المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على - المعتقد وأثره على مسائل أصول الفقه

[عبد الرحمن بن علي الحطاب]

فهرس الكتاب

‌المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فإنني لما وقفت على كتاب (مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه) للدكتور خالد بن عبد اللطيف

(1)

، رأيته كتابًا حرَّر فيه المسائل العقدية الواردة في المصنفات الأصوليِّة، إلا أنَّ فيه إسهابًا في تقرير المسائل العقدية، وردًا للشبهات، مما جعل كثيرًا من المشتغلين بأصول الفقه ربما أعرض عنه، ورأيت من المناسب تهذيبه، بالاقتصار على تقرير المذاهب، وذكر بعض الأدلة المهمة في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة، وإضافة المسائل الأصولية التي بنيت على هذه المباحث العقدية، مما لم يذكرها.

وقد عمدت إلى الرسائل العلمية الموسومة بتخريج الأصول على الأصول

(2)

، وبناء الأصول على الأصول

(3)

، وكذا ما يتعلق بالأبحاث المتعلقة

(1)

مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه عرض ونقد على ضوء الكتاب والسنة، د. خالد عبد اللطيف محمد نور عبد الله، رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلاميَّة، قسم العقيدة، وهو ضمن مطبوعات عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، إصدار رقم (80).

(2)

تخريج الأصول على الأصول في أبواب الحكم الشرعي، للباحث محمد بن غرم بن محمد العمري، رسالة ماجستير، بجامعة الملك سعود، إشراف فضيلة الدكتور عمر بن شريف السلمي، نوقشت عام 1430 هـ.

(3)

رسائل ماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، في بناء الأصول على الأصول:

1.

بناء الأصول على الأصول، دراسة تأصيلية مع التطبيق على مسائل الأدلة المتفق عليها، للباحث وليد بن فهد الودعان، إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور عياض بن نامي السلمي، نوقشت عام 1427 - 1428 هـ، وطبعت في دار كنوز إشبيليا، ضمن إصدارات الجمعية الفقهية [30].

2.

بناء الأصول على الأصول في الأدلة المختلف فيها، للباحثة أسمهان بنت محمد العمري، بإشراف فضيلة الدكتور عيسى بن محمد العويس، نوقشت عام 1439 - 1440 هـ.

3.

بناء الأصول على الأصول في الاجتهاد والتقليد والتعارض والترجيح، للباحث عبد الحميد بن عبد الله المشعل، إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور عياض بن نامي السلمي، نوقشت عام 1431 - 1432 هـ.

ص: 5

بأسباب الخلاف

(1)

، وأخذت منها المسائل الأصوليَّة المتأثرة والمبنيَّة على أصل عقدي، وأفدت من رسائل وكتب مطبوعة، اهتمت بهذا الأمر، سواء كان بالعمل على أصل عقدي معين، مع بيان أثره على المسائل الأصوليَّة

(2)

، أو كانت من

(1)

رسائل دكتوراه بجامعة أم القرى، بإشراف فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن محمد القرني، نوقشت عام 1438 هـ-2017 م:

1.

أسباب الخلاف في المسائل الأصوليَّة المتعلقة بمقدمات أصول الفقه والحكم الشرعي، جمعًا ودراسة، للباحث محمد بن علي بن محمد الأسمري.

2.

أسباب الخلاف في المسائل الأصوليَّة المتعلقة بالأدلة جمعًا ودراسة، للباحث إسماعيل الحاج.

3.

أسباب الخلاف في المسائل الأصوليَّة المتعلقة بباب اللغات ودلالات الألفاظ جمعًا ودراسة، للباحث أحمد بن محمد أحمد السهلي.

4.

أسباب الخلاف في المسائل الأصوليَّة المتعلقة بالاجتهاد والتقليد والتعارض والترجيح، جمعًا ودراسة، للباحث ياسر بن درويش بن غرم الله الغامدي.

(2)

ومن تلك:

1.

التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه، للباحث عايض بن عبد الله الشهراني، رسالة دكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، طبعت في دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، عام 1429 هـ -2008 م.

2.

التصويب والتخطئة وأثرهما في مسائل أصول الفقه، ومنهج المدرسة العقلية الحديثة، للباحث يحيى بن حسين الظلمي، رسالة دكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، طبعت في دار التدمرية.

3.

مفهوم العصمة عند الأصوليين وأثره في الاستدلال، للباحث علاء بن أحمد بن عبد الله مشهور، رسالة دكتوراه، بإشراف فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد بن باكر الباكري، نوقشت عام 1437 هـ.

ص: 6

منطلق مذهب عقدي معين

(1)

، أو كانت عامة من رسائل وكتب

(2)

، أو بحوث محكَّمة للأغراض السابقة

(3)

.

(1)

ومن تلك:.

1.

آراء المعنزلة الأصوليَّة دراسة وتقويمًا، للباحث علي بن سعد الضويحي، رسالة دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، نوقشت عام 1412 هـ، وطبعت في مكتبة الرشد.

2.

معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، للباحث محمد بن حسين الجيزاني، رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلاميَّة، نوقشت عام 1415 هـ، وطبعت في دار ابن الجوزي، عام 1419 هـ.

(2)

ومن تلك:

1.

المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، للدكتور محمد العروسي عبد القادر، طبع في مكتبة الرشد.

2.

علاقة علم أصول الفقه بعلم الكلام، للباحث محمد بن علي الجيلاني الشتيوي، رسالة دكتوراه، من جامعة الزيتونة بتونس، نوقشت عام 2008 م، وطبعت بمكتبة حسن العصرية ببيروت عام 2010 م.

3.

الصلة بين أصول الفقه وعلم الكلام في مسألتي التحسين والتقبيح، وتعليل أفعال الله تعالى، للباحث أحمد حلمي حرب، مطبوع في دار النور المبين بالأردن، عام 2015 م.

4.

الخلاف العقدي وأثره في اختلاف الأصوليين، للباحث محمد الأنصاري، طبع الكتاب في جمعية مركز مداد للأبحاث والدراسات، عام 2020 م.

5.

الأثر الكلامي في علم أصول الفقه، قراءة في نقد أبي المظفر السمعاني، للباحث السعيد صبحي العيسوي، رسالة دكتوراه من جامعة المدينة العالمية، وطبعت في مؤسسة داراسات تكوين عام 1443 هـ.

6.

أخطاء الأصوليين في العقيدة، تأليف أبي محمد صلاح بن فتيني العدني، طبعت في دار الآثار في صنعاء.

(3)

وهي بحوث كثيرة منها:

1.

المسائل الأصوليَّة المتعلقة بالمباحث القدريَّة، للباحث فخر الدين الزبير علي، بحث محكم، طبعه الباحث ضمن بحوث بعنوان (سلسلة تصفية علم الأصول من الفضول)، في مكتبة الديار بمصر عام 1440 هـ-2019 م.

2.

استمداد علم أصول الفقه من علم الكلام، للباحث محمد بن إبراهيم الكلثم، بحث محكم.

3.

المتكلمون وأصول الفقه، قراءة في جدليَّة العلاقة بين علمي الأصول والكلام، للباحث قطب مصطفى سانو، بحث منشور في مجلَّة إسلاميَّة المعرفة، السنة الثالثة، العدد التاسع.

ص: 7

وأثبت كثيرًا من المصادر التي اعتمدوا عليها، وشيئًا من تعليقاتهم كما هي؛ لأجل الإفادة منها.

و‌

‌سبب جمع هذا المؤلف

هو ما رأيته من نقص في البناء العلمي في هذا الجانب لدي ولدى كثير من المتخصصين في أصول الفقه، فهو في المقام الأول مسوَّدة لي، ثمَّ رأيت أن يستفيد منها إخواني طلبة العلم، ورجوت أن يكون المطلع على هذا الكتاب قد أكمل نقصه في هذا الجانب، وما ذكر في هذا الكتاب يدلُّ على ما لم يذكر.

وأنبه هنا إلى أمور، منها:

الأمر الأول: من المسائل العقدية ما ذكر في كتب أصول الفقه استطرادًا، أو مثالًا، أو مقدمة لمسألة أصوليَّة، وليس فيها بناء أو أثر على المسألة الأصوليَّة، وتركتها، بناء على الأصل المهذَّب (مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه)، ولأجل أن يتنبَّه القارئ لها عند التأليف أو القراءة في كتب أصول الفقه، أو تكون عونًا لبيان عقيدة المؤلف لمن اضطر إلى ذلك، ولاسيما في الرسائل العلميَّة.

ومما ورد في هذا الكتاب من هذه المسائل: أول واجب على المكلف: الشهادتان، وطريق ثبوت وجوب النظر، والاسم للمسمى، وحكم إطلاق الأسماء الحسنى بلا توقيف، وعصمة الأنبياء قبل النبوة، وحقيقة المعجزة ومسائلها، ونسخ هذه الشريعة لما قبلها من الشرائع، ووضع عيسى عليه السلام الجزية بعد نزوله لا ينافي ثبوت أحكام الشريعة الخاتمة، وإمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفهم الأدلة بحسب المعنى المراد والاستعمال، وحقيقة الإيمان. والله أعلم.

أما باقي المسائل العقدية الواردة في هذا الكتاب فهي مؤثرة في بناء المسألة

ص: 8

الأصولية، وهذه مما لا يسع الأصولي جهله في هذا الباب.

الأمر الثاني: إن في معرفة الأصل العقدي ضبطًا لمسائل الأصول المبنية عليه، وبعدًا عن الوقوع في التناقض، وقدرة على تمييز القول الصحيح من الباطل من مسائل أصول الفقه، وتجنبًا عن موافقة المبتدع في بدعته. كما أن في إبطال الأصل العقدي إبطالًا للقول الأصولي المبني عليه.

الأمر الثالث: ثمَّة قواعد عامة لابد من العلم بها، ودراستها على أهل التخصص، مفيدة في هذا الباب، ومن ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والأشعرية: الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام

(1)

، جبرية في باب القدر، وأما في الصفات فليسوا جهمية محضة، بل فيهم نوع من التجهم.

والمعتزلة: وعيدية في باب الأسماء والأحكام، قدرية في باب القدر، جهمية محضة»

(2)

.

وما ذكره ابن تيميَّة خلاصة مهمة؛ لأن أصول المتكلمين، تابعة للمعتزلة والأشاعرة.

فباب الأسماء والأحكام: الأغلب على الأشاعرة الإرجاء، والمعتزلة الوعيدية (الخوارج)

(3)

.

وفي باب القدر، الأشاعرة جبرية، والمعتزلة قدرية.

وفي باب الصفات: الأشاعرة ليسوا جهمية محضة؛ لأنهم يثبتون بعض

(1)

المراد بالأسماء: أسماء الدين، مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق، والمراد بالأحكام: أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة، أي: أحكام أصحاب هذه الأسماء ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 38).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 55).

(3)

سموا بالوعيديَّة؛ لأنهم غلَّبوا جانب الوعيد، وقالوا: أي كبيرة يفعلها الإنسان ولم يتب منها؛ فإنه مخلَّد في النار بها.

ص: 9

الصفات، بخلاف المعتزلة الذين ينفون جميع الصفات، فهم بذلك جهمية محضة. لذا كان كل معتزلي جهميًا، وليس كل جهمي معتزليًا

(1)

.

ومما سبق يعرف أن الفرقة الواحدة تكون بدعتها في باب دون باب، وقد يطلق عليها أكثر من لقب باعتبار البدعة التي وقعت فيها، فيقال: المرجئة القدرية، أو القدرية المعتزلة، وقد تسمى الجبرية قدرية لغلوهم في إثبات القدر

ولابد من دراسة عامة لهذه الفرق، والوقوف على وسطية أهل السنة والجماعة في هذا، وسيأتي في الكتاب بيان وتفصيل لهذه الأمور، بإذن الله.

الأمر الرابع: لأهل السنة والجماعة إطلاقان: إطلاق عام، وإطلاق خاص، أما الإطلاق العام فهو مقابل الشيعة، فيدخل فيه جميع الطوائف إلا الرافضة. وأما الإطلاق الخاص فهو مقابل المبتدعة، وأهل الأهواء، فلا يدخل فيه سوى أهل الحديث والسنة المحضة الذين يثبتون الصفات لله تعالى، ويقولون: إن القرآن غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل السنة، وهم مرادي في هذا الكتاب عند إطلاقي لأهل السنة والجماعة، وسموا بأهل السنة لتمسكهم بها، وبالجماعة لأنهم اجتمعوا على الحق وأخذوا به

(2)

.

ولما كان الخلاف بين متكلمي الأصول في غالبه بين الأشاعرة والمعتزلة، حسن التعريف بهما هنا، على سبيل الإجمال:

فالمعتزلة: سموا بذلك لاعتزالهم أقوال المسلمين في مرتكب الكبيرة، حيث قالوا: إنه في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا هو كافر، وقيل غير ذلك،

(1)

انظر: منهاج السنة لابن تيمية (1/ 344).

(2)

انظر: منهاج السنة (2/ 221)، ومجموع الفتاوى (4/ 155)، ومقدمة كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للجيزاني (17).

ص: 10

وزعيمهم هو واصل بن عطاء. ومذهبهم يقوم على نفي الصفات عن الله تعالى، ونفي القدر في معاصي العباد، إضافة خلقها إلى فاعليها، وأن القرآن مخلوق، وهم فرق كثيرة، منهم الجبائية والنظامية وغيرها. ولهم أصول خمسة هي: 1 - التوحيد، 2 - العدل، 3 - المنزلة بين المنزلتين، 4 - الوعد والوعيد، 5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

(1)

.

أما الأشاعرة فهم: منسوبون إلى أبي الحسن الأشعري، يقولون بإثبات سبع صفات فقط لله على اختلاف بينهم في إثباتها بين المتقدمين والمتأخرين، لأن العقل كما يزعمون دل على إثباتها وهي: السمع، والبصر، والعلم، والكلام، والقدرة، والإرادة، والحياة. وقالوا: إن كلام الله هو المعنى القائم بالذات ويستحيل أن يفارقه، والحروف دلالات على الكلام الأزلي، وعندهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب. والعمل والإقرار من فروع الإيمان لا من أصله، وقد رجع أبو الحسن الأشعري عن قوله في الأسماء والصفات إلى مذهب أهل السنة والجماعة

(2)

.

الأمر الخامس: لا يلزم في كل مسألة ذكر المذاهب كلها؛ لأن الأثر العقدي قد لا يكون مؤثرًا في المسألة الأصوليَّة عند أصحاب المعتقد الآخر، أو أن المسألة الأصوليَّة متأثرة عندهم بأصول أخرى، والنظر كان إليها عند تأصيل الأصل؛ إذ إن بناء الأصول الفقهية يكون بالأصل العقدي أو بغيره، بل قد يكون مخرَّجًا من الفروع.

الأمر السادس: أثر العقيدة على مسائل أصول الفقه لا يُنكر، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّ المتكلمين: «صنفوا في أصول الفقه - وهو علم مشترك بين

(1)

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 235)، والملل والنحل (1/ 54)، والفرق بين الفرق للبغدادي (114).

(2)

انظر: الإبانة (20)، والملل والنحل (1/ 94 - 95)، والفرق بين الفرق للبغدادي (90).

ص: 11

الفقهاء والمتكلمين - فبنوه على أصولهم الفاسدة»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، لاسيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصوليَّة، وخلط بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئًا من أصول الأشعريَّة والسالميَّة وغير ذلك، ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئًا من أصول المعتزلة والكرَّاميَّة والكلابيَّة، ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة»

(2)

.

ولكن أثر هذه الأصول الفقهية - المتأثرة بالعقيدة - على الفروع الفقهية ضعيف جدًا؛ إذ إن للفقهاء مآخذ ومدارك أخرى مؤثرة في الأصل وفي الفرع، غير الأصل العقدي - كما سبق الإشارة إليه - ويكون البناء في الغالب عليها، أو أنَّ التنظير في كتب العقيدة يخالف التأصيل في كتب أصول الفقه، فتقع بعض الفِرق في التناقض، كما وقع للأشاعرة في مسائل التعليل، والكلام النفسي.

وفي هذا قال شيخ الإسلام عنهم: «والغالب عليهم عند الكلام في الفقه وغيره التعليل، وأما في الأصول: فمنهم من يصرح بالتعليل ومنهم من يأباه»

(3)

.

وقال الزركشي الأشعري عن مذهب التحسين والتقبيح العقليين إنه: «المنصور لقوته من حيث النظر وآيات القرآن المجيد وسلامته من التناقض، وإليه إشارات متأخري الأصوليين والكلاميين فليتفطن له»

(4)

، فخالف أصل الأشاعرة

(1)

الاستقامة (1/ 50).

(2)

منهاج السنة (5/ 261).

(3)

منهاج السنة (1/ 455).

(4)

البحر المحيط للزركشي (1/ 191)، وانظر: مفتاح دار السعادة (2/ 407 - 408)، (3/ 20 - 23)، وإيثار الحق على الخلق (ص 343).

ص: 12

لما يترتب عليه من التناقض.

ومما يؤكد عدم تأثر الفروع بالأصول الكلامية، أن الفقه كان قبل أن تظهر هذه الفرق الكلامية، بل كان أئمة المذاهب كالشافعي وأحمد يذمون الخوض فيما خاض فيه المتكلمون.

ثمَّ إني أسميت الكتاب ب (المعتقد وأثره على مسائل أصول الفقه)، أسأل الله الكريم بمنه وكرمه أن ينفع به.

•‌

‌ خطة البحث:

يقسم الكتاب خمسة فصول.

الفصل الأول: المسائل المتعلقة بالتوحيد

(1)

، وتحته سبعة مباحث:

* المبحث الأول: أول واجب على المكلف: الشهادتان.

* المبحث الثاني: طريق ثبوت وجوب النظر.

* المبحث الثالث: تحقق لحوق الوعيد وحكم الخلف فيه.

* المبحث الرابع: التحسين والتقبيح العقليان.

* المبحث الخامس: رعاية الأصلح.

* المبحث السادس: تكليف ما لا يطاق.

* المبحث السابع: التصويب والتخطئة.

الفصل الثاني: المسائل المتعلقة ب بالأسماء والصفات، وتحته ستة مباحث:

* المبحث الأول: الاسم للمسمى.

* المبحث الثاني: حكم إطلاق الأسماء الحسنى بلا توقيف.

* المبحث الثالث: صفة الكلام.

(1)

ويندرج فيه مباحث التكليف والإثابة.

ص: 13

* المبحث الرابع: صفة الإرادة.

* المبحث الخامس: الحكمة في أفعال الله وشرعه.

* المبحث السادس: بقاء الأعراض.

الفصل الثالث: المسائل المتعلقة بالقدر، وتحته: مسألة: قدرة العبد.

الفصل الرابع: المسائل المتعلقة بالنبوات، وتحته خمسة مباحث:

* المبحث الأول: العصمة، وتحته مطلبان:

* المطلب الأول: عصمة الأنبياء قبل النبوة.

* المطلب الثاني: عصمة الأنبياء بعد النبوة.

* المبحث الثاني: حقيقة المعجزة ومسائلها.

* المبحث الثالث: نسخ هذه الشريعة لما قبلها من الشرائع.

* المبحث الرابع: وضع عيسى عليه السلام الجزية بعد نزوله لا ينافي ثبوت أحكام الشريعة الخاتمة.

* المبحث الخامس: إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

الفصل الخامس: المسائل المتعلقة بالاستدلال والتلقي، وتحته أربعة مباحث الآتية:

* المبحث الأول: عدالة الصحابة.

* المبحث الثاني: الإلهام.

* المبحث الثالث: فهم الأدلة بحسب المعنى المراد والاستعمال.

* المبحث الرابع: حقيقة الإيمان.

ص: 14

‌الفصل الأول المسائل المتعلقة بالتوحيد

ص: 15

‌المبحث الأول أول واجب على المكلف: الشهادتان

أدخل الكلام عن الواجب الأول على المكلف في علم أصول الفقه في موضعين:

الموضع الأول

(1)

: لما تكلموا عن موضوع أصول الفقه - وهو الدليل الشرعي - فاستطردوا في ذكر معنى الدليل، إلى أن تكلموا عن النظر وإفادته العلمَ، ومنه النظر المُعَرِّف لوجود الله تعالى، الذي عند أكثر المتكلمين الأصوليين أول واجب على المكلف.

وأما الموضع الثاني

(2)

: فلما تكلموا عن الاجتهاد والتقليد، فرَّعوا الكلام عن التقليد في أصول الدين، ومنه معرفة وجود الله.

ومذهب أهل السنة والجماعة هو أن أول واجب: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ومن الأدلة على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن:

(1)

انظر على سبيل المثال: المستصفى للغزالي (1/ 87)، والمحصول للرازي (1/ 87)، والإحكام للآمدي (1/ 10 - 11)، والبحر المحيط للزركشي (1/ 70)، وفواتح الرحموت (1/ 44)، وشرح الكوكب المنير (1/ 308 - 309).

(2)

انظر على سبيل المثال: البرهان للجويني (2/ 743)، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 66)، وشرح تنقيح الفصول للقرافي (ص 190)، البحر المحيط للزركشي (8/ 324).

(3)

درء تعارض العقل والنقل (8/ 11).

ص: 17

(فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله)

(1)

.

وهو نص في أن الشهادتين أول واجب على المكلف.

وقال ابن القيم: «أجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد دخل في الإسلام»

(2)

. وهذا يدل على أن ذلك أول الواجبات.

وذهب المتكلمون إلى أن أول واجب هو: المعرفة، وقيل: النظر، وقيل: القصد، وقيل: الشك.

وقيل: إن المعرفة واجبة قصدًا، والنظر واجب لكونه وسيلة قريبة إلى المعرفة، والقصد إلى النظر واجب لأنه وسيلة أبعد إلى المعرفة

(3)

، ويعدُّ هذا قولًا، والقول الآخر هو أن أول واجب هو الشك.

وقد اتفقوا على أن معرفة الله غير ضرورية، ولذلك فهم كلهم قد أوجبوا النظر، على خلاف بينهم في المراد بالوجوب والنظر، وذكروا أن مقابل النظر هو التقليد.

كما أنهم اتفقوا على أن الإيمان بالله ورسوله يعد الواجب الثاني

(4)

.

(1)

متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، برقم (25)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله برقم (21)، واللفظ له.

(2)

مدارج السالكين (3/ 421).

(3)

انظر زيادة عليه: درء تعارض العقل والنقل (7/ 353)، المواقف للإيجي (ص 32)، شرح المقاصد للتفتازاني (1/ 272).

(4)

الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به للقاضي الباقلاني (ص 33).

ص: 18

‌المبحث الثاني طريق ثبوت وجوب النظر

عندما تحدث الأصوليون عن مسألة: أول واجب على المكلف، استطردوا في مسألة طريق ثبوت وجوب النظر.

وحكى بعض علماء أصول الفقه قولين في المسألة، فنقلوا عن الجمهور أن وجوب النظر ثابت بالشرع لا بالعقل، ونقلوا عن المعتزلة عكس هذا، فقالوا: إن النظر ثابت وجوبه بالعقل لا بالشرع

(1)

.

وبنوا المسألة على مسألة التحسين والتقبيح، وخلاصته: أن قول المعتزلة بحسن دفع الضرر المتوقع من ترك النظر: صحيح، ولا يصح قولهم: إن ذلك دليل على الوجوب، وإنما هو دليل على حسنه، والحسن ليس محصورًا في الواجب، إذ يجوز أن يكون مستحبًا.

وأن قول الأشاعرة بأن الوجوب بالشرع لا بالعقل: صحيح، ولكن لا يصح قولهم بمنع تحسين العقل لدفع الضرر المتوقع من ترك النظر.

وكلا الطائفتين أغفلت فطرية المعرفة في حق عامة المكلفين إلا من تغيرت فطرهم.

(1)

انظر: البرهان للجويني (1/ 85)، والإحكام للآمدي (1/ 85)، وفواتح الرحموت (1/ 44)، وانظر: المواقف للإيجي (ص 31 - 32)، وشرح المقاصد للتفتازاني (1/ 263 - 265).

ص: 19

‌المبحث الثالث

تحقق لحوق الوعيد وحكم الخلف فيه

هذه المسألة تكلم الأصوليون عنها في ضمن بحثهم عن العموم، فحكوا عن الأشعري القول بالوقف في صيغ العموم.

قال الزركشي: «ومأخذ قول الوقف من أصله أن الأشعري لما تكلم مع المعتزلة في عمومات الوعيد الواردة في الكتاب والسنة، كقوله: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ونحوه، ومع المرجئة في عموم الوعد، نفى أن تكون هذه الصيغ موضوعة للعموم، وتوقف فيها، وتبعه جمهور أصحابه»

(1)

.

وقد نسب الوقف في عموم الأخبار للإمام أبي حنيفة، ولكن نفى الجصاص أن يكون مذهبه

(2)

.

ونسب الوقف كذلك للإمام الشافعي، وليس بصحيح، قال أبو الحسين بن القطان:«شذت طائفة من أصحابنا فنسبت هذا القول للشافعي، لأشياء يتعلق بها كلامه، لأنه قال في مواضع من الآي: يحتمل الخصوص، ويحتمل العموم، ولم يرد الشافعي ما ذهبوا إليه، إنما احتمل عنده أن ترد دلالة تنقله عن ظاهره من العموم إلى الخصوص، لا أنه حقه الاحتمال»

(3)

.

(1)

البحر المحيط للزركشي (4/ 32)، وانظر: اللمع للأشعري ص (127 - 131).

(2)

البحر المحيط للزركشي (4/ 29).

(3)

البحر المحيط للزركشي (4/ 29).

ص: 20

والذي عليه سلف الأمة وجمهور المتأخرين العمل بالعموم، وأن التوقف فيه مذهب متأخر نشأ في القرن الرابع الهجري، ولم يأخذ به إلا قليل من أهل العلم

(1)

.

وسر المسألة أن الوعيدية احتجوا بآيات الوعيد المتعلقة بعصاة الموحدين، فأوجبوا لهم دخول النار قطعًا إن لم يتوبوا، وقد يبالغون أكثر من هذا فيحملون النصوص الواردة في شأن الكفار على العصاة الموحدين بدعوى العموم، كقول الله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

وقابل هؤلاء المرجئة، فحملوا كل ما ورد من بشارات لأهل الإيمان والتوحيد على كل من آمن ولو كان فاسقًا معه من السيئات ما يستوجب دخول النار، كقول الله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89].

والتحقيق هو الجمع بين النصوص الواردة في الوعد والوعيد، وبيان ذلك:

(1)

ما ذهب إليه المعتزلة من أن آيات الوعيد في العصاة على عمومها، قلنا: هي كذلك، لكن لا يقطع بها في حق الشخص المعين، لأن لحوق الوعيد مشروط بانتفاء موانع.

(2)

وأما القول بالتوقف في نصوص الوعد، بناء على احتجاج المرجئة بها على دخول أصحاب الكبائر الجنة بلا عذاب، فلا وجه له، لأنه قد ثبت بالأدلة المتواترة دخول بعض أهل الإيمان من أهل الذنوب النار وخروجهم منها، إما بالشفاعة، وإما بعد أن يكمل نقاؤهم بالعذاب، فيصيرون حممًا، فيخرجون إلى الجنة، وعندئذ فما ورد من الأدلة في دخول أهل الإيمان الجنة بلا عذاب، إنما هو في حق من كمل إيمانه، أو من شاء الله إدخاله الجنة بلا عذاب وإن كان

(1)

الفصول في الأصول للجصاص (1/ 103 - 104)، و مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 441).

ص: 21

فعل ما يستوجب دخول النار، رحمةً منه وفضلًا وعفوًا.

ومن ههنا يعلم خطأ ما خاض فيه كثير من أهل العلم، من أن خلف الوعيد لا يعد كذبًا، وإنما هو كرم. لأنه لا يوجد خلف أصلًا، وإنما نصوص الوعيد وردت مقيدة، فوجب حمل المطلق على المقيد، فلا خلف ولا كذب.

ص: 22

‌المبحث الرابع

التحسين والتقبيح العقليان

ذهب أهل السنة والجماعة: إلى أن الأفعال منشأ للمصلحة والمفسدة، إما لذاتها، وإما لاعتبارات، وإما لوصفها، وقد يستقل العقل بدرك بعض تلك الصفات، أي يعلم حسنها وقبحها، كحسن الإيمان بالله والعدل والصدق، وكقبح الكفر والظلم، وقد لا يستقل بذلك، ولا يعرفه مفصلًا في كل فعل بعينه إلا بخطاب الشرع، وما يعلم العقل حسنه أو قبحه لا يترتب على تركه أو فعله عقاب حتى يرد بذلك الشرع.

وعبَّر الزركشي الأشعري عن هذا المذهب بأنه: «المنصور لقوته من حيث النظر وآيات القرآن المجيد وسلامته من التناقض، وإليه إشارات متأخري الأصوليين والكلاميين فليتفطن له»

(1)

.

ومن الأدلة الصحيحة التي يمكن التعويل عليها في إثبات الحسن والقبح العقليين: دليل الفطرة

(2)

- أو ما يعبِّر عنه بعضهم: أن ذلك معلوم بالضرورة، وما كان كذلك فلا يحتاج إلى بحثه وتقريره بالأدلة

(3)

.

ولو تتبعنا نصوص الشرع لوجدنا الدلالة على أن هذا مركوز في الفطرة،

(1)

البحر المحيط للزركشي (1/ 191)، وانظر: مفتاح دار السعادة (2/ 407 - 408)، (3/ 20 - 23)، وإيثار الحق على الخلق (ص 343).

(2)

انظر: إيثار الحق على الخلق (ص 343).

(3)

انظر: الكاشف عن المحصول للأصفهاني (2/ 293) -القسم الثاني-.

ص: 23

ومن ذلك:

قوله الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28].

فالفاحشة هنا هي طواف المشركين عراة بالبيت رجالا ونساء، فبين الله أنه لا يأمر به لقبحه، فلو كان القبيح هو المقول فيه لا تفعل - كما تقول الأشاعرة - لكان معنى الآية: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه، وهذا يصان عنه كلام الباري لعدم فائدته، ثم بين الله أنه لا يأمر إلا بما هو حسن

(1)

فقال سبحانه: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 28 - 29].

وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، فوصف الله بعض رزقه بأنه طيب، وأن هذا الوصف يقتضي عدم تحريمه، فدل على ثبوت وصف للفعل هو منشأ للمصلحة مانع من التحريم، وهذا هو التحسين العقلي عينه

(2)

.

ثمَّ إن المولى سبحانه وتعالى ضرب أمثلة عقلية كثيرة دالة على حسن التوحيد ومدح فاعله، وعلى قبح الشرك وذمه وذم فاعله، والأدلة فيه كثيرة.

كقوله تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [: يس: 23 - 24] فلم يحتج الله عليهم بمجرد الأمر، بل احتج عليهم بالعقل ومقتضى الفطرة، لأن من لا يملك دفع ضر عن نفسه فأولى أن لا يقدر على دفعه عن غيره، فكانت عبادته من كان ناقصًا

(1)

انظر: مدارج السالكين (1/ 249)، ومفتاح دار السعادة (2/ 335).

(2)

انظر: مدارج السالكين (1/ 249).

ص: 24

ضلالًا مبينًا

(1)

.

أما المعتزلة فقد اتفقت على ثبوت الحسن والقبح للأفعال بالعقل، وترتب الثواب والعقاب على ذلك، ثم ينقل خلاف بينهم بعد ذلك في جهة حسن الفعل أو قبحه هل هو لذاته كحسن الصدق أو قبح الكذب، أم هل هو لصفة الفعل، كقبح الصدق الضار، وحسن الكذب النافع، كالكذب لإنجاء نبي مثلًا، فالكذب هنا نافع فيكون حسنًا لهذه الصفة، ويكون الصدق قبيحًا في هذه الحالة لضرره، أم هل هو لاعتبارات، كضرب اليتيم مثلًا، فإنه باعتبار التأديب حسن، وباعتبار الظلم قبيح.

ثم هؤلاء التزموا التسوية في الأحكام شاهدًا وغائبًا، فزعموا أن ما يحسن من العبد يحسن من الله، وما يقبح منه يقبح منه، فوضعوا لله شريعة بعقولهم، فأوجبوا عليه أشياء لم يوجبها على نفسه، وحرموا عليه أشياء لم يحرمها على نفسه

(2)

.

ومنعت الأشاعرة تحسين العقل وتقبيحه، وجَوَّزُوا على الرب تعالى كل شيء ممكن، وزعموا أن القبيح في أفعال الله ما كان ممتنعًا كالجمع بين النقيضين ونحوه، ثم هم اتفقوا على أن ترتب الثواب والعقاب على الشرع وحده.

والمعروف عن المتقدمين منهم منع تحسين العقل وتقبيحه مطلقًا، وأن الحسن هو المأمور به شرعًا، والقبيح هو المنهي عنه شرعًا -ونحو هذه العبارات

(3)

- وأنه ليس للفعل صفات تقتضي أن يكون جائزًا أو ممنوعًا، فلا فرق في الأصل بين الكفر والإيمان، ولا بين الزنا والعفاف، ولا بين الصدق والكذب، ونحو ذلك.

(1)

انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 333).

(2)

انظر: البرهان (1/ 80)، مفتاح دار السعادة (2/ 541 - 543).

(3)

انظر: البرهان للجويني (1/ 79).

ص: 25

أما المتأخرون فذكروا أن للحسن والقبح إطلاقات ثلاثة:

الإطلاق الأول: على معنى ملاءمة الشيء للطبع أو منافرته.

والإطلاق الثاني: على معنى كون الشيء صفة كمال كالعلم والصدق، أو صفة نقص كالجهل والظلم.

والإطلاق الثالث: على معنى أن الفعل متعلَّق الذم عاجلا وعقابه آجلًا، أو المدح عاجلًا، والثواب آجلًا.

وذكروا أنه لا خلاف في أن الإطلاقين الأولين عقليان، وأما الثالث فهو محل النزاع

(1)

.

وخلاصة ما سبق أنَّ المعتزلة ذهبت في تعريف الحسن والقبح إلى أنَّ الحسن: ما لفاعله أن يفعله، والقبيح: ما ليس لفاعله أن يفعله، وهم يجعلون حسنه وقبحه ناشئ عن نفس الفعل.

وذهبت الأشعرية إلى أنَّ الحسن: ما ورد الشرع بتعظيم فاعله، والثناء عليه، والقبيح يقابله. وجعلوا منشأ الحسن والقبح هو الأمر والنهي لا غير.

وذهب أهل السنة والجماعة إلى أن منشأ الحسن والقبح مجموع الأمرين: الأوامر والنواهي، وكذا الأفعال، وتعريفهم موافق لتعريف الأشاعرة، فالحسن: ما أُمر به شرعًا، والقبيح: ما نُهي عنه شرعًا. وهذا لا يعني عدم وجود الصفات المتعلقة بالأفعال حقيقة

(2)

.

(1)

انظر: المستصفى (1/ 56)، و المحصول (1/ 123 - 124)، والإحكام للآمدي (1/ 79 - 80)، والكاشف عن المحصول (2/ 272 - 273) القسم الثاني، وشرح العضد (1/ 200).

(2)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 189 - 191)، وشرح مختصر الروضة (1/ 404)، الإبهاج (1/ 62)، البحر المحيط (1/ 169)، مجموع الفتاوى (14/ 146)، (17/ 198)، شرح الكوكب (1/ 306).

ص: 26

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل

(1)

:

‌المسألة الأولى: تعريف الحكم الشرعي.

عُرِّف بأنّه: «خطاب الله» عند من يمنع دخول العقل في الأحكام، وهم أهل السنة والجماعة والأشاعرة.

وعرفته المعتزلة بأنّه: إعلام الله أيانا، أو دلالته لنا على كون الفعل واجبًا ومندوبًا ومباحًا وحرامًا ونحوها، والإعلام والدلالة يتناولان الإعلام بالشرع ودلالة العقل

(2)

، فالعقل يوجب حكمًا شرعيًا، فهو حاكم.

ومثل هذه المسألة: تقييد الأحكام بصفة التشريع، كتقييد تعريف الواجب، بالقول:(شرعًا)، أو (خطاب الشارع)، أو (من جهة نظر الشرع) عند من جعل الشرع هو الحاكم وليس العقل

(3)

.

قال الرازي: «وقولنا: شرعًا، إشارة إلى ما نذهب إليه من أنَّ هذه الأحكام لا تثبت إلَّا بالشرع»

(4)

.

(1)

انظر: المسائل الأصولية المتأثرة بالأصل العقدي كثيرة، وقد ألف فيها ما يجمع شتاتها، وهنا أذكر جملة كبيرة من مختلف الأبواب، وبها يتمكن الناظر معرفة ما بقي بإذن الله. وقد تركت جملة منها وذكرتها في المسألة الآتية، وهي رعاية المصلحة أو الأصلح، وربما كررتها لزيادة بيان المأخذ، وإلا فإن مسألة رعاية المصلحة أو الأصلح مترتبة على مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وذلك لأن المصلحة التي استحسنها العقل يجب أن تراعى عندهم. وعليه فإن القول بها قول بالتحسين والتقبيح، وأمثلتها أمثلة لها، عند من يقول بترتب الثواب والعقاب، والوجوب على الله برعاية الحسن، والأصلح، تعالى الله عن قولهم ..

(2)

انظر: تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 66 - 67) ميزان الأصول (1/ 119)، المستصفى (1/ 177).

(3)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 443)، الإبهاج (1/ 52) البحر المحيط (1/ 177) أسباب الخلاف للأسمري (ص 396) شرح الكوكب (1/ 346).

(4)

المحصول (1/ 96). ومثله ما ورد في التعاريف الأخرى للأحكام الشرعية، المندوب: تخريج الأصول على الأصول (ص 565)، المحرم:(ص 585)، المكروه:(ص 627)، المباح (ص 660).

ص: 27

ومثله ما ورد في التعاريف الأخرى للأحكام الشرعية: المندوب

(1)

، والمحرم

(2)

، والمكروه

(3)

، والمباح

(4)

.

‌الثانية: تتعلق الأحكام بالأعيان والأفعال تعلقًا حقيقيًا

؛ لأجل صفات في العين أو الفعل اقتضت تلك الأحكام، عند من يقول بالحسن والقبح العقلي.

وزعم «نفاة الحسن والقبح العقليين أنها ليست صفة ثبوتية للأفعال، ولا مستلزمة صفة ثبوتية للأفعال، بل هي من الصفات النسبية الإضافية، فالحسن: هو المقول فيه: "افعله" أو "لا بأس بفعله"، والقبيح: هو المقول فيه: "لا تفعله"»

(5)

أي: أنه مجرد الأمر والنهي، وتعلق تلك الصفات بالأحكام نسبي لا حقيقي وهو قول الأشاعرة.

‌الثالثة: شكر المنعم.

أوجبت المعتزلة وجوب شكر المنعم سبحانه وتعالى عقلًا؛ لأنّ العقل عندهم موجب بذاته.

وأهل السنة يقولون بحسن شكر المنعم عقلًا؛ لإثبات الصفات الذاتية؛ لكنهم لا يوجبون ذلك على الله عقلًا، ولا ثواب، ولا عقاب إلّا بالشّرع.

وأمّا نفاة الحسن والقبح العقليين -كالأشاعرة- فليس بواجب عندهم عقلًا؛

(1)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (565).

(2)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (585).

(3)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (627).

(4)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (660).

(5)

منهاج السنة (3/ 177 - 178)، وانظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 84)، المستصفى (1/ 234)، ميزان الأصول (1/ 381)، البحر المحيط (1/ 120)، مجموع الفتاوى (14/ 88)، (8/ 136 - 137).

ص: 28

لأنّهم ينفون الصفة عن الفعل، وهذا يستلزم ألا يدرك العقل فيه حسنًا ولا قبحًا، فضلًا عن أن يحكم عليه

(1)

.

‌الرابعة: حكم الأشياء قبل ورود الشرع.

