المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، لا إله - المعتبر في عقيدة أهل السنة ومخالفيهم في القدر

[إبراهيم بن عامر الرحيلي]

فهرس الكتاب

‌مقدمة

الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، لا إله إلا هو أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا، ووسع عباده رحمةً وحلمًا، جفَّت الأقلام بما قدَّره أزلًا، وله المشيئة النافذة فيما قدَّر وقضى، والحكمة البالغة فيمَن أضلَّ وهدى.

وأصلِّي وأسلِّم على رسوله المصطفى، ونبيِّه المجتبَى، وعلى آله وصحبه أعلام الورى، ومصابيح الدُّجَى، وعلى مَنْ استَن بسنته واقتفى.

وبعد:

فإن الإيمان بالقدر ركنٌ عظيمٌ من أركان الإيمان، لا يصحُّ إيمان العبد إلا بتحقيقه على ما دلَّ على ذلك خبر الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم، وقد سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان، فقال:«أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن المرء حتى يؤمن بالقدر خيره وشرِّه»

(2)

.

والقدر نظام التوحيد، لا يتمُّ التوحيد إلاَّ به.

قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «القدر نظام التوحيد؛ فمَن وحَّد الله سبحانه وكذَّب بالقدر؛ كان تكذيبه للقدر نقضًا للتوحيد، ومَن وحَّد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم (8).

(2)

أخرجه أحمد (11/ 305)(6703)، وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 418)، وابن أبي عاصم في السنة (ص: 61)، وقال العلامة الألباني:«إسناده حسنٌ» .

(3)

أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة (2/ 422)، والفريابي (ص: 143)، والآجري (2/ 876)، وابن بطة (4/ 159)، واللالكائي (4/ 742).

ص: 5

وللإيمان بالقدر وتحقيقه آثاره العظيمة على عقيدة المسلم وسلوكه، ومن ثمراته المباركة رضى العبد عن ربه وحسن ظنه به، كما أن للتقصير في تحقيقه أو الانحراف في فهمه آثاره الخطيرة على دِين المسلم واعتقاده في ربه.

وإذا كان الخلق يتقلبون في أقدارٍ ما تعاقب فيهم الليل والنهار مما يحبون ويطلبون، ومما يكرهون ويحذرون، وقَدَرُ الله فيهم ماضٍ وأمره فيهم نافذٌ حكمةً منه وعدلًا، كما قال سبحانه:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]؛ فإن الحاجة للتعريف بالقدر مُلِحَّةٌ، والتذكير به ينبغي أن يكون متجدِّدًا بتجدُّد الأقدار وتغيُّر الأحوال.

وقد كنت ألفت كتاب (المختصر في عقيدة أهل السُّنَّة في القدر) على وجه الاختصار، وكان الباعث على ذلك تدريسي لمادَّة (الإيمان القدر) لطلَّاب (السنة الثانية) في بعض كلِّيَّات الجامعة الإسلاميَّة -بحسب النظام السابق-.

وكان بدء تأليفه في سنة (1424 هـ) مع فقرات منهج (توحيد الأسماء والصفات) التي كان تُدرَّس إلى جانب (مسائل القدر) في (السنة الثانية)،

إلا أن هذه الكتابة بقيت على هيئة مذكِّرةٍ بأيدي الطلَّاب إلى أن تمَّت طباعة

ما يتعلَّق بمسائل القدر بعد ذلك بسنواتٍ بعنوان (المختصر في عقيدة أهل السنة في القدر). وقد اقتصرت فيما دوَّنته فيه من مسائل على فقرات المنهج الدراسي المعتمد آنذاك لتدريسِ (مسائل القدر) لطلَّاب (السنة الثانية).

وقد طُبع الكتاب عدَّة طبعاتٍ، وانتفع به الطلاب في دراسة هذه المادَّة بحمد الله، خاصَّةً بعد اعتماده مرجعًا للطلاب في دراسة مادة (الإيمان بالقدر) في أكثر من مستوى في كلِّيَّات الجامعة من قبل بعض أصحاب الفضيلة الذين تولوا تدريس هذه المادة وتوجيههم الطلاب للاستفادة منه.

ثم لما وضع المنهج الجديد (لمادة القدر) في مرحلة الماجستير بقسم العقيدة،

ص: 6

بقي الكتاب مرجعًا للطلاب في هذه المادَّة؛ لاشتماله على عدد لا بأس به من فقرات هذا المنهج.

وبعد تكليفي بتدريس هذه المادة لعدَّة سنواتٍ في هذه المرحلة كنت أحيل الطلاب عليه مع بعض الكتب الأخرى للاستعانة به في دراسة فقرات منهج (مادة القدر)، وكذلك وقع لبعض من درس هذه المادة من أصحاب الفضيلة.

ثم رأيت حاجة الطلاب للكتابة والتأليف في بقية فقرات المنهج لهذه المرحلة -التي لم يتضمَّنها الكتاب-، وصاحب ذلك مطالبة بعض الطلبة بالتأليف في هذه الفقرات على وجه التحقيق والتدقيق مع الاختصار -كما هو الشأن في كتاب المختصر-، وقد كان يحول بيني وبين ذلك كثرة الأشغال، إلى أن شرح الله الصدر لذلك أثناء الإعداد لإعادة طباعة (كتاب المختصر)، فرأيت من المناسب استكمال بحث بقية الفقرات التي اشتمل عليها المنهج المذكور، وضمها لأصل الكتاب لسد حاجة الطلاب في دراسة كامل فقرات المنهج في كتابٍ واحدٍ.

وقد قمت بدراسة هذه المسائل كلِّها بحسب ما جاء في منهج (مادة القدر لمرحلة الماجستير بقسم العقيدة)، وأعدت ترتيب فقرات الكتاب السابقة مع الملحق بها.

ولما اشتمل الكتاب في وضعه الأخير على زيادة فقراتٍ كثيرةٍ تجاوزت ضعف حجم الكتاب السابق من حيث عدد المسائل والصفحات، رأيت من المناسب تحرير عنوانه بما يناسب حاله، وليتميز الكتاب في ثوبه الجديد عن أصله الذي قد يطبع في المستقبل مستقلا لسد حاجة الطلاب في المرحلة الجامعية دون الآخر، فرأيت أن يكون عنوانه:

المعتبر في عقيدة أهل السنة ومخالفيهم في القدر

ص: 7

وقد اشتملت الخطَّة بعد التعديل على: مقدمة، وتمهيد، وأربعة فصولٍ، وخاتمة.

المقدمة: في بيان سبب التأليف، و‌

‌خطَّة البحث.

التمهيد: في التعريف بالقضاء والقدر، وبيان منزلة الإيمان بالقدر في الإسلام، ونشأة الخلاف فيه، ويشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأوَّل: تعريف القضاء والقدر والفرق بينهما.

المبحث الثاني: منزلة الإيمان بالقدر في الإسلام.

المبحث الثالث: نشأة الخلاف في القدر، والمقالات المحدَثة فيه.

الفصل الأوَّل: في بيان معتقد أهل السنَّة ومخالفيهم في أصول الاعتقاد في القدر، ويشتمل على ستة مباحث:

المبحث الأوَّل: معتقد أهل السنَّة في الإيمان بالقضاء والقدر إجمالًا.

المبحث الثاني: معتقد الطوائف المخالفة في القدر، والرد عليهم.

المبحث الثالث: معتقد أهل السنَّة في مراتب القدر، وبيان أدلتها.

المبحث الرابع: معتقد أهل السنَّة في أفعال العباد الاختياريَّة، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الخامس: معتقد أهل السنة في الهداية والإضلال، وأقوال المخالفين فيهما، والرد عليهم.

المبحث السادس: معتقد أهل السنة في الإرادتين، وأقوال المخالفين فيهما، والرد عليهم.

الفصل الثاني: المسائل المتعلِّقة بأفعال الله في باب القدر وتنزهه تعالى عن الشر والظلم.

ص: 8

ويشتمل على خمسة مباحث:

المبحث الأوَّل: معتقد أهل السنة في الحكمة في أفعال الله، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم.

المبحث الثاني: معتقد أهل السنة في مسألة الصلاح والأصلح، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الثالث: معتقد أهل السنة في مسألة التكليف بما لا يُطاق، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الرابع: معتقد أهل السنة في تنزُّه الله عن الشرِّ، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم.

المبحث الخامس: معتقد أهل السنة في تنزُّه الله عن الظلم، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم.

الفصل الثالث: المسائل المتعلقة بأعمال العباد في باب القدر.

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: معتقد أهل السنة في الرضى بالقدر، وبيان أقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم.

المبحث الثاني: معتقد أهل السنة في استطاعة العبد، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الثالث: بيان أن الإيمان بالقدر لا يسوِّغ الاتِّكال وترك العمل وأقوال المخالفين في ذلك والرد عليهم.

المبحث الرابع: بيان النهي عن الاحتجاج بالقدر على المعاصي وتوجيه محاجَّة آدم وموسى عليهما السلام.

ص: 9

المبحث الخامس: بيان النهي عن الخوض في القدر، وحقيقة الخوض وحدّه.

الفصل الرابع: في مسائل أخرى متعلِّقة بالقدر.

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأوَّل: معتقد أهل السنة في الأسباب، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الثاني: معتقد أهل السنة في مسألة التحسين والتقبيح، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الثالث: بيان الحقِّ في مسألة: هل الإنسان مُسَيَّرٌ أو مُخَيَّرٌ؟

المبحث الرابع: بيان المراد ببدعة القدر التي رُمي بها بعض الأئمَّة، وحقيقة ذلك.

الخاتمة: في نتائج البحث.

هذا، وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه، صوابًا على وفق شرعه، نافعًا لمن قرأه، ذخرًا لي عنده بمنِّه وكرمه، وله الحمد أوَّلًا وآخرًا.

ص: 10

‌التمهيد

في التعريف بالقضاء والقدر، وبيان منزلة الإيمان بالقدر في الإسلام، ونشأة الخلاف فيه

ويشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر، والفرق بينهما.

المبحث الثاني: منزلة الإيمان بالقدر في الإسلام.

المبحث الثالث: نشأة الخلاف في القدر، والمقالات المحدثة فيه.

ص: 11

‌المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر، والفرق بينهما

‌أولًا: تعريف القضاء والقدر:

‌أ- تعريف القدر:

القدر في اللغة: القضاء الموفَّق، يقال: قَدَّره الله تقديرًا. وإذا وافَقَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ فهو قَدَرٌ له، وجاء على قَدَرِه. ذكره الخليل، ونقله الأزهريُّ عن الليث

(1)

.

والقدر في الشرع: هو ما قدَّره الله في الأزل أن يكون، بناءً على علمه السابق بالأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل خلقها

(2)

.

‌ب- تعريف القضاء:

القضاء في اللغة: القطع والفصل، يقال: قضى يقضي قضاءً، فهو قاضٍ؛ إذا حكم وفصل. وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه

(3)

.

قال الأزهريُّ: «وَ (قضى) فِي اللُّغَة على ضرُوبٍ؛ كلُّها تَرجع إِلَى معنى انْقِطَاع الشيءِ وتمامِه

وكلُّ مَا أُحكِم فقد قُضِيَ»

(4)

.

وقال ابن فارس: «القاف والضاد والحرف المعتلُّ؛ أصلٌ صحيحٌ، يدلُّ على

(1)

انظر العين (5/ 112)، وتهذيب اللغة (9/ 37).

(2)

انظر: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (2/ 188)، وشرح مسائل الجاهلية للفوزان (ص: 153).

(3)

النهاية لابن الأثير (ص: 759)، وانظر: لسان العرب (15/ 186).

(4)

تهذيب اللغة (9/ 169).

ص: 13

إحكام أمرٍ وإتقانه وإنفاذ جهته»

(1)

.

وقال الراغب الأصفهانيُّ: «القضاء: فصل الأمر، قولًا كان ذلك أو فعلًا، وكل واحدٍ منهما على وجهين: إِلهيٌّ وبشريٌّ.

فَمن قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]؛ أي: أمر بذلك.

ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4]؛ أي: أعلمناهم.

ومن فعل الله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20].

ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12]؛ أي: خلقهن.

ومن القول البشريِّ نحو: قضى الحاكم بكذا؛ فإن حكم الحاكم يكون بالقول

(2)

.

ومن الفعل البشري: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200]، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]»

(3)

.

(1)

مقاييس اللُّغة (5/ 99).

(2)

شاهده من القرآن -والله أعلم- قوله تعالى مخبرًا عن يوسف عليه السلام: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41].

(3)

المفردات (ص: 674).

ص: 14

والقضاء في الشرع: هو ما قضى به الله في خلقه من إيجادٍ أو إعدامٍ أو تغييرٍ

(1)

.

‌ثانيا: الفرق بينهما:

القضاء والقدر بينهما تلازمٌ، ويدخل أحدهما في معنَى الآخر في بعض مواطن ورودهما في النصوص وكلام العلماء.

قال ابن الأثير: «والقضاء والقدر متلازمان، لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بِمَنْزلة الأساس وهو القدر، والآخر بِمَنْزلة البناء وهو القضاء؛ فَمَنْ رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه»

(2)

.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «القضاء والقدر متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن افترقا، على حدِّ قول العلماء: «هما كلمتان إن اجتمعتا افترقتا، وإن افترقتا اجتمعتا» .

فإذا قيل: هذا قَدَر الله، فهو شاملٌ للقضاء، أما إذا ذُكِرَا جميعًا؛ فلكل واحدٍ منهما معنًى.

فالتقدير: هو ما قدَّره الله تعالى في الأزل أن يكون في خلقه.

وأما القضاء: فهو ما قضى الله به سبحانه وتعالى في خلقه من إيجادٍ أو إعدامٍ أو تغييرٍ»

(3)

.

وقد اختُلِف في القضاء والقدر أيُّهما أسبق؟ والذي عليه المحقِّقون من أهل العلم أن القدر سابقٌ للقضاء.

(1)

انظر: شرح الواسطية لابن عثيمين (2/ 187 و 188).

(2)

النهاية لابن الأثير (ص: 759).

(3)

شرح الواسطية (2/ 187، 188).

ص: 15

قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: «والقضاء من الله أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع»

(1)

.

وقال مرعي الكرمي رحمه الله: «القدر عبارة عن سبق علم الله تعالى بالمقدور

والقضاء عبارة عن خلق الله تعالى لذلك المقدور»

(2)

.

وبه قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

(3)

.

(1)

المفردات (675).

(2)

إتحاف ذوي الألباب ص (104).

(3)

انظر: شرح العقيدة الواسطية (2/ 188).

ص: 16

‌المبحث الثاني منزلة الإيمان بالقدر في الإسلام

الإيمان بالقدر واجبٌ، وهو أحد أركان الإيمان الستَّة، كما أخبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بهذا في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان؟ فقال:«أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»

(1)

.

وقد دلَّت الأدلَّة من الكتاب والسنَّة والإجماع على وجوب الإيمان بالقدر.

فمن الكتاب:

[1]

قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

قال ابن كثيرٍ رحمه الله: «يَستدِلُّ بهذه الآية الكريمة أئمَّة السنَّة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها»

(2)

.

[2]

قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].

والتقدير هنا: بمعنى التسوية، قال ابن جريرٍ في معنى قوله:{فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} : «يقول: فسوَّى كلَّ خلقٍ وهيَّأه لما يصلح له، فلا خلل ولا تفاوت»

(3)

.

وعلى هذا فلا تشكل هذه الآية على ما سبق تقريره من أن التقدير سابقٌ للقضاء؛ فيقال: قدَّم في الآية الخلق على التقدير؛ فدلَّ على أن القضاء أسبق.

قال الشيخ ابن عثيمين في الإجابة على هذا الاستشكال: «إما أن نقول: هذا من باب الترتيب الذكريِّ لا المعنويِّ

، أو نقول: إن التقدير هنا بمعنى

(1)

تقدم تخريجه ص (5).

(2)

تفسير ابن كثير (7/ 482).

(3)

تفسير الطبري (9/ 364).

ص: 17

التسوية، أي: خلقه على قدرٍ معيَّنٍ؛ كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2]؛ فيكون التقدير بمعنى التسوية»

(1)

.

[3]

قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38].

قال ابن كثيرٍ: «أي: وكان أمره الذي يقدِّره كائنًا لا محالة، وواقعًا لا محيد عنه ولا مَعْدِل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن»

(2)

.

[4]

قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2 - 3].

قال السعديُّ: «الذي قدَّر تقديرًا تتبعه جميع المقدَّرات، فهدى إلى ذلك جميع المخلوقات»

(3)

.

ومن السنَّة:

[1]

حديث جبريل المتقدِّم، وفيه: «

وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه»

(4)

.

[2]

ما أخرجه مسلمٌ في صحيحه عن طاوسٍ، قال: أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: كلُّ شيءٍ بقدرٍ، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ شيءٍ بقدرٍ، حتى العجزُ والكَيْسُ، أو الكيس والعجز»

(5)

.

قال النوويُّ رحمه الله: «ويحتمل أن العجز هنا على ظاهره، وهو عدم القدرة، وقيل: هو ترك ما يجب فعله، والكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق

(1)

شرح الواسطية (2/ 189).

(2)

تفسير ابن كثير (6/ 427).

(3)

تفسير السعدي (ص: 1283).

(4)

تقدّم تخريجه ص (5).

(5)

أخرجه مسلم (2655).

ص: 18

بالأمور، ومعناه: أن العاجز قد قُدِّر عَجْزُه، والكيِّس قد قُدِّر كَيْسُه»

(1)

.

[3]

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنةٍ» ، قال:«وعرشه على الماء»

(2)

.

[4]

حديث سراقة بن مالكٍ، أنه قال: يا رسول الله! بَيِّن لنا ديننا كأنا خُلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أَفِيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال:«بل فيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير» . قال: فيم العمل؟ قال: «اعملوا فكلٌّ مُيَسَّرٌ»

(3)

.

والأحاديث في إثبات القدر وعلم الله بالأشياء قبل وجودها وكتابته لها كثيرةٌ جدًّا، وقد أفرد العلماء في جمعها مصنَّفاتٍ مستقلَّةً

(4)

.

وأما الإجماع:

فقد انعقد إجماع السلف ومَنْ بعدهم من الأئمَّة على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشرِّه، كما نقل ذلك غير واحدٍ من الأئمَّة والعلماء المحقِّقين.

فعن أبي الأسود الدؤليِّ، قال:«ما رأينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُثبت القدر»

(5)

.

(1)

شرح صحيح مسلم (16/ 205).

(2)

أخرجه مسلم (2653).

(3)

أخرجه مسلم (2648).

(4)

قال النَّوويُّ بعد نقله الإجماع على إثبات القدر: «وقد أكثر العلماء من التّصنيف فيه، ومِن أحسن المصنَّفات فيه وأكثرها فوائد كتاب الحافظ الفقيه أبي بكرٍ البيهقيِّ» . شرح النووي على مسلم (1/ 155).

(5)

انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 646).

ص: 19

‌المبحث الثالث

نشأة الخلاف في القدر والمقالات المحدَثة فيه

أصل الخلاف في القدر يرجع إلى مقالتين مخالفتين للكتاب والسنَّة وما عليه سلف الأمَّة، وهما (مقالة القدريَّة)، و (مقالة الجبريَّة).

‌أوَّلًا: مقالة القدريَّة:

وهي القول بقدرة العبد على فعله قدرة تامة، وإنكار مراتب القدر كلها كما هو قول أوائلهم وغلاتهم، أو إنكار المشيئة والخلق كما هو قول متأخريهم.

وأوَّل ظهور مقالة القدريَّة في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم في خلافة عبد الملك بن مروان

(1)

.

وكان أوَّل ما ظهرت مقالة القدريَّة في البصرة على يد معبد الجهنيِّ.

على ما أخرج الإمام مسلم، عن يحيى بن يعمر، قال: كان أوَّل من قال في القدر بالبصرة معبد الجهنيُّ، فانطلقت أنا وحُميد بن عبد الرحمن الحِمْيَريُّ حاجَّين -أو معتمرين-، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطَّاب داخلًا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلَنا ناسٌ يقرؤون القرآن، ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُفٌ، قال: «فإذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أني بريءٌ منهم، وأنهم بُرآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحدٍ

(1)

منهاج السنة (6/ 231)، سير أعلام النبلاء (11/ 236).

ص: 21

ذهبًا، فأنفقه؛ ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر»

(1)

.

وقيل: إن أول من أحدث الكلام في القدر رجلٌ نصرانيٌّ يسمَّى (سنسويه) أو (سوسن).

قال ابن عونٍ: «أدركت الناس وما يتكلَّمون إلا في عليٍّ وعثمان، حتى نشأ ها هنا حقيرٌ، يُقال له: سنسويه البقَّال» قال: «فكان أوَّل من تكلَّم في القدر»

(2)

.

والذي يظهر أن (سنسويه) -أو (سوسن) - هو أوَّل من أحدث مقالة القدر، ثم تلقَّاها عنه معبد الجهنيُّ، فأظهرها فاشتهرت عنه، ثم تلقَّاها عن معبدٍ غيلان الدمشقيُّ.

على ما أخرج الآجريُّ وغيره، عن الإمام الأوزاعيِّ، أنه قال:«أوَّل من نطق بالقدر: رجلٌ من أهل العراق، يُقال له: سوسن، وكان نصرانيًّا فأسلم، ثم تنصَّر، فأخذ عنه معبد الجهنيُّ، وأخذ غيلان عن معبدٍ»

(3)

.

وروى الفريابيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عونٍ، أنه التقى بأبي نعامة العدويِّ، وكان أكبر من ابن عونٍ، فقال له ابن عونٍ: يا أبا نعامة، متى تكلَّم الناس في القدر؟ قال:«إنما تكلَّموا فيه حيث تكلم سنسويه، وتابعه معبد الجهنيُّ»

(4)

.

كما روى الفريابيُّ أيضًا عن ابن عونٍ أنه قال: «أمران أدركت الناس وليس فيهم منها شيءٌ: كلام هذه المعتزلة، والقدريَّة، وكان أوَّل من تكلَّم في القدر سنسويه بن يونس الأسواريُّ، وكان حقيرًا صغير الشأن، ثم تكلَّم معبدٌ، وتكلَّم

(1)

أخرجه مسلم ح (8).

(2)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 826).

(3)

أخرجه الآجري (2/ 959)، وابن بطة (4/ 298)، واللالكائي (4/ 827).

(4)

أخرجه الفريابي (ص: 205). وقال المحقق: «إسناده صحيح» .

ص: 22

رجلٌ من أهل كذا في المسجد»

(1)

.

فكان لهؤلاء الثلاثة الأثر البالغ في ظهور مقالة القدر في الإسلام:

أما سنسويه: فهو أوَّل من أحدثها، وهو رجلٌ نصرانيٌّ ادعى الإسلام، واسمه سنسويه بن يونس الأسواريُّ، كما تقدم في الروايات السابقة.

وذكر البخاريُّ أنه «كان مجوسيًّا فادَّعى الإسلام»

(2)

.

وقد تقدَّم وصف ابن عونٍ له بقوله: «كان حقيرًا صغير الشأن»

(3)

.

قال حمَّاد بن زيدٍ: «ما ظنُّكم برجلٍ يقول له ابن عونٍ: هو حقيرٌ؟!»

(4)

.

ونقل البخاريُّ عن الحسن في القدريَّة، أنه قال:«أهلكتهم العجمة»

(5)

.

وأما معبد الجهنيُّ: فهو الذي أظهرها وشهرها وعُرِف بها. وقد أخذ مقالته في القدر عن سنسويه -كما تقدَّم-.

وقد كانت لمعبدٍ عبادةٌ، وفيه زهادةٌ، وبسبب ذلك راجت بدعته، وكان ممن خرج مع ابن الأشعث، فعاقبه الحجاج عقوبةً عظيمةً بأنواع العذاب، ثم قتله.

وقيل: بل صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق، ثم قتله، وهو الأقرب

(6)

.

وأما غيلان: فهو غيلان بن مسلمٍ القبطيُّ الدمشقيُّ، صاحب معبدٍ، وهو

(1)

أخرجه الفريابي (ص: 226). وقال المحقق: «إسناده جيد» .

(2)

خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 75).

(3)

تقدم تخريجه ص (25).

(4)

أخرجه اللالكائي (4/ 826).

(5)

خلق أفعال العباد (ص: 75).

(6)

انظر البداية والنهاية (9/ 34).

ص: 23

الذي دعا إلى القدر وأظهره وناظر فيه، وكان ذا عبادةٍ وتألُّهٍ وفصاحةٍ وبلاغةٍ

(1)

.

وظهر أمره في خلافة عمر بن عبد العزيز، فاستتابه عمر، فقال: لقد كنت ضالًّا فهديتني، فقال له عمر: اللهمَّ إن كان صادقًا، وإلا فاصلبه واقطع يديه ورجليه، ثم قال: أمِّن يا غيلان، فأمَّن على دعائه

(2)

.

ثم عاد لمقالته بعد ذلك، وناظره الأوزاعيُّ في خلافة هشام بن عبد الملك، بحضرة الخليفة، فانقطع غيلان ولم يتب، فأفتى الأوزاعيُّ بقتله، وأقرَّه على ذلك العلماء، فأمر به هشام بن عبد الملك فقُطِعت أربعته، وصُلِب بباب دمشق، وكانوا يرون أن ذلك بدعوة عمر بن عبد العزيز عليه

(3)

.

وللقدريَّة مقالتان:

المقالة الأولى: إنكار علم الله السابق بأعمال العباد، وكتابته، ومشيئته وخلقه لها، ودعوى أنه أَمَر ونَهَى وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أُنُفٌ: أي مستأنَفٌ

(4)

.

وهذه مقالة القدريَّة الأوائل المتقدِّم ذكرهم، وقد أنكر بدعتهم من أدركها من الصحابة، كابن عبَّاسٍ، وابن عمر، وأنس بن مالكٍ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، واشتدَّ إنكارهم عليهم، و تبرَّؤوا منهم ومن بدعتهم

(5)

.

(1)

انظر: المعارف لابن قتيبة (1/ 484)، وتاريخ الإسلام للذهبي (7/ 441).

(2)

انظر: تاريخ الإسلام (7/ 441).

(3)

انظر: المعارف لابن قتيبة (1/ 484)، وتاريخ الإسلام (7/ 441)، ولسان الميزان (4/ 424).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 450)، وشفاء العليل (2/ 825 - 826).

(5)

انظر الروايات عنهم في ذلك في صحيح مسلم ح (8)، والقدر للفريابي (ص: 175 - 192)، والشريعة للآجري (2/ 801 - 810).

ص: 24

بل نقل شيخ الإسلام ابن تيميَّة والإمام ابن القيِّم اتِّفاق السلف على كفرهم

(1)

.

وأصحاب هذا القول قد انقرضوا، ولم يبق في الأمَّة من يقول بقولهم، كما قرَّر هذا جمعٌ من العلماء، كالقرطبيِّ والنوويِّ وابن حجرٍ والسفَّارينيِّ

(2)

.

المقالة الثانية: الإقرار بعلم الله السابق، وكتابته السابقة لأعمال العباد، وإنكار عموم مشيئته وخلقه لها، ويظنون أنه لا معنى لمشيئته إلا أمره، فما شاءه فقد أمر به وما لم يشأه لم يأمر به.

وهؤلاء هم الذين تبنَّى المعتزلة مذهبهم، وانتصروا له، وانتشر على أيديهم، فنُسِبوا إليهم؛ فقيل: المعتزلة القدريَّة

(3)

.

وأصحاب هذه المقالة على ضلالهم وانحرافهم هم دون الطائفة الأولى؛ ولهذا لم يكفِّرهم الأئمَّة بمقالتهم، بل بدَّعوهم وضلَّلوهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وأما هؤلاء؛ فهم مبتدعون ضالُّون، لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك؛ وفي هؤلاء خلقٌ كثيرٌ من العلماء والعبَّاد كتب عنهم العلم»

(4)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (7/ 385) وشفاء العليل (2/ 528 - 529).

(2)

انظر: شرح النووي على مسلم (1/ 154)، وفتح الباري (1/ 119)، ولوامع الأنوار (2/ 78).

(3)

انظر: مقالات الإسلاميين (ص: 228)، الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار للعمراني (1/ 69)، ومجموع الفتاوى (7/ 385)(8/ 450).

(4)

مجموع الفتاوى (7/ 385).

ص: 25

‌ثانيا: مقالة الجبريَّة:

وهي القول بجبر العبد على فعله، ودعوى أن الفاعل الحقيقيَّ هو الله، وإنما يُضاف الفعل للعبد مجازًا، وأصحابها يسمَّون (بالقدريَّة المثبتة).

وأوَّل من أظهر القول بالجبر: الجهم بن صفوان، وكان الجهم جمع بين ضلالتين، وهما: تعطيل صفات الله تعالى، والقول بالجبر، أي: دعوى أن العبد مجبور على فعله.

قال الشهرستانيُّ -في سياق ذكره لمقالات الجهم-: «منها قوله: لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه؛ لأن ذلك يقتضي تشبيهًا، فنفى كونه حيًّا عالمًا، وأثبت كونه قادرًا، فاعلًا، خالقًا؛ لأنه لا يوصف شيءٌ من خلقه بالقدرة، والفعل، والخلق»

(1)

.

وقال البغداديُّ: «الجهميَّة: أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال وأنكر الاستطاعات كلَّها

وقال: لا فعل ولا عمل لأحدٍ غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز

، وزعم أيضًا أن علم الله تعالى حادثٌ، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيءٌ أو حيٌّ أو عالمٌ أو مريدٌ، وقال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيءٍ وموجودٍ وحيٍّ وعالمٍ ومريدٍ ونحو ذلك، ووصفه بأنه قادرٌ وموجِدٌ وفاعلٌ وخالقٌ ومحيٍ ومميتٌ؛ لأن هذه الأوصاف مختصَّةٌ به وحده»

(2)

.

وبهذا يتبيَّن التلازم بين بدعتي التعطيل والقول بالجبر عند الجهم، وأن قوله بالجبر إنما كان لازمًا لقوله بالتعطيل، فإنه أراد أن ينزِّه الله عن مشابهة

(1)

الملل والنحل (1/ 86).

(2)

الفرق بين الفرق (ص: 199).

ص: 26

الخلق، فما أثبته للخلق كالحياة والعلم نفاه عن الله، وما أثبته لله من القدرة والفعل نفاه عن العبد، وبهذا كان الجهم رأسًا في مقالتي: تعطيل الله عن صفاته، والقول بجبر العبد على فعله.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -في سياق نقله اتِّفاق السلف على إثبات الصفات لله تعالى، وعلى أن العبد فاعلٌ حقيقةً-: «وأوَّل من ظهر عنه إنكار ذلك هو الجهم بن صفوان وأتباعه، فحُكِي عنهم أنهم قالوا: إن العبد مجبورٌ، وأنه

لا فعل له أصلًا، وليس بقادرٍ أصلًا، وكان الجهم غاليًا في تعطيل الصفات، فكان ينفي أن يسمَّى الله تعالى باسمٍ يُسمَّى به العبد، فلا يُسمَّى شيئًا ولا حيًّا ولا عالمًا ولا سميعًا ولا بصيرًا»

(1)

.

ويذكر المحقِّقون من أهل العلم أن الجهم أخذ هذه المقالات من الجعد ابن درهمٍ، وأن منتهاها يرجع إلى لبيد بن الأعصم اليهوديِّ.

قال الإمام البخاريُّ: «قال قتيبة: بلغني أن جهمًا كان يأخذ الكلام من الجعد ابن درهم»

(2)

.

وقال الإمام أحمد: «وأخذه جهمٌ من الجعد بن درهم، وأخذه الجعد من أبان بن سمعان، وأخذه أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذه طالوت من لبيد بن الأعصم اليهوديِّ الذي سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «فإن أوَّل من حُفِظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام: الجعد بن درهمٍ، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها، فنُسِبت

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 460).

(2)

خلق أفعال العباد (ص: 29).

(3)

العلل ومعرفة الرجال (1/ 68).

ص: 27

مقالة الجهميَّة إليه.

وقيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهوديِّ الذي سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

فتبيَّن بهذا أن منشأ هذه البدعة في الإسلام يرجع إلى لبيد بن الأعصم اليهوديِّ الساحر الذي سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان لبيدٌ يقول بخلق التوراة.

ثم أخذها عنه ابن أخته طالوت، وهو أوَّل من صنَّف في ذلك، وكان زنديقًا، فأفشى الزندقة

(2)

.

ثم أخذها عنه أبان بن سمعان، وهو الذي أثَّر في الجعد بن درهمٍ.

فتلقَّف الجعد هذه المقالة منه، وهو أوَّل من أحدث مقالة التعطيل في الأمَّة، فزعم بأن الله ما اتَّخذ إبراهيم خليلًا، ولا كلَّم موسى، وأن ذلك لا يجوز على الله. وللجعد أخبارٌ كثيرةٌ في الزندقة

(3)

. وأصل الجعد من خراسان، ويُقال: إنه من موالي بني مروان

(4)

، ثم أقام بدمشق، وذلك في أيَّام هشام بن عبد الملك، فطلبه هشامٌ، ثم هرب فسكن الكوفة، فلقيه بها الجهم بن صفوان، فتقلَّد هذا القول عنه، فكتب هشامٌ إلى نائبه خالد بن عبد الله القسريِّ أن يقتله، ثم قتله خالد بن عبد الله القسريُّ يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك أن خالدًا خطب الناس، فقال في خطبته تلك: «أيُّها الناس، ضحُّوا تقبَّل الله

(1)

مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1/ 58).

(2)

الكامل في التاريخ (6/ 149).

(3)

انظر: لسان الميزان (2/ 437).

(4)

البداية والنهاية (9/ 350).

ص: 28

ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهمٍ، إنه زعم أن الله لم يتَّخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلِّم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا». ثم نزل فذبحه في أصل المنبر بيده

(1)

.

ثم تبنَّى مذهبه الجهم، فأظهره وأشهره وناظر في نصرته حتى عُرِف به ونُسِب إليه، إلى أن قتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها في سنة 128 هـ، ولكن بعد أن فشت مقالته

(2)

.

ثم انتشرت مقالة الجبر في الناس عن طريق الجهميَّة، فتأثر بها بعض مثبتة القدر في الجملة الذين كانوا يردُّون على المعتزلة مقالتهم في نفي القدر، ومنهم الأشعريَّة الذين وافقوا الجهميَّة في أصل مقالتهم في الجبر، وإن خالفوهم في بعض تفاصيلها، كما سيأتي.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «فإن الأشعريَّة وبعض المثبتين للقدر وافقوا الجهم بن صفوان في أصل قوله في الجبر، وإن نازعوه في بعض ذلك نزاعًا لفظيًّا؛ أتوا بما لا يُعقَل»

(3)

.

فنتج عن هذا -وبعد تبنِّي الأشعريَّة مقالة الجبر- أن انقسم الجبريَّة إلى قسمين:

القسم الأوَّل: (جبريَّةٌ غاليةٌ -ويُقال: خالصةٌ-، وهم الجهميَّة ومن وافقهم)؛ ينفون عن العبد الفعل والقدرة والكسب، فيزعمون أنه ليس للعبد فعلٌ ولا قدرةٌ، وإنما الفاعل القادر هو الله، وليس للعبد كسبٌ يستحقُّ عليه ثوابًا أو عقابًا،

(1)

البداية والنهاية (9/ 350).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (10/ 67) البداية والنهاية (9/ 350).

(3)

منهاج السنة (1/ 463)، وانظر: مجموع الفتاوى (13/ 228).

ص: 29

وإنما النعيم والعذاب هما محض فعل الربِّ، ينعم على من يشاء وإن كان عاصيًا، ويعذِّب من يشاء وإن كان مطيعًا

(1)

.

القسم الثاني: (جبريَّة متوسِّطةٌ، وهم الأشعريَّة)، ينفون عن العبد الفعل، ويثبتون له قدرةً غير مؤثِّرةٍ، وكسبًا، ويقولون: إن الفاعل حقيقةً هو الله، والعبد ليس بفاعلٍ، وإنما هو كاسبٌ، وإضافة الفعل للعبد مجازٌ لا على الحقيقة

(2)

.

(1)

انظر: الملل والنحل (1/ 85)، النبوات (1/ 462)، ومنهاج السنة (1/ 126)، والعواصم والقواصم (7/ 6)، ولوامع الأنوار (1/ 353).

(2)

انظر: الملل والنحل (1/ 85)، والتعريفات للجرجاني (ص: 74)، الصفدية (1/ 152)، ولوامع الأنوار (1/ 353).

ص: 30

‌الفصل الأوَّل

في بيان معتقد أهل السنة ومخالفيهم

في أصول الاعتقاد في القدر

ويشتمل على ستَّة مباحث:

المبحث الأوَّل: معتقد أهل السنة في الإيمان بالقضاء والقدر.

المبحث الثاني: معتقد الطوائف المخالفة في القدر والرد عليهم.

المبحث الثالث: معتقد أهل السنة في مراتب القدر وبيان أدلتها.

المبحث الرابع: معتقد أهل السنة في أفعال العباد الاختياريَّة، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الخامس: معتقد أهل السنة في الهداية

والإضلال، وأقوال المخالفين فيهما، والرد عليهم.

المبحث السادس: معتقد أهل السنة في الإرادتين، وأقوال المخالفين فيهما، والرد عليهم.

ص: 31

‌المبحث الأوَّل

معتقد أهل السنة في الإيمان بالقضاء والقدر إجمالًا

يعتقد أهل السنة وجوب الإيمان بالقدر، وأن الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان، وأنه لا يتحقَّق الإسلام والإيمان إلا بالإيمان بالقدر خيره وشرِّه، على ما دلَّت على ذلك الأدلَّة.

وقد نقل العلماء المصنِّفون في الاعتقاد معتقد أهل السنة في القدر، ونقلوا إجماعهم على الإيمان بالقدر وما يتعلَّق به من مسائل، كما نقلوا أقوال السلف في ذلك وتشديدهم على من كذَّب بالقدر أو خالف فيه.

وفيما يلي بيانٌ لذلك:

‌أوَّلًا: أقوال الأئمَّة في وصف معتقد أهل السنة في القدر:

قال الإمام أحمد: «أجمع سبعون رجلًا من التابعين وأئمَّة المسلمين وفُقهاءِ الأمصار على أنَّ السنة التي تُوفِّي عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

أوَّلها: الرِّضى بقَضاءِ الله والتسليمُ لأمره، والصبرُ تَحت حكمه، والأخذُ بما أمر الله به، والنَّهي عما نهى عنه؛ وإخلاصُ العمل لله، والإيمانُ بالقدر خَيره وشره»

(1)

.

وقال ابن قتيبة رحمه الله: «وعَدْل القول في القدر: أن تعلم أن الله عَدْلٌ لا يجور، كيف خلق، وكيف قدَّر، وكيف أعطى، وكيف منع، وأنه لا يخرج من قدرته شيءٌ، ولا يكون في ملكوته من السموات والأرض إلا ما أراد، وأنه لا دَيْن لأحدٍ عليه، ولا حقَّ لأحدٍ قبله، فإن أعطى فبفضلٍ، وإن منع فبعدلٍ، وأن

(1)

مناقب الإمام أحمد (ص: 240).

ص: 33

العباد يستطيعون ويعملون ويُجزَون بما يكسبون، وأن لله لطيفةً يبتدئ بها من أراد، ويتفضَّل بها على من أحبَّ، ويوقعها في القلوب فيعود بها إلى طاعته، ويمنعها من حقَّت عليه كلمته، فهذه جملة ما ينتهي إليه علم ابن آدم من قدر الله عز وجل، وما سوى ذلك مخزونٌ عنه»

(1)

.

وقال ابن أبي زيدٍ القيروانيُّ رحمه الله في وصف عقيدة أهل السنة: «والإيمان بالقدر خيره وشرِّه، حلوه ومرِّه، وكلُّ ذلك قد قدَّره الله ربُّنا، ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه.

علم كلَّ شيءٍ قبل كونه، فجرى على قدره، لا يكون من عباده قولٌ ولا عملٌ إلا وقد قضاه وسبق علمه به، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

يضلُّ من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفِّقه بفضله، فكلٌّ ميسَّر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره، من شقيٍّ أو سعيدٍ.

تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحدٍ عنه غنىً، أو يكون خالقٌ لشيءٍ إلا هو، ربُّ العباد وربُّ أعمالهم، والمقدِّر لحركاتهم وآجالهم، الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجَّة عليهم»

(2)

.

وقال أبو عثمان الصابونيُّ رحمه الله: «ومن قول أهل السنة والجماعة في أكساب العباد: أنها مخلوقةٌ لله تعالى، لا يمترون فيه، ولا يعدُّون من أهل الهدى ودين الحقِّ من ينكر هذا القول وينفيه، ويشهدون أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء لا حجَّة لمن أضلَّه الله عليه ولا عذر له لديه

ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخير والشرَّ والنفع والضرَّ بقضاء الله وقدره، لا مردَّ

(1)

الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية لابن قتيبة (ص: 35 - 36).

(2)

مقدمة أبي زيد القيرواني (ص: 6 - 7).

ص: 34

لهما، ولا محيص ولا محيد عنهما، ولا يصيب المرء إلا ما كتبه له ربُّه

ومن مذهب أهل السنة وطريقتهم -مع قولهم بأن الخير والشرَّ من الله وبقضائه-: أن لا يُضاف إلى الله ما يتوهَّم منه نقصٌ على الانفراد؛ فلا يُقال: يا خالق القردة والخنازير والخنافس والجعلان، وإن كان لا مخلوق إلا والربُّ خالقه

ومن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل مريدٌ لجميع أعمال العباد، خيرها وشرِّها، لم يؤمن أحدٌ إلا بمشيئته، ولم يكفر أحدٌ إلا بمشيئته، ولو شاء لجعل الناس أمَّةً واحدةً، ولو شاء ألا يُعصى ما خلق إبليس، فكُفْر الكافرين، وإيمان المؤمنين؛ بقضائه سبحانه وتعالى وقدره وإرادته ومشيئته، أراد كلَّ ذلك وشاءه وقضاه، ويرضى الإيمان والطاعة، ويسخط الكفر والمعصية»

(1)

.

وقال الحافظ عبد الغنيِّ المقدسيُّ رحمه الله: «وأجمع أئمَّة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشرِّه حلوه ومُرِّه قليله وكثيره، بقضاء الله وقدره، لا يكون شيءٌ إلا بإرادته، ولا يجري خيرٌ وشرٌّ إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلًا، وخلق من أراد للشقاء واستعمله به عدلًا، فهو سرٌّ استأثر به، وعلمٌ حجبه عن خلقه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «أصل هذه المسألة أَنْ يعلم الإنسان أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسانٍ.

وهو أن الله خالق كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد.

(1)

عقيدة السلف أصحاب الحديث (31 - 29).

(2)

عقيدة الحافظ تقي الدين عبد الغني المقدسي (ص: 77).

ص: 35

وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيءٌ إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيءٌ شاءه؛ بل هو قادرٌ على كلِّ شيءٍ، ولا يشاء شيئًا إلا وهو قادرٌ عليه.

وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في هذا أفعال العباد وغيرها.

وقد قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم: قدَّر آجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادةٍ وشقاوةٍ.

فهم يؤمنون بخلقه لكلِّ شيءٍ، وقدرته على كلِّ شيءٍ، ومشيئته لكلِّ ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها وكتابته إيَّاها قبل أن تكون»

(1)

.

وذكر في موطنٍ آخر أنَّ: «السلف والأئمَّة كما أنهم متَّفقون على الإيمان بالقدر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كلِّ شيءٍ من أفعال العباد وغيرها، وهم متَّفقون على إثبات أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وأنه لا حجَّة لأحدٍ في ترك مأمورٍ ولا فعل محظورٍ؛ فهم أيضًا متَّفقون على أن الله حكيمٌ رحيمٌ، وأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين»

(2)

.

وقال ابن أبي العزِّ الحنفيُّ: «والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كلَّ شيءٍ بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبُّه، فيشاؤه كونًا، ولا يرضاه دينًا»

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 449، 450).

(2)

المصدر نفسه (8/ 466).

(3)

شرح الطحاوية (ص: 225).

ص: 36

‌ثانيًا: أقوال السلف والأئمة في الإيمان بالقدر، والتحذير من المخالفين فيه، وتشديدهم في ذلك:

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «جاء رجلٌ إلى أبي بكرٍ، فقال: أرأيت الزنا، بقدرٍ؟ قال: نعم، قال: فإن الله قدَّره عليَّ ثم يعذِّبني؟ قال: نعم يا ابن الخنا، أما والله لو كان عندي إنسانٌ أمرت أن يجأ أنفك»

(1)

.

وعن أبي عثمان النهديِّ قال: سمعت عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وهو يطوف بالبيت، يقول:«اللهمَّ إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني على الشقوة فامحني منها، وأثبتني في السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أمُّ الكتاب»

(2)

.

وبلغ عمر رضي الله عنه فقيل له: إن ناسًا يتكلَّمون في القدر، فقام خطيبًا فقال: «يا أيُّها الناس، إنما هلك من كان قبلكم في القدر، والذي نفس عمر بيده،

لا أسمع برجلين تكلَّما فيه إلا ضربت أعناقهما، قال: فأحجم الناس، فما تكلَّم فيه أحدٌ حتى ظهرت نابغة الشام»

(3)

.

وعن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنه ذُكِر عنده القدر يومًا، فأدخل أصبعيه السبَّابة والوسطى في فيه، فرقم بهما في باطن يده، فقال:«أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أمِّ الكتاب»

(4)

.

وعن عليِّ رضي الله عنه قال: «إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى

(1)

أخرجه اللالكائي (4/ 734).

(2)

أخرجه اللالكائي (4/ 735)، البيهقي في القضاء والقدر (ص: 216).

(3)

أخرجه ابن بطة (4/ 310)، واللالكائي (4/ 736).

(4)

أخرجه اللالكائي (4/ 737) و البيهقي في القضاء والقدر (ص: 300).

ص: 37

يستقرَّ يقينًا غير ظنٍّ أنه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويقرَّ بالقدر كلِّه»

(1)

.

وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: «أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمَّدٍ، وشرُّ الأمور محدثاتها، فاتَّبعوا ولا تبتدعوا؛ فإن الشقيَّ من شقي في بطن أمِّه، والسعيد من وُعِظ بغيره»

(2)

.

وكان رضي الله عنه يدخل إصبعه في فيه، ويقول:«لا والله، لا يطعم رجلٌ طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر، ويقرَّ ويعلم أنه ميِّتٌ مُخْرَجٌ، وأنه مبعوثٌ من بعد الموت»

(3)

.

وعن طاوسٍ رحمه الله قال: «أشهد أني سمعت ابن عبَّاسٍ يقول: العجز والكيس بقدرٍ»

(4)

.

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «القدر نظام التوحيد، فمن وحَّد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضًا للتوحيد، ومن وحَّد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها»

(5)

.

وعن يحيى بن يعمر قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إنا نسافر فنلقى قومًا يقولون: لا قدر، قال:«إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريءٌ، وهم منه براءٌ، ثلاث مرَّاتٍ»

(6)

.

(1)

أخرجه اللالكائي (4/ 738)، و البيهقي في القضاء والقدر (ص: 299).

(2)

أخرجه ابن بطة (4/ 36)، واللالكائي (4/ 738).

(3)

أخرجه ابن بطة (4/ 57)، واللالكائي (4/ 739).

(4)

أخرجه الفريابي (ص: 190)، واللالكائي (4/ 741).

(5)

تقدم تخريجه ص (6).

(6)

أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 420)، واللالكائي (4/ 744).

ص: 38

وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال له ابنه عبد الرحمن: أوصني، قال: أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: يا بُنَيَّ اتَّق الله، ولن تتَّقي الله حتى تؤمن بالقدر، ولن تؤمن بالقدر حتى تؤمن بالقدر خيره وشرِّه، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«القدر على هذا، من مات على غير هذا أدخله الله النار»

(1)

.

وعن الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما قال: «قُضِي القضاء، وجفَّ القلم، وأمورٌ بقضاءٍ في كتابٍ قد خلا»

(2)

.

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: «انتهى عجبي إلى ثلاثٍ: المرء يفرُّ من القدر وهو لاقيه، ويرى في أعين أخيه القذا فيعيبها، ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها، ويكون في دابَّته الصعر ويقوِّمها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها»

(3)

.

وعن أبي الحجَّاج الأزديِّ رحمه الله قال: سألت سلمان، ما الإيمان بالقدر؟ فقال:«أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك»

(4)

.

(1)

أخرجه الفريابي (ص: 78)، والآجري (2/ 792)، واللالكائي (4/ 745)، والبيهقي في القضاء والقدر (ص: 306).

(2)

أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 405)، والفريابي (ص: 88)، وابن بطة (4/ 230)، واللالكائي (4/ 746).

(3)

أخرجه اللالكائي (4/ 747).

(4)

أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 421)، واللالكائي (4/ 749)، والبيهقي في القضاء والقدر (ص: 305).

ص: 39

وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: «ما طنَّ ذبابٌ بين اثنين إلا بكتابٍ مقدَّرٍ»

(1)

.

وعن الحسن البصريِّ رحمه الله أنه قال في مرضه الذي مات فيه: «إن الله قدَّر أجلًا، وقدَّر معه مرضًا، وقدَّر معه معافاةً، فمن كذَّب بالقدر فقد كذَّب بالقرآن، ومن كذَّب بالقرآن فقد كذَّب بالحقِّ»

(2)

.

وعن عليِّ بن حسينٍ رحمه الله أنه قال: «إن أصحاب القدر حملوا مقدرة الله عز وجل على ضعف رأيهم، فقالوا لله: لم؟ ولا ينبغي أن يقال لله: لم؟»

(3)

.

وقال جعفرٌ الصادق رحمه الله: «الله عز وجل لا يُعصى قهرًا ولا يُطاع قهرًا، فإذا أراد الطاعة كانت، وإذا أراد المعصية كانت، فإن عذَّب فبحقٍّ، وإن عفا فبالفضل»

(4)

.

وقال غيلان لربيعة بن أبي عبد الرحمن رحمه الله: «يا ربيعة، أنت الذي تزعم أن الله يحبُّ أن يُعصى؟ فقال له ربيعة: ويلك يا غيلان، أنت الذي تزعم أن الله يُعصى قسرا؟»

(5)

.

وعن الأوزاعيِّ رحمه الله أنه قال: «القدريَّة خصماء الله عز وجل في الأرض»

(6)

.

وقال مالك بن أنسٍ رحمه الله: «ما أضلَّ من يكذِّب القدر! لو لم تكن عليهم

(1)

أخرجه اللالكائي (4/ 753).

(2)

أخرجه اللالكائي (4/ 755).

(3)

أخرجه اللالكائي (4/ 758).

(4)

أخرجه اللالكائي (4/ 759).

(5)

أخرجه ابن بطة (4/ 260)، واللالكائي (4/ 760).

(6)

أخرجه ابن بطة (4/ 255).

ص: 40

حجَّةٌ إلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، لكفى به حجَّةً»

(1)

.

وأقوال السلف في إثبات القدر كثيرةٌ مستفيضةٌ في كتب الاعتقاد والسنة، وهي في كثرتها وتنوُّع ألفاظها ودلالاتها تدلُّ على رسوخ الإيمان بالقدر في نفوس السلف رضي الله عنهم.

(1)

أخرجه ابن بطة (4/ 256).

