المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شيءٌ من المنطق المغالطات المنطقية طبيعتنا الثانية وخبزنا اليومي (فصول في المنطق غير - المغالطات المنطقية

[عادل مصطفى]

فهرس الكتاب

شيءٌ من المنطق

المغالطات المنطقية

طبيعتنا الثانية وخبزنا اليومي

(فصول في المنطق غير الصوري)

ص: 7

‌الإهداء

إلى الأخ الكريم اللواء د. هاني مصطفى خضر نابغة جراحة الأنف والأذن والحنجرة صديق العمر وشريك الذكريات.

عادل مصطفى

ص: 9

كم يكون رائعًا لو أمكننا أن نُقَيِّض لكلِّ خُدْعةٍ جدلية اسمًا مختصرًا وبَيِّنَ الملاءمة، بحيث يَتَسنَّى لنا كلَّما ارتَكَبَ أحدٌ هذه الخدعة المعينة أو تلك أن نُوبِّخَهُ عليها للتو واللحظة.

آرثر شوبنهاور

ص: 11

‌مُقدِّمة

الحكيم هو من يُفَصِّل اعتقادَه عَلى قَدِّ البيِّنَة.

ديفيد هيوم

***

دفعني إلى كتابة هذه الفصول ما أشاهده كل يومٍ في الفضائيات التليفزيونية، ووسائل الإعلام الأخرى من أغلاطٍ أساسية في منطق الحوار والجدل، تجعل المناقشات غير مجديةٍ من الأصل، وتجعلها عقيمةً أو مجهَضةً منذ البداية، فلم أجِد بدًّا من العودة بالقارئ إلى أصول الحوار المثمِر وقواعد الجدل الصحيح، التي أصبحت الآن مبحثًا قائمًا بذاته هو «المنطق غير الصوري» Informal logic (أو «المنطق العملي» practical logic).

وإذ أخَذْتُ نفسي دائمًا بأن أحاول، جهد ما أستطيع، أن «أُعلِّم القارئَ كيف يصطاد بدلًا من أقدم إليه سمكًا» - فقد رأيتُ أن أعود إلى هذا المبحث، الحديث نسبيًّا، وأسلط عليه الضوء، وأقدمه إلى القارئ بطريقةٍ سائغةٍ قريبة المأخذ، مُرتكزًا في ذلك على الجانب السلبي من المبحث، وهو «المغالطات المنطقية»: تعريفها وتشريحها، وكيف نكشفها ونتجنبها، والحالات التي تَصِحُّ فيها ولا تعودُ مغالطة.

ص: 13

(1) ما هو المنطق غير الصوري؟

المنطق غير الصوري هو استخدامُ المنطق في تَعرُّف الحجج، وتحليلها وتقييمها، كما تَرِد في سياقات الحديث العادي ومداولات الحياة اليومية:

(1)

في المحادثات الشخصية، والإعلانات، والجدل السياسي والقضائي، وفي شتى ألوان التعليقات التي نصادفها في الصحف والإذاعة المرئية والمسموعة وشبكة الإنترنت وغير ذلك من وسائل الإعلام.

كان الدافع من وراء نشأة هذا المبحث الجديد هو الرغبة في إيجاد سبلٍ لتحليل الاستدلال العادي وتقييمه، سُبُلٍ يمكن أن تندرج كجزءٍ من التعليم العام، ويمكن أن تُرْشِد تفكير الناس وترتقي بالمناقشات والمساجلات اليومية، من هذه الوجهة تلتقي هموم المنطق غير الصوري بهموم «حركة التفكير النقدي» Critical Thinking Movement التي تهدف إلى تطوير نموذج للتعليم يولي اهتمامًا أكبر بالتساؤل النقدي، ويُفضِي إلى فهم علاقة اللغة بالمنطق، فيُمكِّن الطالبَ من تحليل الأفكار ونقدِها والدفاع عنها، ومن التفكير الاستقرائي والاستنباطي، ومن استخلاص نتائج وقائعيةٍ حصيفةٍ قائمة على استدلالاتٍ سليمة مُستقاة من قضايا، معرفية أو اعتقادية، واضحةٍ لا لبس فيها.

(2)

ترتبط نشأةُ المنطق غير الصوري بالحركات الاجتماعية والسياسية في ستينيات القرن العشرين، وما صَحِبها من دعوةٍ إلى تعليمٍ عالٍ أوثق اتصالًا بالحياة والتصاقًا بالواقع المعيش، هنالك ألحَّت الحاجة إلى تطبيق التحليل المنطقي على أمثلةٍ حَيَّةٍ ملموسةٍ من تفكير الحياة اليومية، والتخلِّي عن الأمثلة المصطنعة والحجج المفتعلة التي تعجُّ بها كتبُ المنطق القديمة، على أن المنطق غير الصوري لم يتأسس كفرعٍ بحثي مستقل إلا في أواخر السبعينيات من أعمال رالف جونسون وأنتوني بلير، الفردية والمشتركة، وإصدارِهما صحيفة «المنطق غير الصوري» .

وعلى الرغم من مرور أكثر من ربع قرنٍ على نشأة المنطق غير الصوري، فإنه ما زال في طور التكوين، تصطَرِع فيه تياراتٌ متباينة وتتنازعه اتجاهاتٌ مختلفة، وما زال يتلمسُ طريقه ويفتش عن هوِيَّته، وما زال يتساءل عن جدوَى نظرية المغالطات ومبادئ المنطق الصوري بالنسبة إليه، وعن أهمية استخدام الرسوم البيانية، وعن دور نظريات التواصل

(1)

The Cambridge Dictionary of Philosophy.Cambridge University Press، 1995، p. 376.

(2)

Groake Leo، "Informal Logic".The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2008 Edition)، Edward N.Zalta (ed.)، first published on Mon Nov 25، 1996.

ص: 14

والاعتبارات الديالكتيكية والحوارية في تقييم الحُجج، وما زال في كلِّ ذلك يلتمسُ العونَ من أفرعٍ بحثيةٍ قريبةٍ ويتداخل معها: علم البلاغة (الخطابة)، علم اللغة، الذكاء الصناعي، علم النفس المعرفي، التواصل الكلامي

إلخ.

كان اهتمامُ المنطق غير الصوري في بداياته مُنْصَبًّا على «المغالطات المنطقية» logical fallacies، غير أنه تجاوزَ مبحثَ المغالطات وجعل يوسِّع من حقله كلما تَبَيَّن له أن دراسة الحجج المصوغة باللغة العادية تتطلب ارتيادَ أصقاعٍ جديدة من البحث، تتضمن هذه الدراسةُ المكونات التالية:

التمييز بين الأصناف المختلفة من الحوار التي يمكن للحجة أن تَرِد فيه (النقاش العلمي مثلًا غير التفاوض أو عقد الصفقات).

تحديد المعايير العامة للحجة الصائبة (الاستنباطية والاستقرائية

)

دراسة مفهوم اللزوم - أو الترتُّب - المنطقي، الذي يُفسِّر لنا متى يصح أن نقول إن هذه الجملة تترتب منطقيًّا عن تلك.

دراسة المغالطات المنطقية وأهميتها في تقييم الحجج.

دراسة المواضع التي يصِحُّ فيها ما نأخذُه عادةً مأخذ المغالطة (الاحتكام الصائب إلى السلطة، الهجوم المبرَّر على شخص الخصم، التفكير الدائري الصحيح

إلخ).

تَفَهُّم الدور الذي تضطلع به المشاعر (الباثوس) والشخصية (الإيثوس) وغيرهما من المفاهيم البلاغية في تحليل الحجة وتقييمها.

تبيان الواجبات الجدلية المنوطة بالحجج في أنواعٍ معينةٍ من السياقات.

(2) أهمية الإلمام بالمنطق غير الصوري

يقول أفلاطون في محاورة جورجياس: «في جدالٍ حول الغذاء يدور أمام جمهورٍ من الأطفال فإنَّ الحلواني كفيلٌ بأن يهزم الطبيب، وفي جدالٍ أمام جمهورٍ من الكبار فإن سياسيًّا تَسَلَّح بالقدرة الخطابية وحِيَلِ الإقناع كفيلٌ بأن يَهزمَ أيَّ مهندسٍ أو عسكري، حتى لو كان موضوعُ الجدال هو من تخصص هذين الأخيرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لَأشَدُّ إقناعًا من أي احتكامٍ إلى العقل.»

حقًّا

ليس بالحق وحدَه تَكسِبُ جدالًا أو تقهر خصمًا أو تُقنِع الناس، من هنا يتبين لنا أهميةُ دراسة الحجة كما تَرِدُ في الحياة الحقيقية وتتجسد في اللغة العادية.

ص: 15

ذلك أن الحجة حين تَرِد في الواقع الحي لا تأتي مجردةً مُصَفَّاة، ولا تَكشفُ صيغتَها المنطقية للمتلقي بسهولةٍ وطواعية؛ إذن لَكان تمحيصُها أيسرَ عليه بما لا يُحد، إنما تأتي الحجة دائمًا ممتزجةً بلحم اللغة ودمها، متلفعةً بانفعالات الناس وأعرافِهم، مُؤَرَّبَةً بتضاريس الواقع، وبشئون الناس وشجونها.

وما تُشَكِّل الصيغةُ المجردةُ للحجة (المقدمات المؤدية إلى نتائج) إلا لُبًّا ضئيلًا أو هيكلًا نحيلًا متواريًا وراء طبقةٍ كثيفةٍ من الاعتبارات الدلالية semantic والتداولية pragmatic للغة،

(1)

ومن طبيعة الخصم وأيديولوجيته وسيكولوجيته، ومن مقام الحديث وسياق الجدل، ومن عواطف جمهور الحاضرين وانتماءاتهم وتحيزاتهم.

ونحن في مجال المنطق غير الصوري إنما يَنصَبُّ جهدُنا على هذه الطبقة الكثيفة التي تغلف اللب الصوري للحجة، نتلمَّسها ونتناولها بالتحليل والتفتيت، ونَنْفُذ منها إلى ذلك اللُّبِّ الصوري المفترض. في مجال المغالطات، على سبيل المثال، يكون عملُنا أشبهَ ب «أخذ صورة أشعة» x-raying للحجة المطروحة، عسانا نَطَّلِع على هيكلها الصوري المطمور، ونُقَدِّرُ نصيبه من الصواب والخطأ، ويكون معيارُنا في ذلك هو المعيار المنطقي الصوري العتيد: صدق المقدمات وصواب الاستدلال، وكثيرًا ما تَجْبَهُنا صورة الأشعة بغياب أي لُبٍّ صوري وانعدام أي هيكلٍ منطقي في الحجة!

(2 - 1) أمثلة لعملية التجريد في المنطق غير الصوري

‌مثال 1

نقتبس هذا المثال من بين تلك «الحجج المندمجة» coalescent arguments التي أشار إليها ميشيل جلبرت، والتي تعبر في زعمه عن جملةٍ من المواقف سئ والاعتقادات والمشاعر والحدوس التي تميز صاحب الحجة، فهذه طالبةٌ جامعية تبكي في مكتب الأستاذ؛ كي تبثَّه

(1)

السيمانطيقا semantics (علم دلالة الألفاظ، أو المعاني) هي الدراسة التي تتناول علاقة العلامات اللغوية بالعالم أو الواقع الخارج عن اللغة extralinguistic reality، أما البراجماطيقا pragmatics (التداولية) فهي المبحث الخاص بدراسة العلاقة بين العلامات اللغوية ومستخدميها من بني البشر.

ص: 16

قلقَها للأهمية التي يوليها الأستاذ لحصول الطالب على درجة A في مادةٍ معينة،

(1)

بوسعنا أن نؤوِّل هذا على أنه «قياسٌ مضمر» enthymeme

(2)

تقديره:

إنه لمن أشد دواعي البؤس والجزع ألَّا أحصل على درجة A.

(مقدمة 1)

إنَّ عليك ألَّا ترمي بي في حضيض البؤس والجزع.

(مقدمة 2)

عليك، إذن، أن تمنحني درجة A.

(النتيجة)

ورغم أننا نُسَلِّم بأن هذه الحجة تندرج ضمن فئة «الحجج الانفعالية» التي تَحَدَّث عنها جلبرت، فليس ما يمنع أن نعاملَها كغيرها من الحجج، فنفحص مقدماتها ونُقيِّمها من حيث القبول والرفض، وننظر فيما إذا كانت النتيجة فيها تلزم عن المقدمات.

ولا يخفى على القارئ الآن أن المقدمة «2» فيها نظر! فالأستاذ، بعد كل شيء، يعمل بمَرفق التعليم العالي وليس بمرفق الشئون الاجتماعية، إن عليه أن يُعِين الطالبَ ويدعمه بأن يقرِّب إليه مادتَه العلمية ويُذلل قطفها، وليس بأي طريق آخر، والحجة من ثم تندرج في مغالطة «الاحتكام إلى الشفقة» ad misericordiam.

‌مثال 2

هذا إعلانٌ مصوَّرٌ عبارة عن رأس أسد يزأر مكتوب عليه «كينا بسليري الحديدية» ، إذا تأملنا إعلانًا كهذا وجدنا أنه لا يعدو أن يكون «استعارة بصرية» visual metaphor مُفادُها أن تناول كينا بسليري الحديدية بانتظام تجعل المرء قويًّا مفعمًا بالنشاط، وبالنظر إلى أنه إعلانٌ تجاري فإن بوسعنا تأويله إلى «قياس مضمر» أيضًا تقديرُهُ:

إذا تناولت كينا بسليري صِرت قويًّا مفعمًا بالنشاط.

(مقدمة 1)

النشاط والقوة أمران مرغوبان.

(مقدمة 2)

إذن من المرغوب فيه أن تتناول كينا بسليري (تشتريها).

(النتيجة)

(1)

Gilbert، Michael، 1997.Coalescent Argumentation.Mahwah; Lawrence Erlbaum Associates.

(2)

«القياس المضمر» enthymeme هو قياس منطقي حُذِفت مقدمته الكبرى أو الصغرى إما لظهورها والاستغناء عنها، وإما لإخفاء كذبها، ومن البيِّن أن القياس الوارد هنا قد طُوِيت مقدمتاه معًا! وناب التعبير الانفعالي عنهما.

ص: 17

فإذا ما أَمْعَنَّا في التجريد خلصنا إلى الصورة التالية:

«ق» تلزم عنها «ك» ،

«ك» مرغوبة؛

إذن «ق» مرغوبة.

وهو قياس مغلوط صوريًّا لأنه يقع في خطأ «إثبات التالي» affirming the consequent، بوسعنا تبيان خطأ هذا القياس بأمثلة كثيرة مثل:

(1)

منعُ مباريات الكرة كفيلٌ بمنع حوادث الشغب في الملاعب. منع الشغب في الملاعب أمرٌ مرغوب؛ إذن علينا منع مباريات الكرة.

(2)

إلغاء خطوط السكك الحديدية يُفضي إلى انتفاء تصادم القطارات. انتفاء تصادم القطارات أمر مرغوب؛ إذن ينبغي إلغاء خطوط السكك الحديدية.

(3)

وجودي في العتبة يعني أنني في القاهرة. أنا الآن في القاهرة؛ إذن أنا الآن في العتبة.

(3) أهمية دراسة المغالطات المنطقية

قلنا إنَّ اهتمام المنطق غير الصوري كان متركزًا في البداية على مبحث المغالطات، وكان التعريف التقليدي للمغالطات هو «تلك الأنماط من الحجج الباطلة التي تتخذ مظهر الحجج الصحيحة» ، ولعل من الأصوب أن نقول إنها أنماطٌ شائعة من الحجج الباطلة التي يمكن كشفها في عملية تقييم الاستدلال غير الصوري.

لمنطق المغالطات آباء قدامى، يأتي في مقدمتهم أفلاطون في محاورة «يوثيديموس» Euthydemus وأرسطو في كتابه on sophistical refutations، ويلحق بهما في القرون التالية فلاسفة كثيرون من أبرزهم جون لوك، وواتلي، وشوبنهاور، وجون ستيوارت مِل، وجريمي بنتام، وما يزال مبحثُ المغالطات يُثير اهتمام كثيرٍ من المناطقة حتى اليوم، غير أن هذا الاهتمام بدأ ينحسر بعض الشيء مع تطور المنطق غير الصوري وارتياده آفاقًا

ص: 18

جديدة من البحث. وقد ذهب بعضُ المناطقة، وبخاصة منهم من تأثَّر بنظرية التواصل، إلى أن دراسة المغالطات ليست بديلًا عن دراسة مبادئ الاستدلال الصحيح، فما دامت المغالطات هي انحراف عن القواعد الضمنية التي تحكم شتى أصناف التداول الحِواري فإن الأجدر بنا أن نركز على دراسة هذه القواعد وألا نقنع بدراسة الانحرافات، يرى هؤلاء أن دراسة المغالطات لا تكفي لإجادة التفكير الاستدلالي مثلما أن معرفة الأخطاء في لعبة كرة القدم مثلًا لا تكفي لإجادة اللعب، إنما ينبغي أن نتجه مباشرةً إلى دراسة قواعد الجدل الصحيح ومعايير الاستدلال الصائب.

ورغم وجاهة هذا الرأي فإن تَفَشِّي المغالطات المنطقية في واقعنا اليومي، وطغيانها على تفكيرنا كله، حقيقٌ بأن يَرُدَّ إلى نظرية المغالطات أهميتَها الأولى ويُعيدَها إلى الصدارة من جديد، يقول مالبرانش:«لا يكفي أن يقال إن العقل قاصر، بل لا بُدَّ من إشعاره بما هو عليه من قصور، ولا يكفي أن يقال إنه عرضةٌ للخطأ، بل يجب أن نكشف له عن حقيقة هذا الخطأ.» وهذا قولٌ صادق، إذ لا يكفي من أجل تمييز الحق أن نُحدد شروطه فحسب، بل لا بُدَّ أيضًا لكي يكون التمييز واضحًا كل الوضوح أن نُبيِّنَ أين يكون الغلطُ حتى يظهرَ الحقُّ أجلى وأوضح، كالنور يكون أجلى بجوار الظلمة منه لو أخذ وسط فيض آخر من النور، ثم إن الأضداد إن لم تكن واحدة كما يقول هيجل، فهي على الأقل مرتبطة تمام الارتباط سواء من الناحية العقلية ومن الناحية الوجودية؛ ولهذا كان العلم بالأضداد كما يقول أرسطو علمًا واحدًا، فإذا كان تمييز اليقين في التفكير الإنساني موضوع المنطق، فكذلك تمييز الخطأ فيه يدخل في بابه،

(1)

يؤثَرُ عن الإمام الشافعي قوله: «مَثَلُ مَنْ يطلب العلم جُزافًا كمثل حاطب ليلٍ يقطع حزمة حطبٍ فيحملها، ولعل فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري.»

ويقول شوبنهاور: «يتوجَّب على مَنْ يدخل في مناظرة أن يعرف ما هي حِيَل الخداع، ذلك أن من المحتم عليه أن يصادفَها ويتعاملَ معها.» عليك إذن أن تلم إلمامًا جيدًا بالمغالطات المنطقية حتى يتسنَّى لك أن تتجنب الطرقَ المسدودة أثناء الحوار وتتعرف على «النقلات الخاطئة» في الجدل، وأن تُظهِرَ خصمَك على الخطأ الاستدلالي الذي ارتكبَه، بل أن تُقيِّض لهذا الخطأ اسمًا؛ لكي يعلم الخَصمُ أنك تجيد التفكير، وتفهم حجته ربما أكثر منه! كما

(1)

عبد الرحمن بدوي: «المنطق الصوري والرياضي» ، الطبعة الخامسة، وكالة المطبوعات، الكويت، 1981، ص 241.

ص: 19

أن كشف المغالطة وتسميتها وتحليلها من شأنه أن يُقصِي الحجة الباطلة من ساحة الجدل إقصاءً نهائيًّا ولا يكتفي بإضعافها أو تحجيمها، ذلك أن الخصوم المتمرسين بالجدل والمِراء لديهم من الخبرة والمهارة ما يُمكِّنهم من إنعاش حجتهم الجريحة وإعادة تجنيدها في حلبة الصراع.

(4) فن التعامل مع المغالطات

غير أنَّ النَّاس - الخصم الفكري أو السياسي، والقضاة، وجمهور الحاضرين - ليسوا جميعًا مناطقةً ملِمِّين بفقهِ المغالطات وسُبُل كشفِها وإقصائها؛ ومن ثم فإن عليك أن تتقن فن التعامل مع المغالطات وكشفها وإقصائها؛ حتى لا تفشلَ حملتُك وتأتي بعكس المرجو منها وتجعلك غرَضًا للتهكم والسخرية، عليك باختصار أن تجعل ردَّك جزءًا من مساق الحديث، غير ناشزٍ أو مُستغرَب، عليك أن تُسمِّي المغالطة باسمها، بالعربية واللاتينية إن استطعت، وأن تُبادر بتبيان ما تعنيه المغالطة، ولماذا هي مغالطة، وأن تفعل ذلك بليونةٍ وخِفَّةٍ وإيجاز، دون أن تعلوك سيماءُ التعالم والتكلف والحذلقة، عليك أن تَذْكُر اسمَ المغالطة وفحواها كما لو كنت تُعِيد على مسامع القاضي الذكي شيئًا بسيطًا يعرفه من الأصل، ثم تُثنِّي بمثالٍ بالغِ الوضوح يَزِيد مقصدَك جلاءً وسطوعًا، ثم تختم حجتَك وكأنك تداوي خصمَك وتفتح له طريقًا آخر للجدل غير مغالطته البائدة، قل شيئًا كهذا:

«إن توجُّهك يا سيدي يتكئُ بشدةٍ على التأييد الشعبي وعلى فوزه الساحق في الاستفتاء الأخير، لقد صَوَّت أغلبُ الناس لهذا التوجه، نعم وهذا حقُّهم في بلدٍ ديمقراطي يتولى فيه الشعبُ حكمَ نفسه وعلى مسئوليته، غير أنه لا يجعل من الرأي السائد حقًّا بالضرورة، إنه خطأ .. «الاحتكام إلى عامة الناس» ad populum كما تعلمون إن عدد الأصوات المؤيِّدة ليس معيارًا للحق ولا يجعل الرأي حقًّا بالضرورة، فالحق والباطل لهما معاييرُ أخرى تعرفونها، لقد قفز هتلر إلى السلطة من صناديق الاقتراع، وقاد ألمانيا إلى الهاوية بتأييدٍ شعبي عارم، لقد حَظِي الرِّقُّ يومًا ما بتأييد الأغلبية في بعض الولايات الأمريكية، لقد كانت الأرضُ ذاتَ يومٍ هي مركز الكون في اعتقاد الجميع عدا جاليليو، دعنا إذن من هذه الحجة المغالطة، ولننصرف الآن عن التفكير بصندوق الاقتراع إلى التفكير بالعقل، يبقى أن حجتَك الأكثر وجاهةً وسدادًا هي

»

ص: 20

(5) التفكير النقدي مرحلة متقدمة من النمو المعرفي

يُقَسِّم جان بياجيه مراحلَ النمو المعرفي للإنسان إلى أربع مراحل، يعدها بيولوجية عمومية تشمل أفراد البشر جميعًا: الأولى: هي المرحلة الحسية الحركية sensorimotor «من الولادة إلى سن سنتين» حيث لا توجد بناءات ذِهنية (مخطَّطات)، وحيث يَسعى الرَّضيع إلى تكوين هذه البناءات من خلال استكشاف البيئة. والمرحلة الثانية: هي مرحلة ما قبل العمليات pre-operational «من سن سنتين إلى سبع» ، وفيها يكتسب الطفل اللغة، ويكوِّن بناءات ذهنية أكثر تعقيدًا، وإن تكن قبل-منطقية pre-logical، فما يزال غير قادر على أن يفهم أن جوهر الشيء لا يتغير، وإن تغير شكله وهيئته، ولا يزال غير قادر على «فض المركزية» decentering أي الانفصال عن ذاته ورؤية الأشياء من منظورٍ مختلف. والمرحلة الثالثة: هي مرحلة تفكير العمليات العيانية concrete operational «من سن سبع سنوات وحتى المراهقة» ، وفيها يتفهم ثبات الجوهر، ويتخذ منظورات مغايرة، ويبدأ في التساؤل عن الحياة ويحل المشكلات ولكن بشكلٍ عشوائي، إنها عمليات منطقية ولكنها ما تزال لصيقة بالعالم المادي العياني والأفعال المادية العيانية. والمرحلة الرابعة: هي مرحلة العمليات الصورية Formal operational، وفيها تواتيه القدرة على التفكير المنطقي المعقد، والتفكير التجريدي غير المرتبط بالأشياء والأحداث المادية، والتفكير الافتراضي، والحل المنطقي للمشكلات.

يقترح بعض المنظِّرين إضافة مرحلة خامسة أرقى من هذه المراحل الأربع، هي مرحلة التفكير الجدلي Dialectical thinking، وهي مرحلة بعد - منطقية، إن صح التعبير، وفيها يكتسب المرءُ التفكير النقدي، ويدرك مفارقات الحياة، ويتناول الأسس التحتية التي يقوم عليها المنطق ويحللها ويضعها موضع التساؤل والنقد، وهي مرحلة غير عمومية وغير بيولوجية ولا يبلُغُها المرء إلا بالتعلُّم والتدريب والممارسة.

يتألف التفكير النقدي من ثلاث مراحل: (1) الوعي بوجود افتراضات assumptions

(1)

أساسية. (2) التصريح بهذه الافتراضات وإخراجها إلى واضحة النهار. (3) تسليط أضواء النقد على هذه الافتراضات: هل هي ذات معنى؟ هل تنسجم مع الواقع كما نفهمه ونعيشه؟ متى تَصِح هذه الافتراضات ومتى تبطل؟

(1)

الافتراض assumption هو نقطة بداية مُسلَّم بها دون نقاش أو جدل، إن ما بوسعك أن تثبته خلال نقاش أو حجة سيعتمد دائمًا على الافتراضات التي تبدأ منها.

ص: 21

في غياب التفكير النقدي نكون رهائن للمؤثرات المحيطة: فلا يسعنا إلَّا أن نُكرر، تكرارًا أعمى، تلك الاستجابات التي تعلمناها من قبل، ولا يسعنا إلا أن نقبل، قبولًا أعمى، كل ما يقال لنا في أبواق الدعاية السياسية والتجارية، وفي الصحافة والكتب، وكل رأي يصدر عن «سلطة» .

إن التفكير النقدي والعلمي ليس شيئًا فطريًّا نأتيه بالطبيعة ونعرفه بالسليقة، وإنما هو عمل حرفي يتطلب حذقًا ومهارة، ليس من الصحيح أن لدينا قدرة طبيعية على التفكير الواضح والنقدي بغير تعلم وبغير ممارسة، ولا ينبغي أن نتوقع من غير المدرَّب أن يُفكِّر تفكيرًا واضحًا أكثر مما نتوقع من غير المدرَّب أن يجيد لعب التنس أو الجولف أو العزف على البيانو.

ذلك أننا إذ نمارس التفكير العلمي والنقدي إنما نمضي ضد مقاومةٍ شديدة ونسبح ضد تيارٍ عارم من التحيزات المتأصِّلة والأوهام الجِبِلِّية، ونتجشم اجتياز العديد من العوائق «الطبيعية» التي تحول بيننا وبين التفكير الواضح: فنحن بطبيعتنا لا نتحمل الغموض ولا نطيق معايشة السر! وإن بنا نزوعًا طبيعيًّا إلى طلب اليقين حيث لا يقين، والتماس الإجابات البسيطة عن الأسئلة المعقدة، وشغفًا بالدعاوى العريضة و «نظريات كل شيء» محمولة على ظهر بيِّنةٍ ضامرة هزيلة، وميلًا إلى الأخذ بالفرضيات التي تُرضِي رغائبنا وتدغدغ أمانينا، والالتفات إلى أضغاثٍ من الأمثلة التي تُؤَيِّد فرضيتنا وغض الطرف عن تلال من الأمثلة المفنِّدة، وإلى تذكر الرميات الصائبة وتناسي الرميات الخائبة، وإلى أخذ الاستعارات التوضيحية والتشبيهات المقرِّبة مأخذ الدليل، وإلى الانضواء مع القطيع والتلفُّع بالرايات والانضمام إلى «الزفة» ، وإلى قتل الرسل بدلًا من تفنيد الرسالة، وإلى التخلص من عبء البرهان وإلقائه على عاتق الخصم، وإلى الاستدلالات الدائرية وتحصيلات الحاصل، وإلى التعويل الزائد على السلطة والانبهار الزائد بالمشاهير، وإلى التعميم الكاسح المتسرع، وإلى تحويل التعاقُب أو الاقتران إلى عِلِّيَّة،

إلى آخر تلك الأغاليط التي نغرق فيها إلى الأذقان، والتي يتناولها هذا الكتاب بالتحليل والدرْس.

يمضي التفكير النقدي ضد هذه المقاومات الشرسة، فيحتاج إلى طاقة نفسية كبيرة، غير مقصورة على الذكاء الذهني المحض

يحتاج إلى شيء من «الذكاء الانفعالي» emotional intelligence: إلى التسامح، والتعاطف، و «المواجدة» empathy أي قدرة المرء على أن يضع نفسَه موضعَ الآخر، ويرى الأمور من وجهة نظر الآخر، ويتخذ الإطار المرجعي

ص: 22

للآخر، القدرة على اكتشاف «ماذا يشبه أن يكون» what it is like أن يعتقد المرء تلك الأفكار التي يضعها موضع التساؤل

(1)

قبل أن يهم بتقويضها.

إنها رحلة طويلة شاقة، ليس لها خرائط محددة، غير أننا لا نعدم بعض المبادئ المرشدة:

فكِّر بنفسك لنفسك؛ ذلك لأن التقدم في التفكير النقدي لا يتم إلا كرحلة فردية وكدحٍ شخصي، صحيح أن هناك سُبُلًا كثيرة يمكن أن تجعل من الفلسفة جهدًا مشتركًا ومهمة جماعية، شأنها في ذلك شأن العلم، إلا أن على كل شخص في النهاية أن يفكر لنفسه، وألا يَكِلَ إلى غيره أن يفهم نيابةً عنه («افهم لي ذلك من فضلك» هو نموذج لطلبٍ مستحيل!)

(2)

اكتسب القدرة على الانفصال عن رأيك، و «مَوضَعَتِه» ، ووضعه على محك التحليل والنقد، مثلما تفعل مع آراء الغير.

لا تُصدِّق كلَّ ما تسمع، ونصفَ ما ترى! ولا تبخل بجهدٍ من أجل الخروج من «مركزية العرق» ethnocentrism

من كهف الآراء الشائعة في عُرف جماعتنا الإثنية، والتمييز بين حقائق العالم وبين مجرد المسايرة لما تَصادَفَ أن يكون هو رأي الأسلاف أو اتَّفق أن يكون هو الرأي السائد في مسقط رأسنا وزمان وجودنا.

كن على استعداد، من حيث المبدأ، للتخلي عن رأيك إذا ما تَبَيَّن خطؤه، اسأل سؤالًا حقيقيًّا، سؤال مَنْ يبحث عن الحق لا عن مجرد تبرير لما يعتقده سلفًا.

تعلَّم كيف تَسُل الافتراضات التي تتبطن الرأي، وتضعها تحت أضواء النقد، ليكن ولعُك بالأسس، وانتحاؤك إلى الأسس.

لا تُسقط رغباتِك على الأشياء ولا تجعل من أمانيك معيارًا للحق، فأكبر الظن أن العالم لم يُخلق من أجلها ولم يُفصَّل على مقاسها.

«خذ» البلاغة، ولا «تؤخذ» بها، وفرِّق دائمًا بين الخطابة والبرهان، ولا يَخْلِبك زخرفُ القول عن جوهر الحجة، ولا تقف عند التشبيه البليغ وتظنه المحطة النهائية وتأخذه مأخذ الدليل.

(1)

يطلق على ذلك «لعبة الاعتقاد» the believing game، كمقابلٍ ل «لعبة الشك» the doubting game.

(2)

وليم جيمس إيرل: «مدخل إلى الفلسفة» ، ترجمة: عادل مصطفى، المشروع القومي للترجمة، العدد 962، المجلس الأعلى للثقافة، 2005، ص 35.

ص: 23

لا تجعل من درجة حرارة الاعتقاد معيارًا لصوابه، فكثيرًا ما تتناسب قوة هذا الانفعال عكسيًّا مع قوة البينة، بحيث يمكننا تعريف «التحيز اللامعقول» بأنه «ما يجلب الغضب عند مساءلته» ، ويمكننا أن نحدد مكمن تحيزاتنا بأن نلاحظ متى أخرجتنا الآراءُ الأخرى عن طورنا وأثارت غضبنا!

ومهما بلغ نضجُك في التفكير النقدي ستظل بحاجة أبدًا إلى تحصيل العلم واكتساب المادة المعرفية التي تُعمِل فيها فكرَك النقدي، ولا يَغِب عن بالك قولُ رَسِل «المنطق والرياضيات هما أبجدية كتاب الطبيعة، وليسا الكتاب نفسه!»

وأخيرًا، تَعَوَّد صحبةَ السِّر، وتَذَوَّق لذةَ التساؤل.

الأجوبةُ تُثقِلُك وتُطفِئُكَ وتُجمِّدُك،

وَحدَها الأسئلة ما يَشُوقُك ويهزك ويحدوك،

وربما اقتضى المرءَ عمرَه كله كي يَعرِفَ أن هذا الشوقَ وهذا الولوع هو الغاية القصوى والثروة النهائية.

عادل مصطفى

Philoadel@yahoo.com

ص: 24

الفصل الأول

المصادرة على المطلوب

begging the question; petitio principii

وفسَّر الماءَ بعد الجهد بالماءِ.

***

المصادرة على المطلوب هي التسليمُ بالمسألة المطلوب البرهنةُ عليها من أجل البرهنة عليها! وذلك بأن تفترض صحة القضية التي تريد البرهنة عليها وتضعها بشكل صريح أو ضمني في إحدى مقدمات الاستدلال، وأنت بذلك تجعل النتيجة مقدمةً وتجعل المشكلةَ حلًّا وتجعل الدعوى دليلًا! وهو ضرب من الحجة الدائرية arguing in a circle، والاستدلال الدائري ليس مغالِطًا في صميمه، ولكنه يغدو كذلك حيثما استُخدِم لكي يموِّه على فشلٍ في حمل عبء البرهان، وتنجم المشكلة حيثما كانت النتيجةُ المراد إثباتها مفترضةً أصلًا داخل المقدمات التي يتعين على الخصم أن يُسلِّم بها ويبدأ منها.

(1)

(1)

في تعريفات الجرجاني: «المصادرة على المطلوب» هي التي تجعل النتيجة جزء القياس، أو يلزم النتيجة من جزء القياس، كقولنا الإنسان بشر، وكل بشرِ ضحَّاك، ينتج أن الإنسان ضحاك، فالكبرى ها هنا والمطلوب شيء واحد، إذ البشر والإنسان مترادفان، وهو اتحاد المفهوم، فتكون الكبرى والنتيجة شيئًا واحدًا.

ص: 25

ذلك أنَّ الأصل في البرهان أن يكون أوضح وأوثق معرفةً مما يُراد البرهنة عليه، ومن البديهي أننا حين نختلف حول شيء فإننا نلجأ إلى شيء آخر لا نختلف حوله، ونحاول أن نستدل منه على ذلك الشيء الخلافي، ولكي تكون للحجة قوة إبستمولوجية أو ديالكتيكية يتوجب أن تبدأ من مقدمات معروفة ومقبولة أصلًا لدى الحضور، ثم نتقدم منها لكي نستخلص النتيجة غير المعروفة أو غير المقبولة، أما أن «نصادر على المطلوب» ونستند إلى ذات النتيجة الخلافية وقد تَنَكَّرت كمقدمة، وأما أن ندور في حلقة مفرغة ونحاول أن نَخْلُص إلى نتيجة تستند إلى مقدماتٍ ملقمةٍ بها أصلًا (أي تستند إلى ذاتها!) فهذا فكرٌ عبثي فارغ لا يمكن أن يفضي إلى أيِّ تقدم في المعرفة البشرية.

تتلون المصادرة على المطلوب بألوانٍ كثيرة، وتتخذ أشكالًا متعددة، وتُجِيد التخفي أحيانًا في هيئةٍ يتعذَّر كشفها إلا على المنطقي الخبير.

من أبسط صور المصادرة على المطلوب وأكثرها شيوعًا أن تجعل المقدمة صيغة أخرى من النتيجة المراد البرهنة عليها، مثال ذلك:

تستلزم العدالة أجورًا مرتفعة؛ وذلك لأن من الحق والصواب أن يكون الناس أقدر على الكسب الوفير. (وهي لا تعدو أن تقول إن العدالة تتطلب زيادة الأجور لأن العدالة تتطلب زيادة الأجور!)

يجب إلغاء المواد غير المفيدة كاللغة الإنجليزية من مقررات الكلية؛ وذلك لأن إنفاق اعتمادات لمادة غير مفيدة للطالب هو شيء لا يقره أحد. (نحن أيضًا لا نوافق على تبديد أموال في تدريس مواد غير مفيدة، غير أن الحجة هنا لم تثبت لنا أن الإنجليزية مادة غير مفيدة، وهو لب المسألة، وكل ما فعلَتْه هو أن «صادرت على المطلوب» وكررت النتيجة في المقدمات، دون التفات إلى المقدمة المحذوفة في هذا «القياس المضمر» enthymeme، وهي: «اللغة الإنجليزية مادة غير مفيدة».)

أيُّما شيء أقل كثافةً من الماء سوف يطفو فوقه؛ وذلك لأن مثل هذه الأشياء لا يمكن أن تغطس في الماء.

ما دُمت لا أكذب، فأنا إذن أقول الحقيقة.

قد يبدو للقارئ المبتدئ أن المصادرة على المطلوب هي مغالطة واضحة للعيان سهلة الانكشاف، وليست بحاجة إلى دراسة وتحليل يختلق صعوبةً حيث لا صعوبة، غير أن الأمر ليس دائمًا ببساطة الأمثلة السابقة، ويكفي أن نقول إن عقلًا بحجم عقل أرسطو، المعلم

ص: 26

الأول ومؤسس المنطق الصوري، قد ارتكب مصادرةً على المطلوب بَيَّنها جاليليو «حينما أراد أرسطو أن يُثبت أن الأرض في وسط العالم، فقال: الأجسام الثقيلة تميل بطبعها إلى مركز العالم والأجسام الخفيفة تبتعد بطبعها عنه، والتجربة تدلنا على أن الأجسام الثقيلة تميل إلى مركز الأرض والخفيفة تتبعد عنه؛ إذن مركز الأرض هو بعينه مركز العالم.» (إن المقدمة الكبرى هنا فيها مصادرة على المطلوب، فإن التجربة تدلنا حقًّا على أن الأجسام الثقيلة تميل إلى مركز الأرض والخفيفة تبتعد عنه، ولكن من أين يقول لنا أرسطو إنها تميل إلى مركز العالم، إذ لم يكن يفترض أن مركز الأرض هو بعينه مركز العالم؟ وهذا هو المطلوب البرهنة عليه!)

(1)

بديه أن أرسطو كان ممتلئًا ب «مركزية الأرض» geocentrism وهو يصوغ هذه الحجة، وإنه لمن العسير حقًّا أن تصوغ حججًا مُنِتجةً لميولٍ أيديولوجية أو التزاماتٍ انفعالية، ولعل هذا هو السبب الذي يجعل السياسيين يخدعون الناس عن قصد ويخدعون أنفسهم عن غير قصد، ويمطروننا بوابلٍ من المصادرات على المطلوب التي تبدو دائمًا كفرضٍ عام يُقدِّمونه لكي يدعم حالةً جزئية، بينما الحالة الجزئية لا تعدو أن تكون شطرًا من ذلك الفرض العام، انظر إلى المثال التالي:

يجب ألا نسمح ببيع هذه القطع من مقتنيات توت عنخ آمون إلى أيِّ بلد أجنبي مهما كان الثمن؛ وذلك لأن آثار مصر العظيمة ليست للتصدير.

نحن أيضًا نأبى أن يُباع أيُّ شيء من الآثار المصرية مهما غلا الثمن، غير أن الحجة لم تقل لنا لماذا، وكل ما فعلته هو أن أعادت صياغة النتيجة (لا بيع لبلدٍ أجنبي) في المقدمة (لا تصدير).

(2)

ليس من المستغرَب أن تكون أحفلُ الحجج بالمصادرة على المطلوب هي الحجج الأيديولوجية والأخلاقية، ذلك أن هذه الحجج تكون موجهةً غالبًا إلى الشكاك، وأنها تتناول مجالات تفتقر بطبعها إلى قضايا وقائعية factual يلمسها الجميع؛ ومِن ثَمَّ تكون المصادرة

(1)

عبد الرحمن بدوي: «المنطق الصوري والرياضي» الطبعة الخامسة، وكالة المطبوعات، الكويت، 1981 م، ص 244، وانظر أيضًا الدور المنطقي الذي وقع فيه ديكارت، أبو الفلسفة الحديثة، وسنعرِض له لاحقًا.

(2)

لاحظ أن «التصدير» ما هو إلا «البيع لبلدٍ أجنبي» وقد صيغ بعبارة أخرى! وكأن الحجة تقول ببساطة: لا بيع لأنه لا بيع! وهذا التبديل في الصياغة هو الذي يوهم بأن المقدمات تحمل شيئًا مختلفًا.

ص: 27

على المطلوب خطرًا محدقًا بها ومنزلقًا سهلًا، وكثيرًا ما تكون الألفاظ المستخدمة في هذه الحجج هي ألفاظ مُلْقَمة (مشحونة) loaded؛ أي ألفاظ تختزن داخلَها افتراضاتٍ خفيةً ونظرياتٍ بتمامها (مثال ذلك: رجعي، انتحاري، استشهادي، ضحية، اضطهاد، إرهاب

) وكأنها مصادراتٌ «جاهزةٌ» للاستعمال الفوري، يخوض المفكرون معاركهم وفي جعبتهم مخزون ضخم من هذه الألفاظ، وبخاصة حين يريدون أن يخبرونا ماذا نفعل وكيف نسلك، إن الواجبات التي يريدون أن يفرضوها علينا إنما هي مخبوءة سلفًا في هذه الألفاظ المفَخَّخة، تبدو هذه الألفاظ كأنها تصف «وقائع» facts خالصةً لا شِيَة فيها، غير أنها تنطوي على «يَنْبَغِيَّةٍ» oughtness مطمورة في ثناياها و «إلزامٍ» مضمَر، ولكي تتم الخدعة يجب أن تبدو المصادرة على المطلوب في هيئة حجة، أي تُتلى بمفاصل منطقية من قبيل: لأن، حيث إن، بما أن، إذن، وبناءً عليه، ومِن ثَمَّ

إلخ، حتى لو كانت المسألة مجرد تكرارٍ بسيط للألفاظ.

‌أمثلة

(1)

«ينبغي ألا نُصدر أسلحةً لماليزيا؛ لأنَّ من الخطأ أن نُزود الأمم الأخرى بأدوات القتل.» قد يبدو هذا كأنه حجة أو برهان، غير أنه مجرد إعادة صياغة لنفس العبارة بألفاظ أخرى: من الخطأ أن = ينبغي ألا. نزوِّد = نصدر. الأمم الأخرى = الهند والصين وغانا

وماليزيا

إلى آخر قائمة الأمم. أدوات القتل = الأسلحة. في ضوء هذا التحليل البسيط يتكشف أن الحجة لم تقل أكثر من: «ق» صادقة؛ لأن «ق» صادقة.

(2)

«التجارة الحرة سوف تكون خيرًا لهذا البلد؛ والسبب في ذلك واضح للغاية: أليس من الواضح أن العلاقات التجارية غير المقيدة سوف تغدق على هذا البلد كل أنواع المنافع التي تنجم عندما لا تكون ثمة عوائق تعترض تدفق البضائع فيما بين بلدان العالم؟»

ص: 28

لا يعدو الأمر هنا أيضًا أن يكون إعادة صياغة، أو تكرارًا للعبارة نفسها بألفاظ أخرى، (لاحظ أن «العلاقات التجارية غير المقيدة» هو تعبير مطوَّل بعض الشيء عن «التجارة الحرة»، وأن بقية العبارة هي تعبير مطول أكثر عن قولك «خير لهذا البلد».)

(3)

«السرقة فعل غير مشروع؛ لأنها لو لم تكن كذلك لما كان حرَّمها القانون.» تتظاهر هذه الحجة بأنها تُبيِّن السبب الذي من أجله تُعَد السرقة خطأ أو عملًا غير مشروع، غير أنها ليست أكثر من تكرار للقول نفسه بصيغة أخرى، ولا تعدو في نهاية التحليل أن تقول: السرقة ضد القانون لأن السرقة ضد القانون، أو: السرقة غير مشروعة لأن السرقة غير مشروعة!

(4)

«التلباثي (التخاطر) خرافة لا وجود لها؛ لأن الانتقال المباشر للأفكار بين الأشخاص هو أمر مستحيل.» (التلباثي = الانتقال المباشر للأفكار بين الأشخاص؛ خرافة = مستحيل.)

(5)

«إن السماح لكلِّ إنسان بحرية مطلقة في الحديث ينبغي أن نعده أمرًا في مصلحة الدولة؛ وذلك لأن من الأمور التي تصب دائمًا في مصلحة المجتمع أن يتمتع كل فرد بحرية كاملة غير منقوصة في التعبير عن عواطفه.»

(6)

«القتل الرحيم active euthanasia مقبولٌ أخلاقيًّا، إن من اللطف والرحمة وحسن الخلق أن تعين كائنًا إنسانيًّا آخر على أن ينجو من المعاناة والألم من خلال الموت.» لنضع ذلك في صورة مقدمة ونتيجة: من اللطف وحسن الخلق

إلخ أن تعين إنسانًا

من خلال الموت؛ إذن القتل الرحيم مقبول أخلاقيًّا. والآن إذًا نحن ترجمنا المقدمة سنجد أن القائل لم يَعْدُ في حقيقة الأمر أن كرَّر الشيء نفسه مرتين: «من اللطف وحسن الخلق» تعني شيئًا قريبًا جدًّا من «مقبول أخلاقيًّا» ، «تعين إنسانًا آخر

من خلال الموت» تعني «القتل الرحيم» ، هكذا نجد أن الحجة لم تُقدِّم لنا أسبابًا عقلية تجعل القتل الرحيم مبررًا أخلاقيًّا، وتترك السؤال لدى المتلقي مفتوحًا:«حسن، لماذا إذن نعتقد أن القتل الرحيم جائز؟»

ص: 29

(7)

الإجهاض هو القتل غير المبرَّر لكائن إنساني، وهو، من ثم، قتل، وما دام القتل جريمةً نكراء، فالإجهاض جريمة في جميع الأحوال. نحن أيضًا لا نريد إباحة الإجهاض دون قيد أو شرط؛ غير أن الحجة السابقة تجعل النتيجة متضمَّنةً سلفًا في المقدمات، وتصادر منذ البداية بأن الإجهاض قتلٌ غير مبرر دون أن تبين لنا لماذا كان ذلك.

(1) الاستدلال الدائري reasoning in a circle

«هناك أحوال أخرى فيها لا يُفترَض مباشرةً صحة المطلوب معبرًا عنه في المقدمات بطريقة أخرى، وأما الذي يُفترض فهو شيء تتوقف صحته على صحة النتيجة؛ أي لا يمكن البرهنة عليه إلا بالنتيجة فيكون هنا حينئذٍ دور vicious circle» ،

(1)

يمكن تجريد الصورة المنطقية لهذا الدور كالتالي:

«أ» صادقة لأن «ب» صادقة.

«ب» صادقة لأن «أ» صادقة.

نحن إذن بإزاء شكل من أشكال المصادرة على المطلوب يعتمد فيه صدق الدعوى المقدمة على دليل يعتمد بدوره على الدعوى ذاتها التي يُفترَض أن يبرهن عليها، وبذلك يدور البرهان في دائرة مغلقة وتعتمد كل قضية فيه على الأخرى.

وقد تطول سلسلة الدائرة أكثر من ذلك، بحيث تعتمد كل قضية على تاليتها، وتعتمد القضية الأخيرة بدورها على الأولى فتنغلق الدائرة، ولا يتوافر خارج السلسلة دليل مستقل عنها:

«أ» صادقة لأن «ب» صادقة.

«ب» ...... «ج»

«ج» ...... «أ»

ويُعَد الاستدلال الدائري مغالطة لنفس السبب الذي يجعل المصادرة على المطلوب مغالطة: وهو أنه لا يُقدِّم لنا دليلًا مستقلًّا عن الدعوى ذاتها، وأنه يفشل في أن يربط لنا ما

(1)

عبد الرحمن بدوي، «المنطق الصوري والرياضي» ، ص 244 - 245.

ص: 30

هو غير معروف أو غير مقبول بما هو معروف ومقبول، وفقًا لقاعدة «الأصل في البرهان أن يكون أوضح وأوثق معرفةً مما يُراد البرهنة عليه» ، وكل ما يفعله الاستدلال الدائري هو أنه يقدم لنا مجهولين (أو أكثر) كلٌّ منهما مشغولٌ بتعقُّب ذيل الآخر! بحيث لا يتسنى له أبدًا أن يصل نفسه بالواقع.

‌أمثلة

(1)

الروح جوهر بسيط لأنها خالدة، لا تتجزأ ولا تتحلل ولا تفسد. والروح لا بُدَّ لها مَنْ أن تكون خالدة؛ لأنها جوهر بسيط.

(2)

أنا لم أفعلها أيها المعلم، وزميلي عليٌّ يضمن لك صدقي. ولماذا يتعين عليَّ أن أثق بكلام عليٍّ؟ عليَّ؟! إنني الضامن لك أنه صادق أيها المعلم.

(3)

نحن نعرف عن طبيعة الرب وصفاته من الإنجيل. ونحن نعرف أن ثقتنا في الإنجيل مطلقة؛ لأنه مُوحَى به من الرب.

(4)

إنني أطلب منك أن تضطلع بهذه المهمة لأنني أُقدِّر كفاءتك. وكيف أعرف أنك تقدر كفاءتي؟ هل كنتُ أطلب منك أن تضطلع بمثل هذه المهمة لو لم أكن أقدر كفاءتك؟!

(5)

هذه اللآلئ السبع التي سرقناها سوف نقسِّمها على ثلاثتنا: خذ أنت اثنتين، وأنت اثنتين، وأنا آخذ ثلاثًا. ولماذا تستأثر لنفسك بثلاث؟ لأنني «الريس» . وما الذي نصَّبك «ريسًا» علينا؟! لأن لَدَى كلٍّ منكما لؤلؤتين ولَدَيَّ ثلاث لآلئ أيها الغبي!

(1 - 1) هل كل استدلال دائري هو مغالطة بالضرورة؟

إذا نظرنا إلى المنطق الاستنباطي للقضايا فإن المصادرة على المطلوب («ق» إذن «ق») صائبةٌ استنباطيًّا، أين يكمن الخطأ إذن؟! ومتى تكون المصادرة على المطلوب أو الحجة الدائرية مغالطة؟

ص: 31

إذا عدنا تاريخيًّا إلى المعلم الأول، أرسطو، نجده يتناول المصادرة على المطلوب تناولًا مزدوجًا:

في «التحليلات (الأنالوطيقا) الأولى» يتناول المصادرة على المطلوب في ضوء قوله المأثور بأن البرهان يمضي مما هو أكثر يقينًا أو أوثق معرفةً: فإذا حاول المرء أن يثبت ما هو غير واضح بذاته عن طريق افتراضه والتسليم به بادئ ذي بدء، فإنه بذلك يصادر على المطلوب الأول، أو يُسِلِّم بالمسألة الأصلية، إنه يفترض ما ينبغي عليه إثباته، يُعَد هذا توصيفًا إبستيميًّا للمغالطة: فأن تُصادر على المطلوب هو أن تنتهك المبدأ الإبستيمي القائل بالأولوية المعرفية للمقدمات فوق النتيجة في أيِّ برهان من البراهين.

غير أن أرسطو في «الطوبيقا» (المواضع الجدلية) يتناول المصادرة على المطلوب من حيث هي واردة في نزاع جدلي بين طرفين أو خصمين: تقع المصادرة على المطلوب عندما يطلب صاحب دعوى ما «ق» إلى خصمه المعارِض أن يُسلِّم ب «ق» إلى خصمه المعارِض أن يُسلِّم ب «ق» كمقدمةٍ عليه قبولها، ويُعَدُّ هذا توصيفًا جدليًّا للمغالطة.

يُقدِّم أرسطو خمس طرق يمكن للحجة بها أن تصادر على المطلوب، ويتفاوت تناوله للمغالطة بعض الشيء بحسب السياق الذي يتناول فيه المغالطة: السياق الإبستيمي (في تناوله للبرهان على سبيل المثال) أو السياق الجدلي (كما في الطوبيقا).

ربما يكون ذلك هو الخيط الذي يمكن أن يوصلنا إلى فهم اللغز: متى تكون الحجة الدائرية خطأ منطقيًّا؟ يبدو أن هناك عاملًا إضافيًّا يحسم أمر الحجة الدائرية ويحدد نصيبها من الصواب المنطقي: ذلك هو «السياق» context، ونعني به السياق الجدلي الذي تنسلك فيه الحجة، أو سياق الجدل القائم بين متحاورَين لكلٍّ منهم التزاماته الاعتقادية الخاصة.

من هنا يجب أن نميز بين «الدلالة» (السيمانطيقا) و «التداولية» (البراجماطيقا) في المنطق، مثلما ميَّز أرسطو قديمًا بين السياق الإبستيمي والسياق الجدلي، تُعرَّف «السيمانطيقا» Semantics أو علم دلالة الألفاظ، أو المعاني، بأنها الدراسة التي تتناول علاقة العلامات اللغوية بالعالم الواقع خارج اللغة extra-linguistic world،

ص: 32

أما «البراجماطيقا» (التداولية) pragmatics فتُعرَّف بأنها العلاقة بين العلامات اللغوية ومستخدميها من بني البشر، فليست اللغة بأية حال شيئًا مُخزَّنًا بالمعاجم وكتب النحو، بل هي شيء في استخدامٍ متصل بين بني الإنسان، وللبشر طرائقهم في تداول اللغة فيما بينهم بما يتجاوز الدلالة المباشرة للعلامات ويتجاوز النحو وتركيب الجملة بحد ذاته، من أهم الموضوعات التي تندرج في مبحث التداولية: الأفعال الكلامية speech acts، والإضمار الحواري conversational implicature، التفرقة بين المعجم والموسوعة، وبين الاستعمال والذِّكر

إلخ.

في ضوء هذه التفرقة الأساسية بين الدلالة والتداولية يمكننا أن نمضي فنقول إن الحجج الدائرية ليست مغالطة بالضرورة، وإنما يتوقف الأمر على السياق الحواري للحجة وعلى الالتزامات الاعتقادية لدى المتحاورين، يمكننا بتعبير تقني أن نقول إن المصادرة على المطلوب أو الحجة الدائرية هي «مغالطة تداولية» pragmatic fallacy: أي قصور يتعين تقييمه بالنظر إلى الطريقة التي استخدمت بها الحجة في سياق حواري معين، لا تكون المصادرة على المطلوب مغالطة إلا إذا فشلت في تحقيق وظيفة مهمة من وظائف الحجة هي الوظيفة البرهانية؛ أي إذا لم تغير شيئًا في درجة الثقة التي يكِنُّها الخصمُ في النتيجة المعنِيَّة (المسألة المطلوب إثباتها)، الأمر هنا يتوقف على ما يعتقده متلقِّي الحجة وعلى درجة الثقة التي كان يُوليها للمسألة التي يتم البرهنة عليها، الأمر هنا يتفاوت بحسب الالتزامات الاعتقادية الأصلية للطرف المتلقي، فإذا كانت الحجة تكرر النتيجة في المقدمات (أي تثبت المسألة بذاتها أو تفترض ما يطلب الخصم إثباتَه) متوجهة بذلك إلى خصم لا يعتقد أصلًا في هذه النتيجة ولا يلتزم بها، فإنها عندئذٍ لا تؤدي وظيفتها البرهانية المنوطة بها، وهي بهذا المعنى وفي هذا السياق تعتبر مغالطة.

أما عندما تُقدَّم نفس الحجة (من الوجهة السيمانتية/ هُوِيَّة سيمانتية) إلى طرفٍ متلقٍّ يعتقد في النتيجة ويلتزم بها اعتقاديًّا، فإنها في هذا السياق التداولي المختلف لا تعتبر مغالطة.

ولمزيد من التبيان نقول: إنَّ من أهم وظائف الحجة «الوظيفة البرهانية» probative function، أي وظيفة إزالة الشك (أو خفضه)، والتي تفترض الإطار التالي للحوار: ثمة طرف «المُتلقِّي» لديه شكوك أو تساؤلات تتصل بنتيجة معينة، وثمة طرف آخر «صاحب الحجة أو الداعي» مهمته في الحوار هي إثبات هذه النتيجة إثباتًا يُقنع المتلقي ويرضيه

ص: 33

وفقًا لمقتضيات عبء البرهان المناسبة لنوع الحوار وللحالة المعْنِيَّة، فالآن إذا طرح الداعي حجةً دائريةً من الصنف الذي لا يتسنى فيه خفض شكوك المتلقي أو تدعيم المقدمات إلا بإثباتها من النتيجة، عندئذٍ تكون الحجة مصادرة على المطلوب، مثال ذلك هذا الحوار بين مؤمن وشاك:

- سيظل القرآن الكريم إلى يوم القيامة محفوظًا من كلِّ التصحيف والتحريف.

- ما الدليل على ذلك؟

- الدليل أن الله يقول في كتابه العزيز: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

من البين أن هذه الحجة تنطوي على مصادرة على المطلوب لأن المتلقي ليس لديه التزامٌ عقائدي بالقرآن، ومِن ثَمَّ فإن الدليل المطروح لا يضمن عنده أن يبقى القرآن محفوظًا بما فيه {إِنَّا نَحْنُ} .

أما عندما ترد هذه الحجة بحذافيرها في سياق تداولي آخر يجري بين داعٍ مؤمن ومُتلقٍّ مؤمن أيضًا ولديه التزام عقائدي بالقرآن، هنالك تضطلع الحجة بوظيفتها البرهانية وتكون حجة صائبة مائة بالمائة وبريئة من أية مصادرة على المطلوب، هكذا تتجلَّى أهمية أن يُتقن «الداعية»

(1)

منطق الجدل، وألا يغفل لحظةً هويةَ المخاطَب والتزاماته الاعتقادية المبدئية، وأن يتجنَّب تأييد المذهب «من داخله» (المصادرة على المطلوب)، ويلتزم دائمًا بالحجج التي تُؤيد المذهب «من خارجه» .

ها نحن بإزاء حجة واحدة (من حيث الصورة السيمانتية) تُصادر في حالة ولا تصادر في أخرى؛ وذلك لاختلاف السياق التداولي، إنها ترد في سياق تداولي فتكون مغالطة ومصادرة على المطلوب، وترد في سياق تداولي آخر فتكون صحيحة لا شِيَةَ فيها، نَخْلُصُ من ذلك إلى أن المصادرة على المطلوب هي مغالطة تداولية بالدرجة الأساس.

(2)

في كتابه «نسق في المنطق» a system of logic ذهب جون ستيوارت مِل إلى أن جميع صور الاستدلال الاستنباطي ترتكب مغالطة «المصادرة على المطلوب» ، فالقياس syllogism

(1)

الداعية هنا، بحُكم التعريف، هو من يدعو «غير المؤمنين» إلى الإيمان، وعليه من ثم أن يُراعي «السياق التداولي» pragmatic context لخطابه، فلا يلجأ إلى تفسير المذهب بنفسه أو إثبات الماء بالماء، وهو شرطٌ لا يريد أن يفهمه كثيرٌ من الدُّعاة المخلصين.

(2)

Walton، Douglas N: 1985، "Are Circular Arguments Necessarily Vicious? ".American Philosophical Quarterly 22، 263 - 74.

ص: 34

يتضمن دورًا أو مصادرة على المطلوب؛ لأنَّ المقدمة الكبرى فيه تفترض صحة النتيجة، يذكر مِل هذا القياس الشهير:

كل إنسان فانٍ،

أفلاطون إنسان؛

إذن أفلاطون فانٍ.

ويقول: إنَّ المقدمة الكبرى «كل إنسان فان» تفترض النتيجة مسبقًا بمعنى أننا لا يمكن أن نُوقن بصدقها ما لم نكن موقنين بصدق النتيجة «أفلاطون فان» ، فإذا كان من المشكوك فيه أن أفلاطون فان فسوف يكون من المشكوك فيه، بنفس الدرجة على أقل تقدير، أن جميع البشر فانون.

هنا أيضًا يسعفنا تصور «السياق التداولي» pragmatic context كمِحَكٍّ لهذه المغالطة، هل ثمة دور منطقي في القياس السابق؟ ذلك أمر يتوقف على ما إذا كان سياق الحجة يتضمن (ربما استقرائيًّا) بينة على المقدمة الكبرى «كل إنسان فان» مستقلة عن النتيجة

بينة بيولوجية مثلًا على فناء الحيوانات، غير أن هذا يطرح سؤالًا مربكًا عن دور البَيِّنة الخلفية background evidence في سياق الحجة، ويعود بنا من ثم إلى مشكلة ما الذي يمكن أن يُعَد، أو لا يُعَد، «مقدمة» premise لحجة معينة.

(1)

(1 - 2) أمثلة أخرى للحجة الدائرية

(أ) الخطة القومية

يذكر البريطانيون تلك «الخطة القومية 1964 - 1970 م» ، وهي ممارسة للتخطيط الاقتصادي القومي الذي كان صيحة رائجة في ذلك الوقت: فقد طُلِبَ من الشركات أن تتخذ معدل نمو قدره 3?8?، وأن تُقَدِّر على هذا الأساس ما ستكونه خططها الخاصة للتوسُّع، ثم أضافت الحكومة هذه التقديرات المختلفة، واستنتجت أن الخطط المشتركة للصناعة البريطانية تُومئ إلى معدل نمو قدره 3?8?! لا غرو كانت الخطة القومية لا قيمة

(1)

Walton، Douglas N.، In "Informal Logic: The First International Symposium"، ed.J.Anthony Blair and Ralph H.Johanson، Inverness، California، Edgepress، 1980، 41 - 54.

ص: 35

لها وما تزال، اللهم إلا لخبراء المغالطة المنطقية ممن يُسعدهم الحظ بالحصول على نسخ منها لدى باعة الكتب المستعملة!

(ب) الدور الديكارتي

يعرف كل قارئ لديكارت أنه بدأ فلسفته بافتراض الشك في كلِّ شيءٍ على الإطلاق: في شهادة الحواس وأحكام العقل ووجود العالم

إلخ، حتى عثر على اليقين الأول الذي لا يتطرَّق إليه الشك، وهو يقين الفكر، يقين الكوجيتو:«أنا أفكر فأنا إذن موجود» ، لقد أثبت وجود الذات بالفكر، ثم التمس للفكر سندًا في الوجود الواقع، فأثبت وجود الله بالفكر ذاته ليكون ضامنًا لمعرفته الواضحة المتميزة عن العالم الخارجي، بذلك يتبين الخطأ المنطقي الذي وقع فيه ديكارت بوضوح تام: فهو لم يخرج من شكِّه إلا بدورٍ منطقي ظاهر: فمن جهة يجب للبرهنة على وجود الله الاعتماد على العقل والأفكار الواضحة كوسائل لا تخدع، ومن جهة أخرى لأجل التحقق من أن العقل والأفكار الواضحة لا تخدع يجب العلم أولًا بوجود الله وصدقه!

(1)

(ج) التحليل النفسي

تَعِج كتابات رائد التحليل النفسي وأتباعه بمصادرات على المطلوب تؤدي لدرس المنطق أضعافَ ما تُؤدِّيه لدرس السيكولوجيا من خدمات!

في كتابه «تفسير الأحلام» يقول فرويد بالنص الحرفي: «وأرادت مريضة أخرى (هي أمهر حالماتي) أن تنقض نظريتي في الأحلام، فأمكن أن يحل حلمها حلًّا أقل تعقيدًا وإن ظل متفقًا مع ذات القاعدة: أن عدم تحقق إحدى الرغبات معناه تحقق أخرى، ذلك أنني شرحت لها يومًا أن الحلم يحقق رغبة، فأتتني في اليوم التالي بحلم رأت فيه أنها تسافر مع زوجة أبيها لتقضيا فصل الصيف في الريف، وكنتُ أعلم أنها قد ثارت ثورةً عارمةً على فكرة المصيف قريبًا من زوجة أبيها،

(1)

انظر على سبيل المثال «تاريخ الفلسفة الحديثة» للأستاذ يوسف كرم، الطبعة الخامسة، دار المعارف، القاهرة، 1969، ص 70.

ص: 36

وأنها قبل ذلك بأيام قد أفلحت لحسن حظها في الإفلات من هذه الصُّحبة المخوفة؛ فاستأجرت منزلًا في الريف يبعدها عن حيث كانت امرأة أبيها كل البُعد، وها هو ذا الحلم قد أتى فإذا هو يقلب هذا الوضع رأسًا على عقب، ألا ينقض ذلك نظريتي في تحقق الرغبة بوساطة الحلم أقطع نقض؟ يقينًا، ولا يحتاج المرء إلى أن يستخرج النتيجة التي تخلص من هذا الحلم لكي يحصل على تفسيره: إن الذي يخلص من هذا الحلم هو أنني كنت على خطأ، وهكذا فقد كانت رغبتها هي أن أكون على خطأ والحلم يريها تحقق هذه الرغبة.»

(1)

يذهب أنصار التحليل النفسي إلى أن المشاهدات الإكلينيكية تؤيد نظرياتهم، من حيث هي وقائع تجريبية تربط النظرية بالعالم ربطًا اختباريًّا فتمنحها الصفة العلمية، غير أن هذه الملاحظات الإكلينيكية، شأنها شأن كل الملاحظات الأخرى، هي تأوُّلات في ضوء النظرية؛ ولهذا السبب وحده تكتسب مظهر المدَعِّم لتلك النظريات التي تم في ضوئها تفسير هذه الملاحظات، إنها أشبه بثوبٍ خُلِع «من» النظرية ثم خُلِع «عليها»

فَهالَهُم أنه انطبق على النظرية وأيَّدَها تأييدًا، وهو منطقٌ معكوس يقع فيه كل من يقرأ فكرتَه ويتأوَّلها في كلِّ شيءٍ ويراها في كلِّ شيءٍ لأنه لا يرى إلا بها! وهو منطق معكوس تجد له أمثلة لا تحصَى في النظريات الميتافيزيقية التي تبدو الوقائعُ مؤيدة لها، ولو دققنا النظر في هذه الوقائع لَتَبَيَّن لنا أنها اختيرت في ضوء النظريات عينِها التي نريد اختبارها بها.

قلَّما يخضع التحليل النفسي للاختبار في الممارسة الحقيقية، وحتى حين يعرض للاختبار فإن الاستدلال كثيرًا ما يكون دائريًّا، بمعنى أن تفسير المعطيات نفسها يتطلب افتراض صدق النظرية، مثال ذلك ما ورد عن نتائج دراسة حول عقدة أوديب Oedipus Complex حيث كانت نسبة الفتيات أكبر من نسبة الأولاد بدرجة عالية الدلالة فيما يتصل بتخيل الصورة الذكرية ترتقي الدرَجَ وتدخل الغرفة، وهو بالطبع أقوى دليل على صدق نظرية فرويد، حيث إن ارتقاء السلم في نظرية فرويد هو رمز للجماع،

(2)

مثل هذا الدليل مشكوك فيه إلى حد كبير؛ لأن

(1)

سيجموند فرويد: «تفسير الأحلام» ، ترجمة د. مصطفى صفوان، المؤلفات الأساسية في التحليل النفسي بإشراف الدكتور مصطفى زيور، دار المعارف، 1994، ص 175 - 176.

(2)

Kline، P. (1984)، Psychology and Freudian Theory، New York، Methuen، p. 72.

ص: 37

هذا الفرق المذكور بين الذكور والإناث لا ينهض دليلًا على صدق نظرية فرويد إلا إذا تبنى التفسير الرمزي الذي يتضمن أن الفتيات يُفكرن في الاتصال الجنسي بأبيهن، أي ب «مصادرة على المطلوب» ، وما من نتيجة إلا ويمكن أن تكون مؤيَّدة إذا نحن أفرغنا عليها التفسيرَ المطلوبَ تأييده.

(2) تفسيرات تحصيل الحاصل

يلحق هذا أيضًا بما يُسمَّى «تفسيرات تحصيل الحاصل» tautological explanations، وهي صفة الفكر الأجوف، والعلم الأجوف الخالي من المحتوى المعلوماتي الحقيقي.

و «تحصيل الحاصل» tautology هو عبارة صادقة بالضرورة بسبب صورتها المنطقية ذاتها، مثال ذلك:«إنَّها تمطر أو لا تمطر» ، وتُعَد تحصيلات الحاصل بصفة عامة خلوًّا من المعلومات، وتحصيل الحاصل ليس عيبًا وليس سُبةً حين يجول في مجاله: فالمنطق والرياضة البحتة هما من قبيل تحصيل الحاصل، بمعنى أن نتائجهما لا تأتي بجديد لم يكن قابعًا، على طريقته، في المقدمات غير أن العلوم التجريبية تريد أن تخبرنا خبرًا عن العالم المحدد الذي تصادف أننا نعيش فيه، تريد أن تقول شيئًا جديدًا لم يكن لنا به علم، ومِن ثَمَّ يتعين عليها أن تتنكَّب تفسيرات تحصيل الحاصل التي لا تحمل في جعبتها خبرًا جديدًا - لا تحمل «محتوى معلوماتيًّا» يزيدنا عِلمًا، بل تقول لنا ببساطة: إن «أ» هو «أ» (!).

ويُعَرَّف «تفسير تحصيل الحاصل» بأنه ذلك التفسير الذي يكون فيه «المفسِّر» explanans (أي القضية التي تضطلع بالتفسير) لا يقول شيئًا أكثر من «المفسَّر» Explanandum (القضية المطلوب تفسيرها)، مثال ذلك سخرية موليير المأثورة من تفسير مهنة الطب في زمنه لظاهرة نوم الناس على أثر تعاطي الأفيون بأن الأفيون يجعل الناس تنام «لأن له تأثيرًا منوِّمًا» ، أي أن «الأفيون يُنَوِّم لأنه يُنوِّم!» لاحظ أن هذه العبارة ليست كاذبة بحد ذاتها («أ = أ» عبارة صائبة في حقيقة الأمر)، الخَطب أنها لا تفسر شيئًا ولا تضيف إلى علمنا شيئًا لم نكن نعلمه!

وكثير من العلم الزائف والعلم غير الناضج لا يعدو أن يكون من هذا الصنف، يقول ب. ووتون B.Wootton في كتابه «علم الاجتماع والباثولوجيا الاجتماعية» (1959 م): «في حالة الفعل المضاد للمجتمع الذي يُقال إنه ينتج عن المرض النفسي، فإن من غير الممكن

ص: 38

أن يُستدل على وجود المرض من حقيقة أن الفعل قد ارتُكب لا أكثر.»

(1)

لا يعدو هذا التفسير أن يقول: إن الناس تنغمس في العنف والسلوك المضاد للمجتمع؛ لأنهم أناسٌ ينغمسون في العنف والسلوك المضاد للمجتمع! كذلك الشأن في تفسير التحليل النفسي للانتحار والتدمير (تدمير النفس أو الغير) بأنه ناجم عما يسميه غريزة «الموت» thanatos وهي نزوعٌ بالإنسان إلى العودة إلى الحالة الجمادية، نعم هناك انتحار وهناك تدمير وهناك سلوك مضاد للمجتمع

إلخ، ولكن على التفسير العلمي أن يقدم شيئًا أكثر من ترجيع الصَّدى وتحصيل الحاصل.

في حديثه عن أرسطو في كتابه «مراجعات في الآداب والفنون» يقدم العقاد لمحةً ذكيةً في نقد «الأخلاق النيقوماخية» فيقول: إنَّ كل فضيلة عند أرسطو هي وسط بين رذيلتين، وكأن الاختلاف بين الفضائل والرذائل في تفسيره لا يكون إلا من قبيل الاختلاف بينها في الدرجات والزيادة والنقصان، وهو رأي منتقَد عابَهُ عليه كانت Kant بحق فقال: «إن الاختلاف بين الفضيلة والرذيلة لا يمكن أن يكون مسألة درجات بل لا بُدَّ أن يعتمد على معادنها الطبيعية أو قوانينها

إن تفسير أرسطو أولًا لا يُبين لنا الحدَّ الذي يجب على كل منهما أن يقف عنده، وثانيًا هو في الواقع «تحصيل حاصل» إذ إن أرسطو يقول «إن الإنسان يجب عليه أن يجتنب الخطأ بالزيادة عن الحد والخطأ بالنقص منه.» (دون أن يبين ما عساه أن يكون ذلك الحد!) فكأن النتيجة أن الواجب هو أن لا تفعل أكثر ولا أقل من الواجب!» وهذا هو تحصيل الحاصل كما يقول كانت؛ لأن تعريفنا الواجب بأنه شيء لا يزيد ولا ينقص عن الواجب هو من اللغو الذي يشبه قول القائل:

كأننا والماءُ مِنْ حَولِنا

قومٌ جلوسٌ حَولهم ماءُ

(2)

والحق أن كثيرًا من الفكر الأخلاقي الرائج لا يقول أكثر من ذلك! «افعل ما فيه المصلحة» (وما المصلحة؟!)«لا تفعل ما فيه مفسدة» (وما المفسدة؟!)«كن وسطيًّا» (بين ماذا؟!) وقلَّما يدرك المتحدث المخلص أنه في حقيقة الأمر لم يزد مستمعيه علمًا بأي شيء،

(1)

Wootton، B.، Social Science and Social Pathology، London، George Allen & Unwin، 1959، p. 233.

(2)

عباس محمود العقاد: مراجعات في الآداب والفنون، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1983، ص 65.

ص: 39

وأنه في حقيقة الأمر لا يزيدهم إلا رضا ذاتيًّا زائفًا، وأنه لا يغادرهم إلا وقد زاد طبعهم جفاءً وزادَ أرواحَهم غِلظة!

•••

وبعد، فمن شأن الحجة السديدة لإثبات دعوى معينة أن تقدم دليلًا مستقلًّا لتبرير الاعتقاد بهذه الدعوى، وأن تتجنب الاعتماد على الدعوى، أو شطرٍ من الدعوى، لإثبات ذاتها، وما يكون لعاقلٍ أن يفترض، كدليل أو بينة، ذات الشيء الذي يحاول أن يُثبته، غير أننا كثيرًا ما يجرفنا الانفعال الأيديولوجي والالتزام بصدق مذهبنا السياسي أو الأخلاقي ويَعْصِب أعيننا عن رؤية أننا، في حقيقة الأمر، نفترض مقدمًا صدق ما نريد أن نبرهن عليه؛ ولذلك تجد المصادرة على المطلوب مرتعًا خصيبًا لها في مثل هذه المجالات، وحيثما فرغت ساحةٌ من البراهين الصلبة والحجج الوقائعية المستقيمة تم استدعاء الحجج الدائرية لتَوَلِّي الأَزِمة واتخاذ اللازم، ولو أن هناك براهين مقنعة على الأيديولوجيات، المتكثرة تَكَثُّر الأهواء والمصالح، لكان عسيرًا على ذوي العقول أن يختلفوا حولها، ومن البين المتواتر أنه كلما توافر للناس حججٌ أكثر قبولًا وصلابة زاد انصرافهم عن الحجج الدائرية لتبرير دعواهم.