لا حكم للأشياء قبل الشرع، عند من لا يرى في الأفعال ولا في الأعيان صفات في أنفسها، -وهو مأخذ الأشاعرة- ومن ثمَّ فالحكم موقوف على الشرع، وقبل الشرع لا حكم لها؛ لأن أفعال العقلاء قبل الشرع لم يرد فيها خطاب شرعي حتى يحكم بالإباحة أو الحظر، وحيث لا شرع فإن العقل لا مدخل له في تعيين الأحكام الشرعية، فلا سبيل لمعرفة حكم الشرع فيها

(2)

.

ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من لم يوافق المعتزلة في التحسين والتقبيح، وقال بالإباحة أو الحظر فقد ناقض»

(3)

.

وأهل السنة والجماعة وإن أثبتوا للأفعال قبل الشرع الحسن أو القبح، إلا أنّه لا حكم للعقل بثواب أو عقاب، بل ذلك للشرع

(4)

.

وذهب المعتزلة إلى أن الأصل في الأشياء قبل ورود الشرع إما الإباحة أو الحظر، أي إن للعقل فيها حكم.

(1)

انظر: تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 206)، المحصول (1/ 181 - 182)، الإحكام (1/ 79)، أصول الفقه لابن مفلح (1/ 162)، شرح مختصر الروضة (1/ 410)، الإبهاج (1/ 313) المسودة (ص 421)، البحر المحيط (1/ 148 - 149)، أسباب الخلاف للأسمري (ص 385).

(2)

انظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 19)، شرح التنقيح للقرافي (447)، تخريج الأصول على الأصول للعمري (213، 217).

(3)

التحبير للمرداوي (3/ 781)، شرح الكوكب المنير (1/ 328).

(4)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 212)، بيان المختصر (1/ 317)، الإحكام (1/ 87)، شرح مختصر الروضة (1/ 391)، المسودة (ص 422)، البحر المحيط (1/ 148 - 149)، أسباب الخلاف للأسمري (ص 373).

ص: 29

‌الخامسة: تكليف الصبي.

ذهبت المعتزلة إلى تكليف الصبي متى عَقِل، وأمكنه معرفة الله تعالى، وجب عليه الإيمان؛ لقولهم بإدراك حسن الأشياء وقبحها، وبوجوب بعض الأحكام بالعقل.

وأمّا أهل السنة فإنهم وإن أثبتوا الحسن والقبح، إلا أنهم ينفون أن يكون العقل حاكمًا في دين الله تعالى؛ ولهذا فلا يوجبون به شيئًا؛ لعدم تكليفه شرعًا

(1)

.

‌السادسة: تكليف المعدوم.

ذهبت المعتزلة إلى عدم جواز تكليف المعدوم؛ لأن الأمر والنهي بدون المخاطب عبث، فيكون التكليف به قبيحًا.

وذهبت الأشاعرة إلى جواز تكليفه؛ نظرًا لإثبات الكلام النفسي، «وأن الله تعالى لم يزل آمرًا ناهيًا مخبرًا»

(2)

.

وأجاب الأشاعرة: «بأن تقبيح هذا مبني على مسألة التحسين والتقبيح، وهي منهدمة الأركان»

(3)

.

‌السابعة: تكليف المكره.

منع تكليف المكره من يعتبر في أوامر الشرع موافقتها لقضايا العقول؛ لأنّ تكليفه يخالف العدل فيكون قبيحًا.

أمّا من يجعل مدار الأحكام الشرعية على محض الإرادة والمشيئة من غير

(1)

انظر: تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 250). وجعل المسألة في تكليفه بأصول الدين.

وانظر: البحر المحيط (4/ 306)، التحرير مع تيسير التحرير (2/ 251).

(2)

البحر المحيط (1/ 377).

(3)

الإبهاج (1/ 152 - 153)، وانظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 258)، المحصول (2/ 256).

ص: 30

تعليل لها؛ فإنّه يجوَّزه، ولا يعد قبيحًا عنده؛ لأنّه لا معنى للفعل القبيح إلا ما نهى عنه الشرع

(1)

.

‌الثامنة: الواجب المخيَّر، والحرام المخيَّر.

منع المعتزلة التخيير في الواجب المخير؛ لأنّها إمّا أن تكون الواجبات متساوية في الحسن، فلا معنى لاستقلال أحدها بالوجوب. وإما أن يختص واحد منها بما يقتضي الوجوب من الحسن دونها، فيكون هو الواجب دون ما سواها

(2)

.

قال الطوفي في بناء المسألة: «قلنا: مبني على وجوب رعاية الأصلح، وعلى أن الحسن والقبح ذاتيان أو بصفة، وهما ممنوعان، بل ذلك شرعي، فللشرع فعل ما شاء من تخصيص وإبهام»

(3)

.

ومن منع وجوب رعاية الأصلح؛ فإنّه لا يجب عنده تساوي الخصال في الحسن والصلاح، ولم يجب تساويها في الوجوب

(4)

.

ومثله - مأخذًا - الحرام المخير

(5)

؛ لأن منع المحرم المخير عند المعتزلة؛ لأنّ الأشياء المخيَّر بينها، إن لم تكن قبيحة لم يجز أن تكون محرمة؛ -لأنّ المحرم عندهم حرم؛ لقبحه- فإذا كانت كلها قبيحة لم يجز أن يكون بعضها محرمًا، وبعضها مباحًا؛ لتساويها في المفسدة، فيكون إباحة بعضها معارضًا لقاعدة رعاية الأصلح للعباد في التكليف.

(1)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 262)، البحر المحيط (1/ 360)، سلاسل الذهب (ص 148).

(2)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 771) أسباب الخلاف للأسمري (ص 477 - 478).

(3)

البلبل مع شرح مختصر الروضة (1/ 305).

(4)

انظر: التلخيص (1/ 360) البلل من شرح مختصر الروضة (1/ 305)، تخريج الأصول على الأصول (ص 478).

(5)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 592)، أسباب الخلاف للأسمري (ص 640).

ص: 31

وأمّا غير المعتزلة: فلا يجعلون مدار الأحكام على تحسين العقل وتقبيحه، ولا على وجوب الصلاح، فلا يمتنع أن يجعل الله المصلحة في اجتناب الجمع بين الفعلين، حتى لو فعل المكلف أحدهما لم تحصل المفسدة المترتبة على الجمع بينهما

(1)

.

‌التاسعة: التعبد بالعمل بخبر الآحاد.

اختلف القائلون بالتحسين والتقبيح في التعبد بالعمل بخبر الآحاد.

فمنعه بعضهم؛ لأن «التكاليف تعتمد تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وذلك يقتضي أن تكون المصلحة أو المفسدة معلومة، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن، وهو يجوز خطؤه فيقع المكلَّف في الجهل والفساد، وهو غير جائز»

(2)

، ولأن في تعليق التكاليف به مفسدة استباحة الأموال والأعراض بأمر مظنون يجوز خطؤه.

وأجاز العمل به آخرون؛ لما في العمل به من الحسن؛ وذلك لأن المتواتر عزيز، فلو لم يعمل بخبر الآحاد لتعطلت المصالح

(3)

.

‌العاشرة: منع المعصية على النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته عقلًا

(4)

؛ لأن المعصية توجب احتقارًا لصاحبها، فتنفر الطبائع عن اتباعهم، وذلك قبيح عقلًا، وهو خلاف المصلحة، ولذا يمتنع أن يقع ما هو خلاف المصلحة

(5)

.

(1)

تخريج الأصول على الأصول (ص 592)، وانظر: البحر المحيط (1/ 272) شرح الكوكب (1/ 388 - 389) وسلاسل الذهب (ص 122).

(2)

شرح تنقيح الفصول (352).

(3)

انظر: أسباب الخلاف لإسماعيل الحاج (239).

(4)

انظر: شرح العضد (2/ 22)، أصول ابن مفلح (1/ 322)، التقرير والتحبير (2/ 224)، التحبير (3/ 1440)، شرح الكوكب (2/ 169).

(5)

انظر: شرح الأصول الخمسة (574)، شرح العضد (2/ 22)، أصول ابن مفلح (1/ 322)، التحبير (3/ 1440).

ص: 32

ومن لم يقل بوجوب رعاية المصلحة قال لا يمتنع عليه تعالى فعل شيء، فله أن يفعل ما يريد، ويحكم بما يشاء، ومن ذلك المعصية من النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

(1)

. بل إن جواز ذلك لا يفضي إلى القبح العقلي؛ لأن الإنسان بعد صفاء السريرة وحسن السيرة ينعكس حال الناس معه من حال الازدراء والاستخفاف إلى حال التعظيم والإجلال، ويؤكد ذلك أن انعكاس حالهم حينئذ دلالة المعجزة على صدقه وأحقيته بالرسالة، والمشاهدة قاضية بهذا الانعكاس في كثير من الصلحاء، حيث كانوا موصوفين بضد الصلاح محقورين من الناس، ثم انعكس حالهم بعد الصلاح، فلا وجه للملازمة

(2)

.

‌الحادية عشرة: ذهب بعض من قال بالتحسين والتقبيح إلى كون النسخ بيانًا

؛ لأنه لو كان رفعًا؛ لأدى إلى أن ينقلب الحسن - الذي أثبته الله بالأمر - إلى قبيح وذلك بالنهي عنه، وهذا محال

(3)

.

وبيانه: أنَّ الشيء إنما يؤمر به لحسنه وما فيه من مصلحة، وينهى عنه لقبحه وما فيه من مفسدة، ولو أمر بالحكم الواحد، ثم نهى عنه لكان حسنًا قبيحًا، مصلحة مفسدة، مرادًا غير مراد، وهو جمع بين النقيضين، والقول بالرفع يلزم منه ذلك؛ لأنه أمر بالحكم المنسوخ لحسنه، ثم نهى عنه برفعه لقبحه، فلزم أن يجتمع فيه النقيضان

(4)

.

(1)

انظر: شرح الأصول الخمسة (574)، البحر المحيط (4/ 169)، شرح العضد (2/ 22)، نهاية الوصول لابن الساعاتي (1/ 254)، أصول ابن مفلح (1/ 322)، التحبير (3/ 1440).

(2)

اعترض به الحنفية لقولهم بالتحسين والتقبيح مع قولهم بالجواز مطلقًا، ورأوا منع الملازمة بين القبح العقلي والمنع.

انظر: التقرير والتحبير (2/ 224)، تيسير التحرير (3/ 20 - 21)، فواتح الرحموت (2/ 98).

(3)

انظر: المستصفى (1/ 108) التلخيص (1/ 454)، الواضح (2/ 212)، روضة الناظر (1/ 286)، شرح المعالم (2/ 37 - 38)، شرح مختصر الروضة (2/ 262) ..

(4)

انظر: شرح المعالم (2/ 37 - 38).

ص: 33

وذهب شذوذ من المسلمين، بعض طوائف اليهود

(1)

، إلى عدم وقوع النسخ، بسبب ذلك.

ونوقش: بأن التناقض إنما يكون مع اتحاد الزمان، وشرط النسخ التراخي ولا تناقض مع تعدد الزمان

(2)

.

كما أنه يجوز أن يكون ذلك الفعل مصلحة في وقت ومفسدة في وقت آخر، فيأمر به في الوقت الذي علم أنه مصلحة فيه، فيكون حسنًا في وقت قبيحًا في وقت آخر، فلا يكون مناقضًا للحسن والقبح

(3)

.

‌الثانية عشرة: قبول جميع الأحكام للنسخ.

عدم قبول جميع الأحكام للنسخ

(4)

، لأن الحسن والقبح صفات وأحكام لا تتغير بتغير الشرائع، ولذا يمتنع النسخ في هذه الأفعال المقتضية للحسن والقبح لاستحالة الأمر بالقبح، والنهي عن الحسن

(5)

، وهذا عند القائلين بالتحسين والتقبيح.

أما من لم يقل بالتحسين والتقبيح، فقد اختلفوا:

فقال بعضهم بالمنع؛ لأن ما لا يمكن أن يقع إلا على وجه واحد، يمتنع أن يقع

(1)

انظر: المعتمد (1/ 401)، اللمع (55)، المحصول (3/ 294)، شرح مختصر الروضة (2/ 266)، التحبير (6/ 2985).

(2)

انظر: شرح المعالم (2/ 38).

(3)

انظر: ميزان الأصول (2/ 986)، المحصول (3/ 302)، الإحكام (3/ 115 - 116).

(4)

انظر: أصول الجصاص (1/ 356)، المعتمد (1/ 400)، الواضح (1/ 234)، شرح العضد (2/ 204)، أصول ابن مفلح (3/ 1187)، زوائد الأصول (312)، تشنيف المسامع (2/ 888)، الغيث الهامع (2/ 447)، التحرير ومعه التقرير والتحبير (3/ 53)، التحبير (6/ 3109)، شرح الكوكب (3/ 586)، تيسير التحرير (3/ 193)، نشر البنود (1/ 293).

(5)

انظر: أصول الجصاص (1/ 356)، بيان المختصر (2/ 577)، رفع الحاجب (4/ 134)، التحبير (6/ 3109).

ص: 34

على وجهين، ولو أمر به ثم نسخ لوقع على وجهين، وهو غير قابل لذلك

(1)

.

وقال بعضهم بالجواز نظرا لأدلة أخرى، كقوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:: 39]، ونحو ذلك

(2)

.

‌الثالثة عشرة: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة.

ذهبت المعتزلة إلى منع نسخ الحكم مع بقاء التلاوة

(3)

؛ لأن «الحكم إذا نسخ وبقيت التلاوة كانت موهمة بقاء الحكم، وذلك مما يعرِّض المكلف إلى اعتقاد الجهل، والحكيم يقبح منه ذلك»

(4)

.

أما إن قيل إن الشرع هو الذي يثبت الحسن والقبح، والعقل لا مدخل له في ذلك فإن الشرع إن ورد بالنسخ للحكم دون التلاوة فهو حسن لورود الشرع به، ولا التفات إلى نظر العقل

(5)

.

‌الرابعة عشرة: نسخ التكليف بالخبر.

منع نسخ التكليف بالخبر؛ «لأنه كذب، والتكليف بالكذب قبيح، وهو غير متصور من الشارع، وهو مبني على أصولهم في التحسين والتقبيح العقلي، ووجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى»

(6)

.

(1)

انظر: شرح اللمع (1/ 489)، قواطع الأدلة (1/ 423).

(2)

انظر: بيان المختصر (2/ 577).

(3)

انظر: شرح العضد (2/ 194)، أصول ابن مفلح (3/ 1141 - 1142)، التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 67)، التحبير (6/ 3034)، شرح الكوكب (3/ 559)، فواتح الرحموت (2/ 74).

(4)

الإحكام (3/ 142 - 143).

(5)

انظر: الإحكام (3/ 143).

(6)

الإحكام (3/ 144)، ونقله عنه الزركشي في البحر المحيط (4/ 98)، وأقره عليه، وانظر: شرح العضد (2/ 195)، تشنيف المسامع (2/ 880)، الغيث الهامع (2/ 444).

ص: 35

فلو كلف الشارع الإخبار بشيء، ثم نسخه، وأمر بالإخبار بضده لكان في ذلك كذب؛ لأنه كلفه بالإخبار بنقيض الحق ولابد، وهذا أمر يستقبحه العقل فكان ممتنعًا في حق الله تعالى لتنزهه عن الكذب، ولهذا لا يجوز النسخ في هذه الحالة لما يلزم من القول بالجواز من إفضاء إلى الباطل، وما أفضى إلى باطل فهو باطل

(1)

.

وقد أبدى ابن السبكي اعتراضًا على استناد المعتزلة إلى هذا الأصل، فقال:«بل لقائل أن يقول لا التفات لهذا على قاعدة التحسين والتقبيح، بل ينبغي القول به على أصلنا وأصلهم»

(2)

.

ثم ذكر أنه على أصل الأشاعرة واضح الالتفات لإنكارهم للقاعدة، أما على أصلهم فلأنه قد يتعلق بالكذب قصد صحيح فلا يكون قبيحًا في حق المكلِّف أو المكلَّف، وقد ذكر الفقهاء مواضع يجب فيها الكذب لتعلق غرض شرعي به، ولا ينبغي للمعتزلة الخلاف في ذلك

(3)

.

‌الخامسة عشرة: حكم نسخ المأمور به قبل التمكن من الفعل.

ذهبت المعتزلة إلى منع نسخ المأمور به قبل التمكن من الفعل، «لعدم حصول المصلحة من الفعل، وترك المصلحة عندهم يمنعه قاعدة الحسن والقبح»

(4)

.

ثم إن نسخ الفعل قبل التمكن فيه أمر، ونهي، أمر بالعبادة، وهذا يقتضي حسن الأمر، ثم نهى عنها، وهذا يقتضي القبح، وبما أن الشرع كاشف عن الحسن والقبح فإنه لا يمكن أن يكشف عن الحسن أو القبح، ثم يأتي بما يدل على خلاف ذلك إذا

(1)

انظر: المعتمد (1/ 421).

(2)

رفع الحاجب (4/ 75).

(3)

انظر: رفع الحاجب (4/ 75 - 76)

(4)

نفائس الأصول (6/ 2448).

ص: 36

كان ذلك في فعل واحد، ومن هنا فمن قال بالحسن والقبح لزمه القول بعدم الجواز، ومن لم يقل به لم يلزمه ذلك

(1)

.

‌السادسة عشرة: حكم العمل بالقياس.

اختلف القائلون بالتحسين والتقبيح في حسن وقبح العمل بالقياس:

فمن منع العمل بالقياس عقلًا

(2)

، قال: إن القياس رجم بالظن، والرجم بالظن جهل، والجهل قبيح، والأمر به قبيح، وما كان كذلك فلا يجوز عقلا القول به

(3)

.

ومن قال بالعمل به منهم، قال: إن النصوص لا تحيط بالحوادث، ولذا كان من الواجب أن يكون للناس طريق صالح لإثبات الحكم فيما لا نهاية له، وليس ذلك إلا بالقياس فكان في القياس دفعًا لهذا الضرر المظنون، فاقتضى العقل وجوب العمل به لدفع ذلك الضرر

(4)

. وعليه فإن من الحسن العمل به.

وقالوا: إن الأحكام مبنية على المصالح، وهي متفاوتة حسب تفاوت الزمان والمكان، فلا يمكن ضبطها إلا بالتفويض إلى الرأي، وإلا خلت الوقائع من الأحكام لعدم كفاية عمومات النصوص، ولذا كان من الجائز عقلًا العمل بالقياس لتحقيق تلك المصالح

(5)

.

ومن لم يقل بهذا الأصل فلا يلزمه ذلك، ونظر في العمل بالقياس إلى أدلة شرعية، وعقلية، ومنها ما ذكر في بيان كون العمل به حسنًا.

(1)

انظر: أصول الجصاص (1/ 374)، المعتمد (1/ 407).

(2)

انظر: الإحكام (4/ 13، 22)، المعتمد (2/ 725)، الإبهاج (1/ 138)، المنخول (425)، إحكام الفصول (2/ 725).

(3)

انظر: البرهان (2/ 492)، الإحكام (4/ 11).

(4)

انظر: المعتمد (2/ 725)، الإحكام (4/ 13)، نهاية الوصول (7/ 3077، 3075).

(5)

انظر: فواتح الرحموت (2/ 310).

ص: 37

‌السابعة عشرة: وصف العِلَّة وتعريفها بأنها المؤثر.

ذهب من قال بالتحسين والتقبيح إلى القول بأن العلة الشرعية مؤثرة في الحكم بذاتها

(1)

؛ لأن العقل إن كان يدرك الحسن والقبح يلزم أن يكون مدركًا للوصف المشتمل على المصلحة أو المفسدة الذي لأجله تثبت الأحكام أو تنفى، وإذا ثبت كون الوصف علة فإن العقل يقضي بترتيب الأثر عليه، فيكون مؤثرًا بنفسه

(2)

.

ومن قال بنفي التحسين والتقبيح العقليين فإنه لا يقول إن العقل يقضي بترتيب الأثر على الوصف، بل الوصف علامة تعرف الحكم ليس غير.

واشترط القائلون بالتحسين والتقبيح أن تعلَّل الأحكام بالمصلحة

(3)

؛ لأنه «يقبح في العقل أن يأمر بما لا مصلحة فيه»

(4)

.

والعالم الحكيم لا يحسن منه أن يفعل أو يأمر أو يحكم إلا بحسن، كما يقبح منه أن يفعل أو يأمر أو يحكم بقبيح، ولو أمر بقبيح يعلم قبحه لكان ذلك مخالفًا لعلمه وحكمته

(5)

.

ومن لم يقل بالحسن والقبح قال له أن يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، ولا يحمله شيء على شيء

(6)

.

(1)

انظر: نهاية الوصول (8/ 3255)، البحر المحيط (5/ 112)، تشنيف المسامع (3/ 206)، الغيث الهامع (3/ 671)، التحبير (7/ 3178)، إرشاد الفحول (352).

(2)

انظر: نبراس العقول (218).

(3)

انظر: شرح الأصول الخمسة (301)، المعتمد (1/ 371)، الأربعين في أصول الدين (1/ 352، 353)، شرح المعالم (2/ 298)، المواقف (331)، تعليل الأحكام لشلبي (98).

(4)

العدة (2/ 422).

(5)

انظر: شرح الأصول الخمسة (301)، العدة (2/ 422)

(6)

انظر: تشنيف المسامع (3/ 208).

ص: 38

‌الثامنة عشرة: تعليل أحكام الله وأفعاله.

من أثبت للفعل صفة تقتضي حسنه أو قبحه؛ فإنّه يثبت كون ذلك الحكم معللًا بما فيه من صفة، وجعل أحكام الله تعالى وأفعاله معللة.

والمعتزلة قالوا: «لا يصح أن يفعل فعلًا إلا لمصلحة العباد»

(1)

. فأوجبوا ذلك، وخالفهم أهل السنة في مسألة الإيجاب، كما تقدم في أصل المسألة العقدية.

وأما الأشاعرة الذين أنكروا صفات الأفعال ونفوا الحسن والقبح العقليين، ونفوا أن يكون في الفعل مصلحة تقتضي أن يكون الأمر به لأجلها، وأن يكون فيه مفسدة تقتضي أن يكون النهي عنه لأجلها، وبناء على ذلك أنكروا أن تكون أحكام الله تعالى معللَّة؛ لعدم ما تُعلل به، «ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية، لم يحسن إلا لتعلق الأمر به، وأن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد، والمعروف والمنكر وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها»

(2)

.

‌التاسعة عشرة: شرع من قبلنا.

شرع من قبلنا حجة عند المعتزلة القائلة بالتحسين والتقبيح؛ لأن «الأحكام الشرعية حسنها ذاتي لا يختلف باختلاف الشرائع، فهي حسنة بالنسبة إلينا، فتركنا لها قبيح»

(3)

.

(1)

شرح المعالم (2/ 298).

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 354)، وانظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 99)، المحصول (2/ 258).

وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/ 61): «وكلُّ من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد، فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين» .

(3)

شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 179).

ص: 39

وبناء عليه: فإن مجيء النبي بشريعة أخرى عبث لا فائدة فيه، «والحكيم لا يفعل فعلًا إلا لحكمة وغرض، والفعل من غير غرض سفه وعبث»

(1)

.

نوقش: بأن «حسنها شرعي إضافي، فيجوز أن يكون الحكم حسنًا في حقهم، قبيحًا في حقنا»

(2)

.

‌العشرون: نسب القول بأن الاستحسان هو: مايستحسنه المجتهد بعقله، على القول بالتحسين والتقبيح،

ولما نسب إلى أبي حنيفة رحمه الله نفاه الحنفية عنه.

قال عبد العزيز البخاري: «فأبو حنيفة أجلُّ قدرًا، وأشد ورعًا من أن يقول في الدِّين بالتشهي، أو يعمل بما استحسنه من غير دليل قام عليه شرعًا»

(3)

‌الحادية والعشرون: عدم وقوع المشترك في خطاب الشرع عند القائل بالتحسين والتقبيح

؛ لأنّ المقصود من الخطاب هو الإفهام، ولا يتحقق ذلك بالخطاب المشترك، فلا يتعلق به غرض صحيح؛ لما فيه من تجهيل للمكلف، فالمشترك «إن كان المقصود منه الإفهام، فإن وجد معه البيان فهو تطويل من غير فائدة، وإن لم يوجد فقد فات المقصود، وإن لم يكن المقصود منه الإفهام فهو عبث، وهو قبيح، فوجب صيانة كلام الله عنه، فهو مبني على الحسن والقبح الذاتي»

(4)

.

‌الثانية والعشرون: منع اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم عند القائل بالحسن والقبح

؛ لأنّ القول به يورد إيهامًا بوضعه للشرع، وهو مُورث للتهمة في حقه، ومنفر للناس عنه،

(1)

نهاية الإقدام للآمدي (397)

(2)

ذكره الطوفي في شرح مختصر الروضة (3/ 179) كمأخذ ثان للمسألة.

(3)

المبسوط للسرخسي (1/ 22).

(4)

الإحكام للأمدي (1/ 22)، أسباب الخلاف للسهلي (ص 269).

ص: 40

وهذا الأمر قبيح، كما أنّه يعود على الرسالة وعلى مقصود البعثة بالخلل، ويؤدي إلى تجويز مخالفة المجتهد له، فهو اجتهاد مقابل اجتهاد، ومقام النبوة يقتضي الانقياد والاتباع للتشريع

(1)

.

‌الثالثة والعشرون: منع الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عند القائل بالتحسين والتقبيح

؛ لأنّ «الاجتهاد عرضة للخطأ بلا شك، والنص آمن منه، وسلوك السبيل المخوف مع القدرة على سلوك الآمن قبيح عقلًا»

(2)

.

‌الرابعة والعشرون: عدم تأثير المجتهد إذا بذل وسعه في المسائل العقدية ولم يصب الحكم

؛ لأنّ «تأثيم المجتهد بعد استفراغ وسعه في الاجتهاد قبيح؛ إذ هو مفض إلى تكليف ما لا يطاق»

(3)

.

وأمّا عدم تأثيمه في الفروع لأنّ «هذه المسائل ليس فيها دليل قاطع، ولا فيها حكم معين، والأدلة الظنية لا تدل لذاتها، وتختلف بالإضافة، فتكليف الإصابة لما لم ينصب عليها دليل قاطع تكليف ما لا يطاق، وإذا بطل الإيجاب بطل التأثيم، فانتفاء الدليل القاطع ينتج نفي التكليف، ونفي التكليف ينتج نفي التأثيم»

(4)

.

‌الخامسة والعشرون: منع التقليد في الفروع عند القائل بالتحسين والتقبيح

؛ لأنّ العامي «إذا قلَّد العالم فيها، كان إقدامه قبيحًا من حيث يجوز الخطأ

(1)

انظر: المعتمد (2/ 211)، قواطع الأدلة (4/ 76)، التحبير (8/ 3903)، بناء الأصول للمشعل (ص 175 - 176)، أسباب الخلاف للغامدي (ص 184)، التحسين والتقبيح العقليان (2/ 515).

(2)

نهاية السول (4/ 543)، وانظر: المحصول (6/ 18)، الإحكام (4/ 212)، نفائس الأصول (9/ 4008)، البحر المحيط (6/ 227)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 194)، أسباب الخلاف للغامدي (ص 222).

(3)

شرح مختصر الروضة (3/ 610).

(4)

المستصفى (2/ 406)، وانظر: بناء الأصول للمشعل (ص 271).

ص: 41

على العالم، والفعل الذي لا يؤمن كونه قبيحًا بمنزلة الخبر الذي لا يؤمن كونه كذبًا من القبح»

(1)

.

(1)

شرح العمد (2/ 307)، انظر: بناء الأصول على الأصول للمشعل (330)، أسباب الخلاف للغامدي (ص 422).

ص: 42

‌المبحث الخامس رعاية الأصلح

رعاية المصلحة، وتسمى الأصلح، ويقصد به: إذا كان هناك صلاحان وخيران فكان أحدهما أقرب إلى الخير المطلق فهو الأصلح، وقد اختلف الناس في وجوب رعاية المصلحة أو فعل الأصلح على قولين:

الأول: أنه لا يجب على الله تعالى فعل الأصلح، بل هو تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وبهذا قال أكثر الناس، وهو قول أهل السنة والأشاعرة وغيرهم.

وهؤلاء اختلفوا:

فقال بعضهم: إنَّ خلق الله وأمره متعلق بمحض المشيئة لا يتوقف على مصلحة، وهو قول الجهمية.

وقال بعضهم: إنَّ الله أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم، وإن كان في بعض ذلك ضرر لبعض الناس، فلابد وأن يكون ذلك لمصلحة لأجلها خلقه الله، وهذا قول أكثر الفقهاء، وأهل الحديث والتصوف، وطوائف من أهل الكلام.

الثاني: أنه يجب على الله تعالى فعل الأصلح، وبهذا قال عامة المعتزلة، ومنهم من قال يجب ذلك في أمور الدين والدنيا، وهؤلاء هم معتزلة بغداد، ومنهم من قال بوجوب فعل الأصلح في الدين فقط، وبهذا قال معتزلة البصرة، وقيل عنهم غير ذلك

(1)

.

(1)

انظر: الإرشاد للجويني (247)، نهاية الأقدام (404، وما بعدها)، لباب العقول (320)، منهاج السنة (1/ 462 - 463).

ص: 43

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

‌المسألة الأولى: منع فتور الشرائع عقلًا عند من يقول بوجوب رعاية المصالح على الله،

وهو مذهب الكعبي من المعتزلة؛ لما فيه فتور الشرائع، وعدم بقاء التكاليف عقلًا، من تبدل المصلحة بالمفسدة، وتخلف أصل رعاية المصالح، وجوابه على التنزيل بوجوب رعاية الأصلح، «فمن الذي أنبأك أن الأصلح تقدير الشرائع، فقد يكون الأصلح في فتورها، حتى يعملوا بمقتضى عقولهم»

(1)

.

‌الثانية: منع تكليف ما لا يطاق

؛ لأنّه ليس أصلح للعبد، وما كان كذلك استحال عقلًا على الله التكليف به، فيمتنع التكليف بما لا يطاق.

وجوابه: أنّه ليس من قبيل الاستحالة العقلية التي هي ضد الايجاب العقلي؛ فإنّه سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لكن من قبيل أن ذلك لا يليق بحكمة الله تعالى وفضله؛ لأنّ «المأمور بفعل لا بدَّ من أن يكون قادرًا على تحصيل المأمور به حقيقة؛ لأنّ تكليف ما ليس في الوُسع ليس بحكمة»

(2)

.

‌الثالثة: عدم جواز نسخ المأمور به قبل التمكن من الفعل،

عند من قال بوجوب مراعاة المصلحة على الله

(3)

؛ لأن الأمر من الله يدل على أن المأمور به صلاح للمأمورين، وما كان صلاحًا لهم لا يجوز للحكيم أن ينهاهم عنه ويمنعهم منه، وهذا ما يوجد في نسخ الفعل قبل التمكن، ولذا لم يجز.

(1)

البرهان (2/ 880)، وانظر المنخول (ص 484)، البحر المحيط (1/ 164)، تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 232).

(2)

كشف الأسرار (1/ 286). وانظر فتح الغفار (1/ 59)، والتوضيح وشرح التلويح (1/ 368)، والبحر المحيط (1/ 343)، تخريج الأصول على الأصول (ص 354)

(3)

انظر: التبصرة (262)، البرهان (2/ 850) المستصفى (1/ 113)، الإحكام (3/ 133).

ص: 44

أما من قال لا يجب رعاية المصلحة فقد جوَّز ذلك

(1)

.

ونوقش: بأن الأمر يدل على الصلاح ما دام الأمر قائمًا، فإذا نهى عنه علم أن الصلاح كان إلى غاية.

ثم إن هذا يعود على النسخ بالإبطال؛ لأن الأمر بالشيء يدل على صلاحه، وما كان صالحًا للعبد لم يجز للحكيم أن ينهى عنه أو يرفعه

(2)

.

ولهم أن يجيبوا: بأن النسخ هو رفع مثل الحكم لا نفسه، فيكون المرفوع غير الحكم السابق، فلم ينه عن شيء قد أمر به، أما هنا فالفعل واحد، فأمر به، ثم نهى عنه قبل فعله.

‌الرابعة: قبول جميع الأحكام للنسخ

؛ عند القائل بوجوب الأصلح على الله تعالى

(3)

؛ لأنه يجب على الله - تعالى الله عن قولهم - إذا علم المصلحة في رفع التكليف أن يرفعه عنهم، وإذا علم أن المصلحة في عدم رفعه ألاَّ يرفعه عنهم، وإن لم يقع ذلك كان خارجًا عن نمط الحكمة وسبيل العدل إلى الجور والسفه تعالى الله عن ذلك

(4)

.

ومن لم يقل بذلك قال له سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

ومن هؤلاء من ينكر التعليل، فعنده أن الله تعالى يفعل بمحض المشيئة، ومنهم من قال هو سبحانه وتعالى يأمر بما فيه صلاح العباد، وينهى عما فيه فسادهم.

(1)

انظر: التبصرة (262).

(2)

انظر: التبصرة (262).

(3)

انظر: المستصفى (1/ 122) الإحكام (3/ 180)، المعتمد (1/ 400)، الواضح (1/ 236).

(4)

انظر: الواضح (1/ 236).

ص: 45

‌الخامسة: عدم جواز نسخ الحكم إلى غير بدل عند القائلين بوجوب رعاية الأصلح

؛ لعدم مصلحة العباد - في عقولهم -أن يرفع عنهم الحكم دون أن يُثبت بدلا عنه، إذ ليس من الصلاح أن يترك عباده هملًا من التكليف

(1)

.

وقد نوقش هذا من وجهين:

الأول: لا نسلِّم بالمصلحة أصلًا، فإن الشرع لا ينبني عليها

(2)

.

وهذا الجواب مبني على المناقضة في الأصل، وهو جار على أصول الأشاعرة ونحوهم ممن ينكر التعليل.

الثاني: أننا لا نسلِّم أن المصلحة في إثبات البدل، بل قد تكون المصلحة في رفعه دون بدل، ومن ذلك السلامة من عدم الإخلال به

(3)

.

‌السادسة: من نسخ الكتاب بالسنة المتواترة عند القائلين بوجوب رعاية الأصلح

؛ لأن الأمر من الله تعالى يدل على أن الشيء صلاح للمكلف، وما كان صلاحًا لا يجوز للحكيم أن ينهى عنه

(4)

.

وهذا الوجه لا يظهر تعلقه بهذه المسألة، ولهذا اعترض عليه بأنه يعود على أصل النسخ بالإبطال.

ونوقش أيضًا: بأن الصلاح وعدمه تابعان للأمر والنهي الشرعيين، فإذا ورد الأمر علم أن فيه صلاحًا، وإذا زال علم أنه لا صلاح فيه

(5)

.

(1)

انظر: المستصفى (1/ 119)، ميزان الأصول (2/ 1000) الوصول (2/ 21)، شرح المحلي مع حاشية البناني (2/ 133)، الآيات البينات (3/ 206).

(2)

انظر: المستصفى (1/ 119)، الإحكام (3/ 135)، حاشية البناني (2/ 133).

(3)

انظر: المستصفى (1/ 119)، الإحكام (3/ 135)، حاشية البناني (2/ 133).

(4)

انظر: التلخيص (2/ 518 - 519)، الواضح (4/ 266)، أصول ابن مفلح (3/ 1154).

(5)

انظر: التلخيص (2/ 519)، الواضح (4/ 266).

ص: 46

‌السابعة: منع المعصية قبل ورود البعثة على النبي صلى الله عليه وسلم عقلًا عند القائل بوجوب رعاية الأصلح

؛ لأن من قال بوجوب رعاية المصلحة منع المعصية على النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته عقلًا؛ لأن المعصية توجب احتقارًا لصاحبها فتنفر الطبائع عن اتباعهم، وذلك خلاف المصلحة، ولذا يمتنع أن يقع ما هو خلاف المصلحة.

ومن لم يقل بوجوب رعاية المصلحة قال لا يمتنع عليه تعالى فعل شيء، فله أن يفعل ما يريد، ويحكم بما يشاء، ومن ذلك المعصية من النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

(1)

.

‌الثامنة: منع العمل بالقياس عقلًا عند القائل بوجوب رعاية الأصلح

(2)

؛ لأن القياس رجم بالظن، والرجم بالظن جهل، ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا به، ويحكموا بما يجوز أن يكون مخالفًا لحكم الله تعالى

(3)

.

أما من قال بالوجوب من القائلين بوجوب رعاية المصلحة فقال: إن النصوص لا تحيط بالحوادث، ولذا كان من الواجب أن يكون للناس طريق صالح لإثبات الحكم فيما لا نهاية له، ولا طريق لذلك إلا بالقياس، فكان في القياس مصلحة للخلق، والله تعالى يجب عليه رعاية مصالح الخلق، ولذا وجب العمل بالقياس لتحقيق تلك المصالح

(4)

.

ومن لم يقل بوجوب رعاية المصلحة فلا يلزمه ذلك.

(1)

انظر: شرح الأصول الخمسة (574)، البحر المحيط (4/ 169)، شرح العضد (2/ 22)، نهاية الوصول لابن الساعاتي (1/ 254)، أصول ابن مفلح (1/ 322)، التحبير (3/ 1440).

(2)

انظر: البرهان (2/ 494)، وانظر: التلخيص (3/ 156، 157، 160) الإحكام (4/ 18)، العدة (4/ 1287)، إحكام الفصول (2/ 538)، المستصفى (2/ 235).

(3)

انظر: البرهان (2/ 492)، الإحكام (4/ 11).

(4)

انظر: المعتمد (2/ 725)، الإحكام (4/ 13)، نهاية الوصول (7/ 3077، 3075).

ص: 47

‌التاسعة: أفعال الله وأحكامه معللة بالمصلحة

؛ وذلك رعاية للمصلحة

(1)

، وعليه فإنه «لا يصح أن يفعل فعلًا إلا لمصلحة العباد»

(2)

.

ومن لم يقل بذلك لم يلزمه ذلك.

‌العاشرة: شرع من قبلنا حجة عند من قال بوجوب رعاية الأصلح على الله

؛ معللين ذلك بقولهم: بأن مجيء النبي بشريعة آخر عبث لا فائدة فيه، «والحكيم لا يفعل فعلًا إلا لحكمة وغرض، والفعل من غير غرض سفه وعبث»

(3)

.

‌الحادية عشرة: منع اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم عند القائل بوجوب رعاية المصلحة على الله بحسب زعمهم،

«إن وافق الصلاح، فيمتنع أن يوافق في الجميع»

(4)

.

بإدارك المصالح في مختلف الأحكام والأوقات، بل إن اختياره واجتهاده متردد «بين أن يكون مصلحة، وبين أن يكون مفسدة، فلا يؤمن من اختياره المفسدة، وذلك خلاف ما وضعت له الشريعة، وهي المصالح»

(5)

.

‌الثانية عشرة: منع التقليد في الفروع عند القائل بوجوب مراعاة المصلحة على الله

؛ لأنّ العامي لا يأمن زلل ذلك المجتهد ووقوعه في الخطأ

(6)

.

(1)

العدة (2/ 421)، وانظر: التوضيح (2/ 134)، تعليل الإحكام لشلبي (98).

(2)

شرح المعالم (2/ 298).

(3)

نهاية الإقدام للآمدي (397)

(4)

روضة الناظر (3/ 970).

(5)

شرح المختصر للشيرازي (5/ 190). وانظر المستصفى (2/ 396)، والإحكام للأمدي (4/ 206)، وآراء المعتزلة الأصولية (ص 577)، وبناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 177).

(6)

انظر: بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 330)، وآراء المعتزلة الأصولية (ص 619)، وأسباب الخلاف للغامدي (ص 419).

ص: 48

‌الثالثة عشرة: منع المقلد والمستفتي من التخيير بين الأحكام والفتاوى عند تعددها،

بل يجب عليه الأخذ بأشدِّها وأحوطها؛ رعاية للمصلحة فيه من تحصيل الأجر، والابتعاد عن الاثم

(1)

.

