الأديان" للدكتور أحمد القاضي (ص 154 وما بعدها)، و"المستشرقون والإسلام، محمد قطب، (ص 75 وما بعدها). وقد ألف الدكتور النصراني نبيل لوقا كتابًا بعنوان "انتشار الإسلام بين الحقيقية والافتراء"، يدافع فيه عن الإسلام. فتأمل!
(2)
انظر: مقال (الإسلام انتشر بالسلم لا بالسيف) للدكتور محمود الطنطاوي في مجلة البعث الإسلامي (رمضان وشوال 1402 هـ).
(3)
سورة الحديد، الآية (25).
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}
(1)
فمن أبي قاتلوه لمصلحته ونجاته، كما يجب إلزام من عليه حق لمخلوق بأداء الحق الذي عليه ولو بالسجن أو الضرب، ولا يعتبر مظلومًا، فكيف يستنكر أو يستغرب إلزام من عليه حق الله بأداء حقه؟ فكيف بأعظم الحقوق وأوجبها وهو توحيد الله سبحانه وترك الإشراك به؟ ومن رحمة الله سبحانه أن شرع الجهاد للمشركين وقتالهم حتى يعبدوا الله وحده ويتركوا عبادة ما سواه، وفي ذلك سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة"
(2)
.
وقال أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري: "حكي أبو الحسن محمد بن يوسف العامري المتوفى سنة 281 هـ في كتابه: (الإعلام بمناقب الإسلام) شبهة انتشار الإسلام بالسيف ورد عليها، وحكاها ابن تيمية في كتابه:(الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) ورد عليها، وقال أبو العلاء المعري:
وهل أبيحت نساء الروم عن عرض
…
للعرب إلا بأحكام النبوات
وبهذا تعرف أن هذه الفكرة أسبق من حملة الاستشراق، ولكنها كانت مسيحية المنبت، ولقد بدت ظاهرة الانهزام في نفوس المفسرين في ظلال النهضة الحديثة، ولهذا قال (فييت) المدير السابق لدار الآثار العربية:"إن فكرة محمد عبده في قصر الحروب الإسلامية على الدفاع فكرة عصرية تمثل تطورًا في وجهة نظر المسلمين"
(3)
.
(1)
سورة الأنفال، الآية (39).
(2)
مجلة البحوث الإسلامية (54/ 127 - 128)، ومجموع فتاواه (18/ 419 - 420).
(3)
الفكر الإسلامي والتطور محمد فتحي عثمان، (ص 250).
ولقد انثالت المباحث الإسلامية من لدن محمد عبده تقرر أن حروب الرسول كانت دفاعية، واستكرهوا واقع التاريخ وقواطع الظواهر من النصوص التقرير هذا الظن، وانتبه عالمان فاضلان لهما الإمامة بين شارحي وجهة النظر الإسلامية اليوم وهما: سيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، فقررا خطأ هذا الظن، بيد أني رأيت استدلالًا للفريقين في غير محل النزاع، فمن يقول إن الإسلام لم ينتشر بالسيف غير ممايز بين المسائل الداخلة في محل النزاع، فهو مخطئ لأنه عمم الحكم السالب على مجمل تختلف أفراده، ومن قال: بل انتشر بالسيف غير ممايز بين تلك المسائل فهو مخطيء أيضًا لأنه عمم الحكم الموجب على مختلف الأفراد، وهذه الأفراد المتعددة ثلاث مسائل متغايرات: فمسألة (سيطرة الإسلام على الحكم بالسيف) هي غير مسألة (إرغام الناس على الإيمان بالسيف)، وهاتان المسألتان غير مسألة (بواعث سيطرة الإسلام على الحكم).
وإليك التفصيل: فأما مسألة سيطرة الإسلام على الحكم بالسيف فأقول: ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينافح بالحجة عن حقيقة الألوهية حتى لم يوجد من يدفع ببرهان، وحقيقة الألوهية تعني أن الله وحده المدبر لهذا الكون المتصرف فيه بره وأرضه وسمائه ونجومه وكواكبه وما ذرأ فيه وما برأ، فمن باب أولى من ناحية العدالة أن خالق هذا الوجود ومدبره كونًا هو الأحق بتدبيره حكمًا بالتشريع والتنظيم.
ومن باب أولى -من ناحية البرهان- أن خالق هذا الوجود ومدبره كونًا هو الأحق بتدبيره أيضًا حكمًا بالتشريع والتنظيم؛ لأن خالق الكون أعلم بما يصله.
ومن ناحية أخرى فثمت فارق -ولله المثل الأعلى- بين الكامل اللا متناهي في علمه وقدرته وإحاطته، وبين مخلوق محدود العمر ومحدود المكان في وسطه من هذه القشرة الأرضية، مهما امتدت آفاقه في المعرفة فيعتريه السهو والنقص وحب الذات ونوازع الهوى، فأيهما أولى بالتشريع: خالق الكون المحيط به أم من لا يخلق ذبابة، ولا يدرأ عنه نفسه الموت، ولا مخلص له من حتميات القدر؟ فإذ قد بدت هذه الحقيقة، وبدت حقيقة أخرى لا ينكرها التاريخ؛ وهي أنه لم يعاصر الإسلام نظام يؤسف عليه، وإذ قد كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس قيادة وريادة: فلا بد لكل مسلم من أي جنس ومن أي بقعة أن تكون له القوامة على هذا الدين؛ والله قادر على نصر دينه، ولو شاء لانتصر منهم ولكنه سبحانه أراد أن يبلونا، إذا تقرر هذا كله: فالحاكمية حق الله، والمسلمون حملتها وسيوفها، ففرض ولا بد أن ينتزعوها من الجاهلية بظبا سيوفهم وبآخر قطرة من دمائهم.
فما الذي يحملنا على طمس هذه الحقيقة كما طمست اليهود آية الرجم من توراتها؟ أفهان علينا ديننا الحق إشفاقًا من المغالطات؟ أم لأن واقعنا السياسي -معشر المسلمين في كل أرض- لا يسمح بكلمة حق؟ وأيضًا فالحقيقة هي الحقيقة لا يطمسها واقع الناس مهما كانت مرارتها: وليس بصحيح على الإطلاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وقاتل الروم، وفتح أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بلاد الروم والفرس دفاعًا.
إن هذا تحوير للتاريخ، واستخفاف بعقول الناس. إن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي رسول أوحى الله إليه الشرع وأمر بتبليغه، والتبليغ لا يكون إلا بحماية حرية
الدعوة، وهذا جانب من جوانب الجهاد.
والسيطرة على الحكم وسيلة من وسائل الحماية والرعاية لحرية الدعوة حتى لا يحول دونها الحكم الجاهلي، وثمرة للتبليغ ليرى قسطاس الله المستقيم قائمًا في أرض الله، ومع الأمر بالتبليغ فلا بد من التطبيق العملي، وليس بصحيح قط أن الإسلام يبيح السكوت على باطل أو على حكم جاهلي في الأرض، إلا إذا كان المسلمون كلفوا من الأمر ما يطيقون، أو كان الدين خامد الجذوة في نفوسهم فهان عليهم وهانوا على الله. وما شرع القتال وهو كره، ولا حرم الفرار من الزحف أشد تحريم إلا لنكون أمة تعلو ولا يعلى عليها، ولو كان صحيحًا أن الجهاد لمجرد تبليغ الدعوة فقط لكان المسلمون يقبلون الجزية ويقيمون في كل بلد فتحوها دعاة ومبشرين ويتركون حكمها لأهلها، ولكن الواقع خلاف ذلك، بل كانت الجزية الدينونة الكاملة لحكم المسلمين.
الحقيقة الناصعة الواضحة كل الوضوح أن أمة الإسلام لا تقر أي حكم جاهلي وهي تقدر على اجتثاثه، والجهاد لإحقاق الحق رتب حسب الطاقة: أعلاها جهاد باليد، فأي عيب يزوي وجوهنا عن مواجهة المستشرقين بالحق من ديننا؟
الشبهة: إن المسلمين حكموا البلاد وفتوحها بالسيف.
ونحن نقول: متى كان الحمل على الحق مثلبة؟ ومتى كان الناس كلهم على مستوى فهم الحق وقبوله مبرئين من الهوى إن لم يكن للحق سيف يحميه؟
إنما يعاب الإسلام في إيجابيته لو كان دعوة لجنس، أو لو كان لا يحمل كل مبادئ الخير من عدل ومساواة ونظام ووازع.
المنطق الصائب أن يقدر الناس أن هذا المبدأ حق، ثم يتدبروا مدى الأضرار الناجمة عن عدم تطبيقه، وعلى قدر الضرر يكون مقدار الإيجاب في الحمل على الحق.
ونحمد الله أن التاريخ يحفظ لنا من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وصدر الإسلام ما يتوج رؤوسنا من عدل ومساواة وحياة جادة.
وبعدُ، فلا عيب على نصوص ديننا إلا أنها تأمر باجتثاث الحكم الجاهلي وبالقوامة على الحق، وهي مفخرة نحسها بعين الفطرة إذا ما أطل عليها الآخرون -علوًا واستكبارًا- بالمنظار الأسود.
ومن يحاجنا نقول له: أيهما أحق: عدالة الإسلام أم كهانة شق وسطيح، أم جيروت كسري وقيصر؟ ونقول: السيف ضرورة حتمية لعمارة الأرض: وميزان الحق والباطل في الدعوة التي شهرته"
(1)
.
الله في كل مكان:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "كيف نرد على القائلين بأن (الله في كل مكان) تعالى الله عن ذلك، وما حكم قائلها؟.
فأجابت: أولًا: عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه بذاته، وهو ليس داخل العالم بل منفصل وبائن عنه، وهو مطلع على كل
(1)
لن تلحد، (ص 235 - 237).
شيء، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
(1)
الآية، وقال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
(2)
، وقال الله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}
(3)
، وقال تعالى: و الله الذي خلق السموات والأرض {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
(4)
الآية. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}
(5)
. ومما يدل على علوه على خلقه: نزول القرآن من عنده، والنزول لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل؛ قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}
(6)
الآية، وقال تعالى:{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
(7)
، وقال تعالى:{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
(8)
إلى غير ذلك من
(1)
سورة يونس، من الآية (3).
(2)
سورة طه، الآية (5).
(3)
سورة الفرقان، الآية (59).
(4)
سورة السجدة، الآية (4).
(5)
سورة هود، الآية (7).
(6)
سورة المائدة، من الآية (48).
(7)
سورة غافر، الآيتان (1، 2).
(8)
سورة فصلت، الآيتان (1، 2).
الآيات الدالة على علو الله سبحانه وتعالى، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي قال:"كانت لي غنم بين أُحد والجوانية فيها جارية لي، فأطلقتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم، فأسفت فصككتها فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فعَظَّم ذلك علي فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فدعوتها فقال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة"
(1)
، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً"
(2)
.
ثانيًا: من اعتقد أن الله في كل مكان فهو من الحلولية، ويرد عليه بما تقدم من الأدلة الدالة على أن الله في جهة العلو، وأنه مستو على عرشه بائن من خلقه، فإن انقاد إلى ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وإلا فهو كافر مرتد عن الإسلام. وأما قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}
(3)
فمعناه عند أهل السنة والجماعة أنه معهم بعلمه واطلاعه على أحوالهم. وأما قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}
(4)
فمعناه أنه سبحانه هو معبود أهل السماوات ومعبود أهل الأرض. وأما قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
(5)
(1)
رواه مسلم برقم (537)، وأبو داود برقم (930)، وغيرهما.
(2)
متفق عليه: رواه البخاري برقم (4351)، ومسلم برقم 1064).
(3)
سورة الحديد، الآية (4).
(4)
سورة الأنعام، الآية (3).
(5)
سورة الزخرف، الآية (84).
فمعناه أنه إله أهل السماوات، وإله أهل الأرض لا يعبد بحق سواه. وهذا هو الجمع بين الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب عند أهل الحق"
(1)
.
القرآن أول نظام عالمي:
أنكر الشيخ بكر إطلاق (نظام) على القرآن؛ لأنه "إطلاق محدث لا عهد للشريعة به، وهو يلاقي النظام القانوني بأنواعه: الإداري والجنائي، وما إلى ذلك، فلا يسوغ أن يطلق على لفظ انتشر اصطلاحه على ما يضعه البشر من تعاليم وقوانين"
(2)
.
قلت: وقد أنكرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء هذا الإطلاق أيضًا، وأنكرت أيضًا زعم أن القرآن (أول) نظام فقالت: "الأولى أن يسمى القرآن بما سماه الله به في كتابه من كونه شريعة ومنهاجًا وذكرًا وموعظة، أما تسميته نظام فلم يرد ذلك في الكتاب ولا في السنة فيما نعلم، وإن كان قد اشتمل على تنظيم أمور المسلمين في دينهم ودنياهم، وكان الاقتصار على أسمائه التي سماها الله وسماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم أولى وأحوط، وليس هو (أول) نظام كما قال الإمام المذكور، بل قبله كتب سماوية أوضح الله فيها ما يحتاجه العباد المنزلة عليهم؛ كالتوراة والإنجيل والقرآن أشرفها وأعظمها وأكملها، وقد قال الله سبحانه وتعالى فيه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
(3)
.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصبحه وسلم"
(4)
.
(1)
مجلة البحوث الإسلامية (20/ 168 - 170).
(2)
معجم المناهي (ص 540).
(3)
سورة النحل، من الآية (89).
(4)
مجلة البحوث الإسلامية (44/ 159 - 160).
أحكام الإسلام تتغير وتتبدل بتغير وتبدل الأزمان:
هذه المقولة مما هجت به طائفة (العصرانيين) وغيرهم من المنابذين للشرع في هذا الزمان
(1)
، متخذين منها متكأ وذريعة لتغيير ما لا يوافق أهواءهم وعقولهم القاصرة من أحكام الإسلام؛ لاسيما في مجال العلاقات مع الكفار، ومجال أحكام المرأة
وقد قام كثير من الباحثين بتوضيح الحق في هذا الباب، حائلين بين العصرانيين ومبتغاهم.
قال الدكتور حسين الترتوري: "قد يظن إنسان أن أحكام الإسلام تتغير وتتبدل بتبدل الأزمان والبيئات، ويؤيد ظنه هذا بالقاعدة الفقهية:(لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)
(2)
.
وهذه القاعدة ليست على عمومها وإطلاقها؛ فالأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام الاجتهادية التي لا نص فيها، بل دليلها القياس أو المصلحة. أما القواعد الكلية، والمبادئ العامة، والأحكام الجزئية التي ورد فيها نص فإنها لا تتغير ولا تتبدل؛ كوجوب أداء الأمانات إلى أهلها، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب رد المظالم إلى أهلها، وحرمة السرقة والغش والربا، وحرمة بيع المسلم على بيع أخيه؛ فإن هذا كله لا يدخله التغيير أو التبديل، لكن قد تتغير الوسائل وأساليب التطبيق.
(1)
انظر على سبيل المثال: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية" للقرضاوي، (ص 200 - 229)، و"السياسة بين الحلال والحرام" التركي الحمد، (ص 37 - 38).
(2)
انظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 1/ 43.
فوسيلة حماية الحقوق هي القضاء، وهذا لا يتغير ولا يتبدل، لكن هل يتولى الأمر قاض واحد أو أكثر؟ فهذا مما يمكن أن يندرج تحت القاعدة المذكورة، فيتغير بتغير الأزمان، فيجعل ثلاثة قضاة بدلًا من واحد الفساد ذمم الناس.
ومن أمثلة ذلك أيضًا أن الإسلام جاء بمبدأ عام في الشورى فقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}
(1)
. وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}
(2)
.
فهاتان الآيتان قررتا حكمًا؛ وهو مشروعية الشورى ووجوبها، لكن جاءت بأسلوب مرن بحيث يمكن أن يتغير أسلوب الشورى من عصر إلى عصر؛ فلم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أناس متفرغون لهذا الأمر، ويمكن في عصرنا أن يخصص ولي الأمر عددًا من العلماء ويفرغهم للمشورة، وهذا لا يعني تغيير الحكم، وإنما الذي تغير وسيلة التطبيق. وهذا كله انطلاقًا من اختيار الوسيلة التي تحقق المقصد الشرعي للحكم؛ وهو جلب مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها
(3)
.
ومن أمثلة الأحكام التي يمكن أن تتغير تبعًا لتغير عرف الناس لاختلاف الأزمان والبيئات
(4)
.
1 -
تقسيم مهر المرأة إلى معجل ومؤجل في الزواج، ومقدار كل قسم إذا لم ينص عليه في عقد الزواج يحكم فيه العرف. وهذا قد يتغير من زمان
(1)
سورة الشورى، آية (38).
(2)
سورة آل عمران، آية (159).
(3)
انظر المدخل الفقهي للزرقا 2/ 925.
(4)
المصدر نفسه 1/ 136، وانظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/ 43.
الآخر ومن مكان لآخر.
2 -
تضمين الوديع الوديعة بالتعدي أو التقصير؛ وهذا الحكم لا يتغير ولا يتبدل، لكن يرجع إلى العرف لتحديد معنى التعدي أو التقصير في الحفظ، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأماكن.
3 -
إعطاء البائع والمشتري خيار الرد للعيب؛ وهذا حكم ثابت لا يتبدل، أما ما يعد عيبًا وما لا يعد فهذا يتغير بتغير الأزمان والأماكن"
(1)
.
وقال الشيخ صالح الفوزان: "الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، وإنما الذي يتغير هو اجتهاد المجتهد وفتواه بحسب ما يظهر له من الأدلة. فقد يفتي في وقت بحكم حسبما يظهر له في ذلك الوقت، وحسبما لديه من الاستعداد العلمي، ثم يتبين له في وقت آخر خلاف ما أفتى به سابقًا، أو يتجدد لديه علم أكثر مما كان لديه سابقًا، فيجب عليه حينئذٍ أن يفتي بحسب ما ظهر له لاحقًا، ولا يبقى على اجتهاد تبين له خطؤه وقصوره. وليس معني تغير الفتوى ما يفهمه بعض الجهال أو المغرضين أن ذلك من أجل مجاراة العصور، أو أهواء الناس ورغباتهم؛ فإن ذلك من أعظم الضلال؛ قال الله تعالى:{فَوَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
(2)
"
(3)
وقال الشيخ بكر أبو زيد: "دعوى تغير الفتوى بتغير الزمان
…
هذه
(1)
مجلة البحوث الإسلامية (27/ 127 - 129).
(2)
سورة القصص، الآية (50).
(3)
الاجتهاد، (ص 27).
قاعدة صورية لا حقيقية؛ إذ أن جميع من يذكرها من الفقهاء الماتنين والشارحين يقيدونها بخصوص تغير الأعراف
…
والعصرانيون دخلوا من هذا التقعيد الصوري إلى أوسع الأبواب؛ فأخضعوا النصوص ذات الدلالة القطعية؛ كآيات الحدود في السرقة والزنا ونحوهما بإيقاف إقامة الحدود لتغير الزمان! وهكذا، مما نهايته انسلاخ من الشرع تحت سرادق موهوم"
(1)
.
المتهم بريء حتى تثبت إدانته:
هذه اللفظة ليست على إطلاقها.
يقول الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع -وفقه الله-: "لقد أجمعت القوانين الوضعية أو كاد إجماعها ينعقد على براءة المتهم حتى تثبت إدانته.
وحيث إن الاتهام في حد ذاته تختلف مقومات اعتباره باختلاف الأحوال والظروف والملابسات المحيطة به، وباختلاف القرائن المقوية للاتهام أو المهونة من أمره، وحيث إن المتهم نفسه قد يكون في حد ذاته أهلًا للاتهام؛ إما لسوابقه وقدم سبقه في الإجرام، أو لأن مثله حري بالإجرام، أو لأن حاله توحي بالإجرام وتغري به، وحيث إن التهمة نفسها منزلة بين البراءة التامة وبين ثبوت الجريمة، لذلك كله فإن القول (ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته) قول لا يتفق مع معنى الاتهام في اللغة، ولا يلتقي مع مبدأ أخذ المتهم والتحقيق معه، حتى لو آل أمر التحقيق معه إلى حبسه وضربه.
(1)
التعالم، (ص 58). ومن أفضل ما كُتب حول مسألة تغير الأحكام بحث بعنوان "تغير الفتوى: مفهومه وضوابطه وتطبيقاته في الفقه الإسلامي" للدكتور عبدالله بن حمد الغطيمل. نشر في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، (العدد 35). وانظر أيضًا: "تغير الفتوى" للشيخ محمد عمر بازمول.
كما أن القول بثبوت الإجرام بالاتهام فقط قول لا يتفق مع العدل والإنصاف والبراءة الأصلية.
وحيث إن هذا المبدأ القانوني قد أخذ به مجموعة من فقهاء التشريعات السماوية والوضعية، واعتبروه من النظريات البديهية التي لا تقبل الجدل أو التردد في الاعتبار فقد بدا لي أن أكتب في نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانته وحظها من الاعتبار في الشريعة الإسلامية، ومناقشة ذلك في ضوء معنى الاتهام وحجم الاتهام وحال الاتهام، وتقييم أخذ المتهم بتهمته ظلمًا أو عدلا. .. " إلى أن قال في نهاية بحثه:"وبهذا نستطيع القول: إن الشريعة الإسلامية لا تسلم للقانون بصواب ما اتجه إليه في تبرئة المتهم حتى تثبت إدانته، ما لم يكن الاتهام عاريًا عما يسنده من قرائن وأمارات، والمتهم معروفًا بالبر والصلاح والاستقامة وسلامة الاتجاه، أما إذا كان الاتهام مصحوبًا بما يقوي جانب الادعاء به، وكان المتهم ممن لا يستبعد وقوعه فيما اتهم به، فهذا النوع من المتهمين غير بريء، وحاله وما صاحب حاله من أمارات وقرائن تلزمه بجانب من إثبات الاتهام، وقد كان لهذا الاتجاه من الشريعة الإسلامية وهذا النظر في القضاء الإسلامي والسياسة الشرعية أثره في الحفاظ على الحقوق وبناء مجتمعات إسلامية تعيش في ظلال وارفة من الأمن والاستقرار والثقة بوازعي القرآن والسلطان في حماية الحقوق بمختلف أجناسها وأنواعها، كما أن لذلك أثره في محاربة الجريمة والتقليل منها ومن أصحابها، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"
(1)
.
(1)
مجلة البحوث الإسلامية (7/ 290 - 303)، بحث للشيخ بعنوان:"نظرية براءة المتهم حتي تثبت إدانته، وحظها من الاعتبار في الشريعة الإسلامية".
من ليس له شيخ فشيخه الشيطان:
سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "شائع لدى بعض الناس أن الذي ليس له شيخ شيخه الشيطان، فبماذا توجهونهم سماحة الشيخ؟
فأجاب: هذا غلط عامي، وجهل من بعض الصوفية ليرغبوا الناس في الاتصال بهم وتقليدهم في بدعهم وضلالاتهم؛ فإن الإنسان إذا تفقه في دينه بحضور الحلقات العلمية والدينية، أو بتدبر القرآن أو السنة واستفاد من ذلك فلا يقال قد اجتهد في طلب العلم، بل يقال: حصل له خير كثير، وينبغي لطالب العلم الاتصال بالعلماء المعروفين بحسن العقيدة والسيرة يسألهم عما أشكل عليه؛ لأنه إذا كان لا يسأل أهل العلم قد يغلط كثيرًا وتلتبس عليه الأمور، أما إذا حضر الحلقات العلمية وسمع الوعظ من أهل العلم فإنه بذلك يحصل له خير كثير وفوائد جمة وإن لم يكن له شيخ معين.
ولا شك أن الذي يحضر حلقات العلم ويسمع خطب الجمعة وخطب الأعياد والمحاضرات التي تعرض في المساجد شيوخه كثيرون، وإن لم ينتسب إلى واحد معين يقلده ويتبع رأيه"
(1)
.
الله العقل المدبر:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
س: "هل من وصف الله تعالى بالعقل المدبر للتقريب إلى أفهام العامة يكفر أو لا؟
(1)
مجلة البحوث الإسلامية (39/ 133).
فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد:
إذا كان الواقع كما ذكر من وصفه الله بالعقل المدبر للتقريب إلى العامة فقد أساء بإطلاق ذلك على الله تعالى؛ لأن أسماء الله وصفاته توقيفية، ولم يطلق الله ذلك على نفسه اسمًا أو وصفًا، ولم يطلقه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يكفر لعدم سوء قصده، ويكفيه في الإيضاح للعامة وغيرهم وصفه تعالى بكمال العلم وإحاطته، والحكمة البالغة في تقديره وتدبيره، في تشريعه وخلقه وتصريفه لجميع شؤون عباده، فذلك يغنيه عن تسميته أو وصفه بما لم يسم ولم يصف به نفسه، مع ما في إطلاق العقل المدبر عليه سبحانه من مشابهة الفلاسفة في قولهم بالعقول العشرة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(1)
.
أنا وطني:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل كون الإنسان أو المؤمن يقول "أنا وطني" حرام؟ هل كون الإنسان يتكلم عن السياسة الخارجية أو الداخلية حرام؟
فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
المفخرة العظمى والكرامة والدرجة العليا في الانتساب إلى الإسلام وفي نصرته والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله؛ فليقل المسلم: أنا مسلم، فهذا أعظم لشأنه وأعلى لدرجته، وبالإسلام والأخوة فيه يجمع الله شمل
(1)
مجلة البحوث الإسلامية (39/ 100).
المسلمين، والنعرة الوطنية معول هدم وتفريق لجماعة المسلمين إذا كان المقصود منها الفخر على إخوانه المسلمين غير المواطنين، أما إن كان المقصود من ذلك التعريف بأنه يحمل الجنسية الوطنية وليس من دولة أخرى فلا حرج في ذلك، وقد كتب سماحة الرئيس العام الشيخ عبد العزيز بن باز رسالة في القومية
(1)
.
ثم الكلام في السياسة الداخلية والخارجية للأمة ليس حرامًا ما دام يحقق المصلحة للإسلام والمسلمين ولا يثير فتنًا تعود عليهم بالفرقة والفشل والخيبة والانهيار.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(2)
.
لا زال في عالمنا بعض هبات الطبيعة:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "لدينا شركة لتعبئة المياه كتبت عبارة على لوحات كبيرة وضعتها على الطرقات العامة للدعاية، وهذه العبارة هي: "لا زال في عالمنا بعض هبات الطبيعة" وبجانبها منظر لتدفق الماء من مكان ما، ولقد ذكَّرتُهم أن هذه العبارة لا تصح شرعًا؛ حيث إن الذي وهبنا الماء هو الله تبارك وتعالى وحده وليست الطبيعة كما يقول الشيوعيون قاتلهم الله، وما هي الطبيعة التي تدعون أنها لها إرادة وهي التي تهب الماء وغيره؟ ولكنهم ردوا عليَّ أن هذه العبارة على طريق المجاز؛ كقول أحدهم:(بني الأمير البلدة)! فما حكم الشرع في هذه العبارة؟ أرجو تبيين ذلك
(1)
بعنوان: "نقد القومية العربية".
(2)
مجلة البحوث الإسلامية (33/ 101 - 102).
مشكورين، وحيث إن الناس يقرأونها ليلًا ونهارًا، وربما اعتقد بعضهم بصحتها، وهذا خطر على عقيدتهم أسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إلى دينهم، وأن يعتقدوا العقيدة الصحيحة التي لا لبس فيها ولا شك.
فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد:
لا يجوز أن يقال ولا أن يكتب: "لا زال في عالمنا بعض هبات الطبيعة"، ولو ادعي في ذلك أنه مجاز؛ لأن فيه تلبيسًا على الناس، وإيناسًا للقلوب بما عليه أهل الإلحاد؛ إذ لا يزال كثير من الكفرة ينكر الرب، ويسند إحداث الخير والشر إلى غير الله حقيقة، فينبغي للمسلم أن يصوب لسانه وقلمه عن مثل هذه العبارات صيانة لنفسه عن مشاركة أهل الإلحاد في شعارهم ومظاهرهم، وبعدًا عما يلهجون به في حديثهم حتى يكون طاهرًا من شوائب الشرك في سيرته الظاهرة وعقيدته الباطنة، ويجب عليه قبول النصيحة وألا يتمحل لتصحيح خطئه وينتحل الأعذار لتبرير موقفه؛ فالحق أحق أن يُتبع، وقد قال الأول: إياك وما يعتذر منه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(1)
.
حاضر سيدي:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "هل يجوز أن أقول للضابط في الشرطة أو القوات المسلحة: حاضر يا سيدي؟
فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ..
(1)
مجلة البحوث الإسلامية (33/ 69 - 70).
وبعد: يجوز أن تقول له: حاضر ولا يجوز أن تقول له: يا سيدي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض الصحابة: أنت سيدنا قال: "السيد الله تبارك وتعالي"
(1)
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(2)
.
المرحوم فلان:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "سمعت بعض الكلمات التي يرددها بعض الناس، فأريد أن أعرف ما هو موقف الإسلام من هذه الكلمات، على سبيل المثال: عندما يتوفى شخص معين يقول بعض الناس: (المرحوم فلان) وإذا كان ذا منصب كبير قالوا: (المغفور له فلان) فهل هم اطلعوا على اللوح المحفوظ وعرفوا أن فلانًا مغفور له وفلانًا مرحوم؟ لذا كان من الواجب عليَّ التساؤل حول هذه النقطة، وقد قال تعالى في كتابه العزيز:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}
(3)
أفتوني.
فأجابت: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد:
(1)
أحمد 4/ 24 و 25، وأبو داود برقم 4806، وابن السني في عمل اليوم والليلة برقم 387، والبخاري في الأدب برقم 211، والبيهقي في الأسماء والصفات 22، والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم 245 و 246 و 247.
(2)
مجلة البحوث الإسلامية (33/ 66).
(3)
سورة آل عمران، الآية (187).
ثبوت مغفرة الله لشخص أو رحمته سبحانه إياه بعد موته من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم من أعلمه الله بذلك من ملائكته ورسله وأنبيائه، فإخبار شخص غير هؤلاء عن ميت بأن الله قد غفر له أو رحمه لا يجوز إلا من ورد فيه نص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وبدون ذلك يكون رجمًا بالغيب، وقد قال الله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}
(1)
، وقال:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}
(2)
ولكن يرجى للمسلم المغفرة والرحمة ودخول الجنة فضلًا من الله ورحمية، ويدعى له بالمغفرة والرحمة بدلًا من الإخبار عنه بأنه مرحوم مغفور له؛ قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
(3)
. وفي صحيح البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت "أن أم العلا -امرأة من الأنصار قد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون، فأنزلناه في بيوتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه؟ " فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال: "أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي" قالت: فوالله لا
(1)
سورة النمل، الآية (65).
(2)
سورة الجن، الآيتان (26 - 27).
(3)
سورة النساء، آية (48).
أزكي أحدًا بعده أبدًا،. وقوله صلى الله عليه وسلم:"والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي" هذا كان قبل أن ينزل الله قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر}
(1)
الآية، وقبل أن يعلمه سبحانه أنه من أهل الجنة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(2)
.
لا قدّر الله:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما حكم الشرع في نظركم في هذه الألفاظ: (يعلم الله)، (لا سمح الله)، (لا قدر الله)، (وإرادة الله)، (الله ورسوله أعلم).
فأجابت: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد:
قوله: (يعلم الله)؛ لا بأس بذلك إذا كان صادقًا، وقوله:(لا سمح الله، لا قدر الله)؛ لا بأس به إذا كان المراد بذلك طلب العافية مما يضره، وقوله:(إرادة الله)؛ إذا أراد بذلك أن ما أصابه من مرض وفقر ونحو ذلك هو من قدر الله وإرادته الكونية فلا بأس، وقوله:(الله ورسوله أعلم)؛ يجوز في حياة الرسول، أما بعد وفاته فيقول الله أعلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يعلم ما يحدث بعد وفاته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم"
(3)
.
(1)
سورة الفتح، الآيتان (1 - 2).
(2)
مجلة البحوث الإسلامية (33/ 68 - 69)، وللشيخ ابن باز رحمه الله فتوي عن هذه اللفظة، نشرت في مجلة البحوث الإسلامية (31/ 110 - 111).
(3)
مجلة البحوث الإسلامية (33/ 71).
لعبة القدر العمياء:
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "لقد ورد في صحيفة محلية خبر جاء فيه: (منصور .. البالغ من العمر 13 ربيعًا مزدهرًا برحيق الصبا .. كان على موعد مع الحزن والأسى، ولعبة القدر العمياء) ثم .. ولكن القدر المترصد المنصور لم يحكم لعبته الأزلية .. إلخ)، وفي نفس الصحيفة ورد خبر عن فتاة سحقتها سيارة، وعندما علمت أمها حضرت على التو لتشهد الحادث الأليم الذي أطاح بأسرتها، وأحال حياتها إلى جحيم لا ينتهي). فما حكم الشرع في مثل هذا الكلام؟ جزاكم الله خيرًا.
فأجاب: المشروع للمسلم عند وقوع المصائب المؤلمة الصبر والاحتساب، وأن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل، وأن يتحمل الصبر، ويحذر الجزع والأقوال المنكرة؛ لقول الله سبحانه:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
(1)
.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان"
(2)
خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا
(1)
سورة البقرة، الآيات (155 - 157).
(2)
رواه مسلم في (كتاب القدر) برقم (2664).
لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها"
(1)
.
ولا يجوز الجزع وإظهار السخط أو الكلام المنكر مثلما ذكر في السؤال: (لعبة القدر العمياء)، وهكذا قوله:(ولكن القدر المترصد المنصور لم يحكم لعبته الأزلية).
هذا الكلام وأشباهه من المنكرات العظيمة، بل من الكفر البواح؛ لكونه اعتراضًا على الله سبحانه، وسبًّا لما سبق به علمه واستهزاءً بذلك، فعلى من قال ذلك أن يتوب إلى الله سبحانه توبةً صادقةً، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس منا من ضرب الحدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية" متفق على صحته من حديث ابن مسعود رضي الله عنه
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة" متفق على صحته من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
(3)
. والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة، وبالله التوفيق"
(4)
.
(1)
رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (26095)، ومسلم في (كتاب الجنائز) برقم (918).
(2)
رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) برقم (3650)، والبخاري في (الجنائز) برقم (1294)، ومسلم في (الإيمان) برقم (103) واللفظ له.
(3)
رواه مسلم في (الإيمان) برقم (104).
(4)
مجلة البحوث الإسلامية (49/ 110 - 112).
أجيبوا وتوكلوا يا خدام هذه الأسماء الحسنى بقضاء حاجتي:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "هل يجوز لمسلم أن يقول في دعائه "أجيبوا وتوكلوا يا خدام هذه الأسماء الحسني بقضاء حاجتي"؟
الجواب: نداء خدام الأسماء الحسنى لقضاء الحاجات شرك؛ لأنه نداء لغير الله من خدم غائبين موهومين لا نعلم له أصلًا، قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}
(1)
(2)
(3)
الآية.
وقال عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}
(4)
وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}
(5)
.
وثبت عن النبي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن
(1)
سورة الأحقاف، الآيتان (5، 6).
(2)
سورة المؤمنون، الآية (117).
(3)
سورة يونس، الآيات (105، 106).
(4)
سورة الجن، الآية (18).
(5)
سورة الجن، الآية (6).
بالله"
(1)
الحديث. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على أن الدعاء لجلب النفع أو دفع الضرر إنما هو لله، فصرفه لغير الله شرك لأنه عبادة"
(2)
.
أنتم خلفاء الله في أرضه:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "وجدت في بعض الكتب عبارة "وأنتم أيها المسلمون خلفاء الله في أرضه" فما حكم ذلك؟
فأجابت: هذا التعبير غير صحيح من جهة معناه؛ لأن الله تعالى هو الخالق لكل شيء المالك له، ولم يغب عن خلقه وملكه حتى يتخذ خليفة عنه في أرضه، وإنما يجعل الله بعض الناس خلفاء لبعض في الأرض، فكلما هلك فرد أو جماعة أو أمة جعل غيرها خليفة منها يخلفها في عمارة الأرض كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}
(3)
(4)
وقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}
(5)
أي نوعًا من الخلق يخلف من كان قبلهم من مخلوقاته"
(6)
.
(1)
الإمام أحمد 1/ 239 و 303 و 307 والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع، رقم (2516).
(2)
مجلة البحوث الإسلامية (28/ 56 - 57).
(3)
سورة الأنعام، الآية (165).
(4)
سورة الأعراف، الآية (129).
(5)
سورة البقرة، الآية (30).
(6)
مجلة البحوث الإسلامية (31/ 76 - 77).
يا من لا تراه العيون (في دعاء الله):
نبة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله خطباء وغيرهم إلى عدم جواز بعض الأدعية.
وأورد سماحته مثلًا على ذلك بمن يقول: يا من لا تراه العيون .. الخ. مبينًا أنه سبحانه يراه المؤمنون يوم القيامة في موقف القيامة وفي الجنة، إنما يحجب عنه الكافرون. وفيما يلي نص تنبيه سماحته:
تنبيه عام: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فقد بلغني أن بعض الخطباء يقول في خطبته يا من لا تراه العيون .. إلخ، وهذا الدعاء لا يجوز؛ لأنه سبحانه يراه المؤمنون يوم القيامة في موقف القيامة وفي الجنة، وإنما يحجب عنه الكافرون كما قال سبحانه:{(14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}
(1)
، ولا تراه العيون في الدنيا أيضا كما قال الله سبحانه:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير}
(2)
.
وقال سبحانه لموسى: {لَنْ تَرَانِي}
(3)
، الآية. والمراد في الدنيا، فالواجب على الخطباء وغيرهم أن يتنبهوا لذلك.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه"
(4)
.
(1)
سورة المطففين، الآية (15).
(2)
سورة الأنعام، الآية (103).
(3)
سورة الأعراف، الآية (143).
(4)
جريدة الرياض، بتاريخ 11/ 9/ 1418 هـ.
إلى حضرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى حضرة غوث هذا الزمان
…
الخ (الصلاة الواحدية):
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن هذه الصلاة الصوفية المبتدعة وما جاء فيها من ألفاظ منهي عنها، فإليك السؤال والجواب: "س: إلى حضرة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم:7، وإلى حضرة غوث هذا الزمان وأعوانه وسائر أولياء الله رضي الله تعالى عنهم الفاتحة صلى الله عليه وسلم 7، اللهم يا واحد يا أحد يا واجد يا جواد: صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد في كل لمحة ونفس بعدد معلوماته وفيوضاته وأمداده 100.
اللهم كما أنت أهله صل وسلم وبارك على سيدنا وشفيعنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم كما هو أهله، نسألك اللهم بحقه أن تغرقنا في لجة بحر الوحدة، حتى لا نرى ولا نسمع ولا نجد ولا نحيا ولا نتحرك ولا نسكن إلا بها، وترزقنا تمام مغفرتك يا الله، وتمام نعمتك يا الله، وتمام معرفتك يا الله، وتمام محبتك يا الله، وتمام رضوانك يا الله، وصل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه عدد ما أحاط به علمك وأحصاه كتابك. برحمتك يا أرحم الراحمين
…
الخ.
فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، ويعد أولا: إن ما يسمى بالصلوات الواحدية، وما مهد به لها فيه كذب وكثير من البدع والشرك بالله تعالى والغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1 -
فمن الكذب ما جاء في السطر الأخير من القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصل كل موجود؛ فإنه صلى الله عليه وسلم وإن كان أشرف الخلق، وأفضل الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام: ليس أصل كل موجود، ولا من أجله خلق الخلق، بل هو مولود من أبوين كغيره من بني آدم إلا عيسي بن مريم فإنه لا أب له، وخلق الخلق لعبادة الله وحده كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
(1)
.
2 -
ومن البدع في ذلك قراءة الفاتحة للنبي صلى الله عليه وسلم سبع مرات، وقراءتها لغوث الزمان وأولياء الله سبع مرات؛ فإن ذلك لم يثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم، وقد قال:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم
(2)
، مع ما في ذلك من الشرك في قراءتها لمن سموه غوث الزمان وأعوانه.
وكذلك طلب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله في كل لمحة ونفس وبعدد معلوماته وفيوضاته وإمداده وتحديدها بمائة مرة بدعة.
3 -
ومن البدع الشنيعة ما جاء في ص 2 من قولهم: (نسألك اللهم بحقه أن تغرقنا في لجة بحر الوحدة، حتى لا نرى ولا نسمع ولا نجد ولا نحس ولا نتحرك ولا نسكن إلا بها)؛ فإن ذلك القول بوحدة الوجود، والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله أن يغرقهم في لجنتها حتى يغيبوا عن الوجود فلا يكون لهم سمع ولا بصر ولا إحساس إلا بهذه الوحدة، وهذا هو الكفر الفاضح والضلال المبين
…
الخ الفتوى"
(3)
الزواج نصف الدين:
سئل الشيخ محمد علي عبد الرحيم عن هذه اللفظة فقال: "ليس بحديث،
(1)
سورة الذاريات، الآية (56).
(2)
رواه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718).
(3)
مجلة البحوث الإسلامية، (العدد: 37).
ولا يتفق مع الدين، ومعناه باطل؛ لأنه يدل على أن الشاب العرب يعيش بنصف دين، ويجب على المأذون عند عقد الزواج أن لا يردد هذه القول؛ لأنه مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان من العزاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنس بن مالك وابن عباس وغيرهما، وكانوا ينامون في المسجد، فهل كان هؤلاء الصحابة بنصف دين؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم، والله أعلم"
(1)
.
شهر طوبة يريد أن يثبت وجوده، (شهر أمشير لا بد أن يعمل شيئًا قبل أن يرحل):
قالت مجلة التوحيد المصرية: "تحقيق صحفي مع رئيس هيئة الأرصاد الجوية ذكرنا بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث بين الحديث وما قيل في التحقيق ارتباط وثيق.
والحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد أن صلى بأصحابه صلاة الصبح وكانت السماء قد أمطرت أثناء الليل. عن زيد بن خالد الجهني قال: صلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال:"هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب".
وقد فسر العلماء هذا الحديث على قولين: أحدهما أن قول القائل: مُطرنا بنوء كذا كُفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الإيمان مخرج من ملة الإسلام؛ وذلك إذا كان قائل ذلك معتقدًا أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كما
(1)
مجلة التوحيد (س 19، ع 3، ص 13).
كان بعض أهل الجاهلية يزعم .. ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره.
أما القول الآخر من تفسير العلماء لهذا الحديث أن من قال: مطرنا بنوء كذا معتقدًا أن المطر من الله تعالى وبرحمته، وأن النوء ميقات له وعلامة فهذا لا يكفر وإنما يكره منه هذا القول. وعلق النووي على ذلك بقوله:"وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره، فيساء الظن بصاحبها، ولأنها شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم".
والنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث يصحح أمرًا يتعلق بفساد العقيدة ما زال كثير من الناس يقعون فيه إلى يومنا هذا .... فإذا ما اشتد البرد في بعض الأيام أو هطلت الأمطار نسمع من يقول: (شهر طوبة يريد أن يثبت وجوده)، وإذا اشتدت الرياح مثلًا يقول القائل:(شهر أمشير لا بد أن يعمل شيئًا قبل أن يرحل)
…
إلى آخر هذه العبارات التي تنسب هذه الأمور إلى الأيام والشهور.
وكنا نظن أن ذلك يجري على ألسنة العوام فقط إلى أن قرأنا ذلك التحقيق الصحفي مع رئيس هيئة الأرصاد الجوية حيث تحدث عن درجات الحرارة وتقاربها في مثل هذا الوقت من الأعوام الماضية، ولفت النظر إلى أن عدم سقوط الأمطار مع إشراقة الشمس وتبدد الغيوم يجعلنا لا نشعر ببرودة الجو، أو يقلل الإحساس بشدته، مما يخدع البعض ويجعله يخفف من ملابسه مما يعرضه للإصابة بالأنفلونزا.
حينما أراد رئيس هيئة الأرصاد الجوية أن يحذر الناس من ذلك قال لهم: (
…
أحذر المواطنين من خداع شتاء هذا العام فإنه شتاء خبيث!!) وبالطبع
فإن الجريدة حينما نشرت ذلك التحقيق جعلت له هذا العنوان المثير: (شتاء هذا العام خبيث).
وبالطبع فإننا نحسن الظن برئيس هيئة الأرصاد الجوية، حيث لا نتصور أنه ينسب الفعل إلى فصل الشتاء أو أي فصل آخر من فصول السنة؛ لأن ذلك كفر يخرج من ملة الإسلام
…
وإنما نقول له ما قاله العلماء: إنك سلكت مسلك الجاهلية في استعمال هذه الألفاظ التي لا يجوز استعمالها لأنها تبعث على إساءة الظن بقائلها. وما كنا نظن أبدًا أن أفكار الجاهلية تصل إلى أعلى رأس في هيئة الأرصاد الجوية، وخاصة أنه لم يرد في هذا التحقيق الصحفي الذي أجري معه أي ذكر الله تعالى للإشارة إلى تصريفه هذا الكون بأمطاره وسحبه وبرده وحره.
وأخيرًا ليت الوعي الديني وتصحيح المفاهيم في العقيدة يكون دعامة قوية يرتكز عليها كل مسؤول حتى يتحسس كلماته قبل أن تخرج من فيه"
(1)
.
الموجود (تسمية الله سبحانه به):
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "شخص يقول: لم أجد في أسماء الله وصفاته اسم الموجود، وإنما وجدت اسم الواجد، وعلمت في اللغة أن الموجود على وزن مفعول، ولا بد أن يكون لكل موجود موجدًا كما أن لكل مفعول فاعلًا، ومحال أن يوجد الله موجد. ورأيت أن الواجد يشبه اسم الخالق، والموجود يشبه اسم المخلوق، وكما أن لكل موجود موجدًا فلكل مخلوق خالقًا، فهل لي بعد ذلك أن أصف الله بأنه موجود؟
(1)
مجلة التوحيد (س 18، ع 8، ص 53 - 54).
فأجابت: وجود الله معلوم من الدين بالضرورة، وهو صفة لله بإجماع المسلمين، بل صفة لله عند جميع العقلاء حتى المشركين؛ لا ينازع في ذلك إلا ملحد دهري، ولا يلزم من إثبات الوجود صفة لله أن يكون له موجد؛ لأن الوجود نوعان:
الأول: وجود ذاتي، وهو ما كان وجوده ثابتًا له في نفسه لا مكسوبًا له من غيره، وهذا هو وجود الله سبحانه وصفاته؛ فإن وجوده لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(1)
.
الثاني: وجود حادث؛ وهو ما كان حادا بعد عدم؛ فهذا الذي لا بد له من موجد يوجده وخالق يحدثه، وهو الله سبحانه؛ قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
(2)
، وقال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}
(3)
. وعلى هذا يوصف الله تعالى بأنه موجود ويخبر عنه بذلك في الكلام؛ فيقال: الله موجود، وليس الوجود اسمًا بل صفة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم"
(4)
.
وقالت مجلة التوحيد المصرية: "الموجود ليس من أسماء الله سبحانه، وهذا لا يتنافى مع وجود الله تعالى؛ فأسماء الله تعالى توقيفية، ولم يرد نص
(1)
سورة الحديد، الآية (3).
(2)
سورة الزمر، الآية (62، 63).
(3)
سورة الطور، الآيتان (35، 36).
(4)
مجلة البحوث الإسلامية (21/ 79 - 80).
في القرآن ولا في السنة بأن الموجود اسم من اسماء الله تعالى. وأسماء الله تعالى حسني، فلا بد أن تشتمل على وصف ومعنى وهو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة، والوجود معني مشترك، يشترك فيه الخالق والمخلوق،؛ فكل ما في الكون موجود، وكل أحد يصدق عليه أنه موجود، وإن كان وجود الخالق غير وجود المخلوق"
(1)
.
وقال الشيخ بكر أبو زيد في "تسمية المولودة: "ومن هذا؛ الغلط في التعبيد لأسماء يُظن أنها من أسماء الله تعالى؛ وليست كذلك؛ مثل:
…
عبد الموجود
(2)
.
إننا نناجيه وهو في قبره:
جاء في مجلة التوحيد المصرية تعقيب من الشيخ أحمد طه نصر قال فيه: "أستاذنا وأخونا الفاضل الشيخ صفوت الشوادفي، السلام عليكم ورحمة الله: أضرع إلى الله العلي القدير أن يزيدكم توفيقًا وعونًا، وأن يجعل عملنا جميعًا مطية إلى الآخرة، وأن يجزل لكم الأجر والثواب، وحسيبكم الله الذي لا يضيع أجر المحسنين.
أكتب همسة في أذن من أحب وأعتز بهم محبة في الله، وتعاونًا على البر والتقوي.
أخي الحبيب طالعت العدد الأخير من مجلتنا الحبيبة -مجلة التوحيد- نفع
(1)
مجلة التوحيد (س 20، ع 3، ص 6).
(2)
تسمية المولود، (ص 60). وانظر:"الإنباه إلى ما ليس من أسماء الله" للشيخ صالح العصيمي، (ص 49 - 50)، و "الكلمات النافعة" للشيخ وحيد بالي، (ص 58).
الله بها المسلمين، وتقبل منكم هذا الجهد، وجعله سعيًا مشكورًا.
الهمسة: في الصفحة رقم 52 مقال الأكراد عبارة: (إننا نتمني لو وجد مثله الآن ليعيد إلينا بيت المقدس، بيت العزة والكرامة -إننا نناجيه وهو في قبره ونقول له: قم يا صلاح الدين طهر قدسنا- إلى آخره) لن أعلق فأنتم أكفأ وكنت أتمنى أن تعلق المجلة ولو بالهامش على عدم جواز ذلك من المناجاة، وأن تكون الضراعة إلى الله وحده عز وجل، فهو حسبنا وهو نعم الوكيل والكفيل بعباده"
(1)
.
تجلى الله في (جلباب) الهيبة والعظمة:
جاء في تعقيب الشيخ أحمد طه نصر على مجلة التوحيد: "والثانية بصفحة 57 في تجلي الله العلي العظيم في كتابه الخالد جاءت كلمة جلباب؛ فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة" وما أظن أنها تليق بذي الجلال والإكرام -والأجمل منها يتجلى في جلال الهيبة والعظمة- وتعلمون أن كلمة جلباب وردت في سورة الأحزاب عن ثوب المرأة المسلمة، وأعتقد أنها لم ترد ولا على لسان أحد من سلفنا الصالح، ولما كان التعبير في إطار القرآن العظيم، فقد جاء فيه:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}
(2)
ولا تعقيب لي أكثر من الهمس القرون بالحب والود وفقنا الله جميعًا لما يحب ويرضي"
(3)
.
(1)
مجلة التوحيد (السنة 21/ العدد 10 ص 39).
(2)
سورة الرحمن، آية (78).
(3)
مجلة التوحيد (السنة 21/ العدد 10/ ص 39).
حان وقت الصلاة:
قال الشيخ عبدالسلام بن برجس آل عبد الكريم رحمه الله: "كان السلف يكرهون أن يُقال حانت الصلاة، ويأمرون أن يقال حضرت الصلاة.
ففي "مصنف ابن أبي شيبة، (1/ 336) عن أبي ظبيان أنه كره أن يقول: قد حانت الصلاة.
وعن أبي معشر عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يقولوا قد حانت الصلاة، فقال: إن الصلاة لا تحين، وليقولوا: قد حضرت الصلاة.
وبالنظر إلى ورود لفظ حان، في لسان الشارع ولسان العرب، يظهر معني كراهية السلف لإطلاق هذا اللفظ على دخول وقت الصلاة؛ ذلك بأن معني حان وقت كذا: قرب وقته، لا أنه دخل، ولذا جاء في بعض الأحاديث:"كانوا يتحينون وقت الصلاة" و "كنا نتحين زوال الشمس" أي يطلبون حينها، وهو وقتها، فهو لم يدخل بعد.
قال في "لسان العرب"(13/ 136): حان الشيء: قَرب، وحانت الصلاة دنت. أهـ
فاللفظ العربي الصحيح للتعبير عن دخول وقت الصلاة أن يقال: دخل وقت صلاة كذا، أو حضرت الصلاة، فهذان التعبيران يدلان على أن الصلاة قد وجبت لدخول وقتها. وهذا التعبير هو الذي استعمله الشارع صلى الله عليه وسلم.
جاء في حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضرت
الصَّلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم" متفق عليه
(1)
.
وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر .. "
(2)
.
وهكذا كان إطلاق الصَّحابة والتابعين، قال أبو سَعِيد الخُدْرِيّ خرج رجلان في سفر، فحضرت الصَّلاة -وليس معهما ماء- فتيمما صعيدًا طيبًا، فصليا .. الخ وأمثلة ذلك كثيرة يطول استقصاؤها.
وبناء على ذلك أوجه نداءً إلى إذاعات وتلفزيونات العالم العربي والإِسلامي أن يستبدلوا التعبير السائد "حان وقت صلاة كذا" بـ "دخل وقت صلاة كذا" أو "حضرت صلاة كذا" تمشيًا مع لسان العرب واصطلاح الشرع، واللهُ الموفق والهادي إلى سواء السبيل"
(3)
.
سواة الله:
وهو لفظ يستخدمه أهل نجد بكثرة، يعنون به أن الله لم يقدِّر ما يريدون.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذا اللَّفظِ في برنامجه الإذاعي: سؤال على الهاتف، بتاريخ 26/ 11 / 1419 هـ، فأجاب بأن هذا اللَّفظِ "لا بأس به" إذا قصد أن الله لم يقدر هذا الأمر.
ولكنه لا يجوز استعماله إذا قُصد به الاحتجاج بالقدر على ترك الواجبات أو فعل المعاصي، واللهُ أعلم.
(1)
رواه البخاري برقم (631)، ومسلم برقم (674).
(2)
رواه النسائي في المواقيت برقم (522)، وأحمد: 2/ 213.
(3)
جريدة الرياض، بتاريخ 25/ 3 / 1420 هـ.
الإسلام المارد:
جاء في تعقيب الدكتور الشاعر عبد الرَّحمن العشماوي على مجلة المجتمع الكويتية: "إسلامنا ليس ماردًا" قرأت في العدد 1369 الصادر في 18 جمادى الآخرة 1420 هـ خاطرة في صفحة "رأي القارئ" كان عنوانها: "رغم كل الجراحات ما زال المارد حيًا".
أولًا: أشكر الكاتب الكريم على صدق لهجته وحماسته للإسلام؛ حيث أشار في خاطرته إلى بقاء الإسلام شامخًا بالرغم من مكائد أعدائه الَّتي لا تنتهي، ومكرهم الساري سريان اللَّيْلِ والنهار {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}
(1)
.
ثانيًا: أنبه كاتب الخاطرة وغيره ممن يسيِّرون أقلامهم لنصرة الحق إلى أن يفطنوا إلى جانب الدلالة اللغوية فيما يختارون من الكلمات، بل إني أهيب بجميع من يكتبون أن يتعلموا الأسلوب العربي السليم، وأن يزيدوا من "ثروتهم اللغوية الفصيحة" و"قاموسهم العربي الصحيح"؛ وذلك بقراءة أمهات الكتب الرصينة قديمًا وحديثًا، والتركيز قبل ذلك وبعده على قراءة القرآن الكريم، والاستماع إلى تلاوات القراء، وقراءة الحديث النَّبويّ الشريف، وقراءة الشعر العربي الأصيل والاستماع إليه -ما أمكن- فإن في ذلك كله ما يقوي الملكة اللغوية، وينمي السليقة العربية الفصيحة.
إن إتقان لغتنا العربية الفصحى يرقى بالفكر والذوق السليم ويقوِّم اللسان والقلم، وليس بخاف على الجميع أهمية إتقان لغة القرآن للفقيه
(1)
سورة سبأ، الآية (33).
والمحدث والمفسر والقاضي وغيرهم؛ لأن اللغة أداة التوصيل، ولن تصل فكرتك إلى غيرك بلغة مهزوزة.
أمَّا كلمة "مارد" فهي من مادة "مَرَدَ"، وقواميس لغتنا تقول: مَرَدَ الإنسان مُرودًا: طغى وجاوز الحدّ، ومنه مَردَ على الشرِّ أو النفاق كما في قوله تعالى:
(1)
أي جاوزوا الحدّ فيه، وتعودوا عليه حتَّى أصبح سمةً لهم.
وتضيف قواميس اللغة إلى ذلك أن معنى كلمة "المارد": الطاغية الَّذي تجاوز حدَّه، وفي القرآن الكريم:{وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}
(2)
وتستخدم كلمة "مريد" بالمعنى نفسه كما في قوله تعالى: {كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}
(3)
، وفي قوله:{إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا}
(4)
، ومعنى مَرِيد هنا الخبيث المتمرد الشرير.
وبالرغم من أن من معاني كلمة المارد: "العملاق" والمرتفع؛ حيث يقال: "بناء مارد"، إلَّا أن الاستخدام السائد عند العرب لكلمة مارد ومريد إنَّما هو في الجانب الأقوى لدلالة الكلمة عندهم؛ ألا وهو جانب الشر والطغيان والجبروت وتجاوز الحدّ، وهو الاستخدام اللغوي الوارد في القرآن الكريم دون سواه.
(1)
سورة التوبة، الآية (101).
(2)
سورة الصافات، الآية (7).
(3)
سورة الحج، الآية (3).
(4)
سورة النِّساء، الآية (117).
إسلامنا ليس "ماردًا" ولكنه صرح شامخ ترتد أمامه كل مكائد الأعداء مهزومة خاسرة، ولنا من قرآننا وسنة رسولنا عليه الصلاة والسلام وعد صادق بذلك"
(1)
.
وقال القارئ محمد غالب عفيف تعقيبًا على ما سبق أيضًا: "تعليقًا على عنوان في صفحة (رأي القارئ) ألا وهو: (رغم كل الجراحات ما زال المارد حيًا) العدد 1369، كثيرًا ما تستخدم كلمة (مارد) في سياق المدح، وخصوصًا تعبير (المارد الإِسلامي) للإشادة بالصحوة الإِسلامية المباركة؛ فيقال: لقد خرج المارد الإِسلامي من قمقمه.
فأنقل إليكم مقالًا لزين العابدين الركابي، يعلق فيه على هذه الكلمة يقول: المارد هو الكائن العاتي (المبرمج) على الشر أبدًا، فلا يصح أن يوصف بأنَّه إسلامي، هل يوصف الشيطان بأنَّه إسلامي؟ ففي كتاب الله ربط دائم بين المارد والشيطان، فمن أمثلة ذلك:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ}
(2)
(3)
(4)
وفي السنة كذلك، ففي
(1)
مجلة المجتمع (العدد 1373).
(2)
سورة النِّساء، الآية (117، 118).
(3)
سورة الحجّ، الآية (3، 4).
(4)
سورة الصافات، الآية (6، 7).
حديث رمضان .. (وتصفد مردة الشياطين)، والمردة جمع مارد"
(1)
.
جلالة الملك:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "يسعدني أن أتحدث في رسالتي المتواضعة إلى سماحتكم، فأنا أتحدث إلى واحد من أشهر الشخصيات الإِسلامية في عالمنا الإِسلامي وغيره، وأرجو أن يتسع صدركم الكبير لقراءة هذه السطور، ولكم من الله جزيل الشكر والعرفان، وجزاكم الله خيرًا عنا.
(ذو الجلال والإكرام): اسم من اسماء الله الحسنى، وهو تعظيم الله عن كل شيء وتنزيه له، وقد قرأت لسماحتكم رسالة إلى العاهل السعودي وكنتم قد بدأتموها بقولكم:(جلالة الملك). ألستم معي في أن الجلالة الله وحده، وأن الملك اسم من أسمائه الحسنى لا يجوز تسمية شخص بها أيًّا كانت صفته وشخصيته، فنرجو إيضاح ذلك من سماحتكم حتَّى لا يقع المسلمون في إثم من جراء تنزيه الأشخاص بهذه الصَّفات الَّتي اختصها الله لنفسه دون غيره، اللَّهُمَّ إلَّا:(رؤوف رحيم) صفة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي نفس الوقت تصادفت تحت يدي وأنا أتصفح في المجلة العربية في العدد (89) منها رسالة شكر من الأستاذ/ محمد النويصر رئيس المكتب الخاص للعاهل السعودي إلى القائمين على إخراج المجلة، وهو يبدأ رسالته بقوله:(لقد تسلم جلالة مولاي حفظه الله خطابكم المرسل وبه أعداد المجلة .. ).
فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد
(1)
مجلة المجتمع (العدد 1373).
إن كثيرًا من الأسماء مشتركة بين الله تعالى وبين غيره من مخلوقاته في اللَّفظِ والمعنى الكلي الذهني؛ فتطلق على الله بمعنى يخصه تعالى ويليق بجلاله سبحانه، وتطلق على المخلوق بمعنى يخصه ويليق به، فيقال مثلًا: الله حليم، وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حليم، وليس حلم إبراهيم كحلم الله، واللهُ رؤوف رحيم، ومحمد صلى الله عليه وسلم رؤوف رحيم، وليس رأفة محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته كرأفة الله بخلقه ورحمته، واللهُ تعالى جليل كريم ذو الجلال والإكرام على وجه الإطلاق، وكل نبي كريم جليل، وليست جلالة كل نبي وكرمه كجلالة غيره من الأنبياء وكرمه، ولا مثل جلال الله وكرمه، بل لكل من الجلالة والكرم ما يخصه، واللهُ تعالى حي، وكثير من مخلوقاته حي، وليست حياتهم كحياة الله تعالى، واللهُ سبحانه مولى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل وصالح المؤمنين، وليس ما لجبريل وصالح المؤمنين من ذلك مثل ما لله من الولاية والنصر لرسوله صلى الله عليه وسلم .. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، ولا يلزم من ذلك تشبيه المخلوق بالخالق في الاسم أو الصفة وأسلوب الكلام، وما احتف به من القرائن يدل على الفرق بين ما لله من الكمال في أسمائه وصفاته وما للمخلوقات ممَّا يخصهم من ذلك على وجه محدود يليق بهم.
واقرأ ذلك في القرآن وسنة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مع التدبر وإمعان النظر يتضح لك الأمر ويذهب عنك الإشكال بحول الله وقوته، ثمَّ ارجع إلى ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أول رسالة (التدمرية) فإنَّه وفَّى المقام حقه"
(1)
.
(1)
مجلة البحوث الإِسلامية (39/ 89 - 91).
الواجد (تسمية الله به):
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "سؤالي في خطابي السابق عن كلمة الموجود لم يكن استفهامًا عن وجود الله، فأنا أعلم علم اليقين أن الله هو واجب الوجود بذاته، ووجود الله قبل، والآن، وبعد؛ ثابت بالنقل والعقل ولا يماري في ذلك إلَّا ملحد دهري، لذلك تعجبت عندما وجدت أن الرد على سؤالي انصبت أدلته جمعاء على إثبات وجود الله، ففهمت أن السؤال أخذ على غير مراد، لذلك رأيت أن أتوسع قليلًا في طريقة عرض السؤال هذه المرة حتَّى يتضح بإذن الله تعالى .. من المعلوم أنَّه لا يصف ألله أعلم بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}
(1)
، ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
(2)
فيجب على كل مؤمن أن لا يصف الله إلَّا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو نظرنا إلى أسماء الله وصفاته لوجدنا لفظ الواجد، فإذا ما بحثنا في كلمة (الموجود) لم نجدها في الأسماء والصَّفات، وإنَّما جرى استخدامها للتعبير عن وجود الله عز وجل، لكن التعبير عن وجود الله ليس بقاصر على استخدام لفظ الموجود بل يمكن التعبير عن وجود الله بأي اسم من أسمائه الثابتة في الحديث الشريف، فساعة أن أؤمن وأنطق بأن الله حي، أو بأنَّه هو الأوَّل والآخر، فهذا إقرار
(1)
سورة البقرة، الآية (140).
