المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ترجمة الفيروزآبادي ‌ ‌حياته ‌ ‌نسبه ونسبته: هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم - المغانم المطابة في معالم طابة - جـ ١

[الفيروزآبادي]

فهرس الكتاب

‌ترجمة الفيروزآبادي

‌حياته

‌نسبه ونسبته:

هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر

(1)

الفيروزابادي الشيرازي اللغوي الشافعي. يكنى أبا طاهر، ويلقب بالمجد، وينسب إلى فيروزآباد

(2)

.

(3)

.

ولادته:

ولد المؤلف في مدينة (كارزين)

(4)

في بلاد فارس، وهي مدينة صغيرة

غير مشهورة تقع جنوبي شيراز وتبعد عنها قرابة (150 كم)

(5)

.

(1)

العقد الثمين 2/ 392، طبقات ابن قاضي شهبة 4/ 79، إنباء الغمر 3/ 47، الضوء اللامع 10/ 79، بغية الوعاة 1/ 273، البدر الطالع 2/ 280، الشذرات 7/ 126، روضات الجنات 8/ 101، ري الصادي 4.

(2)

بكسر الفاء أو فتحها، ثم السكون، وبعد الراء واو، ثم زاي، فألف موحدة، وآخره ذال معجمة. معجم البلدان 2/ 181، القاموس (فرز) وهي بلد بفارس قرب شيراز.

(3)

قال ابن حجر: " كان يرفع نسبه إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي صاحب (التنبيه)، ويذكر أن بعد عمر:" أبا بكر أحمد بن أحمد بن فضل الله بن الشيخ ابي إسحاق" ولم أزل أسمع مشاهير مشايخنا يطعنون في ذلك مستندين إلى أن الشيخ أبا إسحاق لم يعقب""بل لم يتزوج فضلاً عن أن يعقب". إنباء الغمر 3/ 47.

وقال في موضع آخر: ثم ارتقى الشيخ مجد الدين درجة، فادعى بعد أن وَليَ قضاء اليمن بمدة طويلة أنه من ذرية أبي بكر الصديق، ولم يكن مدفوعاً عن معرفة إلا أن النفس تأبى قبول ذلك. السابق 3/ 49.

(4)

القاموس (كرز) ص 522. وكارزين بفتح الراء وكسر الزاي وياء ثم نون. معجم البلدان 4/ 428.

(5)

معجم البلدان 4/ 428، مقدمة الشيخ حمد الجاسر للمغانم ص (ل).

ص: 1

وقد وهم بعض المؤلفين القدامى

(1)

فذكروا أنه ولد في مدينة كازرون

(2)

وهي مدينة أخرى. وذكر بعضهم أن اسمها (كارزيات)

(3)

.

وذكر تلميذه الفاسي أنه ولد بشيراز

(4)

.

‌وفاته:

توفي رحمه الله ليلة الثلاثاء، العشرين من شهر شوال سنة 817 هـ

(5)

، وخالف بعضهم

(6)

في العام فذكر أنه توفي في سنة 816 هـ

(7)

وتردد بعض آخر بين العامين المذكورين السادس والسابع عشر

(8)

.

وكان يرجو وفاته بمكة فما قدر له ذلك، و توفي

(9)

بزبيد - وهو قاضيها

(10)

- وأغلقت البلد بموته

(11)

، ودفن

(12)

فيها بمقبرة الشيخ إسماعيل

(1)

الضوء اللامع 10/ 79، البدر 2/ 280، روضات الجنات 8/ 101، بغية الوعاة ص 117، الشذرات 7/ 126.

(2)

كازرون بتقديم الزاي وآخره نون: مدينة بفارس (إيران)، تقع شمال غرب شيراز وتبعد عنها (200) كم تقريباً. معجم البلدان 4/ 429، أطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس ص 227.

(3)

وذكر ياقوت قولاً آخر (كارزيات) ثم قال: وما أظنها إلا (كارزين) أو يكون فيها لغتان. معجم البلدان 4/ 429.

(4)

العقد الثمين 2/ 392.

(5)

العقد 2/ 400، إنباء الغمر 3/ 50، الضوء 10/ 86، طبقات المفسرين 2/ 279، لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ ص 256، الشذرات 7/ 131، روضات الجنات 8/ 104، ري الصادي ص 22، تاريخ الأدب للعزاوي 1/ 51.

(6)

في حاشية الأعلام" .. العقيق اليماني -خ- وفيه:" وفاته في شوال 819 هـ (8/ 19).

(7)

بغية الوعاة ص 118، الزهر 2/ 468.

(8)

ري الصادي ص 22، معجم المطبوعات ص 1470.

(9)

الضوء 10/ 86، لحظ الألحاظ 256، الشذرات 7/ 130 - 131.

(10)

معجم المطبوعات ص 1470.

(11)

ري الصادي ص 22.

(12)

العقد 2/ 400، ري الصادي ص 22.

ص: 2

الجبرتي

(1)

، بـ (باب سهام).

وكانت وفاته عن عمر يبلغ الثمانية والثمانين، ومات- وهو متمتع بحواسه بصراً وسمعاً، بحيث إنه قرأ خطاً دقيقاً قبيل موته بيسير

(2)

.

وقد عقب اثنين من الولد، أولهما ابن اسمه عبدالرحيم محمد وهو ناسخ نسخة (الغرر المثلثة والدرر المبثثة)

(3)

الموجودة في مكتبة حسن حسني عبدالوهاب وقد كتب له وصية وجدتها في آخر كتابه (المرقاة الوفية .. )

(4)

يقول في أولها: "أوصيك ياولدي ببذل الجهد في صرف الأوقات في أفضل العبادات وأجل الطاعات، وقد اختلف العلماء في ذلك فقالت طائفة: أفضلها أصعبها وأشقها متمسكين بحديث لا أصل له أفضل العبادات .. إلخ".

ويقول في آخرها:" فإذا فهمت حقك فاعلم أن الأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله - تعالى- في ذلك الوقت والحال. والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه فكن من أهل التعبد المطلق لا من أهل التعبد المقيَّد تكن من المفلحين- إن شاء الله تعالى- والموفق هو الله سبحانه".

وثانيهما: ابنة له زوجها الأشرف إسماعيل صاحب اليمن.

‌رحلاته وشيوخه:

بدأ الفيروزابادي حياته العلمية في كارزين مسقط رأسه على يد والده يعقوب

(5)

الذي لم أعثر له على ترجمة وافية، سوى أنه كان من علماء شيراز في اللغة والأدب وتوفي سنة 740 هـ.

(1)

إنباء الغمر 3/ 50، بغية الوعاة ص 118، معجم المطبوعات ص 1470.

(2)

العقد 2/ 400.

(3)

فهرس مكتبة حسن حسني عبدالوهاب ص 148.

(4)

نسخة مكتبة رسول بالآستانة تحت رقم: 672، وهي صحيفة واحدة.

(5)

الضوء اللامع 1/ 79، طبقات المفسرين 2/ 274، البدر 2/ 280.

ص: 3

ثم انتقل مع أسرته إلى شيراز حيث أخذ العلم عن:

1 -

عبدالله بن محمد بن النجم القوام

(1)

.

2 -

محمد بن يوسف بن الحسن الأنصاري الزرندي المدني الحنفي، شمس الدين (693 - 747 هـ)

(2)

، وقرأ عليه صحيح البخاري، وجامع الترمذي درساً بعد درس في شهور سنة (745 هـ)

(3)

كما قرأ عليه المشارق للصاغاني

(4)

.

كما التقى بغيرهم من علماء شيراز.

- العراق (745 - 755 هـ):

مكث في شيراز ثماني سنين ثم رحل عنها طلباً لمزيد من العلم والعلماء إلى بلاد الرافدين في سنة 745 هـ ويدخل واسط ثم بغداد.

والتقى في واسط بالشيخ شهاب الدين أحمد بن علي الديواني

(5)

فتلقى عنه القراءات العشر.

ومن ثم رحل إلى بغداد، وأخذ عن بعض مشايخها، ومن هؤلاء جماعة من أصحاب الشيخ رشيد الدين محمد بن أبي القاسم السلامي الحنبلي المتصوف، شيخ المستنصرية (623 - 707 هـ)

(6)

فكان ممن لقيهم:

1) إبراهيم بن محمد بن محمد

(7)

التفتازاني، وسمع عليه صحيح البخاري.

(1)

الضوء اللامع 10/ 79، طبقات المفسرين 2/ 274، البدر 2/ 280.

(2)

ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 392 - 296.

(3)

العقد الثمين 2/ 392، الضوء 10/ 79، البدر 2/ 280.

(4)

ري الصادي ص 7.

(5)

لم أعثر على ترجمته في المراجع التي بين يدي.

(6)

ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 2/ 353 - 354، والدرر الكامنة 2/ 202، الشذرات 6/ 15 - 16.

(7)

ترجمته في الدرر الكامنة 1/ 66 - 67 وفيه: ولد بعد السبعمائة، ومات بعد الستين.

ص: 4

2) الشيخ شرف الدين عبدالله بن بكتاش

(1)

التستري، قاضي بغداد، ومدرس النظامية، وقد سمع منه كتاب (بحر الفناوي في نشر الفتاوي- من تأليفه- وعمل المصنف معيداً عنده في المدرسة النظامية

(2)

.

3) علي بن أبي اليمن تاج الدين محمد بن السباك الحنفي مدرس المستنصرية (661 - 747 هـ) وقرأ عليه المشارق للصاغاني

(3)

.

4) الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن عمر القزويني الحافظ الكبير محدث العراق (683 - 750 هـ)

(4)

، قال ابن حجر:" روى عنه جماعة من آخرهم شيخنا مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي، صاحب القاموس

(5)

" إذ سمع عليه الصحيح

(6)

، وقرأ عليه قطعة من أول المشارق، وتناول جميعها

(7)

، وروى عنه كتاب الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى الحنبلي (ت 458 هـ)

(8)

.

5) الشيخ محمد بن الحسن بن يوسف المطهر الحلي، وسمع عليه كتاب المشارق للصاغاني

(9)

.

6) الشيخ محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن حماد

محي الدين الواسطي الأصل، البغدادي، المعروف بابن العاقولي

المتوفى سنة 768 هـ)

(10)

.

(1)

وفي ري الصادي: مكناس.

(2)

الضوء اللامع 10/ 80، الشذرات 2/ 126، ري الصادي ص 7.

(3)

طبقات المفسرين 2/ 274.

(4)

ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 180، تاريخ الأدب للعزاوي 1/ 51.

(5)

الدرر الكامنة 3/ 180.

(6)

الضوء اللامع 10/ 80، البدر 2/ 180.

(7)

ري الصادي ص 8.

(8)

الأحكام السلطانية ص 8

(9)

ري الصادي 7 - 8.

(10)

ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 483.

ص: 5

7) الشيخ محمد بن يوسف بن علي الكرماني، الملقب بشمس الدين (717 - 786 هـ)

(1)

. وقد كانت بينهما صحبة، وترافقا في بعض الأسفار، واقترح عليه بعض الاقتراحات - فاستجاب لها المجد، قال التقي الكرماني:" ورد بغداد في حدود سنة 754 هـ

(2)

، واجتمع بوالدي وقرأ عليه، ورحل معه إلى الشام، ثم إلى مصر، وسمعا بالقاهرة الصحيح على الفارقي " وورد بغداد من مكة في حدود نيف وثمانين، واجتمع بوالدي - أيضاً- ثم ذهب إلى الهند

(3)

".

وكان المجد يجل الشمس الكرماني، ويأخذ بتوجيهاته ويفيد من تنبيهاته وملاحظاته ويستشيره فيما يؤلفه، فقد ألف في مكة القاموس المحيط مطولاً في مجلدات عديدة، ثم أمره الشمس الكرماني باختصاره، فاختصره في مجلد ضخم"

(4)

.

8) الشيخ نصر الله بن محمد الكتبي (733 - 812 هـ).

ومن كلام الكرماني السابق نعلم أنه دخل بغداد مرة ثانية فيما بين الثمانين والتسعين، وأظن ذلك كان حوالي سنة 787 هـ.

كما دخلها مرة ثالثة بعد حج سنة 792 هـ مع الركب العراقي الذي صحبه إثر رسالة جاءته من السلطان أحمد بن أويس صاحب العراق فقد استدعاه بكتاب كتبه إليه، وأثنى عليه ثناءً وافراً، ومن جملة كتابه:

القائل القول لو فاه الزمان به

كانت لياليه أياماً بلا ظلم

والفاعل الفعلة الغراء لو مزجت

بالنار لم يك مابالنار من حمم

وفيه بعد ذكر هدية إليه من مستدعيه:

ولو نطيق لنهدي الفرقدين لكم

والشمس والبدر والعيوق والفلكا

(1)

ترجمته في بغية الوعاة ص 120، الشذرات 6/ 294، الفتح المبين 3/ 202.

(2)

لعل الصواب أنه دخلها سنة 745 هـ كما في الضوء اللامع 10/ 79.

(3)

الضوء 10/ 83.

(4)

الضوء 10/ 83.

ص: 6

وما عرف خبره بالتفصيل مع السلطان القان أحمد

(1)

.

- الشام:

دخلها سنة 755 هـ ومكث فيها عدة سنوات.

وكان من أشهر هؤلاء العلماء الذين أفاد منهم:

1) أبو إسحاق إبراهيم

(2)

بن محمد بن يونس الدمشقي المعروف بابن القواس (677 - 761 هـ) وقد سمع عليه سنن أبي داود

(3)

.

2) الشيخ أحمد

(4)

بن عبدالرحمن

(5)

بن محمد بن عبدالله بن محمد المرداوي، الحنبلي، قاضي حماة (712 - 787 هـ) وسمع

(6)

منه المنتقى من أربعين عبدالخالق الشحامي

(7)

.

3) الإمام شهاب الدين أحمد بن أبي محمد بن مظفر النابلسي، (674 - 758 هـ)

(8)

وسمع منه معجم ابن جميع

(9)

.

4) عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن نصر الدمشقي، ثم الصالحي، الحنبلي، المروزي، العطار، أبو محمد، تقي الدين، المعروف بابن قيم الضيائية (669 - 761 هـ)

(10)

سمع منه، وقرأ عليه. فمما سمعه مشيخة الفخر بن

(1)

العقد الثمين 2/ 398، ري الصادي ص 9.

(2)

ترجمته في الدرر الكامنة 1/ 70 - 71 وفيه القواس بدلاً من ابن القواس.

(3)

الضوء 10/ 81.

(4)

ترجمته في الدرر الكامنة 1/ 168، الشذرات 6/ 295.

(5)

في العقد عبدالمؤمن.

(6)

العقد 2/ 392، الضوء 10/ 80، تاج العروس م ص 13.

(7)

العقد 7/ 392.

(8)

ترجمته في الدرر الكامنة 1/ 317 - 318.

(9)

العقد 2/ 392، الضوء 10/ 80، تاج العروس م ص 13.

(10)

ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 283.

ص: 7

البخاري، تخريج ابن الظاهري

(1)

عنه، ومما قرأه الترمذي

(2)

.

5) عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي أبو نصر، تاج الدين السبكي صاحب (طبقات الشافعية الكبرى)(727 - 771 هـ)

(3)

، وسمع

(4)

منه فيها.

6) علي بن عبدالكافي السبكي، تقي الدين، والد التاج، صاحب (الطبقات الكبرى) السابق ذكره (683 - 756 هـ)

(5)

وسمع منه فيها

(6)

.

7) عمر بن عثمان بن سالم بن خلف بن فضل المقدسي، الحنبلي، المؤدب، أبو حفص (678 - 760)

(7)

وسمع منه سنن أبي داود

(8)

.

8) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن سالم بن بركات بن سعد بن بركات المعروف بابن الخباز (667 - 756 هـ)

(9)

وأخذ عليه بعض صحيح مسلم قراءة وسماعاً

(10)

وجزء ابن عرفه، وعوالي مالك للخطيب

(11)

.

9) محمد بن إسماعيل بن عمر بن المسلم بن حسن عز الدين بن الحموي (680 - 757 هـ)

(12)

، وسمع منه، وقرأ عليه صحيح

(1)

العقد 2/ 392، تاج العروس م ص 13.

(2)

الضوء 10/ 80، البدر 2/ 280.

(3)

ترجمته في طبقات السبكي 1/ 4 - 35، الشذرات 6/ 221 - 222، النجوم الزاهرة 11/ 108.

(4)

تاج العروس م ص 13.

(5)

ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 10/ 139 - 338، الدرر الكامنة 3/ 63 - 71، طبقات المفسرين 1/ 412.

(6)

الضوء 10/ 80، طبقات المفسرين 2/ 274، البدر 2/ 280، ري الصادي ص 8.

(7)

ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 175.

(8)

الضوء 10/ 80 - 81.

(9)

ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 384 - 385.

(10)

الضوء 10/ 80، العقد 2/ 392، تاج العروس م ص 13.

(11)

العقد 2/ 392.

(12)

ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 389.

ص: 8

البخاري

(1)

والسنن للبيهقي بفوت

(2)

.

10) أبو عبدالله محمد بن جهبل ناصر الدين، وقد قرأ عليه صحيح مسلم في ثلاثة أيام

(3)

، وذكر ذلك في ثلاثة أبيات، فقال:

قرأت بحمد الله جامع مسلم

بجوف دمشق الشام جوفاً لإسلام

على ناصر الدين الإمام ابن جهبل

بحضرة حفاظ مشاهير أعلام

وتم بتوفيق الإله وفضله

قراءة ضبط في ثلاثة أيام

(4)

(5)

11) محمد السعودي، المعروف بالشمس، سمع عليه صحيح البخاري بقراءة الشهاب أبي محمود الحافظ

(6)

.

12) يحيى بن علي بن أبي الحسن مجلي بن أبي الفرج الصالحي ابن الحداد الحنفي (666 - 757 هـ)

(7)

سمع منه

(8)

الأربعين النووية، عن النووي سماعاً بدعواه، وما قبل ذلك منه

(9)

.

- القدس:

خرج من دمشق ميمماً شطر بيت المقدس قبل سنة 760 هـ، ولعل ذلك كان عام 756 هـ أو 757 هـ، والتقى هناك بكثير من العلماء، أخذوا عنه، وأخذ عنهم، وقد طالت أيام إقامته في القدس، فبلغت عشر سنين " ولي بها تداريس وتصادير، وحج منها إلى مكة المشرفة عدة مرات

وجاور ثم رجع إلى بيت

(1)

الضوء 10/ 80.

(2)

العقد 2/ 392.

(3)

الضوء 10/ 80، طبقات المفسرين 2/ 275، تاج العروس م ص 14.

(4)

تابع العروس م ص 14.

(5)

تاج العروس م ص 14.

(6)

الضوء 10/ 80.

(7)

ترجمته في الدرر الكامنة 4/ 422.

(8)

العقد 2/ 392، الضوء اللامع 10/ 80، تاج العروس م ص 13.

(9)

العقد 2/ 392.

ص: 9

المقدس، فأقام بها مدة يسيرة"

(1)

.

وأشهر من أخذ عنهم خلال هذه المدة:

1) إسماعيل بن علي بن الحسن بن سعيد بن صالح القلقشندي، ثم المصري، نزيل القدس، تقي الدين (702 - 778 هـ)

(2)

وقد سمع منه، وقرأ عليه بعض صحيح البخاري

(3)

.

2) خليل بن أيبك بن عبدالله الصفدي صلاح الدين (696 - 764 هـ)

(4)

صاحب التصانيف الكثيرة الممتعة، ومصنف (الوافي بالوفيات) يقول الفاسي:

" ولقي جمعاً كثيراً من الفضلاء، وأخذ عنهم، وأخذوا عنه، منهم الصلاح الصفدي"

(5)

.

3) الحافظ خليل بن كيكلدي بن عبدالله العلائي الدمشقي، أبو سعيد، صلاح الدين (694 - 761 هـ)

(6)

فقد قرأ عليه بعض صحيح البخاري

(7)

، والأول من مسلسلاته، وغير ذلك

(8)

.

4) محمد بن إبراهيم البياني الشاهد (686 - 766 هـ)

(9)

وقد قرأ عليه

(10)

(1)

ري الصادي ص 8.

(2)

ترجمته في الدرر الكامنة 1/ 370.

(3)

الضوء 10/ 80.

(4)

ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 10/ 5 - 32، والدرر الكامنة 2/ 87 - 88، الشذرات 6/ 200 - 201.

(5)

العقد 2/ 393.

(6)

ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 10/ 35 - 38، الدرر الكامنة 2/ 90، الشذرات 6/ 190.

(7)

الضوء 10/ 80، تاج العروس م ص 12.

(8)

العقد 2/ 393.

(9)

ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 295.

(10)

الضوء 10/ 80، تاج العروس م ص 13.

ص: 10

صحيح مسلم بالمسجد الأقصى في أربعة عشر مجلساً وسمع عليه الصحيحين، ويشك الفاسي في محل السماع أهو مصر أم غيرها

(1)

.

وخلال إقامته في القدس، كان يرتحل - أحياناً- لمدة قصيرة- إلى البلدان القريبة منه، فنراه تارة في غزة، وأخرى في الرملة وثالثة في حلب، ورابعة في حماة وخامسة في بعلبك، كما قد نراه أحياناً في مكة، أو في مصر.

وخلال هذه الرحلات القصيرة كان يلتقي ببعض العلماء يأخذ عنهم، ويفيد منهم

(2)

فكان ممن أخذ عنهم في حماة:

1) الشيخ أبو محمد

(3)

عبدالرحيم بن إبراهيم بن هبة الله بن البارزي الملقب بالنجم (708 - 764 هـ) فقد قرأ عليه بعض صحيح مسلم، وبعضه سماعاً

(4)

وقرأ جامع الترمذي

(5)

.

2) أبو حفص الزين

(6)

بن البارزي - أخو المتقدم.

3) وفي بعلبك أخذ عن عالمها ومحدثها الشيخ عبدالكريم بن عبدالكريم ابن أبي طالب البعلبكي، صفي الدين، أبوطالب (676 - 760 هـ)

(7)

، وقرأ عليه سنن ابن ماجه

(8)

.

- مصر:

دخل مصر أكثر من مرة والتقى بعدد كبير من علمائها وأساطينها كما التقى

(1)

العقد 2/ 393.

(2)

البدر 2/ 280.

(3)

ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 352.

(4)

الضوء 10/ 80.

(5)

الضوء 10/ 80.

(6)

الضوء 10/ 80.

(7)

ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 397، طبقات المفسرين 1/ 165 - 166.

(8)

الضوء 10/ 81، وانظر تاج العروس م ص 13.

ص: 11

بعدد آخر في زياراته لها- أثناء إقامته في القدس - وكان ممن لقيهم:

1) أحمد بن محمد بن الحسن الجزائري ابن المرصدي (ت 760 هـ)

(1)

وقد سمع

(2)

منه الجزء الثاني من مشيخة يوسف بن المبارك الخفاف.

2) عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي الشافعي، جمال الدين (704 - 772 هـ)

(3)

.

3) القاضي عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني، الحموي الأصل، الدمشقي المولد، ثم المصري، عزالدين، الحافظ (694 - 767 هـ)

(4)

وسمع منه

(5)

بعض صحيح مسلم، وقرأ بعضاً، وسمع منه

(6)

أربعينية التساعيات، وجزءه الكبير، ومنسكه الكبير، والبردة للبوصيري عنه.

4) عبدالله بن عبدالرحمن بهاء الدين بن عقيل القرشي، الهاشمي، إمام النحاة، وصاحب الشرح المشهور (694 - 769 هـ)

(7)

.

5) عبدالله بن يوسف بن احمد بن عبدالله بن يوسف، أبو محمد، الملقب، بجمال الدين، المعروف بابن هشام (708 - 761 هـ)

(8)

.

6) العز بن المظفر، وقرأ عليه سنن ابن ماجه

(9)

.

7) علي بن أحمد بن محمد بن صالح بن ندي العرض علاء الدين، المسند

(1)

ترجمته في الدرر الكامنة 1/ 262.

(2)

العقد الفريد 2/ 393، والضوء 10/ 80.

(3)

ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 354، بغية الوعاة ص 304، البدر 1/ 352.

(4)

ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 378، بغية الوعاة ص 225، الشذرات 6/ 208.

(5)

الضوء 10/ 80.

(6)

العقد 2/ 393، طبقات المفسرين 2/ 275، البدر 2/ 280، تاج العروس م ص 13.

(7)

ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 266، بغية الوعاة ص 284، البدر 1/ 386.

(8)

ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 308، النجوم الزاهرة 10/ 336، بغية الوعاة ص 293.

(9)

الضوء 10/ 81.

ص: 12

التاجر الدمشقي (677 - 764 هـ)

(1)

وقد سمع منه (كتاب الظهور لأبي عبيد، ومعجم ابن جميع، وبعض المسند لابن حنبل

(2)

.

8) محمد بن أبي القاسم بن إسماعيل الفارقي، ناصر الدين المحدث، قرأ

(3)

عليه صحيح البخاري بجامع الأزهر في رمضان سنة 755 هـ

(4)

وبعض صحيح مسلم

(5)

قراءة وسماعاً، وسمع

(6)

عليه رباعيات الترمذي، وكتاب المنتقى الكبير من الغيلانيات وسمع

(7)

عليه وعلى القلانسي ثلاثيات المعجم الصغير للطبراني، وغير ذلك.

9) محمد بن محمد بن أبي القاسم بن جميل الربعي، التونسي، ثم المصري، ناصر الدين، المالكي (681 - 763 هـ)

(8)

.

- الحجاز (مكة):

تردد على مكة أثناء إقامته في القدس، ولعل أول دخوله مكة كان قبل عام 760 هـ

(9)

حيث رجع، وعاد إلى بيت المقدس، ليعود إليها مرة أخرى سنة 770 هـ فيقيم بها خمس سنين أو ست (الشك من تلميذه الفاسي)

(10)

أي إلى سنة 775 أو 776 هـ. يرحل بعدها إلى أمكنة غير محددة، وفي هذه الفترة ألف

(1)

ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 20.

(2)

العقد 2/ 393.

(3)

الضوء 10/ 80.

(4)

الضوء 10/ 80.

(5)

إن صح هذا فإنه يكون قد دخل مصر قبل دخوله القدس.

(6)

العقد 2/ 393.

(7)

العقد 2/ 393.

(8)

ترجمته في الدرر الكامنة 4/ 246 - 247، الأعلام 7/ 277.

(9)

انظر العقد 2/ 398.

(10)

انظر العقد 2/ 398.

ص: 13

كتاب (الغرر المثلثة والدرر المبثثة) فقد ذكر في نهاية القسم الأول (المثلث المتفق المعنى): " كان الفراغ من إتمام الكتاب ضحوة نهار الثلاثاء، سابع عشر جمادى الأولى، سنة 771 من الهجرة النبوية، وكان ذلك في المسجد الحرام تجاه الكعبة المعظمة" ص 354. ويقول في نهاية الكتاب:

" كان الفراغ من إتمامه ضحوة نهار الثلاثاء حادي عشر ذي القعدة لسنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بمنزلي برباط السدرة بمكة المشرفة" ص 540.

ويعود إلى مكة - تقديراً- سنة 777 هـ فيجاور بها عشر سنين

(1)

، يخرج بعدها إلى الهند ممضياً هناك خمس سنين، يعود في نهايتها إلى مكة سنة 792 هـ ويخرج منها في السنة نفسها إلى الطائف، ليدخلها مع الركب العراقي الذي يحمل إليه رسالة من السلطان أحمد بن أويس

(2)

- يدخل مع الركب حاجاً، ليصحبهم إلى العراق

(3)

.

ويعود إلى مكة مرة أخرى سنة 802 هـ حاجاً من اليمن بعد أن استأذن من السلطان الأشرف إسماعيل فأذن له، فيحج ويجاور فيها بقية العام، وشيئاً من أول السنة التالية.

وقد جعل داره التي أنشأها على الصفا مدرسة يقوم بتموينها ودفع نفقاتها الملك الأشرف، وقدّر بها طلبة، وثلاثة مدرسين للحديث والفقه الشافعي والفقه المالكي.

ويزور المدينة النبوية - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- وينشئ سنة 803 هـ فيها مدرسة على غرار مدرسة مكة، ويشتري حديقتين بظاهرها، يوقفهما عليها

(4)

.

(1)

انظر الضوء 10/ 83 وفيه " ثم جاور بمكة عشر سنين أو أكثر وصنف بها تصانيف منها شرح البخاري".

(2)

العقد 2/ 398.

(3)

ري الصادي ص 14.

(4)

ري الصادي ص 14 - 15.

ص: 14

ثم يعود إلى مكة قاصداً اليمن، وفي طريقه إليها يصله نعي الأشرف إسماعيل، ويستمر مع الناصر - بعد أبيه- كما كان مع أبيه، ويقيم في اليمن حتى السنة الخامسة بعد الثمانمائة، وفيها يستأذن للسفر إلى مكة، فيدخلها في رمضان، ويسافر في بقيتها إلى الطائف قبل الحج. ويحج هذه السنة ويقضي السنة السادسة بين مكة والطائف، ويحج تلك السنة- أيضاً- ثم يسافر إلى المدينة مع الحاج لتقرير ماكان اشتراه بها، فإنه نوزع فيه، ثم يمم وجهته لليمن ماراً بمكة

(1)

.

وتشاء إرادة الله أن تكون هذه الزيارة خاتمة زياراته لبيت الله الحرام، ويدهمه المنون - وهو على أحرّ من الجمر شوقاً إلى مكة، وتطلعاً إلى بيته الحرام، فقد كان يتمنى أن يموت بمكة، كما سبق بيان ذلك

(2)

.

ومن خلال ماتقدم نستطيع أن نتبين أنه أقام عدة سنوات في جوار بيت الله، مقتدياً في ذلك ببعض علماء اللغة الذين سبقوه إلى هذا العمل، مثل جار الله الزمخشري (467 - 538 هـ)، والحسن بن محمد الصغاني (577 - 650 هـ).

وكان يحبُّ الانتساب إلى مكة، ويكتب عن نفسه: الملتجئ إلى حرم الله - تعالى - مقتدياً بالرضي الصغاني

(3)

.

وخلال إقامته المتقطعة في مكة أخذ عن مشايخها، ومن أشهر من أخذ عنه:

1) بكر بن خليل المالكي

(4)

.

2) خليل بن عبدالرحمن بن محمد القسطلاني المكي المالكي، إمام المالكية بالحرم الشريف (688 - 760 هـ)

(5)

.

(1)

ري الصادي ص 15.

(2)

ري الصادي ص 28.

(3)

العقد الثمين 2/ 399. وانظر الورقة الأخيرة من كتابه " الغرر المثلثة" فقد قال فيه: "

وأنا الفقير الحقير الملتجئ إلى حرم الله العظيم

".

(4)

تاج العروس ص 13.

(5)

ترجمته في العقد 4/ 324 - 328، وانظر في سماعه العقد 2/ 393، والضوء 10/ 80.

ص: 15

3) عبدالله بن أسعد بن علي اليافعي، اليمني، نزيل مكة، وشيخ الحرم، الملقب عفيف الدين، ويكنى بأبي السيادة (696 - 768 هـ)

(1)

.

4) محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالمعطي بن مكي بن طراد الأنصاري الخزرجي، المكي، جمال الدين (702 - 776 هـ)

(2)

.. وسمع عليه صحيح

(3)

مسلم كله بالمسجد الحرام تجاه الكعبة.

5) محمد بن أحمد بن قاسم بن عبدالرحمن بن أبي بكر العمري قاضي مكة، وخطيبها تقي الدين الحرازي الشافعي، يكنى أبا اليمن (706 - 765 هـ)

(4)

.

6) نور الدين القسطلاني، وقرأ عليه الموطأ، رواية يحيى بن يحيى

(5)

وسمع على آخرين غيرهم.

- اليمن:

وصل إلى عدن في ربيع الأول سنة 796 هـ، وأقام بها مدة، حتى " علم به ملك اليمن الأشرف إسماعيل بن الأفضل فاستدعاه إلى مدينته " تعز" وكتب إلى ناظر عدن يومئذ أن يجهزه بألف دينار، فجهزه بها، وطلع إلى (تعز) فوصلها في اليوم الرابع والعشرين من رمضان. فأكرمه السلطان، وأنزله منزلة تليق بحاله، وحمل إليه للفور أربعة آلاف درهم ضيافة له"

(6)

.

وأقبل عليه السلطان فأكرم مثواه.

وبعد أن أقام أربعة عشر شهراً في تعز، عينه السلطان على القضاء الأكبر في

(1)

ترجمته في العقد 5/ 104، طبقات الشافعية الكبرى 10/ 33، طبقات الإسنوي 2/ 579.

(2)

ترجمته في الدرر الكامنة 3/ 328.

(3)

الضوء 10/ 80.

(4)

ترجمته في العقد 1/ 367 - 368، وانظر في سماعه العقد 2/ 393، الضوء 10/ 80.

(5)

الضوء 10/ 80.

(6)

العقود اللؤلؤية 2/ 264.

ص: 16

أقطار المماليك اليمنية في اليوم السادس من ذي الحجة سنة 797 هـ

(1)

فقد كان هذا المنصب شاغراً منذ وفاة القاضي جمال الدين بن محمد بن عبدالله الريمي سنة 792 هـ وكتب له منشوراً بذلك، بلغ إلى أقطار الممالك اليمنية، وبعد هذا التعيين يغادر تعز ليقوم بعمله الجديد.

وبالغ السلطان في إكرامه، وتزوج ابنته، وتمسك به حباً له وتقديراً، حتى أودىبه هذا الحب أن يحول بينه وبين بعض مايشتهي، فقد طلب المجد من السلطان أن يأذن له بالحج سنة 799 هـ في رسالة كتبها إليه. فأجابه السلطان بعبارات تظهر شدة تعلقه به وحرصه على بقائه في اليمن وكان مما قاله: «أن هذا شيء لاينطق به لساني، ولايجري به قلمي، فقد كانت اليمن عمياء فاستنارت، فكيف يمكن أن تتقدم

(2)

-وأنت تعلم- أن الله تعالى- قد أحيا بك ما كان ميتاً من العلم، فبالله عليك إلا ما وهبت لنا بقية هذا العمر، والله- يامجد الدين- يميناً بارةً، إني أرى فراق الدنيا ونعيمها، ولافراقك أنت اليمن وأهله».

واستجاب المجد لطلب الملك، وفي سنة 802 هـ أعاد الكرة بطلب الإذن للحج، فإذن له السلطان فحج تلك السنة، وجاور بمكة بقيتها، وشيئاً من أول السنة التي تليها، وجعل داره التي أنشأها على الصفا مدرسة للملك الأشرف، كما زار المدينة، وأنشأ بها مدرسة كتلك التي في مكة، ثم قرر العودة إلى اليمن ماراً بمكة وفي طريقه إليها علم بموت الملك الأشرف، وتَقَلُّد أزمّة الحكم بعده ابنه الناصر، فلازمه المجد وسار معه كما سار مع أبيه ويخلص له الود كما أخلص لأبيه، فنراه يؤلف كتاب " الأحاديث الضعيفة" ليريحه من البحث والتنقيب عنها في كتب الحديث.

(1)

انظر العقود 2/ 278.

(2)

كذا، ولعل المراد: أن تتقدم بالإذن.

ص: 17

وفي سنة (805 هـ) حج مرة أخرى، ومكث بعد إنهاء حجه، بين مكة والطائف، حتى وافاه حج سنة (806 هـ) فحج من الطائف، ثم توجه إلى المدينة، ثم عاد إلى اليمن ماراً بمكة، آخذاً في طريقه طريق السراة، وأقام " بالحلف" و" الحليف"

(1)

تسعة أشهر، واصل بعدها سفره إلى "زبيد".

واستقر به- هذه المرة- المقام في اليمن، يرى مرة في زبيد، وتارة في تعز، حيث فوّض التدريس في بعض المدارس فيها كالمدرسة المؤيدية والمدرسة المجاهدية وغير ذلك.

ورغم كثرة أسفاره، ظل محتفظاً بمنصب رئيس قضاة اليمن، حتى لقد كانت الكتب والرسائل توقّع بتوقيعه نيابة عنه، وكان ينوب عنه في القضاء القاضي جمال الدين محمد بن أحمد المقري

(2)

، في أوائل دولة الناصر.

" وكانت مدة ولايته قضاء القضاة باليمن عن الملك الأشرف إسماعيل ابن الأفضل وعن ولده الملك الناصر عشرين سنة"

(3)

.

وأكرمه السلطان الأشرف وابنه السلطان الناصر، لعلمه، وفضله، حتى إنه صنّف للأشرف كتاباً، وأهداه له، على أطباق، فملأها له دراهم، وصنّف للناصر كتابي " تسهيل الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول" و" الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد" في أربعة أسفار

(4)

.

هذا ماذكره ابن حجر، على حين يذكر الخزرجي في " العقود اللؤلؤية":" أن المجد أفرغ كتابه المسمى بـ " الإصعاد" في اليوم الخامس عشر من شعبان سنة (800 هـ) وحمل إلى باب السلطان مرفوعاً بالطبول والمغاني، وحضر سائر الفقهاء

(1)

لم أجد تحديداً لهذا الموضع، والله أعلم.

(2)

لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع، والله أعلم.

(3)

ري الصادي ص 18 ..

(4)

إنباء الغمر 3/ 48.

ص: 18

والقضاة، والطلبة، وساروا أمام الكتاب، إلى باب السلطان- وكان الكتاب ثلاثة مجلدات- يحمله ثلاثة رجال على رؤوسهم، فلما دخل على السلطان، وتصفحه أجاز مصنفه المذكور بثلاثة آلاف دينار"

(1)

.

ومن ظاهر هذا النص نستطيع أن نقول:" إن المصنف أهدى مؤلفه (الإصعاد) إلى السلطان الأشرف، لا إلى السلطان الناصر، كما ذكر ابن حجر.

ولم يقتصر الإكرام على السلطان وابنه، بل أكرمه وأحبه الناس جميعاً، كما حظي بتقدير ومحبة العلماء والقضاة، والفقهاء وطلاب العلم، لما يجدونه عنده من علم جمّ يفيض عليهم من سحابته .. فقد قصده الطلبة، والعلماء، والقضاة، والفقهاء، يأخذون منه " ففي أول يوم من رجب سنة (801 هـ) اجتمع الفقهاء بزبيد، وقصدوا القاضي مجد الدين محمد بن يعقوب، الشيرازي قاضي القضاة يومئذ، وسألوا منه أن يسمعهم (صحيح البخاري) فأجابهم إلى ذلك، وكانت القراءة في منزله- يومئذ- في البستان الذي له عند باب النخل، فاجتمع لذلك خلق كثير من الفقهاء، والأعيان، واستمرت قراءة الكتاب إلى أن ختمه

(2)

".

وظل مقيماً في اليمن بقية عمره، حتى وافاه الأجل في شوال سنة 817 هـ.

وقد جال في البلاد شرقاً وغرباً، وجنوباً وشمالاً، والتقى بعدد كبير من علماء وقته، ومشايخ زمانه، غير من ذكر أخذ عنهم، واستفاد مماعندهم " كحمزة بن محمد" فقد قرأ عليه المصابيح

(3)

و" غضنفر"

(4)

و" ابن البخاري"

(5)

،

(1)

2/ 297.

(2)

العقود 2/ 203 - 204.

(3)

الضوء 10/ 81.

(4)

تاج العروس م ص 13.

(5)

الضوء 10/ 80.

ص: 19

وتلاميذ " الشرف الدمياطي"

(1)

وتلاميذ " النجيب الحراني"

(2)

. وقد جمع مشيخته

(3)

، وخرجها الجمال بن موسى المراكشي

(4)

.

‌تلاميذه:

كان لرحلاته الآنفة الذكر أثر كبير في ضخامة عدد شيوخه، وفي عدد تلاميذه أيضاً.

ومن أشهر من أخذ عنه:

إبراهيم بن رضوان الشيخ برهان الدين الحلبي الشافعي. (ت 850 هـ)

(5)

.

أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (809 - 885 هـ)

(6)

.

الموفق الأبي

(7)

.

أحمد بن إسماعيل بن العباس، الملك الرسولي (ت 827 هـ)

(8)

.

(1)

في الضوء 10/ 80 أنه أخذ عنه وأجزم أنه لم يأخذ عنه وإنما أخذ عن أصحابه لأنه ولد سنة 613 هـ وهو توفي سنة 705 هـ. انظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 10/ 102 - 123، وقد صرّح في كتابه (المرقاة الوفية)(لوحة 71) بروايته عن أحد تلاميذه فقال أنبأنا أبو الحسن علي بن عبدالكافي أنبأنا الحافظ الدمياطي، قال: أنشدنا ابن غازي لنفسه: ألا من .. إلخ.

(2)

في الضوء 10/ 80، أنه أخذ منه ورأي في أخذه عنه رأيي فيما قبله، فقد ولد الحراني سنة 587 هـ وتوفي سنة 672 هـ وترجمته في الشذرات 5/ 336، الأعلام 4/ 182 - 183.

(3)

الضوء 10/ 80.

(4)

محمد بن موسى، أبو البركات، أبو المحاسن الشافعي، ولد بمكة سنة 789 هـ وتوفي سنة 823 هـ. ترجمته في الضوء 10/ 56 - 58.

(5)

ترجمته في الضوء 1/ 50، الشذرات 7/ 267.

(6)

ترجمته في الضوء 1/ 101 - 111. البدر 1/ 19، الأعلام 1/ 50.

(7)

الضوء 1/ 86.

(8)

ترجمته في الضوء 1/ 240 - 241، الأعلام 1/ 93 - 94.

ص: 20

أحمد بن علي بن حجر الحافظ (773 - 852 هـ)

(1)

.

أحمد بن علي بن عبدالقادر، تقي الدين، المقريزي، الحنفي، مؤرخ الديار المصرية، صاحب كتاب (خطط المقريزي)(766 - 845 هـ)

(2)

.

الأشرف إسماعيل بن العباس، أبو الناصر المتقدم، من ملوك الدولة الرسولية، (761 - 803)

(3)

.

خليل بن أيبك بن عبدالله الصفدي، صلاح الدين

(4)

.

التقي بن فهد المكي

(5)

.

عبدالرحيم الإسنوي الشافعي، أبو محمد جمال الدين، صاحب الطبقات (704 - 772)

(6)

.

عبدالله بن عبدالرحمن بن عقيل (694 - 769 هـ)

(7)

.

عبدالله الناشري، اليمني، نزيل مكة (ت 886 هـ)

(8)

.

عبدالله بن يوسف، المعروف بابن هشام (708 - 761 هـ)

(9)

.

نور الدين علي بن محمد بن الحسن المعروف بـ (العليف)، العكي، العدناني، المكي، الشافعي (870 - 847 هـ)

(10)

.

(1)

ترجمته في التبر المسبوك ص 330، الضوء 2/ 36، البدر 1/ 78.

(2)

ترجمته في التبر المسبوك 21، الضوء 2/ 21، البدر 1/ 79.

(3)

ترجمته في العقود اللؤلؤية 2/ 163، الضوء 2/ 299، بلوغ المرام ص 53.

(4)

سبقت ترجمته في مشايخه.

(5)

الضوء 10/ 86.

(6)

ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 352، بغية الوعاة ص 304، البدر 1/ 352.

(7)

تقدم في مشايخه.

(8)

ترجمته في الضوء 5/ 76 - 77، وانظر في سماعه ري الصادي ص 11.

(9)

سبق في مشايخه.

(10)

ترجمته في الضوء 5/ 298 - 299.

ص: 21

ابن قحروان المقرئ

(1)

.

محمد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر بن عبدالوهاب، الجمال، أبو المحاسن، المكي، الحنفي (770 - 839 هـ).

تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي (775 - 833 هـ)

(2)

.

محمد بن عبد الله بن ظهيرة بن أحمد بن عطية، بن ظهيرة، القرشي المكي (817 هـ).

جمال الدين محمد بن موسى المراكشي المكي، أبو البركات، سبط الشيخ عبد الله اليافعي (787 - 823 هـ)

(3)

.

يحيى بن محمد بن يوسف السعيدي، تقي الدين ابن الكرماني، أبوه شمس الدين الكرماني (762 - 833 هـ)

(4)

.

‌تصانيفه:

‌أولاً: في التفسير:

تذكر المصادر أنه ألف في التفسير عدداً من الكتب والرسائل وهي:

بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز

(5)

.

تنوير المقباس في تفسير ابن عباس

(6)

.

كتاب تيسير فاتحة الإهاب في تفسير فاتحة الكتاب

(7)

.

(1)

ري الصادي ص 11.

(2)

ترجمته في الضوء 7/ 18، ذيل الطبقات 291،377، تاريخ آداب اللغة العربية 3/ 201.

(3)

ترجمته في العقد 2/ 364 - 371، الضوء 10/ 56.

(4)

ترجمته في الضوء 10/ 259، كشف الظنون 546.

(5)

هذا هو الاسم الذي ورد على الكتاب، وقد اختلفت كتب التراجم في اسمه، فمن قائل" الوجيز في لطائف الكتاب العزيز" البغية 118. ومن قائل:"لطائف ذوي التمييز من لطائف الكتاب العزيز" البدر 2/ 281.

(6)

العقد 2/ 395، الضوء 10/ 81، كشف الظنون ص 502.

(7)

العقد 2/ 395، البدر 2/ 281.

ص: 22

حاصل كورة الخلاص في فضائل سورة الإخلاص

(1)

.

الدر النظيم المرشد إلى مقاصد القرآن العظيم

(2)

.

شرحان لخطبة الكشاف، أولهما:" قطبة الخشاف لحل خطبة الكشاف".

وثانيهما:" نغبة الرشاف من خطبة الكشاف

(3)

.

‌ثانياً: في الحديث:

كتب المجد عدداً من المؤلفات في الحديث ومايتصل به من علوم، وكانت معظم مؤلفاته جمعاً لأحاديث في موضوع معين أو شرحاً لكتاب في الحديث، وقد اختفت أكثر كتبه، وأهمها:

الأحاديث الضعيفة - مجلدات

(4)

- قال صاحب الري الصادي: في أربع مجلدات

(5)

، وقد عمله للناصر

(6)

.

أرجوزة في مصطلح الحديث.

امتضاض السهاد في افتراض الجهاد- مجلد

(7)

-.

بلاغ التلقين في غرائب اللعين

(8)

.

(1)

الكشف ص 624، البدر 2/ 282، الضوء 10/ 81.

(2)

الكشف ص 736، البدر 2/ 282، الضوء 10/ 81.

(3)

العقد 2/ 395، بلفظ " شرح قطبة الحشاف، شرح خطبة الكشاف" وبغية الوعاة ص 118 " شرح خطبة الكشاف" وكذا في الشذرات 7/ 127، البدر 2/ 282، وفيه " شرح قطبة الخشاف في شرح خطبة الكشاف" والكشف 2/ 1480.

(4)

العقد 2/ 394، البدر 2/ 282، الكشف ص 14.

(5)

ص 20.

(6)

الضوء 10/ 82.

(7)

العقد 2/ 396، وفيه " الشهاد" بالإعجام، الضوء 10/ 82، البدر 2/ 282، كشف الظنون ص 167.

(8)

في العقد 2/ 396 " بلاغ التلقين في غرائب الملغين" وفي حاشيته كذا في الأصول وفي الضوء بلاغ .. " العبارة المذكورة أعلاه. انظر الضوء 10/ 82.

ص: 23

التجاريح في فوائد متعلقة بأحاديث المصابيح، والمصابيح هي مصابيح السنة للبغوي (- 516 هـ)

(1)

.

تسهيل طريق الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول " ألفه للناصر بن الأشرف

(2)

، وهي في أربعة مجلدات

(3)

.

تعيُّن الغرفات للمعين على عين عرفات

(4)

.

الدّرُّ الغالي في الأحاديث العوالي

(5)

.

رسالة في بيان مالم يثبت فيه حديث صحيح من الأبواب.

شوارق الأسرار العلية، في شرح مشارق الأنوار النبوية، من صحاح الأخبار المصطفوية

(6)

. وهو -كما يدل عليه اسمه- شرح لكتاب الصغاني " مشارق الأنوار ..

(7)

" وهو أربع مجلدات

(8)

.

الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر

(9)

.

عُدّة الحكام في شرح عمدة الأحكام" مجلدان - وهو شرح لعمدة الأحكام عن سيد الأنام- لعبدالغني عبدالواحد (600 هـ)

(10)

.

(1)

العقد 2/ 397، الضوء 10/ 82، الكشف ص 1699.

(2)

العقد 2/ 396، إنباء الغمر 3/ 48، الضوء 10/ 82.

(3)

العقد 2/ 396.

(4)

العقد 2/ 396، انظر الضوء 10/ 82، وفي الكشف ص 425 " تعيين الغرفات للمعين على عرفات".

(5)

انظر العقد 2/ 394، الضوء 10/ 82، البدر 2/ 282، الكشف ص 732.

(6)

نسبة خاطئة، صوابها المصطفية.

(7)

العقد 2/ 395، إنباء الغمر 3/ 49، الضوء 10/ 82.

(8)

العقد 2/ 395.

(9)

نسب له هذا الكتاب صاحب العقد 2/ 396، الضوء 10/ 82، الكشف ص 1081.

(10)

انظر العقد 2/ 396، الضوء 10/ 82، البغية 118.

ص: 24

فتح الباري بالسيح الفسيح الجاري، في شرح صحيح البخاري

(1)

.

كراس في علم الحديث، قال الفاسي: رأيته بخطه

(2)

.

منية السول في دعوات الرسول

(3)

.

‌ثالثاً: في الفقه والعقائد:

تذكر المصادر أسماء كتب قليلة له في الفقه والعقائد هي:

الإسعاد بالإصعاد إلى درجة الاجتهاد: وهو في ثلاث مجلدات، ألّفه للأشرف إسماعيل

(4)

.

فتوى في ابن عربي.

كتاب العقائد

(5)

.

‌رابعاً: في التراجم والتاريخ والجغرافية:

تذكر المصادر أن له سبعة عشر مؤلفاً في التراجم والتاريخ والجغرافيا، وتتداخل هذه الموضوعات في عدد من كتبه بحيث تجتمع في الكتاب الواحد بنسب متفاوتة، وهي:

إثارة الحجون لزيارة الحجون

(6)

.

أحاسن اللطائف في محاسن الطائف

(7)

.

البلغة في تاريخ أئمة اللغة

(8)

.

(1)

الضوء 10/ 82، بغية الوعاة ص 117، الكشف ص 550.

(2)

العقد 2/ 394، الضوء 10/ 82.

(3)

العقد 2/ 396، الضوء 10/ 82، الكشف ص 1885.

(4)

انظر العقد 2/ 396، الكشف ص 58، وفي العقد 2/ 395، " الإسعاد إلى رتبة الاجتهاد. انظر البدر 2/ 382، البغية 118، وفيها" الإسعاد إلى رتبة الاجتهاد".

(5)

الري الصادي ص 21.

(6)

العقد 2/ 394.

(7)

العقد 2/ 396، الضوء 10/ 82، الكشف ص 14.

(8)

كذا العنوان للمطبوع، أما عنوانه في كتب التراجم" البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" انظر الضوء 10/ 82، البدر 2/ 282، البغية 118، وفيه " لطيف رأيته بمكة" والكشف 252 - 253.

ص: 25

تاريخ مرو

(1)

.

تحفة الأبيه فيمن نسب إلى غير أبيه

(2)

.

روضة الناظر في ترجمة الشيخ عبدالقادر

(3)

.

فضل الدرة من الخرزة في فضل السلامة على الخبزة

(4)

.

الفضل الوفي في العدل الأشرفي

(5)

.

المتفق وضعاً والمختلف صعقاً

(6)

.

مختصر الفيح القسي في الفتح القدسي.

المرقاة الأرفعية في طبقات الشافعية

(7)

.

المرقاة الوفية إلى طبقات الحنفية

(8)

.

المغانم المطابة في معالم طابة.

مهيج الغرام إلى البلد الحرام

(9)

.

نزهة الأذهان في تاريخ إصبهان

(10)

.

(1)

الكشف ص 303.

(2)

نوادر المخطوطات 1/ 99.

(3)

انظر العقد 2/ 396، الضوء 10/ 82، الكشف ص 933.

(4)

العقد 2/ 396، وفيه 2/ 395 - أيضاً-:" فضل السلامة على الخبزة كفضل الدر على الخرزة" وهما قريتان في منطقة الطائف. وانظر الضوء 10/ 82، الكشف ص 1260.

(5)

العقد 2/ 397، الضوء 10/ 82، البدر 2/ 282.

(6)

العقد 2/ 394، الضوء 10/ 82، البغية ص 118.

(7)

الكشف ص 1102، 1656.

(8)

انظر العقد 2/ 394، الضوء 10/ 82، البغية، باسم "طبقات الحنفية" والكشف ص 1098 - 1657، وفي 249، باسم" الألطاف الخفية في أشراف الحنفية".

(9)

العقد 2/ 396، الضوء 10/ 82، الكشف ص 1916، وفي ص 2048" هيج، بدل مهيج".

(10)

العقد 2/ 397، الضوء 10/ 82، الكشف 1939.

ص: 26

النفحة العنبرية في مولد خير البرية

(1)

.

الوصل والمنى في فضائل منى

(2)

.

‌خامساً: في اللغة والأدب:

تذكر المصادر أسماء مؤلفات كثيرة له في هذا الميدان، وهي:

أسماء الحمد

(3)

.

أسماء الرداح في أسماء النكاح

(4)

.

أسماء الطويل

(5)

.

أسماء الغادة

(6)

.

الإشارات إلى ما في كتب الفقه من الأسماء والأماكن واللغات

(7)

.

أنواء الغيث في أسماء الليث

(8)

. وفي بعض المصادر " أسماء الليث

(9)

.

تحبير الموشين في التعبير بالسين والشين

(10)

.

التحبير الكبير.

(1)

العقد 2/ 396، الضوء 10/ 82، الكشف ص 1969.

(2)

العقد 2/ 396، وانظر ص 394 منه، والضوء 10/ 82، والكشف 307،2014.

(3)

الضوء 10/ 82.

(4)

الغرر لوحة 15، وفي العقد 2/ 397" أسماء البراج .. " وفي الضوء 10/ 82 " أسماء السراج" وانظر البغية 118، الكشف 90.

(5)

الغرر لوحة 17، وفيه:" وقد أفردت لأسماء الطويل كتاباً جامعاً".

(6)

العقد 2/ 397، الضوء 10/ 82، البغية 118.

(7)

الأعلام 8/ 19، وذكر أنه مخطوط.

(8)

العقد 2/ 397، الضوء 10/ 82، الكشف 186 - 187.

(9)

البغية 118.

(10)

في العقد 2/ 395" تحبير الموشين فيما يقال بالسين والشين" وانظر إنباء الغمر 3/ 49، والضوء 10/ 82.

ص: 27

تحفة القماعيل فيمن يسمى من الملائكة والناس بإسماعيل

(1)

.

ترقيق الأسل لتصفيق العسل

(2)

.

الجليس الأنيس في أسماء الخندريس

(3)

.

رسالة في معاني بعض الحروف.

الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف

(4)

.

شرح مثلثة قطرب النحوي.

الغرر المثلثة، والدرر المبثثة.

القاموس المحيط.

كتاب " اللامع المعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب. وزيادات امتلأ بها الوطاب، واعتلى منها الخطاب"

(5)

.

مزاد المزاد. وزاد المعاد في وزن بانت سعاد" شرحه في مجلدين

(6)

.

مقصود ذوي الألباب في علم الإعراب"

(7)

مجلد

(8)

.

النخب الطرائف في النكت الشرائف

(9)

.

(1)

العقد 2/ 396، الضوء 10/ 82، البغية ص 118، وفيها " من تسمى بإسماعيل" والكشف ص 372.

(2)

العقد 2/ 395، وفيه" .. في تصفيق .. " وكذا في الكشف ص 401، الضوء 10/ 82، وفي الكشف ص 344، 468 " تثقيف الأسل في تفضيل العسل" وما أثبته عن المزهر 1/ 407، وقال في القاموس (عسل):" وأفردت لمنافعه (العسل) وأسمائه كتاباً.

(3)

العقد 2/ 397، الضوء 10/ 82، البغية ص 118.

(4)

العقد 2/ 394، 369، إنباء الغمر 3/ 49، الضوء 10/ 82.

(5)

العقد 2/ 396، الضوء 10/ 82، البغية ص 118.

(6)

الضوء 10/ 82.

(7)

العقد 2/ 397، البغية ص 118، البدر 2/ 282، الكشف ص 1806.

(8)

الكشف ص 1806.

(9)

الضوء 10/ 83، الكشف ص 1935.

ص: 28

كتب نسبت إليه:

ابتهاج النفوس بذكر ما فات القاموس

(1)

.

الفرائد

(2)

.

مجمع السؤالات من صحاح الجوهري

(3)

.

ويتبين لنا من استعراض المؤلفات السابقة أن اللغة والأدب هما ميدان إبداعه الأوفى، يليه التراجم والتاريخ والجغرافية، حيث تداخلت هذه العلوم في معظم ماكتبه فيها، ومنها كتاب المغانم الذي نحن بصدده، يليه ميدان الحديث، وقد كانت مؤلفاته فيه - كما أسلفنا- جمعاً وشرحاً لكتب أخرى، ولم تكن له خبرة عميقة في الأسانيد، وأقل ميادين إبداعه في الفقه والعقائد، وقد ظهر أثر ذلك في عدد من الروايات التي نقلها في الباب الأول من هذا الكتاب.

ولاشك أن الفيروزابادي هو واحد من أصحاب الثقافات الموسوعية في تراثنا ومن الذين أَثْرَوا المكتبة العربية بالمؤلفات المتميزة.

* * *

(1)

ري الصادي ص 20.

(2)

منه نسخة في المكتبة الظاهرية تحت رقم عام 3317، وخاص في قسم الأدب 653، كتب على غلافه " كتاب الفرائد" للفيروزابادي.

(3)

ري الصادي ص 19 - 20.

ص: 29

‌مكانة هذا الكتاب:

بدأ التأليف عن المدينة النبوية منذ القرن الهجري الثاني، ويعتبر كتاب أخبار المدينة لمحمد بن الحسن بن زبالة المتوفى قبل سنة مائتين أول كتاب في هذا الباب.

ثم توالت المؤلفات وكثرت، ولست هنا بصدد سرد أسمائها، فقد اعتنى بذلك عدد من الباحثين؛ أذكر منهم: الدكتور عبدالرزاق الصاعدي في كتابه: معجم ما ألف عن المدينة المنورة قديماً وحديثاً، والأستاذ الدكتور: عبدالله عسيلان في كتابه: المدينة المنورة في آثار المؤلفين والباحثين قديماً وحديثاً.

فماهي منزلة كتاب المغانم المطابة في معالم طابة بين هذه الكتب؟

‌تميز هذا الكتاب بخصائص ثلاث:

‌1 - كثرة المصادر وتنوعها:

جمع المؤلف مادة كتابه من عدد كبير من المصادر بعضها مفقود الآن مثل: أخبار المدينة لمحمد بن الحسن، وأخبار المدينة للزبير بن بكار، وأخبار المدينة ليحيى بن الحسن بن جعفر العلوي.

وبعضها موجود مثل: أخبار المدينة لابن شبة، وإتحاف الزائر وإطراف المقيم للسائر لعبد الصمد بن عبدالوهاب ابن عساكر، وكتاب ابن النجار، والمطري، ومعجم البلدان، ونصيحة المشاور، وغير ذلك كثير.

وقد تفرّد كتاب المغانم المطابة عن الكتب التي سبقته بكثرة المعلومات ووفرتها، وتنوع المادة العلمية وشمولها، وجاء الكتاب على ستة أبواب، يعرض كل باب منها معلومات متميزة عن المدينة المنورة.

‌2 - حسن التبويب والترتيب:

قسم الفيروزابادي كتابه إلى أبواب وفصول ومباحث ومطالب فخرج كتابه منضبطاً في ترتيب المادة وتبويبها؛ وتميزها وعدم تداخلها.

ص: 30

لذا حرص السمهودي عندما صنف كتابه وفاء الوفا- الذي يعتبر من أهم مصادر تاريخ المدينة- على تتبع خُطَا الفيروزابادي في معظم كتابه، والاستفادة من منهجه في تقسيم المادة وتبويبها وترتيبها.

وعلى نحو هذا المنهج الذي خطه الفيروزابادي في المغانم سار أغلب من ألفوا في تاريخ المدينة بعده، فإن خالفوه بشيء فإنما يكون بتقديم أو تأخير.

‌3 - توثيق المعلومات بالمشاهدة والسماع:

لم يقتصر الفيروزابادي في مصادره على مؤلفات من قبله وإن كان قد حرص على استيعابها، فقد زخر كتابه المغانم بكثير من المعلومات المستمدة من الرؤيا والسماع، وخاصة في أثناء رحلاته المتكررة إلى المدينة المنورة

(1)

وتتنوع هذه المعلومات فتكون في حين توثيقاً لمعلم من المعالم

(2)

أو وصفاً له

(3)

أو تحديداً لموقعة

(4)

أو تعريفاً بملاكه

(5)

، أو قياساً لطوله وعرضه، وذلك بذرعه باليد

(6)

، أو بوسائل أخرى

(7)

.

وقد خص المسجد النبوي بمزيد عناية ووصف ماشاهده بنفسه فيه، والتوسعة التي كانت تتم في عهده

(8)

، كما وصف مجلس ختم القرآن في الروضة الشريفة

(9)

، وغير ذلك من التفصيلات المشاهدة وخاصة في فترة تأليف الكتاب سنة 782 هـ، وغير ذلك

(10)

.

(1)

انظر: ص 434، 451.

(2)

انظر: ص 428، 436 مكرر.

(3)

انظر: ص 447، ص 533، ص 557، ص 655، ص 721، ص 931، ص 1059.

(4)

انظر: ص 430، ص 446، ص 447.

(5)

انظر ص 438، ص 446، 669،1073.

(6)

انظر: ص 537،540،609،685.