ص: 41

‌المبحث الثاني

معتقد الطوائف المخالفة في القدر، والرد عليهم

أهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرقٍ: مجوسيَّة، ومشركيَّة، وإبليسيَّة. كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

فالمجوسيَّة؛ هم: الذين كذَّبوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه؛ فغلاتهم أنكروا العلم والكتابة، ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته. وهؤلاء هم المُعتَزِلة، ومَنْ وافقهم، وهؤلاء يجعلون لله شركاء في خلقه؛ فيقولون: خالق الخير غير خالق الشرِّ، ويقولون: إن الذنوب الواقعة ليست واقعةً بمشيئة الله تعالى.

والمشركيَّة؛ هم: الذين أقرُّوا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]؛ فَمَنِ احتجَّ على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء. وهذه مقالة الجبريَّة من الجهميَّة وغيرهم ممَّن يدَّعي الحقيقة من المتصوِّفة ومن وافقهم، وهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي مع الاعتراف بالربوبيَّة العامَّة لكلِّ مخلوقٍ.

وأما الإبليسيَّة؛ فهم: الذين أقرُّوا بالأمرين، لكن جعلوا هذا متناقضًا من الربِّ سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله، كما يُذكَر ذلك عن إبليس مقدَّمهم كما نقله أهل المقالات، ونُقِل عن أهل الكتاب. وهؤلاء كثيرٌ في أهل الأقوال والأفعال من سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة؛ كقول أبي العلاء المعرِّيِّ:

أَنَهيْتَ عَنْ قَتْلِ النُّفُوْس تَعمُّدًا

وَبَعَثْتَ أَنْتَ لِقَبْضِهَا مَلَكَيْنِ

وَزَعَمْتَ أَنَّ لَهَا مَعَادًا ثَانِيًا

مَا كَانَ أَغنَاهَا عَنِ الحَالَيْنِ

ص: 42

وقول بعض السفهاء الزنادقة: يخلق نجومًا ويخلق بينها أقمارًا، يقول: يا قوم، غضُّوا عنهم الأبصار، ترمي النسوان، وتزعق معشر الحُضَّار، أطفوا الحريق، وبيدك قد رميت النار. ونحو ذلك، مما يوجِب كفر صاحبه وقتله

(1)

.

الردُّ عليهم:

«الضلال في القدر حصل تارةً بالتكذيب بالقدر والخلق، وتارةً بالتكذيب بالشرع والوعيد، وتارةً بتظليم الربِّ.

وفي سورة (الشمس) ردٌّ على هذه الطوائف، فقوله تعالى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] إثباتٌ للقدر بقوله: {فَأَلْهَمَهَا} ، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه ليعلم أنها هي الفاجرة والمتَّقية، وإثباتٌ للتفريق بين الحسن والقبيح، والأمر والنهي بقوله:{فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} .

وقوله بعد ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] إثباتٌ لفعل العبد، والوعد والوعيد بفلاح مَنْ زكَّى نفسه، وخيبة مَنْ دَسَّاها.

وهذا صريحٌ في الردِّ على القدريَّة المجوسيَّة، وعلى الجبريَّة للشرع أو لفعل العبد، وهم المكذِّبون بالحقِّ.

وأما الْمُظَلِّمُون للخالق؛ فإنه قد دلَّ على عدله بقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]، والتسوية: التعديل؛ فبين أنه عادلٌ في تسوية النفس التي ألهمها فجورها وتقواها»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وقد تبيَّن أن القدريَّة الخائضين بالباطل إما أن يكونوا مكذِّبين لما أخبر به الربُّ من خلقه وأمره، وإما أن يكونوا مُظَلِّمِين

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 111)، و (8/ 256 - 260).

(2)

مجموع الفتاوى (16/ 243 - 244)، وانظر: شرح الطحاوية (ص: 644).

ص: 43

له في حكمه، وهو سبحانه الصادق العدل، كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]؛ فإن الكلام إما إنشاءٌ، وإما إخبارٌ؛ فالإخبار صدقٌ لا كذبٌ، والإنشاء أمر التكوين وأمر التشريع عدلٌ لا ظلمٌ، والقدريَّة المجوسيَّة كذَّبوا بما أخبر به عن خلقه وشرعه من أمر الدِّين، والإبليسيَّة جعلوه ظالمًا في مجموعهما أو في كلِّ منهما

(1)

.

كما أن في دعاء الكرب -وهو قول النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنِّي عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصِيَتِي بيدك، ماضٍ فِيَّ حكمك، عدلٌ فِيَّ قضاؤك

»

(2)

- ردًّا على الطوائف المخالفة في القدر.

فقوله: «ماضٍ فِيَّ حكمُك» ؛ ردٌّ على القدريَّة الذين ينكرون قدرته سبحانه على العبد؛ فليس عندهم لله حكمٌ نافذٌ في عبده غير الحكم الشرعيِّ بالأمر والنهي، ففي هذه اللفظة ردٌّ عليهم، وبيان أن حكم الله في العباد نافذٌ، وهذا الحكم هو الكونِيُّ القدريُّ، ولا يمكن حمله على الحكم الشرعيِّ؛ فإن العبد يطيع الله تارةً ويعصيه تارةً.

وفي قوله: «عدلٌ فِيَّ قضاؤك» ؛ ردٌّ على الجبريَّة الذين نسبوا الله إلى الظلم بدعوى الجبر على المعصية ثم العقوبة عليها.

فاللفظ الأوَّل: توحيدٌ، واللفظ الثاني: عدلٌ

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (16/ 244 - 245).

(2)

أخرجه أحمد (6/ 246)(3712)، وصحّحه الألبانِي في صحيح الكلم الطّيّب (ص: 74)، قال رحمه الله:«حديثٌ صحيحٌ، وقد كنتُ ذكرتُ خلاف هذا في تعليقي على أحاديث شرح العقيدة الطّحاوية، ثم بدا لِيَ أنّه صحيحٌ في مقالٍ طويلٍ، وبحثٍ دقيقٍ أعددتُهُ لينشر -إن شاء الله تعالى- في سلسلة الأحاديث الصّحيحة» .

(3)

انظر: شفاء العليل (2/ 753).

ص: 44

‌المبحث الثالث

معتقد أهل السنة في مراتب القدر، وبيان أدلَّتها

للإيمان بالقدر أربع مراتب لا يتحقَّق الإيمان بالقدر إلا بها

(1)

وهي:

‌المرتبة الأولى: العلم.

«وهي الإيمان بعلم الله عز وجل المحيط بكلِّ شيءٍ من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات؛ فعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأنه علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميع حركاتهم وسكناتهم، وشقاوتهم وسعادتهم، ومَنْ هو منهم من أهل الجنَّة، ومَنْ هو منهم من أهل النار قبل أن يخلقهم، ومن قبل أن يخلق الجنَّة والنار، علم دِقَّ ذلك وجليله، وكثيره وقليله، وظاهره وباطنه، وسرَّه وعلانيته، ومبدأه ومنتهاه، كلُّ ذلك بعلمه الذي هو صفته ومقتضى اسمه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة علَّام الغيوب»

(2)

.

الأدلَّة على ذلك:

أوَّلًا: من الكتاب:

[1]

قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22].

[2]

قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

(1)

انظر: شفاء العليل (1/ 133).

(2)

معارج القبول (3/ 920).

ص: 45

[3]

قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].

[4]

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].

قال مجاهدٌ: «علم من إبليس المعصية وخلقه لها»

(1)

.

وقال قتادة: «كان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسلٌ وقومٌ صالحون وساكنو الجنة»

(2)

.

ثانيًا: من السنَّة:

[1]

حديث عمران بن حُصينٍ رضي الله عنه، قال: قال رجلٌ: يا رسول الله! أيُعرَف أهل الجنَّة من أهل النار؟ قال: «نعم» . قال: فَلِمَ يعمل العاملون؟ قال: «كلٌّ يعمل لِمَا خُلِقَ له، أو: لِمَا ييسَّر له»

(3)

.

[2]

حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال:«الله أعلم بما كانوا عاملين»

(4)

.

[3]

حديث عليٍّ رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ جالسًا، وفي

(1)

أخرجه الطبري في التفسير (1/ 250)، واللالكائي (2/ 546)، وإسناده صحيحٌ. انظر: التفسير الصحيح للدكتور حكمت بشير (1/ 135).

(2)

أخرجه الطّبري في التّفسير (1/ 250)، وإسناده حسن. انظر: التّفسير الصّحيح للدّكتور حكمت بشير (1/ 136).

(3)

أخرجه البخاري (6596)، ومسلم (2649).

(4)

أخرجه البخاري (6597)، ومسلم (2660).

ص: 46

يده عودٌ ينكت به، فرفع رأسه، فقال:«ما منكم من نفسٍ إلا وقد عُلِمَ مَنْزلها من الجنَّة والنار» ، قالوا: يا رسول الله! أفلا نتَّكل؟ قال: «لا، اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِق له» ، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}

(1)

.

‌المرتبة الثانية: الكتابة.

«وهي الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فما يحدث شيءٌ في الكون إلا وقد علمه وكتبه قبل حدوثه»

(2)

.

الأدلة على هذه المرتبة:

أوَّلًا: الأدلة من الكتاب:

[1]

قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].

قال ابن القيِّم: «فالزبور هنا جميع الكتب المُنَزَّلة من السماء، لا تختص بزبور داود، والذكر: أمُّ الكتاب الذي عنده، والأرض: الدنيا، وعباده الصالحون: أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. هذا أصحُّ الأقوال في هذه الآية»

(3)

.

[2]

قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].

قال ابن القيِّم: «فجمع بين الكتابَيْن: الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم،

(1)

أخرجه البخاري (6605)، ومسلم (2647) واللفظ له.

(2)

شرح الواسطية للشيخ صالح الفوزان (ص: 126).

(3)

شفاء العليل (1/ 161).

ص: 47

والكتاب المقارِن لأعمالهم»

(1)

.

وقال: «والمقصود: أن قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} -وهو اللوح المحفوظ، وهو أمُّ الكتاب، وهو الذكر الذي كُتِب فيه كلُّ شيءٍ- يتضمَّن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها»

(2)

.

[3]

قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].

قال ابن كثيرٍ: «يخبر عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيطٌ بما في السموات وما في الأرض

وأنه تعالى علم الكائنات قبل وجودها، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ»

(3)

.

ثانيًا: الأدلَّة من السنَّة:

[1]

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنةً» قال: «وعرشه على الماء»

(4)

.

[2]

حديث عمران بن حُصينٍ رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وفيه:«كان الله ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق الله السموات والأرض، وكتب في الذكر كلَّ شيءٍ»

(5)

.

(1)

شفاء العليل (1/ 162).

(2)

المصدر نفسه (1/ 163).

(3)

تفسير ابن كثير (5/ 452).

(4)

أخرجه مسلم (2653).

(5)

أخرجه البخاري (7418).

ص: 48

ويدخل في الإيمان بكتابة المقادير خمسة تقادير

(1)

:

الأوَّل: التقدير الذي كان عند خلق الله للقلم، وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنةٍ.

ودليل هذا التقدير قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، كما دلَّ عليه الحديثان السابقان: حديث عمران بن حُصينٍ، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.

الثاني: التقدير حين أخذ الله الْميثاق على بَنِي آدم، ودلَّ عليه قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].

الثالث: التقدير العمريُّ عند تخليق النطفة؛ فيُكتَب ذكورتها وأنوثتها، وأجلها وعملها، وشقاوتها وسعادتها.

وقد دلَّ عليه حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحدكم يُجمَع خلقه في بطن أمِّه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيُؤمر بأربع كلماتٍ، ويُقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقيٌّ أو سعيدٌ

»

(2)

.

الرابع: التقدير الحوليُّ في ليلة القدر، يُقدَّر فيها كلُّ ما يكون في السنة.

ودليله قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3 - 4].

(1)

انظر: التّفصيل في هذه الأنواع في: شفاء العليل (1/ 55 - 115)، ومعارج القبول (3/ 928 - 937).

(2)

أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643).

ص: 49

الخامس: التقدير اليوميُّ، وهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قُدِّرت لها فيما سبق.

ودليله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].

وهذا التقدير اليوميُّ تفصيلٌ من التقدير الحوليِّ، والحوليُّ تفصيلٌ من التقدير العمريِّ لكلِّ إنسانٍ، والعمريُّ تفصيلٌ من التقدير العمريِّ الأوَّل عند أخذ الميثاق، وهذا التقدير تفصيلٌ من التقدير الأزليِّ الذي في اللوح المحفوظ

(1)

.

‌المرتبة الثالثة: المشيئة.

«وهي الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركةٍ ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه؛ لا يكون في ملكه ما لا يريد»

(2)

.

الأدلَّة على هذه المرتبة:

أوَّلًا: الأدلَّة من الكتاب:

[1]

قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

[2]

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99].

[3]

قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

[4]

قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29].

[5]

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].

(1)

انظر: معارج القبول (3/ 939).

(2)

العقيدة الواسطية (ص: 107).

ص: 50

[6]

قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].

ثانيًا: الأدلَّة من السنَّة:

[1]

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقل أحدكم: اللهمَّ اغفر لِي إِنْ شئتَ، ارحمنِي إِنْ شِئتَ، ارزقنِي إن شئت، وليعزم مسألته؛ إنه يفعل ما يشاء، لا مُكرِه له»

(1)

.

[2]

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن قلوب بَنِي آدم بين إصبعَين من أصابع الرحمن، كقلبٍ واحدٍ يصرِّفه حيث يشاء» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهمَّ مصرِّفَ القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك»

(2)

.

‌المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد.

«وهي الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خالق كلِّ شيء؛ فهو خالق كلِّ عاملٍ وعمله، وكلِّ متحرِّكٍ وحركته، وكلِّ ساكنٍ وسكونه، وما من ذرَّةٍ في السموات والأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها»

(3)

.

الأدلة على هذه المرتبة:

أوَّلًا: الأدلَّة من الكتاب:

[1]

قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

[2]

قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].

(1)

أخرجه البخاري (7477)، ومسلم (2679).

(2)

أخرجه مسلم (2654).

(3)

معارج القبول (3/ 940).

ص: 51

[3]

قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102].

ثانيًا: الأدلَّة من السنَّة:

[1]

حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول خَلْفَ الصلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهمَّ لا مانع لِمَا أعطيتَ ولا معطي لِمَا منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ»

(1)

.

وقد أخرج هذا الحديث البخاريُّ في (كتاب القدر) من الصحيح، وقال ابن بطَّالٍ في شرحه:«المراد بهذا الحديث إثبات خلق الله تعالى جميع أعمال العباد»

(2)

.

[2]

حديث حُذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خالق كل صانعٍ وصنعته»

(3)

.

والأدلَّة على هذه المرتبة من الكتاب والسنَّة كثيرةٌ جدًّا، يَعِزُّ حصرها، والعقول والفطر السليمة شاهدةٌ بهذا قاطعةٌ به.

قال الإمام ابن القيِّم في سياق تقرير هذه المرتبة: «وهذا أمرٌ متَّفقٌ عليه بين الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-، وعليه اتَّفقت الكتب الإلهيَّة ودلت عليه أدلة العقول والفطر والاعتبار»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (6615).

(2)

شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 321).

(3)

أخرجه البزار (7/ 258) ح (2837)، والحاكم (1/ 85) ح (86)، وقال:«صحيحٌ على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبِي. وقال الألبانِي في السّلسلة الصّحيحة برقم:(1637): «وهو كما قالا» .

(4)

شفاء العليل (1/ 193).

ص: 52

‌المبحث الرابع

معتقد أهل السنة في أفعال العباد الاختياريَّة، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم

أفعال العباد قسمان:

- أفعالٌ اضطراريَّةٌ؛ كحركة المرتعش، والعروق النابضة.

- وأفعالٌ اختياريَّةٌ؛ مثل أعمال البرِّ من صلاةٍ، وصدقةٍ وصومٍ، ومثل المعاصي بأنواعها.

وقد اختلف الناس في القسم الثاني على أربعة أقوالٍ:

‌القول الأول: قول أهل السنَّة:

يقولون: إنَّ العباد فاعلون حقيقةً، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر، والبرُّ والفاجر، والمصلِّي والصائم، وللعباد قدرةٌ على أعمالهم، ولهم إرادةٌ، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم؛ كما قال الله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]

(1)

.

وقد يشكل على البعض؛ كيف يُقال: إن أفعال العباد هي من أفعالهم على الحقيقة، والله خالقها على الحقيقة؟

وهذا لا يشكل على مَنْ عرف حقيقة قول أهل السنَّة، وقد بين ذلك بوضوحٍ العلماء المحقِّقون، فجزاهم الله عن الإسلام وأهله أعظم الجزاء.

قال الإمام البخاريُّ: «قال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقةٌ، لقوله تعالى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}

(1)

العقيدة الواسطية (ص: 108).

ص: 53

[الملك: 13 - 14]، يعنِي: السرَّ والجهر من القول، ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق»

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وأما مَنْ قال: خلق الربِّ تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته؛ قال: إن أفعال العباد مخلوقةٌ كسائر المخلوقات، ومفعولةٌ للرب كسائر المفعولات، ولم يقل: إنها نفس فعل الربِّ وخلقه، بل قال: إنها نفس فعل العبد، وعلى هذا تزول الشبهة؛ فإنه يُقال: الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتَّصف بها مَنْ كانت فعلًا له كما يفعلها العبد وتقوم به، ولا يتَّصف بها مَنْ كانت مخلوقةً له إذا كان قد جعلها صفةً لغيره؛ كما أنه سبحانه لا يتَّصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك»

(2)

.

وقال رحمه الله: «وأما جمهور الخلق من أهل السنَّة وغيرهم؛ فيقولون: إن الخلق غير المخلوق، وفعل الله القائم به ليس هو مفعوله المنفصل عنه، ويقولون: أفعال العباد مخلوقةٌ لله مفعولةٌ له، لا أنها نفس خلقه ونفس فعله، وهي نفس فعل العبد، فهي فعل العبد حقيقةً لا مجازًا»

(3)

.

وقال الإمام ابن القيِّم: «ويؤمنون بأن مَنْ يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأنه هو الذي يجعل المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا، والمصلِّي مصلِّيًا، والمتحرِّك متحرِّكًا

وهم متَّفقون على أن الفعل غير المفعول

، فحركاتهم واعتقادهم أفعالٌ لهم حقيقةً، وهي مفعولةٌ لله سبحانه مخلوقةٌ له

(1)

خلق أفعال العباد (ص: 114).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 123).

(3)

الصفدية (1/ 153). وانظر: منهاج السّنة (1/ 459 - 460) و (2/ 298).

ص: 54

حقيقةً، والذي قام بالربِّ عز وجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه، والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم؛ فهم المسلمون المصلُّون القائمون القاعدون حقيقةً، وهو سبحانه المُقْدِر لهم على ذلك»

(1)

.

وبهذا يتبيَّن أن أفعال العباد مخلوقةٌ لله تعالى باعتبار علم الله بها وكتابتها ومشيئتها وخلقه لها في العبد، وهي من فعل العبد باعتبار قيامه بها ومباشرته إيَّاها بما خلق الله فيه من قدرة وإرادة.

ولهذا فرَّق الأئمَّة بين الفعل والمفعول؛ فالفعل فعل العبد، وهو مخلوقٌ مفعولٌ للرب، وتصديق هذا من كلام الله قوله عزَّ من قائلٍ:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]؛ فأخبر أنه خالقٌ لأعمال العباد، ولم يخبر أنه فاعلٌ لها، بل أخبر أنهم هم الفاعلون العاملون.

‌القول الثاني: قول القدريَّة، وبه قالت المعتزلة.

قالوا: إن العبد قادرٌ على فعل نفسه، وله فيه المشيئة الكاملة، والقدرة التامَّة، وأن مشيئته وقدرته مستقلَّةٌ عن إرادة الله وقدرته، وأن العباد خالقون لأعمالهم وأفعالهم، وأنها ليست مخلوقةً لله

(2)

.

قال القاضي عبد الجبَّار -وهو من أئمَّة القدريَّة-: «اتَّفق كلُّ أهل العدل على أن أفعال العباد مِنْ تصرُّفهم وقيامهم وقعودهم حادثةٌ من جهتهم، وأن الله جل جلاله أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن مَنْ قال: إن الله سبحانه خالقها ومحدثها؛ فقد عظم خطؤه»

(3)

.

(1)

شفاء العليل (1/ 201).

(2)

انظر: مقالات الإسلاميّين (1/ 298)، وشفاء العليل (1/ 193)، وشرح الطّحاوية (ص: 639، 640).

(3)

المغنِي في أبواب العدل والتّوحيد (8/ 3).

ص: 55

وقال ابن المرتضى: «وأجمعوا -أي: المعتزلة- أن فعل العبد غير مخلوقٍ فيه»

(1)

.

أدلَّتهم:

استدلَّ القدريَّة لقولهم ببعض الأدلَّة، زعموا دلالتها على معتقدهم، منها:

[1]

قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، قالوا: أثبت الله خالقِين متعدِّدين؛ فدلَّ على أن العبد خالقٌ لفعل نفسه، والله أحسن الخالقين.

[2]

قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 14، والواقعة: 24]، وقال تعالى:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]. قالوا: رتَّب الجزاء على العمل؛ فدلَّ على أن العبد قادرٌ على فعله، ولهذا جُوزي به، ولو لم يكن قادرًا عليه لما جُوزي به.

الردُّ عليهم:

[1]

أما استدلالهم بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]؛ فمعنَى الآية: أحسن المصوِّرين المقدِّرين.

والخلق يُذكَر ويُراد به: التقدير، وهو المراد هنا، بدليل قوله تعالى:{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، أي: خالق كلِّ شيءٍ مخلوقٍ؛ فدخلت أفعال العباد في عموم (كل).

والمعنَى الثانِي للخلق: الإيجاد والإبداع

(2)

.

قال الأزهريُّ: «الخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثالٍ لم يُسبَق إليه.

وقال أبو بكرٍ الأنباريُّ: الخلق في كلام العرب على ضربين:

(1)

المنية والأمل (ص: 6).

(2)

انظر: شرح الطحاوية (ص: 641، 643).

ص: 56

أحدهما: الإنشاء على مثالٍ أبدعه.

والآخر: التقدير.

وقال في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]. معناه: أحسن المقدِّرين، وكذلك قوله:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17]، أي: تقدِّرون كذبًا.

قال الأزهريُّ: العرب تقول: خلقت الأديم؛ إذا قدَّرته وقِسْتَه لتقطع منه مَزَادةً أو قِرْبةً أو خُفًّا.

وقال زُهيرٌ:

ولأنت تفْري ما خلقتَ وبع

ض القوم يَخْلُق ثم لا يفري

يمدح رجلًا، فيقول له: أنتَ إذا قَدَّرْتَ أمرًا قطعته وأمضيته، وغيرك يقدِّر ما لا يقطعه»

(1)

.

[2]

أما استدلالهم بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 14، والواقعة: 24]، وترتُّب الجزاء على العمل؛ فجوابه:

أن الباء في الآية هي باء (السبب)، أي: بسبب أعمالكم، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسبَّبات؛ فرجع الأمر كلُّه إلى فضل الله ورحمته. وهذا على قولٍ لأهل العلم في تفسير الآية.

وعلى قولٍ آخر: أن دخول الجنَّة برحمة الله، ولكن اقتسام المنازل بحسب الأعمال؛ قال ابن عُيينة:«كانوا يرون النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة بفضله، واقتسام المنازل بالأعمال»

(2)

.

[2]

دلالة الأدلَّة على أن أفعال العباد مخلوقةٌ منها:

(1)

تهذيب اللّغة (1/ 1093).

(2)

انظر: حادي الأرواح (ص: 72 - 73)، والمحجّة في سير الدّلجة لابن رجب (ص: 27).

ص: 57

(أ) قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]؛ فأخبر الله أنه خلق الخلق وأعمالهم.

قال البغوي رحمه الله: «{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} بأيديكم من الأصنام، وفيه دليلٌ على أن أفعال العباد مخلوقةٌ لله تعالى»

(1)

.

وقال ابن كثيرٍ رحمه الله: «يحتمل أن تكون «ما» مصدريَّةً، فيكون تقدير الكلام: والله خلقكم وعملكم. ويحتمل أن تكون بمعنى «الذي» ، تقديره: والله خلقكم والذي تعملونه. وكلا القولين متلازمٌ، والأوَّل أظهر»

(2)

.

(ب) قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16، والزمر: 62]؛ فدخلت أعمال العباد في عموم (كل).

وما أفسد قول المعتزلة في إدخالهم (كلام الله) الذي هو صفته في عموم (كل) في الآية! فزعموا أنه مخلوقٌ، وأخرجوا (أعمال العباد) من عموم (كل) مع كونها مخلوقةً

(3)

.

(ج) قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]؛ فأخبر أنه هو الذي جعل السرابيل، وهي الدروع والثياب المصنوعة، ومادَّتها لا تُسمَّى سرابيل إلا بعد أن تحيلها صنعة الآدميِّين وعملهم؛ فإذا كانت مجعولةً لله فهي مخلوقةٌ له بجملتها: صورتها ومادَّتها وهيئتها

(4)

.

(د) حديث حُذيفة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خالق كلِّ صانعٍ

(1)

تفسير البغوي (7/ 45).

(2)

تفسير ابن كثير (7/ 26).

(3)

انظر: شرح الطحاوية (ص: 643).

(4)

انظر: شفاء العليل (1/ 206).

ص: 58

وصنعتَه»، وفي بعض الروايات:«إن الله يصنع كلَّ صانعٍ وصنعتَه»

(1)

؛ فدلَّ الحديث على أن الله تعالى خالقٌ للأعمال مع الذوات.

قال البخاريُّ عقبه: «فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقةٌ»

(2)

.

‌القول الثالث: قول الجبريَّة، وبه قالت الجهميَّة.

قالوا: إن العبد لا قدرة له على عمله، ولا إرادة ولا اختيار له فيه، وأن العباد مجبورون على أفعالهم، وحركاتُهم فيها كحركة الأشجار عند مهبِّ الريح، وكحركة المرتعش، وكنبض العروق، وأنهم مجبورون على الطاعة والمعصية، وإنما تُنسَب أفعالهم إليهم على سبيل المجاز، وهو على حسب ما يُضاف الشيء إلى محلِّه، دون ما يُضاف إلى محصِّله، بِمَنْزلة قول القائل: مات، وكبِر، وسال الوادي، وطلعت الشمس

(3)

.

أدلَّتهم:

استدلَّ الجبريَّة لقولهم ببعض الأدلَّة، زعموا دلالتها على قولهم، منها:

[1]

قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، قالوا: نفى الله عن نبيِّه الرمي، وأثبته لنفسه؛ فدلَّ على أنه لا صنع للعبد.

[2]

قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يَدْخلُ أحدٌ منكم الجنةَ بعَمَلِهِ» ، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله منه برحمةٍ وفضلٍ»

(4)

.

(1)

تقدّم تخريجه (ص: 58).

(2)

خلق أفعال العباد (ص: 24).

(3)

انظر: الفرق بين الفرق (ص: 211)، وشفاء العليل (1/ 198)، وشرح الطحاوية (ص: 639).

(4)

أخرجه بهذا اللّفظ: أحمد (12/ 449) ح (7479)، وأخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816).

ص: 59

قالوا: دلَّ الحديث على أن الجزاء غير مترتِّبٍ على الأعمال؛ فدلَّ على أن العبد لا عمل له

(1)

.

الردُّ عليهم:

أما استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]؛ فهذه الآية حجَّةٌ عليهم، ويظهر هذا ببيان مناسبة نزولها ومعناها.

أورد ابن كثيرٍ في تفسيره عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه -يعنِي: يوم بدرٍ- فقال: «يا ربِّ، إِنْ تهلك هذه العصابةُ فلن تُعبد في الأرض أبدًا» ، فقال له جبريل:«خذ قبضةً من التراب فارم بها في وجوههم» ، فأخذ قبضةً من التراب فرمى بها في وجوههم؛ فما من المشركين أحدٌ إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه ترابٌ من تلك القبضة، فولَّوا مدبرين».

وعن محمَّد بن كعبٍ القرظِيِّ قال: «لما دنا القوم بعضهم من بعضٍ؛ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من ترابٍ، فرمى بها في وجوه القوم، وقال: «شاهت الوجوه» ، فدخلت في أعينهم كلِّهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم

»

(2)

.

والله تعالى أثبت لرسوله رميًا بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} ؛ فعُلِم أن المثبَت غير المنفيِّ، وذلك أن الرمي له ابتداءٌ وانتهاءٌ، فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكلٌّ منهما يُسَمَّى رميًا.

فالمعنَى حينئذٍ -والله تعالى أعلم-: وما أصبتَ إذ حذفتَ، ولكن الله أصاب، وإلا فطرد قولهم: وما صلَّيتَ إذ صلَّيتَ ولكن الله صلَّى، أو ما صمتَ

(1)

انظر: شرح الطحاوية (ص: 641).

(2)

تفسير ابن كثير (4/ 31).

ص: 60

إذ صمتَ، وما أكلتَ إذ أكلتَ، وما شربتَ إذ شربتَ.

ومعلوم أن الإصابة لجيش كاملٍ بكفٍّ من ترابٍ؛ أن هذا فوق قدرة البشر، وإن كان أصل الرمي من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

فبطل زعم الجبريَّة، ودلَّت الآية على مذهب أهل السنَّة

(1)

.

وأما استدلالهم بالحديث: «لا يدخل أحدٌ منكم الجنَّةَ بعَمَلِهِ» ، وأن الجزاء لا يترتَّب على العمل؛ فلا حجَّة لهم فيه؛ فالباء في الحديث (باء العوض)، والحديث دلَّ على نفي أن يكون العمل ثمنًا لدخول الجنَّة.

قال شارح الطحاويَّة: «وأما ترتُّب الجزاء على الأعمال؛ فقد ضلَّت فيه الجبريَّة والقدريَّة، وهدى الله له أهل السنَّة، وله الحمد والمنة؛ فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات؛ فالمنفيُّ في قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل الجنَّة أحدٌ بعمله» (باء العوض)، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل يستحقُّ دخول الجنَّة على ربِّه بعمله، بل ذلك برحمة الله وفضله.

والباء في قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، ونحوها (باء السبب)، أي: بسبب عملكم، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسبَّبات، فرجع الكلُّ إلى محض فضل الله ورحمته»

(2)

.

[3]

الأدلَّة الدالَّة على أن العباد فاعلون على الحقيقة، وأن لهم مشيئةً واختيارًا على أفعالهم بعد مشيئة الله تعالى:

(أ) قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ

(1)

انظر: مدارج السّالكين (3/ 426)، وشرح الطحاوية (ص: 642).

(2)

شرح الطحاوية (ص: 643).

ص: 61

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]؛ فأسند الله عمل الخير والشرِّ إلى العبد؛ فدلَّ على أنه مِنْ كسبه، وأنه سبحانه سيجازيه به.

(ب) قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، فقد أثبت الله تعالى للعبد فعلًا وكسبًا، والكسب هو الذي يعود على فاعله منه نفعٌ أو ضررٌ

(1)

.

(ج) قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]، فقد أنكر الله تعالى على المشركين احتجاجهم بالقدر على شركهم، وتحريم ما حرَّموا، وقال:{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ أي: بهذه الشبهة ضلَّ مَنْ ضل، ووصفهم بأنهم متَّبعون للظنِّ، وأن لله عليهم الحجَّة البالغة؛ فدلَّ على أن هذه الأعمال من الشرك وتحريم ما حرَّموا من أعمالهم ليس لهم أن يحتجُّوا عليها بالقدر

(2)

.

‌القول الرابع: قول الأشاعرة ومَن وافقهم.

قالوا: إن أفعال العباد مخلوقةٌ لله -جل وعلا-، وهي مع كونها خلق الله فهي كسبٌ للعبد، وله عليها قدرةٌ غير مؤثرةٍ.

وقول الأشاعرة هنا متناقضٌ غير معقولٍ؛ فإن القدرة إذا لم يكن لها تأثيرٌ أصلًا في الفعل كان وجودها كعدمها، ولم تكن قدرةً، وفي الحقيقة إنه لا يُعقَل

(1)

انظر: شرح الطحاوية (ص: 652).

(2)

انظر: تفسير ابن كثير (3/ 358).

ص: 62

فرقٌ بين الفعل الذي نفوه، والكسب الذي أثبتوه

(1)

.

ولذا سخر منهم خصومُهم المعتزلةُ وسائرُ العقلاءِ، فقالوا:«ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طفرة النظَّام، وأحوال أبي هاشمٍ، وكسب الأشعريِّ»

(2)

.

وحقيقة هذا القول يعود إلى قول الجهميَّة الجبريَّة، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة:«ولا يقول -أي: الأشعريُّ- إن العبد فاعلٌ في الحقيقة، بل كاسبٌ، ولم يذكروا بين الكسب والفعل فرقًا معقولًا، بل حقيقة قولهم قول جهمٍ: إن العبد لا قدرة له ولا فعل ولا كسب»

(3)

.

ولهذا عدَّهم بعض العلماء من أصناف الجبريَّة، كما ذهب إلى ذلك الجرجانيُّ في قوله:«الجبريَّة اثنتان: متوسِّطةٌ تثبت للعبد كسبًا؛ كالأشعريَّة، وخالصةٌ لا تثبته؛ كالجهميَّة»

(4)

.

(1)

انظر: النّبوات (1/ 461، 581)، ومجموع الفتاوى (8/ 128، 467).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 128)، وكسب الأشعري قد تقدّم، وملخّصه: دعواه أنّ العبد ليس هو الفاعل، ولا له قدرة مؤثِّرة في الفعل، ولكن يقول هو كاسبٌ. انظر: النّبوات (1/ 581).

وأحوال أبي هاشمٍ: المراد بها: الصّفات المعنويَّة التي انفرد بها أبو هاشمٍ الجُبَّائيُّ المتوفى سنة (321 هـ)، دون سائر المعتزلة، مع نفيه صفات المعانِي؛ فيقول:«لم يزل الله عالمًا قادرًا» ، وكان إذا قيل له: لم يزل عالمًا بالأشياء؟ قال: «لا أقول لم يزل عالمًا بالأشياء» . ويقول: «هو عالمٌ بذاته، ويعلم الصّفة على الذّات لا بانفرادها» . انظر: مقالات الإسلاميّين (1/ 238)، والملل والنّحل (1/ 69)، وأضواء على طريق الدّعوة للشّيخ محمّد أمان الجامِي (ص: 174، 175).

وطفرة النّظام: هي زعمه أنّه يجوز أن يكون الجسم الواحد في مكانٍ، ثم يصير إلى المكان الثّالث ولم يمرّ بالثّانِي على جهة الطفرة. انظر: مقالات الإسلاميّين (2/ 19).

(3)

كتاب النّبوات (1/ 461، 462).

(4)

التعريفات (ص: 106).

ص: 63

‌المبحث الخامس معتقد أهل السنة في الهداية والإضلال وأقوال المخالفين فيهما، والرد عليهم

‌أولًا: معتقد أهل السنة في الهداية والإضلال:

يعتقد أهل السنة أن الهداية والإضلال من الله تعالى، يهدي مَنْ يشاء برحمته، ويضلُّ مَنْ يشاء بعدله. وأنه مَنْ يهده فلا مُضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه

(1)

.

وقد دلَّت على هذا الأدلة من الكتاب والسنة:

[1]

قال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39].

[2]

وقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8].

[3]

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31].

[4]

وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13].

[5]

وفي الحديث القدسيِّ من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه: «يا عبادي، إني حرمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم مُحرَّمًا، يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا مَنْ هديتُهُ، فاستهدونِي أهْدِكُمْ

»

(2)

.

[6]

وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم إنِّي أسألك الهدى والتُّقَى والعفاف والغِنَى»

(3)

.

(1)

انظر: شفاء العليل (1/ 229).

(2)

أخرجه مسلم (2577).

(3)

أخرجه مسلم (2721).

ص: 64

وبذلك جاءت الآثار عن السلف وأقوال الأئمَّة من بعدهم:

أخرج الفريابِيُّ في (كتاب القدر) بسندٍ صحيحٍ عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه كان يقول في خطبته: «إن الله هو الهادي والفاتن»

(1)

.

وفي السنَّة للخلَّال عن أبي بكرٍ المرُّوذيِّ رحمه الله قال: «قلتُ لأبِي عبد الله: يقول الرجل: إن الله جبر العباد؟ فقال: هكذا لا تقُل، وأنكر، وقال: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]»

(2)

.

وقال الطحاويُّ رحمه الله: «يهدي مَنْ يشاء ويعصم ويعافي فضلًا، ويضلُّ مَنْ يشاء ويخذل ويبتلي عدلًا»

(3)

.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «وقد اتَّفقت رسل الله مِنْ أوَّلهم إلى آخرهم وكتبه المُنَزَّلة عليهم على أنه سبحانه يضلُّ مَنْ يشاء ويهدي مَنْ يشاء، وأنه مَنْ يهده فلا مُضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده سبحانه لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه»

(4)

.

ومما ينبغي أن يُعلَم ويُعتقَد:

أن هداية الله تعالى للخلق وإضلاله لبعضهم بحكمة الله وعدله لا ظلم في ذلك.

وقد ينقدح في أذهان بعض أهل الجهل أن في عدم هداية الله لبعض الخلق

(1)

أخرجه الفريابي في القدر (ص: 189)، وقال محقِّقه: إسناد صحيحٌ.

(2)

السّنة (1/ 550) برقم: (920)، وقال المحقِّق: إسناد صحيح.

(3)

العقيدة الطّحاوية مع شرحها (ص: 137).

(4)

شفاء العليل (1/ 229).

ص: 65

ظلمًا؛ إذ كيف يمنعهم الهداية ويعاقبهم يوم القيامة؟

وقد أجاب عن هذا الاستشكال الأئمَّة المحقِّقون -جزاهم الله عن الإسلام وأهله أعظم الجزاء-.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «إن ما يُبتلى به العبد من الذنوب الوجودية -وإن كانت خلقًا لله- فهو عقوبةٌ له على عدم فعله ما خلقه الله له وفطره عليه؛ فإن الله إنما خلقه لعبادته وحده لا شريك له، ودلَّه على الفطرة، كما قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة»

(1)

، وقال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، فهو لما لم يفعل ما خُلِق له، وما فُطِر عليه، وما أُمِر به -من معرفة الله وحده وعبادته وحده- عُوقِب على ذلك بأن زيَّن له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي.

فإذا أخلص العبد لربِّه كان هذا مانعًا من فعل ضدِّ ذلك، ومن إيقاع الشيطان له في ضدِّ ذلك، وإن لم يخلص لربه الدِّين ولم يفعل ما خُلِق له وفُطِر عليه عُوقِب على ذلك، وكان من عقابه تسلُّط الشيطان عليه حتى يزيِّن له فعل السيِّئات، وكان إلهامه لفجوره عقوبةً له على كونه لم يتَّق الله، وعدم فعله للحسنات ليس أمرًا وجوديًّا حتى يُقال: إن الله خلقه، بل هو أمرٌ عدمِيٌّ، لكن يُعاقَب عليه؛ لكونه عدم ما خُلِق له وما أُمِر به، وهذا يتضمَّن العقوبة على أمرٍ عدمِيٍّ، لكن بفعل السيِّئات لا بالعقوبات التي يستحقُّها بعد إقامة الحجَّة عليه بالنار ونحوها»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658).

(2)

مجموع الفتاوى (14/ 331 - 333).

ص: 66

وقال ابن القيِّم رحمه الله: «قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]؛ فهداهم هدى البيان والدلالة؛ فلم يهتدوا؛ فأضلَّهم عقوبةً لهم على ترك الاهتداء أوَّلًا بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهموه، وهذا شأنه سبحانه في كلِّ مَنْ أنعم عليه بنعمةٍ فكفرها؛ فإنه يسلبه إيَّاها بعد أن كانت نصيبه وحظه»

(1)

.

وقال رحمه الله: «والله سبحانه ماضٍ في العبد حكمه، عدلٌ في عبده قضاؤه، فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته ومحبَّته وذكره وشكره فأبى العبد الا إعراضًا وكفرًا؛ قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره وصدَّه عن الإيمان به، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى، وذلك عدلٌ منه فيه»

(2)

.

فظهر بهذا أن الهداية فضلٌ من الله، والإضلال عدلٌ، ولهذا شرع الله لنا سؤاله هذه الهداية.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «وأمر سبحانه عباده كلَّهم أن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم كلَّ يومٍ وليلةٍ في الصلوات الخمس»

(3)

.

كما أن مِنْ الوجوه التي تُرَدُّ بها الشبهة السابقة: أن هداية الله لمن شاء من خلقه مِنْ باب التوفيق، وإضلاله لمن شاء من باب الخذلان، والتوفيق إعانة الله للعبد، والخذلان ترك الإعانة، فلا يُتصوَّر مع هذا الظلم.

قال ابن القيِّم رحمه الله: «وقد أجمع العارفون بالله على أن الخذلان: أن يكلك

(1)

شفاء العليل (1/ 264).

(2)

المصدر نفسه (1/ 279).

(3)

المصدر نفسه (1/ 268).

ص: 67

الله إلى نفسك ويخلِّي بينك وبينها، والتوفيق: ألاَّ يكلك الله إلى نفسك»

(1)

.

‌مراتب الهداية:

للهداية أربع مراتب دلت عليها الأدلة:

‌المرتبة الأولى: الهداية العامَّة،

وهي هداية كلِّ نفسٍ إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذه أعمُّ مراتبها، وقد دلَّ عليها قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3]؛ فذكر سبحانه أربعة أمورٍ عامَّة: الخلق، والتسوية، والتقدير، والهداية، وجعل التسوية من تمام الخلق، والهداية من تمام التقدير.

قال عطاءٌ رحمه الله: خلق فسوَّى، أحسن ما خلقه. وشاهده قوله تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]؛ فإحسان خلقه يتضمَّن تسويته وتناسب خلقه وأجزائه بحيث لم يحصل بينها تفاوتٌ يُخِلُّ بالتناسب والاعتدال؛ فالخلق: الإيجاد، والتسوية: إتقانه وإحسان خلقه.

ومن الأدلَّة أيضًا على هذه المرتبة: قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]؛ فإعطاء الخلق إيجاده في الخارج، والهداية التعليم، والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه.

ومن هذه الهداية: هداية الذَّكَر للأنْثى كيف يأتيها. وبهذا فسَّر ابن عبَّاسٍ والكلبيُّ الآية.

ومن ذلك هداية الجنين للخروج من الرحم عند الولادة، وهدايته لالتقام الثدي بعد الولادة، وهدايته لمعرفته أمَّه دون غيرها، إلى غير ذلك من هداية

(1)

مدارج السّالكين (1/ 180)، وانظر: شفاء العليل (1/ 310).

ص: 68

المخلوقات إلى مصالحها

(1)

.

‌المرتبة الثانية: هداية الإرشاد والبيان للمُكَلَّفين،

وهذه المرتبة أخصُّ من المرتبة الأولى، وأعمُّ من الثالثة، وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتِّباع الحقِّ، وإن كانت شرطًا فيه، أو جزءَ سببٍ، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبَّب، بل قد يتخلَّف عنه المقتضَى إما لعدم كمال السبب أو لوجود مانعٍ.

وهذه الهداية هي التي أثبتها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

وهذه المرتبة هي حجَّة الله على خلقه التي لا يعذِّب أحدًا إلا بعد إقامتها عليه، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]

(2)

.

‌المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل،

وهذه المرتبة أخصُّ من التي قبلها، وهي التي ضلَّ جهَّال القدريَّة بإنكارها، وصاح عليهم سلف الأمَّة وأهل السنَّة منهم من نواحي الأرض عصرًا بعد عصرٍ إلى وقتنا هذا.

وهذه المرتبة نفاها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].

وهذه المرتبة تستلزم أمرين:

أحدهما: فعل الربِّ تعالى، وهو الهدى.

والثاني: فعل العبد، وهو الاهتداء، وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي. قال تعالى:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [لإسراء: 97]، ولا سبيل إلى

(1)

انظر: شفاء العليل (1/ 231).

(2)

انظر: المصدر نفسه (1/ 264).

ص: 69

وجود الأثر إلا بمؤثِّره التامِّ؛ فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد، ولهذا قال تعالى:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37].

وهذا صريحٌ في أن هذا الهدى ليس له صلى الله عليه وسلم، ولو حرص عليه، ولا إلى أحدٍ غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضلَّ عبدًا لم يكن لأحدٍ سبيلٌ إلى هدايته، كما قال تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]

(1)

.

‌المرتبة الرابعة: الهداية إلى الجنَّة والنار يوم القيامة،

قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23].

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4 - 5].

فهذه هدايةٌ بعد قتلهم؛ فقيل: المعنَى: سيهديهم إلى طريق الجنَّة، ويصلح بالهم في الآخرة بإرداء خصومهم وقبول أعمالهم

(2)

.

‌ثانيًا: المخالفون لأهل السنَّة في مسألة الهداية والإضلال:

وقد خالف في ذلك طائفتان:

‌الطائفة الأولى: (القدريَّة).

أثبتوا هداية الإرشاد فقط، وأنكروا هداية التوفيق، والإضلال. وقالوا: إن العبد يهتدي بنفسه، ويَضِلُّ بنفسه، والله لا يهدى أحدًا ولا يُضِلُّ أحدًا، بل قالوا: إن الله لا يقدر أن يهدي ضالًّا، ولا يُضِلَّ مهتديًا، ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلمًا والكافر كافرًا، وإنما ذلك بجعلهم أنفسهم كذلك.

(1)

انظر: شفاء العليل (1/ 266).

(2)

انظر: المصدر نفسه (1/ 276).

ص: 70

وتأوَّلوا الهداية المضافة لله في النصوص بهداية الإرشاد، أو تسميته المهتدي مهتديًا، وتأوَّلوا الإضلال بتسميته الضالَّ ضالًّا

(1)

.

قال البغداديُّ: «وهذا خلاف قول القدريَّة في دعواها أن الهداية من الله تعالى على معنى الإرشاد والدعاء إلى الحق، وليس إليه من هداية القلوب شيءٌ، وزعموا أن الإضلال منه على وجهين، أحدهما: التسمية، بأن يسمِّي الضلَّال ضلَّالًا. والثاني: على معنى جزاء أهل الضلال على ضلالتهم»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالًّا، كما قالوا: إنه لا يقدر أن يُضِلَّ مهتديًا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمرٍ واحدٍ، وخصَّ أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا»

(3)

.

وقال ابن القيِّم في سياق حديثه عن الهداية والإضلال: «وهذا أمرٌ متَّفقٌ عليه بين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وعليه اتَّفقت الكتب الإلهيَّة ودلت عليه أدلة الفطر والعقول والاعتبار، وخالف في ذلك مجوس الأمَّة؛ فأخرجت طاعات ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين -وهي أشرف ما في العالم- عن ربوبيَّته وتكوينه ومشيئته، بل جعلوهم هم الخالقون لها، ولا تعلُّق لها بمشيئته، ولا تدخل تحت قدرته، وكذلك قالوا في جميع أفعال الحيوانات الاختياريَّة.

فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالًّا ولا يُضِلَّ مهتديًا، ولا يقدر أن

(1)

انظر الفرق بين الفرق (ص: 330)، ومجموع الفتاوى (18/ 173)، الفتاوى الكبرى (1/ 77)، شفاء العليل (1/ 272).

(2)

الفرق بين الفرق (ص: 330).

(3)

الفتاوى الكبرى (1/ 77)، ومجموع الفتاوى (18/ 138).

ص: 71

يجعل المسلم مسلمًا والكافر كافرًا والمصلِّي مصلِّيًا، وإنما ذلك بجعلهم أنفسهم كذلك لا بجعله تعالى.

وقد نادى القرآن بل الكتب السماويَّة كلُّها والسنَّة وأدلَّة التوحيد والمعقول على بطلان قولهم، وصاح بهم أهل العلم والإيمان من أقطار الأرض، وصنَّف حزب الإسلام وعصابة الرسول وعسكره التصانيف في الردِّ عليهم، وهي أكثر من أن يحصيها إلا الله»

(1)

.

وقال ابن أبي العزِّ: «قالت المعتزلة: الهدى من الله: بيان طريق الصواب، والإضلال: تسمية العبد ضالًّا، أو حكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه، وهذا مبنِيٌّ على أصلهم الفاسد: أن أفعال العباد مخلوقةٌ لهم»

(2)

.

الرد عليهم:

وقولهم هذا باطلٌ، وهو متفرِّعٌ عن أصلهم الباطل في دعواهم أن أفعال العباد لا تدخل تحت تقدير الله ولا مشيئته و لا خلقه، وأن العبد مستقلٌّ بفعله وله قدرةٌ تامَّةٌ عليه. وبناء على هذا قرَّروا هنا أن العبد مستقلٌّ بهدايته وضلاله، والله لا يهدي ولا يضلٌّ أحدًا، بل لا قدرة له على ذلك. وقد تقدَّم الردُّ عليهم في ذلك في مبحث أفعال العباد بما أغنى عن إعادته هنا.

وأما تأويلهم الهداية والإضلال بما تقدم؛ فقد أجاب عن ذلك العلماء:

قال البغداديُّ بعد حكاية قولهم في تأولهم الهداية والإضلال -على ما تقدم نقله-: «ولو صحَّ ما قالوا؛ لوجب أن يُقال: إنه أضلَّ الكافرين؛ لأنه

(1)

شفاء العليل (1/ 193).

(2)

شرح الطحاوية (ص: 137).

ص: 72

سمَّاهم ضالِّين، ولوجب أن يُقال: إن إبليس أضلَّ الأنبياء والمؤمنين؛ لأنه سمَّاهم ضالِّين، ولزمهم أن يكون من أقام الحدود على الزناة والسارقين والمرتدِّين مضلًّا لهم؛ لأنه قد جازاهم على ضلالتهم، وهذا فاسدٌ، فما يؤدِّي إليه مثله»

(1)

.

وقال ابن القيِّم رحمه الله: «والقدريَّة تردُّ هذا كلَّه إلى المتشابه، وتجعله من متشابه القرآن، وتتأوَّله على غير تأويله، بل تتأوَّله بما يُقطَع ببطلانه وعدم إرادة المتكلِّم له، كقول بعضهم: المراد من ذلك تسمية الله العبدَ مهتديًا وضالًّا، فجعلوا هداه وإضلاله مجرَّد تسمية العبد بذلك، وهذا مما يُعلَم قطعًا أنه لا يصحُّ حمل هذه الآيات عليه، وأنت إذا تأمَّلتها وجدتها لا تحتمل ما ذكروه ألبتَّة.

وليس في لغة أمَّةٍ من الأمم فضلًا عن أفصح اللغات وأكملها (هداه) بمعنَى: سمَّاه مهتديًا، و (أضلَّه) سمَّاه ضالًّا، وهل يصحُّ أن يُقال:(علَّمه) إذا سمَّاه عالمًا، و (فهَّمه) إذا سمَّاه (فَهِمًا)؟!»

(2)

.

وقال رحمه الله: «وتأوَّل بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلق الهدى في القلب؛ فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة!!

وهذا التأويل من أبطل الباطل؛ فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته للعبد قسمين: قسمًا لا يقدر عليه غيره، وقسمًا مقدورًا للعباد؛ فقال في القسم المقدور للبشر:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال في غير

(1)

الفرق بين الفرق (ص: 330).

(2)

شفاء العليل (1/ 269 - 270).

ص: 73

المقدور للبشر: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]»

(1)

.

‌الطائفة الثانية: (الجبريَّة).