(2)
سورة النجم، الآيتان (3، 4).
مني باستمرارية وجود الله من أزل الآزال إلى أبد الآباد، ولكنك قلت بالنص في الخطاب السابق ردًا على سؤالي (الوجود نوعان: الأوَّل وجود ذاتي، وهو ما كان وجوده ثابتًا له في نفسه لا مكسوبًا له من غيره وهذا هو وجود الله سبحانه) أ. هـ وعندما نظرت في الرَّد وجدت أنك قسمت لي الوجود نوعين، ولكن لم تقل الموجود نوعان، على الرغم من أن سؤالي كان يدور حول لفظ الموجود لا عن كلمة الوجود، ثمَّ انتقلت بعد ذلك إلى قولك:(وعلى هذا يوصف الله تعالى بأنَّه موجود ويخبر بذلك في الكلام، فيقال: الله موجود، وليس اسمًا بل صفة .. وهذا هو محل سؤالي؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف الله تعالى بأنَّه الواجد في حديثه الشريف، ولم يصفه بأنَّه الموجود، فلا بد أن كلمة الموجود ليست بضرورية للتعبير عن وجود الله (دليل نقلي)، كما سنجد في أسماء الله تعالى وصفاته، وكلمة الخالق الَّتي تكاد تتطابق مع كلمة الواجد وهما من أسماء الله تعالى وصفاته، وكلمة الموجود أو المخلوق على وزن مفعول، ولا بد أن يكون لكل مفعول فاعل، ولكل مخلوق خالق، ولكل موجود واجد؛ فهل بعد ذلك يصح لي أن أعبر عن وجود الله باستخدام لفظ (الموجود) الَّذي إن دل على شيء فإنَّما يدلُّ على الحدوث بعد العدم، وهذا لا يحق إلَّا في حق المخلوقين؟ أفتونا مأجورين.
فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد:
أولًا: الواجد ليس اسمًا من أسماء الله ولا صفة من صفاته، والحديث الَّذي ورد فيه تسميته بذلك ليس بصحيح.
ثانيًا: إنَّما قسمنا الوجود إلى قسمين لأنك قلت في سؤالك: (إن كلمة الموجود على وزن مفعول، ولا بد لكل موجود من موجد كما أن لكل مفعول فاعلًا)، وهذا غير صحيح، بل الموجود قسمان: موجود لذاته لا يحتاج إلى من يوجده وليس مثل المخلوق، وموجود حادث يحتاج في وجوده إلى غيره يخرجه من العدم، فقسمنا الوجود إلى نوعين لتعرف من ذلك أن الموجود المشتق منه نوعان، وأن الَّذي يحتاج منهما إلى موجد إنَّما هو الموجود الحادث. وبذلك تعرف أننا فهمنا السؤال وأجبناك عليه لكنك لم تفهم الجواب. ونسأل الله لنا ولك التوفيق لفهم الصَّواب"
(1)
.
سبحان الَّذي عينه لا تنام:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "يوجد هنا بعض الشباب يحلفون ويقسمون بالكلمات التالية: (سبحان الَّذي عينه لا تنام) فهل هذا القسم جائز أم لا؟ حيث إن هؤلاء الأشخاص يربطون صفة النوم بالعين للخالق عز وجل، وسبحانه لم يخبرنا بذلك، والذي ورد في القرآن قوله تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}
(2)
.
فأجابت: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
(1)
مجلة البحوث الإِسلامية (39/ 97 - 99). وانظر: "الإنباه إلى ما ليس من أسماء الله" للشيخ صالح العصيمي، (ص 54).
(2)
سورة البقرة، الآية (255).
قول: (سبحان الَّذي عينه لا تنام)، أو (واللهُ الَّذي عينه لا تنام) جائز؛ فهو وصف كمال، وقد ورد في القرآن الكريم في سورة طه:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}
(1)
، وهو سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم بنص القرآن، وقد جاء في السُّنَّة الصحيحة أنَّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام
(2)
، مع العلم بأن هذه الجملة وهي (سبحان الَّذي عينه لا تنام) ليست بقسم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم"
(3)
.
مدد يا رسول الله -يا ولي الله
-:
سئل الشيخ محمد عليّ عبدالرحيم عن معنى هذه الكلمة: (مدد) عند الصوفية، فأجاب: "كلمة مدد يراد بها أن يمده الشيخ أو الضريح بزيادة الخير من نجاح أو مغفرة، أو طلب معونة، أو دفع مضرة، فالقائل لكلمة مدد لا يطلب المدد بالخير من الله، بل يطلبه من الشيخ أو الضريح، وهذا هو الشرك الأكبر
(4)
، لأن طلب المده لا يكون إلَّا من الله وحده، فعلى هؤلاء الذين يسألون المدد من الأضرحة أن يتوبوا إلى الله ولا يصرفوا حق
(1)
سورة طه، الآية (39).
(2)
الإِمام أحمد 4/ 395 و 401 و 405، ومسلم برقم 179، وابن خُزَيْمَة في كتاب التوحيد برقم 28 و 31 و 100 و 101.
(3)
مجلة البحوث الإِسلامية (39/ 106 - 107).
(4)
وفي فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "قول جماعة المنشدين: مدد يا سيدنا الحسين، مدد يا سيدة زينب، مدد يا بدوي يا شيخ العرب، مدد يا رسول الله، مدد يا أولياء الله .. إلى أمثال ذلك، أشد نكرًا وأفحش وزرًا، فإنَّه شرك أكبر يخرج قائله من ملة الإسلام، والعياذ بالله
…
" (مجلة البحوث الإِسلامية 34/ 119 - 120).
الله إلى غير الله من الموتى الذين لا يملكون مددًا ولا يدفعون ضرًا، وماذا عليهم لو طلبوا المدد من الله وحده؟ "
(1)
.
وسئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "نسمع أقوامًا ينادون: مدد يا رسول الله، مدد يا نبي، فما الحكم في ذلك؟
فأجاب: هذا الكلام من الشرك الأكبر، ومعناه: طلب الغوث من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأتباعهم من علماء السُّنَّة على أن الاستغاثة بالأموات من الأنبياء وغيرهم، أو الغائبين من الملائكة أو الجن وغيرهم، أو بالأصنام والأحجار والأشجار أو بالكواكب ونحوها: من الشرك الأكبر؛ لقول الله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}
(2)
(3)
، وقول الله عز وجل:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
(4)
، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
(1)
مجلة التوحيد (س 19، 64، ص 26).
(2)
سورة الجن، الآية (18).
(3)
سورة فاطر، الآيتان (13، 14).
(4)
سورة المؤمنون، الآية (117).
وهذا العمل هو دين المشركين الأولين من كفار قريش وغيرهم، وقد بعث الله الرسل جميعًا عليهم الصَّلاة والسلام، وأنزل الكتب بإنكاره والتحذير منه، كما قال الله سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
(1)
، وقال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
(2)
(3)
(4)
.
فأوضح سبحانه في هذه الآيات أنَّه أرسل الرسل وأنزل الكتب ليُعبدَ وحده لا شَرِيك له بأنواع العبادة من الدُّعَاء والاستغاثة والخوف والرجاء والصلاة والصوم والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة، وأخبر أن المشركين من قريش وغيرهم يقولون للرسل ولغيرهم من دعاة الحق: {مَا
(1)
سورة النحل، الآية (36).
(2)
سورة الأنبياء، الآية (25).
(3)
سورة هود، الآيتان (1، 2).
(4)
سورة الزمر، الآيات (1 - 3).
نَعْبُدُهُمْ} يعنون الأولياء {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} والمعنى: أنَّهم عبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم، لا لأنَّهم يخلقون ويرزقون ويتصرفون في الكون، فأكذبهم الله وكفرهم بذلك، فقال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، فبين سبحانه أنَّهم كذبة في قولهم: إن الأولياء المعبودين من دون الله يقربونهم إلى الله زلفى، وحكم عليهم أنَّهم كفار بذلك، فقال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، وبين سبحانه في آية أخرى من سورة يونس أنَّهم يقولون في معبوديهم من دون الله: إنَّهم شفعاء عند الله؛ وذلك في قوله سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، فأكذبهم سبحانه فقال:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
(1)
، وبيَّن عز وجل في سورة الذاريات أنَّه خلق الثقلين -الجن والإنس- ليعبدوه وحده دون كل ما سواه، فقال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
(2)
.
فالواجب على جميع الجن والإنس أن يعبدوا الله وحده، وأن يخلصوا له العبادة، وأن يحذروا عُبَادَة ما سواه من الأنبياء وغيرهم؛ لا بطلب المدد ولا
(1)
سورة يونس، الآية (18).
(2)
سورة الذاريات، الآية (56).
بغير ذلك من أنواع العبادة؛ عملًا بالآيات المذكورات وما جاء في معناها، وعملًا بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وعن غيره من الرسل عليهم الصَّلاة والسلام أنَّهم دعوا النَّاس إلى توحيد الله وتخصيصه بالعبادة دون كل ما سواه، ونهوهم عن الشرك به وعبادة غيره، وهذا هو أصل دين الإسلام الَّذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب وخلق من أجله الثقلين، فمن استغاث بالأنبياء أو غيرهم، أو طلب منهم المدد أو تقرب إليهم بشيء من العبادة، فقد أشرك بالله وعبد معه سواه، ودخل في قوله تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(1)
، وفي قوله عز وجل:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(2)
، وقوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
(3)
، وقوله سبحانه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
(4)
.
ولا يُستثنى من هذه الأدلَّة إلَّا من لم تبلغه الدعوة ممن كان بعيدًا عن بلاد المسلمين، فلم يبلغه القرآن ولا السُّنَّة، فهذا أمره إلى الله سبحانه.
والصحيح من أقوال أهل العلم في شأنه أنَّه يُمتحن يوم القيامة، فإن
(1)
سورة الأنعام، الآية (88).
(2)
سورة الزمر، الآية (65).
(3)
سورة النِّساء، الآية (116).
(4)
سورة المائدة، الآية (72).
أطاع الأمر دخل الجَنَّة، وإن عصى دخل النار، وهكذا أولاد المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ فإنَّ الصحيح فيهم قولان:
أحدهما: أنَّهم يُمتحنون يوم القيامة، فإن أجابوا دخلوا الجَنَّة، وإن عصوا دخلوا النار؛ لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عنهم:"الله أعلم بما كانوا عاملين"
(1)
متفق على صحته، فإذا امتحنوا يوم القيامة ظهر علم الله فيهم.
والقول الثاني: أنَّهم من أهل الجَنَّة؛ لأنَّهم ماتوا على الفطرة قبل التكليف، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية- على هذه الملة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"
(2)
، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في روضة من رياض الجَنَّة وعنده أطفال المسلمين وأطفال المشركين.
وهذا القول هو أصح الأقوال في أطفال المشركين، للأدلة المذكورة، ولقوله سبحانه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
(3)
.
ونقل عن الحافظ ابن حجر رحمه الله، في شرح باب:(ما قيل في أولاد المشركين) من كتاب (الجنائز): "أن هذا القول هو المذهب الصحيح المختار الَّذي صار إليه المحققون"
(4)
. انتهى المقصود.
ويستثنى من ذلك أيضًا دعاء الحي الحاضر فيما يقدر عليه؛ فإنَّ ذلك ليس.
(1)
رواه البخاري برقم (1384)، ومسلم برقم (2659).
(2)
رواه البخاري برقم (1385)، ومسلم برقم (2658).
(3)
سورة الإسراء، الآية (15).
(4)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري: (3/ 247).
من الشرك؛ لقول الله عز وجل في قصة موسى مع القبطي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}
(1)
، ولأن كل إنسان يحتاج إلى إعانة إخوانه فيما يحتاج إليه في الجهاد وفي غيره ممَّا يقدرون عليه، فليس ذلك من الشرك، بل ذلك من الأمور المباحة، وقد يكون ذلك التعاون مسنونًا، وقد يكون واجبًا على حسب الأدلَّة الشرعية. واللهُ ولي التوفيق"
(2)
.
يا هو (في دعاء الله):
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "هل يجوز أن تدعو الله بـ (يا هو)؛ يعني الله ضميرًا مستترًا تقديره: هو الله؟
فأجابت: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد:
ضمائر المتكلم والخطاب والغيبة كناية عن المتكلم أو المخاطب أو الغائب مطلقًا، فليست أسماء الله لغة ولا شرعًا؛ لأنَّه لم يسم بها نفسه، فدعاؤه بها تسمية ونداء وذكر له بغير أسمائه فلا يجوز، ولأنه إلحاد في أسمائه بتسميته بما لم يسم به نفسه، ونداء له ودعاء بما لم يشرعه، وقد نهى سبحانه عن ذلك فقال:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(3)
.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم"
(4)
.
(1)
سورة القصص، الآية (15).
(2)
مجلة البحوث الإِسلامية (49/ 126 - 132).
(3)
سورة الأعراف، آية (180).
(4)
مجلة البحوث الإِسلامية (34/ 126).
سب الدين:
الألفاظ الَّتي أوحى بها الشيطان إلى أوليائه ليسبوا بها دين الله كثيرة -والعياذ بالله- وهي ممَّا يوجب الكفر والخروج من ملة الإسلام.
ومن ذلك: ما جاء في هذا السؤال الموجه للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "ماذا تقولون في رجل يشهد أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأن محمدًا رسول الله، ويصلي ويقوم بالفرائض الإِسلامية، إلَّا أنَّه عند غضبه أو منازعته لأحد من النَّاس يقول بعض الكلمات أستحي أن أذكرها أو أتلفظ بها، اللَّهُمَّ إلَّا لمثل هذه الأمور الَّتي لا بد من ذكرها حتي نكون على بينة من الأمر؛ وهذه الكلمات هي: النعلة على دين ربك، ونحو هذه العبارات. هل يكفر من تلفظ بهذه الكلمات؟ هل يوجب عليه الوضوء الأكبر؟ هل يحبط عمله؟ نرجو البسط في هذه المسألة.
فأجابت: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد: ما ذكرته من قوله: (النعلة على دين ربك) اللَّفظِ يُخرج من الإسلام، وينبغي نصحه وإرشاده بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلته بالتي هي أحسن لعل الله أن يهديه فلا يقول ذلك مستقبلًا، وأن ينصح أيضًا بالتوبة عما مضى؛ فإن التوبة إذا قبلت غفر لصاحبها ما اقترفه من ذنب؛ قال تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
(1)
أجمع العلماء على أن هذه الآية في
(1)
سورة الزمر، آية (53).
التائبين، وقوله تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}
(1)
والأدلة من القرآن والسنة على مشروعية التوبة كثيرة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم"
(2)
.
سب الذات الإلهية:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: "في بلادنا عادة منتشرة من الكبائر، وهي شتم الذات الإلهية، فما حكم الإسلام بهذا؟ وهل تطلق زوجة من يفعلها وهو غير مقر بها؟ فأفتونا مأجورين؟
فأجابت: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد:
سبّ الذات الإلهية أكبر الكبائر، بل ردة عن الإسلام، ويجب على من وقع منه ذلك المبادرة بالتوبة والاستغفار والإكثار من الحسنات، فإذا تاب توبة نصوحًا تاب الله عليه وصارت زوجته في عصمته بذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم"
(3)
.
عبد الناصر:
سئل الشيخ عبد الله بن جبرين -حفظه الله-: "فضيلة الشيخ، هل يجوز التسمي بهذه الأسماء: عبد الناصر، عبد الستار، عبيد الله، وهل يجب على من تسمى بأحدها التغيير؟ وماذا عليه لو أصر على عدم التغيير؟
فأجاب: هذه الأسماء منها ما فيه خلاف، ومنها ما لا خلاف فيه؛ أما
(1)
سورة طه، آية (82).
(2)
مجلة البحوث الإِسلامية (31/ 84 - 85).
(3)
مجلة البحوث الإِسلامية (31/ 85).
عبيد الله: فهذا جائز، وقد تسمَّى به كثير من أبناء الصَّحابة، ومن رواة الحديث، ويدل عليه أسماؤهم الكثيرة الَّتي ذكرت في كتب رجال الحديث، وأمَّا عبد الناصر: فيظهر أنَّه لا بأس به إذا أطلق على أن الناصر بالتعريف هو الله سبحانه وتعالى، وإن لم يرد في النُّصوص، لكن هذا الوصف مع التعريف لا يصلح إلَّا لله سبحانه. وهكذا عبد الستار، ولكن مع ذلك، فالأولى أن الأسماء الَّتي لم تكن مشهورة لا يسمي بها، والأولى أن تغيَّر إلى ما ورد من الأسماء الصحيحة"
(1)
.
الله قوة عليا أو قوة خفية
!:
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في مقال له بعنوان (تعبيرات خاطئة): "لا يجوز أن يقال عن الله تعالى: إنَّه (قوة عليا)، أو (قوة خفية)، أو (قوة مدبرة) وأمثال هذا؛ لأن (القوة) صفة لا تستقل بنفسها وإنَّما تقوم بغيرها، مثل (العلم) و (الجلال والإكرام) و (العزة)؛ فإنَّ هذه الصَّفات لا تقوم بنفسها، وإنَّما تقوم بذاتٍ تتصف بها.
فإذا قلنا: (الله قوة) اقتضى هذا التعبير الخاطئ أن الله تعالى -الَّذي يعبرون بتلك الصفة عنه- حال في غيره، وحاشا الله عن ذلك وتعالى علوًا كبيرًا؛ وهذا القول خطأ فاحش شديد، لو اعتقده معتقد خرج من الإسلام بهذا الاعتقاد.
وقد قال الله سبحانه في القرآن الكريم في وصفه نفسه جل شأنه: {إِنَّ
(1)
مجلة الدعوة، بتاريخ 4/ 5/ 1413 هـ. ص 28.
اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}
(1)
وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
(2)
وقال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}
(3)
وقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}
(4)
فأضاف سبحانه هذه الصَّفات إلى نفسه وذاته، وهذا وجه في المنع.
والوجه الثاني: أن أسماء الله تعالى وصفاته سبحانه لا تقال إلَّا بتوقيف من قبل رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يوصف الله تعالى إلَّا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام.
فلا يجوز أن يسمي الله: (مهندس الكون) بمعني: خالق الكون ومبدعه وهو -بلا شكَّ- خالقه ومبدعه، ولا يجوز أن يسمي الله تعالى:(مبرمج المخلوقات) أي: منظمها ومسيرها، وهو -بلا شكَّ- قد نظم المخلوقات ضمن نظام بديع، وتناسق مطرد رفيع: هو {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}
(5)
فلا يوصف الله سبحانه إلَّا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم"
(6)
.
(1)
سورة الذاريات، الآية (58).
(2)
سورة الحجّ، الآية (74).
(3)
سورة الرَّحمن، الآية (78).
(4)
سورة الصافات الآية (180).
(5)
سورة الملك، الآية (3).
(6)
مجلة الأمة (جمادى الأولى 1405 هـ)، وقد أشار إلى هذا المقال الشيخ بكر في (معجم المناهي، ص 444)، وقد أحببت نقله لما فيه من فوائد.
العادة محكَّمة في كل ما ليس فيه نص شرعي:
قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في رده على (سمير شما): "وقد جاء في كلام فضيلة شيخ الجامع الأزهر جملتان يحسن الوقوف عندهما ومناقشتهما: الأولى قوله: (العادة محكَّمة في كل ما ليس فيه نص شرعي) فإن أراد بهذا أن العادة أصل من أصول التشريع التي تستمد منها الأحكام فهو غير صحيح؛ لأن الأصول انتهت بانتهاء عهد النبوة، والنبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذًا إلى اليمن قاضيًا وأقره على أصول التشريع: الكتاب والسنة والاجتهاد -الذي هو قياس الأشياء بالنظائر- لم يرجعه إلى عاداتهم
(1)
، وعمر بن الخطاب حين كتب إلى أبي موسى كتابه المشهور في القضاء قال له فيه: (ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك وليس في كتاب ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك فقد أمره إذا أعوزه الحكم في الكتاب والسنة أن يقيس ما لم يرد فيه النص على ما ورد فيه، ولم يرجعه إلى العادات والتقاليد، فليس العرف والعادة مصدر تشريع وتحكيم وإلا لاستغنى الناس بعاداتهم عن الشرائع، ولصار مصدر الأحكام ما هم عليه من التقاليد. إن كان هذا مراد فضيلة الشيخ بتلك الجملة فسيعول الناس في أحكامهم على عاداتهم، وسيقولون: إن هذه النصوص كانت لزمن مضى وأحوال تقدمت، ونحن في زمن وحال غيرهما فلا تصلح تشريعًا لنا، وإنما يجب أن نستمد أحكامنا وأنظمتنا من بيئتنا ومجتمعنا الذي نعيش فيه، ونسي المطالبون أن الذي أنزل هذه الشريعة عالم بما سيحدث وما يتجدد، فأودع في
(1)
انظر الكلام على حديث معاذ في (السلسلة الضعيفة) للألباني (881).
شرعه ما يسد حاجة كل جديد وقديم.
وإن أراد فضيلة الشيخ بكلامه أن العادة المطردة والعرف القائم بين الناس دليل ثبوت الحكم الشرعي؛ كأكل الضيف والمدعو من الطعام المقدم لهما ولو بلا إذن صريح من صاحب المنزل، وإعطاء القصار أو الخياط ثوبه الغسله أو خياطته بأجرة العادة، فهذا وأمثاله تعتبر فيه العادة مبينة لقدر الحق الشرعي. ومثله. الرجوع إلى أهل المعرفة في بيان الغبن في البيع أو العيب في المبيع اللذين أثبت فيهما الشارع الخيار للمشتري، وكذلك بيان نفقة الزوجة والقريب التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، و (الحرز) الذي شرطة الشارع لقطع يد السارق يرجع في بيانه إلى العرف الذي يحدده حسب الأموال والحكام والبلدان، وكذلك بيان ما يدخل في مسمى الدار عند إطلاق بيعها، وما لا يدخل يرجع فيه إلى العادة الجارية عند الناس، وكذلك بيان ما على المؤجر والمستأجر عند استئجار الدار والدابة، وما على المساقي وصاحب الشجر في المساقاة.
كل هذه المسائل وكثير من أمثالها للعرف فيها فضل البيان والتفسير للنصوص.
فإن كان هذا هو مراد الشيخ فهو صحيح؛ لأنه مطابق للحق والواقع، ولذا فإنه يتعين على الحاكم أن يكون عارفًا لعادات بلاد حكمه وعرفها ولغتها واصطلاحها؛ لأن ذلك ينير الطريق أمامه ويبصره مراد النص، فإن فهم كثير من النصوص لا يكفي الحاكم في حكمه ما لم يعرف ما عليه الناس من عادات واصطلاحات ليحسن التطبيق والملاءمة بين النصوص
والواقع، وإلا لاضطرب أمره وفاته شيء كثير من الملابسات التي تعينه على تحري الصواب، فهذا مراد مستقيم لتحكيم العادة وإجراء الشروط العرفية كالشروط اللفظية قد جرى في الشرع اعتباره.
ونظن أن هذا هو مراد فضيلة شيخ الجامع الأزهر، وأنه قد وضحه في كتابه أكمل توضيح وأتمه، وإنما نقل لنا الأستاذ (سمير) هذه الجملة المحتملة فلزم مناقشتها لئلا يظن غير المراد الصحيح منها"
(1)
.
عصا موسى السحرية
يستخدم بعض الكتاب هذا اللفظ للتعبير عن عدم قدرتهم أو غيرهم على التغير، فيقول أحدهم:"أنا لا أملك عصا موسي السحرية لأغير هذا الشي" .. وهكذا
وهذا اللفظ قد بين بطلانه وخطورة التفوه به الشيخ حمود التويجري رحمه الله في مقال له نشر في مجلة المنهل، قال فيه: "الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. وبعد
فقد رأيت في جريدة الرياض في الصفحة الرابعة من العدد 3408 الصادر في يوم الأربعاء 8 شعبان 1396 هـ تحت عنوان "مجنون يحكي وعاقل يفهم" وقد سمى الكاتب نفسه إبراهيم ولم يزد على ذلك؛ رأيت فيه ما نصه: "أمْ تري فرنجية يمسك بعصا موسى السحرية" انتهى المقصود من كلامه.
(1)
تقنين الشريعة: أضراره ومفاسده (ص 5 - 6).
وأحب أن أنبه الكاتب خاصة وغيره من قراء الجريدة عامة إلى أن عصا موسي ليست سحرية، وإنما هي آية من آيات الله الكبرى وبرهان من الله تعالى على صدق نبيه موسى عليه الصلاة والسلام؛ قال الله تعالى في سورة طه:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}
(1)
. وقال تعالى في سورة النازعات: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى}
(2)
(3)
وقال تعالى في سورة القصص: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ
(1)
سورة طه، الآيات (17 - 23).
(2)
سورة النازعات، الآيتان (20، 21).
(3)
سورة النمل، الآيات (10 - 12).
{مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}
(1)
.
فالله تبارك وتعالى جعل عصا موسى حية عظيمة تسعى حين ألقاها موسى من يده، ثم أعادها الله تبارك وتعالى إلى حالتها الأولى: عصا حين أخذها موسى في يده. والله على كل شيء قدير، وقد قال الله تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
(2)
، وليست عصا موسي من قبيل السحر، والقول بأنها سحرية هو قول فرعون وملئه؛ قال الله تعالى في سورة الشعراء حاكيًا قصة موسى معهم:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}
(3)
(4)
وقال تعالى في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
(1)
سورة القصص، الآيتان (31، 32).
(2)
سورة النحل، الآية (40).
(3)
سورة الشعراء، الآيات (30 - 35).
(4)
سورة الأعراف، الآيات (106 - 110).
(1)
وقال تعالى في سورة يونس: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}
(2)
وقال تعالى في سورة طه: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ}
(3)
الآية. وقال تعالى في سورة القصص: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}
(4)
وقال تعالى في سورة الأعراف: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}
(5)
.
والقول بأن عصا موسي سحرية كفر بإجماع أهل العلم، لما فيه من تكذيب ما أخبر الله به عنها في سورة طه من أنها صارت حية تسعى. وما أخبر به عنها في سورتي الأعراف والشعراء من أنها صارت ثعبانًا مبينًا.
قال القاضي عياض في كتابه الشفا: "اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف، أو بشيء منه أو بهما، أو جحده أو حرفًا منه أو آية، أو كذب به
(1)
سورة النمل، الآيتان (13، 14).
(2)
سورة يونس، الآيتان (76، 77).
(3)
سورة طه، الآية (57، 58).
(4)
سورة القصص، الآية (36).
(5)
سورة الأعراف، الآية (132).
أو بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفي ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك؛ فهو كافر عند أهل العلم بإجماع" انتهي .. فقد صرح بتكفير من كذب بشيء مما صرح به في القرآن من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفي ما أثبته، أو شك في شيء من ذلك، وأن ذلك إجماع أهل العلم. فليتنبه الكاتب وغيره لما ذكره القاضي عياض لئلا يقع أحد منهم في الكفر وهو لا يشعر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه"
(1)
.
المزية لا تقتضي التفضيل:
قال الدكتور عبد الله بن الصديق في مقاله: (أغلاط شائعة): "من تلك العبارات قولهم: المزية لا تقتضي التفضيل، وهي أقبحها وأشد ضررًا، وأظن الشيطان ألقاها على ألسنتهم ليضلهم بها.
فبسبب هذه العبارة الخبيثة اعتقدوا أن في الأولياء من هو أعلم من بعض الأنبياء، كما اعتقدوا أن بعض الأذكار أو الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم يوازي القرآن، بل يزيد عليه مرات.
مع أن تلك العبارة التي بني عليها هذا الضلال وأمثاله كاذبة ومختلة؛ أما كذبها: فلأن المزية تقتضي التفضيل حتمًا؛ وذلك لوجهين:
1 -
أن معناها هي: الخصلة التي توجد في شيء دون غيره، فيتميز بها عليه، وهذا هو معنى التفضيل.
(1)
مجلة المنهل (مجلد 37، ص 602 - 603). وانظر مقالًا قيمًا بعنوان: "عصا موسى" للأستاذ خالد عبد الحميد، في مجلة البيان (العدد 167).
2 -
أن المزية والفضيلة والخصيصة والمنقبة: ألفاظ مترادفة تدل على الخصلة التي يفضل الله بها بعض مخلوقاته، وقد تكون وهبية أو كسبية.
فالنبوة والرسالة مزية وهبية، وخصيصة وفضيلة ومنقبة، فضل الله بها أنبياءه ورسله.
وتخصيص جبريل عليه السلام بالوحي مزية وهبية، وفضيلة وخصيصة ومنقبة فضل الله بها جبريل على الملائكة.
والعلم فضيلة ومزية وخصيصة ومنقبة فضل الله به العالم على الجاهل.
وليلة القدر فضلها الله بنزول القرآن فيها، وهي مزية وفضيلة وخصيصة ومنقبة، وبها أيضًا فضل الله شهر رمضان.
ويوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وعشر ذي الحجة، فضلها الله بمزايا لم توجد في غيرها من الأيام.
وفضل الله مكة والمدينة بمزايا لم توجد في غيرهما من البلاد.
وإذا تعارضت المزايا في شخصين أو زمانين أو مكانين فضل أحدهما على الآخر بأكثرها عددًا، أو أكبرها وزنًا وقيمة.
ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء لكثرة مزاياه، وعظم وزنها وقيمتها.
وعلى هذا الأساس يحصل التفاضل بين الصحابة والأئمة والعلماء والأولياء.
ثم المزايا التي يمكن المفاضلة بينها عند التعارض هي العارضة لصاحبها؛
كالرسالة والصحية والعلم والزهد مثلًا.
أما المزية الذاتية للشيء فلا يمكن أن توازيها مزية عارضة، فضلًا عن أن ترجح عليها.
ولهذا كان القرآن أفضل الأذكار على الإطلاق؛ لأنه كلام الله، فمزيته ذاتية له، بمعنى أنها جزء من مفهومه، إذ لا يمكن أن يتصور القرآن في الذهن إلا بأنه كلام الله وصفته.
بخلاف الذكر أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه عملنا أضيف إلى الله على وجه العبادة له، وشتان بين صفة الله وعبادته.
فمن زعم أن بعض الأذكار يوازي القرآن، أو يزيد عليه كان كمن زعم أن قدرة المخلوق في بعض حالاتها تساوي قدرة الخالق أو تزيد عليها، وكلا الزعمين فاسد بضرورة العقل، ضلال بحكم الشرع.
والحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى هو مع أنه كلام الله تراخي في الفضل عن القرآن الأمرين:
- احتمال أن يكون مرويًا عن الله بالمعنى لا باللفظ، والقرآن ليس كذلك، بل هو مروي باللفظ والمعنى.
- احتمال أن يكون وحيًا في المنام، أو نفثًا في الروع، والقرآن لا يكون وحيًا في المنام ولا نفثًا.
فلهذين الاحتمالين لم يعط حكم القرآن في الفضل، ولا في التلاوة.
وأما خلال تلك العبارة؛ فلأن الذين يلوكونها بألسنتهم، فلا يستطيعون أن يذكروا لها معنى يفرق بينها وبين الفضيلة والخصيصة والمنقبة، حتي يمكنهم أن يقولوا: هذه مزية لا تقتضي التفضيل، وهذه فضيلة تقتضيه.
نعم، ليس لديهم تعريف يفرق بين هذه الألفاظ المترادفة.
ويلزم على هذا الخلل فساد كبير؛ إذ ما من فضيلة إلا ويمكن أن يقال عنها: إنها مزية لا تقتضي التفضيل.
فيقال في خلة إبراهيم عليه السلام: إنها مزية لا تقتضي تفضيله، ويقال في موسى عليه السلام: كونه كليم الله مزية لا تقتضي تفضيله. ويقال مثل ذلك في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فضائل الصحابة.
فتبطل الفضائل، ويختل ميزان معرفتها، وفي هذا من الفساد ما لا يخفى.
قد يقال: إن الله تعالى صرح بتفضيل موسى بالكلام،؛ فقال سبحانه:{قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي}
(1)
.
فنقول: هذه الآية دليل لنا على أن المزية تقتضي التفضيل، وعلى أن تلك الجملة كاذبة.
ومن فروع هذه الجملة -سوى ما سبق- اعتقادهم أن الولي قد يكون أعلم من النبي، مستندين إلى قصة موسى والخضر عليهما السلام، بناء على زعمهم أن الخضر ولي، وهذا رأي ضعيف شاذ.
(1)
سورة الأعراف، الآية (144).
والراجح عند الجمهور، وهو الذي لا يجوز غيره: أن الخضر نبي، والدليل على نبوته من القرآن أمور:
1 -
قوله لموسى: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}
(1)
ولا يجرؤ ولي أن يخاطب رسولًا بهذا النفي المؤكد اعتمادًا على مجرد الإلهام أو الكشف، ولولا أنه نبي يوحى إليه ما علم ذلك ولا نطق به.
2 -
قتله للغلام، ولولا أنه أوحي إليه بقتله لما فعل ذلك بمجرد إلهام الأولياء.
3 -
قوله عن اليتيمين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}
(2)
؛ ما علم إرادة الله ذلك إلا بوحي منه.
4 -
قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}
(3)
أي فعلته بوحي.
5 -
علم النبي يقيني بوحي، وعلم الولي ظني بإهام، ولم يكن موسى ليرحل في طلب علم ظني، يخطئ ويصيب، ومعه علم يقيني لا يخطئ.
6 -
تبين لي من أسلوب القرآن الكريم أن الله تعالى إذا نسب إلى ذاته المقدسة تعليم شخص معين، فذلك دليل على نبوته؛ اقرأ قوله تعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
(4)
، وعملك ما لم تكن تعلم
(5)
، {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}
(6)
، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا
(1)
سورة الكهف، الآية (67).
(2)
سورة الكهف، الآية (82).
(3)
سورة الكهف، الآية (82).
(4)
سورة البقرة، الآية (31).
(5)
سورة النساء، الآية (113).
(6)
سورة المائدة، الآية (110).
عَلَّمْنَاهُ}
(1)
، {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}
(2)
، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}
(3)
.
وقال في الخضر: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}
(4)
، فهو نبي.
7 -
قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي نبوة.
8 -
قول موسى له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}
(5)
؛ أي مما علمك الله.
9 -
وفي الصحيحين عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الخضر قال لموسى عليهما السلام: أنا على علم من علم الله لا ينبغي لك أن تعلمه، وأنت على علم من علم الله لا ينبغي لي أن أعلمه. معني كلامه: أن كلانا على علم من الله بشريعة تخالف الأخرى، فلا ينبغي لأحدنا أن يعلم شريعة الآخر، لأنه غير مكلف بها، وتثير دهشته واستغرابه. وهذه هي النبوة في أجلى معانيها.
وبعضهم استند إلى قول أبي يزيد البسطامي: خضنا بحرًا وقفت الأنبياء بساحله، فهم منه أن الولي قد يخوض في علوم ومعارف لم يعرفها الأنبياء،
(1)
سورة يوسف، الآية (68).
(2)
سورة يوسف، الآية (21).
(3)
سورة الأنبياء، الآية (80).
(4)
سورة الكهف، الآية (65).
(5)
سورة الكهف، الآية (66).
وأبو يزيد لم يقصد هذا المعنى، لأنه كفر صراح.
وإنما قصد بحر الشهوات؛ فهذا البحر وقف الأنبياء بساحله، يحذرون الناس من خوضه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها"
(1)
.
وقال أيضًا: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات"
(2)
.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن خالد بن سعيد بن العاص أنه رأى في المنام أنه وُقِفَ به على شفير جهنم، ورأى والده يدفعه فيها، وراي النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بحقويه لئلا يقع فيها، ففزع وقال: أحلف بالله إنها لرؤيا حق ولقي أبا بكر رضي الله عنه فذكر ذلك له، فقال أبو بكر: أريد بك خير، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، وإنك ستتبعه في الإسلام الذي يحجزك من أن تقع فيها، وأبوك واقع فيها، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم بأجياد فأسلم.
فوظيفة الأنبياء تحذير الناس من خوض بحر الشهوات الذي يؤدي بهم إلى النار، أعاذنا الله منها"
(3)
.
حسنات الأبرار سيئات المقربين:
قال الدكتور عبد الله بن الصديق في مقاله (أغلاط شائعة): "ومنها: قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين. هذه الجملة قيلت قديمًا ووقعت في
(1)
متفق عليه: رواه بنحوه: البخاري برقم (6483)، ومسلم برقم (2284).
(2)
رواه مسلم برقم (2823).
(3)
مجلة دعوة الحق (س 19، ع 9، ص 71 - 73).
كلام بعض الكبراء؛ مثل الإمام النووي رضي الله عنه، وظنها بعضهم حديثًا، وليست هي بحديث، كما قال الحافظ السخاوي.
والواقع أنها خطأ من وجوه ثلاثة:
1 -
أن الحسنة من حيث ذاتها لا تختلف باختلاف فاعلها؛ فالحسنة من العاصي حسنة من الطائع، والحسنة من العالم أو الولي حسنة من النبي. ولا يعقل أن تكون حسنة من صالح هي نفسها سيئة من نبي، نعم قد يعرض للحسنة ما يجعلها سيئة لأمر خارج عارض لها، لا لذاتها. وهي من أفراد مسألة الواحد بالشخص له جهتان لا تلازم بينهما. وهذه المسألة مقررة في علم الأصول.
2 -
أن الأبرار هم المقربون؛ اختلفا في المفهوم، واتحدا في ما هو صدق. وعلى هذا يصير معنى الجملة: حسنات الأبرار سيئات الأبرار، وهذا تهافت. والدليل على اتحادهما قول الله تعالى في الملائكة المقربين:{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ}
(1)
مع قوله في الصالحين من المؤمنين: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}
(2)
؛ بررة وأبرار، جمعان لبار؛ أولهما جمع كثرة، والآخر جمع قلة. عبر في الملائكة بجمع الكثرة، لأنهم مع كثرتهم طائعون مقربون، ليس فيهم عاص. وعبر في المؤمنين بجمع القلة، لأنهم أقلاء بالنسبة لغيرهم. يؤيد هذا أنه عبر في أضدادهم بجمع الكثرة، حيث قال
(1)
سورة عبس، الآيتان (15، 16).
(2)
سورة آل عمران، الآية (193).
سبحانه: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}
(1)
لأنهم أكثر بني آدم.
3 -
ما المراد بحسنات الأبرار؟ أن أريد جميعها فهو باطل قطعًا. وإن أريد بعضها فما هو؟ وكيف السبيل إلى تعيينه؟ وما الدليل عليه؟ "
(2)
.
خطأ مشهور خير من صواب مهجور:
قال الدكتور عبد الله بن الصديق في مقاله (أغلاط شائعة): "ومنها قولهم: خطأ مشهور، خير من صواب مهجور. وهذه جملة خطيرة، تدعو إلى ترك صواب كثير بدعوى أنه مهجور لا يعرف.
وقد وقعت أخطاء كثيرة في مسائل دينية واشتهرت، فهل يتبعها الناس ويدعون الصواب المهجور؟ إن فعلوا ذلك ضلوا ضلالًا مبينًا.
ثم الخطأ يحصل عن جهل من المخطئ، والصواب نتيجة علم وبحث، فهل يجوز أن يقدم الجهل على العلم؟ والله تعالى علمنا أن نقول:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
(3)
.
فأفاد أن الخطأ من المعفوات، وأن الصواب هو الأصل والقاعدة.
وصرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه"
(4)
.
(1)
سورة عبس، الآية (42).
(2)
مجلة دعوة الحق (س 19، ع 9، ص 71 - 72).
(3)
سورة البقرة، الآية (276).
(4)
رواه بنحوه ابن ماجه برقم (2043، 2045).
فكيف يصير الخطأ المعفو أصلًا معمولًا به، ويطرح الصواب الذي هو الأصل؟!
أليس في هذا مخالفة للكتاب والسنة؟!
ثم ما هذه الشهرة التي تجعل الخطأ مقبولا دون الصواب؟ إن كانت عند العوام فلا اعتبار لها، وإن كانت عند العلماء فلم يحصل أنهم تواطأوا على خطأ حتى اشتهر بينهم، بل لا بد أن يتنبه له وينبه عليه طائفة منهم.
ثم لفظ الهجر يفيد ترك الشيء عن عمد؛ كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}
(1)
. وقال: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}
(2)
.
وترك الصواب عن عمد يوقع في الإثم؛ لأنه إما عن عناد، أو استكبار. فاستبدال الخطأ المشهور به إصرار على الإثم، وهو معصية.
فحق تلك العبارة أن تكون هكذا: صواب مهجور، خير من خطأ مشهور"
(3)
.
لا حول الله:
هذه اللفظة يكثر استعمالها بين العوام، قال الشيخ محمد بن جميل زينو عنها: فيها نفي القدرة عن الله تعالى، وهو من الكفر. الصواب: لا حول إلا بالله (أو) لا حول ولا قوة إلا بالله، فيها إثبات القدرة والقوة الله تعالى وحده"
(4)
.
(1)
سورة الفرقان، الآية (30).
(2)
سورة المزمل، الآية (10).
(3)
مجلة دعوة الحق (س 19، ع 9، ص 71 - 72).
(4)
أخطاء شائعة (ص 6).
خلق الله الدنيا لأجل محمد صلى الله عليه وسلم:
قال الشيخ محمد بن جميل زينو: "هذا مخالف لصريح القرآن؛ فقد خلق الدنيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وخلقها ومحمدًا لعبادته وحده لا شريك له.
ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر كسائر الناس، إلا أنه يوحى إليه؛ قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى}
(1)
الآية"
(2)
.
خلق الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من نور، ومن نوره خُلقت الأشياء
!
قال الشيخ محمد بن جميل زينو: "وهذا كذب وافتراء على الوحي؛ فقد جاء الكتاب والسنة والواقع بخلاف ذلك. أما الكتاب فقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}
(3)
الآية؛ فقوله مِثلُكم: أي مثل سائر الناس في الخلق من طين والمرض والهرم والأكل والشرب والفرح والحزن وغير ذلك، وأما السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم:(إنما أنا بشر أنسى كما تنسون)؛ وهذا النسيان في غير الوحي. حديث صحيح أخرجه أحمد
(4)
.
وأما الواقع: فقد اتصف صلى الله عليه وسلم بسائر صفات البشر بغير ميزة عنهم في طبائعهم وأفعالهم الفطرية إلا ما اختصه الله تعالى بالوحي والمعجزات المؤيدة لدعوته.
(1)
سورة الكهف، الآية (110).
(2)
أخطاء شائعة (ص 7).
(3)
سورة الكهف، الآية (110).
(4)
رواه أحمد: (1/ 379، 424، 448، 455).
وهل يقول عاقل: إن الله خلق الحية والعقرب وغيرهما التي أمرنا الإسلام بقتلها من نور محمد صلى الله عليه وسلم؟ "
(1)
.
إن لله عبادًا يقولون للشيء كن فيكون
هذه من ألفاظ الصوفية؛ قال الشيخ محمد بن جميل زينو: "هذا من الشرك والكذب؛ فهو مخالف للكتاب والسنة والواقع. أما الكتاب؛ فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
(2)
.
ولو كان الأمر كذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهذه المنزلة، وقد قال تعالى:
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}
(3)
. وأما السنة؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
(4)
قال: (يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا). رواه البخاري
(5)
.
ومن الشرك أن يقال: -كما جاء في كتاب: (الكافي في الرد على
(1)
أخطاء شائعة (ص 7 - 8).
(2)
سورة يس، الآية (72).
(3)
سورة الجن، الآية (22).
(4)
سورة الشعراء، الآية (214).
(5)
رواه البخاري برقم (2753).
الوهابي) -: "إن لله عبادًا يقولون للشيء كن فيكون"، وهذا كذب يخالف القرآن والأحاديث، سبحانك هذا بهتان عظيم.
وأما الواقع فيشهد بخلاف ذلك صراحة، وإذا كان الأمر كذلك فهل من أولياء يخرجون المسلمين من مصائبهم ومحنهم ومذلتهم التي وصلوا إليها؟ "
(1)
.
الأولياء يعلمون الغيب:
وهذا كذب صريح على الله تعالى حيث يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}
(2)
، وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"لا يعلم الغيب إلا الله" حديث حسن رواه الطبراني، ومخالف للواقع، وهو من كلام الصوفية المردود"
(3)
.
لكن قد يطلع الله تعالى بعض رسله على أمور غيبية لإظهار دلالات نبوتهم ومعجزاتهم، قال الله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}
(4)
"
(5)
.
لماذا يا رب؟ ماذا عملت لكي تفعل بي هكذا
؟!
هذا ما يقوله بعض الجهلة عند حلول المصائب بساحته؛ قال الشيخ
(1)
أخطاء شائعة (ص 9 - 10).
(2)
سورة النمل، الآية (65).
(3)
أخطاء شائعة (ص 10 - 11).
(4)
سورة الجن، الآية (26، 27).
(5)
المرجع السابق (بتصرف يسير).
محمد بن جميل زينو: "هذا اعتراض على الله تعالى في تقديره، وهو من الكفر: والله تعالى يقول: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(1)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره". أخرجه مسلم
(2)
.
والصواب أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون).
وعلى المصاب أن يحمد الله على ما أصابه؛ فلو كسرت يده مثلًا فليحمد الله على أن رجله أو ظهره لم ينكسر، وقد قال الله تعالى في شأن الصابرين:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
(3)
.
وقال: "ولا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" رواه مسلم
(4)
(5)
(1)
سورة البقرة، الآية (216).
(2)
أخرجه مسلم في الإيمان برقم (8).
(3)
سورة البقرة الآيات (155 - 157).
(4)
رواه مسلم في القدر برقم (2664).
(5)
أخطاء شائعة (ص 11 - 12 بتصرف يسير).
عبد الصادق:
فيه نسبة العبودية لغير الله، وهذا لا يجوز
(1)
.
لولا النبي ما كان شمس ولا قمر:
" وهي أبيات لعبد الرحمن الأبنودي، وهو شاعر مصري -هداه الله- وهذا كذب على الله ورسوله؛ لأن الشمس والقمر موجودان قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإما أنا عبدٌ، فقولوا عبدُ الله ورسوله". أخرجه مسلم
(2)
.
والصواب أن يقال: (لولا الله ثم النبي صلى الله عليه وسلم لكانت العرب في جاهلية) أو نحو ذلك"
(3)
.
فلان لا يستحق ما حدث له (شرًا أو خيرًا):
" هذا اعتراض على الله تعالى بأنه غير عادل وحكيم؛ ينزل الشر على من لا يستحق، أو يعطي الخير لمن لا يستحق، وربما يؤدي هذا الاعتراض إلى الكفر الذي يخرجه من الإسلام؛ لأن الشر والخير ابتلاء من الله، كما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
(4)
"
(5)
.
معبود الجماهير:
يقولها البعض لسفلة البشر من اللاعبين أو الممثلين، وهذا شرك؛ لأن
(1)
أخطاء شائعة (ص 13).
(2)
بل رواه البخاري في أحاديث الأنبياء برقم (3445).
(3)
أخطاء شائعة (ص 13) بتصرف يسير.
(4)
سورة الأنبياء، الآية (35).
(5)
أخطاء شائعة (ص 16 بتصرف يسير).
العبادة لا تجوز إلا لله وحده، وقد خلق الخلق لعبادته؛ قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
(1)
"
(2)
.
خمسة وخميسة:
" يقولها البعض لمنع الحسد -بزعمهم- وهذا من الجهل بالشريعة، وبالأسباب الشرعية لدفع الحسد؛ كقراءة المعوذات، وقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، ونحو ذلك مما ورد في الكتاب والسنة"
(3)
.
هل أنت صائم أم فاطر
؟
والصواب أن يقول: هل أنت صائم أم مفطر؟ لأن الفاطر بمعنى الخالق، وهو الله وحده؛ قال سبحانه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
(4)
"
(5)
.
حرية الفكر:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "نسمع ونقرأ كلمة "حرية الفكر"، وهي دعوة إلى حرية الاعتقاد، فما تعليقكم على ذلك؟ ".
فأجاب: "تعليقنا على ذلك أن الذي يجيز أن يكون الإنسان حر الاعتقاد، يعتقد ما شاء من الأديان فإنه كافر؛ لأن كل من اعتقد أن أحدًا يسوغ له أن يتديّن بغير دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كافر بالله عز وجل يستتاب،
(1)
سورة الذاريات، الآية (56).
(2)
أخطاء شائعة (ص 17) بتصرف يسير.
(3)
أخطاء شائعة (ص 22) بتصرف يسير.
(4)
سورة فاطر، الآية (1).
(5)
أخطاء شائعة (ص 29) بتصرف يسير.
فإن تاب وإلا وجب قتله.
والأديان ليست أفكارًا، ولكنها وحي من الله عز وجل ينزله على رسله ليسير عباده عليه، وهذه الكلمة -أعني كلمة فكر- التي يقصد بها الدين يجب أن تحذف من قواميس الكتب الإسلامية؛ لأنها تؤدي إلى هذا المعنى الفاسد، وهو أن يقال عن الإسلام: فكر، والنصرانية فكر، واليهودية فكر -وأعني بالنصرانية التي يسميها أهلها بالمسيحية- فيؤدي إلى أن تكون هذه الشرائع مجرد أفكار أرضية يعتنقها من شاء من الناس، الواقع أن الأديان السماوية أديان من عند الله عز وجل يعتقدها الإنسان على أنها وحي من الله تعبد بها عباده، ولا يجوز أن يُطلق عليها "فكر".
وخلاصة الجواب: أن من يعتقد أنه يجوز لأحد أن يتدين بما شاء، وأنه حرّ فيما يتدين به فإنه كافر بالله عز وجل لأن الله تعالى يقول:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}
(1)
، ويقول:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}
(2)
. فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن دينًا سوى الإسلام جائز يجوز للإنسان أن يتعبد به، بل إذا اعتقد هذا فقد صرّح أهل العلم بأنه كافر كفرًا مخرجًا عن الملة"
(3)
.
وقال الشيخ محمد بن جميل زينو عن هذه الكلمة: "وهي كلمة كثيرًا ما تسمع وتقرأ، وهي دعوة إلى حرية الاعتقاد؛ أي لكل أحد أن يعتقد ما شاء،
(1)
سورة آل عمران، الآية (85).
(2)
سورة آل عمران، الآية (19).
(3)
المناهي اللفظية (ص 130 - 131).
وهذا كفر بالإجماع، ومن اعتقد ذلك فهو كافر، لأنه لا يسوغ لأحد أن يعتقد أنه يجوز له أن يتديّن بغير دين محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}
(1)
.
وأما قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}
(2)
: فليس الأمر هنا للتخيير، بمعنى أن العبد له أن يختار الإيمان أو الكفر، كما زعم الشعراوي في الإذاعة، وإنما الأمر هنا للوعيد والتهديد؛ بدليل قوله تعالى بعدها مباشرة:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}
(3)
.
والصواب أن يقال: (حرية العمل للخير أو الشر)؛ قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}
(4)
: أي دلَّه الله على الطريق، فهو الذي يختار الحق فيكون شاكرًا، أو يختار الباطل فيكون كافرًا؛ كما قال تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}
(5)
"
(6)
.
لا معبود إلا الله أو لا معبود إلا هو أو لا معبود سواه:
قال الشيخ صالح الفوزان -وفقه الله- تعليقًا على قول الطحاوي في عقيدته: "ولا إله غيره": "هذا هو توحيد الألوهية؛ لا إله: أي: لا معبود بحق غيره.
(1)
سورة آل عمران، الآية (19).
(2)
سورة الكهف، الآية (29).
(3)
سورة الكهف، الآية (29).
(4)
سورة البلد، الآية (10).
(5)
سورة الإنسان، الآية (3).
(6)
أخطاء شائعة (ص 30) بتصرف يسير.
أما إذا قلت: لا معبود إلا هو، أو لا معبود سواه، فهذا باطل؛ لأن المعبودات كثيرة من دون الله عز وجل، فإذا قلت: لا معبود إلا الله فقد جعلت كل المعبودات هي الله! وهذا مذهب أهل وحدة الوجود، فإذا كان قائل ذلك يعتقد هذا فهو من أصحاب أهل وحدة الوجود، وأما إن كان لا يعتقد هذا إنما يقوله تقليدًا أو سمعه من أحد؛ فهذا غلط، ويجب عليه تصحيح ذلك. وبعض الناس يستفتح بهذا في الصلاة فيقول: ولا معبود غيرك. والله معبود بحق، وما سواه فإنه معبود بالباطل؛ قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
(1)
"
(2)
.
حبيب رب العالمين:
هذه اللفظة أطلقها الطحاوي في عقيدته على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الشيخ صالح الفوزان تعليقًا: "هذه العبارة فيها مؤاخذة؛ لأنه لا يكفي قوله (حبيب) بل هو خليل رب العالمين، والخلة أفضل من مطلق المحبة، فالمحبة درجات، أعلاها الخلة، وهي خالص المحبة، ولم تحصل هذه المرتبة إلا لاثنين من الخلق: إبراهيم عليه الصلاة والسلام في {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}
(3)
، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر بذلك فقال:"إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا"
(4)
؛ فلا يقال: حبيب الله؛ لأن هذا يصلح لكل
(1)
سورة لقمان، الآية (30).
(2)
التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية (ص 34 - 35).
(3)
سورة النساء، الآية (125).
(4)
أخرجه مسلم (532).
مؤمن، فلا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا ميزة، أما الخلة فلا أحد يلحقه فيها"
(1)
.
ما صدقت على الله أن يتم هذا الأمر:
قال الشيخ محمد بن جميل زينو: "وفي هذا نسبة العجز الله تعالى، وهو كفر، والله قادر على كل شيء، وقد قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
(2)
. إلا إن قصد بها أنه يستبعد وقوع ذلك بعد حصوله له بعد معاناة وتعب، فلا بأس، وهو خلاف الأولى.
والصواب أن يقول: ما توقعت أن ينقضي هذا الأمر"
(3)
.
مَنْ هو مثلك الأعلى
؟
يتردد كثيرًا إطلاق هذا السؤال في المقابلات، ويتفاوت الناس في الإجابة عنه حسب مشاربهم؛ ما بين من يذكر محمدًا صلى الله عليه وسلم مثلًا له، وهم الموفقون، وبين من يذكر اسم لاعب كرة أو مطرب ماجن، وهم الخاسرون.
وجواب هذا السؤال لا يصدق إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه القدوة لكل
البشر بعده.
وقد سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله "يرد سؤال يتكرر دائمًا في
(1)
التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية (ص 63).
(2)
سورة يس، الآية (82).
(3)
أخطاء شائعة (ص 12 بتصرف يسير). وانظر: (المناهي اللفظية) للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (ص 25 - 26)، وقال عن استعمالها للتعبير عن ظن القائل أنه ما ظن أن الله يفعل هذا الأمر؛ لأنه يستبعد وقوعه:"لا بأس بذلك".
المقابلات الصحفية وخلافها وهو: من هو مثلك الأعلى؟ وتختلف الإجابة باختلاف الأشخاص؛ هناك من يقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك من يقول: والدي وهكذا. ما رأي سماحتكم حفظكم الله في هذا السؤال؟ وما علاقته بآية سورة النحل رقم (60)؛ وهي قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وكذا آية الروم رقم (27)؛ وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أفيدونا أثابكم الله؟
فأجاب رحمه الله: المعنى يختلف فيما أشرت إليه: فإذا أريد بيان من هو الأحق بالوصف الأعلى فالجواب هو الله وحده؛ لأنه سبحانه هو الذي له المثل الأعلى في كل شيء، ومعناه الوصف الأعلى، وهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له، وهذا المعنى هو المراد في الآيتين الكريمتين المذكورتين في سؤالك، وقد قال الله عز وجل:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
(1)
. وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(2)
.
أما إن أريد من هو المثل الأعلى في المنهج والسيرة فإنه يفسر بالرسول صلى الله عليه وسلم؛
(1)
سورة الإخلاص.
(2)
سورة الشورى آية 11.
فإنه أكمل الناس هديًا وسيرة وقولًا وعملًا، وهو المثل الأعلى للمؤمنين في سيرتهم وأعمالهم وجهادهم وصبرهم وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة، كما قال الله سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}
(1)
. وقال عز وجل في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
(2)
.
قالت عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن) والمعنى أنه كان عليه الصلاة والسلام يعمل بأوامر القرآن، وينتهي عن نواهيه، ويتخلق بالأخلاق التي أثنى القرآن على أهلها، ويبتعد عن الأخلاق التي ذم القرآن أهلها، والله ولي التوفيق"
(3)
.
فسماحة الشيخ رحمه الله لا يجيز إطلاق هذا اللفظ وصفًا للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مع التقييد "بالمثل الأعلى في المنهج والسيرة"، وإلا فإنه لا يجوز إطلاقه وصفًا دون تقييد إلا لله؛ لأنه "هو الأحق بالوصف الأعلى".
ولكن أحد المعاصرين لم يرتض هذا الجواب من شيخنا رحمه الله زاعمًا أن هذا الوصف مما يختص به الله وحده سبحانه، لا يجوز إطلاقه حتى على النبي صلى الله عليه وسلم. وصنف كتيبًا من (19 صفحة) سماه:(بيان أن المثل الأعلى خاص لربنا وحده تبارك وتعالى، وهو رد على من قال: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم في السيرة والمنهج المثل الأعلى).
(1)
سورة الأحزاب آية 21.
(2)
سورة القلم آية 4.
(3)
مجلة البحوث الإسلامية (27/ 85 - 86)، وفتاوى الشيخ، إصدار مجلة الدعوة، (4/ 14 - 15).
وليته إذ فعل هذا صان كتيبه عن الألفاظ الشنيعة في حق سماحة الشيخ رحمه الله كقوله بأن الشيخ: "إنما أتى به -أي هذا القول- من قبل رأيه وعقله حتى ورط نفسه بهذا الخطأ الفاحش"! (ص 8) زاعمًا أن الشيخ رحمه الله "لم يأت فيه -أي تفسيره المثل الأعلى- بدليل نقلي أو عقلي"! (ص 8) وقد سبق أن الشيخ قد استدل على قوله بآيات من القرآن الكريم
(1)
!
أنت فضولي [قولها لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر]:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قوله هذا غير صحيح؛ أي أن قول الإنسان الذي ينكر عليه المنكر لمن ينكر عليه: أنت فضولي، أو: هذا لا شأن لك فيه غير صحيح؛ فإن الله تعالى أمرنا بأن ننهى عن المنكر، وأن نأمر بالمعروف. فالواجب علينا أن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر بقدر ما نستطيع، سواءٌ رضي المأمور أو المنهي أو لم يرض. ويرد عليه أن هذا من شأني؛ لأن الله أمرني أن أنهاك عن المنكر، ولأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، فالذي من شأن المؤمن يكون من شأن أخيه"
(2)
.
(1)
وقد وافق الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فتوى سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله كما في (المناهي اللفظية، ص 28 - 29)، بل اختار جواز إطلاق هذه العبارة مع التقييد على غير الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كأن يقال:(فلان كان المثل الأعلى في كذا وكذا).
وقال الشيخ محمد بن جميل زينو في كتابه (أخطاء شائعة، ص 24) عن هذه اللفظة: "لا تجوز - أي لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا مقيدة" كما قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله وانظر للفائدة: تعليق الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة على "التنكيل" للمعلمي، (2/ 321 - 322).
(2)
المناهي اللفظية (ص 30 - 31).
على هواك:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ليس فيها بأس، إلا أنها تقيد بما يكون غير مخالف للشرع؛ فليس الإنسان على هواه في كل شيء"
(1)
.
باسم العروبة، باسم الوطن [في الخطابات]:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "هذه العبارات إذا كان الإنسان يقصد بذلك أنه يعبر عن العرب، أو يعبر عن أهل البلد، فهذا لا بأس به، وإن قصد التبرك والاستعانة فهو نوع من الشرك، وقد يكون شركًا أكبر، بحسب ما يقوم في قلب صاحبه من التعظيم بما استعان به"
(2)
.
أم المؤمنين [إطلاقه على الزوجة]:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "يطلق بعض الرجال على أزواجهم أم المؤمنين، فيقول أحدهم مثلًا: ذهبت بأم المؤمنين لأهلها، أو أعطيت أم المؤمنين هدية، وغير هذا، فهل إطلاق مثل هذه اللفظة على الزوجة صحيح؟
فأجاب: هذا القول حرامٌ؛ فلا يحل لأحد أن يسمي زوجته أم المؤمنين؛ لأن مقتضاه أن يكون هو نبيًا؛ لأن الذي يوصف بأمهات المؤمنين هنَّ زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، فهل هو يريد أن يتبوأ مكان النبوة، وأن يدعو نفسه بعد بالنبي، بل الواجب على الإنسان أن يتجنب مثل هذه
(1)
المناهي اللفظية (ص 34).
(2)
المناهي اللفظية (ص 36).
الكلمات، وأن يستغفر الله تعالى مما جرى منه"
(1)
.
خسرت كذا وكذا [في الطاعات]:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "يطلق بعض الناس عبارات مثل خسرت أو ضيعت في العبادات، فيقول: خسرت خمسة آلاف ريال في الحج، أو غرمت في ضيافة أقاربي ثلاثة آلاف ريال، أو ضيعت في الجهاد ألف ريال. فما صحة هذه العبارات؟
فأجاب: عبارات غير صحيحة؛ لأن ما بذل في طاعة الله فليس بخسارة، بل هو الربح الحقيقي، وإنما الخسارة ما صُرِف في معصية، أو في ما لا فائدة فيه. وأما ما فيه فائدة دنيوية أو دينية فإنه ليس بخسارة، وليس بضياع"
(2)
.
رمضان كريم:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "عندما يكذب البعض مثلًا في رمضان، أو عندما يغشّ أو يغتاب، وينهاه البعض ويقول له: إن هذا حرام. يقول: رمضان كريم. فما حكم ذلك؟
فأجاب: حكم ذلك أن هذه الكلمة: "رمضان كريم" غير صحيحة، وإنما يُقال: رمضان مُبارك، أو ما أشبه ذلك؛ لأن رمضان ليس هو الذي يُعطي حتى يكون كريمًا، وإنما الله هو الذي وضع فيه الفضل، وجعله شهرًا فاضلًا، ووقتًا لأداء ركن من أركان الإسلام. وكان هذا القائل يظن أنه
(1)
المناهي اللفظية (ص 41).
(2)
المناهي اللفظية (ص 42 - 43).