(7)

انظر: ص 568.

(8)

ص 451.

(9)

انظر ص 1364.

(10)

انظر ص 434، 1400.

ص: 31

وحرص مع المشاهدة على السماع، وذلك بسؤال أهل العلم في المدينة

(1)

، أو العامة إن لزم الأمر، مع مكاتبة بعضهم لزيادة التوثيق

(2)

.

أما أعلام المدينة فكان يحرص على وصفهم بدقة، ثم يتوسع في أخبارهم، فيصف أحياءهم ومساكنهم

(3)

.

* * *

(1)

انظر: ص 661،682،687، 758.

(2)

انظر: ص 509، 900.

(3)

انظر: ص 1376،1386، 1389.

ص: 32

‌منهج التحقيق

أراد المركز أن يكون هذا الكتاب نتيجة جهود جماعية منهجية، فشكل فريق عمل من محققين متخصصين، ووضع - بالتعاون معهم - منهجاً موحداً للتحقيق، اعتمده المجلس العلمي للمركز، وقسّم المخطوط أقساماً متكاملة ووزعها عليهم ليحقق كل منهم القسم الذي عهد به إليه، وطبّق الأسلوب نفسه في المراجعة، فوزع التحقيق على مراجعين متخصصين، واستفاد من ملاحظاتهم في تدقيق العمل وتصويبه، وقام في بعض الحالات باستدراك مالم يجد المحقق فرصة لاستدراكه، وتولى التنسيق العام ومتابعة تطبيق المنهج، ليخرج الكتاب بروح واحدة، وأعد الفهارس اللازمة.

وقد تضمن منهج التحقيق الأمور التالية:

‌1 - نسخ النص وضبطه:

تم النسخ من النسخة الخطية الوحيدة للكتاب، ورجع المحققون إلى مصادر المؤلف، والكتب التي نقلت عنه، ووفقوا بحمد الله تعالى في الوصول إلى معظمها، وقابلوها مع النسخة الخطية، والتزموا بالنص الوارد في المخطوط، إلا ماثبت لهم تصحيفه وتحريفه، حيث أثبتوا الصواب في المتن، وأشاروا إلى التصحيف والتحريف في الحاشية، وقد تبين أن التصحيفات والتحريفات قليلة، وأن أكثرها في الباب الخامس.

كما وثقوا النصوص المنقولة، وضبطوا الآيات والأحاديث والشعر والمفردات المشتبهة، واستفادوا من توثيق العلامة حمد الجاسر رحمه الله للأماكن في القسم الذي حققه من الكتاب، وأشاروا لذلك في كل موضع أخذوا

ص: 33

منه، وبذلوا الجهد في فك الطمس المتناثر في أماكن متفرقة من المخطوط، ووفقوا في معظمه، وتداركوا مااستطاعوا تداركه من السقط والنقص، ووضعوه بين معقوفتين.

‌2 - عزو الآيات القرآنية:

وذلك بالإشارة إلى اسم السورة ورقم الآية فيها، مع مراعاة كتابتها بالرسم العثماني.

فإن وجد تحريف أو تصحيف في رسم الآية، أو سقط، أُثبت النص صحيحاً دون الإشارة في الهامش إلى هذا الخطأ أو السقط.

‌3 - تخريج الأحاديث والآثار:

ضم كتاب المغانم عدداً كبيراً من الأحاديث والآثار، أكثرها مرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغبةً في عدم إثقال الحواشي فقد اعتمد في المنهج تخريج الأحاديث والآثار بإسلوب مختصر، فإن كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما فيكتفى بتخريجه من الصحيحين أو أحدهما، و إن لم يكن في الصحيحين أو في أحدهما، يُتوسع في دراسته للوقوف على أشهر طرقه، ثم يُحكم على السند من خلال أقوال الحفاظ في كتب التخريج، فإن لم يعثر على حكم هذا السند، يُدرس السند وتُبين علله باختصار.

‌4 - ترجمة الأعلام:

اعتمد في ترجمة العلم: ذكر اسمه كاملاً، وأبرز صفة اُشتهر بها، ثم العزو إلى مصادر الترجمة، مع الالتزام بعدم الإطالة، وعدم ترجمة الأعلام فائقي الشهرة.

‌5 - التعريف بالمعالم:

ضبطت المعالم ضبط شكل، أو ضبط حرف، وحددت أمكنتها، وذكر

ص: 34

اسمها الحديث إن كان هناك تغيير على اسمها، مع ذكر أسماء المصادر التي اعتمد عليها.

‌6 - شرح الألفاظ الغريبة:

اهتم المنهج ببيان معنى كل لفظ غريب، مع ضبطه، واعتمد في ذلك على القاموس المحيط للفيروزابادي، فإن لم يكن اللفظ في القاموس المحيط يُنظر في المصادر الأخرى، مثل: لسان العرب، وتاج العروس، والصحاح.

أما غريب الحديث فكان على بيان معناه من كتب غريب الحديث، على هذا الترتيب: النهاية لابن الأثير، الفائق للزمخشري، غريب الحديث للهروي.

‌7 - الشعر:

إذا كان الشعر لشاعر له ديوان مطبوع، فيكون العزو إليه، وإلا كان العزو إلى كتب الأدب، وإن كان الشعر غير منسوب وعرف قائله فسوف يذكر اسمه في الهامش مع ذكر المصدر، وإذا ورد في النص صدر بيت الشعر أو عجزه أكمل البيت في الهامش.

ويلاحظ أن المؤلف قد ذكر أبياتاً كثيرة في الشمائل والمديح، ولم يعزها لأحد، وقد بُذلت جهود كبيرة في البحث عنها دون جدوى، والظن - والله أعلم- أنها أو أكثرها- للمؤلف نفسه.

‌8 - الفهارس:

قام المركز بإعداد الفهارس العلمية التالية:

فهرس الآيات القرآنية.

فهرس الأحاديث والآثار.

فهرس الأبيات الشعرية.

فهرس الأماكن.

ص: 35

فهرس الأعلام.

فهرس الكتب.

فهرس الموضوعات.

فهرس المصادر.

‌وصف المخطوطة:

اعتمد المحققون على نسخة وحيدة، أصلها محفوظ في خزانة فيض الله بإستانبول برقم:1529، نسخها: أبو بكر أحمد بن محمد بن محمد بن فهد الهاشمي المكي، بخط نسخي معتاد، في يوم الاثنين، السابع من شوال، سنة ست وستين وثمانمائة، بمنزله في مكة المشرفة تجاه الكعبة المعظمة، يبلغ عدد أوراقها: 273 ورقة ونصف، أي 547 صفحة في كل ورقة 25 سطراً، وقد تأثرت بعض أوراقها بالرطوبة، كما هو واضح في النموذج المرفق.

في أولها تملكات لكل من:

1 -

فيض الله المفتي في السلطنة العثمانية.

2 -

محمد بن أحمد بن إينال.

3 -

أحمد بن النجار الحنبلي.

4 -

عبدالكريم لولو.

5 -

عبدالرحمن الحنبلي.

وعليها ختم خزانة شيخ الإسلام فيض الله أفندي بإستانبول.

والملاحظ أن الناسخ توقف في بعض الكلمات، فأثبتها برسمها، ثم عَلّم عليها بحرف (ط)، وقد اجتهد المحققون في معرفة أصل هذه الألفاظ، فإن لم يتبين لهم أثبتوها على حالها مع الإشارة لذلك في الحاشية

(1)

.

(1)

انظر على سبيل المثال، الأوراق التالية:

ق 7 س 1، ق 13 س 2، ق 71 س 23، ق 79 س 11، ق 134 س 14، 22.

ص: 36

ونشير هنا إلى أننا قد عثرنا في المكتبة السليمانية على جزء من نسخة أخرى من هذا الكتاب ضمن مجموع تبين لنا أنها منسوخة من نسخة فيض الله ذاتها، من الباب الأول فقط، ولايمكن الاعتماد عليها لأنها حديثة النسخ من جهة، ولكثرة مافيها من تصحيفات وتحريفات من جهة أخرى.

* * *

ص: 37

‌تنبيه

الحمد لله رب العالمين الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد اقتضى هذا التنبيه وجود بعض الحكايات والعبارات في الكتاب، غفل المؤلف رحمه الله عن معارضتها لقواعد الشرع الأساسية، وهذه الحكايات والعبارات نشأت عن تجاوز الحدود الشرعية الذي وقع فيه المتأخرون من عوام الأمة، وبعض المنتسبين إلى العلم. ومجاوزة الحدود الشرعية بالزيادة يعبر عنه في نصوص القرآن والسنة بالغلوّ، والإسراف، والاعتداء.

وقد توافرت النصوص على النهي عن الغلو وذمه والتحذير منه في مثل قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}

(1)

، وقوله تعالى:{قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل}

(2)

.

قال ابن كثير

(3)

في تفسير هذه الآية: «أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تطروا من أُمِرْتُم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهاً من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديماً» انتهى.

وتكرر في القرآن النهي عن الإسراف وما في معناه وذم المسرفين في أكثر من خمس وعشرين آية، كما تكرر النهي عن الاعتداء وذم المعتدين في زهاء ثلاثين آية.

(1)

سورة النساء، آية رقم:171.

(2)

سورة المائدة، آية رقم:77.

(3)

تفسير ابن كثير: 2/ 83. ط: دار الفكر، بيروت 1401 هـ.

ص: 42

وفي النصوص الصحيحة من السنة النبوية ما يبلغ التواتر المعنوي في النهي عن مجاوزة الحدود الشرعية بالإفراط أو التفريط. وهذه العناية البالغة بهذا الأمر كانت - والله أعلم - لأمرين:

الأول: إن الإنسان بطبيعته البشرية يميل إلى الغلو والإسراف، ويقع فيه ما لم يوجد لديه رادع ذاتي من الفقه بالشريعة، أو رادع خارجي ينبهه إلى تجاوزه الحد، ويحمله على الوقوف عنده.

الثاني: الخطر العظيم للغلو على الشريعة عقيدة وعملاً، كما تثبت وقائع التاريخ.

فالشرك إنما حدث في البشر بسبب الغلو، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وقالوا لا تذرنَّ آلهتكم ولا تذرنّ ودًّا ولا سواعًا ولا يغوثَ ويعوقَ ونسرًا}

(1)

قال: «هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أنِ انصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم (يعني لكي تتذكروهم فتقتدوا بهم) ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبدت»

(2)

.

وقال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوّروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

قال أحد العلماء في التعليق على هذا: «وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف على القبور من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من

(1)

سورة نوح، آية رقم:23.

(2)

أخرجه البخاري، في التفسير، باب: ودّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق، رقم: 4920، 8/ 535.

ص: 43

خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم دعاهم إلى دعاء المقبور وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل، ويحج إليه، ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد وأن لا يعبد إلا الله، فإذا تقرَّر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن مَن نهى عن ذلك فقد تنَقَّص أهل هذه الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون}

(1)

وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوْا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون}

(2)

»

(3)

اهـ.

وقال آخر عن الحجرة النبوية الشريفة: «وكانت الحجرة في زمن الصحابة يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضي الله عنها فيها، وبعد ذلك إلى أن بنى الحائط الآخر، وكان الصحابة مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره صلى الله عليه وسلم لا يدخلون عليه لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم أو غيرهم، ولا لسؤال

(1)

سورة الزمر، آية رقم:45.

(2)

سورة الأنفال، آية رقم:34.

(3)

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص: 173 - 175.

ص: 44

عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً أو سلاماً فيظنون أنه هو صلى الله عليه وسلم كلمهم وأفتاهم، وبيّن لهم الأحاديث، أو أنه ردّ عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً منه، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها، كما رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج

(1)

اهـ.

وكان أول انحراف نشأ في الإسلام ناشئاً عن الغلو في الدين حينما خرج الخوارج على الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه فقتلوه، ثم خرجوا في عهد الخليفة الراشد علي رضي الله عنه فقاتلهم، ثم قتلوه.

ولما كان الغلو بهذه المثابة من الخطورة على التوحيد والإسلام وأن الطبيعة البشرية عادةً غالبةُ الميل إليه سريعة الاستجابة لدواعيه فقد كان من الطبيعي توقع أن تقع هذه الأمة في الغلو وتصيبها آثاره شأن الأمم السابقة، لذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أرسله الله رحمة للعالمين وكان يعز عليه ما يعنت أمته ويحرص على وقايتها من الأخطار التي تهددها- رؤوف رحيم بالمؤمنين، لذلك كان صلى الله عليه وسلم أشد ما يكون حرصاً على تحذير أمته من الغلو في شخصه الكريم، فبالإضافة إلى إبلاغه ما أمر بإبلاغه من القرآن من مثل قوله تعالى:{قلْ إنَّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ أنَّما إلهكم إلهٌ واحدٌ فمنْ كان يرجو لقاءَ ربه فليعملْ عملاً صالحاً ولا يشركْ بعبادة ربه أحداً}

(2)

، وقوله:{قلْ لا أقولُ لكم عندي خزائنُ الله ولا أعلم الغيبَ ولا أقولُ لكم إنِّي ملكٌ}

(3)

، وقوله: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً إلا ما شاءَ الله ولو كنتُ أعلم الغيبَ

(1)

المصدر السابق ص: 193.

(2)

سورة الكهف، آية رقم:110.

(3)

سورة الأنعام، آية رقم:50.

ص: 45

لاستكثرتُ من الخير وما مسَّنيَ السوءُ}

(1)

، وقوله:{قلْ إنَّما أدعو ربي ولا أشرك به أحدًا. قلْ إنِّي لا أملكُ لكم ضرًا ولا رشدًا. قلْ إنِّي لن يجيرني من الله أحدٌ ولن أجدَ من دونه ملتحدًا إلا بلاغاً من الله ورسالاته}

(2)

، وقوله {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين. وإن يمسسك الله بضرٍّ فلا كاشفَ له إلا هو وإن يردْك بخيرٍ فلا رادّ لفضله}

(3)

.

فبالإضافة إلى هذا كان في أمره ونهيه وتأديبه لأصحابه أشد ما يكون حرصاً على حماية جانب التوحيد، وتنبيهاً إلى التحذير من الغلو الذي يقدح فيه، فمن ذلك: الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»

(4)

.

وفي صحيح مسلم عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا

(5)

. قال الإمام النووي في شرحه: «المتنطعون أي: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم»

(6)

اهـ.

وفي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله

(1)

سورة الأعراف، آية رقم:188.

(2)

سورة الجن، آية رقم: 20، 21، 22، 23.

(3)

سورة يونس، آية رقم: 106، 107.

(4)

أخرجه النسائي في المناسك، باب التقاط الحصى، رقم: 3057، 5/ 268، وابن ماجه في المناسك، باب قدر حصى الرمي، رقم: 3029، 2/ 1008، والحاكم 1/ 466، والبيهقي 5/ 127، وغيرهم.

صححه النووي في المجموع 8/ 171.

(5)

أخرجه مسلم في العلم، باب هلك المتنطعون، رقم: 2670، 4/ 2055.

(6)

صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 22.

ص: 46

ورسوله»

(1)

.

قال أبو السعادات: «الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه» .

وأخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لا تجعلوا بيوتكم

قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم»

(2)

.

وفي المختارة

(3)

عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال: «ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً وصلوا عليّ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم»

(4)

.

وفي الصحيحين عن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال: وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا

(5)

. ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.

(1)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله:{واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} ، رقم: 3445، 6/ 551.

(2)

أخرجه أبو داود في المناسك، باب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره، رقم: 2035، 2/ 540.

(3)

الأحاديث المختارة 2/ 49.

(4)

أخرجه عبدالرزاق 3/ 577 (6726)، وابن أبي شيبة 2/ 375،3/ 345، وأحمد 2/ 367، وغيرهم.

(5)

أخرجه البخاري في الصلاة، باب 55، رقم: 435، 436، 1/ 633. ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، رقم: 531، 1/ 377.

ص: 47

وروى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»

(1)

.

وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدنا، فقال:«السيد الله تبارك وتعالى» ، قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال:«قولوا بقولكم» أو «بعض قولكم ولا يَسْتَجْريكم

(2)

الشيطان»

(3)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أجعلتني لله عَدْلاً، بل ما شاء الله وحده»

(4)

.

وما زال السلف الصالح على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم من الحذر من الغلو وآثاره والتحذير منه. قال ابن وضاح

(5)

: «سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم، فقطعها؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة» .

وقال المعرور بن سويد: «صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطريق مكة صلاة الصبح، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء، فقيل: يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعاً، فمن أدركته الصلاة في المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها»

(6)

.

(1)

أخرجه مالك في قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، رقم: 85، 1/ 172.

(2)

قال في النهاية 1/ 264: أي لايستغلبنكم، فيتخذكم جَرياً: أي رسولاً ووكيلاً.

(3)

أخرجه أبو داود في الأدب، باب كراهية التمادح، رقم: 4773، 5/ 172.

(4)

أخرجه ابن ماجه، في الكفارات، باب النهي أن يقال ماشاء الله وشئت، رقم:2117، وأحمد 1/ 214 - 224، والبيهقي 3/ 217. وغيرهم.

قال في الزوائد: في إسناده الأجلح بن عبدالله، مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات. .

(5)

في كتابه: البدع والنهي عنها، ص 88.

(6)

رواه ابن وضاح في كتاب البدع والنهي عنها، من عدة طرق عن المعرور بن سويد، بإسناد صحيح، ص 87،88.

ص: 48

وسبق حديث علي بن الحسين رضي الله عنه.

وعن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، قال: هلم إلى العشاء. قلت: لا أريده، قال: مالي رأيتك عند القبر. قلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء»

(1)

.

وبالرغم من ذلك فإن قدر الله نافذ، وقد وقع متأخرو الأمة فيما خاف عليهم نبيهم صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، فبالغوا في إطرائه صلى الله عليه وسلم حتى نسبوا إليه ما هو من خصائص الإلهية بل ما هو من صفات الربوبية، وشابهوا النصارى فيما نسبوه للمسيح، فورد في بعض الصلوات المخترعة (الصلاة على محمد عين الذات) ونسبوا إليه إنه قال: أنا أحمد بدون ميم، وكثر ذلك لا سيما في أشعار المدائح واعتادوا طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم ودعاءه والاستغاثة به عند الملمات، واستندوا في ذلك إلى حكايات ومنامات بل واعتقدوا مثل هذه الاعتقادات فيمن هو دون رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصالحين أو ممن يظنونهم صالحين، فنسبوا لهم علم الغيب والتصرف في الكون وأن أرواح المشايخ حاضرة تعلم.

قال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله: «قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفاً في حياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وهممهم تكشف الملمات فيأتون قبورهم وينادون في قضاء الحاجات، وجوزا لهم الذبائح والنذور.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 375 و 3/ 345 وعنه أبو يعلى في مسنده، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم:30، ورواه الضياء المقدسي في المختارة 1/ 154.

ص: 49

قال: «وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز، ومخالفة لعقائد الأمة، وما اجتمعت عليه الأمة.

فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات فيرده قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر}

(1)

و {ولله ملك السموات والأرض}

(2)

ونحوها من الآيات الدالة على أنه المتفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء وإماتة

» إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره:{إنك ميّت وإنهم ميّتون}

(3)

و {كلّ نفس ذائقة الموت}

(4)

، وفي الحديث: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء

»

(5)

. جميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت وإن أرواحهم ممسكة وإن

(1)

سورة الأعراف، آية رقم:54.

(2)

سورة آل عمران، آية رقم:189.

(3)

سورة الزمر، آية رقم:30.

(4)

سورة آل عمران، آية رقم:185.

(5)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً:

أخرجه مسلم، في الوصية، باب مايلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم:1631. وأبوداود، في الوصايا، باب في الصدقة عن الميت، رقم:2872،3/ 401، والترمذي، في الأحكام، باب في الوقف، رقم:1376.

ص: 50

أعمالهم منقطعة فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره، فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة {قل أأنتم أعلم أم الله}

(1)

.

وأما قولهم: يستغاث بهم في الشدائد فهذا أقبح مما قبله؛ لمصادمته لقوله جل ذكره: {أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السّوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإلهٌ مع الله}

(2)

» اهـ باختصار.

ومع الأسف الشديد أن مثل هذه الأوهام والمعتقدات الخاطئة تسربت إلى عقول كثير من عوام المسلمين، حتى كادت تكون اتجاها عاماً، فلم يسلم منها حتى عدد من المنتسبين للعلم الشرعي، شأن كل الاتجاهات الفكرية العامة، التي يهرم عليها الكبير وينشأ عليها الصغير.

وقد تأثر الفيروزابادي مؤلف هذا الكتاب بعض التأثر بما يشاع في عصره من ذلك، وتعرض لقضية كانت مثار جدل كبير هي قضية حياته صلى الله عليه وسلم في قبره التي يعتقدها المسلم من حيث طبيعة هذه الحياة أهي حياة برزخية، الله أعلم بكيفيتها وآثارها، أم هي حياة عادية كالتي كان يحياها قبل موته.

ومع أن هذه القضية خارجة عن موضوع كتاب «المغانم المطابة» فإنه حشرها حشراً في فقرة كاملة من فقرات الفصل الأول، وحشد لها شواهد عجيبة لا تتفق مع أي منهج علمي. هذه الشواهد حكايات منقولة عن بعض المجاورين والأعراب في عصره، معظمها منامات تتضمن في الغالب أن الشخص لجأ إلى قبره

(1)

سورة البقرة، آية رقم:140.

(2)

سورة النمل، آية رقم:62.

ص: 51

صلى الله عليه وسلم وشكا إليه حاجته واستغاثه، فجاءه بعد ذلك رجل من أهل البيت يلبي طلبه.

وفي إحدى الروايات، وهي أغربها، ينام السائل عند قبره صلى الله عليه وسلم بعد أن يستغيث به فيرى في منامه الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيه النقود فيستيقظ ويجدها في يده.

وكل هذه الحكايات من الشائعات التي تدور عادة في أوساط العامة ولا سند لها، ولم تخضع للمراجعة أو التحقيق، ولكنها تحظى بتصديق العامة عادتهم في تصديق الغرائب، والغرام بروايتها كما لو كانت حقائق.

وقد غفل المؤلف رحمه الله عن أن مثل هذه الحكايات التي لو صحت نسبتها عن من رويت عنه، فإن المنامات كما قرر علماء الأصول لا تصلح دليلاً في الأحكام الشرعية، فضلاً عن أنها حتى لو اعتبرت دليلاً فلا يمكن أن تعارض بها الأدلة من النصوص الشرعية، فضلاً عن أن يعارض بها القواعد الشرعية الأساسية، التي يقوم عليها بناء التوحيد وما يجب لله سبحانه وتعالى من حقوق.

ويتضح لك معارضة هذه الحكايات لعقيدة التوحيد إذا تصورت أنه لا يتم التصديق بهذه الحكايات إلا باعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم حاضر ناظر يجيب المضطر إذا دعاه ويسمع دعاء المحتاج وشكواه، وما اتخذ الناس مريم إلها من دون الله إلا بمثل هذا الاعتقاد.

وبالإضافة إلى عنايته بهذه الحكايات فقد وردت في الكتاب عبارات قليلة متناثرة، ظاهر ألفاظها الغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تأثر فيها بما شاع في عصره.

ولعل عذره رحمه الله أنه كان عالم لغة، أما باعه في الحديث والفقه فهو كما وصفه تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي بقوله: «وكانت له بالحديث عناية

ص: 52

غير قوية، وكذا بالفقه»

(1)

.

ويؤيد ما ذكره الفاسي وجود الأحاديث الضعيفة والموضوعة في كتابه كما سيلاحظ القارئ.

وقد وقع التردد في نشر الكتاب بسبب هذه الحكايات والعبارات المنكرة لأمرين:

1 -

ما تدل عليه النصوص من كراهية النبي صلى الله عليه وسلم الشديدة لصيغ من الإطراء هي أقل مما يدل عليه ظاهر العبارات التي أشرنا إليها، فينبغي لكل مسلم صادق المحبة لرسول أن يكره ما يكرهه.

وما تضمنته الحكايات التي أشرنا إليها من نسبة أقوال أو أفعال يقطع بكذبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علم ما ورد في ذلك من الوعيد الشديد.

2 -

خشية اغترار بعض القراء الذين ينقصهم الفقه في الدين والاطلاع على النصوص بتلك العبارات والحكايات.

إلا أنه بعد الاستخارة رأينا من المصلحة أن لا نحجب هذا السفر الضخم الهام من تراث المدينة المنورة، وأن لا نحرم الدارسين ومحبي المدينة المنورة من الاطلاع عليه، وفي الوقت نفسه أن ننبه إلى خطأ إيراد تلك العبارات والحكايات، ووجه معارضتها لقواعد الشرع الحنيف ونصوص القرآن والسنة، موقنين بأن من قصده الحق، سيكون له في ما ذكرنا عاصم من الاغترار بتلك الحكايات والعبارات.

ونسأل الله أن يسدد خطانا ويلهمنا الصواب في القول والعمل. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم،،،

(1)

العقد الثمين: 2/ 364.

ص: 53

* لزيادة الإيضاح في موضوع هذا التنبيه يمكن القارئ الرجوع إلى:

-رسالة الإمام الشوكاني بعنوان «الدرّ النضيد في إخلاص كلمة التوحيد» ، القاهرة، إدارة الطباعة المنيرية 1343 هـ.

-رسالة الإمام الصنعاني بعنوان: «تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد» ، تعليق إسماعيل الأنصاري ط 2، الرياض، مؤسسة النور، 1389 هـ.

-رسالة المقريزي بعنوان: «تجريد التوحيد المفيد» ، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن أبو سيف، المدينة المنورة، 1418 هـ.

-رسالة الإمام محيي الدين البركوي الحنفي بعنوان: «زيارة القبور الشرعية والشركية» .

-ترجمة الشيخ أبي الحسن الندوي لكتاب «تقوية الإيمان» للإمام الشهيد إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي بعنوان: «رسالة التوحيد» .

ص: 54

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلَّى الله على سيدِنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم، ربِّ يَسّر وأعنْ يا كَريمُ.

الحمدُ للهِ الذِي شَرَّفَ بَلَدَ حبيبه وأَطَابَهُ، وأَنَافَ على سائر البُلْدانِ نِطَابَهُ

(1)

، ورفع فيه مِنبرَه ونَصَبَ فِيهِ مِحْرَابَه، وَأَوْجَهَ بِهِ مِنَ الْبَيْتِ العَتِيقِ حِجْرَهُ ومِيَزابَه، وأمطر على نَالَتِهِ

(2)

من جزيل نَالِهِ

(3)

أدرَّ سَحَابَه، وضاعف لمن ثَوَى فيه من عظيم فضله ثَوَابَه، وجعل [دواءَ

(4)

] الآلام طِينَه وشِفَاءَ الأسقامِ تُرابَه

(5)

، وأترع من جَوْد

(6)

جُودِ سِرِّ الوجود

(7)

عِرَاصَه

(8)

ورِحَابَه، وأمْرَعَ

(9)

(1)

النِّطاب - بالكسر-: الرأس. القاموس (نطب) ص 139.

(2)

النالة: ما حول الحرم. القاموس (نول) ص 1066.

(3)

النال والنوال: العطاء): السابق.

(4)

في الأصل: داء، والصواب ما أثبتناه.

(5)

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسانُ الشيءَ منهُ أو كانت به قَرْحَةٌ أو جَرْحٌ، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض، ثم رفعها:«بسم الله، تُرْبَةُ أرضنا برِيقَةِ بعضنا ليُشْفَى سَقِيمُنا بإذن ربنا» . أخرجه البخاري، في الطب، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم رقم:5745. ومسلم واللفظ له، في السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، رقم:2194.

وهل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (تربة أرضنا) جميع الأرض أو أرض المدينة خاصة، فيه قولان، وينظر لذلك: زاد المعاد 4/ 187، وشرح النووي لصحيح مسلم 14/ 184، وفتح الباري 10/ 207.

(6)

الجَوْد: المطر الغزير. القاموس (جود) ص 275.

(7)

سر الوجود) مصطلح متأخر محدث لايعرفه السلف ولا الأئمة المعتبرون المشهود لهم بالخير ولادلالة شرعية عليه، بل جاء في قوله تعالى:{وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} بيان الحكمة من خلق الخلق.

(8)

العِراص جمع عَرْصة، وهي: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. السابق (عرص) ص 623.

(9)

قوله: (وأترع من جَوْد

وأمرع كؤوسه

) كذا في الأصل، والمناسب للمعنى أن يكون في الأول (أمرع) وفي الثاني (أترع)، لأن معنى (أمرع): أخصب، والمَرِيع: الخصيب، ومعنى (أترع): ملأ. القاموس (مرع) و (ترع) ص 706،763.

ص: 55

به كُؤُوسَه وأكْوَابَه، وكسى أَهْلَه أَرْدِيَةَ الفَضْلِ وَأَثْوَابَه، ودَرَّعَهم

(1)

سوابغَ الشَّرَفِ وجِلْبَابَه، وفتح لهم من جزيل الخيِر أبْوابَه، وذلَّلَ لهم مِنْ جَمِيلِ الْبِرِّ صِعَابَه.

والصَّلاةُ والسَّلامُ على سَاكِنِهِ محمّدٍ الذي تَوَّجَه اللهُ حُلَّتَه وجِلبابَه، أرسلَه والخلقُ تَعْبدُ من دون الله أنْصَابَه

(2)

، فلم يزلْ يَقتحِمُ من النُّصْح في الله عِقابَه

(3)

، ويُنذِرُ الناسَ بَأْسَ اللهِ وعِقابَه

(4)

، حتى قطع ظُفُر الكفرِ ونابَه، ونطق من جوامع الكلمِ بِما أفحمَ به فرسانَ الخطابة، فجلا

(5)

بِبيانِه خواطرَ الخلقِ وأَلْبابَه

(6)

، وجرى في مَيْدان السِّباق فلم يُلْحق شَأْوُه

(7)

حتى جابَه

(8)

، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابته أشرفِ آل وأكرمِ صحابَة، من كل غضَنْفرٍ في الوَغَى

(9)

إلى ما ينزل من الوثَّابَةِ

(10)

(1)

درَّعَه تدريعاً: ألبسه الدرع. السابق (درع) ص 715.

(2)

الأنصاب: حجارة كانت حول الكعبة تُنْصَب فَيُهَلُّ عليها، ويُذْبَحُ لغير الله تعالى. القاموس (نصب) ص 138.

(3)

العِقَاب جمع: عَقَبة -بالتحريك-، وهي: مرقى صعب من الجبال. السابق (عقب) ص 116، والمراد: ماكان يعترضه صلى الله عليه وسلم في سبيل نشر الدعوة.

(4)

العِقاب هنا: مصدر قياسي من عاقب الذي هو بِمعنى المجازاة، والعقاب يَختص بالعذاب. مفردات الراغب ص 575.

(5)

جلاَّ: صقل. القاموس (جلو) ص 1271.

(6)

الألباب: جمع لُبٍّ وهو: العقل. القاموس (لبب) ص 133.