قالوا: إن الله أكره العباد وأجبرهم على أعمالهم، فليس لهم فعلٌ، ولا إرادةٌ، ولا اختيارٌ، ولا كسبٌ ألبتَّة، وحال بينهم وبين الهدى ابتداءً من غير ذنبٍ ولا سببٍ من العبد يقتضي ذلك، فلم يُيَسِّر إليه سبيلًا ولا أعطاه عليه قدرةً، ولا مكَّنه منه بوجهٍ. وزاد بعضهم: بل أحبَّ له الضلال والكفر والمعاصي ورضيه منه

(2)

.

الرد عليهم:

وقولهم هذا مركَّب من ضلالتين:

أُولاهما: (دعوى الجبر -أي: أن الله جبر العباد على أعمالهم-)، وقد تقدَّم الردُّ عليهم في ذلك في مبحث أفعال العباد بما ظهر به الحقُّ وبطلان دعواهم.

والثانية: دعواهم أن الله حال بينهم وبين الهداية، وهذا كذبٌ على الله وافتراءٌ عظيمٌ مخالفٌ لما دلَّت عليه النصوص، وقد تقدَّم في النصوص أن الله هدى كلَّ من خاطبهم بالشرع هداية الإرشاد بإرسال الرسل، فقامت عليهم بذلك الحجَّة الرساليَّة، وأما هداية التوفيق فهي فضلٌ من الله كما تقدم، والله يهدي من بذل الأسباب في تحصيلها، كما قال تعالى في الحديث القدسيِّ: «يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا مَنْ هديته، فاستهدونِي أهدكم

» الحديث

(3)

.

وقد هدى الله هذه الهداية من علم الله أنه أهلٌ لها وبذل الأسباب في تحقيقها. وأما من لم يبذل الأسباب في طلبها ويسع في تحقيقها؛ فقد يُعاقَب

(1)

المصدر نفسه (1/ 271).

(2)

انظر: شفاء العليل (1/ 277).

(3)

أخرجه مسلم (2577).

ص: 74

بحرمانها بعدل الله.

قال ابن القيِّم: «فإن قيل: كيف تقوم حجَّته عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه؟

قيل: حجَّته قائمةٌ عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانًا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرًا وباطنًا، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومَن حال بينه وبينها منهم بزوال عقلٍ أو صِغَرٍ لا تمييز معه أو كونه بناحيةٍ من الأرض لم تبلغه دعوة رسله؛ فإنه لا يعذِّبه حتى يقيم عليه حجَّته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه.

نعم، قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدورٌ لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه؛ فهذا غير مقدورٍ لهم، وهو الذي مُنِعوه وحِيل بينهم وبينه. فتأمَّل هذا الموضع واعرف قدره، والله المستعان»

(1)

.

(1)

شفاء العليل (1/ 265 - 266).

ص: 75

‌المبحث السادس معتقد أهل السنَّة في الإرادتين، وأقوال المخالفين فيهما والرد عليهم

‌أولا: معتقد أهل السنَّة في الإرادتين:

يعتقد أهل السنَّة أن الإرادة التي يتَّصف بها الله تبارك وتعالى تنقسم إلى قسمَين: «إرادة كونيَّة قدريَّة، وإرادة شرعيَّة دِينيَّة» .

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «طريقة أئمَّة الفقهاء وأهل الحديث وكثيرٍ من أهل النظر وغيرهم: أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادةٌ تتعلَّق بالأمر، وإرادة تتعلَّق بالخلق

فإرادة الأمر هي المتضمَّنة للمحبَّة والرضى، وهي الإرادة الدينيَّة، والثانية المتعلِّقة بالخلق هي المشيئة، وهي الإرادة الكونيَّة القدريَّة»

(1)

.

وقال الإمام ابن أبي العزِّ رحمه الله: «والمحقِّقون من أهل السنَّة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادةٌ كونيَّةٌ خلقيَّةٌ، وإرادةٌ دينيَّةٌ أمريَّةٌ شرعيَّةٌ»

(2)

.

وفيما يلي تعريفٌ بكلٍّ منهما:

أوَّلًا: الإرادة الكونيَّة القدريَّة: وهي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث، والمتعلِّقة بما قدَّره الله وقضاه. وهي مستلزمة لوقوع المراد، ويُقال فيها:

«ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن»

(3)

.

ومن الأدلة عليها:

(1)

منهاج السّنة (3/ 156)، وانظر: المصدر نفسه (3/ 180).

(2)

شرح الطحاوية (ص: 79).

(3)

انظر: منهاج السّنة (3/ 156، 157، 180)، ومجموع الفتاوى (8/ 82).

ص: 76

[1]

قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

[2]

قوله تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34].

[3]

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].

[4]

قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16].

وهذه الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبَّة، بل قد يكون بها ما يحبَّه الله ويرضاه، وقد يكون بها ما لا يحبُّه ولا يرضاه؛ كما خلق إبليس وهو لا يحبُّه، وخلق المؤمن وهو يحبُّه، وكذلك قد يخلق ما لا يأمر به كمعصية العاصي، أو ما أمر به كطاعة المؤمن، وقد يأمر بما لم يشأ أن يخلقه؛ كالطاعة في حق مَنْ لم يوفِّقه إليها، أو ما يشاء أن يخلقه؛ كطاعة مَنْ يوفقه للطاعة

(1)

.

ثانيًا: الإرادة الدينيَّة الشرعيَّة: وهي متعلِّقةٌ بالأمر الذي أراد الله من عبده فعله، وهي متضمِّنةٌ للمحبَّة والرضى، ولا تستلزم وقوع المراد إلا إذا تعلَّقت بالإرادة الكونيَّة

(2)

.

ومن الأدلَّة عليها:

[1]

قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

[2]

قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27 - 28].

(1)

انظر: منهاج السّنة (3/ 182 - 187)، وشفاء العليل (2/ 768)، وشرح الطّحاوية (ص: 82 - 83)، وكتاب القضاء والقدر للبيهقي (مقدّمة المحقِّق محمّد بن عبد الله آل عامر) (ص: 72).

(2)

انظر: منهاج السّنة (3/ 156)، ومجموع الفتاوى (8/ 188).

ص: 77

[3]

قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6].

وهذه الإرادة تستلزم الأمر.

قال ابن القيِّم: «والصواب: أن الأمر يستلزم الإرادة الدِّينيَّة ولا يستلزم الإرادة الكونيَّة؛ فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعًا ودينًا، وقد يأمر بما لا يريده كونًا وقدرًا؛ كإيمان مَنْ أمره ولم يوفِّقه للإيمان»

(1)

.

‌صُوَر اجتماع الإرادتين وافتراقهما:

هاتان الإرادتان قد تجتمعان وقد تفترقان، وقد توجد إحداهما دون الأخرى، ولذلك أربع صورٍ ذكرها شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله:

الصورة الأولى: ما تعلَّقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة؛ كإيمان أبي بكرٍ وسائر المؤمنين، وحصول الطاعات منهم.

الصورة الثانية: ما تعلَّقت به الإرادة الدِّينيَّة فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى ذلك الأمرَ الكفَّارُ والفجَّارُ؛ كإيمان أبي جهلٍ وسائر الكافرين، وما أراده الله من طاعتهم.

الصورة الثالثة: ما تعلَّقت به الإرادة الكونيَّة فقط، وهو ما قدَّره الله وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها؛ كالمباحات، والمعاصي الواقعة في الناس، ولولا إرادته لها كونًا لما وقعت.

الصورة الرابعة: ما لم تتعلَّق به الإرادتان، وهو ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي؛ فإن الله لم يأمر بها ولم يردها شرعًا، كما أنه لم يردها كونًا؛ فلم تقع،

(1)

شفاء العليل (2/ 768).

ص: 78

ومثالها: كفر المؤمن والمعاصي التي عصمه الله منها؛ فلم تقع منه

(1)

.

‌الفرق بين الإرادتين الشرعيَّة والكونيَّة:

[1]

ما أراده الله كونا لا بدَّ من وقوعه، وما أراده شرعًا لا يلزم وقوعه؛ فقد يقع وقد لا يقع، إلا أن تتعلَّق به الإرادة الكونيَّة.

[2]

ما أراده الله كونا قد يحبُّه الله ويرضاه، وقد لا يحبُّه ولا يرضاه، فالله أراد المعصية كونًا ولا يرضاها شرعًا، وما أراده الله شرعا لا بدَّ أن يحبَّه ويرضاه.

[3]

الإرادة الكونيَّة لا تستلزم الأمر إلا إذا اجتمعت مع الإرادة الشرعيَّة، والإرادة الشرعيَّة تستلزم الأمر؛ فكلُّ ما أراده الله شرعًا أمر به.

[4]

الإرادة الكونيَّة قد تكون مقصودةً لغيرها، كإرادة خلق إبليس وسائر الشرور؛ لتحصل بسبب ذلك المجاهدة والتوبة والاستغفار، وغير ذلك من المحابِّ، والإرادة الشرعيَّة مقصودةٌ لذاتها؛ فالله أراد الطاعة لنفسها ورضيها وأحبَّها

(2)

.

‌ثانيًا: أقوال المخالفين في تقسيم الإرادتين:

خالف في هذا التقسيمَ: طائفتان:

‌الطائفة الأولى: القدريَّة.

أثبتوا الإرادة الشرعية وأنكروا الإرادة الكونية، وزعموا أن كفر الكافر ومعصية العاصي لا تدخل تحت إرادة الله ولا تقديره.

وقالوا: إن الأمر يستلزم الإرادة، فكلُّ ما أمر به فقد أراده، وقالوا: علمنا

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 189).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 188 - 189)، ومنهاج السّنة (3/ 164 - 165، 180 - 181)، وشفاء العليل (2/ 768 - 769)، وشرح الواسطية للفوزان (ص: 38).

ص: 79

أن الله لم يأمر بالكفر والمعاصي فهو لم يردها

(1)

.

‌الطائفة الثانية: الجبريَّة.

أثبتوا الإرادة الكونية وأنكروا الإرادة الشرعية، وقالوا: إن الكفر والمعاصي مرادة لله تعالى ومحبوبة له وقد جبرهم عليها لا خيار لهم في تركها.

وقالوا: إن الأمر لا يستلزم الإرادة، ولهذا لم يأمر الله بالكفر وأراده

(2)

.

الرد على القدرية والجبرية وبيان شبهتهما:

شبهة الفريقين هي عدم التفريق بين الإرادتين الكونية والشرعية، وتسويتهم بينهما، وظنُّهم أن الإرادة والمشيئة مترادفتان، وأنهما مستلزمتان للمحبَّة والرضى.

فذهب القدريَّة إلى إنكار المشيئة والإرادة فيما يقع من الكفر والمعاصي؛ لأن الله لا يحبُّها ولا يرضاها.

وذهب الجبريَّة إلى أن الله يحبُّ الكفر والمعاصي؛ لأنه شاءها وقدَّرها.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «وجهمٌ ومَن وافقه من المعتزلة اشتركوا في أن مشيئة الله ومحبَّته ورضاه بمعنًى واحدٍ، ثم قالت المعتزلة: وهو لا يحبُّ الكفر والفسوق والعصيان فلا يشاؤه؛ فقالوا: إنه يكون بلا مشيئةٍ، وقالت الجهميَّة: بل هو يشاء ذلك، فهو يحبُّه ويرضاه»

(3)

.

فضَلَّ القدريَّة المعتزلة في دعواهم أنه يقع في ملك الله ما لا يريد ولا يشاء.

وضَلَّ الجبريَّة الجهميَّة في دعواهم أن الكفر والمعاصي محبوبةٌ لله مرضيَّةٌ.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 421)، (8/ 99 - 100)، ومنهاج السّنة (3/ 180 - 182)، وشفاء العليل (2/ 768 - 769).

(2)

انظر: المصادر السابقة.

(3)

مجموع الفتاوى (8/ 474، 475).

ص: 80

والقدريَّة مصيبون في أن الله لا يحبُّ الكفر والمعاصي، والجبريَّة مصيبون في أن الله قدَّرها وشاءها.

وهدى الله أهل السنَّة لإثبات الحقِّ الذي عند كلا الطائفتين، وردِّ الباطل الذي ضلَّت فيه الطائفتان.

وقد أفضى بالقدريَّة قولهم إلى إنكار القدر، كما أفضى بالجبريَّة قولهم إلى إنكار الشرع، ولهذا فضَّل العلماء القدريَّة في هذا الباب على الجبريَّة؛ لأن إنكار الشرع شرٌّ من إنكار القدر.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «فالمعتزلة ونحوهم من القدريَّة الذين أنكروا القدر هم في تعظيم الأمر والنهي، والوعد والوعيد خيرٌ من هؤلاء الجبريَّة القدريَّة الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهي»

(1)

.

(1)

التّدمرية (ص: 235).

ص: 81

‌الفصل الثاني

المسائل المتعلِّقة بأفعال الله في باب القدر، وتنزُّهه عن الشرِّ والظلم

ويشتمل على خمسة مباحث:

المبحث الأوَّل: معتقد أهل السنة في الحكمة في أفعال الله، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم

المبحث الثاني: معتقد أهل السنة في مسألة الصلاح والأصلح، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم

المبحث الثالث: معتقد أهل السنة في مسألة التكليف بما لا يُطاق، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم

المبحث الرابع: معتقد أهل السنة في تنزُّه الله عن الشرِّ، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم

المبحث الخامس: معتقد أهل السنة في تنزُّه الله عن الظلم، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم

ص: 83

‌المبحث الأوَّل معتقد أهل السنة في الحكمة في أفعال الله، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم

اختلف المسلمون في الحكمة والتعليل في أفعال الله بعد اتِّفاقهم على أن الله موصوفٌ بالحكمة، ويرجع هذا الاختلاف إلى اختلافهم في مفهوم الحكمة في أفعاله.

ومجمل أقوال الناس في ذلك ترجع إلى ثلاثة أقوالٍ:

‌القول الأول: (قول أهل السنَّة وجمهور المسلمين).

يقولون: إن الله تعالى يخلق لحكمةٍ، ويأمر لحكمةٍ، والحكمة صفة له قائمة به وهو حكيمٌ في خلقه، وأمره

(1)

.

لا يفعل شيئًا عبثًا ولا لغير معنىً ومصلحةٍ وحكمةٍ، بل أفعاله سبحانه صادرةٌ عن حكمةٍ بالغةٍ لأجلها فَعَلَ، كما هي ناشئةٌ عن أسبابٍ بها فَعَلَ

(2)

.

ويعتقد أهل السنة: أن الله يفعل لعلَّةٍ، ولام التعليل داخلةٌ في أفعال الله وأحكامه، خلافًا للأشاعرة

(3)

.

وأما لفظ (الغرض): فيطلقه بعض المنتسبين لأهل السنَّة، ويقولون: إنه يفعل لغرضٍ -أي: حكمةٍ-، وكثيرٌ من أهل السنَّة يقولون: يفعل لحكمةٍ، ولا يطلقون لفظ (الغرض). ذكرهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(4)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 377)، منهاج السنة (1/ 141).

(2)

انظر: شفاء العليل (2/ 537).

(3)

انظر: دقائق التفسير لابن تيمية (2/ 109)

(4)

انظر: منهاج السنة (3/ 14)، (2/ 314).

ص: 85

فهذا مجمل معتقد أهل السنَّة في مسألة الحكمة والتعليل ملخَّصًا من أقوال الأئمَّة.

ومن نصوصهم في ذلك:

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «وجمهور أهل السنَّة على إثبات الحكمة والتعليل في أفعاله وأحكامه»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وقال الجمهور من أهل السنَّة وغيرهم: بل هو حكيمٌ في خلقه وأمره، والحكمة ليست مطلق المشيئة؛ إذ لو كان كذلك لكان كلُّ مريدٍ حكيمًا

فأئمَّة الفقهاء متَّفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعيَّة»

(2)

.

وقال ابن القيِّم رحمه الله: «المذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان، وعليه سلف الأمَّة وأئمَّتها والفقهاء المعتبرون: من إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره، وإثبات لام التعليل وباء السببيَّة في القضاء والشرع، كما دلَّت عليه النصوص مع صريح العقل والفطرة، واتَّفق عليه الكتاب والميزان»

(3)

.

وقال رحمه الله: «قد دلت أدلة العقول الصحيحة والفطر السليمة على ما دل عليه القرآن والسنة أنه سبحانه حكيمٌ، لا يفعل شيئًا عبثًا ولا لغير معنىً ومصلحةٍ وحكمةٍ هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرةٌ عن حكمةٍ بالغةٍ لأجلها فَعَلَ، كما هي ناشئةٌ عن أسبابٍ بها فَعَلَ، وقد دلَّ كلامه وكلام رسوله

(1)

منهاج السنة (1/ 455).

(2)

منهاج السنة (1/ 141)، وانظر: مجموع الفتاوى (8/ 377).

(3)

إعلام الموقعين (1/ 253).

ص: 86

على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تُحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها»

(1)

.

‌القول الثاني: (قول الجهمية والأشاعرة، وطوائف من الفقهاء، وكثيرٍ من الظاهريَّة كابن حزمٍ وأمثاله).

قالوا: الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد، وإيقاعها على الوجه الذي أراده، وإن أطلقوا لفظها فلا يعنون به معناها، بل يطلقونها لأجل مجيئها في القرآن، ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة.

وقالوا: خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلَّةٍ ولا لداعٍ ولا باعثٍ، بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصِرْف الإرادة

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وكذلك الحكمة؛ أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوفٌ بالحكمة، لكن تنازعوا في تفسير ذلك.

فقالت طائفةٌ: الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد، وإيقاعها على الوجه الذي أراده، ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة

» إلى أن قال بعد ذكر الأقوال في المسألة: «وأصحاب القول الأوَّل كجهم بن صفوان وموافقيه، كالأشعريِّ ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالكٍ والشافعيِّ وأحمد وغيرهم؛ يقولون: ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله، بل ليس فيه إلا لام العاقبة»

(3)

.

وقال الإسفرايينيُّ: «إنه سبحانه وتعالى حكيمٌ في جميع أفعاله، وحقيقة الحكمة في أفعاله سبحانه وتعالى: وقوعها موافقةً لعلمه وإرادته، وهو الحكمة في أفعال الحكماء في الشاهد؛ لأن مَنْ فعل فعلًا لا يقع على موافقة إرادته؛ يُقال: إنه لم

(1)

شفاء العليل (2/ 537).

(2)

انظر: مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 115)، مجموع الفتاوى (8/ 37)(16/ 297)، لوامع الأنوار البهية (1/ 328).

(3)

منهاج السنة (1/ 141).

ص: 87

يرتِّبه على حكمةٍ منه فيه، فإذا حصل مراده فيه؛ يُقال: إنه حكيمٌ في فعله»

(1)

.

وقال ابن حزمٍ: «وأما الله تعالى فلا طاعة لأحدٍ عليه، فبطل أن تكون أفعاله جاريةً على أحكام العبيد المأمورين المربوبين المسؤولين عما يفعلون، لكن أفعاله تعالى جاريةٌ على العزَّة والقدرة والجبروت والكبرياء والتسليم له، وأنه لا يُسأل عما يفعل ولا مزيد»

(2)

.

و احتجَّ أصحاب هذا القول بحجَّتين:

إحداهما: أن ذلك يستلزم التسلسل، فإنه إذا فعل لعلَّةٍ، فتلك العلَّة أيضًا حادثةٌ، فتفتقر إلى علَّةٍ. وهكذا إلى غير نهاية، وهو باطل.

وجواب هذه الشبهة: أن هذا التسلسل هو في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلًا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل، والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل، فإن نعيم الجنة وعذاب النار دائمان مع تجدد الحوادث فيهما، وإنما أنكر ذلك الجهم بن صفوان

(3)

.

الثانية: قالوا: مَنْ فعل لعلَّةٍ كان مستكملًا بها، والمستكمل بغيره ناقصٌ بنفسه، وذلك ممتنعٌ على الله

(4)

.

والجواب عن هذه الشبهة: أن الحكمة صفته سبحانه، وصفاته ليست غيرًا له، فإن حكمته قائمةٌ به كسائر صفاته، فثبوت حكمته لا يستلزم استكماله

(1)

التبصير في الدين (ص: 168).

(2)

الفصل (3/ 98).

(3)

انظر: منهاج السنة (1/ 146).

(4)

انظر: المصدر نفسه (1/ 145).

ص: 88

بغيرٍ منفصلٍ عنه

(1)

.

‌القول الثالث: (قول المعتزلة وأتباعهم من الشيعة).

قالوا: إنه يخلق ويأمر لحكمةٍ مخلوقةٍ منفصلةٍ عنه، من غير أن يعود إليه من ذلك حكمٌ ولا قام به فعلٌ ولا نعتٌ، وهذه الحكمة تعود إلى العباد، وهي نفعهم والإحسان إليهم؛ فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك

(2)

.

قال القاضي عبد الجبَّار: «إن الله سبحانه ابتدأ الخلق لعلَّةٍ، نريد بذلك وجه الحكمة الذي له حَسُن منه الخلق، فيبطل على هذا الوجه قول مَنْ قال: إنه تعالى خلق الخلق لا لعلَّةٍ، لما فيه من إيهام أنه خلقهم عبثًا، لا لوجهٍ تقتضيه الحكمة وذلك -أي: نقص من يفعل لا لغرض- ظاهر في الشاهد»

(3)

.

ثم رتَّبوا على ذلك مسائل عظيمةً رأوها لازمةً لمعتقدهم في هذه المسألة:

ومن ذلك: إنكارهم قدرة الله على أعمال العباد، وزعموا أن العباد يطيعون ويعصون دون أن يكون لله مشيئةٌ في أفعالهم، وأنه تعالى لا يقدر أن يهدي ضالًّا ولا يُضِلَّ مهتديًا، وأنه يجب عليه أن يفعل الصلاح والأصلح لكلِّ عبدٍ، ولو فعل غير هذا لتنافى مع حكمته وإحسانه لعباده، بل زعموا أن خلاف هذا عبثٌ يجب أن يتنزَّه الله عنه.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر، والقدريَّة دخلوا في التعليل على طريقةٍ فاسدةٍ مثَّلوا الله

(1)

انظر: شفاء العليل (2/ 579).

(2)

انظر: الفصل (3/ 56)، ومجموع الفتاوى (8/ 38)(8/ 89)، ومجموعة الرسائل والمسائل (5/ 120).

(3)

المغني في أبواب التوحيد والعدل (11/ 92).

ص: 89

فيها بخلقه، ولم يثبتوا حكمةً تعود إليه، فسلبوه قدرته وحكمته ومحبَّته وغير ذلك من صفات كماله

وأثبتوا حسنًا وقبحًا لا يتضمَّن محبوبًا ولا مكروهًا، وهذا لا حقيقة له، كما أثبتوا تعليلًا لا يعود إلى الفاعل حكمه»

(1)

.

وقال ابن القيِّم رحمه الله: «أهل البدع من المعتزلة والقدريَّة الذين يوجبون على ربِّهم مراعاة الأصلح لكلِّ عبدٍ -وهو الأصلح عندهم وفي ظنهم-، فيشرِّعون له شريعةً بعقولهم، ويحجِّرون عليه ويحرِّمون عليه أن يخرج عنها، ويوجبون عليه القيام بها، وكذلك كانوا من أحمق الناس وأعظمهم تشبيهًا للخالق بالمخلوق في أفعاله، وأعظمهم تعطيلًا له عن صفات كماله، فنزَّهوه عن صفات الكمال وشبَّهوه بخلقه في الأفعال، وأدخلوه تحت الشريعة الموضوعة بآراء الرجال، وسمَّوا ذلك عدلًا وتوحيدًا بالزور والبهتان»

(2)

.

‌بيان الحق في ذلك والرد على المخالفين:

والحق في ذلك هو ما عليه أهل السنة؛ فقد هداهم الله للحقِّ الذي ضلَّت عنه الطائفتان، وسلَّمهم من الضلال الذي حقَّ عليهم.

فأهل السنة يعتقدون أن الحكمة صفته سبحانه، وصفاته ليست غيرًا له

-كما ادَّعت المعتزلة-، فثبوت حكمته لا يستلزم استكماله بغيره

(3)

.

والحكمة أيضًا ليست مطلق المشيئة -كما زعمت الجهمية والأشاعرة-؛ إذ لو كان كذلك لكان كلُّ مريدٍ حكيمًا

(4)

.

(1)

انظر: منهاج السنة (3/ 177).

(2)

شفاء العليل (2/ 729 - 730).

(3)

انظر: المصدر السابق (2/ 579).

(4)

انظر: منهاج السنة (1/ 141).

ص: 90

ويثبت أهل السنة لله الحكمة البالغة في خلقه وأمره مع كمال القدرة ونفوذ مشيئته في تدبير شؤون خلقه قدرًا وشرعًا.

والمعتزلة أثبتوا لله حكمةً وعدلًا، وأنكروا قدرة الله على أفعال العباد وخلقه لها ومشيئته لها؛ بدعوى معارضة ذلك للحكمة والعدل في الثواب والعقاب. والجهميَّة والأشعريَّة أثبتوا له قدرةً ومشيئةً نافذةً بلا حكمةٍ؛ بدعوى أن الفعل لعلَّةٍ يستلزم الحاجة والنقص، والله متنزِّهٌ عن ذلك ويتنافى مع قدرته. والله تعالى يقول:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]؛ فقد أثبت تعالى لنفسه مشيئةً نافذةً في أعمال العباد مع العلم والحكمة.

فإثباته للمشيئة النافذة ردٌّ على المعتزلة القدريَّة نفاة القدرة، وإثباته للعلم والحكمة ردٌّ على الجهميَّة والأشعريَّة نفاة الحكمة، فسبحان العليم الحكيم؛ فما من محدثةٍ وبدعةٍ إلا اشتمل كتابه على دحضها وردِّها.

ونظير هذه الآية من السنَّة قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: «اللهمَّ إنِّي عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصِيَتِي بيدك، ماضٍ فِيَّ حكمك، عدلٌ فِيَّ قضاؤك

»

(1)

؛ ففيه ردٌّ على الطائفتين.

ففي قوله: «ماضٍ فِيَّ حكمُك» ردٌّ على المعتزلة القدريَّة الذين ينكرون قدرته سبحانه على أفعال العباد ومشيئته لها.

وفي قوله: «عدلٌ فِيَّ قضاؤك» ردٌّ على الجهميَّة والأشعريَّة المجبرة الذين ينكرون حكمته وعدله في تدبير شؤون خلقه.

قال ابن القيِّم: «ومَن تأمَّل كلام سلف الأمَّة وأئمَّة أهل السنَّة رآه ينكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط، فينكر قول المعتزلة المكذِّبين بالقدر، وقول

(1)

تقدم تخريجه (48).

ص: 91

الجهميَّة المنكرين للحكم والأسباب والرحمة، فلا يرضون لأنفسهم بقول القدريَّة المجوسيَّة، ولا بقول القدريَّة الجبريَّة نفاة الحكمة والرحمة والتعليل.

وعامَّة البدع المحدَثة في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهميَّة والقدريَّة، والجهميَّة رؤوس الجبريَّة وأئمَّتهم أنكروا حكمة الله ورحمته، وإن أقرُّوا بلفظٍ مجرَّدٍ فارغٍ عن حقيقة الحكمة والرحمة. والقدريَّة والنفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته. فأولئك أثبتوا نوعًا من الملك بلا حمدٍ، وهؤلاء أثبتوا نوعًا من الحمد بلا ملكٍ، فأنكر أولئك عموم حمده، وأنكر هؤلاء عموم ملكه، وأثبت له الرسل وأتباعهم عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه، فله كمال الملك وكمال الحمد، فلا يخرج عينٌ ولا فعلٌ عن قدرته ومشيئته وملكه، وله في كلِّ ذلك حكمةٌ وغايةٌ مطلوبةٌ يستحقُّ عليها الحمد، وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراطٍ مستقيمٍ، وهو حمده الذي يتصرَّف في ملكه به ولأجله»

(1)

.

(1)

إعلام الموقعين (1/ 253).

ص: 92

‌المبحث الثاني معتقد أهل السنة في مسألة الصلاح والأصلح، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم

هذه المسألة مترجمة في كتب الاعتقاد بمسألة (الصلاح والأصلح).

وحاصلها هل يجب على الله فعل (الصلاح أو الأصلح للعباد، أو لا يجب عليه شيئ من ذلك؟).

والصلاح: ما فيه صلاحهم ونفعهم، والأصلح: الأنفع والأحسن لهم. وأول من أحدث القول في هذه المسألة المعتزلة ثم تكلم الناس فيها نفيا وإثباتا

(1)

.

واختلفوا فيها على ثلاثة أقوالٍ:

‌القول الأول: (قول أهل السنة).

يعتقدون في ذلك ما دلت عليه الأدلَّة، فيقولون: إن الخلق لا يوجبون على الله شيئًا لا فعل الصلاح ولا الأصلح، ولا غير ذلك مما يدبِّره سبحانه من شؤون خلقه، فالخلق خلقه، والأمر أمره، لا يُسأل عما يفعل، ولا معقِّب لحُكْمه. قال تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41]، وقال تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. ويقولون مع ذلك: إن الله له الحكمة البالغة فيما يخلق ويقدِّر، وفيما يأمر ويشرِّع. خلق العباد لحكمةٍ عظيمةٍ، وشرع الدين وهو مشتملٌ على الحكمة ومصالح العباد، قال تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 111]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى

(1)

انظر: لوامع الأنوار (2/ 137).

ص: 93

الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164].

ويقولون: إن الله أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، وقال تعالى في وصف نبيِّه صلى الله عليه وسلم:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

والضرر الذي يلحق بعض المخلوقين إنما يحصل لهم لمخالفة أمره سبحانه، قال تعالى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، وقال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41].

وهو تبارك وتعالى لتمام ملكه وعزَّته وقُدُّوسيَّته وحكمته تنزَّه عن كلِّ نقصٍ، وعامَّة المخلوقات تسبِّحه وتنزِّهه عن كلِّ نقصٍ، قال تعالى:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1].

والله تبارك وتعالى حرَّم على نفسه الظلم، وهو لا يحبُّ الفساد، ولا يعذِّب العباد بغير جرمٍ، فلا يقع منه ما حرَّم سبحانه على نفسه بوعده الصادق.

قال تعالى في الحديث القدسيِّ: «يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا»

(1)

. وقال تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

(1)

تقدم تخريجه ص (72).

ص: 94

وهو لعظيم رحمته وإحسانه كتب على نفسه الرحمة، ونصر المؤمنين، وأن الغلبة له ولرسله وجنده، وهو لا يخلف وعده، وكلُّ ذلك متحقِّقٌ لا محالة، قال تعالى:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]، وقال تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقال تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].

وله سبحانه الحمد والفضل والمنَّة بما أوجب على نفسه، وله الثناء الحسن والشكر بما وفَّى من وعده. وهذا بخلاف حقِّه على العباد؛ فهو متعيِّنٌ عليهم، ويترتَّب على تركه الذمُّ والعقاب، فإن عذبهم على تقصيرهم فيه فبعدله وحكمته، وإن عفا عنهم فيه فبفضله وإحسانه، قال تعالى:{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «وذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وأن فعل المأمور به مصلحةٌ عامَّةٌ لمن فعله، وأن إرساله الرسل مصلحةٌ عامَّةٌ، وإن كان فيه ضررٌ على بعض الناس»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه؛ فهذا قول القدريَّة، وهو قولٌ مبتدَعٌ مخالفٌ لصحيح المنقول وصريح المعقول. وأهل السنَّة متَّفقون على أنه سبحانه خالق كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئًا؛ ولهذا كان من قال من أهل السنَّة بالوجوب؛ قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرَّم الظلم على نفسه،

(1)

منهاج السنة (1/ 462).

ص: 95

لا أن العبد نفسه مستحقٌّ على الله شيئًا كما يكون للمخلوق على المخلوق»

(1)

.

‌القول الثاني: (قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة).

اتَّفقوا على أنه يجب على الله فعل الصلاح والخير لكلِّ عبدٍ معيَّنٍ في دينه، وسمَّوه عدلًا. قالوا: وتركه سفهٌ يجب تنزيه الله عنه.

ويجعلون هذا الواجب من جنس ما يجب على الإنسان

(2)

.

قال الشهرستانيُّ: «واتَّفقوا على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد. وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه عندهم خلافٌ. وسمَّوا هذا النمط: عدلًا»

(3)

.

وقالوا: إن الله استصلح عباده، ولا يقدر بعد ذلك على أن يفعل لمخلوقٍ من المصلحة غير ما فعل.

قال أبو بكرٍ الباقلانيُّ: «وزعم البغداديُّون منهم والنظَّام من البصريِّين أيضًا: أن القديم سبحانه قد استصلح عباده بغاية ما يقدر عليه من الصلاح، وأنه ليس في خزائنه ولا في سلطانه، ولا يتوهَّم منه صلاحٌ يقدر عليه أكثر مما قد استصلحهم به في دينهم ودنياهم.

وزعم البصريُّون منهم خاصَّةً: أنه تعالى قد استصلح عباده بغاية ما في قدرته من الصلاح في باب دينهم خاصَّةً، وأنه لا يقدر على صلاحٍ لهم في باب الدين أصلح مما فعله بهم»

(4)

.

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 310).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 92)، مفتاح دار السعادة (2/ 51)، ولوامع الأنوار (1/ 329).

(3)

الملل والنحل (1/ 45).

(4)

تمهيد الأوائل (ص: 292).

ص: 96

ونقل البغداديُّ عن النظَّام أنه يقول: «إن الله عز وجل لا يقدر أن يفعل بعباده خلاف ما فيه صلاحهم، ولا يقدر على أن ينقص من نعيم أهل الجنَّة ذرَّةً؛ لأن نعيمهم صلاحٌ لهم، والنقصان مما فيه الصلاح ظلمٌ عنده، ولا يقدر أن يزيد في عذاب أهل النار ذرَّةً، ولا على أن ينقص من عذابهم شيئًا

ثم زاد على هذا بأن قال: إن الله تعالى لا يقدر على أن يُعمي بصيرًا أو يُزمِن صحيحًا أو يُفقِر غنيًّا إذا عَلِمَ أن البصر والصحَّة والغنى أصلح لهم»

(1)

.

وقال ابن حزمٍ: «ومن العجب اتِّفاق النظَّام والعلَّاف شيخي المعتزلة على أنه ليس يقدر الله تعالى من الخير على أصلح مما عمل»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «ومذهبهم أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوقٍ من المصلحة الدينيَّة غير ما فعل، ولا يقدر أن يهدي ضالًّا ولا يُضِلَّ مهتديًا»

(3)

. تعالى الله عن قولهم علوًّا عظيمًا.

وقد اختلف المعتزلة -بعد اتِّفاقهم على وجوب فعل الصلاح على الله للعباد- في مسألتين متفرِّعتين عن هذه المسألة:

المسألة الأولى: هل يجب على الله فعل الصلاح لعباده في الدين والدنيا، أم في الدين فقط؟

لهم في ذلك قولان

(4)

:

القول الأوَّل: أنه يجب على الله فعل الصلاح للعباد في الدين دون الدنيا.

(1)

الفرق بين الفرق (ص: 115 - 116)، وانظر: تمهيد الأوائل (ص: 289).

(2)

الفصل (4/ 147).

(3)

مجموع الفتاوى (8/ 92).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 92)، ولوامع الأنوار (1/ 329)، والعواصم والقواصم (4/ 13).

ص: 97

وهو قول معتزلة البصرة، ومنهم: أبو عليٍّ الجُبَّائيُّ، وأبو هُذيلٍ العلَّاف، وإبراهيم النظَّام، والجاحظ.

القول الثاني: أنه يجب على الله فعل الصلاح للعبد في الدين والدنيا معًا. وهو قول معتزلة بغداد، ومنهم: محمدٌ الإسكافيُّ، وعبد الرحيم الخيَّاط، وعبد الله البلخيُّ، وابن أبي الحديد.

المسألة الثانية: هل يجب على الله فعل الأصلح.

اختلفوا في ذلك على قولين

(1)

:

القول الأوَّل: أنه يجب على الله فعل الأصلح لكلِّ عبدٍ من عباده، ويسمونه (اللطف). وهذ قول عامَّة المعتزلة، عدا بشر بن المعتمر.

واحتجُّوا لقولهم بأمرين:

1 -

أن أصلح الأشياء هو الغاية، وقد فعله الله بعباده، ولا شيء يُتوهَّم وراء الغاية.

2 -

أنه لو كان في معلوم الله شيءٌ يؤمنون عنده أو يصلحون به ثم لم يفعله بهم؛ لكان مريدًا لفسادهم، وهو منزَّهٌ عن هذا.

القول الثاني: أنه لا يجب على الله فعل الأصلح. وهو قول بشر بن المعتمر.

وله فيه مأخذان:

1 -

أن الأصلح لا نهاية له، فلا أصلح إلا وفوقه ما هو أصلح منه، ولا نهاية لقدرة الله على ذلك فيكون محالًا.

(1)

انظر: مقالات الإسلاميِّين (1/ 196)، والملل والنحل (1/ 65)، وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص: 509)، والمعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها لعواد المعتق (ص: 197).

ص: 98

2 -

أن الله لو فعل لهم الأصلح لآمن الناس به جميعًا وأطاعوه ولم يعصوه. وقد وجدنا من الناس الكافر والعاصي، فدلَّ على أنه لا يجب على الله.

‌القول الثالث: (قول الجهميَّة، والأشاعرة).

قالوا: لا يجب على الله فعل الصلاح ولا الأصلح، وأن ذلك ليس بواجبٍ عليه، وليس بلازمٍ وقوعه منه. بل قالوا: إنه لا يفعل لمصلحةٍ ما، وأنكروا أن يكون الله يفعل لجلب منفعةٍ لعباده أو دفع مضرَّةٍ. بل يقولون: إنه لا يفعل شيئًا لأجل شيءٍ ولا بشيءٍ، ولا يثبتون له حكمةً ولا رحمةً في أفعاله، بل عندهم يفعل بمشيئةٍ محضةٍ

(1)

.

قال الشهرستانيُّ في سياق ذكر مقالات الأشعريِّ: «ولا يجب على الله تعالى شيءٌ ما بالعقل، لا الصلاح، ولا الأصلح، ولا اللطف، وكلُّ ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة، فيقتضي نقيضه من وجهٍ آخر»

(2)

.

وقال الغزاليُّ: «وأنه لا يجب رعاية الأصلح لهم، وأنه لا يجب عليه ثواب الطاعة وعقاب المعصية»

(3)

.

وقال الإسفرايينيُّ: «وقد بيَّنَّا نحن أن الوجوب على الله تعالى محالٌ، وكلُّ عاقلٍ يعلم أن الكافر لا صلاح له في كفره ولا ما يحلُّ به من تبعات فعله»

(4)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -بعد حكايته لقول المعتزلة في مسألة الصلاح والأصلح-: «والقدريَّة المجبرة الجهميَّة لا يثبتون له حكمةً ولا رحمةً، بل

(1)

منهاج السنة (1/ 464)(6/ 397)، وأصول الدين للغزنوي (ص: 172).

(2)

الملل والنحل (1/ 102).

(3)

الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 89).

(4)

التبصير في الدين (ص: 72).

ص: 99

عندهم يفعل بمشيئةٍ محضةٍ، لا لها حكمةٌ ولا رحمةٌ. والجهم بن صفوان رأس هؤلاء، كان يخرج إلى المبتلين من الجذمى وغيرهم، فيقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟! يريد أنه ليس له رحمةٌ، فهؤلاء وأولئك في طرفين متقابلين»

(1)

.

‌بيان الحق في ذلك والرد على المخالفين:

والحق في ذلك هو ما قال به أهل السنة وقولهم وسط بين المقالتين المخالفتين، وقد اشتملت كلتا المقالتين المخالفتين على حقٍّ وباطلٍ. وهدى الله أهل السنَّة لما اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنه، وعصمهم من الضلال بفضله

(2)

.

فالمعتزلة القدريَّة: أصابوا فيما أثبتوا لله من الحكمة والتنزُّه عن ضدِّها. وأخطؤوا في إخضاع هذه الحكمة لعقولهم وإيجابهم على الله تعالى بمقتضى العقل والقياس على الخلق. ومن ذلك إيجابهم على الله فعل الصلاح أو الأصلح لكل عبدٍ. كما أخطؤوا فيما نسبوه إليه من عدم القدرة على فعل ما لم يفعل لخلقه من الصلاح، فنسبوه إلى العجز -تعالى الله عن ذلك-.

والجهميَّة والأشعريَّة: أصابوا في عدم الإيجاب على الله من المخلوقين، وفي ردِّهم لمقالة المعتزلة في إيجابهم على الله فعل الصلاح والأصلح بمجرَّد العقل والقياس على الخلق.

وأخطؤوا في نفيهم الحكمة والرحمة عن الله في أفعاله، وزعمهم أنه لا يفعل لحكمةٍ ولا لرحمةٍ بل لمجرَّد المشيئة، ولا يفعل لمنفعة العباد وصلاحهم، وأنه يجوز عليه أن يعذِّب المطيع وينعِّم العاصي.

(1)

منهاج السنة (6/ 397).

(2)

انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 61).

ص: 100

وأهل السنَّة: جمعوا بين الحقِّ الذي تفرَّق في الطائفتين، وسلموا من الضلال الذي افترقتا فيه.

فأثبتوا لله الحكمة في الخلق والأمر والتنزُّه عن ضدِّها وما لا يليق بعظمته، لكن ليس على فهم القدريَّة المعتزلة المستلزم الإيجاب على الله بمجرَّد العقل، وأنه يجب عليه فعل الصلاح والأصلح لكلِّ عبدٍ.

ولم يوجبوا على الله فعل الصلاح والأصلح، لكن ليس على فهم الجهميَّة والأشاعرة المجبرة المستلزم نفي الحكمة والرحمة والمصلحة عن الله في أفعاله ودعوى أنه يفعل لمجرَّد المشيئة المحضة.

ص: 101

‌المبحث الثالث معتقد أهل السنة في مسألة التكليف بما لا يُطاق، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم

هذه المسألة مشهورة بمسألة (التكليف بما لا يطاق)، ومدار الكلام فيها: هل يجوز على الله تكليف العباد في الشرع بما لا يطاق لهم؟.

والإطاقة والطاقة هي الاستطاعة، وما لا يطاق: ما لا يستطاع ولا يقدر عليه، قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184].

وقد اختلف الناس في هذه المسألة على أربعة أقوالٍ:

‌القول الأول: (قول أهل السنة).

منعوا من إطلاق القول بالتكليف بما لا يُطاق واجمعوا على إنكار ذلك وذم من يطلقه.

وقالوا: إن إطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام. فإن الطاقة هي الاستطاعة وهي لفظ مجمل، فالاستطاعة الشرعية هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحدًا شيئًا بدونها فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير.

قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وأما الاستطاعة والطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل؛ فهذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين، وجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «فإطلاق القول بتكليف ما لا يطاق

ص: 102

من البدع الحادثة في الإسلام. كإطلاق القول: بأن الناس مجبورون على أفعالهم، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على إنكار ذلك وذم من يطلقه»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وليس في السلف والأئمَّة مَنْ أطلق القول بتكليف ما لا يُطاق، كما أنه ليس فيهم مَنْ أطلق القول بالجبر، وإطلاق القول بأنه يُجبِر العباد كإطلاق القول بأنه يكلِّفهم ما لا يطيقون، هذا سلب قدرتهم على ما أُمِروا به، وذلك سلب كونهم فاعلين قادرين»

(2)

.

وقال رحمه الله: «وعلى هذا تتفرع مسألة تكليف ما لا يطاق، فإن الطاقة هي الاستطاعة وهي لفظ مجمل، فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحدًا شيئًا بدونها، فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير، وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار، فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين»

(3)

.

‌القول الثاني: (قول الجهميَّة).

قالوا بجواز التكليف بما لا يُطاق مطلقًا، ومنه تكليف الأعمى البصر والزَّمِن أن يسير إلى مكَّة

(4)

.

‌القول الثالث: (قول المعتزلة).

قالوا بعدم جواز التكليف بما لا يُطاق؛ لأنه قبيحٌ، والله تعالى منزَّهٌ عن فعل القبيح.

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 322).

(2)

المصدر نفسه (8/ 469).

(3)

المصدر نفسه (8/ 130).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 297).

ص: 103

وهذا مبنيٌّ على مذهبهم في أن القدرة تكون قبل الفعل فقط، حتى يتحقَّق التكليف. قالوا: وتكليف الزَّمِن بالمشي تكليفٌ بما يعجز عنه، فهو عبثٌ يتنزَّه الله عنه. قالوا: ومثله تكليف الكافر بالإيمان؛ لأن الإيمان إنما يُفعَل بقدرةٍ، وليس للكافر قدرةٌ على الإيمان، فتكليفه به كتكليف الزَّمِن بالمشي قبحٌ يتنزَّه الله عنه.

قال القاضي عبد الجبار: «كلُّ عاقلٍ يعلم بكمال عقله قبح تكليف الزَّمِن بالمشي، وتكليف الأعمى بنقط المصحف على وجه الصواب، والدافع له مكابرٌ جاحدٌ للضروريَّات»

(1)

.

وقال أيضًا: «ومما يبيِّن لك أن تكليف الكافر بالإيمان كتكليف العاجز في القبح: هو أنهما اشتركا في تعذُّر الإيمان عليهما

يبيِّن ذلك أن الإيمان إنما يُفعَل بالقدرة، وليس في الكافر قدرةٌ على الإيمان كما في العاجز، فوجب استواؤهما في قبح التكليف»

(2)

.

‌القول الرابع: (قول الأشاعرة).

قالوا: إن التكليف بما لا يُطاق جائزٌ. وهذا بناءً على قولهم: إن العبد

لا يكون قادرًا إلا حين الفعل، وإن القدرة لا تكون إلا مع الفعل. فعلى هذا كلُّ مكلَّفٍ حين التكليف قد كُلِّف بما لا يطيقه حينئذٍ، وإن كان قد يطيقه حين الفعل بقدرةٍ يخلقها الله له وقت الفعل

(3)

.

(1)

شرح الأصول الخمسة (ص 389).

(2)

المصدر نفسه (ص 392).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 470)، وشرح الطحاوية (ص: 445).

ص: 104

فهذا قول الأشاعرة من حيث الجملة، ثم اختلفوا في تفاصيل ما لا يُطاق على أقوال:

الأوَّل: مَنْ يقول بجواز التكليف بالممتنع لذاته، كالجمع بين النقيضين -كالرازيِّ، وغيره-. واحتجُّوا بأن الله كلَّف أبا لهبٍ بالإيمان مع علمه بأنه لا يؤمن وإخباره بأنه لا يؤمن. فكلَّفه بالجمع بين النقيضين بأن يفعل الشيء وبأن يصدِّق أنه لا يكون مصدِّقا بذلك؛ وهذا ممتنعٌ لذاته

(1)

.

والثاني: من يقول بجواز التكليف بالممتنع عادةً، كالمشي على الوجه، والطيران، دون الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين؛ فإنه لا يُتصوَّر وجوده، فلا يُعقَل الأمر به

(2)

.

والثالث: مَنْ يقول بجواز التكليف بما لا يُطاق للاشتغال بضدِّه، دون التكليف بما لا يُطاق للعجز؛ فلا يكلِّف الله به. وهذا قول المقتصدين من الأشاعرة، كالقاضي أبي بكر بن الباقلَّانيِّ، وأكثر أصحاب أبي الحسن، كما حكاه عنهم شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله

(3)

.

قال شارح الطحاويَّة: «وهؤلاء موافقون للسلف والأئمَّة في المعنى، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يُطاق لكونه تاركًا له مشتغلًا بضدِّه؛ بدعةٌ في الشرع واللغة؛ فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! وهم التزموا هذا؛ لقولهم: إن الطاقة -التي هي الاستطاعة، وهي القدرة- لا تكون إلا مع الفعل! فقالوا: كلُّ مَنْ لم يفعل فعلًا؛ فإنه لا يطيقه! وهذا خلاف الكتاب والسنَّة

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 471).

(2)

انظر: شرح الطحاوية (ص: 445).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 469).

ص: 105

وإجماع السلف»

(1)

.

بيان الحق في ذلك:

الحق في هذه المسألة هو ما عليه أهل السنة، وهو مقتضى الأدلة: وهو المنع من إطلاق القول بالتكليف بما لا يطاق؛ لكون هذه المسألة محدثة، ولما فيها من الإجمال، على ماتقدم إيضاحه في قول أهل السنة.

وأما المسائل التي ادَّعى المتكلِّمون أنه من التكليف بما لا يُطاق؛ فالصواب فيها أنها على نوعين:

النوع الأوَّل: الممتنع بقسميه -وهما: الممتنع لذاته، كالجمع بين الضدين، والممتنع عادةً، كالطيران والمشي على الوجه-؛ فهذا لا يقع التكليف به. قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].

قال السمعانيُّ رحمه الله: «قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] أي: طاقتها.

وقيل: ما (يشقُّ) عليها»

(2)

.

وقال ابن كثيرٍ رحمه الله: «أي: لا يكلِّف أحدًا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم»

(3)

.

أما تكليف أبي لهبٍ وغيره بالإيمان؛ فهذا حقٌّ. وهو إذا أمر أن يصدِّق الرسول صلى الله عليه وسلم في كلِّ ما يقوله وأخبر مع ذلك أنه لا يصدِّقه بل يموت كافرًا؛ لم

(1)

شرح الطحاوية (ص: 446).

(2)

تفسير السمعاني (1/ 288).

(3)

تفسير ابن كثير (1/ 737).

ص: 106

يكن هذا متناقضًا، ولا هو مأمورٌ أن يجمع بين النقيضين؛ فإنه مأمورٌ بتصديق الرسول في كلِّ ما بلَّغ، وهذا التصديق لا يصدر منه.

ولو قيل له: آمن، ونحن نعلم أنك لا تؤمن بهذا الذي أُمِرت به، وهو أن محمَّدًا رسول الله، مع قدرتك عليه، وإذا صدَّقتنا في خبرنا أنك لا تؤمن لم يكن هذا تناقضًا.

وإيضاحه: أنه لم يؤمر بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والتصديقِ بأنه لا يؤمن في حال واحدةٍ. بل أُمِر أوَّلًا بتصديق الرسول تصديقًا مطلقًا، وهو قادرٌ عليه، ثم وقع الخبر بكفره بعد تكذيبه، ولم يقل له: صدِّق ابتداءً بالرسول وبالخبر أنك لا تؤمن في وقتٍ واحدٍ

(1)

.

النوع الثاني: ما لا يُطاق للاشتغال بضدِّه، كاشتغال الكافر بالكفر؛ فهذا جائزٌ.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: (تكليف ما لا يُطاق)، وهو على ضربين:

أحدهما: تكليف ما لا يُطاق لوجود ضدِّه من العجز، وذلك مثل أن يكلَّف المقعد القيام، والأعمى الخطَّ ونقط الكتاب، وأمثال ذلك؛ فهذا مما لا يجوز تكليفه، وهو مما انعقد الإجماع عليه، وذلك لأن عدم الطاقة فيه ملحَقةٌ بالممتنع والمستحيل، وذلك يوجب خروجه عن المقدور، فامتنع تكليف مثله.

والثاني: تكليف ما لا يُطاق لا لوجود ضدِّه من العجز، مثل أن يكلَّف الكافر الذي سبق في علمه أنه لا يستجيب للتكليف، كفرعون وأبي جهلٍ وأمثالهم؛ فهذا جائزٌ. وذهبت المعتزلة إلى أن تكليف ما لا يُطاق غير جائزٍ. قال: وهذه المسألة كالأصل لهذه»

(2)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 472).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 301 - 302).