ربما تخدع المصادرة على المطلوب قائلَها أكثر مما تخدع متلقيها؛ لأنَّ المرء حين يكون مُشْربًا منذ البداية بموقفٍ ما فإن من السهل أن يتراءى له كلُّ مكافئٍ أو صنوٍ لهذا الموقف كأنه برهانٌ عليه، ثمة فرق بين أن تعتنق رأيًا وبين أن تكون قادرًا على تبرير هذا الرأي، وعلى محبي الحكمة أن يتعلَّموا من درس الفلسفة أن هناك فرقًا بين الموقف نفسه وبين الحجج التي يستند إليها الموقف، ومن لم يتعلم هذا التمييز سيكون عُرضةً دائمًا للانخداع بمغالطة «المصادرة على المطلوب» .

ص: 40

الفصل الثاني

مغالطة المنشأ

genetic fallacy; damning the origins

الحكمةُ ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فإنه أحَقُّ بها.

حديث شريف

خذ الحكمة ولا يضُرَّكَ من أيِّ وعاءٍ خرجَت.

حديث شريف

وإن تكن تَغْلِب الغَلْباءُ عنصرَها

فإن في الخمر معنى ليس في العنبِ

المتنبي

تُولَد الفكرة،

تنهضُ على أرجلها الخاصة،

تَتَوكَّأُ على ذاتها،

وتغادر بيتَ أبيها،

ولا تعود تسقط بسقوطهِ،

أو تَنْجَرحُ بانجراحِه.

***

ص: 41

قوة الفكرة لا تكمن في الأصل الذي يَنْمِيها بل في المنطق الذي يُزكِّيها.

وصواب الفكرة لا يحدده مَصْدَرُها الذي منه أَتَت بل الدليلُ الذي إليه تستند.

ثمةَ فرقٌ بين السبب الذي يجعل الناس تعتقد في شيءٍ ما ratio credentis وبين السبب الذي يجعل هذا الشيء حقًّا أو صوابًا ratio veritatis.

في أمثل الأحوال يكون الحق مبررًا للاعتقاد، غير أنه لا يَندُرُ أن تنعكس الآية ويستخدم المرء مصدرَ اعتقاده (مَرَدَّه وأصله ومنشأه) كما لو كان دليلًا على صدق هذا الاعتقاد، فيقبل الشيءَ أو يرفضه بحسب أصل هذا الشيء ومصدره، وموقع ذلك من نفسه بين القبول والرفض، هنالك يكون قد «خرج عن الموضوع» وتنكَّب «الصلة» relevance ووقع في خطأ منطقي عتيد يطلق عليه «المغالطة المنشئية» genetic fallacy.

قد تُعدُّ المغالطة المنشئية ضربًا من «البخل» المعرفي أو الذهني، فالبحث والتقصي لمعرفة التبرير المنطقي لاعتقادٍ ما قد يكون مرهقًا ويتطلب وقتًا وجهدًا سخيًّا، ونحن قلما نسخو بالطاقة الذهنية عندما تتوافر لدينا خياراتٌ أقل كلفة، من ذلك أن ننظر في أصل الاعتقاد ونتخذه معيارًا لتقدير نصيبه من الصدق، لعلنا قد تَبَنَّينا هذا اللون من الاقتصاد الذهني عبر تطورنا النوعي؛ لأنه يسعفنا في أحيان كثيرة، وبخاصةً عندما يكون الاستقصاء الدقيق بطيئًا بدرجة خطرة، غير أنَّ علينا أن نعترف أن هذه الآلية وإن تكن مُعِينةً على البقاء فهي ليست أوثق الطرق لاكتشاف الحقيقة.

بالإنسان إذن ولعٌ متأصل بمعرفة مصدر الحجة، وقلَّما يُولي الناسُ ثقتَهم بآراء جاءت من مصدر يمقتونه، بغض النظر عن المزايا الفعلية لهذه الآراء نفسها، وكأنهم يقولون: فلتذهبْ هذه الآراء إلى الجحيم مع أصحابها؛ ربما لذلك تُسمَّى هذه المغالطة أحيانًا damning the origin (لَعْن المصدر أو الأصل)، يتناسَى هؤلاء أن الحجة إنما تنهض على أرجلها الخاصة وتستند إلى معايير صدقها وتقف بمعزل عن أصلها ولا تَستقِي منه قوةً ولا ضعفًا.

تجد هذه الآلية الفكرية مرتعًا خصيبًا في عالم الأفكار الرائجة والصيحات الفكرية السائدة، فيكفي أن تجلس في جَمْع من أدعياء الثقافة وتقول «هكذا قال رولان بارت أو جاك دريدا.» أو «هكذا يذهب تيار ما بعد الحداثة.» لكي يحظى قولُك بالإكبار والإعجاب، كذلك حين تأتي التزكيةُ للفكرة، أو للعمل، من مصدرٍ ذي مكانةٍ واعتبار فلا تُدرَك وجاهتُها إلا منعكسةً من وجاهة المصدر، كأنَّما تستعيرُ منه الهيبة والجدارة، يُذكَر أن طاغور عندما أُسندت إليه جائزة نوبل تَنادى قومُه لتكريمه والاحتفال به، فقال في

ص: 42

شيء من الاستهانة والازدراء «إنهم يُكرِّمون التكريم!» أي إنهم لم يَفْطِنوا إلى قيمته من قبل، وإنما جاءوا لتكريمه بعد أن جاءته جائزة نوبل.

(1)

وفي محاورة فايدروس لأفلاطون يُبيِّن سقراط حجة معينة باختراع أسطورة صغيرة عن المصريين القدماء، فيرد عليه فايدروس بقوله: إن بوسع سقراط بطبيعة الحال أن يخترع قصصًا عن المصريين القدماء أو عن أي مكان يشاء، عندئذٍ يرد سقراط على هذا النقد باختراع أسطورة إضافية:

يُرْوَى أن أولى النبوءات قد صدرت عن شجرة بلوط في محراب زيوس في دودونا، ولم يكن الناس قديمًا في بساطتهم على شاكلتكم معاشر الشباب في فلسفتكم، بل كانوا لا يستنكفون أن يسمعوا الحقيقة ولو من شجرة بلوط أو صخرة، فبِحَسْبِهم أنها الحقيقة، أما أنت فلا تقنع فيما يبدو بما إذا كان شيءٌ ما حقًّا أم لا، بل يعنيك مَنْ القائل ومن أي بلاد تأتي الرواية.

في هذه الفقرة يذكرنا سقراط بأن ما تعنينا معرفته عن عبارة معينة هو ما إذا كانت حقًّا أم باطلًا، أما المصدر الذي جاءت منه العبارة، سواء كان شجرة أو صخرة أو أسطورة مصطنعة خصيصًا، فأمرٌ خارج عن الموضوع.

وفي كتابه «النقد الفني» يصوغ جيروم ستولنيتز المغالطة المنشئية (مغالطة الأصل) صياغةً محكمة فيقول:

وبالاختصار فإن منشأ «س» شيء، و «س» ذاتها شيء آخر، وما إن تبدأ «س» في الوجود حتى تصبح لها حياةٌ خاصة بها، إن جاز التعبير، وسوف يصبح لها - شأنها شأن النظرية أو الكائن البشري - تركيب وقيمة، وتدخل في علاقات مع الأشياء الأخرى، لا يمكن فهمها تمامًا من خلال أصلها الأول، فلا بُدَّ لنا من دراسة هذه السمات لكي نعرف كُنهها.

(2)

(1)

هكذا غنى طاغور، ترجمة خليفة محمد التليسي، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989، ص 10.

(2)

جيروم ستولنيتز: «النقد الفني - دراسة جمالية وفلسفية» ، ترجمة د. فؤاد زكريا، الطبعة الثانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1981، ص 24.

ص: 43

‌أمثلة

«إن مستشار ألمانيا الحالي كان طفلًا في الثالثة عندما كان هتلر في السلطة، وبالنظر إلى هذه الخلفية فإن خطة «الإصلاح» التي يقدمها ستكون برنامجًا نازيًّا بالضرورة.»

«كيف تسمح لنفسك أن تتخذ خاتم زواج (دبلة) وأنت تعلم أن هذا الرمز يعود إلى أصول بدائية همجية، عندما كانت المرأة تُسلسل من أعقابها بعقال، كالدواب المملوكة؛ حتى لا تفر من زوجها؟!»

«إن هذا الدواء مستمَد من نباتٍ سام، فهو إذن سيضر بي أشد الضرر إذا أنا استعملته، حتى لو كان طبيبي ينصحني بذلك.» (الخطأ هنا هو في الانتقال غير المشروع من أصل الدواء «النبات السام» إلى استنتاج أنه سام بالضرورة في أي شكل وأي موقف.)

«اليوجينيا (تحسين النسل) eugenics علمٌ ضار على نحوٍ مطلق، والعبث بالجينات عملٌ فاشي نازي، هكذا كان هتلر يحاول من قبل، فكيف نمضي في شيءٍ بدأه شخص مثل هتلر؟!»

(1) مصدر النظرية العلمية

ويُلح فيلسوف العلم كارل بوبر في غير موضع من كتاباته على أن مصدر النظرية العلمية هو أمرٌ لا صلة له البتة بوضعها العلمي، أي بتحديد ما إذا كانت النظرية علمية أم لا، فالنظرية لا تكون علمية ما لم تكن «قابلة للتكذيب» Falsifiable، يستوي في ذلك أن تكون النظرية قد جاءت من المختبر أو من نفحة إلهام، بالطبع قد تكون إحدى الطرق أكثر خصوبة من غيرها كوسيلة لإنتاج نظريات أصيلة، ولكن هذا لا علاقة له بالسؤال عما إذا كانت عبارة ما هي عبارة علمية أم غير علمية، ولا علاقة لها بالسؤال عن مدى أصالتها العلمية إن كانت عبارة علمية، ليست هناك طريقة آلية يمكن بها للعلم أن يحقق تقدمًا، وبوبر في ذلك يرخي العنان للتأمل الخيالي الجريء، فالعلم ليس أقل احتياجًا للخيال من أيِّ فن آخر من الفنون، وفي معرِض نقده لفرويد لم يأخذ عليه طريقته في الكشف ولم يعرض لهذا الأمر قط، فهو لا يعنيه مصدر النظرية بل يعنيه منطق الاختبار، وهو لا يسأل العالِم من أين جاء بنظريته بل يسأله عما أَعَدَّ لها من

ص: 44

اختباراتٍ قاسية، وقد لاحظ أينشتين من قبل أنه بينما يمكن للنظرية أن تُختبر بالبينة evidence فليس هناك طريقٌ من البينة إلى النظرية! ويُظْهِرنا تاريخ الممارسة العلمية على أن الاقتحامات الكبرى في العلم تأتي عن طريق الحدس، ثمة دائمًا قفزة إبداعية تتجاوز المعلومات المتاحة وتضيف إليها شيئًا ما مستجدًّا، وأحيانًا ما تأتي ومضة الاستضاءة من الأحلام بالمعنى الحرفي!

أحيانًا ما يحلم العلماء نظرياتهم حلمًا! وفي كتابهما «الإبداعية العالية: تحرير اللاوعي من أجل انطلاق الاستبصارات» يعرض وليز هارمن وهوارد راينجولد عددًا هائلًا من الأحلام العلمية، مثل: حلم كيكوليه بِبِنية حلقة البنزين إذ رأى في منامه أفعى تعض ذيلها (وقيل عدة أفاعٍ تعض كل واحدة ذيل تاليتها)، وحلم نيلز بور بالنظام الشمسي كنموذج للذرات، وحلم ديمتري مندليف بالجدول الدوري للعناصر، لا لم يكن مصدرُ النظرية مما يعني بوبر من قريب أو بعيد، فلتأتِ النظرية من حيث تأتي، المهم أن تكون علمًا، أي قولًا يحمل نبأ عن العالم المحدد الذي وُجدنا فيه، ويحمل في تضاعيفه تنبؤات قابلة للاختبار.

(1)

ويُذْكَر أن نظرية التطور خطرت لألفرد والاس بينما كان في حالة هذيان delirium، ومن الأحاديث الشهيرة ما يؤثَر عن أرشيميدس من أنه توصل إلى مبدأ الثقل النوعي وقانون الطفو (الإزاحة) بينما كان يغتسل، فقفز من الحمام صائحًا «وجدتها!» Eureka!.

(1 - 1) منشأ الدولة عند هوبز

ذهب هوبز إلى أن أصل الدولة يرجع إلى العداوة والمنازعات المستمرة بين أشخاص أنانيين، يعيشون خارج نطاق أي نظام اجتماعي، وأن الدولة تنشأ من محاولة الحد من هذه العداوات، ولكن حتى لو صح هذا، لما كان تفسيرًا بالضرورة لطبيعة الدولة في الوقت الراهن، فمن الممكن أن تتجاوز الدولة نطاق وظيفتها الأصلية، وتضع لنفسها أهدافًا مختلفة كل الاختلاف، وتركيبًا من نوعٍ آخر، وعندئذٍ لا يمكننا القول إنَّ من طبيعة الدولة ذاتها أن تقوم بالقمع والتنظيم، فمن الممكن أن يكون تبرير سلطتها

(1)

كارل بوبر، مصدر سابق، ص 75 - 76.

ص: 45

مختلفًا كل الاختلاف عما تصوره هوبز، الذي انتهى إلى موقفه هذا استدلالًا من وصفه «المنشئي» genetic.

(1)

(1 - 2) منشأ العمل الفني

في مجال تذوق الأعمال الفنية، وتفسيرها وتقييمها، نكون عُرضة بصفة خاصة لارتكاب المغالطة المنشئية، وذلك حين نتجه باهتمامنا كله إلى حياة الفنان وشخصيته وسيرته الذاتية، ونظن أننا بذلك نقارب العملَ مقاربةً فنية جمالية، بينما نحن نبتعد عن عالم الفن بقدر ما نلج في عالم الفنان الشخصي ومفردات حياته، ليس ما يهمنا، من وجهة النظر الجمالية، هو تاريخ العمل وظروف نشأته، وإنما العمل ذاته، واقفًا على قدميه، قد يتمكن الباحث الفرويدي، على سبيل المثال من أن يُبيِّن كيف دخل التخييل في العمل ذاته، غير أن هذا لا يؤدي في ذاته إلى تفسير قيمة العمل، فالعمل ليس مجرد تخييل، وإنما هو تخييل صِيغَ وشُكِّلَ في بناءٍ فني وباستخدام وسائل فنية، وهو قد أصبح جزءًا لا يتجزَّأ من نموذجٍ من الألوان أو الأصوات أو الكلمات، فعلينا ألا ننسى أبدًا عناصر العمل التي تجعله على ما هو عليه في طبيعته الباطنة.

(2)

كذلك يمكن أن يؤثر نوعٌ متشابه تمامًا من الإحباط (على مذهب فرويد) في فنانين مختلفين، وقد يتخيلان إشباعًا بديلًا من نوع مماثل إلى حد بعيد، ومع ذلك فإن الأعمال التي يبدعانها قد تكون مختلفة تمامًا من حيث القيمة، فيكون أحدُهما ضئيل القيمة والآخر عظيمًا، وعندئذٍ يكون ذلك راجعًا إلى عوامل مثل الجاذبية لا يمكن أن توجد إلا في العمل الفني، لا في منشئه.

وما إن نفهم المغالطة المنشئية حتى يصبح كلامنا وتفكيرنا أشد حذرًا ودقة، إذ إن هذا الفهم يجعلنا نحذر الاستدلالات المتسرعة، غير النقدية، من حياة الفنان عن طبيعة عمله، فليس في وسعنا أن نفترض بسهولة أن كون الفنان في حالة نفسية معينة في وقت الخلق الفني يؤدي بالضرورة إلى انعكاس هذه الحالة النفسية على العمل، ذلك أن للعمل طابعًا خاصًّا به، بل إن هناك في الواقع فارقًا هائلًا بين الحالة النفسية التي تشيع

(1)

النقد الفني، ص 124.

(2)

النقد الفني، ص 127.

ص: 46

في العمل، وبين حالة الفنان في وقت خلقه لهذا العمل، من ذلك أن السيمفونية الثانية البهيجة لبتهوفن كُتِبت في وقتٍ كان يُعاني فيه ألمًا شخصيًّا مبرحًا، ومن ذلك أيضًا شهادة تشايكوفسكي الشخصية إذ يقول:«إن العمل الذي يُؤلَّف في أسعد الظروف قد يصطبغ بألوان قاتمة كئيبة.»

(1)

وهناك شهادة أخرى لكاتبة أمريكية كبيرة هي كاترين آن بورتر، تفرق بدورها بين الحالة النفسية للخلق وبين العمل الفني، فتقول: «ليس في وسعي أن أقول لك ما الذي يضفي على العمل حرارة حقيقية

إنها ليست متعلقة بما تشعر به في أية لحظة بعينها، وليست قطعًا متعلقة بما تشعر به لحظة الكتابة، وربما كان البرود هو أنسب الحالات لذلك، في معظم الأحيان.»

كذلك ينبغي تجنب مغالطة الأصل عندما يكون العامل المنشئ اجتماعيًّا لا شخصيًّا، مثال ذلك أن كثيرًا من موضوعات الفن البدائي التي نضعها في المتاحف كانت في الأصل تُستخدم لأغراض عملية، فهذه الأواني والملاعق والأوعية كانت من قبل موضوعات عادية تُستخدم في الحياة اليومية، ومع ذلك لا يمكننا القول إن النظر إليها بطريقة جمالية، بدلًا من الطريقة العملية، ينطوي على تشويه لطبيعتها الحقة، ففي هذا القول خلط بين الموضوع، الذي يمكن النظر إليه على أنحاء شتى، وبين منشئه.

(2)

(1 - 3) المنشأ السيكولوجي (والاجتماعي) للأفكار

ليس هناك أدنى شك في أنَّ العوامل الاجتماعية والنفسية ضالعة في نشأة الأفكار والمذاهب، وأنَّ فهم هذه العوامل هو شرط لا بُدَّ منه لفهم هذه المذاهب وتقييمها، وقد دَبَّج «فيلسوف القرن» برتراند رَسِل سِفرًا ضخمًا في تاريخ الفلسفة أسماه:«تاريخ الفلسفة الغربية: وصلته بالظروف السياسية والاجتماعية منذ أقدم العصور إلى اليوم» (نعني أنه عرَفَ صلة هذه الظروف بفكر الفلاسفة، ولا نعني أنه اقتصر عليها).

غير أنَّ الاقتصار على تقييم الأفكار وفقًا للظروف الاجتماعية التي اكتنفتها والدوافع السيكولوجية التي أوقدتها، والاكتفاء بتحليل هذه الدوافع كبدليل عن تناول الحجج

(1)

Rosamond E.M.Hardling: "An Anatomy of Inspiration"، (Cambridge، Heffer، 1942) p. 78.

(2)

النقد الفني، ص 129 - 130.

ص: 47

ذاتها - يُعَد سقوطًا مزريًا في المغالطة المنشئية، فإذا أمكن لعلم النفس أن يكشف شيئًا من الآليات السيكولوجية التي كانت تعتمل بنفس المفكر وهو يبدع مذهبه، فإنه يقف أعزلَ أمام البناء الاستنباطي للمذهب والنسيج المنطقي للأفكار، فإذا ما نزغ له مبحثه السيكولوجي أن يُعْمِل أدواته ومقولاته في تلك الأقاليم المنطقية فإنه يَهزِل ويهتر، ويُغرِب ويغترب، ويقع في «خطأ مقولي» category mistake

(1)

فاضح فيصف الشيء بما لا يوصف به!

هذا ما يمكن أن يحدث في أمثل الأحوال ومع أعتى علماء النفس وأفقههم، أما ما يحدث في الواقع الفعلي ويُغْثِينَا كلَّ يوم في الجرائد والكتب والدوريات ووسائل الإعلام فهو ضرب من «السيكولوجيا الشعبية» pop psychology الركيكة التي ترتجل الديناميات النفسية ارتجالًا وتكتفي لتفنيد الفكرة بإلصاق دوافع سلبية لا دليل عليها، بَلْه أن تكون دليلًا على خطأ الفكرة.

فهذا معارضٌ للحكومة لأنه عانى في طفولته من علاقات متعسرة مع والديه أدَّت به إلى صعوبة في تَقَبُّل السلطة، وفي تقبل كل «صورة والديه» parental figure!

وهذا نشأ في أسرة مفككة، أو أسرة مُعدَمة، أو أسرة ثرية بورجوازية، وهذا تَعَرَّض للإيذاء في طفولته الباكرة، وهذا أفرط أبواه في تدليله (أو تكديره)، وهذا كان أبوه قاسيًا (أو لَيِّنًا)

إلخ.

ومهما تكن أوضاع الخصم فلن تعدم أن تقيِّض له دوافع سيكولوجية تُوظف لتقويض فكرته!

(1)

«المقولة» category في الميتافيزيقا تعني: فئة، جنس، عائلة، نوع

إلخ، وهو مصطلح يستخدم ليدل على شريحة أساسية في تصنيف الواقع، أو تصنيف صور الفكر، وأن ترتكب «خطأً مقوليًّا» category mistake هو أن تقرن أشياء من تصنيفات مختلفة لا يجوز عقلًا أن تجتمع، مثال ذلك أن تقول: أعدادٌ حمراء، فضائل بدينة، قضايا غير قابلة للأكل (وليم إيرل: مدخل إلى الفلسفة).

ص: 48

الفصل الثالث

التعميم المتسرع

hasty generalization

ولا تُشيِّد صرحًا من الأوهام المزعجة على أساسٍ غير متينٍ من ملاحظاته الناقصة.

شكسبير، عطيل

ما نكادُ نتلقَّى «حبَّةً» من الوقائع facts حتى نشيِّد منها «قبةً» من التعميمات.

جوردور أولبورت

تقول الدِّيكة الرومية:

الفلاح قدَّم الذرة لنا اليوم،

الفلاح قدَّم الذرة لنا أمس،

الفلاح قدَّم الذرة أمس الأول،

الفلاح يقدِّم لنا الذرة منذ أشهر عديدة،

الفلاح سيظل يقدم لنا الذرة إلى الأبد،

الفلاح يحبنا ويحرص على حياتنا وراحتنا.

***

ص: 49

افترِض أنك كنت في مكتبةٍ فلاحظت أنَّ الكتب المرصوصة في قسمٍ معين تتضمن عناوين مثل: ميرامار، بين القصرين، المعذبون في الأرض، عودة الروح، وا إسلاماه، شيء من الخوف، سارة، بين الأطلال، قد تستنتج من ذلك أن كل، أو أغلب، الكتب في هذا القسم هي في الرواية، إن مقدمتك تقوم على ملاحظتك لمجموعة بعينها من الكتب، وإن نتيجتك معَمَّمة لتشمل المجموعة الأكبر من الكتب التي يشتمل عليها هذا القسم من المكتبة.

هذه هي عملية «التعميم الاستقرائي» inductive generalization التي من خلالها نستمد خصائص فئة كلية من خصائص «عينة» sample من هذه الفئة، أو نستخلص نتيجة حول «جميع» الأعضاء في مجموعة ما من خلال ملاحظات عن «بعض» أعضاء هذه المجموعة:

ملاحظة 1: «س 1» يتسم بالخاصة «ص» .

ملاحظة 2: «س 2» يتسم بالخاصة «ص» .

ملاحظة 3: «س 3» يتسم بالخاصة «ص» .

وهكذا

إذن كل «س» يتسم بالخاصة «ص» .

يُستخدم التعميم الاستقرائي في مجالات كثيرة مثل البحث العلمي والمسح الاجتماعي واستطلاعات الرأي السياسية

إلخ، غني عن القول إن ملاحظة جميع الأفراد (المجتمع الأصلي population) في المجموعات الهائلة العدد هو أمر صعب ومكلِّف وكثيرًا ما يكون مستحيلًا عمليًّا، الأمر الذي يُلجِئنا إلى إجراء «أخذ عينة» sampling، وفحص هذه العينة لِتَبيُّن خصائصِها، ثم «تعميم» generalization هذه الخصائص على جميع أعضاء المجموعة الأصلية (المجتمع الأصلي)، ولكي يكون هذا التعميم صائبًا أو قريبًا من الصواب ينبغي أن تكون العينة «مُمَثِّلة» representative للمجموعة بكاملها غير متحيزة لجانب دون جانب أو مأخوذة من ركنٍ دون ركن.

هناك طرق كثيرة لاختيار العينة بحيث تقترب من النموذج المثالي لما ينبغي أن تكونه العينة، مثل طريقة «الاختيار العشوائي» random sampling، ولكي توصف العينة بالعشوائية لا بُدَّ من أن تخضع للقرعة وأن تكون أمام جميع أفراد «المجتمع الأصلي المدروس» population فرص متساوية للوقوع في العينة.

والطريقة الثانية هي أخذ «عينة طبقية» stratified sample، بحيث تكون ممثلة للمجتمع الأصلي أو المجموعة الأصلية ومُسْتَلَّة من جميع أطرافها وتضاعيفها وزواياها،

ص: 50

فتشتمل على فئاتها كافة وعلى خصائصها الأساسية وبنفس نسب تواجدها في المجموعة الأصلية، فإذا كانت المجموعة الأصلية تتكوَّن من ثلثين من الذكور وثلث من الإناث، وكان نصفها من القاهرة وربعها من شمالها وربعها الباقي من جنوبها لَتَوَجَّب أن تكون هذه النسب جميعًا منطبقة أيضًا في العينة.

والطريقة الثالثة هي أخذ عينة (عشوائية أو طبقية) ثم العودة لأخذ عينة أخرى على أقل تقدير بعد انقضاء فترة دالة من الزمن، ومقارنة العينتين لتبين أي تغيرات طرأت، بذلك تكون العينة أكثرَ إحاطةً بالمجتمع المدروس لأنها تمثل أفراده في أكثر من فترة زمنية واحدة، وتُسمَّى هذه العينة time-lapse sample.

يميل الناس كثيرًا إلى التحيز في أخذ العينة، إما بسبب ميلهم (عمدًا أو غير عمد) إلى التماس العينات التي توافق نظريتهم، وإما بسبب الرعونة والكسل والاستسهال الذي يدفعهم إلى انتقاء ما هو مُواتٍ قريبُ المأخذ ويصرفهم عن بذل العناء والوقت من أجل استخلاص عينة صحيحة.

•••

هَبْ أن لديك دلوًا به كرياتٌ من البلي حمراء وخضراء وصفراء وبيضاء، إن عينة مكونة من ثلاث كريات من المحال أن تمثل المجموعة الكلية أيًّا كان عددها، وفي المقابل، هب أن لديك قدرًا ضخمًا من الحساء أو من المعكرونة قيد الطبخ، إن بإمكانك الحُكم على ملوحة الحساء بتذوق ملعقة واحدة، وبإمكانك الحُكم على درجة نضج المعكرونة بتذوق واحدة منها، ذلك أن التجانس تام في هاتين المجموعتين بحيث تكفي عينة مكونة من فرد واحد للحكم على الكل، كذلك الحال بإزاء مجموعة كبيرة من الفئران المستنسخة التي يكاد كل فرد منها يُطابق الآخر مطابقة تامة، لعلك الآن قد تبينتَ الصعوبة الكامنة في تحديد كم العينة التي تعد كافية لتمثيل مجتمع من المجتمعات أو مجموعة من المجموعات، والذي قد يتطلب تقنيات إحصائية ورياضية معقدة، ويبقى رغم ذلك أمرًا غير يقيني ويهيب بملَكة الحُكم لدينا وربما باعتقاداتنا المسبقة عن أفراد المجموعة المعْنِيَّة.

ويزداد الأمر تعقيدًا عندما نكون بإزاء مجموعة ضخمة مترامية الأطراف متعددة الأطياف غير متجانسة، هنالك يتطلب الأمر شرطًا آخر بالإضافة إلى حجم العينة: أن تكون «ممثِّلة كيفيًّا» أي عشوائية وطبقية تتوزع بالقسطاس على المجموعة المفحوصة بحيث تمثلها بكلِّ نواحيها وأرجائها، إن ثمانية شبان متحلِّقين على طاولة في مقهى أرستقراطي لا يمكن أن يكونوا عينة كافية لتحديد الميول السياسية داخل بلد بأكمله، تلك عينةٌ غير كافية من جهة، وغير عشوائية ولا طبقية من جهة أخرى.

ص: 51

من الأمثلة التاريخية الصارخة لعينةٍ غير موفقة، لا بسبب صغرها بل بسبب تحيزها وعدم تمثيلها للمجتمع الأصلي، ذلك الاستطلاع الذي قامت به مجلة Literary Digest قبيل الانتخابات الأمريكية عام 1936 م لمحاولة التنبؤ بمن يفوز بالرئاسة فرانكلين روزفلت أم ألفرد لاندون، حيث تمَّ جمع مليونين وثلاثمائة ألف رأي، كانت نتيجتها تُشير إلى فوز لاندون بأغلبية كبيرة، وقد جاءت نتيجة الانتخابات الفعلية مخيبة لهذا الاستطلاع إذ فاز روزفلت بأغلبية ستين بالمائة، فأين كان يكمن الخطأ؟!

كانت المجلة ترسل بطاقات الاستطلاع إلى أسماء اختارتها عشوائيًّا من واقع دليل التليفونات ومن قوائم المشتركين في المجلة نفسها ومن قوائم مالكي السيارات، المشكلة أن مالكي الهواتف والسيارات ومشتركي المجلة كانوا في الأغلب من الطبقة الأعلى دخلًا بالولايات المتحدة، ومِن ثَمَّ فهي لم تمثل الطبقات الأدنى دخلًا من المجتمع الأمريكي في زمنٍ كان فيه مستوى الدخل ذا صلة قوية بالميول السياسية والحزبية، ومن ثم، فعلى الرغم من ضخامة العينة المُختارة فإنها كانت «عينة متحيزة» biased sample «غير ممثِّلة» unrepresentative للمجتمع الأمريكي بجميع شرائحه وطبقاته.

يفضي هذان الخطآن في عملية اختيار العينة (الصغر والتحيز) إلى ما يُسمى مغالطة «التعميم المتسرع» hasty generalization.

(1) أمثلة للعينة غير الممثِّلة كميًّا (الصغيرة/ غير الكافية) Quantitatively unrepresentative sample

(1)

«كلَّما شاهدتُ الأخبار في هذه القناة الفضائية وجدت زنوجًا يجري القبض عليهم لجرائم سرقة، إذن جميع الزنوج، أو معظمهم، لصوص.»

(2)

«جلست إلى هذه الصديقة ثلاث مرات، وتبين لي في كل مرة أن مزاجنا مؤتلف وذوقنا متفق في كلِّ شيء، إذن هذه أصلح امرأة في العالم لأن تكون زوجة لي.»

(3)

«تزوجتُ مرتين وفي كل مرة كان زوجي يطمع في ثروتي ولا يخلص لشخصي؛ ولذا قررت ألا أتزوج إلى الأبد لأن الرجال كلهم يفتقرون إلى النزاهة والإخلاص.»

(4)

«ما كِدتُ أخطو خطوتين في مطار لندن حتى وجدت موظف الجمارك دمثًا ودودًا، وعندما خرجتُ وجدتُ سائق الأجرة مبتسمًا كريمًا، فعرفت أن الإنجليز شعب طيب مفرط في الود والسماحة.» (يقول المثل المصري: لا تذم ولا تشكر إلا بعد سنة و «ست» اشهُر.)

ص: 52

(5)

«لماذا كل هذه الجلبة التي تُثيرها لي كلَّما انعطفتُ بالسيارة على طريق رئيسي؟! إنني أقود سيارتي منذ عشر سنوات ولا أتوقف عند منعطفات الطرق الرئيسية ولم أُصَب بحادث واحد؟!»

(6)

«كان صديقًا مثاليًّا لي طيلة عقدين من الزمان، ولكن منذ عَبَسَ في وجهي في ذلك الاجتماع الكبير أيقنتُ أنه ليس بالصديق الوفي، وقررتُ أن أتركه.» (يقول المتنبي:

(1)

فإن يكن الفعل الذي ساءَ واحدًا

فأفعالُه اللائي سَرَرْنَ ألوفُ)

(7)

«كنت جدتي تُعاني من هذا الألم اللعين نفسه، وقد وُصِف لها خل التفاح ممزوجًا بصفراء العجل، فلما تناولته شُفِيت على الفور، ولم يعد ينتابها هذا الألم، فلماذا تذهب إلى الأطباء وتُبدِّد نقودك وتُدخل نفسك في دوامةٍ موبقة من الفحوصات والعمليات لن تخرج منها إلا إلى القبر؟!»

(8)

«فشلت هذه المرأة في قيادة المقاتلة النفاثة وحطمت طائرتها في أول طلعة لها، وهذا دليل على أن النساء لا يصلُحن لقيادة الطائرات المقاتلة.»

(2) أمثلة للعينات غير الممثلة كيفيًّا (المتحيزة) qualitatively unrepresentative sample

(1)

«استطلعنا رأي مائتي طالب بمدرسة المساعي المشكورة، فأجمعوا على أن امتحان الرياضيات كان عسيرًا جدًّا هذا العام؛ ولذا قدَّمنا مذكرة عاجلة بذلك للوزارة للنظر في تعديل النتيجة.»

(2)

التفاحات على وجه الصندوق تتألق نضرةً وبهاءً، إذن جميع التفاحات في الصندوق من الصنف الممتاز.

(1)

وقريب منه قول ابن الرومي:

أُذكِّر النفسَ مَثنًى من محاسنِهم

إذا ذَكَرتُ ذنوبَ القومِ أُحْدانا

ص: 53

(3)

يقينًا إن دخل المحامين في مصر مرتفع جدًّا، هناك خمس عشرة فيلا فاخرة في مارينا يتملكها محامون مصريون.

(4)

في استطلاع ضخم في الإسكندرية وبورسعيد تبين أن اثنين وثلاثين بالمائة ممن شملهم الاستطلاع يقضون شهرًا على الأقل كل عام على شاطئ البحر، إذن يمكننا أن نستنتج أن حوالي ثُلُث سكان مصر يقضون شهرًا على الأقل على البحر.

(3) النصوع المضَلِّل misleading vividness

يلحق بالتعميم المتسرع ما يعرف ب «النصوع المضلل» ، حيث يؤخذ مثالٌ واحد (أو حفنة من الأمثلة) بأكثر من دلالته الإحصائية بسبب وهجه ودراميته، يعود ذلك إلى الأثر النفسي الذي يتركه الحدث الدرامي في الذهن، وكأنه يقوم في حساب الذاكرة مقام عشرة أحداث عادية خاملة، يعزو السيكولوجيون هذا الأثر النفسي إلى فرضية كشفية معرفية تُسمَّى availability heuristic، من ذلك أن شخصًا نجا من حادث تحطم طائرة قد يميل حقًّا إلى الاعتقاد بأن معدلات كوارث الطيران أكبر من معدلات غيرها من الكوارث، وأن السفر بالطائرة أخطر من السفر بأي وسيلة أخرى، وإن كانت الإحصائيات تقطع بخطأ هذا الاعتقاد.

•••

وبعد، فحين يسمح المرء لعقله أن يشيِّد تعميمات عريضة على أساس معلومات شحيحة أو أدلة هزيلة أو أمثلة قليلة أو عينة غير ممثِّلة فلن يُعْييه أن يُقَيِّضَ أدلةً لكلِّ شيء ويجد بينةً لأي دعوى مهما بلغت من البطلان والسخف، ولن يُعْجِزَه أن يؤيد أي شيء يميل إلى الاعتقاد به ما دام يعنيه الاعتقاد ولا تعنيه الحقيقة.

لعل التعميم المتسرع من أكثر المغالطات شيوعًا، فهو يتبطَّن كثيرًا من التحيزات العرقية والعنصرية والنعرات الشوفينية والطائفية والطبقية والتعصب الديني والأيديولوجي، كذلك يتبطن التعميم المتسرع كثيرًا من الأوصاف النمطية عن الشعوب المختلفة (الإنجليزي، الهندي، الإيطالي

) وعن أهل الأقاليم المحلية (المنوفي، الشرقاوي، الدمياطي، الطنطاوي، البحيري، الصعيدي

) وربما يتبطن كثيرًا من اعتقاداتنا حول أصناف المنتجات وماركات الأجهزة التي تقوم في الغالب على بضعة أمثلة من واقع خبرتنا الحياتية القصيرة المحدودة.

ص: 54

والحق أننا مضطرون إلى التعميم في حياتنا العملية، ولا يَسَعُنا إلا التعميم إذا شئنا أن نفكر في أي شيء أو نتخذ أي قرار، ويبقى أن نتبع الأسلوب العلمي في استخلاص التعميمات، وأن نتجنب التعميم المتسرع جهد استطاعتنا، وأن نملك تعميماتنا ولا تملكنا؛ أي أن نجعل منها مجرد فروض عملٍ قابلة للمراجعة والتنقيح لا اعتقادًا دوجماويًّا صلبًا يأخذ علينا سُبُل التأمل ويسد علينا منافذ التفكير.

‌ملاحظتان

أحيانًا ما نضطر اضطرارًا إلى اتخاذ عينة صغيرة جدًّا، وذلك عندما لا تكون في حوزتنا غيرها، ومن الغبن أن يُتَّهم المرء بالتعميم المتسرع إذا كانت العينة المتاحة للدراسة محدودة جدًّا ولم يتَسَنَّ له أي مصدر آخر للمعلومات، كثيرًا ما يضطر علماء الكتابات القديمة مثلًا إلى استخلاص أصولها من عينات شحيحة للغاية مثل حجر رشيد، وكثيرًا ما يضطر علماء البيولوجيا مثلًا، وبخاصة علماء الحفريات، إلى دارسة عينة وحيدة عن حيوانٍ ما.

قد يُفضي التعميم المتسرع، شأنه شأن أي مغالطة أخرى، إلى نتيجة صادقة، ولا يَندُر أن تأتي نتيجة صادقة عن استدلال مغلوط، ولكن ما دام الاستدلال مغلوطًا فليس ثمة مبرر لقبول نتيجة قائمة على مثل هذا الاستدلال.

ص: 55

الفصل الرابع

تجاهل المطلوب (الحَيْد عن المسألة)

ignoratio elenchi; missing the point

إذا كان الرماةُ رماةَ سَوْءٍ

أَحَلُّوا غيرَ مرماها السهاما

شوقي

المقدمات أخطأَت هدفها،

وحادت عن مرماها

عمدًا أو فرطَ انفعال،

غير أنها تُستقبَل بالتهليل

لأنها تحمل صيدًا على كلِّ حال!

***

في هذه المغالطة يتجاهل المرءُ الشيءَ الذي يتوجب أن يُبرهن عليه، ويبرهن على شيء آخر، وقد يبدو استدلاله معقولًا بحد ذاته، ولكن المغالطة هنا في أنه يبرهن على نتيجة أخرى غير النتيجة المطلوبة التي يتعين عليه أن ينصرف إليها دون غيرها، بذلك تتسم الحُجة بسمَتَين: أنها قد خرجت عن الهدف المُحدد لها، وأنها قد اتجهت مباشرة إلى نتيجة أخرى.

ص: 57

يقف محامي الادعاء في جريمة قتل، وبدلًا من أن يُبرهن بالحُجة على أن المتهم هو مرتكبها، يشرع في إثبات بشاعة القتل وبشاعة الجريمة، قد ينجح الادعاء في تقديم مرافعة عصماء ويثبت هول جريمة القتل بألف حُجَّة، غير أنه إذا جعل من ذلك دليلًا على أن المتهم مذنب بها يكون قد ارتكب مغالطة «تجاهل المطلوب» ignoratio elenchi.

تتمتع هذه الحجة المغالِطة بجاذبية خفية، وتكمن قوتها في أن هناك نتيجة تم إثباتها على نحوٍ صائب، وهذا الصواب هو الذي يَصرف انتباه المستمعين بعيدًا عن المغالَطة.

وتلقى هذه المغالطة رواجًا خاصًّا في مجال التشريع الاجتماعي؛ فكثيرًا ما يُقترح برنامجٌ بعينه لبلوغ غايةٍ كبرى متفَق عليها من الجميع، ثم يدعَّم البرنامج بحجج تثبت بالفعل أهمية هذه الغاية الكبرى، غير أنها لا تقول شيئًا ذا صلة بالبرنامج المَعْنِيِّ، ولا تثبت أن هذه الغاية الكبرى تُبلَغ بهذا البرنامج المحدد دون غيره! قد يتم ذلك عن عمد وقد ينجم عن فرط الحماس لهذه الغاية الكبرى، والذي قد يُغشِّي على أنصار البرنامج المحدد، وعلى مستمعيهم، فلا يرون خروج حجتهم عن الموضوع.

من ذلك أنه في برنامجٍ محدد لمكافحة الفقر، قد يُفيض دعاةُ البرنامج في ترديد حُجج تثبت أن الفقر ينبغي مكافحته والفقراء ينبغي إنصافُهم، دون أن يثبتوا لنا أن ذلك حريٌّ أن يتم من خلال برنامجهم دون غيره!

وعندما نناقش تطوير نظام دفاعي معين باهظ التكلفة فإن حجتنا تخطئ هدفها إذا جعلت تبرهن على أهمية تطوير دفاعتنا دون أن تعرض لهذا النظام المحدد وتثبت حاجتنا الحقيقية إليه وتبرهن على أنه أجدى لنا من غيره على ثقل تكلفته.

كذلك الحال بالنسبة لكلِّ الأهداف الكبرى التي تُطرَح على نحوٍ شديد العمومية: الأمن القومي، السكن الصحي، مكافحة الفقر، مكافحة الجريمة، علاج عجز الميزانية

إلخ، من أيسر الأمور أن نُصَدِّق على هذه الأهداف العامة ونصبو إلى تحقيقها، أما الأسئلة الصعبة حقًّا فهي: هل هذا البرنامج المحدد حقيقٌ ببلوغ هذا الهدف المنشود؟ وهل هو أجدى في بلوغ هذا الهدف من غيره من البرامج الأخرى الممكنة؟ إن تغافل هذه الأسئلة، والتعتيم عليها بتعميمات براقة عن هدفٍ مأمولٍ أكبر، يجعلنا نحيد عن القصد ونطيش عن المرمى ونقع في مغالطة «تجاهل المطلوب» .

ص: 58

‌أمثلة أخرى

(1)

محامي الدفاع: «كيف يكون موكلي قد أمر بارتكاب جريمة القتل وقد برهنت لكم بما لا يدع مجالًا للشك أنه لم يكن بالبلد كلها وقت وقوعها؟» (حسن، ولكن هل هذا دليل على أنه لم يأمر بها قبل سفره؟ أو أنه لم يرتبها بالهاتف مثلًا؟)

(2)

ألم يحدث يا سيادة الوزير أن مستويات معيشة الفقراء قد تدنت في زمن تولِّيك بدرجة كبيرة قدَّرَتها إحصائيات علمية بحوالي 28?؟ هذه وثائق رسمية تثبت أننا رفعنا معاش الأرامل بنسبة 5? ورفعنا أجور قطاع النفط بنسبة 10? وزدنا دعم الخبز بنسبة 12? وهذا ما لم يفعله خصومنا في فترة تولِّيهم (وهكذا كلما قدَّم منتقدٌ للساسة سؤالًا محددًا فجاءه الرد وابلًا من الدعاية الصاخبة عن مزايا الحكومة، فثم مغالطة «تجاهل المطلوب» ignoratio elenchi).

(3)

«إن إساءة استخدام الدعم وعدم وصوله إلى مستحقيه لَظاهرةٌ تفشَّتْ هذه الأيام بدرجة مخيفة، والبديل الوحيد الذي أراه هو إلغاء الدعم برمته.»

(4)

«لديَّ دراسات تثبت أن رياضة العَدْو في الطريق العام قد تضر بالصحة أكثر مما تفيدها؛ ولذلك أنادي بأن تُحظَر رياضة الجري في الشوارع.» (حتى لو كان ذلك صحيحًا فهل هو حجة تؤيد حظر الجري في الطريق؟)

ص: 59

الفصل الخامس

الرنجة الحمراء

red herring

الكلاب تَجِدُّ في طلب الطريدة،

الرائحة ترسم طريق الطِّراد،

تعبر الرنجة الحمراء، فيتحول المسار؛

ينسَى الطريقُ طريقَه

الرنجة الحمراء، بشميمها الأنفَذ

بَرَكةُ آلهةِ الفرار،

وملاذُ كلِّ من أثْخَنَه الجدل.

***

هي حيلةٌ كان يستخدمها المجرمون الفارون لتضليل كلاب الحراسة التي تتعقبهم، وذلك بسحب سمكة رنجة حمراء عبر مسار المطاردة، فتجتذب الكلابَ رائحتُها الشديدة عن رائحة الطريدة الأصلية، وقد استعيرت للتعبير عن كل محاولة لتحويل الانتباه عن المسألة الرئيسية في الجدل، وذلك بإدخال تفصيلات غير هامة، أو بإلقاء موضوع لافت أو مثير للانفعالات وإن يكن غيرَ ذي صلة بالموضوع المعْنِي ولا يشبهه إلا شبهًا سطحيًّا، فيقذف بالخصم خارج مضمار الحديث.

من دَأب محترفي هذه المغالطة أن يستهلكوا الخصم في تُرَّهاتٍ خارجة عن الجادة، وأن يثيروا مشاعر المستمعين وانتباههم بطرح مسألةٍ براقة أخاذة وإن تكن بعيدة عن

ص: 61

موضوع الحديث، فتَهوِي إليها أفئدة الحضور ولا يعود أحدٌ يذكر الموضوعَ الأصلي، إنهم بذلك لا يُحاجُّون بل يصخبون ويتلاعبون ويتداهون وينفثون سحابات التمويه والتعمية، ويتحدَّثون في أيِّ شيء إلا الشيء المَعْنِي، وكثيرًا ما ينجحون في صرف الانتباه وتحويل مسار الحديث وتبديد النقاش، فينفردون بالساحة حقًّا ويبدون منتصرين في الجدل، وكأنهم يفوزون لتغيُّب الخصم!

تجتمع لجنة على سبيل المثال لمناقشة إجراء جديد للحد من تلوث الهواء، فينبري أحد الأعضاء ويتحدث عن الأعباء الضريبية التي تثقل كاهل المواطن، ويتصدَّى عضو آخر بحديث مطول عن سطوة الشركات المتعددة الجنسية التي تملك زمام العالم، وينبغي أن نضع حدًّا لهيمنتها وتسلطها، ويفيض ثالث في الحديث عن نوعية المناخ قديمًا وكيف كان الهواء أكثر (أو أقل) نقاءً عندما كان طفلًا يمشي كل يوم ثلاثة كيلومترات ليصل إلى مدرسته البسيطة التي كانت تقدس التعليم وتجعل منه رسالة لا وسيلة للابتزاز والربح

إلخ. انظر هل ترَى في هذه الاستطرادات أيَّ صلة بالموضوع الرئيسي الذي اجتمعت من أجله اللجنة، وهو بالتحديد: هل من شأن هذا الإجراء الجديد أن يحِدَّ من تلوث الهواء؟ هل ستكون إيجابياته أكثر من سلبياته؟ وهل ثمة إجراء أفضل من ذلك للحد من تلوث الهواء؟

(1) متى يكون التحول عن الموضوع مشروعًا؟

كثيرًا ما تتخذ المسائل المعقدة تراتبًا هرميًّا بحيث يتعذر حسم مسألة معينة قبل أن يتم حسم مسألة أخرى، مثال ذلك ما يجري في كثير من محاورات أفلاطون؛ في محاورة الجمهورية، على سبيل المثال، يتحول مسار الحديث إلى مسائل ميتافيزيقية وإبستمولوجية مجردة؛ وذلك لأننا لا يتسنى لنا الإجابة عن أسئلة عملية عن معاقبة المجرمين أو تربية الأطفال حتى نعرف أولًا ما هي «العدالة» ، ولن نعرف ما هي العدالة حتى نعرف المقصود بمفهوم «الخير» ، وهذه بدورها تتطلب تحليلًا كاملًا لعلاقة الأفكار بالعالم الفيزيقي!

هكذا نتبيَّن أن الوصول إلى اتفاق عقلاني قد يتطلب العودة بالحوار إلى أسئلة أكثر أساسية، ثمة إذن تحولٌ مشروع عن موضوع الحوار في بعض الأحيان: ذلك هو التحول إلى مسألة جذرية تمهد المسرح لمناقشة الموضوع المَعْنِيِّ وتُفْضي إليه، إنها لا تُغَشِّي عليه بل تزيده وضوحًا، ولا تذهب به طي النسيان بل تؤدي إليه وتضعه في نصابه.

ص: 62

أما مغالطة الرنجة الحمراء فليست من ذلك في شيء؛ لأن الموضوع الجديد الذي يُلقَى به في مسار الجدل ليس أكثر أساسيةً بل أكثر بريقًا وشحنًا انفعاليًّا فحسب، ولأن الموضوع الجديد لا يُفضي بطبيعته إلى الموضوع الأصلي بل يُقْصِي عنه ويُنْسِيه ويصرف دونه الانتباه والذاكرة.

(2) الفرق بين مغالطة الرنجة الحمراء ومغالطة تجاهل المطلوب

في مغالطة «تجاهل المطلوب» ignoratio elenchi ثمة صيدٌ تم الظفر به ولكنه غير المطلوب، وثمة نتيجة محددة تصل إليها الحجة ولكنها غير النتيجة المطلوبة، إنه خطأ في الاستدلال، أما في مغالطة «الرنجة الحمراء» red herring فإن الحجة تنحرف في اتجاهٍ مختلف ولا تصل إلى شيء: فهي إما حيودٌ خارج الموضوع diversionary irrelevance إلى موضوع آخر مثير انفعاليًّا فحسب، وإما تمويهٌ وسحابة تَعْمِية pettifogging لا تُفضي إلى شيء ذي بال، ليس هنا استدلال أخطأَ هدفَه، بل خداع للمستمع واستهلاك له وانحراف عن الموضوع برمته إلى مسألة أخرى.

‌أمثلة

(1)

«كيف توافق على حظر الماريجوانا؟ الماريجوانا لا ضرر منها البتة، إنني لأُحِسُّ بأمان حين يكون السائق يدخن الماريجوانا أكثر بكثير مما أحسه حين يكون السائق تحت تأثير الخمر، إن الخمر حقًّا هي أم المشاكل، أتعرف أن إباحة الخمر تُكلِّف العالم سنويًّا، بين ثمن صناعتها وتعاطيها وثمن الكوارث التي تُلحقها، أكثر من تريليون دولار!» (لاحظ أن الموضوع الأصلي ليس كوارث الخمر، بل كوارث الماريجوانا ومبررات حظرها).

(2)

«مواقف السيارات؟ أعرف أن الأستاذ الدكتور سليم السيد كان يشكو في الاجتماع الأخير من ضيق أماكن الانتظار بالكلية، ولكن هل تدري أنه تم ضبطه في علاقة مشبوهة مع إحدى طالباته؟ إلى متى يحيد التعليم العالي عن هدفه ويتحوَّل إلى كمين للتحرش والابتزاز؟ بالله لا تحدثني عن هذا الرجل مرة أخرى» ، (المسألة الأصلية هي ضيق أماكن الانتظار، وليست قصة مثيرة عن علاقة أستاذ بطالبة أو عن فساد التعليم العالي).

(3)

«يقول صديقك: إن قهوة تسترتشويس أفضل مذاقًا من قهوة فولجرز؟ يبدو أنه يتجاهل حقيقة أن تسترتشويس تنتجها شركة «نسله» التي أنتجت ذلك الحليب الذي

ص: 63

أحدث ضجة كبيرة، لقد صَدَّرته لدول العالم الثالث، فراح ضحيتَه آلافُ الأطفال عندما كان الحليب الجاف يمزج بماء ملوث.» (إن مسألة وفيات الأطفال لمثيرة حقًّا، ومِن ثَمَّ كانت جديرة بصرف الانتباه عن الموضوع الأصلي: أي المذاقين أفضل؟)

(4)

«تقول صحيفة كونسيوم ديجست: إن لمبات جي إي أطول عمرًا من لمبات سيلفانيا، ولكن هل تعلم أن جي إي هي أكبر منتج للأسلحة النووية؟ إن الأضرار الناجمة عن سلوكها غير المسئول تفوق التصور، وليس أقلها أنها تخلِّف آلاف الأطنان من النفايات النووية التي لا تعرف أين تواريها.» (لاحظ أن الموضوع الأصلي «أيُّ اللمبات أطول عمرًا؟» قد اختفى تمامًا تحت سحابة الأسلحة الفتاكة والنفايات النووية.)

(5)

«إنَّ أنصار البيئة لَيقيمون الدنيا ويُقعدونها في حديثهم عن مخاطر القوة النووية، غير أن للكهرباء مخاطر جمة بغض النظر عن مصدرها، هناك صواعق طبيعية، وهناك كهرباء المصانع والمصاعد والبيوت، إن آلاف البشر كل عام يُصعَقون بسبب الإهمال والجهل، ومن الممكن تجنب هذه الأخطار المُحِيقة بمزيد من إجراءات الاحتياط والتوعية.»

(6)

ثمة كثير من اللغط هذه الأيام عن الحاجة إلى حظر استخدام المبيدات في حقول الخضروات وبساتين الفواكه، غير أن كثيرًا من هذه الأطعمة ضروري لصحتنا، فالجزر مصدر ممتاز لفيتامين أ، والقرنبيط غني بالحديد، والبرتقال وغيره من الموالح تحتوي على نسب عالية من فيتامين ج

إلخ.

ص: 64

الفصل السادس

الحُجَّة الشخصية (الشخصَنة)

argumentum ad hominem

خُذِي رأيي وحَسْبُك ذاكَ منِّي

على ما فيَّ من عِوَجٍ وأَمْتِ

المعري

هي أن تحاول تسفيه حجةٍ ما بالقَدح في الشخص الذي يعبر عنها فيبدو كأن العكس قد ثبت.

هنري هازلت

الحُجةُ حجةٌ، وأنتَ لا يسعُك إلا أن تأخذ حُجَجَهم بعين الاعتبار ما دامت صائبة، أما الشهادة فيجوز لك أن ترفضها.

صموئيل جونسون، الحياة، 1784 م

***

تعني مغالطة «الحجة الشخصية» argumentum ad hominem أن يعمِدَ المغالِطُ إلى الطعن في «شخص» القائل بدلًا من تفنيد «قوله» ، أو قتل «الرسول» بدلًا من تفنيد

ص: 65

«الرسالة» ، إن ما يحدد قيمة صدق عبارة، وما يحدد صوابَ حُجة، هو في عامة الأحوال أمرٌ لا علاقة له بقائل العبارة أو الحجة من حيث شخصيته ودوافعه وسيكولوجيته، فعبارة «2 + 2 = 4» هي عبارة صحيحة سواء كان قائلها عدوًّا أو مغرضًا أو معتوهًا أو كافرًا، وإن ما يحدد قيمة الصدق في عبارة «السماء تمطر» هو، ببساطة، الطقس المحلي، وهو شيء قائم «هناك» ومستقل تمامًا عن شخص القائل.

وأنتَ تقع في هذه المغالطة حين تقوم في معرِض الجدل بمهاجمة شخص الخصم بدلًا من مهاجمة حجته، فيبدو، بالتداعي association، كأن حجته قد دُمِغَت، مثله، وأصيبت، والحق أنك قد تسدد سهام النقد إلى شخص خصمك (بواعثه ودوافعه، صدقه وإخلاصه، أهوائه وأغراضه، ذكائه وفهمه

) فتُدميه وتُصْمِيه وحجته بعدُ حيةٌ تُرزَق! فهي من حيث هي حجة تبقى سالمة لم يمسسها سوء، وإن حامت حولها الشكوكُ لحظةً واكتنفتها الرِّيَب،

(1)

انظر إلى المثال التالي:

«أنتم تعرفون جميعًا أن النائب «س» كذاب غشاش وغير موثوق بذمته المالية ومستفيد أول بخفض الضرائب، فكيف توافقون على مشروعه الضريبي المطروح؟»

قد يكون النائب «س» كذابًا حقًّا ومغرضًا ولديه مصلحة مكتسبة في المشروع الضريبي المطروح للمناقشة، غير أن هذا لا يمس المشروع من حيث هو مشروع، وما هكذا ينبغي أن تناقَش المشروعات، إنما يَجْمل أن نتجه إلى المشروع مباشرة ونُبين ما له وما عليه، لا أن ننصرف إلى شخص القائل بالطعن والتجريح، ونحوِّل مناقشة المشروع من تحليل اقتصادي إلى تحليل سيكولوجي، ونحول منصةَ المجلس من منبرٍ للرأي إلى مسلخٍ للبشر.

هناك أربعة أنواع من مغالطة الحجة الشخصية:

(1)

القَدح الشخصي (السب) ad hominem-abusive.

(2)

التعريض ب «الظروف الشخصية» ad hominem-circumstantial.

(3)

مغالطة «أنت أيضًا» (تفعل هذا) tu quoque.

(4)

تسميم البئر poisoning the well.

(1)

من الطريف أن هذه المغالطة تنطبق أيضًا في الحالة العكسية، وإن يكن ذلك أقل ورودًا: أي حين تريد أن تؤازر حجة الشخص وتدعمها عن طريق مدحه وإطرائه.

ص: 66

(1) القَدح الشخصي (السب) ad hominem-abusive

أَقِلِّي اللومَ عاذِلَ والعِتابا

وَقُولي أنْ أصَبْت لقد أصابا

جرير

في هذا الصنف من المغالطة يقوم القدحُ الشخصي بصرف الانتباه «عن» الحجة الأصلية «إلى» شخص قائلها وعيوبه ومثالبه، فيبدو، من خلال التداعي السيكولوجي، كأن حجته أيضًا هي معيبةٌ مثله!

‌أمثلة

(1)

«إن سياسات لنكولن كلها حمقاء مفسدة، فهو سكير وقرد وبليد ومأفون ومضلل» (صحافة الجنوب في ستينيات القرن التاسع عشر).

(2)

«لا أثق في فلسفة فرنسيس بيكون؛ لقد كان رجلًا غير أمين، وقد جُرِّد من منصب قاضي القضاة لتقاضيه رشاوى.»

(3)

«لماذا أبالي بآراء هؤلاء الصحفيين؟ إنهم حفنة من المرتزِقة.»

(4)

«كان ألبرت أينشتين موظفًا حقيرًا يوم كتب نظرياته؛ إذن الطاقة لا تساوي الكتلة مضروبةً في مربع سرعة الضوء.»

(5)

«والآن نأتي إلى اقتراح السيد سليم النقيب بضم الشركتين معًا، لم أكن أود أن أنكأ جروحًا قديمة ولكني مضطر إلى أن أُطْلِعَكم على محاضرَ تفيد بأنه كان متورطًا منذ عشر سنوات في قضية تحرش وفي قضية سُكْر.»

في الأمثلة السابقة نجد الصورة المنطقية التالية:

«س» يقدم الدعوى «ق» ،

«س» يتصف بالعيب «ك» ؛

إذن الدعوى «ق» باطلة.

ص: 67

إن القدح الشخصي ليس مغالطة بحد ذاته، إنما تأتي المغالطة حين نجعل العيب الشخصي أساسًا لرفض دعوى غير ذات صلة بهذا العيب، فالحجج إنما ينبغي أن تقوم على أرجلها الخاصة أو تسقط بعيبها الخاص.

(2) متى يكون القدحُ الشخصي غير مغالط

هناك مواطن وسياقات يكون فيها شخص القائل ذا صلة بالدعوى المطروحة: في الحملات الانتخابية مثلًا وفي مقابلات التوظيف وفي الشهادة القضائية تكون السمات الخلقية، وربما الجسدية، هي المسألة المعْنِيَّة على وجه التحديد، فنحن لا نتصور مصرفًا على استعداد لتعيين موظف غير أمين، ولا ناخبين يسرهم التصويت لمرشح غير ذكي أو سياسي غير مخلص، وفي سياق استجواب الشهود في المحاكمات القضائية، وفي كل سياق يتضمن «شهادة» testimony لا «حجة» argument في واقع الأمر، يكون الطعن في شخص الشاهد، من حيث السمات الأخلاقية والسلوكية والكفاية العقلية والإدراكية واتساق عباراته، غير خارج عن موضوع الشهادة وبالتالي غير مغالط من الوجهة المنطقية.

ربما يستند ذلك إلى «استدلال استقرائي» inductive inference مفاده أن الشخص الذي سبق له أن أدلى بمعلومات غير صحيحة أو اعتاد سلوكًا غير قويم في الماضي هو شخص قمين بأن يفعل مثل ذلك في المستقبل، صحيح أن الاستدلال الاستقرائي هو استدلال ظني في أفضل الأحوال، غير أنه كفيل في مواضع كثيرة أن يجرح الشهادة أو الجدارة وأن ينقل عبء البَيِّنة.

في ضوء هذه الحالات التي يكون فيها القدحُ الشخصي غيرَ مغالط يليق بنا أن نعدل الصورةَ المنطقية للمغالطة الشخصية، لتغدو أكثرَ تحوطًا ودقة، إلى الصورة التالية:

«س» يقدم الدعوى «ق» ،

«س» يتصف بالعيب «ك» ،

«ك» غير ذي صلة بالدعوى «ق» ؛

إذن الدعوى «ق» باطلة.

ص: 68

(3) التعريض بالظروف الشخصية

«الحجة الشخصية الظرفية» ad hominem-circumstantial

في هذه المغالطة «يكتفي» المغالِط بأن يشير إلى أن ظروفَ خصمِه الخاصة هي التي ألجأته إلى تبني الرأي الذي يتبناه وأن له مصلحة مكتسبة في أن يمرر هذا الرأي ويسود، ونحن لا نريد أن نُهوِّن من سطوة الظروف والمصالح بشتى أنواعها على سيكولوجية الفرد وطريقة تفكيره، غير أننا إذا شئنا أن نتناول حُجَّة الخصم تناولًا منطقيًّا فإن ظروفه الخاصة لا يعود لها ثقلٌ منطقي ولا تعود لها صلة بالحجة بما هي حجة argument qua argument.

‌أمثلة

(1)

«أنت تقول بأن خطط المحافظين الضريبية كفيلة بتقليص ميزانية الخدمات الصحية، ولكنك ليبرالي وتود لو تتخلص من الخدمة الصحية برمتها.»

(2)

بالطبع نحن لا نتوقع منك إلا أن تؤيد قرار رفع ميزانية التسليح، فقد عرفنا أنك تعمل في مؤسسة كبرى لتجارة الأسلحة.

(3)

نفهم أنك لا بُدَّ أن تبغض نظرية التطور evolutionism، فأنت كاهنٌ تعِظ بنظرية الخلق creationism ليلًا ونهارًا، وتكسب قوتَك من تلاوة سفر التكوين Genesis.

(4)

إن لك عذرًا في أن ترى هذا الرأي الخاطئ، فأنت من عُتاة الديمقراطيين (الجمهوريين، الشيوعيين، الإسلاميين،

إلخ).

(5)

أنت بورجوازيٌّ مرتهنٌ لوضعك الطبقي، معصوبُ العين عن رؤية أي شيء يتجاوز مصالحك الطبقية، ومِن ثَمَّ فإن كتاباتك لا قيمة لها مهما بلغت مزاياها الشكلية والأسلوبية.

إننا نولي انتباهًا شديدًا لصراع المصالح في سياقات كثيرة: وبخاصة السياق القضائي والصحفي والسياسي والتجاري، ولدينا في ذلك كل الحق، فنحن نطالب قضاتنا، على سبيل المثال، بإعفاء أنفسهم من القضايا التي يمكن لمصالحهم الشخصية أن تؤثر فيها

ص: 69

على قرارهم النزيه، ونحن نجزع كثيرًا إذا اكتشفنا أن قادتنا السياسيين إنما تسهم في تمويل حملاتهم الانتخابية شركات لديها مصلحة في منحاهم السياسي الخاص ومنهجهم في إقرار المشروعات، لقد عَلَّمتنا التجارب أن القرارات تتأثر بالمصالح المكتسبة لصانعها، وإن لدينا ما يدفعنا إلى الاحتياط والتوقي بإزاء صراعات المصالح.

وإنما تفعل مغالطةُ الظروف الشخصية فعلها لأنها تحاكي حذرنا المشروع من صراع المصالح أو تلعب على وتره، غير أن الحجج شيءٌ والقرارات شيءٌ آخر: فقد يؤدي صراع المصالح بشخص ما إلى التفكير الخطأ وبالتالي إلى القرار الخطأ، غير أن صراعه الخاص ينبغي ألا يؤثر على تقييمنا لحُجَّته، وعلينا أن نُقرر أنقبل حجته أم لا نقبلها، فالقرار الآن هو قرارُنا نحن لا قراره، وعليه فمن الحصافة الآن أن نتوقى صراع مصالحنا نحن، أما صراع مصالحه فهو تشتيت خارج عن الموضوع.

(4) أنت أيضًا (تفعل ذلك) Tu quoque

يا أيها الرجلُ المعلِّم غيره

هلَّا لنفسِك كان ذا التعليمُ

لا تنهَ عن خُلقٍ وتأتِ بمثله

عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ

؟؟

يُحرِّم فيكم الصَّهباء صبحًا

ويشربها على عمدٍ مساءَ

إذا فعل الفتى ما عنه يَنْهَى

فمن جهتين لا جهةٍ أساءَ

المعري

تعني عبارة tu quoque: أنت أيضًا؛ أي أنت أيضًا تفعل ذلك، هنا يقلب المغالط الطاولة على خصمه، باعتباره لا يفعل ما يعِظُ به، أو لا يجتنب ما يَنهَى عنه، ويظن المغالط أنه قد تم له بذلك تفنيد الخصم ورد سهمه إلى نحره، وكأن الخطأ يُشَرِّع الخطأ أو كان «خطأين يصنعان صوابًا» two wrong make a right.

ص: 70

‌أمثلة

(1)

أقلِع عن التدخين يا بني فهو ضار بالصحة متلِف للمال. لستُ أقبل حجتك يا أبي فقد اعتدتَ أنتَ نفسك التدخينَ حين كنتَ في مثل سني.

(2)

«كيف أستمع إلى نصيحة هذا الطبيب بخفض وزني إذا كان هو نفسُه بدينًا كالدب؟!»

تعمِد هذه المغالطة إلى صرف الانتباه عن حجة الخصم إلى سلوكه، أو إلى أفكاره الأخرى، الراهن منها أو الماضي، فالحق أن تورط الخصم في ذات الخطأ لن يُحوِّل الخطأ إلى صواب، وأن الدفع بتورط الغير في الفعل نفسه إنما هو تشتيت لا صلة له بصدق التهمة الأصلية، على أنه تكتيك يضلل الخصم عن صُلب الموضوع ويؤثر تأثيرًا بالغًا في مسار الجدل، إذ إنه يضع الخصم في موضوع دفاع وكثيرًا ما يستنفد جهده في الدفاع عن نفسه! إن المغالط هنا لم يتناول التهمة المطروحة ولم يُجب عن السؤال الموجه، بل حَوَّل التهمة ببساطة إلى الخصم أو السؤال إلى السائل! لقد خرج عن الموضوع وغالط لأن اتهامه للخصم حتى لو صَحَّ فهو لا يمس التهمة الأولى ولا يتصل بالسؤال الأصلي، وأقصى ما يمكنه تحقيقه هو أن يثبت أن الخصم منافق لا أن حجته باطلة.

ولعل أفضل تَصَرُّف تأتيه إذا واجهك خصمُك بهذه المغالطة هو أن تبتسم معترفًا، ثم ترده في الحال إلى حجتك الأصلية التي لم يَرُد عليها بعد، بذلك تحبطه عن تشتيتك وإخراجك عن الموضوع، وبوسعك، إن شئت، أن ترجئ انتصافك لنفسك إلى مقام آخر.

(4 - 1) دفع الظلم بالظلم

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} (المؤمنون: 96).

أجدَرُ بمن ذاق مرارة الظلم أن يُعفِي منه ضحايا جُدُدًا.

يبدو أن العدالة تقتضي أن يكون الطرف المتضرِّر هو نفسه بريء الساحة، يتجلى ذلك فيما نأخذ به عادةً من مبادئ تحملنا على كفِّ الملام عن الطرف المتهم إذا كان المجني عليه يرتكب الفعلَ ذاتَه:

من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.

اللي بيته من إزاز

ص: 71

وكثيرًا ما يُستغل هذا الميل الفطري لدى البشر لخلق تعاطفٍ مع المتهم وصرف الانتباه عن جريمته النكراء بتبيان أن المتضرِّر نفسه يرتكبها، ذلك منطقُ الاستحلال والاستباحة، وهو منطق مغلوط؛ لأنَّ قُصارَى ما يمكن أن يبرهن عليه هو أن الطرفين كليهما على خطأ.

لا شك أنَّ العدالة تقتضي المعاملة بالمثل، غير أنَّ هذا المبدأ نفسه لا يجعل من الخطأ صوابًا، وإلا اختلطت الأمور واغتُفِرت الجرائم وبُرِّئَ المجرمون، بل كوفِئوا، بالنظر إلى أن الآخرين قد ارتكبوا في حقهم نفس الظلم.

تتغذى العداواتُ والضغائن، بين الأفراد وبين الشعوب، على هذه المغالطة العتيدة، وعليها تقوم جريمة الثأر وتجد تبريرًا وجيهًا، فمظالم الماضي تظل حيةً صارخةً تُفسد على الناس حاضرهم وتهدِّد مستقبلَهم، إنما الدولة هي مَنْ يتولَّى تصويب أخطاء الأفراد، والمجتمع الدولي هو مَنْ ينبغي عليه أن يتولى تقويم زيغ الشعوب؛ حتى لا نقنع بدفع الظلم بالظلم وتصويب الخطأ بالخطأ.

(4 - 2) خطآن يصنعان صوابًا Two wrongs make a right

تُعَد مغالطة «أنتَ أيضًا» فرعًا من مغالطةٍ أعمَّ هي «الإشارة إلى خط آخر» pointing to another wrong أو «خطآن يصنعان صوابًا» ، حيث يُستبدَل بضمير المخاطب second person ضمير الغائب third person، في هذه المغالطة الأعم يتذَرَّع المغالِطُ بأن هناك من يصنع الشيء نفسه، أو يُنوِّه بأن الخطأ الذي يرتكبه إنما هو حقيقة قائمة في طرف آخر من أطراف الأرض وأمرٌ واقع في بقعةٍ أخرى من بقع العالم.

ليشتدَّ التعذيب في سجوننا، فإن التعذيبَ لَشديدٌ في سجونٍ أخرى من العالم.

لماذا كلُّ هذا الجزع من الفساد في بلادنا، إن الفساد لينخر في أرقى بلاد العالم.

لقد وقع ظلمٌ من قبل على البولنديين في وارسو، ينبغي إذن أن يقع ظلمٌ مماثل على الألمان في برسلو.

وقد تتمادى المغالطة في الشطط والغلو حتى تأخذ المُفترَض المقَدَّر مأخذ الواقع الحاصل! وتتخذ صيغة «هو أيضًا كان جديرًا أن يفعل ذلك لو استطاع» ، أو «هم أيضًا كانوا سيفعلون نفس فعلتنا لو وضعوا موضِعنا»

إلخ.

ص: 72

لنسرق هؤلاء اللصوص فإنهم لو تمكنوا منا لجرَّدونا من ثيابنا.

لنخرب ديارهم ونُيتم أطفالهم، فوالله إنهم لو حُكِّموا فينا لما فعلوا أقل من ذلك.

يجسِّد المتنبي هذا المنطق تجسيدًا بديعًا يستبد بالذاكرة ويجري مجرى الأمثال:

ومَن عَرَف الأيامَ معرفتي بها

وبالناس روَّى رُمحَه غيرَ راحمِ

فليس بمرحومٍ إذا ظَفِروا به

ولا في الرَّدى الجاري عليهم بآثم

يريد أن مَنْ عرف الناسَ حقَّ المعرفة - كمعرفته هو بهم - قتلهم غيرَ راحمٍ لهم؛ لأنهم إذا ظفروا بغريمهم لم يرحموه، فإذا قتلهم، إذن، فلا إثم عليه، على أنه إذا لم يبادر بقتلهم فإنهم ميتون حتف أنفهم على كلِّ حال!

•••

كان فرنسيس بيكون، الفيلسوف الإنجليزي الكبير، يتولى منصب قاضي القضاة في عهد جيمس الأول، وفي عام 1620 تم عزله وإدانته بتقاضي رشاوى (في صورة هدايا) من كلا الطرفين المتنازعين في القضايا التي تولاها، وقد تعلَّل جميعُ كُتَّاب سيرته الذاتية بأن تقاضي هدايا من كلا الطرفين المتنازعين كان عُرفًا شائعًا على نطاقٍ واسع في ذلك العصر، ومن الدالِّ حقًّا في هذا الصدد أن بيكون نفسَه لم يستند إلى هذه الحجة حين تحدث في المحاكمة بالأصالة عن نفسه، بل قال ببساطة:«لا أُبرِّئُ نفسي، إنني لأعترف بصراحةٍ ووضوحٍ بأنني مذنبٌ بالفساد، وإنني لأرفض كل الدفوع، وإنما أناشد سيادتكم فحسب أن تأخذكم الرأفةُ بقصبةٍ منكسرة.»

(5) تسميم البئر Poisoning the well

تلك المحاولة الدنيئة من جانبه لكي يشق الأرض من تحت قدمي - يسمِّم مقدمًا عقول الناس ضدي، أنا جون هنري نيومان، ويغرس في مخيلة قُرَّائي الشك والارتياب في كل شيء عساني قائله في الرد عليه، ذلك أسميه تسميم الآبار.

الكاردينال جون هنري نيومان

ص: 73

أنْ تُسمم بئرًا هو أن تبادِرَ بضربةٍ وقائية ضد خصمك، وتَصِمه بأن لا يُولي الحقيقة أي اعتبار فيتضمن ذلك أنه مهما يقل فيما بعد فلن يثقَ به أحد، قد يكون التسميم، شأنه في ذلك شأن الحجة الشخصية الاعتيادية، إما بالسب abusive وإما بالتعريض بالظروف الشخصية circumstantial.

‌أمثلة

(1)

لا تصدق ما «سيقول» ، إنه وغد. (تسميم بالسب.)

(2)

ليس سوى مأفون مَنْ يعارض إضافة الفلورين إلى الماء. (تسميم بالسب.)

(3)

إن خصمي طبيب أسنان وبالطبع سوف يُعارض إضافة الفلورين إلى الماء، فذلك سوف يُفْقِده كثيرًا من الزبائن. (تسميم بالتعريض بالظروف الشخصية.)

(4)

لَكَم كنت أود لو بإمكان الرجال أن يتفهموا هذه المسألة (الإجهاض)، غير أنهم بحكم موقعهم الذكوري لا يملكون رؤية هذا الأمر من منظور المرأة، وكم كنت أتمنى لو أن هناك عددًا أكبر من النساء في هذا المجلس لكي يتحدثن في هذا الشأن من زاوية نسوية، فالرجال لا ناقة لهم فيه ولا جمل، ولا ينبغي أن يُصدروا فيه حكمًا، وإن أصدروا فليحفظوه لأنفسهم. (تسميم بالتعريض بالظروف الشخصية.)

(5)

هذا رجل فاشي معروف، وأي رأي يبدر منه «سيكون» محل ارتياب ويصب في مصلحة العدو في نهاية المطاف. (تسميم بالسب.)

الفرق، كما ترى، بين تسميم البئر وبقية ضروب الحجة الشخصية، هو أن التسميم يتم مقدَّمًا؛ أي قبل أن يأخذ الخصم فرصةً لعرض قضيته، وقد يكون له تأثير عظيم على مسار الجدل وقد يحبط المعارضة ويعيقها بدرجة كبيرة، وعلى كل من يدخل نقاشًا كهذا أن يخطو بجسارةٍ فوق الإهانة وأن يلج إلى صميم الموضوع، والحق أن تسميم البئر ليس مغالطة بالمعنى الدقيق؛ لأنه ليس حجة، إنه أشبه، بالأحرى، بشَرَك غفلةٍ منصوبٍ لكي يغري الجمهور الغافل بارتكاب مغالطة الحجة الشخصية ad hominem، وعلينا في هذا المقام، كما في غيره، أن نتذكر أن الحجة ينبغي أن تقف على أرجلها الخاصة أو تسقط بعيبها الخاص، بغض النظر عن شخص قائلها أو عيوبه.