(7)

الشَّأْو: السبق والغاية. السابق (شأو) ص 1298.

(8)

يقال: جابَ الميدان يَجُوبُه، والجَوْب: القطع. السابق (جوب) ص 70.

(9)

الغَضَنْفَر: الأسد. القاموس ص 451، و الوَغَى: الحرب. القاموس (وغي) ص 1343.

(10)

الوثابة: الفرس السريعة الوثب. التاج (وثب).

ص: 56

وثَابَه

(1)

.

وبعد، يقول المُلتْجِئُ إلى حرَمِ الله تعالى محمدُ بنُ يعقوبَ بنِ محمدٍ الفيروزاباديُّ-منَّ الله تعالى عليه بالإنابة، ولا قَوَّضَ

(2)

له من ساحة الحرمينِ

أقْتَابَهُ

(3)

، ووطَّدَ به أوتادَ سُكْناه وأطْنابَه

(4)

، فالنفع ضُرٌّ إلا لمن قصد بابَه، والعيشُ مُرٌّ إلا لمن حلَّ أعتابَه

(5)

-:

إِنِّي لَمَّا شَرُفْتُ في عام اثنين

(6)

وثَمانين

(7)

بِجوارِ من شَرَّفَ الله جَنَابَه، تجدَّدَ نَظَري فيما وُضِعَ على ذِكْرِ معالمِ المدينةِ من تعليقٍ وكتابة، فلم أرَ كتاباً حاوياً يَجمع من تاريخِ البلدِ الكريمِ صُيَابَه

(8)

، فذهبتُ إلى وَضْعِ كتابٍ جامعٍ لما ذَهَبَ في كُتبِ المتقدمين بَدَداً

(9)

مُتجنِّباً إطنابَ القولِ وإسهابَه، وإنَّما

(1)

لعل ثابه هنا بمعنى: جازاه الله خيراً على ماقدم وتَحمل من أجلَّ تبليغ الإسلام. وهكذا جاءت هذه العبارة في الأصل وفي النفس منها شيء؛ إذ ليس في اللغة ثابه بمعنى جازاه، وإنما الفعل: أثابه، والله أعلم.

(2)

قوَّض البناء: هدمه، أو التقويض: نقض من غير هدم. القاموس (قوض) ص 653.

(3)

الأقتاب: جمع قَتَبٍ وهو الإكاف الصغير على قَدْر سَنام البعير. السابق (قتب) ص 122.

(4)

الأطناب: جمع طُنُب، وهو حبل طويل يُشَدُّ به سُرادِقُ البيتِ، أو الوَتَدُ. السابق (طنب) ص 109.

(5)

لاريب أن العيش مرٌ لمن ابتعد عن شرع الله عز وجل، وأما من وفقه الله لهدي كتابه وسنة نبيه فهو السعيد، قال تعالى:{من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بما كانوا يعملون} سورة النحل: الآية 97.

ومن تمام التوفيق أن يوفق المسلم لزيارة المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال وأما من تيسر له زيارة البعض دون الآخر فلا ضير عليه ولايقال فيه (عيشه مر) لكونه لم يشد الرحال لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(6)

في الأصل: (اثنتين)، والصواب ماأثبتناه.

(7)

بعد سبعمائة.

(8)

الصُّيَاب: الخالص والصميم والأصل والخيار من الشيء. القاموس (صيب) ص 106.

(9)

بَدَداً: متفرقاً. السابق (بدد) ص 266.

ص: 57

أُثْبِتُ من كُلِّ فَصْلٍ لُبَابَه، وَأَذْكُرُ البلدَ الكريمَ وفضلَهُ وتَطْيابَه

(1)

، وأُتْبِعهُ المسجدَ المقدَّسَ ومنبرَهُ ومِحرابَه، وعُمُدَه وأبوابَه، وحَصْباءه وعَدَابه

(2)

، وغَرْسه وعَراءه

(3)

، وعِرَاصَ الحرَم وأعْرَاضَهُ

(4)

، وحِرارَه

(5)

ولابَه

(6)

، وآطامَه

(7)

وآكامَه

(8)

وأعلامَه

(9)

وأوداءَه

(10)

وشِعَابَه

(11)

، وأُوفِي كُلاًّ من تَحرير اللفظِ وتبيينِ المعنى حِسَابَه، وأُصَحِّحُ بالبيان الصَّحيحِ أنْسَابَه، حتى أجْلُوَ

(12)

من حنادس

(13)

التحريف/2 والتَّصحيفِ ضَبَابَه

(14)

، وأَدُلُّ على لاحِبِ

(15)

(1)

التَّطْياب: مصدر طاب يطيب، بمعنى: لذَّ وذكا. السابق (طيب) ص 110.

(2)

العَدَاب -كسَحاب-: مااسترقَّ من الرمل. السابق (عدب) ص 112.

(3)

العَرَاءُ -بالمد-: الفضاء لايُستتر فيه بشيء. السابق (عري) ص 1311.

(4)

الأعراض جمع: عِرْض، وهوكل واد فيه شجر. وأعراض المدينة: قراها التي في أوديتها. لسان العرب (عرض) 7/ 172،173.

(5)

الحِرار: جمع حَرَّةٍ: وهي أرض ذَاتُ حجارةٍ نَخِرة سود. القاموس (حرر) ص 374.

(6)

اللاب جمع: لابة، وهي: الحرة. القاموس (لوب) ص 135.

(7)

الآطام: جمع أُطم، وهو: القصر، وكلُّ حصن مبني بحِجارة، وكل بيت مربع مُسطَّح القاموس (أطم) ص 1076.

(8)

الآكام: جمع أكمة، وهي دون الجبال، أو هي الموضع يكون أشد ارتفاعاً مما حوله. السابق (أكم) ص 1076.

(9)

الأعلام جمع: عَلَم، وهو الجبل الطويل، أو: الجبل مطلقاً. السابق (علم) ص 1140.

(10)

الأوداء: جمع وادٍ، والوادي: مفرج ما بين جبال أو تِلال أو آكام. السابق (ودى) ص 1342.

(11)

الشِّعاب: جمع شِعْبٍ، وهو الطريق في الجبل، ومَسِيل الماء في بطن أرض، أو ماانفرج بين جبلين. السابق (شعب) ص 101.

(12)

جلا الأمرَ وجلأه وجلَّى عنه: كشفه وأظهره .. ؛ وأمر جليٌّ: واضح. اللسان (جلَّو) 14/ 150.

(13)

الحنادس جمع حِندس، وهو: الليل المظلم، والظُّلْمة. القاموس (حندس) ص 540.

(14)

الضَّبُّ والتّضبيب: تغطية الشيء ودخول بعضه في بعض. اللسان (ضبب) 1/ 540.

(15)

اللاحب: الواضح. اللسان (لحب) 1/ 737.

ص: 58

التَّحقيقِ حائرَه ومُرْتابَه، وأُمَيِّزُ بتوفيق الله الكريم خَطَاءهُ

(1)

وصوابَه، وأَمْلأُ من الفرائدِ الأنيقةِ والفوائدِ الرشيقةِ وِطَابَه

(2)

، وأُعْلِي من الكَلِمِ الطَّيِّبِ خِطَابَه، وأُطَيِّبُ بعبِير حُسن التعبير ذَيْلَه

(3)

وقِطَابَه

(4)

، وأُسَمِّيهِ:«المغانِمَ المُطابَةِ، في مَعَالِمِ طَابَة» بِجاه نبيهِ

(5)

العظيمِ الذي ما سَأله إلا أجابَه، أنْ يَجعله خالصاً لوجهِهِ جالباً أسباب السَّعادَةِ والنَّجَابَة، وأن ينفعَ به رُوَّامَ

(6)

العلمِ وطُلاّبَه، وهو سبحانَهُ وليُّ القَبُولِ وَوَليُّ الإجَابَة.

البابُ الأولُ: في فضلِ الزيارةِ الشَّريفةِ، وآدابِها، وبيان وجوبِها

(7)

،

(1)

الخَطْءُ، والخَطَأُ، والخَطَاءُ: ضد الصواب. القاموس (خطأ) ص 39.

(2)

الوِطَاب وكذلك: الأَوْطُب والأوْطاب جمع: وَطْب، وهو: الزِّقُّ الذي يكون فيه السَّمن واللبن. اللسان (وطب) 1/ 798.

(3)

الذيل: آخر كل شيء. السابق (ذيل) 11/ 260.

(4)

القِطَابُ: مجمع الجيب

وجاؤوا قاطبة: جميعاً. القاموس (قطب) ص 126 ولعل المعنى: وأطيب بعبير حسن التعبير ذيله وجِماعه، والله أعلم.

(5)

التوسل بالجاه ليس عليه دليل من الكتاب ولا من السنة، بل ثبت في السنة وفي الآثار عن السلف مايدل على تركه ولو كان مشروعاً أو مستحباً لسبقونا إلى فعله.

والذي دل عليه الدليل الصحيح من الكتاب والسنة النبوية مشروعية التوسل في ثلاث:

1 -

توسل المؤمن بأسماء الله وصفاته، ومنه قوله تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} سورة الأعراف، الآية 180.

2 -

توسل المؤمن بالعمل الصالح كما في حديث الغار المشهور الذي رواه البخاري، في الأدب، باب إجابة دعاء من بر والديه، برقم:5974.

3 -

توسل المؤمن إلى الله تعالى بدعاء أخيه المؤمن، ومنه حديث توسل الأعمى، إذ توسل الأعمى بدعاء النبي لابذاته كما في الواقعة، ويدل على ذلك أن عمل الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بالتوسل به ولا بذاته ولابجاهه، وإنما استسقوا بدعاء العباس رضي الله عنه. وانظر لتفصيل ذلك كتاب (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية.

(6)

رام الشيء: طلبه. اللسان (روم) 12/ 258.

(7)

زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وشد الرحال إليه مستحبة، وليست بواجبة، وشد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أمر منهي عنه، لما ثبت في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى» . والمؤلف عفا الله عنه حشد أدلة كثيرة، واستدل بما يصح ومالا يصح، وأسرف في ذلك وبالغ، والتحقيق أن المؤمن ينوي بسفره زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا وفقه الله بعد ذلك، ووصل سالماً يسلّم على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأسلم له والأبرأ لدينه حتى لايقع في المحذور.

ص: 59

وتأكُّدِ استحبابِها، وذكر شيء من لطائِفها وأسرارها، والحضِّ على صَبْر الزائرين على لأْوائِها أيامَ جوارِها.

البابُ الثاني: في تاريخِ البلدِ المقدَّسِ، وذِكْرِ مَنْ سَكَنَهُ أوَّلاً مِن التَّتَابِعَةِ والعماليقِ، وهَلُمَّ جَرّاً، إلى أن فتحَ اللهُ تعالى بالقرآنِ لنبيهِ الكريمِ ما كانَ فيها من المغاليقِ.

الباب الثالث: في ذِكْرِ أسماء المدينةِ المُقدَّسةِ ومعانِيها، وبيان اشتقاقِ ألفاظِها مِنْ مصادِرِها ومبانِيها.

الباب الرابع: في الفضائل المأثورة، وذِكرِ ما رُوِّينا من الأحاديث والآثار في فَضْلِ كّلِّ واحدٍ واحدٍ من الأماكنِ المذكورةِ.

البابُ الخامس: في ذكر أماكنِ المدينةِ، ومساكنِها، ونُزُلِها

(1)

، وذُرَاها

(2)

،

ومساجِدِها، ومشاهِدِها، ودورِها، وقصورِها، ومناظرِها، ومقابرِها، ومزارعِها، ومواضعِها، وجبالِها، وتلالِها، وسِبَاخِها

(3)

، ورمالِها، وطَسَاسِيجِها

(4)

، وأعمالِها،

وعِرَاصِها، وأخْصَاصِها

(5)

،

(1)

النُّزُل -بضمتين -: المنزل، وما هُيِّئ للضيف أن ينزل عليه. القاموس (نزل) ص 1062.

(2)

ذُرَى الشيء - بالضم -: أعاليه، الواحدة: ذروة بالضم والكسر. القاموس (ذرا) ص 1284.

(3)

السِّباخ جمع: سَبَخة وسَبْخة، وهي: أرض ذات نَزٍّ وملح. والنَزُّ: مايتحلَّبُ من الأرض من الماء. القاموس (سبخ) ص 252. و (نزز) ص 527.

(4)

الطَّسَاسِيج: جمع طَسَّوجٍ، والطَّسُّوج: الناحية، مُعَرَّب. السابق (طسج) ص 197.

(5)

الأخْصَاصُ: جمع خُصٍّ، وهو بيت من شجر أو قصب، وقيل: الخُصُّ البيت الذي يُسقَّفُ عليه بخشبة. اللسان (خصص) 7/ 26.

ص: 60

وغِيَاضِها

(1)

، وأعراضِها، وآطامِها، وآكامِها، وأوديتِها، وأنديتِهَا، وعُيونِها، وضُبُونِها

(2)

، وقَنَواتِها

(3)

، وصَنَواتِها

(4)

، وآبارِها، وأنْهارِها، ومساحاتِها، ومسافاتِها، ومراحِلِها، ومناهلِها

(5)

، وتِلاعِها

(6)

، وقِلاعِها.

الباب السادس: في ذِكْرِ جماعةٍ ممن أدركناهم بالمدينةِ، أو ذَكَرَ لنا أشياخُنا المدنيون وغيرُهُم أنَّهُم أدركوهم بها، على اختلاف طبقاتِهم، وتبايُنِ درجاتِهم، من السَّاداتِ الأولياء، والأئمةِ العلماء، والأكابر الفضلاء، والحُكَّامِ الكُبراء، والفقهاءِ القُرَّاء، والأشرافِ الأمراء، والعُبَّادِ الصُّلحاء، والخُدَّامِ النُجَبَاء، والمؤذِّنينَ الأُمَناءِ، مسْتوفياً على ترتيب حروفِ الهجاءِ.

وقد ذكرتُ في هذا الباب جماعةً ممن لهم بالمدينةِ آثارٌ صالحةٌ وإِنْ /3 لم يساكنوا أهلها، ولهم بِها مَبرَّاتٌ جاريةٌ وإن لم يَطَؤوا حَزْنَهَا

(7)

وسَهْلَها، كذِكْري

(8)

للملكِ المطاع، والسُّلطانِ الرُّواَعِ

(9)

، وخاقانِ

(10)

خواقينِ البسيطةِ

(1)

الغِيَاضُ: جمع غيضة، وهي الشجر الملتف. القاموس (غيض) ص 650.

(2)

ماء ضَبْن

وضَبِن: إذا كان مشفوهاً- رقيقاً- لافضل فيه. ومكان ضَبْن: ضيق. القاموس (ضبن) ص 1211.

(3)

في الأصل: قنواوتها، والقنوات جمع: قناة، وهي: مجرى للماء ضيق أو واسع. المعجم الوسيط 2/ 764.

(4)

الصَّنْو: الماء القليل بين الجبلين. القاموس (صنو) ص 1304.

(5)

مناهل: جمع منهل، وهو الموضع الذي فيه المشرب. السابق (نَهل) ص 1066.

(6)

التِّلاع: جمع تَلْعة، وهي: ما ارتفع من الأرض، وما انْهبط منها-ضِدٌّ- ومَسِيل الماء، ومااتَّسَع من فُوَّهة الوادي، والقطعة المرتفعة من الأرض. السابق (تلع) ص 707.

(7)

الحَزْن: ماغَلُظ من الأرض. القاموس (حزن) ص 1189.

(8)

في الأصل: (لذكري)، ولعل الصواب ماأثبتناه.

(9)

رجلَّ أَرْوَعُ ورُوَاعٌ: حَيُّ النفس ذكيٌّ. اللسان (روع) 8/ 137.

(10)

خاقان: اسم لكل ملك خَقَّنه التركُ على أنفسهم، أي: ملّكوه ورأسوه. القاموس (خقن) ص 1194.

ص: 61

بلسانِ الإجماع، جلال الدين والدنيا أبي الفوارسِ شَاه شُجاع

(1)

، وكذِكْري

(2)

للجوادِ الرَّباني، جمالِ الدِّين الأصبَهاني

(3)

، والسلطانِ السَّعيدِ تقيِّ الدِّينِ الشَّهيدِ

(4)

، وأضرابِهِم ممن شَغُفَ بإسداءِ الإحسانِ إلى قاطني تُربتِها، وأولعَ بإسبالِ أذيالِ الامتنانِ إلى واطني رحبتِها، فشمل كتابي بذلك الخصوصَ والعمومَ،

وأصبح بحمد الله تعالى كالبدرِ في التَّمامِ والبحرِ في الطُّموم

(5)

، واللهُ يقول الحقَّ وهو يهدي السبيلَ.

* * *

(1)

تأتي ترجمته في الباب السادس.

(2)

في الأصل: (لذكري)، ولعل الصواب ماأثبتناه.

(3)

هو محمد بن علي بن أبي منصور، وزير صاحب الموصل زنكي الأتابك، كان يلقب بالجواد لكرمه ونبله، وكان يرسل في السنة إلى الحرمين مايكفي الفقراء، وأجرى الماء إلى عرفات أيام المواسم، وأنشأ مدرسة بالمدينة. توفي سنة 559 هـ. وفيات الأعيان 5/ 143، شذرات الذهب 4/ 185، سير أعلام النبلاء 2/ 349.

(4)

تأتي ترجمته في الباب السادس.

(5)

طمَّ الشيءُ: كَثُر حتى علا وغلب. القاموس (طمَّ) ص 1133.

ص: 62

‌الباب الأول: في فضل الزيارة الشريفة وآدابِها، وبيان وجوبِها

(1)

وتأكُّدِ اسْتحبابِها، وذكر شيء من لطائفِهَا وأسرارِهَا والحضِّ على صبرِ الزائرينَ على لأوائها أيام جوارِهَا.

اعلم أن زيارة سيد الأولين والآخِرين صلى الله عليه وسلم، والسَّلامَ عليه عند قبرِهِ من القُرُبَاتِ

(2)

التي لا يرتابُ فيها مَن منحه اللهُ تعالى فِطرةً سليمةً وقريِحةً مُستقيمةً من المسلمين.

(1)

سبق التعليق على قضية الوجوب والاستحباب ص 9.

(2)

اتفق العلماء على جواز زيارة الرجال القبور والدعاء لأهلها من غير شَدّ الرِّحال؛ لما في ذلك من ترقيق القلوب، والتزهيد في الدنيا. وإن الزيارة الموافقة لما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم كالدعاء للأموات والاعتبار بهم من غير استغاثة بهم، أو طلب النصرة منهم، جائزة، بل مستحبة لصحة الأحاديث في ذلك أما إذا تلبس صاحبها بأمور شركية كالنذر للأموات والاستغاثة بهم وغير ذلك مما في معناه، فعند ذلك تحرم. والله أعلم.

وأما مسألة زيارة النساء: فالخلاف فيها على قولين كذلك:

الأول: جوازها؛ لعموم حديث الإذن في الزيارة، ولأنه صلى الله عليه وسلم لماّ رأى امرأة تبكي عند قبر لم ينكر عليها وإنّما أنكر عليها البكاء.

الثاني: عدم جواز الزيارة للنساء. عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زوَّارات القبور» . أخرجه الترمذي، في الجنائز، باب ماجاء في كراهية زيارة القبور للنساء، رقم:1056. وابن ماجه، في الجنائز، باب ماجاء في النهي عن زيارة النساء القبور، رقم:1576. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وانظر: التمهيد 3/ 229، الاستذكار 15/ 177، المغني 2/ 422، المفهم 2/ 632، فتح الباري 3/ 177.

ص: 63

ونَحنُ قد كُنّا في غِنَىً عن إقامةِ حُجَّةٍ وإتيانِ برهانٍ، وتقييدِ دليلٍ على هذا الأمر البيِّنِ الوَضَّاحِ، المتَبلِّجِ غُرَّةَ شأْنِه تبلُّجَ

(1)

أساريرِ الصباحِ، لولا شبهةٌ مَحَنَ اللهُ تعالى بِها بعضَ المتأخرينَ، من الفضلاءِ المُبرِّزينَ

(2)

حتى صرَّحَ بعدمِ جوازِ شَدِّ الرَّحْلِ للزيارة الشريفة، وصَنَّفَ في ذلك مصنَّفاً، لكن جعل لِرَشْقِ الصَّواب من كنائِنِ

(3)

الضَّغَائِنِ هدفاً؛ فلأجل ذلك لوَّحنا إلى نُبَذٍ من واضحاتِ دلائِلِ الزِّيارةِ، واكتفينا عن مبسوطِ الكَلِمِ ومنشورِ الحِكَم في كل فصل بإشارة، فنقول:

تَعظيمُ مَنْ عظَّمَ اللهُ قَدْرَه وَاجِبٌ بدليلِ القرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقياسِ:

قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ له}

(4)

.

وقال عز وجل: {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}

(5)

.

وقال جل وعلا: {إنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أمِينٍ}

(6)

.

وقال تبارك وتعالى: {فإذَا سَوَّيتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}

(7)

.

(1)

بَلَج الصبحُ: أضاء وأشرق، كانْبَلَج، وتَبَلَّج، وأَبْلَج، وكلُّ متَّضح أَبْلَجُ. القاموس (بلج) ص 181.

(2)

المُبَرِّز: مَن فاق أصحابَه فضلاً أو شجاعة. السابق (برز) ص 503.

(3)

كنائن جمع: كِنانة، وكنانة السِّهام بالكسر جَعْبَةٌ من جلد لاخشب فيها، أو بالعكس. السابق (كنن) ص 1228.

(4)

سورة الحج آية رقم: 30.

(5)

سورة الفتح آية رقم: 9.

(6)

سورة التكوير آية رقم: 20.

(7)

سورة الحجر آية رقم: 31.

ص: 64

وقال جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهِا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ}

(1)

، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أعظمُ شعائر الله تعالى.

وقال عزَّ مِنْ قائل: {يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ باِلقَولِ}

(2)

.

وقال عز وجل: /4 {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُم كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضَاً}

(3)

.

وقال جلَّتْ عظمتُهُ: {وإذْ أخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيينَ} الآية

(4)

، تفسيره في حديث علي رضي الله عنه:«لم يَبعثِ اللهُ تعالى نبياً، آدمَ فَمَنْ بَعْدَهُ، إلا أخَذَ العهدَ في محمد صلى الله عليه وسلم، لئِن بُعِثَ وهو حي ليؤمِنَنَّ به ولينصرَنَّهُ»

(5)

. وقد صرَّحت الآياتُ بإلزامِ الأنبياء قاطبة التعظيمَ له جُملةً وتفصيلاً.

وفي حديثٍ رجالُه على شرطِ الشيخينِ، عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى، آمِنْ بِمحمدٍ، وَمُرْ مَنْ أدركَهُ من أُمَّتِكَ أن يؤمنوا به، فلولا محمدٌ ما خَلَقْتُ آدَمَ، ولولا محمدٌ ما

(1)

سورة الحج آية رقم: 32.

(2)

تمامها: {كَجهْرِ بَعْضِكُم لِبَعضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُم وأنتُم لا تَشْعُرون} سورة الحجرات آية رقم: 2.

(3)

سورة النور آية رقم: 63.

(4)

تمامها: {لَماَ ءَاتَيْتُكُمْ من كتابٍ وحِكْمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا معكم لَتُؤْمِنُنّ به ولَتَنْصُرُنَّه، قال: أأقْرَرْتُمْ وأَخَذْتُم على ذلكم إِصْرِي، قالوا: أَقْرَرْنا، قال: فاشْهدُوا وأنا معكم من الشاهدين} . سورة آل عمران آية رقم: 81.

(5)

أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان 3/ 332: حدثني المثنى، ثنا إسحق، ثنا عبدالله هاشم، أخبرنا سيف بن عمرو، عن أبي روق عطية بن الحارث، عن أبي أيوب، عن علي رضي الله عنه. ورجاله ثقات.

وفي تفسير الآية أقوال أخرى ذكرها السيوطي في الدر المنثور 2/ 83 - 85.

وانظر: المواهب اللدنية للقسطلاني 1/ 66.

ص: 65

خلقتُ الجنَّةَ والنَّارَ، ولقد خلقتُ العرشَ على الماءِ، فاضطربَ، فكتبتُ عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فَسَكَنَ بِهِ»

(1)

.

ورُوِّينا بسند صحيح، من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما اقترفَ آدمُ عليه السلام الخطيئَةَ قال: يا رب، أسألُكَ بِحقِّ محمدٍ لَمَا غَفرتَ لي. فقال اللهُ تعالى: يا آدمُ، كيفَ عرفتَ مُحمداً ولم أخلُقْه؟ قال: يارَبِّ، لأنَّكَ لما خَلَقْتَنِي بيدكَ، ونفخْتَ فِيَّ من روحِكَ، رفعتُ رأسي، فرأيتُ على قوائمِ العرشِ مكتوباً: لا إله إلا الله، محمدٌ رسولُ اللهِ، فعلمتُ أنَّكَ لم تُضِفْ إلى اسمكَ إلا أحبَّ الخلقِ إليكَ، فقال اللهُ تعالى: صدقتَ يا آدمُ، إنه لأحبُّ الخلقِ إليَّ، إذ سألتني بِحَقِّهِ فقد غفرتُ لك، ولولا محمدٌ ما خَلَقْتُكَ» . إسناده

(2)

وجاء في حديثٍ آخَر: «أما تَرْضَونَ أن يكونَ إبراهيمُ وعيسى فيكم يومَ

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 614 من طريق عمرو بن أوس، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن ابن عباس، موقوفاً.

وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي قائلاً: أظنه موضوعاً على سعيد.

وضعه عمرو بن أوس الأنصاري، قال الذهبي في الميزان 3/ 246: يجهل حاله، وأتى بخبر منكر وأظنه موضوعاً.

(2)

جاء على حاشية الأصل مانصّه: ليس في الأم بعد إسناده شيء، والصواب: إسناده ليس بالقوي، كما قال ابن عساكر في الأربعين الطوال. اهـ.

أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 615، وعنه البيهقي في دلائل النبوة 5/ 489، من طريق عبدالله بن مسلم الفهري، أنبأنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر، مرفوعاً.

قال الحاكم: صحيح الإسناد. فتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع وعبدالرحمن واه، وعبدالله بن مسلم الفهري لاأدري من هو.

وقال البيهقي: تفرد به عبدالرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه، وهو ضعيف.

وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 88 (رقم:25).

ص: 66

القيامةِ؟ أما إبراهيمُ فيقول: أنت دعوتي، فاجعلني في أُمَّتِكَ» الحديث

(1)

.

وفي حديثٍ آخَر: «أنَّ موسى عليه السلام نَاجَى رَبَّهُ، قال: اللهم اجعلني مِنْ أُمَّةِ محمدٍ»

(2)

.

وفي الصحيحِ: «لو كان موسى حيَّاً ما وَسِعَهُ إلا اتِّباعِي»

(3)

. وفي لفظ: «لو

كان موسى وعيسى حَيَّيْنِ».

وحديثِ ابن عباس رضي الله عنهما، يَرْفَعُه: «أنا أكرم الأوَّلِينَ والآخِرينَ

ولا فَخْر»

(4)

.

وحديثِ أنس رضي الله عنه: «أنه أُتِيَ بالبُرَاقِ ليلةَ الإسراءِ، فاسْتصْعَبَ عليه، فقال له جبريل عليه الصلاة والسلام: أبِمُحَمَّدٍ تفْعلُ هذا! فما رَكِبَكَ

أحدٌ

(1)

عياض الشفا 1/ 276. وقد عزاه صاحب موسوعة أطراف الحديث إلى كتاب مناهل الصفا 2/ 309.

(2)

أبو نعيم دلائل النبوة ص 31. قال: هذا الحديث من غرائب سعيد لا أعلم أحداً رواه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. الخصائص للسيوطي 1/ 11، سبل الهدى للصالحي 1/ 99.

(3)

أخرجه أحمد 3/ 387، والدارمي 1/ 78، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 42. من طريق مجالد، عن عامر الشعبي، عن جابر بن عبدالله، عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً، في حديث طويل.

قال الحافظ في الفتح: «رجاله موثقون، إلا أن في مجالد ضعفاً» . وللحديث شواهد كثيرة ترتقي به إلى الحسن. انظر إرواء الغليل 6/ 34 - 38. وقوله: (وفي الصحيح) تجاوز، إلا إذا قصد به الصحة اصطلاحاً على قول من يسمي الحسن صحيحاً.

(4)

جزء من حديث طويل: أخرجه الترمذي، في المناقب، باب رقم:3، برقم:3616، والدارمي 1/ 39، برقم:47.

من طريق زمعة، عن سلمة، عن عكرمة، عنه.

زمعة بن صالح: ضعيف. التقريب ص 217 (برقم: 2035).

قال الترمذي: هذا حديث غريب.

ص: 67

أكرمُ على الله تعالى منه، فَارْفَضَّ عَرَقَاً»

(1)

.

وحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ الله تعالى فضَّلَ محمداً على أهل السَّماءِ وعلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قالوا: فما فضله على أهل السَّماءِ؟ قال: إن الله تعالى قال لأهل السَّماءِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُم إِنِّي إلهٌ مِنْ دُونِهِ} الآية

(2)

. وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}

(3)

الآية. قالوا: فما فضلُهُ على الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: {وَمَا أرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَومِهِ}

(4)

. وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: /5 {وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلا كَافَّةً للنَّاسِ}

(5)

.

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: على باب الجنَّةِ مكتوبٌ: «إني أنا الله، لا إله إلا أنا، محمد رسول الله، لا أعُذِّبُ من قالها»

(6)

.

ووجد على الحجارة القديمة مكتوب: محمدٌ تقيٌّ مُصلحٌ سيِّدٌ أمينٌ

(7)

.

(1)

أخرجه الترمذي، في التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، رقم:3131، والبيهقي في الدلائل 2/ 362 - 363.

من طريق عبدالرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عنه.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولانعرفه إلا من حديث عبدالرزاق.

وقوله: (فارفض عرقاً) أي: جرى عرقه وسال. النهاية لابن الأثير 2/ 243.

(2)

تمامها: {فذلك نجزيه جهنم، كذلك نجزي الظالمين} سورة الأنبياء آية رقم: 29.

(3)

سورة الفتح آية رقم: 1.

(4)

سورة إبراهيم آية رقم: 4.

(5)

الآية من سورة سبأ رقمها: 28. والحديث رواه الطبراني في الكبير 11/ 191.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 225: ورجاله رجال الصحيح غير أبان بن الحكم، وهو ثقة.

(6)

عياض الشفا 1/ 229.

(7)

عياض الشفا 1/ 225.

ص: 68

وحكى القاضي عياض

(1)

، عن السِّمِنطاري -بكسر السين المهملة- نسبةً إلى

قرية بِجزيرة صِقِلِّية

(2)

، وقيل هو الذَّهبي بلسان أهل المغرب

(3)

، وهذا السِّمِنطاري: أبو بكر عتيق بن علي بن داود السِّمِنطاري

(4)

، أَحَدُ عُبَّادِ الجزيرة المجتهدين، وزُهَّادِها العاملين، له كتاب في الرَّقَائِقِ في نِهاية الملاحة، عشر مجلدات كبار، لم يُسبق إلى مثله، ذَكَرَ فيه أنه شاهد بِخُرَاسَانَ مَولوداً وُلِدَ وعلى أحد جنبيه مكتوبٌ: لا إله إلا الله، وعلى الآخر: محمد رسول الله

(5)

.