ص: 107

وقال رحمه الله: (تكليف ما لا يُطاق) ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما لا يُطاق للعجز عنه، كتكليف الزَّمِن المشي، وتكليف الإنسان الطيران، ونحو ذلك. فهذا غير واقعٍ في الشريعة عند [جماهير] أهل السنَّة المثبتين للقدر.

والثاني: ما لا يُطاق للاشتغال بضدِّه، كاشتغال الكافر بالكفر؛ فإنه هو الذي صدَّه عن الإيمان، وكالقاعد في حال قعوده؛ فإن اشتغاله بالقعود يمنعه أن يكون قائمًا. والإرادة الجازمة لأحد الضدَّين تنافي إرادة الضدِّ الآخر، وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب.

ومثل هذا ليس بقبيحٍ عقلًا عند أحدٍ من العقلاء، بل العقلاء متَّفقون على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضدِّه، إذا أمكن أن يترك ذلك الضدَّ ويفعل الضدَّ المأمور به.

وإنما النزاع هل يُسمَّى هذا تكليف ما لا يُطاق لكونه تكليفًا بما انتفت فيه القدرة المقارنة للفعل؟ فمن المثبتين للقدر مَنْ يُدخِل هذا في تكليف ما لا يُطاق، كما يقوله القاضي أبو بكرٍ والقاضي أبو يعلى وغيرهما، ويقولون: ما لا يُطاق على وجهين: منه ما لا يُطاق للعجز عنه، وما لا يُطاق للاشتغال بضدِّه.

ومنهم مَنْ يقول: هذا لا يدخل فيما لا يُطاق، وهذا هو الأشبه بما في الكتاب والسنَّة وكلام السلف؛ فإنه لا يُقال للمستطيع المأمور بالحجِّ إذا لم يحجَّ إنه كُلِّف بما لا يطيق، ولا يُقال لمن أُمِر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلًا أنه كُلِّف ما لا يطيق»

(1)

.

(1)

منهاج السنة (3/ 105 - 104).

ص: 108

‌المبحث الرابع معتقد أهل السنة في تنزُّه الله عن الشرِّ، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم

الشر منفيٌّ عن الله تعالى، ولا يضاف إليه؛ لما ثبت في صحيح مسلمٍ من حديث عليٍّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعاء الاستفتاح في الصلاة:«لبَّيك وسعديك، والخير كلُّه في يديك، والشرُّ ليس إليك»

(1)

.

فأثبت النبيُّ صلى الله عليه وسلم الخير لله، وأضافه إليه، ووصفه بأنه بيديه سبحانه، ونفى عنه الشرِّ، ونزَّهه عنه، وأخبر أنه ليس إليه.

واختلف الناس في حقيقة الشرِّ المنفيِّ عن الله على ثلاثة أقوالٍ:

‌القول الأول: (قول أهل السنَّة).

قالوا: إن الشرَّ على نوعين:

النوع الأوَّل: (الشرُّ المطلق أو الكلِّيُّ)، وهو الشرُّ المحض الذي لا خير فيه بوجهٍ من الوجوه، فهذا لا يدخل في الوجود، بل هو معدومٌ لا يخلقه الله. فهذا ليس إليه، ولا يُضاف إليه تعالى، لا في أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله، بل الله تعالى متنزِّهٌ عنه من كلِّ الوجوه نسبةً ووصفًا وفعلًا. وهذا هو المقصود بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«والخير بيديك، والشرُّ ليس إليك»

(2)

.

النوع الثاني: (الشرُّ النسبيُّ أو الجزئيُّ)، وهو الشرُّ الإضافيُّ الذي هو خيرٌ باعتبارٍ وشرٌّ باعتبارٍ آخر. وفيه خيرٌ ونفعٌ لبعض الناس وشرٌّ وضررٌ لآخرين،

(1)

أخرجه مسلم (771).

(2)

تقدم تخريجه (122).

ص: 109

فالله تعالى يخلق هذا النوع باعتبار الخير الراجح الذي فيه، لا باعتبار الشرِّ المرجوح الذي فيه. كخلق إبليس؛ فإنه ليس شرًّا محضًا، ففيه شرٌّ بالنسبة للكفَّار، وفيه خيرٌ للمؤمنين باعتبار وجود الكفر وما ترتَّب عليه من وجود الجهاد والصبر على الأذى الذي تميَّز به المؤمن من غيره، ورفع الله به درجات المؤمنين المجاهدين الصابرين في الجنَّة.

ولما كان خلق الله لهذا النوع باعتبار الخير الذي فيه؛ فإنه لا يُضاف إليه الشرُّ الجزئيُّ منه؛ فإن هذا موهمٌ أنه خلقه للشرِّ، وهذا قول الجبريَّة، وهو باطلٌ. فالشرُّ الذي فيه لا يُضاف إلى الله فعلًا ولا وصفًا، وإنما يدخل في مفعولاته، وفرقٌ بين الفعل والمفعول، فالشرُّ قائمٌ بمفعوله المباين له، لا بفعله الذي هو قائمٌ به.

ومما يزيد هذا بيانًا وإيضاحًا: أن الأشياء باعتبار انقسامها إلى الخير والشرِّ على ثلاثة أقسامٍ:

الأوَّل: الخير المحض، فهذا يخلقه الله ويُضاف إليه.

والثاني: الشرُّ المحض، فهذا لا يخلقه الله ولا يُضاف إليه.

والثالث: النسبيُّ الذي هو خيرٌ باعتبارٍ وشرٌّ باعتبارٍ، يخلقه الله للخير الراجح الذي فيه فيُضاف إليه بهذا الاعتبار، ولم يخلقه للشرِّ الذي فيه فلا يُضاف إليه بهذا الاعتبار.

فالذي يُضاف إلى الله هو الخير، إما الخير المحض، أو النسبيُّ الإضافيُّ. وأما الشرُّ فليس إليه، لا المحض ولا الإضافيُّ. وهذا معنى قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«والخير بيديك، والشرُّ ليس إليك»

(1)

.

(1)

تقدم تخريجه (122).

ص: 110

ولهذا كان هذا النوع -وهو الشرُّ النسبيُّ- إنما يُذكَر في النصوص على ثلاثة وجوهٍ:

[1]

إما بطريق العموم؛ كقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].

[2]

وإما بطريق إضافته إلى السبب؛ كقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2].

[3]

وإما أن يُحذَف فاعلُه، كقول الجنِّ:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].

فهذا هو معتقد أهل السنَّة في إضافة الشرِّ إلى الله، ذكرته ملخَّصًا مرتَّبًا من كلامي شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وتلميذه الإمام المحقِّق ابن القيِّم. وها هي ذي بعض نصوصهما في تقريره.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وأما السيِّئة: فهو إنما يخلقها بحكمةٍ. وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه؛ فإن الربَّ لا يفعل سيِّئةً قطُّ. بل فعله كلُّه حسنٌ وحسناتٌ، وفعله كلُّه خيرٌ؛ ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: «والخير بيديك، والشرُّ ليس إليك» ؛ فإنه لا يخلق شرًّا محضًا، بل كلُّ ما يخلقه ففيه حكمةٌ هو باعتبارها خيرٌ، ولكن قد يكون فيه شرٌّ لبعض الناس، وهو شرٌّ جزئيٌّ إضافيٌّ. فأما شرٌّ كلِّيٌّ، أو شرٌّ مطلقٌ؛ فالربُّ منزَّهٌ عنه، وهذا هو الشرُّ الذي ليس إليه. وأما الشرُّ الجزئيُّ الإضافيُّ: فهو خيرٌ باعتبار حكمته؛ ولهذا لا يُضاف الشرُّ إليه مفردًا قطُّ، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101]، وإما أن يُضاف إلى السبب، كقوله {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2]، وإما أن يُحذَف فاعلُه، كقول الجنِّ:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]. وهذا الموضع ضلَّ فيه فريقان

ص: 111

من الناس الخائضين في القدر بالباطل»

(1)

.

وقال ابن القيِّم رحمه الله: «وتحقيق الأمر: أن الشرَّ نوعان: شرٌّ محضٌ حقيقيٌّ من كلِّ وجهٍ، وشرُّ نسبيٌّ إضافيٌّ من وجهٍ دون وجهٍ. فالأوَّل لا يدخل في الوجود؛ إذ لو دخل في الوجود لم يكن شرًّا محضًا. والثاني هو الذي يدخل في الوجود»

(2)

.

وقال رحمه الله: «فإن الربَّ سبحانه لا يفعل سوءًا قطُّ، كما لا يُوصَف به، ولا يُسمَّى باسمه، بل فعله كلُّه حسنٌ وخيرٌ وحكمةٌ، كما قال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، وقال أعرف الخلق به: «والشرُّ ليس إليك»

(3)

فهو لا يخلق شرًّا محضًا من كلِّ وجهٍ، بل كلُّ ما خلقه ففي خلقه مصلحةٌ وحكمةٌ، وإن كان في بعضه شرٌّ جزئيٌّ إضافيٌّ. وأما الشرُّ الكلِّيُّ المطلق من كلِّ وجهٍ؛ فهو تعالى منزَّهٌ عنه، وليس إليه»

(4)

.

وقال -في بيان قواعد الأسماء والصفات رحمه الله: «إن أسماءه كلُّها حسنى، ليس فيها اسمٌ غير ذلك أصلًا. وقد تقدَّم أن من أسمائه ما يُطلق عليه باعتبار الفعل -نحو الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت-. وهذا يدلُّ على أن أفعاله كلُّها خيراتٌ محضةٌ لا شرَّ فيها؛ لأنه لو فعل الشرَّ لاشتُقَّ له منه اسمٌ، ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى، وهذا باطلٌ؛ فالشرُّ ليس إليه، فكما لا يدخل في صفاته ولا يلحق ذاته؛ لا يدخل في أفعاله، فالشرُّ ليس إليه، لا يُضاف إليه فعلًا ولا

(1)

مجموع الفتاوى (14/ 266)، وانظر: مجموع الفتاوى (17/ 94).

(2)

شفاء العليل (2/ 515).

(3)

تقدم تخريجه (122).

(4)

شفاء العليل (2/ 485)، وانظر: مدارج السالكين (2/ 194).

ص: 112

وصفًا، وإنما يدخل في مفعولاته، وفرقٌ بين الفعل والمفعول، فالشرُّ قائمٌ بمفعوله المباين له، لا بفعله الذي هو فعله، فتأمَّل هذا؛ فإنه خفي على كثيرٍ من المتكلِّمين، وزلَّت فيه أقدامٌ، وضلَّت فيه أفهامٌ، وهدى الله أهل الحقِّ لما اختلفوا فيه بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ»

(1)

.

‌القول الثاني: (قول القدريَّة).

قالوا: لا يجوز أن يُقال: إن الله سبحانه مريدٌ للشرِّ أو فاعلٌ له؛ لأن مريد الشرِّ وفاعله شرِّيرٌ، هذا هو المعروف لغةً وعقلًا وشرعًا، والله متنزِّهٌ عن هذا؛ فإن أسماءه كلّها حسنى، وأفعاله كلّها خيرٌ، وقد قام الدليل على أن فعله سبحانه عين مفعوله، والشرُّ ليس بفعلٍ له، فلا يكون مفعولًا له، فيستحيل أن يريد الشرَّ، فالشرُّ ليس بإرادته ولا بفعله

(2)

.

‌القول الثالث: (قول الجبريَّة).

قالوا: الربُّ سبحانه يريد الشرَّ ويفعله؛ لأن الشرَّ موجودٌ، فلا بدَّ له من خالقٍ، ولا خالق إلا الله. وهو سبحانه إنما يخلق بإرادته، فكلُّ مخلوقٍ فهو مرادٌ له، وهو فعله. ووافقوا القدريَّة على أن الفعل عين المفعول والخلق نفس المخلوق، ثم قالوا: والشرُّ مخلوقٌ له ومفعولٌ، فهو فعله وخلقه وواقعٌ بإرادته. قالوا: وإنما لم يُطلَق القول أنه يريد الشرَّ ويفعل الشرَّ أدبًا لفظيًّا فقط، كما لا يُطلَق القول بأنه ربُّ الكلاب والخنازير، ويُطلَق القول بأنه ربُّ كلِّ شيءٍ وخالقه

(3)

.

(1)

بدائع الفوائد (1/ 163).

(2)

انظر: شفاء العليل (2/ 735)، ومجموع الفتاوى (14/ 267).

(3)

انظر: شفاء العليل (2/ 735)، ومجموع الفتاوى (14/ 267).

ص: 113

‌الحق في ذلك والرد على المخالفين ووجه ضلالهم:

الحق في ذلك هو قول أهل السنة على ما تقدم تفصيله وبيانه مُوثَّقًا بالأدلة، وقد ضلَّ في هذه المسألة كلٌّ من القدريَّة والجبريَّة. ومنشأ ضلال الطائفتين: هو عدم التفريق بين الفعل والمفعول؛ فإنهم قد اتَّفقوا على أن الفعل هو المفعول، ثم افترقوا فيما فرَّعوا على هذه القاعدة المشتركة بينهم:

فقالت القدريَّة: نعلم أن الشرَّ ليس بفعلٍ لله، فلا يكون مفعولًا له؛ فنفوا أن يقع شرٌّ من العباد بمشيئته وخلقه؛ فنسبوا الله إلى العجز، وزعموا أنه يقع في خلقه ما لا يريد ولا يقدر عليه.

وقالت الجبريَّة: الشرُّ موجودٌ في مخلوقاته ومفعولاته، فلا بدَّ له من خالقٍ وفاعلٍ، فهو فعله وخلقه، ليس بفعل العبد. وقالوا: إنما يُقال: إن الله لا يفعل الشرَّ؛ أدبًا، كما لا يُقال: ربُّ الكلاب والخنازير.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «وهذا الموضع ضلَّ فيه فريقان من الناس الخائضين في القدر بالباطل:

فرقةٌ كذَّبت بهذا، وقالت: إنه لا يخلق أفعال العباد، ولا يشاء كلَّ ما يكون؛ لأن الذنوب قبيحةٌ، وهو لا يفعل القبيح. وإرادتها قبيحةٌ، وهو لا يريد القبيح.

وفرقةٌ لما رأت أنه خالق هذا كلِّه ولم تؤمن أنه خلق هذا لحكمةٍ، بل قالت: إذا كان يخلق هذا؛ فيجوز أن يخلق كلَّ شرٍّ، ولا يخلق شيئًا لحكمةٍ. وما ثَمَّ فعلٌ تنزَّه عنه، بل كلُّ ما كان ممكنًا جاز أن يفعله

وهذا منكرٌ من القول وزورٌ، كالأوَّل»

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى (14/ 267 - 266)، وانظر: مجموع الفتاوى (8/ 118).

ص: 114

وهدى الله أهل السنَّة للحقِّ الذي افترق فيه الفريقان، ففرَّقوا بين الفعل والمفعول، فقالوا: إن الشرَّ ليس فعلًا له يقوم به، وإنما يدخل في مفعولاته، فنزَّهوا الله عن فعل الشرِّ وعما يتنافى مع حكمته، وعظَّموه أن يقع في خلقه

ما لا يريد ويتنافى مع قدرته.

وهذا هو حقيقة التنزيه الذي دلَّت عليه النصوص، كقوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]؛ فقد أثبت تعالى لنفسه مشيئةً نافذةً في أعمال العباد مع العلم والحكمة، فإثباته للمشيئة النافذة ردٌّ على القدريَّة نفاة القدرة، وإثباته للعلم والحكمة ردٌّ على الجبريَّة نفاة الحكمة.

وكقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: «اللهمَّ إنِّي عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصِيَتِي بيدك، ماضٍ فِيَّ حكمك، عدلٌ فِيَّ قضاؤك

»

(1)

، ففيه ردٌّ على الطائفتين.

ففي قوله: «ماضٍ فِيَّ حكمُك» ؛ ردٌّ على القدريَّة الذين ينكرون قدرته ومشيئته لأفعال العباد من الشرِّ والظلم وغيرهما.

وفي قوله: «عدلٌ فِيَّ قضاؤك» ؛ ردٌّ على الجبريَّة الذين ينكرون حكمته وعدله في تدبير شؤون خلقه، وينسبون له الشرَّ والظلم.

قال الإمام ابن القيِّم: «ومَن تأمَّل كلام سلف الأمَّة وأئمَّة أهل السنَّة رآه ينكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط، فينكر قول المعتزلة المكذِّبين بالقدر، وقول الجهميَّة المنكرين للحِكَم والأسباب والرحمة، فلا يرضون لأنفسهم بقول القدريَّة المجوسيَّة، ولا بقول القدريَّة الجبريَّة نفاة الحكمة والرحمة والتعليل»

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه (48).

(2)

إعلام الموقعين (1/ 253).

ص: 115

‌المبحث الخامس معتقد أهل السنة في تنزُّه الله عن الظلم، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم

دلَّت الأدلَّة على تنزُّه الله عن الظلم، وأنه لا يقع منه؛ فقد نفاه الله عن نفسه، وحرَّمه على نفسه؛ فلا يظلم العباد مثقال ذرَّةٍ. يقول سبحانه:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، ويقول تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، ويقول تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، ويقول تعالى:{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]. والآيات في هذا كثيرةٌ، وهي ظاهرة الدلالة على أن الله لا يظلم أحدًا من الخلق شيئًا، ولا يقع منه الظلم ولو كان مثقال ذرَّةٍ، ولا يريد ذلك، بل يضاعف الحسنات فضلًا، ويجازي على السيِّئات بمثلها عدلًا.

وفي الحديث القدسيِّ يقول تعالى: «يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا»

(1)

. فأخبر تبارك وتعالى أنه حرَّم الظلم على نفسه وعلى عباده ونهاهم عنه، فالظلم لا يقع منه سبحانه لا في أمره الكونيِّ ولا الشرعيِّ، وأما العباد فهو لم يرده منهم شرعًا، بل حرَّمه عليهم، ولكن يقدِّره كونًا مع بغضه له كسائر الذنوب.

وتنزُّه الله عن الظلم مجمَعٌ عليه بين المسلمين؛ لما تقدَّم من الأدلَّة، ولم ينازع في هذا أحدٌ من أهل القبلة.

(1)

تقدم تخريجه ص (72).

ص: 116

ولكن اختلفوا في حقيقة الظلم المنفيِّ عن الله على ثلاثة أقوالٍ:

‌القول الأول: (قول أهل السنَّة):

قالوا: حقيقة الظلم المنفيِّ عن الله تعالى: وضع الأشياء في غير مواضعها. فهو متنزِّهٌ عنه، مع اتِّصافه بكمال ضدِّه، وهو العدل الذي هو وضع الأشياء في مواضعها التي تليق بها. وهو سبحانه يفعل باختياره ومشيئته، فيعدل تفضُّلًا، ولا يظلم تنزُّهًا، وهو مستحقٌّ للحمد والثناء على تفضُّله وتنزُّهه

(1)

.

ويدخل في عموم الظلم الذي يتنزَّه الله عنه ما ذكره سبحانه في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]. قال ابن عبَّاس: «لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يُظلَم فيُزاد عليه في سيِّئاته، ولا يُظلَم فيُهضَم في حسناته»

(2)

. وبهذا قال جمعٌ من المفسِّرين

(3)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -في سياق حكايته للأقوال في مسألة الظلم المنفيِّ عن الله بعد ذكره لقولي المعتزلة والجهميَّة-: «والصواب القول الثالث، وهو: أن الظلم وضع الأشياء في غير مواضعها، وكذلك ذكره أبو بكر بن الأنباريِّ وغيره من أهل اللغة، وذكروا على ذلك عدَّة شواهد، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع، وحينئذٍ فليس في الوجود ظلمٌ من الله سبحانه، بل قد وضع كلَّ شيءٍ موضعه مع قدرته على أن يفعل خلاف ذلك، فهو سبحانه يفعل باختياره ومشيئته، ويستحقُّ الحمد والثناء على أن يعدل ولا يظلم»

(4)

.

(1)

انظر: جامع الرسائل (1/ 129)، وشفاء العليل (2/ 510).

(2)

تفسير الطبري (16/ 176).

(3)

انظر: تفسير الطبري (16/ 176)، ومجموع الفتاوى (1/ 219)، وتفسير السمعاني (3/ 357)، وتفسير البغوي (5/ 296).

(4)

جامع الرسائل (1/ 129).

ص: 117

وقال في موطنٍ آخر: «والقول الثالث: إن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والعدل وضع كلِّ شيءٍ في موضعه. وهو سبحانه حَكَمٌ عدلٌ يضع الأشياء مواضعها، ولا يضع شيئًا إلا في موضعه الذي يناسبه وتقتضيه الحكمة والعدل، ولا يفرِّق بين متماثلين، ولا يسوِّي بين مختلفين، ولا يعاقب إلا مَنْ يستحقُّ العقوبة، فيضعها موضعها؛ لما في ذلك من الحكمة والعدل.

وأما أهل البرِّ والتقوى فلا يعاقبهم البتَّة، قال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]، وقال تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] الآية»

(1)

.

‌القول الثاني: (قول الجبريَّة من الجهميَّة والأشاعرة ومَن وافقهم من الظاهريَّة).

قالوا: الظلم هو التصرُّف في ملك الغير بغير إذنه، أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته. وكلاهما منتفٍ في حقِّ الله تعالى

(2)

.

وقالوا: إن الظلم ممتنعٌ عليه، وهو مستحيلٌ في حقِّه سبحانه، كالجمع بين النقيضين، وليس هو داخلًا في اختياره ومشيئته.

ويقولون: كلُّ ما يمكن فهو عدلٌ غير ظلمٍ، ولو عذَّب المطيعين ونعَّم العصاة لم يكن ظالمًا؛ لأن الظلم التصرُّف فيما ليس له، والله تعالى له كلُّ شيءٍ، أو هو مخالفة الأمر، والله لا آمر له

(3)

.

قال الإسفرايينيُّ: «ولهذا قلنا: إن شيئًا من أفعاله لا يكون ظلمًا، وأنه

(1)

جامع الرسائل (1/ 123)(1/ 124)، وانظر: مجموع الفتاوى (18/ 143 - 141).

(2)

جامع الرسائل (1/ 127)، ومفتاح دار السعادة (2/ 105).

(3)

انظر: منهاج السنة (1/ 135)، جامع الرسائل (1/ 127)

ص: 118

سبحانه يستحيل الظلم في وصفه؛ لأنه لا يتصرَّف في غير ملكه، ومن تصرَّف في ملكه لم يتقرَّر عليه الاعتراض في فعله، ومَن تصرَّف في ملكه فليس بظالمٍ في أفعاله»

(1)

.

وقال ابن حزمٍ: «وأنه لا يلزم لأحدٍ على الله تعالى حقٌّ ولا حجَّةٌ، ولله تعالى على كلِّ مَنْ دونه وما دونه الحقُّ الواجب والحجَّة البالغة، لو عذَّب المطيعين والملائكة والأنبياء في النار مخلَّدين؛ لكان ذلك له، ولكان عدلًا وحقًّا منه، ولو نعَّم إبليس والكفَّار في الجنَّة مخلَّدين؛ كان ذلك له، وكان حقًّا وعدلًا منه، وإن كلَّ ذلك إذ أباه الله تعالى وأخبر أنه لا يفعله صار باطلًا وجورًا وظلمًا»

(2)

.

وقال الشهرستانيُّ -في حكاية قول الأشعريَّة في المسألة-: «وهو المالك في خلقه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنَّة؛ لم يكن حيفًا، ولو أدخلهم النار؛ لم يكن جورًا، إذ الظلم هو التصرُّف فيما لا يملكه المتصرِّف، أو وضع الشيء في غير موضعه. وهو المالك المطلق؛ فلا يُتصوَّر منه ظلمٌ، ولا يُنسَب إليه جورٌ»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في حكاية قولهم -بعد ذكره لقول المعتزلة في حقيقة الظلم المنفيِّ عن الله-: «فعارض هؤلاء آخرون من أهل الكلام المثبتين للقدر، فقالوا: ليس للظلم منه حقيقةٌ يمكن وجودها، بل هو من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوز أن يكون مقدورًا، ولا أن يُقال: إنه هو تاركٌ له باختياره ومشيئته، وإنما هو من باب الجمع بين الضدَّين، وجعل الجسم الواحد في مكانين، وقلب

(1)

التبصير في الدين (ص: 169).

(2)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 60).

(3)

الملل والنحل (1/ 101).

ص: 119

القديم محدَثًا والمحدَث قديمًا، وإلا فمهما قُدِّر في الذهن وكان وجوده ممكنًا -والله قادرٌ عليه- فليس بظلمٍ منه؛ سواءٌ فعله أو لم يفعله.

وتلقَّى هذا القول عن هؤلاء طوائف من أهل الإثبات من الفقهاء وأهل الحديث من أصحاب مالكٍ والشافعيِّ وأحمد وغيرهم ومن شرّاح الحديث ونحوهم، وفسَّروا هذا الحديث

(1)

بما ينبني على هذا القول. وربَّما تعلَّقوا بظاهرٍ من أقوالٍ مأثورةٍ، كما رُوِّينا عن إياس بن معاوية أنه قال:«ما ناظرت بعقلي كلِّه أحدًا إلا القدريَّة، قلت لهم: ما الظلم؟ قالوا: أن تأخذ ما ليس لك، أو أن تتصرَّف فيما ليس لك. قلت: فلله كلُّ شيءٍ» . وليس هذا من إياسٍ إلا ليبيِّن أن التصرُّفات الواقعة هي في ملكه، فلا يكون ظلمًا بموجَب حدِّهم»

(2)

.

‌القول الثالث: (قول المعتزلة).

عرَّفوا الظلم بأنه: إضرار غيرِ مستحقٍّ

(3)

.

وقال القاضي عبد الجبَّار: «الظلم: كلُّ ضررٍ لا نفع فيه، ولا دفع ضررٍ»

(4)

.

وقالوا: الظلم الذي يتنزِّه الله عنه هو الظلم الذي يكون من الآدميِّين بعضهم لبعضٍ، فشبَّهوا أفعاله بأفعال العباد، ثم زعموا أن خلقه لأفعال العباد وإرادته لأعمالهم وتعذيبه للعاصي ظلمٌ منه يتنزَّه عنه، ونفوا كلَّ ذلك عنه بدعوى العدل، وسمَّوا أنفسهم العدليَّة

(5)

.

(1)

يعني الحديث القدسيَّ: «يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي

».

(2)

مجموع الفتاوى (18/ 138 - 139).

(3)

جامع الرسائل (1/ 127).

(4)

شرح الأصول الخمسة (ص: 334).

(5)

انظر: مجموع الفتاوى (18/ 138)، ومنهاج السنة (5/ 96).

ص: 120

وأكثرهم يقولون بقدرة الله على الظلم والجور ولكنه لا يظلم ولا يجور، كما حكاه عنهم الأشعريُّ

(1)

.

قال القاضي عبد الجبَّار: «وأحد ما يدلُّ على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقًا لأفعال العباد: هو أن في أفعال العباد ما هو ظلمٌ وجورٌ، فلو كان الله تعالى خالقًا لها لوجب أن يكون ظالمًا جائرًا تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا»

(2)

.

وقال ابن حزمٍ في نقد معتقدهم: «الكلام في التعديل والتجوير: وهذا الباب هو أصل ضلالة المعتزلة نعوذ بالله من ذلك، على أننا رأينا منهم مَنْ لا يرضى عن قولهم فيه، وذلك أن جمهورهم قالوا: وجدنا مَنْ فَعَل الجور في الشاهد كان جائرًا، ومَن فَعَل الظلم كان ظالمًا، ومَن أعان فاعلًا على فعله ثم عاقبه عليه كان جائرًا عابثًا. قالوا: والعدل من صفات الله تعالى، والظلم والجور منفيَّان عنه. قال تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقال تعالى {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، وقال تعالى {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [التوبة: 70]، وقال تعالى {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]. وقد علم المسلمون أن الله تعالى عدلٌ لا يجور ولا يظلم، ومَن وَصَفَه عز وجل بالظلم والجور فهو كافرٌ. ولكن ليس هذا على ما ظنَّه الجهَّال من أن عقولهم حاكمةٌ على الله تعالى في أن لا يحسن منه إلا ما حسَّنت عقولهم وأنه يقبح منه تعالى ما قبَّحت عقولهم، وهذا هو تشبيهٌ مجرَّدٌ لله تعالى بخلقه؛ إذ حكموا عليه بأنه تعالى يحسن منه ما حسن منا ويقبح منه ما قبح منا ويحكم عليه في العقل

(1)

مقالات الإسلاميين (1/ 160).

(2)

شرح الأصول الخمسة (ص: 334).

ص: 121

بما يحكم علينا»

(1)

.

وقال الشهرستانيُّ في سياق نقله معتقد المعتزلة: «واتَّفقوا على أن العبد قادرٌ خالقٌ لأفعاله خيرها وشرِّها، مستحقٌّ على ما يفعله ثوابًا وعقابًا في الدار الآخرة، والربُّ تعالى منزَّهٌ أن يُضاف إليه شرٌّ وظلمٌ وفعلٌ هو كفرٌ ومعصيةٌ؛ لأنه لو خلق الظلم كان ظالمًا، كما لو خلق العدل كان عادلًا»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -في حكاية معتقدهم وقولهم-: «إن الظلم منه هو نظير الظلم من الآدميِّين بعضهم لبعضٍ، وشبَّهوه ومثَّلوه في الأفعال بأفعال العباد، حتى كانوا هم ممثِّلة الأفعال، وضربوا لله الأمثال، ولم يجعلوا له المثل الأعلى، بل أوجبوا عليه وحرَّموا ما رأوا أنه يجب على العباد ويحرم بقياسه على العباد، وإثبات الحكم في الأصل بالرأي، وقالوا عن هذا: إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالمًا له، والتزموا أنه لا يقدر أن يَهدِي ضالًّا، كما قالوا: إنه لا يقدر أن يُضِلَّ مهتديًا، وقالوا من هذا: إذا أمر اثنين بأمرٍ واحدٍ وخصَّ أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا. إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلمًا. وكذلك ظنُّوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدَّرًا ظلمٌ له، ولم يفرِّقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومَن لم يقم، وإن كان ذلك الاستحقاق خلقه لحكمةٍ أخرى عامَّةٍ أو خاصَّةٍ»

(3)

.

(1)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 56).

(2)

الملل والنحل (1/ 45).

(3)

مجموع الفتاوى (18/ 138).

ص: 122

‌بيان الحق في ذلك ووجه ضلال المخالفين والرد عليهم:

الحق في هذه المسألة هو ما عليه أهل السنة والجماعة وهو أن حقيقة الظلم المنفيِّ عن الله تعالى: وضع الأشياء في غير مواضعها، مع اتِّصافه بكمال ضدِّه، وهو العدل. والإيمان بأنه سبحانه يفعل باختياره ومشيئته، فيعدل تفضُّلًا، ولا يظلم تنزُّهًا.

وليس معنى الظلم الذي يتنَّزه الله عنه هو معنى الظلم الذي يكون من الآدميِّين بعضهم لبعضٍ، كما تقوله القدريَّة المعتزلة؛ فإن هذا تشبيهٌ لأفعال الله بأفعال العباد.

وكذلك ليس الظلم الذي نفاه عن نفسه هو الممتنع عليه الذي لا يدخل تحت قدرته، كما يقوله الجهميَّة المجبرة. ومعلوم أن الممتنع الذي لا يدخل في المقدور لا يُمدَح به أحدٌ، والله تعالى أخبر أنه حرَّم الظلم على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة، والممتنع لا يوصف بذلك. وإنما كتب على نفسه وحرَّم على نفسه ما هو قادرٌ عليه، لا ما هو ممتنعٌ عليه

(1)

.

وقول أهل السنَّة وسطٌ بين مقالتي القدريَّة والجبريَّة. وقد هداهم الله للحقِّ الذي تفرَّقوا فيه.

فهؤلاء المبتدعة أرادوا تنزيه الله عن الظلم الذي نفاه عن نفسه، فضلُّوا عن ذلك، فهم على طرفي نقيضٍ في الضلال ومجانبة الحقِّ الذي دلَّت عليه الأدلَّة، ووقعوا في ضلالاتٍ كثيرةٍ، ونسبوا لله مقالاتٍ باطلةً، بسبب جهلهم بالشرع، وتحكيم عقولهم فيما يجوز على الله ويمتنع، وقد تفرَّدت كلُّ طائفةٍ

(1)

انظر: منهاج السنة (5/ 96)، والفتاوى الكبرى (1/ 77)، وطريق الهجرتين (ص: 117)، وشرح الطحاوية (ص: 453).

ص: 123

منهما بضلالاتٍ وأخطاء:

فالجهميَّة والأشعريَّة أخطؤوا من وجوهٍ:

الأوَّل: أن الظلم عندهم هو الممتنع لذاته، فلا يدخل تحت قدرة الربِّ، وحينئذٍ فلا يترتَّب على تركه مدحٌ، لعدم تعلُّقه بالاختيار والمشيئة.

قال النجاشي الحارثي في هجاء بني العجلان

(1)

:

قُبَيِّلةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ

وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ

فالمراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم. ولذا قال:(قُبَيِّلةٌ) بالتصغير على سبيل التحقير

(2)

.

قال ابن القيِّم: «وعلى قولهم فلا يكون ممدوحًا بترك الظلم؛ إذ لا يُمدَح بترك المستحيل لذاته، ولا فائدة في قوله:(إني حرَّمت الظلم على نفسي)

(3)

»

(4)

.

الثاني: أن الظلم الذي ينفيه هؤلاء الجبريَّة عن الله ليس هو الذي نفاه عن نفسه؛ فإنهم يعتقدون أنه عدمٌ محضٌ يستحيل عليه، لا يتضمَّن عدلًا ولا اختيارًا ولا مشيئةً، وهذا يصحُّ أن يوصف به العاجز الذي لا قدرة له على الفعل، كأن يُقال في الأقطع (لا يسرق)، والأجبِّ (لا يزني)، بل يوصف بذلك الجماد؛ كأن يُقال:(الجدار لا يظلم)، و (الجبل لا يجور). فأيُّ مدحٍ وثناءٍ أثبتوه لله؟!!

قال ابن القيِّم: «فعندهم الظلم لا حقيقة له، بل هو الممتنع لذاته الذي

لا يدخل تحت القدرة، فلا يقدر الربُّ -تعالى- عندهم على ما يُسمَّى ظلمًا

(1)

الحماسة الصغرى لأبي تمام (ص: 216).

(2)

انظر: شرح الطحاوية (ص: 61).

(3)

تقدم تخريجه ص (72).

(4)

شفاء العليل (2/ 754).

ص: 124

حتى يُقال: ترك الظلم وفعل العدل. فعلى قولهم لا فائدة في قوله: «عدلٌ فيَّ قضاؤك» ، بل هو بمنزلة أن يُقال: نافذٌ فيَّ قضاؤك ولا بدَّ، وهو معنى قوله:«ماضٍ فيَّ حكمك» ، فيكون تكريرًا لا فائدة فيه. وعلى قولهم فلا يكون ممدوحًا بترك الظلم»

(1)

.

ومن الأصول المقرَّرة عند الأئمَّة المحقِّقين من أهل السنَّة: أن كلَّ ما نفى الله عن نفسه فهو يتضمَّن معنى ثبوتيًّا، وهو إثبات (كمال ضدِّ المنفيِّ). وهذا أصلٌ مطَّردٌ في كلِّ الصفات المنفيَّة.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وهذا أصلٌ مستمرٌّ، وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمَّن ثبوتًا لا مدح فيه ولا كمال، فلا يَمدَح الربُّ نفسه به، بل ولا يصف نفسه به، وإنما يصفها بالنفي المتضمِّن معنى ثبوتٍ»

(2)

.

ونفي الله الظلم عن نفسه جارٍ على هذا الأصل.

قال ابن القيِّم: «وحَمِد نفسه بأنه لا يظلم أحدًا، لكمال عدله وإحسانه»

(3)

.

وقال ابن أبي العزِّ الحنفيُّ: «وكذلك كلُّ نفيٍ يأتي في صفات الله -تعالى- في الكتاب والسنَّة إنما هو لثبوت كمال ضدِّه، كقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]؛ لكمال عدله»

(4)

.

وبهذا يتبيَّن ضلال هؤلاء الجبريَّة وقصورهم عن المعنى الصحيح المراد لله بنفيه الظلم عن نفسه عندما زعموا أن الظلم ممتنعٌ عليه.

(1)

شفاء العليل (2/ 753 - 754).

(2)

دقائق التفسير (2/ 126).

(3)

مدارج السالكين (1/ 51).

(4)

شرح الطحاوية (ص: 61).

ص: 125

الثالث: أن قولهم بأن الظلم ممتنعٌ على الله يتضمَّن تعطيل عامَّة النصوص التي نفى الله فيها عن نفسه الظلم.

فلا يكون لقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] معنىً صحيحٌ؛ لأن الظلم المستحيل عليه لا يدخل تحت إرادته.

ولا يكون لقوله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي»

(1)

مدلولٌ صحيحٌ؛ لأن ما امتنع عليه إنما لم يقع منه لامتناعه عليه لا لكونه حرَّمه على نفسه، فيكون بمنزلة قول الأعمى:(حرَّمت على نفسي أن أنظر إلى الجبل).

ولا يكون لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112] معنىً يُعقَل، فالمستحيل لا يُخاف منه أن يقع؛ لامتناع وقوعه، ويكون هذا نحو قول الأعمى:(أخاف أن أنظر إلى امرأةٍ أجنبيَّةٍ عليَّ)

(2)

.

الرابع: أن هؤلاء قد نسبوا إليه الظلم الذي نفاه عن نفسه في قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]، ونفوا عنه الحكمة التي أثبتها لنفسه في قوله:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36]، وقوله:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]؛ وذلك بتجويزهم عليه التسوية بين المطيعين والعصاة، بل بتفضيل العصاة على المطيعين، وأنه يجوز أن يعذِّب المطيعين والمتَّقين، وينعِّم العصاة والمجرمين. وأنه يجوز عليه وضع الشيء

(1)

تقدم تخريجه ص (72).

(2)

انظر: شفاء العليل (2/ 754).

ص: 126

في غير موضعه، وأن كلَّ ذلك عدلٌ منه و ليس بظلمٍ في حقِّه، بدعوى أنه متصرِّفٌ في ملكه. فقد كذبوا على الله بنسبتهم له ما نفى عن نفسه من الظلم، ونفيهم عنه ما أثبت لنفسه من الحكمة.

‌وأما المعتزلة ومَن وافقهم فأخطؤوا من وجوهٍ أيضًا:

الأوَّل: أنهم جعلوا الظلم الذي يتنزَّه الله عنه هو الظلم الذي يكون من الآدميِّين بعضهم لبعضٍ، فشبَّهوا أفعاله بأفعال العباد، فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد، ويحرِّمون عليه من جنس ما يحرِّمون على العبد، ويُسمُّون ذلك (العدل والحكمة)، مع قصور عقولهم عن معرفة حكمته وعدله

(1)

.

والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41]، وقال تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

الثاني: أنهم زعموا أن خلق الله لأفعال العباد، وإرادته لأعمالهم، وتعذيبه للعاصي؛ ظلمٌ منه يتنزَّه عنه. والله تعالى أثبت ذلك لنفسه، قال تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، وقال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]. فأثبت الله لنفسه خلق أعمال العباد، وأثبت أن مشيئتهم لا تنفذ إلا بمشيئته. وأخبر عن ثوابه لهم على الطاعات وعقابه لهم على السيِّئات، ثم نفى عن نفسه الظلم في ثوابهم وعقابهم.

وهؤلاء المعتزلة نفوا عن الله ما أثبت لنفسه وسمَّوه ظلمًا، وأثبتوا لله ما نفاه عن نفسه وسمَّوه عدلًا.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 91).

ص: 127

الثالث: أنهم ينسبون إلى الله الظلم فيما ادَّعوه من تخليد العصاة الموحِّدين في نار جهنَّم، ويُسمُّونه عدلًا. وينفون عنه رحمته بعباده وعفوَه عنهم، ويسمُّونه ظلمًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وجمهور هؤلاء الذين يُسمُّون أنفسهم (عدليَّة) يقولون: مَنْ فعل كبيرةً واحدةً أُحبِطت جميع حسناته وخُلِّد في نار جهنَّم. فهذا الذي سمَّاه الله ورسوله ظلمًا يصفون الله به، مع دعواهم تنزيهه عن الظلم، ويُسمُّون تخصيصه مَنْ يشاء برحمته وفضله وخَلقِهِ ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلمًا»

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 92) مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 122).

ص: 128

‌الفصل الثالث

المسائل المتعلِّقة بأعمال العباد في باب القدر

ويشتمل على خمسة مباحث:

المبحث الأوَّل: معتقد أهل السنة في الرضى بالقدر، و أقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم.

المبحث الثاني: معتقد أهل السنة في استطاعة العبد، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الثالث: بيان أن الإيمان بالقدر لا يسوِّغ الاتِّكال وترك العمل، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم

المبحث الرابع: بيان النهي عن الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وتوجيه محاجَّة آدم لموسى.

المبحث الخامس: بيان النهي عن الخوض في القدر، وحقيقة الخوض وحدّه.

ص: 129

‌المبحث الأوَّل معتقد أهل السنة في الرضى بالقدر، وبيان أقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم

اختلف الناس في هذا المسألة على ثلاثة أقوالٍ:

‌القول الأوَّل: (قول أهل السنَّة).

قالوا: الرضى بالقضاء فيه تفصيلٌ باعتبار متعلَّقه؛ فإن القضاء إما أن يتعلَّق (بالطاعات والمعاصي)، أو (بالمسرَّات والمصائب).

وحكم الرضى به على وجهين:

الوجه الأوَّل: ما يُرضى به من القضاء، وهو ما دلَّت النصوص على الرضى به.

وهو على قسمين:

القسم الأوَّل: ما يُقدَّر للعبد من الطاعات، فهذا يجب الرضى به؛ لأن الله رضي لنا الدين، فقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. والواجب على العبد أن يرضى بما رضي له ربُّه من الدين. كما أن العبد أيضًا مأمورٌ في نفسه بالرضى بالدين، ورضاه بدينه منزلةٌ عظيمةٌ توجِب له لذَّة الإيمان، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلمٌ من حديث العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ذاق طعم الإيمان مَنْ رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ رسولًا»

(1)

.

فالرضى بما يقدِّره الله على العبد من فعل الطاعات مشروعٌ بل واجبٌ.

(1)

أخرجه مسلم (34).

ص: 131

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «والرضى بالقضاء ثلاثة أنواعٍ:

(أحدها): الرضى بالطاعات؛ فهذا طاعةٌ مأمورٌ بها.

و (الثاني): الرضى بالمصائب؛ فهذا مأمورٌ به: إما مستحبٌّ، وإما واجبٌ.

و (الثالث): الكفر والفسوق والعصيان؛ فهذا لا يُؤمر بالرضى به، بل يُؤمر ببغضه وسخطه؛ فإن الله لا يحبُّه ولا يرضاه»

(1)

.

وقال رحمه الله: «ولم يأمر بالرضى بالمقدور، ولكن أمر بالرضى بالمشروع.

فالمأمور به يجب الرضى به، كما في قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]»

(2)

.

وقال ابن القيِّم رحمه الله: «الحكم والقضاء نوعان: دينيٌّ وكونيٌّ؛ فالدينيُّ يجب الرضى به، وهو من لوازم الإسلام»

(3)

.

القسم الثاني: ما يُقدَّر على العبد من النعم والمسرَّات، أو النقم والمصائب مما لا يدخل في اختياره، فهذا يُشرَع الرضى به. وقد احتُجَّ للرضى بهذا بقوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].

قال علقمة بن قيسٍ: «هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيسلِّم ذلك ويرضى»

(4)

.

ومن السنَّة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحبَّ

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 482)، جامع الرسائل (2/ 106).

(2)

منهاج السنة (3/ 204).

(3)

شفاء العليل (2/ 762).

(4)

تفسير الطبري (23/ 12).

ص: 132

قومًا ابتلاهم، فمَن رضي فله الرضى، ومَن سخط فله السخط»

(1)

.

وقال أبو الدرداء: «إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به»

(2)

.

وقال عمر بن عبد العزيز: «أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر»

(3)

.

وقد تقدَّم في كلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة قوله: «الثاني: الرضى بالمصائب، فهذا مأمورٌ به: إما مستحبٌّ وإما واجبٌ»

(4)

.

وقال في موطنٍ آخر: «وقد تنازع الناس في الرضى بالفقر والمرض والذلِّ ونحوها، هل هو مستحبٌّ أو واجبٌ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. وأكثر العلماء على أن الرضى بذلك مستحبٌّ وليس بواجبٍ

والقول الثاني: إنه واجبٌ؛ لأن ذلك من تمام رضاه بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا»

(5)

.

والخلاف في وجوب الرضى أو استحبابه إنما هو فيما يُقدَّر من المصائب والبلاء، وأما ما يُقدَّر من النعم والمسرَّات؛ فالرضى به واجبٌ.

قال ابن القيِّم: «فنقول: الحكم والقضاء نوعان: دينيٌّ، وكونيٌّ

(1)

أخرجه الترمذي (2396)، وابن ماجه (4031)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع ح (2110).

(2)

ذكره ابن أبي الدنيا في الرضا عن الله بقضائه (ص: 47) رقم (6)، وابن الجوزي في الثبات عند الممات (ص: 35)، وابن القيم في زاد المعاد (4/ 178)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 486).

(3)

ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 487).

(4)

تقدم ص (148).

(5)

منهاج السنة (3/ 204).

ص: 133

والكونيُّ منه ما يجب الرضى به، كالنعم التي يجب شكرها، ومن تمام شكرها الرضى بها. ومنه ما لا يجوز الرضى به، كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله، وإن كانت بقضائه وقدره. ومنه ما يُستحَبُّ الرضى به، كالمصائب، وفي وجوبه قولان»

(1)

.

الوجه الثاني: ما يُقدَّر على العبد من الكفر والبدع والمعاصي؛ فهذا النوع فيه تفصيلٌ؛ فإن ما يقدِّره الله منها له وجهان:

الأوَّل: من جهة كونها فعلًا للعبد وكسبًا له؛ فهي مكروهةٌ مسخوطةٌ، فلا يُشرَع الرضى بها، بل يُشرَع بغضها وسخطها؛ فإن الله يبغضها، كما قال تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، والكفر قد وقع من الناس فهو مقدَّرٌ، وقد قال تعالى:{إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، وهذا أمرٌ موجودٌ مقدَّرٌ من أقوال العباد، وقد أخبر الله أنه لا يرضاه، فإذا لم يرضه كيف يأمر العبد بأن يرضاه؟ بل الواجب على العبد أن يبغض ما يبغضه الله، ويرضى بما يرضاه الله

(2)

.

الثاني: من جهة كونها مخلوقةً للربِّ؛ فهي محبوبةٌ مرضيَّةٌ؛ لأن الله خلقها وقدَّرها لحكمةٍ، فيُشرَع الرضى بقضائه وقدره، ومتى لحظنا أن الله قضاها وقدَّرها رضينا عن الله وسلَّمنا لحكمه، وهذا من تمام الرضى بالله ربًّا ومالكًا ومدبِّرًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وأما الرضى بالمنهيَّات من الكفر والفسوق والعصيان؛ فأكثر العلماء يقولون: لا يُشرَع الرضى بها، كما لا تُشرَع محبَّتها؛ فإن الله سبحانه لا يرضاها ولا يحبُّها وإن كان قد قدَّرها وقضاها، كما قال

(1)

شفاء العليل (2/ 762).

(2)

انظر: منهاج السنة (3/ 206).

ص: 134

سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقال تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقال تعالى:{وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، بل يسخطها كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]. وقالت طائفةٌ: تُرضى من جهة كونها مضافةً إلى الله خلقًا، وتُسخَط من جهة كونها مضافةً إلى العبد فعلًا وكسبًا. وهذا القول لا ينافي الذي قبله، بل هما يعودان إلى أصلٍ واحدٍ، وهو سبحانه إنما قدَّر الأشياء لحكمةٍ، فهي باعتبار تلك الحكمة محبوبةٌ مرضيَّةٌ، وقد تكون في نفسها مكروهةً ومسخوطةً؛ إذ الشيء الواحد يجتمع فيه وصفان يُحَبُّ من أحدهما ويُكرَه من الآخر، كما في الحديث الصحيح:(ما تردَّدت عن شيءٍ أنا فاعله تردُّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بدَّ له منه)

(1)

»

(2)

.

وقال رحمه الله: «فالعبد يوافق ربَّه، فيكره الذنوب ويمقتها ويبغضها؛ لأن الله يبغضها ويمقتها، ويرضى بالحكمة التي خلقها الله لأجلها، فهي من جهة فعل العبد لها مكروهةٌ مسخوطةٌ، ومن جهة خلق الربِّ لها محبوبةٌ مرضيَّةٌ؛ لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة، والعبد فعلها وهي ضارَّةٌ له موجِبةٌ له العذاب، فنحن ننكرها ونكرهها وننهى عنها كما أمرنا الله بذلك؛ إذ كان هو أيضًا سبحانه يسخطها ويبغضها، ونعلم أن الله أحدثها لما له في ذلك من الحكمة، فنرضى بقضائه وقدره. فمتى لحظنا أن الله قضاها وقدَّرها رضينا عن الله وسلَّمنا لحكمه. وأما من جهة كون العبد يفعلها؛ فلا بدَّ أن نكره ذلك وننهى

(1)

حديث قدسي أخرجه البخاري (6502).

(2)

مجموع الفتاوى (10/ 42).

ص: 135

عنه ونجتهد في دفعه بحسب إمكاننا، فإن هذا هو الذي يحبُّه الله منا»

(1)

.

‌القول الثاني: (قول الجهميَّة والأشاعرة).

قالوا: الرضى بالقضاء قربةٌ وطاعةٌ، ونحن مأمورون به، فنحن نرضى به ولا نسخطه. فنرضى بكلِّ ما قدَّره الله من المسرَّات والخيرات والنعم، والضرَّاء والبلاء والنقم، وكلِّ ما جرت به المقادير من إيمانٍ وكفرٍ وطاعةٍ ومعصيةٍ وخيرٍ وشرٍّ.

وهذا بناءً على أصلهم أن الإرادة والمشيئة مستلزمتان للمحبَّة والرضى. قالوا: كلُّ ما قدَّره الله وقضاه فهو محبوبٌ ومرضيٌّ له، ونحن مأمورون بالرضى بالقضاء، والرضى بما رضي الله به.

قال أبو بكرٍ الباقلانيُّ: «ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبَّته ورضاه ورحمته وكراهيته وغضبه وسخطه وولايته وعداوته كلَّها راجعٌ إلى إرادته، وأن الإرادة صفةٌ لذاته غير مخلوقةٍ»

(2)

.

وقال الإمام ابن القيِّم رحمه الله في وصف عقيدتهم: «فقالت الجبريَّة: الكون كلُّه -قضاؤه وقدره، طاعته ومعاصيه، خيره وشرُّه-؛ فهو محبوبه

ثم بنوا على ذلك أنهم مأمورون بالرضاء بالقضاء، وهذه قضاءٌ من قضائه، فنحن نرضى بها، فما لنا ولإنكارها ومعاداة فاعلها، ونحن مأمورون بالرضى بالقضاء؟ فتركَّب من اعتقادهم كونها محبوبةً للربِّ، وكونهم مأمورين بالرضى بها، والتسوية بين الأفعال، وعدم استقباح شيءٍ منها أو إنكاره. وانضاف إلى ذلك

(1)

منهاج السنة (3/ 208).