ص: 74

الفصل السابع

الاحتكام إلى سُلطة

ad verecundiam; appeal to authority

إياك واحذر أن تكو

نَ من الثِّقات على ثِقَة

ابن فارس

كذبَ الظنُّ لا إمام سوى العقـ

ـل مُشيرًا في صبحِه والمساءِ

المعري

***

يعني «مذهب السلطة» (في الأخلاق وغيرها) authoritarianism أنَّ المصدر النهائي للمعرفة هو سلطةٌ من نوعٍ ماء، سلطةٌ قيِّمة على أمرٍ بعينه، قد تكون هذه السلطة نظامًا كالكنيسة، أو نصًّا كالكتاب المقدس، أو قانونًا أخلاقيًّا أو مدنيًّا، أو شخصًا، سلطة أهل العلم والاختصاص كل في مجاله، في العصور الوسطى المتأخرة، على سبيل المثال، صارت فلسفة أرسطو عقيدةً راسخة لا تناقش وكانت أقواله تُستحضر لحسم

ص: 75

الجدال لا لإثرائه، وقد بلغ شخص أرسطو من الجلال والهيبة بحيث صار يعرف ب Ille Philosophus (الفيلسوف، بألف لام التعريف)، وصار الاستشهاد بقوله يعرف ب ipse dixit (هو، نفسُه، قال

)

يقع المرء في مغالطة «الاحتكام إلى سُلْطة» ad verecundiam عندما يعتقد بصدق قضية أو فكرة لا سند لها إلا سلطة قائلها، قد تكون الفكرة صائبة بطبيعة الحال، وإنما تكمن المغالطةُ في اعتبارِ السلطة بديلًا عن البيِّنة، أو اتخاذها بينةً من دون البينة!

لا بأس على الإطلاق في الاحتكام إلى سلطة، وإننا لنحتكم بالفعل إلى سلطة الخبراء في كلِّ مجال كلَّما أعوزتنا الخبرة أو المعرفة الكافية في ذلك المجال، فالمعرفة تخصصٌ، والخبراء هم الأشخاص الذين نذروا عمرهم في دراسة مجالٍ بعينه والتمرس به حتى حصَّلوا فيه معرفةً تجعلهم أبصر بأصوله وفروعه وأقربَ صلةً بالحقيقة في شئونه وشجونه، ومِن ثَمَّ فإن لنا كل الحق في أن نستفتيهم ونسألهم الرأي والمشورة في مجالهم لأن لدينا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن رأيهم في ذلك أقوم من رأينا وخبرتَهم أصدقُ من خبرتنا، فإذا ألمَّ بالمرء مرضٌ لا خبرة له به فإنه يلجأ إلى الطبيب المختص ويأخذ بمشورته ويتبع إرشاداته، وإذا استعصى عليه خلل بجهاز الحاسوب فإنه يلجأ إلى خبيرٍ بالحواسيب ليُصلح له الخلل، وهكذا الحياة وبخاصة في العصر الحديث: تخصصاتٌ وأفرعٌ موكلٌ بها خبراءُ متخصصون نثق برأيهم ونأتمر بأمرهم ونحتكم إلى سلطتهم، ليس في الأمر هنا حجبٌ للدليل أو استهانة بالبينة، بل توجُّهٌ إليهما والتماسٌ لهما (في مظانِّهما)! فما جعل الخبيرَ خبيرًا في نظرنا إلا ثقتنا بأن عنده الدليلَ ولديه البيِّنة.

على أن الأمور على صعيد الواقع لا تسير دائمًا هذا السير الهَيِّن ولا تسلك دائمًا هذا الجَدَد الآمن، يبدأ التعثر والوقوع في الاحتكام المغالط إلى السلطة في الأحوال التالية:

(1) إذا كان الاحتكام إلى السلطة غير ضروري

ذلك أن كثيرًا من الأمور تخضع للملاحظة المباشرة أو الحساب المحض، هنالك يلتقي المرءُ التقاءً مباشرًا بالبينة ويكون الالتجاء إلى السلطة لطلب البينة هو عبث لا معنى له وكسل يستوجب اللوم، إنه أشبه بالتيمم وقد حضر الوضوء! ذلك أن الملاحظة المباشرة أعلى يقينًا من السلطة وتجُبُّ أيَّ سلطة، هكذا كانت ثورة «النهضة» ضد سلطة أرسطو وسلطة الكتاب المقدس، تلك الثورة التي أعقبت تطورًا علميًّا حقيقيًّا لم تشهد البشرية مثلَه في العصور السوالف، لقد كان رأي أرسطو في العصور الوسطى يؤخذ مأخذ

ص: 76

التسليم حتى في الأمور الإمبيريقية التي تمكن معرفتُها بسهولة بواسطة الملاحظة، وكأن ذهن أرسطو أصدق رؤية من نواظر الخلق!

كذلك كان يستَشهَد بالكتاب المقدس كسلطةٍ لا مُعقِّب لها، حتى في المسائل التجريبية والرياضية ومن الطريف أن قيمة ال pi (النسبة بين طول محيط الدائرة وقطرها، ط) كانوا يدعون أنها ثلاثة استنادًا إلى فقرات معينة بالعهد القديم! غير أن قيمة ط هي مسألة رياضية يحددها علم الحساب (وهي اثنان وعشرون على سبعة) والالتجاء فيها إلى السلطة هو أمر غير ذي صلة.

وكيف تنسى البشرية زمنَها الذي ضاع ودماءَها التي أُريقت من جراء الخضوع لسلطة الكنيسة طيلة العصور الوسطى، حين ارتهن الناسُ لديها حواسَّهم وملكاتهم الإدراكية التي أُودِعوها لتكون أوثقَ الأدلة وأصدقَ الرسل، وأُخذوا على الاعتقاد بأن الشمس تدور حول الأرض فهكذا يقول الكتاب المقدس ولو كان كتابُ الكون يقول غير ذلك، وأخذوا على الاعتقاد بأن تاريخ البشر على الأرض لا يعدو السبعة آلاف سنة، ولو دَلَّ علمُ الحفريات على أنهم أقدم من ذلك بما لا يُقاس.

(2) إذا كانت الدعوى غير داخلة في مجال خبرة الشخص الذي يُحتكَم إليه كسلطة

حين يطرح الشخص دعوى معينة في مسألة تخرج عن نطاق خبرته فإنه لا يعود خبيرًا في هذا السياق الجديد، ولا يعود بإمكانه أن يدعم رأيه بالدرجة المطلوبة من الخبرة، ولا يعود هناك فرق بين رأيه في هذا الأمر ورأي سواه من عامة الناس، لقد تركَته سلطته لدى الباب فدخل وحده وصار في هذا المجال الغريب واحدًا من «غير المتخصصين» laymen.

ومن الأهمية بمكان أن نتذكر في هذا الصدد أن تضخم المعارف في العصر الحديث قد جعل التخصص الدقيق فرضًا محتَّمًا على كل من يريد أن ينجز في العلم إنجازًا حقيقيًّا وتستوي لديه خبرةٌ كافية في مجالٍ ما، الأمر الذي يجعل الخبراء الحقيقيين في أغلب الأحيان على غير دراية كبيرة بما يقع خارج تخصصاتهم، ليس هذا فحسب، بل إنه كثيرًا ما يحدث أن يكون تعليم المرء وخبرته في ميدان معين عائقًا فعليًّا في وجه قدرته على إصدار أحكامٍ خبيرة في ميدان معين آخر، يُطلق على هذا الصنف من العجز الناجم عن التمرس الكبير بمجال معين «العجز المكتسب» learned incapacity، فالتعليم العلمي مثلًا قد يحول بين المرء وبين إصدار أحكام في الميدانين الفني والأدبي.

ص: 77

ومن الأمور الشائعة في عصرنا - ذلك الاستغلال للسلطة، المُسمَّى بالإعلان عن طريق الشهادة testimonial advertising، حيث يقوم نجوم الشاشة والرياضة ومعبودو الجماهير في مختلف الميادين بالإعراب عن إعجابهم بأنواع من السجائر والصابون وغير ذلك من السلع، ففي كل الأحوال تقريبًا لا تكون لهذه الأحكام أية قيمة مشروعة؛ لأن العلاقة بين من يصدر الحُكم وبين السلعة هي ذاتها العلاقة بين المستهلك العادي وبين هذه السلعة ذاتها، فعندما تعلن ممثلة السينما الآنسة «س» أنها تُدخِّن سيجارة من نوع «ص» وحده، فإنها لا تعبر دون شك إلا عن تفضيل شخصي، قد لا يكون أعمق في نقده أو تحليله من رأي المدخن العادي، والنتيجة الضمنية التي يودُّ المُعلِن أن يحملها إلى أذهان الجمهور هي أن ذوقها في السجائر على مستوًى يتناسب مع شهرتها من حيث هي شخصية من شخصيات الشاشة، أما مسألة كون المعلن ينجح في ذلك أم لا، فينبغي أن تُترك للمسئولين عن ميزانيات هذا النوع من الإعلان، فلا بُدَّ أن يكون أصحاب الإعلانات مقتنعين بأن الإهابة بسلطة النفوذ هي وسيلة مُربحة.

(1)

(3) إذا كان هناك خلاف بين الخبراء في المسألة المعْنِيَّة

في هذه الحالة تكون كل من الدعوى ونقيضها مدعمًا برأي بعض الخبراء الثقات، بحيث لا يعود ممكنًا حسم المسألة بمجرد الالتجاء إلى رأي الخبراء.

ثمة مجالات علمية كثيرة تعجُّ بالخلافات الداخلية بين أهلها حتى في المسائل المحورية والأسس الكبرى للتخصص، من هذه المجالات علم الاقتصاد، فقد يذهب بعض خبرائه الثقات إلى أن «العجز» هو العامل المفتاحي في مجال الاقتصاد بينما يذهب آخرون، ليسوا أقل خبرة، إلى العكس، من ذلك تمامًا، ومن المجالات المشهرة بالخلافات بين خبرائها علم النفس والطب النفسي، حيث نجد مدارس مصطرعة بينها شقاق حاد في تصور السواء والمرض وفي منهج التشخيص والعلاج.

يتبين من ذلك أن الخبير الذي يُحتكَم إليه في شأن من الشئون التخصصية قد لا يكون ممثلًا لرأي جميع الخبراء في ذلك المجال، والحق أنه في قطاعات كبيرة من البحث

(1)

هنترميد: «الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها» ، ترجمة د. فؤاد زكريا، الطبعة الثانية، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1975، ص 182.

ص: 78

البشري يكون بوسع المرء أن يجد خبيرًا يدعم له أي رأي يراه أو موقف يريده، يذَكِّرنا ذلك بالقول المأثور:«افعل أي شيء تقررُه وستجد نصًّا يُبررُه!»

ذلك أن الخبراء هم في النهاية بشر، يُصيبون ويخطئون، حتى في مجال تخصصهم، ولعل هذا هو ما يُبرر أخذ «رأي ثانٍ» (وربما ثالث) في الحالات الطبية حين يكون تشخيصها غامضًا غير محسوم، يَفهَم أغلبُ الناس المغزَى في أخذ رأي ثانٍ حين يتعلق الأمر بحياتهم وصحتهم، غير أنهم كثيرًا ما يتشبثون برأيٍ واحد لا يمثل آراء الخبراء جميعًا حين يكون هذا الرأي موافقًا لهواهم ومدعِّمًا لتحيزاتهم.

(4) إذا كان الخبير متحيزًا أو تكتنفه شبهة التحيز

قلنا إن الخبراء بشر، والبشر غير معصومين من التحيز والهوى كيفما كانوا، وليس ثمة شخص يمكنه أن يدَّعي الموضوعية المطلقة، ومهما يبلغ أحدنا من النزاهة والحياد يبقَ لديه شيء من الهوى والميل تجاه آرائه الخاصة، وربما كان علينا أن نقبل درجةً ما من التحيز لدى كل شخص ما دامت ضئيلة الأثر، أما في الحالات التي يكون الخبير فيها في موقع يميل به ميلًا شديدًا في اتجاه رأي بعينه فإن لنا كل الحق في أن ننصرف عن الاحتكام إلى رأيه بوصفه «مجروحًا» على أعلى تقدير، من ذلك على سبيل المثال نتائج أبحاث خبراء طبيين عن أضرار التدخين على غير المدخنين حين تمولها شركات التدخين الكبرى ذاتها!

قد يأخذ التحيز والميل ألوانًا أخرى عديدة، من ذلك أن الخبير قد يتأثر بموضعه الشخصي ومآزقه الخاصة، فالمحامي الذي يدافع عن نفسه، والطبيب الذي يحاول تشخيص مرضه الخاص (أو مرض أحد أبنائه)، هو عُرضة للميل والحيود، وقمين بالخطأ الناجم عن التفكير الآمل Wishful thinking أو الخوف.

(5) إذا كان مجال خبرة ذلك الخبير هو علم زائف أو مبحث معرفي غير مشروع

الخبرة بالوهم ليست خبرة على الإطلاق، ولا قيمة من ثم لأي خبرة مهما كبرت، ومهما ازدانت بالشهادات والرُّخص، إذا كان مجالها نفسه علمًا زائفًا أو مبحثًا معرفيًّا كاذبًا، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر: التنجيم astrology والفأل، الفراسة وتحديد الشخصية من شكل الجمجمة phrenology، العلاج بطرد الأرواح الشريرة.

ص: 79

(6) إذا كانت الخبرة، أو الفتوى، غير معاصرة

لأن المعرفةَ تتقدم بسرعةٍ هائلة، والتقدم في المعرفة يكاد يكون مرادفًا للمراجعة والتصحيح، الأمر الذي يجعل كثيرًا من الآراء العلمية عرضةً للنسخ والتعديل خلال سنواتٍ قليلة وربما أشهر.

(7) إذا كان الخبير المزعوم مجهولًا أو غير محدد

حين تكون السلطة غير محددة فإنه يكون من المحال التحقق مما إذا كانت تلك سلطة على الإطلاق، وكثيرًا ما يلجأ الناس إلى تدعيم مواقفهم بادعاء أنها مصدَّقة من جانب خبراء ثقات أو مؤسسات أو منظمات، دون تحديد شيء من ذلك بالاسم، ودون ذكر البينة التي تستند إليها هذه المنظمات أو أولئك الخبراء، وكثيرًا ما يُشار إلى هذه السلطة المجهولة بلفظ عام من قبيل:«العلماء» ، «الأطباء» ، «القادة» ، «المختصون» ، أو حتى بمجرد «شخص ما» ، «هم يقولون» ، «قرأت في صحيفة» ، «قرأت في بحث» ، «شاهدت في التلفاز»

إلخ.

والحق أننا كثيرًا ما نُشير باللفظ العام إلى فئة الخبراء، ويكون ذلك معقولًا تمامًا وبخاصةً إذا كان هناك إجماع بين أهل المجال على الرأي الذي نطرحه، والأجدى على كل حال أن نشفع ذلك بذكر البينة التي تستند إليها هذه السلطة غير المُسماة، غير أن الأمور ليست دائمًا بهذه البراءة، فكثيرًا ما يدل هذا الأسلوب على التميع والغموض وعدم الإلمام بالمسألة، وإلا فإن ذكر الخبير بالاسم ليس بالأمر العسير، وكثيرًا ما يتبين أن الدعوى المطروحة هي مجرد إشاعة، والإشاعات كما نعلم هي دعاوى مجهولة المصدر في الأغلب الأعم، وكثيرًا ما تُنسَج عمدًا لتشويه صورة الخصم.

‌أمثلة

(1)

الشمس تدور حول الأرض لأن الكتاب المقدس يقول ذلك بوضوحٍ لا لبس فيه.

(2)

يؤكد العالِم الكبير وليم جينكينز الحائز على نوبل في الفيزياء أن فيروس الإنفلونزا سوف يتم القضاء عليه بجميع أنواعه بحلول عام ألفين وخمسين، ومثل هذا العالِم الفذ لا يُستهان برأيه. (خبير في غير مجاله.)

(3)

ليس للتدخين كبيرُ ضررٍ على المدخنين، هكذا أثبتت دراسة فريق الأطباء الباحثين الذين يعملون لدى شركة مارلبورو. (خبرة متحيزة أو مجروحة.)

ص: 80

(4)

لقد حددتُ رقم حظي وتعرَّفت على شريك حياتي الملائم: لقد استشرت في ذلك الأستاذ جبور جبور الفلكي الشهير في عيادته. (مبحث معرفي زائف.)

(5)

يقول «المتخصصون» إن سنسوداين هو أفضل معجون يضمن سلامة الأسنان. (خبرة غير محددة.)

(6)

لا شكَّ أن برسيل هو مسحوق الغسيل الأفضل لجميع الألوان، هكذا أثبتت «الأبحاث العلمية» .

(7)

لا أستعمل غير عطر أوبيام؛ لأنه أفضل العطور جميعًا، هكذا يقول عمر الشريف في الإعلان.

ومهما يكن من شأن السلطة وهيبتها وجدواها فهي في نهاية المطاف ليست معرفة من المنبع first hand بل معرفة بالوساطة second hand، وهي في نهاية المطاف معيار غير أساسي وغير مباشر، بل مشتقٌ من غيره ومتكئٌ على سواه، ويعلمنا التاريخ قديمه وحديثه أن السلطات تخطئ وتجهل وتتضارب وتصطرع، وتتخذ هي ذاتُها معايير للحق متباينة مختلفة؛ ولذا فإن المعرفة المستمدة من السلطة لا تعدو أن تكون «ظنًّا» أو «دوكسا» ، ولا ترقى إلى أن تكون معرفة بالمعنى الدقيق للكلمة، ويجمل بنا بعد كل شيء أن نتجنب الاحتكام فلنشفعه بعرض البينة التي تستند إليها هذه السلطة بقدر ما يسعفنا الإلمامُ والفهم.

ص: 81

الفصل الثامن

مناشدة الشفقة (استدرار العطف)

Ad misericordiam; appeal to pity

إذا قِيل حلمًا قال للحِلم مَوضِعٌ

وحِلْمُ الفَتى في غير مَوضعه جَهْلُ

المتنبي

في الثمانينيات من القرن التاسع عشر أثبتَ الادعاء، في محكمة فرجينيا بالدليل الدامغ ضلوعَ صبي بقتل والديه بفأس، فما كان من الدفاع سوى أن دَفَعَ ببراءة الصبي قائلًا:«أليس يكفي أنه أصبح يتيمًا لا أحد يتولَّى أمره؟!»

ووَضْع النَّدى في مَوضِعِ السيف بالعُلا

مُضرٌ كوَضع السيف في موضِعِ النَّدى

المتنبي

***

ص: 83

العطف شعورٌ نبيل يتحلى به كل ذي أصلٍ كريمٍ، والشفقة عاطفة نبيلة يتسم بها كل ذي معدنٍ طيب، لا بأس قَطُّ باستدرار العطف والشفقة إذا استدعى السياق وخلصَت النية، إنما يكمن الخطأ في أن تسنِد إلى العطف وظيفةَ البَيِّنة، وأن تأخذ الشفقة مأخذ الحُجة.

‌أمثلة

(1)

«

فَلتَأخُذكم الشفقة بهذه المتهمة يا حضرات القضاة، فإنها إذا أودِعتِ السجن فسوف تتحطم حياتها وحياة من تقوم برعايتهم. أليس الأَوْلَى أن ننقذ حياةً لا أن نحطم حياة؟» (ليست الشفقة هنا في غير موضعها فحسب (لم يذكر الدفاع حال المجني عليه الآن وحال عياله!) بل إنها خارجة عن الموضوع وغير ذات صلة بعملية الدفع.)

(2)

«

لا بُدَّ أن الحل الذي توصلتُ إليه لهذه المسألة الرياضية هو حل صحيح: لقد توصلت إليه بعد عناء خمس ساعات من اعتصار الفكر والتركيز المتصل.» (إن الفكرة الخطأ هي فكرة خطأ سواء كانت نتاجًا لخمس دقائق من التفكير أو لخمسة عقود! وإن الزمن الذي أُنفِق أو الجهد الذي بُذِل في فكرةٍ ما لا يُنبِئنا بشيء عن صوابها أو خطئها، إنه، ببساطة، خارج عن الموضوع.)

(3)

«

ينبغي تيسير الامتحانات على جميع الطلبة؛ لأنكم تعرفون مدى البؤس الذين يَرِين على الطالب المتوسط أو الضعيف حين يحصل على درجات متدنية أو حين يرسب.» (للحلم «موضعٌ» حقًّا، هو بالنسبة لهذا المثال في وزارة الشئون الاجتماعية لا في وزارة التربية والتعليم أو وزارة التعليم العالي، وما أفسد التعليمَ مثل هذا «التيسير» الذي يتملق الحشود ويذبح النوابغ ويطمس بَريقَهم ويُسوِّيهم بالأواسط الأنصاف mediocres، وينتخب ثُفالةً من الحَفَظة وعادمي المَلَكة يليق بهم القَعْر، ويضعهم على قمة الهرم الاجتماعي والعلمي، ثم يطلب منهم أن يجروا المجتمع إلى الأمام! وما هكذا تتقدم المجتمعات وتُقلع الأمم.)

(1)

(4)

«

كيف ترفض رسالتي للدكتوراه؟ لقد عكفتُ على كتابتها سبعَ سنواتٍ متصلة!»

(5)

«كيف تقول إن الكرة خارج الخط؟ إنها داخله، ثم إني مهزومٌ عشرة إلى واحد!»

(1)

يقول المثلُ العربي: «ما هكذا يا سعد تُورَد الإبل.»

ص: 84

(6)

«نحن نأمل أيها الزملاء أن تقبلوا خطتَنا التي تقدمنا بها، لقد بذلنا في إعدادها ثلاثة أشهر من العمل الإضافي المضني.»

(7)

«ينبغي أن تمنحني درجة A في هذا الفصل: إن جدتي مريضةٌ ولو سمعت بأني رسبتُ ربما تموت بنوبةٍ قلبية.»

قد تكون مخاطبة الوجدان أو مناشدة العطف، أو غيره من الانفعالات، مشروعةً منطقيًّا، وذلك حين يكون هذا الانفعال هو نفسه موضوع الحُجة، أو يكون سببًا ذا صلة بقبول النتيجة: فقد أختار أن أشتري نفس الجريدة بنفس السعر من بائعٍ ضرير؛ لكي أهوِّن عليه عملَه الشريف، وقد يُقدِّر الأستاذ ظروف طالبٍ صَدَمَته شاحنةٌ في طريقه إلى الامتحان فيحتفظ له بامتحان إكمال، وفي رواية كنديد يستعرض فولتير أمثلةً للبؤس المستشري في العالم لكي يُفنِّد مذهب لَيْبِنِتْز القائل بأن هذا هو أفضل العوالم الممكنة جميعًا.

•••

ومهما يكن مِنْ شيءٍ فإن انفعال العطف ليس من جنس الحُجة: للعطف أن يدفعنا إلى استباق الخيرات واجتراح المكارم، ولكن هيهات له أن ينهض دليلًا على رأي أو أساسًا لاعتقاد.

ص: 85

الفصل التاسع

الاحتكام إلى عامة الناس

ad populum; appeal to people; appeal to gallery; appeal to the mob

إن موافقةَ الكثرة ليست دليلًا على الحقائق العسيرة الكشف، وإنه لَأقربُ إلى الاحتمال أن يجدها رجلٌ واحدٌ من أن تجدها أمةٌ بأسرها.

ديكارت

إنَّ واقعة أن رأيًا ما قد انتشر على نطاقٍ واسعٍ ليست دليلًا البتة على أن هذا الرأي ليس باطلًا كل البطلان، والحق أنه بالنظر إلى سخف أغلبية بني الإنسان، فإنه لَأقربُ إلى الاحتمال أن يكون الاعتقاد الواسع الانتشار اعتقادًا سخيفًا من أن يكون اعتقادًا معقولًا!

برتراند رسل

ما يزال بالإنسان شيءٌ من أسلافه القردة، ليس هذا فحسب، بل إن به خَصلةً متبقية من أسلافه الخِراف!

كلايف بل

ص: 87

لا رأيَ للناس في نفعٍ ولا ضررٍ

وما لهم قطُّ من حُكمٍ وتقدير

العقاد

***

تتضمن هذه المغالطة الاحتكامَ إلى الناس بدلًا من الاحتكام إلى العقل (أو على حساب العقل)، ومحاولة انتزاع التصديق على فكرة معينة بإثارة مشاعر الحشود وعواطفهم بدلًا من تقديم حجة منطقية صائبة، تكاد هذه الطريقة أن تكون أداةً من أدوات عمل رجال الدعاية والإعلان، والديماجوجيين من الساسة ورجال الأحزاب والدعاية الانتخابية، فإذا كان «الجميع يعتقد ذلك» أو «الكل يفعل ذلك» أو «استطلاعات الرأي تُشير إلى ذلك» فلا بُدَّ من أن يكون «ذلك» صحيحًا!

غير أن التاريخ يُعلِّمنا أن أفكار الكثرة واعتقاداتهم كثيرًا ما تَبَيَّن خطؤها الذريع وبطلانها التام، وقد تكرر ذلك وتواتر بما يكفي لدعم قاعدةٍ تفيد أن قبول الحشود من البشر لقضيةٍ معينةٍ على أنها حق لا يقدم ضمانًا عقليًّا بأنها كذلك، وقد كان يَسَع المرءَ أن يمضي إلى نهاية الشوط فيقول: إنَّ التاريخ ربما يعلمنا، على العكس، أن اعتقاد الجموع بشيءٍ ما يُرَجِّح بطلان هذا الشيء، لولا أن هذه الطريقة ما هي إلا الوجهُ الآخر لذات المغالطة.

ذلك أن «الاعتقاد» غير «البيِّنة» ، وأن اتساع نطاق الاعتقاد بقضيةٍ ما هو أمرٌ غيرُ ذي صلة بصدق القضية ذاتها أو كذبها، إنما يتحدد ذلك بالوسائل العقلانية الخاصة التي تستخدم الأدلة والمعلومات الصحيحة التي يمكن أن تُستمد منها النتائج بطريقة منطقية. يعود رواج هذه المغالطة وانتشارها إلى ميل الكائنات البشرية إلى أن تسلك مَسلَكَ الخِراف، فتنضوي معًا حول المريح والمألوف والسائد، ويروقها الانقيادُ والائتلاف ومجاراة القطيع في وجهته.

في عمق الروح الإنسانية التي أُلقِي بها في حومَة الوجود على غير اختيارٍ منها تقبع حاجةٌ إلى الاتصال بآخرين من صِنوِها، حاجةٌ تبلغ من الإلحاح والشدة مَبلَغًا يضطر الناس إلى أن تُسْلِم ضميرها وبصيرتها لطغيان ثقافتها الجاهزة وتقاليدها الموروثة، حتى لو كانت تلك ثقافةً جاهلةً وتقاليدَ حمقاء، وقليلٌ هم الأفرادُ الذين يمكنُهم أن

ص: 88

يأتمروا بأوامر عقولهم الخاصة ويهتدوا بهدي بصائرهم الشخصية حتى عندما تكون تلك مُغايِرةً للشائع ومُخالِفة للمألوف.

في مسرحية شكسبير «يوليوس قيصر» يَعمِد مارك أنطونيو، في خطبة الجنازة المشهورة، إلى استثارة انفعالات الجمهور، ولا يفوته أيضًا أن يُهيب بمصالحهم الشخصية، لقد كانت القضيةُ التي استُدعِيَ الملأ لمواجهتها هي:(1) هل كان قيصر مذنبًا بالتآمر للإطاحة بالجمهورية وتنصيب نفسه ملكًا؟ (2) هل ينبغي اتخاذ أي إجراء ضد قاتليه؟ لا تَعرِض خطبة أنطونيو لهذه القضية، وبدلًا من ذلك يعمِد أنطونيو إلى تذكير الرومانيين بأنهم كانوا يحبون قيصر ذات يوم:

كلكم أحببتموه ذات مرة، لا لغير سبب،

فأي شيء يمنعكم إذن أن تندبوه؟

ويؤكد لهم أنه، أنطونيو، ليس داهيةً وليس مفوَّهًا (وأنه من ثم جديرٌ بالتصديق).

فما أنا بالخطيب مثل بروتس،

لكني كما تعرفونني جميعًا رجلٌ غرٌّ صريح،

أحب صديقي، وهم إذ يعرفون ذلك حق المعرفة،

أذنوا لي على الملأ بالتحدث عنه.

غير أنه يبرع في إثارة عواطفهم ضد بروتس وشركائه ببلاغة اللغة وبلاغة الدم:

لاحظوا كيف تبعها دم قيصر،

كأنما اندفع يطل من الباب ليتأكد،

أهو بروتس الذي طرق هذه الطرقةَ المنكرة، أم سواه؟

فلقد كان بروتس كما تعلمون ملاكَ قيصر .... اشهدوا أيها الآلهة بأي إعزازٍ أحبَّه قيصر!

هذه كانت أقسى الطعنات جميعًا

فإن قيصر النبيل لما رآه يطعن

كان الجحود، وهو أفتك من أسلحة الخونة،

هو الذي أجهز عليه! فعندما انصدع فؤاده الكبير ...... سقط قيصر العظيم

ص: 89

وأية سقطة كانت يا بني وطني؟

حينئذ سقَطتُ أنا، وسقطتم أنتم، وسقطنا جميعًا

بينما تشامخت الخيانة السفاكة علينا ...... ذلك أني لا أملك من البديهة، ولا من الألفاظ، ولا من القيمة أو العمل،

ولا من الذلاقة، ولا من قوة الخطاب، ما أهيج به دماء الناس،

وإنما أنا أتكلم على رِسلي، فأخبركم بما تعرفونه أنفسكم،

وأريكم جراحَ قيصر الحنون، تلك الأفواه الخرساء المسكينة،

وأسألها أن تتكلم نيابةً عني، غير أني لو كنت بروتس وكان بروتس أنطونيو،

لكان ثمة أنطونيو يضرم في نفوسكم نارًا، ويصنع لسانًا

في كل جرح من جراح قيصر، خليقًا بأن يحرك

حجارةَ روما لكي تهب وتثور.

ويختتم أنطونيو خطبتَه بتذكير الجمهور بمصالحهم الشخصية، فيتم له استهواءُ العامة واختلابهم وتحريكهم حيث شاء:

ها هي ذي وصية قيصر

إنه يَهَبُ كلَّ مواطن روماني،

كل رجل بمفرده، خمسة وسبعين دراخما ...... عدا هذا، ترك لكم كلَّ جنائنه،

وعرائشه الخاصة، وبساتينه الحديثة الغرس،

على هذا الجانب من «التيبر» ، ترك ذلك لكم،

ولذراريكم إلى الأبد، رياضًا مشاعة .... تتنزهون فيه وتروِّحون عن أنفسكم

ذلك كان قيصر، فمتى يجود الزمان بمثله؟

ومتى هاجت عواطف الدهماء وسال لعابها فقد انفلتت الفتنة من عقالها، وتنحَّى العقل أو ديس تحت سنابك المغالطات:

أيتها الفتنةُ، إنك لَعَلَى ساق

فاسلكي أي سبيلٍ تشائين ......

ص: 90

إن القدَرَ منشرحُ الصدر،

وهو في هذه الحال لا يضِنُّ علينا بشيء.

هناك ثلاثة أشكال أساسية لمغالطة «الاحتكام إلى الناس» :

(1) عربة الفرقة (الموسيقية) bandwagon

هذا الطريق المعبَّد ينحدر ليصل إلى تلك الأنوار المتلألئة في الجهة المقابلة،

العجول محمولة بالشاحنات ثلاثةً ثلاثة،

رءوسها تَنُوس بثقلٍ وراحة بال،

العجول محمولة بالشاحنات،

لا أحد يمكن أن يفهمها:

إنها ذاهبة إلى المذبح!

رءوسها تنوس بثقل وراحة بال.

«إلى المذبح» ، ناظم حكمت

ألا تَعتبر نفسَك مفنَّدًا منذ البداية يا سقراط حين تَطرح آراءً لا يمكن أن يقبلها أحد؟ عجبًا

اسأل أيَّ شخصٍ من الحضور!

أفلاطون، محاورة جورجياس

في أيِّ مجتمعٍ كبير، مِنْ الآمَن لك أن تكون مخطئًا مع الأغلبية من أن تكون صائبًا وحدك.

جون كينيث جلبرايت

الغوغاءُ أقربُ إلى أن يقعوا ضحيةَ كذبةٍ كبيرة منهم إلى كذبةٍ صغيرة.

أدولف هتلر، كفاحي

ص: 91

تتجه مغالطة «عربة الفرقة» bandwagon إلى ميلنا الغرزي لأن ننضوي مع الحشد، ومفادها أنه ما دام عامة الناس تعتقد شيئًا ما أو تختار مسلكًا معينًا من الفعل، فلا بُدَّ أن يكون هذا الاعتقاد صحيحًا وأن يكون هذا المسلك أحق أن يُتَّبع.

وتأتي التسمية من «عربة الفرقة الموسيقية» : فقد كان المرشَّحون فيما مضى يستقلون، في حملاتهم الانتخابية، عربة كبيرة تتسع لفرقة موسيقية، ويجوبون المدينة، وكان الناس يُعبِّرون عن تأييدهم للمرشَّح باعتلاء العربة أو الصعود إلى ظهرها، ومنها تأتي عبارة «هلم إلى عربة الموسيقى» ، «اقفز إلى العربة» ، أي شارك الحشد وانضم إلى «الزفة» ، التي صارت تعني الانضواء في أمرٍ ما بحكم شعبيته، ويمكن تجريد صورتها كالتالي:

الفكرة «ق» رائجة؛

إذن الفكرة «ق» صحيحة.

وفي مجال علم النفس يتحدث السيكولوجيون عن «أثر عربة الفرقة» (ظاهرة عربة الفرقة) bandwagon effect، وهي ظاهرة اجتماعية يشعر فيها الأشخاص بضغط الانصياع لموقف معين، أو رأي، عندما يدركونه على أنه موقف، أو رأي، الأغلبية في جماعتهم أو مجتمعهم.

وفي مجال الدعاية هناك ما يُعرف ب «تكنيك عربة الفرقة» bandwagon technique، ويتضمن الادعاء بأن أغلبية من الناس يتخذون موقفًا أو اعتقادًا ما؛ وذلك لكي يتسنَّى إقناعُ آخرين بتبنِّي ذلك الموقف أو الاعتقاد.

‌أمثلة

(1)

الناس كلها، أو معظمها، تفضل الماركة «س» . إذن عليَّ أيضًا أن أشتري الماركة «س» .

(2)

«ثمانية مليون فرنسي لا يمكن أن يكونوا على خطأ.»

(3)

في يوم من الأيام كان أغلب البشر في بقاعٍ كثيرة من الأرض يعتقدون برسوخ أن الأرض مسطحة، أو أن الأرض هي مركز الكون، أو أن الشمس تدور حول الأرض، وقد تبين أن كل ذلك باطل.

ص: 92

(4)

في يومٍ من الأيام كان أغلب البشر (بما فيهم أرسطو وغيره من خيرة العقول) يعتقدون أن القلب هو عضو الشعور والتفكير، وهو اعتقاد غير صحيح.

(5)

كان أغلب البشر فيما مضى يعتقدون أن الصرع هو روح شريرة تتلبَّس المريض، وقد تبين بالدليل العلمي الدقيق أن الصرع هو اضطراب في النشاط الكهربي لخلايا المخ.

(6)

كان البشر يومًا يعتقدون أن الإنسان لا يمكنه مواصلةُ الحياة وهو على سرعةٍ أكبرَ من خمسة وعشرين ميلًا في الساعة!

(7)

استطلاعات الرأي تُشير إلى فوزٍ ساحق للحزب الوطني، ومِن ثَمَّ ينبغي أن تصوِّت للحزب الوطني.

(8)

كان أينشتين مناصرًا لمذهب اللاعنف، فأراد جماعة من العلماء أن يُفندوا رأيه في ذلك ويضادوا تأثيره ويسجلوا مناوأتهم لمذهب اللاعنف، فنشروا مجموعة مقالات في كتاب أسموه «مائة عالِم ضد أينشتين» ، حين سمع أينشتين بهذا العنوان قال:«لو كنتُ على خطأ فقد كان يكفي عالمٌ واحد!»

(9)

في القرن التاسع عشر كانت أغلبية الناس في بعض الولايات الأمريكية تعتبر العبودية أمرًا مقبولًا، إلا أن هذا الرأي لا يجعلها كذلك.

(2) التَّنفُّج (التَّأسِّي بالنخبة) snob appeal

في هذه المغالطة يتم الاقتداء بالصفوة المختارة بدلًا من عامة الناس، وصورتها:

جميع، أو أغلب، الممتازين من الناس يعتقدون، أو يفعلون «ق» إذن «ق» صحيحة.

‌أمثلة

(1)

سَراةُ الناس يفضلون الماركة «س» ؛ إذن عليَّ أنا أيضًا أن أستعمل «س» .

(2)

صفوة المثقفين يعنقون الماركسية هذه الأيام؛ إذن الماركسية هي الفلسفة الصحيحة وعليَّ أن أعتنقَها.

ص: 93

(3) التلويح بالعلم؛ التذرُّع بالوطنية flag waving appeal to patriotism

الوطنية هي آخر ملاجئ الأوغاد.

صموئيل جونسون

في هذه المغالطة يلجأ المتحدث إلى المشاعر القومية أو الوطنية ليدعم بها حجته أو موقفه، أو ليقوِّض موقفًا آخر باعتباره منافيًا للوطنية أو القومية، ويندرج في هذه المغالطة التلويح بأيِّ رمز أو التلفع بأيِّ راية: سياسية أو مذهبية أو دينية، حين يكون ذلك افتعالًا وتكلُّفًا غيرَ ذي صلة بالحجة المَعنية؛ تصديقًا لقول موليير «ما أبعد البَونَ بين الوجه والقناع.»

(3 - 1) الاحتكام الصائب إلى الأغلبية

ليست الحقيقة ديمقراطيةً بالضرورة، فقد يصيبُ شخصٌ واحد في التفكير مثلما يُصيب مائة شخص، وقد يُخطئ مائةٌ مثلما يُخطئ واحد، وما ينبغي لموقفٍ ما أن يكون حقًّا لمجرد أنه موقف أغلب الناس، ولا لموقف أن يكون باطلًا لمجرد أنه موقف القِلَّة، تلك حقيقة ما يزال يُلِحُّ عليها درس المنطق ودرس التاريخ، إنما تستند الحُجَّة على دعائمها المنطقية الخاصة وليس على عدد مؤيديها، وكم اعتقد الناسُ اعتقاداتٍ بلغت مرتبةَ اليقين وجرت مجرى البديهيات، ثم تبين بعد ذلك أن تلك الاعتقادات الكبرى كانت أخطاءً كبرى!

غير أن علينا أن نتجنب الغلو في الاستهانة برأي الأغلبية، وبخاصة إذا كان العدد هنا يحمل مغزى المراجعة ويضطلع بوظيفة التدقيق والتنقيح والتحقيق: وإلا فما معنى مراجعة الحسابات (وهو عمل محاسبين متعاقبين)، ومراجعة النظراء peer review في مجال البحث العلمي، وشرط تعدد الشهود في الجرائم، واتفاق القضاة والمحلَّفين في الأحكام، وتكرار التجارب replication في العلم؟! العقلانية إذن تعني التذرع بالمبررات العقلية التي تَثْبُت للنقد العام، أي التمحيص، قد يكون الفرد شاذًّا في مبررات اعتقاده، ولا يصبح عقلانيًّا بحق إلا حين يُدرك أن عليه ألا يكتفي بإقناع نفسه بل أن يُقْنِع كلَّ

ص: 94

من يتفحص أدلته وبراهينه، الحقيقة ليست ديمقراطية

نعم ولكن التبرير العقلي يجب أن يكون منفتحًا على النقد العام وأن يتم في وضح النهار.

ثمة أيضًا حالات يكون فيها التذرع بالجموع مبررًا وغير خارج عن الموضوع، وذلك عندما يكون اعتقادُ الأغلبية، أو اعتقاد النخبة المنتقاة، هو المحدِّد للحقيقة في المسألة المعْنِيَّة:

تعريفات الألفاظ مثلًا هي مسألة اصطلاحية تتوقف على ما اتفق عليه عموم الأشخاص في جماعة لغوية معينة.

الاستخدام القياسي للرموز في جماعة بعينها هو أمرٌ يتوقف على اتفاق الناس ككتلة وحشد.

صيحات الأزياء وغيرها من الموضات في شتى المجالات هي، بحكم التعريف، ميل الأغلبية من الناس، أو ميل سراة الناس وصفوتهم، في مجال معين في زمن معين.

التوجه السياسي في البلاد الديمقراطية يحدده الشعب بوصفه شعبًا، ومِن ثَمَّ فلا مفرَّ في هذا المجال من الاحتكام إلى الاقتراع العام والاحتكام إلى اختيار الأغلبية، «تستند هذه الأشكال السياسية الديمقراطية إلى فكرة أنه ليس هناك فردٌ بلغ من الحكمة أن يعرف للآخرين مصالحهم ووسائل سعادتهم وخيرهم أكثر منهم وأن يفرضها عليهم بغير رضاهم، كل فرد يتأثر في فعله ومتعته بحالته المترتبة على النظام السياسي الذي يعيش في ظله، ومِن ثَمَّ فإن له حقًّا في تحديد هذا النظام.»

(1)

(1)

جون ديوي، «دفاع عن الديمقراطية» ، في «الفلسفة وقضايا العصر» الجزء الثاني، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، الألف كتاب الثاني 39، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، ص 24.

ص: 95

الفصل العاشر

الاحتكام إلى القوة (منطق العصا، اللجوء إلى التهديد)

ad baculum; appeal to force

جلوا صارمًا وتلوا باطلًا

وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم

المعري

ليست هذه هي الطريقة التي ينبغي على الكائن العاقل أن يعتنق بها الحقيقة، ليس هذا عرفانًا بالحقيقة، وما الحقيقةُ التي يُعتقَد بها على هذا النحو سوى خرافةٍ كبيرةٍ التصقَتْ بالمصادفة بالألفاظ التي تُشير إلى حقيقة.

جون ستيوارت مِل، عن الحرية

إلى أوكسفورد أرسل الملك فرقةً من الفرسان؛

لأن التوريين لا يعرفون الحجةَ بل القوة،

وإلى كمبردج أرسل نفس القدر كتبًا؛

لأن الهوجيين لا يُسَلِّمون بالقوة بل بالحجة.

وليم براون

ص: 97

حين يقول ستالين: «ارقُص» فإن الرجلَ الحكيمَ يرقص.

خروتشوف

***

ليست الحرية شيئًا «يُضاف» إلى الفكر، فيكون لدينا فكرٌ حرٌّ بعد أن كان لدينا فكرٌ غير حر، فالفكر الحقيقي لا يكون إلا حرًّا، الفكر حرٌّ بحُكم ماهيته وحكم تعريفه، الحرية ليست «محمولًا» predicate للفكر بل «كيفية وجود» أو «أسلوب كينونة» ، الحرية ليست شيئًا «يَعرِض» للفكر بل هي شيءٌ «يَكُونه» ! بدون حرية أنت لا تفكر

بل تُردِّد وتُكرِّر

وتصفر كجنادب الليل

وتبيع إحدى جوارحك كالبغيِّ لتشتري السلامةَ، والفكر غير الحر ليس فكرًا، وإنما هو ک «النقطة الممتدة» و «المربع المستدير»

تناقضٌ ذاتي.

(1)

تعني كلمة baculum باللاتينية: العصا، ومن ثم تعني هذه المغالطة اللجوء إلى التهديد والوعيد من أجل إثبات دعوى لا تتصل منطقيًّا بانفعال الخشية والرعب الذي تهيب به، تقبع في صميم هذه المغالطة فكرة «القوة تصنع الحق» might makes right، وهي مغالطة لأن التهديد يعمل على مستوى دافعي مغاير لمستوى القناعة الفكرية، بوسعك أن تفرض السلوك القويم بالقوة، ولكن ليس بوسع أحد قط أن يفرض الرأي العقلي بالقوة، وإن ألف سيفٍ مُصْلَتٍ على رقبتك لن تنهض لك دليلًا على أن اثنين واثنين تساوي خمسة مثلًا! قد تشتري رقبتَكَ بالطبع وتُسَلِّم للمأفونين بأنها لكذلك، ولكن الانصياع لا يعني الاقتناع.

(1)

مع الاعتذار لأساطين مدرسة الارتياب في الهرمنيوطيقا: ماركس ونيتشه وفرويد، الذين أعلنوا زيفَ الوعي نفسه، وفضحوا حيلَ الوعي المباشر وأزالوا عنها القناع، والاعتذار ليورجين هابرماس الذي يذهب إلى أن اللغة كيانٌ أيديولوجي يختزن في قلبه الزيف والخرافة والاستلاب، وأن تشويهات اللغة لا تأتي من استعمال اللغة بل من ارتباطها بالعمل وبالسلطة، وهو ارتباط يظل أعضاء المجتمع غافلين عنه وغير متفطنين إليه، الأمر إذن ينطوي على تشويه منظم للفهم وليس مجرد سوء فهم.

فالحق أن ليس ثمة تناقض بين هذا الحديث وبين ما قلناه هنا عن الصبغة الأنطولوجية للحرية بالنسبة للفكر، ذلك أن حديث هؤلاء يجول في مستوًى آخر لا يصطدم ولا يتقاطع مع حديثنا (انظر في ذلك وفي غيره، كتابنا «فهم الفهم»، دار النهضة العربية، بيروت، 2003، ص 287 - 348).

ص: 98

هكذا فَعَل جاليليو حين أذعن للتفتيش وآثَرَ السلامة، وبقيت الأرض تدور في مِلَّته واعتقاده حيث لا تفتيش ثم ولا محاكم، وهذا ما لم يفعله جيوردانو برونو G.Bruno (1548 - 1600) من قبله، فقد ذهب برونو إلى أن هناك أنظمةً شمسية عديدة تسبح في فضاء لا نهائي، وهَدَّدته الكنيسةُ بالموت ما لم يغير آراءه، إلا أنه لم يرضخ لمنطق العصا، وآثر الموت حرقًا على الخازوق عام 1600.

‌أمثلة

(1)

ينبغي أن توافق على السياسة الجديدة للشركة، هذا إذا كنت تريد أن تحتفظ بوظيفتك.

(2)

هناك براهين وفيرةٌ على صدق الكتاب المقدس، وكل من يرفض التسليم بهذا الصدق سيكون مصيره العذاب.

(3)

أتعرف يا دكتور أدهم أني بحاجة إلى تقدير «ممتاز» في هذه المادة؟ يسرني أن أمُرَّ عليك فيما بعد لنتحدث في ذلك، إنني سأكون بجوار مكتبك على أيِّ حال أزور والدي، إنه عميدُ كليتك بالمناسبة، مع السلامة، أراك بخير.

يمكن تجريد مغالطة العصا في الصورة التالية:

اقبل الحجةَ «أ» وإلا فإن الحدث «س» سوف يحدث

الحدث «س» مؤذٍ أو مدمِّر أو مهدِّد

إذن الحجة «أ» حجة سديدة.

غنيٌّ عن البيان هنا أن القياس خاطئ بل عابِث، وأن انفعال الخوف أو الرعب الذي يثيره ليس من جنس الحجة ولا من عنصر البرهان، ومِن ثَمَّ فإنه لا يمس القضية التي يريد دَحضَها ولا تتقابل قرونهما في نِطاح،

(1)

لا معنى على الإطلاق لأن تفرض رأيًا

(1)

الحق أن بعض المناطقة قد ذهب إلى أنه ما دام ضرب الخصم بالعصا ليس «حجة» أصلًا، فضلًا عن أن يكون «حجة مغالِطة» ، فلا ينبغي أن تُدْرَجَ ال ad baculum بين المغالطات المنطقية، انظر في ذلك: John Woods and Douglas Walton: "ad baculum"، Grazer Philosophical Studies، 2 (1976)، pp. 133 - 140.

ص: 99

بالقوة؛ لأن بين القوة والرأي فجوةً لا تُعبر، تُذكِّرنا ب «فجوة هيوم» بين عالم القيمة وعالم الوقائع من حيث تَبايُنُ العالمين واستحالة العبور من أحدهما إلى الآخر.

(1) متى تكون العصا صائبةً منطقيًّا؟

قد يكون التهديد، أو التذكير بالخطر، صائبًا منطقيًّا، وذلك حين يكون ذا صلة مباشرة بنتيجة الحجة، أو حين يكون الخطرُ هو نفسه موضوع الحجة:

مثال 1: «توقفوا عن التجارب النووية في هذه المنطقة القريبة من القطب؛ لأنها ربما تُعقِبُ زلازلَ وفيضاناتٍ وإشعاعات.»

في هذا المثال يناهض أنصارُ البيئة إجراء التجارب النووية، وفيه نجد أن الخطر متصل منطقيًّا بالحجة؛ لأن احتمال حدوث النتائج الخطرة هنا مترتبٌ سببيًّا وليس صادرًا عن قرار أو توجيه.

مثال 2: «ذاكر جيدًا وإلا انخفضت درجاتُك.»

•••

من المؤسف حقًّا أن شطرًا كبيرًا من الحوار عندما لم يَعُد محتكمًا إلى العقل بل إلى العصا، إنه أقرب إلى لعبة «التحطيب» منه إلى لعبة الجدل، فنحن لا ننظر إلى الاختلاف في الرأي على أنه ثراءٌ وخصب، بل على أنه انحرافٌ وخيانة، وما نزال نُلوِّح بالعصا كلما أعوَزَتنا الحجة، ومن المؤسف في أمر العصا أن التهديدات، الصريحة أو المستترة، الظاهرة أو المقدَّرة، بوسعها أن تخلق وهمًا بأن امرءًا ما قد تم إقناعُه أو إفحامُه، وبوسعها أن تُخرِس الخصمَ فعلًا وتَثنيه عن المضي في الجدال، وتترك انطباعًا زائفًا بأنه قد خسر المناظرة.

العصا أفشلُ أداةٍ للإقناع، وأفشل مفتاحٍ للعقل والقلب.

واللجوء إلى العنف لدعم قضيةٍ كاللجوء إلى المِمحاة لإزالة الظل!

يوشك العنفُ أن يكون اعترافًا بغياب أي منطق وانعدام أي دليل.

بوسع العصا أن تشج الرأس وبوسعها أن تزهق الروح، ولكن هيهات لها أن تُقيم برهانًا أو تثبت حجة، وقلَّما يكون التلويح بالعصا سببًا لاعتقاد أيِّ شيء، فهو في أمثل الأحوال «وازع» أو «دافع» لتغيير السلوك لا لتغيير الرأي، وكثيرًا ما يدفع الناس إلى

ص: 100

التظاهر باعتقاد ما لا يعتقدونه، فالتهديد، كما أسلفنا، ليس من فصيلة الحجة، ومِن ثَمَّ فهو لا يُخلف الاعتقاد بل النفاق، ولا يؤتي من الثمار إلا أنكدَها، هكذا تتجلَّى لنا روعةُ الآية الكريمة التي تحسم أمرَ التهديد حسمًا منطقيًّا سديدًا، ولا توليه إلا استفهامًا «إنكاريًّا» ساخرًا:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).

ص: 101

الفصل الحادي عشر

الاحتكام إلى النتائج

ad consequentiam appeal to consequences

إن كايوس فانٍ حقًّا، وإن حقًّا عليه أن يموت، أما أنا

إيفان إليش، بكل أفكاري وعواطفي، فشيءٌ مختلفٌ تمامًا، إن من المستبعَد أنني ينبغي أن أموت، إن ذلك لَيكون شيئًا مرعبًا غاية الرعب.

تولستوي، موت إيفان إليش

الحقيقة ليست ملزمةً بأن تتَّبع أهواءنا، وإنما نحن الملزمون بأن نُتَّبعَ الحقيقة.

***

ليس الفكرُ عبدًا «يُخدِّم» على أهوائنا ويدغدغ أمانينا، ويعمل على راحتنا واسترخائنا، وإنما هو «وظيفة بشرية» تتعلق بِتَعرُّف الحقيقة كما هي وإماطة الوهم كيفما كان، ومِن ثَمَّ فإن من المغالطة أن نستخدم «النتائج» (العواقب، التَّبِعات، المترتَّبات، اللوازم، التوالي) consequences، السلبية أو الإيجابية، المترتبة على اعتقادٍ ما كدليلٍ على كذب هذا الاعتقاد أو صدقه.

ص: 103

يمكن تجريد الصورة المنطقية لهذه المغالطة كالتالي:

الاعتقاد بأن «ق» يؤدي إلى نتائج مرغوبة؛

حيث النتائج المرغوبة غير ذات صلة بصدق «ق» ؛

إذن «ق» صادقة.

أو كالتالي:

الاعتقاد بأن «ق» يؤدي إلى نتائج بغيضة؛

حيث النتائج البغيضة غير ذات صلة بكذب «ق» ؛

إذن «ق» كاذبة.

إن القضية الصادقة هي قضيةٌ صادقة، بغضِّ النظر عن شعورنا تجاه نتائجها، ومن الحصافة أن نُسلِّم بأن العالم لم يُفَصَّل حسب طلبنا، وأن الأشياء لا تأتي على مقاس رغباتنا ومصالحنا، وأن ما نود أن يكون عليه الحال هو أمر غير ذي صلة بما هو عليه الحال بالفعل، ليس ثمة علاقة منطقية تربط ما بين نتائج اعتقادنا في قضية ما وبين «قيمة صدق» هذه القضية (أي نصيبها من الصدق والكذب).

ربما يستدعي ذلك في الذهن قول فرويد في «محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي» : «أُوذِيَ الإنسان ثلاث مراتٍ في غروره واعتزازه بنفسه وبمكانته في العالم: كانت المرة الأولى عندما تم التحول الأكبر في عصر النهضة من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس على يد كوبرنيكوس (1473 - 1543 م) الذي افترض أن أرضنا ليست هي مركز الكون، وكان من الضروري أن يستخلص الإنسان من ذلك أنه ليس تاج الخليقة وأن العالم لم يُخلق من أجله، وكانت المرة الثانية عندما قدَّم تشارلس دارون (1809 - 1882 م) كتابه عن أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، فأثَّرت نظريته في التصور الديني بوجهٍ خاصٍّ عن كون الإنسان صورةَ الله وخليفته في الأرض، أما المرة لثالثة فكان الأذى أشد قسوةً وأعمق جرحًا، إذ جاء من جانب البحث السيكولوجي الراهن الذي يريد أن يُثبت للأنا أنها لا تملك حتى أن تكون سيدةً في بيتها الخاص، وإنما تظل معتمدةً على أنباءٍ شحيحةٍ عما يجري بصورةٍ غير واعية في حياتها النفسية» (محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، محاضرة 18).

ص: 104

‌أمثلة

(1)

لا بُدَّ من أن تكون «مركزية الأرض» geocentrism نظريةً صحيحة، وإلا لكان الإنسان كائنًا هامشيًّا شديد التفاهة وليس صورة الله وخليفته في الأرض.

(2)

من المؤكد أن «نظرية التطور» نظرية مغلوطة، وإلا لكان الإنسان قريبًا لبقية الحيوانات، وكان له أن يفعل فعلَها ويسلك مسلكَها.

(3)

اعتقاد الطفل في وجود بابا نويل يجعله سعيدًا ومستبشرًا ومهذبًا، إذن بابا نويل موجود.

(4)

من المحال أن تنشب حرب نووية في أيِّ وقت من الأوقات، إن ذلك كفيلٌ بأن يجعلني متوجسًا هلعًا لا أذوق للنوم طعمًا.

(1) رهان بَسكال pascal's wager

تقوم حجة الرهان الشهيرة للفيلسوف الفرنسي بليز بسكال على الموازنة بين النتائج المترتبة على الإيمان وتلك المترتبة على عدم الإيمان، وقد آثَرتُ أن أفرد لرهان بسكال عنوانًا منفصلًا؛ وذلك لأنه محل خلاف بين الفلاسفة منذ زمن طويل، فهو مغالطة أكيدة لدى البعض، وبخاصةً من أصحاب المذهب الطبيعي، وهو حجة سديدة لدى البعض الآخر، مثل وليم جيمس الذي أسهب في تبيانه في كتابه «إرادة الاعتقاد» the will to believe، يقول بسكال في «الخواطر» Les Pensées:«إما أن الله موجود أو غير موجود، ولا يملك العقل وحده أن يحسم هذا الأمر، وما دام الاختيار هنا لا بُدَّ منه فلتنظر إليه على أنه «رهان» : إذا ما راهنتَ على أن الله موجود وسلكت في حياتك وفقًا لذلك ثم ربحت ربحتَ نعيمًا أبديًّا، أما إذا خسرت فلن تخسر شيئًا يُذْكَر.»

وقد سبق لأبي العلاء المعري أن صاغ هذه الحجة عينَها صياغةً بليغةً محكمة في لزومياته إذ يقول:

قال المُنجِّم والطبيبُ كلاهما

لا تُحشر الأجساد قلتُ إليكما

إن صَحَّ قولكُما فَلَستُ بخاسرٍ

أو صحَّ قولي فالخَسارُ عليكما

يقول وليم كليفورد William K.Clifford في «أخلاق الاعتقاد» ethics of belief مُفنِّدًا حجة الرهان: «إن الإيمان يفقد قداسته إذا ما تعلق بعبارات لا دليل عليها ولم

ص: 105

توضع موضع التساؤل، لمجرد راحة المؤمن ولذته الشخصية، فلو قُبل الإيمان على أساس أدلة غير كافية فإن اللذة تكون لذة مختلَسة، حتى لو كان الإيمان صحيحًا.» يرى البعض أن المراهنة على الرب تحمل المرء على أن يختان نفسه وينتهك بذلك واجبًا «كانتيًّا» تجاه ذاته، ويُصر كليفورد على أن اعتقاد الفرد في شيءٍ بلا دليلٍ كافٍ هو أمرٌ يُؤذي المجتمع كله؛ لأنه يُعزز السذاجة ويُعدي مثلما تعدي الأوبئة! «وإنه لمن الخطأ دائمًا وفي كل مكان، ولكل شخص، أن يؤمن بأي شيء على أساس أدلة غير كافية.»

(2) متى يكون الاحتكام إلى النتائج صائبًا منطقيًّا؟

فطن الفلاسفة منذ أرسطو إلى أهمية الاحتكام إلى النتائج للمفاضلة بين القضايا المختلفة في حالة تساويها في كلِّ شيء، يقول أرسطو في «الطوبيقا»:«حين يكون شيئان من التماثل بحيث يصعب تفضيل أحدهما على الآخر فإن علينا أن نحتكم إلى نتائجهما، وذلك الشيء الذي يُفضِي إلى نتائج أفضل هو الجدير بالاختيار، أما إذا كانت نتائج كليهما شرًّا فإن علينا أن نختار أقلَّهما شرًّا.»

غير أن أرسطو، وغيره من الفلاسفة، إنما يحتكمون إلى النتائج في مجال «العقل العملي» لا النظري؛ أي حين يكون الاختيار هو بين مسارين من الفعل، أو بين نهجين من السلوك، والحق أنه من الوضوح الذي يجري مجرى البدائه ونوافل القول إن الموازنة بين الأفعال إنما يتم بالموازنة بين تَبِعاتها ونتائجها المتوقَّعة، أما إذا كان السؤال هو عن الحق أو الصواب فإن الاحتكام إلى النتائج يكون أمرًا خارجًا عن الموضوع، ومن الخطأ دائمًا أن نوجسَ من كلِّ نظرية علمية جديدة تكشف جانبًا من الحقيقة، أو نرفضَها، لا لشيءٍ إلا لأنها تتحدى قناعاتنا الثقافية، أو تجرح كبرياءنا البشرية، أو تمس عواطفنا الاجتماعية.

ص: 106

الفصل الثاني عشر

الألفاظ الملقمة: الألفاظ المشحونة (المفَخَّخَة)

Loaded words; prejudiced language; question-begging epithets

بواسطة الدعاية الذكية والمتواصلة يمكنك أن تحمل الناس على أن ترى الفردوسَ جحيمًا، والعكس أيضًا أن ترى أشقى أنماط الحياة على أنها النعيمُ المقيم.

أدولف هتلر، كفاحي

«أنا» صارم

«أنتَ» عنيد

«هو» خنزيري الرأس.

برتراند رسل

ولأني كهلٌ غروبي

فظلالي دائمًا أطول مني،

وهي أَرَقُّ مني وأدق

وأكثر نفاذًا وبثًّا،

لم أكن أتنقل إلا حاملًا خنجري تحت العباءة

ص: 107

ترافقني ظلالي الطويلة،

وتلازمني حاشيةٌ هائلة.

توبة اللفظ

***

لكل لفظٍ من ألفاظ اللغة ضربان من المعنى أو الدلالة: المعنى الحقيقي (المباشر/ الإشاري/ المعجمي/ الأوَّلي) denotation والمعنى الضمني (الإضافي/ الإيحائي/ الثانوي) connotation، أما المعنى الحقيقي فهو المعنى الذي يُعبر عن العلاقة الموضوعية بين اللفظ والواقع الذي يشير إليه: فمعنى كلمة «زهرة» هو ذلك الجزء من النبات الذي يضطلع بإنتاج البذور، ويُعبر عن طور من أطوار نموه، ومعنى كلمة «وردي» هو لون ذو خصائص فيزيائية محددة، وأما المعنى الضمني فهو المتضمنات الانفعالية والتقويمية التي يستحضرها المعنى في الذهن والتي تعبر عن الجانب الشخصي من المعنى، وربما تختلف من شخص لآخر ومن جماعة لأخرى، فكلمة «باص» على سبيل المثال قد تستدعي في أذهان البعض انطباعاتٍ من قبيل الرخص، الازدحام، الفقر

وقد تستدعي في أذهان التلامذة معاني الراحة والمرح والزمالة، غير أن المتضمنات تكون مشتركة في أغلب الأحوال؛ وذلك لِتَشارُك الناس في كثير من الخبرات وظروف المعيشة، من ذلك أن كلمة «وسط المدينة» تستدعي في ذهن معظم الناس متضمناتٍ من قبيل: الصخب، الزحام، الإثارة، التراب، اللهو، الذنب

إلخ.

حين أقول «هذا كَذِبٌ» فإن ما أقوله هو عبارةٌ بسيطةٌ من حيث الصيغة اللغوية، غير أنها بساطةٌ خادعة: فإذا ما قمنا بتحليل لمعنى العبارة «ق كذب» وجدنا أنها تَصدُق إذا ما توافرت الشروطُ الأربعة التالية:

(1)

«ق» غير صادقة.

(2)

قائل «ق» يعرف أنها غير صادقة،

(3)

القائل يقصد أن يقول «ق» ،

(4)

القائل يقصد أن يجعل المستمع يعتقد «ق» .

رغم أن كلًّا من هذه الشروط هو شرط «ضروري» necessary لمعنى كلمة «كَذِب» فإن الشروط الأربعة ليست «كافية» sufficient؛ ذلك أنها لا تفي إلا بالمعنى

ص: 108

الإشاري المباشر denotation لكلمة «كَذِب» ، ويظل هناك نطاق عريض لمعانٍ إضافية ضمنية connotation، فالمرء لا يمكن أن يكون جادًّا في قوله «هذا كذب» ما لم يَعمِد أيضًا إلى إهانة القائل ووصمه وتقريعه؛ ومِن ثَمَّ فكلمة «كذب» تعني أيضًا، فيما تعني، الازدراء، السخط، الإدانة، الشجب، الردع

إلخ.

تلك هي الوظيفة «الإيعازية» perlocutionary للغة، التي تحدث عنها جون أوستن J.Austin (1911 - 1960 م) رائد نظرية «أفعال الكلام» speech acts. في هذا المستوى من الأفعال الكلامية يريد القائل من قوله أن يُحدِث تأثيرات في المتلقي: إقناعًا، خشية، رهبة، ردعًا، إسخاطًا

إلخ.

وتلك أيضًا هي الوظيفة الانفعالية emotive function للغة، التي تحدث عنها أوجدن ورتشاردز، ومنذ أن أشارا إلى أهمية الوظيفة الانفعالية للغة في كتابهما «معنى المعنى» تخلَّقَ اتجاهٌ إلى شجب المصاحِبات الانفعالية المحتومة للكلمات والجزع من كثرة الظلال الإضافية للألفاظ كمصدرٍ للزلل والمغالطة، وما تَقَدَّم العلمُ تقدمًا متصلًا إلا لالتماسه لغةً محايدةً دقيقة للتواصل، وتَخلِّيه عن المتضمنات العاطفية والخيالية للألفاظ في لغته ومعادلاته، وقد أدرك المفكرون أهمية أن تحذو المناقشات السياسية والدراسات الإنسانية في ذلك حذوَ العلم، وتشيِّد نماذج لغويةً خاليةً من الضوضاء الانفعالية قدر المستطاع، ومنذ أفلاطون، في حقيقة الأمر، نهضت تياراتٌ تستنكر ميلَ البشر إلى الاستمالة العاطفية بدلًا من الإقناع العقلي، وتُحذِّر من إساءة استخدام الوظيفة الانفعالية للغة في إعاقة التفكير المنطقي والتعتيم على الحقيقة، وفي زمننا المعاصر عَلَت صيحاتٌ مدوية ضد «الألفاظ الملونة» colored words وضد «استبداد الكلمات» tyranny of words.

حين تكون اللفظةُ محمَّلةً بمتضمناتٍ انفعالية وتقويمية زائدة، بالإضافة إلى معناها المباشر، يقال لها «لفظة مُلقَمة» loaded word أو مشحونة، فالكلمة الملقمة مثل البندقية الملقمة بالذخيرة، والمعنى الانفعالي أو التقويمي هو الرصاصة، حين أستعمل لفظة «بهيمة» بدلًا من «حيوان» ، ولفظة «رشوة» بدلًا من «حافز»

إلخ، فأنا عندئذٍ أستخدم ألفاظًا ملقمة تفعل فعلًا آخر غيرَ مجردِ رصد الحالة الموضوعية: إنها تحكُمُ وتقوِّم وتحرِّض وتُوعز، انظر أيضًا في هذه القائمة من الكلمات:

صارم

عنيد

واثق

متعجرف

ص: 109

ودود

مداهِن

مجامِل

متملِّق

متساهل

متسيِّب

سهو

إهمال

كائن متعايش

طفيل

مجتمعٌ نامٍ

مجتمع متخلف

بدائي

همجي

بسيط

ساذج

يقول

يدَّعي

مدقِّق

مُوسْوس

ليست كل لغة مشحونة هي لغة مغالطة بالضرورة، وإلا لكان كثير من الدراسات، وكل الأدب والشعر، ركامًا من المغالطات! ونحن نريد، في حقيقة الأمر، أن نكون قادرين في بعض الأحيان أن نُسَخِّر الطاقات الانفعالية والخيالية للكلمات في خدمة الحقيقة، نريد أن نقول للقتلة الدمويين: أنتم سفاحون مجرمون، ولا نقول: أنتم حراس النظام الجديد ومبطلو الثورة المضادة! ونريد أن نقول للإرهابي: أنت أناني مشوَّش تتوهم حلًّا سحريًّا لمأزقك الوجودي وتُؤمِّن لنفسك مستقبلًا أخرويًّا على حساب غيرك. وأن نقول للمتزمتين: أنتم تغالبون ربكم، وتريدون إزالة اللون من لوحة الدنيا، وأن تجعلوا الحياة هامشًا سمجًا على متن الموت.

ما أتعسنا حقًّا لو تخلينا عن انفعالية اللغة وقصَصنا أجنحة الكلمات، وكم تَرِينُ البلادة على أحاديثنا لو أننا توخينا الحيادَ العلمي في كلِّ شيء، وبدلًا من أن نقول مع الشاعر (الشريف الرضي):

وتلَفَّتت عيني فمذ خَفِيت

عني الطلولُ تلفَّت القلبُ

قلنا (وما أبْلَدَنا إذ نقول): وبقيت أدرك الأطلال بحاسة البصر، فلما أصبحت خارج مجالي البصري بدأت أستدعيها في الذاكرة.

ص: 110

ومهما يكن من شيءٍ فإن الألفاظ المشحونة كثيرًا ما تكون فخاخًا منطقية تدفع المرءَ إلى أن يقفز إلى استنتاجاتٍ تقويمية غير مشروعة، وتأتي المغالطة حين يستخدم المجادِلُ ألفاظًا مشحونةً بدلًا من الحجة، أو حين يتأثر المتلقي باللغة الملونة التي تغلَّف بها الحجة بدلًا من أن يلتفت إلى مناقب الحجة بحد ذاتها.

‌أمثلة

(1)

يَدَّعي السيد نبيل سالم أن التصدير سوف يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. (لاحظ أن كلمة «يدعي» تفترض ضمنًا أن ما يقوله السيد نبيل كاذب أو باطل.)

(2)

بديه أن يجدَ اقتراحُنا رفضًا من البيروقراطية الحكومية. (قارن: بديه أن يجد اقتراحنا رفضًا من مسئولي الحكومة.)

(3)

كل عاقل في هذا البلد يعرف أن الإجراءات المُتخذة لا تصب في مصلحة المواطن. (لاحظ أن كلمة «عاقل» قد صادرت بصواب العبارة المطروحة.)

(4)

مرة ثانية تُضبَط إنجلترا وهي تتملق الديكتاتوريات. (قارن: مرة ثانية نرى إنجلترا تَعمِد إلى أن تحتفظ بعلاقات ود مع الأنظمة المتشددة.)

(5)

سرقت اسكتلندا هدفًا في الشوط الأول، ولكن إنجلترا في الشوط الثاني نشطت واستفاقت، وتُوِّجت جهودُها بهدف. (بوسعك بالطبع أن تتعرف على انتماء المعلِّق.)

(6)

بوسع الجماهير أن تفرق بين رشاوى مرشحي العُمَّال وعربونات مرشحي المحافظين.

(7)

ألستَ متأثرًا بالقضية العادلة التي يلهج بها ألوف المتظاهرين الواعين بالخارج؟ هيهات أن أنجرف بثُغاء حشدٍ من الغوغاء!

(1) النعوت المصادِرة على المطلوب

من البَيِّن أن اللغة المشحونة تنطوي دائمًا على «مصادرة على المطلوب» begging the question؛ لأنها تفترض مسبقًا حكمًا تقويميًّا لم تتم البرهنة عليه بعد؛ ولذا كان جِريمي بنتام J.Bentham يُطلق على هذه المغالطة اسم «النعوت المُصادِرة على المطلوب» question-begging epithets، إنها تَدسُّ مواقفَ انفعاليةً في داخل العبارة التي تحملها، وهذه المواقف ليست جزءًا من الحُجة، وإنما جرَى استدعاؤها على نحوٍ

ص: 111

غير مشروع لكي تؤتي أثرًا ما كان للحجة أن تؤتيه بمفردها، وبعبارةٍ أخرى تُعَد هذه المواقف الانفعالية غير ذات صلة بقيمة صدق العبارة؛ أي بتأسيس صدق العبارة المطروحة أو كذبها.

وصفوة القول أنَّ الحجة السديدة تتطلب أن يبذلَ المرءُ جهدًا واعيًا لكي يصوغَ حجتَه صياغة محايدة قدر المستطاع، بحيث تقف حجتُه على قدميها ولا تتوكأ على عكازاتٍ انفعالية وتقويمية مقحَمة عليها ومن غير جنسها.

ص: 112

الفصل الثالث عشر

المنحدر الزلِق (أنف الجَمَل)

slippery slope; camel's nose

قال البدوي لنفسه: «إذا تركتُ الجملَ يدس أنفَه في خيمتي في هذه الليلة الباردة، فإنه يُوشك بعد ذلك أن يدس رأسَه كله، ثم لا يلبث أن يدسَّ رقبتَه، وسرعان ما أجِدُ الجملَ برمَّته وقد اقتحم عليَّ الخيمة.»

***

هكذا شيَّد البدويُّ في خياله سيناريو تنتهي فيه الأحداث أسوأ نهاية، وتُفضي إلى كارثةٍ تَزَعه أن يتخذ الخطوة الأولى.

تعني مغالطة المنحدر الزلق أن فعلًا ما، ضئيلًا أو تافهًا بحد ذاته، سوف يجر وراءه سلسلةً محتومة من العواقب تُؤدي في نهاية المطاف إلى نتيجة كارثية، كل حدث في هذه السلسلة هو نتيجة ضرورية لما قبله وسبب للحدث الذي يليه، الأمر هنا أشبه بخطوات الشيطان إذا خطوت منها خطوةً واحدة فسوف تتبعها خطوات تنتهي بك إلى الجحيم ضربةَ لازب، أو أشبه بالتفاعل الذري المتسلسل إذا بدأ فسوف يمضي في تتابع لا مَرَدَّ له ينتهي بانفجارٍ نووي هائل، أو أشبه بالمنحدر الزلق يكفي أن تطأه وطأةً واحدةً حتى تَزلَّ قدمُك وتَهوِي مترديًا إلى القاع.

ص: 113

إن الحذرَ وجيهٌ تمامًا إذا انطبقت هذه التشبيهات، غير أنها في مغالطة المنحدر الزلق لا تنطبق (وإلا لما كانت مغالطة)، ويمكننا تجريد الصورة المنطقية لهذه المغالطة كالتالي:

إذا كان «أ» كان «ب» ،

إذا كان «ب» كان «ج» ،

وهكذا حتى «ن» .

(حيث «ن» نتيجة كارثية، وحيث لا يوجد لزوم منطقي في موضع أو أكثر من السلسلة المفترضة، ولا يوجد سبب لافتراض أننا لا يمكننا أن نتوقف ببساطة عند نقطة ما في هذا المنحدر.)

‌أمثلة

(1)

إذا استثنَيتُكَ أنتَ من هذا القرار فسوف يكون عليَّ أن أستثني الجميع.

(2)

إذا أقرضتُكَ جنيهًا اليوم، فسوف تقترض مني غدًا جنيهين، ثم عشرة جنيهات، ولن يمضي وقتٌ طويل حتى تقترض مني ألوفًا وتأتي على كل ثروتي.

(3)

إذا سمحنا اليوم ببعض الضوابط القانونية على الحديث العام أو الكتابة الصحفية، فسوف نسمح غدًا بمزيدٍ من القيود، وهكذا حتى يأتي اليوم الذي نجد أنفسنا فيه نعيش في ظل دولةٍ بوليسية فاشية.

(4)

إذا سمحنا للناس باختيار نوع الجنين، فسوف نسمح لهم غدًا باختيار لون عينيه وشعره، وما نزال نترخَّص في هذا الأمر حتى نسمح لهم بإنسال أطفالٍ بمواصفاتٍ حسب الطلب.

(5)

إذا أكلت أيس كريم جالاكسي فسوف يزداد وزنُك، وزيادة وزنك باطِّرادٍ تعني أنك تصاب بالسمنة، وما تزال السمنة تتفاقم حتى تموت بانسداد الشريان التاجي، إذن أيس كريم جالاكسي يُسبب الوفاة فلا تقربه.

(6)

ينبغي أن يبقى اختيار المقررات التي تُدرَّس بالجامعات أمرًا متروكًا للأساتذة؛ لأننا إذا سمحنا لرغبات الطلبة بالتأثير في هذا الاختيار فسوف يتصورون أنهم يُديرون التعليم، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى انهيار النظام، وسرعان ما نجدنا بإزاء جامعات لا تُعلِّم شيئًا.

ص: 114

الفصل الرابع عشر

الإحراج الزائف (القسمة الثنائية الزائفة)

false dilemma; bifurcation; black and white fallacy

«أبيض» أو «أسود»

عكازان يتوكأ عليهما كلُّ ذهنٍ مُقْعَد،

عاجزٍ عن التحليق في الفضاء الحقيقي

الرمادي.