لشرف الزمن يجوز فيه فعل المعاصي! وهذا انقلاب على ما قاله أهل العلم بأن السيئات تعظم بالزمان والمكان الفاضل، عكس ما يتصوره هذا القائل. قالوا: يجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل في كل وقت وفي كل مكان، ولا سيما في الأوقات الفاضلة والأماكن الفاضلة، وقد قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
(1)
، ويبين الله أن الحكمة من الصيام تقوى الله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"
(2)
. فالصيام تربية للنفس وصيانة لها من محارم الله، وليس كما قال هذا الجاهل: إن هذا الشهر لشرفه وبركته يسوغ فيه فعل المعاصي! "
(3)
.
الإنسان حيوان ناطق:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ما مدى صحة إطلاق" الحيوان الناطق" على الإنسان؟
فأجاب: الحيوان الناطق يطلق على الإنسان كما ذكره أهل المنطق، وليس فيه عندهم عيب؛ لأنه تعريف بحقيقة الإنسان، لكنه في العرف قول يعتبر قدحًا في الإنسان. ولهذا إذا خاطب الإنسان به عاميًا فإن العامي
(1)
سورة البقرة، الآية (183).
(2)
أخرجه البخاري (1903) عن أبي هريرة.
(3)
المناهي اللفظية (ص 61 - 62).
سيعتقد أن هذا قدح فيه. وحينئذ لا يجوز أن يخاطب به العامي؛ لأن كل شيء يسيء إلى المسلم فهو حرام. أما إذا خُوطب به من يفهم الأمر على حسب اصطلاح المناطقة فإن هذا لا حرج فيه؛ لأن الإنسان لا شك أنه حيوان باعتبار أن فيه حياة، وأن الفصل الذي يميزه عن غيره من بقية الحيوانات هو النطق.
ولهذا قالوا: إن كلمة "حيوان" جنس، وكلمة "ناطق" فصل، والجنس يعمّ المُعرَّف وغيره، والفصل يميّز المعرف وغيره"
(1)
.
فلان بعيد عن الهداية أو عن المغفرة:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "عندما يذكر عند البعض من أسرف على نفسه بالذنوب يقول فيه: "إن فلانًا بعيد عن الهداية" أو "عن الجنة" أو "عن مغفرة الله" فما حكم ذلك؟
فأجاب: هذا لا يجوز؛ لأنه من باب التألي على الله عز وجل وقد ثبت في الصحيح: أن رجلًا كان مسرفًا على نفسه، وكان يمر به رجل آخر فيقول: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله عز وجل: "من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، قد غفرت له، وأحبطت عملك"
(2)
ولا يجوز للإنسان أن يستبعد رحمة الله عز وجل. كم من إنسان قد بلغ في الكفر مبلغًا عظيمًا ثم هداه الله فصار من الأئمة الذين يهدون بأمر الله عز وجل والواجب على من قال ذلك أن يتوب إلى الله حيث يندم على ما فعل،
(1)
المناهي اللفظية (ص 67 - 68).
(2)
أخرجه مسلم (2621) عن جندب.
ويعزم على ألا يعود في المستقبل"
(1)
.
ليس بعد الكفر ذنب:
يستشهد البعض بهذه العبارة في مقام عدم الإنكار على الكفار ممن يعيشون بين المسلمين ويمارسون بعض المعاصي الظاهرة؛ كتبرج النساء مثلًا.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذا فقال: "هذا -أي مقولة: ليس بعد الكفر ذنب- لا أعلمه أثرًا عن معصوم، والكفار مخاطبون بفروع الشريعة على القول الصحيح؛ مخاطبون بمعنى أنهم يعاقبون عليها عند مخالفتهم فيها: أي إذا خالفوا في فروع الشريعة الإسلامية عوقبوا على ذلك في الآخرة".
وقال رحمه الله: "فالواجب الإنكار على هؤلاء النساء -أي الكافرات- اللاتي يخرجن على وجه يفتن المسلمين ويخالف الشريعة الإسلامية، ولكن لا من حيث التعبد لله منهم باجتنابه؛ لأن عبادتهم قبل أن يسلموا لا تنفعهم، ولكن من حيث أن هذا مخالف للمظهر الإسلامي في بلاد الإسلام"
(2)
.
إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال بشرفها في حصن حصين لا تمتد إليها الأعناق:
يردد المنافقون (العلمانيون) من دعاة إفساد المرأة المسلمة هذه العبارة الماكرة وأمثالها لاستدراج النساء إلى الوقوع في التبرج والاختلاط مع الرجال، وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه العبارة فقال:
(1)
المناهي اللفظية (ص 69 - 70).
(2)
المناهي اللفظية (ص 73 - 74).
"تعليقنا هو أن هذه دعوة باطلة مصادمة للكتاب والسنة والعقل والطبيعة الإنسانية؛ فإن كل امرأة تبدو كاشفة الوجه حاسرة عن مفاتنها لا بد أن يتعلق بها الرجال مهما كانوا، ولا بد أن تُؤذى مهما كانت عفيفة. وربما يغويها الشيطان ويجرها إلى الفاحشة؛ إما لهوى في نفسها مع كثرة المحاولة من أهل الفسوق، وإما للضغط عليها حتى تأتي على ما يريدون. وإذا كانت المرأة شريفة فإن شرفها يزداد إذا تحجبت الحجاب الشرعي، الذي يتضمن أول ما يتضمن تغطية الوجه، وهذا أمر معلوم بالعقل والفطرة، والطبيعة الإنسانية أن الرجال ميالون إلى النساء، ولا أحد أشرف ولا أعف من نساء الصحابة رضي الله عنهم ومع ذلك أُمرن بالحجاب"
(1)
.
اجعل بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم صلة:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الذي يقول: اجعل بينك وبين الله صلة، أي: بالتعبد له، واجعل بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم صلة، أي: باتباعه، فهذا حق. أما إذا أراد بقوله: اجعل بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم صلة، أي: اجعله هو ملجأك عند الشدائد ومستغاثك عند الكربات؛ فإن هذا محرم، بل هو شرك أكبر مخرج عن الملة"
(2)
.
أدام الله أيامك:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هي "من الاعتداء في الدعاء؛ لأن دوام الأيام محال مناف لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ
(1)
المناهي اللفظية (ص 78 - 79).
(2)
المناهي اللفظية (ص 84).
ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}
(1)
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}
(2)
"
(3)
.
استجرت برسول الله صلى الله عليه وسلم
-:
قال عنها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "كلمة منكرة. والاستجارة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لا تجوز. أما الاستجارة به في حياته في أمر يقدر عليه فهي جائزة، قال الله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}
(4)
. فالاستجارة بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته شرك أكبر"
(5)
.
التقى إله وشيطان:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قول أحد الخطباء عن غزوة بدر بأنه فيها: (التقى إله وشيطان)، وعن قول بعض العلماء عنها بأنها كفر، فقال الشيخ: "لا شك أن هذه العبارة لا تنبغي، وإن كان قائلها قد أراد التجوز؛ فإن التجوز إنما يسوغ إذا لم يوهم معنى فاسدًا لا يليق به. والمعنى الذي لا يليق هنا هو: أن يجعل الشيطان قبيلًا لله -تعالى- وندًّا له، وقِرْنًا يواجهه، كما يواجه المرء قرنه، وهذا حرام، ولا يجوز.
ولو أراد الناطق به تنقص الله -تعالى- وتنزيله إلى هذا الحد لكان كافرًا، ولكنه
(1)
سورة الرحمن، الآية (26، 27).
(2)
سورة الأنبياء، الآية (34).
(3)
المناهي اللفظية (ص 86).
(4)
سورة التوبة، الآية (6).
(5)
المناهي اللفظية (ص 88).
حيث لم يرد ذلك نقول له: هذا التعبير حرام، ثم إن تعبيره به ظانًّا أنه جائز بالتأويل الذي قصده فإنه لا يأثم بذلك لجهله، ولكن عليه ألا يعود لمثل ذلك"
(1)
.
الله غير مادي:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "القول بأن: (الله غير مادي) قول منكر؛ لأن الخوض في مثل هذا بدعة منكرة؛ فالله -تعالى- ليس كمثله شيء، وهو الأول الخالق لكل شيء، وهذا شبيه بسؤال المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم: هل الله من ذهب أو من فضة أو من كذا وكذا؟ وكل هذا حرام لا يجوز السؤال عنه، وجوابه في كتاب الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
(2)
، فكُفّ عن هذا، ما لك ولهذا السؤال؟! "
(3)
.
يا عبدي - يا أمَتِي:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ما حكم قول: يا عبدي ويا أمتي؟ " فقال: "قول القائل: يا عبدي، يا أمتي، ونحوه له صورتان:
الصورة الأولى: أن يقع بصيغة النداء مثل: يا عبدي، يا أمتي؛ فهذا لا يجوز للنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقل أحدكم عبدي وأمتي"
(4)
.
(1)
المناهي اللفظية (ص 89 - 90).
(2)
سورة الإخلاص.
(3)
المناهي اللفظية (ص 95).
(4)
متفق عليه من حديث أبي هريرة. البخاري (2552) ومسلم (2249)(15).
الصورة الثانية: أن يكون بصيغة الخبر وهذا على قسمين:
القسم الأول: إن قاله بغيبة العبد، أو الأمة فلا بأس به.
القسم الثاني: إن قاله في حضرة العبد أو الأمة، فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد مُنع وإلا فلا؛ لأن القائل بذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك له. وإلى هذا التفصيل الذي ذكرناه أشار في:"تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" في باب: "لا يقول عبدي وأمتي"
(1)
وذكره صاحب فتح الباري عن مالك
(2)
"
(3)
.
أنا مؤمن إن شاء الله:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قول القائل: (أنا مؤمن إن شاء الله) يسمى عند العلماء "مسألة الاستثناء في الإيمان".
وفيه تفصيل:
أولًا: إن كان الاستثناء صادرًا عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا محرم بل كفر؛ لأن الإيمان جزم والشك ينافيه.
ثانيًا: إن كان صادرًا عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولًا وعملًا واعتقادًا، فهذا واجب خوفًا من هذا المحذور.
ثالثًا: إن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل، وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله، فهذا جائز، والتعليق على هذا الوجه
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص 675).
(2)
فتح الباري (5/ 178).
(3)
المناهي اللفظية (ص 102 - 104).
-أعني بيان التعليل- لا ينافي تحقيق المعلَّق؛ فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة؛ كقوله -تعالى-: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ}
(1)
والدعاء في زيارة القبور: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"
(2)
وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء في الإيمان، بل لا بد من التفصيل السابق"
(3)
.
إيمان [تسمية البنت بهذا الاسم]:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الذي أرى أن اسم إيمان فيه تزكية، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير اسم برّة خوفًا من التزكية: ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن زينب كان اسمها برة فقيل: تزكي نفسها، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب
(4)
، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت جويرية اسمها برة، فحوَّل النبي صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية. وكان يكره أن يقال خرج من عند برة، وفيه أيضًا عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة
(5)
. فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم". فقالوا: بم نسميها؟ قال: "سموها زينب"
(6)
.
(1)
سورة الفتح، الآية (27).
(2)
أخرجه مسلم (249).
(3)
المناهي اللفظية (ص 109 - 110).
(4)
متفق عليه: رواه البخاري برقم (6192)، ومسلم برقم (2141).
(5)
صحيح مسلم برقم (2140).
(6)
رواه مسلم برقم (2142).
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الكراهة للاسم الذي فيه التزكية وأنها من وجهين:
الأول: أنه يقال خرج من عند برة، وكذلك يقال: خرج من برة.
والثاني: التزكية، والله أعلم منا بمن هو أهل التزكية.
وعلى هذا ينبغي تغيير اسم إيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما فيه تزكية، ولا سيما إذا كان اسمًا لامرأة؛ لأنه للذكور أقرب منه للإناث؛ لأن كلمة إيمان) مذكرة .. ".
وقال -أيضًا-: "اسم إيمان يحمل نوعًا من التزكية، وبهذا لا تنبغي التسمية به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غيَّر اسم برة لكونه دالًا على التزكية، والمخاطب في ذلك هم الأولياء الذين يسمون أولادهم بمثل هذه الأسماء التي تحمل التزكية لمن تسمى بها، أما ما كان علمًا مجردًا لا يفهم منه التزكية؛ فهذا لا بأس به، ولهذا نسمي بصالح وعلي وما أشبههما من الأعلام المجردة التي لا تحمل معنى التزكية"
(1)
.
حجة الله، حجة الإسلام [التسمية بها]:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "هذه الألقاب: "حجة الله"، "حجة الإسلام" ألقاب حادثة لا تنبغي؛ لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما "آية الله" فإن أريد المعنى الأعم فهو يدخل فيه كل شيء:
(1)
المناهي اللفظية (ص 111 - 113)، واختار الشيخ ابن باز رحمه الله جواز التسمية بإيمان؛ كما في فتاواه (18/ 53). واختار الشيخ بكر جواز التسمية بإيمان وإسلام وإحسان، وتُحمل على التفاؤل، والله أعلم، انظر: معجم المناهي اللفظية، ص 614.
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه واحد
وإن أريد أنه آية خارقة فهذا لا يكون إلا على أيدي الرسل، لكن يقال: عالم، مفتي، قاضي، حاكم، إمام، لمن كان مستحقًا لذلك"
(1)
.
زارتنا البركة - تباركت علينا:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قول العامة: تباركت علينا، زارتنا البركة، فقال:"قول العامة: "تباركت علينا" لا يريدون بهذا ما يريدونه بالنسبة إلى الله عز وجل وإنما يريدون أصابنا بركة من مجيئك، والبركة يصح إضافتها إلى الإنسان، قال أسيد بن حضير لما نزلت آية التيمم بسبب عِقْد عائشة الذي ضاع منها؛ قال: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر"
(2)
.
وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون طلب البركة بأمر شرعي معلوم مثل القرآن الكريم؛ قال الله -تعالى-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}
(3)
فمن بركته أن من أخذ به وجاهد به حصل له الفتح، فأنقذ الله به أممًا كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات
(4)
، وهذا يوفر للإنسان الجهد والوقت.
الأمر الثاني: أن يكون طلب البركة بأمر حسي معلوم؛ فهذا الرجل
(1)
المناهي اللفظية (ص 114).
(2)
متفق عليه من حديث عائشة. البخاري (334) ومسلم (367).
(3)
سورة الأنعام، الآية (92).
(4)
أخرجه الترمذي (2912) عن ابن مسعود، وقال: حسن صحيح.
يتبرك به بعلمه ودعوته إلى الخير، قال أسيد بن حُضير:"ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر". فإن الله قد يجري على أيدي بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة؛ مثل ما يزعمه الدجالون أن فلانًا الميت الذي يزعمون أنه وليٌّ أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك، فهذه بركة باطلة لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر، لكنها لا تعدو أن تكون آثارًا حسية بحيث أن الشيطان يخدم هذا الشيخ فيكون في ذلك فتنة.
أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيحة؟
فيعرف ذلك بحال الشخص؛ فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة ما لا يحصل لغيره، أما إن كان مخالفًا للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله"
(1)
.
كريم [التسمية به]:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "التسمي بأسماء الله عز وجل يكون على وجهين:
الوجه الأول: وهو على قسمين:
القسم الأول: أن يحلى بـ (ال) ففي هذه الحال لا يسمى به غير الله عز وجل كما لو سميت أحدًا بالعزيز، والسيد، والحكيم، وما أشبه ذلك؛ فإن
(1)
المناهي اللفظية (ص 117 - 119).
هذا لا يسمى به غير الله؛ لأن (ال) هذه تدل على لمح الأصل، وهو المعنى الذي تضمنه هذا الاسم.
القسم الثاني: إذا قصد بالاسم معنى الصفة وليس محلى بـ (ال) فإنه لا يسمى به، وهذا غيّر النبي صلى الله عليه وسلم كنية أبي الحكم التي تكنّي بها؛ لأن أصحابه يتحاكمون إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله هو الحكم وإليه الحكم" ثم كناه بأكبر أولاده شريح
(1)
.
فدل ذلك على أنه إذا تسمَّى أحد باسم من أسماء الله ملاحظًا بذلك معنى الصفة التي تضمنها هذا الاسم فإنه يمنع؛ لأن هذه التسمية تكون مطابقة تمًاما الأسماء الله سبحانه وتعالى فإن أسماء الله -تعالى- أعلام وأوصاف لدلالتها على المعنى الذي تضمنه الاسم.
الوجه الثاني: أن يتسمى الاسم غير محلى بـ (ال) وليس المقصود به معني الصفة، فهذا لا بأس به؛ مثل حكيم، ومن أسماء بعض الصحابة حكيم بن حزام الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تبع ما ليس عندك"
(2)
. وهذا دليل على أنه إذا لم يقصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا بأس به.
لكن في مثل (جبار) لا ينبغي أن يتسمي به وإن كان لم يلاحظ الصفة؛ وذلك لأنه قد يؤثر في نفس المسمَّى، فيكون معه جبروت وعلو واستكبار على الخلق، فمثل هذه الأشياء التي قد تؤثر على صاحبها ينبغي للإنسان أن
(1)
إسناده حسن. أخرجه أبو داود (4955) والنسائي (8/ 226، 227)، والبخاري في الأدب المفرد (811) عن أبي شريح.
(2)
إسناده جيد. أخرجه أبو داود (3503) والترمذي (1232) والنسائي (7/ 289) وابن ماجه (2187).
يتجنبها، والله أعلم"
(1)
.
ما حكم الإسلام في كذا وكذا:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لا ينبغي أن يقال: ما حكم الإسلام في كذا، أو: ما رأي الإسلام في كذا؛ فإنه قد يخطئ فلا يكون ما قال حكم الإسلام، لكن لو كان الحكم نصًا صريحًا فلا بأس؛ مثل أن يقول: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فنقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنها حرام"
(2)
.
رب البيت:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ما حكم قول "رب البيت"، "رب المنزل"؟
فأجاب: قولهم رب البيت ونحوه ينقسم أقسامًا أربعة:
القسم الأول: أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب في معنى لا يليق بالله عز وجل مثل أن يقول "أطعم رَبَّك" فهذا منهي عنه لوجهين:
الوجه الأول: من جهة الصيغة لأنه يوهم معني فاسدًا بالنسبة لكلمة
رب؛ لأن الرب من أسمائه -سبحانه- وهو سبحانه يُطْعِم ولا يُطْعَم.
الوجه الثاني: من جهة أنك تُشعر العبد أو الأمة بالذل؛ لأنه إذا كان السيد ربًا كان العبد مربوبًا، والأمة مربوبة.
(1)
المناهي اللفظية (121 - 124).
(2)
المناهي اللفظية (ص 132).
وأما إذا كان في معنى يليق بالله -تعالى- مثل: "أطع ربك" كان النهي عنه من أجل الوجه الثاني.
القسم الثاني: أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب مثل ربه، وربها، فإن كان في معنى لا يليق بالله كان من الأدب اجتنابه؛ مثل:"أطعم العبد ربه" أو "أطعمت الأمة ربها"؛ لئلا يتبادر منه إلى الذهن معنى لا يليق بالله.
وإن كان في معنى يليق بالله مثل: "أطاع العبد ربه" و "أطاعت الأمة ربها" فلا بأس بذلك لانتفاء المحذور.
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث اللُّقَطة في ضالة الإبل، وهو حديث متفق عليه:"حتى يجدها ربها"
(1)
.
وقال بعض أهل العلم: إن حديث اللقطة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل كالإنسان، والصحيح عدم الفارق؛ لأن البهيمة تعبد الله عبادة خاصة بها قال -تعالى-:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} وقال في العباد: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} ليس جميعهم {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}
(2)
.
القسم الثالث: أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم، فقد يقول قائل بالجواز لقوله تعالى حكاية عن يوسف:{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}
(3)
أي سيدي،
(1)
متفق عليه من حديث زيد بن خالد. البخاري (2429) ومسلم (1722).
(2)
سورة الحج، الآية (18).
(3)
سورة يوسف، الآية (23).
وإن المحظور هو الذي يقتضي الإذلال، وهذا منتف لأن هذا من العبد لسيده.
القسم الرابع: أن يضاف إلى الاسم الظاهر فيقال: هذا رب الغلام، فظاهر الحديث الجواز، وهو كذلك ما لم يوجد محظور فيمنع، كما لو ظن السامع أن السيد ربٌّ حقيقي خالق لمملوكه"
(1)
.
وجه الله إلا أن تأكل:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لما سئل عن هذه العبارة: "لا يجوز لأحد أن يستشفع بالله عز وجل إلى أحد من الخلق؛ فإن الله أعظم وأجل من أن يُستشفع به إلى خلقه؛ وذلك لأن مرتبة المشفوع إليه أعلى من مرتبة الشافع والمشفوع له، فكيف يصح أن يجعل الله -تعالى- شافعًا عند أحد؟! "
(2)
.
مولاي [في مخاطبة الملوك]:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن: "قول الإنسان إذا خاطب ملكًا: (يا مولاي).
فأجاب: الولاية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ولاية مطلقة؛ وهذه الله عز وجل كالسيادة المطلقة، وولاية الله بالمعنى العام شاملة لكل أحد؛ قال الله -تعالى-:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}
(3)
فجعل له
(1)
المناهي اللفظية (ص 132 - 135).
(2)
المناهي اللفظية (ص 184).
(3)
سورة الأنعام، الآية (62).
سبحانه الولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة، وأما بالمعنى الخاص فهي خاصة بالمؤمنين المتقين؛ قال الله -تعالى-:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}
(1)
وقال الله -تعالى-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}
(2)
وهذه ولاية خاصة.
القسم الثاني: ولاية مقيدة مضافة؛ فهذه تكون لغير الله، ولها في اللغة معان كثيرة، منها: الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، قال الله -تعالى-:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}
(3)
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه"
(4)
. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق"
(5)
.
وعلى هذا فلا بأس أن يقول القائل لملك: مولاي؛ بمعني سيدي، مالم يخش من ذلك محذور
(6)
.
هذا نوء محمود:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "هذا لا يجوز، وهو يشبه قول
(1)
سورة محمد، الآية (11).
(2)
سورة يونس، الآيتان (62، 63).
(3)
سورة التحريم، الآية (4).
(4)
صحيح. ورد عن جمع من الصحابة، ولا يتحمل المقام تخريجها، ويسط ذلك في مجمع الزوائد (9/ 103) والسلسلة الصحيحة (1750) وتاريخ دمشق (أول المجلد الثاني المحقق).
(5)
متفق عليه من حديث عائشة: البخاري (2168) ومسلم (1504).
(6)
المناهي اللفظية (ص 182 - 183).
القائل: مطرنا بنوء كذا وكذا، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن الله عز وجل:"من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب"
(1)
.
والأنواء ما هي إلا أوقات لا تُحمد ولا تُذم، وما يكون فيها من النعم والرخاء فهو من الله تعالى، وهو الذي له الحمد أولاً وآخرًا، وله الحمد على كل حال"
(2)
.
لا سمح الله:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أكره أن يقول القائل: "لا سمح الله"؛ لأن قوله: "لا سمح الله" ربما توهم أن أحدًا يجبر الله على شيء، فيقول: "لا سمح الله"، والله عز وجل كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا مكره له". قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة وليُعظم الرغبة، فإن الله لا مكره له، ولا يتعاظمه شيء أعطاه"
(3)
.
والأولى أن يقول: "لا قدَّر الله" بدلًا من قوله: لا سمح الله"؛ لأنه أبعد عن توهم ما لا يجوز في حق الله تعالى"
(4)
.
يا هادي يا دليل:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لا أعلمها من أسماء الله؛ فإن
(1)
متفق عليه: رواه البخاري برقم (446)، ومسلم برقم (71).
(2)
المناهي اللفظية (ص 184 - 185).
(3)
متفق عليه: رواه بنحوه البخاري (6339)، (7477)، ومسلم (2679).
(4)
المناهي اللفظية (ص 185 - 186).
قصد به الإنسان الصفة فلا بأس، كما يقول: اللهم يا مجري السحاب، يا منزل الكتاب، وما أشبه ذلك؛ فإن الله يهدي من يشاء، والدليل هنا بمعنى الهادي"
(1)
.
يعلم الله أني ما عملت كذا وكذا (أوما قلته):
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قول: (يعلم الله) هذه مسألة خطيرة، حتى رأيت من كتب الحنفية أن من قال عن شيء: "يعلم الله" والأمر بخلافه صار كافرًا خارجًا عن الملة. فإذا قلت: (يعلم الله أني ما فعلت هذا وأنت فاعله فمقتضى ذلك أن الله يجهل الأمر، (يعلم الله أني ما زرت فلانًا) وأنت زائره صار الله لا يعلم بما يقع، ومعلوم أن من نفي عن الله العلم فقد كفر، ولهذا قال الشافعي رحمه الله في القدرية قال: "جادلوهم بالعلم فإن أنكروا كفروا، وإن أقروا به خُصِمُوا" اهـ. والحاصل أن قول القائل:(يعلم الله) إذا قالها والأمر على خلاف ما قال فإن ذلك خطير جدًّا، وهو حرام بلا شك. أما إذا كان مصيبًا، والأمر على وفق ما قال فلا بأس بذلك؛ لأنه صادق في قوله؛ ولأن الله بكل شيء عليم كما قالت الرسل في سورة يس:{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}
(2)
"
(3)
.
(1)
المناهي اللفظية (ص 187). واسم (الهادي) أدخله الشيخ سعيد القحطاني ضمن أسماء الله الحسني في كتابه (شرح أسماء الله الحسنى، ص 11).
وانظر: "الإنباه إلى ما ليس من أسماء الله" لصالح العصيمي، ص 52.
(2)
سورة يس، الآية (16).
(3)
المناهي اللفظية (ص 187 - 188).
أفكار وهابية:
قال الشيخ محمد بن جميل زينو: "كنت أقرأ على الشيخ الذي درست عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"
(1)
. فأعجبني شرح النووي حين قال: "ثم إن كان الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه؛ كطلب الهداية والعلم
…
وشفاء المرض وحصول العافية سأل ربه ذلك، وأما سؤال الخلق والاعتماد عليهم فمذموم".
فقلت للشيخ: هذا الحديث وشرحه يفيد عدم جواز الاستعانة بغير الله، فقال لي: بل تجوز!! قلت: وما دليلك؟ فغضب الشيخ وصاح قائلًا: إن عمتي تقول يا شيخ سعد (وهو مدفون في مسجده تستعين به)، فأقول لها يا عمتي وهل ينفعك الشيخ سعد؟ فتقول: أدعوه فيتدخل على الله فيشفيني!!
قلت له: إنك رجل عالم قضيت عمرك في قراءة الكتب، ثم تأخذ عقيدتك من عمتك الجاهلة! فقال لي: عندك (أفكار وهابية)، أنت تذهب للعمرة وتأتي بكتب وهابية!!!
وكنت لا أعرف شيئًا عن الوهابية إلا ما أسمعه من المشايخ: فيقولون عنهم: الوهابيون مخالفون للناس؛ لا يؤمنون بالأولياء وكراماتهم، ولا يحبون الرسول، وغيرها من الاتهامات الكاذبة.
فقلت في نفسي: إن كانت الوهابية تؤمن بالاستعانة بالله وحده، وأن
(1)
صحيح: رواه الترمذي في صفة القيامة (2516)، وأحمد: 1/ 293، 303، 307.
الشافي هو الله وحده، فيجب أن أتعرف عليها، سألت عن جماعتها فقالوا هم مكان يجتمعون فيه مساء الخميس، لإلقاء دروس في التفسير والحديث والفقه، فذهبت إليهم مع أولادي وبعض الشباب المثقف، فدخلنا غرفة كبيرة، ننتظر الدرس، وبعد فترة دخل علينا شيخ كبير السن، فسلَّم علينا وصافحنا جميعًا مبتدئًا بيمينه، ثم جلس على مقعد، ولم يقم له أحد، فقلت في نفسي: هذا شيخ متواضع لا يجب القيام.
بدأ الشيخ الدرس بقوله: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره) إلى آخر الخطبة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبه ودروسه، ثم بدأ يتكلم باللغة العربية، ويورد الأحاديث ويبين صحتها وراويها، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه؛ وأخيرًا وُجِّهت له الأسئلة المكتوبة على الأوراق، فكان يجيب عليها بالدليل من القرآن والسنة، ويناقشه بعض الحاضرين فلا يرد سائلًا، وقد قال في آخر درسه: الحمد لله على أننا مسلمون وسلفيون، وبعض الناس يقولون إننا وهابيون، فهذا تنابزٌ بالألقاب، وقد نهانا الله عن هذا بقوله:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}
(1)
.
وقديمًا اتهموا الإمام الشافعي بالرفض فرد عليهم قائلًا:
إن كان رفضًا حُبُّ آل محمدٍ
…
فليشهد الثقلان أني رافضي
ونحن نردُّ على من يتهمنا بالوهابية بقول أحد الشعراء:
إن كان تابعُ أحمدٍ
(2)
متوهِّبًا
…
فأنا المقرُّ بأنني وهَّابي
(1)
سورة الحجرات، الآية (11).
(2)
المراد بأحمد النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا ورد اسمه في القرآن.
ولما انتهى خرجنا مع بعض الشباب معجبين بعلمه وتواضعه، وسمعت أحدهم يقول: هذا هو الشيخ الحقيقي!!!.
فالصواب أن يقال: (دعوة سلفية)؛ بمعنى أنها تعمل بالكتاب والسنة حسب فهم السلف الصالح، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون والأئمة المجتهدون.
فالسلفية: تدعو إلى التوحيد وإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو ما أثبته له رسوله من الأسماء والصفات من غير تأويل ولا تشيبه ولا تعطيل.
ويسعون من أجل تحكيم شريعة الله بالتي هي أحسن من غير تكفير، ولا إرهاب، ولا تدمير: وصدق الشاعر حين قال:
فكلُّ خيرٍ في اتِّباعِ مَنْ سَلَف
…
وكلُّ شرٍّ في ابتداع من خلف"
(1)
ابن الحرام - ابن زنا:
يقولها بعض المتهورين عندما يغضب على غيره، ومعناه أن والدته زانية -والعياذ بالله- وهذا قذف صريح، فإما أن يأتي على ذلك بأربعة شهود -وهيهات- وإما أن يُجلد ثمانين جلدة؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2)
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
(1)
أخطاء شائعة (ص 48 - 50).
(2)
سورة النور، الآيتان (4، 5).
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}
(1)
.
المادة لا تفنى ولا تزول:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "القول بأن المادة لا تفنى وأنها لم تخلق من عدم كفر لا يمكن أن يقوله مؤمن، فكل شيء في السماوات والأرض سوى الله فهو مخلوق منعدم، كما قال -تعالى-:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}
(2)
وليس هناك شيء أزلي أبدي سوى الله. وأما كونها لا تفنى فإن عني بذلك أن كل شيء لا يفنى لذاته فهذا أيضًا خطأ وليس بصواب؛ لأن كل شيء موجود فهو قابل للفناء، وإن أراد به أن من مخلوقات الله ما لا يفني بإرادة الله فهذا حق؛ فالجنة لا تفنى، وما فيها من نعيم لا يفنى، وأهل الجنة لا يفنون، وأهل النار لا يفنون. لكن هذه الكلمة المطلقة:"المادة ليس لها أصل في الوجود، وليس لها أصل في البقاء" هذه على إطلاقها كلمة إلحادية، فنقول:"المادة مخلوقة من عدمه"، فكل شيء سوى الله فالأصل فيه العدم.
أما مسألة الفناء تقدم التفصيل فيها. والله الموفق"
(3)
.
(1)
سورة النور، الآيات (23 - 25).
(2)
سورة الزمر، الآية (62).
(3)
المناهي اللفظية (ص 176 - 177).
وسئل الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: "ما ردكم على هذا التعبير الذي يُدَرس في المدارس: "أن المادة لا تفني، ولا تُستحدث من العدم" مع أن الله بديع السموات والأرض؟ ".
فأجاب: "هذا كلام أهل الطبيعة؛ الذين يقولون بالطبيعة، ولا يُقرون بالخالق، والحق أن كل شيء يوجد من عدم ويفني بعد وجوده إلا الله سبحانه وتعالى؛ فإنه لا بداية له ولا نهاية:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}
(1)
"
(2)
.
وقال الشيخ عبد الرحمن المحمود معددًا أخطاء الألفاظ المنتشرة: "المقالة المشهورة: إن المادة لا تفنى ولا تستحدث، وهذه نجدها عند طلاب المدارس في دروس الكيمياء والفيزياء ونحوها، ونحن نقول: إن هذا باطل، بل إن الموجودات كلها كانت عدمًا ثم (خلقها)
(3)
الله سبحانه وتعالى. فالقول بأنها لا تستحدث غير صحيح، بل الماديات كلها كانت عدمًا ثم (خلقها)
(4)
الله.
ثم نقول أيضًا: إنها قابلة للفناء والعدم؛ لأن كل ما قبل الحدوث فهو قابل للعدم. ومن هنا نقول: إن هذه المخلوقات ستفني ثم يحييها الله من جديد ويبعثها مرة أخرى، أما بقاء الجنة ونعيمها وأهلها ودوامهم أبد الأبد، وبقاء النار وعذابها وأهلها أبد الأبد، فإننا نقول: ليس دوامها لذاتها، وإنما
(1)
سورة الرحمن، الآيتان (26، 27).
(2)
سلسلة شرح الرسائل، (ص 52 - 53).
(3)
في الأصل: أوجدها.
(4)
في الأصل: أحدثها.
دوامها بإدامة الله سبحانه وتعالى لها. أما ما سوى الله سبحانه وتعالى فهو
قابل للحدوث والعدم"
(1)
.
الله يظلمك! [قولها لمن ظلمه]:
وهذا لا يجوز؛ لأن الله (ليس بظلام للعبيد)، بل يقول: الله ينتقم منك، الله يعاملك بما تستحق، ونحوها، وإن عفا وأصلح فأجره على الله
(2)
.
فلان جاء أسرع من فرج الله
!
قال الشيخ عبد الرحمن المحمود -وفقه الله-: "نعوذ بالله من هذه المقالة الشنيعة"
(3)
.
خير يا طير:
قال الشيخ عبد الرحمن المحمود -وفقه الله-: "ومن الأخطاء المشهورة: قول بعضهم حينما يجيب من يطرق عليه أو يتصل عليه بالهاتف ويرفع السماعة بقوله: خير يا طير. وهذه منتشرة عند كثير من الناس؛ لأن قول: خير ياطير من باب التطير، ومعلوم أن أهل الجاهلية كان عندهم التطير بالطيور، وكان التطير بها على أنواع، منها: إذا وقعت على بيته بومة تطيَّر منها، وبعضهم إذا أراد أن يسافر وجاءت الطيور عن يمينه مضى، وإذا جاءت عن يساره لم يسافر. فنقول: إن مثل هذه الكلمة مبنية على مثل هذا، فينبغي الابتعاد عنها"
(4)
.
(1)
أخطاء عقدية (ص 48 - 49).
(2)
انظر: أخطاء عقدية (ص 54).
(3)
أخطاء عقدية (ص 54).
(4)
أخطاء عقدية (ص 50 - 51).
يأكل معكم الرحمن
!
يقولها البعض إذا دعي للأكل من أناس جالسين على الطعام. وهذا خطأ"
(1)
لا يجوز في حق الله تعالى.
وجهك يقطع الرزق:
هذا اللفظ جمع بين الكذب والتشاؤم؛ لأن الرزق من عند الله سبحانه وتعالى لا يرده أحد إذا قدَّره لك؛ قال سبحانه: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}
(2)
.
وفيه التشاؤم والتطير المنهي عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الطيرة شرك"
(3)
"
(4)
لم يُخلق من يرد لي كلمة:
قال الشيخ محمد بن جميل زينو: "هي كلمة كثيرًا ما تقال في البلدان العربية على سبيل التحدي للخصوم، وفيها الكثير من الكِبْر والغرور، والأمن من مكر الله تعالى، وادعاء لعلم الغيب بأن من يرد كلمة القائل لم يُخلق بعد"
(5)
.
ورأسك - ورأس أمي وأبوي:
هذه صيغة يستخدمها بعض المسلمين للحلف، وهي توقع صاحبها في الشرك؛ لأنها من الحلف بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله
(1)
أخطاء عقدية (ص 55).
(2)
سورة يونس، الآية (107).
(3)
حديث صحيح: رواه أحمد: (1/ 389، 440)، وأبو داود (3910).
(4)
أخطاء شائعة (ص 57) بتصرف.
(5)
أخطاء شائعة (ص 66) بتصرف.
فقد أشرك"
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". متفق عليه
(2)
.
يا رب كلّ آنا .. كلّ آنا:
" كلمة يقولها البعض -لاسيما في الكويت- عندما يصاب بأذى أو مصيبة أو نحوها، فإذا تكررت عليه المصائب أو البلايا قال: يا رب كل آنا .. كل آنا، محتجًا على قضاء الله وقدره، ونظيرها: (أنا ويش سويت حتى تعمل فيّ كذا، أو ليش يا رب)، وهذا ولا شك اعتراض على قضاء الله وقدره، نسأل الله السلامة"
(3)
.
يا شمس هاك ضرس حمار وعطيني ضرس غزال
…
!
" هذه كلمة يقولها البعض، وخصوصًا الأطفال عندما يسقط سن أحدهم؛ يقف مقابلًا للشمس ممسكًا بسنه المخلوع يرميه في عين الشمس وهو يقول: يا شمس خذي ضرس حمار وعطيني ضرس الغزال!!! وهذا اعتقاد باطل وجهل فاضح؛ فإن الشمس أو القمر لا يدفعان مكروهًا، أو يجلبان نفعًا، وإنما الضار والنافع، والمعطي والمانع، هو الله سبحانه وتعالى، فالواجب على العبد المسلم أن يسأل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله
(4)
"
(5)
.
(1)
صحيح الجامع (6204).
(2)
رواه البخاري برقم (2679)، ومسلم برقم (1641)، وانظر: أخطاء شائعة، للخراز: ص 20.
(3)
أخطاء شائعة، للخراز، ص 21 - 22.
(4)
صحيح الجامع (7957)، وسبق تخريجه ص 209.
(5)
أخطاء شائعة، للخراز (ص 22).
الله ياخذك .. سمام يشيلك
…
!
" هذه دعوات يقولها بعض الآباء والأمهات لأبنائهم غافلين عن الآثار التي قد تترتب بعد هذا الدعاء ونحوه من الدعوات، فقد نهانا الرسول الكريم أن ندعو على أنفسنا أو على أولادنا، لئلا يوافق ذلك وقت إجابة، فيحل البلاء؛ عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسألُ فيها عطاءٌ فيستجيبُ لكم" رواه مسلم
(1)
، فليحذر الأمهات والآباء من الدعاء على أبنائهم، فلعل ذلك الدعاء يوافق ساعة استجابة، فيتحقق فيندم الداعي ولات حين مندم. وكم من قصة في هذا الباب: فذات يوم كان طفل يتسلق جدار سطح البيت، ويسير عليه بقدميه، وهو يظهر شجاعته وتمكنه من السير على حافة الجدران، وهذا جهل منه، والأم تقول له: يالله (تطيح) وتتكسر، أي تقع من أعلى، فسقط فمات، فندمت على دعائها، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومن أشباه تلك الدعوات:(الله يقطعك - الله يغربلك - ويعاتويعك - عساك الموت - عساك الماحي - وعلة تعلك - مشعاب ياخذك - نامت عليك طوفة - سليمي تصكك - زقوم ابطنّكْ - مالت عليك - عمى بعينك). والأفضل للداعي أن يعود نفسه دعاء الخير مثل: (الله يهديك - الله يصلحك - جزاك الله خيرًا) ونحوها"
(2)
.
(1)
رواه مسلم في الزهد برقم (3014).
(2)
أخطاء شائعة، للخراز (ص 26 - 27).
المرأة الله يعزك. أو انت بالكرامة
…
!
" وهذه كلمة يقولها البعض على سبيل التأفف من ذكر اسم المرأة، فعندما يتحدث أو يسمع اسم امرأة يقول: (الله يعزك). وهو لا يعني أنه يدعو للسامع بالعز والرفعة والتمكين، وإنما هي في مقام المخاطب عن الحيوان، فكأن قائلها إذا قال: الله يعزك مثلما يقول: اشترينا حمارًا الله يعزك أو نحوه، وهذا لا شك من أخلاق الجاهلية، ومن عاداتها السيئة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال"
(1)
، فكيف تمتهن المرأة؟! وهل كانت زوجات الأنبياء والرسل، وبنات الأنبياء والدعاة الهداة إلا نساء؟ ثم ما رأي الجهلة في أحاديث أمهات المؤمنين خديجة وعائشة، وسيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنهن؟ تالله إنها لإحدى الكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكيف تمتهن المرأة وهي أم لنا، وأخت لنا، وبنت وزوجة؟ "
(2)
.
لا جزاك الله خيرًا
…
!
كذا يقول البعض دعوةً على من يدعوه إلى شيء أو يصله بصلة، فيظهر الموصول ثناءً في غير محله، ويدعو على الواصل، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، فيقول: لا جزاك الله خيرًا! فيسقط الواو بعد (لا)، فبدلًا من أن يدعو له يدعو عليه! والصواب أن يقول: لا وجزاك الله خيرًا؛ عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعله:
(1)
صحيح الجامع (2333).
(2)
أخطاء شائعة، للخراز (ص 33 - 34).
جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء"
(1)
، وروى الخطيب البغدادي في تاريخه
(2)
عن المبرد قال: سأل المأمون يحيي بن المبارك عن شيء، فقال: لا وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، فقال: لله درك، ما وُضعت (واوٌ) قط موضعًا أحسن من موضعها في لفظك هذا، ووصله وحمله، وهذا أدب رفيع، ولباقة جميلة، فتأمل"
(3)
.
ساعة لربك وساعة لقلبك
!
" كلمة يقولها أصحاب الأهواء والمنكر، ويقصدون بها أن العبد يصلي ويعبد الله، وفي نفس الوقت يفعل ما يمليه عليه قلبه وهواه في الساعة الأخرى، وهذا لا شك فاسد ولا يجوز؛ فكل حياة المسلم ينبغي أن تكون لله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
(4)
، فإذا ما تعارض أمر الله ورغبات القلب فيجب اجتناب هذه الرغبات، وإن كانت هذه الرغبات مما أباح الله فلا بأس من تلبيتها، وهذا معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي حنظلة الأُسيدي "ولكن، يا حنظلة ساعة وساعة" رواه مسلم
(5)
؛ أي ساعة في العبادة وساعة فيما أباح الله سبحانه من أكل وشرب ولبس ونوم وترفيه، وبهذا يتبين أن تلك الكلمة تحتمل حقًا وباطلًا، وكثيرًا ما يطلقها
(1)
رواه الترمذي (2035) وقال: حسن جيد غريب.
(2)
14/ 148.
(3)
أخطاء شائعة، للخراز (ص 34 - 35).
(4)
سورة الأنعام، الآية (162).
(5)
رواه مسلم برقم (2750).
من يريد الاستمتاع بما حرم الله عليه، وهذا لا يجوز"
(1)
.
اللهم أحسن وقوفنا بين يديك [قولها بعد الإقامة]:
" سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قول: اللهم أحسن وقوفنا بين يديك، بعد الإقامة للصلاة، فأجاب: "قول: اللهم أحسن وقوفنا بين يديك، بعد الإقامة: لا أصل له"
(2)
.
الشرق الأوسط:
يقول الأستاذ محمد قطب -وفقه الله-: "كلمة: (الشرق الأوسط) كلمة دخيلة من تخطيط الأعداء من أجل تسويغ إقامة الدولة اليهودية في المنطقة؛ فإنها لو بقيت في التسمية منطقة إسلامية أو حتى عربية، فكيف تقوم فيها دولة لليهود؟! أمَّا حين تصبح منطقة جغرافية لا انتماء لها فكل شيء ممكن حينئذٍ"
(3)
.
وقال الأستاذ عيسى القدومي: "مصطلح: "الشرق الأوسط" جاء كمقدمة ضرورية للتعايش مع اليهود، ولإفساح مكان للكيان اليهودي في المنطقة العربية الإسلامية؛ وذلك للإقرار والاعتراف في أن يكون اليهود عضوًا في جسم الدول العربية والأمة الإسلامية، وجزءٌ من تلك المنطقة، مما يعطي اليهود صفات الجوار والوحدة ومشاركة القرار!!.
وأصبح ذلك المصطلح يقحم ويتكرر عشرات المرات يوميًا في وسائل
(1)
أخطاء شائعة، للخراز (ص: 40 - 41). و"نظرات في بعض الحكم والأمثال" ص (8 - 9).
(2)
البدع والمحدثات، جمع: حمود المطر، نقلًا عن (الفريد في المخالفات) للأخ أسامة العبد اللطيف (ص 8).
(3)
مذاهب فكرية معاصرة، (ص 586).
الإعلام المختلفة، بدلًا من مصطلح "الوطن العربي" أو "العالم الإسلامي" التي كانت قبل سنوات قليلة من المصطلحات الثابتة الأصيلة، حيث تنبه اليهود لعدم وجود حيزٍ لشيء اسمه "دولة إسرائيل" في تلك المصطلحات، فكان لا بد لهم من إقحام تعبير:"الشرق الأوسط" لتكييف المواطن العربي المسلم على تقبل "دولة العدوان"، وتسويق سياسة الأمر الواقع كأمر لا مفر منه بحكم الجوار ووحدة المصير والقرار!!
وتطور الأمر في استخدام مصطلح "الشرق الأوسط" ليصل إلى التراث العربي الإسلامي وليصبح تراثًا "شرق أوسطي"، وحتى المأكولات والأطباق العربية تصبح "مأكولات شرق أوسطية"، وهذا ما ورد في كثير من البرامج التي تُعرف بالتراث العربي والإسلامي في المنطقة العربية، ليترسخ ذلك المصطلح في أذهاننا، وذلك يعني تخليًا صريحًا عن الهوية العربية والإسلامية لصالح "الشرق أوسطية".
وتزداد خطورة هذا المصطلح باستخدام العديد من مراكز الدراسات العربية والإسلامية، بل والنشطاء في مقاومة التعايش مع اليهود الغاصبين، والسياسيين والاقتصاديين لهذا المصطلح، ولهذا فعلينا جميعا أن نطمس هذا المصطلح من قواميسنا، حتى لا نساهم في زيادة التمزيق في هذه الأمة، والصواب أن نطلق على هذه المنطقة:"المشرق الإسلامي"، كما سماه أهل التأريخ الإسلامي، أو:"العالم العربي"، أو:"المنطقة العربية الإسلامية"
(1)
".
(1)
مصطلحات يهودية: احذروها، (10 - 11). وانظر: كتاب "الشرق الأوسط والأمة الوسط" للدكتور توفيق الشاوي، وفيه (ص):"إن مصطلح الشرق الأوسط يتخذه بعض دعاته ومروجية وسيلة لخدمة أهداف القوى الخارجية التوسعية ومطامعها وخططها"
جهنمي:
" من الألفاظ الخاطئة المنتشرة بين الناس: قول: جهنمي لشخص بعينه دلالة على ذكائه وفطنته، أو لعمل قام به وأتقنه؛ كأن يقال: فعل فعلة جهنمية، أو قام بعمل جهنمي، وهذا خطأ ينبغي التنبه له وتركه، فقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج قوم من النار برحمة الله وشفاعة الشافعين يُقال لهم الجهنميون" رواه أحمد"
(1)
.
فهذا الاسم يصدق على بعض من يدخل الجنة بعد أن يعذبه الله في النار ما شاء أن يعذبه، فهل يرضى القائل أن يكون من هؤلاء؟!
هذا ولد شقي:
بعض الآباء والأمهات يقولون لأبنائهم حال الغضب: يا شقي، وهذا خطأ؛ لأن الشقاء هو سوء الحال والمنقلب؛ قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}
(2)
.
فالأولى أن يقال بدلها: هذا ولد مهمل -يا مهمل- هذا ولد كثير اللعب، ونحو ذلك
(3)
.
وبعضهم يصف الولد كثير الحركة بهذا الوصف، والأولى أن يقال: هذا ولد حركي، أو كثير الحركة
(4)
.
(1)
الكلمات المخالفة، لسيد عاصم علي (ص 30)، والفريد في المخالفات، للعبد اللطيف (ص 12) بتصرف يسير، والحديث أخرجه أحمد بنحوه: 3/ 134 وفي مواضع أخرى، وأصله في البخاري برقم (7450).
(2)
سورة هود، الآية (106).
(3)
أخطاء شائعة (ص 26) بتصرف يسير
(4)
الكلمات المخالفة، لسيد عاصم علي، (ص 40).
جبل الرحمة:
بعض الناس يسمي "جبل عرفة" بهذا الاسم: "جبل الرحمة".
يقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "هذه التسمية لا أعلم لها أصلًا من السنة، أي أن الجبل الذي في عرفة الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم يسمى "جبل الرحمة"، وإذا لم يكن له أصل من السنة فإنه لا ينبغي أن يطلق عليه ذلك، والذين أطلقوا عليه هذه التسمية لعلهم لاحظوا أن هذا الموقف موقف عظيم، تتبين فيه مغفرة الله ورحمته للواقفين في عرفة فسموه بهذا الاسم، والأولى ألا يُسمي بهذا الاسم، وليُقال: جبل عرفة، أو الجبل الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم، وما أشبه ذلك"
(1)
.
قول: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه)[في الدعاء]:
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "كثيرًا ما نسمع في الدعاء: اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه .. ما صحة هذا القول؟
فأجاب: هذا الدعاء الذي ذكره السائل: "اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه" دعاء محرم لا يجوز؛ وذلك لأن الدعاء يرد القضاء كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجة: "لا يرد القدر إلا الدعاء"، وأيضا كان هذا السائل يتحدى الله
…
يقول: "اقض ما شئت ولكن اللطف" والدعاء ينبغي للإنسان أن يجزم به وأن يقول: (اللهم إني أسألك أن ترحمني، اللهم إني أعوذ بك أن تعذبني)، وما أشبه ذلك، أما
(1)
دليل الأخطاء التي يقع فيها الحاج والمعتمر، للشيخ ابن عثيمين، نقلاً عن (الفريد في المخالفات) للعبد اللطيف (ص 26).
أن يقول: لا أسألك رد القضاء! فما الفائدة من الدعاء إذا كنت لا تسأله رد القضاء، والدعاء يرد القضاء؟ فقد يقضي الله القضاء ويجعل له سببًا يمنع، فالمهم أن هذا الدعاء لا يجوز ويجب على الإنسان أن يجتنبه، وأن ينصح من سمعه بألا يدعو بهذا الدعاء"
(1)
.
ألو [عند الحديث في الهاتف]:
قال الشيخ بكر أبو زيد: "ومما يُنهى عنه هنا: المبادرة من المتهاتفين بلفظ: (ألو)، ولو أفتاك الناس وأفتوك، فهي لفظة مولّدةٌ، فرنسية المولد، يأباها اللسان العربي إذ تقلّص ظلها.
وقد وُفقت الاتصالات السعودية، بمبادرة استعلامات (دليل الهاتف) بقولهم: السلام عليكم، فحصل في هذا نشر هذا للأدب الإسلامي الكريم. كما وُفق بها عدد من المسلمين الذين يسجلون في هواتفهم رسائل لمن يهاتفهم. جزى الله الجميع خيرًا، والحمد لله رب العالمين"
(2)
.
الضيق في القبر:
" هذه العبارة ليست صحيحة على الإطلاق؛ فإن القبر يضيق على الكافر، أما المؤمن فإنه يوسع له في قبره، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث المشهور الذي رواه البراء بن عازب رضي الله عنه، وهو في صحيح الجامع
(3)
.
(1)
مجلة الدعوة (العدد 1441) بتاريخ (21/ 1/ 1415 هـ) وانظر: "الدعاء" للشيخ محمد الحمد، (ص 81)، ومجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (24/ 54 - 55).
(2)
أدب الهاتف، (ص 13).
(3)
(1/ 344).
وعلى هذا فلا ينبغي للمسلم ذكر هذه العبارة التي توهم أن ضيق القبر حاصل لكل أحد، والأمر بخلاف ذلك"
(1)
.
المدينة (المنورة):
يصف البعض المدينة بـ (المنورة)، وهو وصف محدث في القرون المتأخرة لم يعرف عن السلف، والأولى تسميتها بما سماها الله به (المدينة)، أو بما سماها به رسوله صلى الله عليه وسلم (طيبة).
وقد سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم قول (المدينة المنورة)؟ وما العلة في ذلك؟
فأجاب: " (المدينة المنورة) هذا اسم حادث، ما كان معروفًا عند السلف، وهم يقولون: إنها منورة؛ لأنها استنارت بالدين الإسلامي، لأن الدين الإسلامي ينور البلاد، ولا أدري قد يكون أول من وضعها يعتقد أنها نور إلى الآن، أو أنها تنورت بوجود الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، لا ندري ما نيته، ولكن خير من هذه التسمية أن نقول: المدينة النبوية، فالمدينة النبوية أفضل من المدينة المنورة، وإن كان ليس بلازم أيضًا، لو قلت المدينة كفى، ولهذا تجد عبارات السلف: ذهب إلى المدينة، رجع إلى المدينة، سكن المدينة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "المدينة خير لهم"
(2)
، ولم يقل:(المنورة) ولا (النبوية)، لكن إذا كان لا بد من وصفها فإن النبوية خير من المنورة؛ لأن تميزها بالنبوة أخص من تميزها بالمنورة، إذ إننا إذا قلنا المنورة يعني التي استنارت بالإسلام، صار
(1)
الفريد في المخالفات، للعبد اللطيف (ص 75 - 76). ونظرات في بعض الحكم والأمثال، ص (11).
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها (رقم 1381).
ذلك شاملاً لكل بلد إسلامي؛ فهو منور بالإسلام، فإذا كان لا بد أن تصفها بشيء فصفها بالنبوية"
(1)
.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "لا يقال: المنورة؛ لأن كل بلد دخله الإسلام فهو مُنور بالإسلام، ولأن ذلك لم يكن معروفًا عند السلف، وكذلك جاء اسمها في القرآن بالمدينة فقط، لكن لو قيل: المدينة النبوية الحاجة تمييزها فلا بأس"
(2)
.
وعد إنجليزي:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "من المؤسف أن قومًا من السفهاء عندنا إذا وعدته بوعد يقول: (وعد إنجليزي أم عربي)! يعني أن الإنجليز هم الذين يوفون بالوعد، هذا بلا شك أنه سفه وغرور بهؤلاء الكفرة، الإنجليز فيهم مسلمون ومؤمنون، ولكن جملتهم من الكفار، ووفاؤهم بالوعد لا يبتغون به وجه الله، لكن يبتغون به أن يحسنوا صورتهم عند الناس ليغتر الناس بهم.
المؤمن في الحقيقة هو الذي يفي تماما، ولهذا إذا أردت أن تتأكد فقل الصاحبك: تعدني وعد مؤمن أم وعد منافق؟ هذا هو الصواب؛ فمن أوفي بالوعد فهو مؤمن، ومن أخلف الوعد كان فيه من خصال النفاق"
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوي (23/ 423 - 424).
(2)
القول المفيد (1/ 289). وقد ذكر ابو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري في كتابه (الحباء من العيبة، غب زيارتي لطيبة)(ص 37 - 42) حجج من أجاز تسميتها بالمنورة، ولا يسلم لهم ما ذكروه، فراجعه إن شئت. وانظر أيضًا:"جزء في زيارة النساء للقبور" للشيخ بكر، (ص 5).
(3)
شرح رياض الصالحين، نقلًا عن (الفريد في المخالفات)(ص 87).
مع خالص التحيات:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لا أحد يُحيّا على الإطلاق إلا الله، وأما إذا حيا إنسان إنسائا على سبيل الخصوص فلا بأس.
لو قلت مثلاً: لك تحياتي، أو لك تحياتنا، أو مع التحية، فلا بأس بذلك؛ قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
(1)
، لكن التحيات على سبيل العموم والكمال لا تكون إلا الله عز وجل"
(2)
.
يا بربري! [أو البرابرة]:
" هذه الكلمة يستخدمها البعض عندما يريد الطعن في شخص أو مجموعة بأنهم فوضيون همجيون.
قال الأستاذ عمر بن محمود أبو عمر: "لا يجوز للمسلم أن ينبز أخاه بالبربري؛ لأن البربر قبائل مسلمة، وهذا من التنابز بالألقاب، ومن أخلاق الجاهلية"
(3)
.
اغفر لي يارب ببركة فلان:
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "فضيلة الشيخ: لنا إمام مسجد يقول: إنه يجوز للإنسان أن يسأل الله ببركة فلان، كأن يقول:(اغفر لي يا رب ببركة فلان) -أي أحد الصالحين مثلًا- فهل هذا نوع من الشرك؟ علمًا بأنه في نفس الوقت لا يصرح بها شفهيًا إلا إذا سألناه، كما أن هذا الإمام
(1)
سورة النساء، الآية (86).
(2)
الشرح الممتع (3/ 203 - 204).
(3)
الجهاد والاجتهاد (ص 98).
يكتب الحجاب والبخورات للناس كطرق علاج، فهل نصلي خلفه أم لا؟ أفيدونا أفادكم الله.
فأجاب: هذا ليس من الشرك، ولكنه من وسائل الشرك، وهو: التوسل ببركة فلان، أو بحق فلان، أو جاه فلان، أو ذات فلان؛ هذا من وسائل الشرك، وليس من الشرك، بل هو بدعة عند جمهور أهل العلم؛ لأن التوسل عبادة لا بد لها من توقيف، ولا بد لها من بيان من الله عز وجل أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه بين لنا وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا وسائل العبادة، وأن المشروع أن نتوسل إلى الله في دعائنا إياه بأسمائه، كما قال سبحانه:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}
(1)
، وهكذا صفاته سبحانه وتعالى، وهكذا التوسل بالتوحيد: اللهم إني أسألك بأنني أشهد أن لا إله إلا أنت، كما جاء في الحديث.
وهكذا التوسل بالأعمال الصالحات، فيتوسل المؤمن بإيمانه بالله ورسله، ومحبته لله ورسله، ويبره بوالديه، وبأدائه الأمانة، وبعفته عن الفواحش وبمحافظته على الصلوات، إلى غير ذلك.
وفي هذا الباب قصة أهل الغار، الثابتة في الحديث الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن ثلاثة من الناس فيمن كان قبلنا، آواهم المبيت، وفي رواية المطر، إلى غار فدخلوا فيه، فانحدرت عليهم صخرة سدت عليهم الغار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(1)
سورة الأعراف، الآية (180).
فقالوا: لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم"، فقام أحدهم فسأل ربه ببره لوالديه فانفرجت الصخرة بعض الشيء، وقام الثاني وسأل الله بعفته عن الفاحشة عن الزنا فانفرجت الصخرة بعض الشيء، وقام الثالث وتوسل إلى الله بأدائه الأمانة فانفرجت الصخرة وخرجوا
(1)
. وهذا دليل على أن التوسل بالأعمال الصالحات وسيلة شرعية.
وهكذا التوسل بأسماء الله وصفاته كما تقدم، وهكذا التوسل بتوحيده والإخلاص له، أما التوسل بجاه فلان، أو ببركة فلان، أو بحق فلان، فهذا لا أصل له، ولا يجوز، بل هو من البدع، ولكن ليس من الشرك.
والصلاة خلف الإمام الذي يقول هذا صحيحة. لكن ينبغي أن يعلَّم ويوجه إلى الخير، فإن عرف الحق وامتثل وتاب إلى الله من ذلك وإلا فالواجب أن يبدل بغيره، والواجب على المسؤولين أن يلتمسوا إمامًا أصلح منه للمسجد حتى لا يغر الناس، وهكذا إذا كان يتعاطى كتابة الحجب -وهي التمائم- فهذا أيضا منكر، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقطع التمائم وقال:"من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له"
(2)
، وأخبر أنها شرك، فلا يجوز كتابة التمائم لا من العظام، ولا من الخرز، ولا من الطلاسم، ولا من غير ذلك.
واختلف العلماء فيما إذا كانت التمائم من القرآن على قولين: أحدهما: الجواز، والثاني: المنع، والصواب: المنع؛ فلا يجوز اتخاذ التمائم والحجب
(1)
الحديث متفق عليه: رواه البخاري برقم (2272)، ومسلم برقم (2743).
(2)
أخرجه أحمد: (4/ 154).
حتى ولو من القرآن في أصح قولي العلماء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التمائم وأطلق وعمم، فلا يجوز استثناء شيء من ذلك؛ لأن تعليق التمائم من القرآن وسيلة إلى تعليق غيرها فينفتح الباب ويقع الشرك، وسد الذرائع أمر معلوم من الشريعة، وأصل من أصولها، ولأن تعليقها قد يفضي إلى امتهان الآيات القرآنية فوجب منع ذلك.
وأما البخور فشيء آخر، فقد تعالج بعض الأمراض بالبخور، ولكن بعض من يدَّعي الطب قد يتظاهر بأشياء وعنده أشياء أخرى، قد يتظاهر بالتمائم أو بالبخور وهو يتعاطى خدمة الجن، وسؤال الجن، ودعوي علم الغيب بواسطة الجن، ومثل هذا خطره عظيم.
فالواجب أن ينكر على هذا، وأن يوجه إلى الخير، وأن يعلَّم حتى يستفيد، وحتى ينتبه لهذا الخطر، فإن استقام وتاب إلى الله وسار على الطريق السوي، وإلا فالواجب إبداله بغيره من أئمة المسلمين الذين عندهم العناية بأمر الله، وعندهم صلاح العقيدة، وسلامة الدين.
والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله"
(1)
.
مِسْتر [قولها للكافر]:
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "هل يجوز أن يقال للكافر: يا سيد. مثل أن يكتب بالفاتورة أو غيرها: السيد فلان، وهو يعلم أنه كافر، أو أثناء الحديث معه بالإنجليزية مثلا (مستر) فلان؟ وإذا كان لا يجوز أن يقال
(1)
"فتاوى نور على الدرب"(1/ 384 - 386).
للكافر: يا سيد، فما الدليل؟ أفيدونا أفادكم الله.
فأجاب: نعم، لا يقال للكافر: سيد، ولا للفاسق سيد؛ لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تقل للفاسق سيدًا"، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا الشيء، فلا ينبغي للمؤمن أن يقول للكافر ولا للفاسق سيدًا؛ لأن هذا وصف عظيم لا يليق بالكافر والفاسق، والسيد هو الرئيس والكبير والفقيه، فلا ينبغي أن يقال للكافر بالله أو المعروف بالمعاصي الظاهرة، لا يقال له سيد، بل يدعى باسمه المعروف: فلان، أو أبي فلان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في عبدالله بن أبيّ:"ما فعل أبو الحباب؟ ".
فإذا دعي بلقبه أو باسمه، أو قيل فلان المدعو كذا وكذا فلا بأس ويكفي هذا، أما أن يقال: السيد فلان، أو يأتي بما هو أعظم من ذلك فلا يجوز؛ لكونه فاسقًا معروفًا بالفسق، ولا حول ولا قوة إلا بالله"
(1)
.
سلم لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم
-!
قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ردًا على أحد السائلين:
ثانيًا: جاء في سؤالك عبارة: (لي رجاء إلى كل من يقرأ هذه الرسالة أن يسلم لي على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهم ونوضح لك أن تحميل الإنسان غيره السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأموات ليس مشروعًا، بل هو بدعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"
(2)
، فالواجب ترك هذا العمل وتنبيه من يقع فيه إلى
(1)
فتاوى نور على الدرب (1/ 386 - 387).
(2)
رواه النسائي بهذا اللفظ في صلاة العيدين (1578)، وأصله في مسلم برقم (867) دون لفظة (وكل ضلالة في النار).
أنه لا يجوز، ومن فضل الله علينا أن جعل سلامنا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يبلغه اينما كنا في مشارق الأرض ومغاربها، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله في الأرض ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام"
(1)
رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، وقال صلى الله عليه وسلم:"خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"
(2)
، وقال عليه الصلاة والسلام:"لا تجعلوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني أين كنتم" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة"
(3)
.
أخدمك الله أقداره:
علق الشيخ الألباني رحمه الله على قول ابن دحية الكلبي في فاتحة كتابه (أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب) عندما قال داعيًا الملك وقته: "وأخدمه أقداره" قال الشيخ: "لا تخلو هذه التركية من شيء؛ فإن هذا الطلب الأخير مع أنه من طلب ما لا يكون، وذلك من الاعتداء في الدعاء، وهو مذموم فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:(سيكون في أمتي أقوام يعتدون في الدعاء والطهور)
(4)
، فإنه على ذلك فيه طلب الاستعلاء على القدر وجعل الملك مخدومًا له، وهذا أمر ظاهرٌ بطلانه، وإنما أوقع المؤلف -
(1)
رواه أحمد 1/ 387، 441، 452، والنسائي في (المجتبي) 3/ 43 برقم (1282) وفي (عمل اليوم والليلة) ص 167 برقم (66)، (ت: فاروق حمادة).
(2)
رواه أحمد 4/ 8، وأبو داود 1/ 635، 2/ 184 برقم (1047، 1531)، والنسائي 3/ 91 برقم (1374)، وابن ماجه 1/ 345، 524 برقم (1085، 1636).
(3)
فتاوى اللجنة (16/ 28 - 30).
(4)
رواه أحمد بنحوه: (4/ 86).
غفر الله لنا وله - في هذه الخطيئة غلوه في مدح ملكه والإطراء عليه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:(المدح هو القزع) "
(1)
.
الاستعمار:
يطلق بعض الناس على فترة احتلال النصارى لكثير من بلاد المسلمين إبان سقوط الدولة العثمانية: (الاستعمار)، وهذا مخالف للواقع.
قال الشيخان ناصر العقل وناصر القفاري: "هذه التسمية غير صائبة، فالاستعمار هو العمران والإصلاح. والأولى أن يقال: الاستعباد، أو الاحتلال، أو الاغتصاب، أو التخريب، ونحو ذلك"
(2)
.
وقال الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس: "إن كلمة الاستعمار مصدر وفعله استعمرَ، وهذا المصطلح أُطلق على عهد احتلال الدول الكبرى القوية والغنية البلاد الصغرى والفقيرة والضعيفة، وفرض هيمنتها عليها وحكمها بالحديد والنار، ونهب خيراتها واستغلال ثرواتها. وقد بدأ الاستعمار منذ القرن التاسع عشر الميلادي واستمر في القرن العشرين.
والمُستعمرَةُ: هي الإقليم الذي يحكمه أجنبي مستغل. وقد وقعت البلاد العربية والإسلامية تحت حكم المستعمرين.
والدولة المستعمِرة: هي الدولة التي تفرض على المنطقة المُستعمَرة سيادتَها وتستغل خيراتها.
(1)
أداء ما وجب (ص 16) نقلاً عن مقدمة (الآيات البينات) لابن دحية، تحقيق: جمال عزون (ص 78).
(2)
الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة (ص 75)، وانظر رسالة "تسامح الغرب مع المسلمين" العبد اللطيف الحسين، (ص 91).
والدول الاستعمارية كثيرة، فمنها: بريطانيا التي قد استعمرت كثيرًا من بلاد الدنيا كالهند وباكستان والعراق والأردن وفلسطين واليمن ومصر. ومنها: فرنسا، التي استعمرت سوريا ولبنان والجزائر والمغرب وتونس وغيرها. ومنها: إيطاليا التي استعمرت ليبيا، ومنها: هولندا فقد استعمرت أندونيسيا التي تتكون من ثلاث عشرة ألف جزيرة منها ستة آلاف مأهولة بالسكان.
ولقد دخلت هذه الدول الاستعمارية هذه البلاد زاعمة أنها تريد إعمارها وتنمية مواردها واقتصادها، وتأهيل أهلها لإدارة أنفسهم.
وفي الحقيقة فإنهم احتلوا هذه البلاد لا ليعمروها، بل ليدمروها اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وأخلاقيًا، ولينهبوا خيراتها. فالأولى أن تسمى دولًا استدمارية لا استعمارية وأن يستعمل الاستدمار مكان الاستعمار.
ومن هنا شعر أهل البلاد المستعمرة بالظلم والقهر وغصب أموالهم ومصادرة حقوقهم وأراضيهم، وبناء مستعمرات يسكنها الأجانب المحتلون. فقاموا بثورات كثيرة ضد هذه الدول الاستعمارية وجيوشها التي تجثم على أرضهم وتتصرف بمقدراتهم. واستشهد عدد كبير من المجاهدين الذين قاوموا المستعمرين، واستطاعوا بعد جهاد عنيد أن يخرجوهم من كثير من الدول والبلاد.
ولقد حلت أمريكا مكان الدول الاستعمارية في بسط نفوذها على معظم دول العالم، ومنها دول العالم الثالث، والتحكم في سياستها لتحكمها في مواردها واقتصادها، وأفرزت دولة العدوان اليهودي هي والدول الغربية؛ دولة يهودية غاصبة مستعمرة"
(1)
.
(1)
نظرات إسلامية في مصطلحات وأسماء شائعة، (ص 17 - 18) بتصرف يسير، وانظر "كتب حذر منها العلماء، للشيخ مشهور سلمان، (2/ 394).
التبشير:
يطلق البعض -خطأ- هذه العبارة على عمليات التنصير التي يقوم بها النصارى في العالم.
فالصواب تسميتها بـ (التنصير) لا التبشير؛ لأن التبشير يكون بالخير غالبًا
(1)
.
صوت ملائكي:
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "هل يجوز قول: هذه المطربة أو المذيعة صوتها ملائكي؟! جزاكم الله خيرًا.
فأجاب: هذا منكر لا يجوز، وكذب لا أساس له من الصحة"
(2)
.
صلاة القيام أثابكم الله:
قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- في جوابه على من سأله عن هذه العبارة التي قال قبل صلاة القيام في الحرمين: "أما ما ذكرته مما يُفعل في الحرمين ليلة سابع وعشرين مما يشبه الخطابة من الإمام في صلاة التهجد، ونداء المنادي بقوله: صلاة القيام أثابكم الله؛ فهذا مما لا أعرف له أصلًا، ولعل رئاسة الحرمين تنظر في هذا الموضوع، مع أن عمل بعض الناس لا يصلح حجةً؛ لأنه عرضة للخطأ"
(3)
.
(1)
الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة (ص 77)
(2)
فتاوي مجلة الدعوة (3/ 79).
(3)
البيان لأخطاء بعض الكتاب (ص 261).
شيخي وملاذي:
قال الشيخ محمود أحمد عمر النشوي الأزهري في مقدمة كتابه "طراز البيقونية": "الإهداء: إلى شيخي وملاذي وأستاذي الشيخ يوسف المرصفي" فقال الشيخ علي الحلبي -حفظه الله- معلقًا على هذه العبارة: "إن أراد بـ (الملاذ) اللجوء إليه في حل مسائل العلم الشائكة؛ فنعم.
وإن أراد به معنىً آخر يريده الخرافيون، وأهل البدع؛ كالمدد والاستغاثة فلا؛ إذ "لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه" كما في صحيح البخاري، وصحيح مسلم
(1)
"
(2)
.
زرعتُ:
ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولنَّ أحدكم: زرعتُ، ولكن ليقل: حرثتُ".
قال الألباني في تخريجه: "أخرجه ابن جرير الطبري في "التفسير" (27/ 114)، والبزار (1289)، وابن حبان (5693 - الإحسان)، والطبراني في "الأوسط" (1/ 149/ 1 - الظاهرية)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 267)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (369)، والبيهقي في "السنن" (6/ 138)، وفي "شعب الإيمان" أيضًا (4/ 2801) كلهم من طريق مسلم بن أبي مسلم الجرمي: ثنا مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
(فذكره)، قال محمد: قال أبو هريرة: "ألم
(1)
رواه البخاري (247)، ومسلم (2710).
(2)
"القلائد العنبرية على المنظومة البيقونية" ومعها "طراز البيقونية" ص (135).
تسمعوا إلى قول الله عز وجل: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)}
(1)
".
قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير مسلم بن أبي مسلم الجرمي، أورده ابن حبان في "الثقات"(9/ 158)، وقال:"ثنا عنه الحسن بن سفيان وأبو يعلى، ربما أخطأ، مات سنة (240) ".
قلت: ووثقه الخطيب أيضًا في تاريخ بغداد" (13/ 100)، وذكر أنه بغدادي نزل (طرسوس) وبها كانت وفاته.
قلت: وحسَّن له الحافظ في "الفتح"
(2)
حديثًا في النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، وهو مخرج في "أحاديث بيوع الموسوعة"، ولم يعرفه الهيثمي، فقال في كل من الحديثين (4/ 98 - 99 و 120):"لم أجد من ترجمه"!!.
وقلّده في ذلك الشيخ الأعظمي في تعليقه على كشف الأستار" (2/ 86 و 96)، كما قلّده في الثاني منهما المناوي في "فيض القدير"!
وأما البيهقي فقد ضعف الحديث بقوله بعد أن روى من طريق ليث عن مجاهد قال: فذكره نحوه: "هذا من قول مجاهد، وقد روي حديث مرفوع غير قوي" ثم ساقه.
ونقله الحافظ في ترجمة مسلم هذا في "اللسان"، وقال عقبه:"قلت: ليس في إسناده من ينظر فيه غير مسلم هذا".
(1)
سورة الواقعة، الآية (64).
(2)
4/ 351.
قلت: قد عرفت أنه وثّقهُ الخطيب أيضًا، وهذا مما فات الحافظ وغيره، فلا داعي للتردد في تقويته، والله الموفق.
وقد يخطر في البال أن الحديث مخالف لأحاديث صحيحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة"
(1)
.
أخرجه الشيخان وغيرهما كما في "الصحيحة"(رقم 7).
قال الحافظ في "الفتح"
(2)
: "فيه جواز نسبة الزرع إلى الآدمي، وقد ورد في المنع منه حديث غير قوي، أخرجه ابن أبي حاتم .. " فذكره.
وأقول: قد عرفت أن الحديث قوي، فلا بد حينئذ من التوفيق بينه وبين حديث الصحيحين بوجه من وجوه التوفيق المعروفة، كان يحمل حديث الترجمة على النهي فيه للكراهة، كما قالوا في التوفيق بين أحاديث النهي عن تسمية العنب كرمًا، وبين أحاديث أخرى جاء فيها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"الخمر من هاتين الشجرتين: الكرمة والنخلة"
(3)
. وكحديث النهي عن بيع الكرم بالزبيب
(4)
.
أو يُقدَّم حديث الترجمة لأنه حاظر، والحاظر مقدم على المبيح. والله سبحانه وتعالى أعلم"
(5)
.
(1)
أخرجه الشيخان وغيرهما كما في الصحيحة رقم 7.
(2)
(5/ 4).
(3)
رواه مسلم برقم (1985).
(4)
انظر فتح الباري: 4/ 385 - 386.
(5)
السلسلة الصحيحة (2801).
اللهم تصدق عليَّ:
قال القرطبي في تفسيره
(1)
: "يُكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدق عليَّ؛ لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب، والله تعالى متفضل بالثواب بجميع النعم لا رب غيره؛ وسمع الحسن رجلاّ يقول: اللهم تصدق عليَّ، فقال الحسن: يا هذا! إن الله لا يتصدق، إنما يتصدق من يبتغي الثواب، أما سمعت قول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}
(2)
قل: اللهم أعطني وتفضل عليَّ".
هنيئًا:
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: ما قولكم فيمن يقول لمن شرب: "هنيئًا" ويدعي جواز ذلك؟ وقد يستدل بقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا}
(3)
وبقوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
(4)
.
فأجاب: ليس في الآيتين ما يدل على مشروعية ذلك في حق كل من شرب؛ أما الآية الأولى: فإن ذلك يقال لأهل الجنة إذا دخلوها، نسأل الله الجنة برحمته، وليس في الآية ما يدل على أنه يقال لهم كلما أكلوا منها أو شربوا؛ وأما آية النساء: فإنها في أمر خاص، يبين تعالى للأزواج أنه لا يحل لهم أن يأكلوا من مال المرأة إلا ما طابت نفسها به، وليس فيها أن هذا القول يقال عند كل أكل وشرب.
(1)
(9/ 255).
(2)
سورة يوسف، الآية (88).
(3)
سورة الحاقة، الآية (24).
(4)
سورة النساء، الآية (4).
إذا عرفت هذا: فاعلم أنه لم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين، ولا الأئمة أنهم كانوا يستعملون ذلك فيما بينهم، فاتخاذ ذلك عادة يخالف ما كان عليه السلف والأئمة، ولو كان مشروعًا لسبق إليه من سلف من الأئمة، فلا ينبغي أن يتخذ ذلك شعارًا في حق من شرب.
وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين، وأما قول الإنسان لمن شرب:"هنيئًا" وأن بعض الناس يستدل بقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} فلو كان في الآية دليل لذلك، لفعله السلف الصالح"
(1)
.
مهبط الوحي:
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في رده على من اعترض على جواب للشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله في نقض أبيات قصيدة "البردة" للبوصيري: "وأما قوله: إذ هي مهبط الوحي، ومنبع الإيمان.
فالجواب، أن نقول: مهبط الوحي في الحقيقة قلب رسول صلى الله عليه وسلم الله، كما قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}
(2)
، وقال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}
(3)
، فهذا محل الوحي ومستقره، وقوله: ومنبع الإيمان؛ الإيمان: ينزل به الوحي من السماء، لا ينبع من الأرض، ومحله قلوب المؤمنين.
(1)
الدرر السنية (7/ 222 - 223).
(2)
سورة الشعراء، الآيتان (193، 194).
(3)
سورة العنكبوت، الآية (49).
وهذه السور المكية التي في القرآن معلومة، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، وأكثر من في مكة المشركون، وفيها ذمهم والرد عليهم، كقوله:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ}
(1)
، وقال:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}
(2)
، وقوله:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
(3)
، ونحو هذه الآيات كما في "فصلت" و "المدثر" وغيرهما.
ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وأهل الشرك لم يزالوا بها، ومنعوا رسول الله وأصحابه من دخولها -بالوحي- وقاتلوهم ببدر، وأحد، والخندق، وهم كانوا من آخر العرب دخولًا في الإسلام، حاشا من هاجر، وكل هذا بعد نزول الوحي.
ونحن -بحمد الله- لا ننكر فضل الحرمين، بل ننكر على من أنكره، ولكن نقول: الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يقدس المرء عمله، فالمحل الفاضل قد يجتمع فيه المسلم والكافر، وأهل الحق وأهل الباطل، كما تقدم، فأهل الحق يزدادون بالعمل الصالح، في المحل الفاضل، لكثرة ثوابه؛ وأهل الباطل لا يزيدهم إلا شرًا، تعظم فيه سيئاتهم، كما قال تعالى في حرم مكة:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
(4)
.
فإذا كان هذا الوعيد في الإرادة، فعمل السوء أعظم، فالمعول على الإيمان
(1)
سورة الأنعام، الآية (66).
(2)
سورة الأنعام، الآية (26).
(3)
سورة الأنعام، الآية (33).
(4)
سورة الحج، الآية (25).
والعمل الصالح، ومحله قلب المؤمن، والناس مجزيون بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر"
(1)
.
تدخل القَدَر:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وأما: (تدخل القدر) فلا تصلح؛ لأنها تعطي أن القدر اعتدى بالتدخل، وأنه كالمتطفل على الأمر، مع أنه -أي القدر- هو الأصل، فكيف يُقال: تدخل!؟
والأصح أن يقول: ولكن نزل القضاء والقدر، أو غلب القدر، ونحو ذلك. ومثل ذلك: تدخلت عناية الله، الأولى إبدالها بكلمة: حصلت عناية الله، أو اقتضت عناية الله"
(2)
.
الملائكة معصومون:
قال الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود: "والمهدي متى قلنا بتصديق الأحاديث الواردة فيه ليس بمَلكٍ معصوم ولا نبي مرسل؛ ما هو إلا رجل عادي كأحد أفراد الناس، إلا أنه عادل يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا
…
".
فقال الشيخ حمود التويجري في رده عليه: "لم أرَ أحدًا سبقه إلى وصف الملائكة بهذه الصفة وإن كانوا معصومين عن كبائر الذنوب وصغائرها؛ لقول الله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
(3)
وقال تعالى:
(1)
الدرر السنية (11/ 179 - 180).
(2)
الجواب المختار لهداية المحتار (ص 44).
(3)
سورة التحريم، الآية (6).
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}
(1)
(2)
وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
(3)
. وإنما تقال هذه الصفة في حق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما هو معروف عند أهل العلم"
(4)
.
جبريل [التسمي بأسماء الملائكة]:
نقل الشيخ بكر (ص 94) عن ابن القيم رحمه الله كراهية التسمي بأسماء الملائكة، ومنها: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وحجة من منع هو ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تسموا بأسماء الأنبياء ولا تسموا بأسماء الملائكة" وهو حديث ضعيف.
فالأصل جواز التسمية بأسماء الملائكة كما هو في أسماء الأنبياء عليهم السلام ومن منع فعليه الإتيان بالدليل الصحيح، ولا زال المسلمون يسمون بأسمائهم؛ كتسمية كثير من الصحابة بمالك (وهو اسم خازن النار بنص القرآن)، منهم مالك بن النضر، ومالك بن الحويرث، وكذا يسمون باسم جبريل، والله أعلم.
(1)
سورة الأنبياء، الآية (20).
(2)
سورة الأنبياء، الآية (28).
(3)
سورة النحل، الآية (50).
(4)
الإحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر (ص 180).
تميمة: [تسمية النسيكة بها]:
أما تسمية النسيكة (بالعقيقة) فهو من المناهي اللفظية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن العقيقة قال: "لا يحب الله العقوق"
(1)
كراهية للاسم، وللأسف فاسم (العقيقة) منتشر أكثر من الاسم الشرعي، وهو النسيكة!
أما تسميتها (بالتميمة) فهذا مشهور في بعض البلاد -كبلادنا- ولعله مأخوذ من تمام الشيء، أي أن الله عز وجل قد أتم أمر هذا الغلام. والله أعلم.
والأولى أن تسمي (نسيكة) لا تميمة؛ لأنه الوارد في الحديث: "من ولد له ولد فأحب أن يَنْسك عنه فلينسك .. "
(2)
.
لا يرحمك الله
!
أخرج البخاري في صحيحه
(3)
قوله صلى الله عليه وسلم: "كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئبُ فذهب بابن أحدهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتخاصما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: آتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى".
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: "قوله: (لا تفعل يرحمك الله) وقع في رواية مسلم والإسماعيلي من طريق ورقاء عن أبي الزناد "لا، يرحمك الله"
(1)
صحيح أبي داود، (2467).
(2)
جزء من الحديث السابق.
(3)
برقم (3427).
قال القرطبي: ينبغي على هذه الرواية أن يقف قليلاً بعد "لا" حتى يتبين للسامع أن الذي بعده كلام مستأنف، لأنه إذا وصله بما بعده يتوهم السامع أنه دعا عليه وإنما هو دعاء له، ويزول الإبهام في مثل هذا بزيادة واو كأن يقول: لا ويرحمك الله"
(1)
.
اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين:
قال الحافظ ابن حجر في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث اللهُ مَلَكَّا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح
…
"
(2)
: "وقع في رواية مسلم من طريق أبي معاوية وغيره: "ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات" وظاهره قبل الكتابة ....... وجمع بعضهم بأن الكتابة تقع مرتين: فالكتابة الأولى في السماء، والثانية في بطن المرأة، ويحتمل أن تكون إحداهما في صحيفة، والأخرى على جبين المولود"
(3)
.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه العبارة فقال: "هذا وردت فيه آثار أنه يُكتب على الجبين ما يكون على الإنسان، لكن الآثار هذه ليست إلى ذاك في الصحة بحيث يعتقد الإنسان مدلولها، فالأحاديث الصحيحة أن الإنسان يُكتب عليه في بطن أمه أجله وعمله ورزقه وشقي أم سعيد"
(4)
.
(1)
فتح الباري (6/ 536).
(2)
أخرجه البخاري (6594)، ومسلم (2643).
(3)
فتح الباري (11/ 494).
(4)
المجموع الثمين (3/ 142).
قلت: قال ابن رجب عند شرحه للحديث السابق: "إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه
…
": "وقد ورد أن هذه الكتابة تُكتب بين عينيّ الجنين؛ ففي مسند البزار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خلق الله النَسْمة قال مَلَك الأرحام: أي رب أذكرٌ أم أنثى؟ قال: فيقضي الله إليه أمره، ثم يقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله إليه أمره، ثم يكتب مابين عينيه ما هو لاقي حتى النكبة يُنْكبها"
(1)
وقد روي موقوفًا على ابن عمر غير مرفوع، وحديث حذيفة بن أسيد المتقدم
(2)
صريح في أن الملَكَ يكتب ذلك في صحيفة، ولعله يكتب في صحيفة، ويكتب بين عيني المولد"
(3)
، والله أعلم.
أعزم عليك بكذا:
روى البخاري في صحيحه
(4)
قول عائشة رضي الله عنها لفاطمة رضي الله عنها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: قالت: إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعًا لم تُّغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي، ولا والله ما تخفي مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رآها رحَّب قال: مرحبًا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه -أو عن شماله- ثم سارَّها. فبكت بكاء شديدًا، فلما رأي
(1)
قال شعيب الأرنؤط في تخريجه: "رواه البزار (2149) وأبو يعلى (5775) وصححه ابن حبان (6178) "، وكذا صححه محقق مسند أبي يعلى (10/ 155)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 193) وقال:"رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى رجال الصحيح".
(2)
هو قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يخرج المَلَك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص رواه مسلم (2645).
(3)
جامع العلوم والحكم (1/ 167).
(4)
فتح الباري (11/ 82).
حُزنها سارَّها الثانية. فإذا هي تضحك. فقلت لها -أنا من بين نسائه-: خصَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرِّ من بيننا ثم أنتِ تبكين. فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عما سارَّك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَّه، فلما تُوفي قلت لها: عزمتُ عليك -بما لي عليك من الحق لما أخبرتني. قالت: أما الآن فنعم؛ فأخبرتني، قالت: أما حين سارَّني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كلّ سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لكِ. قالت: فبكيتُ بكائي الذي رأيت. فلما رأى جزعي سارَّني الثانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين؟ أو سيدة نساء هذه الأمة".
قال ابن حجر: "قال ابن التين: يستفاد من قول عائشة (عزمت عليك بما لي عليك من الحق) جواز العزم بغير الله"
(1)
.
أنشدك بحرمة البيت:
أخرج البخاري
(2)
بسنده: "جاء رجلٌ حجَّ البيت فرأى قومًا جلوسًا فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر. فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فرَّ يوم أحد؟ قال: نعم، قال: فتعلمه تغّيب عن بدرٍ فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلَّف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال فكبَّر. قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما
(1)
فتح الباري (11/ 83).
(2)
برقم (4066).
سألتني عنه: أما فراره يوم أحُد فأشهد أن الله عفا عنه. وأما تغيُّبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه. وأما تغيُّبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحدٌ أعزَّ ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثهُ مكانه، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمانُ إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمني: هذه يدُ عثمان، فضرب بها على يده فقال هذه لعثمان، اذهبْ بهذا الآن معك".
قال ابن حجر في شرحه: "وقوله في هذه الرواية: (أنشدك بحرمة هذا البيت) فيه جواز مثل هذا القسم عند أثر عبد الله بن عمر؛ لكونه لم يُنكر عليه"
(1)
.
قلت: الظاهر أن هذا ليس من باب الاقسام؛ لأن القسم بغير الله لا يجوز، وهو لا يخفى على ابن عمر رضي الله عنه أحد رواة حديث النهي. ولكن هذا من قبيل أن للبيت حرمةً يعظم عندها إثم الكذب، فخوفه بها
(2)
.
أنا في بركة فلان:
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "قوله: أنا في بركة فلان، أو تحت نظره، أو يا فلان مُدَّني بخاطرك.
فإن أراد أن نظره أو خاطره أو بركته مستقلة بتحصيل المنافع ودفع المضار فهو كذب وشرك، وإن أراد أن فلانًا دعا فانتفعت بدعائه، أو أنه علمني، أو أنه أدبني وأنا في بركة ما انتفعت به من تعليمه وتأديبه، فهو صحيح.
(1)
فتح الباري (7/ 431).
(2)
وانظر كلامًا لشيخ الإسلام رحمه الله حول لفظ مشابه هذا في: "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"(ص 276 - 277).
وإن أراد أنه بعد موته يجلب المنافع أو يدفع المضار فهو كذب محرم، وهو الشرك الذي حظره الله على عباده، والذي لا يغفره إلا التوبة منه"
(1)
.
فلان بسبعة أرواح:
أي أنه تُصيبه الحوادث لكن لا تُميته!
قال الشيخ عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله-: "أما قول: (فلان بسبعة أرواح) فهذا كله من الأخطاء في القول، فالموت إذا جاء لا يمنعه شيء؛ كما قال تعالى:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
(2)
(3)
.
نَجِّنَا بجاهه:
نقل الحافظ ابن حجر في كتابه: (بذل الماعون في فضل الطاعون) عن أبن الوردي أنه قال في مقامته: "النبا عن الوبا": "الله لي عدة، في كل شدة، حسبي الله وحده، أليس الله بكافٍ عبده، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وسَلِّم، ونجنا بجاهه من طغيان الطاعون وسَلِّم
…
".
فقال المحقق الأستاذ أحمد عصام الكاتب: "التوسل بجاه أي أحد، ملكًا كان أو رسولًا أو وليًا لا يجوز بوجه من الوجوه، إنما يكون التوسل المشروع بأسماء الله وصفاته والعمل الصالح، كما فعل أصحاب الغار؛ فقد توسلوا بصالح أعمالهم حتى فرَّج الله عنهم ما هم فيه، وقد أشبع هذا الموضوع شيخ
(1)
المستدرك على مجموع الفتاوي (1/ 23) جمع الشيخ محمد بن قاسم رحمه الله.
(2)
سورة المنافقون، الآية (11).
(3)
مجلة الدعوة (العدد 1643)، عن (الفريد في المخالفات) للعبد اللطيف (ص 7).
الإسلام ابن تيمية في كتابه: (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) والشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه: (التوسل أنواعه وأحكامه) "
(1)
.
الصبور [من أسماء الله]:
قال الإمام قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني في كتابه: "الحجة في بيان المحجة"
(2)
: "قال بعض أهل النظر: لا يوصف الله بالصبر، ولا يقال: صبور، وقال: الصبر تحمل الشيء. ولا وجه لإنكار هذا الاسم، لأن الحديث قد ورد به، ولولا التوقيف لم نقُله. وقال بعض علماء أهل السنة: معنى الصبور: أنه لا يُعاجل بالعقوبة".
قلت: الحديث الذي ورد فيه اسم "الصبور" هو ما أخرجه الترمذي بسنده عن أبي هريرة عنه رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم .... " إلى آخر الحديث في عد أسمائه تعالى، ومنها: الصبور.
والعلماء المحققون على تضعيف ذكر الأسماء فيه، وأنها مدرجة من بعض رواته. قال شيخ الإسلام رحمه الله:"إن التسعة والتسعين اسمًا لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة، وحفاظ الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث"
(3)
.
(1)
بذل الماعون لابن حجر (ص 371).
(2)
(2/ 456).
(3)
مجموع الفتاوي (22/ 482) وقد ورد وصف الله تعالى بالصبر في الحديث المتفق عليه من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أحد أصبر على أذى =
جمعنا الله في مستقر رحمته:
نقل الشيخ بكر (ص 633) عن ابن القيم رحمه الله تجويزه هذه العبارة.
أما الشيخ الألباني رحمه الله فاختار علم الجواز؛ لأثر أبي رجاء في الأدب المفرد الذي نقله الشيخ بكر، قال تعليقًا عليه: "وهذا الأثر عنه يدل على فضله وعلمه، ودقة ملاحظته؛ فإن الجنة لا يمكن أن تكون مستقر رحمته تعالى؛ لأنها صفة من صفاته، بخلاف الجنة فإنها خلق من خلق الله، وإن كان استقرار المؤمنين فيها إنما هو برحمته تعالى، كما في قوله عز وجل:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
(1)
يعني الجنة"
(2)
.
اللهم لا تؤمني-تؤمنا- مكرك:
ذكر الشيخ بكر خلاف السلف في هذه اللفظة عن ابن القيم رحمه الله وقد فصَّل القول فيها شيخه ابن تيمية رحمه الله فقال: "وقول القائل: "اللهم أمنا مكرك ولا تؤمِّنا مكرك" له معنيان: أحدهما صحيح، والآخر فاسد. فإن أراد لا تؤمنا مكرك: أي لا تجعلنا نأمنه؛ بل اجعلنا نخافه، فالمؤمن يخاف مكر الله؛ ومكر الله أن يعاقبه على سيئاته. والكافر لا يخشى الله فلا يخاف مكره، ومكره أن يعاقبه على الذنب لكن من حيث لا يشعر.
= يسمعه من الله عز وجل؛ إنه يُشْرَك به ويجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم". رواه البخاري برقم (6099)، ومسلم برقم (2804)، واللفظ له. (الناشر).
(1)
سورة آل عمران، الآية (107).
(2)
صحيح الأدب المفرد للألباني (ص 286 - 287).
وقوله: "أمنا مكرك" يريد قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ}
(1)
يجعل له أن يمكر بهم وإن كانوا يخافون المكر، فيكون حقيقة قوله:"أمنا مكرك" إئجرني على حسناتي، ولا تعاقبني بذنب غيري:{فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}
(2)
.
فأما المعنى الفاسد فأن يريد: اللهم أمنا من مكرك، أي: لا نخافك أن تمكر بنا. وقد يريد: لا تؤمنا مكرك: أي لا تجعل لنا أما من العذاب"
(3)
.
الفرد:
قال الشيخ بكر: "تسمية الله باسم الفرد لا أصل لها، والله أعلم. ولهذا غلَّط العلماء الصنعاني رحمه الله لما قال
(4)
:
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
…
كما يهتف المضطر بالصَمَد الفرد"
(5)
قلت: نقل البيهقي عدَّ هذا الاسم (الفرد) من أسماء الله الحسنى عن الحليمي، قال:"قال الحليمي: ومنها الفرد؛ لأن معناه المنفرد بالقدم والإبداع والتدبير"
(6)
ثم روي بسنده حديثًا مرفوعًا جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أنك فرد صمد، لم تلد ولم تولد
…
" الحديث، ولكنه حديث واهٍ بالمرة، من طريق الكلبي الوضاع؛ ولذا قال البيهقي عنه: "ليس هذا بالقوي"
(7)
.
(1)
سورة الأنعام، الآية (82).
(2)
سورة طه، الآية (112).
(3)
المستدرك على مجموع الفتاوي (1/ 28 - 29)، جمع: الشيخ محمد بن قاسم رحمه الله.
(4)
في قصيدته المشهورة في مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما في ديوانه (ص 168).
(5)
معجم المناهي (ص 125).
(6)
الأسماء والصفات (ص 116).
(7)
المرجع السابق (ص 117). وانظر: "معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى" =
وقد دُكر اسم الفرد) -أيضًا- في إحدى روايات حديث الوليد بن مسلم في تعداد الأسماء الحسني عند أبي نعيم
(1)
، وسرْدُ الأسماء الحسني بعد حديث: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا
…
" مدرج كما بيَّن ذلك العلماء"
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن التسعة والتسعين اسمًا لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر ما عند الناس فيه حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة. وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث"
(3)
.
فلا يجوز بعد هذا تسمية الله عز وجل بالفرد لضعف الأحاديث الواردة.
ويجوز إطلاق ذلك عليه تعالى على سبيل الإخبار؛ لأن معناه ثابت لله عز وجل وهو أنه منفرد بالإبداع والتدبير.
ولهذا فقد استعمله ابن القيم رحمه الله في حق الله في قوله عنه تعالى: "هو الملك لا شريك له، الفرد فلان له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له ولا صاحبة له .... الخ"
(4)
.
= للتميمي (ص 236) ..
(1)
انظر: جزء فيه طرق حديث "إن لله تسعة وتسعين اسمًا" لأبي نعيم، تحقيق الشيخ مشهور سلمان.
(2)
انظر: "معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى" للدكتور محمد بن خليفة التميمي (ص 89 وما بعدها) حيث نقل أقوال العلماء في هذا.
(3)
مجموع الفتاوي (22/ 482).
(4)
صحيح الوابل الصيب (ص 122) وقد تعقبه الشيخ سليم الهلالي دون تفريق بين التسمية والإخبار، الذي لا يخفى على مثل ابن القيم رحمه الله.
بوجه الله:
قال الشيخ بكر (ص 183): "وحاصل السؤال بوجه الله يتلخص في أربعة أوجه:
1 -
سؤال الله بوجهه أمرًا دينيًا أو أخرويًا، وهذا صحيح
(1)
.
2 -
سؤال الله بوجهه أمرًا دنيويًا، وهذا غير جائز.
3 -
سؤال غير الله بوجه الله أمرًا دنيويًا، وهو غير جائز.
4 -
سؤال غير الله بوجه الله أمرًا دينيًا".
ولم يبين الشيخ حكم هذا الأخير. ولعله الجواز والله أعلم.
ويشهد له ما رواه ابن عساكر بسنده: أن يزيد بن المهلب لما ولي خراسان قال: دلوني على رجل كل خصال الخير، فدل على أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري، فلما جاءه رآه رجلًا فائقًا، فلما كلمه رأي مَخْبَرَتَه أفضل من مرآته، قال: إني وليتك كذا وكذا من عملي، فاستعفاه فأبى أن يعفيه، فقال: أيها الأمير! ألا أخبرك بشيء حدثني أبي أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هاته، قال: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من تولى عملًا وهو يعلم أنه ليس لذلك العمل أهل فليتبوأ مقعده من النار"، قال: وأنا أشهد أيها الأمير! أني لست بأهل لما دعوتني إليه، فقال له يزيد: ما زدت إلا أن حرضتني على نفسك ورغبتنا فيك، فاخرج إلى عهدك فإني غير معفيك، ثم فخرج (كذا الأصل ولعل الصواب: فخرج ثم) أقام فيه ما شاء الله أن يقيم، واستأذنه
(1)
انظر: "مقالات الألباني"(ص 128 - 129).
بالقدوم عليه، فأذن له، فقال: أيها الأمير! ألا أحدثك بشيء حدثني أبي أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال هاته، قال:"ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هُجرًا"، قال: وأنا أسألك بوجه الله إلا ما أعفيتني أيها الأمير من عملك. فأعفاه".
قال الألباني: "قلت: وهذا إسناد حسن"
(1)
.
ويشهد له أيضًا ما رواه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: والله يا رسول الله ما أتيتك حتى حلفتُ عدد هؤلاء -وجمع بين أصابع يديه- أن لا آتيك ولا آتي دينك، وقد جئتك امرءًا لا أعقلُ شيئًا إلا ما علَّمني الله ورسوله، وإني أسألك بوجه الله بما بعثك إلينا ربنا عز وجل؟ قال:"بالإسلام"، قلت: وما آيةُ الإسلام، قال: "أن تقول: أسلمت وجهي لله، وتخلَّيت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة
…
" الحديث
(2)
.
والشاهد منه أنه صلى الله عليه وسلم لم يُنكر عليه سؤاله بوجه الله في هذا الأمر الديني. والله أعلم.
إذا وُجدت المصلحة فَثَمَّ شرع الله:
هذه الكلمة أولع بها (العصرانيون) في زماننا من أتباع ما يسمى: التيار الإسلامي المستنير! يوردونها في مقام التنصل من النصوص الشرعية بدعوي
(1)
السلسلة الصحيحة (ح 2290). و"هُجرًا" أي: أمرًا قبيحًا لا يليق.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 4 و 5) وحسَّن إسناده شعيب الأرنؤط في تعليقه على "شرح مشكل الآثار" للطحاوي (10/ 356).
متابعة المصلحة. وينسبون فهمهم هذا إلى ابن القيم رحمه الله!
(1)
قال الشيخ عبد الله بن يابس رحمه الله في رده على محمود شلتوت: "قال في صفحة 475: (وإذا وجدت المصلحة فثم شرع الله).
والجواب من وجوه: الأول: أن شرع الله معلوم معروف؛ أنزله في كتابه وبيَّنه رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل به، لا يبحث عنه في أمكنة المصالح وإنما يبحث عنه في الآيات القرآنية والسنة النبوية.
الوجه الثاني: لو كان شرع الله عند المصلحة كما يزعم شيخ الأزهر فمصلحة من تكون يا ترى؟ فقد تكون المصالح متعارضة متضادة، فمصلحة قوم ضد مصلحة الآخرين، وقد قيل "مصائب قوم عند قوم فوائد" فهل كل ذلك شرع الله عند المصالح المتعارضة؟!
الوجه الثالث: قد يقول الزاني والزانية إن في زناهما مصلحة لهما ويقرهما الطبيب على ذلك! بل ويأمرهما به! فهل ثم شرع الله يا شيخ الأزهر؟ وقد يقول اللائطان: إن في عملهما مصلحة لهما! فهل يقال: إن ثم شرع الله؟! وقد يقول المرابيان: بأن رباهما مصلحة لهما! فهل ثم شرع الله؟! وقد ترى بعض الحكومات أن في أخذ أموال بعض الناس مصلحة لها! فهل ثم شرع الله؟!
الوجه الرابع: قد يقول الشيخ شلتوت: إني أريد المصلحة التي لا
(1)
انظر رد هذا الفهم المغلوط في رسالة "الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية" للدكتور عابد السفياني، (ص 520 - 541).
تعارض الدين، فيقال له: وهل فرط الله في الكتاب من شيء؟ وهل ترك عباده هملًا يتخبطون؟ فيرى من نكس الله عقولهم الشر مصلحة فيدعون أن ذلك من الدين، أليس شرع الله ضامنًا لجميع المصالح حائزًا عليها؟ ولقد قال عليه الصلاة والسلام:"لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعي رجال دماء أناس وأموالهم، ولكن البينة على المدَّعي واليمين على من أنكر" وقد ذكر الله في كتابه العزيز أنه خلق الإنسان ظلومًا جهولًا، وأنه لا عصمة الأحد إلا للأنبياء فيما يبلغون عن الله، فكيف يوثق بعقول بعض الناس وتُجعل أفكارهم شريعة؟
الوجه الخامس: أن تلك القواعد التي قعَّدها بعض العلماء وأنكرها بعضهم لا يصح أن تجعل هي دين الله، وذلك كالقياس والمصالح المرسلة والاستحسان وغير ذلك مما جعل قواعد يشرع بها. وفي كتاب الله وسنة رسوله غنية، ففيهما العام والمطلق، وفيهما من الفوائد والأسرار ما يكفي لمن أراد اتباعهما، فهما مضيئان لمن أراد الاهتداء بهما:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}
(1)
والله الهادي إلى سواء السبيل"
(2)
.
(1)
سورة الشورى، الآيتان (52، 53).
(2)
إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام (ص 245 - 247).
كلمة ابن عقيل:
هذه الكلمة من هذا الفقيه الحنبلي -كما سيأتي- استغلها دعاة العصرنة في زماننا هذا وبنوا عليها بروجًا مشيدة من الأقوال والأفعال المخالفة للشريعة، بدعوى أنها مما يحقق المصلحة، ولم يبالوا بمخالفة ذلك للنصوص الشرعية
(1)
.
قال الشيخ عبد الله البسام في رده على سمير شما: "نقل الأستاذ عن شيخ الجامع الأزهر جملة عن ابن عقيل أسفت للتصرف فيها؛ حيث بترت عن المعنى الذي يخفف مرارتها ويهون بشاعتها، وأمانة البحث والعلم تقتضي التقصي والتحري، وكلام ابن عقيل الذي نقله ابن القيم في الجزء الرابع من (إعلام الموقعين) ص (372) في أثناء مناظرته مع فقيه هكذا:(قال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يُشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به الوحي، فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع: أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة).
من هذا نفهم أن ابن عقيل أراد أننا إذا لم نجد في (الوحيين) نصًا في الحكم رجعنا إلى الأصول الأخرى للشريعة، وهي التي توافق:(ما نطق به الشرع)، على ما في كلام ابن عقيل من الجراءة والخشونة في التعبير الإرادة
(1)
انظر على سبيل المثال: "الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية" لمحمد عمارة، (ص 55 - 56). و "حوار لا مواجهة" لأحمد أبو المجد، (ص 266)، و "الوضع القانوني المعاصر .. " للمستشار طارق البشري، (ص 108)، و "الحق في التعبير" لمحمد سليم العوا، (ص 67).
هذا المعنى، ولكنه في مقام مناظرة، وعلى ما عرف عنه -عفا الله عنه- من ميل إلى كتب أهل الكلام الذين عطلوا النصوص استنادًا إلى العقل الذي غلوا فيه، فحرفوا لأجله ما كبر على مداركهم من النصوص، ولذا فإن المحقق ابن القيم لم ينقل عن ابن عقيل هذا من باب التقرير والرضا، وإنما عقب عليه بقوله: "قلت: هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور والفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل، وعطلوها -مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق- ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة، والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء، فأحدثوا لهم قوانين سياسية تنتظم بها مصالح العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه.
وأفرط فيه طائفة أخرى فشرعت فيه ما يناقض حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط -وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض- فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم
يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بين ما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي الطرق استخرج به الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها" اهـ كلامه رحمه الله.
نقلت هذا الفصل القيم من كلام هذا الإمام العلامة ليُرى الحق وأنواره في مطاوي كتب أسلافنا، فلا يصدنا عنه ويحجب أبصارنا أفكار مظلمة، ولتفهم الشريعة الإسلامية بهذه النفس الفسيحة واللفظ البعيد والفراسة الصائبة، لا بتلك المواد الجافة الواقفة، فهناك (سياسة شرعية) لا تحيط بها المجلة والقوانين، ولا تستوعبها بطون الكتب، وإنما مقرها الفكر الواعي والنفس المتفقهة والاجتهاد الصائب، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"
(1)
.
رفيق [للكافر]:
يطلق البعض على الكافر وصف (رفيق)، ويناديه بيا صديق. وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم هذا فقال: "وأما قول: صديق، رفيق ونحوهما؛ فإن كانت كلمة عابرة يُقصد بها نداء من جهل أسمه منهم فهذا لا بأس به، وإن قصد بها معناها توددًا وتقربًا منهم فقد قال الله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}
(2)
فكل كلمات
(1)
تقنين الشريعة: أضراره ومفاسده (ص 6 - 7). وانظر: "الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين" للدكتور سعيد الزهراني، (ص 287 وما بعدها).
(2)
سورة المجادلة، الآية (22).
التلطف التي يُقصد بها الموادة لا يجوز للمؤمن أن يخاطب بها أحدًا من الكفاره"
(1)
.
أوجد الله كذا وكذا:
نقل الشيخ بكر (ص 166) كراهية هذا اللفظ عن ابن القيم رحمه الله وأن الأولى أن يقول خلق، ولم يذكر على الكراهة دليلًا.
ولهذا قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله لما سئل عن هذا اللفظ: "أوجد وخلق ليس بينهما فرق، فلو قال: أوجد الله كذا كانت بمعني خلق الله كذا"
(2)
.
العصمة لله:
قال الشيخ بكر (ص 392 - 393): "هذا تعبير لا يجوز في حق الله تعالى؛ إذ العصمة لا بد لها من عاصم، فليتنبه".
ثم ذكر في الهامش أن الشيخ الألباني كان يستعمل هذا التعبير في بعض كتبه (كما في الصحيحة برقم 1623 و 1073)"فأُنكرت عليه".
قلت: ممن أنكرها عليه أبو غدة في رسالته: "كلمات في كشف أباطيل وافتراءات" وفي مقاله (تعبيرات خاطئة)
(3)
مع آخرين من العلماء والمصنفين استخدموا هذه العبارة، وهو قوله: "لا يجوز أن يقال في الله تعالى: (معصوم) أو (له العصمة) أو (لا عصمة إلا الله لرسوله)، ونحو هذه التعابير الخاطئة في جنب الله تعالى؛ فإن (العصمة) إنما يوصف بها من يمكن
(1)
مجموع الفتاوي (3/ 113 - 114).
(2)
مجموع الفتاوي (3/ 143).
(3)
مجلة الأمة القطرية (عدد 23).
أن يتأتي منه الخطأ أو المخالفة لولا أن الله منّ عليه بها فيما عصمه منه.
فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوصف بأنه (معصوم) أو (له العصمة) لأنه في حقيقته بشر يمكن أن يقع منه الخطأ أو المخالفة بمقتضى البشرية التي خلقه الله عليها، إلا أن الله سبحانه قد أحاطه بحفظه، وخصَّه بعنايته ووقايته، حفظًا ورعايةً لذات النبي الكريم، وسلامةً وصيانةً لشرعه ودينه من الالتباس والاشتباه.
فالعصمة هي حفظ الله تعالى لأنبيائه ورسله الكرام -عليهم الصلاة والسلام- من الخطأ والزلل فيما يبلغونه عن الله تعالى من الشريعة والأحكام، وحفظ ذواتهم وأشخاصهم من أن يميلوا إلى المخالفة والمعصية
…
قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه: (مفردات القرآن)، في مادة (عصم): "عصمة الله تعالى الأنبياء: حفظه إياهم أولًا بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية، ثم بالنصرة وبتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم، وبحفظ قلوبهم، وبالتوفيق؛ قال الله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}
(1)
انتهى.
وقال العلامة الشوكاني
(2)
: "واختلفوا في معنى العصمة؛ فقيل: هو أن لا يمكن المعصوم من الإتيان بالمعصية، وقيل: هو أن يختص في نفسه أو بدنه
(1)
سورة المائدة، الآية (67).
(2)
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، مبحث (عصمة الأنبياء)، ص 32.
بخاصية تقتضي امتناع إقدامه عليها، وقيل: إنها القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية، وقيل: إن الله منعهم منها بإلطافه بهم، فصرف دواعيهم عنها، وقيل: إنها تهيئة العبد للموافقة مطلقًا، وذلك يرجع إلى خلق القدرة على كل طاعة" انتهي.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}
(1)
ما يلي:
"يخبر الله تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليّه وحافظه وناصره ومؤيده، ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها. صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين"
(2)
. انتهى
ومن هذا يتبين أن (العصمة) إنما تكون من الله لأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ يعصمهم الله ويحفظهم من الوقوع في المعصية والذنب، ويقيهم الأذى والزلل، فالله تعالى هو العاصم، والمعصوم هم الرسل والأنبياء، والمعصوم منه هو ما لا يليق شرعًا بمكانة المعصوم.
وبهذا يتضح لك أن (العصمة) لا تقع على الله، وإنما تقع من الله على من عصمه من عباده، وأن الله (عاصم) وليس (بمعصوم)، فإذا قال قائل:
(1)
سورة الإسراء، الآيتان (73 - 74).
(2)
تفسير القرآن العظيم: (4/ 331).
(الله العصمة) أو (الله المعصوم) أو (لا عصمة إلا لله)، فقد وصف الله بما لا يجوز وصفه به.
ويقال لقائل هذه الألفاظ: (العصمة لله) وأمثالها: من يعصم الله سبحانه؟! ومم يُعصم سبحانه؟! وما الذي كان يمكن أن يقع منه سبحانه حتى عُصم منه؟!
ومن هذا الذي أسلفته تتجلى لك شناعة هذا التعبير، وفحش خطئه، وشدة محظوريته، وأنه لا يليق بالله تعالى، ولا يفيد تعظيمًا له ولا تبجيلًا". انتهى كلام أبو غدة.
لكن: سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه العبارة فقال: "هذه العبارة قد يقولها من يقولها يريد بذلك أن كلام الله عز وجل وحكمه كله صواب، وليس فيه خطأ، وهي بهذا المعنى صحيحة، لكن لفظها مستنكر ومستكره؛ لأنه كما قال السائل قد يوحي بأن هناك عاصمًا عصم الله عز وجل والله سبحانه وتعالى هو الخالق، وما سواه مخلوق، فالأولى أن لا يُعبر الإنسان بمثل هذا التعبير، بل يقول: الصواب في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
قلت: ولعله لأجل هذا المعنى الصحيح استعملها سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في مجموع فتاواه
(2)
.
شورك وهداية الله:
" هذا المثل يقوله البعض عندما يشير عليهم أحد بمشورة ما ويقتنع بها،
(1)
المجموع الثمين (3/ 141 - 142).
(2)
(12/ 108).
وهذه العبارة قد تحمل على محمل سيئ؛ وهو التسوية بين هداية الله ومشورة المخلوق؛ لأن هداية الله عطفت على المشورة بالواو. وفي مثل هذه الحالة يجب أن يقول: شورك بعد هداية الله، أو هداية الله ثم شورك، والله أعلم"
(1)
.
نوم الظالم عبادة:
لأنه يكف شره عن الناس أثناء نومه، ولكنه لا يكون عبادة في حقه إلا أن يقصد منع نفسه عن الظلم، وهذا مما يندر
(2)
.
حج فرضك واقضب أرضك:
أي أن فريضة الحج التي عليك ثم لا تبارح أرضك إلى الحج بعد ذلك .. !
وهذه نصيحة غريبة؛ إذ إنه من المعلوم أن حج النافلة من أفضل الطاعات وأحسن القربات إلى الله تعالى؛ حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"
(3)
، ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام:"من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"
(4)
"
(5)
.
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "بعض الشباب تتوق أنفسهم للحج خاصة في مجال الدعوة والتوجيه لإرشاد الحجاج، لكن يخذهم بعض
(1)
نظرات في بعض الحكم والأمثال، (ص 12) بتصرف يسير.
(2)
نظرات في بعض الحكم والأمثال، (ص 12 - 13) بتصرف يسير.
(3)
أخرجه البخاري برقم (1773)، ومسلم برقم (1349).
(4)
أخرجه البخاري بنحوه، برقم (1820)، ومسلم بنحوه أيضًا برقم (1350).
(5)
نظرات في بعض الحكم والأمثال (ص 13).
الناس وبعض العوام يقولون: "من حج فرضه يقضب أرضه" أو "اترك المجال لغيرك" فما رأي سماحتكم؟
فأجاب: الأفضل لمن استطاع الحج أن يحج؛ لعموم الأحاديث الدالة على فضل الحج، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فإذا كان الحاج من العلماء الذين يدعون إلى الله سبحانه ويفقهون الناس في دينهم وفي مناسك حجهم كان ذلك أفضل وأعظم أجرًا"
(1)
.
الشتاء عدو الدين:
يقال هذا المثل -من بعض الجهلة- لكون البرد في الشتاء يعوق بعض الناس عن بعض العبادات أو عن إتمامها؛ كالوضوء والصلاة وغيرها، حيث إن الماء يكون باردًا والجو باردًا، فيحصل بعض المشقة.
وما علم هؤلاء أن المشقة الحاصلة بسبب البرد ونحوه من الأمور التي يكتب للعبد بها عمل صالح، مع ما يحصل من تكفير السيئات كما في الحديث:"ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كُفِّر به من سيئاته"
(2)
.
فعلى المسلم أن يحتسب عند الله كل ما يصيبه من ذلك، وأن يجتنب القول بأن "الشتاء عدو الدين" لأن هذا القول يدل على التضايق من العبادة في وقت الشتاء للمشقة الحاصلة.
(1)
مجلة البحوث الإسلامية (العدد 62، ص 68). وانظر: "أسئلة وأجوبة عن ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة" للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (2/ 23).
(2)
أخرجه مسلم برقم (2573).
كما أن في هذا القول نوع من سب الدهر الذي قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"
(1)
"
(2)
.
شر وعيش مر:
قد تقال هذه العبارة -لوصف حالة الإنسان وتوضيح ما يمر به من ضائقة في العيش- على سبيل التسخط.
وهذا يدل على ضعف الإيمان لدى قائلها؛ إذ لو كان متفهمًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"
(3)
لما صدرت منه هذه العبارة، بل عليه أن يتذكر نعم الله العديدة عليه .. وأن يصبر على كل ما أصابه امتثالًا لقول الله تعالى:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
(4)
"
(5)
.
الآخرة مستأخرة:
" أي أن يوم القيامة بعيد فلا تحمل همه .. وهذا من التسويف ومن وساوس الشيطان، ونرجو أن لا يكون قائل هذا المثل ممن قال الله فيهم:{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا}
(6)
.
(1)
رواه مسلم برقم (2246).
(2)
نظرات في بعض الحكم والأمثال (ص 14 - 15).
(3)
أخرجه مسلم برقم (2999).
(4)
سورة لقمان، الآية (17).
(5)
نظرات في بعض الحكم والأمثال (ص 9).
(6)
سورة المعارج، الآيتان (6، 7).
ولو كانت الآخرة بعيدة فإن قيامة الإنسان قريبة وهي موته .. والموت من الأمور التي لا يدري أحد متى وقوعها إلا الله عز وجل؛ قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
(1)
"
(2)
.
تعلم السحر ولا تعمل به:
" وأصله حديث لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن السحر محرم، بل إن الساحر كافر بالله ورسوله؛ قال الله تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}
(3)
.
فلذلك لا يجوز لمسلم أن يتعلم السحر؛ لأن نفس تعلم السحر كفر بنص الآية السابقة.
وبهذه المناسبة أحب التنبيه على وجوب الحذر من العمل بالأحاديث الضعيفة، ومن رواية الأحاديث الموضوعة إلا مع بيان أنها كذب حتى لا يُغتر بها"
(4)
.
منا بوكيل [ما أنا بوكيل] آدم على ذريته:
" عندما تنصح أحدًا بأن يقوم بواجبه بالنصح وبالأمر بالمعروف والنهي
(1)
سورة لقمان، الآية (34).
(2)
نظرات في بعض الحكم والأمثال (ص 10).
(3)
سورة البقرة، الآية (102).
(4)
نظرات في بعض الحكم والأمثال (ص 16 - 17).
عن المنكر فإنه قد يبادرك بقوله هذه العبارة التي تعني: لست وكيل آدم علي ذريته لكي أنصحهم وأوجههم .. !
لكنه نسي أو تناسى أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأثنى عليهم بذلك؛ قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}
(1)
(2)
وقول رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام: "الدين النصيحة"
(3)
وقوله: "بلغوا عني ولو آية"
(4)
.
فعند قيام المسلم بواجبه في النصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس معنى ذلك أنه وكيل لآدم عليه الصلاة والسلام على ذريته، بل هو العبد المأمور من ربه، وهو بدعوته ونصيحته يحسن إلى إخوانه أعظم إحسان"
(5)
.
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "بعض الناس عندما تطلب منه مساعدة لأحد أو نحو ذلك يقول: وهل أنا وكيل آدم على ذريته؟ وسؤالي يا سماحة الوالد: هل في مثل هذا حرج من الناحية الشرعية؟ نرجو التكرم بالتوضيح، جزاكم الله خيرًا.
(1)
سورة آل عمران، الآية (104).
(2)
سورة آل عمران، الآية (110).
(3)
أخرجه مسلم برقم (55).
(4)
أخرجه البخاري برقم (3461).
(5)
نظرات في بعض الحكم والأمثال (ص 17 - 18).
فأجاب رحمه الله: "هذه العبارة لا وجه لها، ولا ينبغي أن يجاب بها أحد، وإنما المشروع للمسلم أن ينفق مما أعطاه الله ولو قليلًا؛ لقول الله عز وجل:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}
(1)
(2)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة"
(3)
. وقال عليه الصلاة والسلام: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا تقبله الله بيمينه فيربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل"
(4)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فيشرع لكل مؤمن الإكثار من الصدقة ولو بالقليل حتى يجد ثوابها عند ربه أحوج ما يكون إليه، والله ولي التوفيق"
(5)
.
القحم ما عنه غطا:
" أي أن الرجل الكبير في العمر ليس على المرأة أن تتحجب عنه؛ بناء على اعتقاد أن الكبير لا رغبة له في النساء.
(1)
سورة الحديد، الآية (7).
(2)
سورة التغابن، الآية (16).
(3)
متفق عليه: رواه البخاري برقم (6563)، ومسلم برقم (1016).
(4)
متفق عليه: رواه البخاري برقم (1410)، ومسلم بنحوه رقم (1014).
(5)
المجلة العربية، (عدد شوال 1422 هـ).
وهذا ليس بصحيح، فالرجل ما دام عقله وبصره معه فالغالب أن ميله للنساء موجود، أما إذا كان مخرفًا (أي مختلط العقل) أو أعمى فلا يخفى أن السبب الموجب للاحتجاب عنه مفقود فيه.
وعلى هذا فيجب على المسلمة أن تتحجب عند الرجال الأجانب بغض النظر عن أعمارهم؛ فالمسلمة تتحجب عند الشيخ الكبير، وعند الشاب، ما داموا ليسوا محارم لها؛ قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
(1)
"
(2)
.
الصلاة على أهل الغلات ما هيب على أهل العجيلات:
" ومعنى هذا المثل: أن الصلاة تجب على أهل الأموال والغلات، ولا تجب على الفقراء أصحاب العجيلات (العجيلات: صغار البقر).
وهذا قول باطل، بل اعتقاده كفر، ولا يصدر التكلم به إلا عن جاهل.
فليس صحيحًا أن الصلاة تجب على مسلم دون آخر، بل تجب على كل مكلف، وليس صوابًا أن الصلاة عمل يؤديه المسلم مقابل ما يرزقه الله ومقابل نعم الله عليه، بل الصلاة أمر قد فرضه الله على كل مسلم ومسلمة؛ فرضًا لا يسعهم تركه، وركنًا من أركان هذا الدين العظيم؛ قال الله عز وجل:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
(3)
(1)
سورة الأحزاب، الآية (59).
(2)
نظرات في بعض الحكم والأمثال (ص 19).
(3)
سورة النساء، الآية (103).
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
(1)
"
(2)
.
ما أخس من ركعتين بعد الصلاة:
" وهي كلمة قد تخرج بحسن نية من البعض للترغيب في صلاة النافلة، وليس المقصود بها الانتقاص أو السخرية بالركعتين، بل معناه: "ما أقل من ركعتين بعد الصلاة".
ولا شك أنه ينبغي للمتحدث أن يراعي الدقة في اختيار الألفاظ، وخصوصًا عند الكلام في أمور العبادات وأمور الدين القويم .. وفي مثل هذا الموضوع يستحسن أن يقال:"ما أقل من ركعتين بعد الصلاة" أو "ما أسهل من ركعتين بعد الصلاة" أو ما شابه ذلك"
(3)
.
أحد رزقه يملا الوادي وأحد رزقه بالقطارة:
" إن كان يقصد بهذا المثل تبيين أن الناس يتفاوتون في الرزق، وأن بعضهم يحصل على رزق كثير، والبعض الآخر لا يكاد يجد إلا النزر اليسير مما يعينه على العيش، فينبغي التنبيه إلى أن الله سبحانه وتعالى يرزق الناس بقدر وحكمة، وهو أعلم بأعمالهم .. فمن الناس من إذا رزقه الله رزقًا وافرًا فإنه يبغي في الأرض؛ قال الله تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}
(4)
.
(1)
سورة البقرة، الآية (43).
(2)
نظرات في بعض الحكم والأمثال (ص 20 - 21).
(3)
نظرات في بعض الحكم والأمثال (ص 21 - 22).
(4)
سورة الشورى، الآية (27).
أما إن كان المقصود بهذا المثل التسخط أو الاعتراض على قدر الله، فهذا خطأ جسيم يستوجب على صاحبه الإسراع بالتوبة والاستغفار"
(1)
.
الموت مع الجماعة رحمة:
" ويقصد بهذا القول أن الإقبال على عمل لا تعرف نتائجه يصبح هينًا عندما يكون بالاشتراك مع مجموعة من الناس، حتى وإن كانت عاقبة هذا الأمر هي الموت!
ولكن ينبغي أن نعلم أن قيام جماعة من الناس بعمل لا يقتضي كون هذا العمل صائبًا، بل قد يكون خاطئًا .. والله سبحانه وتعالى يخاطب الظالمين بقوله:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}
(2)
.
مما يؤكد أن الاشتراك مع جماعة في أي عمل سيئ لا يؤثر على نتائج هذا العمل بالنسبة لأحدهم، بل كل مسؤول عن نفسه ومجزي بعمله؛ قال الله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}
(3)
"
(4)
.
هذه عقوبة:
" يقولها البعض إذا أصيب أحدٌ من الناس بمصيبة، وهذا جهل؛ لأن الابتلاء قد يكون عقوبة من الله عز وجل، كما قال: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ
(1)
نظرات في بعض الحكم الأمثال (ص 22 - 23). بتصرف يسير.
(2)
سورة الزخرف، الآية (39).
(3)
سورة المدثر، الآية (38).
(4)
نظرات في بعض الحكم الأمثال (ص 23 - 24).
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}
(1)
، وقد يكون الابتلاء رفعة المنزلة هذا المصاب إذا كان تقيًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من يرد الله به خيرًا يُصب منه"
(2)
، وقوله: "إذا أحب الله قومًا ابتلاهم
(3)
"
(4)
.
النصر للعرب:
قال سماحة الشيخ الإمام ابن باز رحمه الله: " .. إن ما يتكرر كثيرًا في بعض الإذاعات العربية من قولهم: (النصر لنا)، (الله معنا)، (النصر للعرب)، (النصر للعرب والإسلام) وما أشبه ذلك؛ إن هذه كلها ألفاظ خاطئة ومخالفة للصواب؛ فليس النصر مضمونًا للعرب ولا لغيرهم من سائر أجناس البشر، وإنما النصر معلق بأسبابه التي أوضحها الله في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم"
(5)
.
رجال الدين:
هذا تعبير خاطئ دخيل، وفد إلينا من أوروبا حيث نشأت هذه التسمية في ظل الكنيسة. أما المسلمون ففيهم العالم والفقيه والمحدِّث والإمام .. إلخ، وكلهم مسؤولون عن الإسلام بحسب علمهم وطاقاتهم، ولا يعرفون هذه الطبقات التي وجدت في بيئة غريبة عنهم، وتناقلتها الألسن دون تمحيص:
(1)
سورة النساء، الآية (79).