(2)

الإنصاف (ص: 26).

ص: 136

اعتقادهم جبر العبد عليها، وأنها ليست فعله»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وقالت غلاة الجبريَّة الذين طووا بساط الأمر والنهي: المعاصي بقضاء الله وقدره، والرضاء بالقضاء قربةٌ وطاعةٌ، فنحن نرضى بها ولا نسخطها»

(2)

.

‌القول الثالث: (قول المعتزلة القدريَّة).

قالوا: الرضى بالقضاء مأمورٌ به، فنحن نرضى به. ولكن الكفر والذنوب ليست مقضيَّةً ولا مقدَّرةً من الله، وليست محبوبةً ولا مرضيَّةً له، فلا نرضى بها ولا نحبُّها، بل نسخطها ونبغضها.

وهذا بناءً على أصلهم أن الإرادة والمشيئة مستلزمةٌ للمحبَّة والرضى. قالوا: ونحن نعلم أن الله تعالى لا يحبُّ الكفر والفسوق والعصيان، فلا يشاؤها ولا يقدِّرها، فنحن لا نرضاها ولا نحبُّها.

فذهب القدريَّة إلى إنكار المشيئة والإرادة فيما يقع من الكفر والمعاصي؛ لأن الله لا يحبُّها ولا يرضاها.

قال القاضي عبد الجبَّار: «وأحد ما يدلُّ على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدًا للمعاصي: هو أنه تعالى لو كان مريدًا لها لوجب أن يكون محبًّا لها وراضيًا بها، لأن المحبَّة والرضى والإرادة من بابٍ واحدٍ، بدلالة أنه لا فرق بين أن يقول القائل: أحببت أو رضيت، وبين أن يقول: أردت؛ حتى لو أثبت أحدهما ونفى الآخر لعُدَّ متناقضًا. فهذا جملة الكلام في ذلك»

(3)

.

(1)

مدارج السالكين (1/ 265 - 264).

(2)

شفاء العليل (2/ 761).

(3)

شرح الأصول الخمسة (ص: 453).

ص: 137

وقال الإمام ابن القيِّم: «وقالت القدريَّة النفاة: ليست المعاصي محبوبةً لله ولا مرضيَّةً له، فليست مقدَّرةً له ولا مقضيَّةً، فهي خارجةٌ عن مشيئته وخلقه.

قالوا: ونحن مأمورون بالرضى بالقضاء، ومأمورون بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها، فليست إذًا بقضاء الله؛ إذ الرضى والقضاء متلازمان، كما أن محبَّته ومشيئته متلازمان أو متَّحدان»

(1)

.

وقال رحمه الله: «فقالت القدريَّة النفاة: الرضى بالقضاء طاعةٌ وقربةٌ، والرضى بالمعاصي لا يجوز، فليست بقضائه وقدره»

(2)

.

‌بيان الحق في ذلك ومنشأ خطأ المخالفين والرد عليهم:

الحق في هذه المسألة هو ما عليه أهل السنة. على ما تقدَّم تفصيله.

ومدار قولهم فيها قائم على التفريق بين الإرادتين، فيفرِّقون بين الإرادة الشرعيَّة التي تستلزم محبَّة الله ورضاه، وبين الإرادة الكونيَّة التي قد يخلق الله بها مايحبه ويرضاه و ما لا يحبُّه ولا يرضاه. وكذا التفريق بين مايقدره الله على العبد مما هو داخل في اختيار العبد كأفعال العبد الاختيارية، وما يقدره على العبد مما لا يدخل في اختياره كالنعم والمصائب. وكذلك التفريق بين الأمور المقدرة من جهة كونها فعلًا للعبد وكسبًا له؛ ومن جهة كونها مخلوقةً للربِّ.

ومنشأ خطأ المخالفين من الجبريَّة والقدريَّة عدم التفريق بين الإرادتين، فيجعلون الإرادة نوعًا واحدًا، ويرون أنها بمعنى المحبَّة والرضى، ثم افترقوا فيها:

فغلَّب الجبريَّة جانب القدر، وقالوا: علمنا أن كلَّ شيءٍ بقدرٍ، وكلَّ ما قدَّره الله فهو يحبُّه ويرضاه، ونحن مأمورون بالحبِّ والرضى لكلِّ ما قدَّره ولو كان

(1)

مدارج السالكين (1/ 265).

(2)

شفاء العليل (2/ 761).

ص: 138

من الكفر والمعاصي، فعطَّلوا بذلك الشرع.

وغلَّب القدريَّة جانب الشرع، وقالوا: علمنا أن الله لا يرضى الكفر والمعاصي ولا يحبُّها، فنحن لا نرضاها ولا نحبُّها، وكلُّ ما لا يرضاه ولا يحبُّه فهو لا يقدِّره ولا يخلقه، وعطَّلوا بذلك القدر.

فالجبريَّة مصيبون في قولهم: إن الله قدَّر المعاصي، ضالُّون في زعمهم أن الله يرضاها ويحبُّها.

والقدريَّة مصيبون في قولهم: إن الله لا يرضى المعاصي ولا يحبُّها، ضالُّون في زعمهم أن الله لم يخلقها ويقدِّرها.

وأهل السنَّة جمعوا بين إصابتي الفريقين، وتجنَّبوا ضلالتيهما، وأثبتوا الإرادتين، واعتدلوا في لوازمهما من الرضى والبغض، وجمعوا بين القدر والشرع، ولم يعارضوا بينهما، فلله الحمد والمنَّة على هدايته وتوفيقه.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وجهمٌ ومَن وافقه من المعتزلة اشتركوا في أن مشيئة الله ومحبَّته ورضاه بمعنىً واحدٍ. ثم قالت المعتزلة: وهو لا يحبُّ الكفر والفسوق والعصيان، فلا يشاؤه. فقالوا: إنه يكون بلا مشيئةٍ. وقالت الجهميَّة: بل هو يشاء ذلك؛ فهو يحبُّه ويرضاه. وأبو الحسن وأكثر أصحابه وافقوا هؤلاء؛ فذكر أبو المعالي الجوينيُّ: أن أبا الحسن أوَّل مَنْ خالف السلف في هذه المسألة، ولم يفرِّق به بين المشيئة والمحبَّة والرضى.

وأما سلف الأمَّة وأئمَّتها وأكابر أهل الفقه والحديث والتصوُّف وكثيرٌ من طوائف النظَّار -كالكُلَّابيَّة والكرَّاميَّة وغيرهم-؛ فيفرِّقون بين هذا وهذا؛ ويقولون: إن الله يحبُّ الإيمان والعمل الصالح ويرضى به؛ كما لا يأمر

(1)

، ولا يرضى

(1)

هكذا وردت في المصدر، والذي يظهر أن الصواب الذي يقتضيه السياق -والله أعلم-: «ويرضى به؛ كما يأمر به، ولا يرضى بالكفر

».

ص: 139

بالكفر والفسوق والعصيان ولا يحبُّه؛ كما لا يأمر به، وإن كان قد شاءه»

(1)

.

قال ابن القيِّم: «أصل ذلك كلِّه هو الفرق بين محبَّة الله ورضاه، ومشيئته وإرادته الكونيَّة. ومنشأ الضلال في هذا الباب من التسوية بينهما، أو اعتقاد تلازمهما، فسوَّى بينهما الجبريَّة والقدريَّة، وقالوا: المشيئة والمحبَّة سواءٌ، أو متلازمان، ثم اختلفوا.

فقالت الجبريَّة: الكون كلُّه -قضاؤه وقدره، طاعته ومعاصيه، خيره وشرُّه-؛ فهو محبوبه. ثم بنوا على ذلك أنهم مأمورون بالرضاء بالقضاء، وهذه قضاءٌ من قضائه، فنحن نرضى بها، فما لنا ولإنكارها ومعاداة فاعلها.

وقالت القدريَّة النفاة: ليست المعاصي محبوبةً لله ولا مرضيَّةً له، فليست مقدَّرةً له ولا مقضيَّةً، فهي خارجةٌ عن مشيئته وخلقه. قالوا: ونحن مأمورون بالرضى بالقضاء، ومأمورون بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها، فليست إذًا بقضاء الله، إذ الرضى والقضاء متلازمان، كما أن محبَّته ومشيئته متلازمان، أو متَّحدان.

ومذهب سلف الأمَّة وأئمَّتها أنه مسخوطٌ للربِّ، مكروهٌ له قدرًا وشرعًا، مع أنه وُجِد بمشيئته وقضائه، فإنه يخلق ما يحبُّ وما يكره، فالكفر والشكر واقعان بمشيئته وقدره، وأحدهما محبوبٌ له مرضي، والآخر مبغوضٌ له مسخوطٌ»

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 474، 475). وانظر: مجموع الفتاوى (11/ 355).

(2)

باختصارٍ من مدارج السالكين (1/ 266 - 264).

ص: 140

‌المبحث الثاني معتقد أهل السنة في استطاعة العبد و أقوال المخالفين فيها، والرد عليهم

تنازع الناس في استطاعة العبد على أربعة أقوالٍ:

‌القول الأول: (قول أهل السنَّة).

قالوا: إن الاستطاعة نوعان:

الأولى: (استطاعةٌ متقدِّمة على الفعل)، ومرجعها: إلى الصحَّة، وسلامة الجوارح، وارتفاع الموانع. وهي المصحِّحة للفعل، المجوِّزة له. وهي صالحةٌ للضدَّين الفعل والترك.

ودليلها: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}

[آل عمران: 97]، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. ولو كانت هذه الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل لما وجب الحجُّ إلا على مَنْ حجَّ، ولما وجب على أحدٍ من التقوى إلا ما فعل فقط.

وهذه الاستطاعة متعلقةٌ بالأوامر الشرعيَّة الدينيَّة، وهي مناط الأمر والنهي، وبها يحصل الثواب والعقاب، وعليها يتكلَّم الفقهاء، وهي الغالبة في عرف الناس

(1)

.

الثانية: (استطاعةٌ مقارنةٌ للفعل)، ومرجعها إلى التوفيق، وإعانة الله للعبد على الفعل. وهي الموجبة للفعل، المحقِّقة له. وهي لا تصلح لغيره.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 373 - 372)، والفصل (3/ 20).

ص: 141

ودليلها: قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وقوله:{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101].

وهذه الاستطاعة متعلِّقةٌ بالأوامر الكونيَّة الخلقيَّة التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقَّق وجود الفعل الكونيِّ

(1)

.

وقد قرر الأئمة المحققون من أهل السنة نوعي الاستطاعة وذكروا الفرق بينهما:

قال الإمام الطحاويُّ: «والاستطاعة التي يجب بها الفعل -من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به-؛ تكون مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع، والتمكين وسلامة الآلات؛ فهي قبل الفعل، وبها يتعلَّق الخطاب»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة بعد نقله الأقوال في الاستطاعة: «والصواب الذي دلَّ عليه الكتاب والسنَّة: أن الاستطاعة متقدِّمةٌ على الفعل ومقارنةٌ له أيضًا، وتقارنه أيضًا استطاعةٌ أخرى لا تصلح لغيره. فالاستطاعة «نوعان» : متقدِّمةٌ صالحةٌ للضدَّين، ومقارنةٌ لا تكون إلا مع الفعل. فتلك هي المصحِّحة للفعل المجوِّزة له، وهذه هي الموجِبة للفعل المحقِّقة له»

(3)

.

وذكر رحمه الله في موطن آخر- أن هذا هو قول المحقِّقين من أهل السنَّة وغيرهم، قال: «وأما الذي عليه المحقِّقون من أئمَّة الفقه والحديث والكلام

(1)

انظر: المصدرين السابقين.

(2)

الطحاوية مع شرحها (ص: 433).

(3)

مجموع الفتاوى (8/ 372)، وانظر: الفتاوى الكبرى (1/ 147).

ص: 142

وغيرهم؛ فإثبات النوعين جميعًا»

(1)

.

‌القول الثاني: (قول الجهميَّة وطائفةٍ من الأزارقة).

قالوا: إنه ليس للعبد استطاعةٌ، لا قبل الفعل ولا معه. وهذا بناءً على أصلهم أنه ليس للعبد فعلٌ ولا قدرةٌ، وإنما الفاعل على الحقيقة هو الله، والعبد مجبورٌ على فعله، ونسبة الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، كما يُقال: أمطرت السماء، وسال الوادي

(2)

.

‌القول الثالث: (قول المعتزلة والشيعة، وهو الغالب على نفاة القدر).

قالوا: للعبد استطاعةٌ تكون قبل الفعل، ولا تكون معه البتَّة. وهي صالحةٌ للضدَّين، ويستطيع بها العبد أن يفعل الخير والشرَّ، والطاعة والمعصية

(3)

.

القول الرابع: (قول الأشاعرة، وهو الغالب على مثبتة القدر).

قالوا: للعبد استطاعةٌ مع الفعل لا تكون قبله. وهي لا تصلح للضدَّين، وإنما تصلح لفعلٍ واحدٍ؛ إذ هي مقارنةٌ له لا تنفكَّ عنه

(4)

.

بيان الحق في ذلك والرد على المخالفين:

كلُّ هذه الأقوال المخالفة لقول أهل السنة باطلةٌ ومردودة بالنصوص المتقدم نقلها في معتقد أهل السنة. وأبعد هذه الأقوال عن الحقِّ وأغرقها في الضلال؛ قول الجهميَّة، ثم يليه في الفساد قول الأشاعرة، ثم قول المعتزلة

(5)

.

(1)

مجموع الفتاوى (18/ 173).

(2)

انظر: الملل والنحل (1/ 87)، والفرق بين الفرق (ص: 199)، والفصل (3/ 14).

(3)

انظر: الفرق بين الفرق (ص: 84)، والفصل (3/ 14)، ومجموع الفتاوى (8/ 371).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 371).

(5)

انظر: الفتاوى الكبرى (6/ 641).

ص: 143

وليس للجهميَّة مستندٌ صحيحٌ أو أثارةٌ من علمٍ فيما ادَّعوه. وغاية ما عند المعتزلة والأشاعرة من الحجج النقليَّة لقوليهما هو إثبات ما أثبتته تلك الطائفة من أحد نوعي الاستطاعة، لكن ليس فيه دلالةٌ على إبطال النوع الآخر منهما. وبمجموع النصوص تُخصَم كلُّ طائفةٍ، ويظهر الحقُّ الذي عليه أهل السنَّة، فلله الحمد والمنَّة.

ص: 144

‌المبحث الثالث بيان أن الإيمان بالقدر لا يسوِّغ الاتِّكال وترك العمل، وأقوال المخالفين في ذلك، والرد عليهم

مدار هذا الدين على الإيمان بالقدر، والعمل بالشرع. لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر، ولا يستقيم الإيمان إلا بتحقيقهما جميعًا؛ ولذا قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما:«القدر نظام التوحيد؛ فَمَنْ وحَّد الله وآمن بالقدر تَمَّ توحيده، ومَن وحَّد الله وكذَّب بالقدر نقض توحيده»

(1)

.

وقد دلَّت الأدلَّة على ذلك؛ فقد سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبةٍ عن الاتِّكال على القدر وترك العمل، فأمر بالعمل مع الإيمان بالقدر.

روى الشيخان من حديث عليٍّ رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ جالسًا وفي يده عودٌ ينكت به، فرفع رأسه، فقال:«ما منكم من نفسٍ إلا وقد عُلِمَ مَنْزلها من الجنَّة والنار» ، قالوا: يا رسول الله! أفلا نتَّكل؟ قال: «لا، اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِق له» ، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} ، إلى قوله:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}

(2)

.

وفي الصحيحين أيضًا عن عمران بن حُصينٍ رضي الله عنه، قال: قال رجلٌ:

يا رسول الله! أيُعرَف أهل الجنَّة من أهل النار؟ قال: «نعم» ، قال: فَلِمَ يعمل العاملون؟ قال: «كلٌّ يعمل لِمَا خُلِقَ له، أو: لِمَا ييسَّر له»

(3)

.

(1)

تقدم تخريجه ص (6). وذكره بهذا اللفظ شيخ الإسلام ابن تيمية. مجموع الفتاوى (8/ 258)، وابن القيم في مدارج السالكين (1/ 102).

(2)

أخرجه البخاري (6605)، ومسلم (2647) واللّفظ له.

(3)

أخرجه البخاري (6596)، ومسلم (2649).

ص: 145

وأخرج مسلمٌ من حديث سراقة بن مالكٍ، أنه قال: يا رسول الله! بَيِّن لنا ديننا كأنا خُلِقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أَفِيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال:«بل فيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير» ، قال: ففيم العمل؟ قال: «اعملوا فكلٌّ مُيَسَّرٌ»

(1)

.

والأدلَّة في هذا المعنى كثيرةٌ، وهي ظاهرة الدلالة على وجوب العمل، وعدم الاتِّكال على القدر، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن القدر، وأخبر أن الناس يعملون فيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير، أي: أن أعمال الناس كلَّها مقدَّرةٌ جرت بها أقلام المقادير السابقة، وكذلك أخبر أنه جرت المقادير بكتابة أهل الجنَّة وأهل النار ومنازلهم في الدارين بما علمه الله بعلمه السابق لوجودهم.

ولما سُئل عليه الصلاة والسلام عن العمل أمر به، وقال:«اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِق له» . أي: أن أهل السعادة ميسَّرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ميسَّرون لعمل أهل الشقاوة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا من أحسن ما يكون من البيان؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم الأمور على ما هي عليه، وهو قد جعل للأشياء أسبابًا تكون بها، فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب»

(2)

.

والمقصود أن الأحاديث صريحةٌ في وجوب الإيمان بالقدر والاجتهاد في العمل بالشرع.

قال ابن القيِّم: «فاتَّفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجِب الاتِّكال عليه، بل يوجِب الجدَّ والاجتهاد؛ ولهذا لما

(1)

أخرجه مسلم (2648).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 68).

ص: 146

سمع بعض الصحابة ذلك قال: «ما كنت أشدَّ اجتهادا مني الآن» . وهذا مما يدلُّ على جلالة فقه الصحابة ودقَّة أفهامهم وصحَّة علومهم؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب؛ وإن العبد ينال ما قُدِّر له بالسبب الذي أُقدِر عليه ومُكِّن منه وهُيِّئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أمِّ الكتاب، وكلما زاد اجتهادًا في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه، وهذا كما إذا قُدِّر له أن يكون من أعلم أهل زمانه، فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلُّم وأسبابه»

(1)

.

وقد قرَّر العلماء هذه المسألة ونصُّوا عليها في كتبهم المصنَّفة في الاعتقاد، وشروح السنَّة، والسلوك والآداب، وحكوا إجماع السلف وأئمَّة أهل السنة على ذلك، وأنه لم يخالف فيها إلا أهل البدع.

قال الخطَّابيُّ تعليقًا على حديث عليٍّ: «فهذا الحديث إذا تأمَّلته أصبت منه الشفاء فيما يتخالجك من أمر القدر، وذلك أن السائلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والقائلَ له: أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ لم يترك شيئًا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في باب التجوير والتعديل إلا وقد طالب به وسأل عنه، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروكٌ، والمطالبةَ عليه ساقطةٌ، وأنه أمرٌ لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عُقِلت معانيها، وجرت معاملات البشر فيما بينهم عليها، وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل؛ ليكون أمارةً في الحال العاجلة لما يصيرون إليه في الحال الآجلة، فمَن تيسَّر له العمل الصالح كان مأمولًا له الفوز، ومَن تيسَّر له العمل الخبيث كان مخوفًا عليه الهلاك، وهذه أماراتٌ من جهة العلم الظاهر وليست بموجِبات؛ فإن الله سبحانه طوى علم

(1)

شفاء العليل (1/ 119 - 120).

ص: 147

الغيب عن خلقه وحجبهم عن دَرَكه، كما أخفى أمر الساعة فلا يعلم أحدٌ متى إبَّان قيامها؛ ثم أخبر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أماراتها وأشراطها»

(1)

.

وقال الإمام الآجُرِّيُّ: «فاعلم -رحمك الله- أن الإيمان بهذا واجبٌ، قد أمر العباد أن يعملوا بما أُمِروا من طاعة الله، وينتهوا عما نُهوا عنه من المعصية، والله بعد ذلك موفِّقٌ مَنْ أحبَّ لطاعته، ومقدِّرٌ معصيته على من أراد غيرَ ظالمٍ لهم، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 33]، أحبَّ من عباده الطاعة وأمر بها، فكانت بتوفيقه، وزجر عن المعصية وأراد كونه غير محبٍّ لها ولا آمرًا بها، تعالى عز وجل عن أن يأمر بالفحشاء، وجلَّ أن يكون في ملكه ما لا يريد. هذا -رحمك الله- طريق أهل العلم من الصحابة، والتابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ، وأئمَّة المسلمين»

(2)

.

وقال النوويُّ في شرح بعض الأحاديث المتقدِّمة: «وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل والاتِّكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له، لا يقدر على غيره، ومَن كان من أهل السعادة يسَّره الله لعمل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة يسَّره الله لعملهم، كما قال: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7]، و {لِلْعُسْرَى} [الليل: 10]، وكما صرَّحت به هذه الأحاديث»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا ينافي وجود الأعمال التي بها تكون السعادة والشقاوة، وأن مَنْ كان من أهل السعادة فإنه

(1)

معالم السنن (4/ 318 - 319).

(2)

الأربعون حديثًا (ص: 92).

(3)

شرح النووي على مسلم (16/ 196).

ص: 148

ييسَّر لعمل أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة فإنه ييسَّر لعمل أهل الشقاوة، وقد نُهِي أن يتَّكل الإنسان على القدر السابق، ويدع العمل. ولهذا كان مَنْ اتَّكل على القدر السابق، وترك ما أُمِر به من الأعمال هو من الأخسرين أعمالًا الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وكان تركهم لما يجب عليهم من العمل من جملة المقدور الذي يُسِّروا به لعمل أهل الشقاوة؛ فإن أهل السعادة هم الذين يفعلون المأمور ويتركون المحظور، فمن ترك العمل الواجب الذي أُمِر به وفعل المحظور متَّكلًا على القدر؛ كان من جملة أهل الشقاوة الميسَّرين لعمل أهل الشقاوة»

(1)

.

وقال ابن القيِّم رحمه الله: «وبالجملة؛ فالقرآن من أوَّله إلى آخره صريحٌ في ترتُّب الجزاء بالخير والشرِّ والأحكام الكونيَّة والأمريَّة على الأسباب، بل ترتُّب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال.

ومَن تفقَّه في هذه المسألة وتأمَّلها حقَّ التأمُّل انتفع بها غاية النفع، ولم يتَّكل على القدر جهلًا منه وعجزًا وتفريطًا وإضاعةً، فيكون توكُّله عجزًا، وعجزه توكُّلًا، بل الفقيه كلَّ الفقه الذي يردُّ القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكن الإنسان أن يعيش إلا بذلك؛ فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر. فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حقَّ رعايتها، والله المستعان»

(2)

.

وقال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: «اتَّفقت جميع الكتب السماويَّة والسنن النبويَّة على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتِّكال عليه، بل يوجِب

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 276 - 275).

(2)

الجواب الكافي (ص: 20 - 21).

ص: 149

الجدَّ والاجتهاد والحرص على العمل الصالح»

(1)

.

‌أقوال المخالفين:

وقد خالف أهل البدع في هذه المسألة على قولين:

‌القول الأوَّل: (قول الجبريَّة من الجهميَّة والأشعريَّة، وطائفةٌ من الصوفيَّة والفقهاء).

آمنوا بالقدر، وظنُّوا أن ذلك كافٍ في حصول المقصود، فأعرضوا عن الأسباب الشرعيَّة والأعمال الصالحة بناءً على قولهم في إنكار الأسباب بالكلِّيَّة

(2)

.

وهؤلاء يشهدون قدر الله وقضاءه، ولا يشهدون أمره ونهيه، ويشهدون قيام المخلوقات به وفقرها إليه، ولا يشهدون ما أمر به وأحبه وما نهى عنه وسخطه. ويحققون الاستعانة بالله والتوكل عليه، وإظهار الفقر، والخضوع لقضائه وقدره، مع التقصير في عبادته وطاعتة وامتثال دينه وشرعه

(3)

.

‌القول الثاني: (قول القدريَّة).

آمنوا بالشرع وعظموا الأمر والنهي وبالغوا في قدرة العبد متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم وزعموا: أن العبد بفعله للسبب مستقلٌّ بإيجاده وإحداثه. ولذا أنكروا خلق الله لأفعال العباد، وأنكروا هداية الله لعباده هداية التوفيق، بل زعموا أن الله ليس في مقدوره من الألطاف، والإعانة للعبد غير مافعل، من خلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق، وإرسال الرسل، وتمكينه من الفعل، فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله العبد إياها، ولهذا قصّروا في

(1)

أعلام السنة المنشورة (ص: 85).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 71)(9/ 287 - 288)، وشفاء العليل (2/ 459).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (14/ 10 - 11)، ومدارج السالكين (1/ 103 - 104)

ص: 150

التوكل على الله والاستعانة به في تحقيق مطالب الدين والدنيا وزعموا أنهم بأفعالهم يستحقون على الله الأجر والثواب كما يستحق الأجير من المستأجِر

(1)

.

‌الرد علي المخالفين:

كلٌّ من الجبرية والقدرية قد ضلوا في هذه المسألة وفرَّقوا بين الشرع والقدر، وخالفوا أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الجمع بين الإيمان بالقدر والعمل بالشرع. ظنا منهم التعارض بين الشرع والقدر، وبعد اشتراكهم في هذه الشبهة افترقوا في النتيجة:

فالجبريَّة ومَن وافقهم آمنوا بالقدر وزعموا التسليم للقدر وتفويض الأمر لله، وعطَّلوا الشرع وتركوا العمل والأخذ بالأسباب المشروعة في تحقيق المطالب الدينيَّة والدنيويَّة.

والقدريَّة آمنوا بالشرع وأخذوا بالأسباب وبالغوا فيها، وقالوا: إن العبد بفعله للسبب مستقلٌّ بإيجاده وإحداثه، وأنكروا القدر وخلق الله لأفعال العباد. وقصروا في التوكل والاستعانة.

‌الشبه المتعلقة بهذه المسألة:

والشبه المتعلقة بهذه المسألة وهي: أن (الإيمان بالقدر لا يسوِّغ الاتِّكال وترك العمل)؛ كثيرة وليست مقتصرة على الجبرية والقدرية، بل اشتبهت هذه المسألة على كثيرٍ من الناس، ومن أبرز الشبه فيها ما يأتي:

الشبهة الأولى: قول مَنْ يقول: إذا كانت الأمور مقدَّرةً فِي القِدَم، وأن أقوامًا خُصُّوا بالسعادة وأقوامًا بالشقاوة، والسعيد لا يشقى والشقيَّ لا يسعد، والأعمال لا تراد لذاتها بل لاجتلاب السعادة ودفع الشقاوة؛ فلا وجه لإتعاب النفس فِي عملٍ ولا نكفُّها عَنْ ملذوذٍ؛ لأن المكتوب فِي القدر واقعٌ لا محالة.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 71)، (8/ 520)، (14/ 10)، ومدارج السالكين (1/ 102).

ص: 151

والجواب عَنْ هذه الشبهة أن يُقال لهم: هَذَا ردٌّ لجميع الشرائع، وإبطالٌ لجميع أحكام الكتب، ويترتَّب على هذا لوازم باطلةٌ. فإذا أمر الله في القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ فلقائلٍ أن يقول: لماذا أصلِّي وأزكِّي؟ إن كنت سعيدًا فمصيري إِلَى السعادة، وإن كنت شقيًّا فمصيري إِلَى الشقاوة، وإذا نهى الله عن الزنى والربا؛ يَقُول القائل: لماذا أمنع نفسي ملذوذها، والسعادة والشقاوة مقضيَّتان قد فُرِغ منهما؟ وكان لفرعون أن يخاطب موسى لما أمره بالإيمان بمثل ذلك. ثم يفضي الأمر إِلَى منازعة الخالق، فيقول قائلٌ: مَا فائدة إرسالك الرسل، وسيجري مَا قدَّرتَه على العباد؟

بل يلزم من ترك العمل بالشرع اعتمادًا على القدر أن يقول: أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قضى بالشبع والريِّ حصل، ولافائدة في الأكل والشرب. وغيرها من اللوازم الباطلة.

ولهذا أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه حين قالوا: ألا نتَّكل؟ فقال: «اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِق له» . فبيّن أن للآدميِّ كسبًا هو اختياره، فعليه يقع الثواب والعقاب، فَإِذَا خالف تبيَّن لنا أن اللَّه عز وجل قضى فِي السابق بأن يخالفه، وإنما يعاقبه عَلَى خلافه لا عَلَى قضائه

(1)

.

الشبهة الثانية: شبهة مَنْ يرون شهود (الحقيقة الكونيَّة) دون (الدينيَّة)، وأن العارفين أهل التوحيد هم الذين فنوا في توحيد الربوبيَّة بشهود هذه الحقيقة فسقط عنهم الأمر والنهي، ويجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا الحقيقة الكونيَّة

(2)

.

(1)

تلبيس إبليس (ص: 321)، مجموع الفتاوى (8/ 284).

(2)

العبودية (ص: 64).

ص: 152

ويعنون بشهود الحقيقة الكونيَّة: التسوية بين الموجودات. ويدَّعون أن وجود الخالق فاض عليهم، فأصبح وجود المخلوقات هو عين وجود الخالق، وبالتالي زالت الفوارق عند العارف، فلا يفرِّق بين خالقٍ ومخلوقٍ، وعبدٍ ومعبودٍ، وبارٍّ وفاجرٍ، وأمرٍ ونهيٍ، وطاعةٍ ومعصيةٍ، وخيرٍ وشرٍّ

(1)

.

وهذا قول أصحاب وحدة الوجود: كابن عربيٍّ، وابن سبعين، وأمثالهما من الملاحدة والزنادقة.

والجواب عن ذلك:

أن قول هؤلاء كفرٌ صريحٌ وتكذيبٌ للشريعة بأسرها، وهو أشدُّ من كفر اليهود والنصارى وعامَّة المشركين، والأدلَّة كلُّها شاهدةٌ بكفر هؤلاء وضلالهم وفساد قولهم ومصادمته للنصوص والعقل والفطرة السليمة.

قال ابن القيِّم: «هذه الحقيقة التي يشير إلى عينها طائفة الاتِّحاديَّة، ويعدُّون مَنْ لم يكن من أهلها محجوبًا، وهذه حقيقةٌ كفريَّةٌ اتِّحاديَّةٌ، وهي مع ذلك خيالٌ فاسدٌ، وعقلٌ منكوسٌ، وذوقٌ من عينٍ منتنةٍ، وكفر أهلها أعظم من كفر كلِّ أُمَّةٍ؛ فإنهم جحدوا الصانع حقًّا، وإن أثبتوه جعلوا وجوده وجود كلِّ موجودٍ، والذين أثبتوا الصانع وعدلوا به غيره وسوَّوا بينه وبين غيره في العبادة مقالتهم خيرٌ من مقالة هؤلاء الذين جعلوه وجود كلِّ موجودٍ وعين كلِّ شيءٍ، تعالى الله عما يقول الكاذبون المفترون علوًّا كبيرًا»

(2)

.

وأصحاب هذه الحقيقة مع ادِّعائهم المعرفة وشهود الحقيقة الكونيَّة فهم أجهل الناس وأقلُّهم معرفةً وعلمًا.

(1)

انظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 36)، مدارج السالكين (1/ 180).

(2)

طريق الهجرتين (ص: 348)

ص: 153

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله في الردِّ عليهم: «وهذا ليس بشهودٍ للحقيقة لا الكونيَّة ولا الدينيَّة، بل هو ضلالٌ وعمىً عن شهود الحقيقة الكونيَّة؛ حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كلَّ وصفٍ مذمومٍ وممدوحٍ نعتًا للخالق وللمخلوق؛ إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم»

(1)

.

وحالهم كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، فهم أجهل الناس بالحقيقة الكونيَّة والشرعيَّة.

أما الحقيقة الكونيَّة فهم أضلُّ الناس عنها، وعامَّة المشركين والكفرة أعلم بها منهم؛ فإن أعظم الحقائق الكونيَّة التي يعلمها العقلاء بعقولهم ويشهدها الناس بحواسِّهم وفِطَرهم التباينُ العظيم بين المخلوقات في الوجود والأسماء والصفات والأفعال، وهؤلاء ينكرون هذا التباين ويجعلون الوجود واحدًا، بل لا يفرِّقون بين ربٍّ ومربوبٍ وخالقٍ ومخلوقٍ وعابدٍ ومعبودٍ، فهذا غاية الجهل والحمق والسفه، وليس فوق هذا الجهل جهلٌ بالكون والوجود.

وكذلك هم أجهل الناس بالحقيقة الشرعيَّة؛ فلا يفرِّقون بين إيمانٍ وكفرٍ وتوحيدٍ وشركٍ وطاعةٍ وفسقٍ، بل يجعلون الانسلاخ من الدين غاية الفناء في العبادة، ويزعمون أن فرعون بادِّعائه الربوبيَّة أعظم الموحِّدين الذين شهدوا الحقيقة الكونيَّة.

وقول هؤلاء مما لا يُتَكَلَّف بالتفصيل في ردِّه؛ لمعارضته لعامَّة الأدلَّة، وهو متضمِّنٌ للتكذيب بالدين كلِّه بل بعامَّة الشرائع التي نزلت بها الكتب من الله وما كان عليه الأنبياء والرسل وسائر المؤمنين الموحِّدين السابقين واللاحقين.

الشبهة الثالثة: شبهة بعض المتصوِّفة ومَن وافقهم، ودعواهم: أن من التسليم

(1)

العبودية (ص: 60).

ص: 154

للقدر الاستسلام لكلِّ ما يُقَدَّر على الإنسان، بحيث لا يطلب خلاف ما قُدِّر عليه، ولا يدفع شيئًا من المكروه، حتى يقول قائلهم:«إن العارف لا حظَّ له! أو إنه يصير كالميِّت بين يدي الغاسل!» ، حتى ما يُقَدَّر على أحدهم من المعاصي والذنوب بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جارٍ بمشيئة الله وقضائه وقدره داخلٌ في حكم ربوبيَّته ومقتضى مشيئته، فيظنُّون الاستسلام لذلك وموافقته والرضى به ونحو ذلك دينًا وطريقًا وعبادةً، فيضاهئون المشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]

(1)

.

والجواب عن ذلك:

أن كلامهم هذا باطلٌ مخالفٌ للنصوص وما عليه الأنبياء والرسل وسلف الأمَّة الصالح. لكن في كلامهم إجمالٌ لا بدَّ من التفصيل فيه ليزول الاشتباه.

فيُقال: إن التسليم لأمر الله فيه تفصيلٌ: فالأمر على نوعين: أمرٌ شرعيٌّ دينيٌّ، وأمرٌ كونيٌّ قدريٌّ.

أما الأمر الشرعيُّ الدينيُّ؛ فهذا يجب التسليم له بالقلب والانقياد له بالجوارح، كما قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فأمر الله بتحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا انقيادٌ لحكم الشرع بالجوارح، وأمر بالتسليم لحكمه، وهذا استسلام القلب للشرع، ونفى الإيمان عمن لم يحقِّق ذلك، فدلَّ على وجوب التسليم والانقياد للشرع.

(1)

انظر: العبودية (ص: 55)، مجموع الفتاوى (3/ 117).

ص: 155

وأما الأمر الكونيُّ؛ فعلى قسمين

(1)

:

أ- الأمر الكونيُّ الذي قد وقع واستقرَّ ولا حيلة في دفعه بسببٍ من العبد -كموت القريب، واحتراق البيت-؛ فهذا يجب التسليم فيه لأمر الله. قال تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156 - 157].

ب- القدر الذي وقع واستقرَّ وجعل الله للعبد سببًا لرفعه، كالمرض جعل الله سببًا لرفعه بالتداوي، والعطش جعل الله سببًا لرفعه بشرب الماء، والجوع جعل الله سببًا لرفعه بالأكل، وكذا الذنب إذا وقع جعل الله سببًا لرفع عقوبته بالتوبة وإتباع السيِّئة الحسنة والاستغفار وغيرها من أسباب تكفير الذنوب. فيؤمن العبد بأن كلَّ هذا بقدرٍ، لكن ما أُمِر بالتسليم له بأن لا يسعى في دفع المكروه في الدين والدنيا، بل أُمِر ببذل السبب في رفع القدر بالأسباب التي جعلها الله سببًا لرفعه، فإن ارتفع وإلا سلَّم ورضي، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ؛ فلا تقل: «لو أني فعلت كان كذا وكذا» ، ولكن قل:«قدر الله وما شاء فعل» ، فإن «لو» تفتح عمل الشيطان»

(2)

.

وكذلك أُمِر العبد بتوقِّي وقوع القدر المكروه قبل وقوعه ببذل الأسباب في دفعه بالدعاء؛ فإنه ينفع فيما نزل وما لم ينزل، وكذا بتعاطي الأسباب في دفع المضارِّ، كما جاء عن عمر لما خرج بمن معه من الصحابة يريد دخول الشأم، فأُخبِر بأن الوباء قد وقع بأرض الشأم، فأمر الناس بالرجوع، قال أبو

(1)

انظر: مدارج السالكين (1/ 218).

(2)

أخرجه مسلم (2664).

ص: 156

عبيدة بن الجرَّاح: «أفرارًا من قدر الله؟» ، فقال عمر:«لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله»

(1)

.

فتبيَّن بطلان قول هؤلاء، خاصَّةً قولهم بالتسليم لما يُقدَّر على العبد من الذنوب؛ فإن العبد ما شُرِع له التسليم لذلك، بل شُرِع له التوبة والاستغفار والندم على الذنب والفرار من الذنب إلى التوبة والإنابة إلى الله، كما قال تعالى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]، وقال تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 53 - 54]. والأدلَّة في التوجيه لهذا كثيرةٌ من نصوص الكتاب والسنَّة. وكذلك في الإخبار عن الأنبياء والرسل والصالحين الذين بادروا بالتوبة والاستغفار ولم يقولوا بالتسليم للقدر والرضى بذلك على طريقة هؤلاء المتصوِّفة.

(1)

أخرجه البخاري (5729).

ص: 157

‌المبحث الرابع بيان النهي عن الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وتوجيه محاجَّة آدم وموسى

لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، بل الحجَّة قائمةٌ على العباد بما جعل الله لهم من الإرادة والاختيار والقدرة على أعمالهم من خيرٍ وشرٍّ. وقد دلَّت على ذلك الأدلَّة، وصرَّح به الأئمَّة في تقرير معتقد أهل السنَّة.

وبيان ذلك من وجوهٍ:

أوَّلًا: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا

وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148، 149]. فقد أنكر الله على المشركين احتجاجهم بالقدر على شركهم، وبيَّن أنه من التكذيب الذي وافقوا فيه من قبلهم، وأنهم لم يستندوا فيه لعلمٍ صحيحٍ، بل هم متَّبعون فيه للظنِّ والتخرُّص، وأنه ليس لهم في ذلك حجَّةٌ، بل لله الحجَّة البالغة والحكمة التامَّة في هداية مَنْ هدى وإضلال مَنْ أضلَّ.

وفي معنى الآية السابقة قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، وقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20].

وهذه الآيات هي حجَّةٌ على بطلان مقالة المحتجِّين بالقدر من هذه الأمَّة، وأنهم متشبِّهون في هذا بالمشركين الذين بيَّن الله بطلان مقالتهم بأبلغ حجَّةٍ.

ص: 158

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «فهؤلاء المحتجُّون بالقدر على سقوط الأمر والنهي من جنس المشركين المكذِّبين للرسل، وهم أسوأ حالًا من المجوس. وهؤلاء حجَّتهم داحضةٌ عند ربِّهم، وعليهم غضبٌ، ولهم عذابٌ شديدٌ»

(1)

.

ثانيًا: قول الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]. فأخبر الله أنه ليس للناس على الله حجَّةٌ بعد إرسال الرسل، ولو كان الاحتجاج بالقدر حجَّةً صحيحةً؛ لكان للمشركين وسائر الكفرة يوم القيامة حجَّةٌ على الله، ولم يعذِّبهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «ولو كان القدر حجَّةً لأحدٍ لم يعذِّب الله المكذِّبين للرسل، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود والمؤتفكات وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين»

(2)

.

ثالثًا: أن الاحتجاج بالقدر لو كان حجَّةً صحيحةً لأصحاب الذنوب ويمنع من العقوبة واللوم عليها؛ فهو حجَّةٌ أيضًا لمن عاقبهم ولامهم وذمَّهم على ذنوبهم. ويُذكَر أن رجلًا سرق، فقال لعمر: سرقتُ بقضاء الله وقدره، فقال له عمر:«وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره»

(3)

.

رابعًا: أنه يلزم مَنْ احتجَّ بالقدر على الذنوب ألَّا يلوم أحدًا على خطأ، ولا ينتصر من ظالمٍ ظَلَمَه، ولا يطالب بمعاقبة معتدٍ اعتدى عليه في نفسٍ أو مالٍ أو عرضٍ؛ لأن ذلك كلَّه بقضاء الله، فلا لوم ولا عقوبة على أحدٍ في شيءٍ من ذلك.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 453).

(2)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 133).

(3)

انظر: منهاج السنة (3/ 234)، وشرح الطحاوية (ص: 105).

ص: 159

قال شيخ الإسلام ابن تيمية «ولا يحتجُّ أحدٌ بالقدر إلا إذا كان متَّبعًا لهواه بغير هدىً من الله، ومَن رأى القدر حجَّةً لأهل الذنوب يرفع عنهم الذمَّ والعقاب؛ فعليه أن لا يذمَّ أحدًا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوي عنده ما يوجِب اللذة وما يوجِب الألم، فلا يفرِّق بين مَنْ يفعل معه خيرًا وبين مَنْ يفعل معه شرًّا، وهذا ممتنعٌ طبعًا وعقلًا وشرعًا»

(1)

.

خامسًا: أن الاحتجاج بالقدر إنما يكون على المصائب لا على المعايب، كما دلَّت على ذلك النصوص الصحيحة، و قرَّره الأئمَّة المحقِّقون.

ففي صحيح مسلمٍ من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ؛ فلا تقل: «لو أني فعلت كان كذا وكذا» ، ولكن قل:«قدر الله وما شاء فعل» ، فإن «لو» تفتح عمل الشيطان»

(2)

. فأرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بذل السبب والحرص على الخير والنفع، فإذا أُصيب الإنسان بمصيبةٍ آمن بالقدر وسلَّم لأمر الله، وقال:(قدر الله وما شاء فعل).

وعلى هذا تُحمَل محاجَّة آدم وموسى، كما جاء في حديث أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «احتجَّ آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم، أنت أبونا، خيَّبتنا وأخرجتنا من الجنَّة، قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك بيده، أتلومني على أمرٍ قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنةً؟

(1)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 133).

(2)

أخرجه مسلم (2664).

ص: 160

فحجَّ آدم موسى، فحجَّ آدم موسى»

(1)

.

فهذه المحاجَّة بين آدم وموسى كانت على المصيبة التي لحقت الذرِّيَّة بإخراج آدم من الجنَّة، ولم تكن على ذنب آدم وخطيئته.

ويشهد لهذا عدَّة أمورٍ:

أ- أن موسى كان يحاجُّ في المصيبة التي لحقت الذرِّيَّة بإخراج آدم من الجنَّة، ولذا قال:«خيَّبتنا وأخرجتنا من الجنَّة» ، ولو أراد الذنب لقال:(لِمَ أذنبت وعصيت؟).

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «الصواب في قصَّة آدم وموسى: أن موسى لم يَلُمْ آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذرِّيَّتَه بما فعل، لا لأجل أنَّ تارك الأمر مذنبٌ عاصٍ، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنَّة؟ لم يقل: لِمَ خالفت الأمر؟ ولماذا عصيت؟»

(2)

.

ب- أن موسى كان أعلم من أن يلوم أباه على ذنبٍ قد تاب منه، وموسى قد أذنب وتاب من ذنبه.

قال ابن أبي العزِّ الحنفيُّ: «وموسى عليه السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم عليه السلام على ذنبٍ قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنَّة»

(3)

.

ج- أن آدم أعلم من أن يحتجَّ بالقدر على الذنب، وقد اعترف بذنبه واستغفر منه في مقام العتاب عليه من ربِّه، فكيف يحتجُّ به بعد ذلك في خطابه

(1)

أخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 319).

(3)

شرح الطحاوية (ص 135، 136)، وانظر: مجموع الفتاوى (8/ 321).

ص: 161

المبحث الخامس

بيان النهي عن الخوض في القدر،

وحقيقة الخوض وحدّه

مما يدخل في جملة الإيمان بالقدر: الحذرُ من الخوض في القدر، وتركُ التعمُّق والبحث عما حجب الله عن الخلق علمه في هذا الباب؛ كالتنقيب عن سرِّ الله في القدر، ومعرفة حكمة الله في هداية مَنْ هدى وإضلال مَنْ أضلَّ، والوقوفُ عند حدود النصوص الشرعيَّة الواردة في بيان القدر، والتفقُّهُ فيها بمعرفة المشروع فيُمتثَل، والممنوع فيُجتنَب.

وقد دلَّت على ذلك الأدلَّة.

فعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا ذُكِر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذُكِرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذُكِر القدر فأمسكوا»

(1)

.

وعن عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقَأ في وجهه حبُّ الرمَّان من الغضب، فقال:«بهذا أُمِرتم؟ -أو لهذا خلقتم؟ - تضربون القرآن بعضه ببعضٍ، بهذا هلكت الأمم قبلكم»

(2)

. وقد حذَّر الأئمَّة كذلك من الخوض في القدر، ونقلوا إجماع السلف على ذلك.

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 96) ح (1427)، والبيهقي في القضاء والقدر (ص: 291) (444). وحسَّن إسناده المباركفوري في تحفة الأحوذي (6/ 281)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 155).

(2)

أخرجه ابن ماجه (85). وقال الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 157): «حسن صحيح» . صحيح سنن ابن ماجه (1/ 157).

ص: 163

قال الإمام أحمد في أصول السنَّة: «وأن لا يخاصم أحدًا ولا يناظره، ولا يتعلَّم الجدال؛ فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروهٌ ومنهيٌّ عنه، لا يكون صاحبه -وإن أصاب بكلامه السنَّة- من أهل السنَّة حتى يدع الجدال ويؤمن بالآثار»

(1)

.

وقال الإمام الطحاويُّ: «وأصل القدر سرُّ الله تعالى في خلقه، لم يطَّلع على ذلك ملكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مرسلٌ. والتعمُّق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كلَّ الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسةً؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. فمن سأل: لم فعل؟ فقد ردَّ حكم الكتاب، ومَن ردَّ حكم الكتاب، كان من الكافرين»

(2)

.

وقال ابن بطة: «وقد كان سلفنا وأئمَّتنا -رحمة الله عليهم- يكرهون الكلام في القدر، وينهون عن خصومة أهله ومواضعتهم القول أشدَّ النهي، ويتَّبعون في ذلك السنَّة وآثار المصطفى صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

وقال ابن عبد البرِّ: «والقدر سرُّ الله، لا يُدرَك بجدال، ولا يشفي منه مقالٌ، والحجِاج مرتجةٌ

(4)

مغلقةٌ، لا يفتح شيءٌ منها إلا بكسر شيءٍ، وقد تواترت الآثار

(1)

أصول السنة لأحمد بن حنبل (ص: 20 - 21).

(2)

الطحاوية مع شرحها (ص: 225).

(3)

الإبانة الكبرى (3/ 238).

(4)

الحِجاج: جمع حُجَّةٍ، والحُجَّة هي: البرهان. وقال الأزهريُّ: الحجَّة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة. ومرتجةٌ: أي مغلقةٌ، يُقال: أرتج الباب ورتجه إذا أغلقه، ومنه قول الناس: أُرتِج على فلانٍ في منطقه، إذا انغلق عليه الكلام. والمقصود أن المحاجَّة في القدر طريقها مغلقٌ لا سبيل فيها لتحصيل العلم؛ لأن القدر سرُّ الله. انظر: جمهرة اللغة لابن دريد (1/ 385)، وتهذيب اللغة للأزهري (3/ 251)، ومجمل اللغة لابن فارس (ص: 417).

ص: 164

عن السلف الصالح بالنهي عن الجدال فيه والاستسلام له والإيمان به»

(1)

.

وكلام الأئمَّة في ذلك كثيرٌ، مما يدلُّ على اشتهار ذلك عندهم، واستفاضته فيهم. فعلى المسلم الحريص على دينه أن يسلك طريقهم، ويرضى لنفسه ما ارتضوه لأنفسهم، وأن يسعه ما وسعهم.

ولكن لما كان (الخوض في القدر) لفظًا فيه إجمالٌ، فقد يدَّعي كلُّ متكلِّمٍ في القدر بباطلٍ أن كلامه في ذلك من باب العلم وليس من الخوض المحرَّم في شيءٍ؛ فلا بدَّ من ضبط ذلك ومعرفة الحدِّ الفاصل بين الكلام في القدر بحقٍّ -الذي هو داخل في العلم المرغَّب في طلبه وتحصيله-، وبين الخوض في القدر بالباطل -الواجبِ اجتنابُه والتحذيرُ منه-.

وحدُّ ذلك يحصل بمراعاة الفوارق بين الكلام في القدر بعلمٍ وبين الخوض المحرَّم من عدَّة اعتباراتٍ:

باعتبار النيَّة والقصد من الكلام، وباعتبار المتكلِّم، وباعتبار المتكلَّم فيه، وباعتبار طريقة الكلام.

وبيانها فيما يلي:

‌أوَّلًا: باعتبار النيَّة الباعثة على الكلام في القدر:

الكلام في القدر: كتابةً وتأليفًا، وإرشادًا وتعليمًا، ودعوةً وتوجيهًا؛ يختلف بحسب النيَّة والمقصد الباعثين عليه. فإن أُرِيد به بيان ما شرعه الله لعباده في باب القدر تحقيقًا لصحَّة الاعتقاد وتمام الانقياد لأمر الله بنوعيه الكونيِّ والشرعيِّ؛ فإنه مشروعٌ ممدوحٌ. والكلام فيه داخلٌ في عموم الكلام في مسائل

(1)

الاستذكار (8/ 266).

ص: 165

الشرع سواءً بسواءٍ.

وإن أُرِيد به غير ذلك من المقاصد السيِّئة والإرادات الباطلة؛ فهو محرَّمٌ مذمومٌ. ومن ذلك:

1 -

الكلام في القدر للتلبيس والتشكيك في أصل الدين لصرف المسلمين عن دينهم.

كفعل الكفرة والزنادقة والملاحدة بما يلقونه على المسلمين من شبهٍ في باب القدر وغيره قديمًا وحديثًا. قال تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران: 69]، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]

2 -

الانتصار للبدع والمقالات الباطلة في باب القدر.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرقٍ: مجوسيَّةٍ، ومشركيَّةٍ، وإبليسيَّةٍ»

(1)

.

ووجه خوضهم في القدر أن جميعهم تكلَّموا في القدر انتصارًا لمذاهبهم الباطلة في القدر، لا طلبًا للحقِّ، فما وافق أهواءهم من النصوص أخذوا به، وما خالفها ردُّوه وتأوَّلوه. وهم على ثلاث مسالك:

أ- المجوسيَّة: كان خوضهم في القدر انتصارًا لبدعتهم القائمة على التكذيب بالقدر.

ب- والمشركيَّة: كان خوضهم في القدر انتصارًا لبدعتهم القائمة على التكذيب بالشرع.

(1)

التدمرية: (ص: 207).