(1)

انظر: المعتمد (2/ 364)، التلخيص (3/ 468)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 387 - 388)، وآراء المعتزلة الأصولية (ص 628)، أسباب الخلاف للغامدي (ص 382).

ص: 49

‌المبحث السادس تكليف ما لا يطاق

انعقد الإجماع على أن التكليف بالمستحيل لذاته أو عادة غير واقع في الشريعة، كالجمع بين الضدين، والطيران والمشي على الوجه، ونحو ذلك، وعندئذ أمكن القول بأن تكليف ما لا يطاق على ضربين

(1)

:

أحدهما: ما لا يطاق لوجود ضده من العجز، مثل تكليف المقعد القيام، والأعمى الخط ونقط الكتاب، فهذا قد انعقد الإجماع على عدم وقوعه في الشريعة، لأن عدم الطاقة فيه ملحقة بالممتنع والمستحيل

(2)

.

والثاني: تكليف من علم الله كفره بالإيمان، علما بأن الإيمان في نفسه ممكن مقدور، فهذا التكليف به واقع قطعًا لكن بالغ الرازي ومن تبعه فسموه تكليفًا بما لا يطاق، وهذا خلاف الشرع، وأدخلوا هذا ضمن حججهم في جواز تكليف ما لا يطاق!.

وللناس كلام طويل في تحقيق مذهب أبي الحسن الأشعري، هل هو من القائلين بتكليف ما لا يطاق بناء على رأيه في قدرة المكلف أنها لا تكون قبل الفعل، وهي لا تبقى زمانين، فيلزم أن يكون العبد مكلفا بما لا يطيقه لعدم قدرته!، فهذا

(1)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 298 - 302).

(2)

والقول بأن التكليف بالمستحيل لذاته أو المستحيل عادة جائز عقلا، مما لا فائدة من بحثه أصلًا! انظر: إرشاد الفحول (1/ 69 - 70).

ص: 50

لازم مذهبه، وهو غير لازم له

(1)

.

والنزاع في مثل هذا أكثره لفظي، ولكن منه ما هو اعتباري، فالقول بأن التكليف بما علم الله أنه لا يقع يسمى تكليفًا بما لا يطاق ليس صحيحًا، لكن مع ذلك قال أصحابه: إنه واقع في الشريعة، لكن القول بأن العبد ليست له قدرة بإطلاق، أو له قدرة ولا يوجد توفيق خاص لأهل الإيمان، فالنزاع فيه حقيقي

(2)

.

والرازي يميل أحيانًا إلى الجبر المحض كما صنع في كتابه المحصول

(3)

.

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

‌المسألة الأولى: عدم التكليف بالمعدوم

(4)

، لعدم تعلق القدرة به،

والإمكان شرط في التكليف، ومن لم يجعل الإمكان شرطًا في التكليف؛ فإنّه يجوِّز تكليف ما لا يطاق، فلا يمتنع عنده، أن يكون المطلوب عدمًا أو غيره؛ لأنّ غايته أنه تكليف بمحال، وهو على هذا القول جائز

(5)

.

والقول بأن تعلق التكليف بالعدم، تكليف بما لا يطاق غير مسلم عند من يثبت

(1)

انظر: البرهان للجويني (1/ 89)، والإحكام للآمدي (1/ 133 - 134)، ونهاية الوصول للهندي (3/ 28)، (1/ 103)، ونهاية السول (1/ 148)، والإبهاج (1/ 171)، والبحر المحيط (2/ 111 - 114)، 156).

(2)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 300 - 302).

(3)

ووافقه على هذا ابن السبكي في جمع الجوامع انظره مع الآيات البينات (1/ 358).

(4)

المقصود بالعدم هنا: العدم الأصلي؛ «لأنّ العدم الذي يقدر عليه، إنّما هو العدم المطلق، لا لعدم المضاف» نهاية السول (2/ 307).

«إذ يمكنه أن لا يفعل فيستمر، وأن يفعل فلا يستمر» شرح العضد (2/ 14).

(5)

انظر: تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 130) والإبهاج (2/ 73) ومختصر المنتهى مع رفع الحاجب (2/ 55) وشرح التنقيح (ص 171) البحر المحيط (2/ 435) تشنيف المسامع (1/ 134).

ص: 51

القدرة السابقة على الفعل التي هي توفر الأسباب وسلامة الأعضاء

(1)

.

تنبيه: ذكر بعض الأصوليين تناقض من قال: بجواز التكليف بالمحال مع قوله: إنّه لا تكليف إلا بفعل

(2)

.

‌الثانية: القول ببقاء التكاليف بعد فتور الشريعة

ممن لا يرى حكمًا لغير الشّرع قول بتكليف ما لا يطاق؛ لتعذر الوصول إليه، والعلم به

(3)

.

‌الثالثة: عدم جواز تكليف الغافل «كالنائم والناسي

؛ لمضادة هذه الأمور الفهم، فينتفي شرط صحة التكليف، وهذا بناء على امتناع التكليف بالمحال»

(4)

.

وكذا المجنون «ليس بمكلف إجماعا، ويستحيل تكليفه؛ لأنّه لا يعقل الأمر والنهي، ولا يبعد من القائلين تكليف ما لا يطاق جواز تكليفه كالغافل»

(5)

.

ومثلهم: الصبي، والمغمى عليه، والسكران، والمخطئ فيما هو مخطئ فيه، إلا على القول بتكليف ما لا يطاق

(6)

.

‌الرابعة: منع تكليف المكرَه ممن يمنع تكليف ما لا يطاق

؛ لأنّه لا يجوز تكليف غير القادر، والمكره كذلك

(7)

.

(1)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 132 - 133).

(2)

انظر: حاشية العطار (2/ 172) تخريج الأصول على الأصول (ص 132).

(3)

انظر: البرهان (2/ 881) المنخول (ص 485) البحر المحيط (1/ 164) تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 235).

(4)

البحر المحيط (1/ 351).

(5)

البحر المحيط (1/ 350). وانظر سلاسل الذهب (ص 140).

(6)

انظر: المستصفى (1/ 281)، أصول الفقه لابن مفلح (1/ 277)، الإبهاج (1/ 156)، تخريج الأصول على الأصول للعمري (243 - 244).

(7)

انظر: الإحكام (1/ 205)، الإبهاج (1/ 162)، القواعد والفوائد (ص 73) تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 270).

ص: 52

‌الخامسة: التكليف بخلاف ما علمه الله، كتكليف الكافر الذي علم الله أنه يموت على الكفر بالإيمان،

ممكن في نفسه، وليس محالًا بل هو واقع، ومن قال: إنّه مستحيل قال: إنّ التكليف به تكليف بما لا يطاق على الخلاف في جوازه وعدمه

(1)

.

‌السادسة: التمكن ليس شرطًا للتكليف عند القائل بجواز تكليف ما لا يطاق،

فيجوز تكليف من علم الله أنّه لا يتمكن من الفعل في الوقت

(2)

.

وأما القائل بامتناع تكليف ما لا يطاق، فتبنى المسألة عندهم على مسألتي تلازم الأمر والإرادة، والحكمة من التكليف.

فمن حصر فائدة التكليف بالامتثال، وكان الامتثال ممتنعًا لعدم القدرة عليه، امتنع كتكليف لامتناع فائدته.

ومن لم يشترط الإرادة للأمر، وجعل حكمة التكليف إمّا الامتثال، وإمّا الإرادة -وهم أهل السنة- فلم يمنعوا من التكليف بما علم الله عدم تمكن المكلف منه في الوقت؛ لأنّه وإن لم يحصل الامتثال، إلا أن للتكليف به فائدة أخرى: هي ابتلاء عزم المكلف على الفعل

(3)

.

‌السابعة:، منع التكليف بما كان مشروطًا بشرط مستحيل عند من يمنع تكليف ما لا يطاق

؛ لأنّ المشروط لا يوجد بدون شرطه.

وأمّا من جوَّز تكليف ما لا يطاق، فإن كان لا ينظر في أفعال الله تعالى وأوامره إلى الحكمة والتعليل، فإنّه يجوِّز التكليف بالمشروط بشرط مستحيل، وحجته أنّ

(1)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 365) البرهان (1/ 90) البحر المحيط (1/ 375).

(2)

انظر: العدة (2/ 392) المسودة (ص 52) البحر المحيط (1/ 267) تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 373).

(3)

تخريج الأصول على الأصول (ص 373 - 374) تشنيف المسامع (1/ 138) نثر الورود (1/ 62 - 63).

ص: 53

لله أن يتصرف في ملكه بما شاء من أفعال وأوامر، ومن جملة ذلك هذا التكليف.

وإن كان يقول: إن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة، ولا تخلو من فوائد وحِكم؛ فإنّه يمنع هذا التكليف؛ لأنّه إنما أجاز تكليف ما لا يطاق عنده لما فيه من حكمة الابتلاء للمكلف، أو الإعلام بنزول العذاب به، وهذه الحكمة لا تتأتى هنا، فامتنع التكليف بالممكن المشروط بالمستحيل على القول بتجويز المحال

(1)

.

‌الثامنة: يتوجه التكليف على المكلَّف في كل وقت،

سواء كان المكلف وقت التوجه قادرًا أو غير قادر عند القائل بجواز تكليف ما لا يطاق.

ومن منع تكليف ما لا يطاق، فقياس مذهبه في هذه المسألة -وقت توجيه التكليف- أن يجعل التكليف مقارنًا للقدرة، حتى لا يكون تكليف ولا قدرة

(2)

.

‌التاسعة: اتفق العلماء على أن التكليف بالفعل المجهول

-أي: الذي ليس معلوم الحقيقة للمكلف- لم يقع في الشريعة

(3)

؛ لذا نقلوا الإجماع على أنّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

واختلفوا في جوازه عقلًا، فمن منع تكليف ما لا يطاق عقلًا، منع من التكليف بالمجهول، واشترط في التكليف العلم بالتكليف، والعلم بالمكلَّف به.

ومن جوَّز تكليف ما لا يطاق، فبعضهم طرد أصله هنا فجوَّز التكليف بالمجهول، ولم يشترط العلم، وبعضهم منع التكليف بالمجهول لأسباب،

(1)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 397 - 398)، وانظر: نهاية الوصول للهندي (3/ 1086) البحر المحيط (1/ 371 - 393) منتهى السول للأمدي (ص 44) والإحكام (1/ 207 - 209).

(2)

تخريج الأصول على الأصول (ص 402). وعليه تبنى مسألة وقت توجيه التكليف على مسألة وقت القدرة.

(3)

انظر: الإحكام (1/ 252)، البحر المحيط (3/ 493) تخريج الأصول على الأصول ح (1)(ص 423).

ص: 54

وفي الجملة ما تقدّم من تفريع مسألة تكليف الغافل على مسألة تكليف ما لا يطاق يأتي هنا

(1)

.

‌العاشرة: التكليف بفعل العبادة في وقتٍ لا يتسع لها،

لم يقع في الشريعة، أما عقلا فعلى القول بتكليف ما لا يطاق

(2)

.

‌الحادية عشرة: من قسَّم ما لا يتم الواجب إلا به إلى قسمين:

أحدهما: ما لا يقع تحت قدرة المكلف، جعل إيجاب هذا القسم ممتنعًا إلا على القول بتكليف ما لا يطاق

(3)

.

وجعل كثير من الأصوليين إيجاب الواجب من غير إيجاب لما لا يتم إلا به تكليفًا بالمحال

(4)

.

‌الثانية عشرة: يستحيل عقلًا أن يكون الشيء الواحد بالشخص حرامًا واجبًا من جهة واحدة

؛ لتضمنه الحكم بجواز الترك وعدمه؛ وذلك جمع بين النقيضين، فكان من قبيل المحال لذاته، وعليه فجواز ورود الشرع بذلك محال، فيتخرج

(1)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 424) شرح مختصر الروضة (1/ 221) الإحكام (2/ 256).

(2)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 430) التلخيص (1/ 101) المحصول (2/ 173) شرح مختصر الروضة (1/ 312) شرح الكوكب المنير (1/ 368) الإبهاج (1/ 94).

(3)

تخريج الأصول على الأصول (ص 506)، التلخيص (1/ 291) المستصفى (1/ 231)، المحصول (2/ 190)، الإحكام (2/ 150) شرح تنقيح الفصول (ص 160) شرح مختصر الروضة (1/ 336) الإبهاج (1/ 103) البحر المحيط (1/ 224).

(4)

ذكروا ثلاثة أوجه: «ترجع كلها إلى أن التكليف بالفعل بدون التكليف بمقدمته التي يتوقف عليها وجوده، يؤدي إلى التكليف باجتماع النقيضين، وهو تكلف بالمحال» قاله المطيعي في حاشيته سلم الوصول (1/ 206)، وانظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 507 - 508) والمحصول (2/ 190)، نهاية الوصول (2/ 577) الإبهاج (1/ 110)، نهاية السول (1/ 206 - 207) شرح مختصر الروضة (1/ 338).

ص: 55

التكليف به على الخلاف في تكليف المحال، فمن جوزه جوزه؛ لأنّه فرد من أفراده، ومن منعه منعه

(1)

.

وإذا كان الواحد بالشخص له جهتان متلازمتان، لا يتصور انفكاكهما؛ فإنهما في حكم الجهة الواحدة؛ ولذا فإنَّ اجتماع الأمر به والنهي عنه باعتبار جهتيه محالًا، كالأمر بالواحد بالشخص، والنهي عنه من جهة واحدة؛ وذلك لتلازمهما، والإتيان باللازم دون الملزوم محال

(2)

.

‌الثالثة عشرة: لا يجوز أن يرد في الكتاب ما لا يفهم معناه مما له تعلق بالتكليف

(3)

؛ لأن الشارع إن خاطب العبد وكلَّفه بما لا يفهم كان في ذلك تكليفًا له بما لا يطيقه

(4)

.

‌الرابعة عشرة: منع القول بقبول جميع الأحكام للنسخ،

إلا على القول بتكليف ما لا يطاق؛ لأنه يلزم منه جواز نسخ ما لا يقبل إلا وجهًا واحدًا،

أنه إذا جاز تكليف ما لا يطاق جاز أنه يكلف باعتقاد تحريم ما لا يقبل إلا وجهًا واحدًا، وإذا جاز ذلك جاز النسخ له؛ لأنه إذا تصور التكليف بتحريم الاعتقاد تصور بقية الأحكام الخمسة، فأمكن التنقل بينها بالنسخ

(5)

.

(1)

تخريج الأصول على الأصول (ص 619)، وانظر: الإحكام (1/ 155 - 206)، منتهى السول له (ص 33)، مجموع الفتاوى (19/ 299) المحصول (2/ 285 - 287).

(2)

تخريج الأصول على الأصول (ص 620) المحصول (2/ 288) البحر المحيط (1/ 267).

(3)

ترجم كثير من الأصوليين لهذه المسألة بقريب من هذه العبارة: انظر: الوصول (1/ 113)، الإحكام (1/ 167)، أصول ابن مفلح (1/ 316)، التحبير (3/ 1406)، فواتح الرحموت (2/ 17).

(4)

انظر: البرهان (1/ 285) الإحكام (1/ 168)، نهاية الوصول (1/ 253)، أصول ابن مفلح (1/ 317)، التحبير (3/ 1407)، شرح الكوكب (2/ 149).

(5)

انظر: نفائس الأصول (6/ 2541).

ص: 56

‌الخامسة عشرة: منع نسخ المأمور به قبل التمكن من الفعل

؛ لأنه لو أمره بالفعل وأراده منه، ثم منعه كان قد كلَّفه ما لا يطيقه، وهذا ما يكون في النسخ قبل التمكن؛ لأن الله تعالى إذا أمر المكلف بأمر فهو يريده منه، فلا يتصور أن يأمره ويريده منه، ثم ينسخه قبل امتثال العبد له

(1)

.

وأمَّا على القول بجواز التكليف بما لا يطاق فإن ذلك متصور، فيجوز أن يكلِّفه بالأمر، وهو يريد إيقاعه منه ثم ينسخه.

‌السادسة عشرة: عدم ثبوت النسخ في حق من لم يبلغه

؛ لأن التكليف مشروط بالعلم بالمكلف به والقدرة عليه، وإذا لم يكن الأمر المكلف به كذلك كان غير مقدور عليه، وكان التكليف به تكليفًا بما لا يطاق، وتكليف من لم يبلغه النسخ بحكم الناسخ هو تكليف له بما لم يعلمه ولم يمكنه؛ لأن الإمكان مترتب على العلم، ولذا كان جزءًا من مسألة التكليف بما لا يطاق

(2)

.

وهذا البناء قصره بعضهم على طلب الامتثال، أما الاستقرار في الذمة فليس من تكليف ما لا يطاق، فهو كالنائم ونحوه، أو هو من خطاب الوضع، فلا يشترط فيه العلم

(3)

، ومنهم من عمَّمه على القسمين؛ لأن الثبوت في الذمة حكم، وهو لا يثبت إلا بعد العلم، فلا يقضي ما لم يعلم بوجوبه

(4)

.

وكلام الأصوليين في نسبة هذه المسألة إلى أصل التكليف بما لا يطاق لا يخلو من حالين:

الحال الأولى: أن يكون الكلام مرتبطًا بطلب الامتثال وثبوت الإثم مع عدم

(1)

انظر: المعتمد (1/ 407، 413)، التلخيص (1/ 146 - 147)، (2/ 490) سلاسل الذهب (296).

(2)

انظر: التلخيص (2/ 540)، قواطع الأدلة (1/ 459)، المنخول (397).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 83 - 84).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (19/ 226 - 227).

ص: 57

الفعل، وأن هذا هو الذي يكون من تكليف ما لا يطاق دون الاستقرار في الذمة فإنه مما تجوِّزه العقول.

وعلى هذا جرى الجويني، والغزالي، وغيرهما

(1)

.

الحال الثانية: أن يكون الكلام مرتبطًا بالقسمين، وهذا هو المفهوم من كلام ابن تيمية

(2)

.

‌السابعة عشرة: حجية العرف

؛ لأن عدم اعتبار عوائد الناس والمكلفين مما يسبب الحرج والمشقة مما لا يطيقونه، لأنه يؤدي إلى توجيه التكليف إلى غير العالم

(3)

.

‌الثامنة عشرة: عدم جواز الاستدلال على الحكم بعدم الدليل

؛ «لأنه لو ثبت حكم شرعي ولا دليل للزم منه تكليف المحال»

(4)

.

‌التاسعة عشرة: الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، بل هو مستلزم للنهي

عن ضده عند من يقول بعدم جواز تكليف ما لا يطاق.

وأما على القول بجوازه، «فالأمر بالفعل لا يكون بعينه نهيًا عن أضداده، ولا مستلزما للنهي عنها، بل جائز أن نؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة، فضلًا عن كونه لا يكون منهيا عنه»

(5)

.

(1)

انظر: البرهان (2/ 855)، المنخول (397).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (19/ 226 - 227).

(3)

البحر المحيط (8/ 6)، وانظر بناء الأصول لأسمهان العمري (153).

(4)

البحر المحيط (8/ 6)، وانظر بناء الأصول للعمري (345 - 246).

(5)

الإحكام للأمدي (2/ 212)، وانظر: الإبهاج (2/ 337)، وأسباب الخلاف للسهلي (ص 476 - 477).

ص: 58

ومثل هذا الخلاف يجري في مسألة النهي عن الشيء هل هو أمر بضده

(1)

.

‌العشرون: لا يلزم المجتهد إصابة الحق، بل عليه بذل الجهد واستفراغ الوُسع في إصابة الحق

على القول بعدم التكليف بما لا يطاق؛ لأنّ الله أخفاه فوجب الاجتهاد في طلبه، و «ما أخفاه الله، لا طريق لنا إلى إظهاره، وفي إلزامه تكليف ما لا يطاق»

(2)

.

‌الحادية والعشرون: وجوب تقليد العامي للمجتهد

؛ لأنّ في تكليفه الاجتهاد في كل مسألة تكليف بما لا يطاق، وكذا القول بأنّه: «لا يجوز للعامي العمل بقول العالم، حتى يعرف علة الحكم

تكليف ما لا يطيقه»

(3)

؛ لأنّ القدرة على معرفة الأحكام «من الأدلة المنفصلة تتعذر أو تتعسر على أكثر العامة»

(4)

.

‌الثانية والعشرون: جواز تقليد أي واحد من المجتهدين عند تعددهم دون اشتراط الاجتهاد في أعيانهم

؛ لأننا «لو كلفنا العامي بمعرفة الفاضل من المفضول لكان تكليفًا بالمحال»

(5)

.

(1)

انظر: أسباب الخلاف للسهلي (ص 555 - 556).

(2)

البحر المحيط (6/ 235)، وانظر: بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 226) أسباب الخلاف للغامدي (ص 234).

(3)

الفقيه والمتفقه (2/ 134 - 135)، وانظر: أسباب الخلاف للغامدي (ص 259)

(4)

مجموع الفتاوى (20/ 303).

(5)

نشر البنود (2/ 325)، وانظر: العضد (2/ 309) بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 382)، أسباب الخلاف للغامدي (ص 423).

ص: 59

‌المبحث السابع التصويب والتخطئة

حكى الأصوليون الإجماع القديم على أن الحق واحد لا يتعدد، ثم أشاروا إلى خلاف حادث نسبوه إلى الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري. وهو أنهما قالا: إن كل مجتهد في الأصول مصيب!، وقد اختلفوا في تصوير ما نقل عنه

(1)

.

ولا عبرة بخلافهما؛ لأنه خلاف حادث لا يلتفت إليه

(2)

.

وقد دلَّت نصوص كثيرة على أنه لا يكون القولان المتقابلان صوابًا مثل قول الله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] وقال {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]

(1)

فقيل في ذلك ثلاثة أقوال:

1.

إن كل مجتهد في الأصول مصيب، وهذا يعني تصويب من اجتهد من النصارى واليهود والوثنيين الذين لم يهتدوا إلى الإسلام! وهذا أشنع ما نقل عنه.

2.

إن المجتهدين من أهل القبلة هم المصيبون دون من سواهم، وهذا أقل شناعة من الذي قبله.

3.

إن المخطيء في الأصول من أهل القبلة معذور، وهذا النقل يفيد أن الحق لا يتعدد في الأصول، لكن المخطيء المجتهد الذي بذل وسعه لا يأثم ويعذر في خطئه.

انظر: المستصفى (2/ 359)، والوصول إلى الأصول (2/ 337)، وميزان الأصول للسمرقندي (755)، وروضة الناظر (2/ 418)، والإبهاج (3/ 257)، و البحر المحيط للزركشي (8/ 276 - 277)، وشرح العضد (2/ 293).

(2)

انظر: الإحكام للآمدي (4/ 179 - 180)، ونهاية السول (4/ 558).

ص: 60

وقال: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [الأنعام: 93] فهذه الأدلة صريحة في أن الحق في واحد من القولين أو الأقوال المتقابلة.

وقد أجمع العلماء على بطلان مذاهب البراهمة واليهود والنصارى، فلو تعدد الحق لكانت تلك المذاهب صحيحة وحقًا، وحتى فيما دون ذلك مما اختلف فيه أهل القبلة؛ فإن الصحابة قد ثبت عنهم بلا نزاع تخطئة من خالف في الأصول،، فقاتلوا مانعي الزكاة والخوارج، ومن أدرك منهم القدرية فقد خطأهم، وهذا صنيع التابعين من بعدهم، فكان إجماعًا

(1)

.

أما حكم المخطئ في الاجتهاد في أصول الدين هل يعد آثمًا؟ وهل يكفر به؟.

فجمهور المصنفين في الأصول يطلقون القول بتأثيمه، ثم يتنازعون في تكفيره، وينقلون رأيًا يعدونه شاذًا وينسبونه إلى العنبري والجاحظ، وهو أن المجتهد المخطيء غير آثم ومعذور عند الله.

وهذا القول الذي عدوه شاذًا، إذا حرر بذكر الشروط والموانع، كان هو قول السلف بلا شك.

والحجة التي يعتمد عليها من يقول بتأثيمه: أنه قد ثبت قتال الصحابة للمبتدعة، وتخطأتهم، كالخوارج، وثبت ذمهم للقدرية، وكذلك قد ثبت عن الأئمة الأعلام ردّ شهادة بعض أهل الأهواء، ونقل عنهم تكفير من قال بخلق القرآن، ونحو ذلك، ثم يخلصون إلى أن ذلك كان إجماعًا منهم

(2)

.

(1)

انظر: المعتمد (2/ 400)، والبرهان (2/ 860 - 861)، وشرح اللمع (2/ 1044)، والتمهيد للكلوذاني (4/ 309)، والوصول إلى الأصول (2/ 338)، وميزان الأصول (755).

(2)

انظر: المستصفى (2/ 362)، والوصول إلى الأصول (2/ 340)، والتحصيل (2/ 290)، وشرح مختصر الروضة (3/ 611)، والتقرير والتحبير (3/ 305).

ص: 61

ومن قال بعدم تأثيمهم استدل بذلك على رفع الإثم عمن أخطأ خطًا يعذر به؛ فمن ذلك:

الدليل الأول: قال الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح قال:(قال الله: قد فعلت)

(1)

وهذا فيمن أخطأ من المسلمين مريدًا للحق، ولكن أخطأه إما بتأويل محتمل للنص إن بلغه، أو لعدم بلوغه له، ولا فرق بين الأصول والفروع في ذلك، فمن فرق فعليه الدليل

(2)

.

الدليل الثاني: قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] ووجه الاستدلال: أن الله رفع الجناح والإثم عمن خاطبهم من المسلمين الذين أخطأوا فيما أخطأوا فيه، وتحمل الآية على العموم في الأصول والفروع لعدم الفرق

(3)

.

والضابط المقرب لما سبق في حكم المخطيء من المسلمين:

(أ) أن ينظر أولًا في المسألة التي وقع فيها الخطأ، فيشترط أن تكون شرعية لا عقلية كلامية، لأن الحكم للشرع، ثم ينظر هل هي من الأمور الدقيقة الخفية -ولو بحثت في ضمن أصول الدين-، أو هي ظاهرة جلية معلومة علمًا ضروريًا -وإن بحثت في ضمن الفروع-؟ فإن كانت من الأول فالخطأ فيها محتمل قريب، وإن كانت من الثاني فينظر فيما يلي:

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب بيان أن الله لم يكلف إلا ما يطاق رقم (126).

(2)

انظر: منهاج السنة (5/ 91)، ومجموع الفتاوى (19/ 210)، 216)، (12/ 489)، (20/ 263 - 268)، وفتح الباري (12/ 304).

(3)

انظر: الفصل لابن حزم (3/ 301)، ومجموع الفتاوى (12/ 489)، (20/ 33 - 36)، وإيثار الحق على الخلق (435 - 436).

ص: 62

ينظر في اختلاف أحوال الناس، وذلك من جهات:

(1)

عدم بلوغ العلم له أصلًا خاصة إذا كانت المسألة ليست معلومة عند الخاصة والعامة، إذ بعض المسائل المجمع عليها، قد ينفرد بالعلم بها العلماء لا عوام الناس

(1)

.

(2)

أن يكون من جهل ذلك حديث عهد بالإسلام

(2)

.

(3)

قد يكون في زمن كثر فيه الجهل ولم تتميز السنة من البدعة عنده، أو قد تندرس بعض معالم الرسالة، خاصة قرب آخر الزمان

(3)

.

(4)

ينظر في المكان الذي هو فيه، فقد يكون في مكان ينتشر فيه الجهل والخطأ، ولم يبلغه العلم الصحيح في كل المسائل

(4)

.

(ب) ينظر في انتفاء الموانع: وأكثرها يرجع إلى:

(1)

الجهل: وشرطه ألا يكون مقصرًا في طلب الحق، أو مقلدًا معرضًا عن طلبه

(5)

.

(2)

التأويل: وشرطه أن تحتمله الأدلة من الكتاب والسنة، وتحتمله اللغة احتمالًا ظاهرًا

(6)

.

(1)

انظر: الرسالة للإمام الشافعي (359 - 360)، وجامع العلوم والحكم (67). وانظر ما سيأتي ذكره عن عارض الجهل في فقرة (ب).

(2)

انظر: كشف الأسرار (4/ 560 - 563).

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 408).

(4)

انظر المصدر نفسه.

(5)

انظر: ميزان الأصول للسمرقندي (1/ 285)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 346)، والرد على البكري له (ص 259)، وشرح التلويح على التوضيح (2/ 377 - 389)، وكشف الأسرار (4/ 534 - 536)، 545 - 548)، وفواتح الرحموت (2/ 387 - 392).

(6)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 283 - 284)، (20/ 263 - 268)، والاستقامة له (2/ 188 - 189)، وفتح الباري لابن حجر (12/ 304).

ص: 63

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

‌المسألة الأولى: من اشتبه عليه الحرام بالحلال،

وهو قائل بأن للواقعة حكمًا في نفس الأمر، والمجتهد بين مصيب ومخطئ، فإن عليه أن يرجع إلى أصله، فإن كان أصله التحريم، فإنه يحكم به بعد الاشتباه.

ومن قال: إن كل مجتهد مصيب، وليس لله في الواقعة حكم واحد، فحكم كل واقعة بالنسبة للمجتهد ما أداه إليه اجتهاده

(1)

.

ولا يوصف ما وقعت الشبهة في تحريمه بالكراهة عند القائل بأن كل مجتهد مصيب

(2)

.

‌الثانية: حجية الإجماع السكوتي،

قال الزركشي فيها: " خلاف مشهور ينبني التفاته على الخلاف في أن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد؟ وذلك لاحتمال أن الساكت إنما ترك الإنكار لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب".

‌الثالثة: منع تفويض الحكم للمجتهد بأن يحكم بما شاء من غير اجتهاد،

ويكون حكمه صوابًا، ومدركًا شرعيًا؛ «لأنّ الحق عند الله واحد»

(3)

، والاجتهاد قد يتعدد

(4)

.

‌الرابعة: جواز صدور قولين عن المجتهد،

«على القول: إن كل مجتهد مصيب، وأمّا على قوله عن المصيب واحد فلا»

(5)

.

‌الخامسة: ينتقض حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية،

إذا طرأ له ما يغير

(1)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 606)، المستصفى (1/ 234 - 235).

(2)

تخريج الأصول على الأصول (ص 654)، المستصفى (1/ 216 - 217)، البحر المحيط (1/ 297).

(3)

التمهيد لأبي الخطاب (4/ 374).

(4)

البحر المحيط (6/ 49)، أصول الفقه لابن مفلح (4/ 1521)، التحبير (8/ 3997)، شرح الكوكب المنير (4/ 521)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 204).

(5)

البحر المحيط (6/ 119)، وانظر: التلخيص (3/ 418)، بناء الأصول للمشعل (ص 233)، أسباب الخلاف للغامدي (ص 343).

ص: 64

حكمه على القول بأن المصيب واحد، ولا ينتقض على القول بتعدد الحق

(1)

.

‌السادسة: عدم تسمية ما توصل إليه المجتهد بالاجتهاد دينًا

عند من يقول: إن المصيب واحد، وما عداه خطأ؛ «لأنّه لا يأمن أن يكون ما أداه إليه اجتهاده خطأ»

(2)

.

السابعة: جواز تقليد العامي أيَّ مجتهد في المسائل الاجتهادية؛ بناء على القول بأن كل مجتهد مصيب

(3)

.

‌الثامنة: جواز تقليد المجتهد غيره من المجتهدين

؛ بناء على القول بأن كل مجتهد مصيب

(4)

.

‌التاسعة: إذا ورد على المكلَّف أكثر من حكم واجتهاد،

فيجوز له أخذ ما شاء منها؛ بناء على أن كل مجتهد مصيب، «ومن أوجب تقليد الأعلم، قال: المصيب واحد»

(5)

.

العاشرة: عدم لزوم التمذهب بناء على التصويب؛ «لأنّ الكل على الحق والصّواب»

(6)

.

(1)

انظر: العدة (5/ 1569)، شرح اللمع (2/ 1065) التمهيد لأبي الخطاب (4/ 332)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 280 - 281)، أسباب الخلاف للغامدي (ص 319).

(2)

انظر: الفصول للجصاص (4/ 372)، مجموع الفتاوى (4/ 168)، إعلام الموقعين (2/ 74 - 82)(6/ 72)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 286).

(3)

انظر: المحصول (6/ 110)، نفائس الأصول (9/ 4128) نهاية الوصول للهندي (8/ 3903) صفة الفتوى (ص 69) بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 332).

(4)

انظر: سلاسل الذهب (ص 446)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 376 - 377) أسباب الخلاف للغامدي (ص 442).

(5)

البحر المحيط (6/ 315)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 389)، أسباب الخلاف للغامدي (ص 381).

(6)

غاية السول (ص 433)، وانظر: صفة الفتوى (ص 72)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 403) أسباب الخلاف للغامدي (ص 463).

ص: 65

الحادية عشرة: جوزا تتبع الرخص عند القائل بأن كل مجتهد مصيب؛ لأنّ الرخصة المتبعة صدرت عن اجتهاد فهي حق وصواب

(1)

.

الثانية عشرة: عدم جواز تعادل الأمارتين أو الظنيات في نفس الأمر عند من يقول إن المصيب من المجتهدين واحد؛ لأنّه يمنع معرفة الحق من الخطأ

(2)

.

الثالثة عشرة: يتوقف المجتهد عند تعارض الأدلة عند من يقول إن المصيب واحد، أمّا القائل كل مجتهد مصيب؛ فإنّه يتخير

(3)

.

الرابعة عشرة: لا يجب العمل بالراجح في الظنيات، عند من يقول كل مجتهد مصيب، بخلاف من قال: إن المصيب واحد، فيجب عليه العمل بالراجح

(4)

.

الخامسة عشرة: يقع الترجيح بين المذاهب على القول بأن كل مجتهد مصيب، «إذ إنّ ماهية الصَّواب أو الخروج عن العهدة لا ترجيح فيه، ومن زعم أن ليس كل مجتهد مصيبًا، اتجه الترجيح عنده في المذاهب؛ لتتميز بالنظر الحجة من الشبهة، والراجح من المرجوح، والصَّواب من الخطأ»

(5)

.

(1)

انظر: البحر المحيط (6/ 224)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 417 - 418).

(2)

انظر: التبصرة (ص 510)، الابهاج (3/ 198)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 465 - 466) أسباب الخلاف الغامدي (ص 485).

(3)

انظر: التمهيد لأبي الخطاب (4/ 355)، شرح مختصر الروضة (3/ 627) بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 471).

(4)

انظر: نهاية الوصول للهندي (8/ 3650)، بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 484)، أسباب الخلاف الغامدي (ص 541).

(5)

شرح مختصر الروضة (3/ 685)، انظر: بناء الأصول على الأصول للمشعل (ص 497)، أسباب الخلاف الغامدي (618).

ص: 66

‌الفصل الثاني المسائل المتعلقة بالأسماء والصفات

ص: 67

‌المبحث الأول الاسم للمسمى

أدخلت هذه المسألة في علم أصول الفقه استطرادًا، وذلك عند بحثهم في اللغات في الكلام عن العام

(1)

، وعن نسبة الأسماء إلى المسميات

(2)

.

فالبزدوي لما عرف العام بقوله: «كل لفظ ينتظم جمعًا من الأسماء لفظًا أو معنىً) قال: «ومعنى قولنا من الأسماء: المسميات هنا)

(3)

علق عبد العزيز البخاري بقوله: «تفسيرُ الأسماء بالمسميات مع أن الاسم والمسمى واحد عندنا، احترازٌ عن التسميات؛ لأن الاسم يذكر ويراد به التسمية كما في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] أي: التسميات، وقوله عليه السلام:(إن لله تسعة وتسعين اسمًا)

(4)

.

والذي عليه جمهور أهل السنة أن الاسم للمسمى، ويفصلون إذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟، فيقولون: ليس هو نفس المسمى، ولكن يراد به المسمى

(5)

، فهو

(1)

انظر: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/ 95 - 96).

(2)

انظر: البحر المحيط للزركشي (2/ 307 - 308).

(3)

أصول البزدوي -مع شرحه كشف الأسرار- (1/ 95).

(4)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحدة رقم (7392)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الذكر والدعاء، باب في أسماء الله تعالى، برقم (2677).

(5)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 206 - 207).

ص: 69

موضوع لإظهار المسمى

(1)

.

واستدلوا على قولهم: الاسم للمسمى، بأدلة منها: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] وقوله: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا)

(2)

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب)

(3)

.

فكل تلك النصوص دالة على أن الاسم للمسمى، أي أنه موضوع له ليظهره ويدل عليه ويبينه.

ومن أهل السنة من قال: الاسم هو المسمى نفسه، وهؤلاء قالوه ردًا على المعتزلة القائلين بأن الاسم غير المسمى، وما كان غيره فهو مخلوق! ولا شك أنهم لا يريدون أن اللفظ المؤلف من الحرف هو نفس الشخص المسمى

(4)

.

ولذا كان أهل العلم بعد ذلك إذا سألوا هل الاسم غير المسمى؟ فصَّلوا فقالوا: إذا أريد أن الأسماء -التي هي أقوال- ليست هي المسميات نفسها: فهذا حق لا ينازع فيه أحد

(5)

، (وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماءً، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى)

(6)

اه

(1)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 206 - 207).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.

(3)

متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (3532)، وأخرجه مسلم (4/ 1828) -، كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، برقم (2354).

(4)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 188)، البحر المحيط للزركشي (2/ 307).

(5)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 203).

(6)

قاله ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية (ص 131)، وانظر: ما سيأتي إن شاء الله (ص 154).

ص: 70

وأما التسمية: فهي وضع الاسم للمُسمَّى

(1)

، والله هو المسمي لنفسه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(أسألك بكل اسم هو لك سمَّيْت به نفسك)

(2)

.

وذهبت إلى أن أسماء الله غير الله، وما كان غيره فهو مخلوق

(3)

، لذا انكروا صفات الله عز وجل

(4)

..

وللأشاعرة أقوال ثلاثة في المسألة:

الأول: أن الاسم هو المسمى نفسه

(5)

.

والثاني: أن الأسماء ثلاثة أقسام: ما دل على الذات كالموجود، فالاسم هنا هو المسمى نفسه، والقسم الثاني: ما اشتق من صفات المعاني كالسميع والعليم، فالاسم هنا لا هو المسمى ولا هو غير المسمى، والقسم الثالث: ما اشتق من الأفعال كالخالق والرازق، فالاسم هنا غير المسمى

(6)

، وأصحاب هذين القولين

(1)

انظر: القاموس المحيط (ص 1672)، والمعجم الوسيط (1/ 452) مادة [سمو].

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 391)، (5/ 267)، (6/ 153)، والحاكم في مستدركه (1/ 690)، برقم (1877)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 137):"رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني، وقد وثقه ابن حبان"اه وقد حسنه الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار للنووي. انظر: ملخصه المطبوع مع الأذكار (166).

(3)

انظر: الرد على بشر المريسي للدارمي (10).

(4)

تنازع الناس في هذه المسألة بعد زمن الإمام أحمد رحمه الله وقد كان الأئمة قبل ذلك يصرحون بالإنكار على الجهمية القائلين بأن أسماء الله مخلوقة ويقولون: الاسم غير المسمى، وأسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق!.

انظر: الرد على بشر المريسي للدارمي (ص 10)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 185 - 186). وانظر: ما نقل عن الإمام الشافعي في أدب الشافعي ومناقبه (ص 93)، والحلية (9/ 113)، والسنن الكبرى (10/ 28)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (2/ 211).

(5)

وهو المحكي عن أبي الحسن الأشعري: انظر شرح أسماء الله الحسنى للرازي (ص 21).

(6)

انظر: أصول الدين للبغدادي (ص 118)، والمواقف للإيجي (ص 343).

ص: 71

يزعمون أن الاسم يرد بمعنى التسمية كثيرًا

(1)

.

والقول الثالث: وهو للغزالي: واختاره الرازي: التفريق بين الاسم والمسمى والتسمية

(2)

.