***

يقعُ المرء في هذه المغالطة عندما يبني حجتَه على افتراضِ أن هناك خيارين فقط أو نتيجتين ممكنتين لا أكثر، بينما هناك خيارات أو نتائج أخرى، إنه يغلق عالَمَ البدائل الممكنة أو الاحتمالات الخاصة بموقفٍ ما، مبقيًا على خيارين اثنين لا ثالث لهما، أحدُهما واضحُ البطلان والثاني هو رأيُه دامَ فضلُه.

‌أمثلة

(1)

إما أنك معنا وإما أنك ضدنا.

(2)

America love it or leave it.

(3)

إما أن توافق على خفض الضرائب، وإما أن تكون راضيًا عن الخراب العاجل الذي سيحيق بهذا البلد.

ص: 115

(4)

إما أن تشن معنا هذه الحرب من أجل الحفاظ على منهجنا في الحياة، وإما أن تكون خائنًا جبانًا.

(5)

إما أن توافق على خفض الدعم الحكومي، وإما أن تكون سعيدًا بفشلنا في علاج عجز الميزانية.

(6)

إما أن تستعمل صابون دوف، وإما أن تُعرِّض جلدك لضروب خطيرة من التهيج والحساسية.

(7)

إما أن نفرض حظرًا على «س» من الأمور، وإما أن نترك شخصيتنا ومنظومتنا الحياتية مهددة بالخطر.

(8)

علينا أن نُبِيحَ الإجهاض دون قيدٍ أو شرط، وإلا فإننا نرغم الأطفال على أن ينشئوا في كنف آباء لا يريدونهم.

(9)

إما أن نُسرِّح نصف الموظفين وإِمَّا أن تفلس الدولة قبل يناير القادم.

(10)

إما أنني موهوبٌ بقدراتٍ نفسية خارقة، وإما أنني دجَّال مخادع، ولكنني لست دجالًا ولم أخدع في حياتي أحدًا قط! (هناك احتمالٌ ثالثٌ تم إغفاله: وهو أن أكون موهومًا.)

(11)

إما أن يكون هذا الشاهد قد رأى حقًّا مخلوقات فضائية، وإما أن يكون مجنونًا، ولكنه غير مجنونٍ، ولم نعرف عنه ولا شهدنا من تصرفاته ما ينم على أيِّ خلل ذهني على الإطلاق.

(12)

إما أن تكون هذه السيدة قد اختُطفت حقًّا في أطباقٍ طائرة وأعيدَت ثانيةً إلى الأرض، وإما أنها تُعاني من ذُهانٍ متقدِّم، ولكنها في تمام العقل والاتزان وملتزمة في عملها ولم يسبق لها قَط أن أدخِلت إلى مصحة للأمراض العقلية.

تروج هذه المغالطة بصفة خاصة في أقوال الباعة ومندوبي الدعاية الذين يُضَيِّقون على العميل نطاقَ الخيارات حتى لا يبقى له خيارٌ إلا في سلعتهم المعروضة؛ وتروج على ألسنة السياسيين الذين يُحيلون كل من ليس مواليًا لهم إلى عدوٍّ مبين، ولا يتركون خانةً للحياديين مثلًا في منظومتهم التصنيفية المتصوَّرة؛ وتروج في خطاب المتطرفين الدينيين على اختلاف مشاربهم، أولئك الذين يُقدِّمون للسذج وكسالى العقل تأويلًا للعالم مفرطًا في التبسيط والتسطيح والزيف والتشويه.

ص: 116

يمكن تجريد الصورة المنطقية للإحراج الزائف كما يلي:

إما «ق» وإما «ك» ،

لا «ق» ؛

إذن «ك» .

من الواضح أن هذا القياس صحيح بحد ذاته ولا غبار عليه، مثال ذلك:

إما أن سليمان ميت وإما أنه حي،

سليمان ليس ميتًا؛

إذن سليمان حي.

ومثال آخر:

إما أن عمرَ لديه رخصةُ قيادة وإما أنه غير مسموح له بالقيادة،

عمر لم يحصل على رخصة قيادة؛

إذن عمر غير مسموح له بالقيادة.

ويأتي الخللُ دائمًا إذا كانت «ق» و «ك» لا تَستغرقان جميعَ الاحتمالات القائمة بحيث يحق لنا تجريدُ الصورة المنطقية للإحراج الزائف، بُغْيَةَ الإيضاح والدقة، كما يلي:

(1)

إما أن تختار «ق» وإما أن تختار «ك» ،

(2)

ليس هناك اختيارات أخرى،

(3)

لا يمكنك أن تختار «ق» ؛

إذن لا بديل لك من أن تختار «ك» .

ويكمن الخلل هنا في كذب المقدمة 2؛ ومِن ثَمَّ لا يلزمك لكي تفند للخصم حجته وتظهره على خطئه سوى أن تكشف له هذه المقدمة المضمرة أو الافتراض المسبق: «ليس هناك بدائل أخرى» ، وتخرجه إلى واضحة النهار.

حين يعم الاستقطاب الذهني ويتواتر يصبح سمةً شخصيةً تميز الفرد، أو أيديولوجية جمعية تميز الجماعة، وهو على المستويين لا يورِث إلا العجز والجمود، يقول د. آرون بك رائد العلاج المعرفي: «يميل العصابيُّ إلى التطرف والشطط في التفكير حين

ص: 117

تكتنفه مواقفُ تمس الجوانب الحساسة من نفسه، مثل تقديره لذاته في حالة الاكتئاب، واحتمالات الخطر الشخصي في حالة عصاب القلق، وقد يقتصر الشطط الفكري على مناطق قليلة، ويعني الشطط (التطرف الفكري thinking in extremes) أن نَسِمَ الأحداث والوقائع بأنها بيضاء أو سوداء، حسنة أو سيئة، رائعة أو فظيعة، وقد أُطلِق على هذه الخاصة اسم «التفكير المنقسم» dichotomous thinking أو «التفكير ثنائي القطبية» bipolar thinking، شأن المقدمات الأساسية التحتية لهذا النوع من التفكير أن تصاغ في حدود مطلقة مثل «دائمًا» أو «مطلقًا»

(1)

ويتجلَّى الاستقطابُ الذهني الجمعي في أوضح صورة في ظاهرة العنصرية أو ما يعرف بمركزية العِرق ethnocentrism، وتعني مركزية العِرق النظر إلى الأشياء على أن جماعتنا هي محور كل شيء والإطار المرجعي الذي يُقاس عليه كل شيء آخر وتقيَّم به كل الجماعات الأخرى: جماعتنا هي الصواب وغيرها الخطأ

هي الحق وغيرها الباطل، هذه العنصرية الصميمة هي التي تحمل كل شعب على أن يغلو في أية عناصر يجدها خاصة به وحده ومميزة له عن الآخرين، وهذا الاستقطاب الذهني هو الذي يُفضِي بالحضارات إلى التجمد والذبول، وهو الذي يذكي الضغائن بين الجماعات المختلفة ويورطها في صراعات منهِكة ويزجي بها إلى حروبٍ مقدسةٍ في وهم الطرفين، ويعطلها في هذا العصر عن الاندماج في المجتمع الكوكبي الجديد. إن أول ما يحيد بالجماعات عن المنطق السديد وعن الاندماج الجديد هو التفكير المستقطب: عقلية «نحن-مقابل-هم» ، حيث يُقيَّم كل طرفٍ بتبسيطٍ مفرِط: فإما خيرٌ كله وإما شرٌّ كله.

(2)

(1)

آرون بك، «العلاج المعرفي والاضطرابات الانفعالية» ، ترجمة: د. عادل مصطفى، دار النهضة العربية، بيروت، 2000، ص 100.

(2)

Greenspan، S.I. (1997).The growth of the mind and the endangered origins of intelligence.Readings، MA: Addison Wesleg.

ص: 118

الفصل الخامس عشر

السبب الزائف (أخْذُ ما ليس بعلةٍ عِلةً)

false cause; non causa pro causa

تتقاطَرُ الأحداثُ في الزمان،

لا تأبَقُ منه

موثوقةً بآناتها دائمًا،

ولكن غير موثوقة بجاراتها بالضرورة.

***

(1) لماذا تحدُثُ الأشياء؟

يميل البشرُ بطبيعتهم إلى تفسير الأحداث وإدراك سببها؛ ولذلك أسَّسُوا العلم، الأصيلَ منه والزائف. ما سببُ المرض؟ ما سبب الدمار، والحروب، والكسوف والخسوف، والزلازل، والأعاصير، والركود الاقتصادي

؟ إن في جِبلَّة العقل البشري أن يربط الأشياء لِتُكوِّن نمطًا أو هيئةً أو شكلًا، وأن يصل النقاطَ المنفصلة، ويملأ الثغرات، لِيَستوِي له نمطٌ ذو معنى لديه، وهو يرتبك ويتأزم إذا لم يميز أنماطًا؛ لأن به ولوعًا بالتنبؤ، ورغبةً في السيطرة على الأحداث.

ص: 119

تَطَّرِد الأحداثُ أمام الإدراك البشري في أنماطٍ معينة من التصاحب والتعاقب والتجاور في المكان والزمان، فيَسْتَلُّ من ذلك «علاقات ارتباط» تثير فيه عادة «التوقع» ، وقد تترسخ فيه عادة التوقع فتحول علاقة «الارتباط» correlation إلى «عِلِّية» (سببية) causality،

(1)

فكلما ارتبط حدثان معًا في الزمان والمكان كان ذلك دليلًا عنده على أن أحدهما «عِلَّة» (سبب) cause للآخر، وكلما تَعاقَب حدثان كان سابقُهما سببًا للاحق.

كل ذلك حسنٌ وجميل، وهل العمل العلمي، في شطرٍ كبيرٍ منه إلا اقتفاء للارتباطات التجريبية وتشييد نظريات علمية تفسر هذه الارتباطات بلغة الضرورة القانونية nomic necessity؟

(2)

تأتي المغالطة، على كل حال، عندما يخلط العقل بين «المعية» togetherness/ association و «السببية» causality، ويجعل مجرد الارتباط بين حدثين دليلًا على أن أحدهما سبب للآخر، دون أي بَيِّنةٍ أبعد من ذلك cum hoc ergo propter hoc.

إن إثبات وجود علاقة سببية بين حدثين يستلزم أكثر من مجرد الارتباط: يستلزم الاطِّراد الدائم، والارتباط الدائم بين نمطي الحدثين، إيجابًا وسلبًا، وعدم وجود أي أمثلة مضادة، ذلك أن مجرد «المعية» قد يكون مَرَدُّه إلى:

(1)

المصادفة البحتة coincidence.

(2)

وجود سببٍ ثالثٍ أعم من وراء كلا الحدثين، وتسمى المغالطة عندئذ:«إغفال سببٍ مشترك» ignoring a common cause، أو «المعلول المزدوج» joint effect.

(3)

كما أن الاتجاه الحقيقي للعلاقة السببية قد يكون معكوسًا، وتسمى المغالطة هنا:«الاتجاه الخطأ» wrong direction.

(1)

جرى الاتفاق مؤخرًا على أن تُترجَم كلمة cause إلى «عِلَّة» بمعنى سبب طبيعي، وتُترجَم كلمة reason إلى «سبب» بمعنى سبب عقلي.

(2)

تُوصَف التفسيرات العلمية عادةً بأنها تفسيراتٌ سببية، على أن هناك فصيلًا من الفلاسفة، هم الوضعيون، يرون أن العلم يتعيَّن عليه أن يكشف الارتباطات correlations (ويصوغها صياغة رياضية قدر المستطاع) وليس عليه أن يحدد أسبابًا، وأما من وجهة النظر القياسية التي ترى أن العلم يُقدِّم تفسيرًا عميقًا للظواهر السطحية، فالتفسيرات العلمية هي تفسيرات سببية قلبًا وقالبًا، على أننا ينبغي ألا نغفل أن بعض التطورات في الفيزياء الحديثة قد كشفت عن أن الضرورة السببية (وتُسمَّى أحيانًا بالحتمية العِلِّية) لا تنسحب على البنية الصغرى (تحت الذرية) للعالم الفيزيائي، وهي ذلك المستوى من الواقع الذي تضطلع بدراسته ميكانيكا الكوانتم.

ص: 120

(2) الخلط بين السببية ومجرد المصادفة

(1)

وُجِدت ارتباطات شبه تامة بين معدل الوَفَيات في حيدر أباد بالهند من 1911 إلى 1919 وبين تغييرات في عضوية الرابطة الدولية لعلماء الميكانيكا خلال نفس الفترة، ولا يمكن لأي عاقل أن يعتقد حقًّا في وجود أي شيء يتجاوز المصادفة المحضة في هذه الواقعة العجيبة (والتافهة في الوقت نفسه!)

(2)

وُجد ارتباطٌ إحصائي وثيق بين مستويات تمويل الفنون في بريطانيا وبين أعداد طائر البطريق في القطب الجنوبي!

(3)

وُجد ارتباط كبير بين أعداد طائر اللقلق في أماكن معينة من أوروبا وبين معدل المواليد من الأطفال. (من الخَطَل أن نستدِل من هذا الارتباط وحده على أن وجود طائر اللقلق سبب لولادة الأطفال!)

(3) إغفال سبب مشترك neglect of a common cause

(المعلول المزدوج joint effect)

يكثر الخلط بين المَعِية والسببية حين يتم إغفال سببٍ مشترك للحدثين كليهما؛ أي حين يكون الحدثان ناتجين عن حدثٍ ثالث، أو معلولين لعلةٍ مشتركة.

‌أمثلة

(1)

قبيل اندلاع الحروب يتزايد معدل التسليح لدى الأطراف المتصارعة؛ إذن زيادة التسليح تؤدي إلى اندلاع الحروب. (ربما يكون الصواب أن التوتر والخلاف بين الأمم يفضي إلى كل من التسلح والحرب.)

(2)

الحمى (ارتفاع الحرارة) تؤدي إلى الطفح الجلدي. (قد يكون فيروس الحصبة هو السبب من وراء كلٍّ من الحمى والطفح الجلدي.)

(3)

وُجد ارتباطٌ قويٌّ بين معدلات بيع الأيس كريم وبين معدلات الجريمة؛ إذن تناول الأيس كريم يؤدي إلى ارتكاب الجرائم! (الصواب أن ارتفاع حرارة الجو هو السبب في ارتفاع معدلات الجريمة (بما يُفضي إليه من توتر قلق) وفي ارتفاع مبيعات الأيس كريم.)

ص: 121

(4)

كلَّما كبر مقاس حذاء الطفل كان خطُّه أفضل! إذن كبر حجم القدم يُسهِّل عملية الكتابة! (الصواب أن النمو المتصل للطفل يؤدي إلى كلٍّ من زيادة حجم القدم ونمو القدرات المدرسية جميعًا بما فيها خط اليد.)

(5)

ثمة انخفاض ملحوظ في البارومتر أثناء هبوب عاصفة؛ إذن العاصفة سببت انخفاض البارومتر. (الصواب أن انخفاض الضغط الجوي هو سبب كل من العاصفة وانخفاض البارومتر.)

(6)

كشفت التحليلات وجود بكتريا معينة بكمية كبيرة لدى أحد المرضى، فاستنتج الطبيب أن البكتريا هي سبب المرض، ثم تبيَّن أن البكتريا غير ذات خطر وأن هناك فيروسًا هو سبب كلِّ من المرض ونمو البكتريا الانتهازية التي تكاثرت نتيجة ضعف المريض.

(7)

خلال العشر سنوات الأولى من انتشار أجهزة التليفزيون في أي بلد من البلدان وُجِد أن معدلات جرائم القتل ترتفع إلى الضعف؛ إذن التليفزيون هو السبب في العنف. (الصواب أن انتشار أجهزة التليفزيون هو مجرد عَرَض لتغيرات اجتماعية عريضة النطاق، تشمل اكتمال بنيةٍ تحتيةٍ كهربائية، وتَكَوُّن طبقة وسطى كبيرة قادرة على شراء أجهزة التليفزيون وغيرها من الأدوات، من السذاجة إذن أن نَعُد التليفزيون في هذه الحالة متغيرًا مستقلًّا تمامًا.)

(8)

في بعض الولايات الأمريكية وُجد أن معدلات الإدمان تتزايد مع زيادة الفقر؛ إذن الفقر يؤدي إلى الإدمان. (الصواب أن التمييز العنصري في هذه الولايات كان يُفضي إلى الإحباط والتراخي فيؤدي إلى كلٍّ من الفقر والإدمان معًا.)

مثل هذه الطريقة التبسيطية في التفكير لن تؤدي إلا إلى حلول تبسيطية، ولن تؤدي الحلول التبسيطية إلا إلى الفشل وإهدار الوقت والجهد، ما دام «السبب المشترك» common cause يَقْبَع هناك آمنًا من الملاحظة والرصد، وبالتالي من التناول والعلاج.

(4) الاتجاه الخطأ (للعلاقة السببية) wrong direction

في هذه المغالطة نجد العلاقة بين العلة والمعلول (السبب والنتيجة) معكوسة، حيث يؤخذ المعلول كعلة وتؤخذ العلة كمعلول.

ص: 122

‌أمثلة

(1)

انتشار مرض الإيدز ناتج عن زيادة الثقافة الجنسية. (العكس هو الصحيح: وهو أن زيادة الثقافة الجنسية ناتجة عن انتشار الإيدز وتَخَوُّف الناس منه.)

(2)

يزداد انتشار الأمراض الفِصامية بين الطبقات الاجتماعية الدنيا؛ إذن تَدَنِّي الطبقة الاجتماعية يُؤدِّي إلى الفصام العقلي. (الصواب أن المرض العقلي المزمن يؤدي إلى تدهور أداء المريض الدراسي والمهني والاجتماعي، فيهبط به شيئًا فشيئًا إلى طبقة اجتماعية أدنى، وهكذا من يُصاب وراثيًّا من نسله، وتُسمى هذه الظاهرة drift phenomenon)

(3)

وُجِد أن هناك ارتباطًا بين معدل امتلاك السلاح في بعض الولايات ومعدل ارتكاب الجرائم؛ إذن امتلاك السلاح يؤدي إلى انتشار الجرائم. (الصواب أن انتشار الجرائم يُقلِق المواطنين الآمنين فيستخرجون رخص الأسلحة للتحوُّط والحماية.)

(5) بعد هذا إذن بسبب هذا (المغالطة البَعدِية/ بِعَقِبِه إذن بسببه) post-hoc ergo propter hoc a posteriori fallacy

ذات يومٍ في الزمان

أخذ الديك غرورٌ قاتل،

فصاح معجبًا: إنني حقًّا ملك المزبلة، بل مَلكُ العالم،

إني لأستلُّ الفجر من مكمنِه بصياحي،

وبوسعي إن شئت أن أكُفَّ عن الصياح فأجعل الليل سرمدًا،

جذب الصوت شقيًّا كان يفتشُ في المزبلة عن رزقٍ،

فجعلَ من الديك وجبةً دسمة ......... هذا ولم يزل الفجر يطلع على الأرض إلى يومنا هذا.

يصيح الديك قبل الفجر، ثم يأتي الفجر وينبلج الصباح، إذن صياح الديك يُطلع الصبحَ ويسُلُّ الشمسَ من مكمَنِها، هكذا فَكَّر الديكُ وهكذا تمضي «المغالطة البعدية» a posteriori fallacy، تفيد المغالطة البعدية أنه ما دام شيءٌ ما قد أتى بعد شيءٍ آخر

ص: 123

فهو إذن قد أتى بسببه، لقد حدث بعَقِبِه إذن فقد حدث بسببه، أليست المعلولات دائمًا تأتي في أعقاب العِلل؟

إن المعلومات لتأتي حقًّا بعد عِلَلها، غير أن هذا «شرطٌ ضروريٌّ» necessary condition لعلاقة العلية وليس «شرطًا كافيًا» sufficient condition، فلكي يوصف حدث ما «أ» بأنه «سبب» لحدث آخر «ب» ليس يكفي أن يأتي قبله، فإثبات علاقة العلية يتطلب ما هو أكثر من مجرد التعاقب أو الارتباط: يتطلب أن جميع أفراد فئة «ب» ، في عينات وافرة وممثِّلة للفئة «ب» ، تأتي دائمًا وأبدًا بعد جميع أفراد فئة «أ» ، وتغيب دائمًا «ب» في غياب «أ» ، مع شيء من التجاور في المكان والزمان، وغياب أي عامل آخر قد يكون وراء حدوث الاثنين معًا

إلى آخر ذلك مما فَصَّله البحث العلمي عن شروط إثبات العلاقة السببية، والطرائق العملية والإحصائية لإثبات ذلك.

أما الاكتفاء بمجرد التعاقب الزمني كدليل على علاقة السببية فهو تفكير شديد الفجاجة والسوقية، وهو سوقي لأنه يتسم بالشيوع والدخل، وبه يَتَقَوَّم كلُّ التفكير الخرافي والسحري وحكايا العجائز والوصفات الطبية الشعبية وثرثرة مجالس الفراغ والتبطُّل.

حين نضع جانبًا ذلك التصور اليومي عن العلة والمعلول، ونتأمل الأمر بدقة وحيدة وعمق نجد أننا، رغم توهمنا فهم الآليات التي يؤدي بها كل حدث إلى الآخر، لا نشهد في الحقيقة شيئًا اسمه «العِلِّيَّة» ، وكل ما نشهده هو تواترات وارتباطات وتتابعات من الأحداث، بحيث تَئُول فكرة السببية في النهاية إلى «توقعنا» للاطراد والارتباط، تقترب الإصبعُ من اللهب فتتألم، فنسمي اللهب «سببًا» cause والألم «مسبَّبًا» effect أو «معلولًا» أو «نتيجة» ؛ لأننا نتوقع الثاني كلما حدث الأول، ونحن بالطبع نلفق تفسيرات لنملأ الثغرات غير المرئية بين الحدثين، فكيف عرفنا أن هذه الأحداث غير المنظورة هي الأسباب حقًّا؟! لا شيء

إنها تتوالى دائمًا ويعقب بعضها بعضًا!

(1)

هذه الفجوة في معرفتنا هي مرتعٌ خطيبٌ وملاذٌ آمنٌ للمغالطات.

كان مؤرخو الإغريق دائمًا يُفسِّرون الكوارث الطبيعية كنتاجٍ لأفعال البشر، فإذا حدث زلزالٌ مروِّعٌ مثلًا ودَمَّر مدينةً بكاملها، فإن هيرودوت يعمد بهمةٍ وجد إلى تفصيل

(1)

لاحظ أن تَعَطُّل أي جزء من المسار العصبي لإحساس الألم سوف يجعل اقتراب الإصبع من اللهب غيرَ متبوعٍ بألم.

ص: 124

الأحداث البشرية السابقة على الزلزال، ثم يستنتج أن المذبحة التي ارتكبها أهل المدينة، مثلًا، قبل الزلزال كانت سببًا في وقوعه.

وقد قدم عالم الاجتماع الأمريكي جراهام سَمنَر نظريته فيما أسماه ب «الطرق الشعبية» أو «العادات الشعبية» folkways، التي ترد الأحكام الأخلاقية إلى مظاهر لا عقلية في أساسها، لقوى اجتماعية هي ذاتها غير عقلية، هذه الطرق الشعبية هي عادات شعبية مستقلة عن أفكارنا عنها، ولا تسير حسب قواعد معقولة، وهي لا تتفق إلا مع المزاج أو الموقف العام لزمانها ومكانها المعينين، ولها ما يمكن أن يُعد حياةً خاصة بها، ذلك أن سمنر يرى أنها تولد وتكبر وتموت ولا يمكن أن يؤثر فيها تأثيرًا يُذكر إلا قوى قليلة (منها التعليم)،

(1)

من هذه الطرق ما هو ناتج عن استدلال خاطئ، وبخاصة خطأ «السبب الزائف» ، يقول سمنر: إنَّ الطرق الشعبية قد تكوَّنت بطريق المصادفة، أو بواسطة فعلٍ غير عقلاني وقائم على معرفةٍ زائفة، من ذلك أن وباء الطاعون لما تَفَشَّى في مولمبو Molembo عقب وفاة أحد البرتغاليين اتخذ الأهالي كل الاحتياطات الممكنة لكي لا يموت رجلٌ أبيض بعد ذلك في بلدهم، ومن ذلك ما حدث في جزر نيكوبار على أثر وفاة بعض من السكان الأصليين كانوا قد بدءوا لتوهم في مزاولة حرفة الخزف، إذ انفض الجميع عن مزاولة هذا الفن ولم يَقرَبه أحد بعد ذلك على الإطلاق، ومن ذلك ما حدث في إحدى قرى جنوب أفريقيا حين أهدى البيضُ رجلًا من البوشمن عصا مرصعة بالأزرار كرمزٍ للسيادة، إذ توفي الرجل وخلف العصا لابنه، وسرعان ما توفي الابن، فأعاد البوشمن العصا إلى من أهداها خشية أن يموت الجميع، وقد تصادف مرة أن انتشر الجدري بين شعب الياكات بعد أن شهدوا جَمَلًا لأول مرة، فوقر في ظنهم أن الجمل هو الذي أحدث المرض

وبوسعنا أن نجمع ما لا يُحصى من هذه الشواهد، وهي في الحقيقة تمثل الطريقة المتبعة في الاستدلال العقلي لدى الشعوب البدائية، فمن عادة هؤلاء الأقوام إذا حدث شيءٌ «بعد» شيء آخر أن يستدلوا من ذلك أنه حدث «بسببه» .

(2)

(1)

هنترميد: «الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها» ترجمة: د. فؤاد زكريا، الطبعة الثانية، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1975، ص 376.

(2)

Sumner، W.G. "Ethics are Relative"، In James A.Gould (Ed.)، Classic Philosophical Questions، second edition، Charles E.Merrill Publishing Company، Howell Company، Columbus، Ohio 43216، pp. 84 - 85.

ص: 125

وما تزال هذه الطريقة في التفكير تعشش في أذهاننا حتى اليوم، فالتسونامي الآسيوي سببه تفاقم ذنوب البشر (مع أن التسونامي نتاج زلزال تحت المحيط ناجم عن انزلاقٍ طبقي، والضحايا ربما كانوا أقل أهل الأرض ذنوبًا) وإعصار كاترينا سببه السياسة الأمريكية (مع أن الأعاصير سببها حركة الرياح فوق ماء المحيط)، وما دامت هناك حقًّا فجوة في معرفتنا، فلن يمكنك أن تُقنع من مال به هواه إلى تفسيرٍ معينٍ دون سواه.

على هذه المغالطة السوقية تقوم حِرَفٌ وترتزق طوائف: العِرافة والفأل والتنجيم والرُّقي والتعازيم والكهانة والعلاج الشعبي.

يُبشِّرك العرَّاف بأحداثٍ سعيدة، وتأتيك أحداثٌ سعيدة؛ لأن الأحداث السعيدة تحدث طوال الوقت على كل حال، ويُنْذِرُك المنجِّم بعواقب وخيمة، وتنزل بك نوازل غير سارة؛ لأن النوازل غير السارة تنزل دائمًا على كلِّ حال، ويصف لك المشعوذ حجابًا يشفي مرضك، ثم تُشفَى من المرض؛ لأن أغلب الأمراض يُشفى تلقائيًّا بمرور الوقت (وإلا لما بقي حيٌّ على الأرض إلى اليوم) يتذكر الناس الرميات الصائبة والتوقعات الناجحة، ويتداولونها فيما بينهم مضخَّمة ومُنتقاة، فتستقر في ذاكرتهم دليلًا على صدق العراف أو المنجِّم أو المعالج، بينما تُنسى تلقائيًّا تلك الرميات الخائبة والتوقعات الفاشلة، وهي الأكثر والأعم بما لا يُقاس، وتنسدل عليها ستائر النسيان.

تُسمَّى هذه الظاهرة في العلم «مشكلة درج السِّجلات» (أو درج الملفات) file drawer problem: وهي مشكلة تنجم حين يحاول العلماء تحديد ما إذا كانت نتيجة ما هي حقيقية أم زائفة بناءً على التراث البحثي المنشور، تأتي المشكلة عندما تكون هذه النتيجة هزيلة (أو غير موجودة) ولا تحدث إلا مصادفةً، ومِن ثَمَّ فإن من يقع عليها من الباحثين يُسَجِّلها وينشرها، مصحوبةً بالهتاف والتهليل، أما الباحثون الذين لم يقعوا على هذه النتيجة قَطُّ فإنهم لا ينشرون أبحاثهم عادةً وإنما يلقون بها في أدراج السجلات، هكذا تبدو الظاهرةُ الزائفة حقيقةً علمية، لا لشيء إلا لأن الأبحاث العديدة المكذِّبة لها قد طويت في الأدراج، بينما نُشرت الأبحاث القليلة الشاذة التي تؤيد الظاهرة، فكانت لافتةً للأنظار بصخبها وبريقها.

ص: 126

‌أمثلة أخرى

(1)

لَبِستُ هذا القميص اليوم وذهبت إلى الامتحان فأجبت عن جميع الأسئلة بإجادة تامة، إذن هذا القميص فألٌ حسن ولسوف أرتديه في كل الامتحانات القادمة. (غني عن البيان أنني أجَدْتُ في الامتحان لأني كنت مستعدًّا له استعدادًا طيبًا بالمذاكرة والدرس، وليس لأنني لبست هذا القميص أو ذاك!)

(2)

تَكسِفُ الشمسُ، فيُهرَع أفرادُ القبيلة عن بكرة أبيهم، ويظلون يدقون الطبول بعنف، ثم تبرز الشمس من وراء الحجاب، إذن دق الطبول يسترد الشمس ويُخرجها من كسوفها.

(3)

أصيب حسن بصداع شديد، فعجنت له جدته عجينة من الدقيق والخل وزيت السمك وبول الأرنب، لصقها برأسه ونام، فذهب عنه الصداع بعد دقائق. (كثيرًا ما يذهب الصداع تلقائيًّا بذهاب سببه الحقيقي.)

(4)

تشوَّشت الصورة في تلفاز سعيد، فخبط بقوة على التلفاز، فانصلحت الصورة، إذن خبط الجهاز هو أيسر طريقة لإصلاح أعطال التلفاز.

(5)

عطس منصور في منزله بالقلعة، وبعد ثوانٍ وقع تسونامي المحيط الهندي، إذن عطسة منصور فجَّرت كارثة التسونامي.

(6) تذييل: الأثر البلاسيبي placebo effect

نَزْغٌ في قلب البحث الطبي

ثمة ظاهرة ينبغي إلحاقها بمغالطة السبب الزائف، وهي ظاهرة طبية لافتة يُقال لها «الأثر البلاسيبي» placebo effect، وهو تَحَسنٌ صِحي، محسٌّ أو ملاحَظ أو مَقيس، لا يُعزَى إلى العلاج، وتعبير placebo هو تعبيرٌ لاتيني يعني «سوف أسُرُّ» أو «سوف أُرضِي» ، والبلاسيبو هو دواء، أو إجراء علاجي، يعتقد المعالج أنه خاملٌ أو «لا يَضُر» ، قد يكون البلاسيبو حبوبًا من السكر أو من النشا، وحتى الإجراء الجراحي الزائف، أو العلاج النفسي الزائف، قد يُعَد ضربًا من «البلاسيبو» .

وفي الدراسات الطبية عن الأثر العلاجي الحقيقي لدواءٍ مقترح يستخدم الباحثون، إلى جانب مجموعة المرضى الذين يعالجون بالدواء، «مجموعة ضابطة» control group تتناول البلاسيبو بدلًا من الدواء الحقيقي، وذلك حتى يتسنَّى ملاحظة الفرق بين تأثير

ص: 127

العلاج الحقيقي وتأثير العلاج الوهمي (إذ إن للعلاج الوهمي تأثيرًا!) وقياس مدى أفضلية الدواء الجديد على البلاسيبو، والبرهنة مِنْ ثَمَّ على أنه علاج حقيقي فعال.

يرد بعض الباحثين هذا الأثر البلاسيبي إلى مجرد شعور «ذاتي» بالتحسن كنتيجة للاعتقاد في العلاج والإيمان بتأثيره الشفائي، ويرده البعض إلى «المسار الطبيعي» natural course للمرض، بما يعتريه من «اشتدادات» exacerbations و «هدآت» remissions وفترات هجوع طويلة وتراجع طبيعي، وربما الشفاء التلقائي التام كمآلٍ طبيعي لكثير من الأمراض والإصابات.

غير أن تراكم الأبحاث وتواتر الملاحظات المؤيِّدة للأثر البلاسيبي يُشير إلى أن الأمر أكبر من مجرد إحساس ذاتي زائف: ثمة تحسن حقيقي مشهود وموثَّق ومَقِيس، حتى في بعض الأمراض العضوية المكينة:

يزيل بعض الأطباء أنواعًا من الزوائد الجلدية بدهانها بصبغة خاملة براقة والوعد بأنها تزول مع زوال الصبغة!

وفي دراسات عن الربو الشعبي تبين أن استنشاق بلاسيبو يُوسِّع الشعب الهوائية توسيعًا حقيقيًّا مَقِيسًا.

وفي التهابات القولون وُجد تحسنٌ حقيقي في خمسين بالمائة من المرضى إثر تعاطيهم دواءً خاملًا (بلاسيبو).

ومن الروايات البحثية الفذة ما سجله أحد أطباء القلب بصدد الإجراء الجراحي المعروف بربط الشريان الثديي الداخلي في بعض حالات الذبحة الصدرية (لزيادة المدد الدموي إلى عضلة القلب): فقد وجد الأطباء، بالمصادفة، أن الجراحة الوهمية المتضمنة لمجرد الفتح الجراحي من دون ربط الشريان قد أدت إلى نفس الأثر العلاجي. (وهو تحسن 90? من المرضي!)

في ضوء هذه النتائج الملموسة الثابتة ربما يكون التفسير الأمثل لظاهرة «الأثر البلاسيبي» هو التفسير البيوسيكولوجي، فمن الواضح أننا بإزاء ظاهرة معقدة ربما لا يسعها إلا تفسير مركب يضفر التفسير النفسي بتفسير بيوكيميائي: فمن شأن «الاعتقاد» في العلاج، ومشاعر الاهتمام والرعاية، والمساندة والتشجيع والأمل، التي يبثها الموقف العلاجي، أن تستفز في الجسم آلياتٍ فسيولوجية تُفضي إلى أثر فيزيقي حقيقي:

قد يكون هذا الأثر من خلال إطلاق «الإندورفينات» endorphins في مواضعها ومساراتها العصبية.

ص: 128

وقد يكون من خلال حفز جهاز المناعة.

وقد يكون من خلال تنشيط محورٍ عصبي هرموني هو «محور المهاد التحتي-النخامية-الكظرية» hypothalamo-hypophyseal-adrenal axis.

لعلَّ هذا الهامش الشفائي الذي يتيحه الأثر البلاسيبي (إلى جانب الهجوع التلقائي للمرض) هو الباب الموارَب الذي ينفذ منه الدجالون والأدعياء، والكثير من ألوان ما يُسمى ب «الطب البديل» alternative medicine، إلى الساحة العلاجية: العلاج بالرقى، العلاج بالزار، العلاج بالعطور، «العلاج المِثلي» homeopathy، «الانسجام الحيوي» bioharmonics، «الكيروبراكتيك» (العلاج بتقويم العمود الفقري يدويًّا) chiropractic

إلخ.

قد يقول قائل: وما الضَّير؟! وماذا يُجديني أن أعرف كيف يحدث الشفاء ما دام الشفاء يحدث؟

والجواب أن هذه الضروب من «تناسخات البلاسيبو» ، على فوائدها التصادفية في بعض الحالات، إنما تُغشِّي على المسار الجاد للبحث الطبي الحقيقي، وتُضِلُّ عن التماس العلاج الصحيح في مظانه الصحيحة، وتستبدل به هُراءً بلاسيبيًّا «تَفتُّه» لأناسٍ ذاهلين بالمرض غارقين في الأغاليط، إن البلاسيبو لن يستأصل ورمًا، ولن يجبر كسرًا، ولن يكبح صَرَعًا، ولن يُوقف نزيفًا، ولن يغسل كلَى، ولن ينقذ حالة حرجة

ولو كان هامش البلاسيبو يكفي لعلاج الناس لما نشأ المرفق الطبي لدى البشر منذ البداية.

وبعد، فإن تناسخات البلاسيبو تريد أن تبيعنا بضاعةً بأكثر من ثمنها، فالأثر البلاسيبي قائم ومبذول ومتضمَّن ومبيَّت سلفًا في كل دواء وفي كل إجراء علاجي، إنما تسعى الأبحاث الدوائية إلى إثبات جدوى علاجية تتجاوز الأثر البلاسيبي بفارقٍ ذي دلالة.

ص: 129

الفصل السادس عشر

السؤال المشحون (المركَّب)

loaded question (complex question)

سأل ألكسينس من إليس أحد الفلاسفة على سبيل السفسطة: «هل أقلعتَ عن ضرب أبيك؟» فما كان جواب الفيلسوف إلا أن قال: «لم أكن أضربه ولم أُقلِع!»

لا تُسلِّم بالأسئلة

حلِّل السؤال قبل أن تُجيب عليه.

جون سيرل

درسُ الفلسفة هو كيف تسأل لا كيف تُجيب.

***

السؤال المشحون أو المركَّب هو تكنيك يعمد إلى دس «فروض مسبقة» presuppositions غير مبرَّرة وغير داخلة في التزامات الخصم، داخل سؤال واحد، بحيث إنَّ أي جواب مباشر يعطيه المجِيب يوقعه في الاعتراف بهذه الفروض، والمثال التقليدي على المغالطة.

«هل توقَّفت عن ضرب زوجتك؟»

فأيًّا ما كان الجواب، نعم أو لا، فإن المجيب يعترف بالفرض المسبق وهو أنه كان في وقتٍ ما يضرب زوجته، حين يكون هذا الفرض المسبق كاذبًا أو غير مبرهن عليه

ص: 131

يكون هذا مثالًا لمغالطة السؤال المركب أو الملغوم، إنه شَرَكٌ أو أحبولة؛ لأنه يُضيِّق على المُجيب نطاق الخيارات إلى صنف واحد من الإجابة المباشرة، أو عدد ضئيل من احتمالات الجواب المباشر من شأنها جميعًا أن تزعزع موقفَه في الحوار.

انظر أيضًا إلى هذا السؤال المفخخ:

«متى أقلعت عن تعاطي المخدرات؟»

إنه مَصوغٌ بحيث يتضمن داخله عبارتين أخريين لم تتم البرهنة عليهما، ويسلِّم بهاتين القضيتين تسليمًا دون دليل؛ أي أنه ينطوي على «مصادرة على المطلوب» petitio principii؛ لأنه يفترض مسبقًا أجوبةً محددة عن أسئلةٍ سابقة غير مصرح بها، مثل هذا السؤال لا يمكن الرد عليه ببساطة بالإيجاب أو بالامتناع، إنه ليس سؤالًا بسيطًا بل يتركب من عدة أسئلة معبأة معًا في سؤال واحد:

(1)

هل كنت تتعاطى المخدرات فيما مضى؟

(2)

وإذا كنتَ قد تعاطيتَ المخدرات فهل توقفتَ عن التعاطي؟

(3)

وإذا كنت قد توقفت عن التعاطي فمتى كان ذلك؟

لا بأس باستخدام هذه الخدعة لإظهار الحقيقة في بعض المواقف،

(1)

فقد دأب المحققون على أن يستخدموا هذا التكنيك لإيقاع المتهم في الاعتراف، يسأل المحقق مثلًا:«أين أخفيتَ جسم الجريمة؟» «أين خبأتَ المالَ الذي سرقتَه؟» «ما الذي دفعَكَ إلى تزوير هذه الوثيقة؟»

والرد الذكي عندما يواجَه المرءُ بهذا السؤال الملغوم هو أن يُحلل مكوناته إلى أجزاء، ثم يُجيب عن السؤال المضمر الأول أو يناقشه أو يفنده، عندئذٍ يتبدد السؤال الصريح من تلقاء نفسه.

وقد يشتمل السؤال الواحد على عبارتين متَّصلتين بحرف عطف، كما لو كانتا مرتبطتين أو كانت إحداهما تستلزم الأخرى بالضرورة، بحيث يُتوقَّع من المُجيب أن يقبلهما معًا أو يرفضهما معًا، بينما إحداهما في حقيقة الأمر مقبولةٌ لديه والأخرى مرفوضة منه!

(1)

يستخدم الممارسون السيكولوجيون أحيانًا هذا التكنيك لاختراق جدار التَّحَفظ والإنكار من جانب المريض، وهو استخدام غير مأمون؛ لأنه قد يفتح ثغرة لتدفق الإيحاءات والاستيهامات و «النبوءات المحقِّقة لذاتها» .

ص: 132

‌أمثلة

(1)

هل تؤيد خفض الضرائب وزيادةَ رفاهية الشعب؟

(2)

هل أنت مع حرية المواطن وحقِّه في استخراج ترخيصٍ بحمل أسلحة؟

(3)

هل تؤيد حريةَ السوق وترك الرخاء يعم كل أرجاء العالم؟

(4)

هل تؤيد المادة 76 التي تنص على حرية النشر وعلى حرية إبداء الرأي، وتحكم بالسجن لمدة لا تزيد عن السنتين على مَنْ ينشر قولًا يؤدي إلى البلبلة ويوقع الفُرقة بين شرائح المواطنين؟

(5)

هل تؤيد زيادة مصروفات التعليم العام ورفع نوعيته ومستواه؟

(6)

هل تريد أن تدرسَ الموسيقى وتضيعَ وقتك؟

(7)

أنت تركت العمل وأوعزت إلى زملائك بالإضراب، حدث هذا أم لا؟

من البين أن السؤال هنا يتضمن عدة أمور ويطلب الرد بجواب واحد! والصورة المنطقية لهذا السؤال هي:

هل تريد (تعتقد/ توافق/ فعلت

) «أ» و «ب» «ج» و «د»

بينما يمكن للسؤال أن ينقسم إلى:

هل تريد «أ» ؟ هل تريد «ب» ؟

إلخ.

فإن كان «أ» و «ب» مرتبطين حقًّا فلا مغالطة هناك، أما إذا كان بالإمكان الإجابة عن كل سؤال بجوابٍ مختلف فإننا نكون بصدد مغالطة منطقية هي «السؤال المركب» complex question.

•••

يؤكد الفيلسوف الأمريكي المعاصر جون سيرل John R.Searle، بصفة خاصة، على ضرورة أن نحلل السؤال الفلسفي تحليلًا دقيقًا قبل محاولة الإجابة عليه، وأن نتجنب المضي في عرض وجهة النظر الفلسفية قبل الوقوف على عناصر السؤال وحدوده وما ينطوي عليه من افتراضات؛ الأمر الذي يؤدي إلى غموض في الفهم وخطأ في الاستدلال، فضلًا عن أنه لا يؤدي إلى أيِّ تقدم في حل المشكلات الفلسفية.

(1)

وفي هذا المعنى يقول

(1)

د. صلاح إسماعيل: فلسفة العقل، دراسة في فلسفة جون سيرل، دار قباء الحديثة، القاهرة، 2007، ص 51.

ص: 133

الفصل السابع عشر

التفكير التشبيهي (الأنالوجي الزائف)

false analogy; analogical fallacy

وقد يتقاربُ الوصفان جدًّا

وموصوفاهما متباعدان

المتنبي

وجهُك يا عَمرو فيه طولُ

وفي وجوه الكلاب طول

مَقابحُ الكلب فيك طُرًّا

يزول عنها ولا تَزولُ

ابن الرومي

***

يفيد «الأنالوجي» (المماثلة) analogy بحد ذاته وجود مماثلة جزئية بين ملامح شيئين أو حدثَين أو تصورين تسمح بمقارنةٍ ما بينهما.

ص: 135

ويمكن تجريد الصورة المنطقية لقياس الأنالوجي كالتالي:

«أ» يشبه «ب» ،

«ب» هو «ج» ؛

إذن «أ» هو «ج» مثل «ب» .

ويقع المرء في مغالطة «الأنالوجي الزائف» false analogy أو الضعيف عندما يَعقِد مقارنةً بين أمرين ليس بينهما وجهٌ للمقارنة، أو أمرين بينهما مجرد تشابه سطحي وليس بينهما وجه شبه يتصل بالشأن المعْنِيِّ الذي تريد الحجة أن تُثبتَه.

يتألف «الأنالوجي الزائف» من افتراض أن الأشياء المتشابهة في وجهٍ من الوجوه لا بُدَّ من أن تكون متشابهة في وجوه أخرى، وعليه فما دام شيئان، «أ» و «ب» ، متماثلين في جانب من الجوانب فإنهما، إذن، متماثلان في جوانب أخرى، أو في جميع الجوانب!

(1) أهمية الأنالوجي ومشروعيته

من الحق أن قدرًا كبيرًا من معرفتنا يقوم على إدراك التشابه بين الأشياء؛ ومِن ثَمَّ تصنيفها في فئات، ويقوم على التعميم من أمثلةٍ محددة إلى صورٍ عامة أو مبادئ مجردة، وعلى التعلم من سابقات الوقائع من أجل تعزيز الفائدة وتجنب الضرر، وعلى تطبيق معرفتنا بشيءٍ ما في تناولنا لشيءٍ آخر مشابه. في القياس الفقهي مثلًا يُستخدم الأنالوجي استخدامًا مشروعًا ولا غنى عنه، ويُعَرَّف بأنه «إلحاق جزئي بجزئي آخر في حُكمه لمعنى مشتركٍ بينهما، مثال ذلك أن نقول: النبيذ كالخمرة فهو حرام.»

(1)

وفي مجال القضاء كثيرًا ما يُستخدم القياس على سابقةٍ (أو سوابق) قضائيةٍ لوجود مماثلة مع القضية الراهنة، بل إن معنى القوانين وروحَها لا تتبلور ولا تبزغ إلا بكدح القضاة في تطبيقها على الحالات الخاصة قاضيًا تلوَ آخر، وحالةً تلو أخرى، ويكون الأنالوجي في ذلك هو قوام الفهم ومِلاك التأويل.

(1)

في تعريفات الجرجاني: «القياس في اللغة عبارة عن التقدير، يُقال قِست النعل بالنعل إذا قدَّرتُه وسويته، وهو عبارة عن ردِّ الشيء إلى نظيره.» وفي الشريعة عبارة عن المعنى المستنبَط من النص لِتعَدِّيه الحكمَ من المنصوص عليه إلى غيره، وهو الجمع بين الأصل والفرع في الحكم.

ص: 136

وليس من قبيل المبالغة أو الغلو أن نقول إن كل صور الاستدلال وإعمال العقل، وكل ضروب الإدراك الحسي والذهني، إنما تستند إلى قدرتنا على تمييز أوجه التشابه ذات الصلة ومعاينة القواسم المشتركة من خلال هذا التدفق الكاليدوسكوبي لأشياء العالم وأحداثِه ومَرائيه.

(2) حدود الأنالوجي ومخاطره

غير أن الأشياء (وكذلك المواقف والأحداث والتصورات) لا يمكن أن تتماثل تمامًا، وإلا لكانت العلاقةُ بينها علاقة «هوية» identity لا مجرد «تماثل» analogy (راجع مبدأ لَيْبِنتز)،

(1)

فهناك دائمًا نقطةٌ ينهار عندها التماثل ويبدأ تدفق الاختلافات، ثمة دائمًا نقطة فراقٍ ما دام أعضاء كل فئة إنما يجمعهم التماثل لا الهوية، هنالك يكون التمادي بالتماثل حيث لا تماثل هو ضرب من السخف والامتناع والعته الصميم، أشبه بمحاولة الكتابة على الماء أو محاولة تشييد الصروح على الرمال المتحركة.

(3) الأنالوجي المجازي (البياني/ التصويري) figurative analogy

تُعَد الصور البيانية، من تشبيه واستعارة

إلخ، وسائط ضروريةً لنقل الأفكار وتوصيل المعلومات وتقريبها إلى الأذهان، تتيح لنا الصور البيانية أن نتحدث عن مفاهيم جديدةٍ غير مألوفة للمستمعين في حدودٍ قديمةٍ مألوفةٍ لديهم، استنادًا إلى وجه شبهٍ معين بين الفكرة المجهولة التي نريد إيضاحها لهم والفكرة المألوفة التي يعرفونها من الأصل، وامتدادًا بخصائص أخرى للمألوف لكي توازي خصائصَ أخرى للمجهول، تضطلع هذه المَلَكة التصويرية البيانية بدورٍ كبيرٍ في التفكير والتواصل، وتمثل عنصرًا حيويًّا من عناصر الفهم والإفهام.

غير أن الصور البيانية لا يمكن أن تُستخدم استخدامًا مأمونًا إلا كوسيلة إيضاحِ لمعنى معين يرمي إليه المتحدِّث، إنها أدواتٌ للتعبير وليست مصادرَ للمعرفة، إنها وسائلُ

(1)

ينص مبدأ ليبنتز Leibniz's principle ويُسمَّى أيضًا «هوية اللامتمايزات» identity of indiscernibles على أن الشيئين المتميزين إحصائيًّا (أي أنهما حقًّا شيئان اثنان) لا يمكن أن يشتركا في جميع الخصائص.

ص: 137

لتقريب الأفكار لا للبرهنة عليها، وسائط للتوصيل لا للتدليل، للإفهام لا للإفحام، إذا أراد المرء مثلًا أن يُفسر التغيرات التي تعتور الإنسان وهو يتقدَّم من الشباب إلى الشيخوخة فإن له أن يكتب فقرةً بيانية مُنَمَّقة يقول فيها:

ما أشبهَ الحياةَ بالنهر: يدرج كغديرٍ مرحٍ، ثم يَستوي تيارًا عاتيًا، ثم يرزح في نهاية المطاف واهنًا كليلًا حتى يتبددَ في البحر.

ولكن ليس لأحدٍ أن يستمد من هذا، ومن معرفته بالأنهار، مبادئ عن إدارة الأعمال أو عن العلاقات الإنسانية!

وانظر إلى هذا الرأي التشبيهي للملك جيمس الأول:

النظام الجمهوري هو نظامٌ زائفٌ ومدمِّر؛ ذلك لأن الملك هو رأس الدولة، وإذا أنتَ فَصَلتَ الرأس عن الجسد فلن تعودَ بقية الأعضاء تؤدي وظائفها، وسيموت الجسدُ كله.

هكذا يَتَبدَّى بؤسُ التفكير التشبيهي: فالدولة لا تشبه الجسدَ الحي إلا مجازًا وتصويرًا بيانيًّا، ولا يمكن أن يُستنبَط من هذا التماثل أي قواسمَ مشتركةٍ حقيقية تجمع بين الجسد والدولة.

وقد يذهب جميع الشموليين نفس المذهب، فيقولون إن الدولة أشبه بالجسد، يعمل على أفضل نحو إذا كان ثمة دماغٌ حادٌّ يديره؛ لذا فإن الحكومات المتسلطة أكثرُ كفاءةً من غيرها من الحكومات.

لا تتطرق أي من هذه التشبيهات الزائفة التي تُشَبِّه الدولة بالجسم الحي إلى الحديث عن كبد الدولة أو بنكرياسها أو آليات الإخراج بها!

ويلحق بذلك تشبيه الحضارات بالكائن الحي، وهو تشبيهٌ تزخر به تفسيرات التاريخ ونظرياته، ففي محاولة إضفاء معنى ما على مسار التاريخ تبزغ كل صنوف المقارنة. إن جميع الحضارات السالفة تشترك في أنها الآن ماضٍ وأنها كانت ذات يومٍ حضاراتٍ وأنها قبل ذلك لم تكن، ومن هذه الحقائق الثلاث النافلة المبتذلة خلص كثيرٌ من المؤرخين إلى «تشبيه دورة الحياة» life cycle analogy: فالتعاقب البسيط «غير حي ? حي ? لم يَعُد حيًّا» يستدعي مقارنةً لا تقاوم بالكائن الحي، وقد بلغ الغلو بالبعض إلى أن يمتد بالتشبيه إلى تبرير الاستعمار، ذلك أن الحضارة حين تبلغ أشدها فمن الطبيعي أن تنزع إلى التكاثر بأن تنثر بذورَها في أماكن بعيدة!

ص: 138

وفي مجال نظرية العلاقات الدولية ثمة مغالطة شهيرة يُطلق عليها domestic analogy، تقوم على تشبيه العلاقات بين الدول بالعلاقات بين الأفراد بحيث إن الأمورَ البينشخصية interpersonal - أخلاقياتها وعلاجها - يتم إسقاطها على مبادئ السياسة الخارجية!

وجدير بالذكر أن تأثير الأنالوجي الزائف قد يكون مدمرًا إذا انقلب ضد من استخدَمه، فمن التقنيات الفعالة في فن المناظرة أنه إذا استخدم الخصمُ تشبيهًا لكي يدعم حجته فما عليك سوى أن تمسك بطرف هذا التشبيه وتمطه في اتجاهٍ يخدم حجتَك أنت، فينقلب السحر على الساحر! عندئذ سيضطر خصمك إلى التسليم بأن تشبيهه لم يكن موفقًا، وسيخسر نقاطًا في نظر الجمهور، مثال ذلك أن يقول رئيس اللجنة (في مشروع لا تستريح له أنت ولا تأمَن عواقبه):

ونحن إذْ نبحر قُدمًا في لجنتنا الجديدة دعوني أُعرب عن أملي في أن نتكاتف سويًّا من أجل رحلةٍ سلسة.

فبوسعك عندئذٍ أن تقول:

السيد رئيس اللجنة على حق، ولكن تذكَّروا أن المجذِّفين كانوا دائمًا يوضعون في سلاسل ويُضربون بالسياط، وكانوا إذا غرقت السفينةُ يغرقون معها!

(4) أنالوجي يتلمَّظ بدمٍ بشري!

إنك لا يمكنُكَ أن تصنع عجَّةً دون أن تكسر بيضًا.

لينين

منذ أن جادت قريحة لينين بهذه الصورة المعجبة أصبح هذا التشبيه البياني في القلب من فلسفة الثورات والانقلابات، وغدا ذريعةً مقنعةً غاية الإقناع لسحق المعارضة دون رحمة: أية رحمة؟! إنك في مرحلة شديدة الخصوصية من مراحل سير التاريخ، أنت فيها إما قاتل وإما مقتول، وعندما تَقتُل وأنت في هذه المرحلة فإن عليك أن تستأصل؛ لكي تستيقن من أنك وارَيت العدوَّ وثأره، أي أن تتخلص من الطبقة الحاكمة والمعارِضة وكلِّ من لديه بهما أدنى صلة حتى الأجنة في البطون! حسنٌ فالغاية تبرر الوسيلة على

ص: 139

كل حال، وقسوتُك، بعد كل شيء، مبطنةٌ بالرحمة: الرحمة بالطبقات الكادحة وهي الغالبية العظمى دائمًا وأبدًا!

غير أن هذه «المرحلة التاريخية» (التي تُصوَّر دائمًا على أنها عابرةٌ مؤقتة) تظل «مقيمة» لا تبرح! فلما كانت الأهداف المثالية البعيدة المنال يتأخر مجيئها طويلًا، وفترة خنق النقد والمعارضة تطول أكثر فأكثر، فإن الاضطهاد والاستبداد سيزدادان حِدةً (وإن خلصت النوايا)، وبالضبط لأن المقاصد والأهداف تُرَى مثالية فإن الفشل المستمر في تحقيقها جديرٌ بأن يؤدي إلى القذف بالتهم وادعاء أن «شخصًا ما يهز القارب!» - لا بُدَّ أن هناك تخريبًا، أو تدخلًا أجنبيًّا، أو قيادةً فاسدةً (إذ إن جميع التفسيرات الممكنة التي تستثني الثورة نفسها تتضمن بالضرورة خبثًا وشرًّا من جانب شخصٍ ما)، حينئذٍ تبرز ضرورة كشف المذنبين واستئصال شأفتهم، ومن طلب مذنبين وجد مذنبين! وهنا يكون النظام الثوري قد غرق إلى الأذقان في دمٍ غليظ.

(1)

ولعل الترياق الشافي من هذا الأنالوجي الدموي هو أنالوجي مثله! هو تشبيه «قارب نويرات» (نسبة إلى أوتو نويرات Otto Neurath من حلقة فينا):

إن البشر أشبَهُ ببحارة سفينةٍ في عرض البحر: يمكنهم أن يُصلِحوا أي جزء من السفينة التي يعيشون فيها، ويمكنهم أن يصلحوا السفينة كلها جزءًا جزءًا، ولكن لا يمكنهم أن يصلحوها كلها دفعةً واحدة.

(4 - 1) أمثلة أخرى للتفكير التشبيهي

من العبث أن نبذل كل هذا الجهد في محو أمية الكبار، ذلك أنه لا فائدة، بعد كل شيء من البكاء على اللبن المسكوب.

التعليم المدرسي كالعمل التجاري يحتاج إلى استراتيجية تنافسية تؤدي إلى تزايد الربح.

يجب أن نسمح للطلاب باصطحاب كتبهم في الامتحانات، ألا يستخدم المحامون المذكرات القضائية في مرافعاتهم، ويستشير الأطباءُ الأشعةَ في جراحاتهم؟

(1)

Popper K.R.، "The Open Society and Its Enemies"، Vol. 2، fifth edition، Princeton University Press، 1966، pp. 158 - 168.

ص: 140

(لاحظ أن العنصر الجوهري في هذه الأفعال مختلف: فالمرافعة والجراحة هي «تطبيق» للمعرفة، أما الامتحانات فمن المفترض أنها «اختبار» للمعرفة.)

المسدس كالمطرقة، كلاهما أداةٌ معدنية من الممكن أن تستخدم في القتل، فلماذا يُباح تداول المطارق ويُحظر تداول المسدس؟

المستخدَمون أشبه بالمسامير، فالمسامير لا تؤدي فعلها ما لم تطرقها على رأسها، وكذلك المستخدمون.

العلم أشبه بالكعك، يَحْسُنُ أن تصيبَ منه جزءًا يسيرًا، فإذا أسرفتَ في تناوله أصاب أسنانك بالتسوس، كذلك العلم إذا أوغلتَ فيه وتبحرتَ أصاب عقلك بالجنون.

«الإنسان ليس جزيرة (منعزلة)

إلخ.» (دائمًا ما يُستخدم هذا الأنالوجي لتبرير رؤية جمعية أو تمرير أجندة اشتراكية أو شمولية، ولكن هذا بالطبع ما يكونه كل إنسان على التحقيق: الفرد فرد، يولد وحده ويموت وحده ويملك وحده امتياز الدخول إلى عالمه الذاتي الخبروي.)

تدفق الكهرباء أشبه بتدفق الماء، فكلما زاد سُمك السلك زاد التيار الكهربي المتدفق.

العقول كالأنهار، قد تكون عريضة (المجال)، وكلما كان النهر أعرض كان أكثر ضحالةً، إذن كلَّما زاد العقل اتساعًا زاد سطحيةً أو ضحالة!

إن لدينا قوانين نقاء الأطعمة، وقوانين سلامة الأدوية، فلماذا لا تكون لدينا قوانين تضمن نقاء أفلام السينما والروايات والقصص؟

الشعر أرقى من الرواية؛ لأن قارورة عطر واحدة أثمن من مائة شتلة من الفل. (يمكنك بنفس التشبيه أن تقول: نعم ولكن النزهة في مشاتل الفل هي أبهى وأبهج من حبسه في قارورة!)

(1)

(1)

أخذ الأستاذ العقاد بهذا الرأي في تفضيل الشعر على الرواية، وأتى في ذلك بتشبيهٍ معجب إذ يقول (في كتابه «في بيتي»): «

وما أكثرَ الأداةَ وأقَلَّ المحصول في القصص والروايات

إن الأداةَ في الشعر موجزة سريعة والمحصول مسهبٌ باقٍ، ولكنك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب، وكأنها الخرنوب الذي قال التركي عنه، فيما زعم الرواة، إنه قنطار خشب ودرهم حلاوة!» ومن عجيب المصادفات، رغم ذلك، أن للأستاذ العقاد بيتين من الشعر هما بمثابة ردٍّ على هذا التشبيه نفسه بتشبيهٍ آخر: يقول الأستاذ العقاد (مستقصيًا المعنى كعادته):

ليست خلاصةُ كلِّ شيءٍ غُنيةً

عنه وإن كانت خلاصةَ ماهر

فالشهدُ وهو خلاصةُ الأزهار لا

يُغني العيونَ عن الربيع الزاهر

ص: 141

(5) كُتابنا والتفكير التشبيهي

من المؤسف حقًّا أن كثيرًا من كُتابنا ومتحدِّثينا الأكثر رواجًا وإقناعًا لا يفعلون في أغلب الأحيان أكثر من أن يُلبسوا أفكارَهم أثوابًا من الاستعارات والتشبيهات، قلنا إنه لا بأس بذلك البتة، وربما يكون ضرورة لتيسير الفهم وتقريب التناول، غير أنهم يظنون أن مهمتهم انتهت عند هذا الحد، ويتوهمون أنهم بهذه التشبيهات والمماثلات قد فرغوا من عبء البرهان وأثبتوا نظرياتهم بما لا يدع للشك مجالًا! الحق أنهم إذا أثبتوا شيئًا فإنما يثبتون أنهم ما زالوا سادِرين في التفكير البدائي «قبل المنطقي» pre-logical من حيث الولوع بمجرد الشبه وأخذه مأخذ البَيِّنة.

من طَلَبَ شَبَهًا وجده

ثمة دائمًا وجه شبهٍ بين أي شيئين من أشياء العالم مهما تباينا واختلفا، وإذا أدمن المرءُ التفكير التشبيهي فلن يُعجِزَه أبدًا أن يجد لكلِّ شيءٍ شبيهًا وأن يُقيِّض لكل شيءٍ مثلًا.

ومن طرائف ذلك أن لويس كارول قدَّم لقُرائه لغزًا عبثيًّا لا معنى له: ما وجه الشبه بين الغراب والمكتب؟! غير أنه لم يعدم من بين قُرَّائه من وجدوا أوجه شبهٍ كثيرة! منها ما كتبه إليه أحدُ القُراء من أن وجه الشبه بين الغراب والمكتب هو أن إدجار ألان بو كتب عن الأول وعلى الثاني! (wrote on both).

ص: 142

الفصل الثامن عشر

مهاجمة رجلٍ من القش

straw man fallacy

مَنْ يَدرِي لعل التاريخ

(الذي كَتَبه المنتصرون)

قد حجب عنا نصف الحقيقة،

واستبدل به رجالًا من القش!

***

هي تلك المغالطة العتيدة التي يعمد فيها المرء إلى مهاجمة نظريةٍ أخرى غير حصينة بدلًا من نظرية الخصم الحقيقية، وذلك تحت تعميةٍ من تشابه الأسماء أو عن طريق إفقار دم النظرية الأصلية وتغيير خصائصها ببترها عن سياقها الحقيقي أو بإزاحتها إلى ركن قصيٍّ متطرف، ويشبه هذا الجهد العقلي العقيم، سواء حسنت النية أو ساءت، أن يكون رميًا لخصمٍ من القش بدلًا من الخصم الحقيقي، أو قصفًا لكتيبةٍ هيكلية بدلًا من قصف الكتيبة الحقيقية! إنه لأيسر كثيرًا أن تنازِل رجلًا «دُمية» من أن تُنازِل رجلًا حقيقيًّا.

ص: 143

وتأتي التسمية من تلك الممارسة التي كانت شائعةً في العصور الوسطى، والتي تُستخدم فيها دميةٌ على هيئة رجل محشوةٌ بالقش لكي تمثل «الخصم» في ممارسة المقارعة بالسيف، وما تزال صيغٌ من هذه الممارسة شائعةً حتى الآن، وبخاصة في مواقف التعبير عن الاحتجاج والكراهية وفي مظاهرات المناهضة السياسية.

تحمل هذه الممارسة مسحةً من بقايا الفكر البدائي قبل المنطقي، حيث يلتئم الرمز والمرموز إليه، ويقوم الجزء مقام الكل، ويُعامَل اسم الشخص أو خصلة من شعره أو أي أثر من آثاره كأنه بديل له.

(1)

تتم مغالطة رجل القش بأن يَجْبُل المحاورة حجةً هشةً سهلة المنال غير حجة الخصم الحقيقية وينسبها إلى الخصم، ثم يُعمِل فيها مَعاوِل الهدم والتقويض، فيضفي انطباعًا زائفًا بأنه نجح في التفنيد، ويعلن انتصاره على خصمه، قد يتم ذلك عن عمدٍ فيكون حيلةً قذرةً وينم على الخبث وسوء النية والافتقار إلى الأمانة في الجدل، وقد يتم عن غير عمد فينم على الغفلة أو الجهل ويكون، في كل الأحوال، مضيعةً للوقت وإهدارًا للجهد في معركة وهمية غير ذات صلة وتُرَّهةٍ خارجة عن الموضوع!

ثمة طرائقُ مختلفةٌ لاتخاذك رجلَ القش: فقد تُقَدِّم الجوانب الأضعف من نظرية الخصم وتتظاهر بأنك تُفنِّد النظرية من كل جوانبها، وقد تقدم حجة الخصم في صورة مضَعَّفة أو مبسطة، وقد تشوه أو تحرِّف حجة الخصم أو تسيء تمثيلها، وقد تختلق شخصًا وهميًّا تنسب إليه أقوالًا وأفعالًا وعقائد وتتظاهر بأنه يمثل الطائفة التي ينتمي إليها الخصم.

(1)

«من الأمثلة على التئام الرمز والمرموز إليه، معاملة اسم الشخص كجزء جوهري منه، كأنه بديل له، فلدينا عدد من الأقداح الفخارية الكبيرة نُقش عليها ملوك «المملكة الوسطى» المصريون أسماء القبائل المعادية لهم في فلسطين، وليبيا، والنوبة، وأسماء حُكامها، وأسماء بعض المتمردين المصريين، كانت هذه الأقداح تُحطَّم في احتفال مهيب، قد يقام أثناء جنازة سلف الملك، والغاية من هذا الطقس مذكورة بصراحة: إنها الدعوة بالموت على هؤلاء الأعداء كلهم؛ لأنهم بعيدون عن قبضة الفرعون، غير أننا إذا دعونا تحطيم الأقداح طقسًا رمزيًّا، فاتنا مغزاه، فقد كان المصريون يشعرون أنهم يُلحقون بأعدائهم أذًى حقيقيًّا حين يحطمون أسماءهم، فيضيفون بعد أسماء الخصوم، الذين يعددونهم ويدعون عليهم بالموت، عبارات كهذه:«كل فكرٍ مؤذٍ وكل كلام مؤذٍ وكل أحلام مؤذية وكل صراع موذٍ.» إلخ، فكتابة هذه الأمور على الأقداح التي ستحطَّم تنال، في اعتقادهم، من قدرتها الفعلية على إيذاء الملك أو تقليص سلطانه» (هـ. فرانكفورت وآخرون: ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، الطبعة الثالثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982، ص 25).

ص: 144

لم تَرِد مغالطة رجل القش في تراث أرسطو على نحوٍ صريح، غير أنه أوصى بالأمانة والإخلاص fidelity في تمثيل آراء الآخرين على حقيقتها، واعتبرها شرطًا للجدل الحقيقي، وحذَّر من الاكتفاء بإسباغ مظهر الآراء الأخرى دون جوهرها، واعتبر ذلك ضربًا من السفسطة، تدل هذه الوصايا الأرسطية على أنه أدرك مغالطة رجل القش وميَّزها، وإن لم يُدْرِجها في قائمة المغالطات ويسبغ عليها اسمًا.

(1) التحريف بالتجزيء

قد تتناول جزءًا صغيرًا من موقف الخصم، فتأخذه بأكثر من حجمه، وتفْرِط في تعميمه فتعامله كما لو كان ممثلًا لموقفه الكلي، بينما هو لا يمثل شيئًا ذا قيمة، وإنه لتبديدٌ للطاقة وإجهاضٌ للجدل، فضلًا عن كونه إجحافًا ومغالطة، أن تتناول بالتفنيد جانبًا هامشيًّا من جوانب المذهب أو صيغة ضعيفة مفرطة التبسيط لموقف الخصم، إن الأيديولوجيات التي كسبت أنصارًا ودامت حقبًا هي، على الأرجح، أنساقٌ تتمتع بمزايا معينة عليك أن تقف عليها وتكتنهها؛ حتى يتسنى لك أن تفندها في جوانبها القوية، فالمسألة الجديرة حقًّا بالتناول إنما ينبغي التماسُها في هذه الجوانب القوية وعلى هذا المستوى الرفيع.

(2) التصنيف والتنميط

يميل العقلُ البشري بطبيعته إلى تصنيف الأشياء وتنميطها (حتى ليغدو ذلك شرطًا من شروط الإدراك)؛ لأن العقل لا مَحِيد له عن أن يفرض نظامًا على الفوضى ويضفي معنى على الشواش، ربما لذلك يميل المرء أحيانًا إلى أن يصنف الخصم تصنيفًا خاطئًا ويتوسَّم فيه غيرَ ما هو، ويُسقط عليه من تصنيفاته الفئوية الخاصة ما لا يناسبه، وكان المرء هنا يكشف عن ذات نفسه أكثر مما يكشف عن الآخر، ويَسرِي عليه قول سبينوزا:«إنَّ ما يقوله بولس عن بطرس يخبرنا عن بولس أكثر مما يخبرنا عن بطرس.»

وقد يميل المرء إلى «التنميط» stereotyping فيدمغ الخصم بصفاتٍ معينة تميز الجماعة أو الطائفة التي ينتمي إليها، بينما الخصم يرى رأيًا يحيد كثيرًا عن تلك الطائفة

ص: 145

أو يذهب مذهبًا يمثل جناحًا معينًا منها، والذي قد يختلف اختلافًا مهمًّا عن آراء الأجنحة الأخرى من نفس الطائفة.

(3) رجل القش المتطرف

ويجري مجرى التبسيط أن ترمي الخصم بالتطرف وهو معتدل، وبالمطلقية وهو نسبي، والحق أن أمثل النماذج لرجل القش هو أن تهوِّل من موقف الخصم وتزيحه من الأواسط إلى الأطراف، ذلك أن المواقف المتطرفة أسهل في التفنيد لأنها لا تسمح باستثناءات، انظر إلى هذا الطيف من المواقف:

كل «أ» هو «ب» .

معظم «أ» هو «ب» .

بعض «أ» هو «ب» .

بعض «أ» ليس «ب» .

معظم «أ» ليس «ب» .

لا أحد من «أ» هو «ب» .

الأطراف هنا هي: «كل «أ» هو «ب» »، «لا «أ» هو «ب» »، هذه المواقف هي الأيسر تفنيدًا، ولا يلزم لتقويضها إلا «مثال مضاد» counterexample واحد، مثل هذه القضايا الكلية هي عادة كاذبة (ما لم تكن «أ» و «ب» مرتبطتين بالتعريف)، وذلك بحكم طبيعة العالم وتكوينه، وتزداد صعوبة هذه القضايا في التفنيد تدريجيًّا حتى تبلغ أوج الصعوبة في أوسطها:«بعض «أ» هو «ب» »، «بعض «أ» ليس «ب» »، فلِكي تفند إحدى هاتين القضيتين يتعين عليك أن تثبت أحد الطرفين:«لا «أ» هو «ب» » أو «كل «أ» هو «ب» » على الترتيب، المتطرفون إذن هم القائلون بمذاهب تبدأ ب «كل» أو «لا أحد» ، فالمتطرفون في قضية الإجهاض مثلًا هو القائلون:«كل إجهاض مباح.» أو «كل إجهاض حرام.» من هنا دأبت مغالطة رجل القش على مهاجمة الأفكار أو الاتجاهات في صورتها المتطرفة حيث هي أضعف ما تكون.

قد يكون رأي الخصم «تعميمًا مقيَّدًا» (أو مشروطًا) qualified generalization فتأخذه أنت مأخذَ «التعميم المطلق» absolute generalization؛ لكي تسهِّل على نفسك

ص: 146

مهمةَ تفنيده بذكر مثال مضاد أو بضعة أمثلة، إنك إذن تقع في مغالطة «إغفال المقيدات» secundum quid.

(1)

وقد يكون رأي الخصم معتدلًا فتزيحه أنت إلى حافة الشطط والغلو التي كثيرًا ما ينقلب عندها الرأي إلى مسخٍ غريب منفِّر (أو شيطان demon) هو أبعد ما يكون عن الموقف المتوازن الذي يتخذه الخصم: فينقلب «التحرر» مثلًا إلى «تحلل» ، أو ينقلب «التحفظ» إلى «تزمت» ، أو ينقلب «الحزم» إلى «قسوة» ، أو تنقلب «الحصافة» إلى «جبن»

إلخ، يُطلق على هذه العملية، أي عملية قلب الموقف المعتدل إلى موقف متطرف، اسم «شيطنة» demonization (إضفاء الصبغة الشيطانية)، ويمكن بالتالي تسمية هذه المغالطة الفرعية اسم straw demon (شيطان القش).

كان دور رجل القش تاريخيًّا هو أن يُهوِّل مخاطر التغيير! يذكرنا التاريخ أن بضعةً من المفكرين والمصلحين يدعون إلى التحرر والتسامح قد تم سحقهم بفيالق جرارة من «رجال من القش» يدعون إلى الفوضى والإباحة وتدمير المجتمع

إلخ، وكان دور رجل القش سياسيًّا، وما يزال، هو تأليب الرأي العام بالتعبير الخاطئ عن مواقف الخصوم السياسيين أو زعماء الأحزاب الأخرى.

(4) كيف نحدد موقف الخصم الذي سنتناوله بالتفنيد

علينا، مثلما أوصى أرسطو من قبل، أن نمثل رأي الآخرين، تمثيلًا أمينًا وكاملًا وجوهريًّا، ولن يتسنى ذلك إلا بأن نحدد قائمة التزامات الخصم بكاملها، تلك الالتزامات التي ألزم نفسه بها في الحوار، والمسجَّلة عليه كتابيًّا أو صوتيًّا من خلال أسئلته أو إقراراته التي طرحها طوال الحوار، المشكلة هنا مشكلة عملية: كيف يمكنك أن تثبت أن موقفًا ما لخصم ما قد تم تحريفه في حالةٍ معينة؟ الأمر هنا يتوقف على تأويل ما عناه الخصم بقوله، واستشفاف موقفه الحقيقي في مسألة معينة، وهي مهمة صعبة أحيانًا بسبب تعدد التأويلات الممكنة.

من الأفضل بطبيعة الحال أن يتم التسجيل الدقيق لمجريات الحوار: صوتًا وكتابةً وشهودًا؛ وذلك لتجنب عثرة «أنت قلت/ لا لم أقل» ، غير أنه ليس من الميسور في المجالات

(1)

هي معاملة القاعدة ذات الاستثناءات المقبولة على أنها مبدأ مطلق (أو العكس: أي معاملة الاستثناء معاملة القاعدة). انظر تفصيل هذه المغالطة في موضعها.

ص: 147

اليومية المعتادة أن نتجنب هذه العثرة، وذلك لقصور الذاكرة البشرية من جهة، ولتفاوت الفهم وتأويل الأقوال من جهةٍ أخرى.

(5) مبدأ الإحسان principle of charity

وهنا تتجلى أهمية المبدأ المسمى «مبدأ الإحسان» في تأويل النصوص وفهم الآخرين: فحيثما تشعَّبت التأويلات الممكنة لقول الخصم، فإن من الحكمة أن تفسر الشك لمصلحة الخصم وأن تتناول التأويل الأوجه والأقوى بالنقد والتفنيد.