(2)
أخرجه البخاري برقم (5645).
(3)
أخرجه أحمد: (5/ 428، 429).
(4)
مخالفات متنوعة، للشيخ عبد العزيز السدحان (ص 41).
(5)
موقف اليهود من الإسلام وفضل الجهاد في سبيل الله ص 21 - 22، نقلًا عن مخالفات متنوعة للسدحان (ص 41).
إما جهلًا، وإما خبثًا ومكرًا من أعداء هذا الدين الذين يبتغون انحسار المفاهيم الإسلامية عن الحياة ليسهل عليهم السيطرة على البلاد والعباد، بعد أن أصبح الدين مرتبطًا بأناس معدودين وفئة معينة"
(1)
.
هذا حكم الله:
هذه العبارة تطلق غالبًا في باب الفتاوى، وبخاصة في مبدأ السؤال، كقول القائل: ما حكم الله في رجل فعل كذا وكذا؟ فيأتي الجواب على السؤال فيفهم منه السائل أن هذا حكم الله الذي حكم به.
وفي هذه المسألة تفصيل: وإيضاحه أن يقال: إن كان الاستفتاء في مسألة قد ورد النص فيها صريحًا فلا حرج في أن يقال حكم الله في هذه المسألة كذا.
أما إن كانت المسألة اجتهادية فلا يقال حكم الله كذا؛ لأنه قد لا يصيب حكم الله.
فمثال الأول: لو سأل سائل عن حكم صيام شهر رمضان، فقال المجيب: حكم الله في صيام شهر رمضان أنه فرض.
والمثال الثاني: ما حكم الله في زكاة الحلي؟ فهذه المسألة خلافية، والجزم بأن أحد الأقوال هو حكم الله دون غيره أمر عظيم، ومما يدل على ذلك ما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه
(1)
مجلة منار الإسلام -العدد الخامس- السنة الرابعة عشرة، جمادى الأولى 1409 ص 88. نقلًا عن مخالفات متنوعة للسدحان (ص 43).
حكم الله.
فمثال الأول: لو سأل سائل عن حكم صيام شهر رمضان، فقال المجيب: حكم الله في صيام شهر رمضان أنه فرض.
والمثال الثاني: ما حكم الله في زكاة الحلي؟ فهذه المسألة خلافية، والجزم بأن أحد الأقوال هو حكم الله دون غيره أمر عظيم، ومما يدل على ذلك ما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين -إلى أن قال في آخره-: "وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل، بل أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله تعالى أم لا؟ " أخرجه مسلم"
(1)
.
اتق شر من أحسنت إليه:
" هذه الجملة خطأ واضح؛ وذلك من وجوه:
الأول: أن فيها إساءة للظن بالمسلم، واتهام له في حال الإحسان إليه.
الثاني: أن فيها دعوة لترك الإحسان أو التزهيد فيه، وعلى هذا فلا ينبغي ذكر هذه الجملة.
والأولى بالمسلم إحسان الظن بأخيه المسلم في الأصل، فكيف إذا أحسن إليه؟ فإن جانب إحسان الظن يقوي ويتضاعف.
(1)
مخالفات متنوعة للسدحان (ص 46)، والحديث أخرجه مسلم برقم (1731).
وقد قام بعضهم
(1)
باستقراء كثير من المقابلات الصحفية مع الأفراد التي يرد فيها سؤال هذا نصه: (ما هي حكمتك المفضلة؟) قال المستقرئ: وقد رأيت نسبة كبرى من الإجابات تردد هذا المثل التعيس الذي يريدون أن يجعلوا منه حكمة؛ ألا وهو: (اتق شر من أحسنت إليه) هذه المقولة من أسوأ الأمثلة الشائعة على ألسنة الناس، التي أسرّ بها بعضهم للآخرين قياسًا على حالة فردية هنا وحالة فردية هناك، الإحسان كان وما يزال وسيبقى" اهـ.
(2)
نجم الدين:
" ومثله: اسم (زين الدين)، (شمس الدين)، (نور الدين)، (تاج الدين)، ونحوها؛ فإن هذه الأسماء فيها تزكية والله تعالى يقول:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}
(3)
، ويقول:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}
(4)
.
قال الإمام ابن النحاس -رحمه الله تعالى- في أثناء سياقه لبعض المنكرات:
(ومنها ما عمت به البلوى في الدين من الكذب الجاري على ألسن كثير من المسلمين، وهو ما ابتدعوه من الألقاب؛ كتقي الدين، ونور الدين، وعضد الدين، ومعين الدين، وناصر الدين، ونحوها من الكذب الذي يتكرر على الألسن حال النداء، وحال التعريف والحكاية، وغير ذلك، وكل
(1)
من مقال بعنوان "الناس والإحسان" د. إبراهيم مكي.
(2)
مخالفات متنوعة للسدحان (ص 62).
(3)
سورة النجم، الآية (32).
(4)
سورة النساء، الآية (49).
ذلك وكل هذه بدعة في الدين، ومنكر يخالف الشرع، ولا سيما وأكثر من يسمى بهذا فاسق أو ظالم أو جاهل لا يعرف الدين، بل لو كان ذلك على حقيقة لكره؛ لما فيه من التزكية، فكيف وهو بعيد من المجاز فضلًا عن الحقيقة؟ قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في كتابه شرح أسماء الله الحسني: قد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه ثم قال: قال علماؤنا ويجري هذا المجرى ما قد كثر في الديار المصرية وغيرها من بلاد العراق والعجم من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية والثناء: كزكي الدين، ومحيي الدين، وعلم الدين وشبه ذلك. انتهى، وقد قال الله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
(1)
. فإذا قال: محيي الدين، أو ناصر الدين ونحو ذلك فلا بد وأن يسأل يوم القيامة: هل هو صادق في وصفه أو كاذب؟ ولو كان ذلك جائزًا لسبق إليه المتقدمون، فلقد كان في الصحابة من نصر الله به الدين حقًا، وأعز به الدين يقينًا، وأيد الله به الذين بشهادة الله ورسوله، وما لقبوه بهذه الألقاب، ولا عدل بهم عن الأسماء والكني، فكيف يلقب بهذا من هو متصف بأضداد ذلك؟!
وقد حكى ابن الحاج عن النووي رحمه الله أنه كان يكره أن يلقب بمحيي الدين كراهة شديدة؛ قال: وقد وقع في بعض الكتب المنسوبة إليه أنه قال: إني لا أجعل أحدًا في حل ممن يسميني بمحيي الدين. قال: وقد رأيت بعض الفضلاء من الشافعية من أهل الخير والصلاح يقول إذا حكى شيئًا عن
(1)
سورة ق، الآية (18).
النووي. قال: قال يحيي. فسألته عن ذلك فقال: إنا نكره أن نسميه باسم كان يكرهه في حياته)
(1)
" انتهى.
(2)
يعطي الحلق لمن لا آذان له [يدي الحلق للي بلا ودان]:
" مثل مشهور، لا يخفى ما فيه من اعتراض على حكمة الله سبحانه وتعالى في تقسيم الأرزاق بين الناس؛ قال تعالى:{يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
(3)
وقال: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}
(4)
"
(5)
.
هذه قطرة ما وزنت:
" يقولها البعض إذا ما انهمر المطر وكثر الغيث! وهذا تعبير من يجهل أن الله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}
(6)
، وأنه القائل:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}
(7)
"
(8)
.
الأديان السماوية [وصف غير الإسلام بهذا الوصف]:
قال الدكتور أحمد القاضي: "وصف تلك الأديان -سوى
(1)
تنبيه الغافلين لابن النحاس (ص 314 - 315).
(2)
مخالفات متنوعة للسدحان (ص 63 - 65).
(3)
سورة البقرة، الآية (212).
(4)
سورة الرعد، الآية (26).
(5)
الكلمات المخالفة لسيد عاصم علي (ص 35) بتصرف.
(6)
سورة الرعد، الآية (8).
(7)
سورة الحجر، الآية (21).
(8)
الكلمات المخالفة لسيد عاصم علي (ص 52) بتصرف.
الإسلام - بـ"السماوية" باطل؛ لما يحمله من دلالة باطلة من كونها نزلت من السماء. والواقع أنَّها تحريف لما نزل من السماء"
(1)
.
الإسلام يُكرم الإنجيل:
يقول الدكتور أحمد القاضي: "الإسلام يكرم الإنجيل من حيث هو كتاب الله، ويجعل الإِيمان به وسائر كتب الله أحد أركان الإِيمان الستة. أمَّا الأناجيل المزعومة، وأعمال الرسل، ورسائل بولس وغيره، الَّتي يضمها ما يسمونه: "العهد الجديد" فقد دخلها التحريف والكفر والشرك، فليست محل تكريم، بل محل ذم"
(2)
.
الحرية الدينية:
يقول الدكتور أحمد القاضي: "إننا ابتداءً لا نسلم بهذا التعبير: "الحرية الدينية"، ولا نعده مصطلحًا شرعيًا، بل هو تعبير وافد من بلاد الغرب له مدلولاته ومقتضياته الخاصة. والقاعدة الشرعية المقابلة:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
(3)
ولكن هذا المصطلح العَصَري: "الحرية الدينية" أوهم بعض النَّاس أن الإسلام يبيح سائر أنواع الممارسات الدينية الَّتي تروق لصاحبها، وحرية التنقل بين الأديان كيفما شاء، ولم يقل بذلك أحدٌ من علماء الإسلام، ومن ثمَّ
(1)
دعوة التقريب بين الأديان .. (1/ 31). وقال: "انظر في هذا رسالة بعنوان (الدِّين السماوي هو الإسلام) للدكتور عبدالعزيز الحُمَيْدي. وانظر أيضًا: "الأبطال" للشيخ بكر أبو زَيْد، (ص 45).
(2)
دعوة التقريب بين الأديان .. (2/ 586 - 587).
(3)
سورة البقرة، الآية (256).
استشكلوا حد الردة، ورأوا فيه مصادمة للحرية الدينية"
(1)
.
إرادة الشعب من إرادة الله
!:
قال الشيخ عبد الرَّحمن الدوسري رحمه الله عن هذه الكلمة: "هذا افتراء عظيم تجرأ به على الله بعض فلاسفة المذاهب ومنفذوها؛ جرأةً لم يسبق لها مثيل في أي محيط كافر في غابر القرون؛ إذ غاية ما قص الله عنهم: التعلق بالمشيئة بقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}
(2)
.
فكذبهم الله، وهؤلاء جعلوا الشعب الموهوم (إرادة الأمر) لتبرير خططهم الَّتي ينفذونها، ويلزم من هذا الإفك إفساد اللوازم المبطلة له والدامغة لمن قاله؛ إذ على قولهم الفاسد يكون للشعب أن يفعل ما شاء، ويتصرف في حياته تصرف من ليس مقيدًا بشريعة وكتاب، بل على وفق ما يهواه، وعلى أساس المادة والشهوة والقوة؛ كالشعوب الكافرة الَّتي لا تدين بدين يقبله الله، ولا ترعى خلقًا ولا فضيلة، فهذا الإفك العظيم لم يجرأ عليه أبو جهل ومن على شاكلته مع خبثه وعناده؛ لأنَّ قبيحه معروف ببداهة العقول؛ حيث إن أذواق الشعوب ونزعاتها تختلف، فإذا جعلت إرادة الشعب من إرادة الله صارت نزعات الوجودية، والشيوعية، والنازية، والصهيونية، ووحشية الغاب، وغيرها من إرادة الله الَّتي أمر بها، وصار كل ما تهواه النفوس الشريرة، ويعشقه مرضى القلوب من: التهتك، والانحلال،
(1)
دعوة التقريب بين الأديان .. (2/ 712).
(2)
سورة الأنعام، الآية (148).
ومعاقرة الخمر، ودغدغة الغرائز، وإشباع الشهوات على حساب الغير؛ من أمر الله، فعلام ينتقدون على غيرهم ويصيحون عليه إذا كانت إرادة الشعب ورغباتها من إرادة الله في حكمه الَّذي يرتضيه؟ ولأي شيء يرسل الله الرسل وينزل الكتب ويشرع الجهاد والأمر والنهي على النَّاس إذا كانت إرادتهم من إرادته الَّتي يرتضيها؟ هذا هو عين المحال ومنتهى الفجور والضلال، والذين تزعموا هذا الإفك لا يطبقونه على أنفسهم، بل يسمحون لها بغزو الشعب الَّذي لا يخضع لسلطانهم ويسير وفق أهدافهم، فكان الشعب الَّذي يحكمونه هم بقوة الحديد والنار هو الشعب الَّذي إرادته الواهية من إرادة الله، والباطل لا بد أن يتناقض وينادي على نفسه بالبطلان، فقد أشركوا بالله شركًا عظيمًا؛ إذ جعلوا الشعب ندًّا من دون الله وأهواءه أندادًا لشريعته وحكمه، بدلًا من أن يكون محتكمًا إلى الله، ملتزمًا لحدوده، متكيفًا بشريعته، منفذًا لها"
(1)
.
الدين أفيون الشعوب
!:
قال الشيخ عبد الرَّحمن الدوسري رحمه الله: "هذه مقالة نطق بها (كارل ماركس) اليهودي الَّذي نبش الشيوعية المزدكية اليهودية بعدما قبرها الإسلام، فاخترع هذه المقالة يزعم بها أن الدِّين مخدر ومبلد للشعوب. وكلامه مردود بالحق الحقيق بالقبول؛ وهو أن الدِّين الصحيح الحنيف -ملّة إبراهيم الَّذي أمر الله خلقه بإقامته- دين يلهب القلوب والمشاعر، محرك لجميع الأحاسيس والقوى، دافع بها إلى الأمام، لا يقبل من أهله الذل
(1)
"الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة"(ص 90 - 92).
والاستكانة والخضوع للظلم، ومجاملة الأعداء والسكوت على الباطل والفساد، أو الجمود على طقوس وأوضاع ما أنزل الله بها من سلطان، بل يوجب عليهم النهوض والاستعداد بكل قوة، وتسخير كل دابة ومادة على وجه الأرض أو في جوفها أو أجوائها كي لا يغلبهم عدوهم في ذلك، وأن يجعلوا جميع مواهبهم وطاقاتهم في سبيل الله لإعلاء كلمته وقمع المفتري عليه، والبراءة من جانب دينه وتنكر لحكم شريعته، فهذا الدين الصحيح على العكس ممَّا قاله اليهودي وأتباعه من تلاميذ الإفرنج الذين ربّوهم وأبرزوهم لمحاربة هذا الدِّين الصحيح الَّذي لا يوقف في وجوه أهله لو حملوه كما أنزل، أمَّا الأديان الأخرى المزعومة من لاهوتية وثنية فيصح أن يقال عنها بكلمة اليهودي؛ لتقيّد أهلها بالخرافات وتقييدهم العلم الفني والاختراع عن الانطلاق"
(1)
.
الدين سبيل النَّاس لتأمين ما بعد الحياة وقد ذهب بأمن الحياة ذاتها
!
قال الشيخ عبد الرَّحمن الدوسري رحمه الله: "هذا قول منشؤه الثقافة الفاجرة الكافرة المغرضة، وهو متناقض تناقضًا لا يخفى على ذي لبّ غير متأثر بها؛ كشأن الباطل دائمًا ينادي على نفسه بالبطلان؛ وذلك أن كل إنسان لا يحصل له تأمين الحياة والعيشة الراضية إلَّا إذا سعى سعيًا صحيًا لتأمين ما بعدها بمراقبة رب العالمين حقًا، والوقوف عند حدوده بإعطاء كل ذي حق حقه، دون غش ولا مراوغة، بل بما رسمه الله على لسان رسوله
(1)
"الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة"(ص 92 - 93).
إذ قال: "عامل النَّاس بما تحب أن يعاملوك به تكن مسلمًا وأحب للناس ما تحبه لنفسك تكن مؤمنا"
(1)
.
وقال: "لا يؤمن أحدكم حتَّى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه"
(2)
.
وقال: "لا يؤمن أحدكم حتَّى يكون هواه تبعًا لما جئت به"
(3)
.
وقال: "الراحمون يرحمهم الله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"
(4)
، "إن الله حرّم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرمّا فلا تظالموا"
(5)
. إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية.
(1)
ورد بلفظ "كن ورعًا تكن أعبد النَّاس، وكن قنعًا تكن أشكر النَّاس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقل الضحك؛ فإنَّ كثرة الضحك تميت القلب" أخرجه الإِمام أحمد في المسند (2/ 310) والتِّرْمِذِيّ في كتاب الزُّهْد باب الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من النَّاس برقم (2305)، وابن ماجه في كتاب الزُّهْد باب الورع والتقوى برقم (4217)، كلُّهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أسهب الشيخ الألباني رحمه الله في تحسين الحديث في السلسلة الصحيحة برقم 930.
(2)
أخرجه البخاري برقم (13).
(3)
رواه ابن أبي عاصم في السُّنَّة (1/ 12)، والتبريزي في مشكاة المصابيح برقم 167، والبغوي في شرح السُّنَّة (1/ 213). وقد أشار إلى علل الحديث مفصلةً الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم ص 574، وقد بين في النهاية صحة معناه مستدلًا لذلك بعدد من الآيات والأحاديث، منها قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص، الآية (50)].
(4)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 60)، وأبو داود في الأدب، باب في الرحمة برقم 4941، والتِّرْمِذِيّ في البَرِّ والصلة، باب في رحمة النَّاس برقم 1924، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، والحاكم في المستدرك، وصححه، ووافقه الذَّهَبِيّ (4/ 195).
(5)
لفظ الحديث "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا" أخرجه مسلم في البَرِّ والصلة باب تحريم الظلم برقم 2577.
وأمَّا في القرآن من قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
(1)
.
وقوله: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
(2)
.
وقوله: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}
(3)
{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}
(4)
وغيرها من الآيات الكثيرة.
فبلزوم النَّاس هذه الطريقة الدينية الصحيحة يحصل لهم الأمن والتعايش السُّلَمي في الحياة أولًا، ثمَّ بعدها ثانيًا، وما أذهب على النَّاس أمنهم إلَّا افتياتهم على دين الله وخروجهم عن تعاليمه النافعة في الحياة وبعدها طبعًا.
فهذا الأفاك الأثيم صاحب هذه المقالة، هل يطمع بالأمن في الحياة والتعايش السُّلَمي إذا نبذ النَّاس دين الله، وتعلقوا بالمادة والأنانية وحب الشهوات وطلب الرئاسة والعلو في الأرض؟ ألم يحصل بذلك الشر المستطير؟
ألا يرى العالم مهددًا في كل وقت وحين بحروب طاحنة قد خلت من قبلها الحروب؟
ألا يرى الدول المادية منهمكة في صنع ما يدمر المدنية ويفتك بالحياة؟
حقًا إن تأمين الحياة لا يحصل إلَّا بالعمل الصالح الخالص المقصود به تأمين ما بعدها؛ خوفًا من الله ورجاء ثوابه، وذلك لا يتحقق إلَّا بالإيمان بالغيب
(1)
سورة البقرة الآية (195).
(2)
سورة البقرة، الآية (190).
(3)
سورة الأعراف، الآية (85).
(4)
سورة النِّساء، الآية (135).
الَّذي هو مصدر الخير ومنبع الفضيلة والجمال كما أسلفنا. ولذا حصر الله الهداية والمنفعة بالتذكرة عليه؛ فقال في فواتح القرآن: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}
(1)
، {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}
(2)
، إلى غير ذلك من الآيات والأحكام الَّتي انطبع بها أسلافنا؛ كانوا أصلح الخلق وأنصح الخلق للخلق، وأرحم الخلق بالخلق، ممتثلين ما قدمناه من الآيات والأحاديث وأضعافها ممَّا فهموه وطبقوه.
ولما حُرمت (اوروبا) من الإِيمان بالغيب وثمرته الطيبة كانت على العكس من ذلك: أفسد الخلق، وأغش الخلق للخلق، وأفتك الخلق بالخلق، وكان على سيرتهم كل من تقبَّل ثقافتهم وسار على منهاجهم"
(3)
.
الدين سبب الطائفية والشقاق
!:
قال الشيخ عبد الرَّحمن الدوسري رحمه الله: "هذه فكرة ركزها الاستعمار في تعليمه الثقافي -الَّذي هو امتداد للحروب الصليبية- ضمن تخطيط صهيوني أثبتته البروتوكولات الصهيونية المكتشفة، تلقَّاها بالقبول والتشجيع أصحاب المبادئ القومية، والمذاهب المادية، والنِّحل الوثنية المطلية بشعارات يستحسنها الذين نسوا حظًا مما ذكروا به، والمرجفون لحاجات في صدورهم، وهي منبثقة من تلك البروتوكولات. والدين الإِسلامي الصحيح
(1)
سورة البقرة الآيات (1 - 3).
(2)
سورة يس، الآية (11).
(3)
"الأجوية المفيدة لمهمات العقيدة"(ص 93 - 96).
على العكس ممَّا رموه به؛ فهو مصدر الوحدة الصحيحة، وتحقيقه سبب العز والتمكين والتضامن والتراحم والبذل والإيثار.
(1)
.
وإنَّما نشأت الطائفية ممن لا يعترف إلَّا بدينه ويذم ما سواه؛ كاليهود والنصارى الذين أخبر الله عنهم أنَّهم يعرفون نبينا كما يعرفون أبناءهم فكتموه وهم يعلمون، وبذروا الطائفية بشتى الدسائس.
فالطائفية تنشأ دائمًا من الافتراء على الله؛ سواء كان بحجة دين كاذب، أو مذهب مادي أو وثني يصبغ بطلاء الجنس والوطن، ولو أنَّهم أخلصوا دينهم لله واتبعوا محمدًا الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما حصلت طائفية كالصدر الأوَّل من الإسلام، حيث لم تجد المادة طريقها إلى القلوب.
فلما احتلت المادة والأنانية مكانًا في القلوب لعبت السياسة دورها في بث التفرقة والشقاق باسم مذهب أو أسرة، وباسم ملة أو نحلة وفلسفة. هذا كله مع التظلم من الأوضاع، والتنديد بالمسؤولين والاختلاق والأكاذيب وتزوير الوثائق والمكاتيب لإضرام نار الفتنة والتحزّب، حتَّى جاء دور الحرب الصليبية الغاشم البشع، وما أعقبه من تعسف سياسي ومكر ومؤامرات لئيمة تصبغ بأسماء مذهبية على الرغم من حسن معاملة المسلمين مع الغزاة
(1)
سورة البقرة، الآية (136).
المغلوبين، والخونة المجاورين من أولئك، وكل هذا امتداد لما قبله من الدسائس السياسية ضد الإسلام ليشغلوا أهله في أرضهم، ويوقفوا مدَّه الثَّوْري عنهم، فيبقى كالمريض في بيته، فما يُرَى من ظاهر الطائفية المذهبية هو في الحقيقة مبادئ وأحزاب سياسية مطلية بطلاء المذهبية المختلفة.
فالعيب والجريرة هي على السياسة الماكرة الكافرة، لا على الدِّين الصحيح الَّذي اختاره الله أساسًا للوحدة بجميع معانيها.
ثمَّ إن الصليبيين لما عجزوا عن محاربة الإسلام بالسيف غزوه غزوًا ثقافيًا بذلوا فيه الأموال الطائلة للمبشرين، ولما أخفقوا بعد مجهودهم الكبير وأيقنوا استحالة تنصير المسلمين أبرموا الأمر الجديد لإخراج أبنائهم منه فقط، دون أن يتشرفوا بالدخول في المسيحية على زعمهم، بل يعيدوهم إلى ضروب من الوثنية تحت تقديس الجنس والوطن، واستبدال حدود الله بحدوده، وحماية كيان القوم بدل حماية دين الله، واستبدال محبة الله ورسوله بمحبة هذه الطقوس والشعارات، ودعوى العمل للوحدة الَّتي تجمع الفرق تحت اسم القومية، ولا تحل فيهم الأنانية والانتهازية.
وقد عكس الله مقاصدهم وأحاط مجتمعهم بالفوضى وكافة الخلافات والمخازي، ولكنهم يغالطون ويخادعون لتبرير خطتهم الأثيمة، وتغطية باطلهم على الأغمار والسطحيين، فيرمون الدِّين بدائهم هم؛ يرمونه بالطائفية وهم بها أحق وألصق، وقد تحمس لهذه الفكرة الخاطئة لفيف من النصارى ليخدعوا بها المسلمين على حساب الدِّين الإِسلامي الصحيح الَّذي بشر به عيسى فكذبوه؛ وهو الدِّين الَّذي اعترف بكرامة عيسى وأظهر
براءة أمه، فأبي لؤمهم إلَّا أن يخاصموه ويمكروا بأهله ويوالوا اليهود وينفذوا مخططاتهم ضده، وهم الذين آذوا عيسى وحاولوا قتله وقالوا فيه وفي أمه بهتانًا عظيمًا، وكانت خطتهم على حساب ديننا لا على حساب دينهم المزعوم الَّذي يبرأ منه عيسى وكل نبي.
وقد ضمن الله الوحدة والعز والتمكين بتحقيق دين محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب الشقاق العقيم على من تنكّب عنه وتولى؛ قال تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}
(1)
.
فحصر الله حالتهم في الشقاق كما هو واقع فعلًا بينهم الآن، على الرغم من زعمهم الوحدة الكاذبة وموالاتهم أعداء الله ورسله تبديلًا منهم لقول الله الَّذي نهاهم عن موالاتهم وأمرهم بالبراءة منهم كليًا، واللهُ غالب على أمره"
(2)
.
الدِّين الله والوطن للجميع
!:
قال الشيخ عبد الرَّحمن الدوسري رحمه الله: "هذه المقالة انبثقت ممَّا قبلها
(3)
، وصاغها الحاقدون على الإسلام الذين رموه بالطائفية بهذه الصيغة المزوقة إفكًا وتضليلًا ليبعدوا حكم الله ويفصلوه عن جميع القضايا والشؤون بحجة الوطن الَّذي جعلوه ندًّا لله، وفصلوا بسيبه الدِّين عن الدولة وحصروه في أضيق نطاق، فأعادوا بذلك الحكم القيصري
(1)
سورة البقرة الآية (137).
(2)
"الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة"(ص 96 - 99).
(3)
وهي مقولة: "الدِّين سبب الطائفية والشقاق".
والكسروي بألوان وأسماء جديدة -والعبرة بالمعاني- من سوء التحكم والأعمال المخالفة للشرع، وعدم العدل إلَّا بالأسماء والألقاب؛ فهي خطة شركية قلَّ من انتبه لها، ولا يجوز للمسلمين إقرارها أبدًا، ولكن غلبت عليهم سلامة الصدر فاغتروا بما يطلقه أولئك من الدجل والتهويل ويخادعون به الله والمؤمنين من دعوى تعظيم الدِّين والارتفاع به عن مستوى السياسة الَّتي هي غش وكذب ليخدعوا به المسلمين ويخرسوهم، واللهُ لا يرضى من عباده أن يتهاونوا بالحكم ويتنازلوا عن حدوده قيد شعرة، أو تنقص فيهم الرغبة الصادقة في تنفيذه -بدلًا من أن تنعدم- لحب وطن أو عشيرة، بل لحب ولد أو والد أو أخ قريب.
فالدين الَّذي لله يجب أن يسيطر على الجميع، ويكون أحب وأعز من الوطن، وأن لا يُتَّخذ الوطن أو العشيرة ندًّا من دون الله، ويعمل من أجله ما يخالف حكم الله، وتبذل النفوس والأموال دون كيان العصبية القومية وفي سبيل الوطن، لا في سبيل الله لإعلاء كلمته وقمع المفتري عليه، بل لتعزيز المفتري عليه؛ فهذه وثنية جديدة أفظع من كل وثنية سبقتها؛ إذ يعملون تحت هذا الشعار الوثني ما يشاؤون، ويخططون لحياتهم الوطنية تخطيط من ليس مقيدًا بشريعة ربه. وكونها أفظع من كل وثنية هو لمزيد فتنتها وإخراجها للناس بهذا الأسلوب الَّذي صاغته (أوروبا) هروبًا من حكم الكنيسة، واللهُ يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ
كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}
(1)
.
(2)
.
وقد عملوا منذ زمن طويل على ذلك حتَّى كسبوا بعض أولاد المسلمين، فنفذوا لهم هذه الخطة الَّتي طرحوا بها حكم الإسلام؛ بحجة "أقلية نصرانية" انتحلوا هذه النحلة من أجلها فيما يزعمون في تقديس الجنس، وعطّلوا الإسلام وأوقفوا زحفه إرضاءً لهذه الأقلية وإغضابها لله، بينما هي تزحف بالدعاية النصرانية وبث الإلحاد على حساب المسلمين وفي عقر بيوتهم، وجعلوا الحكم لغير الله من أجلها، وأباحوا من أجلها ما حرّم الله بإقرارهم له وإعفاء مرتكبه من العقوبة ليشهدوا لهم مع تلاميذ الإفرنج من أبنائهم أنَّهم متحررون كفؤ للحكم.
فياله من دين جعلوه يتلاشى أمام مصالح الوطن وأوضاعه الَّتي يعشقونها، فكأنهم قالوا:(الدِّين الله يطرح ظهريًا ليس له حق في شؤوننا الوطنية من سياسة وعلم واقتصاد وغيره) مرحي مرحى لهذا الدِّين المعطل المطروح على الرف! "
(3)
.
قلت: ومن نظائر تلك المقولة: (لا سياسة في الدِّين ولا دين في السياسة -
(1)
سورة آل عمران، الآية (149).
(2)
سورة آل عِمْران، الآية (100).
(3)
"الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة"(ص 99 - 101).
الدِّين علاقة بين العبد وربه فقط - الحكم للشعب - الشعب مصدر السلطات - التمسك بالدين رجعية) ونحوها!! "
(1)
.
عبد المأمور:
" لقد استَشْرَتْ هذه الكلمة على لسان كثير من الجهال الذين لا يفقهون حديثًا، وهي كلمة شنيعة فيها ضلال مبين؛ حيث يجعل أحدهم من نفسه عبدًا لغير الله بكلمة سخيفة، وما أُمِرَ إلَّا ليعبد الله وحده.
ومن عجب أنك لو أنكرت على قائلها، لرد عليك قائلًا: كيف لا وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
(2)
.
وهذا خلط عجيب، ولا محل للاستشهاد بالآية، بل إن للآية تفسيرًا يبعدها عما يظنه كثير ممن لا يعلمون؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وهذه الكلمة في أصلها كانت بعيدة عن الكفر، ثمَّ حُرِّفت على ألسنة العوام
…
في أصلها كانت "عبدٌ مأمور" هكذا كلمة مأمور صفة لعبد، فيصف نفسه بأنَّه عبد مأمور، فطرأ عليها اللحن فصارت عبدًا مضافة لمأمور "عبد المأمور" فانقلبت إلى الضلال المبين"
(3)
.
(1)
أخطاء شائعة للخراز (ص 10 - 14)، وانظر: الكلمات المخالفة لسيد عاصم علي، ص 34.
(2)
سورة النِّساء، الآية (59).
(3)
الكلمات المخالفة؛ لسيد عاصم علي (ص 70).
يأكل أرزًا مع الملائكة:
" هذه الكلمة تقال عند السؤال عن النائم، فيقال: "إنَّه يأكل أرزًا مع الملائكة".
وهذه الكلمة فيها تعد؛ لأنَّه لا يثبت بأي دليل أن الملائكة يأكلون أو يشربون، فكيف يزعم أحد أنَّهم كذلك؟!
وقد قال أهل العلم عند ذكر الملائكة: "وهم -أي الملائكة- عالم غيبي لا يعلم حقيقته إلَّا الله تعالى. لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، ولا يتصفون بذكورة ولا أنوثة".
(1)
.
يقول ابن كثير: "وقوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} أي تنكرهم، {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}؛ وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه، فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به، فارغين عنه بالكلية، فعند ذلك نكرهم، وأوجس منهم خيفة اهـ"
(2)
.
(1)
سورة هود، الآيتان (69، 70).
(2)
الكلمات المخالفة؛ لسيد عاصم علي (ص 65).
الأديان الثَّلاثة [يوصف بها الإسلام مع اليهودية والنصرانية]:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قد يسمع ما بين حين وآخر كلمة: "الأديان الثَّلاثة"، حتَّى يظن السامع أنَّه لا فرق بين هذه الأديان الثَّلاثة؛ كما أنَّه لا فرق بين المذاهب الأربعة! ولكن هذا خطأ عظيم، إنَّه لا يمكن أن يحاول التقارب بين اليهود والنصارى والمسلمين إلَّا كمن يحاول أن يجمع بين الماء والنار"
(1)
.
الأديان:
لما قال طلعت حرب في كتابه "تربية المرأة والحجاب"(ص 17): "إن الأديان جميعًا تنفي مساواة المرأة بالرجل مساواة كاملة .. "عقب عليه الشيخ محمد بن إسماعيل بقوله: "أعلم -رحمك الله- أنَّه لا يصح إطلاق كلمة "الأديان"! هكذا مجموعة في سياق التقرير والاحتجاج بها؛ لأنَّ الدِّين واحد هو الإسلام الَّذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه؛ قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}
(2)
، والشرائع هي الَّتي تختلف من نبي لآخر، قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}
(3)
والله أعلم"
(4)
.
وقد ذهب إلى هذا: محمود شاكر رحمه الله في كتابه "أباطيل
(1)
خطبة يوم الجمعة، 15/ 1 / 1420 هـ. نقلًا عن رسالة "دعوة التقريب بين الأديان" للدكتور أحمد القاضي، (1/ 32).
(2)
سورة آل عمران، الآية (19).
(3)
سورة المائدة، الآية (48).
(4)
"عودة الحجاب"(1/ 52).
وأسمار"
(1)
.
ولكن قال الدكتور أحمد القاضي تعقيبًا على هذا المنع: "ما قاله حق لا مرية فيه بالنظر إلى المدلول الشرعي لكلمة دين، وهو ما بعث الله به أنبياءه ورسله، فهو واحد لا يتعدد؛ وهو "الإسلام". ولكن بالنظر إلى المعنى اللغوي الدال على العادة والشأن ومطلق الطاعة فإنَّ الأمر واسع، فيتناول الدِّين الحق الَّذي هو الإسلام، وسائر البدع والضلالات والأحوال والتقاليد الَّتي يسير عليها بعض النَّاس. ولهذا قيد الله تعالى لفظ "الدِّين" في مواضع من كتابه فقال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}
(2)
، ووصفه بما يخصصه فقال:{وَدِينِ الْحَقِّ}
(3)
، {الدِّينُ الْقَيِّمُ}
(4)
، و {دِينُ الْقَيِّمَةِ}
(5)
و {دِينًا قِيَمًا}
(6)
.
كما أضاف سبحانه لفظ "الدِّين" إلى غيره، فقال:{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}
(7)
، وسمي ما عليه المنحرفون من أهل الكتاب والكفار دينًا فقال:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
(8)
، وعن فرعون وقومه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ
(1)
(2/ 550 - 551).
(2)
سورة آل عِمْران، الآية (83).
(3)
سورة التوبة، الآية (33)، الفتح (28)، الصف (9).
(4)
سورة التوبة، الآية (36)، يوسف (40)، الروم (30).
(5)
سورة البينة، الآية (5).
(6)
سورة الأنعام، الآية (161).
(7)
سورة يوسف، الآية (76).
(8)
سورة الكافرون، الآية (6).
دِينَكُمْ}
(1)
، وعن اليهود {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
(2)
، وذمَّ {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا}
(3)
، وعن أهل الكتاب:{وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}
(4)
، وإنَّما تديَّنوا بسواه. بل سمي سبحانه ما أحدثه المحرفون من اللعب واللهو دينًا فقال:{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}
(5)
، وقال:{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا}
(6)
.
فتبين بذلك جواز إطلاق لفظ "الدِّين" و"الأديان" على ما سوي الإسلام باعتبار تدينهم بها، كما جاز إطلاق لفظ "الآلهة" على ما يُعبد من دون الله، مع أنَّه "الإله" الواحد الحق، باعتبار تأليههم لها"
(7)
.
تقاليد [وصف الإسلام وشرائعه بهذا الوصف]:
قال الشيخ محمد بن إسماعيل: "ينبغي التحفظ من مثل هذه العبارات؛ فليس الإسلام "تقاليد"، وما عرفناه إلَّا منارًا وتعاليم وشرائع ومعالم، وردت في أكثر من حديث؛ منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك جبريل أتاكم
(1)
سورة غافر، الآية (26).
(2)
سورة آل عمران، الآية (24).
(3)
سورة الأنعام، الآية (159).
(4)
سورة التوبة، الآية (29).
(5)
سورة الأنعام، الآية (70).
(6)
سورة الأعراف، الآية (51).
(7)
دعوة التقريب بين الأديان (1/ 29 - 30).
يعلمكم معالم -أي دلائل ومسائل- دينكم" رواه الإِمام أحمد وابن ماجه عن عمر رضي الله عنه بهذا اللَّفظِ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن للإسلام صُوى ومنارًا كمنار الطريق، منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئًا، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئًا، فقد ترك سهمًا من الإسلام، ومن تركهن كلّهن، فقد وَلَّى الإسلام ظهره" أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في "كتاب الإِيمان" وغيره - انظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" حديث رقم (333). ومعنى (صوي) جمع صوة: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفازة المجهولة، يستدل بها على الطريق وعلى طرفيها، أراد أن الإسلام طرائق وأعلامًا يهتدى بها، كذا في "لسان العرب" عن أبي عَمْرو بن العلاء.
وعن عبد الله بن بُسْر المازني رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت، وأنا كَبْرتُ، فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر عليَّ فأنسى، قال:"لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى" رواه التِّرْمِذِيّ والحاكم وصححه، ووافقه الذَّهَبِيّ.
وفي بعض الآثار: "أيها النَّاس إن لكم معالم فانتبهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتبهوا إلى نهايتكم"
…
فكم تقرُّ أعين المتغربين والمتفرجين، والجامحين الخارجين عن طريقة الإسلام بكلمة "التقاليد" الإِسلامية؟!
إنَّهم بذلك يحولون شرع الله ووحيه إلى أعراف وتقاليد، تواضع النَّاس
-في زمن من الأزمان- على احترامها، وبناء على ذلك فما يصلح لجيل لا يصلح لآخر، وما يناسب مجتمعًا لا يناسب المجتمعات الأخرى، وما يتفق مع زمن فلا شأن له بباقي الأزمان!
فالهدف إذن من التعبير عن الأحكام الشرعية بـ (التقاليد) واضح، وهو جعلها عرضة للتغيير والتبديل، بحجة أن "تقاليد" عصر الصحراء لن تناسب عصر الفضاء {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}
(1)
"
(2)
.
التسامح الديني:
قال الشيخ محمد بن إسماعيل معلقًا على هذه الكلمة: "أعلم -أخي المسلم- أن بعض النَّاس يخلطون بين لفظة (التعصب) ولفظة (التسامح) خلطًا معيبًا يؤدي إلى خلل في دينهم، وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعًا، فإذا سمعك أحدهم مثلًا تقول: "لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني، لأنَّه لا يدخل الجَنَّة"، اعتبر هذا تشددًا وتعصبًا، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وَعدّ نفسه متمسكًا بسماحة الإسلام، ولكشف النقاب عن هذا الخلط نقول:
إن التعصب والتسامح لا يكونان إلَّا في المعاملة، فالتعصب: أن تعامل الذمي اليهودي أو النصراني بحيف، وتبخسه حقه، والشرع يأبي ذلك ولا يرضاه، والتسامح: أن تعامله بالعدل والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والإلطاف، وأن تحسن جيرته إن كان جارًا لك، وأن تصله إن كان من قرابتك، غير أنك
(1)
سورة الكهف، الآية (5).
(2)
عودة الحجاب (1/ 230 - 231).
لا تعطيه من زكاة مالك، ولا من زكاة فطرك، لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين، ولا بأس أيضًا بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه؛ كقرض أو نحوه ممَّا لا تعلق له بالدين، وشرط هذا كله أن لا يكون محاربًا.
ومع هذا يجب عليك أن تعتقد اعتقادًا جازمًا لا تردد فيه أنَّه على باطل، وأنَّه إن مات كافرًا لا يجوز الترحم عليه ولا الدُّعَاء له بالمغفرة؛ قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} من الخير كصدقة، وصلة رحم، وإغاثة ملهوف، {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}
(1)
لا ثواب له في الآخرة. وهذه الآية تفيد أنَّه لا يوجد منهم ولي أو قديس كما يقولون؛ لأنَّ الولاية أو القداسة نتيجة العمل الصالح المقبول، وعملهم غير مقبول؛ لبطلان دينهم المخالف للإسلام:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(2)
وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، يهودي، ولا نصراني، ثمَّ يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلَّا كان من أصحاب النار" رواه الإِمام أحمد ومسلم
(3)
، فمن جوز وجود ولي منهم، أو تبرك بأحد قديسيهم، فقد تخلى عن عقيدته ودينه؛ إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحًا كما ظن المخلطون الواهمون، لكنه تنازل عنها، يلزم منه الخروج من الدين؛ لأنَّه مبني على العقيدة، فإذا فُقِدت فُقِد، فينبغي عدم إقراره على كفره، وعدم الرضا به، وبغضه ببغض الله تعالى له،
(1)
سورة الفرقان، الآية (23).
(2)
سورة آل عمران، الآية (85).
(3)
رواه مسلم برقم (153).
وعدم موالاته وموادته؛ قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
وعدم التشبه به، وعدم إنكاحه المؤمنة، وعدم بداءته بالسلام، وأن يضطره إلى أضيق الطريق
(2)
، فهذا كله من التمسك بالدين وليس من التعصب في شيء، والتفريط فيه ليس تسامحًا، ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل، واللهُ سبحانه وتعالى أعلم"
(3)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "التسامح موجود في الدِّين الإِسلامي؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}
(4)
{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
(5)
الآية.
ليس التسامح خاصًا بما يُنشر عن دين المسيح عيسى ابن مريم، بل التسامح في الإسلام، لكن تسامح الإسلام تسامح في حزم، أي أنَّه يُشرع
(1)
سورة آل عمران، الآية (28).
(2)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والمعنى لا توسعوا لهم إذا قابلوكم حتي يكون لهم السعة ويكون الضيق عليكم، بل استمروا في اتجاهكم وسيركم واجعلوا الضيق إن كان هناك ضيق على هؤلاء، ومن المعلوم أن هذي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ليس إذا رأي كافرًا ذهب يزحمه إلى الجدار حتَّى يرصه على الجدار، ما كان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يفعل هذا باليهود في المدينة، ولا أصحابه يفعلونه بعد فتوح الأمصار". (المجموع الثمين، 2/ 94).
(3)
"عودة الحجاب"(1/ 274). وانظر رسالة: "تسامح الغرب مع المسلمين" لعبد اللطيف الحسين، (ص 37 وما بعدها) حيث ذكر ضوابط التسامح.
(4)
سورة البقرة، الآية (178).
(5)
سورة البقرة، الآية (237).
التسامح في الموضع الَّذي يكون فيه التسامح خيرًا.
أحيانًا لا يكون التسامح خيرًا، ولهذا قيد الله عز وجل العفو بالإصلاح فقال:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}
(1)
؛ لأنَّ العفو أحيانًا لا يكون حميدًا، أحيانًا يكون العفو سببًا لتسلط الأشخاص واستمرارهم في شرورهم، وإذا أُخذوا بالحزم وعوقبوا بما تقتضيه جرائمهم من العقوبة كان في هذا خير كثير وكف أذى، ولهذا يجب ألا نحكم العاطفة في العفو عن الجناة في كل حال، بل يجب أن يكون لدينا رأفة ورحمة، وأن يكون لدينا حزم وعزيمة وقوة.
ألم تسمعوا قول الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}
(2)
فنهى الله تعالى عن الرأفة للزاني والزانية، مع أن الرأفة مطلوبة، ومن أسماء الله الرؤوف، لكن الرأفة لها محل، والحزم والأخذ بالعقوبة له محل آخر"
(3)
.
وقال الدكتور أحمد القاضي: "إن مفهوم التسامح الَّذي يتكئ عليه دعاة التقريب، مفهوم فضفاض يتضمن حقًا وباطلًا، يحتم ضرورة الاستفصال عن المدلول المراد:
فإن أريد بالتسامح: العفو والصفح في المعاملة، بالتنازل عن بعض
(1)
سورة الشورى، الآية (40).
(2)
سورة النور، الآية (2).
(3)
اللقاء الشهري (11/ 7 - 8).
الحقوق الشخصية مالية أو معنوية، أو ما يحيله الشرع الإِسلامي إلى اجتهاد ولاة أمور المسلمين في معاملة الحربيين من المنِّ أو الفداء، حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية، أو منح الذميين والمعاهدين والمستأمنين في المجتمع الإِسلامي حقوقًا مدنية، وإذنًا في البقاء على دينهم وعباداتهم، من غير إكراهٍ لهم على اعتناق الإسلام، فهو حقٌ جاء به الإسلام، وحفل به تاريخه، وفاق به جميع الأنظمة القديمة والحديثة، وقد شهد له بذلك الأعداء
(1)
، فهو بهذا المدلول فضيلة خلقية، ومنهجٌ نبيل في العلاقات الدولية، والتنظيم الاجتماعي، لا يثلم عقيدة، ولا يهدر كرامة، ولا يضيع حقًا.
وإن كان التسامح يعني: المداهنة، وإعطاء الدنية في الدِّين، وتسوية المسلمين بالمجرمين، وإدانة سبيل السابقين الأولين من المؤمنين، وإباحة جناب المجتمع المسلم لجحافل المنصرين والملحدين لإشاعة الفاحشة الفكرية والخلقية في الذين آمنوا، باسم "الحرية الدينية"، و"التعددية الثقافية"، و"التنوع الحضاري"، وما شابهها في زخرف القول، بحجة تحسين صورة الإسلام والمسلمين في أنظار الغربيين، فما هذا بتسامح، بل خنوع واستخذاء، ونزع للباس التقوى.
يقول أحد دعاة التقريب: "إن التسامح يعد خطًا حضاريًا يقضي بمنح الآخرين حرية التعبير عن الآراء والأفكار الَّتي تغاير الآخرين، كما يسمح بالعيش وفقًا للمبادئ والمعتقدات الَّتي لا ندين بها سوية، إن التسامح أصبح إذًا مسألة لا يمكن فصلها عن الحرية وحقوق الإنسان، إن التسامح
(1)
انظر نبذًا من صور التسامح هذا في كتيب: الإسلام والتفاهم والتعايش بين الشعوب.
يجب أن يشمل الجميع، وكل الأديان على وجه الأرض، إن العالم العربي مدعوٌ في المستقبل القريب إلى أن لا يواصل تجاهله لوجود عِدَّة بلايين من البشر على وجه البسيطة، من الذين لا يدعون الانحدار من إبراهيم، ولا يعني ذلك أبدًا أن حضاراتهم وأنماط تفكيرهم غير جديرة بالتقدير والاحترام، مثلما هو الشأن لحضارتنا ونمط تفكيرنا، بل يجب علينا إذا نحن المسلمين أن نطبق على الآخرين ما نطالب به لأنفسنا"
(1)
.
هذا مؤدي مفهوم التسامح الَّذي ينادي به دعاة التقريب، يضفي عباءته الفضفاضة على كل مشركٍ وثني، فضلًا عن اليهودي والنصراني، ويمنحه التقدير والاحترام من جهة حضارته وعقيدته، ويتيح له أن يجهر بالسوء من القول!
إن الغرب الَّذي يخطب هؤلاء التقريبيون ودَّه، لا يكف ليلَ نهار عن تشويه الإسلام في وسائل الإعلام والسخرية من أهله
(2)
، ولا يعوزه للقيام بهذا الصد عن سبيل الله وجود تصرفات طائشة مرفوضة تتسم بالعنف والعدوان من بعض المنتسبين إلى الإسلام، كما لن يوقفه بالمقابل أطراح هؤلاء التقريبيين بين أيديهم في ضعة وانخذال؛ فتلك عقيدة راسخة، وطبيعة متأصلة في نفوسهم منذ فجر الإسلام: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا
(1)
مقالة التسامح الإِسلامي - المسيحي، والتقارب العربي الأوربي ليسا بالمستحيلين. عبد الجليل التَّمِيمي. جريدة الحياة عدد (12398) الخميس 28 رمضان 1417 هـ 6 فبراير 1997 م.
(2)
انظر في هذه الدراسة الجادة والنصفة: (التغطية الإعلامية للإسلام) لإدوارد سَعِيد، أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا. وانظر كتاب:(تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر) دراسة نقدية في ضوء الإسلام. تأليف عبد اللطيف إبراهيم الحسين -أطروحة ماجستير- دار ابن الجَوْزي. الدمام. الطبعة الأولى (1419 هـ - 1999 م).
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}
(1)
، {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}
(2)
.
إن كل جريمة ترتكبها مجموعة دينية أو عرقية أو ثورية في أنحاء العالم لا تنسب في لغة الإعلام الغربي إلى الدِّين الَّذي تنتمي إليه تلك المجموعة، أو حتَّى الفرد، إلَّا حين تصدر عن مسلمين، فيقال رأسًا:(الإرهاب الإِسلامي)، و (الإرهابيون المسلمون)، ولا يقال لجرائم الصرب الفظيعة في البوسنة وكوسوفا:(إرهاب أرثذوكسي)، ولا لعلميات الألوية الحمراء في إيطاليا:(إرهاب كاثوليكي)، ولا لتفجيرات الجيش السَّرِيّ الإيرلندي:(إرهاب بروتستانتي)، ولا لأعمال القمع الَّتي يمارسها الجيش الإسرائيلي يوميًا:(إرهاب يهودي)، بل لا يقال لمجازر الهنود القوميين، وهدمهم المساجد المسلمين:(إرهاب هندوسي)، ولا لعمليات الجيش الأحمر الياباني:(إرهاب بوذي). كما لا توصف حملات التشويه والتشهير الإعلامي ضد الإسلام في الغرب بالتطرف وعدم التسامح. ودعاة التقريب، بحكم ثقافاتهم الغربية غالبًا، يدركون هذه الحقائق جيدًا فلا يزيدهم ذلك إلَّا تقربًا إلى الخصم الَّذي لا يمل من الابتزاز.
إن تحسين صورة الإسلام في أذهان الغربيين، والناس أجمعين، وإبراز محاسن الإسلام، لا يكون إلَّا بالتمسك به، والتأدب بآدابه، والدعوة إليه، ولا يكون أبدًا بانتقاصه، واجتزائه، والتخلي عن شيء منه قربانًا إلى
(1)
سورة البقرة، الآية (120).
(2)
سورة البقرة، الآية (145).
الكافرين، وموالاةً لهم من دون المؤمنين.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاضلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين الأديان السماوية يخطئون فهم معنى الآيات، كما يخطئون فهم معنى التسامح؛ فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي
(1)
"
(2)
.
الحريات العامة [إطلاقها على: الحقوق الشخصية، والعقدية، والفكرية، والسياسية، والاقتصادية]:
يقول الدكتور عبد الله الطريقي: "درج الكتاب المعاصرون على تسمية هذه الحقوق بالحريات، وأطلقوا عليها: الحريات العامة. ولكن هذا الإطلاق فيما يبدو لي محل نظر؛ لأمرين: أحدهما: أن المعنى اللغوي لا يساعد على هذا الاصطلاح؛ فإنها -أي الحرية- تعني: الخلوص من الرق، ويقال: ذهبٌ حر: أي خالص.
الثاني: أن أي أمر في الإسلام لا بد أن يكون عليه قيود وضوابط، وليست ثمة أمر مطلق متروكٌ لحرية الإنسان حتَّى في أمور الدُّنْيَا"
(3)
.
التخلق بأخلاق الله:
" من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ: ع.
(1)
في ظلال القرآن (2/ 912).
(2)
دعوة التقريب بين الأديان، (4/ 1525 - 1528).
(3)
فقه الاحتساب على غير المسلمين، (ص 44).
س. ح. سلمه الله وتولاه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: كتابكم الكريم المؤرخ في 23/ 3 / 1386 هـ وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤال عما قاله بعض الخطباء في خطبة الجُمُعَة من الحث على الاتصاف بصفات الله والتخلق بأخلاقه: هل لها محمل؟ وهل سبق أن قالها أحد؟
…
الخ. كان معلومًا.
والجواب: هذا التعبير غير لائق، ولكن له محمل صحيح؛ وهو الحث على التخلق بمقتضي صفات الله وأسمائه وموجبها، وذلك بالنظر إلى الصَّفات الَّتي يحسن من المخلوق أن يتصف بمقتضاها، بخلاف الصفات المختصة بالله؛ كالخلاق والرزاق والإله ونحو ذلك؛ فإنَّ هذا شيء لا يمكن أن يتصف به المخلوق، ولا يجوز أن يدَّعيه، وهكذا ما أشبه هذه الأسماء، وإنَّما المقصود: الصَّفات الَّتي يحب الله من عباده أن يتصفوا بمقتضاها؛ كالعلم والقوة والرحمة والحلم والكرم والجود والعفو
…
وأشباه ذلك، فهو سبحانه عليم يحب العلماء، قوي يحب المؤمن القوي أكثر من حبه للمؤمن الضعيف، كريم يحب الكرماء، رحيم يحب الرحماء، عفو تحب العفو .. الخ، لكن الَّذي لله سبحانه من هذه الصَّفات وغيرها أكمل وأعظم من الَّذي للمخلوق، بل لا مقاربة بينهما؛ لأنَّه سبحانه ليس كمثله شيء في صفاته وأفعاله، كما أنَّه لا مثل له في ذاته، وإنَّما حسب المخلوق أن يكون له نصيب من معاني هذه الصفات يليق به ويناسبه على الحدّ الشرعي، فلو تجاوز في الكرم الحدّ صار مسرفًا، ولو تجاوز في الرحمة الحدّ عطل الحدود والتعزيرات
الشرعية، وهكذا لو زاد في العفو على الحدّ الشرعي وضعه في غير موضعه، وهذه الأمثلة تدل على سواها، وقد نص العلّامة ابن القيِّم رحمه الله على هذا المعنى في كتابيه:(عِدَّة الصابرين) و (الوابل الصيب)، ولعله نص على ذلك في غيرهما كالمدارج وزاد المعاد وغيرهما، وإليك نص كلامه في العدة والوابل، قال في العدة صفحة 310: (ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر، كما أنَّ أبغض خلقه إليه من عطلها أو اتصف بضدها، ولهذا يبغض الكفور والظالم والجاهل والقاسي القلب، والبخيل والجبان والمهين واللئيم، وهو سبحانه جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، ستير يحب الستر، قادر يلوم على العجز، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، عفو تحب العفو، وتر يحب الوتر، وكل ما يحبه من آثار أسمائه وصفاته وموجبها، وكل ما يبغضه فهو ممَّا يضادها وينافيها" ا هـ.
وقال في الوابل الصيب (ص 543) من مجموعة الحديث: (والجود من صفات الرب جل جلاله؛ فإنَّه يعطي ولا يأخذ، ويُطعِم ولا يُطعَم، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأحب الخلق إليه من اتصف بمقتضيات صفاته،؛ فإنَّه كريم يحب الكرماء من عباده، وعالم يحب العلماء، وقادر يحب الشجعان، وجميل يحب الجمال) انتهى.
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية، وحصول للفائدة، وأسأل الله سبحانه أن يوفقنا جميعًا للفقه في دينه والقيام بحقه إنَّه سميع قريب، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته"
(1)
.
عين الله الساهرة
!
قال الشيخ إحسان العتيبي في نقده لكتاب "تربية الأولاد في الإسلام" لعبد الله علوان رحمه الله: "قوله: (الساهرة) خطأ؛ فلا ينبغي أن توصف بها صفة من صفات الله تعالى اللائقة بجلاله سبحانه؛ وهي صفة العين؛ لأن السهر لا يكون إلَّا في اللَّيْلِ، والسهر متعب لصاحبه، ويعقبه الحاجة للراحة في النهار، وكل ذلك -وخاصة أنَّه لا نص عند المثبت- منتفٍ في حقه سبحانه وتعالى"
(2)
.
الحمد لله الَّذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره، وتاهت الألباب في صمديته وكنه ذاته:
" سئل الشيخ: عبد الرَّحمن بن حسن رحمه الله عن قول الخطيب: الحمد لله الَّذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره، وتاهت الألباب في صمديته وكنه ذاته.
فأجاب: هذه الألفاظ ابتدعها من تمسك بقول أهل الكلام الحادث المذموم؛ فإنهم الذين تاهوا وتحيروا في الإِيمان الَّذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وإلَّا فطريقة القرآن: حمد الله لنفسه بأسمائه وصفاته، وما يعرف به، ويوجب الإِيمان به، ومعرفته وإثبات ربوبيته وصفاته كماله، فهذا هو توحيد المعرفة والإثبات، الَّذي هو توحيد المرسلين؛ ودعوا به
(1)
فتاوى الشيخ ابن باز رحمه الله (6/ 251 - 252).
(2)
"كتاب: تربية الأولاد في الإسلام في ميزان النقد العلمي"، (ص 8).
الأمم إلى توحيد الإرادة والقصد، الَّذي هو توحيد الإلهية، فإنَّ الرب الَّذي أبدع خلقه ما يشاهدونه من عظيم مخلوقاته، وتعرف إليهم بذلك، وبما دلهم عليه من كمال صفاته، وتصرفه في مخلوقاته، هو الرب الَّذي لا يستحق العبادة غيره.
فالرسل وأتباع الرسل كمَّل الله إيمانهم بذلك العلم والعمل؛ فقد قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} : فحمد نفسه بما يوجب الإِيمان به ومعرفته من عظيم مخلوقاته، واستدل بأدلة ربوبيته على ما يستلزمه من إلهيته، فقال:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}
(1)
فأنكر الشرك في حق من هذا وصفه، وإنكار الشرك يقتضي توحيد العبادة؛ بأن لا يراد غيره، ولا يقصد سواه، فانتظم ذلك نوعي التوحيد.
(2)
فحمد نفسه على إنزال الكتاب الَّذي هو أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض؛ وهو يقتضي الإِيمان بالكتب والرسل، وهو صراط الله المستقيم، الَّذي لا تزيغ به الأهواء؛ فهذا وأمثاله هو طريقة القرآن، محمد نفسه على ما يتعرف به إلى خلقه، ليعرفوه بذلك الَّذي أبدعه وأوجده وأنعم به، كقوله:
(1)
سورة الأنعام، الآية (1).
(2)
سورة الكهف، الآية (1).
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
(1)
الآية وأمثال هذا في القرآن.
وبتدبره والعلم به يحصل به كمال الإِيمان، وتنتفي الحيرة، ويحصل كمال الهداية، ويعصم القلوب أن تتيه في ربها وصفاته؛ فكل ما وصف به نفسه فلا حيرة فيه عند أهل الإِيمان الذين عرفوه بما تعرف به إليهم في كتابه، واطمأنت قلوبهم بالإيمان به، وجعلوه قصدهم ومرادهم.
وأمَّا أهل الجدل من أهل الكلام، فهم الذين تحيروا وتاهوا، كما أخبر بذلك نفر من متقدميهم، كما هو معروف لديكم بحمد الله"
(2)
.
أتوسل بصفات الله الكاملة الَّتي لا يعلمها إلَّا هو:
" كتب أحد تلاميذ الشيخ عبد الرَّحمن بن حسن رحمه الله إليه كتابًا يهنئه بقدوم ابنه الشيخ عبد اللطيف من مصر، وتوسل إلى الله في دعائه، بصفاته الكاملة، الَّتي لا يعلمها إلَّا هو.
فكتب إليه قال: وذكرت في وسيلة دعوتك، جزاك الله أحسن الجزاء عن تلك الدعوات، قلت: وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة، الَّتي لا يعلمها إلَّا أنت؛ فاعلم: أن الَّذي لا يعلمها إلَّا هو، كيفية الصفة؛ وأمَّا الصفة، فيعلمها أهل العلم بالله، كما قال الإِمام مالك:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول"، ففرَّق هذا الإِمام بين ما يُعْلم منه معنى الصفة، على ما يليق بالله، فيقال: استواء لا يشبه استواء المخلوق، ومعناه ثابت لله، كما وصف به نفسه، وأمَّا الكيف فلا
(1)
سورة فاطر، الآية (1).
(2)
"الدرر السنية"(3/ 228 - 229).
يعلمه إلَّا الله، فتنبه لمثل هذا، فالإمام مالك تكلم بلسان السلف"
(1)
.
عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم:
قال الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "من الخطأ وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنَّه عبقري بين عباقرة لا نبي ورسول بالمعنى الديني المعروف في الأديان المنزلة.
فالناشئ الَّذي يقرأ بعد عبقرية محمد عبقرية أبي بكر وعبقرية عمر مثلًا لا يمكن أن يَسْلَم من إيحاء خفي أنَّه عبقري من عباقرة وإن يكن أكبرهم جميعًا؛ كالذي سمى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بطل الأبطال، فأوهم أنَّه واحد من صنف ممتاز من النَّاس متجدد على العصور، بدلًا من صنف اختتم به صلى الله عليه وسلم صنف الأنبياء والمرسلين من عند الله؛ فالنبي والرسول يأتيه الملك من عند الله بما يشاء الله من وحي ومن كتاب، ولا كذلك العبقري ولا البطل، فالنبوة والرسالة فوق البطولة والعبقرية بكثير، وكم من الصَّحابة رضوان الله عليهم من بطل ومن عبقري وكلهم يدين له صلى الله عليه وسلم بأنَّه رسول الله إلى النَّاس كافة، في ذلك العصر وما بعده، وأنَّه خاتم النبيين"
(2)
.
العبثية:
تنطلق هذه اللفظة -أو الفكرة- كما يقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله من القول بأن حياة الإنسان لا معنى لها ولا هدف، إلَّا الإلحاد. ويرى أصحابها أن وجود الإنسان على الأرض مجرد مأساة، وأمرًا غير مفهوم أو معقول".
(3)
.
(1)
"الدرر السنية"(3/ 230 - 231).
(2)
"تأصيل اليقظة وترشيد الصحوة"(ص 111).
(3)
"أصالة الفكر في مواجهة التَّغريب
…
" (ص 163).
وقد رد تعالى على هؤلاء الظانين ظن السوء بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}
(1)
.
الرجل الأبيض:
يقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "من النظريات الَّتي يذيعها الاستعمار والتغريب، ويحاول أن يؤكدها في نظر الأمم الواقعة تحت نفوذه وسلطانه: القول بأن الرجل الأبيض -لا الإنسان عامّة- هو تاج الخليفة، وأن الغلبة له في كل صراع ينشب على وجه الأرض؛ سواء كان بينه وبين غيره من الأجناس الملونة، أو بينه وبين مظاهر الطبيعة كالجبال والغابات والبحار، أو بينه وبين الوحوش، ويرددون عبارة الكاتب الأمريكي شتانبيك: "الرجل الأبيض لا يغلب". وهم عندما يكتبون تاريخهم يبدؤونه بشعب أبيض هو شعب اليونان، وينقلون زعامة البشر بعده من أجناس بيضاء من: رومان وطليان وجرمان. فإذا ظهر شعب ملون وارتفع إلى مستواهم نظروا إليه بعين الَّذي يعتقد أنَّه الصعود الَّذي لا بد أن ينهار يومًا؛ لأنَّ أصحابه ليسوا من الجنس الأبيض، وقد كان ذلك موقفهم من اليابان.