ص: 166

ج- والإبليسيَّة: كان خوضهم في القدر انتصارًا لبدعتهم القائمة على المعارضة بين القدر والشرع.

3 -

الكلام في القدر للجدال والخصومة والتعالم.

فإنه محرَّمٌ، وهو من أنواع الخوض في القدر بالباطل. قال تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5]، {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].

4 -

الكلام في القدر بقصد الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي.

كما يحصل من بعض العصاة المعاندين. وهذا مما تأثروا فيه بالمشركين الذين أخبر الله عنهم في ذلك بقوله جلَّ وعلا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، وقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20].

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «فمن احتجَّ على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثُر فيمن يدَّعي الحقيقة من المتصوِّفة»

(1)

.

‌ثانيًا: باعتبار المتكلِّم:

فإن كان المتكلِّم في القدر عالمًا يتكلَّم بعلمٍ ويستند في كلامه للدليل؛ فكلامه من الكلام الممدوح. وقد دلَّت على ذلك الأدلَّة:

قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 111).

ص: 167

وقال عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

وأخذ الله الميثاق على أهل العلم بالبيان وعدم كتمان العلم، كما قال سبحانه:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ} [آل عمران: 187].

فخاطب الله العامَّة ومَن لا يعلم بسؤال أهل العلم، وأخذ الله الميثاق على أهل العلم بالبيان وعدم الكتمان. وقد جعل الله الأخذ عن أهل العلم عامًّا في كلِّ بابٍ من أبواب العلم، ولم يخصَّ من ذلك شيئًا دون شيءٍ، فتضمَّن أخذ العلم عنهم في باب القدر وغيره.

قال السعديُّ في تفسير آية النحل: «فإن الله أمر مَنْ لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث، وفي ضمنه تعديلٌ لأهل العلم وتزكيةٌ لهم؛ حيث أمر بسؤالهم، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة»

(1)

.

وأما إن كان المتكلِّم في القدر يخوض فيه بغير علمٍ ولا هدىً من الله، وهو جاهلٌ يستند فيما يقرِّر إلى شبهاتٍ عقليَّةٍ أو أهواءٍ نفسيَّةٍ أو أقيسةٍ منطقيةٍ أو أوهامٍ كلاميَّةٍ أو مناماتٍ صوفيَّةٍ أو غيرها من مسالك أهل الزيغ والضلال؛ فهذا غاية الضلال وعين الانحراف وبريد الإلحاد.

وقد دلَّت الأدلَّة على تحريم الكلام بغير علمٍ، وذمِّ أهله، وبيان زيغهم، وتحريم سماع شبههم، ودفعها عن النفس بكلِّ ما يمكن من الوسائل.

(1)

تفسير السعدي (ص: 441).

ص: 168

فمما جاء في النهي عن الكلام بغير علمٍ:

قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقوله تعالى:{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 66].

ومما جاء في ذمِّ الخائضين في مسائل الدين بغير علمٍ:

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج: 3]، وقوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144]، وقوله تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].

ومما جاء في النهي عن سماع كلامهم والأمر بالإعراض عنه:

قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].

وإذا كان هذا الوعيد جاء عامًّا شاملًا لكلِّ متكلِّمٍ في مسائل الشرع بغير حجَّةٍ ولا برهانٍ، فكيف بالكلام والخوض في باب القدر الذي تقدَّم وصفه في كلام الأئمَّة أنه (سرُّ الله تعالى في خلقه، لم يطَّلع على ذلك ملكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مرسلٌ، وأنه لا يُدرَك بجدال، ولا يشفي منه مقالٌ، والحِجاج فيه مرتجةٌ مغلقةٌ)، ووصفوا التعمُّق فيه بأنه (ذريعة الخذلان، وسلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان). فهو أولى أن يُنهى عن الخوض فيه؛ إذ الخطأ فيه ليس كالخطأ في غيره. ولذا جاء التشديد في التحذير من الخوض فيه مالم يأت في بابٍ آخر من أبواب العلم، كما تقدَّم في الأدلَّة وكلام سلف الأمَّة.

ص: 169

‌ثالثًا: باعتبار موضوع الكلام:

موضوع الكلام مؤثِّرٌ في حكم الكلام ومدحه أو ذمِّه. ولذا كان من المسائل المشهورة في باب (الكلام) تفاضل الكلام باعتبار المتكلِّم، وباعتبار المتكلَّم فيه.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «الكلام له نسبتان: نسبةٌ إلى المتكلِّم به، ونسبةٌ إلى المتكلَّم فيه، فهو يتفاضل باعتبار النسبتين»

(1)

.

والكلام في القدر إذا كان فيما يمكن تحصيل علمه من المسائل، وما تضمَّنه خطاب الشارع -كمعرفة منزلة الإيمان بالقدر من الدين، ووجوبه على المسلمين، وتعلُّم مراتبه، ونوعي الإرادة، وأقسام الهداية، وغيرها من المسائل التي دلَّت عليها الأدلَّة-؛ فالكلام في هذا الباب من العلم المشروع المرغَّب في طلبه وتحصيله، بل هو داخلٌ في عموم التفقُّه في الدين المخاطب به عامَّة المسلمين بحسب درجة مشروعيَّته. فما تعلَّق منه بواجبٍ وجب تعلُّمه، وما تعلَّق منه بمستحبٍّ نُدِب إلى معرفته.

وإن كان الكلام فيما حُجِب علمه عن الخلق -كتكلُّف معرفة سرِّ الله في القدر، والبحث عن حكمة الله لم هدى فلانًا وأضلَّ فلانًا؟ وأعطى هذا ومنع هذا؟ -؛ فالكلام في هذا مذمومٌ. وهذا ما حذَّر منه السلف تحذيرًا صريحًا، ونهوا عن الخوض فيه، وشدَّدوا فيه أيَّما تشديدٍ:

فعن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، أنه سأله رجلٌ، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر؟ فقال:«طريقٌ مظلمٌ لا تسلكه» ، فأعاد السؤال، فقال:«بحرٌ عميقٌ فلا تلجه» ، فأعاد السؤال، فقال: «سرُّ الله في الأرض قد خفي عليك

(1)

مجموع الفتاوى (17/ 57).

ص: 170

فلا تفتشه»

(1)

.

وعن ابن عمر، أنه سئل عن القدر، فقال:«شيءٌ أراد الله أن لا يطلعكم عليه، فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم»

(2)

.

وعن أبي الخليل الضُّبَعِيِّ، قال:«كنا نتحدَّث عن القدر، فوقف علينا ابن عبَّاسٍ، فقال: إنكم قد أفضتم في أمرٍ لن تدركوا غوره»

(3)

.

وقال الطحاويُّ رحمه الله: «وأصل القدر سرُّ الله تعالى في خلقه، لم يطَّلع على ذلك ملكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مرسلٌ، والتعمُّق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كلَّ الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسةً؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. فمن سأل: لم فعل؟ فقد ردَّ حكم الكتاب، ومَن ردَّ حكم الكتاب؛ كان من الكافرين»

(4)

.

‌رابعًا: باعتبار طريقة الكلام:

وذلك أن الكلام في القدر يُمدَح إذا كان من عالمٍ يجلس للناس ليبيِّن لهم ما شُرِع لهم في هذا الباب على وجه التعليم والتدريس والشرح والبيان، على وفق هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسلف الأمَّة في تعليم الأمَّة وإرشادها.

وإن كان الكلام في القدر على طريقة الخصومات والجدل، والمعارضة بين النصوص؛ فإنه منهيٌّ عنه ومحرَّمٌ؛ لما تقدَّم من حديث عمرو بن شُعيبٍ،

(1)

تفسير البغوي (1/ 309).

(2)

أخرجه ابن بطة (4/ 313).

(3)

أخرجه ابن بطة (4/ 310).

(4)

شرح الطحاوية (ص: 225).

ص: 171

عن أبيه، عن جدِّه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقأ في وجهه حبُّ الرمَّان من الغضب، فقال:«بهذا أمرتم؟ -أو لهذا خلقتم؟ - تضربون القرآن بعضه ببعضٍ، بهذا هلكت الأمم قبلكم»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فُقئ في وجنتيه الرمَّان، فقال:«أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أُرسِلت إليكم؟ إنما هلك مَنْ كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه»

(2)

.

وأخرج ابن بطَّة، عن ابن أبزى قال:«بلغ عمر أن ناسًا تكلَّموا في القدر، فقام خطيبًا، وقال: يا أيُّها الناس، إنما هلك مَنْ كان قبلكم في القدر، والذي نفسي بيده لا أسمع برجلين تكلَّما فيه إلا ضربت أعناقهما. قال: فأمسك الناس، حتى نبغت نابغةٌ أو نبغة الشام»

(3)

.

وبهذا التوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم والفاروق من بعده أخذ الصحابة رضي الله عنهم، فلم يُعرَف بعدها أنهم تكلَّموا في القدر على الوجه المنهيِّ عنه، فعصمهم

الله بهذا من فتنة الخوض في القدر والإحداث فيه. وإنما وقع البلاء في الأمَّة والإحداث في القدر في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم، زمن خلافة عبد الملك ابن مروان

(4)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه (85). وقال الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 157): «حسن صحيح» . صحيح سنن ابن ماجه.

(2)

أخرجه الترمذي (2133). وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (5/ 133).

(3)

أخرجه ابن بطة (4/ 310).

(4)

منهاج السنة (6/ 231)، سير أعلام النبلاء (11/ 236).

ص: 172

وكان أوَّل ما ظهرت مقالة القدريَّة في البصرة على يد معبد الجهنيِّ، فأنكرها مَنْ أدركها من الصحابة رضي الله عنهم. فعصم الله باتِّباع السنَّة والاقتداء بالصحابة الكرام وسلف الأمَّة الأخيار أهلَ السنَّة من الخوض والابتداع في القدر، وتهالك فيه مَنْ حاد عن السنَّة من أهل والضلال والبدع.

وبهذا يتبيَّن الضابط الصحيح لما يُشرَع من الكلام في القدر مما يُنهى عنه من الخوض المحرَّم.

فلله الحمد والمنَّة على مزيد نعمه وسوابغ فضله وكرمه.

ص: 173

‌الفصل الرابع

في مسائل أخرى متعلِّقةٍ بالقدر

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأوَّل: معتقد أهل السنة في الأسباب، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الثاني: معتقد أهل السنة في مسألة التحسين والتقبيح، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم.

المبحث الثالث: بيان الحقِّ في مسألة: هل الإنسان مُسَيَّرٌ أو مُخَيَّرٌ؟

المبحث الرابع: بيان المراد ببدعة القدر التي رُمي بها بعض الأئمَّة، وحقيقة ذلك.

ص: 175

‌المبحث الأوَّل معتقد أهل السنة في الأسباب، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم

اختلف الناس في هذه المسألة على أربعة أقوالٍ:

‌القول الأول: (قول أهل السنَّة).

يثبتون الأسباب، ويقولون: إن قدرة العبد مع فعله لها تأثيرٌ كتأثير سائر الأسباب في مسبَّباتها، وليس لها تأثير الخلق والإبداع، والله تعالى خلق الأسباب والمسبَّبات. والأسباب ليست مستقلَّةً بالمسبَّبات؛ بل لا بدَّ لها من أسبابٍ تصحِّحها وأخرى تمانعها، والمُسَبَّبُ لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه ويدفع عنه جميع أضداده المعارضة له، والله هو المتفرِّد بخلقها وإيجادها أو إعدامها

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمَّة أهل السنَّة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة: إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثيرٌ كتأثير سائر الأسباب في مسبَّباتها؛ والله تعالى خلق الأسباب والمسبَّبات. والأسباب ليست مستقلَّةً بالمسبَّبات؛ بل لا بدَّ لها من أسبابٍ أخر تعاونها، ولها مع ذلك أضدادٌ تمانعها، والمسبَّب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته، كما يخلق سائر المخلوقات. فقدرة العبد سببٌ من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بدَّ من

(1)

انظر: الصفدية (1/ 162)، ورفع الشبهة والغرر لمرعي الكرمي (ص: 45).

ص: 177

الإرادة الجازمة مع القدرة. وإذا أُرِيد بالقدرة القوَّة القائمة بالإنسان؛ فلا بدَّ من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصادِّ عن السبيل كالعدوِّ وغيره»

(1)

.

وقال رحمه الله: «يُقال: هل قدرة العبد المخلوقة مؤثِّرةٌ في وجود فعله؟ .. فنقول: التأثير اسم مشتركٌ، قد يُراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحُّد بالاختراع. فإن أُرِيد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة؛ فحاشا لله، لم يقله سنِّيٌّ، وإنما هو المعزوُّ إلى أهل الضلال.

وإن أُرِيد بالتأثير نوع معاونةٍ -إما في صفةٍ من صفات الفعل، أو في وجهٍ من وجوهه، كما قاله كثيرٌ من متكلِّمي أهل الإثبات-؛ فهو أيضًا باطلٌ بما به بطل التأثير في ذات الفعل؛ إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرَّةٍ أو فيلٍ، وهل هو إلا شركٌ دون شركٍ؟ وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحقِّ. وإن أُرِيد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسُّط القدرة المحدَثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سببٌ وواسطةٌ في خلق الله سبحانه وتعالى الفعلَ بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسبَّبات والمخلوقات بوسائط وأسبابٍ؛ فهذا حقٌّ»

(2)

.

وقال رحمه الله: «فينبغي أن يُعرَف في الأسباب ثلاثة أمورٍ:

أحدها: أن السبب المعيَّن لا يستقلُّ بالمطلوب، بل لا بدَّ معه من أسبابٍ أخر، ومع هذا فلها موانع.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 487 - 488)، وانظر: مجموع الفتاوى (8/ 70).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 389).

ص: 178

الثاني: لا يجوز أن يُعتقَد أن الشيء سببٌ إلا بعلمٍ. فمن أثبت سببًا بلا علمٍ أو بخلاف الشرع كان مبطلًا، كمن يظنُّ أن النذر سببٌ في رفع البلاء.

الثالث: أن الأعمال الدينيَّة لا يجوز أن يُتَّخذ شيءٌ منها سببًا للدنيا إلا أن تكون مشروعةً؛ فإن العبادة مبناها على الإذن من الشارع، فلا يجوز أن يُشرِك بالله فيدعو غيره، وإن ظنَّ أن ذلك سببٌ في حصول بعض أغراضه، وكذلك لا يعبد الله بالبدع، وإن ظنَّ في ذلك ثوابًا»

(1)

.

‌القول الثاني: (قول الجهميَّة والأشاعرة وطائفةٍ من الفقهاء والصوفيَّة).

أنكروا الأسباب، وزعموا أنه ليس للأسباب تأثيرٌ على المسبَّبات، وبالغوا في ذلك حتى أنكروا الأسباب المحسوسة، فقالوا: ليس للنار أثرٌ في الإحراق، ولا للخبز أثرٌ في الإشباع، ولا للماء أثرٌ في الرِّيِّ. وقالوا: إن الله يفعل عندها لا بها؛ فيقولون: إن الله لا يُحرِق بالنار، وإنما يخلق الإحراق عند اشتعال النار، ولا يُشبِع بالخبز، وإنما يخلق الإشباع عند أكل الخبز، ولا يُروِي بالماء، وإنما يخلق الرِّيَّ عند شرب الماء

(2)

.

وهؤلاء كما أنكروا الأسباب الكونيَّة؛ فقد أنكروا أيضًا الأسباب الشرعيَّة التي جعلها الله سببًا للثواب والعقاب.

وهذا بناءً على أصلهم في إنكار (الحكمة والتعليل في أفعاله سبحانه)، وأن الله تعالى (لا يفعل لحكمةٍ)، فلا يخلق شيئًا لشيءٍ، و (لا يخلق بسببٍ)، فلا يُوجِد شيئًا بشيءٍ

(3)

.

(1)

مختصر الفتاوى المصرية (ص: 268 - 269)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 140).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (9/ 287)، جامع الرسائل (1/ 87)، شفاء العليل (2/ 459)، (2/ 574).

(3)

انظر مجموع الفتاوى (4/ 192)، شفاء العليل (2/ 534).

ص: 179

وأوَّل مَنْ أظهر ذلك في الإسلام الجهم بن صفوان الذي أجمعت الأمَّة على ضلالته فإنه أوَّل مَنْ أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه أوَّل مَنْ ظهر عنه القول بنفي الصفات، وأوَّل مَنْ قال بخلق كلام الله وإنكار رؤيته في الآخرة

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في بيان معتقدهم في إنكار الأسباب بالكلِّيَّة: «ومن الناس مَنْ ينكر القوى والطبائع -كما هو قول أبي الحسن، ومَن اتَّبعه من أصحاب مالكٍ والشافعيِّ وأحمد وغيرهم-. وهؤلاء المنكرون للقوى والطبائع ينكرون الأسباب أيضًا، ويقولون: إن الله يفعل عندها لا بها؛ فيقولون: إن الله لا يُشبِع بالخبز، ولا يُروِي بالماء، ولا يُنبِت الزرع بالماء، بل يفعل عنده لا به. وهؤلاء خالفوا الكتاب والسنَّة وإجماع السلف، مع مخالفة صريح العقل والحسِّ»

(2)

.

وقال الإمام ابن القيِّم في هذا المعنى: «وهؤلاء الجهميَّة ومَن قال بقولهم يقولون ما يخالف صريح المعقول من وجود مفعولٍ بلا فعلٍ، ومخلوقٍ بلا خلقٍ

وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون أنه لا حرارة في النار تحرق بها، ولا رطوبة في الماء يروي بها، وليس في الأجسام أصلًا لا قوىً ولا طبائع، ولا في العالم شيءٌ يكون سببًا لشيءٍ آخر البتَّة. وإن لم تكن هذه الأمور جحدًا للضروريَّات؛ فليس في العالم مَنْ جحد الضروريَّات»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في بيان قولهم في إنكار الأسباب الشرعيَّة: «قد ظنَّ طائفةٌ ممن تكلَّم في أعمال القلوب أن التوكُّل لا يحصل به جلب

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (4/ 192).

(2)

المصدر السابق (9/ 288 - 287).

(3)

شفاء العليل (2/ 459).

ص: 180

منفعةٍ ولا دفع مضرَّةٍ، بل ما كان مقدَّرًا بدون التوكُّل فهو مقدَّرٌ مع التوكُّل، ولكن التوكُّل عبادةٌ يُثاب عليها من جنس الرضى بالقضاء

ويقولون ذلك في جميع العبادات. وهذا قول مَنْ ينفي الأسباب في الخلق والأمر، ويقول: إن الله يفعل عندها لا بها. وهو قول طائفةٍ من متكلِّمي أهل الإثبات للقدر

- كالأشعريِّ وغيره-، وهو قول طائفةٍ من الفقهاء الصوفيَّة»

(1)

.

وقال ابن القيِّم: «وصرَّح هؤلاء أن التوكُّل والدعاء عبوديَّةٌ محضةٌ، لا فائدة لهما إلا ذلك، ولو ترك العبد التوكُّل والدعاء ما فاته شيءٌ مما قُدِّر له. ومن غلاتهم مَنْ يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطإ والنسيان عديم الفائدة؛ إذ هو مضمون الحصول»

(2)

.

الرد عليهم:

كلامهم هذا باطل مردود بالأدلة من الكتاب والسنَّة وإجماع علماء الأمَّة، بل بطلانه معلومٌ بالعقل والفطر السليمة والواقع.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «ومَن قال: إن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات ليست أسبابًا، أو أن وجودها كعدمها، وليس هناك إلا مجرَّد اقترانٍ عاديٍّ كاقتران الدليل بالمدلول؛ فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل، ولم يجعل في العين قوَّةً تمتاز بها عن الخدِّ تبصر بها، ولا في القلب قوَّةً يمتاز بها عن الرِّجل يعقل بها، ولا في النار قوَّةً تمتاز بها عن التراب تحرق بها. وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز. قال بعض الفضلاء: تكلَّم قومٌ من الناس في

(1)

جامع الرسائل (1/ 87).

(2)

مدارج السالكين (2/ 119).

ص: 181

إبطال الأسباب والقوى والطبائع؛ فأضحكوا العقلاء على عقولهم. ثم إن هؤلاء يقولون: لا ينبغي للإنسان أن يقول إنه شبع بالخبز، ورَوِي بالماء، بل يقول: شبعت عنده، ورَوِيت عنده؛ فإن الله يخلق الشِّبَع والرِّيَّ ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادةً لا بها. وهذا خلاف الكتاب والسنَّة؛ فإن الله تعالى يقول:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الآية [الأعراف: 57]، وقال تعالى:{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، وقال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]، وقال:{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52]، وقال {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]

».

إلى أن قال رحمه الله بعده ذكره جملةً من نصوص الكتاب والسنَّة: «ومثل هذا كثير، ونظير هؤلاء الذين أبطلوا الأسباب المقدَّرة في خلق الله: مَنْ أبطل الأسباب المشروعة في أمر الله؛ كالذين يظنُّون أن ما يحصل بالدعاء والأعمال الصالحة وغير ذلك من الخيرات إن كان مقدَّرًا حصل بدون ذلك، وإن لم يكن مقدَّرًا لم يحصل بذلك»

(1)

.

وقال في موطنٍ آخر: «والناس يعلمون بحسِّهم وعقلهم أن بعض الأشياء سببٌ لبعضٍ، كما يعلمون أن الشِّبَع يحصل بالأكل لا بالعدِّ، ويحصل بأكل الطعام لا بأكل الحصى، وأن الماء سببٌ لحياة النبات والحيوان، كما قال:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وأن الحيوان يروى بشرب الماء

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 136 - 138). وانظر: مجموع الفتاوى (8/ 486).

ص: 182

لا بالمشي، ومثل ذلك كثيرٌ»

(1)

.

‌القول الثالث: (قول الفلاسفة).

غلوا في عامة الأسباب والقوى والطبائع وجعلوها مؤثرة بنفسها وهؤلاء يزعمون: أن أصول العالم أربعة: الحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وسائر الحوادث كلها تتولد من هذه الأصول، وقالوا بقدم هذه الأربعة، وقدم الأفلاك والكواكب، ويجعلونها هي المبدعة لما سواها، وقد اتخذوها أربابًا وآلهة يتوجهون إليها بالدعاء والطلب وقضاء الحاجات، وهؤلاء أعظم الناس كفرًا وشركًا وإلحادًا

(2)

.

قال العمراني رحمه الله: «أصحاب الطبائع يقولون: أصول العالم أربعة: الحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وسائر الحوادث كلها تتولد من هذه الأصول»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كانت الفلاسفة الذين يقولون بصدور العقول والنفوس عنه على وجه التولد والتعليل؛ يجعلونها له أندادًا ويتخذونها آلهة وأربابًا، بل قد لا يعبدون إلا إياها ولا يدعون سواها، ويجعلونها هي المبدعة لما سواها مما تحتها»

(4)

.

الرد عليهم:

بطلان قول الفلاسفة وضلالهم مما لا يتكلف في رده، وهو الغاية في الشرك

(1)

مجموع الفتاوى (9/ 288). وانظر: مجموع الفتاوى (3/ 112)، (4/ 192).

(2)

انظر: الفرق بين الفرق (ص: 346)، التبصير في الدين للأسفراييني (ص: 150)، مجموع الفتاوى (4/ 134).

(3)

الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (1/ 245).

(4)

مجموع الفتاوى (4/ 134).

ص: 183

في الربوبية، وفي تعطيل الله عن أسمائه وصفاته وأفعاله، ونسبة ذلك لغيره من الطبائع والأفلاك والتوجه إليها بالعبادة والطلب.

وكل الأدلة الشرعية في تقرير أنواع التوحيد متضمنة الرد عليهم وإبطال معتقدهم، بل الفطرة والعقل والآيات الكونية شاهدة بتفرد الله بالخلق وتدبير شؤون المخلوقات، ولولا ذلك لفسد نظام العالم كما قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22].

‌القول الرابع: (قول المعتزلة).

غلوا في الأسباب من أفعال الحيوان وقالوا: إن كل ما تولد عن فعل العبد فهو فعله لا يضاف إلى غيره كالشبع والري وزهوق الروح ونحو ذلك، وقالوا: إن العبد بفعله للسبب مستقلٌّ بإيجاده وإحداثه، ولذا أنكروا خلق الله لأفعال العباد ولم يقولوا بذلك في سائر القوى والطبائع، بل يقرون بخلق الله لها وإيجادها خلافًا للفلاسفة

(1)

.

قال أبو الحسن الأشعريُّ: «اختلفوا في السبب؛ هل هو موجِبٌ للمسبَّب أم لا؟ على مقالتين:

فقال أكثر المعتزلة المثبتين للتولُّد: الأسباب موجِبة لمسبَّباتها.

وقال الجُبَّائيُّ: السبب لا يجوز أن يكون موجِبًا للمسبَّب، وليس الموجِب للشيء إلا مَنْ فعله وأوجده»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ثم القدريَّة من هؤلاء يثبتون التأثير لأفعال

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (17/ 531)، ولوامع الأنوار البهية (2/ 72)

(2)

مقالات الإسلاميين (2/ 304).

ص: 184

الحيوان، ولا يثبتون تأثيرًا لغير ذلك»

(1)

.

وقال رحمه الله: «ولهذا أضاف مَنْ أضاف من القدريَّة المعتزلة وغيرهم الغلاء والرخص إلى بعض الناس، وبنوا على ذلك أصولًا فاسدةً: أحدها: أن أفعال العباد ليست مخلوقةً لله تعالى.

والثاني: أن ما يكون فعلُ العبد سببًا له يكون العبد هو الذي أحدثه.

والثالث: أن الغلاء والرخص إنما يكون بهذا السبب.

وهذه الأصول باطلةٌ؛ فإنه قد ثبت أن الله خالق كلِّ شيءٍ من أفعال العباد وغيرها؛ ودلَّت على ذلك الدلائل الكثيرة السمعيَّة والعقليَّة، وهذا متَّفقٌ عليه بين سلف الأمَّة وأئمَّتها»

(2)

.

الرد عليهم:

قول المعتزلة في المبالغة في الأسباب من أفعال الحيوان وتأثيرها باطل، وقد ضلُّوا في زعمهم أن العبد مستقلٌّ بفعله، وأن الله لم يخلق أفعال العباد، وإن كان قولهم دون قول الفلاسفة في الضلال.

ومقالة هؤلاء المغالين في الأسباب من الفلاسفة والمعتزلة هي مقابل مقالة الجهميَّة الجبريَّة، فكما عطَّل أولئك الأسباب وأبطلوا تأثيرها بالكلِّيَّة؛ غلا هؤلاء في إثبات الأسباب، وبالغوا في إثبات تأثيرها حتى زعموا أنها مستقلَّةٌ بالإيجاد على تفاوت بينهم في ذلك كما تقدم.

والصحيح أن هذه الأسباب ليست مؤثِّرةً بنفسها، بل بقدرة الله وتقديره ومشيئته. وقد ثبت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ: «لا إله إلا

(1)

الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 219).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 520 - 521).

ص: 185

الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، اللهمَّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ»

(1)

.

فدلَّ الحديث على تفرُّد الخالق بالعطاء والمنع، مع أن الناس موصوفون بالمنع والعطاء، كما جاء في الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أعطى لله تعالى، ومنع لله تعالى، وأحبَّ لله تعالى، وأبغض لله تعالى، وأنكح لله تعالى؛ فقد استكمل إيمانه»

(2)

.

فالناس يُضاف إليهم المنع والعطاء باعتبار الفعل وبذل السبب، ولا يكون هذا العطاء والمنع ماضيين إلا بإذن الله ومشيئته، وهذا في معنى قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في وصيَّته لابن عبَّاسٍ:«واعلم أن الأمَّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك؛ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك؛ لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك»

(3)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في الردِّ عليهم: «فليس في الدنيا والآخرة شيءٌ إلا بسببٍ، والله خالق الأسباب والمسبَّبات، ولهذا قال بعضهم:(الالتفات إلى الأسباب؛ شركٌ في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا؛ نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلِّيَّة؛ قدحٌ في الشرع).

ومجرَّد الأسباب لا يوجِب حصول المسبَّب؛ فإن المطر إذا نزل، وبُذِر الحبُّ؛ لم يكن ذلك كافيًا في حصول النبات، بل لا بدَّ من ريحٍ مربِّيةٍ بإذن الله،

(1)

أخرجه البخاري (844)، ومسلم (593).

(2)

أخرجه أحمد (24/ 383) ح (15617)، والحاكم (2/ 178) ح (2694). وقال:«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» ، ووافقه الذهبي.

(3)

أخرجه أحمد (4/ 410) ح (2669)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1318).

ص: 186

ولا بدَّ من صرف الانتفاء عنه؛ فلا بدَّ من تمام الشروط وزوال الموانع، وكلُّ ذلك بقضاء الله وقدره

وكذلك أمر الآخرة؛ ليس بمجرَّد العمل ينال الإنسان السعادة، بل هي سببٌ، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنه لن يدخل أحدكم الجنَّة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال:«ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ»

(1)

، وقد قال:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، فهذه باء السبب، أي: بسبب أعمالكم، والذي نفاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم باء المقابلة، كما يُقال: اشتريت هذا بهذا، أي: ليس العمل عوضًا وثمنًا كافيًا في دخول الجنَّة، بل لا بدَّ من عفو الله»

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه ص (66).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 70).

ص: 187

‌المبحث الثاني معتقد أهل السنة في مسألة التحسين والتقبيح، وأقوال المخالفين فيها، والرد عليهم

الحُسْنُ والقُبْحُ يُطلقان على معنيين:

الأوَّل: الحسن والقبح باعتبار الملاءمة والمنافرة، فما هو ملائم للإنسان نافع تحصل له به اللذة فهو حسن، وما هو مضاد له ضار له يحصل به الألم فهو قبيح

(1)

.

وهذا النوع متَّفقٌ عليه بين العقلاء وعموم المسلمين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهذا الفرق معلوم بالحس، والعقل والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين؛ بل هو معلوم عند البهائم

والعقلاء متفقون على أن كون بعض الأفعال ملائما للإنسان وبعضها منافيا له إذا قيل: هذا حسن وهذا قبيح. فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل باتفاق العقلاء»

(2)

.

الثاني: الحسن والقبح باعتبار المدح والذم والثواب والعقاب، فما حصل به المدح والثواب فهو حسن، وما حصل به الذم والعقاب فهو سيئ

(3)

. وهذا النوع محلُّ نزاعٍ كبيرٍ بين طوائف الأمَّة، واختلافهم فيه يرجع إلى ثلاثة أقوالٍ مشهورةٍ

(4)

:

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 309)، والعواصم والقواصم (8/ 7).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 308 - 309).

(3)

انظر: درء التعارض (8/ 22)، ومجموع الفتاوى (8/ 309)

(4)

انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص: 88)، ومجموع الفتاوى (8/ 309)، وتشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي (1/ 140)، والعواصم والقواصم (8/ 7).

ص: 188

‌القول الأول: (قول أهل السنة).

قالوا بالتفصيل، فقالوا: إن العقل يُدرِك الحسن والقبح في بعض الأمور دون بعضٍ، وأن التحسين والتقبيح في الأفعال عقليَّان وشرعيَّان؛ فمن الأفعال ما هي متَّصفةٌ بصفات الحسن والقبح وتقتضي الحمد والذمَّ قبل ورود الشرع

(1)

، كإدراك العقول لحسن العدل ومدح فاعله، وإدراكها لقبح الظلم وذمِّ فاعله. ومنها ما لا يُدرَك حسنه وقبحه إلا بورود الشرع، كحسن قسمة الميراث بحسب ورود الشرع، وقبح الجمع بين خمس زوجاتٍ دون أربعٍ؛ فإن هذا لا يُعرَف إلا بالشرع. وسيأتي لهذا مزيد تقريرٍ لاحقًا.

وأما الثواب والعقاب؛ فهما شرعيَّان يتوقَّفان على أمر الشارع ونهيه، ولا يجبان بالعقل. والله تبارك وتعالى لا يعاقب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة، كما دلَّ عليه قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله عز وجل:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]

(2)

.

وقد وضَّح شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيِّم هذه المسألة، وبيَّنا ما يُعرَف حسنه وقبحه من الأفعال بالعقل والشرع، أو بالشرع وحده، وأن الأفعال بهذا الاعتبار على ثلاثة أنواعٍ

(3)

:

النوع الأوَّل: أن يكون الفعل مشتملًا على مصلحةٍ أو مفسدةٍ تُعرَف بالعقل قبل ورود الشرع بها، كما يُعلَم أن العدل مشتملٌ على مصلحة العالم، والظلم مشتملٌ على فسادهم. فهذا النوع يُعلَم حسنه وقبحه بالعقل والشرع، وأما ترتُّب

(1)

انظر: درء التعارض (5/ 297)، (8/ 493). ومدارج السالكين (1/ 247).

(2)

انظر: درء التعارض (8/ 493)، ومدارج السالكين (1/ 247) وما بعدها.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 436 - 435)، ومدارج السالكين (1/ 247).

ص: 189

الثواب والعقاب؛ فهذا مما لا يُعلَم إلا بالشرع فحسب.

النوع الثاني: أن يكون الفعل مشتملًا على مصلحةٍ لا تُعرَف إلا بالشرع، فإذا أمر به الشارع صار حسنًا، وأن يكون الفعل مشتملًا على مفسدةٍ لا تُعرَف إلا بالشرع، فإذا نهى عنه الشارع صار قبيحًا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.

كحسن قسمة الميراث بحسب ورود الشرع، فلا يُعرَف إلا بالشرع. قال تعالى في آخر آية الميراث من سورة النساء:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11].

قال السمعانيُّ: «أي: لا تعلمون أيُّهم أنفع لكم في الدين والدنيا. فمنهم مَنْ يظنُّ أن الآباء تنفع؛ فتكون الأبناء أنفع، ومنهم مَنْ يظنُّ أن الأبناء أنفع؛ فتكون الأباء أنفع، وأنتم لا تعلمون، وأنا أعلم بمن هو أنفع لكم، وقد دبَّرت أمركم على ما فيه الحكمة والمصلحة، فخذوه واتَّبعوه»

(1)

.

وقال ابن عادل النعماني: «لما ذكر أنصباء الأولاد، وأنصباء الأبوين، وكانت العقول لا تدرك معاني تلك التقديرات، فربَّما خطر ببال الإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح، لا سيَّما وقد كانت قسمة المواريث عند العرب على غير هذا الوجه، فأزال الله تعالى هذه الشبهة بأن قال: إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فربَّما اعتقدتم في شيءٍ أنه صالحٌ لكم، وهو عين المضرَّة، وربَّما اعتقدتم في شيءٍ أنه مضرَّةٌ، ويكون عين المصلحة، وأما الإله الرحيم فهو يعلم مغيَّبات الأمور وعواقبها، وكأنه قال: اتركوا تقديرات المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وانقادوا للمقادير التي قدَّرها

(1)

تفسير السمعاني (1/ 403).

ص: 190

الله تعالى عليكم»

(1)

.

وكقبح الجمع بين خمس زوجاتٍ دون أربع؛ فإن هذا لو عُرِض على العقول لاختلفت فيه اختلافًا عظيمًا؛ فمن العقول ما لا تستقبح الجمع بين عددٍ كبيرٍ من النساء كعشرةٍ أو أكثر، ومن العقول ما قد تستقبح الجمع بين زوجتين فأكثر، ومنها ما قد تستقبح ثلاثًا دون اثنتين، أو أربعًا دون ثلاثٍ، أو خمسًا دون أربعٍ، وهذا هو الصواب الذي دلَّ عليه الشرع، ولولا الشرع ما عُرِف أنه الصواب والحكمة، وما عداه باطلٌ مخالفٌ للحكمة، لكن ليس كلُّ العقول تدركه؛ فإن الجمع بين أكثر من أربعٍ مظنَّة التقصير في الحقوق إما لعجزٍ أو حيفٍ، فمنع الشارع من الزيادة على الأربع سدًّا للذريعة المفضية لذلك، ولهذا لما أُمِن ذلك في حقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أباح الله له الجمع بين أكثر من أربعٍ، ولما كان بعض الرجال يضعف عن التعدُّد ولو كانتا اثنتين مُنِع من ذلك، كما قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3].

النوع الثالث: أن يكون الفعل مشتملًا على مفسدةٍ تُعرَف بالعقل، فيأمر به الشارع، ولا يكون المراد الفعل، وإنما يُراد منه الامتحان؛ هل يطيع العبد أم يعصي؟! ثم يُنسَخ الفعل لقبحه.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة؛ فقد يأمر بما ليس بحسن في نفسه وينسخ»

(2)

.

ومثال ذلك: أمر إبراهيم بذبح ابنه كان للامتحان؛ فإن ذبح الابن قبيحٌ، وقد دلَّ على قبحه تحريم الله له، ووصفه لفاعله بالخسران والسفه، كما في

(1)

اللباب في علوم الكتاب (6/ 221).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (14/ 146)، (8/ 431).

ص: 191

قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140].

ولهذا أثنى الله على إبراهيم بعزمه على الفعل والشروع في مقدِّماته بعد تحقُّق المقصود من الأمر والنجاح في الابتلاء، وأما فعل الذبح فنُسِخ مع الفداء بذبحٍ عظيمٍ. قال تعالى:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103 - 107].

‌القول الثاني: (قول المعتزلة):

غلوا في التحسين والتقبيح العقليَّين، فزعموا أن العقل يدرك حسن الأفعال وقبحها، وأن الحسن والقبح صفتان ذاتيَّتان للفعل لازمةٌ له قبل ورود الشرع، وأن الأمر لا يكون إلا بحسنٍ، والنهي لا يكون إلا عن سيِّئٍ، وأن الشرع إنما هو كاشفٌ عن حسن الفعل الثابت في نفسه لا مثبِتٌ لحسن الفعل. ثم بالغوا، وقالوا: إن العقل يدرك الثواب المترتِّب على حسن الأفعال، والعقاب المترتِّب على سيِّئها في الآخرة

(1)

.

ثم رتَّبوا على ذلك أن الله يعاقب العباد على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولًا

(2)

.

وقالوا: ما حسن من المخلوق حسن من الخالق، وما قبح من المخلوق قبح من الخالق. وهم مشبِّهة الأفعال؛ يشبِّهون الخالق بالمخلوق والمخلوق بالخالق في الأفعال

(3)

.

(1)

انظر: الملل والنحل (1/ 98)، ومجموع الفتاوى (8/ 431 - 432).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 435).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 431).

ص: 192

قال القاضي عبد الجبَّار: «قد ذكرنا أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرِّران في العقل، إلا أنا لما لم يمكنا أن نعلم عقلًا أن هذا الفعل مصلحةٌ وذلك مفسدةٌ، بعث الله تعالى إلينا الرسل ليعرفونا ذلك من حال هذه الأفعال، فيكونون قد جاؤوا بتقرير ما قد ركَّبه الله تعالى في عقولنا وتفصيل ما قد تقرَّر فيها»

(1)

وقال أيضًا في (كتاب المحيط): «واعلم أن النهي الوارد عن الله عز وجل يكشف عن قُبْح القبيح، لا أنه يوجِب قُبْحَه، وكذلك الأمر يكشف عن حسنه، لا أنه يوجِبه»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وطائفةٌ تقول: بل الأفعال متَّصفةٌ بصفاتٍ حسنةٍ وسيِّئةٍ، وأن ذلك قد يُعلَم بالعقل، ويُستحَقُّ العقاب بالعقل وإن لم يرد سمعٌ، كما يقول ذلك المعتزلة ومَن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم»

(3)

.

وقال ابن القيِّم: «والمعتزلة تقول: قُبْحها -أي: الأعمال- والعقاب عليها ثابتان بالعقل»

(4)

.

الرد عليهم:

مذهب المعتزلة هذا مخالفٌ للكتاب والسنَّة وما عليه سلف الأمَّة من وجوهٍ كثيرةٍ، منها:

1 -

مبالغتهم في العقل، حيث جعلوه مستقلًّا بمعرفة الحسن والقبح في

(1)

شرح الأصول الخمسة (ص: 554).

(2)

المحيط بالتكليف (ص: 245).

(3)

درء التعارض (8/ 492).

(4)

مدارج السالكين (1/ 247).

ص: 193

كلِّ شيءٍ. وهذا غير صحيحٍ بهذا الإطلاق؛ فإن من تفاصيل الشرع المتضمِّنة للحكمة والمصلحة ما لا تدركه العقول؛ ولذا قال عمر رضي الله عنه: «اتَّهموا الرأي على الدين»

(1)

.

وقال عليٌّ رضي الله عنه: «لو كان دين الله بالرأي لكان باطن الخفِّ أحقَّ بالمسح من أعلاه»

(2)

.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: «وليس في السنَّة قياسٌ، ولا تُضرَب لها الأمثال، ولا تُدرَك بالعقول ولا الأهواء»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -معلِّقًا على قول الإمام أحمد-: «هذا قوله وقول سائر أئمَّة المسلمين؛ فإنهم متَّفقون على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا تدركه كلُّ الناس بعقولهم، ولو أدركوه بعقولهم لاستغنوا عن الرسول»

(4)

.

2 -

زعمهم أن الشرع إنما هو كاشفٌ عن حسن الفعل الثابت في نفسه لا مثبِتٌ لحسن الفعل.

وهذا غير صحيحٌ، وبطلانه من وجهين:

الأوَّل: أن الشرع قد يأمر بما لا يُعرَف حسنه إلا بالشرع، وينهى عما لا يُعرَف قبحه إلا بالشرع، فيكتسب الفعل حينئذٍ صفة الحسن والقبح بالشرع.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «إن الشارع إذا أمر بشيءٍ صار حسنًا، وإذا نهى عن شيءٍ صار قبيحًا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع»

(5)

.

(1)

أخرجه اللالكائي (1/ 142).

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 436).

(3)

أصول السنة لأحمد بن حنبل (ص: 16).

(4)

درء التعارض (5/ 297).

(5)

مجموع الفتاوى (8/ 435).

ص: 194

الثاني: أن فعل المأمور به شرعًا يصير له حسنٌ آخر غير الحسن الأوَّل المعروف بالعقل.

قال شيخ الإسلام -في سياق ردِّه على المعتزلة وبيان خطئهم في ذلك-: «إن الأمر وإن كان كاشفًا عن حسن الفعل؛ فالفعل بالأمر يصير له حسنٌ آخر غير الحسن الأوَّل»

(1)

.

3 -

زعمهم أن الأمر لا يكون إلا بحسنٍ، والنهي لا يكون إلا عن سيِّئٍ. وهذا غير صحيحٍ؛ فإن الشارع قد يأمر بما ليس بحسنٍ للامتحان.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة؛ فقد يأمر بما ليس بحسنٍ في نفسه وينسخ»

(2)

. وقد تقدم تقرير هذه المسألة مع التمثيل والاستدلال عند ذكر معتقد أهل السنَّة.

4 -

زعمهم أن العقل يُدرِك الثواب والعقاب المترتِّب على الأفعال، وأن العباد يُعاقَبون على أفعالهم القبيحة من غير طريق الشرع. وهذا باطلٌ مردودٌ بالنصوص.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح؛ فإنهم قالوا: إن العباد يُعاقَبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولًا. وهذا خلاف النصِّ. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]»

(3)

.

وقال ابن القيِّم: «فلا تلازم بين ثبوت الحسن والقبح العقليَّين وبين استحقاق

(1)

مجموع الفتاوى (14/ 146).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (14/ 146)، (8/ 431).

(3)

مجموع الفتاوى (8/ 435).

ص: 195

الثواب والعقاب؛ فالأدلة إنما اقتضت ارتباط الثواب والعقاب بالرسالة وتوقُّفهما عليها»

(1)

.

5 -

قولهم: «ما حسن من المخلوق حسن من الخالق، وما قبح من المخلوق قبح من الخالق» . هذا تشبيهٌ للخالق بالمخلوق في الأفعال، وهو باطلٌ، كما أن تشبيه الخالق بالمخلوق في الصفات باطلٌ

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -بعد نصِّه على بطلان قول المعتزلة في التحسين والتقبيح-: «وإذا ضُمَّ إلى ذلك قياس الرب على خلقه؛ فقيل: «ما حسن من المخلوق حسن من الخالق، وما قبح من المخلوق قبح من الخالق» ؛ ترتَّب على ذلك أقوال القدريَّة الباطلة، وما ذكروه في التجوير والتعديل. وهم مشبِّهة الأفعال؛ يشبِّهون الخالق بالمخلوق والمخلوق بالخالق في الأفعال. وهذا قولٌ باطلٌ، كما أن تمثيل الخالق بالمخلوق والمخلوق بالخالق في الصفات باطلٌ»

(3)

.

‌القول الثالث: (قول الأشاعرة ومَن وافقهم كابن حزمٍ):

قالوا: لا قبح ولا حسن ولا شرَّ ولا خير يُدرَك بالعقل فيما خُوطِب به الناس من الشرع، والشارع إذا أمر بشيءٍ صار حسنًا، وإذا نهى عن شيءٍ صار قبيحًا؛ فالقبيح ما قيل فيه:«لا تفعل» ؛ والحسن ما قيل فيه: «افعل» ، أو ما أُذِن في فعله. وقد اكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع

(4)

.

(1)

مفتاح دار السعادة (2/ 113).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 431).

(3)

مجموع الفتاوى (8/ 431).

(4)

مجموع الفتاوى (11/ 677)(8/ 433 - 436)، ودرء التعارض (8/ 492)، ومدارج السالكين (1/ 243 - 245).

ص: 196

وقالوا: إن الأمر والنهي والثواب والعقاب كلُّها شرعيَّةٌ، وهي لا ترجع لحكمةٍ، بل لمحض الإرادة، فليس في الطاعة معنىً يناسب الثواب، ولا في المعصية معنىً يناسب العقاب، ولا كان في الأمر والنهي حكمةٌ لأجلها أمر ونهى. وأنه يجوز أن يأمر بما هو سيِّئٌ حتى الشرك والظلم والفواحش، وينهى عما هو حسنٌ حتى التوحيد والعدل والطاعة

(1)

.

قال الجوينيُّ: «العقل لا يدلُّ على حسن شيءٍ ولا قبحه في حكم التكليف، وإنما يُتلقَّى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجَب السمع. وأصل القول في ذلك: أن الشيء لا يحسن لنفسه وجنسه وصفةٍ لازمةٍ له، وكذلك القول فيما يقبح، وقد يحسن في الشرع ما يقبح مثله المساوي له في جملة أحكام صفات النفس، فإذا ثبت أن الحسن والقبح عند أهل الحقِّ لا يرجعان إلى جنسٍ وصفة نفسٍ، فالمعنيُّ بالحسن: ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، والمراد بالقبيح: ما ورد الشرع بذمِّ فاعله»

(2)

.

وقال الإيجي: «القبيح ما نُهِي عنه شرعًا، والحسن بخلافه. ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وليس ذلك عائدًا إلى أمرٍ حقيقيٍّ في الفعل يكشف عنه الشرع، بل الشرع هو المثبِت له والمبيِّن، ولو عكس القضيَّة فحسَّن ما قبَّحه وقبَّح ما حسَّنه؛ لم يكن ممتنعًا، وانقلب الأمر»

(3)

.

وقال ابن حزمٍ: «لا سبيل إلى أن يكون مع الباري تعالى في الأزل شيءٌ موجودٌ أصلًا قبيحٌ ولا حسنٌ ولا عقلٌ يقبح فيه شيءٌ أو يحسن، فقد وجب يقينًا أن لا يمتنع من قدرة الله تعالى وفعله شيءٌ يحدثه لقبحٍ فيه، ووجب أن

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 468)، (8/ 433)، مدارج السالكين (1/ 247).

(2)

الإرشاد (ص 211 - 210).

(3)

المواقف (323).

ص: 197

لا يلزمه تعالى شيءٌ لحسنه؛ إذ لا قبح ولا حسن البتَّة»

(1)

.

الرد عليهم:

قول الأشاعرة هذا باطلٌ، وهو مخالفٌ للأدلَّة من الكتاب والسنَّة والعقل والفطر السليمة من عدَّة وجوهٍ:

الأول: مبالغتهم في نفي التحسين والتقبيح العقليَّين في خطاب الشرع، وزعمهم عدم تمييز العقل قبل ورود الشرع بين خيرٍ وشرٍّ وعدلٍ وظلمٍ وصدقٍ وكذبٍ وأمانةٍ وخيانةٍ، وهذا باطلٌ مخالفٌ للنصوص والعقل والفطر السليمة.

فإن العقلاء مجمعون على اختلاف أديانهم، وتفاوت عقولهم، وتنوُّع ثقافاتهم، وتفاوت أزمانهم، وتباعد أمصارهم؛ على أن العقول تميِّز بين حسن العدل والصدق، وقبح الظلم والكذب، والمدح بما هو حسنٌ من تلك الخصال، والذمِّ بما يضادُّها من الخصال القبيحة.

فكيف وقد اعتضد العقل بالشرع، وذلك في مخاطبة الله في كتابه الحكيم الناسَ بحججٍ عقليَّةٍ تتضمَّن إدراك العقول وتمييزها بين الخير والشرِّ وبين الحسن والقبيح وبين الممدوح والمذموم من الأفعال والأخلاق، ثم يختم هذه الحجج بالاستفهامات الإنكاريَّة:(أَفَلَا تَعْقِلُونَ)؟ (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)؟ (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ)؟ المتضمِّنة الإنكار عليهم في عدم تعقُّلهم وتذكُّرهم وتفكُّرهم في هذه الحجج التي يدركونها بعقولهم، ولو كانوا لا يدركونها بعقولهم لم يخاطبهم بها محتجًّا بها على توحيده وصدق رسله، ولم تكن فيها حجَّةٌ، وكان هذا بمنزلة مَنْ يخاطب بهذه الحجج مجنونًا لا يعقل أو أعجميًّا لا يفهم أو صبيًّا لا يميِّز، وهو مما يتنزَّه عنه كلام أحكم الحاكمين.

(1)

الفصل (3/ 58).

ص: 198

وذلك في قوله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]، وقوله:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 24]، وقوله:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]، وقوله:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [الرعد: 16]، وقوله:{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون: 80]، وقوله:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]، وقوله:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

الثاني: تجويزهم على الله المساواة بين الحسن والقبيح، والعادل والظالم، والصادق والكاذب، والمطيع والفاجر.

وهذا غاية في البطلان والضلال، وليس أبلغ في ردِّه من كلام ربِّ العالمين الذي نفى هذا عن نفسه في أبلغ خطابٍ، كما في قوله تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، وقوله:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36].

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «الأشاعرة يجوِّزون على الله عقلًا أن يسوِّي بين الصادق والكاذب

وأن يعذِّب المؤمنين، ولكن بالسمع لا بالعقل.

وإذا كان هذا أعظم مناقضةٍ للحكمة والعدل من غيره، وتبيَّن بالبراهين اليقينيَّة أن الربَّ لا يجوز عليه خلاف الحكمة والعدل؛ عُلِم بالاضطرار أن الربَّ سبحانه لا يسوِّي بين هؤلاء وهؤلاء، فضلًا عن أن يفضِّل الأشرار على

ص: 199

الأخيار، وهو سبحانه أنكر التسوية»، ثم ساق الآيتين السابقتين

(1)

.

الثالث: نفيهم الحكمة عن الله في الأمر والنهي والثواب والعقاب، وزعمهم أن ذلك لا يرجع لحكمةٍ، بل لمحض الإرادة، وأنه يجوز على الله أن يأمر بالشرك والظلم والفواحش وينهى عن التوحيد والعدل والطاعة.

وهذا باطلٌ معلوم البطلان بدلالة النصوص وإجماع السلف والأئمَّة من بعدهم.