وذكر الأخباريون أن ببلاد الهندِ ورداً أحمرَ مكتوب عليه بالأبيض: لا إله إلا الله، محمد رسول الله

(6)

.

وحكى النَّقَّاشُ

(7)

: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نَزَلَتْ: {وَمَا كَانَ لَكُم أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدَاً}

(1)

عياض بن موسى بن عياض اليَحْصِبي السَّبْتي أبو الفضل. ولد سنة 446 هـ. كان إماماً في علوم كثيرة، وله مصنفات عديدة. توفي سنة 544 هـ. البداية والنهاية 12/ 241، سير أعلام النبلاء 20/ 212.

(2)

جزيرة صقلية، وهي تقع في البحر الأبيض المتوسط قبالة الساحل الإفريقي (تونس)، وقد فتحت في أيام بني الأغلب على يد أسد بن الفُرَات، ثم آلتْ بعد ذلك إلى يد الإفرنْجة. انظر: معجم البلدان 3/ 416. وهي الآن تابعة لإيطاليا.

(3)

السابق، 3/ 253.

(4)

توفي سنة 464 هـ. انظر: ما ذكره ياقوت الحموي عنه، والشفا 1/ 229 هامش 5.

(5)

الشفا 1/ 229، سبل الهدى 1/ 87.

(6)

الشفا 1/ 299. الأولى ترك مثل هذه الآثار، فما لم يفده القرآن الكريم والسنة النبوية من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه بقدره الشريف، لم تفده هذه الآثار.

(7)

هو محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون النقاش، أبو بكر المفسر الحافظ صاحب الرحلات الكثيرة في طلب العلم، له مؤلفات كثيرة في القرآن والتفسير؛ منها كتاب كبير سماه شفاء الصدور قال الخطيب: وفي أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة، ونقل عن البرقاني قوله: كل حديثه منكر. توفي سنة 351 هـ. طبقات المفسرين 2/ 135، تاريخ بغداد 2/ 201.

ص: 69

الآية

(1)

. قام خطيباً، فقال:«يا معشرَ أهلِ الإيمانِ، إن الله تعالى فضَّلَنِي عليكم تفضيلاً، وفضَّلَ نسائي على نسائكم تفضيلاً»

(2)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إن الله تعالى نظر إلى قلُوب العباد، فاختار منها قلبَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فاصطفاهُ لنفسِهِ، فبعثَهُ برسالتِهِ»

(3)

.

وَرَوَيْنَا فيما حدَّثَنِي به جماعةٌ بِثَغْرِ الإسكندريَّةِ قراءةً منِّي عليهم بسنَدٍ

صحيحٍ عن عطاءِ بن يسارٍ

(4)

قال: لقيتُ عبدَ الله بنَ عمرو بنِ العاص

(5)

رضي الله عنهم

(6)

، فقلت: أخْبِرْنِي عن صِفَةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أجل، والله إنه لموصوفٌ في التَّوراةِ ببعض صفته في القرآنِ:«يَا أيُّهَا النَّبِي إنا أرسلناك شاهداً ومبشِّراً ونذيراً، وحِرْزاً للأُمِّيينَ، أنتَ عبْدي ورسولي، سمّيتُك المتوكِّل، ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ ولا سَخَّابٍ في الأسواقِ، ولا يدفَعُ بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، ولكنْ يعفو ويغفر، ولن يَقْبِضَه الله تعالى حتَّى يُقيمَ به الملَّةَ العوجاءَ، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عُمْياً، وآذاناً صُمّاً، وقُلُوباً غُلْفاً»

(7)

.

(1)

سورة الأحزاب آية رقم: 53.

(2)

لعل هذا القول في كتابه الذي ألفه في التفسير وسماه الإشارة أو شفاء الصدور، تاريخ بغداد 2/ 201.

(3)

رواه أحمد (رقم: 3600)، والطيالسي ص 23، وابن الأعرابي في معجمه 2/ 84، والطبراني في الكبير 9/ 112 - 113. من طريق عاصم، عن زر بن حبيش، عنه، موقوفاً.

حسن الإسناد. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم: 533.

(4)

هو عطاء بن يسار الهلالي أبو محمد المدني، مولى ميمونة رضي الله عنها، ثقة فاضل، روى له الجماعة. توفي سنة 94 هـ. الطبقات الكبرى 5/ 173، تهذيب التهذيب 4/ 139.

(5)

في الأصل (العاصي) وماأثبتناه هو الصواب.

(6)

كذا (عنهم) في الأصل، ولعله أضاف لهم عطاء بن يسار في الترضي، أو أنه أطلق الجمع على المثنى، وهذا وارد في اللغة.

(7)

أخرجه البخاري، في البيوع، باب كراهية السخب في السوق، رقم:(2125). 4/ 402.

ص: 70

وفي لفظٍ من عند ابن إسحاق

(1)

: ولا صَخَّابٍ في الأسواقِ ولا مُنْبَرٍ

(2)

بالفحشِ ولا قَوَّالٍ للخَنَا، أسدِّدُه بكلِّ جميلٍ، وأهَبُ له كلَّ خُلُقٍ كريمٍ، ثم أجعلُ السَّكِينَةَ لباسَه، والبِرَّ شعارَه، والتَّقوى ضميرَه، والحكمةَ معقولَه، والصِّدقَ والوفاءَ طبيعتَه، والعَفْوَ والمعروفَ خُلُقَه، والعدلَ سيرتَه، والحقَّ شريعتَه، والهدى إمامَه، والإسلامَ مِلَّتَه، /6 وأحمدَ اسمَه، أَهْدِي به بعد الضلالةِ، وأُعَلِّمُ به بعد الجهالةِ، وأرفع به بعد الخمالةِ، وأُسَمِّي به بعد النُّكْرةِ، وأُكْثِرُ به بعد القِلَّةِ، وأُغْني به بعد العَيْلَةِ

(3)

، وأجمع به بعد الفُرْقةِ، وأُؤلِّفُ به بين قلوب مختلفةٍ، وأهواء مشتَّتةٍ، وأُمَمٍ متفرقةٍ، وأجعلُ أُمَّتَهُ خير أُمَّةٍ أُخرجتْ للنَّاسِ.

فانظر إلى هذه الآيات والأحاديث، وتفطَّنْ لما تتضمنُ من تعظيم خُلاصة الوجودِ، والتَّعريفِ بقَدْرِ نُخْبَةِ هذا العالم الموجودِ، ففيما تلوناه عليك نِهايةُ المدح والتعظيم والتَّبجيل، وإيِجابٌ لفعل ذلك مع جنابه الشريفِ الأسمى على كلِّ جيل، كما نَطَقَ به القرآن بعد التَّوراةِ والإنْجيلِ، وهذا النوع من الآيات والآثار الُمفْصِحَةِ بعظيم قَدْرِ مَنْ عَظَّمَ الله قدره لاسيما قدر المصطفىصلّى الله عليه وسلّم، ووجوبِ تعظيم مَحِلِّهِ الأثير أكثر من الكثير، وإنما أتينا من ذلك بقطرةٍ من غَمَامٍ

(4)

، وذَرَّةٍ من

شَمَامٍ

(5)

ودُرَّةٍ من مَغَاصٍ

(6)

(1)

محمد بن إسحاق بن يسار، إمام أهل زمانه في السير، ولد سنة 80 هـ، رأى أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، توفي سنة 151 هـ. الطبقات الكبرى 7/ 321، تاريخ بغداد 1/ 214، و سير أعلام النبلاء 7/ 303.

(2)

انبرى له: اعترض، وتَبَّريْتُ لمعروفه: تعرَّضْتُ. القاموس (بري). وجاء رسم الكلمة في الأصل: (منبري) ص 1262.

(3)

العَيْلَة: الفقر. عَالَ يَعيل عَيْلاً وعَيْلَة. القاموس (عيل) ص 1037.

(4)

الغَمَامُ جمع: غمامة، وهي: السحابة، أو البيضاء من السحاب. القاموس (غمم) ص 1143.

(5)

شَمَامُ: جبل بالعالية. اللسان (شمم) 12/ 327.

(6)

المغاص: المكان الذي يَنْزِلُ إليه الغوَّاصُ في البحر لاستخراج اللؤلؤ. انظر: القاموس (غوص) ص 625.

ص: 71

وخَصَّةٍ

(1)

من دِلاصٍ

(2)

.

وأما تعظيمُ الأُمَّةِ له صلى الله عليه وسلم، وإجماعُ كلِّ قَرْنٍ قَرر على ذلك، فأمر جليٌّ، عن الإبانةِ غنيٌّ، وتَعْظيمُ كل أحدٍ بِحسب عرفانِهِ وإيقانه، ومقتضى رُسوخِ دينِه وثبُوت إيمانه، فكانت الصحابةُ رضي الله عنهم أعظمَ النَّاسِ في هذا البابِ، والفائزينَ بالقِدْح المُعَلَّى من تعظيمه من بين سائر ذوي الألبابِ.

ورُوِّينا بسندٍ صحيحٍ: أن عروةَ بن مسعودٍ

(3)

رضي الله عنه لما رَجَعَ في عام

القِصَّةِ

(4)

إلى قريشٍ وقد رأى حالَ الصَّحابَةِ رضي الله عنهم في تعظيمهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشرَ قريشِ، إني جئتُ كِسْرَى في مُلْكِهِ، وقَيْصَرَ في مُلْكِه، والنجاشيَّ في مُلْكِه، وإني والله ما رأيتُ مَلِكاً قط يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعَظِّمُ محمداً أصحابُه

(5)

.

(1)

الخصة والخصاصة: النبذ اليسير من الشيء، ويُجمع على خصاص. التاج (خصص).

(2)

الدِّلاص: اللَّيِّن البرَّاق. القاموس (دلص) ص 620.

(3)

هوعروة بن مسعود بن مُعتِّب الثقفي، عَمُّ شعبة والد المغيرة، كان أحد الأكابر من قومه، وقيل بأنه أحد المرادين بقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجلَّ مِنَ القَرْيَتَينِ عَظِيمٍ} . وكان له دور بارز في إقناع قريش بصلح الحديبية. أسلم منصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من حصار الطائف سنة 9 هـ، قتله أحد قومه لما دعاهم إلى الإسلام، وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم. أسد الغابة 4/ 31 - 33، الإصابة 2/ 477.

(4)

القصة: المراد بِها عام الحديبية، وقصة الصلح التي تَمَّتْ بين الرسول صلى الله عليه وسلم وكفار قريش عام سِتٍّ من الهجرة. انظر: ابن هشام 3/ 255 - 269، و المواهب اللدنية للقسطلاني 2/ 493 وما بعدها.

(5)

جزء من حديث طويل عن المسور بن مخرمة ومروان: أخرجه البخاري، في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، 5/ 241 - 260، برقم:2731،2732. وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 260 - 261.

ص: 72

وبسندٍ صحيحٍ، عن عَمرو بن العاص

(1)

رضي الله [عنه

(2)

] من حديثٍ طويلٍ، أنه قال: ما كان أحدٌ أحبَّ إليّ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا أجَلَّ في عيْنَيَّ منه، وما كنت أُطيقُ أن أملأَ عَيْنَيَّ منه إجلالاً له، ولو سُئِلْتُ أن أصِفَهُ ما استطعتُ

(3)

؛ لأني لم أكنْ أملأُ عَيْنَيَّ منه

(4)

.

وكان الصحابةُ رضي الله عنهم يهابونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وتعظيماً لشانِه، وتوقيراً وتكريماً لمكانِه، فلذلك كانوا يفرحونَ بقدوم الأعرابي كي يَسألَ مما تتضمَّنُه صُدورُهم من المسائلِ

(5)

، ويسْتَوضحَ من غرائب الوقائعِ، ويسْتكْشفَ لهم عن الحُجَجِ عليها والدلائلِ، ولو أردتُ إيضاحَ ذلك بإيرادِ /7 أحاديثَ تَدُلُّ على المبالغة والتأكيد من أكابرِ الصحابةِ وسائرهم في تعظيم شأنِ النبي صلى الله عليه وسلم وتفخيمِ قدرهِ لملأتُ القَمَاطِرَ

(6)

، وأتْعَبْتُ الشَّنَاتِرَ

(7)

والمَحَابِرَ

(8)

.

(1)

هو عمرو بن العاص السهمي، أسلم قبل فتح مكة، وقاد سرايا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفتح مصر في خلافة عمر بن الخطاب، وبها مات سنة 43 هـ والياً عليها من قِبَلِ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. الاستيعاب 2/ 508 - 515. الإصابة 3/ 2 - 3.

(2)

في الأصل: (عنهما) وهو خطأ، لأن العاص لم يثبت أنه أسلم.

(3)

في صحيح مسلم: ماأطقت.

(4)

أخرجه مسلم، في الإيمان، باب كون الإسلام يَهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، برقم:192.

(5)

ومن الأمثلة على ذلك ما رواه مسلم 1/ 169، والنسائي 3/ 437 في الكبرى برقم: 5863، عن أنس بن مالك قال: نُهينا في القرآن أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله، الحديث.

(6)

القِمَطْر: ما يُصان فيه الكتب. القاموس (قمطر) ص 465.

(7)

الشناتر جمع: شُنْتُرة، وهي: الإصبع. السابق (شنتر) ص 420.

(8)

المحابر: جمع مَحْبَرة. السابق (حبر) ص 370.

ص: 73

ولَزِمَ من ذلك أن الإزراءَ والغَضَّ مما نوَّه اللهُ تعالى بذكرِهِ، و [التسريدَ

(1)

] على ما أمَرَ اللهُ تعالى بتعظيمِ قَدْرِهِ، وإهمالَ حَقِّ ما أبانَ اللهُ عز وجل لنا تفخيمَ مَحَلِّهِ وتبجيلَ أمرِهِ، حرامٌ منهيٌّ عنه بالزَّجرِ الشديدِ، والمنعِ الأكيدِ، وأنَّ التعريضَ بسببٍ يُفْضِي إلى ذلك، والجنوحَ إلى أمرٍ يُؤدي إلى سلوكِ بعضِ تلك المسالكِ، والإلمامَ بشيء يؤولُ إلى تَحقيرِ شانهِ، والإيِماءَ إلى الجريانِ حول تصغيرِ مكانتهِ ومكانهِ، يُوجب معاندةَ أوامرِ اللهِ تعالى ومعارضةَ أحكامِه، ومناقضةَ ما نَطَقَ التنِّزِيلُ بإيثاقِه وإبرامِه.

ثم إن ذلك التشديدَ يَختلفُ باختلافِ المراتبِ، وما يترتَّبُ عليه من المخالفاتِ وأنواع العصيان: ففي بعض الأحوال يؤدي إلى الكفر الصُّراحِ، والشِّركِ البَحْتِ، والانْخلاعِ من الدِّينِ، والانقطاعِ عن فئةِ المسلمينَ، والانسلالِ عن زُمرةِ المؤمنينَ، والمُرَاغَمَةِ

(2)

لحكم ربِّ العالمينَ. وعِصْيَانٍ في بعضٍ يستوجِبُ دخولَ فاعلهِ في زُمْرةِ العاصينَ القاصِينَ

(3)

، وفِسقٍ يرجعُ بصاحبه عن مناهجِ الفوزِ إلى دَرَكَاتِ الآخِرينَ، ويُوضح له الخسرانَ المبينَ، وذلك على حسب حال من يُعزى إليه ذلك الحالُ، من عُلُوِّ رُتْبَتِهِ في مراقي الكمالِ، وسُمُوِّ درجتِهِ في مصاعِدِ الجلالِ، ثم باعتبار المُتَلَبِّسِ بذلك من كيفياته في اعتقاده وارتياده، وقصده واعتماده، وجهله ونسيانه، وعلمه وإيقانه، وسهوه وعمده، وزَهْوِه

(4)

وجَحْدِه، فاستبان بذلك أن كُلَّ ما أرشدَ ودَلَّ إلى وجوب تعظيمِ مُعَظَّمٍ ومدحِ معظِّمه وحُسْنِ جزائِهِ وثوابِهِ، دَلَّ على

(1)

في الأصل: (السديد) وعليها علامة توقف (ط)، ولعل ماأثبتناه هو الصواب، والأصل في التسريد: الخَرْزُ في الجلد والثَّقْب. انظر: القاموس (سرد) ص 288.

(2)

المراغمة: الهِجْران، والتباعد، والمغاضبة. القاموس (رغم) ص 1114.

(3)

القاصي: المُبْعَد. السابق (قصو) ص 1325.

(4)

الزَّهْو:

الباطل، والكذب، والاستخفاف. السابق (زهو) ص 1293.

ص: 74

تَحريم تَحقيرِهِ وتنقيصِهِ لجميع أنواع ما ذُكِرَ وذَمِّ فاعلِهِ، وسوء عاقبتهِ، وعظيم عقابهِ؛ إذ المنعُ من النقيضِ مندرج في رسم الواجبِ، وفضلٌ ذَاتِيٌّ له، كما تقررَ في كُتُبِ الأصولِ

(1)

، فأعيانُ الأدلة السالفة بِجملتها مشتملة على أدلَّةِ هذه القاعدة.

ثُمَّ لما نَحنُ في صدده أدلَّة خاصَّةٌ، فهما يتعاضدان، من ذلك قوله تعالى:{وإذْ قُلْنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ، فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ للظَّالِمِينَ بَدَلاً}

(2)

.

وقال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُم ثُمَّ صَوَّرْناكُم} . إلى قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أجْمَعِينَ}

(3)

.

وقال جَلَّ وعَلا: {وإذْ قُلْنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إبْلِيسَ أبَى واسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ}

(4)

.

/8 فإن هذه الآيات تتضمَّنُ الذَّمَّ الأكيدَ، والوَعيدَ الشديدَ، والعذابَ والنَّكَالَ، والخِزْيَ واللَّعْنَ، والشَّقَاءَ والذُّلَّ والصَّغَارَ، والغَضَبَ والبَوَارَ، والقهرَ والزَّجْرَ الأقصى، وما يُجاوز حدَّ الحصرِ والإحصا، كلُّ ذلك بسبب تصغيرِ ما كبَّرَ الله تعالى، وتَحقيرِ ما عظَّمَ الله عز وجل، وذلك ثابت في حقِّ كلِّ معظَّمٍ عند الله تبارك وتعالى من مَلَكٍ ونبيٍّ ورسولٍ وغير ذلك، فكيف بِما يتعلق بشأن أشرفِهم وأكرمِهم على الله تعالى، وأفضلِهم وأفخمِهم، وأقربهم من الله

(1)

يشير المؤلف إلى القاعدة الأصولية المعروفة: الأمر بالشيء نَهي عن ضده. انظر: (المغني في أصول الفقه) للخبازي ص 68.

(2)

سورة الكهف آية رقم: 50.

(3)

سورة الأعراف آية رقم: 11 - 17.

(4)

سورة البقرة آية رقم: 34.

ص: 75

عزّ وجلَّ، سَيِّدِ المرسلين، وخاتم النبيين، وأعظم الخلق عند رب العالمين؟

قال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ}

(1)

.

وقال عز وجل: {إنَّ الَّذِينِ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية

(2)

.

وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}

(3)

.

وقال جلَّ وعَلا: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُم عَذَابٌ ألِيمٌ}

(4)

.

وقال جلَّتْ عظَمَتُه: {إنَّ ذَلِكُم كَانَ يُؤذِي النَّبِيَّ}

(5)

.

وقال جلَّ وعَلا: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُم كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً}

(6)

.

وقال تعالى: {لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}

(7)

.

وهذهِ الآياتُ دلالتُهَا فيما ذكرناه أوضحُ

(8)

من أن [تُكَابر]

(9)

ولله الحمد.

(1)

سورة الأحزاب آية رقم: 53.

(2)

تمامها: {لَعَنَهُمُ اللهُ في الدنيا والآخرةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً} سورة الأحزاب آية رقم: 57.

(3)

سورة التوبة آية رقم: 61.

(4)

سورة التوبة آية رقم: 61.

(5)

سورة الأحزاب آية رقم: 53.

(6)

سورة النور آية رقم: 63.

(7)

سورة الحجرات آية رقم: 2.

(8)

هذه الأدلة ومابعدها حق في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب التأدب معه صلى الله عليه وسلم، لكن ليس فيها البتة أية دلالة على مايرمي إليه المؤلف؛ من كونها توجب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لامن قريب ولامن بعيد.

(9)

كلمة غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه يناسب سياق الكلام.

ص: 76

وأما الأحاديث فكثيرة، منها: قولُه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لِكَعْبِ بن الأشْرَفِ

(1)

، فإنه قد آذى اللهَ ورسولَهُ»

(2)

.

ومنها: قولُه صلى الله عليه وسلم: «من سبَّ نبياً فاقتلوه، ومن سبَّ أصحابي فاضربوه»

(3)

.

وأما الإجماعُ

(4)

: فأيضاً أمْر جَلِيٌّ واضحٌ، لا يَشُكُّ فيه شاكٌّ، ولا يُخالفُ فيه أحدٌ، أنَّ المسلمينَ كافَّةً يُوجبونَ تعظيمَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم التَّعظيمَ البالغ الذي لا مَرْمَى وراءه، ولا غايةَ بعده، وأنَّ كُلَّ من نَقَصَه وعَابَه، فهو كافرٌ حلالُ الدَّمِ.

قال القاضي أبو الفضل عياض: اعلم أن جميع مَنْ سبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو عَابَهُ أو ألحقَ به نَقْصاً في نفسه أو نسبه أو دينه أو خَصْلَةٍ من خِصالِه، أو عَرَّضَ به، أو شَبَّهَهُ بشيء على طريق السَّبِّ له والإزْراء عليه والتصغير لشأنه أو الغضِّ منه أو

(1)

هو كعب بن الأشرف اليهودي، كان شاعراً يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحض عليهم ويؤذيهم، قتله محمد بن مسلمة رضي الله عنه مع نفر من الأوس. الطبقات الكبرى 2/ 31.

(2)

جزء من حديث طويل، متفق عليه، عن جابر بن عبدالله، رضي الله عنهما، مرفوعاً.

أخرجه البخاري، في المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف، برقم:4037، وفي الرهن، باب رهن السلاح، رقم:2510، ومسلم، في الجهاد، باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود، برقم:1801 (صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 161).

(3)

أخرجه الطبراني في الصغير 2/ 235 - 236، حدثنا عبيدالله بن محمد العمري، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثنا موسى بن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن الحسين بن علي، عن علي رضي الله عنه، مرفوعاً بلفظ: من سب الأنبياء قتل، ومن سب أصحابي جلد.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 260: رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن شيخه عبيدالله بن محمد العمري: رماه النسائي بالكذب. وانظر: ميزان الاعتدال 3/ 15.

(4)

الإجماع لغة: العزم والاتفاق. واصطلاحاً: اتفاق مجتهدي الأمة في أي عصر على أمر ديني ولو فعلاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم. شرح الكوكب المنير لابن النجار 2/ 210.

ص: 77

العيب له؛ فهو سابٌّ له، والحكمُ فيه حكمُ السَّابِّ، يُقْتَلُ.

وكذلك: مَنْ لعنه، أو دعا عليه، أو تَمنَّى مَضَرَّةً له، أو نسَبَ إليه مالا يليق بِمنصبه على طريق الذَّمِ، أو عَبَثَ في جهته العزيزة بِسُخْفٍ من الكلام وهُجْرٍ، ومنكرٍ من القول وزُورٍ، أو عَيَّرَهُ بشيء مما جرى عليه من البلاء والمحنةِ، أو غَمَصَهُ

(1)

ببعضِ العوارضِ البشريةِ الجائزِة والمعهودة لديه.

هذا كلُّه إجماعٌ من العلماء وأئمة الفتوى من لَدُنِ الصحابةِ رضي الله عنهم وهَلُّمَ جَرَّا

(2)

.

قال ابن المُنْذِر

(3)

: أجمع عوامُّ أهلِ العلمِ

(4)

على /9 أنَّ من سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم يُقْتَلُ، وممن قال بذلك: مالكٌ وأحمد وإسحاق

(5)

، وهو مذهب الشَّافِعِيِّ

(6)

، وهو مُقْتَضَى قولِ أبي بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه

(7)

، ولا تُقْبَل توبتهُ عنْدَهُم.

(1)

غَمَصَهُ: احتقَرهُ وعابه وتهاون بحَقّه. القاموس (غَمَصَ) ص 625.

(2)

الشفا 2/ 932 - 933.

(3)

هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، الحافظ العلامة الفقيه، ولد بنيسابور ثم جاور بِمكة واشتغل بالعلم فكان يعرف بفقيه مكة وشيخ الحرم، توفي سنة 318 هـ. سير أعلام النبلاء 14/ 490، شذرات الذهب 2/ 280. طبقات الشافعية 3/ 102.

(4)

أي: جميعهم، والعَوامُّ جمع: العامَّة، خلاف الخاصة. انظر: المعجم الوسيط (عمم) 2/ 629.

(5)

هوإسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي أبو يعقوب (ابن راهويه)، الحافظ، صاحب التصانيف الكثيرة، شيخ المشرق، توفي سنة 238 هـ. تاريخ بغداد 6/ 345، سير أعلام النبلاء 11/ 358، العبر 1/ 334.

(6)

الإشراف على مذاهب أهل العلم 2/ 244.

(7)

يشير إلى قول أبي بكر فيما رواه أبو بَرْزة، حيث قال: أغلظ رجلٌ لأبي بكر الصديق، فقلت: ألا أقتله؟ قال أبو بكر: ليس هذا إلا في من شتم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. المحلى لابن حزم 11/ 410، والإشراف على مذاهب أهل العلم 2/ 244.

ص: 78

وبِمثله قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوريُّ

(1)

، وأهلُ الكوفة،

والأوزاعيُّ

(2)

، لكنهم قالوا: هي رِدَّةٌ

(3)

.

وعلى هذا وقع الخلافُ في استتابته وتكفيره، وهل قَتْلُه حدٌّ أو كفرٌ؟.

ولا نعلم خلافاً في استباحة دمِه بين علماء الأمصار وسَلَفِ الأمَّةِ، وذَكَرَ غيرُ واحدٍ إجماعَ الأُمَّةِ على قتله وتكفيره

(4)

.

وقال محمد بن سَحْنُون

(5)

: أجمع العلماء على أن شاتِمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المُتَنَقِّصَ له كافرٌ، والوعيدُ جارٍ عليه بعذاب الله تعالى له، وحكمه عند الأئمة القَتْلُ، ومَنْ شَكَّ في كفره وعذابه كَفَرَ

(6)

.

واحتجَّ إبراهيم بن حسين بن خالد

(7)

في مثل هذا، بقتل خالد بن الوليد

رضي الله عنه مالكَ بنَ نُوَيْرَةَ

(8)

بقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم:

(1)

هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، سيد أهل زمانه فقهاً وعملاً. توفي سنة 161 هـ. الطبقات الكبرى 6/ 371، العبر ص 380.

(2)

هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام في عصره. توفي في بيروت سنة 157 هـ. الطبقات الكبرى 4/ 488، حلية الأولياء 6/ 135، سير أعلام النبلاء 7/ 107.

(3)

هي ردة: بمعنى أن صاحبها يستتاب، فإن تاب خُلِّيَ، وإلا قُتِلَ.

(4)

الشفا 2/ 934.

(5)

هومحمد بن عبد السلام بن سعيد التَّنوُخي ابن الإمام (سَحْنون)، عالم مشهور، كان على طريقة والده في العلم والزهد، من علماء المالكية، له مؤلفات كثيرة، توفي سنة 265 هـ. رياض النفوس 1/ 443. الوافي 3/ 86، سير أعلام النبلاء 13/ 60.

(6)

الشفا 2/ 935.

(7)

هو إبراهيم بن حسين بن خالد، أبو إسحاق، كان خيراً فقيهاً، عالماً بالتفسير، من فقهاء المالكية توفي سنة 240 هـ. الديباج المذهب ص 84، ترتيب المدارك 4/ 242.

(8)

هو مالك بن نويرة كانت له وفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم، ثم ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقات على قومه تميم، ولما توفي صلى الله عليه وسلم منع الزكاة عن أبي بكر الصديق ثم كان يصف الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (صاحبكم)، فلذلك كله أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه ضرار بن الأزور بقتله فقتله. أسد الغابة 5/ 52، الإصابة 3/ 357.

ص: 79

صَاحِبُكُم

(1)

.

قال الخَطَّابي

(2)

: لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله

(3)

.

وعن مالك: يُقْتَلُ ولم يُسْتَتَبْ

(4)

.

وعن عثمان بن [كِنَانَةَ]

(5)

: يُقْتَلُ أو يُصْلَبُ حياً ولم يُسْتَتَبْ

(6)

.

قال بعض علماء المالكية: أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويلِ أو بشيء من المكروه أنه يُقْتَلُ بلا استِتَابَةٍ

(7)

.

فإذا تقرَّرَ ذلك، فإن إيذاءَ النبي صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ ما ذكرنا كُفرٌ صُراحٌ، وإنَّ إيذاءَه بالأحْقَرِ الأهونِ من الأمورِ حرامٌ غيرُ مُباحٍ، حتى قال جماعةٌ من العلماء

(8)

: مَنْ قال إن زِرَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وَسِخٌ -أراد به عيبه - قُتِلَ من غير استتابة.

(1)

الشفا 2/ 935.

(2)

هو حَمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البُسْتي الخطابي، أبو سليمان، الفقيه صاحب التصانيف المفيدة، كان عالماً محققاً، توفي سنة 388 هـ. طبقات الشافعية 3/ 181، العبر 2/ 174، شذرات الذهب 3/ 127.

(3)

معالم السنن 6/ 199.

(4)

الشفا 2/ 936.

(5)

في الأصل: (لبابة) وهو خطأ. عثمان بن عيسى بن كنانة، من أئمة المالكية، ومن تلاميذ مالك الملازمين له، وممن جَلَس في مكانه لإلقاء الدروس بعد وفاته. توفي سنة 186 هـ. ترتيب المدارك 1/ 292، التحفة اللطيفة 3/ 167.

(6)

الشفا 2/ 936.

(7)

الشفا 2/ 936.

(8)

وهذا القول مروي عن الإمام مالك كما في الشفا 2/ 937.

ص: 80

وقد أفتى فقهاءُ الأندلسِ بقتل من سَمَّاه في أثناء مُناظرته يتيماً، وخَتَنَ حَيْدَرَة

(1)

، وقتلِ مَنْ زَعَمَ أن زُهده لم يكن عمداً، وإنَّمَا لم يَجد، ولو قَدَر على الطَّيِّبَاتِ لأكلها

(2)

.