وقد استَنَّ كارل بوبر في مواجهة خصومه الفكريين مبدأ جديدًا يعد في ذاته درسًا من أهم الدروس المنهجية المستفادة من كتاباته، لقد دأب المفكرون طوال تاريخ الجدل والمناظرة على مهاجمة النقاط الضعيفة في دعوى الخصوم، لا نستثني من ذلك أعتى المجادلين من أمثال فولتير، غير أن لهذه الطريقة عيوبًا كبيرة: ذلك أن لكل دعوى جوانب قوية وجوانب أضعف، ومن البديهي أن جاذبية أي دعوى إنما تكمن في جوانبها القوية دون الضعيفة؛ ولذا فإن مهاجمة الجوانب الضعيفة في النظرية قد تحرج دعاتها، ولكنها لن تقوض الجوانب القوية التي يرتكزون عليها بدرجة أكبر، لعل هذا هو السر في أننا قلَّما نجد الناس تتنازل عن آرائها بعد أن تخسر جدلًا، فالأغلب أن تؤدي مثل هذه الخسارة في النهاية إلى تقوية موقفهم، إذ تدفعهم إلى التخلي عن الجوانب الضعيفة من نظريتهم أو تقويتها.

أما بوبر فقد كانت طريقته هي أن يواجه نظرية الخصم من زاويتها القوية، بل يحاول تقوية نظريته أكثر فأكثر وسد ثغراتها وتزويدها بمزيد من الحجج والدعامات قبل أن يشرع في شن هجومه، إنه يريد أن يجعل من خصمه «خصمًا جديرًا بمهاجمته» ، وأن ينقَضَّ على نظريته وهي في أوج قوتها وجاذبيتها، إنها طريقة مثيرة وشائقة، ونتائجها، إذا ما نجحت، قاصمةٌ مدمِّرة، ومن الصعب أن تقوم لنظريته قائمة بعد أن يكون كل ما لديها من ذخر ومصادر إمداد قد تمَّ تدميره.

(1)

(1)

نستثني من ذلك نقد بوبر لهيجل؛ وهو نقد غير مُنصف، ويعج بالقدح الشخصي والسب المقذِع، راجع كتابنا «كارل بوبر، مائة عام من التنوير ونُصرة العقل» ، دار النهضة العربية، بيروت، 2002، ص 151 وما بعدها.

ص: 148

(6) أمثلة لمهاجمة رجل من القش

(1)

السيد النائب يطلب خفض الزيادات المخصصة للخدمات الصحية بنسبة 20?، ولكن كيف لنا أن نبخس الصحة نصيبها من اهتمامنا ونحرم أطفالنا من حقهم في التطعيم والرعاية. (قد لا نوافق النائب على اقتراحه، ولكن لاحظ أن الخفض الذي يطالب به النائب هو خفض في زياداتٍ مضافة، وليس خفضًا فيما هو قائم، وأن النسبة المطلوب خصمها (الخمس) لا تبلغ أن تكون «بخسًا» ، وأن محصلة الاقتراح لن تفضي إلى النتيجة الكارثية المزعومة (لا تطعيمات، لا رعاية)، وأن النسبة المدخرة قد تقيَّض لمرفقٍ آخر ليس أقل أهمية من الصحة، كالتعليم والبحث العلمي

إلخ.)

(2)

«إن التصويت لجولد ووتر إنما هو تصويت للحرب النووية» (ليندون جونسون في حملته الانتخابية عام 1964).

(3)

«كيف تحظى نظرية أينشتين بكلِّ هذا القبول وهي تذهب إلى أن كلَّ شيء مباح، وأن الأخلاق إنما هي شأن نسبي يختلف من بيئة ثقافية إلى أخرى.» (لاحظ الخلط بين نسبية أينشتين theory of relativity الفيزيائية الخالصة والنسبية، أو النسبوية، الأخلاقية moral relativism التي تتحدث عن المجال الأخلاقي والقيمي ولا صلة لها بمجال الفيزياء من قريب أو بعيد.)

(4)

كثيرًا ما تؤخذ المادية الحديثة، والتي تُسمَّى أحيانًا «المذهب الفيزيائي» physicalism بجرائر المادية الكلاسيكية الساذجة القديمة.

(5)

وكثيرًا ما تُفنَّد الوضعية المنطقية logical positivism تفنيدًا لا ينطبق إلا على وضعية كونت.

(6)

وكثيرًا ما يؤخذ المذهب الشكلي عند أمثال كلايف بِل على أنه تركيز على الشكل على حساب المضمون، بينما تعني نظرية كلايف بِل شيئًا مختلفًا تمامًا ويكاد يتجه إلى العكس!

(7)

ينبغي زيادة الدعم للأمهات المطلقات العاطلات عن العمل خلال العام الأول من الولادة حتى يتسنى لهن تقديم الرعاية اللازمة لمواليدهن. إنك تطالب بأن تنال بضع طفيليات عاطلات متبطلات ما طاب لهن من عرق دافعي الضرائب من المواطنين العاملين الشرفاء.

ص: 149

(7) الاستخدام المشروع لرجل القش

أحيانًا ما تظهرنا الصورة الكاريكاتورية على مميزاتٍ وعيوب لم نكن نلحظها في الشخص الأصلي، وكذلك يفعل التقليد الفكاهي للشخصيات والمحاكاة الأسلوبية الساخرة للمؤلفين (الباروديا parody)، وليس ما يمنع أن يستعين المرء بصورة هزلية كاريكاتورية للرأي الذي سوف يتناوله بالتحليل والنقد، ما دام يعلن ذلك إعلانًا ويُسلِّم بأن هذا ليس رأي الخصم على وجه الدقة، ولكنه كاريكاتور فيه تضخيم لعيوبٍ دقيقة ربما تلطُف على ملاحظة القارئ العادي، إنه يقدمه على سبيل التوطئة؛ لكي لا يلبث أن يُسدل عليه الستار دون طعن ويركز الضوء على هذه النقاط الدقيقة بحجمها الطبيعي وبكل الأمانة في التمثيل والطرح، في هذه الحالة يكون رجل القش تقنية بيداجوجية، أو وسيلة إيضاح مسعفة، تَتَغيَّا المزيد من الدقة في التمثيل، وتتبرأ من التحريف والتشويه وليِّ الحقائق.

•••

ومهما يكن من شيءٍ فإن مهاجمة خصم من القش بدلًا من الخصم الحقيقي هي في أغلب الأحيان ضرب من الغش والجبن، وخروج عن الموضوع، ومضيعة للوقت والجهد، ومحاولة بائسة لإحراز انتصارٍ رخيص، تنم بالأحرى عن افتقارٍ إلى انتصارات حقيقية غير مختلقة، وتعطُّشٍ إلى نجاحات واقعية غير موهومة.

كن رجلًا إذن، ولا يكن دَيْدَنُك أن تنسج الدُّمى وتحشوها قشًّا وتُوسعها لكمًا، متحاشيًا بين ذلك التقاء الخصوم وبأسَ الرجال:

وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ

طلبَ الطعنَ وحدَه والنزالا

كن محسنًا لخصمك، واعرِض حجتَه في أدق صورة وأقواها، ثم قَوِّضها تَكن قد فَعَلت شيئًا يُذْكر.

ص: 150

الفصل التاسع عشر

مغالطة التَّشييء

Reification; hypostatization; substantialization of abstracta

رَكِبَه التشييء،

فراح يفك محركَ سيارته، بحثًا عن العشرين حصانًا

التي هي «قوة المحرك» !

***

أراد جحا أن يتزوج، فبنى دارًا تتسع له ولأهله، وطلب من النجار أن يجعل خشب السقوف على أرض الحجرات ويجعل خشب الأرض على السقوف، فراجعه النجارُ دَهِشًا، ولم يفهم ما يعنيه، قال جحا:«أما علمت يا هذا أن المرأة إذا دخلت مكانًا جعلت عاليَه سافله؟ اقلِب هذا المكان الآن يعتدل بعد الزواج.»

(1)

في هذه النادرة الكوميدية «يُشَيِّئ» جحا تعبيرًا بيانيًّا رائجًا، ويُحمل استعارةً بريئةً ما لا تحتمل ويأخذها بغير ما قصدَت إليه، وفي هذه النادرة تضخيمٌ كاريكاتوري لمغالطةٍ شائعةٍ نقع فيها جميعًا، ربما كلَّ يوم، ونبتلعها جميعًا، ربما كلَّ لحظة، حين تأتي في صورةٍ أشَدَّ خفاءً، وتكتسي برداءٍ أكثرَ اعتيادًا وإلفًا.

(1)

عباس محمود العقاد: جحا، الضاحك المضحِك، دار نهضة مصر، القاهرة، 1997، ص 107.

ص: 151

«التشييء» (الأَقنَمَة) reification/ hypostatization هو أن تُعامل المجردات أو العلاقات كما لو كانت كياناتٍ (كائنات) عينية concrete entities، أو أن تَنْسِب وجودًا حقيقيًّا للتصورات العقلية أو البناءات الذهنية.

لقد برع بنو الإنسان حقًّا في خلق تصورات مجردة ومفاهيم ذهنية تساعدهم على حصر الأشياء والأحداث، وتصنيفها واختزالها اختزالًا يتيح لهم من الاقتصاد الذهني ما يمكِّنهم من الإحاطة بأشياء العالم وتناولها، غير أن المأساة تكمن في أن هذه العملية قد تجري أيضًا في الاتجاه العكسي: أي معاملة التصور المجرد كما لو كان «شيئًا» حقيقيًّا، حين يحدث ذلك نكون بإزاء مغالطة منطقية عتيدة مُبيَّتة في صميم العقل البشري ذاته وفي طريقة أدائه لوظيفته.

لا غرو تُعَد «مغالطة التشييء» reification من أهم المغالطات وأكثرها شيوعًا، وإن أنساقًا فلسفية بكاملها، ومذاهب سياسية واجتماعية وأخلاقية، ونظريات علمية، لتقوم على هذه المغالطة الكبيرة وتتأسس عليها، وإذا كان للفلاسفة مطلقُ الحرية في أن يقرَّروا أي الأشياء يُعد حقيقيًّا وأيها غير حقيقي، فليس من حقهم أن يُرحِّلوا تشييآتهم إلى الحقول الأخرى من البحث ملحقين بها اضطرابًا وخلطًا كان منه بُد

يَعِجُّ تاريخ العلم والاجتماع والسياسة، وحتى الرياضيات، بعثراتٍ كبرى عطَّلت مساره حقبًا، كنتيجةٍ لإلحاح المفكرين في طلب «تعريفات حقيقية» تقرر ما «تكونه» الأشياء استنادًا إلى «ما ينبغي أن تكونه» في تصورهم، وإنكار أصقاعٍ كاملة من البحث بوصفها غير حقيقية أو غير صالحة.

للتشييء رغم ذلك مجالُه الذي يُستخدَم فيه، عن قصد وإدراك، لخدمة الحقيقة والتعبير عن الواقع، ذلك هو المجال البياني البلاغي كما يتجلى في ألوان الاستعارة والمجاز والتشخيص، وهي وسائل لغوية شديدة الأهمية والجدوى في الأدب والشعر (بل في العلم نفسه في بعض الأحيان!) وبعيدة عن المغالطة بحكم طبيعة التعبير ذاته وموقفنا فيه ومأخذنا له، على ألا نمتد بتلك الاستعارات البريئة إلى غير مقصدها ونَحمِلَها على غير مَحمَلِها.

الحق أن التشييء ليس أكثر من استخدام «استعارة» metaphor، غير أنه، حين يكون مغالطة، يأخذ الاستعارة بعيدًا، أو يأخذنا بها؛ حتى ننسى أنها استعارة ونبدأ في الاعتقاد بأن كياناتنا التصورية المجردة لديها الخصائص العيانية التي أضفيناها عليها على سبيل الاستعارة، إن طريقتنا في وصف الشيء لها بالغ الأثر فيما نعتقده عن الشيء،

ص: 152

يعني ذلك أن انطباعنا عن الواقع تُشيِّده، إلى حد كبير، اللغةُ التي نستخدمها في وصف الواقع، هكذا تهيب بنا دراسة «التشييء» أن نتوخى الحذر في طريقتنا في وصف الأشياء، لئلا نشرع، دون أن ندري، في تصور أن وصفنا يحوي ماهيةً موضوعيةً خارج اللغة ذاتها.

من الحالات النمطية للبارانويا، أو الفصام البارانوي، أن يُعاني المريض من اعتقادٍ راسخٍ بأنه مضطهدٌ من قبل إخوته وأقاربه وزوجته وجيرانه وأصدقائه وزملاء عمله، وقد يكون هناك شيء من الاضطهاد الطفيف كرد فعل لسلوكه العدواني تجاههم، وقد يكون هؤلاء انفضُّوا عنه نتيجة شكوكه واضطرابه، غير أن المريض لا يعني ب «الاضطهاد» هنا مجرد وصف لسلوك هؤلاء، ولا «يرده» إلى مجموع استجاباتهم السلوكية تجاهه، بل «يُشَيِّئ» (يُؤَقنِم) reify، hypostatize الاضطهاد ويوقن بأن هناك «قوة سرية» من وراء هذه الاستجابات السلبية، ليس «الاضطهاد» عنده مجرد «فئة» من الأحداث يصنِّف تحتها سلوكات الآخرين حياله، بل هي «كيان حقيقي» مستقل عن العالم يقبع من وراء هذه السلوكات ويسببها بطريقة سرية، وما الإخوة والأقارب والزوجة والجيران وزملاء العمل إلا عملاء لهذه «القوة» ، إنها كيانٌ واقعي أفلاطوني قائم، يتمتع بوجودٍ حقيقي ووضعٍ أنطولوجي.

إن التشييء ضربٌ من الجنون العقلي سهل الانكشاف في حالة البارانويا، غير أنه أصعب انكشافًا في الحالات الأكثر اعتيادًا وإلفًا، والتي نصادفها كل لحظة في حياتنا اليومية وفي حواراتنا وقراءاتنا ومشاهداتنا التليفزيونية.

يُشيِّئ العرَّافون وزبائنهم مفهوم «المستقبل» وكأنه «شيءٌ» يمكن أن يقبع في المرمدة أو الفنجان أو كرة البلور، أو كأنه نوع من البلاد قائم هناك حيث تجري الحوادث التي سوف يُعاد إنتاجها على هذه الأرض حين يأتي أوانها، إنها «هناك» تمكن رؤيتها على نحوٍ غامض في الكف وثفالة البن وأوراق اللعب، وما عليك سوى انتظار وصولها مثلما تنتظر خطابًا هو في البريد بالفعل.

يقول هيجل:

الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد في الحاضر

إنها القوة المطلقة على الأرض، إنها غاية ذاتها وموضوع ذاتها، إنها الغاية النهائية التي لها الحق الأعلى على الفرد.

ورغم أننا يمكن أن نفهم هيجل فهمًا استعاريًّا يبرِّئه من التشييء، إلا أن كلماته صارت تُفهم فهمًا تشييئيًّا لدى ملايين البشر من مختلف الاتجاهات: منها الماركسي،

ص: 153

ومنها النازي وغيره من ضروب الشوفينية البغيضة، وصارت تعني أن الأمة غايةٌ عُليا بمعزلٍ عن رخاء الفرد وصالحه، بمعنى أن هناك كائنًا عملاقيًّا قائمًا يسعد ويشقى ويصح ويمرض يُقال له «الأمة» نضحي من أجله بالأفراد ونذبحهم تقدِمةً لجلاله.

يقول سلفادور دي مادارياجا Salvador de Madariaga في تعليقه على هذا الاتجاه: «كلَّا وألف كلَّا، الغاية العليا هي الفرد، وينبغي ألا تكون للمؤسسات الجمعية سلطةٌ عليه إلا بقدر ما يلزم لنموه الفردي الخاص.»

(1)

وكثيرًا ما يتحدث هواة السيكولوجيا عن «الأنا» ego و «الهو» id كأنها أنفسٌ بديلة تتناوب الأمر داخل الرأس (مثل «الشبح داخل الآلة» the ghost in the machine على حد تعبير جلبرت رايل ساخرًا من ثنائية ديكارت).

ويُشيِّئ أغلب الناس الحب وكأنه كائنٌ شبحيٌّ يتلبس المحب فيسهِّده ويُبليه، الحب ليس «جوهرًا» substance بل «علاقة» relation، ليس «كائنًا» بل انسجام كائنَين، ولعل هذا التشييء هو ما يجعل المحِبَّ يستسلم للحب ولا يرجو مهربًا من حبائله، ظنًّا منه أن الأمر برُمَّته قَدَرٌ لا فكاك منه، لقد سكن الحبُّ قلبَه وأقام به فكيف له أن يطرد هذا الساكن المقيم؟! ويظل المحب يسقط نموذجه الأنثوي المثالي على محبوبته الحقيقية «الأرضية» فيجعل منها إلهًا لا وجود له إلا في خياله، حتى إذا ما اقترب منها اقترابًا واقعيًّا خاب أملُه وأخنت عليه الحقيقة، وسقط على صخرة الواقع فشَجَّته بقدر ما علا بالمثال، وصدق فيه قول المتنبي:

مما أضرَّ بأهل العِشقِ أنهمُ

هَووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا

تَفْنى عيونُهُم دمعًا وأنفسهم

في إثر كلِّ قبيحٍ وجهُهُ حَسَن

‌أمثلة أخرى

(1)

«الطبيعة تبغض الفراغ» (لاحظ أن الطبيعة لا تبغض شيئًا).

(2)

«أغراض الطبيعة دائمًا نبيلة، ومِن ثَمَّ ينبغي علينا أن نقبل بالطبيعة» (لاحظ أن الطبيعة لا أغراض لها).

(1)

Sontage and Beddie، Nazi-Soviet Relations.New York: Didier، 1948، p.VIII.

ص: 154

(3)

«وحدها القوانين العادلة ما يداوي آلام المجتمع» (القوانين لا «تداوي» شيئًا، و «المجتمعات» لا تتألم).

(4)

«الصناعة خطر على الطبيعة والمجتمع» (الصناعة ليست «شيئًا»، ولا تجترح أي فعل، والطبيعة والمجتمع ليسا «أشياء» لكي يُفعل بها أي شيء، بعض الصناعات قد تسبب ضررًا ببعض الأشياء الطبيعية أو بعض الأشخاص في مجتمعٍ ما، غير أن معاملة أيٍّ من هذه ككيانات، حتى لو كانت كيانات جمعية، هي مغالطة).

(5)

ماذا تساوي الاعتبارات الشخصية إلى جانب حاجات المجتمع، ومصير الأمة، والحفاظ على الثقافة؟ (لاحظ أنه ما دام «المجتمع» لا حاجات له، و «الأمم» لا مصائر لها، وليس هناك «شيء» من قبيل «الثقافة» لكي تحفظه، فإن الاعتبارات الشخصية في حقيقة الأمر هي كل ما يتبقى هناك!)

يمكننا بالطبع أن نفهم «الطبيعة» و «المجتمع» ، و «الصناعة» ، و «الأمة» ، و «الثقافة» في الأمثلة السابقة فهمًا استعاريًّا مجازيًّا فلا تعود في الأمر مغالطة، غير أن الناس كثيرًا ما تعامل مثل هذه «الأنساق» الكلية كم لو كانت «كيانًا شبيهًا بالشيء» ، وهنا تبدأ بالمغالطة.

كان هتلر في أواخر أيامه، وقد صار على يقين من الهزيمة، يتحدث عن «الأمة» وكأنها كائنٌ حقيقي قائم بمعزلٍ عن الأفراد

كائن أعلى ينبغي أن يفديه الأفرادُ جميعًا بأرواحهم حتى لو قضوا عن آخرهم!

ص: 155

الفصل العشرون

انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)

Confirmation bias

دَلَفَ إلى المناظرة التليفزيونية يتأبَّط أضابير منتفخة

بقصاصاتٍ ووثائق تؤيد دعواه،

ولعله بنصف هذا العَرَق

كان قمينًا أن يجمع ضِعفيها

من القصاصات والوثائق المُفَنِّدة!

***

في تجربة شهيرة

(1)

عُرِض على المشاركين أربع بطاقات، كل بطاقة منها تحمل عددًا على أحد وجهيها وحرفًا أبجديًّا على وجهها الآخر، مثل هذا:

|

(1)

تُسمَّى «مشكلة بطاقات واسون» Wason card problem.

ص: 157

ثمة فرضيةٌ في هذه البطاقات تقول بأنه: «إذا كان في البطاقة حرفٌ متحرك على أحد وجهيها، فإن على وجهها الآخر عددًا زوجيًّا بالضرورة.» والمطلوب من المشارك أن يقدم أسرع طريقة لاختبار هذه الفرضية (أو يُطلَب منه، بصيغة أخرى، تحديد بطاقتين اثنتين فقط عليه أن يقلبهما لكي يختبر صدق هذه الفرضية).

في هذه التجربة وقع جميع المشاركين تقريبًا في الاختيار الخطأ (وهو: E، 4) ولم يهتدوا إلى الجواب الصحيح (وهو: E، 7)، ذلك أن عليك أن تقلب بطاقة E لتكشف إن كان هناك عدد زوجي على ظهرها، فإذا لم يكن فالفرضية كاذبة، يتعين عليك أيضًا أن تقلب البطاقة 7 لكي تتيقن من أنها لا تحمل في ظهرها حرفًا متحركًا، فإذا وجدتَه فالفرضية كاذبة، وما دامت البطاقة E بها عدد زوجي والبطاقة 7 ليس بها حرف متحرك فإن الفرضية صادقة، ولا يهم ما يكون على ظهر البطاقة 4 والبطاقة K ولا يغير من الأمر شيئًا.

(1)

«والآن ما هو مصدر الضلال هنا؟»

«لماذا نميل فعلًا إلى اختيار البطاقة 4 بدلًا من 7؟»

يبدو أن لدينا ميلًا صميمًا إلى أن «نؤيِّد» confirm مثل هذه الفرضيات بدلًا من أن «نُفنِّدها» disconfirm، إننا نقلب البطاقة 4 لأننا نبحث فقط عن أمثلة موجبة للفرضية وليس أمثلة سالبة، إننا أميل إلى البحث عن دليل «مؤيد» حتى إذا كان الدليل «المفنِّد» أكثر دلالةً بكثير.

يفكر الواحدُ منا بمثل هذه الطريقة: «إذا قلبتُ بطاقة العدد الزوجي ووجدت حرفًا متحركًا أكون قد أيَّدتُ العبارة» غير أن العثور على مثالٍ يؤيد القاعدة لا يُثبت أن القاعدة صادقة، بينما العثور على مثالٍ واحدٍ يُكذِّب القاعدة هو أمرٌ يكفي لأن يُثبت كذبها على نحوٍ نهائي حاسم ويقضي عليها قضاءً مبرمًا.

انظر أيضًا إلى المثال التالي: فهذا سياسي يرى أن إلغاء الضرائب المحلية سوف يؤدي إلى انخفاض معدلات الجريمة؛ ومِن ثَمَّ فقد طلب من الباحثين لديه أن يجمعوا أمثلةً لحالاتٍ أُلغِيتْ فيها الضرائب المحلية ثم انخفضت معدلات الجرائم، وجد الباحثون

(1)

لاحظ أنَّ الفرضية هنا هي عبارة شرطية conditional، والعبارة الشرطية تكون كاذبة إذا - وفقط إذا - كان مُقدَّمها (عبارة إذا) صادقًا وتاليها (عبارة إذن) كاذبًا.

ص: 158

أن هناك مائةً من هذه الأمثلة، إذاك خلص السياسي إلى أنه محقٌّ في افتراض أنه بخفض الضرائب المحلية يمكنه أن يقلِّص الجريمة.

لقد أراد السياسي أن «يؤيد» فرضيته فحسب، لا أن «يُفنِّدها» ، وربما يكون بذلك قد ضلَّ السبيل، ولعل باحثيه لو جدُّوا في الطَّلَب لأتوا له بمائتي حالةٍ ارتفعت فيها الجريمة بعد إلغاء الضرائب المحلية!

في مجال الاستدلال الإحصائي يُعدُّ انحياز «التأييد» confirmation (أو «التحقيق» verification) ضربًا من الانحياز المعرفي تجاه تأييد الفرضية محل الدراسة، ومن أجل معادلة هذا الميل البشري الملاحظ يتم تشييد المنهج العلمي بطريقة تُلزِمنا بأن نحاول تفنيد disconfirmation (أو تكذيب falsification) فرضياتنا.

وفي مجال السيكولوجيا يُعرَّف انحياز التأييد بأنه ظاهرة تتميز بميل صانعي القرار إلى ملاحظة الأدلة المؤيدة لدعاواهم والاحتفاء بها والتماسها بهمةٍ، بينما يميلون إلى تجاهل الأدلة التي قد تنال من الدعاوى، وإلى التقاعس عن طلبها والبحث عنها، وهي بهذا المعنى تُعد صورة من صور «الانحياز الانتقائي» selection bias في جَمْع الأدلة.

يذهب البعض إلى أن انحياز التأييد قد يكون هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية «المُخَلِّدة لذاتها» و «المُحققة لذاتها» ، وقد يكون سبب هذا الانحياز هو أن الذهن البشري بحُكم تكوينه يجد صعوبةً في «معالجة» processing الإشارات السالبة أكثر مما يجده في معالجة الإشارات الموجبة.

وتُشير الدراسات الحديثة رغم ذلك إلى أنه بينما تسود مغالطة التأييد كحالةٍ مبدئية، فإن تكرار ورود البيانات المفنِّدة يُحدث تحولات في التفكير النظري، فالمسلك العام لدى الباحثين هو استبعاد البيانات المفنِّدة في البداية باعتبارها نتاج زللٍ أو سهو أو عوامل دخيلة، غير أن تكرار البيانات المفنِّدة وتراكمها وإلحاحها في الظهور يُحدث تغيرًا في استراتيجيات الاستدلال السببي.

(1)

(1)

لمزيدٍ من الإيضاح انظر أيضًا «بنية الثورات العلمية» لتوماس كون، وله بالعربية أكثر من ترجمة، ومن تمام القول أن نُشير إلى أنه في السياق العياني لا يقع الناس في خطا انحياز التأييد بنفس المعدل: من ذلك أنه لدى تقديم نسخة «عيانية» من نفس الاختبار اهتدَى عددٌ كبير من المشاركين إلى الإجابة الصحيحة، من أمثلة هذه الصيغة العيانية تقديم أربع بطاقات كل بطاقة بها مشروبٌ معين على أحد وجهيها وعُمْرُ شارِبِه على الوجه الآخر: قهوة، كولا، 14، 18، وتقول الفرضية إنه إذا كان الشخص يشرب القهوة فإن عمره إذن لا بد من أن يكون فوق 16.

ص: 159

(1) كارل بوبر: مذهب التكذيب falsificationism

«كان بوبر مناوئًا لفكرة أن المعرفة العلمية تتراكم عن طريقة تأييد الفرضيات أو تحقيقها، وفي تصور شديد الاختلاف والجدَّة لدينامية العلم ذهب بوبر إلى أن الفرضيات لا تكون جديرة حقًّا بالقبول ما لم تكن قابلة للتكذيب، كانت فكرته مدمِّرةً وبسيطة: من السهل أن تجد أمثلة مؤيدة للفرضيات، سهولة تجعل من المستبعد أن يكون هذا هو طريق العلم الصحيح، تأمل مثلًا فرضية بسيطة مثل: «جميع النباتات تتكاثر جنسيًّا» ، فإذا كان كل ما يلزمني هو الشواهد المؤيدة لذلك، فإن بميسوري أن أُهرَع إلى الحديقة وأكتشف أن جميع الزنابق الستمائة وأربع وستين تتكاثر جنسيًّا، وهلمَّ جرًّا، وسرعان ما يجتمع لديَّ عددٌ هائل من الأمثلة الموجبة، ومع ذلك فلو اطَّلع أيُّ عالمِ نبات على عملي فلن يأبه له؛ لأنني لم أحاول أن أجد مثالًا «مفنِّدًا» ، لم أنظر إلى حالات يمكن أن تكون «أمثلة مضادة» counter-examples، فقبل تَبَنِّي أي فرضية ينبغي عليَّ أن أفحصَ كثيرًا من الأنواع المختلفة من النباتات المزهرة، وأن أفحص الأعشاب والسراخس، وبعامةٍ، يجب عليَّ أن أحاول جهد ما أستطيع أن «أُكذِّب» falsify فرضيتي.

تأمل فرضية أخرى، وهي الفرضية القائلة بأن «منطقة بروكا» هي التي تتحكم في إنتاج الكلام، فلكي يُبرهن المرءُ على هذه الفرضية فلن يكفيه أن يعثر على ارتباط موجب بين حالات تَلَف منطقة بروكا وبين فقدان الكلام، فلا بُدَّ للمرء أن يكشف ما إذا كان هناك مرضى بتلفٍ في منطقة بروكا بدون فقدان للنطق، وأن يكشف ما إذا كانت هناك حالات فقدان نطق مع تلف في مناطق أخرى، عندئذٍ سيكون الفشل في التكذيب ذا دلالة، بعكس تجميع الحالات المؤيدة، تفيد دعوى بوبر أن العالم إذا قبِل الفرضيات عن طريق إيجاد أمثلة مؤيِّدة فسوف ينتهي به المطاف إلى قبول ما لا يُحصَى من الفرضيات الكاذبة والسير فيما لا يحصى من الطرق المسدودة، أما إذا ظفر بفرضيةٍ صمدت لمحاولاتٍ عنيفة لتكذيبها، فعندئذٍ يمكنه قبول هذه الفرضية، لا باعتبارها صادقة، ولا باعتبارها مؤيَّدة، بل باعتبارها أفضل فرضية متاحة حتى الآن.»

(1)

يمكننا أن نفسرَ العلاقةَ المنطقية بين التحقيق والتكذيب كما يلي: تتنبأ النظرية القائلة بأن الدببة القطبية يجب أن تكون بيضاء بأن الدب الذي سأراه في المرة القادمة

(1)

Churchland، P.S.، Neurophilosophy، ninth edition، A Bradford book، The MIT Press، 1996، pp. 259 - 260.

ص: 160

سيكون أبيض، فإذا حدث أن كان الدب القادم أبيض حقًّا فقد يُغرِيني ذلك بأن أقول إن مشاهدتي هذه تؤيد النظرية، ولكن الحقيقة أن هذه المشاهدة لا يمكن أن تُعد برهانًا نهائيًّا على صدق النظرية؛ ذلك لأن هناك احتمالًا سيظل قائمًا أبدًا بأن يأتي دب قادم في رَتَل الملاحظة غير أبيض، وإذا حدث هذا تكون هذه الملاحظة وحدها كافية لتكذيب النظرية بصفةٍ نهائية، هكذا يتبين لنا أن التأييد لا يحسم أمر النظرية بينما التكذيب يمكن أن يَكِيل للنظرية ضربةً واحدةً قاضية.

التكذيب إذن، وليس التأييد، هو معيار العلم.

أما عن التأييد فإن بوسع أي نظرية أن تجد لها ما شاءت من الأدلة التي تتسق معها وتؤيدها، وتزعم معظم النظريات التي تدعي الصفة العلمية أنها مشيدة أصلًا على أساس التفكير الاستقرائي؛ أي استقراء كل الحالات المعروفة واستخلاص تعميم يشملها جميعًا، وماذا يكون التأييد هنا سوى الإتيان بمزيد من نفس الصنف من الحالات؟! إن هذا من الوجهة المنطقية هو عُقم لم يأتِ بجديد، أما المنهج المُجدي عند بوبر فهو أن نفكر استنباطيًّا ونفتش عن حالات مفنِّدة للنظرية؛ لأن العثور على مثال مضاد واحد سيكون كافيًا للإجهاز عليها، أما إذا صمدت النظرية ستُعَد قوية وأهلًا بالأخذ بها باعتبارها أفضل فرضية متاحة آنيًّا.

(2) فرنسيس بيكون: المثال السلبي فوق المثال الإيجابي

اقرأ واستمع: لا لكي تمارِي وتُفحِم، ولا لكي تعتقدَ وتُسلِّم، ولا لكي تظفر بحديثٍ أو قول، بل لكي تروز وتُمحِّص.

فرنسيس بيكون

يقول بيكون في «الأورجانون الجديد» Novum Organum: «من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيًا (سواء لأنه الرأي السائد أو لأنه راقَه وأعجبه) أن يَقسِر كل شيء عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد أكثر عددًا وثقلًا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقةً تُسوِّل له أن يزيحها وينبذها، لكي يَخلُص، بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبق، إلى أن استنتاجاته الأولى لا تزال سليمةً ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابًا وجيهًا ذلك الذي بَدَرَ من رجلٍ أطلعوه على صورةٍ معلقةٍ بالمعبد لأناسٍ دفعوا نذورَهم

ص: 161

ومِن ثَمَّ نجوا من حطام سفينة، عساه أن يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال:«حسنًا، ولكن أين صور أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟!»

وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه، حيث نجد الناس، وقد استهوتهم هذه الضلالات، يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أما الأحداث التي لا تتفق، رغم أنها الأكثر والأغلب، فيغفلونها ويغضون عنها الطرف.

على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاءً ودقة إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكمُ الأول لونَه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديد أفضل وأصوب بما لا يُقاس، وفضلًا عن هذا، وبِغَض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرت، فإن من الأخطاء التي تَسِم الفكرَ الإنساني في كل زمان أنه مغرم ومُولَع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة، حيث ينبغي أن يقف من الاثنين على حياد، والحق أنه في عملية البرهنة على أيِّ قانون صادق يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهةً وفعالية» (الأورجانون الجديد، الكتاب الأول، شذرة 46).

ص: 162

الفصل الحادي والعشرون

إغفال المقَيِّدات

Ignoring qualifications; secundum quid

قالت القاعدة للاستثناء: لماذا تَعْلَق بجناحي دائمًا وتُقيِّدني

ولا تدعُني أبسط ظلي على العالم؟

ردَّ الاستثناء على القاعدة:

أفيقي

أنا لست عالقًا بجناحك،

أنا منك

أنا أكبرُ قوادمك،

وأشدُّ مؤيديك.

***

يتألف شطرٌ كبير من حديثنا اليومي من عبارات حول ما تكونه الأشياء على وجه الإجمال، وكيف يسلك الناس بصفة عامة

إلخ، ونحن نستند إلى هذه الأحكام العامة في جدلنا السياسي والأخلاقي وفي أغلب الشئون الهامة في الحياة الاجتماعية، غير أن علينا أن نحذر من التعنت في تطبيق هذه التعميمات على حالات خاصة قد لا تنطبق عليها، ذلك أن الظروف والملابسات تغير الحالة، والتعميم الذي يصدق على الإجمال قد لا يصدق في حالة معينة؛ لأسبابٍ وجيهة تتعلق بالظروف الخاصة (أو «العَرَضية» accidental) لتلك الحالة، حين نطبق تعميمًا على حالات فردية لا يشملها التعميم على نحو صحيح

ص: 163

فنحن نرتكب إذَّاك «مغالطة العَرَض (المباشر)» fallacy of accident، أما حين نفعل العكس ونتناول، عن غفلة أو عن قصد، مبدأ يصدق على حالةٍ استثنائية معينة ثم نمده لينسحب على المجرى العام للحالات، فإننا نرتكب «مغالطة العرض المعكوس» fallacy of converse accident، والحق أن مكمن الخطأ واحد في الحالتين، وهو إغفال المقيدات أو المحدِّدات أو الشروط التي ينطوي عليها التعميم، واستخدام القاعدة ذات الاستثناءات المقبولة على أنها قانون مطلق.

ذلك أن بمقدور التَّنَطُّع أن يخلط بين صنفين مختلفين من التعميم:

(1)

«التعميم الشامل أو المطلق» : وهو تعميم لا يسمح بأي استثناء، ويكفي «مثال مضاد» counter-example واحد لدحضه أو تكذيبه.

(2)

«التعميم القابل للإبطال defeasible أو المقيَّد qualified» : وهو تعميم يسمح باستثناءات، ويتساوق مع وجود أمثلة مضادة معينة، إنه تعميم غير صارم، بل اختباري وقابل للتعديل والتطوير.

إلى هذا الصنف الأخير من التعميم تنتمي أغلب القواعد والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية والمدنية والعُرفية، وكذلك التعميمات التجريبية والفروض المسبقة، والحِكَم والأمثال والأقوال المأثورة، ويعج الحس المشترك بمثل هذه القواعد العامة التي تصدق على الجملة لا على الإطلاق، إننا نعيش فيها وبها، ونعرف بفضلها وجهتنا وننظم حياتنا وندخر طاقتنا، على أن نأخذها مأخذ الأداة التي ينبغي أن نستخدمها لا أن تستخدمنا، فهي، شأن كل أداة، قد تجلب الضرر مثلما تجلب النفع، وذلك حين يُساء استخدامها، وإساءة استخدام القواعد هي أن نأخذها مأخذ المطْلَقات حين نكون بصدد الاستثناء، أو، على العكس، حين نأخذ الاستثناء مأخذ القاعدة.

إن أصلب القواعد العملية وأشدها ثابتًا وبداهة إنما تقوم على المألوف المتاح في البيئة، وتنتسب إلى السياق الثقافي والتاريخي للمرء (مثال ذلك أن قولنا «معظم الطيور قادرة على الطيران» إنما هو تعميم تجريبي من الخبرة المتاحة، وليس ما يمنع أن تكون هناك أعداد غفيرة من طيور البطريق في القارة المتجمدة الجنوبية تقلب الآية وتجعل الصواب أن «معظم الطيور لا تطير»).

تُعَلِّمنا الخبرة أنه ما من تعميم، مهما اتسع تطبيقه وعَمَّ نفعه، إلا وله استثناءاتٌ تفلت من طائلته، في مجال القانون مثلًا نجد أن المبادئ التي تصح في عموم الأحوال

ص: 164

لا تخلو من حالات استثنائية محددة، من ذلك أن مبدأ «بطلان شهادة الشاهد بما سمع من الغير» (شهادة الرواية أو السماع عن الغير) hearsay testimony (أي أن الشهادة عن الغير لا تُقْبَل كدليل أو بينة) لا يسري إذا كان الطرف المروي عنه متوفى أو عندما يكون ناقل الشهادة يفعل ذلك ضد مصلحته الشخصية الأكيدة.

وفي محاورة يوثيديموس ينتزع سقراط من يوثيديموس، الذي يعتزم أن يصير رجل دولة، التزامًا أو تعهدًا بكثير من الحقائق الأخلاقية المتفق عليها:«من الخطأ أن تخدع» ، «من الظلم أن تسرق»

إلخ، عندئذٍ يُقدِّم سقراط سلسلةً من الحالات الافتراضية التي تخرق المبدأ العام، فلا يجد يوثيديموس فكاكًا من أن يوافق على أنه قد يبدو أن من الصواب أن تخدع (لكي تنقذ مواطنيك)، وأن من العدل أن تسرق (لتنقذ حياة صديق)

إلخ.

(1) أمثلة من مغالطة العرض المباشر accident

سيارة الإسعاف التي عبرت الآن تستحق مخالفة لأنها كسرت الإشارة الحمراء.

لا شأن لي بنزيف أنفك، التعليمات صريحة: غير مسموحٍ لأي طالب بالذهاب إلى الحمام إلا بعد جرس الحصة.

لا يُسمح للسيارات بتجاوز حدود السرعة. سيارات الشرطة هي سيارات؛ إذن لا يُسمح لسيارات الشرطة بتجاوز حدود السرعة.

قَطع أجساد الناس بالسكين جريمة. الجرَّاحون يقطعون أجساد الناس بالسكين؛ إذن الجرَّاحون مجرمون.

«حسنًا ما قلتَ يا كيفالوس، ولكن لننظر في الفضيلة ذاتها، أي العدالة، فما هي؟ أهي الصدق في القول والوفاء بالدين فحسب؟ ألا ترى معي أن هذين الأمرين ذاتهما قد يكونان صوابًا أحيانًا وخطأً أحيانًا أخرى؟ لِنفرض أن صديقًا أودع لديَّ أسلحة، ثم أصيب بالجنون فيما بعد، أتراني ملزمًا بردها إليه؟ لن يقول أحد إنني ملزم بذلك، أو أنني أكون على حق لو فعلتُ ذلك،

ص: 165

كما أن أحدًا لن يعتقد بأن من واجبي قول الصدق لمن كان في مثل حالته» (أفلاطون، الجمهورية، الكتاب الأول).

(1)

لا تكذب. إذن لو سألك مجرم خطير عن مكان ضحيته المستهدفة فلا تكذب عليه.

لا تقتل، ولا حتى النمل الأبيض الذي يُهاجم بيتك، ولا أعداءنا القادمين لقتالنا.

الديمقراطية تمنح الجميع حق الاقتراع؛ إذن ينبغي السماح للأطفال والمجرمين بالاقتراع.

ما دامت حرية القول مكفولة للجميع؛ إذن من حقي أن أصرخ «حريق

حريق» في مسرحٍ مزدحم.

ما دمت قد تعهدتَ بحفظ قططك داخل المنزل عندما تبنَّيْتَها من الجمعية؛ إذن ينبغي ألا تدعها تخرج خارج البيت حتى لو شبَّ فيه حريق.

ما دام الأسبرين مفيدًا لمرضى القلب؛ إذن هو مفيد أيضًا لأخي المريض بالقلب وقرحة المعدة (من المعلوم طبيًّا أن الأسبرين يُفاقم قرحةَ المعدة).

(2) أمثلة لمغالطة العَرَض المعكوس converse accident

الزهور البرية ليست دليلًا على أن الصحراء هي أصلح تربةٍ للزراعة.

ما دمنا نسمح لمرضى المراحل الأخيرة ومرضى احتشاء القلب بتناول المورفين؛ إذن ينبغي أن يُسمح لكلِّ فرد بتناول المورفين.

ما دمتَ سمحتَ للطالب «س» الذي صدَمَته شاحنةٌ بتقديم بحثه فيما بعد؛ إذن يجب أن تسمح للفصل كله بتقديم الأبحاث فيما بعد.

(1)

انظر «جمهورية أفلاطون» ، دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2003، ص 181 - 182، وانظر أيضًا إلى تعليق د. فؤاد زكريا على ذلك في دراسته للجمهورية ص 47.

ص: 166

ها أنتم ترون هذا الرجل الذي يعيش على السمك المقلي والبطاطس المقلي طوال حياته ومستوى الكولسترول في دمه أقل من المعدل.

إذا أبحنا للمصابين بالجلوكوما باستخدام الماريجوانا الطبية؛ إذن كل شخص من حقه أن يستخدم الماريجوانا.

ص: 167

الفصل الثاني والعشرون

مغالطات الالتباس

fallacies of ambiguity

كثيرًا ما يتبدل معنى الكلمات أو التعبيرات أثناء الحديثِ أو في مَساق حجة، قد يحدث ذلك عن غفلة وقد يحدث عن عمد، فيحمل الحدُّ معنى معينًا في إحدى المقدمات، ويحمل معنى مختلفًا تمامًا في النتيجة، عندما يعتمد الاستدلالُ على مثل هذه التبدلات يكون مغالطًا بطبيعة الحال، ويُطلق على هذا الفصيل من المغالطات «مغالطات الالتباس» fallacies of ambiguity، وهي في أغلب الأحيان مغالطاتٌ فجةٌ سهلة الكشف، غير أنَّها قد تِدق في بعض الأحيان وتخفى على متلقيها أو حتى على مرتكبها!

قد يخلق الالتباس خلطًا خطيرًا حتى لو لم يأتِ في مساق حُجة، ومن الأمثلة المشهورة على ذلك حوادث اصطدام السفن والطائرات من جراء الالتباس في لغة الاتصال، في السابع والعشرين من مارس عام 1977 لقي 583 شخصًا حتفهم عندما اصطدمت طائرتا ركاب على المَدْرج الذي خَيَّم عليه الضباب في تينيريف بجزر الكناري، قال قائد الطائرة في رسالته اللاسلكية إلى التحكم الأرضي:«نحن الآن at the take off» بمعنى «نحن في نقطة الإقلاع عن المَدْرَج» ، إلا أن المتحكِّم الأرضي أخذَ الرسالة بمعنى أن الطائرة كانت منتظرةً على المدرج، وكانت النتيجة أن قضى المئات نحبهم في الصدام، تُبَيِّن مثل هذه الحالات أن المشكلات التي تنجم عن الالتباس لا يُستهان بها، وهي مشكلاتٌ شائعةٌ

ص: 169

جدًّا في الوقت نفسه، في القضايا القانونية على سبيل المثال، وفي التعاملات التجارية والتعاقدات المدنية والاتفاقيات الدولية يُشكل الالتباس وتعددُ التأويلات للنص الواحد مشكلةً عتيدة، وما تزال مشكلة «الانسحاب من أراضٍ، أو الانسحاب من الأراضي» تَسْكن ذاكرة كلٍّ منا، وهي مشكلةٌ ناجمة عن الالتباس المُبَيَّت في صميم اللغة الإنجليزية وأدوات التعريف والتنكير بها.

(1) الاشتراك (الالتباس المعجمي/ اشتراك اللفظ) equivocation

الوَرَع

ها هو ذا التباس،

بوسعه أن يلعبَ على الكفتين، مرجِّحًا أيًّا منهما على الأخرى،

كم ارتكب من الخيانات زاعمًا أنها في سبيل الله،

ولكن هيهات له أن يلبس شيئًا على رب السماء.

مكبث، الفصل الثاني، مشهد 3

معظم ألفاظ اللغة هي ألفاظٌ «مشتركة» equivocal لها أكثر من معنًى واحد،

(1)

ولبعض الألفاظ نطاقٌ كبيرٌ من المعاني، يقول أبو حامد الغزالي في كتابه «المستصفَى»:

وأما الألفاظ المشتركة فهي الأسامي التي تنطبق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتة: كاسم «العين» للعضو الباصر، وللميزان، وللموضع الذي يتفجر منه الماء - وهو العين الفوارة - وللذهب، وللشمس، وكاسم «المشترِي» لقابل عقد البيع، وللكوكب المعروف.

الغزالي، المستصفَى، ج 1

ينشأ الاشتراك نتيجةً للتطور التاريخي للغات الطبيعية، والتي نعلم اليوم أنها تقوم على «المواضعة» convention والاتفاق، وأن علاقة الدال بالمدلول فيها هي علاقة

(1)

في تعريفات الجرجاني: المشترك ما وُضع لمعنى كثير، كالعين؛ لاشتراكه بين المعاني

وضده المترادف أي ما كان معناه واحدًا وأسماؤه كثيرة، كالليث والأسد.

ص: 170

«اعتسافية» (اعتباطية) arbitrary لا ضرورة فيها، وأنها تتطور ببطء ونادرًا ما تكون التغيرات التي تلحق بها متعمدة من جانب الأفراد أو الجماعات، وقد كان هذا الاشتراك القائم في صميم المعجم اللغوي حريًّا أن يُهدد الوضوح والإفصاح ويُعطل الوظيفة الاتصالية للغة، لولا أن اللغة تتغلب على الالتباس الكامن في ألفاظها بواسطة السياق الصريح الذي يتكفل، في أغلب الأحوال، ببيان المعنى المقصود، يقول لودفيج فتجنشتين: ليس للكلمة الواحدة من كلمات اللغة معنى محددٌ دقيق، وإنما للكلمة الواحدة، كما هي مستخدمة بالفعل في الحياة اليومية، معانٍ لا حصر لها تتحدد بحسب السياقات والظروف المختلفة التي تُستخدم فيها، فالكلمة مطاطة تتسع استخداماتها وتضيق وفقًا للظروف والحاجات، ومثلها كمثل أدوات النجار - ليس لكل أداة استخدامٌ واحد وإنما استخدامات مختلفة في الظروف والحاجات المختلفة، ولا يوجد بين الاستخدامات المختلفة للكلمة الواحدة عنصرٌ مشترك محدد، وإنما يوجد بينها «تشابهات عائلية» family resemblances متداخلة مندمجة كالتي نراها بين أفراد الأسرة الواحدة.

السياق إذن من وسائلنا للتغلب على التباس الألفاظ، ومن وسائلنا الأخرى أن نستخدم «التعريف» فنتواضع على الطريقة التي سوف نستخدم بها هذه الكلمة أو تلك في سياق معين من القول، وينشأ الالتباس حين يعجز كل من السياق والتعريف عن حصر نطاق المعاني الخاص بكلمة ما في معنى واحد بعينه، ونحن حين نقوم بخلط المعاني المختلفة لكلمة أو تعبير، عفوًا أو عن قصد، فإننا إذن نستخدم اللفظة استخدامًا مشتركًا equivocally، وحين نفعل ذلك في مساق «حجة» argument نكون قد ارتكبنا «مغالطة الاشتراك» fallacy of equivocation، ذلك أن الحجة لا تكون منتجةً منطقيًّا، ولا تؤدي فعلها كحجة، ما لم تكن ألفاظها تحمل ذات المعنى في كل مرة ترد فيها، سواء في المقدمات أو في النتيجة.

حين أقول لك «كن مؤمنًا» فقد يعني ذلك «ثِقْ في رحمة الله» وقد يعني «اعتقِد في وجود الله» ، وحين أقول «إنني أعتقد في» الرئيس فلان فإن ذلك يعني أنني أثق في كفاءته كرئيس، ولكن حين أقول «إنني أعتقد في» التلباثي (التخاطر) فإنني أستخدم التعبير نفسه ولكن بمعنى جِد مختلف، وهو أنني أعتقد في وجود ظاهرة التخاطر.

كذلك تحمل الألفاظ النسبية، من قبيل «جيد» ، «قصير» ، «صغير»

إلخ، خطر الاشتراك حين يُساء استخدامها، من ذلك أن النملة «الكبيرة» تظل حيوانًا «ضئيلًا» ،

ص: 171

والفيل «الصغير» يظل حيوانًا «ضخمًا» ! والباحث «الجيد» قد يكون محاضرًا «رديئًا» والجنرال «القدير» قد يكون رئيسًا «ضعيفًا» ، والانتقال من أي حد من هذه الحدود إلى الآخر يُعد انتقالًا مغالطًا.

‌أمثلة أخرى

(1)

كل قانون ينبغي أن يُطاع. قانون الجاذبية هو قانون؛ إذن قانون الجاذبية ينبغي أن يُطاع. (هنا تُستخدم لفظة «قانون» بمعنيين مختلفين، ويُسمَّى هذا الصنف من المغالطة «مغالطة التباس الحد الأوسط».)

(2)

كل العلوم تؤدي إلى الفهم الأفضل للعالم؛ إذن علوم السحر تؤدي إلى فهم أفضل للعالم. (حيث تُستخدم كلمة «علوم» بمعنيين مختلفين.)

(3)

كل قتلة الأطفال غير إنسانيين (بمعنى غير رُحماء)؛ إذن ليس هناك قاتل أطفال ينتمي إلى النوع الإنساني (بمعنى الإنسان العاقل homo sapiens).

•••

للاشتراك طاقاتٌ بلاغية هائلة حين يُستخدم للتأثير البياني والشعري والخطابي، ومن الأمثلة المأثورة للاستخدام البلاغي الموفق للاشتراك قول بنيامين فرانكلين:

«إذا لم نتعلَّق ببعضنا البعض فسوف نتعلق على انفراد.»

if we don't hang together، we will hang separately.

حيث «نتعلق» الأولى تعني «نتضامن» ، والثانية تعني «نُشنَق» غير أن الحُجة صائبة لأننا حقًّا إذا لم نتضامن في مراحل الصراع أو الثورة فثمة احتمالٌ كبير بأن نفشل ونُعدَم شنقًا، وباستخدام ذات الكلمة بأكثر من معنى فقد تبلورت الفكرة واستوَت في صياغةٍ موفقة تستقر في الذاكرة بسهولة ورسوخ.

ص: 172

ومن الاستخدامات المأثورة للاشتراك قول الإمام الشافعي: «ما جادلتُ عالمًا قَطُّ إلا غَلَبته، وما جادلتُ جاهلًا قط إلا غَلَبَني!»

(1)

ومنها: «دولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.»

«من الفن ألا يظهر الفن!» (حيث كلمة «فن» الأولى تعني art وكلمة «فن» الثانية تعني الصنعة techne).

ليس الاشتراك بحد ذاته مغالِطًا، غير أنه يَبقَى شَرَكًا لغويًّا منصوبًا يجعلنا عرضةً للوقوع في المغالطة، وذلك حين ينجح الاشتراكُ في أن يجعل الحجةَ المغلوطة تبدو حجةً صائبة.

(2) التشابه (التباس المبنَى/ اشتراك التركيب) Amphiboly

من الحيل المألوفة للعرافين أن يقدموا تنبؤاتهم بطريقةٍ غامضة تجعلها عصيةً على الإخفاق، تجعلها غير قابلة للدحض.

كارل بوبر

تُعد العبارة «متشابهة» amphibolous إذا كان معناها غيرَ محدد، نتيجةً لتفكك مبناها وتعثر الطريقة التي تتضام بها ألفاظها، بحيث تكون قابلة، بسبب تركيبها، لأكثر من تفسير واحد، أي «حمالة أوجه» ،

(2)

قد تكون العبارةُ المتشابهة صادقةً وفقًا لتأويلٍ معين، وكاذبةً وفقًا لتأويلٍ آخر، فإن أوردناها كمقدمةٍ على تأويل الصدق، واستخلصنا منها نتيجةً على تأويل الكذب، نكن قد وقعنا في «مغالطة التشابه» أو «الاشتباه» أو الالتباس النحوي أو التركيبي (التباس المبنى) amphiboly fallacy.

من حِيَل المنجمين والكُهَّان منذ أقدم العصور أن يصوغوا تنبؤاتهم في صيغ «متشابهة» غامضة ملتبسة، بحيث تتملص من أيِّ شيء كان حقيقًا أن يُكذِّب التنبؤ لو أنه كان محددًا دقيقًا، إنها «خُدعٌ تحصينية» immunization stratagems تجعل

(1)

بمعنى أنني أغلب العالِمَ بالحجة والدليل، بينما يغلبني الجاهلُ بالصوت والمَحْك.

(2)

في المعجم الوسيط: المُتشابه النص القرآني يحتمل عدة معانٍ، غير أن الجرجاني يُعرِّف المتشابه تعريفًا ضيقًا فيقول «المتشابه (عند الفقهاء) هو ما خفِيَ بنفس اللفظ ولا يُرجَى دَركُه أصلًا، وضده المُحْكَم.»

ص: 173

النبوءةَ متمنِّعةً على التكذيب أصلًا وأساسًا، وتجعلها مساوِقةً لكل ملاحظةٍ ممكنة، وموافِقةً للشيء ونقيضه، ومهما يكن مآل الأمور فإنه سيكون متفقًا مع تأويلٍ معينٍ من تأويلات العبارة، وقد دأب الناس بدورهم على أن يُسبغوا على النبوءة التأويلَ الذي يريدون، إن مغالطة التشابه مكينةٌ في حياة البشر ضاربةٌ في صميم العقل الإنساني.

كانت المنطوقاتُ المتشابهات هي عُدَّة كاهنات الوحي في دِلفي باليونان القديمة، يروي هيرودوت أن الملك كروسوس ملك ليديا أخذ مشورة كاهنة الوحي في دلفي قبل أن يَشْرَعَ في حربه ضد سَيْرُس (قورش) ملك فارس، فكانت النبوءة:

إذا ذهب كروسوس ليحاربَ سَيْرس فسوف يُدَمِّر مملكةً عظيمة.

ابتَهَجَ كروسوس للنبوءة، وقد فهم أنها تعني أنه سوف يُدَمِّر مملكة فارس العظيمة، فزحف بجيشه لقتال سيرس ولكنه مُنيَ بالهزيمة على يد ملك الفرس، وإذ كُتب له البقاء فقد عاد إلى دلفي وشكا مُرَّ الشكوى مما لحق به بعد أن تلقى مشورة الوحي، هنالك ردَّت الكاهنات بأن نبوءة دلفي كانت صادقةً تمامًا:«بذهابه إلى الحرب دَمَّر كروسوس مملكةً عظيمةً - مملكته هو!» والحق أنك لو أنعمت النظرَ في منطوق النبوءة فسوف تلاحظ أنها لم تُبيِّن بوضوح أي «مملكة» تلك التي سيلحق بها الدمار، وقد ألمح هيرودوت إلى أن كروسوس كان ينبغي عليه، لو أنه فطنٌ حقًّا، أن يعود ثانية ليسأل الكاهنة أي «مملكة» تَعني.

وفي مسرحية مكبث لشكسبير تقول إحدى نبوءات الساحرات: «كن جريئًا رابط الجأش فاقد الرحمة، فلن يستطيع حيٌّ وضعته أنثى أن يضر بمكبث.» فلما اقتتل مكبث وعدوه ماكدوف قال مكبث: «محال أن تحاول: ليس في طاقتك أن تسفك دمي، أكثر مما في قدرتك أن تطبع في الهواء أثر حسامِك، اذهب وحارب غيري ممن تُمس جسومهم، أما جسمي ففي حماية رُقيةٍ سحرية، لا يحلها إلا رجلٌ لم تضعه امرأة.» هنالك قال ماكدوف: «أنا ذلك الرجل، دع وهْمَ رقيتك السحرية، واعلم أن ماكدوف نُزِع من بطن أمه نزعًا، ولم تضعه أمه وضعًا.» لقد وُلِد ماكدوف ولادةً أشبه بالقيصرية ولم تلده أمه ولادة طبيعية، حين أدرك مكبث «التشابه» amphiboly الذي أضاعه صاح قائلًا:

لا يَحْسُن بعاقلٍ منذ اليوم أن يُصدِّق الشياطين الخداعين الذين يغروننا بألفاظ ذات معنيين، فيَسُرُّون آذاننا بالمواعيد ثم يخيبون آمالنا - لن أقاتلك.

ص: 174

‌أمثلة أخرى

(1)

«لا تقتل نفسك هكذا يا رجل، دعنا نساعدك.»

(2)

يقول الرجل لزميله في بلاد نيام نيام أكلة البشر: «الزعيمُ يريدُك للغداء.»

(3)

«إنني ضد الضرائب التي تعطل النمو الاقتصادي» (ماذا يريد هذا السياسي أن يقول: هل يعني أنه مناوئ لكلِّ الضرائب لأنها جميعًا تعطل نمو الاقتصاد، أو أنه مناوئ فقط لذلك الصنف من الضرائب التي من شأنها أن تعطل نمو الاقتصاد؟ بوسعك بالطبع أن تؤول العبارة وفقًا لهواك السياسي وبرنامجك الاقتصادي وتحيزاتك الخاصة، وأن تَضرِبَ صفحًا عن التأويل المضاد).

(4)

«في مقابل دهان مصنعي فأنا أتعهد بأن أدفع للسيد عطا الله مرزوق مبلغ عشرة آلاف جنيه، وأن أعطيه سيارتي الفيات فقط إذا انتهى من الدهان قبل يناير 2007» (إذا أنعمت النظر في منطوق هذا التعهد فسوف تجد أنه يحتمل أكثر من ثلاثة تأويلات).

(5)

«كان ضَربُ زيدٍ مبرِّحًا» (لا يُبيِّن لنا تركيب الجملة ما إذا كان زيدٌ هو الضارب أو المضروب).

(6)

{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (المعنى إذا وُقِف على «الله» مغاير للمعنى إذا وُقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}).

(3) النَّبْر accent

(3 - 1) النبر على الأحرف داخل الكلمة (أرسطو)

«النَّبر» (الارتكاز، التشديد، التوكيد) من المغالطات الثلاث عشرة التي بَيَّنها أرسطو في عمله الرائد On sophistical refutations، وهو بالتحديد من الأغاليط الست المعتمدة على اللغة، والتي يقول عنها أرسطو:«تلك هي الطرق التي قد نعجز بها عن أن نعني ذات الشيء باستخدام ذات الأسماء أو التعبيرات.» النبر، إذن، عند أرسطو هو ضرب من مغالطة «الالتباس» ambiguity.

ولكي نفهم ما عناه أرسطو بالنبر ينبغي أن نعلم بعض الأشياء عن اللغة اليونانية المكتوبة في زمنه، فإذا كانت اليونانية الآن تحتوي على علامات نبرٍ تُستخدم لتحديد النطق، فإن هذه العلامات لم يكن لها وجودٌ في الكتابة اليونانية القديمة، وإنما كان

ص: 175

يعرفها القارئ المُلِم باليونانية المنطوقة (مثلما هو الحال بالنسبة للغة العربية القديمة الخالية من الإعجام؛ أي النقط، والتشكيل)؛ لذا كانت بعض الكلمات تُنطَق على نحوٍ مختلفٍ بينما تُكتب على نحوٍ واحد، الأمر الذي يفتح باب الالتباس في اللغة المكتوبة.

مثال ذلك أنه في الإنجليزية قد تنطق الكلمات المتشابهة الهجاء بالنبر على المقطع الأول لتدل على الاسم، وبالنبر على المقطع الثاني لتدل على الفعل: من ذلك record = تسجيل، record = يسجِّل، وفي الإيطالية كلمة capito تعني «أصل» بينما capito بالنبر على حرف i تعني «فهمت» ، وفي العربية:{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (الرعد: 43) تقرأ أيضًا «ومِن عنِده علمُ الكتاب» .

(1)

(3 - 2) النبر على الكلمة داخل العبارة

تُعَد حجةٌ ما مخادعةً وباطلة إذا تبدل المعنى داخلها نتيجة تبدَّل النبر على كلماتها أو أجزائها، فإذا ما أتينا بمقدمة تعتمد في معناها على نبر كلمة معينة، ثم استخلصنا منها نتيجة تعتمد على معنى الكلمات نفسها منبورةً على نحوٍ مختلف، نكون قد ارتكبنا «مغالطة النبر» fallacy of accent.

‌أمثلة

(1)

ينبغي أن نكون «أمناء» مع أصدقائنا. ينبغي أن نكون أمناء مع «أصدقائنا» . فهي بالنبر على كلمة «أمناء» تعني أننا ينبغي أن نكون أمناء بعامةٍ وفي المقام الأول، وهي بالنبر على كلمة «أصدقائنا» تعني أننا في حِلٍّ من الالتزام بالأمانة مع غير أصدقائنا.

(2)

جميع الناس خُلقوا «سواسية» . جميع الناس «خُلقوا» سواسية.

(1)

عبد الرحمن بدوي: «المنطق الصوري والرياضي» ، الطبعة الخامسة، وكالة المطبوعات، الكويت، 1987، ص 249.

ص: 176

فإذا كان التشديد، أو النبر، على كلمة «سواسية» فإنها تعني المساواة بين الناس على الإطلاق، أما إذا كان التشديد على كلمة «خُلِقوا» فقد توحي بضدها: أي بأن جميع الناس ليسوا الآن سواسية، بذلك يتيح النبر للناطق أن يومئ إلى السامع باستدلالٍ معين ثم يتنصلَ منه فيما بعد وينكر أنه قال ذلك!

(3 - 3) الاجتزاء

(الاقتباسات المنتزعة من سياقها/ النبر على عبارات أو فقرات من سياقٍ أعم.)

يُلحق بعض المناطقة تلك الاقتباسات بالنبر، باعتبار أن الاجتزاء أو الاقتباس المنبَتَّ عن سياقه يغير الارتكاز على نحوٍ مضلِّل، بينما يعده البعض مغالطة التباسٍ منفصلةً باعتبار أن ما يفعله فقدان السياق هو أكبر من ذلك: إنه السماح بعودة الغموض الطبيعي للكلمات لكي يؤكد نفسه، ذلك أن السياق، مثلما ألمحنا من قبل، هو قوام المعنى ومحدِّد القصد ومانع الالتباس، وفي غياب السياق يختلط حابل المعنى بنابله، ويمكن للمغالِط أن يأسر ما شاء من المقاطع «السائبة» ويرتكز عليها ويحمِّلها أي معنى يريد!

‌أمثلة

(1)

في الحملة الانتخابية عام 1966 م ادَّعى الجمهوريون أن ألجور، نائب الرئيس، قد قال «ليس هناك صلة مؤكدة بين التدخين وسرطان الرئة» ، وإنه لقائلُها! غير أن سياق عبارته كالتالي: «بعض علماء شركات الدخان سوف يدَّعون بصفاقة أن ليس هناك صلة مؤكدة بين التدخين وسرطان الرئة

» غير أن الأدلة الراجحة المقبولة لدى الأغلبية الساحقة من العلماء تقول: «نعم، التدخين يسبِّب سرطان الرئة.»

(2)

في ظهر كتابه الأخير ادَّعى المؤلف فوسيدال أن سيدني بلومنثال يقول عنه: «يعتبره الكثيرون أنبه صحفيي جيله» ، وهي عبارة منتزعة من سياقٍ ينتقد فيه بلومنثال المفكرين المحافظين ويقول، قاصدًا تسفيههم بمثال:«بين اليمنيين المحافظين فإن واحدًا مثل فوسيدال «يعتبره الكثيرون أنبه صحفيي جيله»

(3)

في إعلان للدعاية: تخفيضات تصل إلى 90? (مع تكبير 90? وتصغير «تصل إلى») أما إذا استعرضت السلع فسوف تجد أن ما «وصل» تخفيضه إلى تسعين بالمائة

ص: 177

هو جانب لا يُذكر من السلع، بينما الغالبية العظمى من التخفيضات هي أقل كثيرًا من ذلك.

(4)

حتى الصدق الحرفي يمكن أن يُستخدم للخداع بالنبر: كان قبطان إحدى السفن ممتعضًا من معاونه الأول الذي كان مخمورًا على الدوام أثناء العمل، فجعل يكتب كل يوم تقريبًا بسجل الأداء:«المعاون سكران اليوم» ، فلما تَوَلَّى المعاون عملية التسجيل إذ كان القبطان مريضًا، فقد ثأر لنفسه وكتب في السجل:«القبطانُ غيرُ سكران اليوم!»

(5)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} (النساء: 43)، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (الماعون: 4).

(3 - 4) ألوان أخرى من النبر

يعرف الموسيقيون وقائدو الأوركسترا أننا لو غيَّرنا الارتكازات في العزف لخلقنا لحنين مختلفين! ويعرف التشكيليون أننا لو غيرنا الارتكازات في اللوحة لخلقنا دلالتين مختلفتين، والنبر في الشعر أيضًا يُسمَّى «ارتكازًا» ictus إذ تتميز بعض المقاطع عن بعض بالشدة أو اللين (الارتفاع أو الانخفاض) ويكون ذلك ناشئًا عن احتشاد الجهاز الصوتي عند إخراج بعض المقاطع دون بعض، وفي عروض الشعر العربي يضطلع النبر بدورٍ مهم ما زال قيد الدراسة والبحث، وقد قدم الدكتور شكري عياد مشروع دراسة علمية بعنوان «موسيقى الشعر العربي» أفاض فيها في تبيان تأثيرات النبر على الوقع الموسيقي للشعر،

(1)

ويذهب الدكتور محمد النويهي في كتابه «قضية الشعر الجديد» إلى أن النبر يمكن أن ينشئ نظامًا جديدًا للعروض العربي، مثال ذلك أن في العروض العربي بحرًا شديد الارتباط بنظام النبر والتأثر به، وهو بحر المتدارك أو الخبب، فالنبر «يلوِّن» الإيقاع في بحر الخبب ويُخرجه من أسر النظام الكمي الدقيق، ويمضي الدكتور النويهي إلى أبعد من ذلك فيقول: إن هذا البحر ينقسم إلى قسمين عظيمين يكاد كل منهما يكون بحرًا مستقلًّا إذا استمعنا إلى النظام النبري الغالب فيه.

(1)

د. شكري محمد عياد: موسيقى الشعر العربي، دار المعرفة، القاهرة، يوليو 1968.

ص: 178

وفي المذاهب والأيديولوجيات تقوم «الأولويات» مقام النبر، بمعنى أننا لو غيرنا ترتيب الأولويا ت في مذهب أو عقيدة لخرجنا بمذهب آخر وعقيدة أخرى من حيث النتاج والأثر، يعرف ذلك كثير من الأيديولوجيين حتى ليذهب بعضهم إلى أن إصلاح مذهب أو عقيدة ربما تَطَلَّب تغيير الأولويات دون مساسٍ بجوهر أي مفهوم فرعي بحد ذاته!

ص: 179

الفصل الثالث والعشرون

مغالطة التركيب والتقسيم

composition and division

تتمثل مغالطة التركيب والتقسيم في الانتقال غير المشروع من خصائص الكل إلى خصائص أجزائه المكوِّنة (تقسيم division)، أو الانتقال، على العكس، من خصائص المكونات إلى الكل (تركيب composition)، إنها ل «نقلةٌ خاطئةٌ» تخرق قواعد الاستخدام اللغوي والمنطقي السليم أن تنسب صفات الكل إلى الأجزاء، أو، في الاتجاه المقابل، أن تنسب صفات الأجزاء إلى الكل بوصفه كلًّا، ذلك أن خصائص الكل (بوصفه كلًّا) وخصائص الجزء (إذ يُفرد على حدة) ليست دائمًا بالشيء الواحد، ولا ينبغي أن نتوقع تطابقها في جميع الأحوال.

(1) مغالطة التركيب composition

هي مغالطة إضفاء صفات الجزء على الكل.

يقع المرء في مغالطة التركيب حين يذهب إلى أن ما يَصدُق على أفراد فئةٍ ما، أو أجزاءِ كلٍّ ما، يصدق أيضًا على الفئة (معتبرةً كوحدةٍ واحدة) أو على الكل بوصفه كلًّا.

ألا نشهد كل يومٍ مدرِّبًا رياضيًّا يستورد، من الخارج والداخل، خِيرة اللاعبين وأعلاهم سعرًا، ويُشكل منهم فريقًا كلُّ أفراده نجومٌ متلألئة، فإذا بفريق الأحلام هذا يفشل في كل المسابقات فشلًا مستغربًا، لا تفسره مهارات لاعبيه ونجوميتُهم؛ ذلك أن الفريق هو الكل العضوي المتآلِف وليس المجموع الجبري لأعضائه.

ص: 181

يَعْرف ذلك أيضًا قائدو الأوركسترا المتمرسون، فقد تضم الأوركسترا أمهرَ العازفين قاطبةً ثم لا تتألف منهم فرقةٌ ناجحة؛ ربما لأن كل عازف من هؤلاء يكون مأخوذًا أكثر مما ينبغي بعرض براعته بحيث لا يأتي النغمُ الكلي وحدةً متسقة.

كذلك هو الحال في ميادين القتال، فقد يَعِنُّ لقائد عمليات خاصة أنه حين يضم في فوجه أقوى رجال الجيش جميعًا يستوي له أقوى فرق العمليات، غير أن قوة الفوج تعتمد على عوامل أخرى غير قوة كل جندي على حدة: تعتمد على انسجام الأداء وسرعته، والروح المعنوية للفريق وقدرته على العمل تحت أصعب الظروف وأقل الإمدادات.

تكمن المغالطةُ هنا في عدم القدرة على إدراك أن الجماعة كيانٌ قائم بذاته ومتميز عن أعضائه، ويتصف من ثم بخصائصَ قد لا تنطبق على الأفراد، ومهما تقدم من بيِّنةٍ لإثبات جودة هؤلاء الأعضاء، كل على حدة، فإن هذه البينة غير ذات صلة حين يتعلق الأمر بتقييم الجماعة.

وكثيرًا ما نشهد في حياتنا الواقعية أمورًا تصدق على الأفراد، أو قطاعات من الأفراد، غير أنها لا تعود كذلك إذا توسعنا فيها لتشمل الجماعة بأسرها: خذ الدعم الحكومي كمثال: تُدعِّم الحكومة الحبوب فيستفيد المزارعون، وتدعم الجلود فيستفيد منتجو الجلود

وهكذا. من التسرع رغم ذلك أن «نمد تقديرنا الاستقرائي» extrapolation ونقول: إن الاقتصادَ كله حقيقٌ بالفائدة إذا دعمنا جميع المنتجات، ذلك أن المزارعين ومنتجي الجلود لا يستفيدون إلا إذا كانوا ضمن فئة صغيرة تستفيد من الدعم على حساب كل فرد آخر، فإذا ما امتدَّ المبدأ ليشمل الجميع فإن كل فرد ينال الدعم، وكل فرد يدفع الضرائب للحكومة لكي تقدم الدعم، وكل فرد من ثم يخسر الكثير مما يَصُب في جيب البيروقراطية التي تدير هذه التحويلات!

حين نُنعِم النظرَ إلى مفهوم ال «كل» Whole نجد لدينا صنفين من الكل: هناك «الكل البنائي أو التركيبي» structured whole

(1)

أي الكل «المركب» من أجزاء مثل: الآلة،

(1)

وفقًا ل «نظرية الأنظمة العامة» general systems theory ينطوي العالم على علاقات متبادلة بين جميع الظواهر واعتماد متبادل بين جميع الأشياء، فالكائنات الحية والمجتمعات والأنساق البيئية الكبرى كلها أنساق أو أنظمة تتراتب في هيئة بِنيات متعددة المستويات، يتكون كل مستوى من أنظمة تحتية، كل نظام تحتي هو «كل» بالنظر إلى أجزائه وهو «جزء» بالنظر إلى النظام الأعلى الذي يندرج فيه، كهذا تجتمع الذرات فتكوِّن جُزيئات، وتتحد الجزيئات فتكون بلورات أو لتكوِّن - في الأحياء - عُضيَّات (أعضاء الخلية)، والتي تتحد لتكوِّن الخلايا، ومن اجتماع الخلايا تتكون الأنسجة والأعضاء التي ترتبط معًا لتكوِّن الأجهزة المختلفة، ومن تضافر الأجهزة يتشكل في النهاية الكائن العضوي (الإنسان،

) ومن أفراد البشر تتكون الأمم، ويمضي التراتب صُعدًا فتتكوَّن الأنظمة الأعلى التي تضم معًا مكونات حية وغير حية، وتشمل الأنساق البيئية، والكواكب والأنظمة الشمسية والمجرات

إلخ.

للأنظمة الأكثر تعقيدًا، والتي تقع على مستوى أعلى في التراتب، خصائص لا يمكن وصفُها بالحدود المستخدمة في وصف مكوناتها أو أنظمتها التحتية الواقعة على مستوًى أدنى، دون إغفال جوانب هامة من تلك الأنظمة، مثل هذه الخصائص الجديدة التي تبزغ أو «تنبثق» في التركيبات أو الأنساق الأكثر تعقيدًا تُسمَّى «الخواص الانبثاقية» emergent properties، وبتعبير أبسط: حين تجتمع بعض المكونات لتكَوِّن نظامًا (نسقًا) تبزغ لهذا النظام الأعقد صفاتٌ جديدة لا يمكن التنبؤ بها بشكلٍ كامل (في مرحلتنا الراهنة من العلم على الأقل) من خلال صفات مكوناتها.

هكذا تلفتنا نظرية الأنظمة إلى حقيقةٍ ما تفتأ تواجهنا على الدوام، وهي أننا قلَّما يتسنى لنا أن نستنبط خواص مفردات أكثر تعقيدًا من خواص مكوناتها، فخواص الماء مثلًا (كالسيولة أو الميوعة والخمول والتوتر السطحي

) هي خواص لا تُشبه من قريب أو بعيد خواص الأوكسجين أو الهيدروجين، وهكذا تتجلى لنا مزالق النزعة الردية (الاختزالية) reductionism في أوضح صورة: ذلك أن أنساق الطبيعة تنطوي على «جِدَّة» novelty حقيقية، وأن للمستوى الأعلى من مستويات الوجود صفاته الجديدة وقوانينه الخاصة التي يجب أن نتوجه إليها مباشرة ونقابلها على أرضها وندرسها بحقها الشخصي (عادل مصطفى: أنثوية العلم، مجلة سطور، القاهرة، العدد 97، ديسمبر 2004، ص 85).