ونظرية الجنس الأبيض لم تكن في الحقيقة إلَّا أسلوبًا من أساليب السيطرة عن طريق إخضاع بعض الأفكار الاستعمارية لمظهر علمي يخفي
(1)
سورة المؤمنون، الآيتان (115، 116).
وراءه أهواء الاستعمار، ويحاول أن يصورها بصورة الواقع المفروض، ويقلل من أهمية هذه النظرية تاريخيًا أن الدولة الرومانية سقطت في القرن الرابع الميلادي، وظلت أوربا أكثر من ألف عام تعيش ظلمات القرون الوسطى، بينما كانت أجناس أخرى ليست بيضاء تتولى مقاليد الحضارة الإنسانية وتذيعها في كل مكان، وتقيم مجتمعات من حدود الصين إلى حدود فرنسا وإيطاليا في قلب أوربا. وقد استطاعت هذه الحضارة أن تقدم للبشرية المنهج العلمي التجريبي، والجذور الأساسية لمختلف العلوم الطبية والطبيعية والكيميائية والفلكية الَّتي نماها الغرب بعد وأقام بها حضارته الحديثة. ومن هنا فإنَّ فكرة الجنس الأبيض نفسها لم تكن هي مصدر الحضارة.
هذا فضلًا عن أن هذا الاستعلاء باللون لم يكن يومًا من الأيام مصدرًا من مصادر التقدم أو الامتياز؛ فإنَّ الجنس الآري الَّذي يوصف بأنَّه الإنسان الأبيض قد وصل إلى أوربا قادمًا من قلب آسيا من فارس والهند. ومع ذلك فإنَّ شأنه في هذا يختلف عن شأنه هناك؛ وذلك لأن عوامل كثيرة ومختلفة هي الَّتي أعطت الأوربيين قيادة الحضارة في هذه المرحلة حين بلغ العرب والمسلمون مرحلة الضَّعف، والرجل الأبيض الَّذي "ورث" تراث العلم والحضارة العربية الإِسلامي قد استعلي في غطرسة وغرور عن أن يعترف بالفضل، وأنكر دور العرب والمسلمين، وحاول إطلاق كلمة العصور الوسطى المظلمة على العالم كله، وما زال ينظر إلى التاريخ من حيث بدأ في أوربا وينتهي بها. وتلك نظرة ظالمة بعيدة عن الإنصاف؛ تنكر حضارات
الأمم والشعوب المختلفة الَّتي سبقت وأثرت في مسيرة الحضارة البشرية الَّتي ليست هي نتاج الرجل الأبيض وحده، إلَّا أن يكون الرجل الأبيض هو وريثها والمتصرف فيها.
وقد كان الرجل الأبيض يدعي أنَّه ممدن البشرية، وأن سلطانه ونفوذه ليس إلَّا عملًا إنسانيا يستهدف تحضير الشعوب وتعميرها، واشتق اسم "الاستعمار" من التعمير. ولكن الشعوب رأت كيف كان الرجل الأبيض قاسيًا وظالمًا وعنيفًا، وأنَّه لم يكن ممدنًا بقدر ما كان مستعمرًا جشعًا يحرص على أن يمتلك كل شيء، وأن يسيطر على مختلف الخامات والثروات وينقلها إلى بلاده، دون أن يترك لأصحابها إلَّا الفتات القليل، وأنَّه كان حريصًا أن لا يقدم لهذه الشعوب من حضارته إلَّا الجوانب السلبية والبراقة، الَّتي تحمل جراثيم قتل الكيان والشخصية وتذويب القيم وتحطيم المعنويات؛ وذلك بقصد استدامة السيطرة، وإبقاء النفوذ، وإطالة أجل الاستعمار. وقد كشفت الأبحاث العلمية المنصفة خطأ نظرية الرجل الأبيض وتميزه عقليًا أو جسميًا، وتأكد أن ما حصل عليه من التقدم العلمي إنَّما هو تطور البشرية الطبيعي والجهد المشترك الَّذي ساهمت فيه مختلف العقول والقوى، وأن هذا التميز العلمي وحده ليس هو كل شيء في الحضارة، وإنَّما الحضارة قوى روحية ومادية، وأن العمل المادي الصرف منفصلًا عن الأخلاق والدين لم يحقق إلَّا أزمة العصر؛ أزمة العالم الَّذي كبر عقله وتوقف قلبه عن النمو، فباعد ما بين قوتيه الصانعتين لحياته.
وقد اتخذ الرجل الأبيض مفهوم روما القديم وطبَّقه في العصر الحديث؛
فأهل روما سادة، وما وراءها عُبَيْد، واستعمل قوته المادية وقدرته العلمية في غرور وتيه على الإنسان الملون، فأوجد التفرقة العنصرية، وحاول أن يقول بالحرية والمساواة والإخاء، فجعلها مقصورة على الأوربي والأبيض وحدهما، وأنكر حق الأجناس الملونة فيها، وبذلك أعطى البشرية ذلك الأسلوب المضطرب الَّذي أشقاها بالحضارة، وحول العلم إلى مجال الفتك والتدمير والصراع الذري النَّووي الرهيب، ولم يوجهه إلى منح الإنسانية الأمن بعد الشدة أو الغني بعد الفقر. وكان مصدر هذا الاضطراب جميعًا هو ذلك الفهم القائم على الغرور والاستعلاء؛ الفهم الَّذي يفرق بين الرجل الأبيض والرجل الملون، حيث تكشف حقائق التاريخ والعلم والاجتماع أن لا فروق عقلية أو جسمانية تميَّز جنسًا عن جنس ولا لونًا عن لون"
(1)
.
القديم:
" تجري المحاولات التغريبية إلى دعوتنا -نحن وحدنا (العرب والمسلمين) - إلى ازدراء القديم وكراهيته، بل ويسارع فيقم لها الشبهات الَّتي تحمل طابع السخرية والأحتقار لهذا القديم، ولكنه مع الأسف يتناقض مع نفسه فلا يفعل ذلك مع القديم الغربي، بل على العكس من ذلك فهو يُعلي من شأن القديم عنده، بل ويحاول أن يُعلي من شأن هذا القديم الخاص به عندنا؛ فهو يدعونا إلى الأدب الإغريقي، ويحيط الدراسات الهلينية بهالة من الفخر، ويحاول أن يربط بيننا وبين اليونانية واللاتينية. وتقرر الأبحاث والدراسات التاريخية أن الغرب لم يجدد نفسه ولم يدخل عصر النهضة إلَّا من طريق
(1)
"الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإِسلامي"(ص 293 - 295).
البعث والإحياء للإغريقيات واللاتينيات، فلماذا إذن هذا التنكر لتراثنا وقديمنا؟! ونحن نؤمن أن أي أمة لا تستطيع أن تذخل عصر النهضة إلَّا على أساس إحياء قديمها والارتباط به، ومن عجب أن الغرب قد أحيا تراثًا انفصل عنه ألف سنة، والصهيونية أحيت لغة انفصلت عنها ألفي سنة، ولكن المقاييس تختلف إذا جاءت للحكم على قديمنا وتراثنا الَّذي لم ينفصل عن أمتنا خلال أربعة عشر قرنًا متوالية متصلة، ولتستمع إلى عالم غربي هو كارل بيرسون يتحدث عن القديم:
إن من أقوى المؤثرات الَّتي تحفظ الثبات الاجتماعي وتحول دون تحلله تلك الصفة الَّتي نبغضها: صفة الجمود عليّ القديم، لا بل نقول إن العداء الصارخ الَّذي تقابل به الجماعات الإنسانية كل الفكرات الجديدة لمن أخص تلك المؤثرات، وهذه الصَّفات بمثابة الكور المتلظية نيرانه، والتي بدونه لا تستطيع أن تفصل بين المعدن الصحيح والفضلات الزائفة، وهي تحمي الجسم الاجتماعي من أن يترك معرضًا لتغيرات تجريبية فجائية غير مقيدة آنًا، أو بالغة أقصى الضرر آنًا آخر.
ويؤكد الباحثون أن الأمم الناهضة توازن بين روح القديم وروح الجديد، وتبني الجديد على أساس من القديم، وتجدد من القديم ما هو صالح وإيجابي، وترفض من الجديد ما هو غير صالح أو إيجابي أو يتفق مع كيانها ومزاجها وطابعها. وإن الدعوة إلى قطيعة القديم كالدعوة إلى تقبل كل جليد، وكلاهما معارض لناموس الوجود وسنة الحياة الَّتي تبني الجديد من مادة القديم.
فالتوازن بين القديم والحديث هو طابع النهضة الأصيلة، فإذا أهمل
القديم ضاعت مقومات الأمة وتعرض كيانها للخطر، واهتزت شخصيتها، وباتت معرضة لخطر الاحتلال، وإن كل دعوة إلى إنكار القديم إنَّما هي دعوة العدو، والمستعمر، وكل طابع في هدم هذه الأمة، والعمل على إفناء وجودها، ولوكانت الأمة العربية حرة لاستطاعت أن تقف موقف الإنصاف من تراثها، ولكنها واقعة تحت عواصف شديدة من الغزو الثقافي ودعوات التخريب المنبعثة من داخل الأمة نفسها، ومصدرها معاهد الإرساليات التبشيرية الَّتي تحاول أن تخدم أهداف المستعمر والنفوذ الأجنبي.
ونحن نحاول أن نجد مثل هذه الدعوة إلى تدمير القديم وسحقه والتشكيك في آداب الأمم الغربية فلا نجد، وإنَّما نجد عكس ذلك؛ حرصًا شديدًا واستماتة في الربط بين القديم والجديد، وبين تراث الوراقة والحي"
(1)
.
الكتب الصفراء:
" أطلقت عبارة (الكتب الصفراء) على كتب التراث العربي الإِسلامي لأنها كانت مطبوعة في العصور الأخيرة على الورق ذي اللون الأصفر، بيد أن هذه التسمية إنَّما كانت محاولة للسخرية بهذا اللون من الكتب وتحقيرًا له، بينما تمثل الكتب الصفراء عملًا مجيدًا بالغ الأهمية في تاريخ الحضارة الإِسلامية والفكر الإنساني.
ولقد كانت هذه الكتب الصفراء مصدر تنافس خطير بين الغربيين الذين نقلوها إلى بلادهم، وكانت مصدرًا للنهضة العلمية والفكرية المعاصرة، بل لقد بذل المستعمرون منذ وردوا العالم الإِسلامي جهودًا ضخمة في الحصول
(1)
"الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإِسلامي"(ص 218 - 219).
على ألوف المخطوطات والكتب المدفونة في المساجد القديمة، ونقلوها حتَّى عمرت بها مكتبات باريس وبرلين ولندن.
ولقد جهل المسلمون والعرب قدر هذه الثروة الضخمة وتحاموها فترة طويلة تحت ضغط الدعوات المضللة الَّتي كانت تدعوهم إلى النظر إليها بعين الاحتقار إزاء المؤلفات الغربية الحديثة الباهرة المظهر، ولكنهم عادوا من بعد إلى إيمان عميق بترائهم، وانتقل كثير من أعلامهم إلى خزائن الكتب الغربية يصورون هذه المؤلفات وينقلونها إلى وطنها مرَّة أخرى.
ولقد حوت هذه الكتب الصفراء دررًا من العلم والفكر، وخاصة كتب الفقهاء الَّتي ضمت عشرات من حلول القضايا والمعضلات، وكتب التاريخ الَّتي جمعت مئات المواقف وتراجم الأبطال، وكتب الكيمياء والطب والعلوم الطبيعية المختلفة الَّتي قامت عليها نهضة أوربا الحديثة، والتي كشفت للغربيين:"أصول المنهج العلمي التجريبي الإِسلامي".
وما تزال هذه الكتب الصفراء مرجعًا ثريًا للمسلمين والعالم كله، بما حوت من تراث ضخم حي، لم يستطع المعاصرون استيعابه والانتفاع به"
(1)
.
المهندس الأعظم: [وصف الله عز وجل بها]:
قال الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "أمَّا كلمة (المهندس الأعظم) فهي من التسميات الباطلة الَّتي فرضتها (الماسونية) كصفة لله تبارك وتعالى. والحقيقة كما يفهمها المسلمون تقرر بأن الله تبارك وتعالى هو خالق كل
(1)
"الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإِسلامي". (ص 219).
شيء من العدم، ومالك كل شيء، والمتصرف في كل شيء، وله الخلق والأمر، ولذلك فإنَّ وصفه بكلمة المهندس الأعظم لا تمثل حقيقة، ونحن مأمورون بألا نسمي الحق تبارك وتعالى إلَّا بأسمائه الحسنى"
(1)
.
النرفانا:
قال الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "إن كلمة: (النرفانا) تصور الإنسان وقد وصل إلى مرحلة التشبع، وعدم الحاجة إلى شيء من الدُّنْيَا، وهو مفهوم ضال مضل، لا يقره الإسلام الَّذي ينهي عن الرهبانية والوثنية جميعًا"
(2)
.
الخطيئة والتكفير:
يقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "إننا كمسلمين لا ينبغي لنا أن نستعمل كلمات: الخطيئة، أو الفداء، أو الصلب، أو الخلاص، وهي ليست كلمات عربية، ولكنها كلمات يونانية دخيلة، ولنا كمسلمين في تقديرها مفهوم خاص؛ فالمسلم لا يؤمن بما يسمى الخطيئة الأصلية، أو الفداء، أو الصلب؛ ذلك لأنَّ السيد المسيح عليه السلام لم يصلب:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}
(3)
. وإن فكرة أنَّه افتدى البشر بسبب خطيئة آدم ليست إلَّا من الأفكار الواغلة في الوثنية، الَّتي نقلها شراح المسيحية من عقائد قديمة، ولم تكن من رسالة السيد المسيح المنزلة"
(4)
.
(1)
"الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإِسلامي"(ص 11).
(2)
"الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإِسلامي"(ص 11).
(3)
سورة النِّساء، الآية (157).
(4)
"الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإِسلامي"(ص 11)، وقد سمي الدكتور عبد الله =
وقال الأستاذ محمود شاكر رحمه الله في رده على من دافع عن النصراني المصري لويس عوض: "وقبل أن أبدأ في بيان ما أريدُ من خطر هذه الكلمات المختلطة التي تُلقى بلا حساب، أحبُّ أن أسأل سؤالا، لا أوجهه إلى الدكتور مندور، بل لكل من لا يدينُ بالإسلام من المواطنين: ما الذي يجرح مشاعرَ أحدٍ منهم إذا قلنا: إن لفظ "الخطيئة"، و"الخلاص"، و"الفداء"، و"الصلب" -وهي ألفاظ ذات دلالات واضحة في العقيدة المسيحية- ليست لها هذه الدلالات عندنا نحن المسلمين، وليس لها تاريخ أو أثر في حياتنا، كتاريخها وأثرها في حياتهم، وأن المسلم إذا استعملها، فإنه يستعمل ألفاظًا لا تؤدّي معنى واضحًا في نفسه؟ وبلا ريب، لا يستطيع مجيبٌ أن يقول: إن هذه المقالة تجرحني وتؤذي مشاعري! فإنه عندئذ يكون متجنيًا أكبر التجنّي في إلزام من لا يدين بدينه أن يدين بمدلولات ألفاظ لا أصل لها في عقيدته. أليس كذلك؟ فاستخدام الدكتور مندور "أسلوب الحكيم" في عرض هذه المسألة ضربٌ من المغالطة، وتحويل للأمر كُلّه عن مُستَقِرِّه، وإدخالٌ للسفسطة في مقام لا يحسنُ فيه إلا صريح العقل والمنطق. وإذا جاز للدكتور مندور أن يقول هذا للمسلمين، حتى ينتهوا عن إنكار ذلك على مَن يستعمله، لجاز أيضًا لمن يعكس الأمور من المسلمين أن يقول لأهل المسيحية: أرجوكم أن لا تستعملوا لفظ "الخطيئة"، و "الخلاص"، و "الفداء"، و "الصلب"؛ لأن ذلك يجرح مشاعر المسلمين؟ أمن العدل أن يطالب أحدٌ نصرانيًا بمثل هذه الحجة المتهافتة؟ هذا خَلفٌ من القول رديء.
= الغذامي أحد كتبه "الخطيئة والتكفير"! انظر: "الانحراف العقدي في أدب الحداثة" للدكتور سعيد الغامدي، (1/ 351).
وأمر الدين أمرٌ جلل لا يقضي فيه الدكتور مندور او لويس عوض أو غيرهما بما يشتهي هو ويحبُّ، بألفاظٍ يراها هو داَّلة على معنىً مفهوم، وهي لا دلالة لها إلا على سوء تصور الأمور المشكلة التي تُفضي إلى أكبر الأخطار. فقول الدكتور مندور:(إننا نحن المسلمين نعتبر جميع الديانات السماوية جزءًا من تراثنا الروحي للبشرية جمعاء)، قول لا يقوم على ساقٍ صحيحة ولا ساق عرجاء، وليس يصحُّ له أن يُذيعَ مثل هذا على الناس، بلا احتفالٍ ولا تقدير لدلالاته، وأقل ما فيه من الخطأ أن قائله لا يحسن أن يفرق بين معنى "الديانة" كما يعرفها كل ذي دين، وبين معنى "الكتاب" الذي أنزله الله على نبيّ من أنبيائه؛ فالمسيحي مثلًا، لا يعدُّ الديانة اليهودية ولا الديانة الإسلامية جزءًا من تراثه الروحي، وإلا انتقض عليه دينه، واليهودي أيضًا لا يعد الديانة المسيحية، ولا الديانة الإسلامية جزءًا من تراثه الروحي، وإلا انتقض عليه دينه، وكذلك المسلم لا يعد الديانة اليهودية ولا الديانة المسيحية جزءًا من تراثه الروحي، وإلا انتقض عليه دينه؛ لأن كل ديانة من هذه الثلاثة عقيدة شاملةٌ منتزعة من كتابها كما هو عندها، وكما تفسرّه، وكل عقيدة منها تنقض كثيرًا من عقائد الديانتين الأخريين، فغير معقول بوجهٍ من الوجوه أن تعد شيئًا مما تنقضه جُزءًا من تراثها الروحي، إلا إذا كان معنى "التراث الروحي" متَّسِعًا للتناقض الذي لا يقبله عقل عاقل!!
فنحن المسلمين إنما أُمِرْنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، وأنزل الإنجيل على عيسى ابن مريم عليه السلام، وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالحق مصدِّقًا لما بين يديه
من الكتاب ومهيمنًا عليه؛ أي شاهدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظًا لها؛ فما وافق القرآن فهو الحق، وما خالفه فالله حاكم بيننا وبينهم فيه يوم القيامة، وهذا بلا ريبٍ صريح المعقول. أما أن يكون ما وافق القرآن وما خالفه جميعًا جزءًا من التراث الروحي للمسلمين وغير المسلمين، فهذا إبطالٌ لقضية الدين كُلِّها، ويكون معناهُ عندئذٍ أن تنمحي جميع الفروق بين الديانات، وخيرٌ للناس يومئذٍ أن يعترفوا جميعًا ببطلان دياناتهم، ويلتمسوا لأنفسهم دينًا آخر يجتمعون عليه، وهذا شيء لا يقول به أحدٌ من أهل الأديان.
وندعُ هذا الخلط في كلام الدكتور مندور، إلى دلالة الألفاظ التي سبق أن ذكرت في مقالتي الخامسة: أن لويس عوض منذ ملأه مالئه في: "الخلوة المشهودة بين أشجار الدردار عند الشلال بكامبردج"، ثم أطلقه خلال الأدب عامّة، والآداب العربية خاصة، لا يكاد يرى في سماديره إلا "الصليب"، و"الخلاص"، و"الفداء"، و"الخطيئة". ولا يكاد يرى ما يكتبه الكتاب والشعراء؛ كتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور، وغيرهم، إلا مقرونًا بهذه العقائد، وهذه الألفاظ هي نفس الألفاظ التي جاءت في مقال الدكتور مندور، وأفتى فيها بما أفتي!!
وهذه الألفاظ الأربعة ينبغي أن تدرس بلا غموض ولا إبهام، كما يحاول ذلك من يحاول من صبيان المبشرين، وبلا استهانة بدلالاتها كما يحلو ذلك للدكتور مندور وغيره ممن يعدُّها رموزًا لثُراثٍ روحي، لا بأس على المسلم في استعمالها. كلا! إن على المسلم كل البأس؛ لأنه طريقٌ محفوفٌ بالمخاطر،
لمن صدق نفسه، وعرف حُرْمة الكلمة كيف تقال، وكيف تفسَّر، وكيف توضع في موضعها.
وترتيب هذه الكلمات الأربعة في دلالتها عند القوم يأتي هكذا: "الخطيئة"، ثم "الفداء"، ثم "الصلب"، ثم "الخلاص".
وتلخيص معنى هذه الألفاظ الأربعة في العقيدة المسيحية: أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم من تراب وقال له: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}
(1)
فأزلهما الشيطان عنها، فبهذه المعصية كما نقول نحن، وهي "الخطيئة" عند النصارى، أصبحا هما وذريتهما تحت سلطان هذه الخطيئة، لا ينفكّون منها، واستحق البشر جميعًا، بخطيئة والديهم، عقاب الآخرة وهلاك الأبد، وهذا هو ناموس العدل الذي لا يتغيَّر، يستحقه من عصى الله سبحانه عندهم، ومن ورث خطيئة آدم وزوجه؛ فإن عاقب الله آدم وذريته على خطيئتهم بهلاك الأبد، فذلك ما يوجبه ناموس عدله في حكمه، ولكن ناموس رحمته يستوجب العفو عنهم، فناقض ناموس العدل ناموس الرحمة، فتطلَّب الأمر شيئًا يجمع بين الرحمة والعدل، فكانت الفِديَة التي يتم بها ناموس العدل، ويتحقق بها ناموس الرحمة، ولكن ينبغي أن تكون الفِدْية طاهرة غير مدنّسة، وليس في الكون ما هو طاهرٌ بلا دنس إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن تعالى الله عن أن يكون فِدَيةٌ، فأوجبت المشيئة أن يتخذ جسدًا يتَّحد
(1)
سورة البقرة، الآية (35).
فيه اللاهوت والناسوت، فاتَّحدا في بطن امرأة من ذُرِّية آدم هي مريم، فيكون ولدها إنسانًا كاملًا من حيث هو ولدها، وكان الله -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- في الجسد إلهًا كاملًا، فكان المسيح الذي أتى ليكون فدية خلقه، وهذا هو "الفداء"، ثم احتمل هذا الإنسان الكامل والإله الكامل أن يقدم ذبيحة، ليكون ذبحه تمزيقًا لصكِّ الدينونة المصلت على رأس بني آدم، فمات المسيح على الصليب، فاستوفي ناموس العدل بذلك حقَّه، واستوفي ناموس الرحمة بذلك حقه، وهذا هو "الصلب"، وكان احتمال ذلك كله كفارةٌ خطايا العالمين، تخلّصهم من ناموس هلاك الأبد، وهذا هو "الخلاص". ولما كان البشر كلهم خُطاةً بخطيئة أبيهم آدم وأمهم، فهم هالكون هلاك الأبد، ولا ينجيهم من عقاب الشريعة الإلهية العادل المخيف، سوى إيمانهم بالمسيح الفادي، وبحضوره في كل وقت في قلوب المؤمنين، في الفرح والحزن، والشقاء والسعادة، فهو الذي يؤازرهم بما يحتاجون إليه من العون والحكمة، ويخلصهم من ثقل الخطيئة، وينجيهم من العقوبة المستحقة عليهم منذ كانت الخطيئة الأولى.
وهذه "الألفاظ الأربعة" لا تعامل معاملة أشباهها، من جهة دلالتها على عقيدة متكاملة؛ فالخطيئة، في لغة العرب الجاهلين، ثم في لغة المسلمين، لا تحمل شيئًا من معانيها ولوازمها في لغة النصارى، وإن كان اللفظ واحدًا، ومعصية آدم عندنا معصية كسائر المعاصي؛ تمحوها التوبة، وخطيئة كسائر خطايا الناس؛ تغسلها المغفرة ممن يملك المغفرة، وهو الله سبحانه، وقد بين
(1)
فكانت توبة آدم ماحية لمعصيته في الدنيا والآخرة، لا تستتبع عقوبة باقية، وأن الله سبحانه كتب في صحف إبراهيم وموسى:{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(2)
فلا يرث مولود خطيئة والدٍ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}
(3)
. فهذا ينقض على المسلم استعماله لفظ "الخطيئة" بمدلولها في الديانة المسيحية؛ لأن هذا الضرب من "الخطيئة" لا أصل له في عقيدته، بل هو منهيٌ أن يعتقد توارُثَ الخطيئة؛ لأنه إذا اعتقد ذلك كذّب خبر الله في كتابه بأن لا تزر وازرة وِزرَ أخرى، وتكذيب خبر الله واعتقاد خلافه كُفرٌ مجرَّدٌ لا يختلف في ذلك أحدٌ من المسلمين، ولا العقلاء عامة، مسلمين أو غير مسلمين.
وإذا بطل أن يكون للفظ "الخطيئة" عند المسلمين معنى يحمله، كالذي هو عند النصارى، بطل أن تحتاج معصية آدم إلى فدية تتطلبها ضرورة الجمع بين الرحمة والعدل. و"الفداء" بالمعنى الذي تدل عليه عقيدة النصاري غير
(1)
سورة البقرة الآيات (35 - 37).
(2)
سورة النجم، الآية (38).
(3)
سورة النجم، الآيتان (39، 41).
مفهوم عند أحدٍ من المسلمين، ولا يرى ما يستوجبه؛ إذ لم تكن الخطيئة عندهم متوارثة في الذرية، وأما ما أستوجب معنى الفداء من ألوهية المسيح وبنوته الله -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- فإن الطفل الصغير يقرأ في أول ما يقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
(1)
ثم يتعالى حتى يقرأ بعد ذلك: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}
(2)
، إلى آيات كثيرة بهذا المعنى، فاستحال أن يكون ذلك من عقيدة أحد من المسلمين، وإذا استحال هذا، استحال ما يوجب معنى "الفداء"، ولا يبقى لهذا اللفظ سوى المعنى اللغوي العربي المشهور.
وإذا بطل هذان المعنيان لهذين اللفظين: "الخطيئة"، و"الفداء"، على الوجه الذي هو من عقيدة النصارى وديانتهم، لم يكن للفظ "الصلب" بعد ذلك أي معنى، سوى المعنى اللغوي المشهور، سواء كان المسيح قد صلب كما يعتقد النصارى، أو لم يصلب كما يعتقد المسلمون، بما أنباهم الله سبحانه وتعالى؛ إذ يقول في كتابه الكريم حين ذكر اليهود وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
(1)
سورة الإخلاص.
(2)
سورة المائدة، الآية (17).
شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}
(1)
.
وإذا استحال أن يكون لهذه الألفاظ الثلاثة معنى عند مسلم يعتقد صدق ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ربُّه من القرآن، استحال أن يكون للفظ "الخلاص" معني مفهوم عنده، على الوجه الذي يعتقده مَن يدين بالنصرانية وعقائدها.
وإذا استحال أن يكون لهذه الألفاظ الأربعة: "الخطيئة" ثم "الفداء" ثم "الصلب"، ثم "الخلاص"، معني عند المسلم على الوجه الذي تدلّ عليه عند أصحابها، فكيف تكون جزءًا من تراثه الروحي؟ أهذا كلام يُعقل، كلاّ بلا ريب، لا يعقله مسلم ولا نصراني ولا مجوسي، ولا ما شئت من أصحاب العقائد والديانات، ولا يخرج عن أن يكون سُخفًا لا يُستغفل بمثله النصاري إرادة أن نستلب مودتهم. ولن يؤذيهم ويجرح مشاعرهم أن نكون صُرحاء في التعبير عن وجوه الخلاف بينا وبينهم في العقيدة، ولكن ربما آذاهم أن نتخذ ألفاظ عقيدتهم لهوًا، بإدخالها في باب المداهنة السخيفة التي لا تدل على عاطفة صحيحة، بل على آفةٍ شديدة في هذه العاطفة، وكيف لا يؤذيهم وهم يعرفون أننا نقول لهم شيئًا فيما يمسُّ عقائدهم، ونحنُ نبطن شيئًا غيره، بل نبطن في الحقيقة إنكاره وتكفير القائل به، إن هذا الفعل أقرب إلى السخرية بهم والاستهزاء بعقولهم، وهذا بيان كاف في هذا الأمر إن شاء الله.
(1)
سورة النساء، الآيتان (157 - 158).
أما مسألة استخدام الشعر الجديد لهذه الألفاظ الأربعة، فلا بد من تحديد وجهة النظر إلى هذا الموضوع؛ فالشعر تراثٌ عام في كل لغة من اللغات وسواء كان المتكلم بهذه اللغة مُشركًا، أم يهوديًا، أم نصرانيًا، أم مجوسيًا، أم مسلمًا، أم جاحدًا لذلك كله كافرًا به، فمن حقه أن يستخدم شعر اللغة للبيان عما في نفسه، لا يملك أحدٌ أن يدفعه عن ذلك، وليس يجعل شعرهُ حسنًا أن يكون اعتقادُ الشاعر حسنًا عند قارئه، ولا يجعله سيئًا أن يكون اعتقاد الشاعر سيئًا عند قارئه، فالشعر هو كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:"الشعر كلام، فحسنهُ حسنٌ، ورديئه رديء، فخذ الحسن واترك الرديء".
وإذا كان الأمر كذلك، فليس يعيب شعرًا يقوله نصراني أن يأتي فيه بألفاظ أهل ملته، ما دام صادقًا في التعبير عن نفسه بكلام جيد يدخل في باب الشعر، وتأتي على النفوس أزمان وأحوال تكون بعض ألفاظ العقيدة كأنها جوٌّ شاملٌ محيط بالنفس الإنسانية، عميقٌ الوخز فيها، شديد التفجير لها من نواحيها، فتجري الألفاظ عندئذ في مدِّ النفس، تلوح معبرة عن معان مختزنة من تجارب القرون التي عاشت بهذه العقيدة، ومن التجربة الحديثة التي نبعت وانبثقت في نفس هذا الشاعر أو ذاك، فالنصراني المعتقد في "خطيئة" أبيه آدم أنها خطيئة لا تمحوها توبة، وأنه ورث هذه الخطيئة في دمه، وأن نكال الهلاك الخالد جاثم على روحه، إذا استدفعه الإحساس الطاغي الصادق إلى الإبانة عن كل ما في نفسه من تراث دينه وعقيدته وثقافته، فذكر بعد ذلك "الفداء"، و"الصلب"، و"اخلاص"، في حق موضعه من الشعر، فقد أحسن غاية الإحسان في الإبانة عن نفسه، وعسى أن يقرأه
المسلم وغير المسلم، ممن شم طرفًا من معرفة عقائد النصرانية، فيهتزَّ لهذا الشعر اهتزازه لأي شعر آخر، ضُمِّن بيانًا مشرقًا عن إحساس صحيح نابض، وأظن أن الذين يتكلمون في "معركة الشعر"، لم يريدوا قط أن يحجروا على النصارى أن يقولوا من جيِّد شعرهم ما جادت قرائحهم بالجيد من الشعر، ولم يستنكروا على ذي عقيدة أن تجري ألفاظ عقيدته في شعره.
ولكن الشيء العجيب المحير، هو أن كثيرًا من رُوَّاد الشعر الحديث في السنوات الأخيرة، قد أوغلوا في استخدام هذه الألفاظ الأربعة، وقليل من أشباهها في شعرهم، وهم جميعا مسلمون!! فالأمر عندئذٍ يوجب إعادة النظر. أهؤلاء جميعًا قد تواطأوا على استعمال هذه الألفاظ الأربعة بدلالتها اللغوية المجردة، أم بدلالتها التي تتطلبها العقيدة المسيحية: مترابطة متواصلة لا ينقطع حبل معانيها المتداعية من "الخطيئة" إلى "الفداء"، إلى "الصلب"، إلى "الخلاص" كما أسلفت بيانه؟
فإذا كانوا قد تواطأوا على استعمالها بدلالتها اللغوية المجردة فما الذي ألزمهم هذه الألفاظ الأربعة، ولم يضعوا مكان الخطيئة مثلا "الإثم"، أو "الذنب" أو "الحُوب" أو "المعصية"، أو "الزلَّة" أو ما شئت؟ وكيف تواطأوا -على تباعد الديار والأوطان- على هذه الكملة؟ وأي سحر فيها؟ ولم قالوا:"الفداء" وأكثروا، ولم يقولوا قط:"الكفارة"؟ ولم قالوا: "الصلب" و"الصليب"، ولم يقولوا:"الشنق"، و"المشنقة"، وهي أشهر وأعرف وأكثر استعمالًا إلى اليوم؟ ولم قالوا:"الخلاص"، ولم يقولوا "النجاة"؟ والجواب بلا شك أنهم لم يستعملوها بدلالتها اللغوية، ولا فكروا في ذلك، لأسباب
كثيرة جدًا، أقلها أن التواطؤ على هذه الصورة في ألفاظ أربعة من اللغة، يدخل في باب المُحال عقلًا حدوثه، إذا زعم الزاعم أن ذلك واقع اتفاقًا ومصادفة، فطابق الألفاظ الأربعة التي تقوم عليها العقيدة المسيحية.
ومن المغالطة الفاضحة ما قرأته في صحيفة لويس عوض، (المعروفة الآن بصحيفة الأهرام!!)، حيث زعم الكاتب أن أكبر ما أضافته الحركة الشعرية الجديدة هو الاستعانة بالرمز؛ فالصلب عند كثير من الشعراء رمزٌ لتضحية الإنسان في سبيل القيمة التي يؤمن بها، والإسلام: يعرف كلمة "الخطيئة" كما قال القرآن الكريم: (واغفر لي خطيئتي يوم الدين) وهذا نص كلامه!! ولست أدري كيف يتكلم الناس هذه الأيام؟ أبألسنتهم دون عقولهم؟ أم بهواجسهم دون تأملاتهم؟ أم بخطراتهم دون أفكارهم؟ لماذا كان "الصلب" رمزًا للتضحية، ولم يكن القتل، ولا الشنق، ولا المُثلة، ولا "الخازوق"، ما دام الأمر يتعلق باللفظ دون دلالته المرتبطة بمصلوب بعينه أو مقتول أو مشنوق أو ممثَّل به أو مُخَوزقٍ؟! وأما "الخطيئة"؛ فلم يقل لنا ما هو الرمز الذي اتُّخِذَت له؟ الإسلام كما يعرف "الخطيئة" -وهي التي يحتقبها أبناء آدم- يعرف "المعصية" و"الذنب"، وقال في ذكر أبينا آدم:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}
(1)
ولم يُسَمِّ معصية آدم "خطيئة" قط، فهذه مغالطات معيبة، (وبالمرة يحسن أن يقال لهذا الكاتب ألا يتَّبع سبيل المستهينين بحقوق الألفاظ والنقول، فليس في القرآن آية كالتي ذكرها، بل الذي قال الله تعالى:
(1)
سورة طه، الآية (121).
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
(1)
فلزم التنويه)! يا للعجب لصحيفة الأهرام!! ما أشد عنايتها وحفاوتها بما ينشر فيها!
وقد ذكرتُ هذه المغالطة، لأنها هي الطريقة المستعملة حديثًا (!!) في التفكير، ولأنها هي الستارُ الذي يلقي على الحقيقة المفزعة، مضافًا إليه توابل من ذكر التطور وسائر الألفاظ التي تباعُ الآن في الصحف منظومة في الأعمدة، كما تباع عقود الفُل والياسمين على الأرصفة!! ولكن من البيّن أن هذه المغالطة قريبة مكشوفة، كما سلف، والحقيقة أن الأمر كلّه يتلخص في كلمات قلائل:
فهذه الكلمات الأربع، وهي أسُّ العقيدة المسيحية، لا يمكن أن تقع اتفاقًا، فيتواطأ عليها بعض الشعراء، لا عن عقيدة، بل عن رمزٍ لشيء يجدونه في حياتهم، فلا يجدون إلا هذه الأربعة بأعيانها. هذا بالطبع، ولكن الواقع أن في بعض البلاد وبعض الطوائف من جعل ديدنه في شعره ذكر هذه الأربعة، ولا يعاب أن يذكرها لأنه مسيحي يعيشها عقيدة واقتناعًا، بجميع ما تلزمه العقيدة من امتداد معاني هذه الألفاظ وروابط بعضها ببعض.
ولكن هذا الضرب من الشعر قد تولى منذ قديم بعضُ صبيان المبشرين الترويج له، والإكثار من التلويح بأنه الجديد الذي لا جديد غيره، وأكثروا في ذلك الصخب واللجاجة في الصحف والمجلات، وقارن ذلك تفشِّي شعر "إليوت"، ومذهبه في تحديد الثقافة، وأن ثقافة الشعب، ودين الشعب،
(1)
سورة الشعراء، الآية (82).
مظهران مختلفان لشيء واحد؛ لأن "الثقافة" في جوهرها تجسيد لدين الشعب، وأن السير إلى الإيمان الديني عن طريق الاجتذاب الثقافي ظاهرة طبيعية مقبولة. هكذا يرى "إليوت".
ويمكر وخبث شديد مزج بين "إليوت" ومذاهبه، وبين هذا الشعر الذي يحمل هذه الألفاظ الأربعة في فئة غريبة الأطوار من دراويش جبل لبنان. وجلجل الدعاة بالمقالات الطنانة، واتخذت في كل بلد عربي ركائز لهذه الأبواق تذيع ما يلقى إليها أو تُلقَّنه، وظهر في مصر في أوائل هذا الوقت صبيُّ "الخلوة المشهودة تحت أشجار الدردار"، وأطافت به طائفة على شاكلته، وكان يومئذ في الجامعة مدرسًا للغة الإنجليزية، وكتب شعر بلوتولاند الذي دللتُ عليه -وكان الصبي القديم "سلامة موسي" قد هَرِمَ وصار كهفًا لأغيلمةِ المبشرين في مصر- وبدأ لويس عوض نفث السموم، فصادف ذلك شبابًا قلَّ محصولهم من الجد في القراءة، وسَئِمُوا الشيء الذي يلقى إليهم فلا يفهمونه ولا يحترمونه، لأن نظام دنلوب كان قد انتهى إلى غايته في قتل اللغة العربية في عُقرِ دارها في مصر، ولا يزال يفعلُ إلا أن تتداركها العزائم المخلصة"
(1)
.
تطوير الدين:
قال الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "هناك مصطلحات تتعلق بالفكر الغربي والديانة المسيحية لا يجب أن يخضع لها الفكر الإسلامي
(2)
، من
(1)
أباطيل وأسمار (1/ 206 - 218).
(2)
. الصواب أن يقال: يجب ألا يخضع لها الفكر الإسلامي. (الناشر).
ذلك: (تطور الدين). والدين الذي يتطور هو الدين البشري الذي لا يستطيع أن يعاش البيئات والعصور؛ فهو في حاجة إلى تعديل بالإضافة والحذف، وهذا لا ينطبق على الإسلام؛ ذلك لأن الإسلام منهج رباني متكامل، جامع، له أطره الواسعة القادرة على الحياة والحركة مع مختلف المجتمعات والعصور، ولذلك فهو لا يحتاج إلى تطور، وهو قادر على العطاء في كل وقت، وله قيمه الثابتة وقيمه المتغيرة"
(1)
.
المعاصرة:
" والمعاصرة: مصطلح حديث يُراد به أمران:
أن الإسلام في حاجة إلى المعاصرة، وأن الإسلام يعلي من شأن الأصالة أو السلفية أو المحافظة على التراث والقديم. وهي دعاوي كلها باطلة بدليلين:
1 -
دليل جوهر الإسلام نفسه الذي كان دائما قادرا على العطاء في مختلف العصور والبيئات، ومقوماته المرنة الواسعة القادرة على تقبل كل تطورات العصر ونمائه الفكري والاجتماعي والحضاري.
2 -
ودليل التاريخ نفسه؛ فمتى وقف الإسلام أمام التطور والنماء وحركة التاريخ؟ إنه لم يجمد أبدًا؛ لأن الجمود لا يدخل إلا على الأشياء التي وجدت ولم تكن موجودة، كما هو بالنسبة للغرب في شأن العلم وشأن الثوابت والمتغيرات، وفي شأن الموقف من توجيه المجتمعات والحضارة ومن القومية، وموضوعات أخرى.
(1)
"الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي"(ص 12).
أما بالنسبة للإسلام؛ فالإسلام هو الذي فتح الباب أمام العلم حين دعا إلى البرهان والنظر في السماوات والأرض، ودعا إلى السعي والعمران، وكانت هذه المسائل جديدة على الفكر المسيحي الغربي فاضطرب لها، ومن ثم قامت لديه فكرة العلمانية والانشطارية والتقسيم الفاصل بين الروحيات والماديات، وغلبة المذهب المادي وإنكار الخالق وإرادته، وإغراقه في الفصل بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، هذا الفصل بين العلم والعمل الذي أدخل على الحضارة الغربية والفكر الغربي ذلك التمزق الشديد الذي أورث هذه الحضارة هذا الصراع الشديد بين الحتمية والجبرية.
إن الإسلام يقدر المعاصرة، ويقدر التطور، ويقدر حركة التاريخ، ويقدر المتغيرات، ويقدر الانفتاح، ولكنه يضع لكل هذه المعايير ضوابط وقوانين من شأنها أن تحفظ له جوهره وتحول دون تمزق كيانه القائم على التكامل بين المادة والروح، والملتزم بالتوحيد الخالص، والمؤمن بالمسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي والجزاء الأخروي.
ومن ثم فإن المعاصرة عنده والتقدم لا يقومان من فراغ، ولا يغلبهما الجانب المادي؛ لأن كل حركة في الإسلام لا بد أن يتكامل فيها المادي والمعنوي، وأن تكون الوجهة لله خالصة في حركتها، والإسلام يؤمن بالانفتاح ولكنه انفتاح منضبط ومشروع بحيث لا يؤثر على الطابع الإسلامي، ولا يدخل المسلمين في تبعية أو انصهار في قيم مجتمعات أخرى.
إن هؤلاء الذين يتحدثون عن العصرية والحداثة والتقدم لا يعرفون أن للإسلام في ذلك قانونًا واضحًا، ونظامًا مقررًا، ولكنهم يخدعون الناس
حين يتحدثون عن التطور والتطوير، ظنًا منهم أنهم يستطيعون هدم القيم الثوابت وهم يتحدثون عن التطور بمفهوم الفكر الغربي المادي البشري، الذي هو مجموعة نظريات قدمها فلاسفة ثم اخترقتها المتغيرات، فهي في حاجة إلى إضافة وحذف، وليس كذلك الإسلام الذي هو نظام رباني:(إنساني الوجهة عالمي النظرة)، والذي قام على أساس (الثوابت) التى لا تتغير ولا تتطور، و (المتغيرات) التي تتحرك في داخل الثوابت، أما دعاوي تطوير الشريعة، وتطوير اللغة، وتطوير القيم، فذلك أمر كله من مؤامرات التغريب الذي يرمي إلى هدم الثوابت والحدود والضوابط التي وضعها الإسلام حماية لوجود الإنسان وحماية لمجتمعه، وهذا أيضًا مما يختلف فيه المنهج الرباني (الإسلامي) والمنهج البشري (الغربي).
فالمعاصرة والحداثة والعصرية قائمة ويعترف بها، ولكن بحدودها وضوابطها، إيمانًا بأن الإسلام لن يكون مبررًا لفساد المجتمعات وانحرافاتها، ولا لانزلاق الحضارة إلى المادية المغرقة والفساد الاجتماعي، وهؤلاء الذين يطلبون من الإسلام أن يبرر وجود المجتمعات الفاسدة مبطلون، فعلي المجتمعات أن تعدل من طريقها حتى تلتقي مع منهج الله.
ومرونة الإسلام، وسماحته، ووسطيته؛ كل هذه أمور قائمة فعلًا، ولكنها لا تتجاوز دائرة (المتغيرات). أما دعاوى البعض بالبحث عن (الرخص) للاستعاضة بها عن العزائم فأمر لا يمكن أن يكون قاعدة أساسية لمجتمعات إسلامية تريد أن تبني نفسها على أسس سليمة لإقامة حضارة إسلامية متجددة.
أما الخلط بين مناهج الغرب ومناهج الإسلام على النحو الذي قامت
عليه تجارب بعض الأمم الإسلامية، في إطار العلمانية والقومية والاشتراكية، وتلك المحاولات التي تجمع بين قيم متضاربة أو متعددة، فكل ذلك مآله الفشل، وقد فشلت تجارب تركيا وأندونسيا وغيرهما في اعتناق الديمقراطية والقومية واللبرالية والفاشية والاشتراكية، وليس هناك غير منطلق الإسلام نفسه السمح الوسط القادر على العطاء الملتقي مع الفطرة والعلم. ولم تستطع أي دولة من هذه الدول التي اعتنقت هذه الأيدلوجيات أن تحقق أي قدر من التقدم الحقيقي، وما تزال قابعة في دائرة التبعية.
وثبت أن الثقافة الأوربية ظلت بمثابة قشرة على سطح المجتمع، ولم تلبث أن ظهرت طوابع الإسلام قوية، وقد تبين أن الثقافة الغربية ليست عالمية كما تقدم نفسها للناس، وإنما هي نتاج لا ينجح خارج دائرة بلاده، لأنه قائم على قيم ومناهج يونانية مسيحية وثنية.
وقد دخلت تركيا دائرة التغريب منذ خمسين سنة، ومع ذلك فإنها لم تستطع أن تسهم بشيء ما في مجال التكنولوجيا، وما زالت عالة على الغرب، وكل ما كسبته أنها فقدت هويتها الإسلامية ولو إلى حين.
وقد أكد كثير من الباحثين أن التبعية للثقافة الغربية ليس لها نتائج إيجابية حقيقية في تقدم العرب والمسلمين، وإنما تؤدي إلى عكس ذلك، وتظل موجهة إلى تحقيق هدف الغرب في السيطرة على العالم الإسلامي.
ولقد صُنِعَت الحضارة الغربية -أساسًا- من منهج التجريب الإسلامي، ولكنها تجاوزت قيم الإسلام في فهم الحضارة، وقوامها الرحمة والإخاء
البشري وعدالة التوزيع، واستعلت بالعنصر والدم على الملونين، وأسرفت في تبديد الثروات الطبيعية التي أعطاها الله للبشرية في بناء مجتمع الاستهلاك والترف والفساد والانحلال، ونسيت في هذا الطريق الوجهة الصحيحة، وتجاهلت صاحب العطاء الحقيقي؛ فأنكرت صلتها بالله تبارك وتعالى، وادَّعت أن الطبيعة تخلق، وتجاهلت، جانب المعنويات، واتجهت إلى السيطرة على العالم وإذلال العناصر غير البيضاء، وإشاعة روح الرعب من إنتاج الأسلحة التدميرية، والتنافس في السيطرة على الفضاء الخارجي وحرب الكواكب.
وهي بذلك تتقدم في طريق الفناء والسقوط من ناحيتين:
من ناحية تجاهل الوجهة الربانية الحقيقية للحضارة والمجتمعات.
ومن ناحية هدم مقومات الشخصية الإنسانية والأخلاقية، وإشاعة روح الإباحة وثورة الجنس، وهي لا محالة منهزمة.
ودلائل الهزيمة واضحة؛ فقد غاضت الأرحام في الغرب، وفي خلال العقود الثلاثة القادمة سوف يتقدم عالم الإسلام تقدمًا واسعًا في طريق النمو السكاني والثروة والطاقة، وبذلك يتمكن من السيطرة على مقدرات الحضارة العالمية.
ومن هنا فلا بد أن تنمو هذه الثمار في إطار الإسلام ومنهجه ومسؤولياته، وفهمه لربه ولعطائه، ولإقامة مجتمعه وبناء حضارة الإنسانية الكريمة السمحة القائمة على العدل والعطاء والرحمة"
(1)
.
(1)
"المعاصرة في إطار الأصالة"، أنور الجندي (ص 22 - 26). بتصرف يسير.
التنوير:
" العودة إلى المنابع: هي صلب دعوة مدرسة الأصالة التي حمل لواءها الإمام "أحمد بن حنبل" حين صاغها الإمامان "ابن تيمية" وابن القيم" في منهج أصيل، هذا المنهج لم يتوقف عن أن يحمله المجاهدون جيلًا بعد جيل، فلم يخل منه جيل حتى اليوم.
وهناك من يطلق على هذه اليقظة كلمة: "التنوير". وكلمة التنوير كلمة صهيونية، تعني إخراج الفكر الغربي من صبغته المسيحية إلى طابع العلمانية والإلحاد، وهي المرحلة التي سيطر فيها اليهود على الفكر الغربي لإخراجه من سماحة المسيحية إلى "تآمر اليهود" على البشرية، والبدء في إخراج مخططهم الذي عرف من بعد باسم:"بروتوكولات صهيون"، والذي بدأ بتحريف دوائر المعارف الأوربية، وإخراج مادة (خزر) منها، وتشويه مواد: العرب، وفلسطين، واليهود، وإسماعيل وغيرها؛ وذلك في سبيل الادعاء بأن لليهود حقًا في فلسطين، وبأنه كان لهم وجود قبل العرب، (وهذا ما كشفت فساده الأبحاث العلمية والحفريات الأثرية).
ويسجل المطران "إيليا خوري" أن الصهيونية هودت الديانة المسيحية، فيقول:"لقد تعايش المسلمون والمسيحيون أربعة عشر قرنًا، وتفاعلوا في الحياة الوطنية، فعاشوا في السراء والضراء مدافعين مناضلين عن الحق العربي، واليوم فهناك من يقولون بأن المسيحية الغربية هودت الديانة المسيحية، هذا ما يقلقني؛ لأن اليهودية والصهيونية العالمية استطاعت أن تؤثر على تلك القوة، فبدلًا من أن تجعلنا قوى فاعلة في سبيل الخير والسلام جعلت منا أمة تدعم أعداءها بالسلاح والمال".
ولذلك فإن الصحوة الإسلامية التي نعيشها الآن، والتي تتآمر القوى الثلاث على إجهاضها أو تدميرها إنما نشأت نشأة طبيعية من خلال مفهوم أصيل لليقظة والأصالة والعودة إلى المنابع، وقد مضت خلال عقود مختلفة حتى دخلت اليوم مرحلة "الرشد الفكري"، لقد صدرت الصحوة الإسلامية من "المنابع" الأولى وليس من أي مصدر آخر، وإن هذه المحاولة ترمي إلى صرفها وتحويلها وأحتوائها. لقد كان الإسلام قادرًا دائمًا على التجدد من الداخل، وعلى انبعاث النهضة من أعماقه حين تقع كل الأمة في أزمة التخلف.
ومن الحق أن نؤمن أن كل نهضة غير متصلة بالمصادر الأولى فهي نهضة زائفة ويمكن أن تضل طريقها، وهذا ما يحاولة التغريب مع الفكر الإسلامي حين يحاول حجب الأدب والثقافة المعاصرة عن جذورها وأصولها الإسلامية تحت اسمٍ عازلٍ مثل: الفكر العربي، أو الثقافة العربية، والحضارة العربية، بديلًا عن الفكر الإسلامي، والثقافة الإسلامية، والحضارة الإسلامية، وهذه -ولا شك- أخطر التحديات، فلنحدد هذه النغمة الضالة المضلة، وعلينا أن نظل مرتبطين بأولياتنا الإسلامية وأصولنا التاريخية.
ومن أشد المحاذير خطرًا: الفصل بين القيم، أو الفصل بين الفكر والتطبيق؛ فالإسلام منظومة جامعة للأدب والعلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وإن من أخطر ما واجه الغرب فكرة "ديكارت" التي تفصل بين الفكر والتطبيق، ومفهوم الإسلام هو النظرة الجامعة بين الكون والحياة، والمجتمع والإنسان، وقيام المسؤولية الفردية، والنظام الأخلاقي، والجزاء
الأخروي. وفي مجال التربية تقوم التربية على الترابط بين بناء الشخصية والنفس والجسم والعقل جميعًا، وتقوم حركة الترجمة الإِسلامية على أساس تقديم إطار كامل لكل فكر يقدم، ومعرفة ظروفه وعصره، وتحديات عصره، ومدى التقائه بفكرنا الإِسلامي أو اختلافه عنه.
والأمة الإِسلامية اليوم يجب أن تكون يقظة، لا تقبل الأمن الخادع، ولا بد من إنماء فكرة أن يكون قومنا في رباط دائم واستنفار مستمر، ويقظة لا تعرف الاسترخاء؛ فالعالم الإِسلامي مستهدف من أعداء البشرية وخصوم الإنسانية، فأمتنا يجب أن تكون قادرة على الردع والدفاع والحماية، كذلك فإنَّ من أخطر المحاذير أن نفسر تاريخنا الإِسلامي بمفاهيم علمانية أو قومية أو مادية، وهي محاولة فاشلة ولن تجد في هذه المرحلة من حياة الأمة الإِسلامية أي قبول لها، كذلك فإنَّ القول بأن الحروب الصليبية هي صراع بين العرب وأوربا هو قول باطل تمامًا ولا دليل عليه، فمتى كانت هناك عروبة تصارعها أوربا في هذه الفترة؟ وكلمة العروبة كلمة حديثة لم تستعمل إلَّا منذ سبعين عامًا على الأكثر.
وغاية الأصالة والعودة إلى المنابع تنصب على رفض مقولة كتاب التَّغريب بأن أسلوب الغرب هو المنطلق الَّذي يستطيع به المسلمون أن يحفظوا كيانهم، ويحققوا وجودهم ويقيموا مجتمعهم، وقد كانت هذه دعوي خدعت المسلمين والعرب سنوات طويلة منذ أثارها "طه حسين"، "ومحمود عزمي" وغيرهم، وقد تكشف بطلانها منذ انتُزِعَتْ (القدس) من أيدي المسلمين، وثبت فشل المنهج الليبرالي الغربي بعد الحرب العالمية الأولى،
كما ثبت فشل المنهج الماركسي الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية. إن ما ظنوا أنَّه عامل موصل للنهضة تبين أنَّه عامل عازل؛ يسلم المسلمين والعرب إلى الاحتواء الكامل والانصهار في بوتقة الأممية العالمية".
إن كلمة التنوير نفسها كلمة يهودية؛ فالتنوير في الغرب هو عصر الإلحاد، والإعداد لحصار المجتمع المسيحي، وتغليب نفوذ اليهود عليه، وصراع القوميات مع الكنيسة، فإذا كانوا هم دعاة التنوير بهذا المعنى في الفكر الإِسلامي فذلك رأيهم فيهم، أمَّا نحن فلا نؤمن بكلمة التنوير"
(1)
.
وقال الدكتور محمد يحيى: "مصطلح "التنوير" هو النموذج الأشهر أو (الكلاسيكي) في هذه الفترة الأسلوب عهدناه في عملية التعاطي مع الغرب ومفاهيمه الفكرية ومصطلحاته، ألا وهو انتزاع المفاهيم والأفكار والمصطلحات من بيئتها الثقافية وسياقها التاريخي والحضاري المخصوص الَّذي نبتت فيه ويحدد دلالاتها، ثمَّ زراعتها تعسفًا في بيئة ثقافية وسياق اجتماعي وعقيدي مغاير لها، إن لم يكن مناقضًا.
والحق أن كشف هذا الأسلوب في النقل قد يكون أكثر أهمية في تصوري من محاولة وضع التعريفات لمصطلح التنوير أو غيره؛ لأننا سنظل ندور في حلقة مفرغة من التعريف، ثمَّ إعادة التعريف إلى ما لا نهاية إن لم ندرك السياق الأوسع الَّذي تجري فيه التعريفات، وكيف يتحكم هذا السياق في تعريف المصطلحات ورسم ظلالها ودلالاتها، وتحديد مضامينها الخاصة والدقيقة والمتغيرة، وتغيير هذه المضامين، وتحديد النظرة السلبية أو الإيجابية لتلك المفاهيم؟
(1)
"المعاصرة في إطار الأصالة"(ص 35 - 37، 79).
والأسلوب الذي أعني هو أن الفكرة أو المفهوم الذي هو ابن البيئة التاريخية والثقافية في الغرب، والمتمثل في رد فعل لأوضاعها وتجاربها الخاصة يعد في فكر الفلاسفة المدققين عندهم اصطلاحًا خاصًا ونسبيًا تقتصر انطباقيته على أوضاعهم. غير أن الناقلين عندنا من أوساط العلمانيين والمتغربين يأخذون الفكرة والمفهوم والمصطلح الغربي المنشأ ليحوِّلوه أولًا إلى كيان مطلق عالمي الصلاحية والانطباق، ثمَّ يفرضونه ثانيًا على السياق الإِسلامي الحضاري، ويزيحون به ويطردون مفاهيم وأفكارًا ومصطلحات إسلامية هي بنت العقيدة والتاريخ والأمة، بعد أن يصِمُوها بالنسبية والتاريخية والمحدودية.
وهكذا تنعكس الأمور في لعبة فكرية تُدهش من وقاحتها وانكشافها؛ فالمتغير والنسبي والتاريخي عند الغرب (لأنَّه نابع من خصوصيات حضارتهم، ومنزرع وسط أوضاعها، وردُّ فعل على تطوراتها) يصبح هو المطلق والعام والثابت عندنا بعد أن تُنزع من بيئتنا الثقافية والحضارية مفاهيم وأفكار ومصطلحات (منها المطلق والثابت)، بعد وَسْمِها بعدم الصلاحية، وبأنها نسبية تاريخية متغيرة؛ إنها عملية غريبة تختلط فيها المبادئ، ويحلو اللعب بتغيير النسبي إلى المطلق والعكس بالعكس مجرد زرع الفكر الغربي داخل الوسط الإِسلامي، وطرد الإسلام من بين أهله وعشيرته، ومصطلح "التنوير" -كما قلت- هو أحد النماذج الكبرى لهذه العملية.
فالتنوير مصطلح يطلق في الفكر الغربي على مجموعة واسعة من الكتابات ظهرت بدءًا من أواسط القرن الثامن عشر الميلادي وإلى نهايته في
أوساط الفلاسفة والمفكرين في فرنسا أساسًا، ثمَّ إلى درجة أقل في بريطانيا وألمانيا. وهذه الأفكار ظهرت وسط بيئة متشابكة من ردود الأفعال على الحكومات والطبقات المستبدة (الملكية) في تلك الحقبة، وعلى الأفكار الكنسية المصاحبة لها والمعضدة لها، كما ظهرت متأثرة بنضوج الفكر العقلاني (كما أسموه) الراجع بجذوره إلى عصر النهضة الأوروبية، والمزدهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر كذلك. وظهرت تلك الأفكار على أعقاب التغيرات الكبرى الَّتي حدثت في أوروبا (ومهدت لها) في القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر العلم، وعصر الثورة الصناعية، وعصر صعود الطبقة البورجوازية، وعصر الثورات الكبرى (الأمريكية والفرنسية)، وعصر الفكر الحر، وعصر المذاهب الفلسفية الرئيسية (الهيجلية والماركسية)، وتحدد مضمون الكم الفكري المؤسس لحركة التنوير في الأساس بالموقف من الدِّين وفكره - (وهو هنا المسيحية) - كما رسم الفكر العقلاني الإنساني السابق على حركة التنوير والمصاحب لها، ولهذا اتسم فكر التنوير بعداء شديد ورفض للدين مسوَّغ بالعقلانية الَّتي ترفض الغيبيات، وتجمع بين الدِّين وبين الخرافة والخزعبلات في وعاء واحد.
وفكر التنوير يرفض أن تكون الكنيسة وسيطًا بين الإله والبشر، كما يرفض عقائدها المعروفة، ويرفض كتابها المقدس بعد عرضه على مقياس العقل النقدي المادي التشككي النزعة، وعلى معيار علم التاريخ المادي النزعة. ويستخدم فكر التنوير مفهوم العقل بمعنى التوجه المادي والتشككي على وجه الخصوص، ليوجه النقد إلى الدين (المسيحية)، والكنيسة،
ومؤسسات الحكم، والطبقية في الغرب في ذلك الوقت، كما يُستخدم ليدخل مفاهيم جديدة تحل محل العقائد المرفوضة؛ مثل مفهوم (الإنسانية) ككيان عام، و (الإنسان) ككيان مطلق يحدد وحده معايير حياته وقيمها وأهدافها انطلاقًا من إعمال العقل - (بمفهومه كحس عام مطلق موضوعي) - في شتى شؤون الحياة، وهكذا تتحدد وترتسم الملامح والمحددات والمفاهيم الكبرى لفكر التنوير، وهي: إعلاء شأن العقل بمفهومين هما: العقل المادي والتشككي من ناحية، والمطلق العام الموضوعي المشترك بين البشر من ناحية أخرى باعتباره وحده - (لا الدِّين ولا الوحي ولا الكتاب المقدس ولا الكنيسة الَّتي أسقطها النقد الموضوعي العقلي) - مناط الهداية والتوجيه والسلوك، ورسم القيّم والأهداف العامة في الحياة لذلك الكائن العام وهو الإنسان أو الإنسانية، الذي أصبح وحده - (وليس الإله) - معيار كل شيء، وواضع القيِّم والأهداف؛ بل هو هدف كل نشاط ومقصده. ومع العقل والإنسان تصبح الدُّنْيَا هي المحور الأساس لكل نشاط وعمل، بل تصبح هي الوجود الوحيد ولا وجود غيره (الآخرة مثلًا).
هذا اختصار شديد لمجمل فكر التنوير، ركَّزنا فيه على جانب الموقف من الدِّين، وهو الجانب الرئيسي فيه، كما أنَّه الجانب الأكبر في دعوى التنوير الَّتي بدأ بعض العلمانيين والتغريبيين في العالم الإِسلامي في الترويج لها في الفترة الأخيرة، والواقع أننا عندما نسمع في هذه الآونة الحديث المتكرر عن ضرورة وضع كل عقائد الإسلام وشريعته وكتابه وتاريخه على محك ما يسمى بالعقل - (وهوفي الحقيقة عقل خاص يتعلق بأصحاب الدعاوي
وحدهم) - نلمح فيه بسرعة الكلام الذي كان يتردد في أوروبا في القرن الثامن عشر عن المسيحية وكنيستها وكتابها بدون تغير يذكر، وهكذا تطير بجرة قلم كل الفروق العقدية والتاريخية والزمنية والسياقية، لنجد أن كلامًا قيل في دنيا أخرى يُجلب ليكرر تقريبًا في عالم مختلف، وبدون مراعاة لكل عوامل النسبية والتاريخية والتغير والسياقية والبيئية والخصوصية الَّتي يقول الغربيون وأتباعهم عندنا إنَّه يجب مراعاتها في مثل هذه الأمور، بل يدَّعون أنَّهم يراعونها طيلة الوقت عندما يضربون عرض الحائط بالكثير من الأحكام التشريعية الإِسلامية تحت شعارات مراعاة العصر والاجتهاد وما أشبه.