فلا يَسْتَهْوِكَ الشيطانُ

(3)

في أمرِ الزِّيارةِ بشبهة يُوردُها لك، فيزيغَ بِكَ عن سواءِ الطَّريقِ، ويُضِلَّكَ عن منهجِ أَرَبِ التصديقِ، وإن عَرَضَ لك شيء من الهواجسِ، وعَرَضَ الشيْطانُ بِخَطَرَاتٍ من تلك الوساوسِ، فاذْكُرْ قدْرَ نبيِّكَ الكريم

(4)

، وشأنَه العظيم، واستعذْ بالله من الشيطان الرجيم، {إنَّ الذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ، وَإخْوَانُهُم يَمُدُّونَهُمْ في الغَيِّ ثُّمَ لا يُقْصِرُونَ}

(5)

.

واعلم أَنْ لو قال قائل: فلان لا تنبغي زيارتُه، كان ذلك بلا شكٍّ تنقيصاً وازدراءً بلا امْتراءٍ، لا سيما إذا كان ذلك /10 المذكور من أهل القَدْر والشرف

(6)

، وكلما كان المذكور أنبلَ، كان القول فيه أهول.

(1)

الختَنُ: كلُّ من كان من قِبَل المرأة كالأب والأخ. القاموس (ختن) ص 1193 فمعنى (ختَن حيدرة) أي: والد امرأته، وحيدرة: لقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(2)

الشفا ص 2/ 940. وذكر القاضي عياض أن الذي سمّى النبي صلى الله عليه وسلم أثناء مناظرته يتيماً .. ، هو ابن حاتم المتفقه الطليطلي.

(3)

أي: لايحملك على اتباع الهوى. انظر: المفردات للراغب ص 849.

(4)

إن قدر النبي صلى الله عليه وسلم عظيم، وماساقه المصنف فيه بيان قدره صلى الله عليه وسلم بل هو عين الامتثال لأوامره وعين الانتهاء عن نواهيه، وهذا لايستلزم البتة انتقاصها؛ إذ الانتقاص من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم كفر-أعاذنا الله منه-.

(5)

سورة الأعراف آية رقم: 201،202.

(6)

مقياس الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم هو في اتباعه صلى الله عليه وسلم، وقول القائل: لاينبغي زيارته إذا كان على سبيل الانتقاص فهذا كفر، وإذا كان المراد: لاتجب زيارة القبر بل ولاتشرع، فهذا حق لاانتقاص فيه ولاازدراء.

ص: 81

فإن اعتذر بشبهةٍ قد صَعُبَ عليه إزاحتُها، وشكوكٍ فَسَحَتْ له عن جواز تلك المقالة وإباحَتِها، كما يُعلِّلُ المُتعلِّلُ المذكورُ في تقبيح المقال، بِحديث:«لا تُشَدُّ الرِّحَالُ»

(1)

قيل له: قد تقرَّرَ في علم الأصول الذي هو مَثارُ الحجج، ومعيارُ البراهين،

المَصُونُ عن الزَّيْغِ والعِوَج

(2)

؛ أنه ليس لأحد استقباحُ حكم عن دليل حتى يُحْكِمَ نظرَه فيه، وأنه إذا أجمع أهلُ العصر الأول على فهْمِ حديثٍ أو آيةٍ، فليس لمنْ بعدهم مُخالفة ذلك

(3)

، فكيف بإجماع الأعصار من لَدُنِ الصحابةِ رضي الله عنهم وهَلُمَّ جَرّاً

(4)

؟.

ثم إن الخواطرَ والهواجسَ، والأوهامَ والوساوسَ، من الفكرِ العقلي

(1)

جزء من حديث متفق عليه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسحد الأقصى.

أخرجه البخاري، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم:1189،3/ 576، ومسلم، في الحج، باب لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، رقم:1397،2/ 6014.

(2)

المصون عن الزَّيغ والعوج هو القرآن الكريم، وأما الأصول فلا يطلق عليها هذا التعبير ولا قريباً منه، لأنَّها قواعد وبراهين يتطرق إليها من الاعتراضات والمناقضات ما يتطرق لغيرها من العلوم الاجتهادية.

(3)

شرح الكوكب المنير لابن النجار 2/ 258.

(4)

ليس هناك إجماع على مشروعية شد الرحال لقبر النبي صلى الله عليه وسلم في عصر الصحابة بل الأمر على خلافه فضلاً عن دعوى الإجماع من لدن الصحابة رضي الله عنهم وهلّم جرا، كيف يتصور إجماع على خلاف ماصح النهي عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. والإجماع حاصل في السلام على الوجه المشروع بأن يسافر للمسجد النبوي أولاً ثم يسلم على النبي وصاحبيه رضي الله عنهما.

ولقد فهم الصحابة رضي الله عنهم أن النهي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة داخل في النهي كما جاء في النهي عن السفر إلى طور سيناء، وانظر تفصيل ذلك في (الصارم المنكي) ص 342.

ص: 82

والخيالِ النفسي، في كتاب الله تعالى وسُنَّةِ نبيه صلى الله عليه وسلم وكلامِ العلماء، ليس كلُّها يُتَّبَعُ، ولا على جميعها يُعَرَّجُ، بل قد يكون بعضُها ضَلالاً وجَهْلاً، وبعضها يكون جُحوداً وكُفْراً، وبعضُها فِسْقاً وعِصْياناً، وبعضها لَغْواً وهذَياناً، فلا يَنبغي لمن وقعَ له أو من سَمِعَ منه أن يُقْبِلَ عليه بقول حتى تَشْهَد له القواعد الإيمانيةُ، ويُوافقَ على صِحَّته الشواهدُ القرآنيّة، وليست العصمةُ إلا للأنبياء والمرسلين، فيثبت على هذا المنهج القويم، والصراط المُسْتقيم، وكُلٌّ مأخوذٌ من قوله ومتروكٌ إلا صاحبَ هذا القبر الكريم

(1)

.

ثم نقول: إن الأنبياء والمرسلين، الذين هُمْ خَوَاصُّ عبادِ الله الأكرمين، وكُلُّ من اصْطفاه الله تعالى وأصْفاه، وقرَّبه وأدناه، وشرَّفه وزكَّاه، وأسماه

(2)

في مراقي القُرْبِ وأعلاه، وأَثْواه في سُرادِقات

(3)

الخُصوص وآواه، هم بَشَرٌ لا كالأبْشَارِ، كما أن الياقوتَ حجرٌ لا كالأحجارِ، أهلُ الشَّرَفِ الأسنى، والزُّلْفَةِ والحسنى، وكذلك تُبَّاعُهُم

(4)

من الصديقين، والأولياء المتقين، والشهداءِ والصالحين، والأتقياءِ الأبرار من المؤمنين والمسلمين، فحالُ هؤلاء كلِّهم على حسب درجاتِهم عند ربِّهم بعد الموت، أشرفُ وأكملُ، وأعلى وأفضلُ، مما كان قبل ذلك.

فأما النبيون فليسوا كغيرهم، وإنَّما هم ينتقلون من الكاملِ إلى الأكمل،

(1)

هذا كلام عظيم، ولكن ليس فيه دلالة على مايرمي إليه المؤلف من إيجاب الزيارة، وشد الرحال، بل المانعون اعتمدوا على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكيف يكون مانهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم مشروعاً عن كونه واجباً؟.

(2)

أسماه: أعلاه. القاموس (سمو) ص 1296.

(3)

السُّرادق: الذي يُمَدُّ فوق صحن البيت. السابق (سردق) ص 893، ومعنى أثواه: أنزله وأضافه.

(4)

التُّبَّاع: جمع، ومفرده: التابع، بمعنى: التالي. اللسان (تبع) 8/ 27.

ص: 83

ويَرْتقون من الفاضلِ إلى الأفضل، ومن كشفٍ إلى كشفٍ أجلى، ومن نُورٍ إلى نُورٍ أعلى، ومما يَدُلُّ على ذلك صَريحاً:

قولُ الله تعالى: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ}

(1)

.

وقولُ اللهِ عز وجل: {وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}

(2)

.

وقولُ اللهِ جلَّ وعَلا: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ للَّذِينَ يَتَّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ}

(3)

.

وقولُ اللهِ جلَّ وعَلا: {ولَلآخِرَةُ خَيرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}

(4)

.

وقولُ اللهِ تبارك وتعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقَى}

(5)

. في آيات كثيرة

(6)

/12 بصريحها تَدُلُّ على ما أوردناه.

ثم نقول: إن هؤلاء المذكورين من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، وسائرِ عباد الله المُخلصين، والأولياءِ والصدّيقين، وجملةِ صالح المؤمنين، ومن مات على الإسلام من سائرِ المسلمين، كلُّهم أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون ويَنعمون ويَسمعون، ويَنطِقُون

(7)

ويُبصرون، في السُرور الدائمِ، والنعيمِ اللازمِ، وقد قَصُرَتْ أوهامُ البشر وإدراكُ عقُول الأنام، عن الدُّخولِ إلى معرفة كُنْهِ ذلك المقام.

(1)

سورة النحل آية رقم:30.

(2)

سورة يوسف آية رقم: 109.

(3)

سورة الأعراف آية رقم: 169.

(4)

سورة الضحى آية رقم: 4.

(5)

سورة الأعلى آية رقم: 17.

(6)

حصل سهو حال ترقيم صفحات المخطوط، فسقط رقم (11).

(7)

الصواب: أن مايسمعه الأموات لايثبت إلا مقيداً، كما ورد في النص حسب وروده، ولانتجاوز ذلك لكون حياة البرزخ تختلف عن الحياة الدنيا والأمر توقيفي؛ إذ الله أعلم بحقيقة الحال في البرزخ.

ص: 84

أهلُ السَّعَادَةِ عندَ اللهِ أحياءُ

لهم مِنَ اللهِ في الجناتِ ما شَاءوا

جاءوا إليه فأحياهم وبَوَّأهم

منه مقاعدَ صِدْقٍ عندما جاءوا

لهم من اللهِ بعدَ الموتِ مَنْزِلَةٌ

في عالمِ القُدْسِ والأنوارِ عَلْياءُ

وكذلك ينبغي أن يُعْتَقَدَ في كُلِّ من مات من الآدميين مؤمناً كان أو كافراً بأنه

(1)

إما مُنَعَّمٌ أو مُعذَّبٌ، وطريقُ العلمِ بذلك والاطِّلاعِ عليه والإيمان به والتسليمِ فيه، إنَّما يكون عن كَشْفٍ ومشاهدةٍ

(2)

واطِّلاعٍ ببصائرِ الإيمانِ، وقلوبِ أهلِ العِرفانِ.

بينَ القيامةِ والدُّنيا لِذِي نَظَرٍ

مَراتِبٌ، برزخيَّاتٌ لها سُوَرُ

تحوي على حِكَمٍ قدْكان صَاحِبُهَا

قَبْلَ المماتِ عليه النوم فاعتبروا

لها على الكل إقدامٌ و سلطنةٌ

تُبدي العجائبَ لا تبقي ولا تَذَرُ

لها مَجالٌ رحيبٌ في الوجود بلا

تقيُّدٍ وهي لا عينٌ ولا أثَرُ

يقول للحقِّ كُنْ و اللهُ خالقُهَا

فكيف يَخرج عن أحكامِهَا بَشَرُ؟

فيها العُلُومُ، وفيها كُلُّ قاصِمَةٍ

فيها الدلائلُ والإعجازُ والعِبَرُ

لولا الخيالُ لكُنَّا اليومَ في عَدَمٍ

ولا انقضى غرضٌ فينا ولا وَطَرُ

كأنَّ سُلطانَهَا إن كنتَ تَعْقِلُهَا

الشرعُ جاء به والعقلُ والنَّظَرُ

من الحروفِ لها كاف

(3)

) الصِّفَاتِ فما

تَنْفَكُّ عن صُوَرٍ إلا أتَت صُوَرُ

ولما كان البَرْزَخُ أمراً فاصلاً بين معلومٍ وغير معلومٍ، وبين معدومٍ وموجودٍ، وبين منفيٍّ ومُثْبَتٍ، وبين معقولٍ وغير معقولٍ، سُمِّيَ برزخاً اصطلاحاً، لأن البرزخَ عبارةٌ عن أمرٍ فاصلٍ بين أمرين لا يكون متطرفاً أبداً، كالخطِّ الفاصل بين الظِّلِّ والشَّمس. قال الله تعالى:{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}

(4)

.

(1)

في الأصل: (وأنه) ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

(2)

بل الأصل في طريق الإيمان بالمغيبات هو الإيمان والتصديق بما أخبر به ربنا عز وجل في كتابه وبما أخبر به رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.

(3)

كاف الصفات: بمعنى كافي الصفات، وحذفت الياء لضرورة الشعر.

(4)

سورة الرحمن آية رقم: 20.

ص: 85

أي: لا يَختلط أحدهما بالآخر، وهنا عجَزَ الحِسُّ عن الفصل بينهما، والعقل يقتضي أن بينهما حاجزاً يَفصل بينهما، فذلك الحاجز المعقولُ /13 هو البرزخُ.

وعالَمُ البرزخِ معقولٌ في نفسه وليس إلا الخيالُ، فإنك إذا أدركتَه وكنتَ عاقلاً تعلم أنك أدركت شيئاً [وجودياً]

(1)

بأنك وَقَعَ بصرك عليه، وتعلمُ قطعاً بدليلٍ أنه ما ثَمَّ شيء أصلاً، فما هو هذا الذي أثبتَّ له وجوديةً ونفيتَها عنه في حال إثباتك إياها؟ فالخيال لا موجود ولا معدوم، ولا معلوم ولا مَجهول، ولا منفي ولا مثبت.

كما أن الإنسان يُدْرِكُ صورتَه في المرآة، ويعلمُ قطعاً أنه أدرك صورتَه بوجهٍ، ويعلم قطعاً أنه ما أدرك صورتَه بوجهٍ؛ لِمَا يرى فيها من الدِّقَّةِ إذا كان جِرْم المرآة صغيراً، ويعلم أن صورتَه أكبرُ مما رأى، وكذلك

(2)

إذا كان جِرْم المرآة كبيراً يرى صورته في غاية الكِبَرِ، ويقطعُ أن صورته أصغر، ولا يَقْدِرُ أن يُنكرَ أنه رأى صورتُه، ويعلم أنه ليس في المرآة صورته، ولا هي بينه وبين المرآة، ولا هو انعكاسُ شُعاعِ البصرِ إلى الصورة المرئية فيها من خارج؛ إذ لو كان كذلك لأدرك الصورة على قَدْرِها، فليس الرائي بصادقٍ ولا كاذب في قوله: إنه رأى صورته، ما رأى صورته، فما تلك الصورة المرئية، وأين مَحَلُّها، وما شأنُها؟ فهي منفية ثابتة، موجودة معدومة، معلومة مجهولة.

أظهر الله تعالى هذه الحقيقةَ لعبده ضربَ مثالٍ؛ ليعلم ويتحقَّقَ أنه إذا عَجِزَ في دَرْكِ حقيقةِ هذا وهو في العالَم، فهو بِحقيقةِ خالقهِ أعجزُ وأجهل، وأشدُّ حَيْرة، ونَبَّهَ بذلك أن تَجلِّياتِ الحقِّ تعالى للعبد أرقُّ وألطفُ معنى من

(1)

في الأصل: وجود، وعليها (ط) علامة التوقف.

(2)

في الأصل: ولذلك، ولعل الصواب ماأثبتناه.

ص: 86

هذا الذي قد حارت العقول بأسرها فيه، وعجزَتْ عن إدراكِ حقيقته حتى بلغ في العجز إلى حدٍّ يقول: هل لهذا ماهِيَّةٌ؟ ولا ماهِيَّةَ له. وإلى مثل هذه الحقيقة بصر الإنسان في نومه وبعد موته، فترى الأعراضَ صوراً قائمةً بنفسها تُخاطبه ويُخاطبها لا يَشُكُّ فيها، فالأنبياء صلوات الله عليهم في عالم البرزخِ أكملُ وأتَمُّ شأناً في جميع أحوالهم مما كانوا عليه في الدنيا

(1)

.

ولما كان نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم خاتَمهم الذي ظهرَ بدايةً جسماً وروحاً عند انتقال حكم الزمان في جريانه إلى الاسم الظاهر، لكن كان الحكم له باطناً أولاً في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ثم صار الحكْمُ له ظاهراً، فنسخَ كلَّ شيء أبرزَهُ الاسمُ الباطنُ بِحكمِ الاسم الظَّاهِرِ؛ لبيان اختلافِ حكمِ الاسْمَيْنِ. وإن كان الْمُشروعُ واحداً وهو صاحِبُ الشرعِ، فإنه قال:«كُنْتُ نبياً /14 وآدمُ بين الماء والطين»

(2)

وما قال: كنتُ إنساناً، ولا كُنْتُ مخلوقاً، ولا موجوداً، ولَيستِ النُّبوَّةُ إلا بالشرع المقرَّرِ عليه مِنْ عند الله تعالى، فإنه صاحِبُ النُّبوةِ قبل وُجُودِ الأنْبِيَاءِ

(3)

الذين هم

(1)

الصواب أننا نسير مع الدليل في كل أمر من أمور الغيب ولانتجاوز ذلك.

(2)

قال السيوطي في اللآلئ المنثورة ص 192: وهذا اللفظ لاأصل له. وانظر: تمييز الطيب رقم:1050، المقاصد الحسنة رقم:82، كشف الخفا 2/ 132.

لكن المأثور ما روي عن ميسرة الفجر أنهم قالوا: يارسول الله، متى كنت نبياً؟ قال: كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد. أخرجه أحمد 5/ 59، وأبو نعيم في الحلية 9/ 53، وابن سعد 7/ 60 وغيرهم.

وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه الترمذي، في المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم:3609 وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

روى الإمام أحمد في المسند 4/ 66، 128، وغيره عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينه» وهو ضعيف. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة: 2085.

ص: 87

نُوابُه

(1)

في هذه الدُّنْيَا، وكان انتِهَاءُ دَوْرَةِ الزَّمَانِ المحمَّدِيِّ بِالاسْمِ البَاطِنِ ابتداءَ دَوْرَةٍ أُخْرَى بالاسمِ الظَّاهِرِ، فأظْهَرَ مُحَمداً صلى الله عليه وسلم جسماً وروحاً بالاسم الظاهر، ونسَخَ مِنْ شَرْعِهِ المتقَدِّمِ ما أرادَ الله تعالى أن يَنْسَخَ منه، وَأَبْقَى ما أراد الله عز وجل أنْ يُبْقِيَ منه، وذلك من الأحْكَامِ خَاصةً لا من الأصُولِ

(2)

.

ولما كانَ ظهوره بالمِيزانِ، وهو العَدْلُ في الكوْنِ، وهو مُعْتَدِلٌ؛ لأن طبعه الحرَارَةُ والرُّطُوبةُ، كان من حكمِ الآخِرَةِ، فإنَّ حركة المِيزانِ متصلةٌ بالآخرة إلى دُخول الجنَّةِ، فلهذا كان العلم في هذه الأُمَّةِ أكثرَ مِمَّا كان في الأوَائِلِ، فأعطى الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم علم الأولينَ والآخرينَ

(3)

، لأن حقيقةَ الميزان تُعطي ذلك، وكان الكَشْفُ في هذه الأُمَّةِ أسرعَ مِما كان في غيرها؛ لغلبة البَرْدِ والْيُبْسِ على سائر الأمَمِ قبلنا، وإن كانوا أذكِيَاءَ عُلَمَاءَ، فأجاد منهم مُعيَّنونَ، بِخِلافِ ما النَّاس عليه اليومَ.

ألا ترى هذه الأُمَّةَ قَدْ ترجَمَتْ جميعَ عُلومِ الأُمَمِ

(4)

، ولو لم يكنِ

(1)

ولكن هذا الكلام لا يفهم من قول الله تعالى: {ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} . قال القرطبي: ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله. وهذا في الشرائع والعبادات والأصل التوحيد لا اختلاف فيه. الجامع لأحكام القرآن 6/ 211.

(2)

يقرر العلماء بأن النسخ لايدخل إلا في الأحكام التفصيلية لاختلاف الأزمنة، واختلاف مايصلح الناس ويتلاءم معهم في كل زمان ومكان. أما الإيمان بالله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وبالجنة والنار وبالحساب والعقاب، فهذه أجمعت كل الرسالات السماوية عليها من لدن آدم إلى آخرهم سيدنا محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين الذي كانت رسالته آخر الرسالات وانتهى النسخ بانتقاله إلى الرفيق الأعلى. انظر: إحكام الفصول للباجي ص 394 ومابعدها.

(3)

لعله يشير إلى حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة 18/ 15 بشرح النووي وقد أخبرهم صلى الله عليه وسلم فيه بما هو كائن إلى يوم القيامة.

(4)

كان أول من أمر بترجمة الكتب إلى العربية الخليفة العباسي المأمون، المتوفىَّ سنة 218 هـ. سير أعلام النبلاء 10/ 272.

ص: 88

المترجِمُ عالماً بالمعنى الذي دَلَّ عليه لَفْظُ المتكلِّمِ به، لمَا صَحَّ أن يكونَ هذا مُتَرْجِماً، فقد علِمَتْ هذه الأُمَّةُ عِلْمَ من تَقَدَّمَ، واختصَّتْ بعلومٍ لم تكن

(1)

للْمُتَقَدِّمينَ.

فقد ثبتَ له صلى الله عليه وسلم السِّيادَةُ في العلم في الدُّنْيَا، وثبتَ له أيضاً السِّيادةُ في الحُكْمِ حيثُ قال:«لو كان مُوسَى وعيسَى حيَّيْنِ ما وَسِعَهُمَا إلا اتِّبَاعِي»

(2)

ويتبيَّنُ ذلك عند نُزولِ عيسى عليه السلام، وحُكْمِه فينا بالقرآن، والاقْتداء بِهذه الشَّريعةِ

(3)

، فصحَّتْ له السِّيادَةُ في الدُّنْيا بِكُلِّ وجْهٍ ومعنىً، ثم أَثْبَتَ له السِّيادَةَ على الخَلْقِ كُلِّهِمْ يومَ القيامة بِفَتْحِه بابَ الشفاعة

(4)

، ولا يكونُ

(1)

في الأصل: (يكن) بالياء.

(2)

أخرجه أحمد 3/ 387، والدارمي 1/ 78، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 42. وليس فيه ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام.

من طريق مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبدالله، عن عمر، مرفوعاً في حديث طويل.

في سنده: مجالد بن سعيد الهمداني، ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره. التقريب ص 520 (6478). وللحديث شواهد كثيرة ترتقي به إلى الحسن. انظر: إرواء الغليل 6/ 34 - 38.

(3)

لقد ثبت بالتواتر أن عيسى عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء صلاة ربي وسلامه ينزل

حاكماً ومحكماً لشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع على ذلك أهل السنة؛ للأحاديث الواردة في ذلك، ولم يقل بخلافه إلا بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى:{وخاتم النبيين} وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي» ، ورُدَّ بأن عيسى لم ينزل بشريعة جديدة وإنما محكماً لشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: صحيح مسلم شرح النووي 18/ 75 وما بعدها، باب ذكر الدجال.

(4)

الشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر مايستعمل في انضمام مَن هو أعلى حُرمة ومرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيامة. مفردات ألفاظ القرآن للراغب ص 457.

ص: 89

ذلك لِنَبيٍّ يوم القيامة إلا لَهُ صلى الله عليه وسلم

(1)

، فقد يَشْفَعُ صلى الله عليه وسلم في الرُّسُلِ والأنْبِيَاءِ، نَعَمْ وفي الملائكة، فيأْذَنُ الله تعالى

(2)

عند شَفَاعَتِهِ له في ذلك لِجميع مَنْ له شفاعةٌ من مَلَكٍ ورسولٍ ونبيٍّ ومؤمنٍ أنْ يَشْفَعَ، فهو صلى الله عليه وسلم

أَوَّلُ شَافِعٍ بإِذْنِ الله تعالى

(3)

، وَأَرْحَمُ الراحمينَ: آخِرُ شافعٍ يوم القيامة، فيشفعُ الرَّحيمُ عند المُنْتَقِمِ أنْ يُخْرِجَ من النار مَنْ أَسَاءَ إليه، وَيُتْبِعُهمْ تعالى مَن لم يَعْمَلْ خيراً قطُّ

(4)

.

15/ فأَيُّ شرفٍ أَعْظَمُ وأعلَى، وأَيُّ عِزٍّ أَشْمَخُ وأَسْمَى، من دائرةٍ يكون أولُها سيدَ المرسلين، وآخِرُها أرحمَ الراحمين؟ وآخِرُ الدائرة متصلٌ بأولها، فأَيُّ شَرَفٍ أعظمُ من شرف محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان ابتداءَ هذه الدائرة؟.

(1)

روى البخاري وغيره في حديث طويل- عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم

إلى أن يصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فيشفع لهم .. » أخرجه البخاري في الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (6565).

(2)

يشير إلى شفاعته من أجل القضاء بين المخلوقات كما في الحديث السابق.

(3)

قال الإمام النووي: الشفاعة خمسة أقسام، أولها: مختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم وهي الإراحة من هول الموقف وتعجيل الحساب. الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهذه وردت أيضاً لنبينا صلى الله عليه وسلم. الثالثة: الشفاعة لقوم استوجبوا النار، فيشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله تعالى. الرابعة: فيمن دخل النار من المذنبين، فقد جاءت الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم والملائكة وإخوانهم من المؤمنين، ثم يخرج الله تعالى كل من قال: لاإله إلا الله -كما جاء في الحديث - لايبقى فيها إلا الكافرون. الخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها شرح صحيح مسلم 3/ 35 - 36 باختصار يسير....

(4)

روى الإمام مسلم وغيره، في حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن الله عز وجل يقول: «شفعت الملائكة، وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً. مسلم، في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم:302.

ص: 90

ولما اتَّضحَ ما ذكرناه أنه أَشْرَفُ الخلقِ وأَكْمَلُهُمْ على الله سبحانه، وأنَّ كَمَالاتِه في جميع حالاته أَكْمَلُ وأَتَمُّ، وأَجْمَلُ وأَفْضَلُ من جميع كمالاتِ الكاملين في حالاتهم، وحياةُ الأنبياء في القبور ثابتةٌ معلومةٌ

(1)

بدلائلَ تقدَّمَتْ، وقد صنَّفَ النَّاسُ فيها مُصَنَّفاتٍ

(2)

، فينبغي أن تكون حياتُه صلى الله عليه وسلم أكملَ وَأتَمَّ من حياة سائرهم.

فإن تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ ولم يتَّضِحْ له معنى قولِه صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ مُسَلِّمٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلا رَدَّ الله تعالى عَلَيَّ رُوحِي حتى أَرُدَّ عليه»

(3)

، وقال: لوكان الحياةُ مستمرَّةً ثابتةً لمَا كان لِرَدِّ الروح مَعْنَى.

فالجواب عنه واضح إن شاء الله تعالى

(4)

، وهو أن يقال: إنَّ هذا خِطابٌ

(1)

أخرج البزار في مسنده (كما في كشف الأستار عن زوائد البزار 3/ 100 رقم: 2339).

«الأنبياء أحياء يصلون في قبورهم» وقد تتبع الشيخ الألباني طرق هذا الحديث-ثم

قال: (هذا وقد كنت برهة من الدهر أرى أن هذا الحديث ضعيف لظني أنه مما تفرَّدَ

به-ابن قتيبة-ولم أكن قد وقفت عليه في مسند أبي يعلى و أخبار أصبهان فلما وقفت على إسناده فيهما تبين لي أنه إسناد قوي. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم الحديث: 621. وانظر: سبل الهدى والرشاد 12/ 355 - 366، والخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 280).

(2)

وممن ألَّف فيها: البيهقي في كتابه: حياة الأنبياء في قبورهم، وقد طبع في مصر سنة: 1349 هـ. وطبع أخيراً بتحقيق: أحمد عطية الغامدي، المدينة المنورة، مكتبة العلوم والحكم، 1414 هـ، 136 ص.

(3)

أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في المناسك، باب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره، رقم:2034، وأحمد 2/ 227، والطبراني في الأوسط 3/ 385 - 386، والبيهقي في السنن 5/ 245.

قال الحافظ في الفتح 6/ 279: رجاله ثقات. وانظر: كشف الخفا 2/ 194، المقاصد الحسنة ص 587، تمييز الطيب من الخبيث ص 167. وذكر في التلخيص الحبير 2/ 267 أن أصح ماورد في هذا الباب هو هذا الحديث.

(4)

ليس هناك إشكال، وإنما نؤمن بما أخبر به نبي الله صلى الله عليه وسلم بأنه عند السلام عليه تُرَدُّ عليه روحه حتى يرد السلام.

ص: 91

على مقدارِ فَهْمِ المُخاطَبينَ من أهل الدُّنْيَا، على ما يفهمونَ من شَأْنِ الخارج من الدُّنْيَا، أنه لابد من عَوْد روُحِه إليه حتى يَسْمَعَ ويُجِيبَ، كأنه قال: أنا أُجِيبُ ذلك بِتَمَامِ الإجابةِ، وأَسْمَعُ ذلك تمام السَّمَاعِ، فلا تَرْتَابُوا فيه.

أو يُقالُ -كما قال الشَّيخُ أبو سليمان

(1)

رحمه الله: إن هذا إِعْلامٌ بثبوت وَصْفِ الحياة دائِماً؛ لِثُبوتِ رَدِّ السَّلامِ دائِماً؛ لثبوت السَّلامِ دائماً، فَوَصْفُ الحياةِ لازمٌ لرَدِّ السَّلامِ اللازمِ، واللازِمُ يَجِبُ وجودُه عند وجودِ مَلْزُومِه أو ملزومِ مَلْزُومِه، فوَصْفُ الحياةِ ثَابِتٌ دائماً؛ لأن مَلْزُومَ مَلْزُومِه ثَابِتٌ دَائماً، وهذا من نُفاثاتِ السحر البياني في إثبات المقصود بِأَكْمَلِ أَنْوَاعِ البَلاغةِ، وأَجْمَلِ فنونِ البراعَةِ، التي هي قَطْرَةٌ من بِحَارِ بلاغَتِهِ العُظْمَىصلّى الله عليه وسلّم

(2)

.

أو يقالُ: إن ذلك عبارةٌ عن إقْبَالٍ خَاصٍّ والْتِفَاتٍ روحَانيٍّ، يَحْصُلُ من الحَضْرَةِ النَّبَويةِ صلى الله عليه وسلم إلى عالمِ الدُّنْيَا وقوالبِ الأجْسَادِ البَرّانية، وتَنْزِلُ إلى دَوَائرِ البشريةِ، حتى يَحْصُلَ عند ذلك رَدُّ السَّلامِ، وشُهُودُ عَرْضِ أعمالِ الأُمَّةِ

(3)

، وغيرُ ذلكَ، ويكون رَدُّ السَّلامِ كما كان صلى الله عليه وسلم في حال كونِهِ في الدُّنْيَا.

وإن صَعُبَ عليه فَهْمُ ذلك، فاذكر سَلامَ جِبريلَ عليه السلام على عَائِشَةَ رضي الله عنها حيثُ سَلَّمَ عليها ولم تره ولم تَسْمَعْ سَلامَهُ، فبلَّغَهَا صلى الله عليه وسلم بقوله:

(1)

هو الخطابي، وقد تقدمت ترجمته.