ص: 182

فريق الكرة، العمل الروائي

إلخ، وهو بالطبع أكثر من مجموع أجزائه، وهناك أيضًا «الكل غير التركيبي» unstructured whole أو الكل التراكمي، وهو كومة من الوحدات أو العناصر التي تؤلف هذا الكل، في هذه الحالة يكون الكل هو مجرد مجموع عناصره لا أكثر، مثال ذلك حبات الفول في العلبة أو حبات الرمل في حِفنة الرمل أو النسخ المفردة في الرزمة، وفقًا لهذا التقسيم لمفهوم «الكل» يمكننا أيضًا تصور صنفين من مغالطة التركيب:

(1)

مغالطة الانتقال غير المشروع من خصائص الأجزاء إلى خصائص الكل بوصفه كلًّا، مثال ذلك أن نقول:«كل جزءٍ من أجزاء هذه الآلة خفيف الوزن؛ إذن هذه الآلة خفيفة الوزن.» أو أن نقول: «كل مشهد في هذه المسرحية متقنٌ فنيًّا؛ إذن هذه المسرحية متقنةٌ فنيًّا.» أو أن نقول: «كل قطعة من الأسطول جاهزة للقتال؛ إذن الأسطول جاهزٌ للقتال.»

ص: 183

(2)

مغالطة الانتقال غير المشروع من خصائص الأفراد أو العناصر إلى خصائص الفئة الكلية التي تضم هذه العناصر، مثال ذلك أن نقول «الباص يستهلك بنزينًا أكثر من السيارة الخاصة؛ إذن الباصات (كفِئَةٍ) أكثرُ استهلاكًا للبنزين من السيارات.»

بوسعنا أن نرد هذا الصنف من مغالطة التركيب إلى الخلط بين الاستعمال «الإفرادي» distributive والاستعمال «الجَمعي» collective للحدود العامة أو الكلية، الحق أننا نستخدم أحيانًا الأسماء العامة، أو حتى كلمة «كل» نفسها، ونقصد بها «كل فرد» من الفئة مُعتبَرًا على حدة، ونستخدمها أحيانًا أخرى ونعني بها «الفئة» ككل. نعم، الباصات تستهلك بنزينًا أكثر من السيارات الخاصة «إفراديًّا» distributively أي باعتبار كل باصٍ وكل سيارة على حدة، أما «من الوجهة الجمعية» collectively فالسيارات الخاصة أكثر استهلاكًا بكثير نظرًا لكثرتها العددية. تكمن المغالطة هنا في القول بأن ما يمكن إسناده إلى اللفظة الكلية على نحوٍ «إفرادي» يمكن إسناده إليها أيضًا على نحو «جمعي» .

(1 - 1) متى يكون الانتقال من خصائص الأجزاء إلى خصائص الكل مشروعًا؟

الحق أن الانتقال بين خصائص الأجزاء وخصائص الكل يكون مشروعًا في كثير من الأحيان (وربما في أغلبها)، إنما نهدف من تحليل المغالطات إلى أن نضبط تفكيرنا في جميع الأحوال، وأن نقف على الأساس المنطقي الذي يجعل نقلتنا الاستدلالية صحيحة ويَزَعنا من النقلات الخاطئة في التأمل وفي الجدل، انظر إلى الأمثلة التالية وجميعها صائبةٌ في الانتقال من خصائص الأجزاء إلى خصائص الكل:

جميع أجزاء هذا الكرسي بيضاء؛ إذن هذا الكرسي أبيض.

جميع أجزاء هذا الجلباب قطنية؛ إذن هذا الجلباب قطني.

كل جزء من هذه الآلة حديدي؛ إذن هذه الآلة حديدية.

ص: 184

ما الذي يجمع بين هذه الخصائص «أبيض للكرسي» ، «قطني للرداء» ، «حديدي للآلة» ، ويجعل الانتقال مشروعًا من الجزء إلى الكل؟

يَرُدُّنا هذا السؤال إلى تقسيمٍ للخصائص من حيث كونها:

مطلقة أو نسبية.

معتمدة على البنية أو مستقلة عن البنية.

الخصائص المطلقة: هي التي لا تنطوي على مقارنة، صريحة أو ضمنية، بشيء آخر، أو بمعيار أو محك مثال ذلك أسماء الألوان، أو الخامة المصنوع منها شيء ما، أو الصفات المتعلقة بالشكل أو الحقائق الثابتة مثل قابلية الاشتعال أو السُّمِّية أو قابلية الأكل

إلخ، أمثلة للخصائص المطلقة: أبيض، أحمر، قطني، دائري، مربع، سام، قابل للاشتعال

الخصائص النسبية: هي التي تنطوي على مقارنة، صريحة أو ضمنية، بشيء آخر، أو بمعيارٍ ما، مثل وزن الشيء، ومثل المقاسات (الطول والعرض والعمق والحجم

إلخ)، ومثل القوة، السعر، صفات الشخصية، المظهر

إلخ.

الخصائص المستقلة عن البنية structure-independent properties: مثالها: أخضر، نحاسي، ثقيل، خفيف، قوي

الخصائص المعتمدة على البنية structure-dependent properties: مثالها: جيد، رديء، مثلث، مُربع، قوي، قابل للأكل.

خلص بعض المناطقة إلى أن الانتقال بين صفات الكل وصفات الجزء لا تكون مشروعة إلا في حالة الخصائص «المطلقة المستقلة عن البنية» ، وفيما عدا ذلك من الخصائص يكون الانتقال عرضة لخطأ التركيب والتقسيم.

‌أمثلة أخرى لمغالطةالتركيب

جميع أجزاء هذه الآلة خفيفة الوزن؛ إذن هذه الآلة خفيفة الوزن.

جميع مكونات هذا العقار رخيصة؛ إذن هذا العقار رخيص.

ص: 185

كلا العددين 1، 3 هو عدد فردي. 1، 3 هما كل أجزاء العدد 4؛ إذن العدد 4 هو عدد فردي.

الذرات لا لون لها. الكرة مكوَّنة من ذرات؛ إذن الكرة لا لون لها.

الصوديوم والكلور كلاهما سام للإنسان؛ إذن كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) سام للإنسان.

الهيدروجين غاز قابل للاشتعال، والأكسجين غاز يساعد على الاشتعال؛ إذن المادة المكوَّنة من اجتماعهما (الماء) ينبغي أن تكون غازًا هائل الاشتعال.

أعرف أنك تحب الحليب، وتحب التمر، وتحب السمك وقد خلطُّها لك جميعًا في هذا الطبق الذي تشتهيه!

الفيل يأكل أكثر مما يأكله الفأر أضعافًا مضاعفة؛ إذن الفيلة (كفئةٍ) تأكل أكثر مما يأكله جميع الفئران على الأرض.

القنبلة النووية أكثر تدميرًا من القنبلة العادية؛ إذن القنابل النووية التي أُلقِيَت في الحرب العالمية الثانية خلَّفت دمارًا أكثر مما خلفته جميع القنابل الأخرى.

كل عضو في المحكمة العليا لديه تحيزاتُه الشخصية؛ إذن قرارات المحكمة ككل هي النتاج المحتوم لهذه العناصر الشخصية. (لاحظ أن فكرة القرارات الجمعية ذاتها هي أن تَجَمُّع المعرفة يمهد لحكمٍ أقرب إلى الصواب من حكم أي عضو واحد من المجموعة إذ يفكر بمفرده.)

أفاد أحد أعضاء المجلس بأن فرض تعريفة على اللحوم سوف يفيد منتجي اللحوم، وفرض تعريفة على الفحم سوف يفيد عاملي المناجم، وفرض تعريفة على لعب الأطفال سوف يفيد منتجي اللعب، وبالتالي فإن فرض تعريفة على كل السلع سوف يفيد منتجيها، وبالتالي سوف يفيد المجتمع ككل. (لاحظ أن جميع المنتجين هم أيضًا مستهلكون، وبالتالي فإن فرض تعريفة على كلِّ شيءٍ قد يُكلف الناس، إجماليًّا، أكثر مما يفيدهم، كما أنه يُفضي إلى مضاعفات وخيمة على التجارة الدولية وعلى الإنتاج المحلي.)

ص: 186

جميع أجزاء هذا الشكل مثلثة؛ إذن هذا الشكل مثلث!

(2) مغالطة التقسيم division

مغالطة التقسيم هي، ببساطة، مقلوبُ مغالطة التركيب أو ظلُّها؛ أي إضفاء خصائص الكل على المكونات، أو الانتقال غير المشروع من خصائص الكل إلى أجزائه المكونة، يقع المرء في هذه المغالطة حين ينسب إلى أفراد جماعة شيئًا لا يَصدُق إلا على الجماعة كوحدة، أو حين يظن أن ما يصدق على الكل لا بُدَّ له من أن يصدق أيضًا على أجزائه.

يمكننا تصنيف هذه المغالطة أيضًا، وفقًا لتصنيف مفهوم «الكل» إلى «كلٍّ تركيبي بنيوي» ، و «كلٍّ تراكمي غير بنيوي» ، إلى نوعين:

(1)

مغالطة الانتقال غير المشروع من خصائص الكل بوصفه كلًّا إلى خصائص أجزائه المكوِّنة، مثال ذلك أن تقول: هذه الآلة ثقيلة، أو معقدة أو ثمينة، إذن هذا الجزء أو ذاك من الآلة هو بالضرورة ثقيل (أو معقد أو ثمين)، أو أن تقول إن سكن الطلاب ضخم جدًّا، إذن غرفة هذا الطالب المقيم في هذا السكن لا بُدَّ من أن تكون غرفة كبيرة.

(2)

مغالطة الانتقال غير المشروع من خصائص الفئة الكلية إلى خصائص الأفراد أو العناصر المكونة لهذه الفئة، مثال ذلك أن تقول: إن طلاب الجامعة يدرسون الطب والهندسة والقانون والأسنان والعمارة، إذن هذا الطالب الجامعي أو ذاك يدرس الطب والهندسة والقانون والأسنان والعمارة، ذلك أن طلاب الجامعة من «الوجهة الجمعية» collectively يدرسون فعلًا كل هذه الأفرع، غير أن من الخطأ أنهم «إفراديًّا» distributively يدرسون كل هذا، وكثيرًا ما تبدو الحجج المعتمدة على هذه المغالطة

ص: 187

شبيهة جدًّا بالحجج الصائبة؛ وذلك لأن من الحق أن ما يصدق «إفراديًّا» على الفئة الكلية يصدق أيضًا على كلِّ عضو فيها (إذا كانت الجماعة «س» مثلًا هم من الأطباء، فمن البين أن هذا العضو أو ذاك من هذه الفئة هو بالضرورة طبيب) ومِن ثَمَّ ينبغي التفطن إلى المغالطة الخفية التي تنتقل من صفة تصدق «جمعيًا» على فئة كلية وتلصقها بكل فرد من أفراد هذه الفئة (مثال ذلك: التعليم في الأردن رفيع المستوى، إذن هذا الخريج الأردني رفيع المستوى).

كثيرًا ما تستخدم مغالطة التقسيم لجلب شرف شخصي إلى حوزتنا بفضل انتمائنا لفئة تستحق التقدير، مثال ذلك أن أقول لك:

«المصريون نوابغ في الطب منذ أقدم العصور، إذن دع لي هذا المريض وكن مطمئنًا.»

وكثيرًا ما تُستخدم، بنفس القياس، لجلب الخزي إلى مناوئينا بسبب انتمائهم لفئة موصومة بشيء معين.

(2 - 1) أمثلة أخرى لمغالطة التقسيم

العدد 4 عدد زوجي. 1، 3 هما كل أجزاء العدد 4؛ إذن 1، 3 هما عددان زوجيان.

الكرة زرقاء؛ إذن الذرات التي تكوِّن الكرة هي أيضًا زرقاء.

الخلية الحية هي مادة عضوية؛ إذن المواد الكيميائية المكونة للخلية لا بُدَّ من أن تكون أيضًا مادة عضوية.

كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) مادة قابلة للأكل؛ إذن كل من الكلور والصوديوم هو مادة قابلة للأكل.

القنابل التقليدية أحدثت دمارًا أكثر مما أحدثته قنبلتا هيروشيما وناجازاكي في الحرب العالمية؛ إذن القنبلة التقليدية أشد تدميرًا من القنبلة النووية.

هذا الجدار القرميدي طوله عشرة أقدام؛ إذن قوالب القرميد في هذا الجدار طولها عشرة أقدام.

ص: 188

المخ قادر على التفكير والوعي؛ إذن كل خلية مخية قادرة على التفكير والوعي.

مجلس الوزراء متردد في اتخاذ القرار؛ إذن الوزراء مترددون في اتخاذ القرار. (لاحظ أن المجلس، معتبرًا ككل، قد يكون مترددًا لا لشيء إلا لأن نصف أعضائه يرون بحسمٍ عكس ما يراه النصف الآخر بحسمٍ مثله.)

يستطيع النمل أن يدمر شجرة؛ إذن هذه النملة تستطيع أن تدمر شجرة.

الشعراء في مصر ينقرضون؛ إذن الشاعر مسعد عبد العاطي ينقرض.

ص: 189

الفصل الرابع والعشرون

إثبات التالي

affirming the consequent

العبارة الشَّرْطيَّة conditional هي العبارة التي تضع شرطًا condition (يُسمى المقدَّم antecedent) ثم تمضي (في «التالي» consequent) لتتحدث عما يلزم عن هذا الشرط؛ أي لتتحدث عما يكون عليه الحال إذا ما تحقق هذا الشرط، وفي مغالطة إثبات التالي يتم الانتقال في الاتجاه العكسي، من إثبات التالي إلى إثبات المقدَّم.

في كتابه «المنطق الصوري والرياضي» يقول د. عبد الرحمن بدوي: «يقع المرء في هذه الأغلوطة حينما يعتقد أن الشرط ولازمَهُ (أي المقدَّم والتالي) في القضية الشرطية منعكسان؛ أي أن بوسعه أن يعكس القضية فيمضي من التالي إلى المقدَّم، مثلما هو يمضي من المقدم إلى التالي، كأن يقول:

إذا كان الحكم النيابي صالحًا لمصر لَبَقِيَ فيها مدة طويلة،

وما دام الحكم النيابي قد بقي في مصر مدة طويلة؛

إذن هو حكم صالح لمصر.

وتُرتكَب هذه الأغلوطة في كلِّ حالة نعتقد فيها أن نظرية ما صحيحة لأن نتائجها التي لا بُدَّ أن توجد إذا كانت صحيحة هي نتائج موجودة؛ فنظن أن التحقيق

ص: 191

verification كافٍ للبرهنة على صحة النظرية، والاستنتاج في هذه الأحوال لا يكون صحيحًا إلا في الحالة التي نجزم فيها بأن هذه النظرية وحدها هي التي تفسر حدوث هذه النتائج، وفيما عدا ذلك لا يكون الاستنتاج مفيدًا لليقين.»

(1)

يرى البعض أن هذا في حقيقة الأمر هو أساس المنهج العلمي: فإذا كانت النظرية العلمية «أ» يلزم عنها التنبؤ «ب» ، فإن كل ملاحظة صادقة للتنبؤ «ب» تزيد من احتمال صدق النظرية «أ»:

إذا صَدَقَت النظرية «أ» لَوُجِد التنبؤ «ب» ،

التنبؤ «ب» موجود؛

إذن النظرية «أ» صادقة.

وهو كما ترى مأزق حقيقي تقع فيه نظرية «التحقيق» verification (أو التأييد confirmation) فمهما جمعنا من ملاحظات عن «ب» التي تلزم عن «أ» ، فسوف يظل هناك احتمال قائم أبدًا بأن تأتي الملاحظة القادمة مكذِّبةً للنظرية «أ» .

•••

والآن انظر إلى الحُجة التالية:

إذا كان شيءٌ ما إنسانًا فهو إذن فان.

سقراط إنسان؛

إذن سقراط فان.

إنها بالطبع حُجة صائبة تمامًا ولا غبار عليها البتة، ولكن انظر إلى الحجة القادمة التي يتم فيها عكس القضية والمضي من إثبات التالي إلى البرهنة على المقدَّم:

إذا كان شيء ما إنسانًا فهو فانٍ،

سالي فانية؛

إذن سالي إنسان.

(1)

عبد الرحمن بدوي: «المنطق الصوري والرياضي» ، ص 246.

ص: 192

وهنا يتبدى الخطأ بوضوح، فالحق أن سالي قد تكون قطة، فانية بكل تأكيد، ولكنها ليس إنسانًا. وانظر إلى الحُجة التالية:

إذا كنت أنا أطول من سلمى، لكانت سلمى قصيرة.

سلمى قصيرة؛

إذن أنا أطول من سلمى.

ومن الشائق حقًّا أن دراسةً أُجريت على الأشخاص غير المدربين في المنطق قد كشفت أن أكثر من ثلثي المشاركين يقبلون مثل هذه الحجج المغلوطة،

(1)

إنها حجج تتشبه بالحجة الأولى الصحيحة التي صورتها:

إذا كان «أ» كان «ب» ، وما دام هناك «أ» ، إذن هناك «ب» .

أو بتعبير آخر:

إذا «أ» إذن «ب» ،

«أ»

إذن «ب» .

غير أنها تختلف عن هذا اختلافًا مهمًّا؛ لأن صورتها كالآتي:

إذا كان «أ» كان «ب» ، وما دام هناك «ب» ؛ إذن هناك «أ» .

أو بتعبير آخر:

إذا «أ» إذن «ب» ،

«ب»

إذن «أ» .

(1)

Stephen law: "The Philosophy Gym"، Headline Book Publishing، London، 2003، p. 275.

ص: 193

فالمشكلة هنا هي وجود افتراض مضمر مُفادُه أن «أ» فقط هي التي يلزم عنها «ب» ، وهو افتراض لم يَرد في القياس، ذلك أن قياس الحجة يترك الاحتمالات مفتوحة لأشياء أخرى يلزم عنها «ب». يمكن أن يُترجم هذا إلى الصورة التالية:

إذا «أ» إذن «ب» ،

إذا «ج» إذن «ب» ،

«ب»

إذن «أ» .

وهو كما ترى قياس بيِّن الخطأ، ولا يصح عكس القضية الشرطية إلا إذا أخذت صورة: إذا - وفقط إذا - «أ» إذن «ب» if، and only if، A then B.

•••

يندر أن ينخدع أحدٌ بهذه المغالطة حين تأتي في صورةٍ صارخة فجة، غير أنها قد تخفى على أفطن الناس عندما تأتي متسربلةً بنصوصٍ جليلة أو مشحونة بعواطف قوية، وكثيرًا ما نصادف هذا الخطأ المنطقي في الإعلانات التليفزيونية والخُطب السياسية:

إذا كنتَ فتًى رياضيًّا جذابًا قوي الشخصية فسوف ترغب في شراء سيارة BMW.

وباقي القياس مضمر تقديره:

أنت ترغب في شراء سيارة BMW.

أنت، إذن، فتًى رياضي جذاب قوي الشخصية.

ومن الثابت المسجل تاريخيًّا أن كلا الطرفين في المناقشات عن الإرهاب في بريطانيا قبل تفجيرات 7 يوليو 2005 كانا يستخدمان هذه المغالطة، فقد كان بعض أعضاء الحكومة البريطانية يُحاجُّ بأن القوانين البريطانية المضادة للإرهاب كافية لمنع أي هجمات إرهابية، ومن حيث إنه لم تحدث هجماتٌ إرهابية في بريطانيا، إذن القوانين البريطانية المضادة للإرهاب كافية:

إذا كانت القوانين المضادة للإرهاب كافية فلن تحدث؛ إذن هجمات إرهابية،

لم تحدث هجمات إرهابية؛

إذن القوانين المضادة للإرهاب كافية.

ص: 194

هكذا استخدم أعضاء الحكومة البريطانية حجة «إثبات التالي» affirming the consequent، والتي تَبيَّنَ خطؤها في 7 يوليو 2005، أما الطرف الآخر، أنصار الحريات المدنية، فقد حاجُّوا بأنه لا حاجة لبريطانيا إلى قوانين جديدة لأن الإرهابيين لا يستهدفون سوى الولايات المتحدة، وكان تبريرهم لذلك هو أنه لو كان الإرهابيون معنيين بمهاجمة بريطانيا لحدثت هجماتٌ إرهابية، وهو ما لم يحدث:

إذا كان الإرهابيون مَعْنِيِّين ببريطانيا لَحدثَتْ هجماتٌ إرهابية،

لم تحدث هجمات إرهابية؛

إذن الإرهابيون غيرُ معنيين ببريطانيا.

وهو أيضًا مثال ل «إثبات التالي» affirming the consequent الذي تَبَيَّن خطؤه في السابع من يوليو 2005.

(1) أمثلة أخرى لمغالطة إثبات التالي

إذا كنتُ في الإسكندرية فأنا في مصر. أنا في مصر؛ إذن أنا في الإسكندرية.

إذا كانت الطاحونة تلوث مياه النهر لزادت حالات موت الأسماك. حالات موت الأسماك في ازدياد؛ إذن الطاحونة تلوث مياه النهر. (من الواضح أن موت الأسماك يمكن أن يحدث لأي سبب آخر، كاستخدام المبيدات الحشرية.)

أنت تكذب في قولكَ، وأنت لا تجيد الكذب فيحمر وجهك دائمًا عندما ترتكبه، وها هو وجهك متورد وأنت تتحدث.

إذا سقط المطر لَابْتَلَّ الرصيف. الرصيف مبتل؛ إذن لا بُدَّ من أن يكون المطر قد سقط. (قد تكون البلدية قد غسلت الرصيف للتو!)

ص: 195

إذا كان ستيفن كينج هو الذي كتب الأناجيل لكان كاتبًا رائعًا. ستيفن كينج كاتب رائع؛ إذن ستيفن كينج هو الذي كتب الأناجيل.

جميع الفصاميين يتصرفون بطريقة غريبة. هذا الشخص يتصرف بطريقة غريبة؛ إذن هذا الشخص فصامي.

إذا كان هذا المتهم أهلًا للمحاكمة فسوف يجيب بالتأكيد عن 80? على الأقل من أسئلة هذا الاختبار. هذا المتهم أجاب عن 87? من أسئلة الاختبار؛ إذن هذا المتهم أهل للمحاكمة (بالطبع قد يكون فاقدًا للأهلية لدواعٍ أخرى لا يحصرها الاختبار).

إذا حظرنا مباريات الكرة بجميع مستوياتها لقضينا على ظاهرة الشغب في الملاعب. القضاء على ظاهرة الشغب في الملاعب أمر مرغوب؛ إذن حظر المباريات جميعًا أمر مرغوب.

إذا حظرنا كل علاقة جنسية لقضينا على مرض الإيدز. القضاء على مرض الإيدز أمر مرغوب؛ إذن حظر العلاقات الجنسية أمر مرغوب.

إذا كان لسالي جراءٌ فإنها بالضرورة كلبةٌ أنثى. سالي كلبة أنثى؛ إذن سالي لها جراء.

(2) إنكار المقدَّم denying the antecedent

قلنا إنَّ القضية الشرطية هي العبارة التي تضع شرطًا (يسمى «المقدَّم» antecedent) ثم تمضي (في «التالي» consequent) لتتحدث عما يكون عليه الحال إذا ما تحقق هذا الشرط، أي ما يلزم عن هذا الشرط، وفي مغالطة إنكار المقدم تقرر المقدمة الأولى عبارة

ص: 196

شرطية؛ ثم تقوم المقدمة الثانية بإنكار مقدم هذه العبارة الشرطية (أي إنكار الشرط) ثم تدعي الحجة أنه يترتب على ذلك إنكار التالي (أي إنكار اللازم الذي يترتب على الشرط).

وبعبارة أخرى: يقع المرء في مغالطة إنكار المقدم إذا قام في قضية شرطية بنفي المقدم واستنتج من ذلك نفي التالي، كما في المثال الآتي:

إذا كنتُ نائمًا فإن عيني تكون مغمضة،

أنا لست نائمًا؛

إذن عيني ليست مغمضة.

وصورته:

إذا «أ» إذن «ب»

لا «أ» ؛

إذن لا «ب» .

إن حقيقة أن عيني تكون مغلقة أثناء النوم لا تمنع احتمال أن أغلقها وأنا في تمام اليقظة، غير أن هذا النوع من الاستنباط قد يكون خادعًا جدًّا إذا كان مطمورًا في حجة أكثر تعقيدًا؛ وذلك بسبب الخلط بين معنى «إذا» ومعنى «إذا وفقط إذا» ، فالحق أن الحجة السابقة تكون صائبة إذا كانت المقدمة الأولى تقرر أنني لا أغلق عيني إلا عندما أكون نائمًا.

يكثر استخدام هذه المغالطة من قِبل المحامين، إذ يدَّعون أن غياب دليلٍ معين هو برهانٌ على براءة المتهم، فإذا اختفى الشخص س، مثلًا، والذي تُشير الأدلة إلى أن المتهم قد قام بقتله، فإن المحامي قد يدفع بأنه من دون جثة فليس بالإمكان إثبات القتل:

إذا عُثِر على جثة «س» فقد يكون موكِّلي قد قتله،

لم يُعثر على جثة «س» ؛

إذن موكِّلي لا يمكن أن يكون قد قتل «س» .

وهي كما ترى مغالطة، يعبر عنها بالمبدأ المأثور «غياب الدليل ليس دليلًا» ، وإن تكن المغالطة أعقد من ذلك.

ص: 197

(2 - 1) أمثلة أخرى لمغالطة إنكار المقدَّم

كل الطيور لها أجنحة. الخفاش ليس من الطيور؛ إذن الخفاش ليس له أجنحة (بالطبع كون الطيور جميعًا ذوات أجنحة لا يمنع أن تكون هناك مخلوقات أخرى، كالحشرات والخفافيش، ذات أجنحة).

سعيد يلعب الشطرنج دائمًا على الغداء يوم الأربعاء. وبما أن اليوم هو الخميس؛ إذن من المحال أن سعيدًا يلعب الشطرنج الآن. (بالطبع لا شيء يمنع سعيدًا من أن يلعب الشطرنج في الأيام الأخرى.)

إذا كانت السماء تمطر فإن الرصيف يكون مبتلًّا. السماء لا تمطر منذ أسبوع؛ إذن الرصيف لا بُدَّ من أن يكون جافًّا. (بالطبع ليس هناك استحالة في أن يكون الرصيف قد تم غسله للتوِّ.)

إذا كنت في الإسكندرية فإنا إذن في مصر. أنا لست في الإسكندرية؛ إذن أنا لست في مصر.

كل الطماطم حمراء (إذا كان شيء ما هو طماطم فلا بُدَّ من أن يكون أحمر). هذا ليس من الطماطم؛ إذن هذا ليس أحمر.

إذا كانت سياساته ناجعة فإن البطالة سوف تنكمش. ولكن سياساته غير ناجعة؛ إذن البطالة لن تنكمش. (بالطبع قد تكون هناك أسباب أخرى تفضي إلى انكماش البطالة رغم سوء السياسات.)

إذا كان هذا الاختبار قائمًا على معايير مخادعة، فسوف يكون إذن اختبارًا غير صادق. ولكن المعايير ليست مخادعة؛ إذن فالاختبار صادق.

ص: 198

الفصل الخامس والعشرون

ذَنْبٌ بالتداعي

guilt by association

يقع المرء في هذه المغالطة حين يذهب إلى أن رأيًا ما هو باطلٌ بالضرورة بالنظر إلى معتنقيه، أو أن دعوى معينة هي كاذبةٌ لا لشيءٍ إلا لأن أناسًا يبغَضُهم يقبلونها ويأخذون بها، فيعمد إلى رفض الدعوى؛ لأنَّها «مرتبطةٌ» في ذهنه بما لا يحب.

تستمد هذه المغالطةُ سطوتها من ميلٍ فطري لدى البشر جميعًا؛ فالإنسان لا يحب أن يُقرن بمن لا يحب، لكأنما الحق أو الباطل ينتقل ب «التداعي» association من أصحابِ الشيء إلى الشيء، أو من أنصار الرأي إلى الرأي.

يتخذ هذا الاستدلالُ الصورةَ التالية:

من الثابت أن أناسًا (أنظمة، جماعات،

) يبغضهم الشخص «س» يقبلون الدعوى «ص» ؛

إذن «ص» كاذبة.

غنيٌّ عن البيان أن هذا استدلالٌ خاطئٌ فاحش الخطأ: إن نفور المرء من أن يُقرن بمن يبغضهم هو أمرٌ سيكولوجي لا دخل له بصدق القضايا، ولا يُبرِّر رفض أي دعوى، إن سَفِلَة الناس يعتقدون (شأنهم شأن عليتهم) بكروية الأرض فهل ينال ذلك من هذه الحقيقة؟! أو هل ينبغي أن يسُوءنا الاقتران بهم حين نعتقد في هذا الأمر اعتقادَهم؟!

ص: 199

كانت المكارثيةُ ذات يوم صيغةً خاصةً من مغالطة «ذنبٌ بالتداعي» :

(1)

إذ كان الشخص، أو المنظمة أو الرأي، يُقرن على نحوٍ ما بالشيوعية، وكان الاقتران يُعقد من خلال فكرةٍ مشتركة، من ذلك أن دعاة الحقوق المدنية، مثل مارتن لوثر كنج، كانوا يُتهمون بالشيوعية، بالنظر إلى أن الشيوعيين يؤيدون، هم أيضًا، الحقوق المدنية، ولتبيان هذا الخطأ نُعيد صياغة هذه الحجة في القياس التالي:

جميع الشيوعيين من دعاة الحقوق المدنية،

مارتن لوثر كنج من دعاة الحقوق المدنية؛

إذن مارتن لوثر كنج شيوعي.

وهو قياسٌ خاطئٌ صوريًّا، وكثير من الأمثلة الأخرى لمغالطة «ذنب بالتداعي» تقع في نفس الخطأ.

‌أمثلة أخرى

(1)

كان النازيون دعاةً ل «اليوجينيا» (تحسين النسل) eugenics؛ إذن لا بُدَّ من أن يكون تحسين النسل شرًّا مستطيرًا.

(2)

كان هتلر نباتيًّا vegetarian؛ إذن النباتية إثمٌ ينبغي اجتنابه.

(3)

كيف تؤيد ملكية الدولة للصناعات الحيوية؟ ألا تعلم أن ستالين أيضًا كان يفعل ذلك؟

(4)

كيف تضيف الثوم إلى الثريد (الفَتَّة)؟ ألا تعلم أن اليهود أيضًا يفعلون ذلك؟

(5)

لن أُصَوِّت أبدًا للدكتور حسان لعِمادة الكلية، أعرف أنه أجدرُ المرشحين وأكثرهم كفاءةً ونزاهة، ولكني أعرف أيضًا أن الخنزيرين سلمان ومؤنس يؤيِّدانه ويُصوِّتان له.

(1)

عرضنا في فصل «الاحتكام إلى الجهل» ad ignoratiam للمغالطة الرئيسية التي كان يرتكبها السيناتور جوزيف مكارثي، وهي «نقل عبء البينة» أو تأسيس الادعاء على عدم وجود أدلة تُكذِّب الادعاء!

ص: 200

الفصل السادس والعشرون

مغالطة التأثيل

etymological fallacy

ثمة اعتقادٌ خاطئ يَقِر في أذهان الكثيرين مفاده أن المعنى الحقيقي لأي كلمة يجب أن يُلتمَس في الأصل التاريخي الذي أتت منه الكلمة، أو ما يُسمى في اللسانيات بالإتيمولوجيا أو «التأثيل» etymology، «والتعريف اليوناني لكلمة إتيمولوجيا يوضح هذا المفهوم: فهو تَفَتُّح الكلمات الذي من خلاله تبدو معانيها الأصلية جلية»،

(1)

هذا الاعتقاد بأن المعنى كلَّه قابعٌ في أصل اللفظة هو اعتقاد خاطئ فيه تبسيطٌ مفرِط لطبيعة اللغة ومنشئها وقوانينها المسيِّرة:

(1)

من ذلك أن كلمة «فنان» تأتي من كلمة «فن» وهو اللون (في لسان العرب: قال أبو منصور واحدُ الأفنان إذا أردت بها الألوان فن)، قد تُلقي هذه المعلومة ضوءًا ما على استخدامنا الحديث لكلمة «فن» وكلمة «فنان» ، غير أنه ضوءٌ شحيحٌ واهنٌ لا يُغني كثير غناء في دراستنا لمعنى الفن وفلسفته وتجلياته وتذوقه وتقويمه ووظيفته في الزمن المعاصر والأزمنة السالفة.

(1)

لعل كلمة «تحقيق» أدق في ترجمة هذا المصطلح، لولا أنه يلتبس بتحقيق المخطوطات، فهو مشتق من الكلمة اليونانية etumos التي تعني «حق» أو «حقيقي» (د. محمد محمد يونس علي: مدخل إلى اللسانيات، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004، ص 63).

ص: 201

(2)

وليس ما يمنع أن ينبري متحذلقٌ بتسفيه كلِّ أدبٍ شفاهيٍّ مرويٍّ، باعتبار أن كلمة literature (أدب) مشتقةٌ من الكلمة اللاتينية litera التي تعني الحرف الأبجدي (المكتوب).

(3)

ولا ما يمنع أن يجبهنا متحذلقٌ آخر بأن التعليم لا ينبغي أن يكون إلزاميًّا، باعتبار أن كلمة education (تعليم) مشتقةٌ من الكلمة اللاتينية educere التي تعني يغريه بالكلام بحرية، وقد تفيد معنى الملاطفة والاجتذاب كمقابلٍ للقَسر والإرغام.

(4)

يعني ذلك إذن أن كلمة prevent (يمنع) كان ينبغي لها أن تعني «يسبق» أو «يستبق» لأنها مشتقة من الكلمة اللاتينية prae وتعني «قبل» ، وكلمة venire وتعني «يذهب» !

(5)

أو أن كلمة nice كان ينبغي أن تكون لفظة ازدراءٍ وقدحٍ؛ لأنها مشتقةٌ من كلمةٍ فرنسية قديمة تعود إلى القرن الثالث عشر وتعني «أحمق» أو «غبي» !

إنما يُعَوِّل مستخدمو اللغة على السياق لاستشفاف المعنى المقصود للكلمة،

(1)

ولا يفكرون كثيرًا في «التأثيل» etymology؛ أيْ ردِّ الكلمة إلى أصلها التاريخي، والذي قد لا يكون واضحًا على الإطلاق وبخاصةً إذا كان مؤسَّسًا على لغةٍ أجنبية أو لغةٍ قديمةٍ بائدة.

تتناسى مغالطة التأثيل أن اللغة ليست كيانًا كلسيًّا ثابتًا، وأن هناك تغيراتٍ كثيرةً تعتري اللغة، منها التغير الصوتي، والتغير النحوي، والتغير الدلالي (وهو ما يعنينا في هذا المقام)، وللتغير الدلالي semantic change أنواع عديدة منها ما يعرف ب «الانحدار الدلالي» semantic deterioration وهو تغير يلحق بمعنى اللفظة فيُكسبها دلالةً سلبية، مثال ذلك ما حدث لكلمة notorious التي كانت في الأصل تعني «مشهور» ثم انحدرت دلالتُها وصارت تعني «مُشَهر» أي مشهور بشيءٍ قبيح، وكلمة dogmatic التي كانت تعني «موقن» أو «راسخ الاعتقاد» وصارت الآن تعني «جازم متصلب غير عقلاني في اعتقاده» ، وتقابل ظاهرة الانحدار الدلالي ظاهرة «التحسن الدلالي» amelioration حيث تكتسب اللفظة دلالة إيجابية أو يزايلها ما كان لها في الأصل من دلالةٍ سلبية، مثال ذلك كلمة minister (وزير) فقد كانت قديمًا تعني «خادم» (وما تزال تُستعمَل كفعلٍ

(1)

أو يرجعون إلى التعريف الصريح لرفع الالتباس، انظر تفصيل ذلك في «مغالطة الالتباس» fallacy of ambiguity.

ص: 202

بمعنى يسعِف أو يعين أو يقدم خدمة)، وكلمة nice سالفة الذكر، والتي كانت تعني قديمًا «غبي» أو «أحمق» ، وهناك أمثلةٌ أخرى يخطئها الحصر.

تعود تسمية هذه المغالطة (etymological fallacy) إلى جون ليونز John Lyons، ويعني بها خطأ التأثيليين حين يحاجون بأن كلمة ما تعود إلى أصل يوناني أو لاتيني أو عربي

إلخ؛ ولذا فإن معناها ينبغي أن يكون مطابقًا لما كانت عليه في الأصل، ويبدو زيف هذه الحجة في أن الافتراض الضمني بوجود «صلة حقيقية» أو «مُناسَبة» في الأصل بين المبنى والمعنى، وهو ما تستند إليه هذه الحُجة، هو شيء لا يمكن التحقق منه.

(1)

لقد كانت المسألة الهامة التي أثارها الإغريق، والتي تركت بصماتها على الدراسات اللغوية اللاحقة حتى عصرنا الحاضر، تتعلق بطبيعة اللغة ونشأتها، فقد رأى بعضهم أن اللغة ظاهرة طبيعية، وأن الكلمات وأصواتها جزء لا يتجزأ من المعنى، بينما رأى الفريق الآخر، ومنهم أرسطو، أن اللغة ظاهرة اجتماعية وأن أصواتها رموز اصطلاحية ليس لها بالمعاني علاقة طبيعية أو مباشرة، وقد نشأت عن هذا الاختلاف النظريتان المعروفتان: النظرية التوقيفية والنظرية الاصطلاحية (أو التواضعية)، واللتان امتد الجدل فيهما حتى العصر الحاضر، وقد نشأ عن النظرية الأولى نظريات متعددة عن أصل اللغات جميعًا منها: أن اللغة «توقيف» ووحي من الله، ومنها أن أصل اللغات جميعًا يرجع إلى محاكاة أصوات الطبيعة أو أصوات الحيوانات إلى آخره، ووصل الأمر بالبعض إلى أن يقول إن للصوت بحد ذاته قيمة تعبيرية.

(2)

وقد تأثر العرب بكلتا المدرستين، واتخذ بعضهم، مثل ابن فارس في القرن الرابع الهجري، موقف المدافع عن النظرية التوقيفية، واتخذ آخرون، مثل ابن جِنِّي (في بعض فقرات «الخصائص» دون بعضها الآخر)، النظرية الاصطلاحية، يقول ابن جني «إن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضعٌ واصطلاح، لا وحيٌ وتوقيف.» كان ابن فارس يستشهد في نظريته التوقيفية بالآية الكريمة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، أما

(1)

John Lyons: Language and Linguistics، An Introduction، Cambridge University Press، 1981، p. 55.

(2)

د. نايف خرما: «أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة» عالم المعرفة، الكويت، عدد رقم 9، سبتمبر 1978، ص 96.

ص: 203

ابن جني فيئول الآية بأن المقصود بكلمة «عَلَّم» هو «أقدر» أي أن الله أعطى آدم القدرة على الكلام والتسمية وترك له الوضع والاصطلاح بالنسبة للتفاصيل.

(1)

في محاورة «كراتيلوس» عرض أفلاطون منطق التأثيليين عرضًا مسهبًا، وبيَّن أنهم يعتقدون بوجود علاقة طبيعية (غير اصطلاحية) وضرورية بين الدال والمدلول، وأنهم بالتنقيب في الماضي عن أصل الكلمة، والكشف عن معناها الحقيقي إنما يصلون إلى حقيقة من حقائق الطبيعة، أو يميطون اللثام عن «ماهية» الشيء الذي تدل عليه الكلمة!

وشبيه بهذا ما يفعله بعض الباحثين عندما يُفسِّرون المعنى الاصطلاحي لمفهوم ما بمعناه اللغوي، مع احتمال ألا يكون المعنى الاصطلاحي مرتبطًا بالمعنى اللغوي ارتباطًا وثيقًا، وقد سبق لابن تيمية وابن قيم الجوزية أن اعترضا على استخدام أنصار المجاز للمنهج التاريخي في التمييز بين الحقيقة والمجاز رغم صعوبة التثبت من أصل اللفظ، وعدم وجود ما يفيد تاريخيًّا بسبق أحدهما على الآخر.

(2)

والحق أن التأثيل منهج مستخدم اعتمد عليه الكثير من اللغويين اعتمادًا كبيرًا، وبخاصة في القرن التاسع عشر، حيث أقيم على أسسٍ أمتن مما كان عليه قبل ذلك، وما زال مستخدمًا حتى الآن، ويُعد فرعًا معتبرًا من اللسانيات التاريخية (الدياكرونية)، وله دعائم منهجية خاصة تتوقف على كمية الشواهد المؤيدة ونوعها، إلا أنه بات واضحًا للتأثيليين في القرن التاسع عشر، وسلَّم به اللسانيون عامة في الوقت الحاضر، أن معظم كلمات المعجم في أي لغة لا يمكن أن تُعزَى إلى أصولها، وقد انتكس المنهج التاريخي بعد دعوة دي سوسير إلى الفصل بين الدراسات التزامنية (السينكرونية) والدراسات التاريخية (التعاقبية/ الدياكرونية)، وكرَّس مبدأ «اعتباطية العلامة اللغوية» arbitrariness of the sign على نحوٍ نهائي حاسم، ومنح الصدارة للسينكروني على الدياكروني، ولفت الانتباه إلى أهمية الدراسة الوصفية التي تقتصر على النظر إلى

(1)

المرجع السابق، ص 98، والحق أن ابن جني كان مترددًا بين الاصطلاح والتوقيف، وقد سجَّل تردده في غير موضع من كتابه «الخصائص» ، يقول ابن جني في أحد هذه المواضع: «قد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة: أتواضع هي أم إلهام، وحكينا وجوَّزنا فيها الأمرين جميعًا وكيف تصرَّفت الحال وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها

» (ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الرابعة 1999، الجزء الثاني ص 30).

(2)

د. محمد محمد يونس علي: مدخل إلى اللسانيات، ص 63.

ص: 204

«حالات» اللغة، وضرورة استبعاد العامل التاريخي عند دراسة «حالة» من حالات اللغة، فاللغة عند سوسير هي مجرد نسق أو نظام وتؤدي وظيفتها باعتبارها «بنية» لا تنطوي في ذاتها على أي بُعد تاريخي، من ذلك أن تاريخ كلمةٍ ما كثيرًا ما يكون بعيدًا كل البُعد عن أن يُفيدنا في فهم المعنى الراهن لهذه الكلمة.

(1) اعتباطية العلامة اللغوية

يقول سوسير: إن العلاقة التي تربط «الدال» signifier ب «المدلول» signified علاقة اعتباطية، ولما كنتُ أعني بالعلامة اللغوية النتيجة الإجمالية للربط بين الدال والمدلول، فإن بوسعي القول بإيجاز وبساطة: العلامة اللغوية علامة اعتباطية، ففكرة «الأخت» sister لا ترتبط بأية علاقة داخلية مع السلسلة المتتابعة من الأصوات s-o-r التي تستعمل كدالٍّ بالنسبة لهذه الفكرة في اللغة الفرنسية، إذ يمكن تمثيل هذه الفكرة باستخدام أي سلسلة أخرى من الأصوات، وأكبر دليل على ذلك هو الفروق القائمة بين اللغات، بل وجود لغات مختلفة: فللمدلول «ثور» الدال b-o-f على طرف من الحدود (الفرنسية-الألمانية)، و (ochs) o-k-s على الطرف الآخر،

(1)

لقد استُخدم لفظ «رمز» symbol للدلالة على العلامة اللغوية، أو على وجه الدقة للدلالة على ما نسميه «الدال» ، ولكن هناك بعض المصاعب التي تمنعنا من اتخاذه؛ وذلك بسبب مبدئنا الأول نفسه، فللرمز خاصية أنه لا يُدرك دومًا اعتباطيًّا، فهو ليس فارغًا، بل فيه بقية من رابطة «طبيعية» بين الدال والمدلول، فرمز العدالة مثلًا، أي الميزان، لا يمكن أن يُستبدل به أي شيء آخر: دبابة مثلًا أو عربة!

(2)

يستدعي لفظ «اعتباطية» الملاحظة التالية: فهذه الكلمة لا ينبغي أن تعطي انطباعًا بأن أمر اختيار الدال متروك تمامًا للمتكلم (وسنرى أنه ليس بمُكنة أي أحد أن يغير شيئًا من علامة لغوية استتبت في مجتمعٍ لغويٌّ ما) إنما أعني بالاعتباطية أن العلامة اللغوية ليس لها من سبب؛ أي أن العلاقة بين الدال والمدلول بها لا تقوم على أية رابطة طبيعية.

(3)

(1)

فرديناند دي سوسير: علم اللغة العام، ترجمة: د. يوئيل يوسف عزيز، بيت الموصل، 1988، ص 87.

(2)

المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(3)

المرجع السابق، ص 87 - 88.

ص: 205

(2) ليونارد بلومفيلد: بؤس الإتيمولوجيا

في كتابه «اللغة» يعرض ليونارد بلومفيلد لمنهج التأثيل، ويكشف لنا بؤس الإتيمولوجيا، ويبين أن منهج الحفر التاريخي في اللغة لا يُفضي إلى شيء، يقول بلومفيلد: خذ مثلًا كلمة blackbird (الشحرور) وتتكون من black و bird، وتطلق على نوع من الطير، وهذا النوع من الطير إنما سمي بهذا الاسم بسبب لونه الأسود، وهذه حقًّا تسمية صادقة تصدق على هذه الطيور: فهي طيور، وهي سوداء

وجريًا على هذا المنطق، أكان من الممكن أن يستنتج علماء اليونان أن ثمة صلة باطنة عميقة بين ال gooseberry (عنب الثعلب) وال goose (الإوز)!

إن التحليل في جميع اللغات لا يسمح بذلك ولا يجود به، ولنا في اليونانية والإنجليزية أمثلة كثيرة من الكلمات التي تستعصي على هذا النوع من التحليل الذي يتصوره التأثيليون: كلمة early أي مبكرًا، تنتهي بمثل ما تنتهي به كلمة manly بمعنى رجولي، فاللاحقة ly مضافة إلى man (رجل)، ولكن إذا جردنا الكلمة الأولى من اللاحقة ly فماذا يتبقى؟ يتبقى ear (أُذن)، فهل تعطي فائدة؟ إنها بقية غامضة لا تفيد

وكذلك كلمة مثل woman (امرأة): إنها تلتقي مع كلمة مثل man (رجل)، ولكن ما دور المقطع wo في هذا؟ إن هذا المقطع هو الذي يفصل بين دلالة هذه الكلمة ودلالة الكلمة الأخرى من الناحية الشكلية الصوتية، ولكن ما قيمة هذا المقطع الأول wo في التحليل الاشتقاقي، إنه لا دور له، ولا دلالة له كذلك

وعلى هذا النحو تواجهنا صعوبات في تحليل الكلمات القصيرة أو البسيطة، التي هي أقل من السابقة، فكلمات مثل man، boy، good، bad، eat، run

وغيرها كثير، لا يعين فيها التحليل الإتيمولوجي (التأثيلي/ الاشتقاقي) على كشف صلة بين الكلمة وما تُشير إليه

ولكن علماء اليونان، ومثلهم تلامذتهم من علماء الرومان كانوا في مثل هذه الحالات يلجئون إلى الحدس والتخمين

إن صيغ الكلام تتغير وإنها قابلة للتغير لأنها ثابتة على حين أن المسميات لا تتغير، وكذلك المعاني ثابتة لا تتغير

أي أنه لا توجد علاقة طبيعية ضرورية، أو منطقية عقلية، بين الاسم والمسمى أو بين الدال والمدلول

وصفوة القول عند بلومفيلد أن التحليل التأثيلي لا يؤدي إلى شيء، وأنه لا طائل من ورائه

وإنما هو دليل على أنه لا توجد علاقة ولا رابطة عقلية ضرورية بين الاسم والمُسمَّى.

(1)

(1)

د. البدراوي زهران: مبحث في قضية الرمزية الصوتية، دار المعارف، القاهرة، ط 4، 1999، ص 43 - 46.

ص: 206

(3) ابتذال المصطلح العلمي

تبلغ المغالطة التأثيلية مداها، وتصبح مسخًا كاريكاتوريًّا، حين تُعمل أدواتها التاريخية في المصطلح العلمي أو التكنيكي حيث الطابع الاصطلاحي المطلق للعلامة، وتحاول أن تفهم المصطلح الفني المتخصص بمعناه اللغوي الدارج! وهو ما يمكن أن نُطلق عليه «ابتذال المصطلح» vernacularization،

(1)

إن اللفظ اللغوي العادي حين يوضع بين هلالين ويتحول إلى مصطلح علمي فإنه يفارق دارَه وينسَى ماضيه، ويكتسي معنى جديدًا قد لا يكون له بمعناه اللغوي الدارج أيُّ علاقة، وبالتالي فليس يُجدي نفعًا تنقيبنا عن أصله وفصله ولا يقرِّبنا إلى فهم المصطلح في وضعه الجديد، يقول جاستون باشلار في كتابه «المادية والعقلانية»:«إن اللفظ عندما يوضع بين مزدوجتين فهو يَبْرُز وتحتدُّ نغمتُه، إنه يأخذ فوق اللغة العادية نغمةً علمية، ما إن يوضع لفظٌ من ألفاظ اللغة العادية بين مزدوجتين حتى يكشف عن تغير في منهج معرفة تتعلق بميدان جديد للتجربة، وبإمكاننا أن نذهب حتى القول من وجهة نظر الباحث الإبستمولوجي إن هذا اللفظ علامة على قطيعةٍ وانفصالٍ في المعنى، وإصلاحٍ للمعرفة.»

(2)

•••

(1)

من أمثلة ابتذال المصطلح:

استخدام كلمة «فُصام» (ويقولونها شيزوفرينيا من باب التعالُم) بمعنى وجود شخصيتين مختلفتين للفرد (وهذا الأخير، أي وجود شخصيتين، هو اضطراب شديد الندرة، إلا في الروايات، يُسمَّى «ازدواج الشخصية» double personality)، أما الشيزوفرينيا فهي بعيدة عن هذا المعنى بعدَ المشرقين!

استخدام كلمة «ظاهراتية» (فينومينولوجيا) بمعنى بحث ما هو ظاهر للملاحظ، حتى لقد استخدم أحيانًا في الطب النفسي بمعنى رصد الأعراض symptomatology!

استخدام مصطلح «مثالية» idealism الفلسفي بمعنى الكمال والسمو، مثلما نتحدث عن الأخلاق المثالية، والطالب المثالي، والأم المثالية، والفتاة المثالية!

استخدام مصطلح «ميتافيزيقا» metaphysics بمعنى ذلك العلم (لا أدري أين هو) الذي يضطلع بدراسة العالم غير المادي، أو العالم الروحي، ورصد ظواهره وتجلياته!

(2)

محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي: اللغة، في سلسلة «دفاتر فلسفية» (نصوص مختارة)، دار توربقال للنشر، المغرب، ط 2، 1998، ص 46.

ص: 207

وبعد، فحين يحاج المرءُ بأن دعواه صائبة لا لشيءٍ إلا لأن الأصل اللغوي نفسه للكلمة يفيد ذلك، فإنه يقع في ضربٍ من الاستدلال الدائري، وفضلًا عن ذلك فإن افتراض أن الكلمات يجب أن تبقى لصيقةً بمعناها التاريخي الأول هو افتراض ينطوي على إغفالٍ عبثي للطبيعة الاصطلاحية للغة وتقييد لا مبرر له لنموها وتطورها.

إن اللغة لفي سيرورةٍ دائمةٍ وتحوُّلٍ دائب، وهناك ألف سببٍ يُلح على الألفاظ أن تخرج من جلدها وتكتسي معانيَ جديدة غير ذات صلة بمعناها القديم، وما دامت اللغة في تغير مستمر فمن الطبيعي أن تواكبها في ذلك علوم اللغة المنوط بها رصد الظاهرة اللغوية وضبط حركتها، وأن يكون نهج العلوم توترًا محسوبًا بين «المعيارية» و «الوصفية»: معيارية تصون اللغة من التحلل والانهيار، ووصفية تفتح لها آفاقًا للتطور والارتقاء.

ص: 208

الفصل السابع والعشرون

الاحتكام إلى الجهل

appeal to ignorance; ad ignoratiam

كان جحا غزير الشَّعر، فسأله أحد جلسائه مداعبًا: كم عدد شعرات رأسك يا جحا؟ فأجابه جحا دون تردد: عددها واحد وخمسون ألفًا وثلاثمائة وتسع وستون شعرة، فقال له جليسه متعجبًا: وكيف عرفت ذلك؟ فأجابه جحا: إذا كنت لا تصدقني فقم أنت وعُدَّها!

***

بديه أن جهل الجليس بعدد شعرات جحا، من جراء الاستحالة العملية لِعَدِّها، لا يقوم دليلًا على أن عددها هو 51369 شعرة! إن جحا في هذا السياق «يُقرر» أمرًا و «يُثبت» حكمًا، ومِن ثَم فإن «عبء البينة» burden of proof في ذلك يقع عليه، ومكمن الخطأ هنا هو أن جحا يُريد أن يعفي نفسه من هذا العبء ويضعه على عاتق جليسه دون وجه حق، ويحمله على أن يؤدي له عمله نيابةً عنه!

تفيد مغالطة «الاحتكام إلى الجهل» ad ignoratiam أن شيئًا ما هو حق بالضرورة ما دام أحدٌ لم يبرهن على أنه باطل، والعكس أيضًا صحيح: أي أن شيئًا ما هو باطلٌ بالضرورة ما دام أحدٌ لم يثبت بالدليل أنه حق، في كلا الحالين يؤخذ «غياب الدليل»

ص: 209

مأخذ «الدليل» ، ويتم التذرع بغياب المعلومات التي تثبت شيئًا ما كدليل على بطلان ذلك الشيء، أو المحاجة بأنه ما دام الخصم لا يستطيع أن يدحض دعوى ما فإن هذه الدعوى هي إذن حقٌّ بالضرورة.

الجهل جهل، والجهل ليس دليلًا على شيء إلا على أننا نجهل.

(1) تحقيقات مكارثي: مغالطةٌ أربَكَت أمة!

من يعتذر إنما يتهمُ نفسه.

مثل فرنسي

من أشهر الأمثلة على مغالطة ad ignoratiam تلك التحقيقات التي كان يقوم بها السيناتور جوزيف مكارثي Joseph R.McCarthy في أوائل الخمسينيات من القرن المنصرم: في سلسلة من جلسات الاستماع التليفزيونية وجَّه مكارثي تهمة الشيوعية إلى عددٍ كبير من الأشخاص الأبرياء، في مناخٍ ارتيابي يُذَكِّر بمطاردة الساحرات witch hunt في القرون الوسطى، لم تكن تلك الاتهامات قائمةً على أساسٍ ولا مستندةً إلى دليل وإن كانت بالغةَ الضرر شديدة الإيذاء، كان مكارثي يظهر في تلك الجلسات حاملًا حقيبةً منتفخةً بالملفات الخاصة بالمتهمين، غير أنه في معظم الحالات لم يكن يقدم بينةً حقيقية، وكان الشخص يُتَّهم على أساس أنه ليس في ملفات مكارثي ما يدحض ميولَه الشيوعية! عن إحدى تلك الحالات يقول مكارثي في اجتماع مجلس الشيوخ عام 1950:«ليس لديَّ معلوماتٌ وفيرةٌ في هذا الشأن عدا ما ورد في التقرير العام للوكالة من أنه لا يوجد في الملفات ما يثبت أنه غير متصلٍ بجهاتٍ شيوعية.»

(1)

كان مكارثي في هذه الحالة متورطًا في مغالطة ad ignoratiam: لقد نَقَل «عبء البرهان» burden of proof، وبدلًا من أن يبرهن على ادعائه بالدليل فإنه يؤسسه على

(1)

Douglas N.Walton: "The Appeal to Ignorance، or Argumentum ad Ignoratiam. "، Argumentation، 1999، 13: p. 367.

ص: 210

عدم وجود أدلة تُفنِّد الادعاء، وهي مغالطة لأن مكارثي ينطلق في حجته من مقدمةٍ تفيد غياب المعرفة (أي تفيد الجهل) إلى نتيجةٍ إيجابية تفيد أنه بذلك قد «عرف» ، أو «أثبت» ، أن الشخص المعْنِيَّ مُدانٌ بالميول الشيوعية، إن التهمة التي يوجهها مكارثي هي تهمة خطيرة يتحتم أن تحمل عبءَ البينة وألا تُلصَقَ بشخصٍ لمجرد أنه لا يملك أدلةً تدحضها.

هَبْ أن واحدًا من ضحايا مكارثي أذعن للموقف الاتهامي وشرع يثبت براءته من الميول الشيوعية بشتى الوسائل، فجعل يفرد لنا جدوله اليومي، والجماعات التي يلتقي بها في تعاملاته المهنية، والأنشطة التي ينخرط فيها في إجازته الأسبوعية، والأماكن التي يتواجد بها في حِلِّه وترحاله، إنه لو فعل ذلك فإنه يفتح على نفسه طوفانًا من المساءلات والاستجوابات من جانب مكارثي، ويستهدف لمزيدٍ من الشبهات، ويظهر في النهاية بمظهر المذنب المُريب!

يحَذِّر واتلي Whately من هذه الاستراتيجية الموبِقة في الجدل ويشبهها بتصرف الجيش الذي يحتل حصنًا منيعًا يستطيع الدفاع عنه كل الاستطاعة، فإذا به يبرز طواعيةً من حصنه ويتبعثر في ميدانٍ مفتوح، فيأتيه أعداؤه من كل صوبٍ ويمزقونه كلَّ ممزق! كذلك الأمر في الجدل: فإذا فاتك لحظةً أن تستمسك بخُلُو جانبك حين يكون على خصمك عبء البينة، ورُحت بدلًا من ذلك تنسج حججًا إيجابية (قد تكون ضعيفة) لكي تبرئ ساحتك وتثبت براءتك، فإنك بذلك تُسلِّم سلاحك الأقوى بلا داعٍ وتستبدل به سلاحًا أضعف، يقول المثل الفرنسي «من يعتذر إنما يتهم نفسه!» qui s'excuse، s'accuse، يعني ذلك أنك تُولي ظهرَك للواثبين وتتخذ مظهرَ المذنب تجاه الاتهامات الموجهة ضدك إذ تُحمِّل نفسَكَ عبءَ الدليل حيث كان واجبك الوحيد هو أن تتحدى خصمَك أن يبرهنَ هو على اتهاماته لك برهانًا ساطعًا.

(1)

‌أمثلة أخرى

(1)

ليس هناك دليل على أن الأشباح (العفاريت) غير موجودة؛ إذن الأشباح موجودة.

(1)

Douglas N.Walton: "Burden of Proof"، Argumentation 2 (1988) p. 135.

ص: 211

(2)

أعتقد أن بعض الناس لديها قوى نفسية خارقة. وما دليلك على ذلك؟ دليلي أنه لا أحد استطاع أن يثبت أن الناس لا تملك قوى نفسية خارقة.

لاحظ أننا لسنا بصدد نفي وجود الأشباح أو نفي وجود قوًى خارقة، إنما ننفي أن تكونَ الحجة الواردة صائبةً منطقيًّا، إن ما يميز هذا الصنف من الحالات هو أن من الصعب أن نعرف ماذا عساه أن يكون دليلًا على مثل هذه الدعاوى أو دليلًا ضدها، فها هنا مشكلةٌ خاصة بقابلية التحقق verifiability: لأنه لا يوجد ثمة، فيما يبدو، أي ملاحظةٍ إمبيريقية قابلة للتكرار بحيث تفي بمعايير البَيِّنة العلمية في مثل هذه الحالات، تنطوي أمثلة الأشباح والقوى الخارقة إذن على عدة أخطاء منطقية، غير أن أبرز أخطائها هو «الاحتكام إلى الجهل» (التذرع بالجهل) ad ignoratiam، إنها حججٌ لا تقدم دليلًا حقيقيًّا، بل تستغل غياب أدلةٍ مضادة لكي تقفز إلى نتيجة «عريضة» لا تقوم على ذلك الصنف من البينة الذي يتوجب التماسُه لكي تحظى مثل هذه النتيجة بالقبول.

(2) متى تكون الحجة المستفادة من الجهل غير مغالطة؟

(1)

يبدو أن هناك أحوالًا كثيرة يكون فيها «الاحتكام إلى الجهل» ad ignoratiam مقبولًا تمامًا كمُوَجِّهٍ للفعل الحصيف، مثال ذلك اتباع مبدأ السلامة في تناول الأسلحة: فإذا كنت «لا تعرف» (تجهل) ما إذا كان السلاحُ مُلقمًا بالذخيرة أم لا فإن عليك أن تتعامل معه على أنه ملقَم، وأن تفتح خزانتَه قبل أن تُلَوِّح به، لكي تستوثقَ من أنه غير مُلقم.

(1)

(2)

في كثيرٍ من الأحوال يكون من المقبول عمليًّا أن ننتقل من واقعة أن شيئًا معينًا لم يتم العثور عليه إلى استنتاج أن هذا الشيء لا وجود له، شريطة أن يكون البحث جادًّا وقمينًا في حسابنا باكتشاف الشيء: من ذلك أن الأدوية الجديدة يتم اختبارها على الحيوانات، كالقوارض، للتَثَبُّت من أنها مأمونةٌ غير سامة، هنا يؤخذ غياب الدليل (على سُمِّية الدواء) مأخذ الدليل (على أنه مأمون للإنسان)، ونحن في مثل هذا السياق لا نستند

(1)

Ibid.p. 368.

ص: 212

إلى «الجهل» بل إلى «المعرفة» (معرفتنا بأنه لو كان للنتيجة التي تهمنا أن تنجم لَنَجَمت في حالةٍ ما من حالات الاختبار، وهو ما لم يحدث)،

(1)

كذلك في موقف اتهام شخص أو دولة بإحراز شيء محظور فإن إرسال مفتشين مؤهلين للبحث عن ذلك الشيء، والذي نفترض أنه قابلٌ للكشف ومستحيلٌ إخفاؤه عادةً، وحقيقة أنهم فشلوا في العثور عليه بعد فترة كافية، ليُمثِّل دليلًا معقولًا على عدم وجود ذلك الشيء.

(3)

في مجال التاريخ يُسمَّى هذا الصنف من الحُجة ex silentio (بحكم الصمت)، مثال ذلك أن نقول إنه لم يكن من عادة الرومان أن يقلِّدوا الأوسمة شخصًا بعد وفاته، وذلك بناءً على «الدليل السلبي» بخصوص هذه الأوسمة، فالكتابات المدونة وشواهد القبور لم تسجل قَط تقليد أية أوسمةٍ لجنودٍ ماتوا في الحرب، بينما تسجل حالات كثيرة لجنود تقلدوا الأوسمة أحياءً بعد الحرب، هكذا يمكننا أن نحاجَّ على أساسٍ سلبي بأنه لو كان مثل ذلك التقليد موجودًا لَتَبدَّى لنا بشكلٍ أو بآخر في الشواهد القائمة، وحيث إنه لا يوجد أي شاهد على ذلك فإن بإمكاننا، بواسطة حجة الصمت ex silentio، أن نستنتج أن من المقبول بعامة أن الرومان لم يقلدوا أحدًا وسامًا بعد وفاته.

(2)

(4)

وفي مجال البحث العلمي يُطلق اسم «الدليل السلبي» negative evidence على ذلك الصنف من البينة حيث تُلتمس نتيجةٌ معينة بالاختبار فلا تحدث، تُعَد البينة السلبية في العلم غير عديمة القيمة، إلا أن الأبحاث التي تسجل نتائج إيجابية تحظى بقبولٍ أكبر مما تحظى به الأبحاث التي تسجل نتائج سلبية، ويميل العلماء بصفة عامة إلى نشر أبحاثهم الإيجابية، ولعل هذا ضربٌ من ضروب الانحياز القائمة في مرفق البحث العلمي، والذي يجعله أميل إلى التركيز على تحصيل نتائج إيجابية، ذلك أن النتائج السلبية هي أيضًا نتائج، ولها فوائد ليس أقلَّها أنها تعصم المؤسسة العلمية من تبديد الجهد والمال في أبحاث لا طائل منها.

(5)

وفي مجال الحاسوب ومجال العلوم الاجتماعية تُعرف الحُجة المستقاة من الجهل باسم «الاستدلال القائم على افتقاد المعرفة» lack of knowledge inference، والذي يتم عندما تُلتمس معلومةٌ معينة في قاعدة البيانات فلا يُعثر عليها، ومن ثم يُعقد الاستدلال السلبي بأن هذه القضية كاذبة بالاستناد إلى القرائن، من ذلك أن برنامجًا

(1)

Ibid.p. 369.

(2)

Ibid.pp. 371 - 372.

ص: 213

حاسوبيًّا يسمى «الأستاذ» Scholar وُجِّه إليه هذا السؤال: «هل تُنتج جويانا المطاط؟» إن «الأستاذ» يعرف حق المعرفة أن بيرو وكولومبيا تنتجان المطاط، ويحيط علمًا بكل شيء عن إنتاج المطاط في أمريكا الجنوبية، ومِن ثَمَّ فإن لديه أسبابًا وجيهة للاعتقاد بأنه لو كانت دولةٌ ما منتجةً كبرى للمطاط لعرفها، غير أن «الأستاذ» ليس لديه علم بما إذا كانت جويانا تنتج المطاط أم لا (أي ليست القضية ولا نفيها داخلًا بشكل صريح في قاعدة بيانات «الأستاذ») فما هو الجواب الذي ينبغي على الأستاذ أن يجيبه؟ يجيب الأستاذ كما يلي:«إن لديَّ من العلم ما يجعلني أميل إلى الاعتقاد بأن المطاط ليس من المنتجات الزراعية لجويانا» ، إنه يَعقِد استدلالَ غياب المعرفة، فيرى أنه ما دامت جويانا ليست في قاعدة بياناته كمنتج للمطاط فإن له أن يستنتج بدرجةٍ متوسطة من الثقة أن جويانا لا تنتج المطاط.

والآن، هل هذا الاستدلالُ القائم على افتقاد المعرفة هو «احتكام إلى الجهل» ad ignoratiam بالمعنى المنطقي لهذا التعبير؟ ليس هناك اتفاقٌ بين المناطقة بهذا الشأن: فالبعض يذهب إلى أنه «احتكام، غير مغالط، إلى الجهل» ، بينما يرى آخرون أنه، في حقيقة الأمر، احتكامٌ إلى المعرفة! ذلك أن «الأستاذ» يحوز معرفةً إيجابيةً عن منتجي المطاط بأمريكا الجنوبية أمكنه في ظلها أن يستبعد جويانا.

(3) الانغلاق الإبستيمي epistemic closure

حين أقول: إنَّ قائمة المحطات التي يقف عندها هذا الديزل السريع هي «القاهرة، وبنها، وطنطا، ودمنهور، والإسكندرية» ، فإن بوسعي عندئذٍ أن أستنتج أنه لا يقف عند كفر الدوار؛ وذلك لأن اسم هذه البلدة لم يرد في قائمة المحطات، وبعبارة أخرى يمكننا أن نفترض أن قاعدة البيانات هنا كاملة أو تامة (مغلقة إبستيميًّا epistemically closed)، باعتبار انه لو كان ثمة محطات توقُّفٍ إضافيةٌ لَوَرَدت في القائمة المدرَجة، يفيد مبدأ «الانغلاق الإبستيمي» أنه «إذا كان «س» حقًّا لَعَرَفته» أو «ما دمت أعرف أنه لا يمكن أن تكون «س» حقًّا دون أن أعلم بذلك، فإن لي أن أستنتج من غياب «س» أن «س» كاذبة»، أو «إذا كانت «س» صادقة لورَدَ ذلك في قاعدة بياناتي، ولكن «س» لم ترد في قاعدة بياناتي، إذن «س» كاذبة.»

ص: 214

ومن أمثلة الانغلاق الإبستيمي قوائم أسماء الناجحين في الامتحانات، إنها مغلقة تمامًا من الوجهة الإبستيمية، ومِن ثَمَّ فمن لم يرد اسمه في القائمة فهو راسب؛ لأنه لو كان ناجحًا لورد اسمه في القائمة.

(4) الاستدلال بالقرينة presumption

على أن الانغلاق الإبستيمي لا يكون تامًّا في أغلب الأحيان، ورغم ذلك يظل للاستدلال العملي مجاله، كما في مثال «برنامج الأستاذ» ، فنحن لا نتوقف عند الاستدلال في حياتنا العملية الملحَّة، بل تبقى لدينا ضروب من الاستدلال في ضوء الغايات العملية التي نتوخاها، وبدرجاتٍ متفاوتة من اليقين.

من هذه الاستدلالات العملية ما يُعرف ب «الاستدلال بالقرينة» presumption، وهو «فعل كلامي» speech act يقع موقعًا وسطًا بين الإقرار (أو الإثبات) assertion وبين مجرد الافتراض assumption، إنه ضربٌ من الاستدلال المقبول عمليًّا يُتيح لنا أن نستنبط شيئًا، بصفةٍ مبدئية، وعلى نحوٍ قابل للإبطال defeasible، من واقعةٍ معينة في الأحوال المعتادة، مثال ذلك أن نقول «إن من يتغيب أكثر من سبع سنوات دون تفسير يعتبر في عداد المتوفين» ، ونشفع ذلك بعبارة «ما لم يثبت عكس ذلك» till proved otherwise، بمعنى أنه استنتاج «ظاهر الوجاهة يؤخذ به ما لم يُنقض بدليل» prima facie أي أن له قوة مفترضة تظل قائمةً ما لم تُنقَض باعتبارٍ أعلى.

يستند الاستدلالُ بالقرينة على مفهوم عبء البينة، فالسمة المحورية لهذا الاستدلال هي أنه يعكس عبء البينة وينقلها إلى الطرف الآخر، فالدواء الذي تبين أنه غير سام للقوارض يعد مأمونًا للإنسان مبدئيًّا، ولا تسقط عنه هذه الصفة ما لم يثبت بالدليل أنه سام للإنسان، ذلك أنه قد ينقذ حياة المرضى، وقد يسعفنا في العلاج، ومن «الحكمة العملية» phronesis أن نجيز استعماله في ضوء معرفتنا المتاحة، ما لم يبرز لنا دليلٌ جديد في المستقبل يشير إلى أضرار للدواء لم تكن بحسباننا.

وفي مجال العقل العملي نحن نسترشد بمجموعة من القواعد الأخلاقية حين تدعونا مواقف الحياة إلى الفعل الفوري ولا تتيح لما وقتًا للتَفَكُّر والتروي: لدينا قاعدة أخلاقية بألا نقتل، ولا نكذب، ولا نفشي الأسرار

إلخ، إنها قواعد «قابلة للإبطال أو الإلغاء» defeasible، بمعنى أنها تظل نافذةً ملزمة ما لم تُنقَض بحجةٍ عكسية ساطعة، إنها تضع عبء البينة على من يريد نقضها في موقف معين، مثال ذلك أن هناك قاعدة

ص: 215

أخلاقية ضد الكذب: إن إطاعة هذه القاعدة ليست بحاجة إلى تبرير خاص، غير أن هناك ظروفًا قد يجوز فيها أن يكذب المرء، عندئذٍ تكون البينة عليه، أي أن عليه أن يُبرر كذبَه بالحُجة.

(1)

وفي مجال القضايا الجنائية يقع عبء الدليل على الادعاء، وعلى الدفاع أن يُبين الثغرات أو نقاط الضعف في حجة الادعاء، وليس عليه أن يثبت براءة المتهم ابتداءً (لأن الأصل براءة الذمة)، ذلك مثال للمبدأ القائل:«البينة على من ادَّعى» He who asserts must prove، والحكمة في ذلك الانحياز المبدئي (إلى جانب المتهم) هي أن الدليل في القضايا الجنائية قد يكون ظنيًّا لأنه يقوم على إعادة بناء أحداث الماضي، وهو أمرٌ يعتمد بالضرورة على الحدس والتخمين، ومِن ثَمَّ فاحتمال الخطأ قائم؛ لذا يقوم المشرِّع بتقنين الجدل القانوني بطريقة من شأنها أن تُقَلِّص حالات إدانة أشخاص أبرياء إلى أدنى حدٍّ ممكن، حتى لو كان ذلك يكلفنا إفلات أشخاص مذنبين من العقاب في أحيان كثيرة، باعتبار أن الظلم الحاصل من إدانة بريء واحد يفوق الحاصل من تبرئة عدة مذنبين.

وفي القضايا المدنية يقع عبء البينة على المدعي plaintiff:

(2)

فإذا ادَّعى شخص، على سبيل المثال، أن مؤسسةً للغسيل الجاف قد ضيعت بذلته، فإن عليه أن يُبرز إيصالَ الاستلام كدليل، وفي حالة عدم وجود إيصال لديه وعدم وجود إيصاله في سجلات المؤسسة فإن الدعوى تسقط لغياب الدليل، أما أن يحاجَّ المدَّعي بأن المؤسسة ليس لديها ما يُثبت عدم استلامها للبذلة فإنه عندئذٍ يقع في مغالطة «الاحتكام إلى الجهل» argumentum ad ignoratiam.

(1)

وليم جيمس إيرل: «مدخل إلى الفلسفة» ، ترجمة د. عادل مصطفى، مراجعة د. يمنى طريف الخولي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، العدد 962، القاهرة، 2005، ص 275 - 276.

(2)

هناك استثناءات لهذه القاعدة، واختلافات بين المدونات القانونية في بعض الحالات.

ص: 216

الفصل الثامن والعشرون

سرير بروكرست (البروكرستية)

Procrustean bed (Procrusteanism)

تُرى كم «ثيسيوس» يلزمنا اليوم

لكي نَبْرَأ من تحيزاتِنا المكِينة،

ونعدل منطقَنا المقلوب؟

***

كان بروكروست، في الميثولوجيا اليونانية، قاطع طريقٍ يعيش في أتيكا، وكانت له طريقةٌ خاصةٌ جدًّا في التعامل مع ضحاياه، فقد كان يَستدْرِج ضَحِيَّته ويُضيِّفه ويكرم وفادته، وبعد العشاء يدعوه إلى قضاء الليل على سريره الحديدي الشخصي، إنه سريرٌ لا مثيل له بين الأسِرة إذ كان يتميز بميزةٍ عجيبة: هي أن طوله يلائم دائمًا مقاس النائم عليه أيًّا كان، غير أن بروكرست لم يكن يتطوع بتفسير كيف يتأتَّى لسريره أن يكون على مقاس الجميع على اختلاف أطوالهم، حتى إذا ما اضطجع الضحية على السرير بدأ بروكرست عمله، فجعل يربطه بإحكامٍ ويشدُّ رجليه إن كان قصيرًا ليمطهما إلى الحافة، أو يبترهما بترًا إن كان طويلًا ليفصل منها ما تجاوز المضجع؛ حتى ينطبق تمامًا مع طول السرير! وظل هذا دأبه إلى أن لقِيَ جزاءه العَدلَ على يد البطل الإغريقي ثيسيوس Theseus الذي أخضعه لنفس المَثُلة، فأضجعه على السرير ذاته وقطع رقبتَه لينسجم مع طول سريره.

ص: 217

يُشير مصطلح «سرير بروكرست» Procrustean bed (أو «البروكرستية Procrusteanism») إلى أية نزعة إلى «فرض القوالب» على الأشياء (أو الأشخاص، أو النصوص

) أو ليِّ الحقائق وتشويه المعطيات وتلفيق البيانات لكي تنسجم قسرًا مع مخططٍ ذهني مسبق، إنه القولبة الجبرية، والتطابق المُعْتسف، والانسجام المُبَيَّت، إنه افتئاتٌ على الواقع قَلَّما يفلت من غضبة المنطق وانتقام الحقيقة.

(1) ألوان من البروكرستية

إنهم يَلوون بها ويُفسدونها لكي تلائم خيالاتهم المسبقة.

فرنسيس بيكون

(الأورجانون الجديد 1: 17)

(1 - 1) البروكرستية التأويلية

وتتكلم بعبارات غامضة

تدفع السامعين إلى التأويل، فيلجئون إلى التخمين ويحورون الألفاظ لكي توافق أفكارَهم.