ومن هنا فالتنوير السائر هوفي حقيقته ليس تنويرًا على الإطلاق، بل محاكاة وتقليدًا وجمودًا على أفكار غربية سقطت حتَّى من سياقها التاريخي والثقافي الخاص، إلى حد أننا أصبحنا اليوم نقرأ لقلة من مفكري الغرب تنعي هذا السقوط، وتدعو عبثًا لإعادة إحياء التنوير؛ وهيهات.
وفوق هذا فالتنوير الذي يُروِّج له بعض النَّاس الآن ليس تنويرًا بالمفهوم الذي قد يتبادر إلى الذهن من نشر للعلم والفكر والتأمل العقلي، بل هو لا يعدو -كما قلنا- إطلاق شعارات عامّة غامضة موجهة كلها ضد الدِّين (الإسلام)، في إطار خطة لا تنويرية ولا عقلية ولا علمية بل سياسية محضة، هي ما اصطلح على تسميته بسياسة: مكافحة التطرف والإرهاب المزعومين والمنسوبين إلى الحركات الإِسلامية وإلى دعاة الإسلام. وإذا كان من صدق في نية الحديث عن التنوير فكان يجب أن يكون كذلك عن الإسلام، وفي إطاره وخدمة لدعوته"
(1)
.
(1)
مجلة البيان (العدد 159).
العقلانية:
" العقلانية نزعة غربية الطابع مستمدة من الاعتماد على العقل وبراهينة ومعطياته، واتخاذه مصدرًا وحيدًا للمعرفة، وهو مفهوم لا يقبله الإسلام الذي يقرر أن هناك مصادر عِدَّة للمعرفة منها العقل، ولكنه ليس المصدر الوحيد، فالعقل هو مناط التكليف في الإسلام، ولكنه يتحرك دائمًا تحت ضوء الوحي ونور الفطرة؛ ذلك أن الإسلام يؤمن بالنظرة الجامعة الَّتي توازن وتوائم وتمزج بين الروح والمادة، والعقل والوجدان.
ولكن هناك من يحاول اليوم أن يتحدث عن (العقلانية الإِسلامية) ويقررها وحدها بالاعتبار، وهذه معاودة لتجربة قديمة مر بها المسلمون بعد ترجمة الفلسفة اليونانية، وهي تجربة المعتزلة الذين اعتبروا العقل مصدرًا للمعرفة، وأعلوه على الوحي (النقل)، ودعوا إلى أنَّه في حالة الخلاف بين العقل والنقل يخضع النقل للعقل.
ومن هنا ظهرت فكرة التَّأويل؛ وهي فكرة لها حدودها الَّتي يجب أن لا تخرج بها عن النص القطعي، وقد كانت هذه إحدى المحاذير الَّتي وقع فيها الفلاسفة.
ولقد حاول البعض (أمثال أحمد أمين وغيره) الادعاء بأن سقوط الاعتزال كان عاملًا من عوامل تأخر المسلمين، والحقيقة أن سقوط الاعتزال بعد استعلائه وادعائه أنَّه هو المنطلق الوحيد للمعرفة الإِسلامية كان طبيعيًا، (وهو نفس الموقف بالنسبة للقائلين باتخاذ الحدس سبيلًا واحدًا للمعرفة، أو الذين يعتمدون على الوجدان وحده).
والقرآن الكريم ليس معجزة عقلية فحسب، ولكنه معجزة متعددة الجوانب في فنون المعرفة وأساليب مخاطبة الإنسان من ناحية فكره ووجدانه، ومن ناحية التاريخ، والحكمة، والمعجزة، والغيبيات.
فلا تناقض في أسلوب المعرفة الإِسلامي بين النقل والعقل؛ إذ إن النقل في حقيقته هو (القرآن والسنة)، وهما مصدران ربانيان لا يتصل بهما الزيف، وهذا يختلف عن موقف المسيحية من اللاهوت القديم الذي هو من صنع البشر.
وهذا المفهوم وحده الجامع بين النقل والعقل هو الذي أعطى المسلمين -دون غيرهم من الأمم- القدرة على تقديم منهج التجريب الإِسلامي، ومناهج المعرفة وسنن الحضارات والأمم"
(1)
.
قال الأستاذ عمر محمد أبو عمر: "هذه لفظة لم ينطقها أحد من الأوائل نابزًا بها غيره، إنَّما كان الأئمة يسمون أهل البدع أهل الأهواء، نعم يحاول المبتدعة تسمية ما هم عليه بالعقلانية، وأن أدلتهم هي أدلَّة العقول البرهانية، ولكن هيهات أن تنطلي هذه الشعارات على الخبير الخريت بمسالك النَّاس في تزوير الشعارات وقلب الأسماء والألقاب، ثمَّ كيف يكون العقل بدعة، وهو حجَّة الله تعالى على خلقه، وهو مناط التكليف الذي لا تصح عُبَادَة قلبية أو عملية إلَّا به، لكن تكرير أهل البدع أنَّهم يتابعون العقل وأدلته، وأنهم يقفون معه ويرجعون إليه جعل بعض أهل العلم والسنة ينكر هذا الدَّليل، بل يُتَابَعُ هذا الإنكار بالحط من قيمة هذا
(1)
"أسلمة المناهج والعلوم .. "، أنور الجندي، (ص 167). وانظر:"الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة" إصدار الندوة العالمية للشباب الإِسلامي، (2/ 806).
الدَّليل، وأهل البدع على الحقيقة لا يملكون دليلًا عقليًا واحدًا يسلم لهم، كما هم لا يقفون مع النُّصوص الصحيحة ولا يقيمون لها شأنًا؛ فهذا عَمْرو بن عُبَيْد في مناظرة معه يُذكر له حديث يخالف هواه، رواه الأَعْمَش عن زَيْد بن وَهْب عن عبد الله بن مسعود عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فقال عَمْرو: لو سمعت الأَعْمَش يقول هذا لكذبته، ولو سمعته من زَيْد بن وَهْب لما صدقته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عز وجل يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا!! "ميزان الاعتدال للذَّهَبِي". فانظر لهذا المجنون؛ هل زاد أن يكون مثل إبليس حين قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}
(1)
فهل هذا هو العقل الذي يزعمونه ويروجون أنَّهم من أهله؟!. ولذلك من خطأ بعض الكتبة اليوم أن يطلقوا على أهل البدع أو الزنادقة "العقلانيين"، فهذا خطأ ولا شكَّ كبير يفسد الحقيقة الواقعة"
(2)
.
العصرية:
" هنالك دعوة مضللة تتحدث دائمًا عن روح العصر والاستسلام له، وعلى الإنسان أن يجعل نفسه جزءًا من عمره، وقد غاب عن الدعاة إلى هذا المذهب أن روح الأمة أعظم من روح العصر، وأن روح العصر هي طائفة من التقاليد اعتنقها النَّاس في عصر معين دون البحث عما إذا كانت صالحة أم فاسدة، وهل هي نافعة أم ضارة؟
(1)
سورة الإسراء، الآية (61).
(2)
مقدمة كتاب "كسر الصنم" للبرقعي، (ص 11).
والإسلام يقرر مبدأ العصرية، ولكنه لا يقر الاستسلام لروح العصر إذا كان ذلك من شأنه أن يتجاوز القيِّم الأساسية له؛ ذلك أن هناك قيمًا أساسية لا يمكن تجاوزها، وأن هناك حدود وضوابط يجب أن يتحرك المسلم في دائرتها، وأن لا يضحي بها في سبيل الحصول على أي قدر من التقدم المادي.
وأن هذا التحفظ على روح العصر لا يحول مطلقًا دون قدرة المسلم على التقدم والتطور والتغيير، ومجاراة تحولات العصر والمجتمع، وأن الإسلام له من قواه المذخورة ما يمكن المسلمين من الخروج من الأزمة دائمًا، ومن الاستجابة للتقدم الجامع بين شطريه المادي والروحي.
ومن شأن الإسلام أن لا يخضع لانحراف المجتمعات، ولكنه قادر على ردها إلى طريقها الأصيل الطبيعي.
ونحن الآن نمر بمرحلة خطيرة في حياة المجتمعات والحضارات؛ وهي مرحلة الانحراف الخطير الذي وقعت فيه الحضارة الحديثة في تحولها المادي وغياب عنصرها الديني والأخلاقي، وانحرافها عن طريق الله إلى طريق الاستعلاء بالعرق والفساد الخلقي.
ومن هنا فإنَّ الإسلام لا يقر قبول فكرة الاستسلام (لروح العصر)؛ لأنها تعني الاندفاع في الطريق الخطأ.
لقد انحرف هذا العصر عن طريق الأخلاق والدين والعلم إلى طريق الفلسفة المادية، والانحرافات سواء في المذهب الرأسمالي الليبرالي أو الماركسي الاشتراكي، ووصلت البشرية من خلال هذين المذهبين إلى صراع
رهيب، ولم يتحقق لها أملها في بناء المجتمع الرشيد، وهي الآن تتطلع إلى مذهب جديد، وليس غير الإسلام.
إن روح العصر تدخل في باب المتغيرات، ولكن روح الأمة تدخل في باب الثوابت، ولا بد أن تخضع المتغيرات للثوابت، وأحيانًا تكون روح العصر مجموعة من الأهواء والاندفاعات يختلط فيها الصحيح بالخطأ. الاستجابة لا تكون للعصر وإنَّما للحق، للمنهج، لمنهج الله تبارك وتعالى. والإسلام قادر على الاستجابة للعصر، وقادر على استيعاب المتغيرات دون أن يخرج عن قيمة الأساسية وقواعده الصحيحة، والإسلام يقر التقدم ولكنه يجريه في قنوات ثابتة محكمة.
كما أنَّ الإسلام أعطانا القدرة على مواجهة الأحداث متى كانت متعارضة مع منهج الله، فليس علينا أن نستسلم للأوضاع المنحرفة تحت اسم التبرير أو قبول الواقع أو التَّأويل أو الرخص، ودعاة التبرير هؤلاء أعداء التقدم الحقيقي، والإيمان بالمنهج الحق والإسلام لا يقر دعاة اللامنتمي.
وإذا خرج الإسلام من ضوابطه وثوابته فقد انتهت فاعليته، ويجب أن نقدر تمامًا أن الإسلام ليس شأنه شأن المذاهب والأيدلوجيات البشرية؛ فهو منهج اجتماعي عمراني شامل يتجاوز كل الفلسفات الَّتي ابتكرتها العقول البشرية قبله وبعده، ومن باب أولى كل الأديان السابقة له والتي احتواها كمرحلة نحو وحدته وتكامله.
ومن ثمَّ فهو لا يقبل الخضوع لانحراف المجتمعات نحو الإباحة، وانحراف الحضارات نحو المادة.
وكل دعوة في العصرية يجب أن تكون ذات أصالة بارتباطها بالمنهج والتاريخ، وتنقية الفكرة من الانحرافات الَّتي تضعها الفلسفات في طريقها التعود إلى المنابع أولًا، ولتستمد أصالتها من الرشد الفكري، ولقد كانت دعوة العصرية الَّتي قامت بها المدرسة العلمانية منذ أوائل القرن الميلادي دعوة منحرفة مضللة، حاولت احتواء الفكر الإِسلامي وتغريبه قبل أن تجيء حركة اليقظة الإِسلامية لتصحيح الطريق.
لقد ذهبت الدعوة العصرية إلى آخر الشوط في فرض نفوذها، فهدمت الخلافة، وحطمت الوحدة الإِسلامية، وحجبت الشَّريعة الإِسلامية، وفرضت النظام السياسي الغربي، والمنهج الربوي الاقتصادي، والمنهج العلماني التعليمي؛ ومع ذلك فإنَّ حركة اليقظة الإِسلامية كانت قادرة على أن تكشف زيف ذلك كله. لا يقر الإسلام فلسفة اللحظة، ولا الفردية المفرقة، ولا الجماعية الَّتي تأكل الأفراد، ولا يقبل انحراف الفنون والآداب، ولا وسائل الكسب الحرام، أو الاندفاع نحو أهواء الجنس والجريمة، وإذا انحرف المجتمع فالإسلام يدعوه مجددًا إلى العودة إلى الله"
(1)
.
الثورة:
" اتخذ مصطلح الثورة عِدَّة تفسيرات فرضها الكتاب تحت تأثير الدعاية
(1)
"أسلمة المناهج والعلوم .. "، أنور الجندي، (ص 169 - 170).
لمرحلة من مراحل الحياة السياسية والاجتماعية للأمم، ومنهم من بالغ في هذا وتصور الثورة اتجاها دائمًا متصلا، ومنهم من غالى في وصف التغيير على أنَّه ثورة، ومنهم من وصف حركات الجيوش الَّتي تقوم على تغيير قيادات البلاد على أنَّها انقلاب أو ثورة. ولا ريب أن الثورة هي حركة جماعية تضم مختلف عناصر الشعب أو الأمة في حركة خروج عن الأوضاع القائمة المضطربة والمنهارة.
وهو مصطلح غربي دخيل على المفاهيم الإِسلامية الَّتي تقر كلمة "الإصلاح"، وتصور رسالات الأنبياء أنَّها دعوة إلى الإصلاح، وإلى تغيير الواقع الفاسد:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}
(1)
. وقد أشار القرآن الكريم إلى التغيير ووضع قاعدته: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
(2)
.
والإسلام يدعو إلى أن تغيير المجتمع لا يتم إلَّا بعد أن يغير النَّاس ما بأنفسهم؛ بمعنى أن يسلموا أنفسهم لله ويطبقوا أحكامه، ويقيموا شريعته، ويبنوا المجتمع الرباني الذي يقوم على العدل والرحمة والإخاء.
والمسلمون مطالبون بالخروج من الأزمة، وتحرير أنفسهم من التبعية، وأن يظلوا قادرين على امتلاك إرادتهم، وأن يظلوا مرابطين على الحدود، محافظين على قواهم وأسلحتهم، مستعدين للمواجهة، قادرين على الردع
(1)
سورة هود، الآية (88).
(2)
سورة الرعد، الآية (11).
لمن يحاول تجاوز حدودهم، أو دخول أرضهم، أو فرض سلطانه عليهم، ولكن هذا المفهوم الإِسلامي في القدرة على امتلاك الإرادة لا يسميه الإسلام ثورة، ولكن هو يعني في الحقيقة العودة إلى المنابع، وتحرير الإرادة، والتماس الأصول الحقيقية للنهضة.
ولقد اتُخِذَتْ فكرة (الثورة) أكثر من مرَّة في العصر الحديث لإخراج المجتمع الإِسلامي من أصالته والقضاء على طابعه الإِسلامي؛ حدث هذا في الحركة الَّتي قام بها مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، والحركة الَّتي قام بها عبد الناصر في مصر؛ فقد كانت كلتاهما محاولتان تغريبيتان لإخراج المجتمع الإِسلامي من طريقه الإِسلامي إلى التَّغريب والإقليمية والتبعية تحت أسماء الثورة والتحرير والاشتراكية، وقد جرت الحركتان على طريق فتح الطريق أمام المخططات الصهيونية الطامحة في السيطرة على فلسطين وبيت المقدس، وإقامة وطن لها من النيل إلى الفرات"
(1)
.
الفلكلور (الأدب الشَّعبي):
" يطلق اسم الفلكلور على الكتابات العامية الشعبية المستقاة من المجتمعات الريفية والبدوية، وهي عبارة عن ترنيمات وفكاهات قيلت في مناسبات، وجرت مجرى الأمثال، تصدر عن العقلية البسيطة الساذجة الَّتي لم تصل إليها الثقافة العربية الَّتي اتصلت بالقرآن الكريم والحديث النَّبويّ وشعر الشعراء الفحول، وهي تمثل طفولة البشرية وسذاجة المجتمعات قبل تحضرها واتصالها بالأدب الرفيع، ولم تكن هذه الكتابات أهمية تذكر لولا
(1)
"أسلمة المناهج والعلوم .. "، أنور الجندي، (ص 178).
أن المستشرقين ودعاة الغزو الفكري كانوا قد تنبهوا إلى ذلك منذ وقت بعيد؛ رغبة منهم في إعزاز العامية وخلق تراث لها يمكنهم من الادعاء بأن العامية هي لغة مستقلة تختلف عن اللغة العربية الفصحى، وقد وصف الفلكلور بأنَّه كل ما يتصل بالسذاجة والانحطاط في الحس الجمالي والفني.
ومصطلح الفلكلور لا يشمل في مفهومه فنون القول فحسب، وإنَّما هو يشمل كل الفنون والمصنوعات والعادات والتقاليد والمناسبات الخاصة، والاحتفالات المتعاقبة بها، والتي يتبعها شعب من الشعوب البدائية، وما يتعلق بعطاءات البيئة وحياة الأمم، وإعادته مرة أخرى بعد أن عدت الشعوب والأمم هذا التطور ودخلت في الإسلام الذي قدم لها أرقي المفاهيم وأصح القيم في مختلف مجالات الميتافيزيقا (الغيب) والحضارة، فهي ردة إلى المثل العامية الساذجة الَّتي قالها النَّاس في عهود السذاجة والضعف والعجز عن فهم الكون الواسع.
والهدف ماكر خبيث من حيث إحياء النكات والأمثلة والرقص، ومفاهيم الخوف من الطبيعة والأساطير، وتقديم الذبائح للآلهة.
وكل هذا يهدف إلى إعلاء شأن العاميات الَّتي لا تستطيع أن تعبر إلَّا عن أدنى المشاعر، وهل يمكن أن يوضع هذا في صف أدب الفصحى ومفاهيم الحضارة الَّتي نشرها الإسلام بتحرير العقل البشري من عبادة الأوثان وكل ما يتعلق بالخرافات والعرافين؟!
إن الهدف هو الردة إلى القديم البالي في عصر الوثنية، وحجب المسلمين عن مفاهيم الحضارة الإِسلامية الَّتي قدمتها للبشرية.
ولقد تحدث الباحثون في هذا الصدد فأشاروا:
أولًا: إلى أن الأساطير والسير الشعبية، وألف ليلة، ومجموعة الأمثال العامية؛ لا يمكن أن تقدَّم تصورًا صحيحًا للمجتمعات الإِسلامية.
ثانيًا: أن هناك انقطاعًا حضاريًا قد تم بين عصور ما قبل الإسلام وعصر الإسلام نفسه، وأن هذا الفلكلور ليس هو تراث مجتمعاتنا الإِسلامية الحقيقي الذي تكون منذ أربعة عشر قرنًا.
وعندنا أن إحياء الفلكلور لا تتحقق به المحافظة الشخصية للأمة، ولا يمكنها من أن تنمو وتزدهر وتتمكن من الحفاظ على ذاتيتها الخاصة، ولا من رد أي عدوان عليها، وإنَّما الذي يستطيع ذلك هو الميراث الإِسلامي الحقيقي:(القرآن والسنة)، واللغة الفصحى، وتاريخ الإسلام؛ ذلك أن الفلكلور يقوم على أوهام الشعوب وأهوائها، وعلى أدنى قدر من العواطف والمشاعر التى تتعلق بها النفوس الضعيفة المحدودة الأفق، التى لم تصل إلى قدر من الثقافة التى يقدمها الإسلام من حيث تحرر النفس والعقل من الوثنيات والماديات.
وفرق عميق بين التاريخ وبين الفلكلور وبين التراث، بل إن الفلكلور نفسه إنَّما يستهدف إحياء الإقليميات والوثنية والتقاليد والعادات التى انحرفت عن مفهوم العقائد الصحيحة، ممَّا صنعه الإنسان البدائي الساذج في حالات الفرح والحزن، وفي خلال مراحل الالتقاء الاجتماعي العام، وهي في مجموعها خارجة عن أصول الدِّين الحق الذي هدينا إليه، ولذلك فإن إحياء هذا النوع من التراث هو إحياء لدعوة التفرقة والجهل والتمزق، ذلك
أن قدرًا كبيرًا من هذا التراث يتعارض مع القيم الأساسية التى بناها الإسلام في نفوس أهله.
والمعروف أن المواويل والأغاني هي مجموعة خواطر ساذجة، سواء في الأفراح أو الأحزان، وهي في مجموعها تعارض المفهوم الإِسلامي الذي يرتقي عن الندب واللطم إلى قبول أمر الله، والرضا به، والإيمان بكل قدر الله.
وهذا كله يصل بنا إلى أن نشجب القول بأن التراث الشَّعْبِيّ للمجتمع هو المرأة التى تعكس ما استقر في الوجدان الاجتماعي من توهمات عرفتها طفولة البشرية عبر العصور والأجيال، هذا الوجدان وجدان زائف مبطل، ولا يصح القياس عليه لأنَّه انحرف عن مفهوم الإسلام.
وهذا كله كذب، والقول بأن المواويل والأغاني والفكاهات والنكات هي تراث شعبي يصور نفسية الأمة ويدل عليها وهم باطل، وإنَّما الحقيقة أن هذا كله ركام زائف ممَّا عرفته الأمم في عصر بداوتها، وفي مرحلة طفولتها قبل أن تدخل مرحلة الرشد الفكري الذي أدخلها إليه الإسلام"
(1)
.
نهاية التاريخ:
هذه اللفظة أطلقها المفكر الأمريكي "فوكوياما" سنة 1989 م، ويعني بها:"أن نهاية التاريخ بمعني نهاية الصراعات الإنسانية قد تكون قد حلَّت بهيمنة الرأسمالية الحديثة التى حلت مشكلة الفقر والصراع الطبقي .. "؛ فالرأسمالية الحديثة -في نظره- هي أقصى ما سيبلغه البشر، فلا يتعبوا
(1)
"أسلمة المناهج والعلوم
…
"، أنور الجندي، (ص 182 - 183).
أنفسهم في البحث عن غيرها!
يقول الدكتور محمد هلال مبينًا تهافت هذه اللفظة وما يُعني بها: "نحن نقول صراحة وليس ضمنًا: إن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للإنسان: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}
(1)
، وهو الخضوع لله عز وجل الناتج عن الإِيمان بأنَّه من عند الله خالق الإنسان الذي يشرع له ما يعلم أنَّه يصلح له:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا}
(2)
، ومحمد رسول الله وخاتم النبيين:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}
(3)
، وشريعته خاتمة الشرائع:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}
(4)
، ومكتملة اكتمالًا ذاتيًا تامًا:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
(5)
.
وعليه فالرسالة المحمدية هي خطاب الله الأخير للإنسان حتَّى يرث الله الأرض وما عليها، فهي دائمة دوام الإنسان، والشريعة الإِسلامية صالحة بذلك لكل زمان ومكان، وهذا لا يعني أن الشَّريعة قد قدمت أحكامًا مفصلة لكل ما يطرأ من أمور الحياة كلها، بل ولم يقصد في الأصل تأدية
(1)
سورة آل عمران، الآية (19).
(2)
سورة المائدة، الآية (50).
(3)
سورة الأحزاب، الآية (40).
(4)
سورة المائدة، الآية (48).
(5)
سورة المائدة، الآية (3).
هذا الغرض، ولهذا (فإن الشارع أراد منا نحن المسلمين أن نقوم بأنفسنا بوضع التشريعات الإضافية الضرورية عن طريق اجتهادنا، أي عن طريق التحليل العقلي المستقل؛ شرط أن يكون منسجمًا مع الإسلام وغاياته. وأي اجتهاد قد نقوم به في ظل القرآن والسنة سيظل دائمًا عرضة للنسخ والتعديل من قبل اجتهاد الأجيال التى تلينا.
إن الشريعة لا يمكن تغييرها لأنها ناموس إلهي، بل إنَّه ليس هناك ضرورة تدعو إلى تغييرها؛ لأنَّ كل أحكامها صيغت بحيث لا يتعارض أحدها مع الطبيعة الأصيلة للإنسان والمطالب الجوهرية للمجتمع البشري في كافة الأزمنة والعصور. وهكذا فعندما يكون الحكم المنصوص عليه في الشريعة تفصيليًا مسهبًا فإننا سنجد أنَّه يتعرض لأمر يتعلق بوجودنا المستقل عن التأثر للتغيير الزمني؛ كالعناصر الجذرية للطبيعة البشرية، أو للعلاقات الأساسية بين النَّاس. لكن في الأمور التى لا بد وأن يشملها التغيير الزمني؛ كالشؤون المتعلقة بشكل الحكومة، أو الفنون الصناعية، أو ما شابه ذلك فإن الشريعة -كي لا تقف حجر عثرة في سبيل التقدم الإنساني- لا تنص على أحكام مسهبة، ولكنها تكتفي إمَّا بإرساء قواعد عامّة فحسب، أو تصمت إزاءها كل الصمت فلا تسن أي تشريع، وهذا هو الموضع الذي يجوز لنا أن نجتهد فيه) عن كتاب منهاج الإسلام في الحكم للأستاذ المرحوم محمد أسد ص 37.
وعليه فنحن لا نقول لا صراحة ولا ضمنًا بأن التاريخ انتهى بانتهاء الرسالات؛ لا بمعنى انتهاء الصراعات الإنسانية كما يقول "فوكوياما"، ولا بمعنى أنَّه سيوجد نظام عالمي مستمر ونهائي، والمقولتان قريبتان، بل إن الله
عزَّ وجلَّ يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}
(1)
. وعليه فإن الصراع الذي أراده الله عز وجل بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}
(2)
.
كما وإننا لا نرى أن الليبرالية أو الديمقراطية الرأسمالية هي الحل النهائي لمشاكل الإنسانية، ولا نرى أيضًا أن الغرب قد تخلى عن الإمبريالية، بل ولا نرى أيضًا أن النازية. كانت انحرافًا عابرًا في التاريخ الغربي؛ فالنازية عنصرية قائمة على العرق، وإسرائيل -وهي وليدة الليبرالية الحديثة ومتبناتها- هي عنصرية قائمة على الدين، وجنوب إفريقيا -وهي وليدة أخرى لليبرالية- هي عنصرية قائمة على اللون، بل إن النظام العالمي الذي تهيمن عليه الليبرالية هو عنصرية قائمة على مزيج من الهوية التاريخية والغلبة العسكرية"
(3)
.
الحرية الفكرية:
هذا المصطلح يستعمله الشانئون للإسلام ولمذهب أهل السنة؛ يهدفون من ورائه إلى السماح بنشر البدع والكفريات والمذاهب الباطلة بدعوي الحرية الفكرية التى لا تقف عند ضوابط الشرع.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إن الإسلام قد أعطى كل إنسانٍ حريته، لكن ما هي الحرية الصحيحة؟
(1)
سورة هود، الآيتان (118، 119).
(2)
سورة البقرة، الآية (251).
(3)
"مفاهيم معاصرة في ضوء الإسلام"(ص 43 - 45). بتصرف يسير.
الحرية الصحيحة: التحرر من قيود الشيطان، ومن قيود النفس الأمارة بالسوء، ولهذا كل من خالف الشرع فإنه رقيق وليس بحر، وإلى هذا يشير ابن القيم رحمه الله في بيت أرى أن يُكتب بماء الذهب؛ وذلك أنه قال:
فروا من الرق الذي خلقوا له
…
وبُلوا برق النفس والشيطان
يعني أنهم تحرروا من الرق الذي خُلقوا له، وهو الرق لمن؟ لله عز وجل، ولكنهم ابتلوا برق النفس والشيطان، وهذا الذي يقول: أعطوني حريتي، نقول: نحن إذا أعطيناك حريتك وقلت ما شئت من الكفر والفسوق والأخلاق الرديئة فإنك قد بُليت برق؛ وهو رق النفس والشيطان، وعلى هذا نقول عن قمع الكفر ولو تظاهر الإنسان بالإسلام: إنه من واجبات الإمام.
وعلى هذا يجب على الإمام أن يجعل له نظراء ينظرون في كل ما يُكتب في الصحف والمجلات، وكل ما يُنشر في الإذاعات المسموعة والمرئية، وكل ما يُذكر في الكتب والرسائل المؤلفة، يجعل أمناء علماء لا يجعل علمهم بالانتساب أنهم منتسبون إلى كذا فلهم الحق في النظر، بل يكونوا أمناء وعلماء بالشريعة، ويمنع كل شيء يدعو إلى الفسوق والمجون والكفر.
ومعنى قولنا (يجب) ليس حروفًا تُكتب على ورق، بل هي مسؤولية عظيمة يُسأل عنها الإمام بين يدي الله عز وجل، فعليه مسؤولية قمع الكفر بأنواعه وأشكاله"
(1)
.
عبد الجزي:
" من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم مدير
(1)
"شرح العقيدة السفارينية"، (ص 682).
الجوازات والجنسية برابغ وفقه الله لكل خير آمين.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
حضر عندي من سمى نفسه عبد الله بن عبد الجزي، وسألني هل تجوز التسمية بعبد الجزي؟ لأن الجوازات قد توقفت في تجديد تابعيته حتى تعرف حكم الشرع في اسم أبيه؟
والجواب: قد أجمع العلماء على أنه لا يجوز التعبيد لغير الله سبحانه، فلا يجوز أن يقال: عبد النبي، أو عبد الحسين، أو عبد الكعبة أو نحو ذلك؛ لأن العبيد كلهم عبيد الله عز وجل. ومعلوم أن الجزى ليس من أسماء الله سبحانه، فلا يجوز التعبيد إليه، والواجب تغيير هذا الاسم باسم معبد الله سبحانه، أو باسم آخر غير معبد؛ كأحمد ومحمد وإبراهيم ونحو ذلك، ويجب عند التغيير أن يوضح في التابعية الاسم الأول مع الاسم الجديد حتى لا تضيع الحقوق المتعلقة بالاسم الأول.
هذا ما أعلمه من الشرع المطهر. ويذكر عبد الله المذكور أن أباه قد وافق على تغيير اسمه من عبد الجزى إلى عبد الرحمن، فليعتمد ذلك عند موافقة أبيه عليه، ونسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
(1)
.
الوليد:
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "هل يجوز للمسلم أن يُسمي بهذه الأسماء: طه، ياسين، خباب، عبد المطلب، الحباب، قارون، الوليد؟ وهل
(1)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (18/ 52).
طه وياسين من أسماء النبي محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟
فأجاب: يجوز التسمي بهذه الأسماء لعدم الدليل على ما يمنع منها، لكن الأفضل للمؤمن أن يختار أحسن الأسماء المعبدة الله؛ مثل عبد الله وعبد الرحمن وعبد الملك ونحوها، والأسماء المشهورة كصالح ومحمد ونحو ذلك بدلًا من قارون وأشباهه، أما عبد المطلب فالتسمي به جائز بصفة استثنائية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر بعض الصحابة على هذا الاسم.
ولا يجوز التعبيد لغير الله كائنًا من كان؛ كعبد النبي وعبد الحسين وعبد الكعبة ونحو ذلك، وقد حكى أبو محمد ابن حزم إجماع أهل العلم على تحريم ذلك.
وليس طه وياسين من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في أصح قولي العلماء، بل هما من الحروف المقطعة في أوائل السور مثل: ص، و ق، و ن، ونحوها، وبالله التوفيق"
(1)
.
عبودي:
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "كثيرًا ما نسمع من عامي ومتعلم تصغير الأسماء المعبدة، أو قلبها إلى أسماء تنافي الاسم الأول، فهل فيه من بأس؟ وذلك نحو: عبد الله تجعل "عبيّد"، و "عبود"، و "العبدي" بكسر العين وسكون الباء، وفي عبد الرحمن: "دحيم" بالتخفيف والتشديد، وفي عبد العزيز: "عزيز"، و "عزوز"، و "العزي"، وما أشبه ذلك. أما في محمد: "محيميد، وحمدّا، والحمدي" وما أشبهه؟
(1)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (18/ 53 - 54).
فأجاب: لا بأس بالتصغير في الأسماء المعبدة وغيرها، ولا أعلم أن أحدًا من أهل العلم منعه، وهو كثير في الأحاديث والآثار؛ كأنيس وحميد وعبيد وأشباه ذلك، لكن إذا فعل ذلك مع من يكرهه فالأظهر تحريم ذلك؛ لأنه حينئذ من جنس التنابز بالألقاب الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم؛ إلا إن يكون لا يُعرف إلا بذلك فلا بأس، كما صرح به أئمة الحديث في رجال كالأعمش والأعرج ونحوهما"
(1)
.
قول: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [عند وفاة أحد المسلمين]:
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "ما حكم قولهم {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}
(2)
؟
فأجاب: "هذا غلط؛ وما يدريهم بذلك، بل المشروع الدعاء له بالمغفرة والرحمة، ويكفي ذلك"
(3)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "هذا لا يجوز أن يُطلق على شخص بعينه؛ لأن هذا شهادة بأنه من هذا الصنف"
(4)
.
حللوا أخاكم: [يقولها أهل الميت للناس]:
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "ما حكم قول أهل الميت للناس: حللوا أخاكم، أو أبيحوه، وقولهم: استغفروا له؟
(1)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (8/ 54 - 55).
(2)
سورة الفجر، الآية (27).
(3)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (13/ 409).
(4)
المناهي اللفظية، (ص 17 - 18).
فأجاب: لا أعلم لهذا أصلًا، لكن إذا كان يُعلم أنه ظالمهم، وطُلب منهم أن يبيحوه فلا بأس، وإلا يقتصر الطلب على الدعاء والاستغفار"
(1)
.
انتقل إلى مثواه الأخير:
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "ما حكم قولهم في التعزية: انتقل إلى مثواه الأخير؟
فأجاب رحمه الله: لا أعلم في هذا بأسًا؛ لأنه مثواه الأخير بالنسبة للدنيا، وهي كلمة عامية، أما المثوى الأخير الحقيقي فهو الجنة للمتقين، والنار للكافرين"
(2)
.
قلت: معظم من يطلق هذه العبارة من المسلمين يعني بها ما ذكره الشيخ رحمه الله لكن "لو أطلقها إنسان معتقدًا ما ترمي إليه من المعنى الإلحادي الكفري المذكور لكان كافرًا مرتدًا" كما قال الشيخ بكر أبو زيد
(3)
.
الولاء للوطن:
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "يبالغ البعض بالقول: إن كلمة الولاء للوطن من التوثين في بلد إسلامي يدين أهله بالولاء لله، فما ترون سماحتكم في ذلك؟ ".
فأجاب: "الواجب الولاء لله ولرسوله؛ بمعنى أن يوالي العبد في الله
(1)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (13/ 409).
(2)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (13/ 408 - 409).
(3)
"معجم المناهي اللفظية"، (ص 492).
ويعادي في الله، وقد يكون وطنه ليس بإسلامي فكيف يوالي وطنه؟ أما إن كان وطنه إسلاميًا فعليه أن يحب له الخير ويسعى إليه، لكن الولاء لله لأن من كان من المسلمين مطيعًا لله فهو وليه، ومن كان مخالفًا لدين الله فهو عدوه وإن كان من أهل وطنه، وإن كان أخاه أو عمه أو أباه أو نحو ذلك، فالموالاة في الله والمعاداة في الله.
أما الوطن فيُحبُّ إن كان إسلاميًا، وعلى الإنسان أن يشجع على الخير في وطنه، وعلى بقائه إسلاميًا، وأن يسعى لاستقرار أوضاعه وأهله، وهذا هو الواجب على كل المسلمين، نسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين التوفيق والهداية وصلاح النية والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه"
(1)
.
بحق محمد صلى الله عليه وسلم
-:
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "هل يجوز للذي يدعو رب العالمين أن يقول بحق محمد عليك؟
فأجاب: "لا يجوز في السؤال أن يقال: بحق محمد، ولا بجاه محمد، ولا بحق الأنبياء ولا غيرهم؛ لأن ذلك بدعة لم يرد في الأدلة الشرعية ما يرشد إليه، والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع المطهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"
(2)
متفق على صحته، وفي رواية لمسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(3)
، ولأن ذلك من وسائل
(1)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (9/ 317).
(2)
رواه البخاري في الصلح برقم 2499، ومسلم في الأقضية برقم 3242 واللفظ متفق عليه.
(3)
رواه مسلم في الأقضية برقم 3243.
الشرك والغلو في المتوسل به، وإنما المشروع التوسل إلى الله سبحانه بأسمائه وصفاته؛ لقول الله سبحانه:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}
(1)
. وهكذا التوسل بالأعمال الصالحة؛ كالإيمان بالله ورسوله، وتوحيد الله سبحانه، ومحبة الله ورسوله، وبر الوالدين، والعفة عما حرم الله، وأداء الأمانة، ونحو ذلك من الأعمال الصالحات؛ لقول الله عز وجل:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} إلى قوله: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
(2)
وقول النبي: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد"
(3)
وقوله: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم"
(4)
(1)
سورة الأعراف، الآية (180).
(2)
سورة آل عمران، الآيات (190 - 194).
(3)
رواه الترمذي في الدعوات برقم 3397، وأبو داود في الصلاة برقم 1276.
(4)
رواه الترمذي في الدعوات برقم 3467، والنسائي في السهو برقم 1283. واللفظ له، وأبو داود في الصلاة برقم 1277.
وللحديث الصحيح في قصة أصحاب الغار وهم ثلاثة من كان قبلنا، آواهم المبيت والمطر إلى غار فانحدرت عليهم صخرة وسدت عليهم الغار، فلم يستطيعوا دفعها فقالوا فيما بينهم: لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تسألوا الله بصالح أعمالكم، فسأل أحدهم ربه أن يفرج عنهم هذه الصخرة ببره لوالديه، وتوسل الآخر إلى ربه بعفته عن الزنا بعد قدرته عليه، وتوسل الثالث بأدائه الأمانة إلى صاحبها بعدما رباها ونماها، ففرج الله عنهم الصخرة وخرجوا"
(1)
أخرجه الشيخان في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
صدق الله العظيم: [قولها بعد تلاوة القرآن]:
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "إني كثيرًا ما أسمع أن قول صدق الله العظيم عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم بدعة، وقال لي بعض الناس: إنها جائزة، واستدلوا بقوله تعالى:{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}
(3)
وكذلك قال لي بعض المثقفين: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يوقف القارئ قال: "حسبك"، ولا يقول: صدق الله العظيم؟ وسؤالي هو: هل قول صدق الله العظيم جائز عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم؟ أرجو أن تتفضلوا بالتفصيل في هذا.
فأجاب: "اعتياد الناس أن يأتوا بقولهم: "صدق الله العظيم" عند الانتهاء
(1)
رواه البخاري في البيوع برقم 2063، ومسلم في الذكر والدعاء برقم 4926. وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة برقم 5702.
(2)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (9/ 327 - 328).
(3)
سورة آل عمران، الآية (95).
من قراءة القرآن الكريم لا نعلم له أصلًا، ولا ينبغي اعتياده، بل هو على القاعدة الشرعية من قبيل البدع إذا اعتقد أحد أنه سنة، فينبغي ترك ذلك، وأن لا يعتاد ذلك.
وأما الآية: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} فليست في هذا الشأن، وإنما أمره الله أن يبين لهم صدق الله فيما بيَّنه في كتبه العظيمة من التوراة وغيرها، وأنه صادق فيما بيَّن لعباده في التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة.
كما أنه صادق سبحانه فيما بيَّنه لعباده في كتابه العظيم القرآن، ولكن ليس هذا دليلًا على أنه مستحب أن يقول ذلك بعد قراءة القرآن أو بعد قراءة آيات، أو قراءة سورة، وليس هذا ثابتًا ولا معروفًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته رضوان الله عليهم، ولما قرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم أول سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}
(1)
قال له النبي: "حسبك". قال ابن مسعود: "فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان"
(2)
عليه الصلاة والسلام، أي يبكي لما تذكر هذا المقام العظيم يوم القيامة، وهو المذكور في هذه الآية العظيمة وهي قوله سبحانه:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ} أي: يا محمد {عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} أي: على أمته عليه الصلاة والسلام.
(1)
سورة النساء، الآية (41).
(2)
رواه البخاري في فضائل القرآن برقم (5050)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم (800).
المقصود أن زيادة كلمة: (صدق الله العظيم) عند نهاية القراءة ليس لها أصل في الشرع، فالمشروع تركها تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، أما إذا فعلها الإنسان بعض الأحيان من غير قصد فلا يضر، فإن الله صادق في كل شيء سبحانه وتعالى، لكن اعتياد ذلك بعد كل قراءة كما يفعله كثير من الناس اليوم ليس له أصل كما تقدم"
(1)
.
كهيعص تكفينا:
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "ما حكم قول بعض الناس في القنوت: (بين سقفنا، وكهيعص تكفينا .. ) إلخ؟ وهل تجوز الصلاة خلف مثل هؤلاء؟ جزاكم الله خيرًا.
فأجاب: هذا العمل بدعة ومنكر ولا أصل له في الشرع، والواجب على الجهات المسؤولة عزل هذا الإمام وإبداله بخير منه إذا لم يتب ويدع هذه البدع، لقول الله سبحانه:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}
(2)
الآية، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"
(3)
رواه الإمام مسلم في صحيحه"
(4)
.
(1)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (9/ 342 - 344).
(2)
سورة التوبة الآية (71).
(3)
رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم 49.
(4)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (9/ 334).
منّة الله ولا منّة خلقه:
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن هذه العبارة فقال: "لا أعلم حرجًا في ذلك؛ لأن المنة لله سبحانه في كل شيء؛ كما قال عز وجل في آخر سورة الحجرات: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(1)
؛ فالمنة لله وحده في كل شيء من نعم الدنيا والآخرة"
(2)
.
ملائكة الرحمة: [وصف الممرضات بهذا الوصف]:
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "نقرأ ونسمع كثيرًا من عامة الناس وكتابهم وشعرائهم من يصف في كتابه أو شعره الممرضات بأنهن ملائكة الرحمة؟ فما رأي سماحتكم في مثل هذا الوصف؟ وهل يجوز ذلك؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب: هذا الوصف لا يجوز إطلاقه على الممرضات؛ لأن الملائكة ذكور وليسوا إناثًا، وقد أنكر الله سبحانه على المشركين وصفهم الملائكة بالأنوثية، ولأن ملائكة الرحمة لهم وصف خاص لا ينطبق على الممرضات، ولأن الممرضات فيهن الطيب والخبيث، فلا يجوز إطلاق هذا الوصف عليهن. والله الموفق"
(3)
.
(1)
سورة الحجرات، الآية (7).
(2)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (9/ 306 - 307).
(3)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (8/ 423 - 424).
دق الخشب: [قولها خوفًا من الحسد]:
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: "عند ذكر نعمة أنعم الله بها على أخ أو صديق يقوم البعض بالنقر على الخشب؛ تعبيرًا عن الخوف من عين الحاسد، وبعضهم قد يطلب من الآخر النقر على الخشب بقوله:(دق الخشب)، فما حكم الشرع في هذا الفعل؟ أفتونا مأجورين إن شاء الله.
فأجاب: هذا العمل منكر واعتقاد فاسد لا يجوز فعله. وإنما المشروع عند حصول النعمة أو السلامة من ضدها شكر الله، والثناء عليه، وسؤاله سبحانه تمام النعمة والعون على شكرها، كما قال عز وجل في كتابه العظيم:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
(1)
، وقال سبحانه:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}
(2)
وفق الله الجميع"
(3)
.
وجاء في مجلة (فواصل)"العدد 76" أن عبارة: "أمسكوا الخشب" التي تقال عند خوف الحسد تعود إلى عقيدة هندوسية يقدس أهلها الخشب ويرون أنه يدفع الضر. والله أعلم
(4)
.
ما تستاهل: [قولها للمريض أو المصاب]:
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "بعض الأشخاص عندما
(1)
سورة إبراهيم، الآية (7).
(2)
سورة البقرة، الآية (152).
(3)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (8/ 424).
(4)
وانظر: "الألوهية في العقائد الشعبية" لعبد السلام بسيوني، (ص 240).
يعود أحد المرضى يقول له: ما تستاهل، كأنه بهذا يعترض على إرادة الله، أو بعض الأشخاص عندما يسمع أن فلانًا من الناس مريض يقول: والله ما يستاهل، نرجو من سماحة الشيخ بيان جواز قول هذه الكلمة من عدمه. جزاكم الله خيرًا.
فأجاب: هذا اللفظ لا يجوز؛ لأنه اعتراض على الله سبحانه، وهو سبحانه أعلم بأحوال عباده، وله الحكمة البالغة فيما يقضيه ويقدره على عباده من صحة ومرض، ومن غنى وفقر وغير ذلك.
وإنما المشروع أن يقول: عافاه الله وشفاه الله، ونحو ذلك من الألفاظ الطيبة.
وفق الله المسلمين جميعًا للفقه في الدين والثبات عليه، إنه خير مسؤول"
(1)
.
ما كامل إلا محمد صلى الله عليه وسلم
-
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "يتردد على ألسنة بعض الناس قولهم: (ما كامل إلا محمد صلى الله عليه وسلم) فهل هذا القول صحيح؟
فأجاب: ليس هذا القول بصحيح، بل الكامل من الرجال كثير، ولكن محمدً صلى الله عليه وسلم هو أكملهم، وأفضلهم، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية ابنة مزاحم -يعني زوجة فرعون- وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"
(2)
.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن خديجة رضي الله عنها بنت خويلد، أم أولاده صلى الله عليه وسلم، ممن كمل من النساء، وهكذا فاطمة ابنته صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنها سيدة
(1)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (8/ 421).
(2)
متفق عليه: رواه البخاري برقم (3769)، ومسلم برقم (2431).
نساء أهل الجنة، فهؤلاء الخمس من الكاملات من النساء رضي الله عنهن جميعًا.
وأما الكاملون من الرجال فهم كثير، يعني في الصفات الإنسانية التي مدحها الله وأثنى على أهلها من العلم والجود والاستقامة على دين الله، والشجاعة في الحق، وغير ذلك من الصفات العظيمة التي مدحها الله سبحانه وأثنى على أهلها أو رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أكمل الناس في ذلك هم الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ وأكملهم وأفضلهم هو خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر"
(1)
، والأدلة الأخرى من الكتاب والسنة تدل على ذلك. أما الكمال المطلق في جميع الصفات فهو لله وحده، ليس له في ذلك شريك ولا مثيل؛ لقول الله عز وجل:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
(2)
، وقوله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(3)
، وقوله سبحانه:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(4)
، وقوله عز وجل في سورة الروم:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(5)
.
(1)
رواه بهذا اللفظ الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة بني إسرائيل، رقم (3148)، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه دون كلمة (ولا فخر)، رقم (2278).
(2)
سورة الإخلاص.
(3)
سورة الشورى، الآية (11).
(4)
سورة النحل، الآية (74).
(5)
سورة الروم، الآية (27).
والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه من العلم، والقدرة، والحياة، والسمع والبصر، وغير ذلك من صفات الكمال، تعالى وتقدس وتنزه عن مشابهه خلقه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم"
(1)
.
يا ملائكة الحفظ أيقظوني:
" سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن قول بعض العوام قبل النوم: يا ملائكة الحفظ أيقظوني في الساعة كذا، أو عند وقت كذا؟
فأجاب: هذا لا يجوز، بل هو من الشرك الأكبر؛ لأنه دعاء لغير الله وطلب من الغائب، فهو كالطلب من الجن والأصنام والأموات؛ لعموم قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}
(2)
(3)
، فسمَّى سبحانه دعاء غيره من الأموات والأصنام والجن والملائكة شركًا به سبحانه، وقال عز وجل:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}
(4)
، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ
(1)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (7/ 398 - 399).
(2)
سورة الجن، الآية (18).
(3)
سورة فاطر، الآيتان (13، 14).
(4)
سورة الجن، الآية (6).
عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
(1)
، فسمَّى الداعين لغيره كافرين، وهذا يعم جميع المدعوين من دون الله من: أموات، أو أصنام، أو جن، أو ملائكة، ولا يستثنى من ذلك إلا الحي الحاضر القادر؛ لقول الله سبحانه في قصة موسي:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}
(2)
.
ومن هذا الشرك قول بعض الناس: يا جن خذوه، يا سبعة خذوه، أو يا جن الظهيرة خذوه، أو يا جن الشعب الفلاني أو يا جن بلد فلان؛ فهذا كله شرك أكبر ودعوة لغير الله من الغائبين، فإذا قال يا ملائكة الله أيقظوني أو احفظوني فهذا شرك أكبر، أو يا جن البيت احفظوني أو أيقظوني فهذا شرك أكبر، نعوذ بالله من ذلك. والواجب على المسلم أن يحذر ذلك، وأن يستغيث بالله وحده، ويسأله وحده؛ ففيه الكفاية سبحانه، وهو القادر على كل شيء، وهو القائل عز وجل:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
(3)
(4)
، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله".
نسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه، والسلامة من أسباب غضبه؛ إنه سميع قريب"
(5)
.
(1)
سورة المؤمنون، الآية (117).
(2)
سورة القصص، الآية (15).
(3)
سورة غافر، الآية (60).
(4)
سورة البقرة، الآية (186).
(5)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (7/ 181 - 182).
الأول والآخر والظاهر والباطن: [قولها للرسول صلى الله عليه وسلم]!
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "ما رأيكم في الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول بعضهم: إنه الأول والآخر والظاهر والباطن؟
فأجاب: الأول والآخر والظاهر والباطن هو الله عز وجل؛ قال تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(1)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنّا الدين وأغننا من الفقر" رواه الإمام مسلم في صحيحه
(2)
.
فمن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم فهو كافر؛ لكونه وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء أربعة مختصة بالله عز وجل، لا يستحقها غيره. وهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول، الأول والظاهر هو الله وحده سبحانه، وهو الذي قبل كل شيء، وبعد كل شيء سبحانه وتعالى. وهو الظاهر فوق جميع خلقه، والباقي بعدهم، والذي يعلم أحوالهم، والرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعلم إلا ما علَّمه الله، وقد توفي عليه الصلاة والسلام، ووجد بعد أن كان معدومًا؛ وجد في مكة بين أمه آمنة وأبيه عبد الله، وكان عدمًا قبل ذلك، ثم وجد من ماء مهين، وغيره من البشر كذلك، فالذي يقول أنه الأول والآخر والظاهر والباطن فهو ضال ومرتد إن كان مسلمًا"
(3)
.
(1)
سورة الحديد، الآية (3).
(2)
رواه مسلم برقم (2713).
(3)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (7/ 292).
الله حالٌّ بين خلقه
!
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أما بعد:
فقد تكررت الأسئلة عمن يقول بأن الله سبحانه حالٌّ بين خلقه ومختلط بهم، وأن ذلك هو معنى المعية العامة، وشبهوا أيضًا بقوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ}
(1)
الآية، وقوله:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} ، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}
(2)
. ومعنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عندهم، وإنما كان الله تعالى بذاته معهم؛ لأنه في كل مكان، على حد قولهم.
ولما كان القائل بهذا القول قد أساء الفهم، وارتكب خطأ فاحشًا، مخالفًا للعقيدة الصحيحة التي جاء بها القرآن والسنة، واعتقدها سلف هذه الأمة، رأيت بيان الحق، وإيضاح ما خفي على هذا القائل في هذا الأمر العظيم الذي يتعلق بأسماء الله وصفاته، فالله سبحانه وتعالى يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، على ما يليق بجلاله، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل؛ كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(3)
، وأن مما ثبت في القرآن والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، أن الله سبحانه فوق خلقه، بائن منهم، مستو على عرشه، استواء يليق
(1)
سورة القصص، الآية (44).
(2)
سورة آل عمران، الآية (44).
(3)
سورة الشورى، الآية (11).
بجلاله، لا يشابه خلقه في استوائهم، وهو سبحانه معهم بعلمه، لا تخفى عليه منهم خافية، وهذا هو ما يدل عليه القرآن، بأبلغ العبارات وأوضحها، وما تدل عليه السنة بالأحاديث الصحيحة الصريحة، ومن الأدلة القرآنية على أن الله سبحانه في السماء فوق خلقه، مستو على عرشه: قوله سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
(1)
، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}
(2)
{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}
(3)
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ}
(4)
(5)
وقوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
(6)
(7)
. الآيات
وأما الأدلة من السنة فقد ورد في الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة؛ مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك
(1)
سورة فاطر، الآية (10).
(2)
سورة آل عمران، الآية (55).
(3)
سورة المعارج، الآية (4).
(4)
سورة الفرقان، الآية (59).
(5)
سورة الملك، الآيتان (16، 17).
(6)
سورة طه، الآية (5).
(7)
سورة غافر، الآيتان (36، 37).
في السماء والأرض" الحديث
(1)
، وقوله في حديث الأوعال:"والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه"
(2)
رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وقوله في الحديث الصحيح للجارية:"اين الله؟ " قالت: في السماء قال "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. فقال: "أعتقها فإنها مؤمنة" أخرجه مسلم في صحيحه
(3)
.. إلى أمثال ذلك من الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفيدة علمًا يقينًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلّغ أن الله سبحانه على عرشه، وأنه فوق السماء كما فطر الله على ذلك جميع الأمم؛ عربها وعجمها، في الجاهلية والإسلام إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفًا، ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف الأمة، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف، حرف واحد يخالف ذلك، لا نصًا ولا ظاهرًا، ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش، ولا إنه بذاته في كل مكان، ولا إن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبي- صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة في يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره الرسول صلى الله عليه وسلم، جعل يقول:"ألا هل بلغت؟ " فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكبها إليهم
(1)
رواه أبو داود في كتاب الطب، باب كيف الرقي، رقم (3892).
(2)
رواه بنحوه أبو داود في السنة، رقم (4723)، والترمذي في تفسير القرآن، رقم (3320).
(3)
رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، رقم (537).
ويقول: "اللهم اشهد". غير مرة
(1)
، وأمثال ذلك كثير.
كما أوضح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم
(2)
، والمقصود أن هذا المعتقد الفاسد، الذي تعتقده الجهمية المعطلة، ومن سار على سبيلهم من أهل البدع، من أفسد المعتقدات وأخبثها، وأعظمها بلاء وتنقصًا للخالق جل وعلا، نعوذ بالله من زيغ القلوب. والأدلة على بطلان هذا المذهب الضال كثيرة؛ فإن العقل الصحيح، والفطرة السليمة، ينكران ذلك، فضلًا عن الأدلة الشرعية الثابتة، أما استدلال بعضهم بالآيات المذكورة آنفًا، فإنه من أبطل الباطل؛ حيث زعموا أنه يؤخذ من الآيات أن الله موجود بذاته في الأرض، بجانب الطور، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وقد خفي على هذا القائل أن المعية نوعان: عامة وخاصة؛ فالخاصة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}
(3)
، وقوله سبحانه:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
(4)
، وقوله:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
(5)
، وأشباهها من الآيات؛ فهو سبحانه مع أنبيائه وعباده المؤمنين المتقين بالنصر والتأييد، والإعانة والتوفيق والتسديد، والكفاية والرعاية والهداية؛ كما قال عز وجل فيما رواه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع
(1)
رواه مسلم بنحوه رقم (1218).
(2)
انظر الفتاوي ج 5 ص 14.
(3)
سورة النحل، الآية (128).
(4)
سورة التوبة، الآية (40).
(5)
سورة طه، الآية (46).
به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي به"
(1)
.
وليس معنى ذلك أن يكون الله سبحانه جوارح للعبد تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، إنما المراد تسديده وتوفيقه في جوارح العبد كلها، كما تفسر ذلك الرواية الأخرى؛ حيث قال سبحانه:"فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي"
(2)
، فوضح بهذا سبحانه أن المراد من قوله:"كنت سمعه"
…
الخ توفيقه وتسديده وحفظه له من الوقوع فيما يغضبه.
وأما المعية العامة فمعناها: الإحاطة التامة والعلم، وهذه المعية هي المذكورة في آيات كثيرة كقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}
(3)
، وقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}
(4)
، وقوله:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}
(5)
(6)
، إلى غير ذلك من الآيات؛ فهو جل وعلا مستو على عرشه، على الكيفية اللائقة
(1)
رواه البخاري في الرقاق برقم (6502).
(2)
أوردها الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (14/ 677)، ط. دار طيبة، نقلًا عن الطوفي، وهي في كتابه: التعيين في شرح الأربعين، تحقيق أحمد حاج محمد عثمان، ص 310. مؤسسة الريان.
(3)
سورة المجادلة، الآية (7).
(4)
سورة الحديد، الآية (4).
(5)
سورة الأعراف، الآية (7).
(6)
سورة يونس، الآية (61).
بكماله وجلاله، وهو محيط بخلقه علمًا، وشهيد عليهم أينما كانوا، وحيث كانوا، من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت والقفار، الجميع في علمه على السواء، وتحت بصره وسمعه؛ فيسمع كلامهم، ويرى مكانهم، ويعلم سرهم ونجواهم؛ كما قال تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
(1)
، وقوله تعالى:{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}
(2)
(3)
، فلا إله غيره، ولا رب سواه، وقد بدأ سبحانه آيات المعية العامة بالعلم، وختمها بالعلم، ليعلم عباده أن المراد بذلك علمه سبحانه بأحوالهم، وسائر شؤونهم، لا أنه سبحانه مختلط بهم في بيوتهم، وحماماتهم وغير ذلك من أماكنهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، والقول بأن معنى المعية هو اختلاطه بالخلق بذاته، هو ما يقول به أهل الحلول، الذين يزعمون أن معبودهم في كل مكان بذاته، وينزهونه عن استوائه على عرشه، وعلوه على خلقه، ولم يصونوه عن أقبح الأماكن وأقذرها، قبّحهم الله وأخزاهم، وقد تصدى للرد عليهم أئمة السلف
(1)
سورة هود، الآية (5).
(2)
سورة الرعد، الآية (10).
(3)
سورة الطلاق، الآية (12).
الصالح؛ كأحمد بن حنبل، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وأبي حنيفة النعمان، وغيرهم، ومن بعدهم من أئمة الهدى؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والحافظ بن كثير وغيرهم.
وإذا تبين هذا فإنه لا يؤخذ من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} -وما جاء في معناها من الآيات- أنه مختلط وممتزج بالمخلوقات، لا ظاهرًا ولا حقيقة، ولا يدل لفظ (مع) على هذا بوجه من الوجوه، وغاية ما تدل عليه المصاحبة والموافقة، والمقارنة في أمر من الأمور، وهذا الاقتران في كل موضع بحسبه، قال أبو عمر الطلمنكي رحمه الله: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}
(1)
، ونحو ذلك من القرآن: أنه علمه، وأن الله تعالى فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه، كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا أن الله على عرشه فوق سماواته. وقال أبو نصر السجزي: أئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، والفضيل، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وعلمه بكل مكان. وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}
(2)
الآية: هو على
(1)
سورة الحديد، الآية (4).
(2)
سورة المجادلة، الآية (7).
العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
وقال الحافظ بن كثير رحمه الله على قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
(1)
أي رقيب شهيد على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم، من بر أو بحر في ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء وتحت بصره وسمعه، فيسمع كلامكم، ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم،؛ كما قال تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
(2)
(3)
، فلا إله غيره ولا رب سواه. وقال في تفسير آية سورة المجادلة:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} . أي من سر ثلاثة {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}
(4)
؛ أي مطلع عليهم، يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله أيضًا مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله به، وسمعه له؛ كما قال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}
(5)
، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا
(1)
سورة الحديد، الآية (4).
(2)
سورة هود، الآية (5).
(3)
سورة الرعد، الآية (10).
(4)
سورة المجادلة، الآية (7).
(5)
سورة التوبة، الآية (78).
نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}
(1)
، ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضًا مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم؛ فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء.
وكلام السلف في هذا المقام أكثر من أن يحصر، والمقصود بيان أن هذا المعتقد، وهو القول بأن الله بذاته في كل مكان، وأن معنى قوله: أنه معهم بذاته، وأنه لا تجوز الإشارة إليه: قول في غاية السقوط والبطلان، كما هو جلي من الأدلة الكثيرة الصريحة التي سبق ذكر بعضها، وواضح بطلانه من إجماع أهل العلم الذي نقله عنهم من سبق ذكره من الأئمة.
وبهذا يتضح أن القائلين بالحلول -أعني حلول الله سبحانه بين خلقه بذاته ومن قال بقولهم- قد جانبوا الصواب وأبعدوا النجعة، وقالوا على الله خلاف الحق، وتأولوا الآيات الواردة في المعية على غير تأويلها الذي قاله أهل العلم، نعوذ بالله من الخذلان، ومن القول على الله بلا علم، ونسأله الثبات على الحق والهداية إلى سبيل الرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه"
(2)
.
اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك:
" من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة صاحب السمو الملكي
(1)
سورة الزخرف، الآية (80).
(2)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (1/ 144 - 150).
الأمير المكرم نواف بن عبد العزيز؛ وفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد أخبرني الأخ علي بن حسين بن عبيد عن رغبتكم في الإفادة عن التوسل الجاري على ألسنة كثير من الناس وهو: (اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك) والجواب: هذا الدعاء ليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم فيما نعلم، وقد ذكر العلامة الزيلعي في كتابه:(نصب الراية) ص 272 جـ 4 أن الحافظ البيهقي رحمه الله رواه في كتابه: (الدعوات الكبير) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأن الحافظ ابن الجوزي رحمه الله ذكره في الموضوعات على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني المكذوبات عليه، عليه الصلاة والسلام وبذلك يعلم أنه لا يشرع التوسل به؛ لكونه مكذوبا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه مجمل محتمل لا يعرف معناه، وقد زاد بعضهم في روايته -كما ذكره البيهقي في كتابه بعد قوله من عرشك- ما نصه:(ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وكلماتك التامة) وهذه الزيادة ليس لها أصل من حديث بن مسعود رضي الله عنه بهذا اللفظ فيما نعلم، ولكن قد دلت الأدلة الشرعية على شرعية التوسل بأسماء الله وصفاته، ويدخل فيها الاسم الأعظم، وكلمات الله التامات؛ كما قال الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}
(1)
، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نزل منزلًا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من
(1)
سورة الأعراف، الآية (180).
شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك" رواه الإمام مسلم في صحيحه
(1)
، وروى مسلم في صحيحه أيضًا، عن عائشة رضي الله عنها، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في سجوده بقوله:"اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"
(2)
، وخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الرحمن بن خنبش التميمي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ فيقول:"أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن"
(3)
.
والأحاديث في التوسل بأسماء الله وصفاته كثيرة، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة ممن كان قبلنا آواهم المبيت إلى غار فانطبقت عليهم صخرة فسدت عليهم فم الغار، فقالوا فيما بينهم: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعوا الله سبحانه، وتوسل أحدهم إلى الله سبحانه ببره لوالديه فانفرجت الصخرة بعض الشيء، ثم توسل الثاني بعفته عن الزنا بعد القدرة عليه فانفرجت الصخرة أكثر، لكنهم لا يستطيعون الخروج، ثم توسل الثالث بأدائه الأمانة
(1)
رواه مسلم برقم (2708).
(2)
رواه مسلم برقم (486).
(3)
رواه أحمد: (3/ 419).
لأهلها فانفرجت الصخرة فخرجوا
(1)
، وهذا الحديث يدل على شرعية التوسل إلى الله سبحانه بصالح الأعمال، ومن ذلك: التوسل بدعاء الحي وشفاعته كما كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، ولما أجدبوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم، فدعا الله سبحانه في خطبة الجمعة، ورفع يديه وقال:"اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا"
(2)
فأنزل الله المطر في الحال، ومرة خرج بهم إلى الصحراء فصلي بهم ركعتين وخطبهم واستغاث الله سبحانه وتضرع إليه وألح في الدعاء ورفع يديه فأغاثهم الله سبحانه، ولما وقع الجدب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغيث بالناس، فدعا العباس رضي الله عنه، وأمن المسلمون على دعائه، فأغاثهم الله.