وأصحاب الأقوال الثلاثة متفقون على أن الأسماء -التي هي الأقوال- مخلوقة، لأنها من جملة الكلام - ولكن أصحاب القولين الأولين قالوا: إن الأسماء ترد بمعنى التسمية، حتى يتأتى لهم القول بخلقها، ولا يناقضوا أقوال أئمة السنة الصريحة في أن الأسماء غير مخلوقة. فهؤلاء إذا قالوا: الأسماء غير مخلوقة أرادوا المسمى، أي أن الله غير مخلوق! أما الأسماء - التي هي الأقوال- فيقولون إنها تسميات!

(1)

انظر: تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد (ص 87).

(2)

انظر المقصد الأسنى شرح الأسماء الحسنى للغزالي (ص 29)، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي (ص 21).

ص: 72

‌المبحث الثاني حكم إطلاق الأسماء الحسنى بلا توقيف

وردت مسألة أسماء الله توقيفية، وجواز الإخبار عنها في علم أصول الفقه

(1)

في مواضع، ورودًا استطراديًا، وقد يحيلوها إلى كتب الكلام

(2)

، ومن تلك المواضع:

(1)

الكلام عن حكم القياس في اللغة

(3)

.

(2)

وفي المجاز، وهل يطلق على الله أنه متجوز؟

(4)

.

(3)

وفي تعريف العلم، فهل يطلق على علم الله أنه معرفة؟

(5)

.

(4)

وهل يطلق على الله أنه دليل

(6)

؟، وهل هو شيء

(7)

؟ وهل يطلق عليه أنه قديم

(8)

أو فرد أو فذ؟

(9)

.

(1)

انظر: شرح الكوكب المنير (1/ 287 - 290) وأدخلها الزركشي معنونًا لها بفائدة: أسماء الله الحسنى توقيفية في البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 248 - 249).

(2)

مثل الأسنوي في نهاية السول (1/ 9) حيث أشار إلى أبكار الأفكار للآمدي.

(3)

انظر المحصول للرازي (1/ 347)، و شرح الكوكب المنير (1/ 287).

(4)

انظر: المحصول للرازي (1/ 333 - 334) وكشف الأسرار (2/ 82).

(5)

انظر: البحر المحيط للزركشي (1/ 78)، ونهاية السول (1/ 9) و شرح الكوكب المنير (1/ 65 - 66).

(6)

انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 23) و شرح اللمع (1/ 97) و المحصول للرازي (6/ 181 - 182) و البحر المحيط للزركشي (1/ 50)، و شرح الكوكب المنير (1/ 51).

(7)

انظر: البحر المحيط للزركشي (4/ 332).

(8)

انظر الإحكام للآمدي (2/ 314).

(9)

انظر الإحكام لابن حزم (1/ 521 - 522).

ص: 73

والعلماء متفقون على جواز إطلاق ما ورد به الشرع من الأسماء على الله، كما اتفقوا على منع ما منع منه الشرع، وما دل على نقص أو عيب، وأما الذي وقع فيه الخلاف فهو فيما لم يرد به إذن من الشرع ولا منع ولا يتضمن نقصًا ولا عيبًا

(1)

.

والذي عليه أهل السنة والجماعة وأكثر المتكلمين أن التسمية متوقفة على إذن الشرع، فلا يجوز أن يُسمى الله باسم، إلا إذا ورد ذلك الاسم في الكتاب أو السنة

(2)

.

واستدل أهل السنة بأن الله عز وجل أعلم بنفسه، ونحن لا يمكننا أن نراه في الدنيا، بل ولا نحيط به علمًا مطلقًا، فهذا يدل على أنه لا يمكننا إدراك كل ما يستحقه من الوصف دون خبر.

وجمهور أهل العلم القائلين بأن الأسماء الحسنى على التوقيف ذكروا أنها تثبت بالقرآن، والسنة الصحيحة -سواء كانت متواترة أو آحادًا- وبالإجماع، ومنعوا استعمال القياس لإثباتها

(3)

.

وحكى بعض أهل العلم عن المعتزلة والكرامية

(4)

والقاضي أبي بكر الباقلاني

(5)

جواز إطلاق الأسماء على الله وإن لم يرد بها توقيف إن لم تتضمن

(1)

انظر: المقصد الأسنى للغزالي (ص 173)، و شرح الكوكب المنير (1/ 289)، ولوامع الأنوار (1/ 124).

(2)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 141 - 143)، وتحفة المريد شرح جوهرة التوحيد (89).

(3)

انظر: البحر المحيط للزركشي (6/ 133).

(4)

هم أتباع محمد بن كرام السجستاني (ت 255 هـ)، يعدون من مثبتة الصفات مع شيء من المبالغة تصل إلى حد التشبيه، ووافقوا على إثبات الحكمة لله وتحسين العقل وتقبيحه، لكن إلى درجة القول بوجوب معرفة الله بالعقل! وعدادهم في المرجئة لقولهم بأن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب. انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 223)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 108).

(5)

ولكن ابن حجر في فتح الباري (11/ 226) يرى أن مذهب الباقلاني كمذهب الغزالي.

ص: 74

وصفًا ممنوعًا

(1)

.

وحكى بعض أهل العلم قولًا ثالثًا: وهو المنع من التسمية إلا بالشرع، والجواز في الوصف بما هو حق وصدق، وقد قال به الغزالي واختاره الرازي

(2)

.

ولكن يبدو أن هذا القول يرجع إلى الأول، إذ الجميع قد اتفقوا على توقف التسمية على إذن الشرع، وأجازوا ما كان على سبيل الإخبار.

وقد توقف إمام الحرمين الجويني في هذه المسألة

(3)

.

كما أن الإخبار عن الله بما لا يتضمن نقصًا جائز، ويظهر أنه محل اتفاق بين أهل العلم؛ أما الذين لا يشترطون التوقيف في الأسماء الحسنى، فظاهرٌ تجويزُهم للإخبار من باب أولى، والذين اشترطوا التوقيف، الملاحظ عنهم الإخبار عن الله بالموجود والقائم بنفسه وواجب الوجود والقديم

إلخ ولذلك فقد لا يوجد خلاف في هذه المسألة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ويُفرَّق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يُدعى إلا بالأسماء الحسنى»

(4)

.

فباب التسمية توقيفي، وأما الإخبار فلا يشترط فيه التوقيف، ولكن تشترط فيه أمور لا بد منها، منها:

(1)

انظر: المقصد الأسنى (ص 173)، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي (40) وشرح المقاصد (4/ 344 - 345).

(2)

انظر المقصد الأسنى (ص 173) وشرح أسما ء الله الحسنى للرازي (ص 40).

(3)

انظر: الإرشاد للجويني (ص 136 - 137) وتوقف إمام الحرمين هذا قل من يشير إليه، إذ أكثرهم يحكي الأقوال المتقدمة فقط، ولكن هو نفسه صرح بتوقفه، وممن أشار إلى توقفه السفاريني في لوامع الأنوار (1/ 124).

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 142).

ص: 75

(1)

أن يكون مدلول الاسم ثابتًا، -وهو المعنى- فيذكر ذلك الاسم لإثبات ذلك المعنى الحق الذي ينفيه من ينفيه، مثل: القديم، وواجب الوجود، والذات .. إلخ

(1)

.

(2)

أن يكون الاسم المخبر به، ذكر لنفي ما تنزه الله عز وجل عنه من العيوب والنقائص، مثل: بائن من خلقه، فقد تكلم بهذا الأئمة ردًا على من أثبت الحلول والوحدة والاتحاد لله بخلقه -تعالى الله عن ذلك-.

(3)

أن يكون الاسم المُخبر به ذُكر لإثبات معنى يستحقه سبحانه وتعالى، لكن لا يستعمل إلا مقرونًا مع غيره ليفيد الحسن التام، مثل: الضار النافع

(2)

.

وفيما يأتي الأسماء المخبر بها عن الله، الواردة في كتب أصول الفقه:

(1)

الدليل:

وهذا الاسم لم يرد في أسماء الله الحسنى قط، ولكن إذا أضيف إلى معنى حسن فدل على صفة فعل لله تعالى، جاز استخدامه

(3)

.

فدليل على وزن فعيل بمعنى فاعل، ولذلك حسن أيضًا الإخبار عن الله أنه الدال لخلقه على طريق الخير.

وصح عن الإمام أحمد أنه قال: «أصول الإيمان ثلاثة: دال، ودليل، ومستدل؛

(1)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (4/ 140).

(2)

ذكرهما ابن القيم في بدائع الفوائد (1/ 167) اسمين لله، وكذا الغزالي في المقصد الأسنى (ص 145). والرازي في شرحه لأسماء الله الحسنى (ص 345) ولكن يظهر أنهما من الأخبار لا الأسماء.

(3)

ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاويه (22/ 484) وانظر المسائل والرسائل المنقولة عن الإمام أحمد في العقيدة (1/ 275).

ص: 76

فالدال الله عز وجل، والدليل القرآن، والمستدل: المؤمن، فمن طعن على الله وعلى كتابه وعلى رسوله فقد كفر»

(1)

.

(2)

عارف- والمعرفة:

ولا شك أن (عارف) لم يرد في الأسماء الحسنى، ولكن هل يخبر عن الله أنه عارف وأنه ذو معرفة؟.

ذكر أهل العلم أن المعرفة: اسم لعلم تقدمته غفلة

(2)

، ولذلك لا يصح أن يقال لله: عارف، بل حكى بعض أهل العلم الإجماع على ذلك المنع

(3)

.

ولكن وردت لفظة المعرفة في حديث وهو: (تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)

(4)

،

وهذه المعرفة إذا قصد بها التوفيق والهداية في الإنجاء للعبد مجازاة لمعرفته الخاصة بالله، فهذا المعنى صحيح، وإذا أطلقها الإنسان على علم الله العام، فقد يوهم نقصًا، فالأحوط ترك الإطلاق، ولزم التقييد كما جاء في النص دون الزيادة. والله أعلم.

(1)

رواه عنه الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 23).

(2)

انظر شرح أسماء الله الحسنى (ص 41) ونهاية السول للأسنوي (1/ 9) وانظر بدائع الفوائد (2/ 55) ففيه تحقيق جيد طويل.

(3)

انظر: شرح الكوكب المنير (1/ 66)، و البحر المحيط للزركشي (1/ 78).

(4)

هذا جزء من حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وأولها: "يا غلام إني أعلمك كلمات .. " وأصح طرقه كما قال ابن رجب عن ابن منده: ((وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي كذا قال ابن منده وغيره"، جامع العلوم والحكم (1/ 461)، لكن هذه اللفظة ليست عند الترمذي برقم (2516) وإنما عند أحمد في مسنده (1/ 307)، ولا عند أبي يعلى في مسنده (4/ 430)، برقم (2556) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد صحح الشيخ أحمد شاكر هذه الرواية في المسند (4/ 286 - 288)، برقم (2804).

ص: 77

(3)

شيء:

وهذا الاسم لم يرد في أسماء الله الحسنى قط، ولكن إذا أطلقت من قبيل الإخبار جاز، ولذلك قال البخاري في صحيحه

(1)

: «باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19]، فسمى الله -تعالى- نفسه شيئًا، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئًا - وهو صفة من صفات الله، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]» . إه.

والحديث الذي يدل على إطلاق الشيء على صفة الله، فهو ما أخرجه البخاري في الباب نفسه، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل:(أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسور سماها)

(2)

اه.

(4)

الفرد والفذ:

لم يرد إذن من الشرع في تسمية الله بهما، أما إذا قصد الإخبار بهما عن الله، فصحيح لصحة معناهما.

قال الأزهري: «والله هو الفرد، قد تفرد بالأمر دون خلقه»

(3)

. ونقل الأزهري نفسه أن الفذ بمعنى الفرد

(4)

.

(5)

القديم:

قال الآمدي في تقسيم العلم: «وهو منقسم إلى قديم لا أول لوجوده .. » ، وعلق الشيخ عبد الرزاق عفيفي عليه بقوله: «وصف علم الله أو غيره من صفاته بالقدم،

(1)

صحيح البخاري (4/ 387) من كتاب التوحيد، وبعده حديث رقم (7417) الآتي.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التوحيد، باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} ، برقم (7417).

(3)

تهذيب اللغة (14/ 99).

(4)

انظر المصدر نفسه (14/ 412).

ص: 78

لم يرد في نصوص الشرع، وهو يوهم نقصًا»

(1)

.

وإيهام النقص هذا قاله تعليقًا على كلام الآمدي: «لاستحالة خلق القديم) فقال الشيخ: «أسماء الله وصفاته توقيفية ولم يرد في كتابه سبحانه ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تسميته بالقديم ولا إضافة القديم إليه أو إلى صفة من صفاته سبحانه، فيجب ألا يسمى سبحانه بذلك وألا يضاف إليه، وخاصة أن القدم يطلق على ما يذم كالبلى وطول الزمن وامتداده في الماضي، وإن كان لمن اتصف به ابتداء في الوجود)

(2)

اه.

وما ذكره الشيخ عبد الرزاق لا شك أنه لم يرد في أسماء الله الحسنى لفظ (القديم)، ولذلك لا يجوز أن يعد في أسماء الله -جل وعلا-.

وأما الإخبار بالقدم عن الله وصفاته فلا ينبغي إنكاره ما دام أن المُخبِر عنه قد أراد به معنىً صحيحًا

(3)

، خاصة وأنه قد جاء وصف ملك الله بالقدم في السنة وهو: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم

)

(4)

.

والاسم الذي يغني عن القديم هو الأول، إذ هو الوارد في القرآن، قال الله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، وفسر

(1)

انظر الإحكام للآمدي (1/ 12) وهامش (1) تعليق الشيخ عفيفي.

(2)

انظر الإحكام للآمدي (2/ 314)، وتعليق الشيخ عفيفي عليه في هامش (1).

(3)

انظر شرح أسماء الله الحسنى للرازي (ص 358 - 359). وتحفة المريدشرح جوهرة التوحيد (17 - 18).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل عند دخوله المسجد برقم (466). وقال النووي في الأذكار (ص 46)،:"حديث حسن" وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 860)، برقم (4715).

ص: 79

رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الاسم وبينه بيانًا شافيًا بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء)

(1)

الحديث، فوجب ترك تسمية الله بالقديم، ويجب الاكتفاء بما ورد به الشرع وهو اسمه (الأول).

(6)

المُتَجَوِّز:

قال الرازي ذاكرًا أدلة من منع المجاز في كلام الله: «لو خاطب الله بالمجاز، لجاز وصفه بأنه متجوِّز ومستعير»

(2)

.

ثم أجاب -لأنه من القائلين بإثبات المجاز مطلقًا - بقوله: «إن أسامي الله تعالى توقيفية، وبتقدير كونها اصطلاحية

(3)

لكن لفظ المتجوز يوهم كونه تعالى فاعلًا ما لا ينبغي فعله، وهو في حق الله تعالى محال»

(4)

اه.

وهذه الإجابة صحيحة بخصوص منع وصف الله بالمتجوِّز والمستعير.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم (2713).

(2)

المحصول للرازي (1/ 333).

(3)

هذا من قبيل التنزل في المناظرة وإلا فالصحيح أنها توقيفية، ولو قال: وبتقدير كون الكلمة خبرًا

إلخ، لكان خيرًا من تعبيره بالاصطلاحية.

(4)

المحصول للرازي (1/ 334).

ص: 80

‌المبحث الثالث صفة الكلام

(1)

ذهب أهل السنة والجماعة إلى: أن الله متصف بالكلام، وأن نوع كلامه قديم، وهو يتكلم بما شاء متى شاء، وأن كلامه سبحانه بصوت يسمع، فقد كلَّم من أراد من رسله وملائكته، وسمعوا كلامه حقيقة، ولا يزال سبحانه يتكلم بقضائه وتسمعه ملائكته، وسيتكلم مع أهل الجنة ومع أهل النار يوم القيامة بما يناسبهم، فكلام الله سبحانه شامل للفظ والمعنى

(2)

.

وحقيقة الكلام عندهم هي: أنه إذا أطلق شمل اللفظ والمعنى، وإذا أريد به اللفظ فقط أو المعنى فقط ذكرت معه قرينة تدل عليه كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به)

(3)

، فلم يسم حديث النفس كلامًا بإطلاق، وجعله معفوًا عنه حتى يتكلم به باللسان أو يُعمل به.

(1)

انظر أقوال الناس في صفة الكلام في منهاج السنة النبوية (2/ 359 - 363)، ونقلها عن شيخ الإسلام: ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية (179 - 180)، وابن النجار في شرح الكوكب المنير (2/ 100 - 103).

(2)

انظر على سبيل المثال - لا الحصر -: التوحيد لابن خزيمة (1/ 346، 359، 365، 368، 386، 399)، والتوحيد لابن منده (3/ 129، 139، 141، 146، 148، 150)، ومنهاج السنة النبوية (2/ 362)، وشرح الكوكب المنير (2/ 24، 103، 106).

(3)

متفق عليه أخرجه البخاري في مواضع منها: كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيًا، برقم (6664) ومسلم في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب ما لم تستقر، برقم (127).

ص: 81

والأدلة على إثبات الكلام صفة لله تعالى كثيرة جدًا، منها:

قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. فنصَّ الله على خصوصية موسى عليه السلام بتكليمه، وأكد ذلك بالمصدر {تَكْلِيمًا} وذلك ينفي احتمال المجاز كالإشارة والكتاب والإرسال، ولذلك قال:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]، وجاء في السنة قول آدم عليه السلام لموسى عليه السلام في محاجتهما: (يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده

)

(1)

.

ويزيد ذلك توكيدًا لا يبقى للشك فيه مجال ما أخبر الله به من تكليمه لموسى عليه السلام بقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 13 - 14] فهذا كلام لا يجوز أن يقوله مخلوق لنفسه

(2)

.

ودلت الآية على أن كلامه يسمع، والسمع للأصوات التي هي حروف فدل على أن كلام الله بحرف يسمع

(3)

.

وكلامه سبحانه وتعالى صفة له ليس بمخلوق، ومن أدلة أهل السنة والجماعة في الدلالة على ذلك على ذلك تفريقه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بين الخلق والأمر كما قال:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] فميز الله الأمر من الخلق

(4)

.

ووردت الاستعاذة بكلمات الله، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعوِّذ الحسن

(1)

متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى، برقم (6614)، ومسلم في كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، برقم (2652).

(2)

انظر: التوحيد لابن خزيمة (1/ 332 - 335)، ومنهاج السنة (5/ 424 - 425).

(3)

انظر الحجة في بيان المحجة (1/ 398)، والرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 161)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 531).

(4)

انظر: خلق أفعال العباد للبخاري (ص 38)، والسنة لعبد الله بن أحمد (1/ 103، 139، 169).

ص: 82

والحسين رضي الله عنهما: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة)

(1)

، وقوله لرجل لدغته العقرب:(أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، لم تضرك)

(2)

إلى غير ذلك من الأدلة، ومعلوم أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق مما لا تصلح إلا بالله، فدل ذلك على أن كلمات الله غير مخلوقة

(3)

.

ومن الأدلة الدالة على تعلق كلام الله بمشيئته: قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] فقوله: {كُنْ} هو بعد إرادته لتكوين ذلك الشيء.

وذهبت الأشاعرة والماتريدية إلى أن كلام الله عز وجل نفسي، وهو صفة له أزلية، ولا يكون بحرف وصوت، ولا يتعلق بمشيئته، ويرى جمهورهم أنه معنى واحد، لا يتعدد، وأن الأمر والنهي والخبر صفات لذلك الكلام، وإنما يصير أمرًا ونهيًا وخبرًا عند حدوث التعلق.

ومنهم من قال: كله في الأزل خبر، ويرى قليل من هؤلاء أن الكلام منقسم في الأزل إلى أمر ونهي وخبر، وهو مع ذلك نفسي وواحد

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأنبياء، باب (10)، برقم (3371).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء، برقم (2709).

(3)

انظر: جامع البيان للطبري (11/ 20/ 2 - 5)، وأضواء البيان (7/ 618 - 621).

(4)

انظر: التمهيد للباقلاني (ص 284)، والإنصاف له (ص 109)، والإرشاد للجويني (ص 11)، وقواعد العقائد للغزالي (ص 83). وانظر في كتب الأصول التقريب للباقلاني (1/ 317)، والبرهان للجويني (1/ 149)، و البحر المحيط للزركشي (2/ 100)، 103)، وشرح تنقيح الفصول (40، 69).

وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء لم يسبقوا إليه قط، وقد خرقوا الإجماع، فالناس قبلهم كانوا على قولين، قول السلف الذي تقدم بيانه، ثم قول المعتزلة المبتدع وهو أن كلام الله بحرف وصوت يسمع ولكنه مخلوق.

ص: 83

وقد التزم الأشاعرة والماتريدية لأجل هذا القول لوازم سيئة، وأتوا بما لم يعقل، وتناقضوا كثيرًا، وآل قولهم إلى موافقة المعتزلة في خلق القرآن.

ولهم في حقيقة الكلام ثلاثة أقوال هي:

الأول: أن متعلق الكلام: المعنى فقط دون اللفظ، فهو حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ

(1)

.

الثاني: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، فهو حقيقة فيهما

(2)

.

الثالث: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى في كلام الآدميين، فكلاهما حقيقة فيه، ولكنه في كلام الباري حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ

(3)

.

أما المعتزلة فقد تكلموا في القرآن خاصة، وهو نوع من أنواع كلام الله تعالى، وصرحوا بأنه مخلوق، فقال القاضي عبد الجبار:«وأما مذهبنا فهو أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه، وهو مخلوق محدث»

(4)

.

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

المسألة الأولى: تعريف الحكم الشرعي بأنّه (خطاب الله) عند القائل بأن كلام الله يسمع؛ لأنّ ما يسمع يصح أن يُسمى خطابًا.

ونسب إلى الأشعري

(5)

، بأن المعنى القائم بالنفس يسمع، وقاله بعض

(1)

انظر: المستصفى (1/ 413)، والوصول إلى الأصول (1/ 65) وعزاه لبعض الأشاعرة مع أنه أليق بمذهبهم كلهم، وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (12/ 456)، و شرح الكوكب المنير (1/ 122).

(2)

انظر: المصادر السابقة.

(3)

ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية (12/ 457)، واستظهرت أنه يقول به هؤلاء.

(4)

شرح الأصول الخمسة (ص 528).

(5)

نسبه الزركشي له في سلاسل الذهب (ص 94).

ص: 84

الأشعرية

(1)

، إلا أنهم نفوا أن يقال:(خطاب الله)؛ لأن الخطاب يستلزم مخاطِبًا ومخاطَبًا، وهذا يستلزم وجود مخاطَب قديم مع الله؛ لذا قالوا:(كلام الله)، أو مدلول أو مقتضى خطاب الله؛ لما سبق أن الكلام النفسي لا يخاطب به

(2)

.

الثانية: لا يمنع أن تكون العلل والأسباب مؤثرة -بإذن الله-؛ لأنّ أحاد كلامه سبحانه وتعالى حادث، ولا يمنع تعليل الحادث بالحادث. فكلامه صفة فعلية إرادية قائمة بذاته العلية، يتكلَّم متى شاء، وأفعاله سبحانه معلَّلة.

أما القائل بإثبات الكلام النفسي، فإن العلل الشرعية ليست مؤثرة، بل هي أمارات لا غير؛ لأنّها حادثة، والحكم قديم، ويستحيل عقلًا أن يؤثر الحادث في القديم، لكن لا يمنع أن يكون الحادث معرِّفًا للقديم

(3)

.

والقول بأنها موجبة يلزم منه تعليل القديم؛ لأن معناه أن الحكم وجب بتلك العلة، أو يلزم منه القول بأن كلام الله محدث.

الثالثة: منع تفاضل كلام الله تعالى بعضه على بعض

(4)

، بناء على مأخذين يتعلقان بصفة الكلام:«أحدهما: أن صفات الرَّب لا يكون بعضها أفضل من بعض، وقد يعبِّرون عن ذلك بأن القديم لا يتفاضل، والثاني: أنه واحد، والواحد لا يتصور فيه تفاضل ولا تماثل، وهذا على قول من يقول إنه واحد بالعين»

(5)

.

(1)

كالقاضي في التقريب والإرشاد (1/ 336)، والغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد (ص 37)، والسبكي في الابهاج (1/ 43).

(2)

عبر الأشعرية (بخطاب الله)، ولهم توجيهات يرجع إليها في تخريج الأصول على الأصول (ص 58).

(3)

انظر: المحصول (5/ 127)، نفائس الأصول (1/ 220)، البحر المحيط (5/ 112)، وشرح مختصر الروضة (1/ 256)، والإبهاج (1/ 47)، وتخريج الأصول على الأصول (ص 713).

(4)

الواضح (1/ 254)، وانظر الفروع (2/ 174) سلاسل الذهب (159 - 160)، وانظر: البرهان في علوم القرآن (1/ 522).

(5)

مجموع الفتاوى (17/ 162 - 163)، وانظر منه:(17/ 52 - 53).

ص: 85

وذكر الزركشي أصل الخلاف في الكلام هل هو حقيقة في اللفظ أو في المعنى القائم بالنفس أو مشترك؟ وبيَّن عوده إلى أن الكلام صفة ذاتية أو فعلية، ثم قال:«ولعله أيضًا منشأ الخلاف في تفضيل بعض القرآن على بعض»

(1)

.

وعليه فإن قيل إن كلام الله صفة ذاتية فيكون الكلام واحدًا، فلا يعقل فيه تبعض، فضلًا عن أن يعقل فيه فاضل ومفضول، وإذا كان الكلام كذلك، فالقرآن كذلك؛ لأنه كلام الله

(2)

.

وإن قيل إن الكلام صفة فعلية، فمعنى ذلك جواز تبعضه، وإذا جاز تبعضه، جاز كون بعضه أفضل من بعض، وإذا جاز فيه ذلك، جاز في القرآن؛ لأنه كلام الله.

وهذه المسألة من المسائل التي ذكرها بعض الأصوليين

(3)

وليست هي من صميم أصول الفقه، ولهذا لم يعقد لها كثير من الأصوليين بحثًا مستقلًا، وإنما أشار إليها بعضهم عند حديثهم عن مسائل أخرى، خاصة في باب النسخ.

الرابعة: ترجمة القرآن ليست قرآنًا؛ لأن القرآن هو هذا النظم المعجز، وبالترجمة يزول الإعجاز فلم يجز

(4)

، إذ القرآن هو اللفظ والمعنى

(5)

«فإذا غُيِّر خرج عن نظمه، فلم يكن قرآنًا ولا مثله، وإنما يكون تفسيرًا له»

(6)

.

(1)

سلاسل الذهب (159 - 160)، وانظر: البرهان في علوم القرآن (1/ 522).

(2)

انظر: إكمال المعلم (3/ 178)، الجامع لأحكام القرآن (1/ 109)، مجموع الفتاوى (17/ 52 - 53).

(3)

انظر: شرح الكوكب (2/ 118).

(4)

المجموع (3/ 341).

(5)

وردت هذه المسألة عند الأصوليين استطرادًا وجوابًا على ما نقل عن أبي حنيفة في التعليل بجواز الصلاة بالقراءة بغير العربية.

انظر: كشف الأسرار (1/ 74)، التقرير والتحبير (2/ 213 - 214)، شرح منار الأنوار لابن ملك (9)، فواتح الرحموت (2/ 8).

(6)

المغني (2/ 158).

ص: 86

وعليه من قال: إن القرآن يطلق على اللفظ، أو اللفظ والمعنى، فإن اللفظ حينئذ يكون مقصودًا لكونه معجزًا، أو لكونه من حقيقة الكلام، فعلى هذا لا تجوز الترجمة؛ لأنها نقل للفظ، وتغيير له.

ومن قال: إن القرآن يطلق على المعنى فقط - وهو الصفة القائمة بالله تعالى- فإنه بأي لفظ تأدى به ذلك المعنى صح ذلك، فالعربية إنما أصبحت قرآنًا لكونها ألفاظًا أدت معنى الكلام النفسي، فكذلك كل لغة أدت المراد تكون قرآنًا

(1)

.

الخامسة: تعريف النسخ بأنه بيان وليس رفعًا لكون خطاب الله قديمًا

(2)

، والقديم لا يصح رفعه

(3)

.

ونوقش: بأن القائلين بالرفع لا يرون أن الحكم وهو الخطاب نفسه هو المرفوع، وإنما المرفوع هو مقتضى الخطاب، أو تعلق الخطاب بالمكلف لا الخطاب نفسه، والحكم يزول تعلقه بالخطاب لطريان العجز والجنون، ويعود بعود القدرة والعقل، والخطاب في نفسه لا يتغير

(4)

.

(1)

انظر: بدائع الصنائع (1/ 113).

(2)

ومرادهم بكونه قديمًا أنه قديم بعينه، وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يريدون بالقديم أنه متقدم على غيره، فإن هذا لا ينازعهم فيه المعتزلة، ولا غيرهم ممن يقول بأن كلام الله يحدثه في غيره.

انظر: مقالات الإسلاميين (2/ 201)، مجموع الفتاوى (12/ 371)، المواقف (294).

(3)

انظر: المحصول (3/ 290)، البحر المحيط (4/ 65)، وانظر: تشنيف المسامع (2/ 859) روضة الناظر (1/ 286)، شرح مختصر الروضة (20/ 261 - 262)، شرح العضد (2/ 187)، التحبير (6/ 2879) حاشية البناني (2/ 113 - 114).

(4)

انظر: المستصفى (1/ 109)، روضة الناظر (2/ 288)، شرح مختصر الروضة (2/ 263)، شرح العضد (2/ 187)، رفع الحاجب (4/ 33)، التحبير (6/ 2979).

ص: 87

السادسة: عدم نسخ المأمور به قبل التمكن من الفعل؛ لأن كلام الله قديم، والقديم لا يتجزأ ولا يتبعَّض.

وبيانه: أن حقيقة النسخ قبل التمكن أمر ونهي في وقت واحد، وإذا كان الكلام لا يتجزأ فكيف يكون أمرًا ونهيًا لشيء واحد معًا

(1)

.

ونوقش: بأن كلام الله واحد قديم، وهو متعدد باعتبار الإضافات، ولذا يتصور الامتحان به إذا سمعه المكلف في وقتين، وقد اشترطنا التراخي في النسخ، ولم يجز سمعهما في وقت واحد، فأما جبريل فيجوز أن يسمعهما في وقت واحد، ويؤمر بتبليغ الأمة في وقتين لكونه غير داخل تحت التكليف

(2)

.

السابعة: من قال: إن كلام الله حقيقة في اللفظ والمعنى، ذهب إلى أن للأمر صيغة تدلّ عليه بمجردها.

ومن قال: إنّ كلام الله حقيقة في المعنى، قال: بأنّه ليس للأمر صيغة تدل عليه بمجردها، وأن المراد لا يتبين إلا بالقرائن الدالة على المقصود منه.

وما قيل: في الأمر يقال في صيغة النهي والعموم

(3)

.

قال الجويني في البرهان: «اختلف الأصوليون في صيغة العموم، اختلافهم في صيغة الأمر والنّهي»

(4)

.

(1)

انظر: المستصفى (1/ 114)، الإحكام (3/ 132)، التنقيحات (170)، روضة الناظر (1/ 304).

(2)

انظر: التلخيص (2/ 488 - 489).

(3)

انظر: روضة الناظر (2/ 595)،، سلاسل الذهب (201)، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي (ص 338)، المسائل المشتركة (ص 113)، أسباب الخلاف للسهلي (ص 379 - 380) و (ص 490 - 491).

(4)

البرهان (1/ 221).

ص: 88

الثامنة: مقتضى صيغة الأمر المطلق عن القرائن الوجوب أو الندب، عند من قال: إن الأمر حقيقة في اللفظ والمعنى

(1)

.

ومن ذهب إلى أنّه حقيقة في المعنى فقط، قال: بالتوقف حتى يرد ما يدل على المراد. ومثله: اقتضاء النهي المجرد عن القرائن التحريم

(2)

.

التاسعة: الأمر بالشيء ليس عين النهي عن ضده، لكن يستلزمه عند من يقول بأن الكلام صفة ذاتية فعلية، يتكلم متى شاء بصوت وحرف، يسمع قديم النوع، متجدد الأحاد.

وأمّا القائل بأن كلام نفسي، لا يتعدد، ولا يتجدد، وليس بحرف ولا صوت، وغير مسموع، وهو من صفاته الذاتية، فعنده الأمر بالشيء، هو عين النهي عن ضده.

ومن اعتقد أنّ كلامه سبحانه ليس من صفاته، بل هو من مخلوقاته، مسموع بصوت، فقد ذهب إلى أنّ الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، لا من حيث الصفة أو المعنى

(3)

.

ومثله النهي عن الشيء هل هو أمر بضده أو لا؟

(4)

.

العاشرة: حمل المطلق على المقيد على الخلاف في أن كلام الله تعالى المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم متحد أو غير متحد؟

(1)

انظر: إيضاح المحصول (200)، أسباب الخلاف للسهلي (ص 389).

(2)

انظر: أسباب الخلاف للسهلي (ص 511).

(3)

المستصفى (1/ 270)، شرح تنقيح الفصول (ص 128) البحر المحيط (2/ 416) أسباب الخلاف للسهلي (ص 473 - 474).

(4)

أسباب الخلاف للسهلي (ص 554).

ص: 89

‌المبحث الرابع صفة الإرادة

ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الإرادة نوعان: إحداهما الإرادة الدينية الشرعية، والأخرى الإرادة الكونية القدرية.

أما الإرادة الكونية القدرية فهي بمعنى المشيئة التي تستلزم وقوع المراد، فهي إرادة الخلق، أي أن يريد ما يفعله هو سبحانه وتعالى، ولذلك كان المراد متحتم الوقوع، كما قال الله عز وجل:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وهي متضمنة لما وقع دون ما لم يقع

(1)

.

وأما الإرادة الشرعية الدينية، فهي متعلقة بالأمر، بمعنى: أن يريد الله من العبد فعل ما أمره به، وعليه فإن المأمور به يكون مرادًا لله إرادة شرعية دينية، وبه يتبين أن الإرادة الشرعية متضمنة لمحبة الله لما أمر به ورضاه، وهي لا تستلزم وقوع المراد، فقد يقع وقد لا يقع

(2)

، كوقوع الكفر والمعاصي من العباد، والله لا يريدها شرعًا

(3)

.

(1)

انظر: منهاج السنة النبوية (3/ 156)، (5/ 412)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 188)، والموافقات للشاطبي (3/ 370)، وشفاء العليل (88 - 89، 465)، والبحر المحيط للزركشي (3/ 268)، وشرح الكوكب المنير (1/ 321).

(2)

سيأتي إن شاء الله بيان الأقسام الأربعة في المرادات (ص 526).

(3)

انظر: منهاج السنة النبوية (5/ 412)، (3/ 156)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 188)، وشفاء العليل (88 - 89، 465)، والموافقات للشاطبي (3/ 370 - 371)، والبحر المحيط للزركشي (3/ 268)، وشرح الكوكب المنير (1/ 321).

ص: 91

ومن الأدلة الدالة على الإرادة الخلقية الكونية القدرية

(1)

، كقول الله تعالى عن نوح عليه السلام:{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 34]، فإرادة الله أن يغويهم هي إرادة كونية قدرية يتحتم وقوع المراد بها، ولذا لم ينفعهم نصح نوح عليه السلام. والأدلة في هذا النوع كثيرة جدًا.

ومن الأدلة الدالة على الإرادة الدينية الشرعية

(2)

قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. فلو كانت هذه الإرادة كونية قدرية لما حصل العسر لأحد من الناس.

وذهبت المعتزلة إلى: إنه يشترط للأمر إرادة الآمر من المأمور امتثال المأمور به، وربما قال بعضهم إن الأمر هو إرادة المأمور به.

وقالت الأشاعرة: إن الأمر لا يستلزم إرادة المأمور به، وبنوا على هذا أن الطاعة موافقة الأمر لا الإرادة.

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

المسألة الأولى: نفت الأشاعرة الحسن والقبح العقليين، وجعلوا الحسن يتبع الأمر، كما أن القبح يتبع النهي.

فالكفر والمعاصي ليست قبيحة في نفسها -بل هي محبوبة لله مرضية له؛ لكونها مما أراده الله كونًا وقدرًا، وإرادته ومحبته ورضاه بمعنى واحد-، وعليه؛ فقبح الكفر والمعاصي؛ لأجل نهيه تعالى عنه.

(1)

انظر: منهاج السنة النبوية (3/ 157، 5/ 413)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 188، 440 - 441)، والموافقات للشاطبي (3/ 372)، وشفاء العليل (465)، وشرح الكوكب المنير (1/ 321).

(2)

انظر: المصادر السابقة نفسها.

ص: 92

وأثبت أهل السنة والجماعة الحسن والقبح العقلي، ولم يجعلوا الإرادة الكونية مستلزمة للمحبة والرضا، فليست كلها مرضية، ومحبوبة له، فقد يخلق القبح لحكمةٍ، والعقل يدرك قبحها، لكن العقل لا يوجب أو يحرم شيئا من ذلك، بل ذلك للشرع

(1)

.

الثانية: ذهب أكثر الأشعرية إلى أن التكاليف مدارها على محض المشيئة من غير حكمة ولا تعليل، ومن ثمّ جوَّزوا أن يكلف الله عباده بما يشاء من محال وغيره.

ومنعت المعتزلة التكليف بالمحال، والمعجوز عنه بكل صوره؛ لأنّ المحال لا يمكن امتثاله؛ وإذا لم يمكن امتثاله فلا توجد إرادته؛ إذ لا بدّ في الآمر من إرادة الأمر من المأمور امتثال ما أمر به، فلو وردت صيغة الأمر من غير إرادة الامتثال لم تكن أمرًا، وعليه فلا يمكن التكليف بما لا يطاق

(2)

.

الثالثة: التكليف بما علم الله انتفاء شرط وقوعه في وقته يدخل في الخلاف السابق؛ لأنّ القائل بامتناع تكليف ما لا يطاق، إمّا أن يقول بتلازم الأمر والإرادة -وهم المعتزلة-، وهؤلاء منعوا التكليف بما علم الله انتفاء شرط وقوعه في وقته؛ لأنّه إذا كانت فائدة التكليف الامتثال، وكان الامتثال ممتنعًا؛ لعدم القدرة عليه، امتنع التكليف لامتناع فائدته؛ لأن التكليف بلا فائدة عبث، وهو محال.

ومن لم يشترط الإرادة للأمر، وجعل حكمة التكليف، إمّا الامتثال، وإمّا الابتلاء -وهم أهل السنة- فلم يمنعوا من التكليف بما علم الله عدم تمكن المكلف

(1)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 162 - 163)، مجموع الفتاوى (11/ 355)، منهاج السنة (3/ 98).

(2)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 345 - 346)، انظر: سلاسل الذهب (ص 137)، البحر المحيط (1/ 388)، رفع الحاجب (2/ 34)، شرح مختصر الروضة (1/ 239).

ص: 93

منه في الوقت، وإن لم يحصل الامتثال؛ إلا أنّ للتكليف به فائدة أخرى، هي ابتلاء عزم المكلف على الفعل

(1)

.

الرابعة: متعلق الإرادة من الخصال في الواجب المخير عند المعتزلة، هو متعلق الأمر؛ لأنّهم جعلوا الإرادة ملازمة للأمر، فكل ما أمر الله تعالى به شرعًا، فقد أراد وقوعه كونًا وقدرًا، سواء وقع أو لم يقع، وعليه فإن كانت الخصال جميعًا مأمورًا بها، بحيث يجوز الجمع بينها شرعًا، فجميعها مرادة لله تعالى، وإن كان الأمر لم يتعلق بها جميعًا، بل بإحدها بأن يكون الجمع بينها غير جائز شرعًا، فمتعلق الإرادة إحدى الخصال فقط.