(2)

المواهب اللدنية 4/ 586.

(3)

عن أوس بن أبي أوس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن من أفضل أيامكم يومَ الجمعة فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضةٌ علي» الحديث. أخرجه أبو داود، في الجمعة، باب تفريع أبواب الجمعة، رقم:1040، وابن ماجه، في الجمعة باب في فضل الجمعة، رقم:1085، وأحمد 4/ 8، والحاكم 1/ 278، وغيرهم. وصححه الحاكم والذهبي.

ص: 92

«إن هذا جبريل يُقْرِئُك السَّلامَ» فرَدَّت عليه السلام وقالت: يا رسول الله، إنك تَرَى مَالا أَرَى

(1)

.

وهذا الإِقْبَالُ يكونُ عامّاً شاملاً، حتى لو كان /16 المُسَلِّمون في كل لمحة أكثرَ من ألفِ ألفِ ألفٍ لَوَسِعَهُمْ ذلك الإقْبَالُ النَّبَوِيُّ والالْتفَاتُ الروحانيُّ؛ لأن حالَ النبي صلى الله عليه وسلم في عَالَمِ البَرْزَخِ أَفْضَلُ وأَعْلَى وأَكْمَلُ مِنْ حَالِ الْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبينَ

(2)

، أَمَا إِنَّ عِزْرَائِيلَ

(3)

يَقْبِضُ مائَةَ ألفِ رُوحٍ في وقتٍ واحدٍ من غير مُزَاحَمَةٍ، ولا يَشْغَلُه قبضٌ عن قبضٍ، وهُوَ مع ذلك كُلِّهِ مُشْتَغِلٌ بعبادة الله تعالى مُتَوجِّهٌ على التَّسْبِيحِ والتَّقْدِيسِ

(4)

، فافهم ذلك.

أو يقالُ: ليس في الحديث ما يُوهِمُ أنَّهُ ثَمَّ مَوْتٌ حاصِلٌ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «رَدَّ الله عليَّ رُوحِي»

(5)

بِحرفِ الاسْتِعْلاءِ، فيه بيانٌ ظاهِرٌ، وتبيان حاضِرٌ؛ لأن

(1)

متفق عليه، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري، في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضل عائشة رضي الله عنها، رقم: 3768، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل عائشة رضي الله عنها، رقم:2447.

(2)

عن المفاضلة بين الملائكة والأنبياء انظر: الجامع لأحكام القرآن 1/ 289 حيث قال:

ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأُمَّةِ، وليس هاهنا شيء من ذلك، وقد توقف القرطبي في المسألة كما هو حال بعض العلماء إلا أن البعض- وهم الجمهور-قالوا بأن الأنبياء والصالحين أفضل من الملائكة، أما المعتزلة فيفضلون الملائكة. انظر: عن أدلة كل فريق، وترجيح قول الجمهور مجموع الفتاوى 11/ 350، و شرح العقيدة الطحاوية ص 338.

(3)

الذي دل عليه الدليل: أن الملك الموكل بقبض الأرواح هو (ملك الموت) عليه السلام، وأما تسميته بعزرائيل فلا أصل له يعتمد عليه، خلافاً لما اشتهر بين الناس، ولعله من الإسرائيليات.

(4)

المواهب للقسطلاني 4/ 585.

(5)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، تقدم تخريجه قبل صفحتين.

ص: 93

الأبْنِيَةَ ثابتة والروُحُ يُرَدُّ عَلَيْها، فكأنه عبارة عن تحديدِ وَصْفٍ مع ثبوتِ أَصْلِ الوُجُودِ والحياةِ، وإِنَّما هذا الوهْمُ كانَ يَتَأَتَّى لو قال: رَدَّ روحِي فيَّ، أو في جَسَدِي، أو: في الجسَدِ، وَإِذْ لم يقل، فارْتَفَعَ أَصْلُ السُّؤالِ، وبالله التوفيق.

ومن المؤكِّدِ لهذا المعنى قولهُ صلى الله عليه وسلم: «إن عيسى ابن مريم-عليهما السلام مَارٌّ بالمدينة حاجاً أو مُعْتَمِراً، وإِن سَلَّمَ عَلَيَّ لأَرُدَّنَّ عليهِ»

(1)

.

ومما يُؤكِّدُ ذلك قَوْلُ النَّاطِقِ بالصَّوابِ -المقولِ في حَقِّه: إنَّ الحقَّ لَيَنْطِقُ على لسانِ عمر بن الخطَّابِ

(2)

رضي الله عنه: إِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما مَاتَ

(3)

، وإِنَّما نفى ما يَعْلَمُ، وأَثْبَتَ ما يَعْلَمُ

(4)

.

فإن قيل: كيف الجَمْعُ بينه، وبين قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وإِنَّهُمْ

(1)

ذكره الصالحي في سبل الهدى والرشاد 12/ 357 وعزاه لأبي يعلى الموصلي.

ورواه ابن النجار في الدرة الثمينة ص 221 من طريق محمد بن الحسن بن زبالة، عن عبدالعزيز بن محمد، عن محمد بن يزيد، عن المقبري، عن أبي هريرة، مرفوعاً. ومحمد بن الحسن: كذبوه.

(2)

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» . أخرجه الترمذي، في المناقب، باب مناقب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، رقم:3682، وأحمد 2/ 53،401، والحاكم 3/ 86 - 87.

قال الترمذي: وفي الباب عن الفضل بن عباس، وأبي ذر، وأبي هريرة، وهذا حديث حسن.

(3)

يشير المصنف-رحمه الله-إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي في الشمائل برقم: 399 وابن ماجه في السنن برقم: 1234، والنسائي الكبرى برقم: 7119 في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم -وفيه أن عمر بن الخطاب قال: (

لا أسمع أحداً يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض إلا ضربته بسيفي هذا

).

(4)

المعروف أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه قال هذا من شدة الصدمة-فلما جاء الصديق وكشف عن وجه الرسول الكريم-وعلم بموته أعلنها على الناس-وكان مما استدل به قول المولى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} فلما سمعها عمر بن الخطاب. أمسك عن القول وتراجع عما كان يدعو وينادي به.

انظر: القرطبي الجامع لأحكام القرآن 15/ 254، فتح الباري 7/ 36.

ص: 94

مَيِّتُون}

(1)

، وأمثالِ ذلك من قول أبي بكر رضي الله عنه: مَاتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالجَوَابُ من وجوهٍ:

الأول: أن الحَيَاةَ والمَوْتَ يُطْلَقَانِ في لِسَانِ العَرَبِ حَقِيقَةً ومَجَازاً، ولَفْظُ الحَقِيقَةِ يَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ مَوَادِّهَا، وأَنْواعِ ما اسْتُعْمِلَتْ فيه، فَحَيَاةُ كلِّ ذي حَيَاةٍ على حسبِ اقتضاء ذاته، وما يَصِحُّ فيه إِطْلاقُ حَيَاتهِ، وكذلكَ مَوْتُه باعْتِبَارِ ما يَصْلُحُ فيه مَحَلاًّ وذاتاً وحالاً، فيحْتَاجُ الناظِرُ في ذلك إلى اسْتِعْمَالِ التَّحْقيقِ في لُغةِ العَرَبِ والنَّحْوِ والبَيَانِ والمَعَاني؛ لِيَتَلَخَّصَ له تَحْقِيقُ ما تُحْمَلُ عليه أَدِلَّةُ الأحْكَامِ.

قال الله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}

(2)

.

وقال عز وجل: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}

(3)

.

وقال الشاعر

(4)

:

الجَاهِلُونَ فَمَوْتَى قَبْلَ مَوْتِهِمُ

والعَالِمُونَ وإِنْ مَاتُوا فَأَحْيَاءُ

وقال آخر

(5)

:

لا تحسبن المَوْتَ مَوْتَ البِلَى

وإِنَّمَا المَوْتُ سُؤَالُ الرِجَالْ

كِلَاهُمَا مَوْتٌ، ولَكِنَّ ذَا

أشدُّ من ذَاكَ عَلَى كُلِّ حَالْ

(1)

سورة الزمر آية رقم: 30.

(2)

سورة البقرة آية رقم: 28.

(3)

سورة غافر آية رقم: 11.

نقل عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والضحاك في الآية كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم، ثم أحياهم، ثم أماتهم الموتة الأولى التي لابد منها في الدُّنْيَا، ثم أحياهم للبعث والقيامة. وقيل غير ذلك. انظر:: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. 1/ 248 - 15/ 297.

(4)

لم أقف على قائل هذا البيت.

(5)

نسب الحافظ ابن عبد البر في كتابه بهجة المجالس 1/ 175. هذين البيتين لمحمود الوراق. باختلاف بسيط في الشطر الأخير من البيت الثاني.

ص: 95

/17 وقال آخر:

وَفِي الجَهْلِ قَبْلَ المَوْتِ مَوْتٌ لأَهْلِهِ

الثاني: لَا خِلَافَ أنه صلى الله عليه وسلم قُبِضَ عن الدُّنْيَا بِظَاهِرِ بَشَريَّته، وأَنَّهُ خُيّرَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ ما عِندَ الله تعالى، فاخْتَار ما عند الله عز وجل

(1)

، وصَارَ إلى الرَّفِيقِ الأَعْلَى وَجَنَّتِه، وذلك يُسَمَّى مَوْتاً وانْتِقالاً إلى الآخِرَةِ، مع ثُبُوتِ وَصْفِ الحَيَاةِ الحقيقية

(2)

، والأَوْصَافِ الكَرِيِمَةِ السَّنِيَّةِ، من العِلْمِ، والإِدْرَاكِ، والاطِلاعِ، والتَّصَرُّفِ في العَوَالِمِ، والنِّعَمِ

(3)

بِعَوَالِمِ القُدْسِ، والوصُولِ إلى الجنات، والإِشْرَافِ على أُمُورِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ

(4)

، وذلك لا يُنَاقِضُ ما ذُكِرَ.

الثالث: قَوْلُنَا: زيد حَيٌّ مَيِّتٌ، من غير تَعْيينِ جِهَتَي القَضِيَّةِ، لا يَلْزَمُ منه تَنَاقُضُهُما؛ لأنه لا يتَحَقَّقُ تَناقُضُ قَضِيَّتَيْنِ حتى تُسْتَوْفَى فيهما شُرُوطُ التَّنَاقُضِ، فلا يلزم وُرودُ السُّؤالِ حتى يُثْبِتَ السَّائِلُ تَنَاقُضَهُما بذِكْرِ تَمامِ شُروطِ النَّقِيض، وهذا في حكم المُناظَرَةِ جَوابٌ فيما ذكر، وحاصل ذلك أنه لا يَرِدُ حتى تتبيَّن المناقضةُ، وعند ذلك يُسَلَّمُ أو يُمْنَعُ.

الرابع: أنَّ الموتَ المنسوبَ إلى الرُّسُلِ والنبيين، أمرٌ لا يُسَاويهم فيه غَيْرُهم، لاسِيَّما سَيِّدُهم وإِمَامُهم صلى الله عليه وسلم، وهو قد قال صلى الله عليه وسلم: «إني لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ،

(1)

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ماعنده، فاختار ذلك العبد ماعند الله. أخرجه البخاري، في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر، برقم:3654.

(2)

سقطت ألف الكلمة من الأصل.

(3)

جمع: نِعْمة، وهي: المَسرَّة. القاموس (نعم) ص 1162.

(4)

هذه العبارات فيها غلو شديد من المؤلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل إن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالتصرف في العوالم والإشراف على أمور الدنيا والآخرة يتناقض مع الاعتقاد الصحيح إذ هذا لايليق إلا بالله عز وجل.

ص: 96

إِني أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي»

(1)

. فزالتِ التَّسْويةُ، فَتَعَيَّن الوُقوفُ على اعْتِبارِ الآدابِ، في كُلِّ مَا يُعْزَى لذلك الجَنابِ، وكذلك في جَميعِ الأَنْبِيَاءِ وأَهْلِ الدَّرَجَاتِ العُلَى، فإنه إن يَكُنْ لَهُمْ وَفَاةٌ، فإنما هِي وفاةٌ لائِقَةٌ بِدَرَجاتِهِمْ السَّنِيَّةِ، مُوَافِقةٌ لِمَقَامَاتِهِمُ العَلِيَّةِ، لا الوَفَاةُ المعْهُودَةُ لِسَائِرِ الخَلائِقِ، فإنَّ عَزْوَ ذلك إلى شريفِ مناصبهِمْ غيرُ لائِقٍ.

ومما يُوضِّحُ هذا الَّلبْسَ قولُ الله تعالى: {إِذْ قاَلَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ}

(2)

. أي: قابضُكَ من الأَرْضِ وَافياً تاماً من غير أنْ ينالَ مِنْكَ اليهودُ

شيئاً، هكذا فَسَّرَه الحسنُ بنُ أَبي الحسنِ البصريُّ

(3)

، وابنُ جُرَيجِ

(4)

،

والكَلْبيُّ

(5)

، وغيرهُمُ، فانظُرْ كيف أثبتَ الوفاةَ لعيسى صلواتُ الله عليه وسلامهُ و [هو]

(6)

حَيٌّ في السَّماءِ. وكذلك قولُه تعالى عن عيسى عليه السلام أيضاً:

(1)

أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، في الصوم، باب الوصال إلى السحر، رقم:1967، بلفظ:«لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساقٍ يسقين» . وأخرجه مسلم، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، في الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، رقم:1102، بلفظ:«إني لست كهيئتكم، إني أُطعم وأُسقى»

(2)

سورة آل عمران آية رقم: 55، وانظر: قول الحسن البصري، في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/ 100.

(3)

هو الحسن بن يسار أبو سعيد الأنصاري مولاهم ثقة فقيه فاضل. علم من أعلام الإسلام توفي سنة 110 هـ. الطبقات الكبرى 7/ 156، سير أعلام النبلاء 4/ 563.

(4)

هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو خالد الأموي مولاهم المكي الحافظ شيخ الحرم وأول من دون العلم بمكة المكرمة ثقة فاضل. توفي سنة 150 هـ. تاريخ بغداد 10/ 400، سير أعلام النبلاء 6/ 325، التقريب ص 363 برقم:4193.

(5)

هو محمد بن السائب بن بشر أبو النضر الكلبي العلامة الأخباري النسابة المفسر الكوفي، متروك الحديث. توفي سنة 146 هـ. تاريخ خليفة 423، الوافي بالوفيات 3/ 83، سير أعلام النبلاء 6/ 248.

(6)

في الأصل: هي.

ص: 97

{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [مَّادُمْتُ فِيهِمْ]

(1)

فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ}

(2)

.

فإن قلتَ: قولهُ تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ}

(3)

يقتضي العمومَ، فما الجوابِ عنهُ؟

قلنا: عامٌّ يحتملُ التخصيصَ، أو المرادُ مَوْتُ الأجسادِ، أو المرادُ موتُ الأنفُسِ لا الأرواحِ، ولأجلِ ذلك جاء:{اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ}

(4)

، ولم يقلْ: كُلَّ رُوحٍ.

وأيضاً: تقدم في الجواب عن السؤال الأول ما يَصْلُحُ جواباً لهذا السؤال الثاني، وبالله التوفيق.

وإذاً، ثبت له صلى الله عليه وسلم الحياةُ الهنِيَّةُ السنيَّةُ في عَالَمِ/18 البرزخِ على الوجه الأَتَمِّ الأكملِ، اللائقِ بِجنابهِ الأشرفِ الأنْبَلِ.

ومشروعيةُ زيارةِ الأحياءِ للأحياء ثابتةٌ بنص القرآن في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبَاً}

(5)

. وفيه دليلٌ بَيِّنٌ، وبرهانٌ جَلِيٌّ، على ثبوتِ مشروعيةِ السيرِ، وطَيِّ المسافاتِ القاصيةِ

(6)

، ووطء البلاد النائية؛ لزيارةِ الأخيارِ والأبرارِ، ومشروعيةِ زيارةِ

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.

(2)

سورة المائدة آية رقم: 117.

(3)

سورة آل عمران آية رقم:185.

(4)

سورة الزمر آية رقم:4.

(5)

سورة الكهف آية رقم:60.

(6)

زيارة الأحياء للأحياء ثابتة كما ذكر المؤلف، وقد ذكر نفسه أن للنبي صلى الله عليه وسلم الحياة في عالم البرزخ على الوجه الأتم الأكمل واللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم، فوصف الحياة للنبي صلى الله عليه وسلم في قبره إذاً وصف مقيد بحياة البرزخ وهي ليست كحياة الدنيا، فاستدلال المصنف بجواز شد الرحال للنبي صلى الله عليه وسلم إلى قبره قياس مع الفارق مع كونه قد صح الدليل بخلاف ماذهب إليه المصنف إذ ثبت قوله صلى الله عليه وسلم:«لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» .

ص: 98

الأعلى للعالي، فكيف بزيارةِ الأدنى للأعلى؟.

فإن قيل: إنما جاء لطلب العلم.

قلنا: الجوابُ عنه ظاهرٌ لأرباب العرفانِ والعلومِ، وإن كان فيه غموضٌ على أذهان العميانِ من العموم، ورويَ عن بعض العلماء أنه قال: ما عِلْمُ الخَضِرِ في عِلْمِ موسى إلا كعِلْمِ الهُدْهُدِ في علمِ سليمان، إذ قال:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}

(1)

.

لا يقالُ: رُبَّما كان مشروعاً في المِلَّةِ المُوسَويَّةِ ليس غير؛ لأنا نقول: شَرْعُ مَنْ قَبْلنَا شرعٌ لنا حتى يَدُلَّ دليلٌ على خلافه

(2)

، قال تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}

(3)

.

فهذه الآياتُ من أجَلِّ البراهينِ وأوضحِ الحُجَجِ، على إثبات ما نحن بصددهِ من استحبابِ قطعِ المسافاتِ إلى زيارةِ العلماءِ، والصلحاءِ، وأهلِ الخيرِ من الكُمَّلِ الكُبَراءِ

(4)

.

وقد جاء في التفسير أن الخَضِر عليه السلام كان ببلادِ الأندلسِ، وموسى عليه السلام بِمصْرَ،

(5)

فانظر إلى هذه المسافةِ العظيمةِ التي سلكها في طلب لُقِيِّ عَبْدٍ صَالِحٍ!.

(1)

سورة النمل آية رقم:22.

(2)

انظر الأقوال في هذه المسألة في كتاب الأصول للسرخسي 2/ 99.

(3)

سورة الأنعام آية رقم:90.

(4)

هذا حق في الأحياء لاشبهة فيه، وأما شد الرحال لقبور العلماء أو قبور الصالحين أو قبور الأنبياء فهو منهي عنه كما مضى قريباً في الحاشية.

(5)

ليس هناك دليل صحيح على تحديد هذا المكان، ولذلك اختلفت الآراء فيه على عدة أقوال، دون أن يكون لواحد منها مستند يعول عليه، انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (11/ 9).

ص: 99

وقال أيضاً: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً}

(1)

. أي: ولو أني أَسِيرُ سنينَ كثيرةً، والحُقْبُ: سبعون سنة، أو: ثمانون، وقيل: أكثر

(2)

.

فمِثْلُ هذا النبيِّ الكريمِ الحليمِ يقول: إني أسيرُ إلى لقاءِ هذا العبدِ الصالحِ، ولو أني أسيرُ هذهِ المدَّةَ المتطاولةَ والسنينَ الكثيرةَ حتى أَظْفَرَ بِلُقْيَاهُ، فكيف بزيارة العبدِ المؤمنِ المذنبِ الخطَّاءِ المُقصِّرِ المُفرِّطِ لملجئه ومَلاذِه عند المكارهِ والمخاوفِ، ومَفْزَعِهِ

(3)

ومناصه عند المهالكِ والمتالفِ، وشفيعهِ إذا زلَّتْ به القَدَمُ، ومُنْجِيه إذا حَلَّ

(4)

عليه النَّدَم، بسعي يسير، وبذلٍ حقير، بالنسبة إلى ما ذكر من تلك المسافاتِ، لا تخفى على من نوَّر الله قلبه، وصفَّى فهمه ولُبَّه، إنَّها مُتوجِّهة مُتعيِّنة، ومشروعيتها من كتاب الله الكريم واضحة مُتبيِّنة، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}

(5)

.

وأما دلائلُ السُّنَّةِ الغَرَّاءِ، فكثيرةٌ جداً

(6)

، ونشيرُ إلى زبدتها:

الأول منها: ما رُوِّيناه من عند الإمام مُسلمِ بن الحَجَّاجِ، وأبي عيسى التِّرْمِذيِّ مُصَحَّحاً مُحَسَّناً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيارَةِ

(1)

سورة الكهف آية رقم:60.

(2)

القاموس (حقب) ص 76.

(3)

من مبدأ حسن الظن بالمسلمين وخاصة العلماء منهم نرى أن يحمل كلامه على "الشفاعة الكبرى" وما يحصل للناس من شدة وضيق يوم الحشر حتى يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه فيشفعه. وإن كان الأولى الابتعاد عن العبارات الموهمة التي تسبب بلبلة في أذهان الناس وتحدث خللاً في أفكارهم.

(4)

في الأصل: (حلّت).

(5)

سورة النور آية رقم:40.

(6)

نعم هي كثيرة، وتدل على جواز بل استحباب زيارة القبور، وأما شد الرحال للقبور فأمر فيه محذور كما لايخفى.

ص: 100

القُبورِ، فَزوروها»

(1)

.

/19 ولفظه من الترمذي: «قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمدٍ صلى الله عليه وسلم في زِيارَةِ قَبْرِ أُمِّه، فَزُوروها؛ فَإِنَّها تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»

(2)

. ثم قال: والعملُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ العلمِ، لا يَروْنَ بزيارةِ القبورِ بَأساً، وهو قولُ ابنِ المباركِ

(3)

، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ

(4)

.

وقال: في الباب عن أبي سعيد،

(5)

وابن مسعود

(6)

، وأنسٍ،

(7)

وأبي هريرة

(8)

رضي الله عنهم.

وهذا الحديثُ قويٌّ في الباب جداً حتى قيلَ: إِنَّهُ لا يوجدُ نسخٌ هو بهذه الصِّفةِ؛ لأنَّه ذُكِر معه منسوخُه، ولأنَّه لا يصحُ الجمعُ بينهما بوجهٍ، ولا على صفةٍ، ولا باعتبارِ سببٍ، ولأن النسخَ في غيرِ هذه الصورةِ نظريٌّ واجتهاديٌّ

(1)

رواه من حديث بريدة رضي الله عنه، مسلم في الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، رقم:977. وأبو داود، في الجنائز، باب في زيارة القبور رقم:3227، والترمذي، في الجنائز، باب ماجاء في الرخصة في زيارة القبور، رقم:1054، وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي، في الجنائز، باب زيارة القبور 4/ 89.

(2)

الترمذي. رقم: 1054.

(3)

هو عبد الله بن المبارك المروزي مولى بني حنظلة الإمام المحدث الفقيه صاحب الآثار الطيبة والذكر الحميد جمعت فيه خصال الخير. ولد سنة 118 هـ وتوفي سنة 181 هـ. تاريخ بغداد 10/ 152، العبر للذهبي 1/ 217.

(4)

هو ابن راهويه، تقدم.

(5)

حديث أبي سعيد الخدري في المستدرك للحاكم 1/ 530 برقم: 1386.

(6)

حديث عبد الله بن مسعود في المستدرك للحاكم 1/ 531 برقم: 1387.

(7)

حديث أنس بن مالك في المستدرك للحاكم 1/ 531 برقم: 1388.

(8)

حديث أبي هريرة: أخرجه مسلم، في الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، رقم:976. وأبو داود، في الجنائز، باب في زيارة القبور، رقم:3226، والنسائي في الجنائز، باب زيارة قبر المشرك 4/ 90.

ص: 101

يتَطرَّقُ إليه ما يتَطرَّقُ إلى النَّظَرِ والاجْتهادِ، [وهذه

(1)

] الصورةُ نصَّ صاحبُ الشرعِ على ثبوتِ حقيقةِ النسخِ فيها.

ثم إنه أمرَ فيه بزيارة القبورِ بصيغةِ: افعلْ، التي هي للوجوبِ عند محققي الأصوليين، ما لم تَدُلَّ قرينةٌ على محملٍ آخر من محامله

(2)

.

فظاهرُ الأمرِ بالزيارةِ للوجوبِ حتى يثبتَ المخالفُ دليلاً على خلافِ ذلكَ، وَوُرودُه بعد الحظر لا يمنعُ دلالتَه على الوجوب، على ما ذهبَ إليهِ حُذَّاقُ

الأصوليين

(3)

واستدلالُ القائلِ بالإباحةِ بقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}

(4)

ونحوِه، لادليلَ فيهِ

(5)

؛ إذ الاصطيادُ مباحٌ بدليلٍ خارجيٍّ وقرينةٍ دالَّةٍ على حملهِ على الإباحةِ.

(1)

في الأصل: (صد) كذا، وماأثبتناه هو الموافق للمعنى.

(2)

جمع الجوامع للسبكي، بحاشية البناني 1/ 375.

لكن الأمر هنا جاء بعد نهي في قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها» فله حكم آخر كما سيأتي في التعليق التالي.

(3)

السابق 1/ 378.

بل إذا جاء الأمر بعد النهي فالتحقيق أن الأمر يرجع إلى أصل الحكم قبل النهي، فما كان مباحاً قبل النهي رجع إلى الإباحة بعد الأمر كما في قوله تعالى:{وإذا حللتم فاصطادوا} وكما في قوله تعالى: {وإذا طعمتم فانتشروا} . وإن دلت قرينة على حكم فيصار إليه، وهنا في قوله صلى الله عليه وسلم:«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة» وفعله في زيارة القبور وحضه عليها جعل زيارة القبور للاستحباب، وهذا بالطبع دون شد الرحال للقبور لورود النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة.

(4)

سورة المائدة آية رقم: 2.

(5)

يعني أن الأمر فيه ليس للوجوب، لأنه لايجب عليهم الاصطياد، وإنما هو إذن بعد حظر ناجم عن تلبسهم بحالة الإحرام، وإذا انتهى المانع رجع إلى الأصل، وهو هنا الإباحة. وهذا فيه دليل على أنه ليس كل أمر للوجوب؛ إذ جاء بعد نهي خلافاً لما رجحه المؤلف.

ص: 102

ثم مُتعلَّقُ الأمرِ عامٌّ، وهو: الزائرونَ، والمزورُونَ، والزيارةُ، وزمنُ ذلكَ، ومكانُه، وإذا تقرَّرَ ذلكَ في كلِّ قبرٍ، كان في حق قبرِ سيِّدِ المرسلين

(1)

، وخيرِ الخلائقِ أجمعين، وخاتم النبيين أجْدَرُ وأَوْلى، وأخلقُ وأَحْرى، بل من بابِ ألزمَ وأوجبَ

(2)

.

الثاني: ما رُوِّيناهُ من عندهما

(3)

أيضاً، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: زارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبرَ أُمِهِ، فبكى وأبكى مَنْ حولَه، فقال:«اسْتَأْذَنْتُ ربي أن أَسْتَغْفِرَ لها، فلم يُؤْذَنْ لي، واسْتَأْذَنْتُه في أَنْ أَزُورَ قَبْرَها، فأَذِنَ لي، فَزُوروا القُبُورَ؛ فإنَّها تُذَكِّرُ المَوْتَ»

(4)

.

وفي هذا ثبوتُ فعله صلى الله عليه وسلم بقول الصحابي رضي الله عنه، وحصولُ الإذنِ الربانيِّ بالوحيِ الصادقِ.

وفيه: النصُّ على عِلَّةِ الحُكْمِ بوصفٍ مناسبٍ، ومتى ذكرَ الشارعُ حكماً ونصَّ على تعليلهِ بوصفٍ مناسبٍ، كان ذلك الوصفُ دليلاً شرعياً في ثبوتِ /20 ذلكَ الحكمِ، وفي ذلك المحل، وفي غيره: شخصاً، ونوعاً، وجنساً.

(1)

نعم زيارة القبور مستحبة دون شد الرحال؛ إذ قد نهي عنه كما سبق.

(2)

الزيارة للمسجد للاستحباب وليست للوجوب، وأما إطلاق الزيارة على السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقد كره الإمام مالك وغيره أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ومالك أعلم الناس بهذا الباب فإن أهل المدينة أعلم أهل الأمصار بذلك، ومالك إمام أهل المدينة، فإن كان في هذا سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لفظ زيارة قبره لم يخف ذلك على علماء أهل مدينته وجيران قبره صلى الله عليه وسلم، كما حكاه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 27/ 162.

(3)

مسلم والترمذي.

(4)

أخرجه مسلم، في الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، رقم:976، وأبو داود في الجنائز، باب في زيارة القبور، رقم:3226، والنسائي، في الجنائز، باب زيارة قبر المشرك 4/ 90، والحديث لم يخرجه الترمذي. انظر تحفة الأشراف 10/ 92، رقم 13439.

ص: 103

وفيه: دليلٌ بيِّنٌ

(1)

على جوازِ السفرِ لزيارة القبور، ولو كان بِمسافةٍ؛ لأن القبرَ المذكورَ كان بالأبواءِ

(2)

، وهي على خمسةِ أيام من المدينة، ولا يَرُدُّ ذلك كونُ السفر في عمرةِ الحديبية؛ فإن الحديث دالٌ على ما ذُكِرَ ولو قدَّرْنا صحةَ ذلكَ، والله أعلم.

الثالث: ما رُوِّيناهُ من عند البخاري ومسلم وأبي داودَ والتِّرْمِذيِّ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، ومَسْجِدِ الرسول، ومَسْجِدِ الأَقْصَى»

(3)

.

وفي لفظٍ من عند الإمام أحمد: «خَيْرُ مَا رُكِبَتْ إليه الرَّوَاحِلُ مَسْجِدِي والبَيْتُ العَتِيقُ»

(4)

.

وفي لفظٍ: «أنا خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، ومَسْجِدِي خَاتَمُ مَسَاجِدِ الأَنْبِيَاءِ وهو أَحَقُّ

المَسَاجِدِ أَنْ يُزَارَ وأَنْ يُرْكَبَ إليهِ على الرَّوَاحِلِ، بعد المَسْجِدِ الحَرَامِ»

(5)

.

(1)

ليس في الحديث لامن قريب ولامن بعيد أن ذلك كان في المدينة حتى يقال: إنه يشرع شد الرحال لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وما قرره المؤلف من كون ذلك كان في سفرة عمرة الحديبية ينقض مايريد في شد الرحال إذ لم يشدّ الرحال لأجلها.

(2)

الأبواء: سيأتي التعريف بها في الباب الخامس.

(3)

أخرجه البخاري، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم:1189،3/ 76. ومسلم، في الحج، باب لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، رقم:1397،2/ 6014. وأبو داود في المناسك، باب في إتيان المدينة رقم 2026،2/ 536، ولم يخرجه الترمذي عن أبي هريرة، وإنما أخرجه عن أبي سعيد الخدري، في الصلاة، باب ماجاء أي المساجد أفضل، رقم:326.