فهذه هي التوسلات الشرعية، أما التوسل بجاه فلان، أو حق فلان، أو ذات فلان، فهو توسل غير مشروع، بل بدعة عند جمهور أهل العلم.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل به، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعًا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمر المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر عباده في الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
(3)
.
(1)
الحديث في البخاري برقم (2215) وغيره، ومسلم برقم (2743).
(2)
متفق عليه: رواه البخاري برقم (1014)، ومسلم برقم (897).
(3)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (4/ 317 - 319). وانظر في:"الدرر السنية"(1/ 513) فتوى للشيخ عبد اللطيف بن عبدالرحمن رحمه الله حول هذا الدعاء.
والكعبة
!
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "ما حكم الحلف بالكعبة ونحوها؟ وما هي صيغة الحلف الجائز؟
فأجاب: لا يجوز الحلف بالكعبة ولا بغيرها من المخلوقات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" متفق على صحته
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بشيء دون الله فقد أشرك" رواه الإمام أحمد من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإسناد صحيح
(2)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(3)
.
والأحاديث في ذلك كثيرة، ومنها يعلم تحريم الحلف بالكعبة والأمانة والأنبياء وغيرهم من سائر الخلق.
واليمين الشرعية في اليمين بالله وحده، وصفتها أن يقول:(والله، أو بالله، أو تالله لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا) وهكذا لو حلف بغير أسم الجلالة من أسماء الله وصفاته؛ كالرحمن، والرحيم، ومالك الملك، وحياة الله، وعلم الله، ونحو ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف كثيرًا بقوله "والذي نفسي بيده" والله ولي التوفيق"
(4)
.
(1)
رواه البخاري برقم (2679)، مسلم برقم (1646).
(2)
رواه أحمد: (1/ 47).
(3)
رواه الترمذي في النذور والإيمان (1535)، وأبو داود برقم (3251).
(4)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (4/ 146).
بعض الأحكام الشرعية تحتاج إلى إعادة نظر
!
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن هذه العبارة الشنيعة التي يتفوه بها بعض المنافقين على صفحات الصحف وفي القنوات ونحوها.
فأجاب: "الأحكام التي شرعها الله لعباده، وبينها في كتابه الكريم، أو على لسان رسوله الأمين -عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم- كأحكام المواريث، والصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، ونحو ذلك مما أوضحه الله لعباده وأجمعت عليه الأمة؛ ليس لأحد الاعتراض عليه ولا تغييره؛ لأنه تشريع محكم للأمة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده إلى قيام الساعة، ومن ذلك تفضيل الذكر على الأنثى من الأولاد وأولاد البنين والأخوة للأبوين وللأب؛ لأن الله سبحانه قد أوضحه في كتابه الكريم، وأجمع عليه علماء المسلمين.
فالواجب العمل بذلك عن اعتقاد وإيمان، ومن زعم أن الأصح خلافه فهو كافر، وهكذا من أجاز مخالفته يعتبر كافرًا؛ لأنه معترض على الله سبحانه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى إجماع الأمة.
وعلى ولي الأمر أن يستتيبه إن كان مسلمًا، فإن تاب وإلا وجب قتله كافرًا مرتدًا عن الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه"
(1)
. نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من مضلات الفتن ومن مخالفة الشرع المطهر"
(2)
.
(1)
رواه البخاري في الجهاد والسير برقم (3017).
(2)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"، (5/ 431).
الطبيعة تخطئ والإنسان يصحح
!
" الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فقد اطلعت على كلمة نشرتها مجلة "اقرأ" في عددها (604) الصادر في 22/ 5/ 1407 هـ عن محاورة بين أرسطو وأرسطوقان، جاء فيها ما نصه:(الطبيعة تخطئ والإنسان يصحح). وهذا الإطلاق منكر عظيم، وكفر صريح. ومعلوم أن الفلاسفة لا يؤمنون بإله خالق مدبر، له الكمال المطلق، يفعل لحكمة، ويترك لحكمة، وهو منزه عن الخطأ في أفعاله وأقواله عز وجل. ومن أجل عدم إيمانهم بالخالق العظيم الكامل في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ينسبون الحوادث إلى الطبيعة، وهذا من جهلهم وبعدهم عما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام. فالواجب عدم الاغترار بأقوالهم فيما يتعلق بالإلهيات والشرائع لجهلهم بها وعدم إيمانهم، ولا شك أن ما يقع في العالم من أمراض وحوادث وتشويه خلقية أو غير ذلك؛ كلها تقع بمشيئة الله سبحانه، وله فيها الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وإن جهلها الخلق؛ كما قال عز وجل:{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
(1)
، وقال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}
(2)
، وقال عز وجل:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}
(3)
، وما ذاك إلا لكمال حكمته وعلمه، تبارك اسمه وتقدس
(1)
سورة الأنعام، الآية (83).
(2)
سورة النساء، الآية (24).
(3)
سورة الأنبياء، الآية (23).
عن قول الظالمين والكافرين والجاهلين، وتعالى علوًا كبيرًا، ولواجب النصح الله ولعباده جرى التنبيه، والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه"
(1)
.
خلف الله:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن هذا الاسم فقالت: "إذا كان المقصود باسم (خلف الله) أنه يخلف الله ويأتي بعده خلفًا عنه، أو يكون خليفة له؛ فالتسمية ممنوعة.
وأما إذا كان المقصود بالتسمية: أن الولد عطاء من الله، وهبه سبحانه لعبده خلفًا عن عطاء سابق؛ فالتسمية به جائزة"
(2)
.
عبد النبي:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن هذا الاسم ونحوه مثل: (عبد المسيح، عبد الرسول) فقالت: "لا يجوز؛ لما فيه من الغلو في الأنبياء وغيرهم، بتعبيد الناس لهم، وإعطائهم حقًا من حقوق الله كذبًا وزورًا"
(3)
.
سبحان الله ميانقل:
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن هذا الاسم فقالت لصاحبه: "يجب عليك تغيير هذا الاسم؛ لأن شخصك ليس هو سبحان الله، وإنما سبحان الله ذكر من الأذكار الشرعية. ويجب أن يغير إلى اسم
(1)
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز رحمه الله (3/ 170).
(2)
"فتاوى اللجنة"، (11/ 471).
(3)
"فتاوى اللجنة"، (11/ 477).
جائز شرعًا؛ كعبد الله ومحمد وأحمد ونحوها"
(1)
.
عبد المعتني:
قالت "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" لصاحب هذا الاسم: "يجب عليك تغيير اسمك؛ لأنه لم يثبت تسمية الله تعالى بالمعتني"
(2)
.
قمر الأنبياء:
قالت "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" لصاحب هذا الاسم: "التسمي بهذا الاسم لا يجوز؛ وعليه إجراء ما يلزم نحو تغييره واستبداله باسم مناسب ليس فيه محذور شرعي؛ كعبد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك لدى الجهات الرسمية"
(3)
.
عبد الدين:
قالت "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" لصاحب هذا الاسم: "لا يجوز التسمي باسم (عبد الدين)، وعليك أن تجتهد في تغيير الاسم؛ إما بعبد الرحمن أو عبد الله، أو غير ذلك من الأسماء المشروعة"
(4)
.
القرآن صنعه الله
!
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء": "لقد سمعت من إمام أحد المساجد حديثًا في هذا الشهر عن فضل القرآن، وكان من ضمن حديثه
(1)
"فتاوى اللجنة"، (1/ 477) ..
(2)
"فتاوى اللجنة"، (11/ 481).
(3)
"فتاوى اللجنة"، (11/ 483).
(4)
"فتاوى اللجنة"، (11/ 484).
قوله: إن القرآن صنعه الله. ما قاله الشيخ، ومن خلال دراستي للتوحيد في المراحل الدراسية تعلمت بأن المعتزلة هم الذين قالوا بخلق القرآن، وأهل السنة والجماعة أبطلوا ودحضوا حجتهم؛ حيث إن مذهب أهل السنة والجماعة بالنسبة للقرآن أنه ليس بمخلوق بل هو كلامه تعالى حقيقة؛ نزَّله من عنده على محمد صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أدري هل كان للشيخ مقصد آخر يرنو إليه عندما قال مقالته أم ماذا؟ فما رأيكم بذلك القول الذي قاله إمام ذلك المسجد؟ أرجو توضيح ذلك.
فأجابت: "الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. ويعد:
إذا كان الواقع كما ذكرت من أنك تعتقد أن القرآن كلام الله تكلم به حقيقة، ونزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن إمام المسجد قال: إن القرآن صنعه الله، فعقيدتك في كلام الله صحيحة، وهي موافقة لما قاله أهل السنة والجماعة، وأما قول إمام المسجد: إن القرآن صنعه الله فغير صواب؛ لمخالفته لنصوص الكتاب والسنة وطريقة السلف في فهمهما، ولعلك تتصل به وتنبهه، فقد يكون ذلك منه خطأ لسانيًا غير مقصود له، فيصلح قوله ويعدل لفظه، فإن تبين بحديثك معه أنه يعتقد أن القرآن مخلوق وأصر على ذلك فأرشده إلى الحق إن استطعت، وإلا فأعطه كتاب "العقيدة الواسطية" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكتاب "التدمرية" له أيضًا، وكتاب "شرح الطحاوية" للشيخ ابن أبي العز رحمه الله، أو أرشده إليها ليقرأها ويتعرف منها العقيدة الصحيحة"
(1)
.
(1)
"فتاوى اللجنة"، (3/ 152).
مدد يا سيدنا الحسين
!
قالت "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" ردًا على سؤال عن الصوفية: "قول جماعة المنشدين: مدد يا سيدنا الحسين، مدد يا سيدة زينب، مدد يا بدوي يا شيخ العرب، مدد يا رسول الله، مدد يا أولياء الله، إلى أمثال ذلك: أشد نكرًا وأفحش وزرًا؛ فإنه شرك أكبر يخرج قائله من ملة الإسلام والعياذ بالله؛ لأنه نداء للأموات ليعطوهم خيرًا، وليغيثوهم ويدفعوا أو يكشفوا عنهم؛ وذلك أن المراد بالمدد هنا العطاء والغوث والنصرة، فكان معنى قول القائل:(مددك يا سيد يا بدوي، مدد يا سيدة زينب .. الخ): امددنا بعطائك وخيرك، واكشف عنا الشدة، وادفع عنا البلاء؛ وهذا شرك أكبر، قال الله تعالى بعد أن بين لعباده تدبيره للكون وتسخيره إياه:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}
(1)
، فسمَّي دعاءهم شركًا، وقال سبحانه:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}
(2)
؛ فأخبر سبحانه بأن المدعوين سواء من الأنبياء والصالحين غافلون عن دعاء من دعاهم، ولا
(1)
سورة فاطر، الآيتان (13 - 14).
(2)
سورة الأحقاف، الآيتان (5، 6).
يستجيبون دعاءهم أبدًا، وأنهم سيكونون أعداء لهم ويكفرون بعبادتهم إياهم، وقال:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(1)
(2)
، فأخبر سبحانه بأن من دعا غير الله من الأموات ونحوهم لا فلاح له؛ لكفره بسبب دعائه غير الله"
(3)
.
ما رأي الدين
؟
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن مقولة: "ما رأي الدين في كذا وكذا؟
فقال: هذا السؤال عليه ملاحظة؛ وهي قوله ما رأي الدين في ذلك، فأنا أرى أن توجيه السؤال إلى شخص باسم الدين هكذا أمر لا ينبغي؛ لأنه لا أحد يتكلم باسم الدين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما غيره فإنما يتكلمون بحسب اجتهادهم مما تدل عليه نصوص الكتاب والسنة.
اللهم إلا شيئًا بيّنًا صريحًا يكون فيه الحكم واضحًا في الكتاب والسنة؛ كما لو قال ما رأي الدين في البيع؟ فنقول: البيع حلال لقوله تعالى:
(1)
سورة الأعراف، الآيات (191 - 194).
(2)
سورة المؤمنون، الآية (117).
(3)
"فتاوى اللجنة"، (2/ 193 - 194).
(1)
، أو ما رأي الدين في أكل الميتة؟ فنقول: إنه حرام لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}
(2)
وما أشبه ذلك.
فالأشياء الاجتهادية هي من رأي الإنسان التي قد يكون فيها مخطئًا أو مصيبًا، فإذا قلنا إن ما يقوله هذا الرجل هو الدين، وكان مخطئًا، فمعني ذلك أن الخطأ وقع فيما يقول الإنسان عنه إنه هو الدين"
(3)
.
استقيموا:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أما قول بعض الأئمة (استقيموا)؛ فإن هذه لا أصل لها، ولم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بحثت عنها وسألت بعض الإخوان أن يبحثوا عنها فلم يجدوا لها أصلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: استقيموا.
ولا وجه لقول (استقيموا)؛ لأن المراد بقوله (استقيموا) يعني على دين الله، وليس هذا محله؛ لأن هذا محل أمر الناس بإقامة الصفوف في الصلاة، فالمشروع أن يقول: أقيموا صفوفكم، سووا صفوفكم، وما أشبه ذلك"
(4)
.
نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه:
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في تعقيبه على الصابوني تعليقًا على مقولة حسن البنا
(5)
: "نجتمع على ما اتفقنا عليه،
(1)
سورة البقرة، الآية (275).
(2)
سورة المائدة، الآية (3).
(3)
"فتاوي منار الإسلام"، (2/ 557).
(4)
"مجموع الفتاوي"، (16/ 357).
(5)
الصواب أن هذه المقولة لرشيد رضا الذي سماها (قاعدة المنار الذهبية)، وعنه أخذها حسن البنا. انظر:"مجلة المنار"(29/ 424)، (31/ 293).
ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه": "الجواب أن يُقال: نعم يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه من نصر الحق والدعوة إليه، والتحذير مما نهى الله عنه ورسوله. أما عذر بعضنا لبعض فيما اختلفنا فيه فليس على إطلاقه، بل هو محل تفصيل: فما كان من مسائل الاجتهاد التي يخفي دليلها، فالواجب عدم الإنكار فيها من بعضنا على بعض. أما ما خالف النص من الكتاب والسنة؛ فالواجب الإنكار على من خالف النص بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، عملًا بقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
(1)
، وقوله سبحانه:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}
(2)
، وقوله عز وجل:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
(3)
، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"
(4)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله"
(5)
أخرجهما مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة"
(6)
.
(1)
سورة المائدة، الآية (2).
(2)
سورة التوبة، الآية (71).
(3)
سورة النحل، الآية (125).
(4)
رواه مسلم برقم (49).
(5)
رواه مسلم برقم (1893).
(6)
تنبيهات هامة على ما كتبه الشيخ محمد علي الصابوني في صفات الله عز وجل، (ص 18، 19). وانظر: "الطريق إلى الجماعة الأم"(ص 88 - 89).
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه العبارة التي تستعملها بعض الجماعات الإسلامية كشعار لها في (جميع) أمور الخلاف بين أهل القبلة، فقال:
"رأينا في هذه الكلمة أن فيها إجمالًا: أما: نجتمع فيما اتفقنا فيه؛ فهذا حق.
وأما: يعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه؛ فهذا فيه تفصيل: فما كان الاجتهاد فيه سائغًا فإنه يعذر بعضنا بعضًا فيه، ولكن لا يجوز أن تختلف القلوب من أجل هذا الخلاف.
وأما إن كان الاجتهاد غير سائغ؛ فإننا لا نعذر من خالف فيه. ويجب عليه أن يخضع للحق. فأول العبارة صحيح. وأما آخرها فيحتاج إلى تفصيل"
(1)
.
قلت: وللشيخ حمد العثمان رسالة قيمة بعنوان: "دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون"، أجاد فيها بيان مفاسد وأضرار إعمال هذه القاعدة بإطلاق.
أولى القبلتين: [وصف المسجد الأقصى بهذا الوصف]:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "نسمع تعبيرًا عن المسجد الأقصى يقول: (إنه ثالث الحرمين وأولى القبلتين). وهذا التعبير يحتاج إلى فهم؛ إذا قلنا ثالث الحرمين فإنه ربما يفهم السامع أن المسجد الأقصى له حرم، أو أنه حرم، وليس كذلك؛ فإن المسلمين أجمعوا على أنه لا حرم إلا في مكة والمدينة، واختلفوا في وادي وج وهو واد في الطائف، والصحيح أنه ليس
(1)
"الصحوة الإسلامية: ضوابط وتوجيهات"، (ص 171). وانظر (ص 147) وما بعدها من المرجع السابق لمعرفة ما يسوغ فيه الاجتهاد، وما لا يسوغ.
بحرم، أما المسجد الأقصى فليس بحرم، لكنه مسجد مُعَظَّم تشد الرحال إليه، وأما أولى القبلتين؛ فإنه قد يَفْهَم السامع أن هناك قبلتين باقيتين، وأن أولاهما المسجد الأقصى، فيظن السامع أن الاتجاه إلى المسجد الأقصى ليس بمنسوخ، مع أنه منسوخ، والذي ينبغي: أن يتجنب الإنسان كل عبارة فيها إبهام، ونقول في المسجد الأقصى: إنه أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها، وكفى به شرفًا أن تشد الرحال إليه"
(1)
.
يرفع الأذان:
قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "لنا تحفظ على كلمة يرفع الأذان. ولذا نرى أن يُقال: أذن فلان، لا رفع الأذان"
(2)
. وقال في فتوى سابقة عن هذه العبارة: "لأن التعبير بالأذان هو التعبير الشرعي؛ ولأنه أوضح للناس"
(3)
.
حِجْر إسماعيل:
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "هذا الحجر يسميه كثير من العوام حجر إسماعيل، ولكن هذه التسمية خطأ ليس لها أصل؛ فإن إسماعيل لم يعلم عن هذا الحجر؛ لأن سبب هذا الحجر أن قريشًا لما بنت الكعبة، وكانت في الأول على قواعد إبراهيم ممتدة نحو الشمال، فلما جمعت نفقة الكعبة وأرادت البناء، قصرت النفقة فصارت لا تكفي لبناء الكعبة على قواعد
(1)
"مجموع الفتاوي"، (12/ 430).
(2)
"مجموع الفتاوي"، (12/ 196).
(3)
"المرجع السابق"، (12/ 189).
إبراهيم، فقالوا نبني ما تحتمله النفقة، والباقي نجعله خارجًا ونحجر عليه حتى لا يطوف أحد من دونه، ومن هنا سمي حجرًا؛ لأن قريشًا حجرته حين قصرت بها النفقة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:"لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين: بابًا يدخل منه الناس، وبابًا يخرجون منه"
(1)
متفق عليه
(2)
.
خال: [وصف أبو الزوجة بهذا الوصف]:
خالة: [وصف أم الزوجة بهذا الوصف]:
قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "أما أبو الزوجة فلا يسمى خالًا ولا عمًا؛ لأنه ليس خالًا شرعًا، ولا عمًا شرعًا. وكذلك أم الزوجة ليست خالة ولا عمة. فلا ينبغي أن يسمى أبا الزوجة خالًا أو عمًا، ولا أم الزوجة خالة أو عمة. وإنما يسمون بالتسمية التي سموا بها عند أهل العلم -وهم الأصهار- فيقال: صهري فلان، أبو زوجتي فلان، صهرتي فلانة، أم زوجتي فلانة. وأما أن يسموا بأسماء شرعية لا يتصفون بما تقتضيه هذه الأسماء فإن ذلك لا ينبغي. ولكن لم نقل إنه حرام، فالأولى أن الإنسان يسمي الأشياء بتسمياتها الحقيقية الشرعية"
(3)
.
ما حكم الشرع
؟
قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "لا ينبغي أن
(1)
"مجموع الفتاوي"، (12/ 491) وانظر أيضًا:(22/ 343).
(2)
رواه البخاري بنحوه في عدة مواضع منها رقم (1586)، ومسلم بنحوه (1333).
(3)
"لقاء الباب المفتوح"، (12/ 38) ـ
يوجه السؤال إلى شخص بهذا اللفظ: ما حكم الشرع؛ لأن المجيب قد يخطئ في جوابه، فلا يكون من الشرع، وإنما يقال: ما رأيكم، أو ما ترون، أو ما حكم الشرع في رأيكم أو في نظركم، أو ما أشبه ذلك"
(1)
.
ملاك: [التسمية بهذا الاسم]:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ما حكم التسمي باسم ملاك (بالفتح) أو ملاك (بالكسر) للأنثى؟ وما هو قولكم فيمن يقول: إن هذا لا يجوز لأن هذه الكلمة مأخوذة من الملك وهم الملائكة ولا يجوز مشابهة الملائكة في ذلك؟ وهل ذلك يا فضيلة الشيخ من تسمية الملائكة تسمية الأنثى كما ورد في القرآن؟ نرجو الإجابة وفقكم الله.
فأجاب: "أنا أكره أن يسمي الإنسان ابنته ملاك أو مَلَك، وأقول: هل ضاقت عليه الأسماء؟ الأسماء ألوف مؤلفة، وربما لا يكون عنده إلا هذه البنت. فالأسماء كثيرة يأخذ من أسماء نساء الصحابة رضي الله عنهن من أسماء نساء بلده، إما أن يأتي إلى أشياء فيها شك، أدني ما نقول إن فيها شكًا، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، والأسماء الحمد لله واسعة"
(2)
.
الوحي المحمدي:
قال الشيخ ناصر العقل -حفظه الله-: "هذا عنوان كتاب للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وربما تُشعر كلمة (الوحي المحمدي) بأنه غير الوحي الإلهي، كما أنها كلمة لم ترد في الكتاب والسنة، ولا عبارات السلف، في حين أنها تتعلق
(1)
"لقاء الباب المفتوح"، (2/ 8).
(2)
"اللقاء الشهري"، (7/ 45) ـ
بأمر شرعي توقيفي يجب أن يُقتصر فيه على النصوص الشرعية"
(1)
.
التأمين على الحياة:
قال الشيخ صالح بن حميد -حفظه الله- في رسالته: "الجامع في فقه النوازل"
(2)
: (يقولون: تأمين على الحياة، تأمين على كذا .. وهذا لفظ غير دقيق؛ لأن التأمين على الشيء يعني المحافظة عليه، والتأمين المراد هنا لا يحفظ الحياة ولا المال، ولا يمنع من التعدي، بل هو مال يُدفع إثر الحوادث أو يخففه، ولهذا فإن التعبير الدقيق أن يُقال: التأمين عند الموت، والتأمين عند الحوادث، والتأمين عند المسؤولية).
إمام المتقين:
أطلق أحد المؤلفين الماركسيين! على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصف "إمام المتقين"؛ فرد عليه الأستاذ إسماعيل الكيلاني بقوله: (إمام المتقين هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يضير ذلك عليًا رضي الله عنه؛ فهو من أئمة الهدى والرشاد؛ كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين)
(3)
.
قول النحاة: (مَنْ) تستعمل للعقلاء:
قال الشيخ صالح آل الشيخ في شرحه لكتاب التوحيد (ص 186): (والأصح أن يقال: لفظ (مَنْ) الأصل فيها لغةً: أنها تطلق على من يعلم، لورود بعض الآيات في القرآن أطلق فيها هذا اللفظ في حق الله عز وجل
(1)
"الاتجاهات العقلانية الحديثة"، (ص 228).
(2)
(ص 66).
(3)
إنهم يزيفون التاريخ، (ص 119) ـ
هذا الأحسن من حيث استعمال هذا اللفظ، وإن كان الذي جرى عليه القول عند علماء النحو: استعمال (مَنْ) للعاقل، و (ما) لغير العاقل).
قول أهل اللغة: فعلٌ مبني للمجهول:
قال الشيخ عبد المحسن العسكر -وفقه الله- في شرحه على الآجرومية: (والأولى أن يقال: فعل مبنيٌ لِمَا لم يُسمَّ فاعله، وهو أولى من: مبني للمجهول؛ لئلا ينسحب على بعض الآيات التي يكون فيها الفاعل هو الله، كقوله تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}
(1)
.
لا جديد تحت الشمس:
(من الذي قال إنه لا جديد تحت الشمس أو فوق القمر؟! إن هذه الجملة الشهيرة تسببت في قعود الناس عن العمل والإنتاج، ويمضي العمر هباءً منثورًا بهذه الحجة الواهية.
إن كل يوم تطلع عليك فيه الشمس هو يوم جديد، وفيه عمل جديد، وأحداث جديدة؛ كما قال تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}
(2)
؛ فالمؤمن بالله الموقن بالبعث يحمد الله عز وجل على هذا اليوم، فيشمر ساعديه ويرفع ثوبه إلى ركبتيه، ويبدأ العمل في جني أنفس اللآليء، وأغلى الجواهر المتناثرة كدقل التمر لا يراه إلا المؤمن، ألا وهي الأعمال الصالحة الصغيرة اليسيرة، أو الكبيرة والشاقة، لأنه يعلم تمامًا أن الميزان يجب أن يثقل بالحسنات، ويعمر بالخيرات، ويدخل نعيم الجنات، ويأمن يوم الإهانات.
(1)
سورة النساء، الآية (28).
(2)
سورة الرحمن، الآية (29).
والجديد أن تمسي أو تصبح بعافية، الجديد أن تملأ الوقت بالطاعة وتعمر العمر بالإيمان، أما القديم الذي يبهت ويحترق تحت الشمس فهو أن يظل المرء سادرًا في غيِّه، غافلًا لا يتذكر، جاهلًا لا يتعلم، عاصيًا لا يتوب)
(1)
.
شهيد الحرية! وشهيد الثورة! شهيد الوطن
!:
قال الشيخ غالب بن علي عواجي -حفظه الله- في كتابه: "الحياة الآخرة": (مما ينبغي الإشارة إليه، ما حصل عند الناس من التساهل والتوسع في إطلاق لفظة الشهيد على من لا يستحقها، وربما يعود سبب ذلك إلى أن لفظة الشهيد، حيث كانت محبوبة عند جميع الناس فقد صارت تطلق كرمز شرف لكل من يرون أنه قتل بغير حق؛ سواء كان ذلك صحيحًا في الواقع أو في نظرهم.
ولهذا تعجب حين تسمع بعض الناس -أناس لا يؤمنون بالله تعالى- يطلقون على قتلاهم أنهم شهداء، بل توسعوا في هذا، فأضافوا الاستشهاد إلى بعض الأفكار مثل: شهداء الحرية، شهداء الثورة، وشهداء الوطن، وما إلى ذلك من أقوال مبتدعة، فماذا يقصدون من إطلاق لفظة الشهيد أو الاستشهاد؟!.
هل هو إثبات الشهادة لهم في سبيل الله؟ الواقع غير ذلك؛ لأن بعض هؤلاء غير مؤمنين، أم يريدون من ذلك إثبات صفة مدح فحسب؟ فلعل هذا هو الذي يريدونه)
(2)
.
(1)
مفاهيم خاطئة؛ فيصل الجودي (ص 80) بتصرف يسير.
(2)
(1/ 493)، وانظر:"مفاهيم خاطئة"(ص 27) ـ
شهيد الحب:
(خرج علينا من الذين لا يراعون حرمة الكلمات، ولا يتحرجون من ذكر الله تعالى ولا الأنبياء ولا الملائكة في أغانيهم -"إذا لم تستح فاصنع ما شئت"- خرج علينا من يقول:
قد مات شهيدًا يا ولدي
…
من مات فداءً للمحبوب!
ويوم أن أذيعت هذه الأغنية تلقيت كثيرًا من أسئلة الشباب حول حديث منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: "من عشق وكتم وعف فمات فهو شهيد".
وهذا الحديث رواه ابن الجوزي في الأحاديث الموضوعة، ورواه الخطيب في تاريخه واعتبره موضوعًا.
ومن رواته يحي القتات وسويد بن سعيد، وقال الحافظ ابن حجر عن الأول: إنه لين الحديث، وذلك يؤدي إلى ضعف سند الحديث.
وقال عن الثاني: إنه ضعيف. وعلق العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- على هذا القول المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابيه: "زاد المعاد" و "الجواب الكافي" بقوله: إن هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكون من كلامه؛ فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقين، ولها أعمال وأحوال هي شرط في حصولها نوعان: عامة وخاصة.
فالخاصة: الشهادة في سبيل الله.
والعامة: خمس مذكورة في الصحيح، ليس العشق واحدًا منها.
وكيف يكون العشق الذي هو شرك في المحبة وفراغ عن الله، وتمليك القلب
والروح والحب لغيره؛ تنال درجة الشهادة به .. هذا من المحال؛ فإن فساد عشق القلب للصور فوق كل فساد، بل هو خمر الروح الذي يسكرها ويبعدها عن ذكر الله وحبه والتلذذ بمناجاته والأنس به، ويوجب عبودية القلب لغيره.
فلو كان هذا الحديث كالشمس كان غلطًا ووهمًا، ولا يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ العشق في حديث ألبتة. فترى من يعشق امرأة غيره أو يعشق المردان "الذكور" والبغايا ينال بعشقه درجة الشهداء!
وأنت إذا تأملت الأمراض والآفات التي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابها بالشهادة وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها؛ كالمطعون، والمبطون، والمجنون، والحريق، والغريق، وموت المرأة يقتلها ولدها في بطنها؛ فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها ولا علاج لها، وليست أسبابها محرمة ولا يترتب عليه من فساد القلب وتعبده لغير الله ما يترتب على العشق.
فإن لم يكف هذا في إيطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلَّد أئمة الحديث العالمين به ويعلله؛ فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط أنه شهد له بصحة بل بحسن، كيف وقد أنكروا على سويد -هو راوي الحديث- هذا الحديث ورموه لأجله بالعظائم، واستحل بعضهم غزوه لأجل هذا الحديث. اهـ
وأنا أقول: نعم من ابتلي بحب امرأة فجاهد نفسه، وحارب هواه واعتصم بربه ولجأ إليه لا شك أنه يدخل تحت قوله تبارك وتعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
(1)
(1)
سورة النازعات، الآيتان (40، 41) ـ
وقد تبين لنا جليًا: أن الحديث السابق ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشبهه، والله الهادي إلى سواء السبيل)
(1)
.
محافظ [تسمية الله به]:
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار شارحًا أثر عمر رضي الله عنه: "إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع". قال: "وأما قوله: "حفظها" - فحفظها: عِلْمُ ما لا تتم إلا به من وضوئها وسائر أحكامها.
وأما قوله: "وحافظ عليها" فتحتمل المحافظة على أوقاتها السابقة إليها.
والمحافظة إنما تكون على ما أُمِرَ به العبد من أداء فريضية، ولا تكون إلا في ذلك أو في معناه من فعل ما أمر به العبد، أو ترك ما نُهي عنه.
ومن هنا لا يصلح أن تكون المحافظة من صفات الباري، ولا يجوز أن يقال: محافظ، جلَّ وتعالى علوًا كبيرًا)
(2)
.
خاتم سليمان:
قال الشيخ الألباني رحمه الله في أحد أشرطته: (هذا تعبير خطأ؛ يشير إلى خرافة راسخة في أذهان الناس؛ لأن عامة الناس يعتقدون أن ملك سليمان كان في خاتمه، وبناء على ذلك تُروى الخرافة المذكورة .. ) ثم ذكرها، وهي ما رواه بعض المفسرين عند قوله تعالى عن سليمان: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى
(1)
عن: "مفاهيم خاطئة" للجودي، (ص 21 - 23).
(2)
الاستذكار (1/ 236 - 237).
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}
(1)
.
وملخص ذلك: أن سليمان عليه السلام أراد أن يدخل يومًا الحمام فخلع خاتمه -وكان فيه ملكه كما يزعمون! - فأخذه أحدهم وألقاه في البحر؛ فالتقمته سمكة، فنزع من سليمان ملكه، وألقي على الشيطان شبه سليمان، فجاء فقعد على كرسي سليمان وسريره وسُلط على ملك سليمان غير نسائه؛ إلى أن وجد سليمان خاتمه في بطن السمكة بعد اصطيادها؛ فعاد إليه ملكه! قال ابن كثير رحمه الله:(هذه كلها من الإسرائيليات)
(2)
.
الإمام علي:
قال الشيخ علي بن حسن الحلبي: (تنبيه: تخصيص الصحابي الجليل والخليفة الراشد الرابع بوصف الإمام نفحة شيعية تسربت إلى أهل السنة!
فحقها أن تُلحق بالمناهي اللفظية شأنها شأن تخصيصه صلى الله عليه وسلم بعليه السلام أو كرم الله وجهه)
(3)
.
التحذير من فتنة التكفير:
الأولى أن يقال: "التحذير من فتنة الغلو في التكفير"؛ لأن التكفير لا بد منه في دين الله لمن كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان الشيخ علي الحلبي سمى كتابًا له بهذا الاسم "التحذير من فتنة التكفير" ثم غيره إلى الصواب في طبعته الثالثة وفقه الله.
(1)
سورة ص، الآية (34).
(2)
انظر: "تفسير ابن كثير"(4/ 38 - 43 ط دار المعرفة).
(3)
التنبيهات المتوائمة
…
، (ص 149).
نوخذه [تسمية ربان السفينة به]:
قال الأستاذ حمد السعيدان في "الموسوعة الكويتية": "نواخذا: (نوخذه): ربان السفينة، وأصل الكلمة "ناو خدا"، أي الإله الجديد؛ بمعنى إله السفينة أو رب السفينة، وهي لفظة فارسية هندية .. جمعها "نواخذة")
(1)
.
شريعة الغاب [وصف الشريعة الإسلامية بذلك
!]:
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله "فانظروا أيها المسلمون، في جميع البلاد الإسلامية، أو البلاد التي تنتسب للإسلام في أقطار الأرض إلى ما صنع بكم أعداؤكم المبشرون والمستعمرون: إذ ضربوا على المسلمين قوانين ضالة مدمرة للأخلاق والآداب والأديان، قوانين إفرنجية وثنية، لم تُبْنَ على شريعة ولا دين، بل بُنيت على قواعد وضعها رجل كافر وثني، أبي أن يؤمن برسول عصره -عيسى عليه السلام وأصرّ على وثنيته، إلى ما كان من فسقه وفجوره وتهتكه!.
هذا هو جوستنيان، أبو القوانين وواضع أسسها فيما يزعمون، والذي لم يستح رجل من كبار رجالات مصر المنتسبين -ظلمًا وزورًا- إلى الإسلام، أن يترجم قواعد ذاك الرجل الفاسق الوثني، ويسميها مدونة "جوستنيان"! سخرية وهُزءًا بـ"مدونة مالك"، إحدى موسوعات الفقه الإسلامي المبني على الكتاب والسنة، والمنسوبة إلى إمام دار الهجرة.
فانظروا إلى مبلغ ذلك الرجل من السخف، بل من الوقاحة والاستهتار!
(1)
(1/ 1664) ـ
هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام السافر والعداوة، هي في حقيقتها دين آخر جعلوه دينًا للمسلمين بدلًا من دينهم النقي السامي، لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها، وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها.
حتى لقد تجري على الألسنة، والأقلام كثيرًا كلمات:"تقديس القانون"، "قدسية القضاء"، "حرمة المحكمة"، وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن تُوصف بها الشريعة الإسلامية وآراء الفقهاء الإسلاميين.
بل هم حينئذ يصفونها بكلمات "الرجعية"، "الجمود"، "الكهنوت"، "شريعة الغاب"، إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية، التي يكتبها أتباع أولئك الوثنيين!
ثم صاروا يطلقون على هذه القوانين ودراساتها كلمة "الفقه"، و "الفقيه" و "التشريع"، و "المُشَرِّع"، وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها.
وينحدرون فيتجرؤون على الموازنة بين دين الإسلام وشريعته، وبين دينهم المفترى الجديد!!
ثم نفوا شريعتهم الإسلامية عن كل شيء، وصرّح كثير منهم في كثير من أحكامها القطعية الثبوت والدلالة بأنها لا تناسب هذا العصر، وأنها شرعت لقوم بدائيين غير متمدنين، فلا تصلح لهذا العصر الإفرنجي الوثني!!
خصوصًا في الحدود المنصوصة في الكتاب، والعقوبات الثابتة في السنة.
فترى الرجل المنتسب للإسلام، المتمسك به في ظاهر أمره، المشرب قلبه هذه القوانين الوثنية، يتعصب لها ما لا يتعصب لدينه. بل يجتهد ليتبرأ من العصبية للإسلام، خشية أن يُرمي بالجمود والرجعية! ثم هو يصلي كما يصلي المسلمون، ويصوم كما يصوم المسلمون، وقد يحج كما يحج المسلمون، فإذا ما انتصب لإقامة القانون، لبسه شيطان الدين الجديد، فقام له قومة الأسد يحمي عرينه، ونفي عن عقله كل ما عرف من دينه الأصلي! ورأى أن هذه القوانين ألصق بقلبه، وأقرب إلى نفسه!.
هذا في المستمسك منهم بدين الإسلام، وهم الأقل. دع عنك أكثرهم، وقد ربى لنا المستعمرون من هذا النوع طبقات، أرضعوهم لبان هذه القوانين، حتى صار منهم فئات عالية الثقافة، واسعة المعرفة، في هذا اللون من الدين الجديد، الذي نسخوا به شريعتهم. ونبغت فيهم نوابغ يفخرون بها على رجال القانون في أوربا، فصار للمسلمين من أئمة الكفر، ما لم يُبتَل به الإسلام في أي دور من أدوار الجهل بالدين في بعض العصور.
وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام ويحكمون بها، سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئًا من أحكام الشريعة وما خالفها. وكله باطل وخروج؛ لأن ما وافق الشريعة إنما وافقها مصادفة، لا اتباعًا لها، ولا طاعة لأمر الله وأمر رسوله، فالموافق والمخالف كلاهما مرتكس في حمأة الضلالة، يقود صاحبه إلى النار، لا يجوز لمسلم أن يخضع له أو يرضى به"
(1)
.
(1)
عمدة التفاسير (3/ 214 - 215).
خواجة [إطلاقها على غير المسلمين]:
يُطلق البعض على الأجانب (غير المسلمين) لقب "خواجة"، وهي لفظة فارسية معناها كما يقول الأستاذ إبراهيم السامرائي:"صاحب مكانة كبيرة"
(1)
؛ كالسيد؛ ففيها من التعظيم لهم ما لا يخفى، فالأحرى بالمسلم اجتنابها.
القطب [وصف بعض الصوفية به]:
قال الشيخ الدكتور علي بن محمد آل دخيل الله رحمه الله ردًا على من يستعمل هذا الوصف وغيره من أوصاف الصوفية؛ كالأوتاد والأبدال والغوث .. الخ: "إن هذه الأسماء لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف، وقد روي في الأبدال حديث منقطع عن شريح بن عبيد الحضرمي قال: ذكر أهل الشام عند علي بن أبي طالب وهو بالعراق فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين. قال: لا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الأبدال يكونون بالشام؛ وهم أربعون رجلًا كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلًا، يسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب"
(2)
.
وقد حكم شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث بالانقطاع
(3)
.
وقال الشيخ أحمد شاكر تعليقًا على هذا الحديث: "إسناده ضعيف لانقطاعه، شريح بن عبيد الحضرمي الحمصي لم يدرك عليًا، بل لم يدرك إلا
(1)
الدخيل في الفارسية والعربية والتركية، (ص 52).
(2)
رواه أحمد (المسند 1/ 112).
(3)
مجموع الفتاوي 11/ 334.
بعض متأخري الوفاة من الصحابة، ثم قال: وسيأتي في شأنهم حديث آخر في مسند عبادة بن الصامت وقال فيه أحمد هناك: وهو منكر"
(1)
.
وقد تكلم العلماء على أحاديث الأبدال والأقطاب، فقال العلامة ابن القيم:" .. أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام فإنهم فيهم البدلاء؛ كلما مات رجل منهم أبدل مكانه رجل آخر" ذكره أحمد، ولا يصح أيضًا؛ فإنه منقطع
(2)
.
وقال السخاوي: "حديث الأبدال له طرق عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة"
(3)
(4)
.
وقال الحافظ ابن حجر: "الأبدال ورد في عدة أخبار، منها ما يصح وما لا يصح، وأما القطب فورد في بعض الآثار، وأما الغوث بالوصف المشتهر بين الصوفية فلم يثبت"
(5)
فأحاديث الأبدال لم ترد في الصحيحين، ولا في شيء من بقية الكتب الستة، إلا حديثًا واحدًا عند أبي داود
(6)
.. فهي إلى الضعف أقرب منها إلى
(1)
حاشية المسند 2/ 171، بقلم أحمد شاكر - الطبعة الثالثة.
(2)
المنار المنيف لابن القيم 136، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة.
(3)
المقاصد الحسنة 8، وقد ألف السخاوي في ذلك رسالة سماها:"نظم اللآل في الكلام على الأبدال".
(4)
وقد صنف العز بن عبدالسلام رسالة في الرد على من يقول بوجودهم -أي الأبدال- وأقام النكير على قولهم: بهم يحفظ الله الأرض (تاريخ العروس للزبيدي 7/ 223)، مطابع دار صادر بيروت 1360 هـ - 1966 م، الناشر دار ليبيا للنشر والتوزيع - بنغازي.
(5)
شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 5/ 397.
(6)
وهذا الحديث هو حديث أم سلمة "يكون اختلاف عند موت خليفة .. وفيه: فإذا رأى الناس=
الصحة، ثم هي على تقدير ثبوتها، فإن معنى الأبدال فيها هم العباد الأتقياء، وليس ما يزعمة الصوفية، وسيأتي بيان ذلك قريبًا إن شاء الله.
ثم إن هؤلاء الأقطاب والأبدال هل كانوا في زمن نوح وإبراهيم وموسي قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ فإن كانوا كذلك فمن كان القطب زمن إبراهيم عليه السلام حين كان الناس كفارًا؟ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}
(1)
أي مؤمنًا وحده وكان الناس جميعًا كفارًا، فإذا كان إبراهيم هو القطب فأين الأبدال والنجباء والنقباء والأوتاد؟
وإن زعموا أنهم كانوا بعد رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ففي أي زمان كانوا؟ ومن أول هؤلاء؟ وما الدليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع أو عقل
(2)
؟
إنه يلزم من هذا أن يرزق الله سبحانه وتعالى وينصر الكفار على أعدائهم بلا واسطة، ولا يرزق المؤمنين ولا ينصرهم إلا بواسطة، والتعظيم في عدم الواسطة
(3)
.
ثم إن هذا القول قريب من قول الرافضة: إنه لا بد من أمام معصوم لا يتم الإيمان إلا به، وهذا الترتيب عندهم قريب من ترتيب الإسماعيلية والنصيرية في: السابق والتالي والناطق والأساس والجسد .. الخ
(4)
.
= ذلك أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه
…
الحديث" (سنن أبي داود المطبوع مع شرحه عون المعبود 11/ 375، 378).
(1)
سورة النحل آية: 120.
(2)
مجموع الفتاوى 11/ 437.
(3)
مجموع الفتاوي 1/ 437.
(4)
مجموع الفتاوي 11/ 439.
إن هذه الألفاظ مما التبس فيها الحق بالباطل، فبعض الناس ينكرها جملة وتفصيلًا لما يجد فيها من الباطل، وبعضهم يؤمن بها لما يجد فيها من الحق، ونحن في هذه العجالة نبين إن شاء الله ما فيها من الحق وما فيها من الباطل لنكون من الذين يلتزمون طريق العدل والإنصاف، ويتجنبون طريق الزيغ والضلال.
فأقول وبالله التوفيق:
أولا: "القطب": وهو المسمى عندهم "قطب الأقطاب والغوث الجامع"، وهو عند التجانية: الخليفة عن الله تعالى في تصريف جميع الوجود جملة وتفصيلًا؛ فحيث كان الرب إلهًا كان هو خليفته في تصريف الحكم، وفي ذلك يقول مؤلف جواهر المعاني:"وسألته عن حقيقة القطبانية فأجاب رضي الله عنه بقوله: اعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقًا في جميع الوجود جملة وتفصيلًا؛ حيثما كان الرب إلهًا كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى، ثم قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق؛ فلا يصل إلى الخلق شيء كائنًا ما كان من الحق إلا بحكم القطب وتوليه ونيابته عن الحق في ذلك، وتوصيله كل قسمة إلى محلها، ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة من ذرات الوجود جملة وتفصيلًا، وقيامه فيها في أرواحها وأشباحها، ثم تصرفه في مراتب الأولياء؛ يتذوق مختلف أذواقهم، فلا تكون مرئية في الوجود للعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه، فهو المتصرف في جميعها والممد لأربابها، وله اختصاص بالسر المكتوم الذي لا مطمع لأحد في دركه والسلام"
(1)
!!
(1)
جواهر المعاني 2/ 90.
وقال في تفسير الإنسان في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}
(1)
وقال: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} وهو الإنسان الكامل الذي يحفظ الله به نظام الوجود، وبه قيام جميع الوجود، ولو زال عن الجود طرفة عين واحدة؛ لصار الوجود كله عدمًا في أسرع من طرفة العين، وهو المعبر عنه بلسان العامة (قطب الأقطاب) و (الغوث الجامع) "
(2)
.
فإن أريد بالقطب هذا المعنى فهو باطل من وجوه.
1 -
أنهم خلعوا على هذا القطب صفات الإله الواحد الذي لا شريك له، فهم وإن لم يدعوا أنه إله يعبد من دون الله كما صرح فرعون، إلا أنهم لم يبقوا شيئًا من صفات الله تعالى إلا وصفوه بها؛ فالقطب هو النائب عن الحق في تصريف الكون، وروحه مبثوثة في الوجود لتبعث فيه الحياة والحركة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
2 -
أن هذا الكلام قل أن يصدر عن مجنون فضلًا عن عاقل، فكيف يصدر عمن يدّعي أنه من أولياء الله الصالحين؟
3 -
أن التجاني قد طرد من الجزائر كما سبق في ترجمته
(3)
، وقد أوذي في المغرب، فأين هذا القطب المدبّر لشؤون الكون؟ لِمَ لم يدافع عن نفسه؟
(1)
سورة الأحزاب، الآية (72).
(2)
جواهر المعاني 1/ 227.
(3)
انظر ص 55 من رسالة الدكتور ..
4 -
قال الدكتور الهلالي: "أرأيت لو حبس هذا القطب في مكان لا يجد فيه سبيلًا لقضاء الحاجة، فهل يستطيع أن يخرج من ذلك الحبس الضيق إلى عالم من العوالم التي يدبر شؤونها ويقضي حاجته، أم يبقى في "حيص بيص" حتى يتغوط على ثيابه ويبول عليها؟ وحينئذ يسخر منه الشيطان الذي أغواه وأمره بادّعاء ذلك الأمر العظيم الذي لا يقدر عليه إلا الله"
(1)
.
5 -
ثم إن هذا القطب الذي لو زال عن الوجود طرفة عين واحدة لصار الوجود كله عدمًا في أسرع من طرفة العين، أرأيت لو مات فهل يبقى يتصرف في هذا الكون، أم الكون سيهلك بهلاكه؟
6 -
وأخيرًا، فإن مثل هذا الكلام لا يستحق الرد ولا المناقشة، فإن أقل الناس إدراكًا يدرك بطلانه؛ إذ هو من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر، قال الدكتور محمد تقي الدين الهلالي في نفي القطب:
ولا قطب نعرفه غير نجم
…
يرى في السماء وقطب الرحى
ونحوهما لا الذي ذكروا
…
يكون مقيمًا بغار حرا
يمد الأنام ويجري الشؤون
…
وتلك، وربِّك، أدهى الفرا
فهل من كتاب وهل السنة
…
أتت من صحيح الحديث بذا
(2)
وإن أريد به المعنى اللغوي؛ وهو أن القطب هو الحديدة التي يدور عليها الرحى، أو أنه الكوكب الذي بين الجدي والفرقدين، أو أنه سيد القوم
(1)
الهدية الهادية 117.
(2)
الهدية الهادية 47.
الذي يدور عليه أمرهم كما يقال: فلان قطب بني فلان
(1)
سواء كان قطبًا لبلده أو قبيلته أو لأسرته، كما قال الشاعر:
كم أنبتت دوحة الإسلام من حسن
…
وأطلعت في بهيم الليل من قطب
فهذا المعنى لا غبار عليه وهو معنى حق، فلا اختصاص إذا للأقطاب بعدد معين، ولا يلزم أن يكون أفضل الناس في زمنه بل قد يكون أفضلهم، وقد يكون من أفضلهم، وقد يكون أسوأهم
(2)
.
ثانيًا: "الغوث" إن أريد به المعنى المرادف للقطب كما تقول التجانية فذلك باطل، وقد تقدم بيان بطلانه آنفًا.
وإن أريد به طلب الاستغاثة من المخلوق فيما يقدر عليه، فهذا معني حق؛ {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}
(3)
.
ثالثًا: "الأوتاد": إن أريد به ما يزعمه الصوفية من أنهم عبارة عن أربعة أركان من العالم، شرق وغرب وجنوب وشمال، مع كل واحد منهم مقام تلك الجهة
(4)
.
أو أن كل واحد منهم في ركن من أركان الكعبة، والذي في ركن الحجر الأسود على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يمد الخلق بالإمدادات العظيمة
(5)
كما يقول التجانيون، فهذا معني باطل لما تقدم.
(1)
لسان العرب 2/ 176.
(2)
مجموع الفتاوي 11/ 440.
(3)
سورة القصص، الآية (15).
(4)
التعريفات لأبي الحسن الجرجاني 139.
(5)
الدرة الخريدة 1/ 49.
وإن أريد به المعنى اللغوي للأوتاد كما يُقال: فلان من أوتاد الأرض، أو: فلان من الأوتاد، يعني بذلك أنَّه على درجة كبيرة من التقوى والصلاح، وأن الله يثبت به الإِيمان والدين في قلوب من يهديهم الله على يديه كما يثبت الأرض بأوتادها، فهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة، ولا يختص بأربعة ولا أقل ولا أكثر
(1)
.
رابعًا: "الأبدال": إن أُريد بهم أن من سافر منهم عن موضعه ترك جسدًا على صورته حتَّى لا يعرف أحد أنَّه فقد، وهم على قلب إبراهيم
(2)
، وأن عددهم سبعة أو أربعون، فهذا باطل لما تقدَّم.
وإن أريد بهم أنَّهم أولياء الله المتقون أو العباد الأتقياء
(3)
، وأنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات، فهذا معنى حق، وهذه الصَّفات لا تختص بسبعة ولا أربعين ولا غير ذلك من الأعداد.
خامسًا: "النقباء": إن أريد بهم ما يزعمه الصوفية أنَّهم الذين استخرجوا خبايا النفوس، وهم ثلاثمائة، وأن مسكنهم الغرب
(4)
، فهذا المعني باطل؛ إذ لا يعلم خبايا النفوس إلَّا الله:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}
(5)
.
وإن أريد به المعنى اللغوي، وأن النقيب هو الأمين والوكيل
(6)
كما قال
(1)
مجموع الفتاوي 11/ 440.
(2)
الدرة الخريدة 1/ 49، التعريفات للجرجاني 139.
(3)
النهاية لابن الأثير 1/ 107 ط الحلبي، عون المعبود 11/ 376.
(4)
الدرة الخريدة 1/ 49.
(5)
سورة ق، الآية (16).
(6)
لسان العرب 2/ 267.
سبحانه: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}
(1)
فهذا معنى حق، ولا اختصاص لهم بعدد معين ولا بمكان معين.
سادسًا: "النجباء": إن أريد به ما يزعمه كثير من الصوفية أنَّهم المشغولون بحمل أثقال الخلق، فلا يتصرفون إلَّا في حق الغير، وأن عددهم أربعون أو سبعون
(2)
، وأن مسكنهم مصر، فهذا المعني باطل لما تقدَّم.
وإن أريد به المعنى اللغوي من النجابة: وهي الفَضْل والشرف، يقال: هو نجيبة القوم، إذا كان النجيب فيهم
(3)
، ويقال: فلان من النجباء، أي الفضلاء، فهذا معنى حق، ولا اختصاص له بعدد معين، ولا بمكان معين. واللهُ الموفق والهادي إلى طريق الصَّواب"
(4)
. ا هـ.
حشا، والحشا عن ألف يمين:
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "بعض النَّاس إذا سئل عن شيء وأراد الجواب بالنفي فإنَّه يقول بالعامية (حشا، والحشا عن ألف يمين ما صار كذا وكذا)، فما حكم مثل هذا القول في شرعنا المطهر؟ أرجو التكرم بالإفادة جزاكم الله خيرًا".
فأجاب: "لا أعلم لهذا أصلًا، والصَّواب أن يبيّن الحقيقة نفيًا أو إثباتًا، إذا كان السؤال يقتضي ذلك، أمَّا قول المجيب إن:(حشا عن ألف يمين) فهذا لا
(1)
سورة المائدة، الآية (12).
(2)
الدرة الخريدة 1/ 49، التعريفات للجرجاني 139.
(3)
لسان العرب 2/ 244.
(4)
التيجانية، (ص 185 - 191).
أصل له، وإنَّما معناها نفي الشيء المسؤول عنه كما في قوله عز وجل في سورة يوسف:{وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا}
(1)
واللهُ الموفق"
(2)
.
الرسول صلى الله عليه وسلم منبع الرحمات والتجليات:
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: "ما رأيكم في كتاب صفوة التفاسير، وقد نقل عن الصاوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم منبع الرحمات والتجليات، والصاوي يقول: الأخذ بظواهر القرآن والسنة كفر؟ ".
فأجاب: "كل هذا غلط كله خطأ؛ ليس الرسول منبع الرحمات، إلَّا بالتأويل إذا كان من جهة الشَّريعة، وإلَّا الرحمة من الله عز وجل هذه العبارة عبارة خاطئة غلط، وكذلك قوله: إن الأخذ بظاهر النُّصوص كفر، وإن الصاوي كلامه وقوله قبيح منكر، نسأل الله العافية، فالكفر هو الضلال لو عقله ولوكان يعقل ما يقول، هذا المنكر من المقالتين، لا قوله: منبع الرحمات والتجليات، ولا قوله: إنَّه لا يؤخذ بظاهر النُّصوص، كل هذا منكر عظيم نعوذ بالله من ذلك"
(3)
.
حكم القدر:
قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في جواب له على أحد السائلين: "تنبيه: قلت في مستهل كتابك ما نصه: (مستفسرًا من سعادتكم عما حكم به القدر عليه) وهذا خطأ؛ لأنَّ القدر ليس هو الَّذي يحكم على الإنسان،
(1)
سورة يوسف، الآية (31).
(2)
مجموع فتاواه (23/ 109 - 110).
(3)
مجموع فتاواه (34/ 330).
وإنَّما مرد الأمور لله وحده، وهو الَّذي يقدر الأقدار، فتنبه لذلك، والأحسن أن تقول في مثل هذا (عما قدره الله عليّ) "
(1)
.
يا أنت [في دعاء الله]:
سئل الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: "هل "أنت" اسم من أسماء الله تعالى فيُدعى ويقال: يا أنت ارزقني واهدني وهكذا؟! ".
فأجاب: "ما قال هذا أحدٌ من أهل العلم؛ إلَّا عند الصوفية، يقولون: هو هو، أو: الله الله، هذا عند الصوفية، بل هذا أسوأ من قول الصوفية"
(2)
.
الشرعية الدولية:
هذا مصطلح سياسي معاصر يجعل الشرعية للقوانين الدولية الوضعية الَّتي يعتريها النقص أو الانحراف عن شرع الله؛ فإذا كان الكفار معذورين بالتحاكم إلى شرعيتهم الدولية هذه؛ لأنَّه لا ذنب أعظم من الكفر بالله، فما عذر الدول الإِسلامية الَّتي انطلي عليها هذا المصطلح ومضامينه الخطيرة الَّتي يعارض كثيرًا منها شرع الله وحكمه؟!
وما أحسن قول الدكتور توفيق الشاوي: "والأخطر من ذلك أن يسمى بالنظام العالمي الَّذي تسيطر عليه الدول الكبرى الإمبريالية، يُسمح لهم بأن يتخذوا الأمم المتحدة وسيلة تمكنهم من هذا الاحتلال تحت راية ما يسمونه شرعية دولية، وهي شرعية الأقوياء الذين يملكون حق الفيتو في مجلس الأمن"
(3)
.
(1)
مجموع فتاواه (22/ 355).
(2)
الإجابات المهمة في المشاكل المدلهمة، (ص 207).
(3)
الشرق الأوسط والأمة الوسط، (ص 42).
يا أُمَّتِي:
قال الدكتور عبد العزيز بن عليّ الحربي: هذا اللَّفظِ يجري على ألسنة الشعراء المعاصرين الذين حملوا من هم الدعوة ما شاء ربك أن يحملوا، وهمها حمل ينوء بالعصبة أولي القوة، يقول أحدهم:(يا أُمَّتِي وجب الجهاد فشمري).
وأمثاله كثير، أو لعلهم يقصدون بذلك أمة الإجابة لا أمة الدعوة، وأيًّا ما يريدون فهو مرفوض، ولا نعلم من يحق له قول هذا في هذه الأمة غير محمد عليه الصلاة والسلام، فمن الَّذي خوَّلكم ليكون النَّاس أمتكم؟ ومن الَّذي أصطفاكم ورقاكم هذا المرتقى العالي؟ بلى: إن الَّذي خوّلكم واصطفاكم هو لحن القول، وأقل أسبابه غفلة تسمى (غفلة الصالحين)، ولما كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم من بعث فيهم إلى أن تقوم الساعة لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام في خطابه بـ (يا أُمَّتِي) لأنها جماعة واحدة كالذات الواحدة في عين الرؤوف الرَّحمن، فلا تقبل التجزئة وإن كانت تطلق على الجيل، وأمَّا قوله تعالى:(وإن هذه أمتكم أمة واحدة) فالأمة بمعنى الملة والدين. واللهُ أعلم"
(1)
.
الحمد لله الَّذي لا يُحمد على مكروه سواه:
سئل الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- عن قول البعض: الحمد لله الَّذي لا يُحمد على مكروه سواه، هل هو صحيح؟
فأجاب: "لا أعرف لهذا أصلًا؛ ولكن يقول: الحمد لله على كل حال، أمَّا لا يُحمد على مكروه سواه، أنا ما أعلم لهذا أصلًا، وإن كان جاريًا على
(1)
جريدة المدينة، بتاريخ 28/ 10 / 1425 هـ.
ألسنة بعض النَّاس"
(1)
.
التقوى هاهنا:
من الأخطاء الشائعة في الألفاظ أنك إذا نصحت أحدًا من النَّاس بشيء من السنة، لا سيَّما السمت الظاهري: مثل إطلاق اللِّحية، أو تقصير الثوب ونحوها، فإنَّه يبادرك بقوله: هذا ليس ضروريًا؛ لأن "التقوى هاهنا"، ونقول: إن هذه كلمة حق أريد بها باطل؛ لأنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هو الَّذي قال هذه، لكن متى قالها؟ قالها صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أصحابه التمسك بآداب الإسلام، فقال: صلى الله عليه وسلم "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا تدابروا، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، ولا يكذبه" ثمَّ قال: "التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه"
(2)
.
أين أورد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة؟ أوردها في أمور تتعلق بالمعاملة، ولو كان الأمر كما يقول هذا الإنسان المنصوح الَّذي لا يتمثل النصيحة، ولا يريد أن يعمل بالسنة، لوكان الأمر كما يزعم من أن "التقوى هاهنا" يعني في قلبه، وأنها موجودة، لخضعت جوارحه ولتحولت التقوى إلى عمل كما تحولت تقوى المؤمنين الصالحين الصادقين إلى عمل، فانتبه يا أخي ولا تقل
(1)
سلسلة شرح الرسائل، (ص 311).
(2)
رواه البخاري، كتاب الأدب (6066)، وكتاب النكاح (5144)، ومسلم، كتاب البر (2564)، واللفظ لمسلم.
هذه الكلمة تريد بها عدم تطبيق الأمور الشرعية المطلوبة منك؛ فإنَّه يخشي عليك من إطلاق مثل هذه العبارات
(1)
.
الهدية لا تُهدي ولا تباع:
الصحيح أن هذا الكلام ليس بحديث ولا حكم شرعي؛ بل إن الهدية إذا امتلكها الإنسان فله أن يتصرف فيها كيفما شاء؛ سواءً أبالبيع أم الإهداء
(2)
.
اللَّهُمَّ أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك (ويُذل) فيه أهل معصيتك:
هذا الدُّعَاء نسمعه كثيرًا في خطب الجُمُعَة؛ ومن الأولى أن يستبدل الخطباء لفظة (يُذل) بـ (يُهدي)؛ لأنَّه لا أحد من المسلمين يسلم من معصية الله؛ فكأنه دعاء بالذلة على أهل الإسلام جميعًا. استفدت هذا من الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ سلمه الله.
يا رضا الله ورضا الوالدين:
سئل الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ -حفظه الله-: "نري عبارة مكتوبة على بعض السيارات "يا رضا الله ورضا الوالدين" فما حكم تلك العبارة؟.
فأجاب: مقولة: "يا رضا الله ورضا الوالدين" غلطٌ من جهتين:
الجهة الأولى: أنَّه نادى رضا الله، ومناداة صفات الله -جل وعلا- بـ (ياء النداء) لا تجوز؛ لأنَّ الصفة غير الذات في مقام النداء؛ وهذا: إنَّما يُنادي الله -جل وعلا- المتصف بالصَّفات، وقد نصَّ شيخ الإسلام ابن تيمية في رده
(1)
"أخطاء عقدية" للشيخ عبد الرحمن المحمود، و"التنبيه لما يرد من الأخطاء لتجاهل والنبيه"؛ للأستاذ أحمد بن الأمير، ص 53 - 54.
(2)
الإيقاظ في تصحيح الأمثال والألفاظ، ص 37.
على البكري، وغيره من أهل العلم: على أن مناداة الصفة محرَّم بالإجماع، فإذا كانت الصفة هي الكلمة - كلمة الله -جل وعلا-: كان كفرًا بالإجماع؛ لأن من نادى الكلمة، يعني بها عيسى عليه السلام فيكون تأليهًا لغير الله -جل وعلا- ورضا الله -جل وعلا- صفة من صفاته، فلا يجوز نداء الصفة.
والمؤاخذة الثانية في تلك الكلمة: أنه جعل رضا الوالدين مقرونًا برضا الله -جل وعلا- بـ (الواو)، والأنسب هنا أن يكون العطف بـ (ثم) فيقول -مثلًا-: أسأل الله رضاه ثم رضا الوالدين. وإن كان استعمال الواو في مثل هذا السياق لا بأس به، لأن الله -جل وعلا- قال:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}
(1)
وقال -جل وعلا-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
(2)
، ولأن (الواو) هنا تقتضي تشريكًا في أصل الرضا؛ وهذا الرضا يمكن أن يكون من الوالدين -أيضًا-: فيكون التشريك في أصل المعنى، لا في المرتبة"
(3)
.
(1)
سورة لقمان، الآية (14).
(2)
سورة الإسراء، الآية (23).
(3)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد، ص 614.
فائدة: ورد في الحديث الصحيح: "رضا الرب في رضا الوالد" انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (515).