أمّا الأشعرية فلم يجعلوا للأمر علاقة بالإرادة، بل جعلوا الإرادة ملازمة للوقوع، فكلُّ ما وقع كونًا وقدرًا، فقد أراده الله تعالى، سواء وافق أمره الشرعي أو خالفه؛ وبناء عليه، فإذا فعل المكلف إحدى الخصال فهي المرادة، وإذا فعلها جميعًا فكذلك.

وأمّا أهل السنة، فإنّهم قسموا الإرادة إلى: شرعية وكونية، وفرقوا بينهما، ومن ثمَّ فالخصال المأمور بها مرادة لله، إرادة شرعية، وأمّا المراد قدرًا من تلك الخصال فهو ما وقع، وفعله المكلف

(2)

.

الخامسة: ذهبت المعتزلة إلى أنَّ المكروه غير مراد لله مطلقًا؛ لأنّ المكروه مضاد للأمر، فهو مضاد للإرادة مطلقًا، أي: إرادة المشيئة، وإرادة المحبة.

وذهب الأشعرية إلى أنّه مراد لله؛ لتلازم الإرادة والوقوع عندهم، وإخبار

(1)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 374)، وانظر: البحر (ا/ 371 - 372)، المسودة (ص 53).

(2)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 493 - 494)، انظر: التلخيص للجويني (1/ 372 - 373)، البحر المحيط (1/ 200)، قواطع الأدلة (1/ 175).

ص: 94

المولى أنه لا يحب المكروه، فمعناه: أنّه لا يريد وقوعه ممن لم يقع منه، أمّا من وقع منه فلا يوصف بعد وقوعه بالكراهة

(1)

.

وأما أهل السنة فقالوا: المكروه مخالف لمقتضى الأمر، فهو مكروه لله كراهية دينية شرعية؛ لأنّها هي الملازمة للأمر، لكن إذا فعله المكلف فقد تعلقت به الإرادة الكونية القدرية، وإذا لم يفعله فلم تتعلق به، لملازمة الإرادة الكونية للوقوع

(2)

.

السادسة: ذهبت المعتزلة إلى أن المباح غير مراد، كما أنّه غير مكروه؛ لأنّه ليس مأمورًا به، والإرادة تابعة للأمر وملازمة له.

وذهبت الأشعرية إلى أن المباح إذا فعله المكلف فهو مراد لله؛ لأنّ الإرادة عندهم ملازمة للوقوع، وإذا لم يقع المباح فهو غير مراد لله.

وأهل السنة والجماعة، الذين جعلوا الوقوع تابعًا للمشيئة، والرضا تابعًا للأمر، قالوا: المباح غير مراد، ولا مكروه شرعًا؛ لعدم الأمر به أو النهي عنه، وأمّا قدرًا وكونًا؛ فإنّه تابع لوقوعه

(3)

.

السابعة: مما سبق يعلم مسألة اشتراط الإرادة في الأمر، فمن ذهب إلى أن بين الأمر والإرادة الكونية ملازمة، أو هما شيء واحد، ذهب إلى اشتراط الإرادة في الأمر.

(1)

قال إمام الحرمين: في التلخيص (1/ 171): «فإن قيل: إذا تحقق وقوع الفعل، فهل تقولون إنّه مكروه؟ قلنا: هذا مما نتحاشى منه، فإنَّ الرب عزَّ اسمُه، موجد الأفعال ومخترعها، فلا يوجد إلا ما يريد، فإطلاق القول بأن الفعل الواقع مكروه له زلل

».

(2)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (632)، وانظر: التقريب والإرشاد (1/ 302) ميزان الأصول للسمرقندي (ص 144).

(3)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 691)، انظر: التلخيص (1/ 1255)، البحر المحيط (1/ 276).

ص: 95

ومن اعتقد عدم الملازمة بين الأمر والإرادة، وأن الكونية منفصلة عن الشرعية، ذهب إلى عدم اشتراط الإرادة في الأمر

(1)

.

والتحقيق في العلاقة بين الإرادتين هي: أن (الأقسام أربعة:

(أحدها): ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان.

(والثاني): ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين، وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولولم تقع.

و (الثالث): ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره وشاءه من الحوداث التي لم يأمر بها: كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها، إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها، لما كانت ولما وجدت، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

و (الرابع): ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا مالم يكن من أنوع المباحات والمعاصي)

(2)

.

الثامنة: تعليل الأحكام بنيت على القول باشتراط الإرادة لصحة الأمر، وذلك أن من قال إنه يأمر بما لا يريد فعنده أن ما لا يريده لا مصلحة فيه، ولذا يلزم على قوله أن الأحكام لا يشترط أن تكون معللة.

(1)

انظر: أسباب الخلاف للسهلي (ص 370)، قواطع الأدلة (1/ 91 - 92)، الوصول لابن برهان (1/ 132) المسائل المشتركة للعروس (ص 123).

(2)

منهاج السنة (1/ 146).

ص: 96

(1)

انظر: العدة (2/ 422).

(2)

قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاويه (8/ 188 - 189)، وانظر شفاء العليل (88).

ص: 97

‌المبحث الخامس الحكمة في أفعال الله وشرعه

وهذه المسألة من المسائل الكبيرة حتى قال عنها ابن القيم: «هل أفعال الرب تعالى معللة بالحكم والغايات؟ وهذه من أجل مسائل التوحيد المتعلقة بالخلق والأمر بالشرع والقدر»

(1)

.

والمراد بالحكمة: الغايات المحمودة المقصودة بفعل الله وشرعه

(2)

.

والحكمة تتضمن شيئين

(3)

:

أحدهما: حكمة تعود إلى الله تعالى يحبها ويرضاها فهي صفة له، تقوم به، لأن الله لا يوصف إلا بما قام به، وهي ليست مطلق الإرادة، وإلا لكان كل مريد حكيمًا، ولا قائل به.

وثانيهما: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم يفرحون ويلتذون بها في المأمورات والمخلوقات.

والحكمة لا يحيط بها علمًا إلا الله تعالى، وبعضها معلوم للخلق، وبعضها مما يخفى عليهم.

(1)

مفتاح دار السعادة (2/ 409).

(2)

انظر: منهاج السنة (1/ 141)، و مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 34، 187)، والنبوات (ص 136)، وأعلام الموقعين (1/ 197 - 201)، (2/ 279)، (4/ 110)، والعواصم والقواصم (7/ 309)، وإيثار الحق على الخلق (190).

(3)

انظر: منهاج السنة (1/ 141)، و مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 34).

ص: 98

والحكمة في أفعال الله تعالى نوعان

(1)

:

(1)

حكمة مطلوبة لذاتها، كما في قول الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] فبين الله أن الحكمة من خلقه الجن والإنس ليعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئًا، وهذه العبادة أمر محبوب لله تعالى ومطلوب له.

(2)

حكمة مطلوبة لغيرها وتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه، كالحكمة التي يراد بها الامتحان، وبعض هذه الحِكم هي وسيلة إلى مطلوب لنفسه، فامتحان الله لهؤلاء يترتب عليه شكر هؤلاء وكفر هؤلاء، وذلك يوجب آثارًا مطلوبة للفاعل من إظهار عدله وحكمته وعزته، وقهره، وسلطانه، وعطائه من يستحق عطاءه، ويحسن وضعه عنده، ومنعه من يستحق المنع، ولا يليق به غيره، ولهذا قال الله تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:: 53].

وأما الحكمة الحاصلة من الشرائع أربعة أنواع

(2)

:

النوع الأول: حكمة حاصلة من الأمر بفعل مشتمل على مصلحة معلومة بأصل الفطرة والعقل، كالعدل، والإحسان، والصدق، أو حاصلة من النهي عن فعل مشتمل على مفسدة معلومة بأصل الفطرة والعقل، كالظلم والكذب.

النوع الثاني: حكمة حاصلة من الأمر بفعل، أو النهي عن فعل، بحسب اشتماله على المصلحة والمفسدة التي لا تعرف إلا بخطاب الشرع، فيكون الفعل قد اكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشرع، كالتجرد في الإحرام، والتطهر

(1)

انظر: شفاء العليل (322).

(2)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 435 - 436)، ومفتاح دار السعادة (2/ 445).

ص: 99

بالتراب، والسعي بن الصفا والمروة، ورمي الجمار، ونحو ذلك. ومثل قبح الزيادة على أربع في النكاح.

النوع الثالث: حكمة يكون منشؤها من الأمر لا من المأمور به، فيكون المراد من الأمر الابتلاء والامتحان ولا يكون المراد فعل المأمور به، كأمر الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام.

النوع الرابع: حكمة منشؤها الفعل المأمور به والأمر معًا ومثاله: «الصوم والصلاة والحج وإقامة الحدود، وأكثر الأحكام الشرعية، فإن مصلحتها ناشئة من الفعل والأمر معًا، فالفعل يتضمن مصلحة، والأمر به يتضمن مصلحة أخرى، فالمصحلة فيها من وجهين»

(1)

.

والأدلة الدالة على الحكمة كثيرة جدًا ذكرها المصنفون في أصول الفقه عند بحثهم عن مسالك العلة

(2)

.

وقد حاول ابن القيم حصرها بأنواعها -بعد أن ذكر أن آحاد الأدلة كثيرة يصعب سردها كلها - وقد أوصلها إلى اثنين وعشرين نوعًا

(3)

.

كالتصريح بلفظ الحكمة

(4)

، أو ذكر ما هو من صرائح التعليل

(5)

، وهو من

(1)

مفتاح دار السعادة (2/ 445).

(2)

انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 210)، والمعتمد (2/ 250 - 254)، والبرهان (2/ 529 - 531)، والمستصفى (2/ 288 - 292)، والمحصول (5/ 139 - 155)، إحكام الآمدي (3/ 252 - 260)، والمسودة (438)، وشرح تنقيح الفصول (390)، وشرح العضد (2/ 234) و فواتح الرحموت (2/ 295)، وغيرها.

(3)

انظر: شفاء العليل (ص 319 - 343).

(4)

انظر: شفاء العليل (319)، والبحر المحيط (7/ 238).

(5)

انظر: شفاء العليل (328)، والبحر المحيط (7/ 239).

ص: 100

أجل أو لأجل، أو الإتيان بكي الصريحة في التعليل

(1)

، أو ذكر المفعول له

(2)

- المفعول لأجله - وهو علة للفعل المعلل به، أو التعليل ب (لعلّ)

(3)

، إلى غير ذلك.

والأنواع كثيرة، والأصل أن يأتي التعليل بالحروف، وقد تدل عليه الأسماء والأفعال، وقد يجعل بعض الأصوليين ما هو من صرائح التعليل في ظاهره، وذلك لاحتمال غيره، والحق أن السياق له أثر في الدلالة على العلية إن لم تكن الأداة نصًا في العلية، فينظر فيما يحتمل التعليل وعدمه بحسب السياق

(4)

.

خالف في إثبات أصل الحكمة المقصودة: الجهمية والأشعرية ومن وافقهم

(5)

.

أما المعتزلة فيثبتون الحكمة لله تعالى في أقواله وأفعاله، لكن إثباتهم يختلف عن إثبات جمهور أهل العلم المثبتين للحكمة.

فالمعتزلة يثبتون حكمة تعود إلى المخلوق فقط، ولا يثبتون حكمة تعود إلى الله

(6)

، وكذلك فإن مقتضى مذهبهم: الإحاطة بوجوه الحكمة في كل أفعال الله، فتراهم ينفون أمورًا كثيرة بدعوى أن إثباتها ينافي حكمة الله، كنفيهم مزيد توفيق من الله لبعض الناس، وكنفيهم خلق أعمال العباد، بدعوى أنه لا يليق في حكمة الله تمييز بعض الناس عن بعض في الهداية، وزعموا كذلك أنه يلزم من القول بخلق

(1)

انظر: شفاء العليل (325)، والبحر المحيط (7/ 240)، والعواصم والقواصم (7/ 308).

(2)

انظر: شفاء العليل (326)، والبحر المحيط (7/ 241)، والعواصم والقواصم (7/ 305).

(3)

انظر: شفاء العليل (328)، والبحر المحيط (7/ 249).

(4)

انظر: البحر المحيط للزركشي (7/ 237).

(5)

انظر: غاية المرام للآمدي (224)، ومفتاح دار السعادة (2/ 410) وتحفة المريد (96).

(6)

انظر: المغني في أبواب العدل والتوحيد (6/ 48)، (11/ 92 - 93).

ويرد عليهم أن من أسماء الله تعالى الحكيم أي أنه ذو الحكمة، ولا يسمى الله عز وجل إلا بما يتضمن وصفًا قائمًا به.

ص: 101

أفعال العباد، أن يكونوا مجبورين عليها، فكيف يعذبون بما ليس فعلا لهم، فهذا -في زعمهم- لا يليق بالحكمة

(1)

.

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

المسألة الأولى: جوّز أكثر الأشعرية أن يكلف الله عباده بما يشاء من محال وغيره؛ لأن مدار التكليف على محض المشيئة من غير حكمة ولا تعليل.

وذهبت المعتزلة إلى أن فائدة التكليف والحكمة منه، امتثال الأمر وتحصيل المأمور به، ومن ثم منعوا التكليف بالمحال والمعجوز عنه بكل صوره.

وذهب أهل السنة والجماعة إلى أن فائدة التكليف، إما امتثال الفعل، وإما ابتلاء عزم المكلف على الفعل، ومن ثم منعوا التكليف بالمحال لذاته، والمحال العادي، وجوَّزوا التكليف بما علم الله، أن المكلف لا يتمكن منه في الوقت؛ لأنه وإن لم يحصل الفعل، فالابتلاء به ممكن، والفائدة الأخيرة منعتها المعتزلة لما سبق، وبه يظهر مأخذ الطوائف في مسألة تكليف ما لا يطاق

(2)

.

الثانية: مسألة حكم قبول جميع التكاليف للنسخ، والصواب عدم تصور قبول النسخ للأحكام التي هي حسنة بذاتها كالتوحيد والعدل والإحسان، أو التي هي قبيحة بذاتها، كنسخ تحريم الكفر أو الظلم، وذلك لأنّه ليس من الحكمة النهي عن التوحيد، أو الأمر بالكفر والظلم، تعالى الله عن ذلك، وليس ذلك بواجب على الله،

(1)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 91)، وإيثار الحق على الخلق (201).

وهو مبني على قياسهم أفعال الله بأفعال خلقه المستلزم ادعاء الإحاطة بوجوه حكمته، فمن الباطل، لأنه لا يجوز قياس أفعال الله بأفعال خلقه لعدم المساواة، وكذلك فإن بعض الأمور مما يخفى علينا فيه وجه الحكمة.

(2)

انظر: تخريج الأصول على الأصول (ص 345 - 346)، الإبهاج (1/ 172)، سلاسل الذهب (ص 137)، المسودة (ص 53) تنشيف المسامع (1/ 138)، نثر الورود (1/ 62 - 63).

ص: 102

بل ذلك هو مقتضى حكمته، خلافًا لنفاة التعليل الذين بالغوا حتى قالوا إنّه يجوز أن يأمر بالشرك، وينهى عن عبادته وحده

(1)

.

قال ابن تيمية رحمه الله: عمن أجاز ذلك، ونفى كون أفعاله تعلل:«فهذا القول ولوزامه هو أيضًا قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف، مع مخالفته للمعقول الصريح، فإنّ الله تنزه عن الفحشاء، فقال: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، كما نزّه نفسه عن التسوية بين الخير والشر، فقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]»

(2)

.

الثالثة: جواز نسخ الحكم قبل التمكن منه، وذلك لأن «منشأ الخلاف في هذه المسألة هو: هل حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء - وهو الحق - أو هي الامتثال فقط، وهو قول القدرية؟ فعلى أن الحكمة مترددة بينهما فالمنسوخ بعد الفعل حكمته الامتثال، وقد امتثل بالفعل قبل النسخ، والمنسوخ قبل التمكن من الفعل حكمته الابتلاء، وقد حصل قبل النسخ»

(3)

.

قال ابن تيمية رحمه الله: «

وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة، فقد يأمر بما ليس بحسن في نفسه، وينسخه قبل التمكن إذا حصل المقصود من طاعة المأمور وعزمه وانقياده وهذا موجود في أمر الله وأمر الناس بعضهم بعضا»

(4)

.

الرابعة: قد يمنع القائل بالتعليل نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ظنًا منه أن بقاء

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 413).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 433).

(3)

مذكرة في أصول الفقه للأمين الشنقيطي (87 - 88).

(4)

مجموع الفتاوى (14/ 146).

ص: 103

الآية مع نسخ حكمها يوهم المكلَّف بقاء الحكم، ويعرضه لاعتقاد الجهل، وهذا قبيح ينزه الله عنه، أو أن بقاء التلاوة دون الحكم عبث ينزَّه الحكيم عنه

(1)

.

والصواب: أنه لا مانع من ذلك، ودليله الوقوع، فآية الاعتداد بحول - مثلًا - نسخت ما دلَّت عليه من إيجاب تربص الحول على المتوفى عنها، وبقيت أحكام أُخر من أحكامها لم تنسخ، وهي قراءتها في الصلاة، ومن المصحف، والتعبد بها. وعليه فلا مانع من ذلك

(2)

.

قال الزركشي: «وهنا سؤال، وهو أن يسأل: ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟.

والجواب من جهتين: أحدهما: أن القرآن كما يُتلى لُيعرف الحكم منه، والعمل به، فيتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة. وثانيهما: أن النسخ غالبًا يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيرًا بالنعمة، ورفعَ المشقة»

(3)

.

الخامسة: تعليل الأحكام، ولك أن تقول هي هي مسألة تعليل أفعال الله، وهي مسألة الأصل؛ لأن القول بتعليل فعله يلزم منه القول بتعليل أمره وحكمه، إذ حكمه وأمره من فعله

(4)

.

ونبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى تناقض من يمنع تعليل أفعال الله، فقال: «والغالب عليهم عند الكلام في الفقه وغيره التعليل، وأما في الأصول: فمنهم من

(1)

انظر: الإحكام للآمدي (3/ 142 - 143).

(2)

مذكرة في أصول الفقه للأمين الشنقيطي (129).

(3)

البرهان في علوم القرآن (2/ 39).

(4)

انظر: أصول ابن مفلح (1/ 151)، والتحبير (2/ 749).

ص: 104

يصرح بالتعليل ومنهم من يأباه»

(1)

.

السادسة: الخلاف في تعريف العلة بكونها أمارة أو باعثة ومؤثرة في الحكم، فمن قال بأن الأحكام الشرعية لا تعلل بالأغراض قالوا بأن العلة مجرد علامة وأمارة على الحكم

(2)

، غير مؤثرة فيه؛ إذ لا حكمة باعثة للمكلف على العمل تُدرك من خلال هذه العلة، ولذا نفوا كونها باعثة للحكم؛ لأن تعريفها بالباعث وهو المشتمل على حكمة مقصودة للشارع، وهذا يقتضي أن الفعل كان من أجل غاية معينة - وهو تلك الحكمة المقصودة - ومن فعل فعلًا لغرض فإنه مستكمل بذلك الغرض، والمستكمل بغيره ناقص بذاته، والله تعالى منزه عن ذلك؛ لأنه غني بذاته الغنى المطلق

(3)

.

لذا أنكر الأشعرية تأثير الأسباب الشرعية والعلل في الأحكام، وجعلوها من قبيل الأمارات والعلامات لا غير، خشية أن تعلل أفعال الله بالأغراض

(4)

.

أمّا القائل بتعليل أفعال الله فأثبتت تأثير الأسباب والعلل في الأحكام، وأهل السنة جعلوا العلل باعثة على الأحكام، ومناسبة لها من غير أن يقولوا: إنّها موجبة

(5)

.

(1)

منهاج السنة (1/ 455).

(2)

انظر: مذكرة في أصول الفقه للأمين الشنقيطي (328).

(3)

انظر: المحصول (5/ 132)، ونهاية الوصول (8/ 3257)، ومذكرة في أصول الفقه للأمين الشنقيطي (328).

(4)

انظر: رفع الحاجب (4/ 176)، البحر المحيط (5/ 113)، تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 710).

(5)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 709).

والمسألة: مبنية على نفي أو إثبات الصفات الذاتية في الأفعال، وهل يكون منها حسنا وقبيحًا، ومعلوم أن الخلاف في تعليل أحكام الله تعالى، مبني على الخلاف في إثبات الحسن والقبح أو نفيهما. تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 99).

ص: 105

السابعة: الكسر الذي هو بمعنى وجود الحكمة بلا حكم، يشترط له وجود الحكمة المعلَّل بها، ولذا لا بد لصحته من القول بجواز التعليل بالحكمة، وإلا فلا معنى لإيراد النقض عليها

(1)

.

(1)

انظر: الإحكام للآمدي (3/ 230)، مختصر المنتهى مع شرحه بيان المختصر (3/ 48)، وشرحه رفع الحاجب (4/ 212)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 513)، والتحبير للمرداوي (7/ 3239).

ص: 106

‌المبحث السادس بقاء الأعراض

عُرِّف العرض عند الأشاعرة بأنه: موجود قائم بمتحيز، وعند المعتزلة: ما لو وجد لقام بالمتحيز، وعند الحكماء: ماهية إذا وجدت في الخارج كانت في موضوع أي في محل مقوم

(1)

.

وقد اختلف في بقاء الأعراض على قولين

(2)

:

الأول: أن العرض لا يبقى زمانين، وهو قول الأشعري، وأتباعه، واختاره النظام، والكعبي.

والثاني: أن العرض يبقى، وبه قال جمهور المعتزلة، واختاره الرازي، ونسبه ابن تيمية لجمهور العقلاء.

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

‌المسألة الأولى: كون النسخ هل هو رفع أو بيان؟

مبني على بقاء الأعراض

(3)

؛ لأن «من قال ببقاء الأعراض، قال: الضد الباقي يبقى لولا طريان الطارئ، ثم إن الطارئ يكون مزيلًا لذلك الباقي، ومن قال بأنها لا تبقى قال الضد الأول ينتهي

(1)

عرفه الأيجي في المواقف (96 - 97)، وانظر: شرح المواقف (5/ 38)، التعريفات (192)

(2)

انظر: الإنصاف (27)، محصل أفكار المتقدمين (114)، طوالع الأنوار (189)، درء تعارض العقل والنقل (6/ 185)، المواقف (101)، شرح المواقف (5/ 38).

(3)

انظر: نهاية الوصول (6/ 2229) تشنيف المسامع (2/ 859) وانظر: البحر المحيط (4/ 67) الفوائد السنية (2/ 657)، التقرير والتحبير (2/ 44)، التحبير (6/ 2979)، نشر البنود (1/ 280).

ص: 107

بذاته، ويحصل ضده بعد ذلك من غير أن يكون للضد الطارئ أثر في إزالة ما قبله؛ لأن الزائل بذاته لا يحتاج إلى مزيل، وإذا ظهر هذا التمثيل عادت الدلائل المذكورة في تلك المسألة إلى هذه المسألة نفيًا وإثباتًا»، قاله الرازي

(1)

، ثم قال بعد ذكره لأدلة المسألة:«والقول بكون النسخ رفعًا عين القول بإعدام الضد بالضد»

(2)

.

فالناسخ والمنسوخ ضدان وعرضان جاء أحدهما بعد الآخر، فمن قال إن العرض لا يبقى زمانين قال بأن الحكم الأول ينتهي بنفسه من غير أن يؤثر في زواله إثبات الحكم الثاني، فيكون المنسوخ إنما زال بنفسه، ويكون النسخ بيانا لزوال الأول وانتهائه.

ومن قال إن العرض يبقى زمانين قال الحكم الأول إنما زال لأجل إثبات الحكم الثاني، فكان ثبوت الحكم الثاني مؤثرًا في زوال الحكم الأول، وعلى هذا يكون النسخ رفعا؛ لأن الثاني رفع الأول وأثر في زواله

(3)

.

وقد أنكر القرافي هذا البناء؛ فقال: «لا نسلم أن الأعراض مساوية للمسألة؛ لأن كلام الله تعالى قديم واجب الوجود، لا يوصف بما توصف به الأعراض من عدم بقائها زمانين، وهذا المثال بعيد جدًا عن المسألة»

(4)

.

فالقرافي أنكر هذا البناء من جهة أن الحكم هو خطاب الله القديم الواجب الوجود، فيستحيل عليه أن يكون عرضًا، بل هو سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته، ودوام الحكم بدوام تعلقه وانقطاعه بانقطاعه، وتعلق الصفات نسب

(1)

المحصول (3/ 287).

(2)

المحصول (3/ 291)، وانظر: الكاشف (3/ 228).

(3)

انظر: الكاشف (3/ 223)، التحبير (6/ 2979).

(4)

نفائس الأصول (6/ 2408)، وانظر: الكاشف (3/ 231 - 232).

ص: 108

وإضافات لا توصف، فإنها موجودة في الخارج ولا أعراض، فلا يستقيم

(1)

.

‌المسألة الثانية: كون الاستصحاب حجة مبني على هذا الأصل

؛ «لأن الباقي إن لم يحتج إلى مؤثر كان الاستصحاب حجة، وإن احتاج لم يكن حجة؛ لجواز التغير لعدم المؤثر» ، قاله الطوفي

(2)

، والمراد - والله أعلم - أن الباقي المستصحب حجة، لعدم بقاء المؤثر الرافع، أما إن احتاج إلى المؤثر الرافع فليس حجة؛ لأن الحجة حينئذ ليس استصحاب حكم سابق، بل بالمؤثر الرافع.

(1)

انظر: سلاسل الذهب (293).

(2)

شرح مختصر الروضة (3/ 150).

ص: 109

‌الفصل الثالث المسائل المتعلقة بالقدر

ص: 111

‌مسألة اختلاف الناس في قدرة العبد

(1)

ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الاستطاعة على نوعين، نوع بمعنى التمكن والوسع، ونوع بمعنى الموجبة للفعل، وتشمل الإرادة الجازمة والتوفيق لإيقاع الفعل، فيقع بها

(2)

،

النوع الأول

(3)

: استطاعة شرعية، بمعنى أنها التي بالكلمات الأمريات الشرعيات، فهي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب، فإذا انتفت، انتفى الأمر والنهي والوعد والوعيد، فهي إذًا شرط في التكليف، وحاصلها أنها استطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن من الفعل وسلامة الآلات والأسباب، وهي تكون قبل الفعل، ومقارنة له أيضًا، ومصححة له، وتصلح للضدين أي الترك والفعل، أو الخير والشر، وهذا النوع هو أكثر ما يتكلم عنه الفقهاء، بل هو الغالب في عرف الناس.

(1)

إن اختلاف الناس في قدرة العبد يعد من أصول نزاعهم في جواز تكليف ما لا يطاق، وقد اختلف الناس في أنواع القدرة ووقت تعلقها بالفعل، وصلاحيتها للضدين، وبتحقيق هذه الأمور يرتفع أكثر النزاع في هذه المسألة علمًا بأن القدرة يطلق عليها الاستطاعة. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 293).

(2)

انظر: شرح التلويح على التوضيح (1/ 371)، والبحر المحيط للزركشي (2/ 166).

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 290)، 372 - 373)، 441).

ص: 113

والأدلة من الكتاب والسنة المبينة لهذه الاستطاعة كثيرة؛ فمن الكتاب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل: عمران: 97] فالآية نص في أن وجوب الحج مشروط بالاستطاعة عليه، فالاستطاعة إذًا شرط، وهي هنا الزاد والراحلة، فلو كانت الاستطاعة في الآية بمعنى الاستطاعة الموجبة للفعل- وشرطها أن تكون مقارنة للفعل- لكان معنى الآية، لا يجب الحج إلا على من حج، ليس فقط بالعزم عليه والتمكن من فعله، وإنما بعد الفراغ منه، وهذا يؤول إلى اسقاط الواجبات كلها.

ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه مااستطعتم)

(1)

فهذه الاستطاعة بمعنى الوسع والتمكن من الفعل، فلو أريد بها الموجبة للفعل لكان المعنى: فأتوا منه ما فعلتم، فلا يكونون مأمورين إلا بما فعلوه.

ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين رضي الله عنه: (صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)

(2)

فلو أريد بالاستطاعة النوع الثاني منها، لكان المعنى صلِّ بالتخيير قائمًا أو قاعدًا أو على جنب.

النوع الثاني

(3)

: استطاعة كونية، التي هي للكلمات الخلقيات الكونيات، فهي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل، فهي موجبة ومحققة له، وتكون دائمًا مقارنة للفعل فلا تكون إلا معه، فحقيقتها إذًا مجموع ما يجب بها الفعل، وتدخل فيها الإرادة وغيرها، فهي توجد في حق من فعل.

(1)

متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام باب الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (7288) ومسلم في كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم، برقم (1337).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، برقم (1117).

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 291، 372 - 373، 441).

ص: 114

ومن الأدلة الدالة على هذه الاستطاعة: قول الله تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ} [هود: 20] وقوله: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101] وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 47 - 48].

ففي هذه الآية نفى الله استطاعة معينة، لا بد من تفسيرها بأنها استطاعة موجبة للفعل، وليست الاستطاعة المشروطة للفعل، إذ الثانية شرط في التكليف، فإذا انتفت فلا تكليف، فلما نفى الله هنا الاستطاعة، ورتب عليها الجزاء، علمنا أنها استطاعة موجبة للفعل، خاصة، وأن سمع الآذان كان حاصلًا لهم، فكان المنفي شيئًا آخر، وفي قوله:{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} دلالة على العقاب بسبب الجحود، فعاقبهم الله بخذلانهم فلا يهتدون إلى طريق الحق، وهذا معنى عدم استطاعتهم، فدل على أن هذه الاستطاعة قدر زائد على مجرد الوسع والتمكن من الفعل.

وزعمت القدرية أن قدرة العبد تكون قبل الفعل، وتصلح للضدين، وهي شرط لصحة الفعل، فالفعل مشروط، ويستحيل أن يتقدم المشروط على شرطه، فلو كانت مع الفعل لا قبله للزم عدم تكليف الكافر بالإيمان، بل للزم عدم تكليف أي إنسان.

والجبرية زعموا أن قدرة العبد تكون مقارنة للفعل لا قبله، لأنها لو فرضت قبل الفعل وهي عرض لكان الفعل واقعًا بلا قدرة، لأن العرض لا يبقى زمانين.

فيلحظ أن ما أورده كل فريق على الآخر يدل على بطلان نفيه لما نفاه من القدرة التي لا يثبتها، فدل ذلك على أنه لو قيل بالقدرتين لما أمكن الاعتراض أصلًا.

ص: 115

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

‌المسألة الأولى: من قال من الأصوليين بتوجيه التكليف قبل الفعل

-كما هو مذهب أكثر الطوائف من أهل السنة والمعتزلة وكثير من الأشعرية- فينظر إلى قوله في وقت القدرة: فإن كان ممن يقول بتقدمها على الفعل -سواء قال بالقدرة المقارنة للفعل كأهل السنة أو نفاها كالمعتزلة- فإنّه يمنع تكليف ما لا يطاق؛ لأنّ التكليف والقدرة كانا قبل الفعل فتصادفا.

وإن كان ممن يقول: إنَّ القدرة مع الفعل، ولا تتقدم عليه، -كما هو مذهب الأشعرية- فالقول بتكليف ما لا يطاق لازم له؛ لأنّ التكليف تقدم على القدرة، فكان تكليفًا لغير القادر.

ومن قال: إنّ التكليف لا يتوجه إلا مع الفعل-كما هو مذهب بعض الأشعرية- فينظر إلى قوله في وقت القدرة: فإن كان ممن يقول: إنها مع الفعل، فلا يلزمه القول بتكليف ما لا يطاق؛ لأنّ التكليف والقدرة تصادفا

(1)

.

‌الثانية: خلاف المعلوم هل هو ممكن أو مستحيل؟

يبني على الخلاف في وقت القدرة، فمن يجعل القدرة نوعًا واحدًا مقارنًا للفعل -وهم الأشعرية- فإنّه يجعل خلاف المعلوم مستحيلا، وهو كذلك بهذا الاعتبار؛ فإنّ كل من لم يفعل الفعل لم تحصل له القدرة التي يوجد بها الفعل، فالقاعد ليس قادرًا على القيام بالنظر إلى القدرة المقارنة للقيام؛ لأنّه ما لم يحصل القيام لم تحصل تلك القدرة

(2)

.

أمّا من نظر إلى خلاف المعلوم باعتبار القدرة المتقدمة على الفعل، فإنّه يجعل خلاف المعلوم ممكنًا، وهو كذلك بهذا الاعتبار؛ إذ التكليف يتعلق بالقدرة

(1)

تخريج الأصول على الأصول للعمري (ص 338).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 130).

ص: 116

المتقدمة الممكنة، والكلام في القدرة المقارنة الميسِّرة كلام في القضاء والقدر لا في الأمر والنهي

(1)

.

‌الثالثة: جواز نسخ المأمور به قبل التمكن من الفعل،

عند من يقول بجواز طلب المأمور به قبل خلق القدرة عليه؛ لأن القدرة لا تكون إلا مقارنة للفعل، والفعل لم يقع قبل التمكن منه.

ومن لم يجوِّز ذلك منع من النسخ قبل التمكن.

‌الرابعة: جواز تخصيص العلة، إن قيل إن الاستطاعة قبل الفعل

؛ لأن قوة الفعل علة للفعل، وعندهم القوة موجودة ولا فعل لمانع منع المستطيع من الفعل، وإذا جاز وجود علة الفعل ولا فعل لمانع جاز أن توجد العلة الشرعية ولا حكم لها لمانع.

وإن قيل إنها مقارنة، ويستحيل تقدمها على الفعل، فلا يجوز التخصيص؛ لأنه لا يجوز أن تكون العلة موجودة ولا حكم

(2)

.

ونوقش: بأنا وإن سلَّمنا أن القول بأن الاستطاعة قبل الفعل يلزم منه جواز التخصيص، لكنا لا نُسلِّم بأنها إن كانت مقارنة لا يجوز التخصيص؛ لأن العلل الشرعية ليست موجبة بذواتها، بحيث لا يتصور انفكاك معلولاتها عنها، كما هو الحال في مسألة الاستطاعة، وإنما هي أمارات، فيجوز انفكاك معلولاتها عنها

(3)

.

(1)

تخريج الفروع (ص 368) مجموع الفتاوى (3/ 320) البحر المحيط (1/ 391 - 392).

(2)

انظر: كشف الأسرار (4/ 679)، الكافي شرح البزودي (4/ 1857 - 1858)، سلاسل الذهب (393).

(3)

انظر: كشف الأسرار (4/ 67)، سلاسل الذهب (393).

ص: 117

‌الفصل الرابع المسائل المتعلقة بالنبوات

ص: 119

‌المبحث الأول العصمة

وتحته مطلبان:

•‌

‌ المطلب الأول: عصمة الأنبياء قبل النبوة:

سبق الحديث عن عصمة الأنبياء، ومواطن ذكرها

(1)

، وما قد يُبنى عليها من مسائل في أصول الفقه، وهنا الحديث عن عصمتهم قبل النبوة، وهي مما استطردوا الحديث فيها، وقد انعقد الإجماع على عصمتهم من الكفر والشرك قبل إنبائهم، إلا ما يذكر من مذهب الخوارج

(2)

.

(1)

ذكرها الأصوليون تمهيدًا للبحث عن الدليل الثاني السنة فإثبات السنة متوقف على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم حتى تتحقق الثقة فيما يصدر منه من أقوال وأفعال.

انظر على سبيل المثال: الرسالة للإمام الشافعي (ص 91 - 104)، والبرهان (1/ 388 - 391)، وشرح الكوكب المنير (2/ 167 - 177)، والتقرير والتحبير (2/ 223 - 224).

(2)

نازع شيخ الإسلام ابن تيمية في دعوى الإجماع على أن الأنبياء كلهم معصومون من الشرك والكفر قبل بعثتهم، ونقل عن القاضي الباقلاني ما يدل على الخلاف، واستدل لما ذهب إليه بما ذكره الله عن شعيب ولوط، فقال الله تعالى:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 88 - 89] وقال عن لوط: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]؛ وذكر أن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، لا تدل على عصمة غيره قبل النبوة، لاختلاف درجات الأنبياء، ثم استثنى شيخ الإسلام أنبياء بني إسرائيل، لأنهم كانوا يحكمون بالتوراة، فعصمتهم من الكفر والشرك قبل نبوتهم حاصلة.

وقيل: يحمل العود في ملة الكفر في خبر شعيب عليه السلام على معنى المصير إليه ابتداءً، لا على العود إلى ما كان حاصلًا قبل.

خاصة إذا علمنا أن الله ذكر مطالبة المشركين للأنبياء بالعود إلى ملتهم بصيغة عامة، فقال:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13] والمخالف يسلِّم بأن بعض الأنبياء لم يكونوا على الكفر قبل نبوتهم، فدل على أن العود ليس إلى حالة كانت ثابتة قبل. ولو قيل: العود لا يكون إلا إلى حالة ثابتة قبل، أمكن أن يجاب بأن العود عود إلى السكوت عن المشركين كما كانوا قبل الرسالة وكانوا أغفالًا، و ذلك يصدق عليه عند المشركين كونهم عادوا إلى ملتهم.

وأما إيمان لوط لإبراهيم عليهما السلام، فلا يدل على وقوع الشرك والكفر منه، بل غايته الإيمان بنبوته وبما جاء به. والذي يظهر أن الباقلاني حكى الخلاف في جواز وقوع الأنبياء في الكفر والشرك قبل نبوتهم، لا في وقوعه حتمًا. والله أعلم.

انظر تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء لابن تيمية (1/ 186، 193، 230)، والمحرر الوجيز لابن عطية (10/ 71).

ص: 121

وجاء في السنة ما يدل على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ومما يدل على ذلك:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم، وهو يلعب مع الغلمان، وأخذه وصرعه، فشق عن قلبه، واستخرج القلب، واستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه)

(1)

.

فاستخراج حظ الشيطان منه يدل على سلامته من الكفر والشرك، بل ومن سائر المعاصي، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يعبد الأصنام، ولا يشارك أهل الجاهلية في شيء من منكراتهم.

وجمهور أهل العلم لا يوجبون عصمة الأنبياء من الذنوب قبل البعثة، إلا ما كان كفرًا أو دالًا على خسة.

وقد بالغ الشيعة في أمر العصمة، فادعوا عصمة الأنبياء مطلقًا قبل البعثة وبعدها من سائر المعاصي كفرًا كانت أو غيره، كبائر أو صغائر

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الإسراء، برقم (261، 259).

(2)

ومما يجدر ذكره هنا، أن هؤلاء الرافضة، قد ارتكبوا فضائح لا يبوء بها عاقل، فنسبوا النقائص والقبائح إلى الله، فنسبوا إليه البداء - تعالى الله عن ذلك- ومع ذلك رفعوا الأنبياء إلى ما لا يؤيده شرع، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأئمة، بل قد تكون لهم منزلة عندهم فوق منزلة الملائكة والأنبياء. والعجب أنهم مع مبالغتهم في عصمة الأنبياء، إلا أنهم أثبتوا في حقهم ما لا يقوله مسلم، ويعود عليهم بالنقض والإبطال، إذ قد جوَّزوا على الأنبياء إظهار الكفر تقية! فعلى مذهبهم الرديء هذا لا يبقى وثوق بالشرائع مطلقًا.

انظر: هداية العقول (1/ 456)، منهاج السنة النبوية (2/ 394 - 395)، و مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 295). وانظر ما نقله عبد العلي الأنصاري عنهم في ذلك فيما نقلناه (ص 503 - 504).

ص: 122

•‌

‌ المطلب الثاني: عصمة الأنبياء بعد النبوة:

اختلف الناس في العصمة بناء على مذاهبهم في الأفعال -أفعال العباد- وأثر قدرتهم في أفعالهم

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «و مما يبين الكلام في مسألة العصمة، أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها، فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله تعالى، إذ كان جعل الشخص نبيًا رسولًا من أفعال الله تعالى»

(1)

.

وتفصيل ذلك، ببيان أقسام الناس في أفعال الله، عند من يثبتها، وهم كل أهل الملة

(2)

، وهم على ثلاث طوائف:

(1)

منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 413 - 414).