شكسبير، هملت

حين نفرض على النصوص توقعاتِنا وتحيزاتنا وإسقاطاتنا المسبقة، دون أن نكلِّف خاطرَنا بمراجعة هذه الإسقاطات في ضوء ما يبزغ أمامنا في فِعل القراءة، حين نُخْرِس النصَّ ونفرض عليه ما ليس فيه - فثم «البروكرستية التأويلية» ، وعسى أن يعي ذلك بعض النقاد الذين يفرضون قوالبَهم على الأعمال الأدبية أو الفنية ويُلبسونها المعنى الذي يَتَلَبَّس بهم، أو المذهب الفني الذي يستحوذ على اهتمامهم، وعسى أن يفهم ذلك هواةُ «المعجزات العلمية» الذين لا يخشعون لجلال النص القرآني، ويريدون أن «يحشروا الأكبرَ في الأصغر!» وأن يُفرغوا النص من «بَلاغِه» kerygma الحقيقي ويُجنِّدوه فيما لا يقصده ولا يعنيه.

ص: 218

وفي مقامٍ مماثلٍ يقول فرنسيس بيكون في «الأورجانون الجديد» Novum Organum، الكتاب الأول: شذرة 54: «ومثل هذه الحماقة يجب أن توقف وتُقمع بكل حزم، فمِن هذا المزج غير الصحي بين البشري والإلهي لا تنبثق فحسب فلسفةٌ وهمية، بل ودينٌ هرطقي! ومن ثم فإن رأس الحكمة والرصانة أن نعطي للإيمان ما هو للإيمان ولا نَتَزَيَّد.»

(1 - 2) البروكرستية الإكلينيكية

حين ينخذل الطبيب المبتدئ أمام «الحالة» ، فيرهن ذهنه لتشخيصٍ مسبقٍ يكيِّف عليه الأعراض والعلامات ويلوي بها لتأتي على مقاس تشخيصه، حين يمضي من التشخيص إلى العلامات بدلًا من أن يتجه من العلامات إلى التشخيص، فإنه يرتكب خطأ «البروكرستية الإكلينيكية» ، وما كان للواقع العنيد أن يرضخ لحيل العقل والتواءاته ويدخلَ طواعيةً في قوالبَ مسبقةٍ لا تلائمه ولا تحكمه، إنك لا تجني من الشوك العنب، وأكبر الاحتمال أن يؤدي التشخيص الخطأ إلى العلاج الخطأ، ومن ثم إلى تفاقم المرض وتردِّي المآل.

(1 - 3) الاستخبارات البروكرستية

حين توعِز الإدارة السياسية لمرفق الاستخبارات بأن يُفَصِّل لها معلوماتٍ استخباراتيةً على مقاس قرارٍ سياسي مُبَيَّت، بدلًا من أن يكيف القرار السياسي وفقًا للمعلومات الاستخباراتية، نكون بإزاء صنف خبيث من البروكرستية ربما تُودي بمرتكبها قبل أن طرفٍ آخر.

(1 - 4) بروكرستية العولمة الثقافية

يطمح دعاةُ العولمة إلى صب الثقافات جميعًا في قالبٍ واحد، ظنًّا منهم أن إزالة الحواجز بين الأمم وتدفق الأفكار والمعلومات والبشر عبر الحدود من شأنه أن ينشر قيمَ التسامح والحرية وفهم الآخر، وأن يدمج البشرَ في ثقافةٍ عالمية متجانسة، لم يتفطَّن هؤلاء إلى أن الانفتاح والاجتياح يُثير في النفوس أيضًا غريزة المحافظة والانكماش والتجمد والبحث عن حدود الذات وتدعيمها لإثبات الهوية وتجنب الانمحاء، هكذا انبعثت مع العولمة نزعاتُ

ص: 219

الانفصال والتفكك الداخلي وظواهر التطرف والعنف والانتماءات الأولية (القبلية والإثنية والطائفية)، وتفككت دولٌ في الشرق والغرب وواجهت دولٌ أخرى خطر التفكك، لم يقَدِّر دعاةُ العولمة الأوائلُ سطوة الثقافات المحلية والنزعات القومية والأصولية ومقاومتها للتغيير، وإلى الأثر العكسي لقوى العولمة: مزيد من التفكك والحروب الطائفية والعرقية، وتصاعد قوى اليمين المتطرف وانتشار التزمت والإرهاب وصحوة الانتماءات البدائية الهاجعة.

(1)

(1 - 5) البروكرستية السياسية

تعمد البروكرستية السياسية إلى صب المواطنين جميعًا في قالبٍ واحد؛ تعميمًا للخير والتماسًا للعدالة، تَتَجَذَّر البروكرستية السياسية في «مذهب الماهية» essentialism الفلسفي، وهو الرأي القائل بأن «للأشياء خصائص ماهوية» de re essential properties، أي خواص ضرورية بمعزلٍ عن تصنيفاتنا وتعريفاتنا، للإنسان، من ثم، وماهيةٌ حقيقيةٌ تُميزه عن غيره من الكائنات: قد تكون هذه الماهية هي الروح العاقلة (الإنسان حيوان عاقل)، وقد تكون هي الميل إلى الحياة في تجمعات مدَنِيَّة (الإنسان حيوان مدني)

إلخ، المهم أن هناك ماهيةً ثابتةً محددة للإنسان بها يكون إنسانًا وبدونها يكون أيَّ شيءٍ آخر، هناك «مثال أفلاطوني» أو «صورة» eidos أو «فكرة» idea أزلية للإنسان ينبغي على الإنسان الحقيقي الأرضي أن يسعى إلى تجسيدها ويقترب منها.

كل أولئك أفكارٌ ميتافيزيقيةٌ مأمونة، لا ضير أن يتداولها الفلاسفة فيما بينهم ويختلفوا حولها على مقاعدِهم النظرية الوثيرة، يبدأ الخطر، رغم ذلك، حين تقعُ مثلُ هذه الأفكار في أيدي (أو بالأحرى رءوس) السياسيين أولي البأس وذوي القدرة على استخدامها في الواقع الحي ووضعها موضع التنفيذ، حين يقعُ للطاغية «المثالي» idealist تصورٌ واضحٌ عما تكونه الطبيعة البشرية فقد يرى نفسه مضطرًّا إلى فرضها بالقوة على رعاياه وصبهم في قالبها ضربة لازب، وسحق كل من تُحدِّثه نفسُه بالتمرد على هذا القالب الأزلي الواحد.

(1)

انظر المزيد عن العولمة الثقافية في كتابنا «العولمة، من زاوية سيكولوجية» دار النهضة العربية، بيروت، 2006، ص 55 - 71.

ص: 220

هكذا ينشأ ما يُسميه أنتوني فلو Antony Flew، مؤلف كتاب «سياسة بروكرست» ب «البروكرستية الاشتراكية» socialist Procrusteanism أو «العدالة المحافظة» conservative justice، إنها ضرب من اليوتوبيا الاجتماعية تريد أن تفرضَ التجانس على الناس، وتفرضَ المساواةَ المطلقة على المواطنين، فتأخذ من البعض وتعطي البعض الآخر حتى يعتدل الميزان.

(1)

إن أنتوني فلو هو بمثابة «ثيسيوس معاصر» يريد أن يحطم البروكرستيةَ بأن يكشِفَ زيفَها وتهافتها ويفضح طبيعتها المؤذيةَ المظلمةَ ويخرجها إلى وَضَح النهار: الأمر هنا ليس مجرد مبدأ شخصي يدعو إليه من يدعو، بالحكمة والموعظة الحسنة، أو ربما بتقديم مثالٍ في التضحية والبر (على طريقة ليو تولستوي مثلًا)، ولكنه منهجٌ سياسي وإداري يُراد فرضُه على نطاقٍ هائلٍ بقوة الآلة الحكومية الجبارة.

لم يقف جنون البروكرستيين السياسيين عند حد:

فمنهم من لم يقنع بإعادة توزيع الثروة على الأفراد بالعدل والقسطاس، فذهب إلى ضرورة تحطيم «نظام الأسرة» - منبع التفاوت بين الناس ومعقل اللامساواة وحصنها الحصين.

ومنهم من ذهب إلى ضرورة فرض «المساواة المعرفية» cognitive equality، فلا ينبغي أن «يعرف» شخصٌ أكثر مما يعرف الآخرون.

بل ذهب بعضُهم إلى ضرورة «تحسين النسل» (اليوجينيا eugenics) لاجتثاث التفاوت من المنبع

من البيولوجيا!

من السخرية أن البروكرستية يمكن أن تبلغَ مأربَها وتَشفِي صدرَها ب «المساواة في الجهل» بقدر ما تشفيه ب «المساواة في العلم» ، وأن تقضي وَطَرَها بالإساءة بقدر ما تقضيه بالإحسان! إن مذهب المساواة هو عماد الرفاه، وعماد الضنك أيضًا، ما لم يُستبدَل به مبدأٌ آخر من مبادئ الواجب.

يذهب أنتوني فلو إلى أن مُثُل المساواة في الحرية وتكافؤ الفرصة لا تتفق مع مثل المساواة في الحال المعيشية أو في النتيجة (وهي البروكرستية الحقيقية)، يبدو أن

(1)

Antony Flew: Politics of Procrustes.Buffalo: Prometheus Books، 1981.

ص: 221

هناك توترًا معينًا بين بعض القيم التي نَصبو إليها ونَوَدُّ أن نحققها جميعًا، بحيث إن الترتيبات الاجتماعية التي تدعم إحداها من شأنها بالضرورة أن تنال من الأخرى: ثمة توترٌ بين «العدل» و «الكفاية الاقتصادية» ، وتوترٌ بين «المساواة» (في الحال) و «الحرية» ! ويبقى أن نختارَ القيمة الأكثر أهمية للمجتمع والأَوْلَى من ثم بالتحقيق.

(1)

تقوم الفكرةُ الديمقراطية على أن الناسَ سواسيةٌ قانونيًّا وسياسيًّا، صحيح أنهم خُلِقوا غير سواسية في المواهب الطبيعية، إلا أن هذا التفاوت ليس حجةً على المساواة وإنما هو حجة لها، فالمساواة أمام القانون ليست حقيقةً موضوعية ولا قانونًا طبيعيًّا، إنما هي مطلبٌ سياسي قائمٌ على قرارٍ أخلاقي، ولا علاقة لها البتة بالنظرية القائلة بأن الناس وُلِدوا سواسيةً بالطبيعة، بل إن المساواة «في الفرصة» هي التي تضمن وترعى التفاوت العقلي بين بني البشر؛ لأن مساواة الفرصة تضمن للمواهب الفردية حق التميز والنمو، وتحمي أصحاب المواهب من أن ينالهم اضطهادٌ ممن يقلون عنهم موهبة.

في رواية «ثيسيوس» لأندريه جيد يقول ثيسيوس بعد أن أسْهَب في تبيين طريقته في فرض المساواة: «وقد استمع بيريتوس لهذه الخطبة التي ألقيتُها على السادة، فقال لي إنها خطبةٌ رائعة، ولكنها سخيفة، وكان يعلل ذلك بأن المساواة بين الناس ليست طبيعيةً بل ليست شيئًا يُبتغَى، فمن العدل أن يتفوق الأخيار على طغام الناس بما تُخوِّلهم الفضيلة من امتياز، وهؤلاء الطغام إذا لم تُثر بينهم التنافسَ والتزاحم والغيرة ظلوا هامدين خامدين أشبه شيء بالماء الراكد الآسن، فليس لهم بدٌّ من حافز إلى العمل

وسواء أردتَ أم لم تُرِد فإن هذه التسوية الأولى التي تطمح إليها وهي تكفل للناس جميعًا تكافؤ الفرص ليسعوا إلى الحياة من مستوًى واحد، ستنتهي قطعًا إلى اختلاف والتفاوت، فتنشأ طبقات تتأثر بما يتمايز الأفرادُ به من الكفاية وحسن البلاء، ستنشأ طبقةُ العامة الشقية والأرستقراطية السعيدة.»

وفي كتابه الكلاسيكي «نظرية في العدل» a theory of justice يطرح جون رول John Rawl (1921 -

) نظريةً ربما تكون أهم نظريات العقد الاجتماعي المعاصرة

ص: 222

وأبعدها أثرًا، فيصور المجتمع العادل بأنه ذلك المجتمع الذي سوف تختاره الكائنات العاقلة لو أنها حُمِلَت على اختيار المؤسسات والقوانين «من وراء حجاب من الجهل» behind a veil of ignorance أي دون أن تعلم ما ستكونه مراكزهم الاجتماعية الفعلية، قد يسبق إلى الظن أن مثل هذه الكائنات حَرِيةٌ عندئذٍ أن تختار حالةً من المساواة المطلقة كأفضل رهانٍ لها. إلا أن رول يَبْدَهُنا بغير ذلك، ويقنعنا بالحجة أن هؤلاء المتعاقدين الأصليين الذين حُجِبَت عنهم الحقيقة هم حَرِيُّون أن يختاروا (ويَعُدُّوه عدلًا) نظامًا اجتماعيًّا ينطوي على تفاوتٍ في الثروة ما دام هذا التفاوت يجعل أقلَّ المواطنين حظًّا هو أفضل حالًا مما يكون عليه تحت أي توزيع بديل، بذلك يمكن أن تقوم حجة، باتباع طريقة رول، بأن الرأسمالية التنافسية هي نظام عادل رغم أن بعض الناس فيها أغنى من الآخرين بما لا يُقاس، إذ إن الأقل حظًّا في هذا النظام سيكون أسوأ حالًا وأشد فقرًا لو أنه كان في نظامٍ آخر أكثر مساواةً (ولكن أقل في الكفاية الاقتصادية).

(1)

وعلى ذِكْر نظرياتِ العدل والبروكرستية الاشتراكية تقفز إلى الذهن أبياتٌ للعقاد تترجم شطرًا كبيرًا من هذا النقاش السياسي المحتدِم، يقول العقاد (على طريقته في استقصاء المعنى):

إنَّا نريدُ إذا ما الظلمُ حاق بنا

عدلَ الأناسيِّ لا عدلَ الموازينِ

عدلُ الموازينِ ظلمٌ حين تنصبُه

على المساواة بين الحُرِّ والدُّونِ

ما فَرَّقت كفَّة الميزان أو عَدَلَت

بينَ الحُليِّ وأحجار الطَّواحين

(1 - 6) بروكرستية الإدراك الحسي

ثمة عنصرٌ بروكرستي في كلِّ إدراك حسي، وربما في كل إدراك ذهني على الإطلاق، فالإحساس البصري المحض، على سبيل المثال، لا يقدم لنا أكثر من بقعٍ فسيفسائية مبعثرة، هي «المعطيات الحسية» sense data (sensa)، ثم يأتي «المخطط الذهني» schema، أو «النموذج» أو «الجشطلت» ، فيُضفِي هيئةً ومعنى معينًا على هذا الهُلام

(1)

Earle، W.J.، Introduction to Philosophy.McGrow-Hill، Inc. 1992، p. 199.

ص: 223

الحِسِّيِّ الغُفل، ونحن في إدراكنا الحسي لا نملك إلا أن نملأ الفراغات ونسد الثغرات ونسبغ الكمال على الأشكال الناقصة، ونضفي الاتصال على المنفصل، والاستمرار على المتقطع

إلى آخر تلك الآليات التي فصَّلها الجشطلتيون في سيكولوجية الإدراك.

«المخطط الذهني» أو «البناء الذهني» mental construct أو «النموذج المرشِد»

هو شرطٌ ضروري للإدراك، فنحن في حقيقة الأمر لا نرى موضوعاتٍ محددةً من مثل البشر والحيوانات والأشجار والموائد والكراسي

بل نرى بقعًا لونية مشتتة، ومن هذه الخامة الحسية «نستدل» عندئذٍ على العالم المعتاد أو «نُشيِّده» ، الإدراكُ الحسي إذن هو في حقيقته «تشييدٌ ذهني» mental construction تضطلع فيه قوالبُ العقل المسبقة (أسِرَّة بروكرست) بدورٍ محوري!

وقد أشار الفيلسوف الأمريكي شارلس ساندر بيرس إلى أن الإدراك الحسي هو ضربٌ من التأويل أو الاستدلال: «

فالأمر اللافت في «الخُدَع» illusions البصرية جميعًا هو أن نظريةً معينة لتأويل الصورة تبدو معطاةً في الإدراك بوضوح تام، وحين تنكشف لنا للمرة الأولى تبدو خارجة تمامًا عن سيطرة النقد العقلي شأنها شأن أي إدراك حسي.»

تلك هي البروكرستية المُقدَّرةُ على الكائن البشري والمبيتة في كل إدراكٍ يدركه، والتي تجعلنا نرى ما نتوقع أن نراه، ذلك أن إدراكنا يعتمد تمامًا على مخططاتنا التصورية، وهذه الأخيرة تعتمد بدورها على خلفياتنا الاجتماعية والثقافية، على «نظرياتنا»! يقول نلسون جودمان:«ليست هناك عينٌ بريئة! المادة الخام للرؤية لا يمكن استخلاصُها من المنتَج النهائي، قد تتغير مخططاتنا وتتطور، قد تُنقَّح وتُستبدَل، قد توحِي بها أو ترشدُها عواملُ من كل صنف، غير أنه بدون مخططٍ ما فلن يكونَ إدراكٌ.»

(1)

هذا ما عَناه نوروود رِسل هانسون N.R.Hanson بقوله، الذي أصبح من مأثورات فلسفة العلم الجديدة، «الإدراك مُحَمَّلٌ بالنظرية» Perception is theory-laden، فخلفياتنا النظرية، تصوراتنا واعتقاداتنا وتوقعاتنا، تؤثر فيما نراه، أو على الأقل في كيفية رؤيتنا له، ويجرنا ذلك تلقائيًّا إلى الحديث عن بروكرستية الملاحظة العلمية.

(1)

انظر في ذلك فصل «نسبية الإدراك الحسي» ، في كتابنا «صوت الأعماق» ، دار النهضة العربية، بيروت، 2004، ص 238 - 247.

ص: 224

(1 - 7) بروكرستية الملاحظة العلمية

على الرغم من أن الواقعَ قائمٌ «هناك» بمعزلٍ عن الملاحظ، فإن إدراكنا للواقع متأثرٌ بنظرياتنا التي تحدِّد طريقتنا في تَفَحُّص الواقع، يشمل ذلك إدراكاتنا ويشمل أيضًا أدواتنا العلمية التي هي امتداد لإدراكاتنا، مثال ذلك أن حجم التلسكوبات كان دائمًا يُشكِّل ويعيد تشكيل فكرتنا عن حجم الكون، فحين نَصَبَ إدفين هوبل تلسكوباتِه الجديدة في جنوب كاليفورنيا أتاح للفلكيين لأول مرة تمييز النجوم المفردة في المجرات الأخرى، هنالك تَبَيَّن أن تلك الأشياء الغائمة المُسمَّاة «سُدُمًا» ، والتي كنا نحسبها ضمن مجرتنا، هي في الحقيقة مجراتٌ منفصلة.

في القرن التاسع عشر كان «قياس الجمجمة» craniometry يُحدد الذكاء بأنه حجم المخ، وابتُكِرَت أجهزةٌ معينة لقياس الذكاء على هذا التعريف، واليوم يُعَرَّف الذكاء بأنه كفاءة الأداء في مهمات معينة يقيسها جهازٌ آخر هو «اختبار الذكاء» I.Q.test، يوضح سير أرثر ستانلي هذه المشكلة بتشبيهٍ حاذق: فلنتصور أن عالمًا في الأسماك ichthyologist يستكشف الحياة في المحيط، فيلقي بشبكة في الماء ثم يُخرج تنويعةً سميكة، وإذ يقوم بفرز صيده فإنه يمضي على الطريقة المعتادة للعلماء وينظِّم ما اكتشفه، فيصل إلى تعميمين:

ليس هناك كائن بحري يقل طوله عن بوصتين.

جميع الكائنات البحرية لها خياشيم.

في هذا «الأنالوجي» يرمز الصيد إلى مادة المعرفة التي تشكل العلم الطبيعي، وترمز الشبكة إلى الأدوات الحسية والفكرية التي نستخدمها في تحصيل المعرفة، وترمز عملية إلقاء الشبكة إلى الملاحظات.

قد يعترض مشاهدٌ بأن التعميم الأول خاطئ: «فهناك كائنات بحرية كثيرة أقل طولًا من بوصتين، كل ما في الأمر أن شبكتك غير مكيفة للإمساك بها.» غير أن عالم الأسماك يرد على هذا الاعتراض بازدراء قائلًا: «كل ما لا يمكن إمساكه بشبكتي هو، بحكم طبيعته ذاتها ipso facto، خارجٌ عن النطاق المعرفي لعلم الأسماك وليس جزءًا من مملكة الأسماك التي تم تعريفُها بأنها الموضوع المعرفي الذي ينصَبُّ عليه علم الأسماك، أو، باختصار، ما لا يمكن لشبكتي أن تُمسك به فهو ليس سمكًا.»

ص: 225

كذلك الحال بالنسبة للتلسكوب والذكاء: ما لا يراه تلسكوبي ليس موجودًا هناك، وما لا يقيسه اختباري ليس ذكاءً، من البديهي أن المجرات موجودة، والذكاء موجود، الخَطْب أن طريقةَ قياسنا وفهمنا لها تتوقف بشدة على أدواتنا المتاحة.

(1 - 8) بروكرستية البحث الأكاديمي

كلما طال الأمَدُ على البحث الأكاديمي ترسَّخت فيه معايير معينةٌ للدراسة، تتحول في النهاية إلى «سريرٍ بروكرستي» علينا أن نُطَوِّع له عملنا وننتقي ملاحظاتنا وبياناتنا بحيث تفي بالمعايير وتأتي على مقاس السرير!

يطول الأمدُ فننسى أننا أصحاب المنهج وصانعوه، وأننا مسئولون «عنه» بقدر ما نحن مسئولون «أمامه» ! وما المنهج في نهاية التحليل؟ إنه عاداتٌ تحدِّد لنا الطريقة التي نُعرِّف بها الأشياء ونمارس العمل، عاداتٌ شكَّلتها أيديولوجياتٌ خفية (يسميها رولان بارت بالأساطير في السيميوطيقا الخاصة به)، ثم تَكَلَّست بفعل التكرار حتى أصبحت سريرًا بروكرستيًّا جاسيًا يحدد لنا حدودَ ما نقبله وما نرفضه، ويضع لنا مسبقًا معايير «الصدق» validity

(1)

في عملٍ يُفترَض فيه أنه ابتكارٌ دائمٌ وكشفٌ للخَفِي وارتيادٌ للمجهول، وما كان للحقيقة أن ترضخ لمنهجٍ صنعناه بأيدينا ثم عبدناه كإله من الحلوى، وما ظنك بمآل ذلك في كل مرحلةٍ من مراحل العلم القياسي؟ إنه العُقم وجفاف الدم في عروق البحث، تعقبه «أزمة» crisis وتراكم «شذوذات» anomalies ثم «ثورة علمية» scientific revolution تمس المنهج نفسَه فيما تمس.

الحق أن «المنهج» method و «الموضوع» object لا يمكن أن ينفصلا: لقد حدَّد لنا المنهج مقدمًا ما سوف نراه! لقد أنبأنا ماذا يكون الموضوعُ بوصفه موضوعًا؛ لهذا السبب يُعد كل منهجٍ تأويلًا بحد ذاته، غير أنه أحد التأويلات فحسب، والموضوع الذي يُرى بمنهجٍ آخر سيكون موضوعًا آخر.

(2)

(1)

ما تزال كلمة validity تُتَرجم ب «الصدق» في مجالات العلوم الإنسانية، رغم ما ينطوي عليه ذلك من خلط بين «الصدق» الواقعي truth و «الصواب» الصوري validity.

(2)

د. عادل مصطفى: «مدخل إلى الهرمنيوطيقا» ، دار النهضة العربية، بيروت، 2003، ص 33.

ص: 226

يبدو أن فكرة «المنهج» بألف لام التعريف لا تستقيم وفكرة «المجهول» الذي نريد ارتيادَه وكشفَه، المجهول «مجهول» بطبيعته وتعريفه فكيف نريد اصطياده بمنهجٍ «معلوم» يُحدد لنا سلفًا ما سوف نصطاد؟! إنما يبزغ «المنهج» على رِسلِهِ «بعديًّا» a posteriori من البحث وفي البحث، ربما لذلك لم تَعُد هناك إبستمولوجيا عامة تصلح لكل شيء، وانتقلنا الآن إلى «إبستمولوجيات جهوية» modal epistemology على حدِّ تعبير جاستون باشلار، يقول باشلار في «فلسفة لا»:«في اعتقادنا أن مهامَّ فلسفة العلوم تُطرَح في مستوى كل مفهوم على حدة: فكل افتراض وكل نقطة، كل تجربة وكل معادلة تتطلب فلسفتها الخاصة.»

ويبدو أننا بحاجة، فضلًا عن مناهج البحث التقليدية، إلى منطقٍ آخر للحدس الذكي، لتلك اللحظة الفنية من لحظات الكشف العلمي، لتلك القفزة الإبداعية التي تتجاوز دائمًا المعلومات المتاحة وتضيف إليها شيئًا غيبيًّا لم يكن مبذولًا للإدراك العادي، نحن بحاجة إلى معايير أخرى لما هو افتراضي، مبدئي، تأملي، معايير إستطيقية معينة تُقدِّر جمالَ الظني والحدسي.

(2) المناعة الأيديولوجية، أو «مشكلة بلانك»

من دأبنا جميعًا، في حياتنا اليومية كما في صعيد العلم، أن نقاوم أن أي تغيير في النموذج المعرفي الأساسي (النموذج الشارح paradigm)، يطلق عالم الاجتماع ستيوارت سنيلسون على هذه الظاهرة «جهاز المناعة الأيديولوجي» ideological immune system، يذهب سنيلسون إلى أنه كلما تراكمت المعرفة لدى الأفراد وترسَّخت نظرياتهم فإن ثقتهم بهذه النظريات يتعاظم ويكتسبون «مناعة» ضد أي نظريات جديدة لا تعزز النظريات السابقة، ويطلق مؤرخو العلم على هذه الظاهرة «مشكلة بلانك» Plank problem، نسبةً إلى عالم الفيزياء الشهير ماكس بلانك الذي أبدى هذه الملاحظة فيما يتعلق بالعلم: فقلَّما اتفق لتجديد علمي هام أن يشق طريقًا هينًا سلسًا ويحمل مناوئيه على التخلي عن نموذجهم والتحوُّل إليه طواعية واقتناعًا، فمن النادر أن يتحول «شاول» إلى «باول» ،

ص: 227

(1)

أما الذي يحدث بالفعل فهو أن المعارضين يموتون عن نموذجهم واحدًا بعد الآخر، وينشأ الجيل القادم على إلفٍ بالفكرة الجديدة منذ البداية! ومن النتائج البحثية اللافتة ما وجده عالم النفس ديفيد بيركينز من ارتباط موجب بين درجة الذكاء (كما تقدِّرها اختبارات الذكاء القياسية) وبين القدرة على تعضيد الرأي والدفاع عنه، وارتباط سالب بين الذكاء وبين القدرة على أخذ الآراء البديلة بعين الاعتبار، وبتعبير أبسط: كلما ارتفع معدل الذكاء كان الفرد أكثر مناعةً أيديولوجية وأقل قدرةً على الاستجابة للفتوحات الفكرية الجديدة (!).

ويبدو أن المناعة الأيديولوجية هي شيء متأصل في الأداء البحثي العلمي، حيث تعمل ک «مُرَشِّح» أو «مصفاة» تُرشِّد اندفاع التجديدات العلمية وتردها إلى الحصافة والحذر، من دأب المجتمع العلمي أن يقاوم التجديدات العلمية الثورية لا أن يفتح لها ذراعيه! لأن لكل عالمٍ ناجحٍ مصلحةً مكتسبة (فكرية واجتماعية بل ومالية) في الحفاظ على الوضع القائم، ولو أن كل فكرة جديدة ثورية استُقبِلَت بالترحاب لكانت النتيجة هي فوضى كاملة وشواش تام.

بوسعنا تعميم ذلك على أصعدة الحياة جميعًا فنرى إلى مسيرة التقدم في كل شيء على أنه توتر محسوب بين بروكروست وثيسيوس! بين التقليد والتجديد، بين الموالاة والمعارضة، بين اليمين واليسار، في مسرحية «أوديب» لأندريه جيد يلخص «كريون» هذه القضية تلخيصًا مُحكمًا في الفصل الثاني، إذ يقول لأوديب: «

لو لم نكن متباينين إلى هذا الحد لما وجد أحدٌ منا هذه المتعة حين يفهم عن صاحبه: وإني أيها الصهر العزيز لأحب حديثك؛ لأنك تفتح لي آفاقًا لم أكن لأهتدي إليها وحدي، فلك الابتكار والتجديد، أما أنا فيُقيدني الماضي، وأنا من أجل ذلك أحترم التقاليد والعادات والقوانين المقرَّرة، ولكن ألا ترى أن من الخير للدولة أن يمثل هذا كله، وأني أحقق التوازن المفيد بإزاء عقلك المجدد، فأحول بينك وبين الاندفاع أو أهَدِّئ من مغامراتك الجريئة التي توشك أن تحطم نظام الجماعة إذا لم تؤخذ بشيء من القصد يأتيها من هذا السكون، ومن هذا التشبث بالقديم

»

(2)

(1)

أي يتحول شاول Saul مضطهد المسيحيين الأوائل إلى القديس «بولس» Paul نصير المسيحيين ومؤسس المسيحية كمذهب منظم.

(2)

أندريه جِيد: أوديب، ثيسيوس، ترجمة طه حسين، الطبعة الثانية، دار العلم للملايين، بيروت 1968، ص 67.

ص: 228

الفصل التاسع والعشرون

مغالطة المقامر

gambler's fallacy

تنطوي مغالطة المقامر على خطأ في فهم فكرة الاحتمالات probability وفكرة الأرجحية odds،

(1)

ونحن نرتكب هذه المغالطة عندما نظن أن ما وقع في الماضي له تأثير على الأرجحية - أو الاحتمالات - الحالية، حين نرمي قطعة العملة رمية ترجيح فإن احتمال «الصورة» في كل رمية هو 50? واحتمال «الكتابة» 50?، ولا صلة لاحتمالات كل رمية بالرمية السابقة عليها ولا بأية رمية أخرى على الإطلاق، فإذا رمى شخصٌ ست رميات كانت جميعًا «صورة» واستنتج من ذلك أن الرمية القادمة لا بُدَّ لها من أن تكون «كتابة» لأن «الكتابة» طال غيابها ولا بُدَّ أنها الآن متوقَّعة أو مرجحة جدًّا، يكون هذا الشخص قد ارتكب «مغالطة المقامر» ، ذلك أن نتائج الرميات السابقة «لا ضغط لها» البتة على الرمية السابعة، فالرمية السابعة لديها احتمال 50? للكتابة و 50? للصورة مثلها مثل أي رمية أخرى.

(1)

الأرجحية odds تعني نسبة النجاح إلى الفشل، والاحتمال probability يعني نسبة المحاولات الناجحة إلى المجموع الكلي للمحاولات.

ص: 229

‌أمثلة

(1)

لقد اشتريتُ ثمانيَ بطاقات حظ الأسبوع الماضي، ولم تكن بينها أي بطاقة رابحة، وحيث إن فرص الكسب هي واحد لكلِّ تسعة، فإن بطاقتي القادمة ستكون رابحة على الأرجح.

(2)

أما زِلت تشتري أوراق اليانصيب هذه؟ نعم، لقد ظللت أشتريها بانتظام لمدة سنتين ولم أربح. إذن لماذا تحرص على شرائها؟! حسنٌ، بما أنني لم أربح حتى الآن، فإن الوقت قد حان لكي أربح عاجلًا.

(3)

أما زِلت مصممًا أن تراهن على الحصان «فارس» ؟ لقد خسر ثلاثة من سباقاته الأربعة الأخيرة. لذلك سوف أراهن عليه الآن، لقد راجعت السجلات وعرفت أن «فارس» قد ربح نصف سباقاته في العامين الأخيرين، وحيث إنه خسر ثلاثة من سباقاته الأربعة الأخيرة، فلا بُدَّ من أنه سيفوز في هذا السباق. هل أنت واثق من ذلك؟ بالتأكيد، لقد حان فوزه الآن.

في كلِّ مثال من الأمثلة السابقة يأخذ شخصٌ احتمال وقوع حدث «أ» خلال فترة من الوقت، ويلاحظ أنه خلال الشطر الأول من تلك الفترة كان الحدوث الفعلي ل «أ» أقل بكثير من المتوقع، فيُستدل من ذلك على أن حدوث «أ» سيكون أكثر احتمالًا في بقية الفترة، وهو استدلال مغلوط بالنظر إلى مفهوم الاحتمالات والأرجحية.

وقد تمضي المغالطة أيضًا في الاتجاه المقابل: فيفترض المرء أن الحدوث الزائد عن المتوقع ل «أ» لا بُدَّ من أن يؤدي إلى انخفاض احتمالية «أ» فيما سيأتي؛ وذلك لكي تتحقق الاحتمالات وتستوي الأمور في نصابها:

- أتشتري بطاقات الحظ ثانيةً هذا الأسبوع؟

- نعم.

- أي الأرقام سوف تختار؟

- حسنٌ، إن الأرقام التي كثر فوزها حتى الآن هي 3، 7، 28؛ لذا فلن أختارها بكل تأكيد، فقد آن لها أن تتلقى نصيبها من الخسارة لفترة غير قصيرة.

ص: 230

وصفوة القول في المقامرة إن ما تم حدوثه حتى اللحظة الآنية هو شيء لا يُقدم ولا يُؤخِّر في احتمالات السحبة القادمة، ولا يُؤثر على أرجحيتها، بحد ذاتها، مثقال ذرة من التأثير، فاحتمال «الصورة» في رمية العملة القادمة هو 50? مهما تكن النتائج السابقة، واحتمال فوز أي رقم في اليانصيب الأسبوعي للمملكة المتحدة هو واحد إلى أربعة عشر مليونًا.

ص: 231

الفصل الثلاثون

المظهر فوق الجوهر

style over substance

وسَرى في فؤاده زُخرُف القَو

لِ يراه مستعذبًا وهو داءُ

شوقي

بني الآداب سرَّتكم قديمًا

زخارفُ مثلُ زَمزمةِ الذبابِ

المعري

اللهم إنَّا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل.

الجاحظ، البيان والتبيين

ليس بالأمرِ جديرًا

كلُّ من ألقَى خطابا

أو رأى أُميةً فاخـ

ـتَلَب الجهلَ اختلابا

شوقي

ص: 233

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

(البقرة: 204)

***

يقع المرء في هذه المغالطة عندما يولي أهمية زائدة للأسلوب الذي تم به عرضُ حُجةٍ ما، بينما يهمِّش، أو يتغافل، مضمونَ الحجة ومحتواها.

للطلاء دائمًا رونقٌ يموه ما تحته، ورواءٌ يَشغَل العينَ عن تَبَيُّن الثغرات والتشققات والتجاعيد والأخاديد، وللبيان دائمًا سحرٌ يعمل عملَه بمعزلٍ عن الفَحوَى، وللقول سحرٌ يفتن المرء عن المقول، هكذا يقر في رُوع الناس أن مظهر الحجة ينم عن جوهرها ويضيف إلى مفادها ومؤداها، ويؤثر بطريقةٍ ما في تحديد قيمة صدقها.

‌أمثلة

(1)

من المؤكد أن حجة رئيس المجلس ضعيفة وأنه قد خسر الجدال، ألا ترى كم كان جبينه يتفصد عرقًا ووجهه يحمر ارتباكًا؟

(2)

لا شكَّ أن هذه الغسالة الكهربائية هي الأفضل صنعةً والأطول عمرًا من غيرها؛ لأن البائع كان يتحدَّث عنها بطلاقة وإقناع، كما أنه شديد التأنق والوسامة وتبدو عليه أمارات الذكاء والفهم.

(3)

إن مرسي يعرف كيف يختلب الجمهور، لا ريب أنه على صواب فيما يقول.

(4)

مربع ثلاثة هو تسعة. تسع رصاصات يفقأن عينك أيها الفاشل الأبله. بل ستة، ولا داعي لهذه البذاءة وهذا التجريح.

(لاحظ أن البذاءة والإفحاش في القول لا دخل لهما في صواب العبارة: «مربع ثلاثة هو تسعة» قولٌ صائب وإن كرهنا بذاءة قائله وإقذاعه في الحديث، «مربع ثلاثة هو ستة» قولٌ خطأ ولو شفَعَهُ قائله بنهجِ البردة!)

ص: 234

الفصل الحادي والثلاثون

الاحتكام إلى القديم (الاحتكام إلى التقاليد)

Appeal to antiquity; appeal to tradition Ad antiquitatem; ad traditio

{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}

(الزخرف: 23)

التغيرُ يحفظ نظام الأشياء، ويبقي العالم صبيًّا على الدوام.

ماركوس أوريليوس

الإنسان يحيا بالتغير، الحياةُ لم تُعطَ له لكي يحفظها، بل لكي يُغيرها.

أدونيس

عارٌ على الجنس البشري أن يُستكشف العالمُ المادي على هذا النحو المذهِل بينما تبقَى حدودُ العالم الفكري محصورةً في الكشوف الضيقة للقدماء.

فرنسيس بيكون

ص: 235

عارٌ أن نظل يقودنا أطفالٌ سذجٌ قليلو العلم والتجارب، يُقال لهم الأجداد!

لا معنى للتمسك ببناءٍ فوقي بعد أن انفصم عن بنائه التحتي الذي أفرَزَه.

فليكن النقدُ بالنسبة لنا هو العادة والتقليد والعُرف.

***

يُعد الاحتكام إلى القِدم، أو إلى التقاليد، نوعًا من «الاحتكام إلى سلطة» ad verecundiam، وهي هنا سلطة العُرف أو التقاليد الجمعية، والحق أن هناك فرقًا دقيقًا بين الاحتكام إلى القِدم والاحتكام إلى التقاليد، وما جَمَعنا بينهما إلا توخيًا للتبسيط.

ف «الاحتكام إلى القِدم» appeal to antiquity يجعل من عُمر الفكرة معيارًا لصوابها، ومن مجرد قِدَمها دليلًا على صحتها، وصورته:

س قديم؛

إذن «س» صائب.

أما الاحتكام إلى التقاليد الثقافية الراسخة، وصورته:

س تقليدي؛

إذن «س» صائب.

فإنه يضيف شيئًا ما إلى قِدم الفكرة؛ فالتقليد أو العُرف ليس مجرد شيء قديم، إنه شيءٌ «مجرَّب» ، شيءٌ اختبره الأقدمون وأثبت نجاعةً، فتَبَنَّته الأجيال اللاحقة جيلًا بعد جيل، وترسَّخ في وعيها (أو في لا وعيها) بوصفه حقًّا بذاته ولذاته وفي غِنًى عن مزيدٍ من الاختبار والنقد. لقد تَكَفَّل السلف بالاختبار وأَعفَى الخلف من مئونته، وها هم يتَّبعون آباءهم ولا يعرفون - ولا يلزمهم أن يعرفوا - لماذا يفعلون ذلك، إن من الأسلم والأضمن والآمن لك أن تأخذ بما هو مجرَّب ومألوفٌ ومعروف.

•••

ص: 236

وبعد، فمن البَيِّن أن عمر الفكرة «غير ذي صلة» irrelevant

(1)

بِنصيبِها من الصواب أو الخطأ إلا بقدر ما يعكس ثباتها لاختباراتٍ متعاقبةٍ وقاسية، أما القِدَم بحد ذاته فليس ضامنًا لصواب فكرة، وكم من فكرةٍ اعتنقتها الأجيال أحقابًا طويلةً ثم تَبَيَّن خطؤها الذريع، وكم من نظامٍ تَفَشَّى في الأمم دهورًا ثم هجرته لما تَبَيَّن لها ضرره وفساده.

‌أمثلة

نظام الرق.

وأد الإناث.

ختان الإناث.

الاعتقاد بأن السحرة والأرواح الشريرة سببٌ لكثيرٍ من الأمراض الجسمية والنفسية.

الاعتقاد بثبات الأرض، ومركزية الأرض، وانبساط الأرض، وضخامة الأرض بالنسبة لحجم الكون.

الاعتقاد بأن القلب هو عضو الشعور والتفكير.

(1) فرنسيس بيكون: تحليل مفهوم «القِدَم»

للفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون (1561 - 1626) وقفة عِزٍّ مع هذه المغالطة، ففي كتابه «الأورجانون الجديد» novum organum يحذِّرنا بيكون مما أسماه «أوهام المسرح» idola theatri المتمثلة، أحيانًا، فيما تكتسبه المذاهب والنظريات القديمة من نفوذ بحُكمِ قِدَمها لا بحكم صدقها، ويعتبر هذا الوهم وغيره عيوبًا في تركيب العقل يحب أن نعالجه منها لكي يعود لوحًا مصقولًا تنطبع عليه أشياء الوجود كما هي في الواقع ودون تدخل وتشويش من ذواتنا، ويُسفِّه القديم إلى حد أن اعتبر القِدَمَ قرينةً تنتقص من نصيب الفكرة من الحق، بعكس ما يراه العقل الصنمي المريض بالأوهام الأربعة.

(1)

يُسمى هذا الصنف من المغالطات «مغالطات الصلة» fallacies of relevance، ويشمل كثيرًا من المغالطات المذكورة، مثل: الاحتكام إلى سلطة، إلى النتائج، إلى العامة، إلى الشفقة، إلى القوة

إلخ.

ص: 237

يحلل بيكون لفظة «القِدم» antiquity نفسَها، ويكشف تهافت فهمنا لها في هذا المقام، يقول بيكون في الشذرة 84 من الكتاب الأول من «الأورجانون الجديد»:«إن توقير العصور القديمة، ونفوذ الرجال الذين حظوا بمكانة كبيرة في الفلسفة، والإجماع العام، كل أولئك أمورٌ عاقت الناسَ عن التقدم في العلم، وأسَرَتهم إلى حد كبير، أما عن الإجماع فقد تناولتُه فيما سبق، وأما عن الرأي الذي يرفع به الناسُ من قيمة القِدَم فهو رأي عقيم تمامًا ولا يكاد يتفق مع اللفظة؛ ذلك لأن كِبر العالَم وتقدمه في العمر هو ما ينبغي أن يُعتبر «قِدمًا» في حقيقة الأمر، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا نحن لا للعمر المبكر للعالم في أزمنة القدماء، فإذا كان هؤلاء الأخيرون بالنسبة لنا قدماء مسنِّين فإنهم بالنسبة للعالم مُحدثون صغار، ولما كنا نتوقع من الشخص الأكبر معرفة أكبر بالشئون البشرية وحكمًا أنضج مما نتوقعه من الصغير، بفضل خبرة الكبير وبفضل كثرة، وتنوع، ما رآه وسمعه وتأمل فيه، فإن لنا أن نتوقع من عصرنا أمورًا أعظم مما نتوقعه من العصور القديمة، ما دام العالم قد تقدم في العمر وازدادت ذخيرتُه واكتنزت بما لا نهاية له من التجارب والملاحظات، وينبغي أيضًا أن نأخذ في اعتبارنا أن كثيرًا من الأشياء الجديرة بأن تُلقِي الضوءَ على الفلسفة قد اكتُشِفت، وأُميط عنها اللثام بفضل الرحلات والأسفار الطويلة التي زَخَرَت بها أيامُنا، إنه لَيكونُ مخزيًا حقًّا للجنس البشري أن تُستكشف أصقاعُ العالم المادي - الأرض، والبحر، والنجوم - وتُستظهر على هذا النحو المذهِل، بينما تَبقَى حدودُ العالم الفكري محصورةً في الكشوف الضيقة للقدماء.»

(2) جراهام سَمنَر والمنشأ البدائي للتقاليد

الأعرافُ لا تحفز الفكر بل تثبطه

الأعراف ليست أسئلةً بل أجوبة.

سَمنَر

في مقاله الشهير «الأخلاق نسبية» يذهب عالم الاجتماع الأمريكي وليام جراهام سمنر إلى أن منهج المحاولة والخطأ، ومعيار اللذة والألم يتحكمان في اختيار الجماعات البشرية الأولى للطرق الأنسب عمليًّا لفعل الأشياء، أي الطرق التي يثبت نفعها، وكان الجميع في بداية الأمر يتبنون نفس الطريقة للوصول إلى نفس الغرض، ومِن ثَمَّ تحولت الطرق إلى عادات اجتماعية وأصبحت ظواهر جمعية

تتصف «الطرق الشعبية» folkways بالاطراد والشمول والطابع الآمر والثبات، وبمرور الزمن تزداد طبيعتُها التعسفية

ص: 238

والقطعية والأمرية، وإذا سُئِل البدائيون لماذا يسلكون بطريقةٍ معينة في حالاتٍ معينة، فإنهم يجيبون دائمًا بأنهم هم وأسلافهم كانوا دائمًا يفعلون ذلك.

(1)

الطرق الشعبية إذن لا يبتكرها البشر عن عمدٍ أو تفطُّن، إنها أشبه بنواتج قوى الطبيعة التي يديرها الإنسان عن غير وعي، أو هي أشبه بالطرق الغريزية للحيوان؛ إذ تنجم من الخبرة وتصل إلى شكل نهائي يحقق أقصى تكيف بإزاء غرضٍ ما، وتصير تقليدًا ينتقل من جيل إلى جيل ولا تقبل استثناءً أو شذوذًا، غير أنها يمكن أن تتغير لتوافق ظروفًا جديدة ولكن تغيرها يتم في حدود الطرق نفسها ودون تَفَكُّر أو قصدٍ عقلي.

تتحدد الطرق من جانبها السلبي؛ أي بواسطة «المحرمات» taboos، والطريقة الصحيحة هي الطريقة التي اتبعها الأسلاف، والتي أورثوها الأخلافَ، التقليد هو برهان ذاته ومسوِّغ نفسه، التقاليد تحمل في ذاتها مبرراتها، فهي لا تقع في النفس موقعًا يُعَرِّضها للتحقيق بالخبرة، إن فكرة «الصواب» قابعةٌ في الطرق الشعبية، الصواب لا يأتي من الخارج، من مصدرٍ مستقل، لكي يختبرها ويتحقق منها، فأيما شيء تقوله الطرق الشعبية فهو حق؛ ذلك لأنها تقليدية موروثة تنطوي في داخلها على سلطة أرواح السلف.

هكذا ينبغي أن نتصور الأعراف على أنها نسقٌ عريض من الأحكام التي تشمل الحياةَ كلها وتخدم مصالحها جميعًا، وتحمل في ذاتها مبرراتها عن طريق التقليد الموروث والاستخدام والعادة، ويسلم الناس بها خضوعًا لسطوةٍ سريةٍ باطنةٍ إلى أن تؤسس، عن طريق التأمل العقلي، تعميماتها الفلسفية والأخلاقية الخاصة، والتي ترقَى عندئذٍ لتصبح «مبادئ» الحق والصواب.

تسيطر الأعراف على كلِّ جيلٍ ناشئ وتُخضِعه لسلطانها، والأعراف لا تحفز الفكر بل تثبطه، فالتفكير قد تم وقُضِي أمره وتجسد في الأعراف، ولا تحمل الأعراف على الإطلاق أي احتمالات بمراجعتها وتعديلها، فالأعراف ليست أسئلة بل أجوبة - أجوبة عن مسائل الحياة، وهي تقدم نفسَها كشيءٍ نهائي وغير قابل للتغيير؛ لأنها تمثل أجوبةً مقدمة بوصفها «الحقيقة» .

(1)

Sumner، Graham. "Ethics are relative".In James A.Gould (ed)، Classic Philosophical Questions، second edition، Charles E.Merrill publishing Company.Howell company، Colombus، Ohio 43216، pp. 82 - 83.

ص: 239

ليس بوسع أية فلسفة شعبية أن تقدم نفسَها كشيءٍ مرحلي وغير مكتمل وقابل للدحض غدًا مع نمو المعرفة، فهذا التوجه الفلسفي حديثٌ للغاية، ذلك أنه يكلف المرء عنتًا ذهنيًّا شديدًا، إن جميع الشعوب التي نرى أعرافَها أدنى مستوى من أعرافنا هي على قناعةٍ تامةٍ بما لديها من أعراف مثلما نحن على قناعة بما لدينا، فالأعراف إنما تُقَيَّم بمدى تجاوبها مع ظروف الحياة ومصالحها في زمان ومكان معينين، ومِن ثَم فمن الصلاح والتيسير ألا يوليها أحدٌ تفكيرًا أو تأملًا بل أن يتعاون الجميع في تنفيذها غريزيًّا.

(3) اختبار الزمن

قد يقول قائل: ولكن كيف يتسنَّى لاعتقادٍ ما أن يدوم كلَّ هذا الزمن لو لم يكن هذا الاعتقاد حقًّا وصوابًا؟! أليس بقاء الفكرة أو العادة ردحًا طويلًا من الزمن دليلًا على نجاحها وصحَّتها وإسعافها للناس في حياتهم على الأرض؟ أليس دليلًا على أنها قد «اجتازت اختبار الزمن» passed the test of time، وأثبتت فاعليتَها في مواقف متتالية وتجارب متعاقبة؟ ألا يُقيم العلم نفسُه وزنًا لما يسمَّى «اختبار الزمن» ، ولما يسمَّى «تكرار التجربة» replication؟

«الحق أن الاحتكام إلى التقاليد كثيرًا ما يعكس ضروبًا معقدةً من التكيف مع البيئة، ما إن تنشأ هذه التكيفات حتى تنتقل على نحوٍ ثقافي وليس كحجةٍ ممنطقةٍ، فيكون الناس على وعي بحكمة تقاليدهم أو على غير وعي، وأغلب الاحتمال أن تكون التقاليد صائبةً في البيئة الثابتة حيث أتيح لكثير من الاختلافات أن تُختبر في الماضي، على أن التقاليد تميل إلى أن تَبلَى وتندثر في البيئة السريعة التغير.»

(1)

(4) الوراثة الثقافية والضغط الانتخابي

في كتابه «التكيف البشري» يذهب ستيفن تولمن إلى أن تطور الأفكار العلمية شبيه بالعمليات التطورية الأخرى، وإن لم يكن تطورًا داروينيًّا بالمعنى الحرفي: ف «المتخالفات»

(1)

William D.Harpine، university of Akron: The appeal to tradition: Cultural evoluation and logical soundness.، Informal logic، XV. 3، Fall 1993، p. 209.

ص: 240

(المتغايرات) variants في العلم ليست «سمات» traits بل «أفكارًا» مخالفة، والضغط الانتخابي في العالم الفكري يعود إلى «شدة النقد» ، إن «التفكير النقدي» لَيقدم لنا بديلًا عن «الانتخاب الطبيعي» .

(1)

من الواضح أن تولمن متأثر في دراساته بأفكار كارل بوبر عن تطور المعرفة البشرية والنظريات العلمية، يذهب بوبر إلى أننا نحقق تقدمًا في معرفتنا، ونقارب الحقيقة، بواسطة عملية محاولة وخطأ، ويُقدم نظرية تطورية لنمو المعرفة، مفادها أننا نبدأ من مشكلة معينة (م 1)، نقوم إزاءها باقتراح «حل اختباري» tentative solution أو «نظرية اختبارية» ، ثم نحاول عندئذٍ استبعاد النظريات الكاذبة بتعريضها لاختبارٍ قاسٍ ونقدٍ شديد، عندئذٍ يبرز موقفٌ جديد أو مشكلة جديدة (م 2) نتناولها على نفس النحو، وهكذا تنمو المعرفة باطراد، في حلقات متتالية تبدأ من مشكلة وتنتهي بمشكلة، لكنها ليست دائرية، فهي لا تنتهي من حيث بدأت، بل تنتهي بموقف جديد ومشاكل جديدة، هذه الجِدة هي التي تكفل التقدم المستمر للمعرفة.

(2)

صفوة القول إن «الوراثة الثقافية» cultural inheritance قد تُعد تكيفية، وأن الثقافات قد تتطور لأنها تقدم للجنس البشري «مزايا انتخابية» ، ففي البيئة الثابتة يمكن أن تتطور تقاليد ثقافية تكيفية، من أمثلة ذلك استمرار عادة أكل الباقلاء fava beans ألوفًا من السنين بين شعوبٍ متوسطية عديدة، برغم خطره على بعض من لديهم استعداد جيني معين، فقد تَبَيَّن أن الجين الذي يؤدي إلى حساسية للباقلاء يُضفي أيضًا مقاومةً للملاريا، ومِن ثَمَّ فقد كان هذا الجين يُنتخَب طبيعيًّا في المناطق الموبوءة بالملاريا، وهكذا كان لأكَلة الباقلاء في هذه المناطق مزايا بقاء جعلتهم أكثر عددًا بفضل مقاومتهم للملاريا، وهكذا فإن سمةً ثقافيةً انتقلت من جيلٍ إلى جيل قد انتُخِبت طبيعيًّا، وسادت المجتمع بعد أجيال عديدة.

(3)

(1)

Toulmin، Stephen E. "Human adaptation".Jensen and Harre، pp. 176 - 195.

(2)

Popper، K.R.، Objective Knowledge.The Clarendon Press، Oxford، 1972، p. 119.

(3)

Katz، S.H.and J.Schall. "Fava Bean Consumption and Biocultural Evolution".Medical Anthropology 3 (1979): 459 - 476.

ص: 241

ومن ذلك أيضًا أن فلاحي الريف الأوروبي الإقطاعي درجوا على أكل البطاطس والجبن والبيض، دون أن يعانوا من زيادة دهون الدم ومن تصلب الشرايين، وغير ذلك من الأمراض المتوقعة من مثل هذا الطعام الدهني أو العالي السعرات، توارثَ الناس أكل هذا الطعام وأصبح عادةً راسخة، ولم يفطنوا إلى السبب من وراء ذلك: فقد كانت الكثافة السكانية آنذاك عالية ومصادر الطعام شحيحة، ومِن ثَمَّ كان هذا الطعام هو الأنسب لمن يعيش على الكَفاف.

ومن ذلك عادة أكل الطَّفل (الطين) في جبال بيرو! لقد ترسخت لدى السكان هذه العادة الغريبة دون أن يسألوا عن السبب من وراء ذلك، كان هؤلاء السكان يأكلون صنفًا معينًا من البطاطس مغذيًا ولكنه سام، وقد تبين أن أكل الطَّفل مع هذا الطعام هو بمثابة ترياقٍ له إذ يمتص المواد الكيميائية السامة.

(1)

غير أن اختبار الزمن في الممارسات الاجتماعية قد تم في بيئة محددة وظروفٍ بعينها، وينبغي أن نكون على استعداد لإعادة تقييمها إذا ما تغيرت الظروف:

فإذا ما تبنَّت البلاد الموبوءة بالملاريا مشاريع صرفٍ ونجحت برامج مكافحة البعوض في القضاء على الملاريا، هنالك قد يغدو أكلُ الباقلاء عادةً بالية.

وإذا قُدِّر لشخصٍ أوروبي حديث (حيث وفرة الطعام وقلة المجهود) أن يعيش حياتَه على البطاطس والجبن والبيض فبشِّره بطول بقاءٍ في العناية المركز لأمراض الشريان التاجي.

(2)

وإذا ما تقدمت المجتمعات اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا لم يعد ثمة معنى لبقاء المرأة في البيت، وقد صار بوسعها تَقَلُّد وظيفةٍ مريحةٍ ومضاعفة دخل الأسرة.

زِد أن الممارسات المنتخَبة إنما هي محض «تكيفٍ» مع الموقف وليست «مبررًا» له بحال.

(1)

Johns، Timothy.With Bitter Herbs Eat It: Chemical Ecology and the Origins of Human Diet and Medicine.Tucson: University of Arizona Press، 1990، p. 67.

(2)

William D.Harpine.The Appeal to Tradition.، p. 214.

ص: 242

(5) هابرماس وعلاقات القوة في الوراثة الثقافية

ليكن النقد والتمحيص والتنقيح هو العادة والتقليد والعُرف.

يذهب الفيلسوف الألماني يورجين هابرماس J.Habermas إلى أن التقاليد قد تَخلُق بُنَى اجتماعية وعلاقات قوة كفيلة بدورها أن تقمع الحجة وفقًا للعلاقات القائمة على السلطة أو الثروة، ومِن ثَمَّ فإن على المرء أن يميز بين تقليدٍ تؤيده أجيالٌ من الاختبارات وتقليدٍ تفرضه السيطرة والطغيان وتَحُول دون اختباره: إن التقاليد قد تُفرَض بالقوة لكي تَصُب في مصلحة الطبقة المسيطرة، وإن الظلم الاجتماعي لَيعوق تطور المجتمعات إذ يمنع انتخاب التنوعات التكيفية.

(1)

وإذا كانت الممارسات الثقافية الثابتة هي أفضل ما أتيح تجريبه في الماضي، فقد تكون بعض التنويعات الجديدة التي لم يتم تجريبها جديرةً بأن تأخذ حظها من الاختبار الحصيف، وها هنا يكون الاتصال بين المجتمعات مصدرًا ثريًا للبدائل الجديدة والتحسينات الممكنة، ربما يكون الطب الشعبي، على سبيل المثال، أفضل العلاجات المكتشفة لدى ثقافةٍ ما، ولكن أفضلية الطب الحديث في علاج الأمراض المعقدة، كالسرطان، هي أمر لم يَعُد محل جدال.

صحيح أن التقاليد القديمة كانت عملياتٍ منتقاةً بالضغط الانتخابي، عمليات مجرَّبة أثبتت نجاعةً في زمنها وتحت ظروفها، ولكن ليس من الحكمة التمسك ببناءٍ فوقي بعد أن انفصم عن بنائه التحتي الخاص، وليس من الحكمة التشبث بتقاليد عتيقة بعد أن انبتَّت صلتها بأساسها القديم ولم تَعُد تلائم الأزمنة المتغيرة.

من الحكمة، كما يقول جون ستيوارت مِل، إن نفسح المجال لشيءٍ من «التجريب» في الفعل والسلوك، وأن نتحلَّى برحابة الصدر والعقل تجاه كل غريبٍ مختلف، ذلك أن تعدد التجارب البشرية دليل ثراء وخصب، مثلما أنه سبيل تقدم وارتقاء، ومن شأن الزمن وحده أن يبين لنا أي هذه التجارب هو الأفضل والأجدى والأنجع فنأخذ به كعادةٍ ونكتسبه اكتسابًا.

(2)

(1)

Ibid.p. 215.

(2)

انظر فصل «عن الحرية، جون ستيوارت مِل» ، في كتابنا «صوت الأعماق» ، دار النهضة العربية، بيروت 2004، ص 55 - 79.

ص: 243

لم يشهد تاريخ البشرية حقبةً تزعزعَت فيها الروابط بين المجال البيئي والمجال الاجتماعي مثل هذه الحقبة التي نعيش فيها: النمو السكاني، الميكنة، التجديدات التكنولوجية المتسارعة، نحن اليوم بإزاء إيقاع من تغير الظروف بَلَغَ من السرعة مبلغًا لم تعرفه الأجيال السابقة، يَفرِض علينا أن نُعوِّل على مَلَكاتنا النقدية، وأن نغامر بتجريب طرائق جديدة واختبارها وانتخاب أفضلها، وأن نجعل النقد نفسه، والتجريب والاختبار، تقليدًا وعادةً وديدنًا.

(6) التطويع الاجتماعي؛ غسيل الدماغ المحتوم

«تتم صياغة «الأنا الأعلى» super-ego (أو «البيئة المُدخلة» internalized environment) في فترة دقيقة خاصة من حياة الكائن البشري: فترة طفولة جبرية طويلة، فيها يتصل الكائن بالواقع لأول مرة، معتمدًا في إشباعاته على مَنْ يحيطونه من الوالدين وأشباههما من البالغين السابقين في تجربة الوجود، غير قَوِي على غير الخضوع والطاعة التماسًا للإشباع وتجنبًا للحرمان.

في هذه الفترة المتطاولة من الضعف والاعتمادية يتم دمج النماذج السلوكية الموروثة والمعايير الخُلُقية المقررة، يتم دمجها في الذات العليا مُشَكِّلةً أصل ما يُسمَّى بالضمير، وجذور ما يسمَّى بال «محافظة» (السياسية - الأخلاقية - الفنية - اللاهوتية

إلخ) التي تتحدد مهمتها في إطالة عمر «الوضع القائم» status quo ودعم التقاليد والنظم الاجتماعية السائدة التي أفرزتها ضروراتُ اقتصادية واجتماعية سالفة، وربطها بأعماق النفس وتغليفها بالهيبة والقداسة، ومقاومة كل تغيير فكري أو اجتماعي مهما تكن بداهتُه ووجاهته وجدارته بتخفيف آلام المجتمع وتحسين أحواله.

في هذه الفترة المستطيلة من الضعف والاعتمادية يتم بتر الدهشة وإخصاء التساؤل واصطياد «النقد» في الماء العكر.

وإن شيئًا تمت صياغتُه في ظروف من القهر والجبر، وفي حدود مما كان ومما هو كائن، لا يجمل ائتمانه على ما يأتي ولا استفتاؤه فيما ينبغي.»

(1)

(1)

عادل مصطفى: بشرف منطقي، في سبيل إعادة صياغة المشكلة الأخلاقية، مجلة «الإنسان والتطور» ، دار المقطم للصحة النفسية، القاهرة، السنة الثالثة، العدد 3، يوليو، أغسطس، سبتمبر، 1982.

ص: 244

«وإنه لَيُعجِزنا أن نحزر كيف كان يمكن أن يكون حالُ عالمنا لو لم يداخل الشك بعض العقول الباسلة والبصائر النبيلة، فيسوِّل لها أن تركل كهفَها الدافئ وتذبح أمانَها السمين، كيما تستنطِق الحقَّ وتستجوِب الطبيعة، وكيف كان يمكن أن يكون حالُه لو أن كل رهطٍ من البشر ظلوا قابعين في حظيرتهم، مُتَحَكِّكين كالخِراف، غيرَ مُنبتِّين عن جهالة الآباء أو متجاوزين «لطفولة» الأجداد!»

(1)

(7) متى يكون القِدَم معيارًا صائبًا؟

يزداد شغفي بك على مرِّ الليالي،

كأنك الخمر أو العطر أو العود أو اللؤلؤ،

أو أيٌّ من تلك الأشياء المحظية القليلة

التي استأثرها الزمن بمودته،

وتبناها الفَلَك في دورته،

فهو يُرضعها ولا يدوسها

ويُكرمها ولا يهينها،

ويُغليها ولا يُرخِصها.

غني عن القول أن القدم قد يكون معيارًا للجودة في بعض السياقات:

فبعض الآلات الموسيقية يزداد رنينُها بقدر ما يجف خشبُها بفعل الزمن.

والنبيذ المعتق، والجبن المعتق، والعطر القديم

والأثر التاريخي، والوثيقة التاريخية، والأثر الفني

واللؤلؤ جوهر نفيس يستغرق تكوينه زمنًا هائلًا في جوف المحارة.

والصداقة، وغيرها من العلاقات الإنسانية، تتقَوَّت بالزمن، وتزداد مع الأيام قوةً ورسوخًا.

ها هنا يكون الزمنُ طرفًا فاعلًا، ويكون القِدم «ذا صلة» relevant بقيمة الشيء.

(1)

عادل مصطفى: فضيلة الشك وضرورة المنهج، مجلة «الإنسان والتطور» ، دار المقطم للصحة النفسية، القاهرة، السنة الثالثة، العدد 4، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1982، ص 27 - 53.

ص: 245

(8) الاحتكام إلى الجِدة appeal to novelty

بعض العقول مُغرَم بالقديم، وبعضُها متيَّم بالجديد

بينما الحقيقة ينبغي ألا تُلتمسَ في هناءة أي عصرٍ، فذاك شيء غير مستقر، بل تُلتمس في ضوء الطبيعة والتجربة، فذاك شيء خالد.

فرنسيس بيكون

مغالطة الاحتكام إلى الجِدة هي معكوس المغالطة السابقة، وتفترض أن جِدة الفكرة دليل على صدقها، وصورتها:

س جديد؛

إذن «س» صحيح أو أفضل.

ومن ثم تعد هذه المغالطة وثيقة الصلة ب «مغالطة عربة الفرقة» bandwagon fallacy.

‌أمثلة

هذا المنتج حديث؛ إذن فهو أفضل.

هذه الأغنية جديدة؛ إذن فهي جيدة.

هذه النظرية أحدث؛ إذن فهي أصوب.

هذا الاتجاه الفكري أحدث؛ إذن فهو أصوب.

تستقي هذه المغالطة جاذبيتها من مصادر كثيرة:

منها ذلك الالتزام الشديد للثقافة الغربية بفكرة أن الأشياء الجديدة لا بُدَّ أن تكون أفضل من الأشياء القديمة.

ومنها فكرة «التقدم» progress أي الاعتقاد بأن الأزمنة المتأخرة هي تحسينات على الأزمنة المتقدمة، وأن الأشياء الأحدث عهدًا أرقى من الأشياء الأقدم، ويبدو أنه اعتقاد مستمد جزئيًّا من فكرة «التطور» evolution.

ومنها وسائط الدعاية التي كثيرًا ما تدس رسالةً ضمنية بأن الأحدث لا بُدَّ أن يكون هو الأفضل.

ص: 246

بديه أن عمر الفكرة لا صلة له بنصيبها من الحق أو الصواب، وأن كون الشيء جديدًا هو أمر لا يضمن جودة ذلك الشيء، ويكفي أن نذكر أنه ما من فكرةٍ باليةٍ نرفضها اليوم باعتبارها هراءً باطلًا إلا وكانت فكرةً جديدةً في يومٍ من الأيام!

(9) متى تكون الجِدةُ معيارًا صائبًا؟

الاحتكام إلى الجِدة، شأنه شأن غيره من المغالطات، قد يصح في بعض السياقات ويكون له ما يبرره: متى يصح الاحتكام إلى الجِدة؟ عندما تكون الجِدة ذات صلة بالجودة:

فلبن اليوم لا شكَّ أفضل من لبن الأمس لأنه طازجٌ لم تعمل فيه عوامل الفساد.

وعلوم العصر أصوبُ من العلوم القديمة؛ لأنها تُراكِم عليها وتُصحح أخطاءها.

ومدارِكُ الناس، من ثم، في زمننا أوسع بما لا يُقاس من مدارك الأسلاف في القرون الغابرة.

ص: 247

الفصل الثاني والثلاثون

النبوءة المحقِّقة لذاتها

Self-fulfilling prophecy

ثمة صنفٌ من النبوءات يتصف بصفةٍ عجيبة: أنه يَصدُقُ إذا صدَّقناه! يُطلَق على مثل هذه النبوءات «النبوءات المحقِّقة لذاتها» .

النبوءة المحققة لذاتها هي تنبؤٌ يؤدي بنفسه، على نحو مباشر أو غير مباشر، إلى أن يصبح حقًّا، فرغم أنه في البداية تحديدٌ زائف للموقف، إلا أنه يحفز سلوكًا جديدًا من شأنه أن يجعل التصور الزائف الأصلي يتحقق ويصير واقعًا، يعمل هذا الصواب الخادع للنبوءة على استتباب الخطأ ودوامه؛ لأن المتنبئ سوف يستشهد بالمجرى الفعلي للأحداث كبرهانٍ على أنه كان صادقًا منذ البداية، وبعبارة أخرى: فإن تنبؤًا معلنًا على أنه صادق (بينما هو في الحقيقة كاذب) قد يؤثر في الناس (من خلال الخوف، أو الخلط المنطقي، أو الإحجام، أو الإقدام، أو الحماس، أو الفتور، أو التشجيع، أو التثبيط

) بحيث تُفضي استجاباتهم في النهاية إلى تحقيق التنبؤ الذي كان كاذبًا من قبل.

يعود مصطلح «النبوءة المحققة لذاتها» self-fulfilling prophecy إلى عالم الاجتماع في القرن العشرين روبرت مرتون، ويستند مفهومه إلى «مبرهنة توماس» القائلة بأنه «إذا عَرَّف الناس المواقف على أنها حقيقية تكون حقيقية في نتائجها.» يذهب توماس إلى أن الناس لا تستجيب للمواقف فحسب، بل تستجيب أيضًا، وبصفة أساسية في الغالب، للطريقة التي يدركون بها المواقف والمعنى الذي يضفونه على هذه المواقف، وبالتالي فإن سلوكهم يحدده (جزئيًّا) هذا الإدراك وهذا المعنى لا المواقف ذاتها، فما إن

ص: 249

يقتنع الناسُ أنفسهم بأن لموقفٍ معين معنى معينًا على الحقيقة، وبغض النَّظر عما إن كان كذلك بالفعل، فسوف يتخذون من جرائه أفعالًا جِدَّ حقيقية.

‌أمثلة

(1) إفلاس مصرف

تصور مصرفًا (بنكًا)، كأفضل وأمْثَل ما يكون المصرف، يُدار على نحوٍ أمينٍ قويم، وهو كأي مصرف لديه سيولة نقدية معقولة، ولكن معظم أصوله بطبيعة الحال مستثمرة في أعمالٍ ومشروعات، وذات يوم تصادف أن كان هناك تزاحم على المصرف، وهو ما أزعج العملاء فسَرَت شائعة بأن المصرف موشك على الإفلاس، وسرعان ما تقاطر بقيةُ العملاء على المصرف يطالبون بسحب ودائعهم، وبالطبع لم تتوافر السيولة الكافية لسد مطالبهم، فنَفِدت السيولة وأعلن المصرف إفلاسَه!

تُبين لنا هذه الحكاية الخيالية أن التعريفات الشائعة لموقفٍ ما (التنبؤات أو التوقعات) تصبح جزءًا مدمجًا بالموقف، وتؤثر بذلك على التطورات اللاحقة، وهو أمر يخص الشئون البشرية ولا يوجد في الطبيعة المستقلة عن الفعل الإنساني: من ذلك أن التنبؤات بعودة مذنب هالي لا تؤثر في مداره الفعلي، بينما أثرت إشاعة إفلاس المصرف في المآل الفعلي للمصرف، إن نبوءة الإفلاس أدت إلى تحقيق ذاتها! ويخلص مرتون إلى أن الطريقة الوحيدة لكسر حلقة «النبوءة المحققة لذاتها» هي أن نُعيد تحديد القضايا التي تستند إليها من الأصل افتراضاتها الكاذبة.

(2) التلاميذ وتوقعات المدرس

وفي المجال التربوي لوحظ دائمًا أن أداء التلاميذ يأتي متفقًا مع توقعات مدرسيهم، وفي دراسة شهيرة أجريت عام 1968 أنبأ الباحثون عددًا من مدرسي المرحلة الابتدائية بأن بعض تلاميذهم تَبَين امتلاكهم قدراتٍ كبيرةً للنمو المعرفي، على حين أن هؤلاء التلاميذ كان قد تم تحديدهم عشوائيًّا! وبعد انقضاء ثمانية أشهر أجريت اختبارات ذكاء على تلاميذ المدرسة، فحصل هؤلاء التلاميذ المحددون عشوائيًّا على درجات أعلى بصفة عامة من أقرانهم، وقد صارت هذه الظاهرة تعرف باسم «أثر بيجماليون» Pygmalion effect نسبة إلى مسرحية برنارد شو.

ص: 250

(3) النعي المُميت!

ومن الحكايات الواقعية الشهيرة ما حدث في يناير عام 1940: فقد كان ماركوس جرافي، داعية التعاون الأفريقي، يعاني سكتة دماغية نجا منها بالفعل، غير أنه فُوجئ بنعيه منشورًا بطريق الخطأ في جريدة شيكاغو دفندر، واصفًا إياه بأنه «انسحق وحيدًا مغمورًا» ، فصُدم جرافي حين قرأ هذا النعي صدمةً شديدة أصابته بسكتة دماغية ثانية تُوفي على أثرها، وبذلك صدق النعي!

(4) كارل بوبر و «الأثر الأوديبي»

وقد أشار كارل بوبر إلى هذه الظاهرة وأسماها «الأثر الأوديبي» Oedipal effect، بمعنى تأثير النظرية أو التوقع أو النبوءة على الحدث الذي تتنبأ به أو تصفه، إذ كانت السلسلة السببية التي أدت إلى قتل أوديب لوالده في الأسطورة قد بدأت بنبوءة «الوحي» بهذا الحدث، يقول بوبر في «عقم المذهب التاريخي»: «

أود أن أطلق اسم الأثر الأوديبي على تأثير النبوءة في الحادث المُتَنبأ به، أو على تأثير المعرفة عامةً في وقوع الحادث أو في منعه

ومن أمثلة التأثير المنعِي أن التنبؤ بأن سعر الأسهم سوف يأخذ في الارتفاع على مدى ثلاثة أيام، ثم يهبط بعدها سوف يدفع الناس إلى أن تبيع أسهمها في اليوم الثالث، وبذلك يهبط السعر ويكذب التنبؤ، نحن إذن في العلوم الاجتماعية بإزاء تفاعل شامل معقد بين المشاهِد والمشاهَد، بين الذات والموضوع، ومن المحتمل أن يكون لوعينا بوجود الاتجاهات التي قد تسبب في المستقبل حادثًا معينًا، ولإدراكنا أيضًا أن التنبؤ قد يؤثر هو نفسُه في الحوادث المتنبأ بها - من المحتمل أن تكون لكل ذلك آثاره في مضمون التنبؤ، وقد يكون من شأن هذه الآثار أن تخل بموضوعية التنبؤات وغيرها من نتائج البحث في العلوم الاجتماعية.»

(5) النبوءة المحققة لذاتها في البيولوجيا!

ويقول بوبر في كتابه Unended Quest: «كنت أعتقد يومًا أن الأثر الأوديبي يميز العلومَ الاجتماعية عن العلوم الطبيعية، ولكن في البيولوجيا أيضًا، وحتى في البيولوجيا الجزيئية، كثيرًا ما تلعب التوقعات دورًا في إحداث ما كان متوقَّعًا.»

ص: 251

للدكتور رسل فيرنالد R.D.Fernald، عالم الأعصاب في ستانفورد، أبحاثٌ كثيرة مثيرة عن تأثير التغيرات الاجتماعية على خلايا المخ (مثال ساطع على «العِلِّيَّة الهابطة» downward causality)، من ذلك أبحاثه الشهيرة على سمك البلطي الأفريقي التي أيدت الرأي القائل بأن كيفية التفاعل الاجتماعي لِذَكر السمك تُغير خلايا دماغِه المسئولة عن حجمه ولونه وقدرته على التكاثر، فقد وجد أن الذكر العدواني المسيطر على منطقة نفوذٍ كبيرة تكون الخلايا الدماغية في مهاده التحتي hypothalamus أضخم ستة أضعاف من خلايا الذكور الألطف طبعًا، وقد وجد فضلًا عن ذلك أن أبعاد هذه الخلايا ذات «طواعية» plasticity ومرونة: فإذا ما صادف الذكر المسيطر ذكرًا آخر أكبر منه وأشد عدوانيةً فإن نيورونات (خلايا عصبية) المهاد التحتي للذكر المهزوم سرعان ما تنكمش، وكذلك تنكمش خُصِيه وتقل قدرتُه على الإنجاب، ومن الممكن إحداث هذه التغيرات في المختبر بدفع الذكر الفرد بيئيًّا إلى اتخاذ الدور المسيطر أو الخاضع، فتتبع ذلك مباشرةً تغيراتُ خلايا الدماغ، لقد تم التحقق بدقة من أن التغيرات السلوكية تحدث أولًا وتفضي إلى التغيرات الدماغية.

(لمعرفة المزيد عن التأثيرات السلوكية على الدماغ انظر بحث د. رسل د. فيرنالد بالاشتراك مع س. أ. هوايت: Behavioral influences on the brain.Progress in Hormone Research، 52: 455 - 474.)