فإن الله أثبت لنفسه الحكمة من وجوهٍ متعدِّدةٍ؛ فمن أسمائه: (الحكيم). قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2]. وهو متَّصفٌ (بالحكمة). قال تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]. ووصف كتابه بأنه حكيمٌ، فقال سبحانه:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان: 2]. ووصف نبيَّه بأنه يعلِّم أمَّته الحكمة -وهي السنَّة في أشهر أقوال المفسِّرين

(2)

-. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]. وهو الذي يؤتي الحكمة مَنْ شاء من خلقه، وهذا من آثار حكمته البالغة. قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. وأثبت الملائكة الكرام -وهم أعلم الخلق بربِّهم- لله تعالى الحكمة والعلم. قال تعالى مخبرًا عنهم: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].

والأدلَّة في هذا كثيرةٌ لا تكاد تُحصى.

(1)

النبوات (2/ 927).

(2)

وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة، ومقاتل، وأبي مالك وغيرهم. انظر تفسير الطبري (2/ 576)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 113)، وتفسير ابن كثير (1/ 444).

ص: 200

وأخبر تبارك وتعالى عن نفسه أنه يأمر بما فيه خيرٌ ومصلحةٌ من أنواع الطاعات، وينهى عما يضادُّ ذلك من الشرِّ والمفسدة من صور المحرَّمات والفواحش، فقال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].

كما نفى عن نفسه سبحانه أن يأمر بالفحشاء، وكذَّب المشركين فيما نسبوه له من ذلك، فقال:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله بعد حكاية قول الأشاعرة في هذه المسألة-: «فهذا القول ولوازمه هو أيضًا قولٌ ضعيفٌ مخالفٌ للكتاب والسنَّة ولإجماع السلف والفقهاء، مع مخالفته أيضًا للمعقول الصريح؛ فإن الله نزَّه نفسه عن الفحشاء، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]

والله تعالى عليمٌ حكيمٌ، علم بما تتضمَّنه الأحكام من المصالح فأمر ونهى لعلمه بما في الأمر والنهي والمأمور والمحظور من مصالح العباد ومفاسدهم»

(1)

.

وقد توسَّع الإمام ابن القيِّم رحمه الله في الردِّ عليهم في كتاب «مفتاح دار السعادة» ، فبيَّن بطلان قولهم من ثلاثةٍ وستِّين وجهًا

(2)

.

وقد أشار إلى ذلك في كتاب «إغاثة اللهفان» ، بقوله -في سياق حديثه عن استحسان صفات الكمال ونفعها، واستقباح أضدادها-:«ومَن قال: إن ذلك لا يُعلَم بالعقل ولا بالفطرة، وإنما عُرِف بمجرَّد السمع؛ فقوله باطلٌ، قد بيَّنا بطلانه في كتاب «المفتاح» من ستِّين وجهًا، وبيَّنا هناك دلالة القرآن والسنَّة والعقول والفطر على فساد هذا القول»

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 434 - 433).

(2)

انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 113 - 62).

(3)

إغاثة اللهفان (2/ 138).

ص: 201

‌المبحث الثالث

بيان الحقِّ في مسألة: هل الإنسان مُسَيَّرٌ أو مُخَيَّرٌ؟

يتردَّد هذا السؤال كثيرًا على الألسنة عند الحديث عن مسألة القدر، وقد أجاب بعض العلماء المعاصرين: بأن الإنسان مُسَيَّرٌ ومُخَيَّرٌ معًا؛ فهو مُسَيَّرٌ باعتبار ما قدَّر الله له من الأمور التي لا اختيار له فيها؛ كالمرض والموت والحوادث التي تصيبه، وهو مُخَيَّرٌ فيما يفعله باختياره؛ كقيامه وجلوسه ودخوله وخروجه وطاعته ومعصيته.

قال الشيخ عبد الله بن حميدٍ رحمه الله: «الإنسان مُسَيَّرٌ ومُخَيَّرٌ معًا؛ فأنت مُخَيَّرٌ بالنسبة إلى خلقك؛ فالله خلقك وجعل لك عقلًا لتميِّز به بين الخطأ والصواب؛ فتختار ما هو أنفع لك؛ فاختيارك للأصلح والأنفع هو دليلٌ على أنك مُخَيَّرٌ؛ فأنت تفعل هذا الشيء باختيارك، وأنت واختيارك بيد الله سبحانه وتعالى؛ فالله -جل وعلا- هو المتصرِّف في هذا الكون. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]»

(1)

.

(1)

فتاوى سماحة الشّيخ عبد الله بن حميد (ص: 18).

ص: 202

وقال الشيخ عبد العزيز بن بازٍ رحمه الله: «الإنسان مُسَيَّرٌ ومُيَسَّرٌ ومُخَيَّرٌ؛ فهو مُسَيَّرٌ ومُيَسَّرٌ بحسب ما مضى من قدر الله؛ فإن الله قدَّر وقضى ما يكون في العالم قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنةٍ، قدَّر كلَّ شيءٍ سبحانه وتعالى، وسبق علمه بكلِّ شيءٍ، كما قال جل جلاله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال سبحانه:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22].

ومن أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشرِّه. فالإنسان مُيَسَّرٌ ومُسَيَّرٌ من هذه الحيثيَّة لما خُلِق له، على ما مضى من قدر الله، لا يخرج عن قدر الله، كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]. وهو مُخَيَّرٌ أيضًا من جهة ما أعطاه الله من العقل والإرادة والمشيئة؛ فكلُّ إنسانٍ له عقلٌ إلا أن يُسلَب كالمجانين، ولكن الأصل هو العقل؛ فمَن كان عنده العقل فهو مُخَيَّرٌ يستطيع أن يعمل الخير والشرَّ. قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]، وقال -جل وعلا-:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67]»

(1)

.

وقال الشيخ محمَّد بن عثيمين رحمه الله في جواب مَنْ سأل: هل الإنسانُ مُخَيَّرٌ أم مُسَيَّرٌ؟ «على السائل أن يسأل نفسه: هل أجبره أحدٌ على أن يسأل هذا السؤال؟ وهل هو يختار نوع السيَّارة التي يقتنيها؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة، وسيتبيَّن هل هو مُسَيَّرٌ أو مُخَيَّرٌ.

ثم يسأل نفسه: هل يصيبه الحادث باختياره؟ هل يصيبه المرض باختياره؟ هل يموت باختياره؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة، وسيتبيَّن له الجواب هل هو مُسَيَّرٌ أو مُخَيَّرٌ؟

والجواب: أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب. واسمع إلى قول الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39]، وإلى قوله تعالى:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152].

ولكن العبد إذا أراد شيئًا وفعله علمنا أن الله تعالى قد أراده؛ لقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]،

(1)

مجموع فتاوى ومقالات متنوّعة لسماحة الشّيخ عبد العزيز بن باز (8/ 94 - 95).

ص: 203

فلكمال ربوبيَّته لا يقع شيءٌ في السموات والأرض إلا بمشيئته تعالى.

وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره؛ كالمرض والموت والحوادث؛ فهي بِمحض القدر وليس للعبد اختيارٌ فيها ولا إرادةٌ، والله الموفَّق»

(1)

.

فتبين بهذا أن الإنسان ليس مسلوبَ الإرادة والمشيئة مطلقًا، وليست مشيئته وإرادته نافذةً دائمًا، وليس هو مسيَّرًا -على ما يعبِّر به البعض-، ولا مخيَّرًا

-على ما يعبِّر به آخرون-.

وإنما له مشيئةٌ واختيارٌ في أفعاله الاختياريَّة بعد مشيئة الله، دون ما قدَّره الله عليه من المصائب والحوادث مما لا يحصل بمشيئته واختياره، وإن كان هو مُتسبِّبًا فيها.

ولكن ههنا تنبيهٌ مهمٌّ: وهو أن هذا المعنَى الذي دلَّت عليه النصوص يجب أن يُعبَّر عنه بالألفاظ الشرعيَّة، والقول بأن (الإنسان مُسَيَّرٌ أو مُخَيَّرٌ)؛ لم يأتِ في النصوص التعبير به عن هذا المعنَى -فيما أعلم-. وإنما جاء في النصوص ذكر الإرادة والمشيئة؛ كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]، وقال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18]. فأثبت الله تعالى للعباد مشيئةً وإرادةً، ثم بيَّن أنها لا تنفذ ولا تتحقَّق إلا بإرادته ومشيئته.

وموقف السلف مِنْ الألفاظ المجملة: تَجَنُّب إطلاقها نفيًا أو إثباتًا؛ ولهذا كره السلف إطلاق لفظ: (التأثير)، ولفظ:(الجبر)، وهما في معنَى القول بأن الإنسان (مُخَيَّرٌ أو مُسَيَّرٌ)، أو مقاربان له.

(1)

مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشّيخ محمّد بن صالح العثيمين (2/ 90، 91).

ص: 204

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكذلك لفظ (الجبر) فيه إجمالٌ؛ يُراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون رضاه، كما يُقال: «إن الأب يجبر المرأة على النكاح» ، والله تعالى أجلُّ وأعظم من أن يكون مُجْبِرًا بهذا التفسير؛ فإنه يخلق للعبد الرضى والاختيار بما يفعله، وليس ذلك جبرًا بهذا الاعتبار. ويُراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات؛ كقول محمَّد بن كعبٍ القرظِيِّ:«الجبَّار الذي جبر العباد على ما أراد» ، وكما في الدعاء المأثور عن عليٍّ رضي الله عنه:«جبَّار القلوب على فطراتها شقيِّها وسعيدها» ، والجبر ثابتٌ بهذا التفسير.

فلما كان لفظ (الجبر) مجملًا نهى الأئمَّة الأعلام عن إطلاق إثباته أو نفيه

وكذا لفظ (التأثير)؛ فيه إجمالٌ؛ فإن القدرة مع مقدورها كالسبب مع المسبَّب، والعلَّة مع المعلول، والشرط مع المشروط؛ فإن أُرِيد بالقدرةِ القدرةُ الشرعيَّة المصحِّحة للفعل المتقدِّمة عليه؛ فتلك شرطٌ للفعل، وسببٌ من أسبابه، وعلَّةٌ ناقصةٌ له. وإن أُرِيد بالقدرةِ القدرةُ المقارنة للفعل المستلزمة له؛ فتلك علَّةٌ للفعل، وسببٌ تامٌّ. ومعلومٌ أنه ليس في المخلوقات شيءٌ هو وحده علَّةٌ تامَّةٌ وسببٌ تامٌّ للحوادث بِمعنَى أن وجوده مستلزمٌ لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصَّةً، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن»

(1)

.

فلفظ: (مُسَيَّر)، هو في معنَى (مجبور)، أو قريبٌ منه.

كما أن لفظ (مُخَيَّر) مقاربٌ لقول مَنْ يقول: (إن الإنسان مؤثِّرٌ في فعله)؛ لأن مَنْ يقول: (إن الإنسان مُخَيَّرٌ)؛ يريد أنه قادرٌ على أن يفعل أو لا يفعل، وهذا حقيقة القدرة والتأثير.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 131، 133)، وانظر:(8/ 103، 16/ 237)، ومنهاج السّنة (3/ 246، 3/ 252)، ودرء التعارض (2/ 271).

ص: 205

وبهذا يتبيَّن أن العدول عن هذه الألفاظ المجملة إلى الألفاظ الشرعيَّة الواضحة الدلالة على الحقِّ، والموافقة للنصِّ، والسالمة من الشبه؛ هو الأعدل والأقوم، والموافق لطريقة السلف.

فإن قال قائلٌ: التفريق بين الأعمال الاختياريَّة؛ كالطاعات والمعاصي، والأعمال المقدَّرة؛ كالأمراض والحوادث، وأن العبد مُخَيَّرٌ في القسم الأوَّل مُسَيَّرٌ في القسم الثاني؛ يزول به اللبس.

فجوابه: أن القول بأن العبد مُخَيَّرٌ فيما يُسَمَّى بالأفعال الاختياريَّة؛ كالطاعات والمعاصي ليس على إطلاقه؛ فله مشيئةٌ واختيارٌ فيها، لكن مشيئته ليست مطلقةً، بل هي مقيَّدةٌ بمشيئة الله، وقد أخبر الله عن هذا في قوله:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]، فبيَّن سبحانه أن مشيئة العبد في الاستقامة وفعل الطاعات ليست نافذةً إلا بمشيئته.

وفي الحديث القدسيِّ الطويل من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه فيما يرويه النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن ربِّه شاهدٌ قويٌّ لفقر العبد لربِّه وأنه لا يمكن أن يتحقَّق له شيءٌ مما أراد إلا بمشيئة الله وإرادته. ومما جاء في هذا الحديث قوله -جل وعلا-: «يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا مَنْ هديته، فاستهدونِي أهدكم، يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا مَنْ أطعمته، فاستطعمونِي أطعمكم، يا عبادي كلُّكم عارٍ إلا مَنْ كسوته، فاستكسونِي أكسكم

» الحديث

(1)

.

فتبيَّن أن العبد لا مشيئة له ولا اختيار إلا بعد مشيئة الله، وهذا ظاهرٌ ملموسٌ من الواقع، فليس كلُّ مَنْ أراد عملًا صالحًا يوفق إليه، ولا مَنْ أراد عملًا سيِّئًا يُمكَّن منه. وعلى هذا؛ فالقول بأنه مُخَيَّرٌ في هذه الأعمال -على الإطلاق-

(1)

أخرجه مسلم (2577).

ص: 206

محلُّ نظرٍ، والصواب: أن العبد له إرادة ومشيئة على الطاعات والمعاصي لكن إرادته مشيئته لا تكون نافذة إلا بمشيئة الله.

وكذلك الأعمال المقدَّرة عليه من الأمراض والحوادث؛ فهي وإن كانت مقدَّرةً على العبد من الله؛ إلا أن العبد متسبِّبٌ في ما يصيبه من المصائب، كما أخبر سبحانه في قوله:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال -عزَّ من قائلٍ-:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].

قال ابن جريرٍ رحمه الله في تفسير آية الشورى: «فإنما يصيبكم ذلك عقوبةً من الله لكم بما اجترمتم من الآثام»

(1)

.

وذهب جمعٌ من المفسِّرين في تفسير آية آل عمران أن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} ، إشارةٌ إلى مخالفة الرماة يوم أحدٍ بتركهم الجبل وقد أمرهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بلزومه، وقيل: إشارةٌ إلى أنهم يوم بدرٍ خُيِّروا بين قتل أسارى بدرٍ وأخذ الفداء، على أن يستشهد منهم في العام القابل قدر الأسارى

(2)

.

قال الشيخ محمَّد الأمين رحمه الله: «وعلى هذا؛ فالمعنَى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}؛ حيث اخترتم الفداء واستشهاد قدر الأسارى منكم»

(3)

.

فظاهرٌ من هذا أن ما أصابهم كان بسبب اختيارهم ذلك. وهذا التفسير

(1)

تفسير الطّبري (11/ 150).

(2)

انظر: تفسير الطّبري (3/ 507)، وتفسير البغوي (ص: 255)، وتفسير ابن كثير (ص: 301)، وأضواء البيان (ص: 123).

(3)

أضواء البيان (ص: 124).

ص: 207

نصٌّ في المسألة، والله تعالى أعلم.

وكذلك في مقابل هذا؛ فإن الإنسان متسبِّبٌ فيما يقدِّر الله له من الخير مع رحمة الله به، كما قال تعالى مُخبِرًا عن نوحٍ في دعوته قومه:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].

قال ابن الجوزيِّ في معنى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} : أي: «استدعوا مغفرته بالتوحيد»

(1)

.

وقال: «ومعنَى الكلام: أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة»

(2)

.

قال القرطبِيُّ رحمه الله: «في هذه الآية والتي في هودٍ

(3)

دليلٌ على أن الاستغفار يُستَنْزل به الرزق والأمطار. قال الشعبيُّ: خرج عمر يستسقي، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: (لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يُستَنْزل بها المطر)»

(4)

.

ومن السنَّة قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في وصيَّته لابن عبَّاسٍ: «احفظ الله يحفظك»

(5)

.

(1)

زاد المسير (8/ 370).

(2)

المصدر نفسه.

(3)

يعني قوله تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52].

(4)

تفسير القرطبِي (18/ 29).

(5)

أخرجه أحمد (4/ 409)، ح:(2669)، والتّرمذيّ (2516). وقال الألبانِي في تعليقه على مشكاة المصابيح (3/ 1459):«حديث صحيح» .

ص: 208

قال ابن رجبٍ في شرحه: «مَنْ حفظ حدود الله، وراعى حقوقه؛ حفظه الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل»

(1)

.

وقال: «وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: حفظه له في مصالح دنياه؛ كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله. والثانِي: حفظه له في دِينه وإيمانه؛ فيحفظه في حياته من الشبهات المضلَّة، ومن الشهوات المحرَّمة»

(2)

.

والمقصود: أن العبد مُتسبِّبٌ ومستجلِبٌ لما يقدِّره الله له وما يصيبه من خيرٍ وشرٍّ.

ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة في سياق تقرير مذهب السلف في الأفعال الناتجة عن أسباب أفعال المخلوقين أن للمخلوق فيها عملًا وإن لم يكن مباشرًا لفعلها، قال رحمه الله:«فتبيَّن أن ما يحدث من الآثار عن أفعال العباد لهم بها عملٌ؛ لأن أفعالهم كانت سببًا فيها»

(3)

.

وبهذا يظهر أن القول: بأن العبد مُسَيَّرٌ أو مجبورٌ على ذلك -مع كونه لم يرد في الشرع بهذا اللفظ-؛ فإن إطلاقه من جهة المعنَى محلُّ نظرٍ؛ لكون العبد متسبِّبًا بأفعاله المتعلِّقة بمشيئته في ذلك.

وعلى هذا؛ فالسلامة في هذا الباب -إن شاء الله- هو العدول عن الألفاظ المجملة إلى الألفاظ الشرعيَّة، وذلك بأن يُقال:(للعبد مشيئةٌ وإرادةٌ على أفعاله، ولكن مشيئته لا تكون نافذةً إلا بمشيئة الله تعالى). والله تعالى أعلم.

(1)

جامع العلوم والحكم (1/ 364).

(2)

انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 364 - 366).

(3)

مجموع الفتاوى (8/ 522).

ص: 209

‌المبحث الرابع بيان المراد ببدعة القدر التي رُمِي بها بعض الأئمَّة وحقيقة ذلك

ورد في بعض كتب التراجم وكتب الجرح والتعديل نسبة بعض الأئمَّة من التابعين ومَن بعدهم إلى القدر.

ومن أشهر مَنْ رُمِي بالقدر من التابعين: الأئمَّة: الحسن البصريُّ، ومكحولٌ، وقتادة، ومن أتباع التابعين: الإمام ابن أبي ذئبٍ.

وها هو بيان ذلك بذكر ما قيل في كلِّ واحدٍ منهم، وبيان سبب رميه بالقدر، ومدى صحَّته.

‌أولا: الإمام الحسن البصري.

وهو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري؛ كان من سادات التابعين وكبرائهم، ولد بالمدينة سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه، وتوفي سنة عشر ومائة وعمره تسع وثمانون سنة

(1)

.

واختلف في نسبته للقدر على ثلاثة أقوال:

‌القول الأول: أنه يقول بالقدر.

ومما جاء في ذلك:

عن إبراهيم النخعي قال: «إن الحسن تكلم في القدر»

(2)

.

(1)

انظر: وفيات الأعيان (2/ 69) الوافي بالوفيات (12/ 190).

(2)

تاريخ الإسلام (7/ 59).

ص: 210

وقال حميد الطويل لأيوب السختياني -وهما من أصحاب الحسن-: «لوددت أنه قُسِم علينا غرمٌ، وأن الحسن لم يتكلم بالذي تكلم به»

(1)

، قال أيوب:«يعني: في القدر»

(2)

.

‌القول الثاني: أنه كان يقول به فرجع عنه.

وذهب إلى هذا بعض الأئمة:

فعن أيوب السختياني: «قال: لا أعلم أحدًا يستطيع أن يعيب الحسن إلا به -يعني: القدر- أنا نازلته في القدر غير مرة حتى خوفته السلطان فقال: لا أعود فيه بعد اليوم، وقد أدركت الحسن والله ما يقوله»

(3)

.

وقال سليمان التيمي: «رجع الحسن عن قوله في القدر»

(4)

.

وقال الذهبي: «وقد مر إثبات الحسن للأقدار من غير وجه عنه، سوى حكاية أيوب عنه، فلعلها هفوة منه، ورجع عنها -ولله الحمد-»

(5)

.

‌القول الثالث: أنه لم يقل به.

وقال به جماعة من الأئمة مؤكدين براءته من القول بالقدر وأن نسبته إلى القدر من الكذب عليه أو مما توهم من كلامه:

فعن ابن سيرين -وقيل له في الحسن: وما كان ينحل إليه أهل القدر؟ - قال: «كانوا يأتون الشيخ بكلام مجمل، لو فسروه له لساءهم»

(6)

.

(1)

انظر: الطبقات الكبرى (7/ 167) وتاريخ الإسلام (7/ 59).

(2)

انظر: الطبقات الكبرى (7/ 167).

(3)

تاريخ الإسلام (7/ 59).

(4)

سير أعلام النبلاء (4/ 580).

(5)

سير أعلام النبلاء (4/ 583).

(6)

المعرفة والتاريخ للفسوي (2/ 47) تاريخ الإسلام (7/ 61).

ص: 211

وقال أيوب السختياني: «كذب على الحسن ضربان من الناس: قوم القدر رأيهم لينَفِّقوه بين الناس بالحسن، وقوم في صدورهم شنآن وبغض للحسن»

(1)

.

وقال الأوزاعي: «لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن ومكحولا، فكشفنا عن ذلك؛ فإذا هو باطل»

(2)

.

وقال أبو سعيد بن الأعرابي: «كان يجلس إلى الحسن طائفةٌ من هؤلاء، وكان هو يتكلم في الخصوص حتى نسبته القدرية إلى الجبر، وتكلم في الاكتساب حتى نسبته السُّنة إلى القدر، كل ذلك لافتنانه وتفاوت الناس عنده، وتفاوتهم في الأخذ عنه، وهو بريء من القدر ومن كل بدعة، فلما توفي تكشفت أصحابه وبانت سرائرهم وما كانوا يتوهمونه من قوله بدلائل يلزمونه بها، لا نصًّا من قوله»

(3)

.

قال ابن بطَّة بعد ذكره معتقد القدرية ومقالاتهم الباطلة: «وربما قيل لبعضهم: من إمامك فيما تنتحله من هذا المذهب الرَّجس النَّجس، فيدَّعي أن إمامه في ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فيضيف إلى قبيح كفره وزندقته أن يرمي إمامًا من أئمة المسلمين وسيِّدًا من ساداتهم وعالما من علمائهم بالكفر، ويفتري عليه البهتان ويرميه بالإثم والعدوان ليحسن بذلك بدعته عند من قد خصمه وأخزاه، وأنا أذكر من كلام الحسن رحمه الله في القدر، ورده على القدرية ما يسخن اللهُ به عيونَهم، ويظهر للسامعين قبيح كذبهم إن شاء الله تعالى وبه التوفيق»

(4)

.

(1)

تاريخ الإسلام (7/ 60).

(2)

أخرجه ابن بطة (4/ 218).

(3)

تاريخ الإسلام (7/ 61 - 62).

(4)

أخرجه ابن بطة (4/ 174).

ص: 212

ثم ساق جملة من الأثار عن الحسن البصري في إثبات القدر.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية، بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر

وقد قيل إنه بهذا السبب نسب إلى الحسن القدر، لكونه كان شديد الإنكار للمعاصي ناهيًا عنها، ولذلك نجد الواحد من هؤلاء ينكر على من ينكر المنكر، ويقول: هؤلاء قدر عليهم ما فعلوه، فيقال لهذا: وإنكار هذا المنكر أيضًا بقدر الله، فنقضت قولك بقولك»

(1)

.

وقال الذهبي: «وقد بدت منه هفوة في القدر لم يقصدها لذاتها، فتكلموا فيه، فما التفت إلى كلامهم، لأنه لما حوقق

(2)

عليها تبرأ منها»

(3)

.

وقال صفي الدين الخزرجي في ترجمته للحسن: «أحد أئمة الهدى والسنة، رُمي بالقدر، ولا يصح»

(4)

.

وهذا القول هو الراجح بل الصواب المؤكد من الأقوال -إن شاء الله-.

وترجيحه من عدة وجوه:

الأول: أنه قول أصحاب الحسن وأعرف الناس بأقواله، وقد أكد هذا ثلاثة من كبار أصحاب الحسن مصرحين أن الحسن فسر لهم القرآن كله على إثبات القدر، وليس بعد هذا شيء في قوة الدلالة على براءة الحسن رحمه الله من القول

(1)

منهاج السنة (3/ 24).

(2)

أي: طلب منه بيان وجه الحق على قوله و المحاقة. مفاعلة من ذلك وحاققت الرجل: ادعيت أنك أولى بالحق منه. انظر: جمهرة اللغة لابن دريد (1/ 100) والمحيط في اللغة لابن العباد (1/ 151).

(3)

ميزان الاعتدال (1/ 527).

(4)

خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (ص: 77).

ص: 213

ببدعة القدر.

فعن حبيب بن الشهيد ومنصور بن زاذان قالا: «سألنا الحسن عن ما بين {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] إلى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]. ففسره على الإثبات»

(1)

.

قال الذهبي معلِّقًا: «قلت: على إثبات أن الأقدار لله»

(2)

.

وعن حميد الطويل قال: «قرأت على الحسن في بيت أبي خليفة القرآن أجمع من أوله إلى آخره، فكان يفسره على الإثبات»

(3)

.

الثاني: تصريح أيوب السختياني وهو من أجل أصحاب الحسن بأن نسبة الحسن للقدر من الكذب عليه، وأن الذي تولى ذلك ضربان من الناس لسببين:«قوم القدر رأيهم لينفقوه بين الناس بالحسن، وقوم في صدورهم شنآن وبغض للحسن»

(4)

.

الثالث: تصريح الإمام الجليل عبد الرحمن الأوزاعي بتحقيق هذه المسألة والكشف عنها، مع قرب عهده من الأئمة والتجرد للحق بما يقطع ببراءة أئمة التابعين من القول بالقدر عامة وبطلان نسبته للحسن ومكحول -رحمهما الله- خاصة كما في قوله:«لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن ومكحولًا، فكشفنا عن ذلك؛ فإذا هو باطل»

(5)

.

(1)

تاريخ الإسلام (7/ 61).

(2)

المصدر نفسه.

(3)

السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 428).

(4)

تقدم عزوه ص (234).

(5)

تقدم تخريجه ص (234).

ص: 214

الرابع: تبرئة جمع من الأئمة المحققين للحسن البصري من القول بالقدر.

بالإضافة لمن تقدم كالإمام ابن بطة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الذهبي، وصفي الدين الخزرجي، كما تقدم نقل أقوالهم في ذلك.

الخامس: شهادة بعض المصنفين في (الاعتقاد) وفي (الفرق والمقالات) بأن الحسن البصري كان على قول السلف في القدر، وإنكاره على المخالفين فيه وتحذيره منهم وهجره لهم:

قال الشهرستاني: «فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله تعالى»

(1)

.

روى اللالكائي عن الحسن البصري أنه «ينهى عن مجالسة معبد الجهني ويقول: لا تجالسوه فإنه ضال مضل»

(2)

.

ويحكي البغدادي إنكار الحسن لبدعة القدرية فيقول: «ثم حدث في أيام الحسن البصري خلاف واصل بن عطاء الغزال في القدر، وفى المنزلة بين المنزلتين، وانضم إليه عمرو بن عبيد بن باب في بدعته فطردهما الحسن عن مجلسه»

(3)

.

السادس: تصريح الحسن نفسه وتقريره لمعتقد أهل السنة في القدر واشتهار ذلك عنه ولم ينقل عنه ما يخالف ذلك.

ومما جاء عنه في ذلك:

ما رواه حميد الطويل قال: سمعت الحسن يقول: «خلق الله الشيطان، وخلق

(1)

الملل والنحل (1/ 47).

(2)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 704).

(3)

الفرق بين الفرق (ص: 15).

ص: 215

الخير، وخلق الشر، فقال رجل: قاتلهم الله، يكذبون على هذا الشيخ»

(1)

.

وعن حميد قال: كان الحسن يقول: «لأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب لي من أن أقول: إن الأمر في يدي أصنع به ما شئت»

(2)

.

وعن قتادة، عن الحسن قال:«من كذَّب بالقدر فقد كذب بالقرآن»

(3)

.

وعن عوف بن أبي جميلة: قال: سمعت الحسن البصري يقول: «من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام» ، ثم قال:«إن الله خلق خلقًا فخلقهم بقدره، وقسم الآجال، وقسم أرزاقهم بقدر والبلاء والعافية بقدر»

(4)

.

إلى غير ذلك من المأثور عنه في إثبات القدر وتقريره له، مما هو مبثوث في كتب التفسير والحديث والاعتقاد، مما لا يمكن حصره إلا بصعوبة.

وبهذا يتبين براءة الحسن البصري رحمه الله من القول بالقدر جملةً وتفصيلًا، وإنما نسب للقول بالقدر إلى أربعة أسباب:

1 -

أن ذلك كان من صنيع القدرية ليروج مذهبهم بنسبته إليه.

2 -

أن هذا من كذب خصومه ومبغضيه للنيل منه والطعن فيه.

3 -

أنه نسب للقدر بسب إنكاره على بعض أهل المعاصي الذين يحتجون بالقدر على ذنوبهم، ثم ينسبون من أنكر عليهم الذنوب إلى إنكار القدر.

قال الإمام أحمد: «الناس كل من شدد عليهم المعاصي، قالوا: هذا قدري»

(5)

.

(1)

السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 427).

(2)

الإبانة الكبرى (4/ 179).

(3)

السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 425).

(4)

الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 519).

(5)

منهاج السنة (3/ 24).

ص: 216

4 -

أن هذا من أوهام جلسائه في فهم كلامه من غير أن يثبت عنه. وما أكثر ما كُذب على أهل العلم قديما وحديثا بسبب سوء الفهم لكلامهم.

كما قال الشاعر

(1)

:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا

وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ

‌ثانيا: الإمام مكحول:

هو أبو عبد الله مكحول بن عبد الله الشامي، تابعي جليل القدر، إمام أهل الشام في زمانه، توفي سنة ثلاث عشرة ومائة

(2)

.

وقد اختلف في نسبته إلى القدر من عدمه على ثلاثة أقوال:

‌القول الأول: أنه يقول بالقدر.

وقد وردت بذلك عدة نقول:

فعن ابن خراش أنه قال: «مكحول شامي صدوق، وكان يرى القَدَر»

(3)

.

وقال الذهبي: «هو صاحب تدليس، وقد رمي بالقَدَر، فالله أعلم»

(4)

.

وعن علي بن حملة قال: «كنا على ساقية بأرض الروم، والناس يمرون

(1)

وقد ابتلينا في هذا العصر بهذا الداء من قبل من يفهم من القول ما لا يقصده المتكلم ولا يدل عليه لفظه بحال، فينسب الناقل للمتكلم ما فهمه هو من كلامه لا حقيقة كلامه، وكنت ممن ابتُلي بسوء فهم هؤلاء المتوهمين لكلامي ونسبتهم لي أقوالًا لم تخطر لي على بال، فنشرتُ في حسابي في (التويتر) تحذيرًا من ذلك فقلت:«كلامي ما نطق به لساني أو سطره بناني، لا ما عبر به الناقل بلفظه، ومعناه ما دل عليه لفظه في سياقه وسباقه، لا ما توهمه السامع بفهمه» .

(2)

انظر: البداية والنهاية (9/ 305) ميزان الاعتدال (4/ 178).

(3)

تهذيب الكمال (28/ 472) وتاريخ الإسلام (7/ 480).

(4)

ميزان الاعتدال (4/ 177) تاريخ دمشق (60/ 220).

ص: 217

وذلك في الغلس ورجل يقص، فدعا، فقال: اللهم ارزقنا رزقًا طيِّبًا، واستعملنا صالحًا، فقال مكحول وهو في القوم: إن الله لا يرزق إلا طيِّبًا. ورجاءُ بن حَيَوة، وعديُّ بن عديّ ناحية، فقال أحدهما لصاحبه: أسمعت؟ قال: نعم. فقيل لمكحول: إن رجاء وعديًّا سمعاك، فشق عليه»

(1)

.

وروى الإمام أحمد في العلل: «قال ليث: وكان مكحول يعجبه كلام غيلان فكان إذا ذكره قال: كَلَّ كَليلُه يريد قلَّ قليله، يعني: ما أقل في الناس مثله! يعني: غيلان، وكانت فيه لكنة -يعني: مكحولا-»

(2)

.

‌القول الثاني: أنه كان يقول بالقدر فرجع عنه.

ومما جاء في ذلك:

عن يحيى بن معين أنه قال: «كان قدريًّا ثم رجع عنه»

(3)

.

وقال عبد الرزاق: «كان مكحول يقوله -يعني: القدر- وبلغنا أن مكحولًا تنصَّل من القدر»

(4)

.

‌القول الثالث: أنه بريء من القول بالقدر.

ومن أظهر الأدلة على ذلك تصريح مكحول نفسه ببراءته من القدر وأنه ليس من قوله، على ما روى الإمام أحمد في (كتاب العلل) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة قال: «وقف رجاء بن حيوة على مكحول وأنا معه فقال: يا مكحول، بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، والله لو أعلم ذلك لكنت صاحبك من

(1)

سير أعلام النبلاء (5/ 163).

(2)

العلل ومعرفة الرجال (3/ 280).

(3)

تاريخ الإسلام (7/ 480).

(4)

سير أعلام النبلاء (5/ 163).

ص: 218

بين الناس، قال: فقال مكحول: لا والله، أصلحك الله، ما ذاك من شأني ولا قولي -أو نحو ذلك-»

(1)

.

وقد برَّأ مكحولًا من القول بالقدر بعَضُ أهل العلم:

وقد تقدم قول الأوزاعي: «لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن ومكحولًا، فكشفنا عن ذلك، فإذا هو باطل»

(2)

.

وروى ابن بطة عن الأوزاعي أيضًا أنه قال: «لا نعلم أحدًا من أهل العلم نسب إلى هذا الرأي إلا الحسن ومكحولًا، ولم يثبت ذاك عنهما»

(3)

.

وقال أبو مسهر: «كان سعيد بن عبد العزيز يبرئ مكحولًا ويدفعه عن القدر»

(4)

.

وعن إبراهيم بن مروان قال: «قال أبي: قلت لسعيد بن عبد العزيز: يا أبا محمد، إن الناس يتهمون مكحولًا بالقدر، فقال: كذبوا، لم يكن مكحول بقدري»

(5)

.

وقد ثبت إنكار مكحول على غيلان وهجره له.

فعن أيوب قال: «سمعت مكحولا يقول لغيلان: لا تموت إلا مفتونًا»

(6)

.

(1)

العلل ومعرفة الرجال (3/ 280).

(2)

تقدم تخريجه ص (234).

(3)

أخرجه ابن بطة (4/ 218).

(4)

أخرجه ابن بطة (4/ 218).

(5)

أخرجه ابن بطة (4/ 218)، وابن عساكر (60/ 228).

(6)

أخرجه ابن بطة (4/ 216)، وابن عساكر (48/ 204).

ص: 219

قال ابن عساكر بعد نقله هذا الأثر: «والصواب مقتولًا»

(1)

.

وعن محمد بن عبد الله الشعيثي قال: «سمعت مكحولًا يقول: بئس الخليفة كان غيلان لمحمد صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده»

(2)

.

ونقل ابن حجر في لسان الميزان: أن مكحولًا نهى غيلان عن مجالسته فقال: «لا تجالسني»

(3)

.

وعن إبراهيم بن عبد الله الكناني قال: «حلف مكحول لا يجمعه وغيلان سقف بيت إلا سقف المسجد، وإن كان ليراه في أسطوان من أسطوانات السوق فيخرج منه»

(4)

.

وروى العقيلي عن محمد بن عبد الله الشعيثي، عن مكحول قال: أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله، أتيت صديقًا لك اليوم أعوده فدفع في صدري دونه، فقال: من هو؟ فكأنه كره أن يخبره، فما زال به حتى قال: هو غيلان، قال: غيلان؟ قال: نعم، قال: إن دعاك غيلان فلا تجبه، وإن مرض فلا تعده، وإن مات فلا تتبع جنازته»

(5)

.

والصواب من هذا الأقوال -والله أعلم- هو القول الثالث: وهو القول ببراءة مكحول من القول بالقدر؛ وذلك لعدة وجوه:

الأول: أن مكحولًا رحمه الله تبرأ من القول بالقدر وأقسم على ذلك لما سأله

(1)

تاريخ دمشق (48/ 204).

(2)

أخرجه ابن بطة (4/ 217).

(3)

لسان الميزان (4/ 424).

(4)

أخرجه ابن بطة (4/ 217).

(5)

الضعفاء الكبير للعقيلي (3/ 437).

ص: 220

رجاء بن حيوة قائلا له: «بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر .. » فقال مكحول: «لا والله، أصلحك الله، ما ذاك من شأني ولا قولي» كما تقدم في الأثر السابق، وليس لنا الحكم إلا على الظاهر، ونهينا عن التنقيب عن بواطن الناس وعلى ما في قلوبهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه لما قتل الرجل بعد أن قال:(لا إله إلا الله) وقول أسامة «إنما قالها خوفًا من السلاح» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفلا شققت عن قلبه .. »

(1)

.

وإذا كان هذا في كافر لم يعرف بإسلام قبل التلفظ بالكلمة فكيف بتابعي جليل وإمام في السنة كبير وشيخ الشام في وقته؛ كيف لا تُقبل علانيته وقد نفى التهمة عن نفسه مقسمًا ببراءته من القدر وأنه ليس من شأنه ولا قوله؟!!

الثاني: أن مكحولًا قد برأه من القدر الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وهما إمامان جليلان من أجلِّ أصحاب مكحول ومن أكثر أصحابه مجالسة له. قال أبو زرعة الدمشقي: «قلت، يعني لدحيم: من بعد عبد الرحمن بن يزيد بن جابر من أصحاب مكحول؟ قال: الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز. قلت: فسعيد أكثر مجالسة لمكحول من الأوزاعي؟»

(2)

وأعرف الناس بالعالم تلاميذه وخاصة طلابه وقد نفيا عنه القدر وتقدم قولاهما في ذلك فلا يلتفت لقول غيرهما في شيخهما.

الثالث: قول ليث وهو: ليث بن أبي سليم في مكحول «وكان مكحول يعجبه كلام غيلان .. »

(3)

فنقل ليث عن مكحول لا يَقوى على معارضة قول الأوزاعي

(1)

أخرجه مسلم (96).

(2)

تهذيب الكمال (10/ 542 - 543) تاريخ دمشق (21/ 200).

(3)

تقدم تخريجه ص (241).

ص: 221

وسعيد بن عبد العزيز صاحبي مكحول وهما أعرف الناس به وقد برَّآه من القدر. فإن ليثًا لم يلق مكحولًا ولم يصحبه وروايته عنه مرسلة، فقد «سئل أبو زرعة عن ليث بن أبي سليم هل سمع من مكحول؟ قال: لا هو مرسل»

(1)

.

ثم ما حكاه ليث عن مكحول: (أنه يعجبه كلام غيلان) فهو مع انقطاع سنده -فإن روايته عن مكحول مرسلة والمرسل منقطع لا تقوم به حجة-؛ ففي متنه نكارة من جهة معارضته لما هو مشهور من إنكار مكحول على غيلان وهجره له، وهذا ثابت من أكثر من وجه بنقل أصحاب مكحول وتصريحهم بسماعهم ذمَّ مكحولٍ لغيلانَ ذمًّا شديدًا وهجره له.

وكذلك مقولة مكحول في غيلان (قل قليله) -إن ثبتت- فتفسيرها بأن معناها: «ما أقل في الناس مثله!» غريب يأباه اللفظ، والألفاظ قوالب المعاني؛ فإن مكحولًا لو أراد هذا المعنى لقال:(ما أقله في الناس) أو قال: (قَلَّ في الناس نظيره)، بل قوله:(قل قليله) دلالتها على الذم أظهر، وأن معناها (قلَّ بالبدعة قليل غيلان من العلم) أي: أن علمه قليل، ثم قلَّ بالبدعة قليله، فهذا الذي تقتضيه اللفظة من حيث المعنى. وكذا الحال يشهد لهذا من أنها -إن ثبتت عن مكحول- فإنه إنما أراد ذم غيلان لا مدحه وهي أوفق من جهة المعنى لقوله:«بئس الخليفة كان غيلان لمحمد صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده»

(2)

، أما أن تحمل على أنه قصد بها مدحًا، متضمنًا هذا الإطراء المبالغ فيه، وأنه أراد أنه (قَلَّ في الناس مثله)؛ فهذا من قلب المعاني والجمع بين الأضداد.

الرابع: أن مكحولًا إمام أهل الشام وكانت له منزلة وكلمة نافذه فيهم،

(1)

المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 181).

(2)

أخرجه ابن بطة (4/ 217).

ص: 222

قال ابن كثير: «وكان له وجاهة عند الناس، مهما أمر به من شيء يفعل»

(1)

.

وقد تعرض لحسد شأنه شأن كل ذي نعمة وفضل، فعاداه أناس وتكلموا فيه وكانوا يغرون به رجاء بن حيوة وهو إمام أهل الشام ويطعنون فيه عنده.

روى الذهبي عن عاصم بن رجاء بن حيوة قال: «جاء مكحول إلى أبي، فقال: يا أبا المقدام، إنهم يريدون دمي، قال: قد حذرتك القرشيين ومجالستهم، ولكنهم أدنوك وقربوك، فحدثتهم بأحاديث، فلما أفشوها عنك كرهتها، فراح، فجاء الذين يعيبونه، فذكروه فقال أبي: دعوه، فقد كنتم حديثًا وأنتم تحسنون ذكره .. »

(2)

.

وكان مكحول يقول: «ما زلت مضطلعًا على من ناوأني حتى عاونهم عليَّ رجاء بن حيوة، وذلك أنه كان سيد أهل الشام في أنفسهم»

(3)

.

فرجل هذا شأنه لا يبعد أن يكذب عليه ويطعن فيه بما ليس فيه يؤكد هذا الأثر السابق عن إبراهيم بن مروان، قال: قال أبي: «قلت لسعيد بن عبد العزيز: يا أبا محمد، إن الناس يتهمون مكحولا بالقدر، فقال: كذبوا، لم يكن مكحول بقدري»

(4)

.

الخامس: أن قول مكحول في (الرزق) ليس صريحا في تقرير قول القدرية؛ فلفظ الرزق فيه إجمال كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله: «لفظ (الرزق) فيه إجمال؛ فقد يراد بلفظ الرزق ما أباحه أو ملكه فلا يدخل

(1)

البداية والنهاية (13/ 67).

(2)

سير أعلام النبلاء (5/ 163).

(3)

سير أعلام النبلاء (4/ 558).

(4)

أخرجه ابن بطة (4/ 218)، وابن عساكر (60/ 228).

ص: 223

الحرام في مسمى هذا الرزق، كما في قوله تعالى:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] وقوله: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} [النحل: 75] وأمثال ذلك. وقد يراد بالرزق ما ينتفع به الحيوان وإن لم يكن هناك إباحة ولا تمليك فيدخل فيه الحرام كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]»

(1)

.

وبهذا يتبين أن قول مكحول: «إن الله لا يرزق إلا طيبًا»

(2)

له وجه صحيح على المعنى الأول الذي ذكره شيخ الإسلام، قال شيخ الإسلام:«فلا يدخل الحرام في مسمى هذا الرزق» ولا يلزم لمن قال: إن الله لا يرزق إلا طيبًا، يريد به هذا المعنى أن يكون موافقًا للقدرية والمعتزلة الذين يقولون: إن الله لا يقدر الحرام ولا يرزقه، بناء على قولهم في أن الذنوب هي صادرة من قبل العبد ولا تدخل في تقدير الرب ولا خلقه.

قال الأشعري: «قالت المعتزلة: إن الأجسام الله خالقها، وكذلك الأرزاق وهي أرزاق الله -سبحانه- فمن غصب إنسانًا مالًا أو طعامًا فأكله أكل ما رزق الله غيره ولم يرزقه إياه.

وزعموا بأجمعهم أن الله -سبحانه- لا يرزق الحرام كما لا يملِّك الله الحرام، وأن الله -سبحانه- إنما رزق الذي ملَّكه إياهم دون الذي غصبه.

وقال أهل الإثبات: الأرزاق على ضربين: منها ما ملَّكه الله الإنسان ومنها ما جعله غذاءً له وقوامًا لجسمه وإن كان حرامًا عليه فهو رزقه إذ جعله الله

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 132) مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 152).

(2)

تقدم عزوه ص (240).

ص: 224

-سبحانه- غذاءً له لأنه قوام لجسمه

»

(1)

.

فتبين أن قول مكحول محتمل لمعنى صحيح مقرر عند أهل السنة، ومقتضى حسن الظن بهذا الإمام الجليل أن يحمل كلامه على مَحمل حسن.

قال سعيد بن المسيب: «كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا وأنت تجد له في الخير محملًا»

(2)

.

السادس: أن الإمام الأوزاعي حقق هذا المسألة وحكى الشبهة في نسبة بعض أئمة التابعين للقدر، وأنه كشف عن ذلك مع قرب العهد والتجرد للحق، ثم صرح بما انتهى إليه من ذلك في قوله:«لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن ومكحولًا، فكشفنا عن ذلك، فإذا هو باطل»

(3)

، فكفى بذلك الباحثين المؤونةَ في تحقيق هذا المسألة وخلص إلى هذه النتيجة التي لا ينبغي العدول عنها، وهي براءة أئمة التابعين من بدعة القدر وهذا هو الذي يليق بمقامهم فإنهم على ميراث الصحابة الكرام علرضي الله عنهم جميعا وجزاهم عن الأمة خيرًا.

وبهذا يتبين براءة الإمام مكحول من القدر، وأن نسبته إليه إما مرجعها للكذب عليه من خصومه، أو لما اشتبه من كلامه، وأنه بريءٌ من القول بالقدر لما تقدم عرضه من الأدلة، فلله الحمد والمنة.

(1)

مقالات الإسلاميين (1/ 205).

(2)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (10/ 560).

(3)

تقدم تخريجه ص (234).

ص: 225

‌ثالثًا: قتادة:

هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي البصري الأعمى، أحد علماء التابعين، والأئمة العاملين، كانت ولادته سنة ستين للهجرة. وتوفي سنة سبع عشرة ومائة بواسط

(1)

.

واختلف في نسبته للقدر على ثلاثة أقوال:

‌القول الأول: أنه يقول بالقدر.

وهذا هو المشهور المنقول عن الأئمة:

قال أحمد بن حنبل: «كان قتادة وسعيد يقولان بالقدر ويكتمان»

(2)

. ويعني بسعيد: (سعيد بن أبي عروبة)

(3)

.

وقال يحيى بن معين: «رمي بالقدر»

(4)

.

وقال ابن سعد: «قتادة بن دعامة السدوسي وكان يكنى أبا الخطاب، وكان ثقة مأمونًا، حجة في الحديث، وكان يقول بشيء من القدر»

(5)

.

وقال العجلي: «قتادة بن دعامة السدوسي: يكنى أبا الخطاب، بصري، تابعي، ثقة وكان ضرير البصر، وكان يقول بشيء من القدر، وكان لا يدعو إليه، ولا يتكلم فيه.»

(6)

.

(1)

انظر: البداية والنهاية (9/ 313) وفيات الأعيان (4/ 85).

(2)

سير أعلام النبلاء (6/ 414).

(3)

انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 414).

(4)

ميزان الاعتدال (3/ 385).

(5)

الطبقات الكبرى (7/ 229).

(6)

الثقات للعجلي (ص: 389).

ص: 226

وقال وكيع: «كان سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي وغيرهما يقولون: قال قتادة: كل شيء بقدر إلا المعاصي»

(1)

.

وقال ابن شوذب: «ما كان قتادة يرضى حتى يصيح به صياحًا، يعني: القدر»

(2)

.

وقال الذهبي: «قتادة حافظٌ ثقةٌ لكنه مدلس، وقد رمي بالقدر»

(3)

.

وقال رحمه الله: «وقد تفوَّه قتادة بشيءٍ من القدر»

(4)

.

وقال ابن عبد الهادي: «وكان مدلسًا يرى القدر، فإنه قال: كل شيء بقدر إلا المعاصي»

(5)

.

‌القول الثاني: أنه قال به ثم رجع عنه.

وذهب إليه ياقوت الحموي، فقد قال في ترجمة قتادة:«وكان يقول بشيء من القدر ثم رجع عنه»

(6)

.

وقال الذهبي معلقًا على قول الإمام أحمد: «كان قتادة وسعيد يقولان بالقدر ويكتمان. قلت: لعلهما تابا ورجعا عنه كما تاب شيخهما

(7)

»

(8)

.

(1)

تاريخ الإسلام (7/ 455).

(2)

المصدر نفسه.

(3)

المغني في الضعفاء (2/ 522).

(4)

تاريخ الإسلام (7/ 455).

(5)

طبقات علماء الحديث (1/ 197).

(6)

معجم الأدباء (5/ 2233).

(7)

يعني بذلك: الحسن البصري.

(8)

سير أعلام النبلاء (6/ 414).

ص: 227

‌القول الثالث: أنه لم يقل بالقدر.

ويدل على هذا مفهوم قول الأوزاعي المتقدم: «لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن ومكحولًا، فكشفنا عن ذلك، فإذا هو باطل»

(1)

.

وقتادة تابعي مشهور وهو داخل في عموم التابعين الذين صرح الأوزاعي ببراءتهم من القدر.

وصرح بذلك أبو داود فقال: «لم يثبت عندنا عن قتادة القول بالقدر، والله أعلم»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «عن قتادة: {قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] قال: لا والله ما أكره الله عبدًا على معصية قط ولا على ضلالة ولا رضيها له ولا أمره، ولكن رضي لكم الطاعة فأمركم بها ونهاكم عن معصيته. قلت: قتادة ذكر هذا عند هذه الآية ليبين أن الله قدّر ما قدّره من السعادة والشقاوة كما قال الحسن وقتادة وغيرهما من أئمة المسلمين»

(3)

.

وقال رحمه الله: «وذكر قتادة أن الله لم يكره أحدًا على معصية، وهذا صحيح؛ فإن أهل السنة المثبتين للقدر متفقون على أن الله لا يكره أحدًا على معصية كما يكره الوالي والقاضي وغيرهما للمخلوق على خلاف مراده، يكرهونه بالعقوبة والوعيد، بل هو سبحانه يخلق إرادة العبد للعمل وقدرته وعمله وهو خالق كل شيء، وهذا الذي قاله قتادة قد يظن فيه أنه من قول القدرية وأنه

(1)

الإبانة الكبرى (4/ 218).

(2)

فتح الباري (1/ 436).

(3)

مجموع الفتاوى (16/ 140).

ص: 228

لسبب مثل هذا اتهم قتادة بالقدر حتى قيل: إن مالكا كره لمعمر أن يروي عنه التفسير لكونه اتهم بالقدر، وهذا القول حق ولم يعرف أحد من السلف قال:«إن الله أكره أحدا على معصية» . بل أبلغ من ذلك أن لفظ «الجبر» منعوا من إطلاقه كالأوزاعي والثوري والزبيدي وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم»

(1)

.