(2)

يستثنى من ذلك الفلاسفة القائلون بقدم العالم وأنه قد صدر عن الله صدور المعلول عن العلّة الموجبة، فهؤلاء ينكرون أن الله يفعل بقدرته ومشيئته - تعالى الله عن قولهم - فانكروا الفعل الاختياري، وقد بالغوا في إنكار وقوع صغائر الذنوب غير الخسيسة من الأنبياء، ولإنكارهم الملائكة، يرون أن الوحي ما يفيض من العقل الفعال يستقبله من كان عنده استعداد لذلك الفيض، وهي أمور مكتسبة، فالأنبياء عندهم امتازوا بقوتهم العلميّة، بحيث يستغنون عن التعليم، وامتازوا بقوة التخييل، فيتشكل في نفوسهم خطاب يسمعونه كما يسمع النائم، ويتشكل لهم شخص يخاطبهم كما يخاطب النائم، ولهم قوة في التأثير والعمل، بحيث يؤثرون في العناصر تأثيرًا غريبًا فتقع منهم الخوارق، ويملكون تأثيرًا عجيبًا على عامة الناس، فيعملون بما يأتونهم به.

وهؤلاء كفار زنادقة ملاحدة، حقهم أن لا يذكروا هنا، وكلّ ما قالوه مبني على التخرص والكذب، ليس عليه أثارة من علم ولا عقل، وسبيل المباحثة معهم: ردهم إلى فطرتهم بالإقرار بالله -جل وعلا-، وقدرته ومشيئته بالطرق الصحيحة الدالة على ذلك. وإثبات النبوة كذلك.

انظر: منهاج السنة النبوية (2/ 415 - 416)، والجواب الصحيح (5/ 344)، ودرء تعارض العقل والنقل (8/ 161).

ص: 123

الأولى: مثبتو الحكم والأسباب على وفق حكمة الله البالغة ومشيئته النافذة، وأن أفعال الله كلها حكمة سواء ظهرت للناس أم لم تظهر، وأن الله يمن على من يشاء بالهداية والتوفيق رحمة منه وفضلًا، ويضل من يشاء حكمة منه وعدلًا، وأنه يصطفي من يشاء حسب علمه وحكمته، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وهذا قول أهل السنة والجماعة.

قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]

(1)

، فإنه يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس كما قال:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج 75]؛ فرسل الله هم خيار الناس، ومما علمناه من حكمة الله نعلم أن الله لا يبعث نبيًّا فاجرًا، ولذلك أجمعنا على تنزيه الأنبياء من أن يكونوا من الفجار والفساق، ونقطع أن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة، لا تكون شياطين أبدًا، ونعلم أن من كمال فضل الأنبياء وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم، أن تقع منهم بعض الصغائر غير الخسيسة

(2)

، يكمل الله بها عبوديتهم بالتوبة وزيادة الخوف والخضوع، فيرفع الله درجاتهم، فالعصمة حاصلة لهم في الصغائر غير الخسيسة بعدم الإصرار عليها أصلًا، وبالتنبيه عليها، ليتداركوها ويحصل لهم مزيد فضل ورفعة درجة.

(1)

انظر: المصدر نفسه: (2/ 416).

(2)

والمقصود بالصغائر الخسيسة: (ما يوجب الحكم على فاعله بالخسة ودناءة الهمة وسقوط المروءة، كسرقة حبة أو كسرة). الإحكام للآمدي (1/ 171).

ص: 124

وينبغي معرفة أن مقام الأنبياء مقام رفيع عظيم، وما وقعوا فيه قد يكون في حق غيرهم ليست من الذنوب

(1)

لكن لرفعة مقامهم، قد يعاتبون، ومع ذلك فإن الله يوفقهم إلى التوبة، بل ما ذكر الله ذنبًا لنبي (إلا مقرونًا بالتوبة والاستغفار، كقول آدم وزوجته: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقول نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] .. )

(2)

.

الطائفة الثانية: نفاة الحكم والأسباب في أفعاله، فيجوز عندهم أن يفعل الله كل ممكن ولا ينزه عن فعل من الأفعال، فأفعاله كلها متعلقة بمحض المشيئة، وهؤلاء هم الجهمية ومن تبعهم كالأشعري ومن وافقه من أهل الكلام

(3)

.

ورتبوا على هذا الأصل ما يلي:

(1)

جواز أن يبعث الله كل مكلف، ولو كان كافرًا فاسقًا، فهو يفعل ما يشاء لا لحكمة.

(2)

والنبوة عندهم ليست صفة ثبوتية، ولا مستلزمة لصفة يختص بها، فهي من الصفات الإضافية، فتكون مجرد إعلام من الله بما أوحاه إليه، فهي مثل الأحكام الشرعية، التي لا تدل على صفة في الفعل، والفعل الحسن حسنه لكونه مقولًا فيه: افعل، والقبيح عكسه، لا لصفة هي منشأ الحسن والقبح في الفعل.

(3)

ثم بعد البعثة ذكروا أن ما يدل العقل على امتناعه على الأنبياء هو في التبليغ خاصة، لأن صدق التبليغ هو مدلول المعجزة، وما سوى ذلك فلا يدل عليه

(1)

انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية (2/ 421).

(2)

مجموع فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (10/ 296).

(3)

انظر: منهاج السنة (2/ 414 - 415).

ص: 125

عقل، فإن ورد السمع بامتناعه قلنا به، وإلا لم تجب العصمة منه، ولما كانت الأدلة السمعية ظواهر ظنية عند محققيهم اعتمدوا فيما تجب العصمة منه على الإجماع، وما سواه قالوا لم يدل عليه سمع ولا عقل.

الطائفة الثالثة: مثبتو الحكم والأسباب، الذين يوجبون على الله بعقولهم، ومن ذلك أصلهم في التعويض والتجويز إذ يجعلون الجزاء عوضًا عن الأعمال، وعليه فلا يجوز عندهم أن يفضل الله أحدًا على أحد إلا بعمله، ورتبوا عليه أن النبوة أو الرسالة جزاء على عمل متقدم، فاستحق النبي النبوة جزاء على عمل صالح متقدم، وهؤلاء كثير من القدرية والمعتزلة والشيعة

(1)

.

وهؤلاء زعموا أن النبوة أو الرسالة جزاء على عمل صالح متقدم، فالنبي فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة وجوبًا، فهي ليست محض فضل من الله.

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

المسألة الأولى: فعل الرسول صلى الله عليه وسلم المتجرد عن القرائن «يحتمل الحظر عند من يجوِّز عليهم الصغائر»

(2)

، فلا يفيد حكمًا، وإنما يكون الحكم مستفادًا مما قبل ورود الشرع

(3)

.

ومذهب أهل السنة والجماعة -كما سبق - أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر الخسيسة مطلقًا، وأما الصغائر غير الخسيسة فيجوز صدورها منهم، لكنهم يوفقون إلى التوبة منها

(4)

.

(1)

انظر: منهاج السنة (2/ 415).

(2)

المستصفى (2/ 214)، وانظر: الكاشف (3/ 153).

(3)

انظر: البحر المحيط (4/ 184)، المحقق من علم الأصول (67).

(4)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 319).

ص: 126

الثانية: عدم حجية تقرير النبي صلى الله عليه وسلم «عند من يحمل ذلك على المعصية، ويجوِّز عليه الصغيرة»

(1)

.

والقول بحجيته متفرع عند البعض على عصمته من ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم إذا سكت عن منكر فيلزم منه وقوعه صلى الله عليه وسلم في المحرَّم، وهو غير جائز عليه

(2)

.

وأشار الآمدي إلى أنه قد لا يلزم ذلك لمن جوَّز عليه صلى الله عليه وسلم الصغائر، فقال:«وذلك لأنه لو لم يكن فعله جائزا لكان تقريره له عليه، مع القدرة على إنكاره، وكان استبشاره وثناؤه عليه حرامًا على النبي عليه السلام، وهو وإن كان من الصغائر الجائزة على النبي عليه السلام عند قوم، إلاَّ أنه في غاية البعد، لاسيَّما فيما يتعلق ببيان الأحكام الشرعية، وإذا كان كذلك، فالإنكار هو الغالب، فحيث لم يوجد ذلك منه دل على الجواز غالبًا»

(3)

.

الثالثة: عدم وقوع السهو من النبي صلى الله عليه وسلم عند من يقول بأن المعجزة دلت على صدق النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا في العمد والسهو، وقيل: إنها لم تدل إلا على ما صدر عنه عمدًا

(4)

.

وهذه المسألة وإن ذكر الأصوليون بناءها على المعجزة

(5)

، إلا أن ارتباطها

(1)

المستصفى (2/ 225).

(2)

انظر: أصول الجصاص (2/ 91)، المنخول (316)، إيضاح المحصول (368)، المحقق من علم الأصول (171)، كشف الأسرار (3/ 287)، التحبير (3/ 1491)، أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم للأشقر (2/ 96).

(3)

الإحكام (1/ 189)، وانظر: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم للأشقر (2/ 96).

(4)

انظر: الإحكام (1/ 170)، البحر المحيط (4/ 173)، أصول ابن مفلح (1/ 323). التحبير (3/ 1443) شرح الكوكب (2/ 170).

(5)

بيانه: أن من قال إن المعجزة دلت على صدقهم مطلقًا في العمد والسهو فإنه لا يجيز وقوع السهو منهم، لما فيه من مناقضة دلالة المعجزة القاطعة، ومن قال إن المعجزة دلت على صدقهم في ما صدر عنهم عمدًا قال بجواز السهو عليهم؛ لأن ما كان عن نسيان غير داخل تحت التصديق المقصود بالمعجزة.

انظر: بناء الأصول على الأصول للودعان (1/ 386 - 387).

ص: 127

بالعصمة ظاهر.

قال الزركشي: «وفصَّل ابن عطية في الكلام على النسخ بين ما لا يحفظه أحد من الصحابة، فالنبي معصوم من النسيان قبل التبليغ وبعده، فإن حفظه جاز عليه ما يجوز على البشر، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة. ومنه قول أبيٍّ [رضي: الله: عنه]: حسبت أنها رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لم ترفع ولكن نسيتها)

(1)

.)

(2)

.

وقال الغزالي: «أما النسيان والسهو فلا خلاف في جوازه عليهم فيما يخصهم من العبادات، ولا خلاف في عصمتهم مما يتعلق بتبليغ الشرع والرسالة، فإنهم كلفوا تصديقه جزمًا، ولا يمكن التصديق مع تجويز الغلط»

(3)

.

ويدل على جواز النسيان قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني)

(4)

، وكل ما ورد من أحاديث السهو في الصلاة.

(1)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 73)، برقم (1647)، وبنحوه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه (5/ 123)، وإسناده صحيح، وله شاهد لا بأس به: أخرجه أبوداود في سننه (1/ 558)، برقم (907)، وابن خزيمة في صحيحه (3/ 73)، برقم (1648) وعنه ابن حبان في صحيحه (6/ 12)، برقم (2240) ومن طريق آخر برقم (2241) والطبراني في الكبير (20/ 27 - 28)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 211)، كلهم من طريق يحيى بن كثير الكاهلي عن المسور بن يزيد نحوه. ويحيى الكاهلي: لين الحديث. انظر: التقريب لابن حجر (7680).

(2)

البحر المحيط للزركشي (6/ 19).

(3)

المستصفى للغزالي (2/ 214).

(4)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، برقم (401). ومسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (573).

ص: 128

الرابعة: اشتراط الإمام المعصوم في حجية الإجماع عند الشيعة

(1)

، وبعض الأصوليين نسبه لبعضهم

(2)

، وشبهتهم: أنه إذا كان الإمام المعصوم موجودًا فلا تجوز مخالفته، ولذا لزم كونه مع المجمعين حتى يكون الإجماع حجة

(3)

.

ولما أن كان مآل قولهم الاعتماد على قول المعصوم وحده دون الإجماع نقل عنهم كثير من الأصوليين إنكار الإجماع

(4)

.

الخامسة: إجماع أهل البيت حجة، على القول بعصمتهم

(5)

؛ لأنهم إن كانوا معصومين فلا يمكن أن يجمعوا على باطل.

ولا ريب ببطلان هذا، وأنهم بعض الأمة، فلا يكون إجماعهم حجة.

السادسة: عدم حجية الإلهام «لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره»

(6)

السابعة: اختلف العلماء

(7)

في جواز الخطأ في الاجتهاد على الأنبياء عليهم السلام،

(1)

انظر: نهاية الوصول لابن مطهر الحلي (245/ ب)، مبادي الوصول (27/ أ)، ونقله عنهم الأصوليون. انظر: المعتمد (2/ 458)، المحصول (4/ 101)، الإبهاج (2/ 364)، البحر المحيط (4/ 440).

(2)

ونسب لطوائف من الروافض. انظر: البرهان (1/ 434)، منتهى الوصول والأمل (52)، والظاهر أن المنسوب إلى بعضهم هو إنكار حجية الإجماع، أما غالبهم فهم يقولون بالإجماع غير أنهم يشترطون فيه المعصوم، وبعضهم يشترط انضمام العترة. انظر حجية الإجماع لمحمد فرغلي (65، وما بعدها، 119 وما بعدها)، ولعل من نقل عنهم إنكار الإجماع، أو عدم حجيته مطلقا من الأصوليين، فهو لأن مآل قولهم إنكار الإجماع وعدم حجيته، والاعتماد على قول المعصوم.

(3)

انظر: بناء الأصول على الأصول للودعان (2/ 485).

(4)

انظر: العدة (4/ 1064)، شرح اللمع (2/ 666)، المحصول (4/ 101)، الإحكام (1/ 200)، المسودة (2/ 615)، البحر المحيط (4/ 440)، فواتح الرحموت (2/ 213).

(5)

نهاية الوصول (6/ 2588) سلاسل الذهب (349).

(6)

جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية العطار (2/ 398).

(7)

وهذا الخلاف جارٍ بين الجمهور الذين يرون جواز الاجتهاد من الأنبياء، وقد أخرج من النزاع بعض الصور كالخطأ في الاجتهاد في الحروب، وكالخطأ في مصالح الدنيا، مما لا مدخل له بالبلاغ.

ص: 129

فذهب الآمدي وابن الحاجب إلى جواز الخطأ لكن لا يقرون عليه، وإنما ينبهون فورًا.

ونسب الآمدي ذلك إلى أكثر أصحابه والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة

(1)

.

وذهب بعض أهل العلم إلى منع وقوع الخطأ في اجتهادهم؛ لأجل عصمتهم.

(1)

انظر: الإحكام للآمدي (4/ 216) ومختصر ابن الحاجب -مع شرحه بيان المختصر (3/ 341)، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 480).

ص: 130

‌المبحث الثاني حقيقة المعجزة ومسائلها

تحدث الأصوليون عن المعجزة عند تقريرهم للاستصحاب

(1)

، حيث تكلموا عن لزوم استمرار العادة ليصح الاستدلال بخرقها على صحة النبوة

(2)

.

واستطرد بعضهم فذكر تعريفها المتضمن لشروطها خاصة عند بحث مدارك العلوم في الدين

(3)

، وفيه تشعب الكلام إلى نوع دلالة المعجزة على النبوة، هل هي عقلية أو سمعية أو وضعية؟.

وعند بحثهم عن التكليف خاصة في التحسين والتقبيح تكلموا عن وجه دلالتها - أي المعجزة- على النبوة.

(1)

المراد به استدامة حال أمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي لعدم ما ينقله. وهو أربعة أنواع:

1.

استصحاب العدم الأصلي حتى يرد الناقل، وهو البراءة الأصلية والإباحة العقلية، ومثاله براءة الذمة من الدين أو من صيام شهر آخر غير رمضان.

2.

واستصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، كاستصحاب بقاء النكاح و الملك.

3.

والاستصحاب المقلوب؛ وهو ثبوت أمر في زمن حاضر على ثبوته في الزمن الماضي كوقف جهل مصرفه، وكمكيال جهل سابقه.

4.

واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، ومثاله إجماعهم على بطلان التيمم لمن رأى الماء قبل الدخول في الصلاة، فهل يستصحب إجماعهم هذا فيمن رآه بعد الدخول فيها؟.

انظر: نهاية الوصول (8/ 3955 - 3956)، وإعلام الموقعين (1/ 339)، وتقريب الوصول (391)، وإرشاد الفحول (2/ 248)، وأضواء البيان (2/ 468)، (4/ 654 - 655).

(2)

انظر: المحصول للرازي (6/ 120)، الإحكام لابن حزم (2/ 772 - 773)، الإحكام للآمدي (4/ 220)، نهاية السول (4/ 368).

(3)

انظر: البرهان للجويني (1/ 60 - 62).

ص: 131

وتكلموا في إعجاز القرآن عند بحثهم عن الدليل الأول - وهو القرآن-، وتضمن ذلك حقيقة إعجازه، والقدر المعجز منه

(1)

، ودلالته على إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأمور لها تعلق بختم النبوة - كنزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، فهل ينافي ثبوت أحكام الشريعة

(2)

؟ والرد على منكري نبوته من اليهود بدعوى عدم جواز النسخ

(3)

.

وفيما يأتي استعراض مختصر للمسائل العقدية، وموقف أهل السنة والجماعة منها:

‌المسألة الأولى: يرى عامة المتكلمين أن الدليل الوحيد الذي يعول عليه لإثبات النبوة هو المعجزة.

وهذا الرأي خطأ، ويعلم خطؤه بإيمان بعض الصحابة بمجرد علمه بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من صدقه وأمانته، وباستحلاف بعض الناس له واكتفائهم في التصديق بذلك، وبما علمه أهل الكتاب من صفاته الدالة على نبوته.

‌المسألة الثانية:

قال الجويني رحمه الله: «المعجزة تكون فعلًا لله سبحانه وتعالى، خارقًا للعادة، ظاهرًا على حسب سؤال مدعي النبوة، مع تحقيق امتناع وقوعه في الاعتياد من غيره، إذا كان يبغي معارضة»

(4)

. فهذا التعريف تضمن أربعة شروط للمعجزة وهي:

(1)

أن تكون فعلًا لله تعالى.

(1)

انظر: الإحكام لابن حزم (1/ 162)، والبحر المحيط للزركشي (2/ 183 - 184)، وفواتح الرحموت (2/ 73، 126 - 128)، وشرح الكوكب المنير (2/ 115 - 117، 121).

(2)

انظر: البحر المحيط للزركشي (5/ 213).

(3)

انظر: الإحكام للآمدي (3/ 115)، وغيره كما سيأتي عند بحث المسألة إن شاء الله (ص 612).

(4)

البرهان (1/ 117)، فقرة (64).

ص: 132

(2)

أن تكون خارقة للعادة.

و (لم يميزوا ما يخرق العادة مما لا يخرقها، ولهذا ذهب من ذهب من محققيهم إلى إلغاء هذا الشرط فالأمور العجيبة التي خص الله بالإقدار عليها بعض الناس لم يجعلوها خرق عادة، والأمور المحرمة أو هي كفر كالسحر والكهانة والطلسمات جعلوها خرق عادة، وجعلوها آية بشرط أن لا يعارض)

(1)

.

(3)

ظهورها على حسب سؤال مدعي النبوة.

نوقش بأنه: يخرج كثيرًا من المعجزات كإظلال الغمام وتسليم الحجر وغير ذلك، فليست كل المعجزات اقترن بها التحدي ولا دعوى النبوة

(2)

.

(4)

عدم معارضتها. وهذا هو خاصية المعجزة عندهم، لأنه بهذا الشرط والقيد يخرج السحر والشعوذة والكهانة إذ يمكن أن تعارض.

وهذه الشروط مذكورة كذلك في كتب الكلام، بل ويزيدون عليها شروطًا أخرى

(3)

.

‌المسألة الثالثة: من الطرق الممكنة في دلالة المعجزة على النبوة عند أهل السنة بإيجاز:

(1)

طريق الحكمة.

(1)

النبوات (ص 235).

(2)

انظر: غاية المرام (ص 337 - 338) والنبوات (ص 236 - 237)، وشرح المقاصد للتفتازاني (5/ 12).

(3)

انظر: الغنية في أصول الدين للمتولي (ص 150 - 152)، والإرشاد للجويني (ص 261 - 266)، وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (569 - 571)، والمحصّل للرازي (ص 301)، وغاية المرام للآمدي (333 - 334)، والمواقف للإيجي (339 - 340)، وشرح المقاصد للتفتازاني (5/ 11 - 13).

ص: 133

(2)

طريق القدرة.

(3)

طريق العلم والضرورة.

(4)

طريق العدل.

(5)

طريق السنة والعادة.

(6)

طريق الرحمة.

ويمكن جمعها كلها فيما يلي:

أن الله -جل وعلا- له صفات الكمال، ومن الطرق الدالة على ذلك قياس الأولى؛ وأن من أرسل رسولًا ولم يجعل له آية وعلامة دالة على أنه مرسل من عنده عُدَّ نقصًا وعيبًا وسفهًا، فلله المثل الأعلى، فهو الحكيم في أفعاله وأقواله، فلا بد أن يُعرف الناس ما يدلهم على صدق رسوله ويميزه عن الكاذب، وهكذا:«فكل ما ترك من لوازم الرسالة إما أن يكون لعدم القدرة، وإما أن يكون للجهل والسفه وعدم الحكمة، والرب أحق بالتنزيه عن هذا وهذا من المخلوق، فإذا أرسل رسولًا فلا بد أن يعرفهم أنه رسوله، ويبين ذلك، وما جعله آية وعلامة ودليلًا على صدقه امتنع أن يوجد بدون الصدق، فامتنع أن يكون للكاذب المتنبيء، فإن ذلك يقدح في الدلالة، فهذا ونحوه مما يعرف به دلالة الآيات من جهة حكمة الرب»

(1)

، ومن جهة قدرته، ومن جهة عدله كذلك؛ لأن إظهار المعجز على الكاذب تسوية بين الصادق والكاذب، وتؤدي هذه التسوية إلى تعذر التمييز بين الصادق والكاذب، وعندئذ يكون تكليف الناس بتصديق الصادق، وذمهم على ترك تصديقه واتباعه تكليفًا بما لا يطاق، وهذا خلاف العدل والحكمة والرحمة

(2)

.

(1)

النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 365).

(2)

انظر: المصدر نفسه (ص 365).

ص: 134

فالطرق المتقدمة - وهي الحكمة والعدل والرحمة والقدرة- كلها تدل على أن المعجزة دالة على صدق الرسول، (فكيف إذا انضم إلى ذلك أن هذه سنته وعادته)

(1)

سبحانه وتعالى، وهذه الطريق -أي طريق السنة- تدل ضرورة على أن المعجزة لأجل التصديق، ولهذا اختار بعض الناس القول بأن دلالة المعجزة على الصدق تعلم بالضرورة، وهو صحيح

(2)

.

أما المتكلمون فلهم ثلاثة طرق في وجه دلالة المعجزة على صدق النبي المدَّعي للرسالة، (طريقة القدرة، وطريقة الحكمة، وطريقة الضرورة)، وهي طرق ذكرها الأشعرية والمعتزلة، وهي صحيحة في أصلها، ولكن من قال بها له أصول فاسدة، يرجع إليها في كتب العقائد.

‌المسألة الرابعة: تطرق الأصوليون لنوع دلالة المعجزة:

فذكرا في كتب أصول الفقه أن للناس قولين فيها؛ فمنهم من يرى أنها عقلية

(3)

، ومنهم من يرى أنها وضعية

(4)

.

وعند التحقيق لا تعارض بين القولين؛ فإن (الأدلة التي تدل بنفسها قد تسمى الأدلة العقلية، ويسمى النوع الآخر الأدلة الوضعية، لكونها إنما دلت بوضع واضع، والتحقيق أن كليهما عقلي إذا نظر فيه العقل علم مدلوله، لكن هذه تدل بنفسها،

(1)

المصدر نفسه (ص 365).

(2)

المصدر نفسه (ص 360).

(3)

الدليل العقلي: وهو ما دل على المطلوب بنفسه من غير احتياج إلى وضع كدلالة الحدوث على المُحدِث، والإحكام على العالِم. انظر البحر المحيط للزركشي (1/ 54).

(4)

الدليل الوضعي فهو ما دل على المطلوب بالمواضعة تخصيصًا، فهو لا يدل بوصف هو في نفسه عليه، مثل العبادات الدالة على المعاني في اللغات.

انظر: التقريب والإرشاد للباقلاني (1/ 205)، والتلخيص للجويني (1/ 120)، والبحر المحيط للزركشي (1/ 54).

ص: 135

وتلك تدل بقصد الدال بها فيعلم بها قصده، وقصده هو الدال بها، كالكلام فإنه يدل بقصد المتكلم به وإرادته، وهو يدل على مراده، وهو يدلنا بالكلام على ما أراد، ثم يستدل بإرادته على لوازمها، فإن اللازم أبدًا مدلول عليه بملزومه.)

(1)

. ولتوجيه ذلك يرجع إلى كتب العقائد.

‌المسألة الخامسة: أجمع المسلمون على أن الآية العظمى الدالة على نبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم هي القرآن،

ويدل لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء من نبي إلا آتاه الله من الآيات ما مثله آمن عليه الناس، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)

(2)

.

والقرآن هو الذي وقع به التحدي كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].

والذي يدل عليه صنيع المتكلمين الأصوليين أنه يقتصر على معجزة القرآن.

لذا نجد استغناء كثير من المتكلمين بمعجزة القرآن عما سواها من المعجزات

ويدل لهذا أمران:

الأول: اشتراطهم في المعجزة مقارنتها للدعوى والتحدي بها والمنقول هو أن القرآن وحده الذي وقع به التحدي، وعليه فإنه لا آية سواه دالة على النبوة

(3)

. والصواب عدم صحة اشتراط هذين الشرطين.

(1)

النبوات ليشخ الإسلام ابن تيمية (ص 291 - 292).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

انظر: المحصول للرازي (6/ 120).

ص: 136

الثاني: لما كانت المسألة من الأصول، فإنه يشترط أن تنقل نقلًا متواترًا، وليس غير القرآن منقولًا نقلًا متواترًا، فإذن هو وحده المعجزة

(1)

.

ومن المعجزات التي وردت في كتب الأصول، واختلفوا في بعضها هل وردت متواترة أو بطريق الآحاد؟: انشقاق القمر

(2)

، وتسليم الحجر

(3)

، وسعي الشجرة

(4)

، ونبع الماء

(5)

، وتسبيح الطعام

(6)

، وتسبيح الحصى

(7)

، وحنين الجذع

(8)

، وتسليم الغزالة

(9)

.

ولا شك أن تلك المعجزات، وإن كانت قد نقلت آحادًا، إلا أن القدر المشترك بين جميعها متواتر، وفي ذلك يقول الخطيب البغدادي: «وأما التواتر من طريق المعنى، فهو أن يروي جماعة كثيرون يقع العلم بخبرهم كل واحد منهم حكمًا غير الذي يرويه صاحبه، إلا أن الجميع يتضمن معنى واحدًا، فيكون ذلك المعنى بمنزلة ما تواتر به الخبر لفظًا

وهذا أحد طرق معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(10)

.

(1)

انظر: الإحكام للآمدي (2/ 17) مع تعليقات الشيخ عفيفي.

(2)

انظر المستصفى للغزالي (1/ 143)، والمحصول (4/ 293)، والإحكام للآمدي (2/ 42)، ونهاية الوصول للهندي (7/ 2782)، وفواتح الرحموت (2/ 127).

(3)

انظر: فواتح الرحموت (2/ 127).

(4)

انظر: فواتح الرحموت (2/ 127).

(5)

انظر: العدة لأبي يعلى (5/ 1445)، والمحصول (4/ 295)، والإحكام للآمدي (2/ 42)، ونهاية الوصول للهندي (7/ 2783)، وفواتح الرحموت (2/ 127).

(6)

انظر: المحصول (4/ 294)، والإحكام للآمدي (2/ 42)، وفواتح الرحموت (2/ 127).

(7)

انظر: العدة لأبي يعلى (5/ 1444)، والمحصول (4/ 294)، والإحكام للآمدي (2/ 42)، ونهاية الوصول للهندي (7/ 2782)، وفواتح الرحموت (2/ 127).

(8)

انظر: العدة لأبي يعلى (5/ 1444)، والمحصول (4/ 294)، والإحكام للإمدي (2/ 42)، ونهاية الوصول للهندي (7/ 2783)، وفواتح الرحموت (2/ 127).

(9)

انظر: نهاية الوصول للهندي (7/ 2783)، وفواتح الرحموت (2/ 127).

(10)

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/ 95).

ص: 137

وإذ قد علم أن بعض المعجزات نقلت تواترًا، وبعضها آحادًا، فالصواب عندئذ أن يقال: إنه لا يشترط نقل كل خبر تواترًا ولو كثر مشاهدوه، وإنما المعتبر الصحة فقط، خاصة إذا علمنا أن الراوي لم ينكر أحد عليه ما رواه، فهذه قرينة تقوي ذلك الخبر.

ثمَّ أورد الأصوليون مسائل تتعلق بالمعجزة الكبرى منها:

الأولى: إعجاز القرآن في نفسه

قال الزركشي: «ولا خلاف بين العقلاء، أن كتاب الله معجز، لأن العرب عجزوا عن معارضته، واختلفوا في سببه، هل كان لكونه معجزًا)، وهذا حق، ثم ذكر السبب الآخر فقال: «أو لمنع الله إياهم عن ذلك مع قدرتهم عليه، وهو المسمى بالصرف؟»

(1)

. أي صرفوا بسلب القدرة على معارضته، وقد نسب الزركشي القول الأول للجمهور، والثاني للمعتزلة.

والقول بأن القرآن معجز لسلب الله العربَ قدرتهم على الفصاحة والبلاغة باطل بدلالة سياق آية التحدي الذي يدل على نقيض هذا القول، فالله -جل وعلا- يقول:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، فالسياق يقتضي (أنه لا يقال عن الشيء يُمنَعه الإنسان بعد القدرة عليه، وبعد أن كان يكثر مثله منه: إني قد جئتكم بما لا تقدرون على مثله ولو احتشدتم ودعوتم الإنس والجن إلى نصرتكم فيه، وإنما يقال: إني أعطيت أن أحول بينكم وبين كلام كنتم تستطيعونه وأمنعكم إياه»

(2)

، فالآية دالة على أن القرآن خارج عن قدرتهم على معارضته.

(1)

البحر المحيط للزركشي (1/ 183 - 184).

(2)

الرسالة الشافية في إعجاز القرآن للجرجاني (ص 149)، وانظر: الجواب الصحيح (5/ 431)، البحر المحيط للزركشي (2/ 184).

ص: 138

الثانية: وجوه إعجاز القرآن

ذكر الزركشي في البحر المحيط أربعة أقوال في إعجاز القرآن، واكتفى بها دون ترجيح، بينما ذكر في كتابه البرهان اثنى عشر وجهًا

(1)

.

قال الإسلام ابن تيمية: «وكون القرآن أنه معجزة، ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط، أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط، ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط، ولا من جهة سلب قدرتهم عن معارضته فقط

(2)

. بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة؛ من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي، وعن الغيب المستقبل، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بين فيه الدلائل اليقينية، والأقيسة العقلية، التي هي الأمثال المضروبة، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} الإسراء 89]، وقال تعالى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]، وقال:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر 27 - 28]. وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه، ولا يناقض ذلك، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له»

(3)

ا. هـ.

(1)

انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 93 - 106)، والبحر المحيط للزركشي (2/ 184).

(2)

هذا الوجه -وهو الصرفة- تقدم ما فيه، وقد بين شيخ الإسلام ضعف هذا الوجه بعد نهاية هذه الفقرة المنقولة عنه في الجواب الصحيح (5/ 429 - 432)، ثم وجهه على سبيل التنزل، بأنه دال على الإعجاز في حالة النفي والإثبات.

(3)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (5/ 428 - 429).

ص: 139

الثالثة: القدر المعجز من القرآن

قال الزركشي - لما ذكر تعريف القرآن - وهو: «الكلام المنزل للإعجاز بآية منه، المتعبد بتلاوته). قال: «وقلنا: بآية منه، ولم نقل بسورة، كما ذكره الأصوليون، لأن أقصر السور ثلاث آيات، والتحدي قد وقع بأقل منها في قوله تعالى:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34]

»

(1)

.

ثم حكى أقوالًا أخرى في القدر المعجز منه، وحاصلها:

(1)

أن المعجز السورة الطويلة دون القصيرة. لأن البلغاء من العرب قد يقدرون على القليل دون الكثير

(2)

.

(2)

أن المعجز كل سورة من القرآن قصيرة كانت أو طويلة

(3)

.

(3)

أن المعجز أقله سورة الكوثر، وما يعادلها من القرآن، ولو كان آية واحدة، لأن كلماتها عشر كلمات

(4)

.

(4)

ونقل عن المعتزلة أن الإعجاز يحصل بجميع القرآن

(5)

.

ولا شك أن القولين الأول والرابع لا يصحان، لأن القرآن صريح في إثبات التحدي بسورة، وأطلق ذلك دون تقييد بالطويلة ولا القصيرة، فقال الله تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] والقول الرابع أشد بطلانًا وأبعد عن الصواب.

(1)

البحر المحيط (2/ 178).

(2)

انظر: المصدر نفسه (2/ 179)، وهو قول ابن عقيل كما في مجموع الفتاوى (20/ 481)، وحكاه الزركشي في البحر (2/ 179) عن الآمدي.

(3)

انظر: إعجاز القرآن للباقلاني (254 - 258)، والبحر المحيط (2/ 179).

(4)

انظر: الشفا للقاضي عياض (1/ 524).

(5)

انظر: الإتقان للسيوطي (4/ 17).

ص: 140

وبقي النظر في القولين الثاني والثالث، فعلى أساس أن المنصوص عليه وقوع الحديث بسورة من القرآن، فهذا قدر اشتركا في صحته، ويمتاز القول الثالث بالقوة من جهة دلالة قول الله تعالى عليه:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34]، فظاهر هذه الآية وقوع التحدي بأي حديث من القرآن - مما يصدق عليه أنه قرآن - سواء كان سورة أو بعض سورة.

وقد انتصر لهذا القول ابن حزم

(1)

، وهو اختيار كثير من أهل العلم، منهم القاضي عياض

(2)

وأحد قولي الباقلاني

(3)

، وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(4)

، وابن كثير

(5)

، والزركشي

(6)

.

(1)

انظر: الفصل لابن حزم (3/ 12 - 14).

(2)

انظر: الشفا (1/ 524).

(3)

انظر: البحر المحيط (2/ 179).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (16/ 436).

(5)

انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 62).

(6)

انظر: البحر المحيط (2/ 178).

ص: 141

‌المبحث الثالث نسخ هذه الشريعة لما قبلها من الشرائع

لقد أدرج الأصوليون ضمن مباحث النسخ: الكلام على إثباته عقلًا وشرعًا

(1)

، وممن ذكروه في جملة المنكرين للنسخ ثلاث طوائف من اليهود، وهم: الشمعونية

(2)

، والعنانية

(3)

، والعيسوية

(4)

، فالأولى أنكرت جواز وقوع النسخ عقلًا، والثانية سلمت بجواز وقوعه عقلًا لكن أنكرت وقوعه سمعًا، ومرادهما إنكار نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام من قبل.

وقالوا: إن الإقرار بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لا تستقيم إلا مع القول بنسخها لشريعة

(1)

انظر: العدة لأبي يعلى (3/ 769)، والبرهان للجويني (2/ 847)، والمعتمد لأبي الحسين (1/ 371)، والإحكام للآمدي (3/ 115)، وكشف الأسرار (3/ 304)، وشرح العضد على ابن الحاجب (2/ 189).

(2)

لم أهتد لمعرفتهم، ولكن ذكر د. مصطفى زيد في كتابه النسخ في القرآن الكريم (1/ 27)، وعلي حسن العريض في كتابه فتح المنان في نسخ القرآن (ص 143)، أنها إحدى فرق اليهود، وتنسب إلى شمعون بن يعقوب، وقد علمت دعواهم في الأصل أعلاه.

(3)

طائفة من اليهود تنسب إلى رجل يقال له عنان بن داود، رأس الجالوت، يخالفون سائر اليهود في السبت والأعياد، ينكرون نبوة عيسى عليه السلام مع تصديقهم له في مواعظه وإشاراته، ويدعون أنه لم يخالف التوراة في شيء، وإنما قررها كلها.

انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 215).

(4)

إحدى فرق اليهود، ونسبوا إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني، الذي كان في زمن المنصور، وبداية دعوته كانت في عهد آخر ملوك بني أمية، وقد زعم أنه نبي، وقد خالف اليهود في كثير من أحكام الشريعة المذكورة في التوراة.

انظر: الفصل لابن حزم (1/ 99)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 215 - 216).

ص: 142

موسى عليه السلام. فأنكروا النسخ لأجل ذلك.

وأما الطائفة الثالثة فأقرت بجواز النسخ عقلًا ووقوعه شرعًا، لكنهم زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول للأميين العرب من بني إسماعيل خاصة دون غيرهم، أي أنهم ينكرون نسخ هذه الشريعة لشريعتهم على وجه الخصوص.

والحق أن هذه المسألة حقها أن لا تذكر في أصول الفقه أصلًا، أعني الرد على اليهود، وإنما موضعها كتب العقيدة

(1)

.

(1)

نبه على هذا البلقيني، كما نقله عنه العطار في حاشيته على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 121).

ص: 143

‌المبحث الرابع وضع عيسى عليه السلام الجزية بعد نزوله

لا ينافي ثبوت أحكام الشريعة الخاتمة

وهذه المسألة عقدها الزركشي في مباحث الحكم تحت عنوان: أحكام الشرع ثابتة إلى يوم القيامة

(1)

، ثم إنه أورد إشكالًا على هذه المسألة، وهو في نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان -الثابت بالكتاب

(2)

والسنة المتواترة

(3)

، وقد أجمع السلف عليه

(4)

- وذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)

(5)

.

والإشكال هو في قوله: (ويضع الجزية)، فقال الزركشي: «واستشكل بأنه نزل

(1)

انظر: البحر المحيط للزركشي (1/ 217)، وأما نزول عيسى عليه السلام فلا ينافي ختم النبوة، لأنه نبي متقدم أصلًا، ولأنه ينزل حاكمًا بهذه الشريعة الخاتمة، ويؤكده أنه يصلي خلف إمام من هذه الأمة، ويصلي الصلاة المشروعة في هذه الشريعة الخاتمة

إلخ فانظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص 175)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 277).

(2)

في قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 60]، وقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159].

(3)

انظر: النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير (1/ 183).

(4)

انظر: شرح النووي على مسلم (18/ 75).

(5)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب أحاديث الأنبياء، باب نزول عيسى بن مريم عليهما السلام، برقم (3448)، ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم حاكمًا-، برقم (155).

ص: 144

مقررًا لشريعة نبينا، ومن شريعته إقرارهم بالجزية»

(1)

فكيف يضعها عنهم؟

ومحصل إجابات أهل العلم فيه:

(1)

قال النووي: «إن هذا الحكم (أي أخذ الجزية) ليس بمستمر إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل عيسى عليه السلام، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث الصحيحة بنسخه، وليس عيسى عليه السلام هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، فإن عيسى يحكم بشرعنا، فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وكونه حاكمًا، دل عليه الرواية المتقدمة (حكمًا): أي (حاكمًا، والمعنى أنه ينزل حاكمًا بهذه الشريعة فإن هذه الشريعة باقية لا تنسخ، بل يكون عيسى حاكمًا من حكام هذه الأمة)

(3)

.

(2)

وقد أجاب بعضهم بأن وضع الجزية زمن نزول عيسى عليه السلام إنما هو لكثرة المال حتى لا يقبله أحد، بخلاف ما قبل نزوله، فالحاجة إلى المال قائمة

(4)

.

وهذه الإجابة محتملة، والأولى أقوى منها، لأن عيسى عليه السلام لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال، فمن هنا جاء وضع الجزية، لا من كثرة المال.