(6) في الدراسات السلوكية للفعل الإنساني

«في مجال دراسة النفس البشرية كثيرًا ما يتعذر التحقق من الفروض بالطريقة العلمية المعيارية من خلال تكرار المواقف، وضبط التفاعلات بين الأحداث واستجابات الأشخاص موضوع الدراسة، وفي العلوم الإنسانية بعامة فإن تكرار موقف تاريخي فردي أو جماعي هو أمر مستحيل في الأساس، ورغم ظهور ما يبدو أنه تكرار، فإنه في كل حالة نتاج جهدٍ خادع وهمي لتجريد الذات من التاريخ، وهي طريقة أساسية تستخدم لاختزال المسئولية الفردية وما يصاحبها من قلق، وفي محاولة ضبط المتغيرات، فإن النموذج العلمي المعاصر يعزو دورًا سلبيًّا ضمنيًّا للأشخاص، ففي مثل هذه التجارب يُعرَّض الشخص لمنبه، ويُخضَع لظروف مضبوطة معينة، ويُعامل على أنه شيءٌ من الأشياء! وتُدرس الاستجابة المجزَّأة المضبوطة بعناية بدلًا من أن يُدرس الفعل الإنساني، ومِن ثَمَّ فإن السلوك يُخطَّط له بصورة يصعب فيها التعرف عليه، ومن الواضح أن ذلك نوعٌ من

ص: 252

«النبوءة المحققة لذاتها» يتعرض فيه الناس لقواعد تتحكم في التجربة، وتحرمهم من المبادأة والابتكارية أو حرية الفعل

إن الأشخاص الذين يعاملون بهذه الطريقة يغلب أن يستجيبوا طبقًا لذلك، وطبقًا لنفس القواعد الوظيفية للسلوك كما تفعل الحمائم أو الفئران أو الأسماك، ويقرر زيمباردو أنه في الظروف المعيارية يستطيع القائم بالتجربة أن يفترض وجود استمرارية في السلوك، وقد خلقها بصورةٍ مصطنعة.»

(1)

(7) أثر المُجرِّب (القائم بالتجربة) experimenter effect

ثمة دلائل متزايدة على أن فرضية العالم السلوكي يمكن أن تعمل بمثابة «نبوءة محقِّقة لذاتها» من خلال عمليات تواصلٍ خفية دقيقة بين المجرِّب والمجرَّب عليه.

ذات يوم في هارفارد وجد عالم الاجتماع و. روزنثال نفسَه مدفوعًا إلى أن يعيد التحليل الإحصائي لبيانات رسالته للدكتوراه عن آلية «الإسقاط» الدفاعية الفرويدية، غير جادٍّ وغير مضطر، فوجد أن تحليله يومئ بشدة إلى أن فرضيته أو توقُّعه عما ينبغي أن تكون عليه استجابة مفحوصيه كان يُستَشَفُّ من جانبهم بطريقةٍ ما بحيث يُحتمَل أن تكون فرضيته قد صارت نبوءةً محققةً لذاتها! عكف روزنثال أكثر من ثلاثين عامًا على دراسة ما أسماه «أثر التوقع» expectancy effect أو «الأثر المُجرِّب» experimenter effects.

يروِي روزنثال قصةً مثيرةً عن تجربة بحثية أجراها تلاميذه على فئران متاهة، فقد أنبأ تلاميذَه أنه قد طوَّر سلالةً من الفئران حادة الذكاء يمكنها أن تجتاز المتاهة بسرعة، ثم دفع لهم بفئرانٍ عاديةٍ تمامًا على نحوٍ عشوائي، قائلًا لنصف التلاميذ إن لديهم الفئران «الذكية» ، وللنصف الآخر أن لديهم الفئران «الغبية» .

كانت النتيجة أن الفئران المزعوم ذكاؤها كانت تتحسن يومًا بعد يوم في اجتياز المتاهة، فكانت تجري بشكلٍ أكثر سرعةً ودقة، كانت الفئران «الغبية» تحرن عن نقطة البداية 29? من الوقت، بينما كانت الفئران «الذكية» تحرن 11? من الوقت فقط!

ربما كان التلاميذ يتعجَّلون ضغط زر المؤقِّت بعض الشيء في حالة الفئران «الذكية» .

(1)

لويس مليكة: «التحليل النفسي والمنهج الإنساني» ، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1990، ص 180 - 181.

ص: 253

وربما كانوا يتناولون فئران كل من الفئتين قبيل الجري تناولًا مختلفًا.

وربما كانت الفئران تتأثر بطريقةٍ ما بتوقعات المجرِّبين.

وربما كان التلاميذ يقدِّمون لأستاذهم البيانات التي يرون أن أستاذهم كان يتوقعها.

غير أن «تأثر التوقع» قد وقع! وقد سجَّل روزنثال تأثيراتٍ للتوقع في عديد من المواقف والسياقات: يتأثر المستخدَم بتوقعات مستخدِمه ويُقدم له ما يتوقعه من أداء، وكذلك يفعل التلميذ تجاه مدرسِّه، والمريض تجاه طبيبه، ثمة تواصلٌ غير لفظي: نغمة الصوت، حركات الجسم، تعبيرات الوجه، يجعل توقعات الطرف الأول تصل إلى الطرف الآخر عفويًّا وتلقائيًّا وضمنيًّا، ويحفز الطرف الثاني على أن يُلبي هذه التوقعات ويكون على مستواها.

يُستخدَم الوجه الإيجابي لظاهرة «النبوءة المحققة لذاتها» في التعامل مع الأمراض النفسية المزمنة مثل اضطراب القلق أو الألم المزمن، وتشير الدراسات المعرفية السلوكية إلى أن إدراك مسار مرضٍ ما وإدراك مآله يمكن أن يؤثر في خبرة المرض، يركز العلاج المعرفي السلوكي على تعلم تغيير الإدراك من أجل تخفيف الألم المزمن أو تقليل أحداثٍ مثل نوبات الهَلَع، بهذه الطريقة أدى فهمنا للنبوءة المحققة لذاتها إلى نجاحٍ أكبر في علاج الأمراض العَصِية.

(8) العربية عاجزةٌ عن نقل العلوم

نبوءةٌ محققة لذاتها!

نحن نهملها فتذبل، ونستصعبها فتصعب.

حين نتنبأ بأن العربية عاجزة عن نقل العلوم فإننا نتردد ونتلكأ في التعريب، ويطول هجرنا وإهمالنا للعربية فتجف وتَضْمُر، وتهزل وتذبل، وتعجز عن العطاء لأنها حُرِمت من الأخذ! ومن ثم يرفع نُذُر الشؤم عقيرَتَهم ويعلنون عجزها وقد جعله تنبؤنا حقًّا!

يقول الأستاذ ساطع الحصري (رائد القومية العربية): «لا شكَّ أنها إن أمست اليوم عاجزة وفقيرة، بعد أن كانت بالأمس غنية وقديرة، فما ذلك إلا لأن المتكلمين بها قد انقطعوا عن مزاولة العلوم منذ قرون، ولأنهم حبسوا أذهانهم في دائرة ضيقة من الأدبيات والشرعيات، منصرفين إليها عن كل ما سواها، وكأني باللغة العربية قد ظلت

ص: 254

داخل هذه الشرنقة المعنوية جامدة خامدة، لا تتحول ولا تتكيف، ولا تنمو ولا تتطور.»

(1)

ويقول أ. حسام الخطيب: «إن اللغة العربية غير مخدومة لغويًّا وعلميًّا وتربويًّا وإعلاميًّا، وإنها تحتاج إلى جهود علمية-عملية حتى تنتقل من عبء نفسي عند مستخدميها إلى بهجة ويسر ودافع إيجابي.»

(2)

ويقول الأستاذ إبراهيم اليازجي: «اللغة بأهلها، تَشِبُّ بشبابهم وتهرم بهَرَمِهم، وإنما هي عبارة عما يتداولونه بينهم، لا تعدو ألسنتهم ما في خواطرهم، ولا تُمثل ألسنتهم إلا صور ما في أذهانهم

ولذلك فإن كان ثمة هرمٌ فإنما هو في الأمة لا في اللغة؛ لأن ما عرض لها من الهجر والإهمال غير لاحقٍ بها ولا ملحقٍ بها وهنًا وعجزًا، وإنما هو عجزٌ في ألسنة الأمة ومداركِها وتأخرٌ في أحوالها واستعدادها.»

(3)

اللغةُ، جوهريًّا، استعمال، منشأ اللغة الاستعمال، واستواء اللغة بالاستعمال، وتطور اللغة في الاستعمال، تموت اللغة حين تَهجر اللسان، نحن لا نستعمل العربية، وبمنطق «النبوءة المحقِّقة لذاتها» فإننا نهملها فتذبل، ونستصعبها فتصعب، ونجفوها فتشحب وتنسحب، ولا يزال الناعي الكاذب ينعب حتى يَصدُق نعيُه!

(1)

ساطع الحصري: في اللغة والأدب وعلاقتهما بالقومية، بيروت، 1985، ص 74.

(2)

حسام الخطيب: اللغة العربية، إضاءات عصرية، القاهرة، 1995، ص 4.

(3)

إبراهيم اليازجي: اللغة والعصر، منشور ضمن كتاب «حصاد الفكر العربي الحديث، في اللغة العربية» ، إعداد لجنة من الباحثين، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، 1981، ص 297 - 299.

ص: 255

الفصل الثالث والثلاثون

الخطأ المقولي (خلط المقولات، خلط الأوراق)

category mistake

تريد أن تقطع الجبال بموسى الحلاقة؟

أن تتخذ تلسكوبًا لقراءة الجريدة؟

أن تتخذ ممحاةً لإزالة الظل؟

أفِق لقد أطبَقَ عليك عَمَهُ المقولة.

***

المقولة category تعني: فئة، جنس، عائلة، نمط، نوع

إلخ، وهو مصطلح يستخدم ليدل على شريحة أساسية في تصنيف الواقع.

(1)

(1)

تعني لفظة «قاطيغورياس» عند أرسطو الإضافة أو الإسناد، وعليه فإن المقولات هي أمور مضافة أو مسندة أو «مقولة» ، أي محمولات، أو بتعريف أدق: المقولة معنى كلي يمكن أن يدخل محمولًا في قضية.

و «المقولة» بوجهٍ عامٍّ تطلق على كلِّ تصور ذي مفهوم واسع تندرج تحته الأفكار (المعجم الفلسفي، المعجم اللغوي، القاهرة، ص 190)؛ وعليه فالمقولات هي أبنية فئوية أو تصنيفات لأحوال الوجود أو شروطه، وتدل بمعنى لغوي أعم على مختلف الفئات الكبرى والأساسية والشاملة التي يمكن أن تُرد إليها الأشياء أو الخبرات، وتدل بمعنى فلسفي خاص على تصنيفات أساسية داخل المعرفة.

والمقولة عند أرسطو، كما أسلفنا، هي ما يُحمَل على غيره: وهي أحد الأجناس العشرة التي تُكَوِّن مقولات الوجود: وهي «الجوهر» substance وأعراضه التسعة: الكيف، والكم، والإضافة، والزمان، والمكان، والوضع، والفعل، والانفعال، والملك، ومن ثم فإن منظومة المقولات المعتمدة بهذه الروح «الواقعية» realistic يُرتجَى منها في أمثل الأحوال أن تزودنا بقائمة لكل ما هو موجود.

غير أن الشك في إمكان إدراكنا هذه الغاية (أي حصر فئات «الواقع نفسه») قد دفع فلاسفة آخرين إلى مقاربة منظومات المقولات لا بغرض استخلاص قائمة الأجناس العليا في العالم نفسه، بل بغرض تبيان مقولات منظوماتنا التصورية (المفاهيمية)، وهكذا أحدث إيمانويل كانت نقلةً إلى مقاربةٍ تصورية باستخلاص المقولات التي هي ضرورية قبليًّا (سابقة على التجربة) لأي معرفة ممكنة بالأشياء، ومن ثم فالمقولات عند كانت هي المعاني الكلية الأساسية للعقل الخالص، وترجع إلى طبيعة «الحكم» في مختلف صوره، فتنحصر في أربعة أنواع من حيث الكم، والكيف، والإضافة، والجهة، وكل منها تحتوي على ثلاث مقولات، فيكون مجموعها اثنتي عشرة مقولة، فإذا كان أرسطو قد نظر إلى المقولات من ناحية «الوجود» ، فإن كانت نظر إليها من زاوية «المعرفة» .

صفوة القول إن المقولات هي فئات أساسية سواء لأشياء العالم أو لصور الفكر.

ص: 257

والخطأ المقولي هو أن تضع الشيء في الفئة الخطأ، أو أن تعرض أشياء أو وقائع من نوع ما كما لو كانت تنتمي إلى نوع آخر، أو أن تنسب لشيء ما خاصية لا يمكن أن تخص هذا الشيء.

أن ترتكب خطأ مقوليًّا هو أن تقرن أشياء من تصنيفات مختلفة لا يجوز عقلًا أن تجتمع، كأن تقول: أعداد حمراء، فضائل بدينة، قضايا غير قابلة للأكل،

(1)

أو أن ترى الاعتقادات على أنها أشياء تشغل حيزًا مكانيًّا في الرأس، أو ترى الأعداد كأشياء مكانية كبيرة، أو الزمن كشيء يتدفق

إلخ.

ولما كانت جميع الأخطاء القضوية تتضمن ضربًا ما من الإسناد الخاطئ للخصائص، فإن بإمكاننا القول بأن أي خطأ هو، بمعنى ما، «خطأ مقولي»: وضع شيء ما في فئة غير فئته الصحيحة، أو إدراجه في تصنيف أو شريحة لا تخصه، على أن مصطلح «خطأ مقولي» في الاستخدام الفلسفي الدارج يبدو أسوأ أنواع الإسناد الخاطئ، إذ يتضمن التصديق على ما هو في الحقيقة «محال منطقيًّا» .

(1)

وليم جيمس إيرل: مدخل إلى الفلسفة، ترجمة د. عادل مصطفى، مراجعة د. يمنى طريف الخولي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص 376.

ص: 258

أن تقول «هذه الذاكرة بنفسجية» فأنت تضفي على كيانٍ معين خاصةً «لا يمكن» أن يمتلكها هذا الكيان، لا مجرد أنه «تصادف» ألا يمتلكها، أما حين تقول «معظم الأمريكيين سود» فأنت رغم خطأ عبارتك لا ترتكب «خطأ مقوليًّا»: ذلك أن كون معظم الأمريكيين بيضًا هو صدق «عَرَضي» (طارئ، حادث) contingent فحسب، وليس ثمة استحالة منطقية في أن تنتظم الوقائع وتنصرف الأمور بحيث يكون معظمهم سودًا، لكي يكشف المرء خطأ مقوليًّا يتعين أن يبين أنه ما إن يفهم الظاهرة المعنية فهمًا صحيحًا حتى يتجلى لعقله أن الدعوى المطروحة لا يمكن «من حيث المبدأ» in principle أن تكون حقًّا.

تلتقي جميع ضروب الخطأ المقولي في أنها تتضمن إساءة فهم لطبائع الأشياء التي تتحدث عنها، فهي تتجاوز الأخطاء العادية والبسيطة كالتي تحدث حين ننسب لشيءٍ صفةً لا يتصف بها ولكن كان من الجائز أن يتصف بها: الخطأ المقولي هو أن ننسب للشيء صفةً من المحال منطقيًّا، وفي جميع الأحوال الممكنة، أن يتصف بها.

(1) جلبرت رايل والخطأ الديكارتي

كان جلبرت رايل G.Ryle (1848 م) هو مَنْ أدخل فكرة «الخطأ المقولي» كطريقةٍ لتبديد الخلط المتفشي في نظرية ديكارت في العقل، وتبديد الكثير من المشكلات الظاهرة في فلسفة العقل، افترض ديكارت أن العقل «شيءٌ» بنفس الطريقة التي يكون بها الجسد شيئًا، ثم طفق يتساءل: كيف يتفاعل هذان الشيئان؟

ذهب رايل إلى أن من الخطأ أن نعامل العقل على أنه شيء مكون من جوهر لا مادي؛ لأن محمولات الجوهر غير ذات معنى إذا كنا بإزاء مجموعة من الاستعدادات والميول والقدرات (أي العقل)، إن ديكارت «يُشَيِّئ» الأحداث العقلية بدلًا من أن ينظر إلى الأوصاف العقلية على أنها مجرد نوعٍ واحد من وصف الأشخاص واستعداداتهم.

يضرب رايل ثلاثة أمثلة للخطأ المقولي:

(1)

فهذا زائر غريب لجامعة أكسفورد، اطَّلع على مختلف المدرجات والمكتبات والمعامل والملاعب والمكاتب الإدارية

إلخ، وإذا به يسأل بعد كل ذلك:«حسن، ولكن أين الجامعة؟» لقد أخطأ الزائر إذ افترض أن الجامعة شيء آخر يُضاف إلى ما رآه، إنما

ص: 259

الجامعة اسم كلي ينتمي لنمط منطقي أعلى من نمط المكاتب والملاعب والمكتبات والمعامل والمدرجات، الجامعة هي الطريقة التي تنتظم بها كل تلك الأشياء التي شهدها الزائر، وليست شيئًا من بينها.

(2)

وهذا طفل يشاهد عرضًا عسكريًّا لفرقة من الجيش، وبعد أن شهد الكتائب وبطاريات المدفعية وأسراب الطائرات

إلخ، إذا به يسأل:«ومتى ستظهر الفرقة؟» إن العرض لم يكن عرضًا لكتائب وبطاريات وأسراب «و» فرقة and a division، بل كان عرضًا لكتائب وبطاريات وأسراب فرقة of a division.

(3)

وهذا زائر غريب يشاهد مباراة كريكت، وبعد أن أطلعناه على الضاربين والرماة والممسكين والملعبيين

إلخ، إذا به يسأل:«ولكن مَنْ ذا الذي، بَعد، سيجَسِّد روحَ الفريق؟» لقد أخطأ الغريب خطأ مقوليًّا حين وضع نشاط «تجسيد روح الفريق» في نفس النمط أو الفئة الخاصة بالرمي والضرب والإمساك، ذلك أن تجسيد روح الفريق ليس وظيفة خاصة مثل الضرب والرمي والإمساك، وإنما هو طريقة تُؤدَّي بها هذه الوظائف الخاصة. ويقترح رايل محكًّا لكشف «الفروق المقولية» category differences، وهو أن نرى ما إذا كان استبدال تعبير مكان آخر في نفس الجملة يؤدي إلى نوع من اللامعقولية يُطلق عليه absurdity (محال، باطل، خُلف، سخف).

(1)

من المعلوم أن ديكارت قال بمذهب «الثنائية» dualism ومفاده أن الإنسان مكوَّن من جوهرين متمايزين: النفس (وهي فكر)، والجسم (وهو امتداد)، وأن بين هذين الجوهرين المختلفين «تفاعلًا» interaction (متبادلًا)، لم ينجح ديكارت بعد أن أكد ثنائية الجوهر في أن يُفسر كيف يحدث هذا التفاعل الثابت والمشهود بين النفس والجسد، وقد تناول رايل هذه الثنائية الديكارتية بالنقد الشديد وأسماها عقيدة «العفريت في الآلة» the ghost in the machine، يقول رايل: «إن هذه العقيدة تؤكد على وجود

(1)

من الواضح أن هذا الاختبار لا يُقدم طريقة لحسم أن تعبيرين هما من نفس المقولة، بل فقط لحسم أنهما ليسا كذلك، كما أنه يترك فكرة «الخلف» absurdity ذاتها مفتوحةً وحدسيةً صرفًا، والحق أن رايل يختتم ورقته «المقولات» بالسؤال:«ولكن ما هي اختبارات الخُلف؟» وجدير بالذكر أن فريد سومرز Fred Sommers قد طوَّر مقاربة رايل بشكلٍ أكثر صورية، انظر في ذلك «موسوعة ستانفورد للفلسفة» ، مادة «المقولات» categories.

ص: 260

أجسام وعقول معًا، وتؤكد على وجود عمليات فيزيائية وعمليات عقلية، وأن هناك أسبابًا آلية للحركات الجسدية وأسبابًا عقلية للحركات الجسدية، وسوف أثبت أن هذه العبارات العطفية محالة، ولكن يجب أن نلاحظ أن الحُجة لن تثبت أن أية قضية من القضايا المعطوفة على نحو غير منطقي محالة في ذاتها، فأنا لا أنكر، مثلًا، وجود عمليات عقلية (فإجراء عملية القسمة الطويلة في الحساب هي عملية عقلية) ولكنني أقول إن عبارة «توجد عمليات عقلية» لا تعني نوع الشيء الذي تعنيه عبارة «توجد عمليات فيزيائية» ، ومن ثم لا يكون معقولًا أن نربط بينهما أو نفصلهما.»

(1)

لقد أخطأ ديكارت عندما زعم أن العقل جوهر وشيء، ووضعه في نفس مقولة الجسم، ولكنه أضفى عليه مجموعة مركبة من السمات غير الفيزيائية، أما رايل ف «العقل» عنده لا يدل على شيء من أي نوع، سواء كان فيزيائيًّا أو غير فيزيائي، إنه اسم جمعي نستعمله للدلالة على نماذج من السلوك patterns of behavior، واللغة تخدعنا أحيانًا فنظن أن كل اسم لا بُدَّ من أن يدل على شيء ما

فالعقل اسم، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون اسمًا لشيء ما، العقل لا يُسمِّي شيئًا على الإطلاق، وإنما هو كلمة عامة نستعملها للدلالة على نماذج السلوك، والميول، والاستعدادات للسلوك بطرق معينة، عندما نقول إن الناس لهم أجسام وعقول، فمن الخطأ أن نُفسر ذلك على أنه يشبه القول إن الطيور لها مناقير وريش أو إن القطط لها أرجل وذيول.

(2)

(2) خطأ مقولي في الميثودولوجيا (المنهج العلمي)

بعد أن بيَّن بوبر أن الملاحظات في العلم «محملة بالنظرية» theory-laden، وأنها سليلة النظرية وليست محايدة، وأنها مِنْ ثم جديرة أن تبدو مدعمة للنظرية ما لم نفطن لذلك ونعتصم بالملاحظات التفنيدية القاسية والمناوِئة وبغير ذلك من عناصر منطق التكذيب ومنهجه - بعد أن أسهب في تبيان ذلك طفق يرسم طريقًا لتقدم العلم في مراحل أربع، يعنينا منها في هذا المقام المرحلة الثانية: بعد التثبت من الاتساق الداخلي (الصوري)

(1)

د. صلاح إسماعيل: فلسفة العقل-دراسة في فلسفة جون سيرل، دار قباء الحديثة، القاهرة، 2007، ص 21 - 22.

(2)

المرجع السابق، ص 22.

ص: 261

للنظرية والتأكد من غياب أي تناقض منطقي بين فروضها الأساسية، تبدأ مرحلة ثانية «شبه صورية» semiformal يتم فيها التمييز بين العناصر الإمبيريقية والعناصر المنطقية، أي فصل القضايا التي لها نتائج أو مترتبات إمبيريقية عن القضايا التي ليس لها، ذلك أن معظم النظريات تشتمل على عناصر «تحليلية» analytic «قبلية» a priori وأخرى «تركيبية» synthetic «بعدية» a posteriori، وبهذه الخطوة التمييزية يُبرز العالِم الصورةَ المنطقية للنظرية ويجعلها صريحة معلنة، ومن شأن التهرب من هذه الخطوة أن يؤدي إلى «أخطاء مقولية» category mistakes تؤدي بالعالِم إلى أن يسأل السؤال الخطأ، ويفتش عن معطيات إمبيريقية حيث لا توجد معطيات (فلعل النظرية كلها من قبيل «تحصيل الحاصل» tautology)، افترض ديكارت، على سبيل المثال، أن «النفس» جوهر بسيط مفكر (والجسم امتداد قابل للقسمة)، وأنها رغم اختلافها الجوهري عن الجسم فهي ليست حالَّة فيه حلول النوتي في السفينة بل متحدة به اتحادًا جوهريًّا، غير أنه في مواضع أخرى من كتبه يتحدث عن النفس كأنها حالَّة في الجسم مجرد حلول، واختار لها الغدة الصنوبرية مقامًا أو «قمرة قيادة» يحدث عبرها التأثير المتبادل interaction بين النفس والجسم، لقد سأل ديكارت السؤال الخطأ، وفتش في المكان الخطأ (الغدة الصنوبرية) عن شيء لا وجود له في هذا المكان!

(3) الخطأ المقولي في فهم الفن

(3 - 1) الفن والحياة

ليس الفن هو الحياة، وإلا لكان إضافةً عديمة النفع ولكان عبثًا لا حاجة لنا به.

سترثرزبيرت، زيف الواقعية

مهما تكن علاقته بالحياة فالفن غير الحياة! صحيح أنه ينبثق عن الإنسان ويشطأ من تربة الحياة، إلا أنه شأنه شأن كل كيان «انبثاقي» emergent - مستقلٌّ عن منشئه مغاير لأصله ولا يمكن «رده» إلى عناصره الأولى، الفن فن والحياة حياة، ومن يتعامل

ص: 262

مع الفن بمنطق الحياة أو يقيسه بمعايير الحياة يقع في «خطأ مقولي» ذريع، وقوله خطلٌ لا تجدر مناقشته، إنه، على حد تعبير كلايف بِل، «يقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة، أو يستخدم تلسكوبًا لقراءة جريدة.»

(1)

الفن عالمٌ قائم بنفسه شأن عالَم الرياضيات أو عالم الوجد الصوفي

من الخطأ الفادح أن نحاول فهم الموضوع الإستطيقي بإدخاله في إطاراتنا الذهنية المعتادة، فالعمل الفني هو من نفسه بمثابة عالمه الخاص! ولا سبيل إلى فهمه إلا على أرضه، وبلوائحه وشروطه، «ومن شاء أن يحس دلالة الفن فعليه أن يتَّضع أمامه، أما الذين يرون أن الأهمية الرئيسية للفن أو الفلسفة هي في علاقتهما بالسلوك أو النفع العملي، أولئك الذين لا يستطيعون أن يقدروا الأشياء كغاياتٍ في ذاتها، أو كسبيلٍ مباشر إلى الانفعال على أية حال، فما يكون لهم أن يظفروا من أيِّ شيءٍ بخير ما يمكن أن يَمنحه، وأيًّا ما كان عالم التأمل الإستطيقي فهو ليس عالم المشاغل والأهواء البشرية، إنه عالم لا تسمع فيه لغو الوجود المادي وصخبه، أو تسمعه كمجرد صدًى لتوافقٍ آخر أكثر جوهرية.»

(2)

(3 - 2) الفن والأخلاق

الشعر نكدٌ بابُه الشر، فإذا دخله الخيرُ ضعف.

الأصمعي

بين الفن والأخلاق علاقة منطقية دقيقة حتى المفارقة، وتحتاج منذ البداية إلى حنكةٍ كبيرةٍ في ترسيم الحدود وفض الاشتباك، وإلا فهي تفضي إلى جدل عقيم لا يثمر، ونزاع طويل لا ينتهي، فالفن مُوكَّل بمقولة «الإستطيقي» ، والأخلاق موكلة بمقولة «الخير» ، وبديه أن مقولة «الإستطيقي» مختلفة عن مقولة «الخير» ، وأن الفن يوصف بالجودة أو الرداءة (الفنية)، ولا يصح أن يوصف بالشر أو الخير (الأخلاقي)، ومن يفعل ذلك

(1)

د. عادل مصطفى: دلالة الشكل، دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن، دار النهضة العربية، بيروت، 2001، ص 44 - 45.

(2)

المرجع السابق، ص 45.

ص: 263

يقع في «خطأ مقولي» category mistake، «إن عادة إقحام اعتبارات أخلاقية في عملية الحكم بين أعمال فنية معينة لن يكون لها ما يبررها، فليُقم الداعية الأخلاقي حكمًا على الفن ككل، وليقيض له ما يرى أنه مكانه الصحيح بين وسائل الخير، ولكن إذا كان المقامُ مقامَ أحكام إستطيقية؛ أي أحكام مقارنة بين أعضاء فئة واحدة، أي بين الأعمال الفنية بوصفها أعمالًا فنية، فليُمسك هذا الداعيةُ لسانه.»

(1)

(3 - 3) الفن والصدق

جماعةُ القاهرة يظنون أن الصدق في الفن معناه قول الحقيقة!

أمين نخلة

إن في بُرديَّ جسمًا ناحلًا

لو توكَّأت عليه لانهدم

بشار (وكان ضخم الجثة!)

كَلَّفتمونا حدودَ منطقكم

والشعرُ يُغني عن صدقه كذبه

البحتري

يعلم دارسو الجماليات أن للفن صدقه، وأن الفن يوصف بالصدق والكذب، وأن الصنف الرفيع من الفن صادقٌ بالضرورة، ولكن «الصدق الفني» غير الصدق الوقائعي factual، ومن يخلط بينهما يقع في «خطأ مقولي» ثقيل، ثمة «حقيقة» يعبر عنها العمل الفني، غير أنها ليست من صنف الحقيقة التي نجدها في العلم أو الفلسفة، وإذا لم يتم التخلص من الخلط بين الحقيقة الفنية والحقيقة العلمية «ضاع الوضوح وأصبح الحديث أو

(1)

المرجع السابق، ص 111.

ص: 264

النقاش عقيمًا لأن المتحدثين، ببساطة، لا يتحدثون عن شيء واحد.»

(1)

قد يُخطئ الشاعر خطأً علميًّا جسيمًا وتبقى قصيدته مثالًا للصدق الفني.

الصدق صفةٌ للقضايا، فتوصف القضية بالصدق إذا كان ما تقرره مطابقًا للوقائع التي يُفترض أنها تصفها، وتوصَف بالكذب إذا كان غير مطابق، بيد أن هناك قطاعات عريضة من التعبير البشري لا تتحدث عن وقائع موضوعية، وبالتالي لا تحتمل الصدق والكذب بالمعنى الدارج، تلك هي الأحكام التقويمية وعبارات الأمر والتمني وغيرها من الصِّيغ التي تُضمِر مشاعر ووجدانات ذاتية تَنِد بطبعها عن التحقق الموضوعي، ومنها بيت بشار السابق الذي يصف نفسه فيه بالنحافة والضعف بينما كان هائل الجِرم كأنه جاموس،

(2)

إنه تقريرٌ عن مواجيدَ نفسية وليس تقريرًا طبيًّا يتضمن بنودًا عن الوزن والضغط والنبض وسرعة الترسيب

إنه رقعةٌ فنية، تستعصي بطبعِها على التحقق الموضوعي، غير أن هذا لا يحرمها من أن تتمتع بصدقٍ من صنفٍ آخر، وحقيقةٍ من نوعٍ مختلف.

تلك هي «الحقيقة الفنية» في مقابل «الحقيقة الواقعية» ، وهي حقيقة تتحد بمَدَى جودة التعبير وتوفيقه في نقل التجارب التي انبرى لنقلها ومعادلة المشاعر التي اضطلع بمعادلتها، وقديمًا قال أرسطو:«إذا أسهمت الكذبةُ في التأثير الجمالي للعمل فينبغي أن نقبلها.»

نعم

حين يكون الأمرُ أمر تجارب وجدانية ومشاعر ذاتيةٍ يخف وزن الجزئيات الموضوعية بعض الشيء ويتضاءل شأنها، وهل كان لغلطة كيتس الواقعية خطرٌ يُذكر على سونيتته «عند القراءة الأولى لترجمة تشابمان لهوميروس» التي يقول فيها:

عندها شعرتُ بأني أشبَه بكورتيز الفتي،

وهو يحدِّق إلى المحيط الهادي بعيون النسر بينما كل رجاله

(1)

جيروم ستولنيتز: النقد الفني، دراسة جمالية وفلسفية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، 1981، ص 460.

(2)

يقول جان كوكتو: «أنا كذبةٌ تقول الحقيقة دائمًا.» وهو قولٌ صادق، وأصدق منه قول فيلهلم دلتاي: «حقيقة الأمر أن العمل الفني لا يريد أن يقول أي شيء على الإطلاق عن مؤلفه، بل يقف هناك

حقًّا في ذاته

نابتًا

مشهودًا

باقيًا.»

ص: 265

يتطلع بعضهم إلى بعضٍ في دهشة بالغة،

وهو واقفٌ في صمتٍ فوق قمة جبل دارين.

كورتيز مكتشف المحيط الهادي! خطأٌ جسيمٌ إذا كان المقام مقام تاريخ بحري، ولكن سيان ان يكون المكتشِف هو كورتيز أو غيره داخل هذا «التكوين الفني» أو هذه «البنية الرمزية» المستقلة التي تتحدد مهمتها في نقل أو معادلة شعور كيتس لحظةَ بَهَرَته قراءة هومر بترجمة تشابمان الإليزابيثي للمرة الأولى، فسونتة كيتس - وهي من عيون الشعر الإنجليزي - لم تُكتب لتُلقي علينا درسًا في التاريخ أو الجغرافيا، ولكن كُتِبَت لتنقل لنا شعورًا بمتعة التذوق ودهشة الفن.

هي «حقيقة ل» truth-to

(1)

أكثر مما هي «حقيقة عن» truth-about.

وهي «فعل» action

(2)

أكثر منها «مقالًا عن فعل» .

وهي صادقةٌ إذا ما احترمنا انطواءَها واكتفاءها الذاتي واستقلالها الجمالي، واتخذنا، ولو إلى حين، إطارها الإشاري الخاص، ثم لجأنا بها إلى معيار «التطابق» correspondence،

(3)

(4) مغالطة التركيب والتقسيم خطأٌ مقولي نموذجي

في حديثنا عن مغالطة التركيب composition والتقسيم division قلنا إن الانتقال من خصائص الكل إلى خصائص أجزائه المُكوِّنة (تقسيم division)، أو الانتقال - على العكس - من خصائص المكونات إلى خصائص الكل (تركيب composition) هو انتقالٌ غير مشروع؛ وذلك لأن الكل ينتمي إلى نمط منطقي (أو مقولة) أعلى من النمط الذي تنتمي إليه أجزاؤه، إن خصائص الكل وخصائص الجزء ليست دائمًا بالشيء الواحد، ولا ينبغي أن نتوقع تطابقها في جميع الأحوال.

(4)

(1)

بلغة هوسبرز.

(2)

بلغة بروكس.

(3)

«التناظر» بحسب المعجم الفلسفي للمجمع اللغوي.

(4)

عادل مصطفى: «الغياب والكلمة» ، مجلة «الإنسان والتطور» ، دار المقطم للصحة النفسية، القاهرة، السنة الثالثة، العدد 12، أكتوبر/ نوفمبر/ ديسمبر 1982.

ص: 266

(5) المغالطة الوجدانية خطأ مقولي

المغالطة الوجدانية pathetic fallacy هي إضفاء الخصائص الإنسانية، المشاعر بخاصة، على الطبيعة والجمادات، من مثل قولنا: الأغصان الراقصة، الأمواج القاسية، الهواء الساخن «يريد» أن يصعد لأعلى

إلخ، ويلحق بذلك كل ما هو «أنسنة» (أنثروبومورفيزم) أي إضفاء الصبغة الإنسانية على ما ليس بشريًّا، إن في ذلك خلطًا للمقولات، وفيه مصادرة لا دليل عليها: هي أن الطبيعة (أو الكائنات الأخرى) تحاكي في مسلكها سلوكَ الإنسان! انظر تفاصيل ذلك في موضعها.

‌أمثلة أخرى

• هأنذا قد اطَّلعت على غرفة الجلوس وغرفة النوم والبهو والشرفة والحمام والمطبخ، حسنٌ فأين البيت؟

• أين ال 15،5 طفل الذين هم «معدل المواليد» في هذا المستشفَى؟

• عدد سكان الصين برتقالي (الحقائق المتعلقة بعدد السكان تنتمي إلى مقولة مختلفة عن الحقائق المتعلقة بالألوان).

• هذا دافع ضرائب، وهذا دافع ضرائب، وهذا وهذا

حسن فأين «الدافع المتوسط» average taxpayer؟

• مَنْ سيحلب هذا الثور؟

«قيصر عددٌ أصم» (المثال الذي قدَّمه كارنَب).

• ما هي رائحة اللون البنفسجي؟

• إن ألمي أخضر.

• أين زوجة هذا الأعزب؟

• أيهما أكبر: المتر أم اللتر؟

ص: 267

الفصل الرابع والثلاثون

الأنثروبومورفيزم

Anthropomorphism

تتألف كلمة أنثروبومورفيزم من كلمتين يونانيتين: Anthropos وتعني «إنسان» ، و morphe وتعني «شكل» ، الأنثروبومورفية إذن هي «أنسنة» غير الإنسان، أو أخذ اللاإنساني مأخذ الإنساني، أو إضفاء صبغةٍ بشرية على ما ليس بشرًا، والأنثروبومورفية (الأنسنة) وفقًا لمعجم أكسفورد الفلسفي هي «تمثيل الآلهة، أو الطبيعة، أو الحيوانات غير البشرية، على أن لديها أفكارًا ومقاصد إنسانية، أحيانًا ما يكون ذلك تمثيلًا استعاريًّا معلنًا، فتكون المشكلة إذاك أن نفهم وجه الاستعارة.»

(1)

وقريب من ذلك مصطلح «المغالطة الوجدانية» pathetic fallacy، أي إسباغ الخصائص الإنسانية، المشاعر بخاصة (أو الانفعال أو «الوجدان» pathos) على الطبيعة والجمادات، من مثل قولنا: السماء الضاحكة، البحر الغاضب، إعصار لا يرحم، بحيرة هادئة، أشجار حزينة

إلخ.

الأمر كما ترى هو نوع من «التمركز على الإنسان» anthropocentrism يُصادر بأن كل شيء آخر في الوجود لا بُدَّ يشبهنا على نحوٍ ما، أو هو محاولة منا، نحن البشر، لفهم أي شيء لا نملك إليه منفذًا معرفيًّا مباشرًا، فنتخيل أنه يسلك مثلنا تمامًا، وقد

(1)

The Oxford Dictionary of Philosophy.Oxford، New York: Oxford University Press.، 1996، p. 19.

ص: 269

يوغل العقل، البدائي بخاصة، إلى حد أنسنة أرواح الأشياء والظواهر الطبيعية، الرياح والأنهار والرعد

إلخ، والأحداث كالحرب والموت

إلخ، والمفاهيم المجردة كالحب والكره والجمال والخصام

إلخ!

(1) في الميثولوجيا والثيولوجيا

كانت الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية أنثروبومورفية قلبًا وقالبًا، سواء في هيئتها أو في علاقاتها العائلية والاجتماعية، ففي قصائد هوميروس نجد الآلهة تسكر وتتزوج وتختصم وتتزين، شأنها شأن البشر تمامًا، ولكي يميز الإغريق بين الآلهة والبشر فقد أضفوا على الآلهة وحدهم صفتي الخلود والشباب الدائم، كان للآلهة طعامٌ خاص يتكون من النكتار nectar والأمبروزه ambrosia (التي تعني حرفيًّا «غير فان») يصير إلى سائلٍ مختلف عن الدم البشري يجري في أجسادهم اسمه أيكور ichor.

وكان بالإمكان في الميثولوجيا الإغريقية أن يتهاجن الآلهة والبشر، وانفرد الآلهة بالقدرة على اتخاذ هيئة غير هيئتهم البشرية بواسطة «التحول» (الميتامورفوسيس) metamorphosis، وظل الخلود والشباب الدائم حكرًا على الآلهة، ومن طرائف الأساطير الإغريقية أن إيوس إلهة الفجر أحبت الفاني تيثونوس ووعدته أن تلبي له أي شيء يطلبه، فطلب الخلود، ونسي أن يذكر معه الشباب الدائم، ومن ثم فقد أخذ يشيخ ويشيخ حتى لم يبق من ذاته الجسدية إلا صوته!

كان الفيلسوف اليوناني زينوفان Xenophanes (ولد على الأرجح عام 565 ق. م) أول من استخدم مصطلح الأنثروبومورفية، ليصف كيف كان الناس يتصورون آلهتهم شبيهة بهم في شكلهم ودوافعهم، فكانت الآلهة عند اليونان شقراء الشعر زرقاء الأعين، بينما كانت آلهة الأثيوبيين سمراء الجلد سوداء الأعين، وبعبارة أخرى فقد كانت الأوصاف الأنثروبومورفية تكشف عن واصفيها من البشر أكثر مما تكشف عن المقدس. صوَّب زينوفان سهام نقده إلى الأنثروبومورفية قائلًا:«إن الإله الأعظم لا يُشبه الإنسان لا في صورته ولا في عقله.» وشن هجومًا عنيفًا على الآلهة التقليدية، وكان هدفه الرئيسي استئصال مجموعة آلهة الأوليمب التي اتخذ كلٌّ منها صورة الإنسان.

(1)

(1)

برتراند رِسل: حكمة الغرب، ترجمة د. فؤاد زكريا، الجزء الأول، عالم المعرفة، العدد 62، فبراير 1983، ص 45.

ص: 270

وكان أفلاطون أيضًا مناوئًا للتمثيل البشري للآلهة، وفي محاورة «الجمهورية» بصفةٍ خاصة يعترض على عملية إسباغ المثالب البشرية على كائنات إلهية. كان أفلاطون، شأنه شأن زينوفان، يرمي إلى تطهير العقيدة بتنقيتها من العناصر التي يعدها بدائية وفجَّة.

جاءت الديانات السماوية مُناوِئةً بشدة للأنثروبومورفية، ومنزهة للرب عن أيِّ شبه بالإنسان، صحيح أننا نصادف في الكتاب المقدس كثيرًا من التعبيرات الأنثروبومورفية مثل «صورة الرب» ، «يد الرب» ، «ذراعه الممدودة» ، «عيني الرب» ، «مسند قدميه»

إلا أن التأويل السائد هو أن التوراة تتحدث بلغة الناس، وأن الكتاب المقدس يستخدم مثل هذه الألفاظ لأنها اللغة الوحيدة التي يمكن للبشر أن يفهموها، غير أن عليهم ألا يأخذوها بمعناها الحَرفي، إن هي إلا استعاراتٌ لوصف ما يستحيل وصفه على أي نحو آخر؛ لذا كان أحبار الحقبة التلمودية يلجئون إلى تعبيرات عديدة لتفادي الفهم الحرفي: تعبيرات مثل «إن جاز أن نقول ذلك» ، وكان المترجمون يضيفون أحيانًا كلمة أو كلمتين لدرء التشبيه: من ذلك أن الآية 8: 12 من سِفر العدد «سأتحدث إليه فمًا لفم» ترِد في النسخة اليونانية هكذا: «سأتحدث إليه فمًا لفمٍ ظاهريًّا.»

(2) الأنسنة استراتيجية إدراكية

إن المبدأ عينٌ نرَى بها.

إمرسون

الحقيقة أن إسناد فاعلية بشرية للأشياء والظواهر هو استراتيجية تفسيرية عظيمة الفاعلية رغم فشلها في بعض الأحيان، فنحن بعد كل شيء نعيش في بيئة يشكل البشرُ جانبَها الأهم والأكثر تواترًا وأشد تأثيرًا؛ ومِن ثم فلا مفرَّ لنا من أخذ كل ما هو بشري في الاعتبار الأول، ولا مفر لنا في حالة عدم وضوح الرؤية من الرهان على التفسير الأنثروبومورفي، إن بناءاتنا التصورية والإدراكية لَتميلُ بنا غرزيًّا إلى النزعة الإحيائية animism والنزعة الأنثروبومورفية، كما أن توصيل الحقيقة إلى البشر لا يتسنَّى له أن يتم إلا عبر وسيط من الأفكار البشرية، ولا يمكن التعبير عنه إلا بلغة ملائمة لفهم البشر.

ص: 271

إن مقولات الفهم ومخططات الإدراك المبيَّتة في أدمغتنا قد شيدتها تجارب بشرية ولغات بشرية ومواضعات بشرية، ولا مندوحة لنا عن استخدام هذه المقولات categories وتلك المخططات schemata إنْ كان لنا أن نحظَى بأيِّ إدراك أو فهم على الإطلاق.

إن العالمَ يتراءى أمام أعيننا في تدفق كاليدوسكوبي مضطرب، ونحن نحدس أو نخمن بما نراه وفقًا للنموذج القائم في أدمغتنا عن العالم، والذي شيدته أدمغتُنا خلال تخمينات سابقة وما آلت إليه تلك التخمينات، في سلسلةٍ لا نهاية لها من المحاولة والخطأ، وبعبارة أخرى فإن ما نراه يتوقف على النموذج الذي نستخدمه، وإن النموذج الذي نستخدمه إنما شيدته تجاربُنا السابقة في الرؤية. يلخص توماس كون هذه الفكرة بقوله في كتابه «بنية الثورات العلمية»:«شيء يشبه البارادايم paradigm (النموذج الشارح) هو متطلب أساسي حتى في الإدراك نفسه، إن ما يراه المرء يعتمد على ما ينظر إليه لتوه، بالإضافة إلى خبرته البصرية السابقة وما علَّمَتْه أن يرى.» ويقول فييرابند: «حين نُعطَى مثيراتٍ ملائمة ولكن مع أنساق مختلفة من التصنيف (تهيؤ ذهني مختلف) فإن جهازنا الإدراكي ينتج موضوعات إدراكية لا تمكن المقارنة بينها بسهولة.» ويقول الأنثروبولوجي جون بيتي: «إنما يرى الناس ما يتوقعون أن يروه، ذلك أن تصنيفات إدراكهم تحددها إلى حد كبير، إن لم يكن كليًّا، خلفيتهم الاجتماعية والثقافية.» ويلخص فيلسوف العلم نوروود رسل هانسون N.R.Hanson كل ذلك في تعبير واحد أصبح مصطلحًا مأثورًا ومفهومًا محوريًّا في فلسفة العلم، هو أن الإدراك «مُحمَّل بالنظرية» theory-laden، ذلك أن خلفيتنا النظرية، تصوراتنا واعتقاداتنا وتوقعاتنا، تؤثر فيما نراه، أو على الأقل في كيفية رؤيتنا له.

(1)

ويذهب الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر إلى أن من المحال أن يتم فهمٌ على الإطلاق بغير فروض مسبقة أو «تحيزٍ» prejudice ما! فمحاولة الوصول إلى تأويل مُبرَّأ من أي تحيز أو فهم مسبق هي محاولة عابثة؛ لأنها تمضي في الحقيقة ضد الطريقة التي يتم بها الفهم. إن ما يظهر من الشيء أو «الموضوع» object هو ما يسمح له المرءُ أن يظهر، وذاك أمرٌ يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية، ومن السذاجة أن نفترض

(1)

انظر في ذلك فصل «نسبية الإدراك الحسي» ، في كتابنا «صوت الأعماق، قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس» ، دار النهضة العربية، بيروت، 2004، ص 238 - 247، وانظر أيضًا ما قلناه في فصل «البروكرستية» .

ص: 272

أن ما هو «هناك حقًّا» هو أمر «واضح بذاته» ، بل إن تعريف ما نفترض وضوحه الذاتي هو نفسه شيء يقوم على حشدٍ غير مرئي من الفروض المسبقة، تلك الفروض الحاضرة العتيدة في كل بناء تأويلي يُشيده المُؤوِّل الذي يظن نفسَه «موضوعيًّا» وبريئًا من الفروض المسبقة. لقد أماط هيدجر اللثام عن هذا الحشد من الفروض المسبقة القائمة والمندسة في كل تأويل ممكن، وذلك في تحليله لعملية الفهم.

(1)

(3) ستيوارت جوثري: «وجوهٌ في الغمام»

في كتابه Faces in the Clouds (وجوه في السحاب أو الغمام) يذهب جوثري S.Guthrie إلى أن ميلنا إلى أن نعثر على خصائص إنسانية في العالم غير الإنساني ينجم عن استراتيجية إدراكية غائرة: فبإزاء اللايقين الشامل بما نراه فنحن «نراهن» على التأويل الأوثق دلالةً بالنسبة لنا: فإذا كنا في الغاب مثلًا ولمحنا شبحًا داكنًا من بعيد قد يكون صخرةً وقد يكون دبًّا، فمن الحصافة أن نظنه دبًّا: فإذا كنا على خطأ لم نخسر شيئًا، وإذا كان على حق فقد ربحنا الكثير!

هكذا كلَّما تفرَّسنا العالم فنحن نفتش فيه عما يَعنينا أكثر من غيره نفتش عن الأشياء الحية، وبخاصة الأشياء البشرية، وحتى الحيوانات تفتش عن الخصائص والأمارات البشرية، مثلما يتبدَّى عندما تتجنب الطيور الفَزَّاعات (خيال المآتة)! وباختصار فنحن نتبع مبدأ السلامة، ذلك المبدأ الذي أعان الجنس البشري على البقاء حين كان الرهانُ الإدراكي باهظًا.

هكذا يتحلَّى الإدراك الأنثروبومورفي بقيمة بقاءٍ جعلت الضغوط التطورية تنتخب أولئك الذين اتَّبعوا مبدأَ السلامة ورهنوا على الرؤية الأنثروبومورفية، وهكذا أورَثَنا أسلافنا هذه النزعة الطبيعية: أن نخطئ، إن أخطأنا، في جانب السلامة، وهكذا صار مُبيَّتًا في الدماغ البشري أن يتوسم وجود بشر آخرين، أو آثار بشر، في الظواهر الطبيعية.

(2)

(1)

Richard E.Palmer: Hermeneutics.Northwestern University Press، 1969، p. 136.

(2)

Stewart E.Guthrie: Faces in the Clouds، a New Theory of Religion.New York: Oxford University Press، 1993.

ص: 273

في كتابه «علم البيولوجيا» يقول و. ت. كيتون: «إن كل ألفاظنا تقريبًا تشتمل على نوعٍ من الدلالة البشرية، ومن تضمين الدافعية البشرية والغرض البشري، غير أن هذه الدافعية والغرض قد لا تكون لها صلة بسلوك الحيوانات الأخرى، وعلينا دائمًا الاحتراز من إضفاء خصائص بشرية لا مسوِّغ لها على الأجناس الأخرى، فالتفكير الأنثروبومورفي والغائي لا مكان له في الدراسة العلمية لسلوك الحيوان

واللغة الإنجليزية، شأنها شأن جميع اللغات الإنسانية، إذ تَنَشَّأت حول الأنشطة البشرية والتفسيرات البشرية، لم يكن لها بُدٌّ من أن تعكس هذه الأنشطة والتفسيرات

ومِن ثَمَّ ينبغي أن يتفطَّن المرء إلى المزالِق التي ينطوي عليها أي تطبيق للغة ذات التوجه البشري على أنشطة الحيوانات الأخرى.»

(1)

وقد جرى العرفُ في المجتمع العلمي على الانتقاص من اللغة الأنثروبومورفية التي تُومِئ إلى أن الحيوانات لديها مقاصد وعواطف، واعتبارها دليلًا على افتقاد الموضوعية، وقد دأب علماء البيولوجيا على تجنب الفرضية القائلة بأن الحيوانات تشارك البشر نفس القدرات العقلية والاجتماعية والانفعالية، مُعَوِّلين بدلًا من ذلك على الأدلة القابلة للملاحظة بشكلٍ صارم، فالحيوانات كما يقول بافلوف «ينبغي أن تُدرَس دون حاجة إلى اللجوء إلى تأملات خيالية عن احتمال وجود أيِّ حالات ذاتية.» والمنهج العلمي يتضمن ملاحظات وتعريفات وقياسات لموضوع البحث، أما «المُواجَدة» empathy فلا تُعد أداةً نافعة عند جمهور العلماء.

غير أن دراسة القردة العليا في بيئتها الخاصة قد غيرت المواقف تجاه الأنثروبومورفية، فقد غدا من المقبول على نطاق واسع أن المواجدة قد تلعب دورًا مهمًّا في البحث، يقول فرانس دي وال «لقد طالما اعتُبر خطيئةً علمية أن نسبغ عواطف إنسانية على الحيوانات، غير أننا إذ نفعل ذلك نغامر بفقدان شيء أساسي عن الحيوانات وعن البشر معًا.»

(2)

وقد واكب ذلك بزوغُ وعي متزايد بالقدرات اللغوية للقردة العليا، وتُبين أنها صانعة للأدوات وأن لديها فرديةً وحضارة.

(1)

دراسة سلوك الحيوانات في بيئتها الطبيعية.

(2)

Keeton W.T.: Biological Science.New York: W.W.Norton. 1967، p. 452.

ص: 274

لعل الموقف الصائب هو موقفٌ بين بين: فرغم أنه من الواضح أن للحيوانات انفعالات معينة، إلا أنه قد لا تكون انفعالات بشرية تمامًا، وقد يميل عشاق الحيوانات المنزلية المدللة إلى إضفاء صفات إنسانية على حيواناتهم، غير أن الطفل المحب لقطته قد يُصدَم حين يراها تقتل فرخَ طائر صغير مدفوعةً بالغريزة، ومُسَيَّرة بإشارات خاصة بها لا يدري عنها شيئًا، وإذا كانت الأنسنة تسهِّل فهمنا للأشياء التي تبدو غريبةً، فإنها إذا تجاوزت حدَّها فقد تُفضي بنا إلى عمى إدراكي يعوقنا عن اتخاذ المنظور الصحيح للكائنات الأخرى.

(5) في العلوم الطبيعية

الطبيعة تكره الفراغ.

الهواء يكره التزاحم، وعندما يُضغط سيحاول الهرب إلى منطقة أقل ضغطًا.

الجسم المتحرك، بسبب كتلته، يريد أن يبقى متحركًا.

تريد الكرة أن تتدحرج إلى أسفل التل.

لا تستطيع مادةٌ أن تشتعل في غياب الأكسجين؛ لأن الأكسجين يساعدها على الاشتعال.

قد يظن أستاذ العلوم الطبيعية أنه يساعد تلاميذه على فهم الظواهر الطبيعية باستخدام استعارات أنثروبومورفية من هذا القبيل، غير أنه في أغلب الأحيان لا يعدو أن يشوش فهمهم للسبب الذي يجعل العالم الطبيعي يسلك بالطريقة التي يسلك بها، ويرتد بهم إلى صوفية القرون الوسطى، ويحول بين أفهامهم وبين الاستبصارات الحديثة إزاء سلوك الطبيعة.

لست مضطرًّا حين تشرح سلوك العالم الطبيعي إلى أن تفسر «لماذا» يسلك هذا المسلك، وبحسبك أن «تصفه» ، فإذا كان عليك أن تقدم تفسيرًا فليكن تفسيرًا علميًّا صحيحًا لا مصادرةً أنثروبومورفية لا دليل عليها مفادها أن «الطبيعة تحاكِي سلوكَ الإنسان» .

لقد أورَثَنا أسلافُنا إرثًا ذهنيًّا مغلوطًا حين تصوروا العالمَ الطبيعي على شاكلة بيئتهم البشرية، ذلك التصور الذي أعانهم على البقاء واجتَبَته ضغوطهم الانتخابية الخاصة بزمنهم، إن حقيقة أن معظم عمليات الكون وظواهره تنجم عن قوى لا

ص: 275

شخصية ذاتية التنظيم لا عن أفعال قصدية، هذه الحقيقة هي شيء لا يقع لنا على نحو طبيعي غرزي، لقد استغرق الأمرُ قرونًا طويلةً من التجريب الدقيق والعمل النظري الشاق لكي تُسفِر الحقيقةُ عن وجهها، على أننا حين نُسْلِم فروضنا للنظام الصارم للعلم الطبيعي الحديث نحس باغتراب عن عملياتنا الفكرية الطبيعية

وذلك عندما نكتشف كم هي متمركزة على الإنسان نظرتُنا إلى العالم، وكم هي أنثروبومورفية هذه النظرة في حقيقة الأمر.

«يبدو أن تخلص الفكر الإنساني من الأنثروبومورفية هو شيء بعيد الاحتمال جدًّا، في المستقبل المنظور على أقل تقدير، ولا نحن راغبون في ذلك، فمثل هذا التخلص قد يكون له آثار جانبية غير مرغوبة، ليس أقلها فقدان الإبداعية والخيال، والقدرة على استبانة دببةٍ في الغاب، لقد أثبتت الأنثروبومورفية أنها موصولة ببقائنا كنوعٍ بحيث غدت، ربما، جزءًا من الكائن الإنساني يتعذر اقتلاعه، ومِن ثَمَّ فقصارى ما نأمله عندما ندرك ونخلق أشكالًا في السحاب هو أن ننمي القدرة على أن ننظر فيما وراء إدراكاتنا، أن نكتشف وجهًا، وأن نعترف بجماله، وأن نُسَلِّم بأنه لا وجود له.»

(1)

(6) متى تصح الأنثروبومورفية؟

لا بأس بالأنسنة عند تناول الإنسان.

هايك

في كتابه (المشترك)«النفس ودماغها» يقول كارل بوبر بمعرض حديثه عن تشبيه أفلاطون للعقل بربان سفينة الجسم: «هذه امتدادات قد تُرفَض على أنها ضروب من الأنثروبومورفيزم (الأنسنة)، ولكن لا بأس بأن يكون المرء أنثروبومورفيًّا في تناول الإنسان كما قد ذكَّرنا هايك.»

كان الفيلسوف جيامباتيستا فيكو G.Vico في كتابه «العلم الجديد» يُنكر إمكانية تطبيق نماذج العلم الطبيعي على الطبيعة الإنسانية، ويعلن أن الدراسة العلمية للطبيعة

(1)

Frans de Waal. "Are we in Anthropodential? "، Discover. 1997 - 07، pp. 50 - 53.

ص: 276

الإنسانية لا بُدَّ لها أن تقوم على أساس صيغة إنسانية بحتة من التفاعل والتفاهم، يرى فيكو أن هناك هوة لا يمكن اجتيازها بين البشري والطبيعي، بين ما شيده البشر وما هو مُعطى في الطبيعة

ويرى أن منتجات العمل البشري، كالفن والقانون والتاريخ نفسه، وبالضبط لأنها من صنع الإنسان، يمكن فهمها فهمًا أفضل من فهم العالم الطبيعي، حيث إن العالم الطبيعي هو عالم مغاير لنا بشكل لا حيلة فيه وغير قابل لأن نعرف حقيقته النهائية.

(1)

في كتابه «ضد التيار، مقالات في تاريخ الأفكار» ، يلخص إيزايا برلين حجة فيكو في قوله:«إذا كانت الأنسنة هي أن نسبغ على عالم الجماد عقلًا وإرادة دون وجه حق، فهناك عالم لعل من الصواب أن نضفي عليه هذه الصفات بالتحديد، هذا العالم هو عالم الإنسان، عليه يمكن القول إن أية محاولة لدراسة البشر على أنهم كيانات طبيعية صرف، شأنهم شأن الأنهار والنباتات والأحجار، هي عمل يقوم على خطأ أساسي، ونحن البشر نُعَد فيما يتعلق بأنفسنا ملاحظين نتمتع بامتياز خاص هو الرؤية من الداخل (الرؤية الباطنة)، ويُعد تجاهل ذلك سعيًا وراء مثال من العلم الموحد لكل ما هو موجود وطريقة عالمية مفردة للبحث، يعد إصرارًا على الجهل وتعمدًا له» .

(2)

(1)

Sally Morem: Peering at Faces in the Clouds.Secular Nation، September-October 1996، pp. 2 - 5.

(2)

مايكل كول: علم النفس الثقافي، ماضيه ومستقبله، ترجمة: د. كمال شاهين، د. عادل مصطفى، دار النهضة العربية، بيروت، 2002، ص 51 - 52.

ص: 277

الفصل الخامس والثلاثون

الأمن المنطقي

حديث صحفي مع طلبة السنة الرابعة بكلية الإعلام، جامعة القاهرة.

حول كتاب «المغالطات المنطقية»

بإشراف الطالبة/ حنان إبراهيم

• هل من الممكن أن تتفشى مغالطة بعينها حسب المجتمع الذي يحيا فيه الفرد؟

- بكل تأكيد

فإذا كان اللُّب أو الهيكل الصوري للحجج يندرج تحت «المنطق الصوري» ، وهو شيء عالمي عمومي شأنه شأن الرياضيات، فإن الغلاف الكثيف الذي يُطبِق على هذا الهيكل النحيل هو شيء نسبي يختلف من مجتمعٍ إلى آخر؛ لأنه ممتزج بلغة الناس وهمومهم وانفعالاتهم وانتماءاتهم وتحيزاتهم، بل بمناخهم وتضاريس واقعهم.

• هل الخلفية المرجعية أو أيدلوجية الشخص تلعب دورًا في كثرة وقوعه في مغالطة بعينها أكثر من غيرها

بمعنى، هل يتحد الماركسيون مثلًا في الوقوع في مغالطة «س» بينما يتفق الإسلاميون في الوقوع في المغالطة ك؟

- نعم، إلى حد كبير، فأغلب الأيديولوجيات تنطوي على مصاعب منطقية لا تتسنَّى تسويتُها (ظاهريًّا) إلا بشيء من المغالطة، هناك أيديولوجيات لا تسترد اتساقها (الظاهري) إلا بمغالطات من قبيل: التأييد دون التفنيد، التخلص من عبء البرهان وإلقائه على عاتق الخصم، الأنالوجي الزائف أو التفكير التشبيهي، الاحتكام إلى سلطة

إلخ، بل إن بعض الأيديولوجيات لا تعدو أن تكون مصادرةً كبيرة على المطلوب: فهي

ص: 279

تنطلق من مسلَّماتٍ أُولى لا دليل عليها تنسج منها وعليها نسيجًا هائلًا من التفكير الدائري وتحصيلات الحاصل!

• إلى أي مدى يساهم غياب التفكير النقدي في ظهور المغالطات المنطقية؟ وما أكثر المغالطات شيوعًا نتيجة لذلك؟

- التفكير النقدي مرحلة متقدمة من النمو المعرفي، حيث يرتقي العقل النامي إلى الوعي بوجود افتراضات تحتية أساسية يقوم عليها بناؤه الفكري، وإخراج هذه الافتراضات إلى واضحة النهار، ووضعها تحت أضواء النقد، التفكير النقدي ليس شيئًا سليقيًّا فطريًّا، بل يحتاج إلى تعَلُّم وممارسة، في البدء كان الخطأ، في البدء كانت المغالطة، في البدء كانت التحيزات المتأصلة والأوهام الموروثة الغائرة، وحين يمارس المرء التفكير النقدي إنما يسبح ضد هذا التيار ويجتاز هذه «العوائق الطبيعية» . في غياب التفكير النقدي تتدفق المغالطات تدفقًا تلقائيًّا طبيعيًّا غيرَ موقوفةٍ وغير مُعترَضة unopposed، ومن ثم فإن أكثر المغالطات شيوعًا هي تلك المغالطات المبيَّتة في بنية الدماغ البشري نفسه: الأنالوجي الزائف، والتعميم المتسرع، والتشييء، والبروكروستية، ومن أكثر المغالطات شيوعًا بصفةٍ خاصة تلك الطرائق من التفكير التي خدمت الجنسَ البشري في مراحله الأولى، وأعانته على البقاء حين كان الرهان الإدراكي والتفسيري باهظًا: مغالطة المنشأ، والأنسنة (تشبيه اللاإنساني بالإنساني)، والاحتكام إلى التقاليد.

• الأصل في التدليل على الحجة هو رد ما هو غير مقبول إلى ما هو مألوف

إلى أي مدى يكون هناك نجاح في الوصول إلى أصل مقبول أو مألوف لجميع الناس؟

- كثيرًا ما تكون المماحكة في الجدل ميسورةً حتى في أكثر الأفكار خطلًا وبُعدًا عن العقل، وقد أوضح كارل بوبر أن تجنب التفنيد هو أمر ميسور دائمًا، وأفاض في تبيان آليات ذلك، غير أن من البين المتواتر أيضًا أنه كلما توافر للناس حججٌ أكثر قبولًا وصلابة ازداد بُعدهم عن الحجج المغالطة. إن الوقائع facts الصلبة قائمة مشهودة قلما يختلف عليها الناس، وقوانين الفكر الثلاثة (الهوية، عدم التناقض، الثالث المرفوع) وقوانين المنطق الصوري بصفة عامة هي شيء عمومي لا خلاف عليه، من الممكن في أغلب الأحوال أن ننصرف عن الشيء الذي نختلف حوله إلى شيءٍ آخر لا نختلف حوله، ونحاول أن نستدل منه على ذلك الشيء، على أن نعترف في النهاية بأن من الناس من يعتصم في جدله بدرجةٍ من التنَطُّع والمماحكة يستحيل معها أي نقاشٍ مُنتِج.

ص: 280

• أجرينا استبيانًا على عينة من المثقفين حول قضية «الدولة الدينية والدولة العلمانية» ، وجاءت أكثر المغالطات ظهورًا في العينة مغالطة «تجاهل المطلوب» تليها «المصادرة على المطلوب»

ما دلالة ذلك من وجهة نظرك؟

- مغالطة «تجاهل المطلوب» ignoratio elenchi مغالطةٌ جذابة حقًّا! لأن الحجة فيها منتِجة، غير أنها منتِجة لشيءٍ آخر غير الشيء المطلوب البرهنة عليه، الأهداف التي تسعَى إليها الدولة الدينية (وغير الدينية في حقيقة الأمر) هي أهدافٌ نبيلة مرجوة، ولكن السؤال الصعب حقًّا هو: هل البرنامج المحدد لهذه الدولة كفيلٌ ببلوغ هذه الأهداف؟ وهل هو أجدَى في بلوغ هذه الأهداف من غيره من البرامج الممكنة؟ إن التغافل عن هذا السؤال الأصلي وتغييبه في عمومياتٍ براقة وغايات كبرى، يجعلنا «نحيد عن المسألة» ونطيش عن المرمى، ونقع في مغالطة «تجاهل المطلوب» .

أما «المصادرة على المطلوب» begging the question فهي طريقة أثيرة لدى أصحاب الدعوات الكبرى. إن من السهل دائمًا أن يجرفنا انفعالنا الأيديولوجي ويقيننا المذهبي ويَعصبَ أعيننا عن رؤية أننا في حقيقة الأمر نفترض مقدمًا صدق ما نريد أن نبرهن عليه. ثمة فرق كبير بين السبب الذي يجعلك تعتقد شيئًا ratio credentis وبين السبب الذي يجعل هذا الشيء حقًّا أو صوابًا ratio veritatis.

• في إحدى فقرات الكتاب تقول «وفي محاورة فايدروس يُبيِّن سقراط حجة معينة باختراع أسطورة صغيرة عن القدماء المصريين، فيرد عليه فايدروس بقوله إن بوسع سقراط أن يخترع قصصًا عن المصريين القدماء أو عن أي مكان يشاء، عندئذٍ يرد سقراط باختراع أسطورة أخرى

» إن كان فايدروس قد وقع في مغالطة المنشأ

أفلا يعتبر الاعتماد على أساطير في تبرير الحجة مثلما فعل أفلاطون مغالطة منطقية؟

- لا، ولو قلنا ذلك لوقعنا نحن في «مغالطة المنشأ» ، إن للحق أو الصدق معايير ليس من بينها منشأ القضية، هب أن مجنونًا قال لك إن 2 + 2 = 4 فهل تَعُد جنونَه دليلًا على خطأ العبارة؟! والحقيقة أننا نظلم الميثولوجيا كثيرًا لو فهمناها بهذه الطريقة وأخذناها هذا المأخذ، إنما الأسطورةُ استعارةٌ كبيرة! وينبغي أن نفهمها فهمًا مجازيًّا استعاريًّا، وقد سبق لي أن تناولت هذه القضية في كتابي «فهم الفهم» وتساءلتُ: ما الذي يخاطبنا في الأسطورة ومن خلالها؟ ليست الأسطورة وهمًا او كذبةً أو خرافة، إنها حقيقةٌ كبرى نضجت على مهلٍ في ضمير الأجيال كما ينضج اللؤلؤ في ضمير الصَّدف، فاكتسبت قوامًا واتخذت شكلًا وصارت مشهدًا حيًّا يملأ علينا مسارح الوجدان ويأخذ بمجامع الوعي، ويوقظ فينا شيئًا هاجعًا ما كنا لِنذكرَه، وما كنا لننساه.

ص: 281

• في فقرة أخرى خاصة بمغالطة الحجة الشخصية

ذكرت أن «بيكون» أثناء مثوله أمام القضاء لم يدافع عن نفسه بقوله إنه ليس الأول والأخير الذي يقبل هدايا من الطرفين المتنازعين

لكن قال في نهاية دفاعه «ولكن أناشد سيادتكم وحسب أن تأخذكم الرأفة ببوصة منكسرة.» ألم يقع «بيكون» بقوله هنا في مغالطة مناشدة الشفقة؟

- نعم لو أنه أراد بذلك إثبات أي شيء، إنه يقول صراحة:«لا أُبرئ نفسي، إنني لأعترف بأنني مذنب وأرفض كلَّ الدفوع.» الشفقة ليست من جنس الحجة، والشفقة هنا تجول على مستوى مختلف عن مستوى الحجة، فرنسيس بيكون عقل كبير، وهو هنا لا يريد من شيخوخته وضعفه إلا أن يكونا بمثابة ظرفٍ خاص يُراعَى من أجل «تخفيف المسئولية» diminishing responsibility بمصطلح أهل القانون.

• هل هناك ترافق في حدوث بعض المغالطات

مثل مغالطة إغفال المقيدات وسرير بروكرست، التركيب والتقسيم والتعميم المتسرع؟

- لقد وضعت يدك هنا على خاصةٍ أساسية في المغالطات المنطقية، فالحقيقة أن المغالطات جميعًا متداخلة متشابكة، بل متبادلة «متعاوضة» interchangeable في أحيان كثيرة، في كل مغالطةٍ شيءٌ من المغالطات الأخرى! ولا نَنْسَ أن المنطق غير الصوري مبحثٌ حديث ما زال في طور التكوين، وربما يشهد في المستقبل كثيرًا من الصقل والتحسين والتطوير. هناك خلافات كثيرة بين روَّاد هذا المبحث في مسائل كثيرة: هناك مغالطات صورية بحتة (مثل «إثبات التالي» و «إنكار المقدَّم») وهناك مغالطات ليس حجةً أصلًا حتى تكون مغالطة (مثل الاحتكام إلى القوة مثلًا)، إلى غير ذلك من الاشتباهات والالتباسات، غير أن هذا لا ينفي أهمية مبحث المغالطات - حتى في صورته الراهنة الناقصة - في تنبيهنا إلى طرائق خاطئة من التفكير، وحثنا على تجنبِها.

• أحيانًا قد يتضمن تبرير حجة ما تناقضًا في مضمونه

ألَا يُعتَبر الوقوع في التناقض مغالطة منطقية؟

- الوقوع في التناقض خطأ في جميع الأحوال، و «قانون التناقض» law of contradiction (أو عدم التناقض في حقيقة الأمر) من قوانين الفكر الأرسطية الثلاثة، وهي من أسس المنطق الصوري، ولا نَنْسَ أن المنطق الصوري عمومي، وأنه هو المعيار النهائي حتى في مجال المنطق غير الصوري، فنحن في مجال المغالطات المنطقية يكون عملنا أشبه ب «أخذ صورة أشعة» x-raying للحجة المطروحة، تُصوِّر هيكلها الصوري

ص: 282

المطمور، لكي نُقدِّر نصيبَه من الصواب والخطأ وفقًا للمعيار المنطقي الصوري العتيد: صدق المقدمات وصواب الاستدلال.

• هل يمكن اعتبار مغالطة الاحتكام إلى السلطة جزءًا من مغالطة المنشأ؟

- التداخل واردٌ جدًّا في حالات كثيرة، قد يكون الاحتكام إلى سلطة احتكامًا إلى مصدرٍ أُجِلُّه وأحبه وأثق فيه، والعكس أيضًا قد يصح في أحوال كثيرة، فقد أعتبر مصدر الفكرة سلطة قيِّمةً على الأمر المعنيِّ وأبصر مني بأصوله وفروعه.

• متى يمكن اعتبار مناشدة الشفقة جزءًا من الحجة وليس مغالطة منطقية؟

- حين يكون انفعالُ العطف هو نفسه موضوع الحجة، أو حين يكون سببًا ذا صلة بقبول النتيجة: هذا طالبٌ أصيب وهو في طريقه للامتحان إصابةً بليغة، إن من حقه «إذن» أن يُمتحَن لاحقًا وأن يُحتفَظ له بالتقدير، بل أن أُيَسِّر عليه بعض التيسير ما دمت مقتنعًا بمُصابه مقدِّرًا لظروفه مدرِكًا لأثر الإصابة على استعداده وعلى أدائه.

• ما هو الخط الفاصل بين استقراء الواقع والخروج من ذلك بنتائج والوقوع في مغالطة المنحدر الزلق؟

- توجيه الاتهام بمغالطة «المنحدَر الزلق» يستلزم أولًا استقراء الواقع بيقظةٍ ودقة، والتيقن من أن الكوارث المتوقعة بعيدةُ الاحتمال، وأن من الممكن التوقف ببساطة عند نقطةٍ ما على ذلك المنحدر. إذا كان استقراء الواقع يُنبئ فعلًا بحدوث العواقب المذكورة في الحجة فلا مغالطة في الأمر، أما إذا كانت سلسلة الأحداث المنتهية بكارثة هي مجرد مبالغة وتنطُّع ووسواس لا وجود له إلا في عقل صاحبه فهي مغالطة «المنحدر الزلق» أو «أنف الجَمَل» ، الخط هنا خط تقديري يتوقف على الحالة المذكورة.

• كيف يمكن الحيد بأفراد المجتمع عن الوقوع في المغالطات المنطقية؟ وهل ترى كيفية معينة من خلالها يمكن التوعية بمبادئ المنطق غير الصوري؟

- دراسة المغالطات المنطقية ينبغي أن تكون جزءًا من التعليم الأساسي، وجزءًا من برامجنا الثقافية، وحتى الترفيهية، على جميع الوسائط؛ وينبغي أن نجندَ لها كل المرافق التربوية وكل المنابر الإعلامية. الفراغُ الفلسفي والمنطقي هو أفتَكُ ضروبِ الفراغ؛ لأن الدماغ البشري يبغض الفراغ، ويبحث عما يملؤه، وفي غياب المناخ التنويري الصحي فإن «الخرافة» هي أسرع ما يملأ هذا الفراغ، العقولُ الفارغةُ الكسولة الموقوفة النمو، ربيبة عقودِ الفساد والتجهيل المنظم، تستمرئُ الخرافة وتستزيدها؛ لأنها تقدِّم لها أجوبةً سهلةً على الأسئلة الصعبة، ولا تُجشِّمها جهدًا يُذكر لاستيعاب هذه الأجوبة، ها هو

ص: 283

خبزنا اليومي: مصادراتٌ صفيقةٌ على المطلوب، تفكير دائري يفسر الماء بالماء، احتكام إلى سلطةٍ مزعومة سرقت صولجان السلطة في غفلةٍ من الزمن، احتكام إلى الأغلبية ولو كانت الأغلبية غُثاءً كغثاء السيل، هجوم شخصي رقيعٌ يؤذي الشخص ولا يَمَس حجتَه، تحويل المخالِفين إلى دُمى من القش، تَلَفُّعٌ بالرايات واحتماء بالقطيع وانضمام إلى الزفة، تلويح بالعصا (أفشل أداةٍ للإقناع وأفشل مفتاح للعقل والقلب) تَمَحُّل أمثلةٍ مؤيدة وغض الطرف عن تلال الأمثلة المفندة، تلفيق البيانات وملأ الثغرات ولَيُّ أعناق النصوص وإكراهها على البغاء!

لقد أصبحت تربية التفكير النقدي ضرورة بقاء لنا جميعًا؛ لأن الجهل الذي عشَّش في دارنا عقودًا وباض وأفرخَ وطاب له المُقام لن يتركنا بسهولة ولن يفارقنا طوعًا، وها هو التفكير البدائي الضيق يهز قاربنا بعنفٍ ويهدد وحدتَنا ويوشك أن يُودي بالجميع، الأمن الحقيقي في مثل هذه القلاقل الناجمة عن عللٍ «عقلية» غائرة إنما هو أمنٌ «عقلي» بالدرجة الأساس، أمنٌ فلسفي، أمنٌ منطقي!

ص: 284