وظاهر من كلام شيخ الإسلام براءة قتادة من قول القدرية، وأن قتادة إنما نسب للقول بالقدر لقوله المتقدم في تفسير:{قَدَّرَ فَهَدَى} ثم ذكر أنَّ كلامه حق وصحيح وهو موافق للأئمة.

وكلام قتادة بين ظاهر لكل متأمل أنه لا لبس فيه، فهو رحمه الله إنما نفى إكراه الله العباد على المعاصي، ولم ينف تقدير الله لها وخلقها في العباد، وفرق بين الأمرين، والقول بنفي الجبر للعباد على أفعالهم هو قول أهل السنة الذين خالفوا فيه الجبرية، وقولهم بخلق الله لأفعال العباد وتقديرها هو قول أهل السنة الذي خالفوا فيه القدرية.

الترجيح:

وفي الحقيقة إن الناظر ابتداءً في هذه الأقوال في نسبة هذا الإمام للقدر من عدمه يجد أن الأكثر والأشهر من الأئمة على القول بنسبته للقدر، وأن هذا القول من حيث الشهرة ومنزلة من قال به من الأئمة هو الأرجح.

غير أنه بإنعام النظر والتدقيق في مقالات الأئمة الذين نسبوا الإمام قتادة للقدر والوقوف على ألفاظهم وما تقتضيه الأصول في الحكم على المسلمين، وبعض ما سأذكره لاحقًا من وجوه؛ يترجح له براءة الإمام قتادة -إن شاء الله- من القول بالقدر.

(1)

مجموع الفتاوى (16/ 140).

ص: 229

وترجيح ذلك من عدة وجوه:

الأول: أن تلك النقول عن الأئمة ليست قاطعة في نسبة قتادة للقول ببدعة القدرية.

فمنها ما ورد بصيغة التمريض كقول يحيى بن معين والذهبي: «رمي بالقدر» وما ورد بصيغة التمريض، ك «قيل» و «روي» و «ذكر» بالبناء لما لم يذكر فاعله

(1)

فهذه الصيغة موضوعة لبيان ضعف الحديث أو الشك في صحته، وقيل:«لا يستفاد منها صحة ولا تنافيها»

(2)

فهي على كل حال لا تدل على صحة، وقول بعض الأئمة:(رمي بالقدر) لا تدل على الجزم بذلك فلا يبنى عليها حكم.

ومنها ما ورد بصيغة: «يقول بشيء من القدر» كما في قول ابن سعد والعجلي وهذه الصيغة تدل على التقليل، كما في قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} [البقرة: 155] قال ابن كثير في تفسيرها: «أي: بقليل من ذلك»

(3)

. وقال السعدي:

(1)

كان بعض متأخري النحاة يعبرون عند الإعراب عن الفعل المذكور بعبارة: (مبني للمجهول)، وهذا مما لا يليق بالله عز وجل إذا كان في مقام الحديث عن أفعال الله-وكان المتقدمون يعبرون بقولهم:(ما لم يُسَمَّ فاعله)، وهذا التعبير أفضل من تعبير المتأخرين إلا أن في قولهم:(لم يسم) محذور آخر من جهة نفي التسمية عن الله، ولهذا رأيت أن استبدلها بلفظ يقوم مقامها ويؤدي معناها مع البعد عن العبارة المشتبهة وذلك بالتعبير ب (ما لم يذكر فاعله)، وقد التزمت هذا في كتاب (الاختلاف في القراءات) ابتغاء أن يكون سنة حسنة يقتدى بها ويعتاض بها عن الألفاظ غير اللائقة بمقام العزيز الحميد. (انظر: الاختلاف في القراءات. ص: 12). وبعد طبع الكتاب اطلع على هذا أحد كبار النحويين المعاصرين وهو الشيخ الفاضل المحقق: محمد أحيد عمر فاستحسنه واستملحه.

(2)

الباعث الحثيث (ص: 34، 91).

(3)

تفسير ابن كثير (1/ 467).

ص: 230

«أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك»

(1)

.

وهذا يدل على أن الذي نسب إلى قتادة شيء يسير من القدر لا كلام القدرية الباطل، وبالتالي فنسبته للقدر على الإطلاق محل نظر، هذا مع ما يعتري هذا الإطلاق من أن يكون متوهَّمًا من كلامه على ما سيأتي إيضاحه.

ومنها ما ورد بصيغة: «أنه يكتم القول بالقدر» كما في قول أحمد عن قتادة وسعيد: «يقولان بالقدر ويكتمان» . وقول العجلي عن قتادة: «وكان لا يدعو إليه، ولا يتكلم فيه» وهذا يدل على أن قتادة لم يصرح بالقدر ظاهًرا ولم يتكلم فيه بشيءٍ ولم يدع إليه، وغاية ما بلغ هؤلاء الأئمة أنه يخفيه وبناء الأحكام في الدنيا إنما هو على الظاهر كما تقدم تقريره، وهؤلاء الأئمة أمناء في النقل فنقلهم ما بلغهم في مقام جرح الرواة ليتحقق منه احتياطًا لصيانة العلم والحذر من أهل البدع؛ لا يدل على تبنيهم لهذا.

وأما قول ابن شوذب: «ما كان قتادة يرضى حتى يصيح به صياحًا، يعني: القدر» .

فهذا كلام محتمل أنه يصيح به على وجه الإثبات أو على وجه النفي للقدر.

والذهبي حمله على النفي وعلق بعده بما يدل على ذلك

(2)

، فإن كان هذا بقرينة تدل على ذلك فنعم، وإلا فاللفظ محتمل، ويقوي المعنى الآخر ما تقدم نقله عن الأئمة أن قتادة كان يكتم ذلك، أي:«القول ببدعة القدر» فكيف يقال هنا: إنه كان يصيح به؟! فهذا مما يرجح أن هذا القول سيق في مقام الذب عن قتادة وأنه أبعد ما يكون عن القول بقول القدرية، ولا يكتفي

(1)

تفسير السعدي (ص: 76).

(2)

انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 277).

ص: 231

في إثبات القدر حتى يصيح به صياحًا، والله أعلم.

وأما قول سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي: أن قتادة كان يقول: «كل شيء بقدر إلا المعاصي»

(1)

؛ فهو صريح في نسبته للقدر، لكن هل هذا نص كلامه؟ فإن كان كذلك فهو ظاهر في قوله بالقدر -عفا الله عنه-، وإن كان هذا إنما هو بما فهمه الإمامان سعيد وهشام من كلامه؛ فليس بحجة على نسبة قتادة للقول بالقدر، فكثيرًا ما يُحمل بعض كلام أهل العلم على غير ما قصدوه -كما سبق التنويه عليه سابقا-.

ويقوي هذا الاحتمال أن المحفوظ المتداول من قول قتادة هو قوله: «لا والله ما أكره الله عبدًا على معصية قط ولا على ضلالة ولا رضيها له ولا أمره، ولكن رضي لكم الطاعة فأمركم بها، ونهاكم عن معصيته» ، فلعل سعيدًا وهشامًا فهما من قوله هذا ما نقلاه عنه بالمعنى، ويؤكد هذا قول شيخ الإسلام السابق في التعليق على قول قتادة المتقدم:«وهذا الذي قاله قتادة قد يُظن فيه أنه من قول القدرية، وأنه لسبب مثل هذا اتهم قتادة بالقدر»

(2)

.

وكلام قتادة ظاهر جدًّا في أنه ينفي الإكراه على المعاصي وينفي رضى الله بها، وهذا كله حق ولوكان من قوله نفي التقدير لصرح به هنا، وهذا نص صريح في بيان قوله في المعاصي وكلامه هذا يدل على رسوخه في هذه المسألة؛ فإن هذا التفصيل الذي ذكره من أدق ما ذكر في هذا الباب، بل لعله أول من نبه عليه وهو تفريقه بين إكراه العبد على المعصية، وكونها مقدرة عليه؛ فالأول منفي والثاني ثابت، وكذلك نفيه رضى الله بها لا يتنافى مع تقديرها، ولو أن قتادة رحمه الله يرى نفي تقدير المعاصي لصرح به هنا، وهذا مما يدل على أن

(1)

تاريخ الإسلام (7/ 455).

(2)

انظر ما تقدم ص (251).

ص: 232

ما نسبه له الإمامان سعيد وهشام الدستوائي ليس من قول قتادة، بل بحسب ما فهماه من قوله، والله يعفو عن الجميع.

الوجه الثاني: أقوال قتادة المنقولة عنه -وهي مبثوثة في كتب التفسير وكتب الاعتقاد- في إثباته القدر تدل على إثباته القدر وبراءته من البدعة القدرية.

ومن ذلك:

روى اللالكائي عن الحكم بن عمر، قال:«أرسلني خالد بن عبد الله إلى قتادة وهو بالجيزة أسأله عن مسائل، فكان فيما سألت، قلت: أخبرني عن قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]، هم مشركو العرب؟ قال: لا، ولكنهم الزنادقة المباينة الذين جعلوا لله شركاء في خلقه، فقالوا: إن الله يخلق الخير، وإن الشيطان يخلق الشر، وليس لله على الشيطان قدرة»

(1)

.

وفي مسائل حرب الكرماني: عن جويرية بن أسماء قال: «سأل رجل قتادة عن القدر؟ فقال: رأي العرب أحب إليك أم رأي العجم؟ فقال الرجل: لا بل رأي العرب، قال قتادة: فإن العرب لم تزل في جاهليتها وإسلامها تثبت القدر، ثم تمثل ببيت من الشعر:

مَا كَانَ قَطْعِي هَوْلَ كُلِّ تَنُوفَةٍ

(2)

إِلَّا كِتَابٌ قَدْ خَلَا مَسْطُورُ»

(3)

(1)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 774)، القضاء والقدر للبيهقي (ص 322).

(2)

التَّنُوفَة هي: الأَرضُ القَفر. وقِيلَ البَعِيدَةُ الماء. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 199).

(3)

مسائل حرب الكرماني (3/ 1330)، وأورده ابن بطة في الإبانة الكبرى (4/ 219)، والبيهقي في القضاء والقدر (ص: 322).

ص: 233

وعن معمر عن قتادة: في قوله تعالى {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] قال: النعم والمصائب»

(1)

.

وعن قتادة في قوله تعالى: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 3] قال: «معناه: أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشر.»

(2)

.

وعنه رحمه الله: في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] قال: «فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم»

(3)

.

وهذه النقول صريحة في إثبات القدر من قول قتادة رحمه الله وهي التي ينبغي أن يحمل عليها اعتقاده.

الوجه الثالث: أن مما يدل على أن الأئمة إنما نقلوا ما نقلوا عن قتادة في هذا الباب بحسب ما بلغهم، وأنهم لا يقطعون بصحة نسبة ذلك لقتادة -على ما تقدم بيانه من صيغ كلامهم السابق- أنهم مجمعون على عدالته والأخذ عنه ولو كانوا يرون ابتداعه ما وثقوه ووصفوه بالأمانة والإمامة بل وصفوه بالقدوة، وأين قتادة عندهم من غيلان وجعد وجهم؟!

ومما جاء في ثنائهم عليه:

قول ابن سعد: «قتادة بن دعامة السدوسي .. وكان ثقة مأمونا، حجة في الحديث»

(4)

.

قال الذهبي: «قال أحمد بن حنبل: قتادة عالم بالتفسير وباختلاف العلماء،

(1)

تفسير الطبري (7/ 240).

(2)

تفسير ابن كثير (7/ 475).

(3)

تفسير الطبري (1/ 434).

(4)

الطبقات الكبرى (7/ 229).

ص: 234

ثم وصفه أحمد بالفقه والحفظ، وأطنب في ذكره وقال: قلما تجد من يتقدمه»

(1)

.

وقال الذهبي: «قتادة حافظ ثقة»

(2)

.

وقال الذهبي: «حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين»

(3)

.

وقال: «وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر -نسأل الله العفو-. ومع هذا، فما توقف أحد في صدقه، وعدالته، وحفظه»

(4)

.

وقال ابن كثير: «أحد علماء التابعين، والأئمة العاملين»

(5)

.

وقال ابن عبد الهادي: «وقد أجمع الأئمة على الاحتجاج به رحمة الله عليه»

(6)

.

وقد أخذ العلم وروى عنه أئمة أعلام.

قال الذهبي: «روى عنه أئمة الإسلام: أيوب السختياني، وابن أبي عروبة، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، ومسعر بن كدام، وعمرو بن الحارث المصري، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن حازم، وشيبان النحوي، وهمام بن يحيى، وحماد ابن سلمة، وأبان العطار، وسعيد بن بشير، وسلام بن أبي مطيع، وشهاب بن خراش، وحسام بن مصك، وخليد بن دعلج، وسعيد بن زربي، والصعق بن

(1)

تاريخ الإسلام (3/ 302).

(2)

المغني في الضعفاء (2/ 522).

(3)

سير أعلام النبلاء (5/ 270).

(4)

سير أعلام النبلاء (5/ 271).

(5)

البداية والنهاية (9/ 313).

(6)

طبقات علماء الحديث (1/ 197).

ص: 235

حزن، وعفير بن معدان، وموسى بن خلف العمي، ويزيد بن إبراهيم التستري، وأبو عوانة الوضاح، وأمم سواهم»

(1)

.

والشاهد من هذا: أن الله بحكمته كتب الظهور والتمكين لهذا الدين ولأهله القائمين على ما هو معلوم من الأدلة. وقد جعل الله لهذا الإمام هذه المكانة عند السلف حتى أجمعوا على إمامته والأخذ عنه، ثم جعل الله القبول في قلوب أهل العلم من بعد السلف عبر الأجيال ونشر علم قتادة في كتب التفسير وأصبحت أقوال قتادة وغيره من أئمة السلف حجة لأهل العلم في فهم كلام ربهم وسنة نبيهم، وما أشكل عليهم من أمر دينهم، فلولا أن هذا الإمام على السنة ما جعل الله له هذه المكانة الرفيعة في الدين وعند أهل العلم قديما وحديثا، وهذا المقام تتجلى فيه السنن الشرعية والكونية لمن كان له علم وتدبر لذلك؛ فيأبى الله والمؤمنون أن تكون هذه المكانة لغير صاحب سنة، ولهذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر أن يعهد لأبي بكر ويوصي له بالخلافة ثم ترك ذلك اعتمادًا على هذا الأصل العظيم، على ما أخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لقد هممت -أو أردت- أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون»

(2)

.

وفي رواية مسلم: «ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»

(3)

.

وليعتبر في مقابل هذا بحال أهل البدع، وما كانوا يظهرون من العلم والفصاحة

(1)

سير أعلام النبلاء (5/ 270).

(2)

أخرجه البخاري (5666).

(3)

أخرجه مسلم (2387).

ص: 236

في الكلام، والورع في الدين، والزهد في الدنيا، على ما هو مدون في كتب التراجم والسير من أمثال: ابن سبأ، والجهم، والجعد، وواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيلان الدمشقي، فأين هؤلاء من هؤلاء الأئمة، وما هو أثر هؤلاء المبتدعة في العلم وفي نفع الناس في الدين، وهل تجد لهؤلاء المبتدعة أثارة من علم في تفسير آية، أو شرح حديث، أو تحرير مسألة، وهذا الأمر قل من يتنبه له من طلبة العلم المتأخرين، ولو تنبهوا له لأدركوا هذه الحقيقة بعين البصيرة ولم يشتبه عليهم حال أهل البدع بحال أئمة الدين والهدى الذين وقعت منهم زلات وهنات، ذكرت في كتب التراجم وتناقلها الناس قديمًا، ثم غمرتها بحور الحسنات في الجهاد في العلم والتحقيق، وكفرتها صالح الطاعات وطول القنوت في العمل، ونشر الله لهم من جميل الذكر وعظيم الفضل ما سارت به الركبان، وكفر عنهم تلك الزلات والهنات ما أصبحت به في طي النسيان، فلم يبق لها في الناس ذكر ولا أثر، إلا لمن نقب عنها في بطون الكتب، ولو تجرأ على إظهارها جاهل مفتون ومتعالم مغرور، ليطعن بها على ذلك الإمام المشهور لكان كالمنادي على نفسه بين الناس بالفضيحة والخذلان {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

ص: 237

‌رابعًا: ابن أبي ذئب:

وهو الإمام محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي العامري، المدني، أحد الأئمة الأعلام، قر ين الإمام مالك، ولد سنة 80 هـ، وتوفي سنة 159 هـ. وهو من أتباع التابعين

(1)

.

واختلف في نسبته للقدر على قولين:

‌القول الأول: أنه يقول بالقدر.

ومما جاء في ذلك:

قول ابن سعد في ترجمته: «فقيهًا ورعًا عابدًا فاضلًا، وكان يُرمى بالقدر»

(2)

.

وقال الشافعي: «سمعت مالك بن أنس يقول: لو برئ ابن أبي ذئب من القدر ما كان على ظهر الأرض أحد خيرًا منه»

(3)

.

‌القول الثاني: أنه لم يقل بالقدر.

فقد برأه منه وشهد له بذلك الأئمة الكبار.

روى صالح ابن الإمام أحمد قال: «وذكر ابن أبي ذئب. قلت: كان يرمى بالقدر. قال: ما علمت، كان رجلًا صالحا صاحب أمر بالمعروف، وكان أكثر من مالك»

(4)

.

قال الواقدي: «وكان من أورع الناس وأودعهم ورمي بالقدر، وما كان قدريا، لقد كان يتقي قولهم ويعيبه ولكنه كان رجلًا كريمًا، يجلس إليه كل

(1)

سير أعلام النبلاء (7/ 139).

(2)

الطبقات الكبرى -متمم التابعين- (ص: 421).

(3)

قبول الأخبار ومعرفة الرجال لأبي القاسم البلخي (2/ 384).

(4)

مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (3/ 156).

ص: 238

أحد ويغشاه، فلا يطرده ولا يقول له شيئًا، وإن مرض عاده، فكانوا يتهمونه بالقدر لهذا وشبهه»

(1)

.

قال الذهبي معلقًا: «قلت: كان حقه أن يكفهِرَّ في وجوههم، ولعله كان حسن الظن بالناس»

(2)

.

وعن أحمد بن علي الأبار قال: «سألت مصعب الزبيري عن ابن أبي ذئب، وقلت له: حدثونا عن أبي عاصم أنه قال: كان ابن أبي ذئب قدريا؟ قال: معاذ الله إنما كان زمن المهدي أخذوا القدرية وضربوهم ونفوهم، فجاء قوم من أهل القدر فجلسوا إليه واعتصموا به من الضرب، فقال قوم: إنما جلسوا إليه؛ لأنه كان يرى القدر، فقد حدثني من أثق به أنه ما تكلم فيه قط»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية، بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر، كما قيل للإمام أحمد: كان ابن أبي ذئب قدريًّا، فقال: الناس كل من شدد عليهم المعاصي، قالوا هذا قدري»

(4)

.

وبهذا يتبين براءة ابن أبي ذئب من القول ببدعة القدر وإنما نُسب للقدر لسببين ذكرهما العلماء وهما:

الأول: أنه كان رجلا كريمًا، يجلس إليه كل أحد ويغشاه، فلا يطرده، ولا

(1)

سير أعلام النبلاء (7/ 141 - 140) وانظر تاريخ الإسلام (4/ 203).

(2)

سير أعلام النبلاء (7/ 141).

(3)

أورده اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 801)، وانظر: سير أعلام النبلاء (7/ 145)، وتاريخ الإسلام (4/ 206).

(4)

منهاج السنة (3/ 24).

ص: 239

يقول له شيئًا، وإن مرض، عاده، فكانوا يتهمونه بالقدر لهذا كما ذكره الواقدي وعلق على ذلك الذهبي بقوله:«كان حقه أن يَكفهِرَّ في وجوههم، ولعله كان حسن الظن بالناس» .

الثاني: أنه قدم إليه بعض القدرية بعد ضربهم ونفيهم زمن الخليفة المهدي واعتصموا به من العقوبة وجلسوا إليه، فنسب إليهم على ما تقدم من قول عن الزبيري.

وبهذا يظهر براءة الأئمة الأربعة من القول بالقدر، وأن نسبتهم للقول بالقدر ترجع لعدة أسباب: منها: ما هو عام في نسبة عدد كبير من الأئمة للقول بالقدر، وهو ما ذكره الإمام أحمد في قوله:«الناس كل من شدد عليهم المعاصي؛ قالوا هذا قدري»

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية، بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر»

(2)

.

ومنها أسباب خاصة على ما سبق بيانه وتفصيله.

ولعل الله أن ييسر لهذا الأمر من الباحثين من يتولى دراسة ما نسب للعلماء من مقالات أهل البدع، كرمي بعضهم (بالقدر) أو (التشيع) أو (الإرجاء)، وكشف حقيقة تلك التهمة من منطلق شرعي يتسم بالتجرد ويتوخى العدل، ويهدف لمعرفة حقيقة تلك النسبة من عدمها؛ إحقاقا للحق ونصحًا للخلق وحفظا للشريعة وصيانة للسنة وذبا عن أعراض من برئ من تلك البدع من الأئمة.

(1)

منهاج السنة (3/ 24).

(2)

المصدر السابق.

ص: 240

‌الخاتمة

في ختام هذا البحث؛ أحمد الله تعالى على نعمه الجزيلة وآلائه العظيمة، التي من جملتها ما مَنَّ به مِنْ ختام هذا البحث في باب القدر، حيث اشتمل على مباحثَ جليلةٍ، ومسائلَ مفيدةٍ في هذا الباب العظيم، والأصل الأصيل من أصول الدين.

ويمكن إبراز أهمِّ النتائج التي توصَّل إليها البحث في النقاط التالية:

1) القضاء والقدر بينهما تلازمٌ، ويدخل أحدهما في معنَى الآخر في بعض مواطن ورودهما في النصوص وكلام العلماء، وهما كلمتان إِنِ اجْتَمَعَتَا في الذكر افْتَرَقَتَا في المعنَى، وإِنِ افْتَرَقَتَا في الذكر اجتمعتا في المعنَى.

2) القدر سابقٌ للقضاء على الصحيح من أقوال العلماء، وهو الذي عليه المحقِّقون من أهل العلم.

3) الإيمان بالقدر ركنٌ عظيمٌ من أركان الإيمان، لا يصحُّ إيمان العبد إلا بتحقيقه، وهو نظام التوحيد؛ فَمَنْ حقَّقه كَمل توحيده، ومَنْ كذَّب به نقض توحيده.

4) تضافرت الأدلَّة من الكتاب والسنَّة على إثبات القدر، وعلى ذلك انعقد إجماع الصحابة وأهل الحلِّ والعقد من السلف والخلف.

5) أصل الخلاف في القدر يرجع إلى مقالتين مخالفتين للكتاب والسنَّة وما عليه سلف الأمَّة، وهما:

أ- مقالة القدريَّة: وهي القول بقدرة العبد على فعله قدرة تامة، وإنكار مراتب القدر كلها كما هو قول أوائلهم وغلاتهم، أوإنكار المشيئة والخلق كما هو قول متأخريهم.

ص: 241

وأوَّل ظهور مقالة القدرية في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم، في خلافة عبد الملك بن مروان، وأوَّل مَنْ تكلَّم في القدر: رجلٌ من أهل العراق يُقال له: سنسويه، وكان نصرانيًّا فأسلم، ثم تنصَّر، فأخذ عنه معبد الجهنيُّ، وأخذ غيلان عن معبدٍ.

ب- مقالة الجبريَّة: وهي القول بجبر العبد على فعله، ودعوى أن الفاعل الحقيقيَّ هو الله، وإنما يُضاف الفعل للعبد مجازًا.

وأوَّل مَنْ أظهر القول بالجبر: الجهم بن صفوان، وقد أخذ جهمٌ من الجعد بن درهمٍ، وأخذه الجعد من أبان بن سمعان، وأخذه أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذه طالوت من لبيد بن الأعصم اليهوديِّ الذي سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

6) أهل السنَّة متَّفقون على الإيمان بالقدر، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كلِّ شيءٍ من أفعال العباد وغيرها، ومتَّفقون على إثبات أمره ونهيه ووعده ووعيده، وأنه لا حجَّة لأحدٍ في ترك مأمورٍ ولا فعل محظورٍ، وهم متَّفقون على أن الله حكيمٌ، وأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.

7) استفاضت الآثار عن السلف بتقرير القدر وأهمَّيَّة الإيمان به، والتشديد على المخالفين فيه.

8) أهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرقٍ:

(أ) مجوسيَّةٌ: وهم الذين كذَّبوا بقدر الله، وآمنوا بأمره ونهيه.

(ب) مشركيَّةٌ: وهم الذين أقرُّوا بالقدر، وأنكروا الأمر والنهي.

(ج) إبليسيَّةٌ: وهم الذين أقرُّوا بالأمرين، لكنهم جعلوا هذا متعارضًا متناقضًا، وطعنوا في حكمة الربِّ وعدله.

ص: 242

9) للإيمان بالقدر أربع مراتب، لا يصحُّ الإيمان بالقدر إلا بتحقيقها، وهي:

(أ) العلم.

(ب) الكتابة.

(ج) المشيئة.

(د) الخلق.

وقد دلَّت على ذلك الأدلَّة من الكتاب والسنَّة.

10) أفعال العباد تنقسم إلى قسمين: اضطراريَّةٍ؛ كحركة المرتعش، والعروق النابضة. واختياريَّةٍ؛ مثل: أعمال البرِّ والمعاصي.

11) اختلف الناس في الأفعال الاختياريَّة على أربعة أقوالٍ:

القول الأول: قول أهل السنَّة -وهو الحقُّ-. قالوا: إن العباد فاعلون حقيقةً، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر، والبرُّ والفاجر، والمصلِّي والصائم، وللعباد قدرةٌ على أعمالهم، ولهم فيها إرادةٌ، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم.

القول الثاني: قول القدريَّة، وبه قالت المعتزلة. قالوا: إن العبد قادرٌ على فعل نفسه، وله فيه المشيئة الكاملة والقدرة التامَّة، والعباد خالقون لأفعالهم، وليست مخلوقةً لله.

القول الثالث: قول الجبريَّة، وبه قالت الجهميَّة. قالوا: إن العبد لا قدرة له على عمله، ولا إرادة ولا اختيار له فيه، والعباد مجبورون على أفعالهم، وأفعالهم إنما تُنسَب إليهم على سبيل المجاز.

القول الرابع: قول الأشاعرة ومَن وافقهم. قالوا: إن أفعال العباد مخلوقةٌ لله جل جلاله، وهي مع كونها خلق الله فهي كسبٌ للعبد، وله عليها قدرةٌ غير مؤثِّرةٍ.

ص: 243

12) يعتقد أهل السنة أن الهداية والإضلال من الله تعالى، يهدي مَنْ يشاء برحمته، ويضلُّ مَنْ يشاء بعدله. وأنه مَنْ يهده فلا مُضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.

13) للهداية أربع مراتب دلت عليها الأدلة:

المرتبة الأولى: الهداية العامَّة، وهي هداية كلِّ نفسٍ إلى مصالح معاشها وما يقيمها. وهذه المرتبة أعمُّ المراتب.

المرتبة الثانية: هداية الإرشاد والبيان للمكلَّفين. وهذه المرتبة أخصُّ من المرتبة السابقة، وقد أثبت الله هذه الهداية لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام. وهذه المرتبة أخصُّ من المرتبة السابقة، وهي التي نفاها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].

المرتبة الرابعة: الهداية إلى الجنَّة والنار يوم القيامة، هداية المؤمنين إلى الجنَّة، وهداية الكافرين إلى النار.

14) المخالفون لأهل السنَّة في مسألة الهداية والإضلال طائفتان:

الطائفة الأولى: (القدريَّة).

أثبتوا هداية الإرشاد فقط، وأنكروا هداية التوفيق، والإضلال. وقالوا: إن العبد يهتدي بنفسه، ويَضِلُّ بنفسه، والله لا يهدي أحدًا ولا يُضِلُّ أحدًا.

وتأوَّلوا الهداية المضافة لله في النصوص بهداية الإرشاد، أو تسميته المهتدي مهتديًا، وتأوَّلوا الإضلال بتسميته الضالَّ ضالًّا.

ص: 244

الطائفة الثانية: (الجبريَّة).

قالوا: إن الله أكره العباد وأجبرهم على أعمالهم، فليس لهم فعلٌ، ولا إرادةٌ، ولا اختيارٌ، ولا كسبٌ ألبتَّة، وحال بينهم وبين الهدى ابتداءً من غير ذنبٍ ولا سببٍ من العبد يقتضي ذلك، فلم يُيَسِّر إليه سبيلًا ولا أعطاه عليه قدرةً.

15) يعتقد أهل السنَّة أن الإرادة التي يتَّصف بها الله تبارك وتعالى تنقسم إلى قسمَين:

(1)

إرادةٌ كونيَّةٌ قدريَّةٌ، وهي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث، والمتعلِّقة بما قدَّره الله وقضاه، وهي مستلزمةٌ للوقوع.

(2)

إرادةٌ دينيَّةٌ شرعيَّةٌ، وهي متعلِّقةٌ بالأمر الذي أراد الله من عباده فعله شرعًا، وهي غير مستلزمةٍ للوقوع إلا إذا تعلَّقت بالإرادة الكونيَّة. وقد دلَّت الأدلَّة على هاتين الإرادتين، وإثباتهما جميعًا هو عقيدة أهل السنَّة.

16) قد تجتمع هاتان الإرادتان وقد تفترقان، وقد توجد إحداهما دون الأخرى، ولذلك أربع صورٍ:

الصورة الأولى: ما تعلَّقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة؛ كإيمان أبي بكرٍ وسائر المؤمنين، وحصول الطاعات منهم.

الصورة الثانية: ما تعلَّقت به الإرادة الدِّينيَّة فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى ذلك الأمرَ الكفَّارُ والفجَّارُ؛ كإيمان أبي جهلٍ وسائر الكافرين، وما أراده الله من طاعتهم.

الصورة الثالثة: ما تعلَّقت به الإرادة الكونيَّة فقط، وهو ما قدَّره الله وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها؛ كالمباحات، والمعاصي الواقعة في الناس، ولولا إرادته لها كونًا لما وقعت.

ص: 245

الصورة الرابعة: ما لم تتعلَّق به الإرادتان، وهو ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي؛ فإن الله لم يأمر بها ولم يردها شرعًا، كما أنه لم يردها كونًا؛ فلم تقع، ومثالها: كفر المؤمن والمعاصي التي عصمه الله منها فلم تقع منه.

17) بين الإرادتين فروقٌ تُميِّز إحداهما عن الأخرى، منها:

1) ما أراده الله كونا لا بدَّ من وقوعه، وما أراده شرعًا لا يلزم وقوعه؛ فقد يقع وقد لا يقع، إلا أن تتعلَّق به الإرادة الكونيَّة.

2) ما أراده الله كونا قد يحبُّه الله ويرضاه، وقد لا يحبُّه ولا يرضاه، فالله أراد المعصية كونًا ولا يرضاها شرعًا، وما أراده الله شرعا لا بدَّ أن يحبَّه ويرضاه.

3) الإرادة الكونيَّة لا تستلزم الأمر إلا إذا اجتمعت مع الإرادة الشرعيَّة، والإرادة الشرعيَّة تستلزم الأمر؛ فكلُّ ما أراده الله شرعًا أمر به.

4) الإرادة الكونيَّة قد تكون مقصودةً لغيرها، كإرادة خلق إبليس وسائر الشرور؛ لتحصل بسبب ذلك المجاهدة والتوبة والاستغفار، وغير ذلك من المحابِّ، والإرادة الشرعيَّة مقصودةٌ لذاتها؛ فالله أراد الطاعة لنفسها ورضيها وأحبَّها.

18) خالف في تقسيم الإرادتين طائفتان:

الطائفة الأولى: القدريَّة.

أثبتوا الإرادة الشرعية وأنكروا الإرادة الكونية، وزعموا أن كفر الكافر ومعصية العاصي لا تدخل تحت إرادة الله ولا تقديره.

الطائفة الثانية: الجبريَّة.

أثبتوا الإرادة الكونية وأنكروا الإرادة الشرعية، وقالوا: إن الكفر والمعاصي مرادة لله تعالى ومحبوبة له، وقد جبرهم عليها لا خيار لهم في تركها.

ص: 246

19) اختلف المسلمون في مفهوم الحكمة والتعليل في أفعال الله بعد اتِّفاقهم على أن الله موصوفٌ بالحكمة. ومجمل أقوال الناس في ذلك ترجع إلى ثلاثة أقوالٍ:

القول الأوَّل: (قول أهل السنَّة وجمهور المسلمين). يقولون: إن الله تعالى يخلق لحكمةٍ، ويأمر لحكمةٍ، والحكمة صفة له قائمة به وهو حكيمٌ في خلقه، وأمره، لا يفعل شيئًا عبثًا ولا لغير معنىً ومصلحةٍ وحكمةٍ، بل أفعاله سبحانه صادرةٌ عن حكمةٍ بالغةٍ لأجلها فَعَلَ، كما هي ناشئةٌ عن أسبابٍ بها فَعَلَ.

القول الثاني: (قول الأشعريِّ وبعض الفقهاء وكثيرٍ من الظاهريَّة كابن حزمٍ وأمثاله). قالوا: الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد، وإيقاعها على الوجه الذي أراده. وإن أطلقوا لفظها فلا يعنون به معناها، بل يطلقونها لأجل مجيئها في القرآن، ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة.

القول الثالث: (قول المعتزلة وأتباعهم من الشيعة). قالوا: إنه يخلق ويأمر لحكمةٍ مخلوقةٍ منفصلةٍ عنه، من غير أن يعود إليه من ذلك حكمٌ ولا قام به فعلٌ ولا نعتٌ. وهذه الحكمة تعود إلى العباد، وهي نفعهم والإحسان إليهم؛ فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك.

20) اختلف الناس في مسألة الصلاح والأصلح على ثلاثة أقوالٍ:

القول الأول: (قول أهل السنة). يقولون: إن الخلق لا يوجبون على الله شيئًا، لا فعل الصلاح ولا الأصلح، فالخلق خلقه والأمر أمره، لا يُسأل عما يفعل، ولا معقِّب لحكمه. ويقولون مع ذلك: إن الله له الحكمة البالغة فيما يخلق ويقدِّر، وفيما يأمر ويشرِّع. ويقولون: إن الله أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.

ص: 247

القول الثاني: (قول المعتزلة ومَن وافقهم من الشيعة). اتَّفقوا على أنه يجب على الله فعل الصلاح والخير لكلِّ عبدٍ معيَّنٍ في دينه، وسمَّوه عدلًا. قالوا: وتركه سفهٌ يجب تنزيه الله عنه.

واختلفوا في مسألتين متفرِّعتين عن هذه المسألة -على قولين-:

المسألة الأولى: هل يجب على الله فعل الصلاح لعباده في الدين والدنيا، أم في الدين فقط؟

المسألة الثانية: هل يجب على الله فعل الأصلح؟

القول الثالث: (قول الجهميَّة والأشاعرة). قالوا: لا يجب على الله فعل الصلاح ولا الأصلح، وأن ذلك ليس بواجبٍ عليه، وليس بلازمٍ وقوعه منه. بل قالوا: إنه لا يفعل لمصلحةٍ ولا لجلب منفعةٍ لعباده أو دفع مضرَّةٍ. ولا يثبتون له حكمةً ولا رحمةً في أفعاله، بل عندهم يفعل بمشيئةٍ محضةٍ.

21) اختلف الناس في مسألة التكليف بما لا يُطاق على أربعة أقوالٍ:

القول الأول: (قول أهل السنة). منعوا من إطلاق القول بالتكليف بما لا يُطاق، واجمعوا على إنكار ذلك وذم من يطلقه.

وقالوا: إن إطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام. فإن الطاقة هي الاستطاعة وهي لفظ مجمل، فالاستطاعة الشرعية هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحدًا شيئًا بدونها فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير.

وأما الاستطاعة والطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل فهذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين. وجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار.

ص: 248

القول الثاني: (قول الجهميَّة). قالوا بجواز التكليف بما لا يُطاق مطلقًا، ومنه تكليف الأعمى البصر، والزَمِن أن يسير إلى مكَّة.

القول الثالث: (قول المعتزلة). قالوا بعدم جواز التكليف بما لا يُطاق؛ لأنه قبيحٌ، والله تعالى منزَّهٌ عن فعل القبيح.

القول الرابع: (قول الأشاعرة). قالوا: إن التكليف بما لا يُطاق جائزٌ. وهذا بناءً على قولهم: إن العبد لا يكون قادرًا إلا حين الفعل، وإن القدرة لا تكون إلا مع الفعل. فعلى هذا؛ كلُّ مكلَّفٍ حين التكليف قد كُلِّف بما لا يطيقه حينئذٍ، وإن كان قد يطيقه حين الفعل بقدرةٍ يخلقها الله له وقت الفعل.

22) اختلف الناس في حقيقة الشرِّ المنفيِّ عن الله على ثلاثة أقوالٍ:

القول الأول: (قول أهل السنَّة). قالوا: إن الشرَّ على نوعين:

النوع الأوَّل: (الشرُّ المطلق أو الكلِّيُّ)، وهو الشرُّ المحض الذي لا خير فيه بوجهٍ من الوجوه. فهذا لا يدخل في الوجود، بل هو معدومٌ لا يخلقه الله. فهذا ليس إليه، ولا يُضاف إليه تعالى.

النوع الثاني: (الشرُّ النسبيُّ أو الجزئيُّ)، وهو الشرُّ الإضافيُّ الذي هو خيرٌ باعتبارٍ، وشرٌّ باعتبارٍ آخر. فالله تعالى يخلق هذا النوع باعتبار الخير الراجح الذي فيه، لا باعتبار الشرِّ المرجوح الذي فيه.

القول الثاني: (قول القدرية). قالوا: لا يجوز أن يُقال: إن الله سبحانه مريدٌ للشرِّ أو فاعلٌ له، والشرُّ ليس بفعلٍ له، فلا يكون مفعولًا له، فيستحيل أن يريد الشرَّ، فالشرُّ ليس بإرادته ولا بفعله.

القول الثالث: (قول الجبريَّة). قالوا: الربُّ سبحانه يريد الشرَّ ويفعله؛ لأن الشرَّ موجودٌ، فلا بدَّ له من خالقٍ، ولا خالق إلا الله، والشرُّ مخلوقٌ له ومفعولٌ.

ص: 249

23) اختلف المسلمون في حقيقة الظلم المنفيِّ عن الله على ثلاثة أقوالٍ:

القول الأول: (قول أهل السنَّة). قالوا: حقيقة الظلم المنفيِّ عن الله تعالى: وضع الأشياء في غير مواضعها. فهو متنزِّهٌ عنه، مع اتِّصافه بكمال ضدِّه، وهو العدل الذي هو وضع الأشياء في مواضعها التي تليق بها. وهو سبحانه يفعل باختياره ومشيئته، فيعدل تفضُّلًا، ولا يظلم تنزُّهًا، وهو مستحقٌّ للحمد والثناء على تفضُّله وتنزُّهه.

القول الثاني: (قول الجبريَّة من الجهميَّة والأشاعرة ومَن وافقهم من الظاهريَّة). قالوا: الظلم هو التصرُّف في ملك الغير بغير إذنه، أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته. وكلاهما منتفٍ في حقِّ الله تعالى. وقالوا: إن الظلم ممتنعٌ عليه، وهو مستحيلٌ في حقِّه سبحانه، كالجمع بين النقيضين، وليس هو داخلًا في اختياره ومشيئته.

القول الثالث: (قول المعتزلة). عرَّفوا الظلم بأنه: إضرار غير مستحقٍّ. وقالوا: الظلم الذي يتنزَّه الله عنه هو الظلم الذي يكون من الآدميِّين بعضهم لبعضٍ. فشبَّهوا أفعاله بأفعال العباد، ثم زعموا أن خلقه لأفعال العباد وإرادته لأعمالهم وتعذيبه للعاصي ظلمٌ منه يتنزَّه عنه، وسمَّوا أنفسهم العدليَّة.

24) اختلف الناس في مسألة الرضى بالقدر على ثلاثة أقوالٍ:

القول الأوَّل: (قول أهل السنَّة). قالوا: الرضى بالقضاء فيه تفصيلٌ باعتبار متعلَّقه؛ فإن القضاء إما أن يتعلَّق (بالطاعات والمعاصي)، أو (بالمسرَّات والمصائب).

وحكم الرضى به على وجهين:

الوجه الأوَّل: ما يُرضى به من القضاء. وهو على قسمين:

ص: 250

القسم الأوَّل: ما يُقدَّر للعبد من الطاعات. فهذا يجب الرضى به.

القسم الثاني: ما يُقدَّر على العبد من النعم والمسرَّات، أو النقم والمصائب مما لا يدخل في اختياره. فهذا يُشرَع الرضى به.

الوجه الثاني: ما يُقدَّر على العبد من الكفر والبدع والمعاصي. فهذا النوع فيه تفصيلٌ؛ فإن ما يقدِّره الله منها له وجهان:

الأوَّل: من جهة كونها فعلًا للعبد وكسبًا له؛ فهي مكروهةٌ مسخوطةٌ، فلا يُشرَع الرضى بها، بل يُشرَع بغضها وسخطها.

الثاني: من جهة كونها مخلوقةً للربِّ؛ فهي محبوبةٌ مرضيَّةٌ؛ لأن الله خلقها وقدَّرها لحكمةٍ، فيُشرَع الرضى بقضائه وقدره.

القول الثاني: (قول الجهميَّة وغلاة الجبريَّة). قالوا: الرضى بالقضاء قربةٌ وطاعةٌ، فنحن نرضى به ولا نسخطه. فنرضى بكلِّ ما قدَّره الله من المسرَّات والخيرات، وكلِّ ما جرت به المقادير من إيمانٍ وكفرٍ وطاعةٍ ومعصيةٍ وخيرٍ وشرٍّ.

القول الثاني: (قول المعتزلة القدرية). قالوا: الرضى بالقضاء مأمورٌ به، فنحن نرضى به. ولكن الكفر والذنوب ليست مقضيَّةً ولا مقدَّرةً من الله، وليست محبوبةً ولا مرضيَّةً له، فلا نرضى بها ولا نحبُّها، بل نسخطها ونبغضها.

25) تنازع الناس في استطاعة العبد على أربعة أقوالٍ:

القول الأول: (قول أهل السنَّة).

قالوا: إن الاستطاعة نوعان:

الأولى: (استطاعةٌ متقدِّمةٌ على الفعل)، ومرجعها إلى الصحَّة وسلامة الجوارح. وهي المصحِّحة للفعل المجوِّزة له، وهي صالحةٌ للضدَّين الفعل والترك.

ص: 251

الثانية: (استطاعةٌ مقارنةٌ للفعل)، ومرجعها إلى التوفيق وإعانة الله للعبد على الفعل. وهي الموجِبة للفعل المحقِّقة له، وهي لا تصلح لغيره.

القول الثاني: (قول الجهميَّة وطائفةٍ من الأزارقة).

قالوا: إنه ليس للعبد استطاعةٌ، لا قبل الفعل ولا معه.

القول الثالث: (قول المعتزلة والشيعة، وهو الغالب على نفاة القدر).

قالوا: للعبد استطاعةٌ تكون قبل الفعل، ولا تكون معه البتَّة. وهي صالحةٌ للضدَّين. ويستطيع بها العبد أن يفعل الخير والشرَّ، والطاعة والمعصية.

القول الرابع: (قول الأشاعرة وهو الغالب على مثبتة القدر).

قالوا: للعبد استطاعةٌ مع الفعل، لا تكون قبله. وهي لا تصلح للضدَّين. وإنما تصلح لفعلٍ واحدٍ؛ إذ هي مقارنةٌ له لا تنفكَّ عنه

26) أن الإيمان بالقدر لا يسوِّغ الاتِّكال وترك العمل. وقد دلَّت على ذلك الأدلَّة، وأجمع عليه سلف الأمَّة.

وقد خالف أهل البدع في هذه المسألة على قولين:

القول الأوَّل: (قول الجبريَّة ومَن وافقهم). آمنوا بالقدر، وظنُّوا أن ذلك كافٍ في حصول المقصود، فأعرضوا عن الأسباب الشرعيَّة والأعمال الصالحة بناءً على قولهم في إنكار الأسباب بالكلِّيَّة.

القول الثاني: (قول القدريَّة). آمنوا بالشرع وعظموا الأمر والنهي وبالغوا في قدرة العبد متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم، وقصروا في التوكل على الله والاستعانة به في تحقيق مطالب الدين والدنيا.

27) لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، بل الحجَّة قائمةٌ على العباد بما جعل الله لهم من الإرادة والاختيار في أعمالهم من خيرٍ وشرٍّ. وقد دلَّت على ذلك الأدلَّة، وصرَّح به الأئمَّة في تقرير معتقد أهل السنَّة.

ص: 252

والاحتجاج بالقدر إنما يكون على المصائب لا على المعايب، كما دلَّت على ذلك النصوص الصحيحة. وعلى هذا تُحمَل محاجَّة آدم وموسى؛ فهذه المحاجَّة بين آدم وموسى كانت على المصيبة التي لحقت الذرِّيَّة بإخراج آدم من الجنَّة، ولم تكن على ذنب آدم وخطيئته.

28) دلَّت الأدلة على النهي عن الخوض في القدر، وأن ذلك من جملة الإيمان بالقدر.

ولا بدَّ من معرفة الحدِّ الفاصل بين الكلام في القدر بحقٍّ -الذي هو داخل في العلم المرغب في طلبه وتحصيله-، وبين الخوض في القدر بالباطل -الواجب اجتنابه والتحذير منه-.

وحدُّ ذلك يكون بمراعاة الفوارق بين الكلام في القدر بعلمٍ، وبين الخوض المحرَّم من عدَّة اعتباراتٍ: باعتبار النيَّة والقصد من الكلام، وباعتبار المتكلِّم، وباعتبار المتكلَّم فيه، وباعتبار طريقة الكلام.

29) اختلف الناس في مسألة الأسباب والمسبَّبات على أربعة أقوالٍ:

القول الأول: (قول أهل السنَّة).

يثبتون الأسباب، ويقولون: إن قدرة العبد مع فعله لها تأثيرٌ كتأثير سائر الأسباب في مسبَّباتها، وليس لها تأثير الخلق والإبداع، والله تعالى خلق الأسباب والمسبَّبات. والأسباب ليست مستقلَّةً بالمسبَّبات؛ بل لا بدَّ لها من أسبابٍ تصحِّحها وأخرى تمانعها، والمُسَبَّبُ لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه ويدفع عنه جميع أضداده المعارضة له، والله هو المتفرِّد بخلقها وإيجادها أو إعدامها.

ص: 253

القول الثاني: (قول الجهميَّة والأشاعرة وطائفةٍ من الفقهاء والصوفيَّة).

أنكروا الأسباب، وزعموا أنه ليس للأسباب تأثيرٌ على المسبَّبات. وبالغوا في ذلك حتى أنكروا الأسباب المحسوسة، فقالوا: ليس للنار أثرٌ في الإحراق، ولا للخبز أثرٌ في الإشباع. وقالوا: إن الله يفعل عندها لا بها.

القول الثالث: (قول الفلاسفة).

غلوا في عامة الأسباب والقوى والطبائع وجعلوها مؤثرة بنفسها وقد اتخذوها أربابا وآلهة يتوجهون إليها بالدعاء والطلب وقضاء الحاجات.

القول الرابع: (قول المعتزلة).

غلوا في الأسباب من أفعال الحيوان، وقالوا: إن كل ما تولد عن فعل العبد فهو فعله لا يضاف إلى غيره، كالشبع والري وزهوق الروح ونحو ذلك، وقالوا: إن العبد بفعله للسبب مستقلٌّ بإيجاده وإحداثه، ولذا أنكروا خلق الله لأفعال العباد، ولم يقولوا بذلك في سائر القوى والطبائع، بل يقرون بخلق الله لها وإيجادها خلافًا للفلاسفة.

30) اختلف الناس في مسألة التحسين والتقبيح -باعتبار المدح والذم والثواب والعقاب- على ثلاثة أقوالٍ:

القول الأول (قول أهل السنة). قالوا بالتفصيل، فقالوا: إن العقل يُدرِك الحسن والقبح في بعض الأمور دون بعضٍ، وأن التحسين والتقبيح في الأفعال عقليَّان وشرعيَّان؛ فمن الأفعال ما هي متَّصفةٌ بصفات الحسن والقبح وتقتضي الحمد والذمَّ قبل ورود الشرع، كإدراك العقول لحسن العدل ومدح فاعله، وإدراكها لقبح الظلم وذمِّ فاعله. ومنها ما لا يُدرَك حسنه وقبحه إلا بورود الشرع، كحسن قسمة الميراث بحسب ورود الشرع، وقبح الجمع بين خمس زوجاتٍ دون أربعٍ.

ص: 254

وأما الثواب والعقاب؛ فهما شرعيَّان يتوقَّفان على أمر الشارع ونهيه، ولا يجبان بالعقل. والله تبارك وتعالى لا يعاقب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة.

القول الثاني: (قول المعتزلة). غلوا في التحسين والتقبيح العقليَّين، فزعموا أن العقل يدرك حسن الأفعال وقبحها، وأن الحسن والقبح صفتان ذاتيَّتان للفعل، وأن الأمر لا يكون إلا بحسنٍ، والنهي لا يكون إلا عن سيِّئٍ، وأن الشرع إنما هو كاشفٌ عن حسن الفعل الثابت في نفسه لا مثبِت لحسن الفعل. وقالوا: إن العقل يدرك الثواب المترتِّب على حسن الأفعال والعقاب المترتِّب على سيِّئها في الآخرة. وأن الله يعاقب العباد على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولًا.

القول الثالث: (قول الأشاعرة ومَن وافقهم كابن حزمٍ). قالوا: لا قبح ولا حسن ولا شرَّ ولا خير يُدرَك بالعقل فيما خوطب به الناس من الشرع، والشارع إذا أمر بشيءٍ صار حسنًا، وإذا نهى عن شيءٍ صار قبيحًا؛ فالقبيح ما قيل فيه:«لا تفعل» ؛ والحسن ما قيل فيه: «افعل» ، أو ما أُذِن في فعله. وقد اكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.

وقالوا: إن الأمر والنهي والثواب والعقاب كلَّها شرعيَّةٌ، وهي لا ترجع لحكمةٍ، بل لمحض الإرادة.

31) الصواب في جواب مَنْ سأل: هل الإنسان مُسَيَّرٌ أو مُخَيَّرٌ؟ يكون بالعدول عن الألفاظ المجملة إلى الألفاظ الشرعيَّة؛ فيُجاب بأن للعبد مشيئةً وإرادةً على أفعاله، ولكن مشيئته ليست نافذةً إلا بمشيئة الله تعالى.

32) ورد في بعض كتب التراجم وكتب الجرح والتعديل نسبة بعض الأئمَّة من التابعين ومَن بعدهم إلى القدر. ومن أشهر مَنْ رُمِي بالقدر من التابعين:

ص: 255

الأئمَّة: الحسن البصريُّ، ومكحولٌ، وقتادة، ومن أتباع التابعين: الإمام ابن أبي ذئبٍ.

وقد ثبت من خلال البحث براءة هؤلاء الأئمَّة من القول بالقدر، وأن نسبتهم للقول بالقدر ترجع لعدَّة أسبابٍ: منها ما هو عامٌّ، كنسبة عددٍ من الأئمَّة للقول بالقدر لإنكارهم الذنوب على أهل المعاصي. ومنها أسبابٌ خاصَّةٌ، على ما سبق بيانه وتفصيله. هذا، والله تعالى أعلم.

كتبه

إبراهيم بن عامر الرحيلي

10/ 9/ 1439 هـ

ص: 256