(3)

وإجابة ثالثة نقلها ابن حجر عن بعض مشايخه -ولم يسمه- فقال: «ويحتمل أن يقال إن مشروعية قبولها من اليهود والنصارى لما في أيديهم من شبهة الكتاب، وتعلقهم بشرع قديم بزعمهم، فإذا نزل عيسى عليه السلام زالت الشبهة بحصول معاينته،

(1)

البحر المحيط للزركشي (1/ 217).

(2)

شرح النووى على صحيح مسلم (2/ 190).

(3)

فتح الباري -لابن حجر (6/ 567).

(4)

انظر: فتح الباري -لابن حجر (6/ 567).

ص: 145

فيصيرون كعبدة الأوثان في انقطاع حجتهم وانكشاف أمرهم، فناسب أن يعاملوا معاملتهم في عدم قبول الجزية منهم»

(1)

.

لكن هذه الإجابة أضعف من سابقتها، فالأولى الاعتماد على الإجابة الأولى.

(1)

فتح الباري -لابن حجر (6/ 567).

ص: 146

‌المبحث الخامس في إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

-

وردت هذه المسألة في كتب أصول الفقه في المواضع الآتية:

الأولى: بقاء النقل مع توفر الدواعي على إبطاله يدل على صحته قطعًا، كخبر الغدير والمنزلة

(1)

.

الثانية: أن الواحد لو انفرد بنقل ما لو وجد لتوفرت الدواعي على نقله، إما لتعلق الدين به أو لغرابته، ولم ينقله الباقون على كثرتهم في مشاهدته، فيقطع بكذبه عند الجمهور خلافًا للشيعة في ادعائهم النص على إمامة علي رضي الله عنه قبل الثلاثة

(2)

.

ولا يختلف أهل السنة والجماعة في فضل علي رضي الله عنه وأهل بيته الطاهرين، فهو أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، والناصرين له، والمهاجرين، بل هو رابع هذه الأمة في الفضل بعد نبيها صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل السنة

(3)

، وقد يوجد قليل من يقدمه في الفضل على عثمان رضي الله عنهم جميعًا -.

وبشأن الخلافة، فأهل السنة متفقون على أنه رابع الخلفاء الراشدين، وأنه أولى الناس بعد عثمان، وأن بيعته كانت صحيحة، وإمامته شرعية، لايجوز الخروج عليه، ولا شق عصا طاعته، وأنه كان فرضًا على أهل زمانه الدخول في بيعته

(1)

انظر: نهاية الوصول للهندي (7/ 2773)، ونهاية العقول (2/ 28 - 30).

(2)

انظر: نهاية الوصول للهندي (7/ 2780).

(3)

انظر قول الإمامين الشافعي وأحمد بهذا في الاعتقاد للبيهقي: (336).

ص: 147

وطاعته، وأن من قاتله يعد من البغاة، وأنه أقرب إلى الحق ممن سواه ممن قاتله

(1)

.

ولم يختلف أهل السنة في أن عليًا ليس بأولى من أبي بكر وعمر بالولاية قبلهما، ولا كذلك عثمان بعد اتفاق المهاجرين والأنصار عليه ومبايعتهم له، لكن نبغ الروافض فادعوا أحقيته في الخلافة عقيب موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعوا النص على ذلك، وأن الأمة قد كتمت ذلك، فأخرجوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين -إلا قليلًا منهم- لأنهم غصبوا عليًا حقه، خاصة وأن الإمامة عندهم من أصول دينهم.

(1)

انظر قول الإمامين الشافعي وابن خزيمة في هذا المعنى في الاعتقاد للبيهقي: (375).

ص: 148

‌الفصل الخامس المسائل المتعلقة بالاستدلال والتلقي

ص: 149

‌المبحث الأول عدالة الصحابة

المراد بالعدالة ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة

(1)

.

وليس المراد من عدالة كل فرد من الصحابة عصمتهم من المعاصي والخطأ، وإنما المراد بها قبول روايتهم وتصديق أقوالهم وعدم البحث عن تزكية لهم كما يحتاجها غيرهم

(2)

.

وقد أجمعت الأمة على عدالتهم

(3)

، ودلَّت الأدلة الدالة الكثيرة على ذلك منها: ثناء الله -جل وعلا- على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناءً جميلًا، ولا تعديل فوق تعديل الله تعالى، وقد تنوع هذا الثناء في كتاب الله، فمنه ما كان في أصحاب بيعة الرضوان، ومنه ما هو في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ومنه ما هو عام يشمل سائر الصحابة رضوان الله عليهم.

ومن السنة: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) وفي رواية: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

)

(4)

.

(1)

انظر: الكفاية للخطيب البغدادي (102 - 103)، والمستصفى للغزالي (1/ 157) وشرح تنقيح الفصول (ص 361)، وشرح العضد (2/ 63)، ونزهة النظر (ص 83).

(2)

تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة للعلائي (ص 86)، وانظر منهاج السنة النبوية (2/ 456 - 458)، والبحر المحيط (6/ 189).

(3)

مقدمة علوم الحديث لابن الصلاح [مع كتاب التقييد والإيضاح للعراقي](ص 287).

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 151

وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)

(1)

.

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

المسألة الأولى: قبول رواية الصحابي؛ لأن من شروط قبول الرواية بالإجماع العدالة، والصحابة كلهم عدول

(2)

.

الثانية: لا تضر الجهالة بالراوي من الصحابة، فلو جهل اسم أحدهم فلا يخرج عن مطلق العدالة، فتقبل روايته، ولو «عن رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، كان ذلك كتعيينه باسمه لاستواء الكل في العدالة»

(3)

.

الثالثة: إذا قال الصحابي قال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحمل على السماع بلا واسطة، ويقبل خبره لعدالته

(4)

، ولو احتمل أن يكون قد سمعه من واسطة؛ لأن الواسطة إما أن يكون صحابي آخر، فتقبل؛ لأن الصحابة كلهم عدول

(5)

، وهذا هو المقصود هنا، وإن كان الواسطة غير صحابي ففيه خلاف.

ذكر ابن السبكي أن البناء على عدالة الصحابة يظهر لو تعين أن يكون من روى

(1)

متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، برقم (3673) ومسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة، برقم (2541).

(2)

انظر: شرح اللمع (2/ 634)، البرهان (2/ 404)، المنخول (356)، الإحكام (2/ 90)، البحر المحيط (4/ 299).

(3)

التحبير (4/ 1995)، وانظر: البحر المحيط (4/ 200).

(4)

انظر: الإحكام (2/ 95)، نهاية الوصول لابن الساعاتي (1/ 368)، أصول ابن مفلح (2/ 581)، شرح العضد (2/ 68).

(5)

انظر: الإحكام (2/ 95)، شرح العضد (2/ 68).

ص: 152

عنه صحابيًا آخر، أما لو كان تابعيًا فلابد من البحث عن عدالته

(1)

.

ويدخل في هذه المسألة، مسألة قبول مرسل الصحابي؛ لأنهم وإن لم يسمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم فهم قد سمعوها من صحابة آخرين، وكلهم عدول

(2)

.

(1)

انظر رفع الحاجب (4/ 407).

(2)

انظر: أدب القاضي (1/ 400).

ص: 153

‌المبحث الثاني الإلهام

الإلهام: من لهم، وهو أصل يدل على ابتلاع شيء، ثم يقاس عليه، تقول العرب: التهم الشيء: أي التقمه، ومنه الإلهام كأنه شيء ألقي في الروع فالتهمه، وألهمه الله الخير: أي لقنه إياه

(1)

.

وعُرِّف في الاصطلاح بأنه ما حرَّك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة، وقيل: إيقاع شيء في الصدر يثلج له الصدر يخص الله به بعض أصفيائه

(2)

.

واتفق العلماء على أن إلهام الأنبياء حق وحجة، وأنَّه «من جملة طرق الوحي»

(3)

.

أمَّا يقع للنَّاس من إلهامات فهي محل خلاف، وذلك أن إلهامهم قد يوافق الحق وقد يخالفه، فليس هم معصومين، بل الغالب على الناس وسوسة الشياطين.

ومجمل أقوال أهل العلم ما يأتي:

القول الأول: الإلهام حجة مطلقًا، على الملهَم وغيره. وبه قال بعضٌ من

(1)

انظر: مقاييس اللغة (5/ 217)، القاموس المحيط (1498) مادة: لهم.

(2)

انظر: تقويم الأدلة (392)، جمع الجوامع مع تشنيف المسامع (3/ 455)، التعريفات (51)، البحر المحيط (6/ 103)، شرح الكوكب (1/ 329 - 330).

(3)

البحر المحيط (6/ 105).

ص: 154

الحنفية، والصوفية، والرافضة

(1)

.

وهذا القول ساقط، ويترتب عليه مفاسد عظيمة؛ إذ «لو أعطي كل امرئ بدعواه المعرَّاة، لما ثبت حق ولا بطل باطل، ولا استقر أحد على مال، ولا انتصف من ظالم، ولا صحت ديانة أحد أبدًا؛ لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول: ألهمت أن دم فلان حلال، وأن ماله مباح لي أخذه، وأن زوجته مباح لي وطؤها»

(2)

.

ومن الدلائل على بطلانه أنه يعارض بمثله، فإن قال قائل: ألهمت أن ما أقوله حق وصواب. قال خصمه: وأنا ألهمت أن قولي حق، أو أن ما تقوله خطأ

(3)

.

القول الثاني: الإلهام ليس حجة مطلقًا، وبه قال جمع من أهل العلم منهم القفال الشاشي، وابن السبكي، والنسفي

(4)

.

والدليل: كونه خيالًا، ولا يعرف أهو حق أو باطل، وأكثر ما يقع للناس إنما هو من وسوسة الشيطان، فليس هو من العلم، وليس على جوازه دليل.

قال ابن أمير حاج: "الإلهام ليس بحجة مطلقًا، لانعدام ما يوجب نسبته إلى الله"

(5)

.

والجواب أن الدليل قام على ما سيأتي في القول الثالث.

(1)

انظر: ميزان الأصول للسمرقندي (679)، جمع الجوامع مع تشنيف المسامع (3/ 455)، البحر المحيط (6/ 103)، فواتح الرحموت (2/ 422)، درء تعارض العقل والنقل (8/ 29).

(2)

الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 17).

(3)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 17)، قواطع الأدلة (2/ 351).

(4)

انظر: البحر المحيط (6/ 103)، العقائد النسفية (41)، تيسير التحرير (4/ 185)، روح المعاني للألوسي (8/ 340).

(5)

تيسير التحرير (4/ 185).

ص: 155

وذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة أنه «ليس من الممتنع وجود العلم بثبوت الصانع وصدق رسوله إلهامًا، فدعوى المدعي امتناع ذلك يفتقر إلى دليل. فطرق المعارف متنوعة في نفسها، والمعرفة بالله أعظم المعارف، وطرفها أوسع وأعظم من غيرها، فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفيًا عامًا لما سوى تلك الطريق لم يقبل منه، فإن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل»

(1)

.

القول الثالث: الإلهام ليس بحجة ولا دليلًا مستقلًا، ولكن يجوز أن يعمل به الملهم بشروط. وقال به جمع من أهل العلم منهم أبو زيد الدبوسي، ابن السمعاني، وابن الصلاح، وابن تيمية

(2)

.

وشروط العمل به:

الأول: فقد الأدلة كلها، المتفق عليها والمختلف فيها. ويصلح للترجيح بين الأدلة عند تكافؤ الأدلة الظاهرة في نظر المجتهد.

الثاني: اقتصار العمل به في المباحات، دون الواجبات والمندوبات، والمحرمات والمكروهات.

الثالث: جواز عمل الملهَم به في حق نفسه فقط، ولا يتعداه إلى غيره.

وهذا القول هو الأسعد بالدليل، ومن تلك الأدلة:

قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8].

(1)

درء تعارض العقل والنقل (8/ 46).

(2)

انظر: تقويم الأدلة (392)، قواطع الأدلة (5/ 132)، فتاوى ابن الصلاح (1/ 196)، مجموع الفتاوى (10/ 473، 20/ 42)، درء تعارض العقل والنقل (8/ 46) شرح الكوكب المنير (1/ 331 - 332).

ص: 156

قال ابن تيمية: «فهو سبحانه يلهم الفجور والتقوى للنفس، والفجور يكون بواسطة الشيطان، وهو إلهام وسواس، والتقوى بواسطة ملك، وهو إلهام وحي

وهذه الآية مما تدل على أنه يفرق بين إلهام الوحي وبين الوسوسة»

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)

(2)

ثمَّ قرأ قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:: 75].

وقوله صلى الله عليه وسلم: (لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحَدَّثُون، فإن يك في أمتي أحدٌ فإنه عمر)

(3)

.

والمحدَّث هو الملهم المخاطَب، الذي يُلقي في نفسه الشيء فيخبر به حدْسًا وفراسة

(4)

.

وهذه الأدلة وغيرها تدل على أن القلوب المؤمنة فيها من معرفة الحق والإذعان له ما يقوي الاعتماد عليها.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أن " ما يلقيه الله في قلوب المؤمنين من الإلهامات الصادقة العادلة هي من وحي الله"

(5)

.

ومن المسائل الأصولية المبنية على مسألة الأصل:

المسألة الأولى: لا يشترط أن يكون للإجماع مستند عند من جعل الإلهام

(1)

مجموع الفتاوى (17/ 529).

(2)

أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، برقم (3127)، وقال: حديث غريب.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، برقم (3689)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عمر بن الخطاب، برقم (2398).

(4)

انظر: البحر المحيط (6/ 105).

(5)

مجموع الفتاوي (15/ 98).

ص: 157

دليلًا

(1)

فقد جوَّز انعقاد الإجماع لا عن دليل؛ لأن الإجماع يكون حينئذ من توفيق الله وإلهامه لهم لإصابة الحق؛ وإذا كان توفيقًا وإلهامًا فلا حاجة إلى مستند ودليل.

ومن لم يجوِّز الإلهام منع من ذلك.

المسألة الثانية: حجية الاستحسان المعبَّر عنه بأنه: دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه.

قال ابن تيميَّة: «وأما الاستدلال على الأحكام بالإلهام، فتلك مسألة أخرى، ليس هذا موضعها، والكلام في ذلك متصل بالكلام على الاستحسان والرأي وأنواعهما، وأن ما يعنيه هذا بالاستحسان، قد يعنيه هذا بالإلهام. وليس الكلام فيما علم فساده من الإلهام لمخالفته دليل الحس والعقل والشرع، فإن هذا باطل، بل الكلام فيما يوافق هذه الأدلة لا يخالفها»

(2)

.

وقال الطوفي: «وإنما امتنع من هذا كثير من الناس من جهة أن هذا يصير حكمًا في الشرع بما يشبه الإلهام، وأحكام الشرع إنما بنيت على ظواهر الأدلة، فتدور معها وجودًا وعدمًا»

(3)

.

المسألة الثالثة: حجية الترجيح بين الأدلة إذا تكافأت.

قال ابن تيميَّة: «

ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعيَّة الظاهرة فلم ير فيها ترجيحًا، وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى، فإلهام مثل هذا دليل في حقه، قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة العقليَّة،

(1)

انظر: ميزان الأصول (2/ 756)، سلاسل الذهب (357)، البحر المحيط (4/ 451)، التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 110)، فواتح الرحموت (2/ 239).

(2)

درء تعارض العقل والنقل (8/ 46).

(3)

شرح مختصر الروضة (3/ 192 - 193).

ص: 158

والأحاديث الضعيفة، والظواهر الضعيفة، والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف، وأصول الفقه»

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 473).

ص: 159

‌المبحث الثالث فهم الأدلة بحسب المعنى المراد والاستعمال

وفيه الحديث عن المسائل الآتية:

‌المسألة الأولى: المجاز من حيث الإثبات والمنع وآثاره.

المسألة الثانية: المتشابه.

المسألة الثالثة: التأويل.

• المسألة الأولى: المجاز من حيث الإثبات والمنع وآثاره.

ومرادهم به وبخاصة الأصوليون: «الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح به التخاطب، على وجه يصح، مع قرينة عدم إرادته»

(1)

.

وقد ذكر الأصوليون أن المذاهب في إثبات المجاز ونفيه ثلاثة

(2)

:

المذهب الأول: إثبات المجاز في اللغة والقرآن، ونسب هذا المذهب إلى الجمهور

(3)

.

المذهب الثاني: إثبات المجاز في اللغة دون القرآن، ونسبه الأصوليون إلى

(1)

هذا تعريف القزويني في الإيضاح (ص 394)، وانظر نحوه لابن الحاجب (1/ 186)(مع شرحه بيان المختصر).

(2)

انظر: الإحكام للآمدي (1/ 45، 47)، وغيره، لكن الزركشي في البحر (1/ 50) أوصلها إلى خمسة مذاهب.

(3)

الإحكام للآمدي (1/ 45).

ص: 160

الرافضة، وبعض الظاهرية.

المذهب الثالث: منع المجاز مطلقًا، ونسبه الأصوليون إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

وابن القيم

(2)

ومحمد الأمين الشنقيطي

(3)

وغيرهم.

وبسط الأدلة المناقشات يطول هنا، وللاستزادة يرجع إلى أصل الكتاب.

أما الآثار المترتبة على القول بالمجاز في أصول الدين فظهر من خلال القول أن ظاهر اللفظ غير مراد، والمجاز قائم على أساس ذلك، وقد أدخله أكثر القائلين به في كلام الله، فنتج منه شر مستطير، وصار معتصم كل مبطل ومحرف لنصوص الشرع

(4)

.

فقالوا: إن الأدلة الواردة في صفات الله مجاز لم يرد بها حقائقها، والذي دل على المجاز ليس مفردات الألفاظ، وإنما العقل، وعندئذ يطالبون ببيان ما يمنع إجراءها على ظاهرها، وعلم بهذا أن الخلاف في المجاز إثباتًا ونفيًا، ليس لفظيًا، خاصة في العقلي منه.

وقد أورد الأصوليون في أمثلتهم عددًا من الصفات، وقعوا في تحريفها باعتبار أن ظاهر اللفظ غير مراد، من تلك الصفات: الاستواء على العرش، صفة اليدين، والمجيء، والوجه، رؤية الله في الآخرة

(5)

.

(1)

ذكره في الإيمان، ضمن مجموع الفتاوى (7/ 96).

(2)

في الصواعق المرسلة، انظر مختصره (2/ 271) فما بعدها.

(3)

انظر: رسالة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز. وقد نص على منعه في اللغة كذلك (ص 8).

(4)

نقله عنه الزركشي في البحر المحيط (3/ 51).

(5)

وقد ذكر أبو الحسين البصري - وقد وافقه الرافضة - ضمن أمثلة المجاز في القرآن قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وهذا لأن الرؤية عنده مستحيلة، أما الأشاعرة الأصوليون فلم يوردوا ما يتعلق بالرؤية ضمن المجاز، لأنهم يثبتونها، ولكن بطريقة تخالف ما عليه السلف. انظر: التوحيد لابن خزيمة (1/ 24 - 44).

ثم استطردوا في كتب الأصول في مسألتين متعلقتين بالرؤية:

الأولى: ما هي علة جواز الرؤية، والثانية: هل يرى الله في جهة أو لا؟ وإذا قيل: لا، فهل الرؤية على ظاهرها، أو هي علم أجلى؟.

ص: 161

وهؤلاء يطالبون بالدليل على امتناع إرادة الحقيقة، وبالجواب عن الأدلة الموجبة لإرادة الحقيقة.

•‌

‌ المسألة الثانية: المتشابه.

والمقصود بحث معنى المتشابه في الأدلة السمعية - أعني الكتاب والسنة -، وبحث ما أطلق من كلام بعض الناس: أن نصوص الصفات من المتشابه.

والمتشابه في اللغة قد يكون من الشبه الذي هو بمعنى المثل، فالمتشابه إذًا يطلق على التماثل بين شيئين فأكثر، وقد يكون المتشابه من الاشتباه -لا التشابه- تقول: اشتبه الأمر إذا أشكل، فعلى هذا فالمتشابه هو المشكل

(1)

، قال ابن قتيبة: «ويقال: لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره

»

(2)

.

وعلى كلا المعنيين وردت الكلمة في التنزيل: قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [سورة: الزمر: 23]، فهذا وصف للقرآن كله بأنه متشابه، أي يشبه بعضه بعضًا في الحسن فلا اختلاف فيه ولا تضاد

(3)

.

(1)

انظر: لسان العرب (7/ 23 - 24)، والقاموس المحيط (1610)، مادة شبه.

(2)

تأويل مشكل القرآن (102).

(3)

انظر: جامع البيان للطبري (12/ 23/ 210)، ومعالم التنزيل للبغوي (7/ 115).

ص: 162

وأما المعنى الثاني وهو الدقة والإشكال، فيمكن تنزيل قول الله تعالى في آية آل عمران عليه، وهي:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل: عمران: 7].

ففي هذه الآية نوَّع الله آيات الكتاب إلى محكمات ومتشابهات، فدل هذا على أن المتشابه هنا غير المتشابه الذي ذكره في آية الزمر، لأن هناك عم به كل القرآن، وهنا ذكره في بعضه، والذي في الزمر لا ينافي الإحكام الذي ذكره الله تعالى عن القرآن كله، كقوله:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، فالإحكام هنا بمعنى الإتقان

(1)

، فالقرآن محكم أي أنه متقن ممنوع من الفساد، والاختلاف، والتضاد، وهنا في آية آل عمران ذكره الله مقابلًا للمحكم فدل على التغاير.

والتأويل إما أن يكون بمعنى التفسير، وإما أن يكون بمعنى المرجع والمصير

(2)

، والذي يدل عليه استعمال هذه الكلمة في القرآن هو المعنى الثاني خاصة، فمما جاء في تأويل القرآن آيتان:

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [: الأعراف: 52،: 53] فالضمير في قوله {تَأْوِيلَهُ} راجع إلى الكتاب، وهو هنا بمعنى الحقيقة المخبر عنها في القرآن من

(1)

انظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 91)(حكم).

(2)

سيأتي ذلك (ص 1047).

ص: 163

ذكر الآخرة والنار

(1)

.

وإذا رجعنا إلى آية آل عمران في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وفسر التأويل فيها على معنى الحقيقة والمآل، يكون المتشابه بمعنى: ما لا تدرك حقيقته ومآله ويتعين الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، وعلى هذا يحمل ما ورد عن السلف، كابن عباس رضي الله عنهما فإنه قرأ الآية هكذا:(وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به)

(2)

.

وفرق بين علم تأويله وعلم معناه، فقد أثر عن السلف أنهم كانوا يقرأون القرآن ويفسرونه كله، وهذا يدل على أن معناه معلوم لهم.

وقد رأى بعض أهل العلم أن الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} غير متعين، ويرون عطف {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على اسم الله، فيكون الراسخون ممن يعلم تأويله، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:«أنا ممن يعلم تأويله»

(3)

، وقال مجاهد:«والراسخون في العلم يعلمون تأويله»

(4)

وعلى هذا يتعين أن يكون التأويل الذي

(1)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 278 - 279).

(2)

رواه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 116)، ومن طريقه ابن جرير في تفسيره جامع البيان (3/ 3/ 182)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 317)، برقم (3143) وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/ 58):"إسناده صحيح. ".

(3)

أخرجه ابن جرير في جامع البيان (3/ 3/ 182) عن محمد بن عمرو (وهو ابن العباس الباهلي - ثقة) عن أبي عاصم (وهو الضحاك بن مخلد - ثقة) عن عيسى (هو ابن ميمون المكي -ثقة) عن أبي نجيح (هو عبد الله بن يسار - ثقة) عن مجاهد (وهو ابن جبر -ثقة) عن ابن عباس رضي الله عنهما فإسناده صحيح. وانظر تراجم المذكورين -على التوالي- في تقريب التهذيب (8266)، (2994)، (5369)، (3886)، (5623).

(4)

أخرجه ابن جرير في جامع البيان (3/ 3/ 183) وإسناده صحيح - وهو نفس إسناد الأثر المتقدم عليه- وأخرجه من وجه آخر حسن.

ص: 164

يعلمه الراسخون في العلم، ليس هو ذاك التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، فوجب أن يفسر بمعنى التفسير.

وعلى هذا يكون المتشابه في الآية: ما أشكل معناه، وهذا أمر نسبي إضافي، فقد يستشكل عالم ما لا يستشكله آخر، لكن في مجموع الأمة وجب أن يكون كل ما في القرآن معلوم المعنى.

وبهذا يرتفع الخلاف المحكي عن العلماء حول معنى المتشابه، فمنهم من قال: المتشابه: ما لا يعلم معناه إلا الله

(1)

، ومنهم من قال هو المجمل نفسه الذي لا يتضح معناه من نفسه إلا ببيان آخر

(2)

، وربما زاد بعضهم أن الاشتباه قد يكون للإجمال أو الاشتراك

(3)

.

فإذا جمع بينهما على أساس أن ما لا يعلم معناه إلا الله، هو علم تأويله -أي حقيقته ومآله- والذي يعلمه الله والراسخون في العلم: هو علم معناه، ارتفع الخلاف

(4)

.

ورود هذه المسألة في كتب أصول الفقه:

الذي يلحظ من صنيع أكثر المؤلفين في الأصول: أنهم يرون أن نصوص الصفات من المتشابه، وقد قال بذلك من تأولها أو تأول أكثرها-، وبعض من لم يتأولها أي المثبتة.

(1)

انظر: العدة لأبي يعلى (2/ 689)، وروضة الناظر (1/ 186)، وأصول البزدوي -مع كشف الأسرار- (1/ 150)، وشرح التلويح (1/ 237)، والبحر المحيط (2/ 191).

(2)

انظر: البرهان 1/ 284)، والتلخيص (1/ 180)، وإحكام الفصول للباجي (1/ 48).

(3)

انظر: المستصفى (1/ 106)، والإحكام للآمدي (1/ 165)، والمسودة (ص 161)، وشرح الكوكب المنير (2/ 141).

(4)

انظر: كشف الأسرار (1/ 151 - 152)، و البحر المحيط (1/ 239)، وشرح التلويح (1/ 239).

ص: 165

فمن المثبتة: ابن قدامة، فإنه قال:«والصحيح أن المتشابه: ما ورد في صفات الله سبحانه مما يجب الإيمان به ويحرم التعرض لتأويله، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]»

(1)

.

وهذا الكلام يوجه توجيهين:

التوجيه الأول: إنها متشابهة من جهة حقائقها، وهذا شأن الأسماء المتواطئة، فإنها عند التجرد من الإضافة والتخصيص يفهم منها معنى كلي ذهني، وبعد الإضافة والتخصيص يمتنع أن يكون ما ثبت لله مشابهًا لما ثبت للمخلوقين، ومجرد الاشتراك في ذلك المطلق لا يوجب التماثل، فما ثبت لله يكون على وجه الكمال والتنزه عن مشابهة خلقه، ونقطع الطمع عن إدراك الكيفية التي حجبها الله عنا، فيكون التأويل المحرم فيها على هذا الأساس طلب معرفة الكيفية

(2)

.

التوجيه الثاني: أو يقصد أنها متشابهة من جهة استشكال المتكلمين لها

(3)

، إذ لاحظوا الاتفاق والتواطؤ في الأسماء العامة، فظنوا أن ذلك يقتضي تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فطلبوا تأويلها بصرفها عن ظاهرها المراد شرعًا، والحق خلاف ما توهموه، ولذلك قال:«ويحرم التعرض لتأويله» ، ولذلك قال بعد سرده للآيات: «فهذا اتفق السلف رحمهم الله على الإقرار به، وإمراره على وجهه، وترك تأويله

»

(4)

.

وإنما تعين ذكر التوجيهين، لأن من قال: المتشابه ما استأثر الله بمعناه، يكون

(1)

روضة الناظر (1/ 186).

(2)

انظر: الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم الأصفهاني التيمي (2/ 257).

(3)

انظر: شرح الكوكب المنير (2/ 141).

(4)

روضة الناظر (1/ 186).

ص: 166

عده نصوص الصفات من المتشابه، تسليمًا للجهمية القائلين إن لها ظاهرا غير مراد، ولا يعلم تأويلها إلا الله. علمًا بأن السلف لم يقروا الجهمية، فلا بد إذًا من القول بأن نصوص الصفات ليست من المتشابه إذا أريد فهم المعنى

(1)

.

وأما المتكلمون الذين ينفون الصفات - كلها أو بعضها- فقد عدوا نصوص الصفات من المتشابه كذلك.

وقد يتمسك بعضهم بعبارات للأئمة توهموا أنها تفيد تفويض المعنى، ومن ثَمَّ القول بأن نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، ومن ذلك قولهم:«أمروها بلا تفسير)، وقول الإمام مالك: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»

(2)

.

ومراد الأئمة من قولهم: (أمروها بلا تفسير) أو (لا تفسر) أو (تمر كما جاءت)، أحد معنيين؛ إما أن يريدوا: لا تفسر الكيفية، لأنها غير مدركة للخلق، أو أنها تمر كما جاءت دون تفسير الجهمية الذي حقيقته التحريف.

فظهر من شرح عبارات أهل العلم أنهم لا يقولون إن نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، بل هي واضحة معلومة عند السامعين، وأن المنكر عندهم هو تفسيرها تفسير الجهمية - الذي حقيقته التحريف والتبديل - وأن الكيفية كذلك لا تفسر، لأنها غير معلومة لنا.

(1)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 296).

(2)

هذا الخبر مروي عن الإمام مالك من عدة طرق، أجودها طريق عبد الله بن وهب أخرجها البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 304)، برقم (866) وعن طريقه الذهبي في العلو (ص 103)، والطريق الثاني عن يحيى بن يحيى أخرجها الدارمي في الرد على الجهمية (ص 55 - 56) رقم (104)، و البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 305) برقم (867) وفي الاعتقاد (ص 116)، والصابوني في اعتقاد أهل الحديث (ص 17 - 19) برقم (25، 26)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 235، 326)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 398)، برقم (664).

ص: 167

•‌

‌ المسألة الثالثة: التأويل

اصطلح المتأخرون من الأصوليين على تعريف التأويل بأنه: صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه مرجوح يحتمله لدليل راجح، وهذا حدُّ التأويل الصحيح، وإذا أريد تعريف التأويل دون اعتبار الصحة، أي ليشمل الصحيح والفاسد حذف قيد (دليل راجح)

(1)

.

ولا مشاحة في الاصطلاح، فالحد المذكور للتأويل الصحيح سليم، إذا روعيت شروطه واعتبرت.

وشروط التأويل الصحيح هي:

الشرط الأول: ألا يكون الدليل نصًا في معناه

(2)

.

الشرط الثاني: احتمال التركيب المعين لذلك التأويل بعينه

(3)

.

وإنما اعتبر التركيب، لأن معرفة ما يحتمله اللفظ من المعاني بحسب اللغة فقط لا يكفي، وإنما لا بد من ملاحظة التركيب الذي يحدد المعنى، وهذا يفيد كذلك في التمييز بين مدلولات الكلمة في تراكيب مختلفة، إذ لا يلزم أن يكون ورود اللفظ بمعنىً في سياق ملازمًا له في كل سياق. وبالجملة فهذا الشرط تضمن أمرين:

(1)

احتمال اللفظ للمعنى المؤول إليه

(4)

.

(1)

انظر: إحكام الفصول للباجي (49)، والإحكام للآمدي (3/ 53)، وكشف الأسرار (1/ 118)، وإرشاد الفحول (2/ 44).

(2)

انظر: بدائع الفوائد (1/ 15).

(3)

انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 290).

(4)

انظر: الإحكام للآمدي (3/ 54)، والموافقات (3/ 330)، و الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 289) و البحر المحيط للزركشي (5/ 46).

ص: 168

(2)

ثم احتماله في ذلك التركيب الخاص

(1)

.

ومن ههنا يعرف خطأ إيراد كثير من معطلة الصفات لنصوص هي ظاهرة في معناها، كقول الله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] الدال على أنه لا يبقى إلا ما أريد به وجهه، بقرينة أول الآية:{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ونحو قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة 115] أي قبلة الله، فيأتي المعطل، ويحاول إلزام المثبت أن يؤول ما هو صريح في إثبات الوجه في أدلة أخرى، لمجرد وجود لفظ (الوجه) الذي هو ظاهر في معناه في تلك الآيات

(2)

، فيدعي أنه كذلك في أدلة أخرى، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)

(3)

، وكقوله صلى الله عليه وسلم لما نزل قول الله تعالى:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قال: (أعوذ بوجهك) الحديث

(4)

، والأدلة الدالة على إثبات الوجه كثيرة.

الشرط الثالث: إقامة دليل يرجح المعنى المؤول إليه بحيث يكون المعنى المؤول إليه أقوى من المعنى الظاهر الذي أفاده الكلام قبل ذلك الدليل المرجح، فهذا الشرط تضمن أمرين

(5)

:

(1)

انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 289)، 292)، و البحر المحيط للزركشي (5/ 46).

(2)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 14 - 17).

(3)

متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، برقم (7444) ومسلم في كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربهم سبحانه - برقم (296).

(4)

أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} من سورة الأنعام، برقم (4628).

(5)

انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 292)، والبحر المحيط للزركشي (5/ 46).

ص: 169

(1)

الإتيان بدليل شرعي يوجب التأويل، وإلا كان تلاعبًا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحريفًا لهما

(1)

.

(2)

أن يكون ذلك الدليل المرجح للمعنى المؤول إليه أقوى من الظاهر الذي يعارضه، لأن الأصل البقاء على الظاهر، ولا يقاوم هذا الظاهر إلا ما كان أقوى منه، حتى يكون المعنى المؤول إليه أقوى من ذلك الظاهر الذي أفاده الكلام

(2)

.

وبالجملة فإنه كما قال ابن القيم: «فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان، عمل بمقتضاه»

(3)

.

وقال أيضًا «وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص، وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد، ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك»

(4)

.

ورود المسألة في كتب أصول الفقه:

ذكر ابن برهان في تسليط التأويل المصطلح عليه على نصوص الصفات ثلاثة أقوال - وتبعه على ذلك الزركشي وزاد عليه في العقائد مطلقًا

(5)

.

القول الأول: «أنه لا مدخل للتأويل فيها، بل تجرى على ظاهرها، ولا يؤول

(1)

انظر: الإحكام للآمدي (3/ 54)، والموافقات (3/ 331).

(2)

انظر: الموافقات (3/ 332)، و البحر المحيط للزركشي (5/ 37، 38).

(3)

أعلام الموقعين (1/ 218).

(4)

الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 187)، وقد بين ابن القيم أنواع التأويل الفاسد، فأوصلها إلى عشرة في كتابه الصواعق المرسلة (1/ 187 - 201).

(5)

انظر: الوصول إلى الأصول لابن برهان (1/ 375)، و البحر المحيط للزركشي (5/ 39).

ص: 170

منها شيء، وهم المشبهة»

(1)

ومعنى حملهم لها على ظاهرها أنهم: «

حملوا اليد على الجارحة، والاستواء على الاستقرار»

(2)

.

القول الثاني: «وذهب كثير من السلف إلى ترك تأويل الآيات والأخبار مع اعتقاد نفي التشبيه، وزعموا أن الإقدام على التأويل خطأ من غير أن يكون هناك دليل قاطع يدل عليه»

(3)

.

القول الثالث: «أنها مؤولة، وأولوها»

(4)

بالفعل.

وما ذكروه في المذهب الثاني أنه قول السلف ليس بصحيح- وقد تقدم ذكر مذهب السلف في صفات الله، والأسس التي قام عليها.

لكن المتكلمين لما ظنوا أن ظواهر نصوص الصفات توهم التشبيه، عدُّوا كل مثبت للصفات مشبهًا، ويلقبونه بألقاب سيئة كالحشوي.

ثم إن لفظ الظاهر صار فيه إجمال، فإن أريد بالظاهر: الظاهر الشرعي الذي يفيد إثبات الصفات على وجه الكمال مع التنزيه عن المماثلة - فهذا ظاهر مقبول لا يرد، وإن أريد به ما يظهر للمتكلم المتأثر بالأوهام والشكوك والظنون، من أنه يثبت له كما يثبت للخلق، فهذا الظاهر يجب نفيه، ويبين المعنى الصحيح لنصوص الصفات

(5)

.

من الأمثلة التي ذكرها المؤلفون في الأصول أنه يحتاج إلى تأويل: قول الله

(1)

البحر المحيط للزركشي (5/ 39).

(2)

الوصول إلى الأصول (1/ 377).

(3)

المصدر نفسه (1/ 377).

(4)

البحر المحيط للزركشي (5/ 39).

(5)

انظر: الرسالة التدمرية لابن تيمية (ص 69).

ص: 171

تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل: عمران: 54]، وقوله:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [: البقرة: 15] قوله الله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وقوله الله تعالى:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، قال الله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [: الرحمن: 27]، قول الله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:: 5] إلى غير ذلك من الآيات.

ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض)

(1)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:(قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن)

(2)

.

والتحقيق أن صلة هؤلاء المتكلمين في هذا الباب باب الأسماء والصفات - مما عطلوا الباري منها - منقطعة بسلف الأمة

(3)

، وهم في اضطراب من أمرهم

(1)

هذا الحديث لا يصح مرفوعًا قطعًا، فروي مرفوعًا عن أنس عند أبي يعلى في إبطال التأويلات (1/ 182 - 123) رقم (177) وفيه أبان بن أبي عياش - متروك- والعلاء بن مسلمة الرواسي - كان يضع الحديث-[انظر: ميزان الاعتدال (15)(5743)] وروي مرفوعًا عن جابر عند الخطيب في تاريخه (6/ 328) - وفيه: إسحاق بن بشر الكاهلي -وهو وضاع-[انظر: ميزان الاعتدال (740)] ولذلك قال ابن تيمية: ((روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت)) [مجموع الفتاوى (6/ 397)]. وقد روي عن ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا، أما المرفوع فقد علم حكمه [وانظر تمييز الطيب من الخبيث (ص 65)]. أما الموقوف فأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (39) وأبو يعلى في إبطال التأويلات (1/ 178) معلَّقًا، وفيه ابن جريج وهو مدلس، وقد عنعنه فهو ضعيف، ولذلك اكتفى شيخ الإسلام بقوله:((والمشهور إنما هو عن ابن عباس)) [مجموع الفتاوى (6/ 397)] والشهرة لا تعني الصحة، ولكن مع ذلك قال ابن الديبع في تمييز الطيب من الخبيث (ص 65):((قال شيخنا: هو موقوف صحيح)) .. والله أعلم.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، برقم (2654).

(3)

وللشاطبي كلام رصين متين في أن كل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وأنه لا بد من مراعاة فهمهم وما كانوا عليه، وأن ترك ذلك يفتح باب التلاعب بالدين، ولذلك لا تجد طائفة ولا فرقة إلا وتحتج على باطلها بأدلة من الكتاب والسنة متبعين للأهواء وتحريف النصوص وتحميلها ما لا تحتمل، فانظر: الموافقات (3/ 252، 280 - 281، 287 - 289)، وانظر أيضًا: مجموع الفتاوى (3/ 157)، (4/ 91 - 94، 132) وغيرها، وأعلام الموقعين لابن القيم (1/ 79 - 80)، (4/ 118، 147 - 155).

ص: 172

وحيرة، إذ لم يجدوا عن سلف الأمة ما يدل على تأويل نصوص الصفات فارتكبوا جهالة أخرى بزعمهم أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، فما زعموه أعلم حقيقته أنه أجهل، إذ بعضهم لما قرب من الموت قال: أموت ولا أعرف شيئًا! وما زعموه أحكم، آل إلى أفسد ما يتصوره الإنسان. فكم فتحوا من شبهات، وزلزلوا من قواعد وأركان، وأضعفوا من إيمان في نفوس من تطلع إلى علومهم واغتر بها، وحقيقة أمرهم أنهم لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا، تجد من فلتات كلامهم كفرًا وزندقة وحيرة وشكًا، والله المسؤول أن يعصم من الفتن والبدع والأهواء.

ص: 173

‌المبحث الرابع حقيقة الإيمان

لما تكلم الأصوليون في مبحث اللغات عن الحقيقة الشرعية، هل هي منقولة من معناها اللغوي قطعًا، أو هي باقية على معناها اللغوي قطعًا، أو لم تنقل لكن قيدت بمعنى معين في الشرع متضمن لذلك المعنى اللغوي، لما تكلموا عن ذلك، أدرجوا موضوع الإيمان مثالًا لهذه المسألة

(1)

، وجرّهم ذلك إلى الكلام عن معنى الإيمان لغة، وعن دخول الأعمال في مسماه ذاكرين لأقوال الفرق المشهورة في ذلك.

كما أنهم تكلموا عن موضوع زيادة الإيمان ونقصانه في علم أصول الفقه باعتبار كونه مبنيًا على مسألة تفاوت العلوم.

وقد جاء في مراقي السعود

(2)

:

والعلم عند الأكثرين يختلف

جزمًا وبعضهم بنفيه عرف

وإنما له لدى المحقق

تفاوت بحسب التعلق

(1)

انظر: المعتمد (1/ 18 - 20)، والتقريب للباقلاني (1/ 387 - 398)، والعدة (1/ 189 - 190)، وإحكام الفصول/ 205 - 210)، والتلخيص للجويني (1/ 209 - 216)، والبرهان (1/ 133 - 135)، وشرح اللمع (181 - 185)، والمستصفى (1/ 326 - 333)، والمحصول (1/ 298 - 314)، و الإحكام للآمدي (1/ 35 - 44)، وروضة الناظر (2/ 10 - 15)، وشرح تنقيح الفصول (43)، ونهاية السول (2/ 150 - 159)، البحر المحيط (3/ 14 - 28)، وشرح الكوكب المنير (1/ 149 - 152)، ونشر البنود (1/ 121 - 122).

(2)

مراقي السعود مع شرحه نشر البنود (1/ 5759).

ص: 174

لما له من اتحاد منحتم

مع تعدد لمعلوم علم

يبنى عليه الزيد والنقصان

هل ينتمي إليهما الإيمان؟

وبحث هذه المسائل العقدية باختصار في المسائل الآتية:

‌المسألة الأولى: حقيقة الإيمان عند السلف:

قول وعمل، يزيد وينقص

(1)

. وقصدوا بالقول قول اللسان، وبالعمل عمل القلب والجوارح.

وبعض الناس يقسم ما في القلب إلى قول وعمل، ويقصد بقوله: تصديقه، وبعمله: النية واليقين والمحبة والإقبال على الله ونحو ذلك، ويدخل فيه ما كان مستحبًا من أعمال القلوب. وأما قول اللسان فقصدوا به الإقرار لفظًا بالأركان، ويدخل فيه ما كان واجبًا أو مستحبًا من أقواله، كالاستغفار وذكر الله، وقول الحق، وأما أعمال الجوارح، فهي ظاهرة مثل الركوع والسجود والقيام والجهاد

ونحو ذلك

(2)

.

أما المرجئة فهم على ثلاث طوائف

(3)

:

(1)

مرجئة الفقهاء. وهؤلاء يقولون إنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان، ولا يعدون الأعمال من مسمى الإيمان.

(2)

المرجئة الجهمية: وهؤلاء يقولون: إنه تصديق القلب فقط، وما عداه من قول اللسان وعمل الجوارح ليس من مسماه، وتبعهم على هذا كثير من الأشعرية. وقد ذهب الغلاة من المرجئة إلى أنه المعرفة فقط

(4)

.

(1)

انظر: الإيمان لابن أبي شيبة (46)، والإيمان لأبي عبيد (53، 83)، والسنة لعبد الله بن أحمد (1/ 315 - 317)، والكاشف عن المحصول للأصفهاني (2/ 565) القسم الأول.

(2)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 171).

(3)

انظر: الإرشاد للجويني (333)، و مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 195 - 197، 387).

(4)

انظر: الكاشف عن المحصول للأصفهاني (2/ 563 - 564) القسم الأول.

ص: 175

(3)

الكرامية: وزعموا أنه القول فقط، فالمنافقون عندهم مؤمنون لكنهم يستحقون الوعيد في الآخرة

(1)

.

وأما الخوارج والمعتزلة فوافقوا السلف في مسمى الإيمان من جهة تعلقه بالقلب واللسان والجوارح، ثم خالفوهم في الحكم، فقالوا: إن ارتكاب المعاصي بفعل المحرمات أو ترك الواجبات يذهب بالإيمان كله، ذلك أن الإيمان -عندهم- كله شيء واحد، فصاحب الكبيرة مخلد في النار إن مات على كبيرته، لكنهم اختلفوا في أحكام الدنيا، فالخوارج كفّروا أصحاب الكبائر مطلقًا، فأخرجوهم من الإيمان إلى الكفر في الدنيا والآخرة، أما المعتزلة فوافقوا على إخراجهم من الإيمان وعلى خلودهم في النار يوم القيامة، وخالفوا الخوارج في الحكم عليهم بالكفر في الدنيا وقالوا: هم في منزلة بين المنزلتين، واستحقوا وصف الفسق

(2)

.

‌المسألة الثانية: الذي عليه سلف الأمة هو أن الإيمان يتفاضل حقيقة في نفسه من جهة أمر الرب ومن جهة فعل العباد،

فما أوجبه الله آخر الأمر أكثر مما أوجبه أولًا، إذ كان المطلوب أولًا التوحيد، ثم فرضت الصلاة بعد ذلك وهكذا، وأيضًا فإن الوجوب يتنوع بتنوع أهله، فما يجب على شخص قد لا يجب على غيره، والناس في امتثالهم لشرع الله يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا، بل إن الشخص الواحد يجد ذلك من نفسه فليست أحواله كلها على السواء سواء كان ذلك فيما يتعلق بقلبه أم لسانه أم جوارحه، فمن عباد الله من هو سابق مقرب، ومنهم مقتصدون، ومنهم ظالمون لأنفسهم.

واستدلوا على صحة مذهبهم في زيادة الإيمان ونقصانه بأدلة من كتاب الله

(1)

انظر: الكاشف عن المحصول للأصفهاني (2/ 563 - 564) القسم الأول.

(2)

انظر: الإيمان لأبي عبيد (88 - 101)، وشرح الأصول الخمسة (701)، والكاشف عن المحصول للأصفهاني (2/ 566) القسم الأول.

ص: 176

ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع السلف، ومن ذلك:

قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال 2]. ففيها نص واضح على زيادة الإيمان، وعلى نقصانه لزومًا.

وفي زيادة الإيمان من جهة أمر الرب ومن جهة فعل العبد، قال الله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [: التوبة: 124].

ومن السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)

(1)

. حيث جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن المنكر من الإيمان، وبين درجات إنكاره ورتبها، الأقوى والأضعف، وهذا يدل على زيادة الإيمان ونقصانه.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)

(2)

، دلالة على أن الإيمان شعب كثيرة متفاضلة في نفسها، ويلزم عندئذ تفاضل المؤمنين فيه لتفاوت مراتبهم في العمل بها.

وقال ابن عبد البر ناقلًا إجماع العلماء على زيادة الإيمان ونقصانه: «أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص رقم (78).

(2)

تقدم تخريجه

(3)

التمهيد لابن عبد البر (9/ 238).

ص: 177

وخالف طوائف من أهل البدع في هذه المسألة، فزعموا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وربما سلم بعضهم بزيادة الإيمان من جهة أمر الرب على معنى أن ما وجب أول الإسلام زادت عليه واجبات أخرى في آخره، ومن جهة فعل العبد في بعض الحالات كمن أسلم حديثًا فإنه يزداد إيمانه من جهة العمل، لا من جهة التصديق، وهؤلاء على نوعين؛ فالمرجئة يزعمون أن الإيمان هو التصديق، وهو عندهم شيء واحد لا يتفاضل، والآخرون هم الخوارج والمعتزلة وقد سلموا بأن الإيمان قول وعمل لكنه إذا ذهب بعضه ذهب كله، وعليه فلا يقبلون القول بزيادة الإيمان ونقصانه بترك الواجبات وفعل المحرمات وضدهما.

‌المسألة الثالثة: ومما وقع استطرادًا في هذا الموضوع ما ذكره ابن النجار في حكم الاستثناء في الإيمان والإسلام

فقال: «ويجوز الاستثناء فيه - أي في الإيمان - بأن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، نص على ذلك الإمام أحمد

(1)

والإمام الشافعي رحمهما الله تعالى، وحكي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه»

(2)

.

وقال ابن عقيل: يستحب، ولا يقطع لنفسه.

ومنع ذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه

(3)

والأكثر؛ لأن التصديق معلوم لا يتردد

(1)

انظر: السنة للخلال (3/ 597، 600، 601، 602).

(2)

وهو أنه: ((قال رجل عند عبد الله: إني مؤمن، قال: قل إني في الجنة!، ولكنا نقول: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله)) رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 67) رقم (11)، وابن أبي شيبة في الإيمان (ص 9) رقم (22)، وعبد الله في السنة (1/ 322) رقم (655) وهو صحيح الإسناد.

(3)

ما ذكره عن الإمام أبي حنيفة لا أدري ما صحته، لكن المعلوم أن الماتريدية يرون عدم جواز الاستثناء في الإيمان. الدليل الذي ذكره للماتريدية في منع الاستثناء في الإيمان مبني على أن الإيمان هو التصديق فقط، فيكون الاستثناء فيه شكًا من صاحبه فيه، وهذا خطأ، لأن الإيمان عندنا قول وعمل، فيصح أن يقع الاستثناء على العمل.

انظر: شرح الفقه الأكبر للملا علي القاري (208 - 209).

ص: 178

فيه عند تحققه، ومن تردد في تحققه لم يكن مؤمنًا، وإن لم يكن للشك والتردد، فالأولى أن يقول: أنا مؤمن حقًا، دفعًا للإيهام.

واستدل للقول الأول بوجوه:

أحدها: أن الاستثناء للتبرك بذكر الله تعالى والتأدب بإحالة الأمور إلى مشيئة الله تعالى، والتبري من تزكية النفس والإعجاب بحالها.

الثاني: أن التصديق الإيماني المنوط به النجاة أمر قلبي خفي، له معارضات خفية كثيرة من الهوى والشيطان والخذلان، فالمرء - وإن كان جازمًا بحصوله- لكنه لا يأمن أن يشوبه شيء من منافيات النجاة، ولا سيما عند تفاضل الأوامر والنواهي الصعبة المخالفة للهوى والمستلذات من غير علم له بذلك، فلذلك يفوض حصوله إلى مشيئة الله تعالى.

الثالث: أن الإيمان ثابت في الحال قطعًا من غير شك فيه، لكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز.

وأما الإسلام: فلا يجوز الاستثناء فيه، بأن يقول: أنا مسلم إن شاء الله، بل يجزم به، قاله ابن حمدان في نهاية المبتدئين، وقيل: يجوز إن شرطنا فيه العمل

(1)

(2)

.

(1)

إن أريد بالعمل الكلمة - أعني التلفظ بالشهادتين - فلا استثناء فيه. وإن أريد العمل من الصلاة وغيرها من أركان الإسلام، صح الاستثناء فيه، للعلل والآفات التي تلحق الأعمال. وما صدره بقوله: قيل: يجوز إن شرطنا فيه العمل، هو الصحيح، وإن حكاه بصيغة التضعيف. والله أعلم.

انظر: الإبانة لابن بطة (2/ 876) - الكتاب الأول-. ومسائل الإيمان لأبي يعلى (428)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 415، 259).

(2)

شرح الكوكب المنير لابن النجار (1/ 151 - 152).

ص: 179

وللسلف في جواز الاستثناء في الإيمان توجيهًا آخر، وهو أن العمل عند السلف جزء مسمى الإيمان، ولا شك أن الإحاطة بالأعمال وتحقيقها على الكمال مما يصعب، ولذلك صح الاسثتناء فيه من هذه الجهة

(1)

.

وعلى هذا يعلم أن مأخذ السلف في الاستثناء راجع إلى أربعة أوجه: أنه ليس للشك وإنما للتحقيق، وهذا محله أصل الإيمان. والثاني: خوف التزكية. والثالث: احتمال القبول وعدمه. والرابع: باعتبار العمل وهو يحتمل الخلل والنقصان

(2)

.

(1)

انظر: السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 308)، والسنة للخلال (3/ 600 - 601)، والشريعة للآجري (136)، الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم التيمي (1/ 409 - 410)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 447، 448).

(2)

انظر: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه (ص 455 - 490).

ص: 180

‌قائمة المصادر والمراجع

(1)

الآيات البينات، لأحمد بن قاسم العبادي (ت 994 هـ) على شرح جمع الجوامع. ضبطه وخرج أحاديثه الشيخ زكريا عميرات-دار الكتب العلمية-بيروت، ط 1، 1417 هـ، 1996 م

(2)

الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، لابن بطة (ت: 387 هـ) المجلد الأول تحقيق ودراسة رضا بن نعسان معطي، ط 1، 1409 هـ-1988 م، الكتاب الثاني تحقيق د/ عثمان عبد الله آدم، ط 1، 1415 هـ، الكتاب الثالث تحقيق د/ يوسف عبد الله الوابل، ط 1، 1415 هـ، دار الراية للنشر والتوزيع-الرياض.

(3)

الإبهاج في شرح المنهاج، عبد الوهاب بن علي السبكي (756 هـ) وولده (771 هـ) -ط 1، 1404 هـ-1984 م-دار الكتب العلمية.

(4)

إحكام الفصول في أحكام الأصول لسليمان بن خلف الباجي، ت (474 هـ). تحقيق ودراسة د-عبد الله محمد الجبوري، مؤسسة الرسالة-بيروت-الطبعة الأولى 1409 هـ-1989 م.

(5)

الإحكام في أصول الأحكام، لعلي بن محمد الآمدي. تعليق عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1402 هـ.

(6)

الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم الظاهري ت (456 هـ) دار الكتب العلمية-بيروت، ط 1، 1405 هـ-1985 م.

(7)

الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، لابن قتيبة الدينوري ت (276 هـ) تحقيق -عمر بن محمود أبو عمر، دار الراية للنشر والتوزيع. ط 1، 1412 هـ-1991 م.

(8)

آراء المعنزلة الأصوليَّة دراسة وتقويمًا، للباحث علي بن سعد الضويحي، رسالة

ص: 181

دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، نوقشت عام 1412 هـ، وطبعت في مكتبة الرشد.

(9)

الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لإمام الحرمين الجويني-تحقيق: أسعد تميم، مؤسسة الكتب الثقافية-بيروت، ط 1 - 1405 هـ-1985 م.

(10)

الاستقامة، لابن تيمية-تحقيق د/ محمدرشادسالم ط 2، مؤسسةقرطبة.

(11)

أسباب الخلاف في المسائل الأصوليَّة المتعلقة بمقدمات أصول الفقه والحكم الشرعي، جمعًا ودراسة، للباحث محمد بن علي بن محمد الأسمري، رسالة دكتوراه (آلة) بجامعة أم القرى، نوقشت عام 1438 هـ-2017 م.

(12)

أسباب الخلاف في المسائل الأصوليَّة المتعلقة بالأدلة جمعًا ودراسة، للباحث إسماعيل الحاج، رسالة دكتوراه (آلة) بجامعة أم القرى، نوقشت عام 1438 هـ-2017 م.

(13)

أسباب الخلاف في المسائل الأصوليَّة المتعلقة بباب اللغات ودلالات الألفاظ جمعًا ودراسة، للباحث أحمد بن محمد أحمد السهلي، رسالة دكتوراه (آلة) بجامعة أم القرى، نوقشت عام 1438 هـ-2017 م.

(14)

أسباب الخلاف في المسائل الأصوليَّة المتعلقة بالاجتهاد والتقليد والتعارض والترجيح، جمعًا ودراسة، للباحث ياسر بن درويش بن غرم الله الغامدي، رسالة دكتوراه (آلة) بجامعة أم القرى، نوقشت عام 1438 هـ-2017 م.

(15)

الأسماء والصفات، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي-تصحيح: محمد زاهد الكوثري، دار إحياء التراث العربي-بيروت. إضافة إلى النسخة المحققة باليمن.

(16)

إظهار الحق تأليف الشيخ رحمت الله بن خليل الرحمن الهندي ت (1308 هـ) دراسة وتحقيق وتعليق-د. محمد أحمد عبد القادر ملكاوي-دار الوطن للنشر-1412 هـ.

(17)

أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد-بيروت-دار الجيل: 1973 م.

ص: 182

(18)

الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي حامد الغزالي ت (505 هـ) قدم له وعلق عليه وشرحه د. علي بو ملحم. دار ومكتبة الهلال، بيروت-ط 1، 1993 م.

(19)

إلجام العوام عن علم الكلام، لأبي حامد الغزالي-ط 2 - 1395 هـ، القاهرة، مكتبة الخديوي.

(20)

إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق في أصول التوحيد، لمحمد بن المرتضى اليماني، (ابن الوزير) ت (840 هـ). دار الكتب العلمية، بيروت ط 1، 1403 هـ-1983 م.

(21)

الإيمان، لابن مندة، ت (395 هـ) حققه وعلق عليه د/ علي بن محمد بن ناصر الفقيهي-مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1406 هـ، 1985 م.

(22)

الإيمان، لابن أبي شيبة (ت 235 هـ) تحقيق وتعليق محمد ناصر الدين الألباني-دار الأرقم-الكويت-ط 2، 1405 هـ، 1985 م. (ضمن أربع رسائل).

(23)

الإيمان، لأبي عبيد القاسم بن سلام تحقيق الألباني -دار الأرقم-الكويت -ط 2، 1405 هـ-1985 م (ضمن أربع رسائل).

(24)

البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي ت (794 هـ) حققه لجنة من علماء الأزهر ط 1، 1414 هـ، 1994 م، دار الكتبي.

(25)

بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية-دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. د-ت.

(26)

البداية والنهاية، لابن كثير الدمشقي، تحقيق مجموعة من المحققين-دار الكتب العلمية-بيروت-ط 1، 1405 هـ-1985 م.

(27)

البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين الجويني، حققه د/ عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء، المنصورة، ط 3، 1412 هـ-1992 م.

(28)

بناء الأصول على الأصول، دراسة تأصيلية مع التطبيق على مسائل الأدلة المتفق عليها، للباحث وليد بن فهد الودعان، ماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، بإشراف فضيلة الأستاذ الدكتور عياض بن نامي السلمي، نوقشت عام 1427 - 1428 هـ، وطبعت ضمن إصدارات الجمعية الفقهية (30)، دار كنوز إشبيليا.

ص: 183

(29)

بناء الأصول على الأصول في الأدلة المختلف فيها، للباحثة أسمهان بنت محمد العمري، ماجستير (آلة) بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، بإشراف فضيلة الدكتور عيسى بن محمد العويس، نوقشت عام 1439 - 1440 هـ.

(30)

بناء الأصول على الأصول في الاجتهاد والتقليد والتعارض والترجيح، للباحث عبد الحميد بن عبد الله المشعل، ماجستير (آلة) بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، بإشراف فضيلة الأستاذ الدكتور عياض بن نامي السلمي، نوقشت عام 1431 - 1432 هـ.

(31)

بيان تلبيس الجهمية، لابن تيمية-تعليق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم-ط 1، 1391 هـ مكة المكرمة-مطبعة الحكومة.

(32)

التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه، للباحث عايض بن عبد الله الشهراني، رسالة دكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، طبعت في دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، عام 1429 هـ -2008 م.

(33)

تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، لخليل بن كيكلدي العلائي (ت 761 هـ) تحقيق د/ عبد الرحيم القشقري-دار العاصمة-الرياض-ط 1 - 1410 هـ.

(34)

تخريج الأصول على الأصول في أبواب الحكم الشرعي، للباحث محمد بن غرم بن محمد العمري، رسالة ماجستير (آلة)، بجامعة الملك سعود، إشراف فضيلة الدكتور عمر بن شريف السلمي، نوقشت عام 1430 هـ.

(35)

التدمرية أو تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع لشيخ الإسلام ابن تيمية ت (728 هـ) تحقيق محمد ابن عودة السعوي. طبع شركة العبيكان للطباعة والنشر-الرياض ط 1، 1405 هـ 1985 م.

(36)

التصويب والتخطئة وأثرهما في مسائل أصول الفقه، ومنهج المدرسة العقلية الحديثة، للباحث يحيى بن حسين الظلمي، رسالة دكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، طبعت في دار التدمرية.

(37)

تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ)

ص: 184

دراسة وتحقيق: عبد العزيز بن محمد الخليفة-ط 1، 1417 هـ 1996 م-مكتبة الرشد-الرياض

(38)

التقريب والإرشاد، للباقلاني-ت (403 هـ) تحقيق: عبد الحميد أبو زنيد-ط 1، 1413 هـ. 1993 م، بيروت-مؤسسة الرسالة.

(39)

التقرير والتحبير، لابن أمير حاج-ت (879 هـ) دار الكتب العلمية-بيروت ط 2.

(40)

التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح-للعراقي ت: (806 هـ) مؤسسة الكتب الثقافية -لبنان، ط 1، 1411 هـ، 1991 م.

(41)

التمهيد في أصول الفقه، للكلوذاني- (ت 510 هـ) تحقيق: د. مفيد محمد أبو عمشة، ط 1، 1406 هـ-1985 م، مكة المكرمة-جامعة أم القرى-مركز البحث العلمي-وإحياء التراث الإسلامي.

(42)

تنقيح المحصول، للتبريزي (ت 621 هـ) تحقيق: د. حمزة زهير حافظ-رسالة دكتوراة بالجامعة الإسلامية-بالمدينة المنورة-1407 هـ.

(43)

التنقيح مع شرحه المسمى بالتوضيح للإمام، لعبد الله بن مسعود المحبوبي (ت 747 هـ) ضبطه وخرج آياته وأحاديثه الشيخ زكريا عميرات-دار الكتب، بيروت-ط 1، 1416 هـ، 1996 م.

(44)

التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، لابن خزيمة ت (311 هـ) تحقيق ودراسة د/ عبد العزيز إبراهيم الشهوان-دار الرشد-الرياض-ط 1 - 1408 هـ 1988 م

(45)

تيسير التحرير شرح كتاب التحرير في أصول الفقه، لأمير بادشاه-تصحيح محي الدين-والسبكي-والمطيعي-مكتبة محمد علي صبيح-القاهرة-1352 هـ.

(46)

تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب-المكتب الإسلامي-بيروت-ط 5 - 1402 هـ.

(47)

جامع الرسائل، لابن تيمية-تحقيق د/ محمد رشاد سالم-دار المدني-جدة، ط 2، 1405 هـ، 1984 م.

ص: 185

(48)

الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى ابن سورة ت (279 هـ) بتحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر. ط 2، 1398 هـ، 1978 م.

(49)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية ت:(728 هـ) تحقيق وتعليق د/ علي بن حسن بن ناصر ود/ حمدان بن محمد الحمدان وعبد العزيز العسكر. دار العاصمة، الرياض ط 1، 1414 هـ.

(50)

حاشية البناني على شرح الجلال المحلي، لعبد الرحمن المغربي البناني -شركة مصطفى البابي الحلبي مصر-ط 2 - 1356 هـ 1937 م.

(51)

حاشية التفتازاني (ت-791 هـ) على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، مطبوع بهامش شرح العضد.

(52)

حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع-حسن العطار ت- (1250 هـ) المطبعة العلمية-القاهرة-1316 هـ.

(53)

حجية السنة-د. عبد الغني عبد الخالق-ط 1، 1407 هـ-1986 م، -ألمانيا الغربية-شتوتغارت-المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن.

(54)

خلق أفعال العباد-للبخاري ت- (256 هـ) -تحقيق بدر البدر-الدار السلفية-الكويت ط 1 - 1405 هـ، 1985 م.

(55)

درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية-تحقيق د/ محمد رشاد سالم-مكتبة ابن تيمية، القاهرة.

(56)

دلائل النبوة، للبيهقي، ت-458 هـ-تحقيق د/ عبد المعطي قلعجي-ط 1 - 1405 هـ، 1985 م-بيروت دار الكتب العلمية.

(57)

رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد، علق عليه محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت-ط 1، 1358 هـ.

(58)

الرد على الزنادقة والجهمية، للإمام أحمد بن حنبل ت 241 هـ-المطبعة السلفية، القاهرة، 1393 هـ.

ص: 186

(59)

الرد على المنطقيين، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ت (728 هـ) مطبعة معارف، لاهور، 1396 هـ-1976 م.

(60)

الرسالة، للإمام الشافعي ت-204 هـ-تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية بيروت.

(61)

روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب أحمد بن حنبل، لابن قدامة المقدسي، مع شرحها نزهة الخاطر. ط 2، 1404 هـ-1984 م. مكتبة المعارف-الرياض.

(62)

زاد المعاد في هدى خير العباد، لابن قيم الجوزية- (ت 751 هـ) تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة-بيروت، ط 8، 1405 هـ 1985 م.

(63)

زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه-د. عبد الرزاق العباد البدر-ط 1 - 1416 هـ-1996 م، الرياض-دار القلم والكتاب.

(64)

سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني-المكتب الإسلامي، بيروت-ط 4، 1405 هـ-1985 م.

(65)

سلسلة الأحاديث الضعيفة، للألباني-ط 1، 1408 هـ-1987 م، مكتبة المعارف-الرياض.

(66)

سلم الوصول لشرح نهاية السول، الشيخ محمد بخيت المطيعي-بهامش نهاية السول

(67)

السنة، لعبد الله بن أحمد الشيباني-ت (290 هـ) -تحقيق ودراسة د/ محمد سعيد القحطاني، دار ابن القيم للنشر والتوزيع-ط 1، 1406 هـ-1986 م.

(68)

السنة للخلال، ت (311 هـ) دراسة وتحقيق د/ عطية الزهراني، ط 1، 1410 هـ، 1989 م، دار الراية-الرياض.

(69)

سنن ابن ماجة ت (275 هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي-دار الفكر العربي.

(70)

سنن أبي داودالسجستاني-ت: (275 هـ) تعليق عزت عبيد الدعاس، وعادل السيد-دارالحديث-بيروت-ط 1، 1388 هـ-1969 م.

ص: 187

(71)

سنن الدارقطني، للإمام الدارقطني، ت (385 هـ) تحقيق: عبد الله هاشم اليماني، القاهرة، دار المحاسن للطباعة، د-ت.

(72)

سنن الدارمي ت (255 هـ) حققه فواز أحمد زمرلي، وخالد السبع العلمي، دار الكتاب العربي، بيروت ط 1، 1407 هـ-1987 م.

(73)

السنن الكبرى، لأبي بكر البيهقي ت (458 هـ) دار المعرفة بيروت.

(74)

السنن الكبرى، للنسائي (ت 303 هـ) تحقيق-عبد الغفار سليمان، وسيد كسروي-بيروت-دار الكتب العلمية-ط 1، 1411 هـ.

(75)

شرح أسماء الله الحسنى، للرازي، راجعه وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد-دار الكتاب العربي-بيروت ط 1، 1404 هـ-1984 م.

(76)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، للالكائي-ت (418 هـ) تحقيق د/ أحمد سعد حمدان-دار طيبة للنشر والتوزيع-الرياض-ط 1، 1409 هـ-1988 م.

(77)

شرح الأصول الخمسة، لعبد الجبار بن أحمد-تعليق/ أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، حققه د/ عبد الكريم عثمان-مكتبة وهبة-القاهرة-ط 1، 1384 هـ -1965 م.

(78)

شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، للتفتازاني ت (792 هـ) -ضبطه وخرج آياته وأحاديثه الشيخ زكريا عميرات-ط 1، 1416 هـ-1996 م-دار الكتب العلمية بيروت.

(79)

شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، للقرافي ت (684 هـ) حققه طه عبد الرؤوف سعد-المكتبة الأزهرية للتراث-مصر-ط 2 - 1414 هـ 1993 م.

(80)

شرح العضد على مختصر ابن الحاجب الأصولي-ط 2، دار الكتب العلمية-بيروت 1403 هـ-1983 م.

(81)

شرح الكوكب المنير في أصول الفقه، لابن النجار ت (972 هـ) تحقيق د/ محمد الزحيلي ود/ نزيه حماد، دار الفكر-دمشق، 1400 هـ- 1980 م.

ص: 188

(82)

شرح اللمع-للشيرازي-حققه عبد المجيد التركي-دار الغرب الإسلامي-بيروت-ط 1، 1408 هـ-1988 م.

(83)

شرح مختصر الروضة، للطوفي ت (716 هـ) تحقيق د/ عبد الله ابن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت-ط 1، 1410 هـ 1990 م.

(84)

شرح المقاصد، للتفتازاني-ت (793 هـ) تحقيق وتعليق د/ عبد الرحمن عميرة-عالم الكتب-بيروت-ط 1، 1409 هـ-1988 م.

(85)

شرح المواقف في علم الكلام للجرجاني-الآستانة-دار الطباعة العامرة 1311 هـ.

(86)

شرح النووي لصحيح مسلم-دار الفكر.

(87)

الشريعة للآجري (ت 360 هـ) تحقيق محمد حامد الفقي-الناشر: أنصار السنة المحمدية بمصر.

(88)

صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان-علاء الدين بن بلبان الفارسي، ت 729 هـ-تحقيق شعيب الأرنؤوط-مؤسسة الرسالة-بيروت-ط 2 - 1414 هـ-1993 م.

(89)

صحيح ابن خزيمة (ت 311 هـ) تحقيق د/ محمد مصطفى الأعظمي-المكتب الإسلامي-بيروت-1400 هـ-1980 م.

(90)

صحيح البخاري ت (256 هـ)، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي المكتبة السلفية بالقاهرة.

(91)

صحيح مسلم ت (261 هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي-دار إحياء التراث العربي-بيروت.

(92)

الصفات، للدارقطني (ت 385 هـ) تحقيق أ. د. علي بن محمد ناصر الفقيهي-ط 1 - 1403 هـ-1983 م.

(93)

الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية-حققه د/ علي بن محمد الدخيل الله -دار العاصمة-الرياض-ط 1، 1408 هـ.

(94)

العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى ت:(458 هـ) حققه د/ أحمد بن علي بن سير المباركي، مؤسسة الرسالة-بيروت-ط 1، 1400 هـ-1980 م.

ص: 189

(95)

عقيدة السلف أصحاب الحديث، للصابوني-تحقيق بدر البدر، الدار السلفية-الكويت-ط 1، 1404 هـ 1984 م.

(96)

العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، لإمام الحرمين الجويني-ت (478 هـ) تقديم وتعليق د/ أحمد حجازي السقا-مكتبة الكليات الأزهرية-مصر-ط 1، 1398 هـ-1978 م.

(97)

العلو للعلي الغفار في تصحيح الأخبار، للذهبي-علق عليه عبد الرزاق عفيفي-تصحيح زكريا علي يوسف-مطبعة أنصار السنة-القاهرة-1357 هـ.

(98)

العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، لابن الوزير ت (840 هـ) تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت ط 2، 1412 هـ-1992 م.

(99)

غاية المرام في علم الكلام، للآمدي، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف-مطبعة الأهرام التجارية-القاهرة-1391 هـ.

(100)

الفصول في الأصول، للجصاص ت (370 هـ) تحقيق د-عجيل جاسم النشمي، ط 2، 1414 هـ، 1994 م، الكويت، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية.

(101)

فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، للغزالي، تصحيح وتعليق: مصطفى القباني الدمشقي-ط 1 - 1319 هـ-1901 م-مطبعة الترقي-مصر.

(102)

قواعد العقائد، لأبي حامد الغزالي، تحقيق موسى محمد علي-عالم الكتب-بيروت-ط 2، 1405 هـ-1985 م.

(103)

الكاشف عن المحصول، للأصفهاني- (ت 688 هـ) قسم إلى ست رسائل علمية -للماجستير-بالجامعة الإسلامية بالمدينة-1406 هـ. القسم الأول-بتحقيق سعيد غالب المجيدي-من أول الكتاب إلى نهاية المقدمات. القسم الثاني-بتحقيق سعد محمد محمد إبراهيم-مباحث اللغات. والقسم الثالث-بتحقيق إبراهيم تورين إبراهيم-الأوامر والنواهي. والقسم الرابع-بتحقيق محمد النامي الحازمي-من العموم والخصوص إلى المجمل والمبين. والقسم السادس-بتحقيق عبد القيوم بن محمد شفيع-القياس وما بعده.

ص: 190

(104)

كشف الأسرار عن أصول البزدوي للإمام عبد العزيز بن أحمد البخاري ت (730 هـ) -تعليق محمد المعتصم بالله البغدادي-دار الكتاب العربي-بيروت-ط 1، 1411 هـ-1991 م.

(105)

لسان العرب، لابن منظور الإفريقي (ت 711 هـ) تصحيح: أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، ط 1، 1416 هـ-1996 م-بيروت-دار إحياء التراث العربي.

(106)

اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، للأشعري ت (330 هـ) تعليق د/ حمودة غرابة-مطبعة وشركة مساهمة مصر: 1955 م.

(107)

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية، للسفاريني-مع تعليقات للشيخين أبا بطين وسليمان بن سحمان-المكتب الإسلامي-بيروت-ط 2، 1405 هـ 1985 م.

(108)

المجاز وأثره في الدرس اللغوي، د/ محمد بدري عبد الجليل-دار النهضة العربية لبنان-1406 هـ 1986 م.

(109)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد-إشراف الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين

(110)

محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، للرازي، تعليق طه عبد الرؤوف سعد-دار الكتاب العربي-بيروت-ط 1، 1404 هـ-1985 م.

(111)

المحصول في علم أصول الفقه للرازي-ت (606 هـ) تحقيق د/ طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة-بيروت-ط 2 - 1412 هـ 1992 م.

(112)

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، تحقيق سيد إبراهيم-دارالحديث-القاهرة-ط 1، 1412 هـ 1992 م.

(113)

مختصر العلو للعلي الغفار، للألباني، المكتب الإسلامي-بيروت-ط 1 - 1401 هـ-1981 م.

ص: 191

(114)

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية ت (751 هـ) تحقيق وتعليق محمد المعتصم بالله البغدادي. دار الكتاب العربي، بيروت-ط 1 - 1410 هـ-1990 م.

(115)

المسائل الأصوليَّة المتعلقة بالمباحث القدريَّة، للباحث فخر الدين الزبير علي، بحث محكم، طبعه الباحث ضمن بحوث بعنوان (سلسلة تصفية علم الأصول من الفضول)، في مكتبة الديار بمصر عام 1440 هـ - 2019 م.

(116)

المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، للدكتور محمد العروسي عبد القادر، طبع في مكتبة الرشد.

(117)

مذكرة أصول الفقه، لمحمد الأمين الشنقيطي، المكتبة السلفية-المدينة المنورة.

(118)

المستصفى، لأبي حامد الغزالي-ت (505 هـ)، الطبعة القديمة ط 1، بالمطبعة الأميرية ببولاق مصر المحمية-1322 هـ-دار صادر.

(119)

المسند للإمام أحمد بن حنبل -ثلاث طبعات-أ- المكتب الإسلامي -بيروت-ط 4 - 1403 هـ-1983 م. ب-تحقيق شعيب الأرنؤوط ومن معه، بيروت-مؤسسة الرسالة-ط 1 - 1413 هـ-1993 م. ج-تحقيق أحمد شاكر-ط 3 - مصر-دار المعارف للطباعة والنشر-1368 هـ-1949 م.

(120)

المسودة في أصول الفقه جمعها أبو العباس الحنبلي ت (745 هـ) تحقيق وتعليق محمد محي الدين عبد الحميد-دار الكتاب العربي-بيروت.

(121)

المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني (ت 211 هـ) تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي-بيروت-المكتب الإسلامي-1970 م.

(122)

المصنف في الأحاديث والآثار، لابن أبي شيبة ت (225 هـ) تحقيق: كمال يوسف الحوت-بيروت-دار التاج-1409 هـ.

(123)

معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، للباحث محمد بن حسين الجيزاني، رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلاميَّة، نوقشت عام 1415 هـ، وطبعت في دار ابن الجوزي، عام 1419 هـ.

ص: 192

(124)

المعتمد في أصول الفقه، لمحمد بن علي البصري (أبو الحسين) ت (436 هـ) قدم له الشيخ خليل الميس-دار الكتب العلمية-بيروت-ط 1، 1403 هـ 1983 م.

(125)

المعجم الوسيط-قام بإخراجه إبراهيم مصطفى وأحمد حسن الزيات-وحامد عبد القادر ومحمد علي النجار. مطابع دار المعارف-1400 هـ 1980 م.

(126)

المغني في أبواب التوحيد والعدل، للقاضي عبد الجبار، تحقيق جماعة من المحققين-ط 1، 1382 هـ-القاهرة-المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر.

(127)

مفهوم العصمة عند الأصوليين وأثره في الاستدلال، للباحث علاء بن أحمد بن عبد الله مشهور، رسالة دكتوراه (آلة) بالجامعة الإسلامية، بإشراف فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد بن باكر الباكري، نوقشت عام 1437 هـ.

(128)

مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام هارون-مكتبة مصطفى البابي الحلبي-القاهرة-ط 2، 1389 هـ-1392 هـ.

(129)

مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبي الحسن الأشعري ت (330 هـ) تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد-مكتبة النهضة المصرية-ط 2 - 1389 هـ-1969 م.

(130)

المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، لأبي حامد الغزالي ت (505 هـ) الجفان والجابي للطباعة والنشر-قبرص-ط 1، 1407 هـ-1987 م.

(131)

منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، للشنقيطي، مطبوع ضمن أضواء البيان الجزء العاشر.

(132)

المنقذ من الضلال، لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) مؤسسة الكتب الثقافية-بيروت- ط 1، 1408 هـ-1987 م.

(133)

منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، تحقيق د/ محمد رشاد سالم-إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ط 1، 1406 هـ- 986 م.

(134)

منهاج العقول في شرح منهاج الأصول في علم الأصول، للبدخشي ط 1 - 1405 هـ-1984 م.

ص: 193

(135) المواقف في علم الكلام، للإيجي، عالم الكتب-بيروت-د. ت.

(136)

ميزان الأصول في نتائج العقول، لمحمد بن أحمد السمرقندي ت (539 هـ) حققه وعلق عليه د/ محمد زكي عبد البر، ط 1، 1404 هـ-1984 م، طبع على نفقة إدارة إحياء التراث الإسلامي-قطر.

(137)

النبوات، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) تحقيق محمد عبد الرحمن عوض-دار الكتاب العربي-بيروت-ط 1 - 1405 هـ-1985 م.

(138)

النسخ في القرآن الكريم دراسة تشريعية نقدية د/ مصطفى زيد- (ت: 1350 هـ) دار الفكر العربي-القاهرة-1383 هـ.

(139)

نصب الراية لأحاديث الهداية، للزيلعي (ت 762 هـ) ط 2 - المجلس العلمي-.

(140)

نهاية الإقدام في علم الكلام، للشهرستاني، تحقيق: الفرد جيوم-مكتبة المثنى-مصر

(141)

نهاية السول في شرح منهاج الأصول، للبيضاوي ت (685 هـ) تأليف عبد الرحيم الأسنوي ت (772 هـ) عالم الكتب-بيروت.

(142)

نهاية الوصول في دراية الأصول، لصفي الدين الهندي، تحقيق: د/ صالح اليوسف، ود/ سعد السويح، المكتبة التجارية-مكة المكرمة.

(143)

الوصول إلى الأصول، لابن بَرهان ت (518 هـ) تحقيق د/ عبد الحميد علي أبو زنيد-مكتبة المعارف-الرياض-1403 هـ 1983 م.

ص: 194