(4)

من حديث جابر رضي الله عنه: أخرجه أحمد 3/ 350، وأبو يعلى في مسنده 4/ 182، وابن حبان كما في الإحسان 3/ 70، والطبراني في الأوسط 1/ 415، إسناده صحيح.

(5)

رواه البزار (كما في كشف الأستار 2/ 56)، وابن الجوزي في مثير الغرام 465، وابن النجار في الدرة الثمينة ص 117.

كلهم من طريق عروة، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

قال الهيثمي: رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف. مجمع الزوائد 4/ 4.

للتوسع انظر: فضائل المدينة للرفاعي ص 437.

ص: 104

وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ الشَّرفَ إنَّما كان له صلى الله عليه وسلم ومنْ أَجْلِهِ، فهو أَحَقُّ بالزيارةِ، وشدِّ الرحالِ إليها

(1)

.

ويمكنُ أن يقالَ: إن المسجدَ الحرامَ يصحُّ إطلاقُه على الحرمِ كلِّهِ، وعلى مكةَ كلِّهَا، قال الله تعالى:{إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ}

(2)

. المرادُ به جميعُ الحرمِ اتفاقاً

(3)

، وقال عز وجل:{والمسْجِدِ الحَرَامِ الذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاسِ سَوَاءً}

(4)

. ومعنى الحرمِ أخصُّ من معنى المسجِدِ، فيفهمُ من هذا الحديث مشروعيةُ شدِّ الرَّحْلِ إلى الحرمِ كلِّهِ، وإلى كل جزءٍ منه، وحرمُ المدينةِ كحرمِ مكةَ، بدليل الأحاديث الآتيةِ إن شاء الله تعالى في ترجمة الحرمِ، من أسماء المدينة، وكلُّ محلٍّ من الحرمينِ محرَّمٌ، معظَّمٌ، مبجَّلٌ، مكرَّمٌ، مشرَّفٌ، مفخَّمٌ، مخصوصٌ بالتبجيلِ والإقبالِ، والتعظيمِ والإجلالِ، والتوجُّهِ إليه بِشَدِّ الرحالِ، فكيف إذا ثَوَى في العظيم عظيمٌ؟ أو أَوَى إلى الكريمِ كريمٌ؟، فإن هناكَ تتضاعفُ البواعثُ، وتتوفرُ الدواعي، وتتأكدُ الوسائلُ، وتتعاظمُ الرغباتُ والمقاصدُ؛ لشيئينِ: شرفِ السكنِ، وشرفِ الساكنِ، وقدْ لا

(1)

ليس في هذا النص أية دلالة على المشروعية لابمنطوقه ولابمفهومه فضلاً عن القول بوجوبه بل ثبت النهي الصريح عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة، فشد الرحال إنما هو للمسجد لاللقبر، وإذا أكرم الله المؤمن بالسفر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعد وصوله يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما.

(2)

سورة التوبة آية رقم: 28.

(3)

انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 104، حيث عزاه لعطاء ولم يذكر مخالفاً لقوله.

(4)

سورة الحج آية رقم: 25.

ص: 105

يكونُ إلا بالساكنينَ شرفُ الأماكنِ، كيفَ وقدْ حكى عياض أن البقعةَ المحتويةَ على الجسدِ المُقدَّسِ أفضلُ بقاعِ الأرضِ على الإطلاق، ونقلَ في ذلك عن العلماء الإجماعَ و الاتفاقَ

(1)

، فثبتَ حينئذٍ مشروعيةُ التوجُّهِ والإقبالِ،

بشدِّ الرحالِ، إلى جنابهِ الذي خصَّهُ اللهُ تعالى بأجلِّ أقسامِ الإجلالِ،/21 وارتفعتْ عن المسألة حجة الإشكالِ.

وأيضاً: لا خلافَ في أنَّ مَنْ قصدَ مُعظَّماً في الحرمِ كتقبيلِ الحجرِ الأسود، أو الطوافِ بالكعبةِ، أو الشُّربِ من زمزمَ، ونحوهِ، بقطعِ المسافاتِ، وطَيِّ المَهَامِه

(2)

لكانَ ذلكَ مشروعاً مندوباً، وإذا ثبتَ أنَّ قصدَ الكعبة بطيِّ المراحل، ووطءِ الرواحلِ، مشروعٌ بلا خلافِ، فمن باب الأجدرِ الأحرى، أنْ يكون قصدُ زيارةِ سيدِ المرسلين بنحو ذلكَ مشروعاً.

وقد رُوِّينا من عند الترمذي، من حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما أنَّهُ نظرَ يوماً إلى الكعبة، فقال: ما أعظمَكِ وأعظمَ حُرْمَتَكِ، والمؤمنُ أعظمُ حرمةً عندَ الله تعالى منكِ

(3)

.

هذا حالُ عامةِ المؤمنين، فكيف بالأنبياء والمرسلين؟ بل كيف بأشرفِ النبيين وإِمَامِ المتقين؟.

الرابع: ما رُوِّيناه من عند مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، يرفعه:

(1)

الشفا 2/ 682، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" وأما التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحداً من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى، إلا القاضي عياض فذكر ذلك إجماعاً وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه ولاحجة عليه بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد". المجموع لفتاوى شيخ الإسلام 27/ 37.

(2)

المهامه: جمع مَهْمَهٍ ومَهْمَهَةٍ، وهي: المفازة البعيدة. القاموس (مهه) ص 1253.

(3)

أخرجه الترمذي في آخر حديث طويل، في البر والصلة، باب ماجاء في تعظيم المؤمن، رقم:2032،4/ 378. وقال: هذا حديث حسن.

ص: 106

«أن

رجلاً زارَ أخاً لهُ في قريةٍ، فأرصدَ الله تعالى على مَدْرَجَتِهِ

(1)

ملَكاً .. » الحديثَ

(2)

.

فإذا كان هذا في حقِّ مَنْ أثبتَ وصفُ الإيمانِ أُخُوَّتَه، فكيف

(3)

في حقِّ من رفعَ الله تعالى على نُبوَّةِ كلِّ نبيٍّ نبوَّتَه، وأَعْلَى عَلَى كلِّ درجةٍ درجتَه، وأسمى فوقَ كلِّ مَصْعَدةِ مَرْقى علوٍّ منْزلَتَهُ ورفعتَه، سيدِ الخلقِ، وسيدِ الإخوانِ، ومَنْ يَفْضُلُ على أمته من عظم قوته بإثبات أخوته، مع جمالِ شأنهِ وكمالِ رتبتهِ، فقال:«واشَوْقاً إلى لِقَاءِ إِخْوَانِي» فقال الصحابة رضي الله عنهم: أَلسنَا إخوانَكَ يا رسولَ اللهِ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وإِنَّما إِخواني الذينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي .. » الحديث

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم لعمرَ رضي الله عنه لمَّا أرادَ أن يعتمرَ: «اذْكُرْنِي في دُعَائِكَ يا أخي» .

(5)

(1)

المدْرَجَةُ- بفتح الميم والراء- هي: الطريق، سميت بذلك؛ لأن الناس يدرجون عليها، أي: يمضون ويمشون. شرح صحيح مسلم للنووي 16/ 124.

(2)

تمام الحديث:

«فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها؟ قال: لا، غيرَ أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسولُ الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» . أخرجه مسلم في البر والصلة، باب في فضل الحب في الله، رقم 2567.

(3)

هذا لادليل عليه في إثبات مشروعية شد الرحال لقبر من القبور وإنما هو في زيارة حيٍّ لحيٍّ أو أحياء، والأولوية هنا ليست في محلها إذ ليس في الحديث أي ذكر لشد الرحال لزيارة القبور لامن قريب ولامن بعيد فكيف على هذا يقاس؟!.

(4)

جزء من حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه مسلم، في الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، رقم:249، وفيه:«وددت أنا قد رأينا إخواننا» بدل: «واشوقاً إلى لقاء إخواني» . وأخرجه مالك، في الطهارة، باب جامع الوضوء، 1/ 28 - 30، والنسائي في الطهارة، باب حلية الوضوء، 1/ 93 - 95.

(5)

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أخرجه أبو داود، في الصلاة، باب الدعاء، رقم:1493، وفيه:«لاتنسنا ياأخي من دعائك» بدل: «اذكرني في دعائك ياأخي» .

وأخرجه الترمذي، في الدعوات باب رقم 110، حديث رقم 3562 وفيه:«أي أخي اشركنا في دعائك ولاتنسنا» . وأحمد 2/ 408. وغيرهم.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. في سنده: عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو ضعيف.

ص: 107

أو نقولُ: حكمُ الزيارةِ صفةٌ مرتبطةٌ بثبوتِ وصفِ الإيمانِ، ثمَّ مَنْ ثبتَ لهُ الإيمانُ ثبتَ لهُ وصفُ الأخوةِ، ومنْ ثبتَ لهُ وصفُ الأخوةِ صحَّ فعلُ الزيارةِ لهُ على كلِّ حالٍ، وفي كلِّ زمانٍ، دنيا وآخرةٍ، لاسيَّمَا مع ثبوتِ حياةِ المؤمنينَ

(1)

. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَادَ مَريضاً أَوْ زَارَ أَخاً لَهُ في الله تعالى .. »

(2)

الحديث، وقولِه حكايةً عن الله تعالى:«وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فيَّ» إلى قوله: «والمُتَزَاورِين فيَّ»

(3)

ما يُؤيِّدُ ما ذكرناهُ، وبالله التوفيقُ.

الخامس: ما رُوِّيناهُ من عندِ البخاريِّ، عن عمرو بن ميمونِ

(4)

[الأَوْدي]

(5)

قال: رأيتُ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه قالَ: يا عبدَ اللهِ بن

(1)

وهي حياة برزخية لها أحوالها الخاصة فعليها لايقاس.

(2)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتكملته:«ناداه مناد أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً» .

وأخرجه الترمذي، في البر والصلة، باب ماجاء في زيارة الإخوان، رقم 2008،4/ 365، وابن ماجه في الجنائز، باب ماجاء في ثواب من عاد مريضاً رقم 1443.

قال الترمذي: هذا حديث حست غريب.

(3)

مسند الإمام أحمد 5/ 233. عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(4)

هو عمرو بن ميمون الأودي الكوفي، الإمام الحجة، أدرك الجاهلية وأسلم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره. وسمع من معاذ بن جبل في اليمن،. توفي سنة 54 هـ. وقيل غير ذلك. الطبقات الكبرى 6/ 118، الأنساب للسمعاني 1/ 277.

(5)

الأودي: بفتح الألف وسكون الواو-هذه النسبة إلى أود بن صعب بن سعد العشيرة من مَذْحِجٍ، الأنساب للسمعاني 1/ 226. وقد جاء في الأصل (الأزدي) وهو خطأ.

ص: 108

عمرَ، اذهبْ إلى أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها وقلْ: يقرأُ عمرُ بن الخطابِ /22 عليكِ السَّلامَ، ثم سَلْهَا أن أُدْفَنَ مع صاحبيَّ

(1)

. والاستدلالُ به من وجوهِ:

الأولُ: فِعْلُ عمرَ الفاروقِ رضي الله عنه، لاسيَّمَا في وقتِ قدومهِ على الله تعالى، فإذا كان مثلهُ في مثلِ ذلك الحالِ يحرصُ ويجتهدُ، ويسألُ ويغتبطُ ويتمنىَّ، ويوصي بنقلِ جسدهِ بعد وفاتهِ، وطَيِّ صُحُفِ أعمالهِ، إلى قُرْبِ ذلك الجسدِ الكريم، وأن يُسارَ بهِ إلى جوارِ مثوى أعْظُمِ ذلكَ النبيِّ العظيمِ؛ ليفوزَ بالقربِ بعد فراقِ الدُّنْيَا من طيبِ مثواهُ، فكيفَ لا يكونُ الحيُّ العبدُ المذنبُ المبتلى في الدُّنْيَا بالمصائبِ، والْمَرْمِيُّ من قِسِيِّ الشيطان والنفسِ والهوى بالصوائبِ، المحتاجُ إلى زيادةِ الحسناتِ، ولو قدَرَ فبسطَ

(2)

الساعي في تحصيلِ العملِ الصالحِ على هذا البسيطِ طالباً حريصاً مُوْلَعاً لتقريبِ ذاتهِ ووجودهِ من نورِ الأنوارِ، وسيدِ الأخيارِ، وذُخْرهِ وشافِعه ومَلاذِه

(3)

في تلكَ الدارِ، بل ذلك في حقِّهِ آكَدُ وألزمُ، واستحبابُهُ في حقِّهِ أقوى وأعظمُ.

السادس: ما رُوِّيناهُ من عند مسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا كانَ ليلتها يخرجُ من آخر الليلِ إلى البقيعِ

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، في حديث طويل، في الجنائز، باب ماجاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، رقم:1392. وفي المناقب، باب قصة البيعة، رقم:3700.

(2)

البسط: الزيادة. اللسان (بسط) 7/ 258. أي زاد الساعي في تحصيل العمل الصالح.

(3)

الاستعاذة واللواذ لايكونان إلا بالله عز وجل، وصرفهما لغير الله يقدح بالإيمان بالله سبحانه وتعالى.

(4)

أخرجه مسلم، في الجنائز، باب مايقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، رقم:974،2/ 669. والنسائي، في الجنائز، باب الأمر بالاستنفار للمؤمنين، رقم:2039،4/ 93.

ص: 109

والدليلُ فيه واضحٌ لثبوتِ فعلهِ صلى الله عليه وسلم متكرراً، وفعلهُ صلى الله عليه وسلم مجرَّداً يَدلُّ على المشروعيةِ إجماعاً

(1)

، نعم على الندب عند الأكثرين، وعلى الوجوب عند المحققينَ

(2)

، لاسيَّما مع الدوامِ والاستمرار، ودعاؤهُ لهم يؤكدُ مشروعيةَ زيارتِهِمْ.

السابع: ما رُوِّيناهُ من عند أبي داود، من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه، يرفعُه:«ما مِنْ أحدٍ يسلِّمُ عليَّ إلا رَدَّ الله عليَّ روحي حتى أرُدَّ عليه السلام»

(3)

.

وهذا حديثٌ ذكره الإمامُ الجليلُ أبو عبد الرحمنِ [ ....

(4)

] وبيَّنَ أنَّهُ أجمعَ أهلُ العلمِ على قَبوله وتصحيحه، وهذا عامٌّ في كلِّ مسلِّمٍ، قريباً كان أو بعيداً، والمُسَلِّمُ زَائِراً فَرْدٌ منْ أفراد هذا العامِّ، والعامُّ ممدوحٌ فاعلُهُ، موعودٌ بحسنِ الجزاءِ، فالخاصُّ كذلك

(5)

.

الثامن: ما رُوِّيناه في سننِ الدارقطني

(6)

وفي الثامن من «الخِلَعيَّات»

(7)

عن عبدِالله بنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جاءني زائراً

(1)

انظر: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام للدكتور محمد العروسي ص 154.

(2)

قال الباجي من المالكية: وأفعاله عندنا على الوجوب. المنتقى 2/ 290.

(3)

أخرجه أبو داود، في المناسك، باب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره، رقم:2034، وأحمد 2/ 227، والطبراني في الأوسط 3/ 385 - 386، والبيهقي في السنن 5/ 245. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات. 6/ 279.

(4)

بياض في الأصل بمقدار أربع أو خمس كلمات.

(5)

وليس في الحديث دلالة لامن قريب ولامن بعيد على أن ذلك بشد الرحال بل هو عام في كل مسلم أينما كان في أنحاء المعمورة.

(6)

الدارقطني: هذه النسبة إلى دار القطن، وهي محلة ببغداد ـ الأنساب للسمعاني (2/ 438).

(7)

الخلعيات (عشرون جزءاً) للقاضي أبي الحسن علي بن الحسن المصري الشافعي المعروف بالخلعي لأنه كان يبيع الخلع لأولاد الملوك (توفي سنة 492 هـ). سير أعلام النبلاء 19/ 74.

ص: 110

لم تَنْزِعْهُ حاجةٌ إلا زيارتي، كان حقاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة»

(1)

.

وهذا الحديث دلالتُه على استحبابِ الزيارةِ الشريفةِ وشدِّ الرَّحلِ إليها

(2)

واضحةٌ /23 لائحةٌ، وعمومُ الحديث يدلُّ على أنَّ أهلَ كلِّ عصرٍ، وقُطَّانَ كلِّ قطرٍ، مُخَاطَبون مطلوبون لذلك؛ لأنَّه لم يُستثنَ في ذلكَ نوعٌ ولا شخصٌ ولا زمنٌ ولا جهةٌ، فثبتَ انسحابُ الحكمِ على كلِّ ذلك، وصريحُ اللفظِ يعطي أنَّ السببَ الباعثَ إنَّما يكون الزيارةَ المجرَّدَةَ من غير اعتبار انضمام قُرْبةٍ أخرى إليها، وأنَّها وحدَها قُرْبةٌ عظيمةٌ، ووسيلةٌ كريمةٌ، تُربطُ بها الآمال، وتُشَدُّ إليها الرِّحالُ.

التاسع: ما رُوِّيناه من عند الدارقطني

(3)

والبزار

(4)

وأبي الحسن الخِلَعِي

(5)

وغيرِهم

(6)

، مِنْ حديثِ عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زار قبري وجبت له شفاعتي»

(7)

ذكره الشيخ محيي الدين

(1)

الحديث ضعيف ولم أجده عند الدارقطني، وقد أخرجه الطبراني في الكبير 12/ 291 برقم:13149. وعزاه الهيثمي له، وقال: فيه مسلم بن صالح، وهو ضعيف. مجمع الزوائد 4/ 2، وضعفه أيضاً ابن عبد الهادي في الصارم ص 268.

(2)

هذا الحديث لم يثبت، بل ثبت خلافه فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بعدم مشروعية شد الرحال لقبره في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» . فالعمل بالصحيح هو المتعين لا غير.

(3)

علي بن عمر بن أحمد الدارقطني، الحافظ. كان من بحور العلم، انتهى إليه الحفظ ومعرفة الحديث. توفي سنة 385 هـ. تاريخ بغداد 12/ 34، سير أعلام النبلاء 13/ 554.

(4)

البزار: الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار صاحب المسند (توفي سنة 292 هـ). تاريخ بغداد 4/ 334، سير أعلام النبلاء 13/ 554.

(5)

أبو الحسن الخلعي، القاضي علي بن الحسن بن محمد (توفي سنة 492 هـ) تقدم التعريف به.

(6)

كأبي جعفر العقيلي في الضعفاء 4/ 170، وابن عدي في الكامل 6/ 2350، والبيهقي في الشعب 8/ 96 - 97.

(7)

أخرجه الدارقطني 2/ 278، والعقيلي في الضعفاء 4/ 170، وابن عدي 6/ 2350، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان 8/ 96 - 97، وابن النجار في الدرة ص 143، وغيرهم.

كلهم من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبدالله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعاً. وفيه: موسى بن هلال العبدي: مجهول (الجرح والتعديل 8/ 166). وقال ابن عبدالهادي: هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن. الصارم ص 39 - 40، وانظر: فضائل المدينة للرفاعي ص 584 - 585.

ص: 111

النووي

(1)

وقَبْلَه أبو عمرو بن الصلاح

(2)

مُسْتَدِلَّيْن على استحبابِ الزيارة، ولم يذكرا وجه الدلالة. وقال غيرُهما

(3)

: يستدلُّ بهذين الحديثين من ثلاثة أوجه:

الأولُ: ثبوتُ العملِ عليهما

(4)

، وذلك يقتضي ثبوت حكمهما، وقلَّ أن يوجد في السُّنَّة حديثٌ عليه عَمَلٌ كالعمل على هذين الحديثين.

الثاني: ثبوتُ الشواهدِ الكثيرة لهذين الحديثين على معنى مشروعية الزيارة، وذلك يدلُّ على ثبوتِ أصلهما

(5)

، ويرفعُ درجةَ سندِهما إلى محلِّ شواهدهما.

الثالث: أنَّ أئمة الحديثِ وعلماءَ السلفِ كلهم متوافقون على قَبول ما يَرِدُ

(1)

الإيضاح في مناسك الحج ص 488 مع حاشية ابن حجر الهيتمي. والنووي هو يحيى ابن شرف الدمشقي، العالم الزاهد المشهور صاحب المؤلفات الكثيرة. توفي سنة 676 هـ. العبر 3/ 334، شذرات الذهب 5/ 354.

(2)

عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن الكردي الشهرزوري الشافعي، له مؤلفات كثيرة، ولد سنة 577 هـ، وتوفي سنة 643 هـ. وفيات الأعيان 3/ 243. تذكرة الحفاظ 4/ 1430، سير أعلام النبلاء 23/ 140.

(3)

لم أقف على أصحاب هذا القول.

(4)

إذا ثبت النهي من الشرع فلا يستدل بعمل أحد دونه -إن صح ذلك - ولايُعارض بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن إثبات حكم شرعي مبني على أحاديث ضعاف وموضوعة ولاتصح لاسنداً ولامتناً.

(5)

قال شيخ الإسلام: أحاديث الزيارة لا يصح منها شيء. التوسل والوسيلة ص 69.

ص: 112

من الأحاديث في فضائلِ الأعمالِ

(1)

، والترغيبِ والترهيبِ، متساهلون في أسانيدها، وحديثُ:«مَنْ بلَغه فعلٌ عن الله تعالى، فعملَ به رجاءَ ثوابهِ أعطاه الله تعالى وإنْ لم يكنْ ذلكَ كذلك»

(2)

. هذا أو معناه مشهورٌ.

وقد رُوِّينا بسندٍ صالحٍ عن حمزة بن عبدِ المجيدِ

(3)

قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في النَّومِ وأَنَا في الحِجْر، فقلت: يا رسولَ الله، إنَّه قد بَلَغَنا عنك أنَّك قلتَ: مَنْ سَمِعَ حديثاً فيه ثوابٌ، فعملَ بذلك الحديثِ رجاءَ ذلك الثوابِ،

(1)

كلام العلماء إنما هو في الحديث الضعيف دون الموضوع والمكذوب، ومع ذلك فقد اشترط من تساهل في رواية الأحاديث الضعيفة بأن تكون في فضائل الأعمال والقصص والمواعظ، لا في الأحكام الشرعية من وجوب وتحريم، إضافة إلى أنهم اشترطوا ثلاثة أمور في رواية الضعيف في الفضائل، وهي:

1 -

أن يندرج هذا الحديث تحت أصل معمول به من الكتاب والسنة.

2 -

أن لايكون الضعف شديداً من رواية الكذابين والمتروكين.

3 -

أن لايعتقد عند العمل به ثوبته.

وذكروا أيضاً أن لايجزم بنسبته للنبي صلى الله عليه وسلم بصيغ الجزم، كقال وذكر ونحوهما، بل يذكر بصيغ التمريض كروي وذُكِرَ ونحوهما.

والذي بصدده المؤلف إنما هو إثبات حكم شرعي حيث يقرر الوجوب بحديث ضعيف، هذا اتفاقاً وبلا نزاع مما لايصح البتة، مع مخالفته لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

أخرجه الحسن بن عرفة في جزئه 1/ 100، والخلال في فضل رجب 1 - 2/ 15، والخطيب 8/ 296، وغيرهم.

كلهم عن فرات بن سلمان وعيسى بن كثير، كلاهما عن أبي رجاء، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، مرفوعاً، بلفظ: «من بلغه عن الله شيء فيه فضيلة فأخذ به إيماناً به، ورجاء ثوابه، أعطاه الله ذلك، وإن لم يكن ذلك.

ومن هذا الطريق ذكره ابن الجوزي في الموضوعات 1/ 258، وقال: لايصح، أبو رجاء كذاب. وأقره السيوطي في اللآلئ 1/ 214. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 647 (رقم:451).

(3)

لم أعرف حمزة هذا.

ص: 113

أعطاه الله تعالى ذلكَ الثواب، وإنْ كان الحديثُ باطلاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إي وربِّ هذه البَنِيَّة

(1)

، إنَّهُ لمنِّي، وأنا قلته»

(2)

.

ويعضده الحديثُ الصحيحُ فيما يحكيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: «أنا عند حُسْنِ ظَنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء»

(3)

.

العاشر: ما رُوِّيناه من عندِ البزارِ بسندٍ صحيحٍ، عن زيد بن أسلم

(4)

، عن

أبيه

(5)

قال: خرجَ عمرُ رضي الله عنه إلى قبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا معاذُ بن جَبَلٍ

(6)

رضي الله عنه /24 قائمٌ يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يُبكيك يا معاذ؟

(7)

الحديث.

(1)

البنية: الكعبة. القاموس (بنى) ص 1264.

(2)

الحديث ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة 1/ 215، وعزاه للخلعي في فوائده، ولم يعلق عليه ولكن يكفي إيراده له في كتابه والسكوت عليه. وقوله: أي ورب هذه البنية

إلى آخره جاءت مكررة في الأصل.

(3)

جزء من حديث طويل، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري، في التوحيد، باب قول الله تعالى:{ويحذركم الله نفسه} رقم:7405. ومسلم، في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، رقم:2675. بلفظ: «أنا عند ظن عبدي بي» . وفي مختصر العلو للعلي الغفار، ص 94 «أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني» .

(4)

زيد بن أسلم العدوي، مولى عمر بن الخطاب: ثقة عالم. (توفي سنة 136 هـ). مختصر تاريخ دمشق 9/ 108، تهذيب التهذيب 2/ 231.

(5)

أسلم العدوي، مولى عمر، مخضرم، ثقة (توفي سنة 80 هـ). الطبقات الكبرى 5/ 10،

مختصر تاريخ دمشق 4/ 329.

(6)

معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي أعلم الأمة بالحلال والحرام، شهد المشاهد كلها، أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليعلم أهلها. توفي سنة 17 هـ وقيل: 18 هـ بالطاعون في الشام وله 34 هـ. الاستيعاب 3/ 355. الإصابة 3/ 427.

(7)

هذا الحديث لم أجده في مسند البزار ولا في مجمع الزوائد، ولا في كشف الأستار؛ ولكن أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب من ترجى له السلامة من الفتن،2/ 1320، برقم:3989. والبيهقي في الزهد برقم: 195. والحاكم في المستدرك 4/ 2328. وفي إسناده: عيسى بن عبدالرحمن، وهو متروك. وابن لهيعة، وهو ضعيف.

ص: 114

ودلالة هذا الحديث على مشروعيةِ الزيارةِ ظاهرةٌ

(1)

، وهو عَمَلُ مَنْ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيه:«أَعْلَمُكم بالحلالِ والحرامِ معاذ»

(2)

، وهو ممن له الرتبة العليا من الصحابةِ الأخيارِ، ومن سادات الأنصار، وكبرائهم الأبرار.

وأما الإجماعُ الذي هو من أعظمِ الدلائل في الفتاوى والمسائل، فهو في هذه المسألة على أتمِّ الوجوهِ وأكملِ الأقسامِ، وذلك أنَّ الإجماع قد يكون قولياً، وقد يكون عمليَّاً، وقد يكون من أهلِ عصر دون عصر، ومن أهل بلد دون بلد، وهُنَا -بحمد الله تعالى -الإجماعُ حاصلٌ ثابت من أهلِ جميعِ الأعصار المتقدمة، قرناً بعد قرن، وأُمَّةً بعد أمَّة، وطبقةً بعد طبقة

(3)

، لا خفاء في تبيُّن حكمه، ولا مِراءَ في ثبوت علمه، ولم يبرح منذ ارتفعت ألوية الإسلام، وعلَتْ كلمةُ الإيمان في الأنام، وظهر نور الهدى للخلائق، وطلعَ فجرُ الملَّةِ الحنيفية من أشرف المشارق، تُشَدُّ الرِّحالُ إلى سيد المرسلين من جميع الآفاق، وتشتد الرجال على المطايا والأرجل، عجزاً عن الأحداق

(1)

في الأصل: ظاهر. والخبر لم يصح فلا دلالة فيه إذاً فيما يريده المؤلف عفا الله عنه.

(2)

جزء من حديث طويل، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، مرفوعاً.

أوله: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، .... ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل

».

وأخرجه: الترمذي، في المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي، وأبي عبيدة بن الجراح، رقم:3791. وابن ماجه، في المقدمة، باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم:154. والحاكم 3/ 422.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

(3)

كلا، ليس هناك إجماع، وهذه دعوى تحتاج إلى إثبات وأنى ذلك؟.

ص: 115

والآماق

(1)

، ولم يزلْ الجنابُ الكريم مقضى الآمال والأوطار، ومَقْصِدَ العالمين من جميع الأصقاع والأقطار، فكيف يسوغ لأحد من الناس مخالفةُ ما اجتمعت عليه الأُمَّةُ خلَفاً بعد سلف، من صدر الإسلام وهلمَّ جرَّاً

(2)

؟!. هذا على سبيل الإجمال.

وأما تفصيلُ كلام العلماء، وتصريحُ أهلِ كلِّ مذهب من المذاهب المتبوعة، ونقلُ كلام كلِّ طائفة منهم، فإنَّه يُفضي إلى الإسهاب والإطالة، وقد يؤدي إلى الإطناب والملالة، ومن أراد النظر في ذلك واستبانتَه من مذهب الشافعي، فليُسرِّح نظرَه في أُمِّه

(3)

، الذي هو لأئِمة العلم إِمَّة

(4)

، وليكشف بنصوصه المباركة عَنْ قلبه حجاب الغُمَّة، ثم في كلام الشارحين لكلامه، وبيانِ أَزِمَّة

(5)

الهدى من أصحابه وتلامذته، ثمَّ من بعدهم ممن اقتفى لآثارهم، واهتدى بأنوارهم، من المنتمين إلى مذهبه الحالي، والمتأدبين بأدبه العالي، كالجُوَيني

(6)

(1)

الأحداق جمع حَدَقة وهي: سواد العين. والآماق: جمع مؤق، وهو: طرف العين مما يلي الأنف، وهو مجرى الدمع من العين. القاموس (حدق) ص 872، و (مأق)922.

(2)

أنّى للمؤلف وغيره أن يثبت الإجماع على مشروعية شد الرحال في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم؟ وإنما الإجماع على الزيارة بدون شد الرحال بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد القدوم من السفر ويكون شد الرحال للمسجد النبوي.

(3)

يقصد كتاب (الأم) للإمام الشافعي.

(4)

الإمَّة- بالكسر-: الشِّرْعة، والطريقة

القاموس (أمم) ص 1076.

(5)

يقال: هو زمام قومه، وهم أَزِمَّة قومهم

وهو على زمام من أمره، وهو على زمام الأمر، أي: مِلاكُه، وزممتُ القوم: تقدمتهم. أساس البلاغة للزمخشري (زمم) ص 195.

(6)

هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، إمام الحرمين، أبو المعالى، كان علماً من أعلام الإسلام، له مؤلفات كثيرة. ولد سنة 419 هـ، و توفي سنة 478 هـ. طبقات الشافعية 5/ 475، سير أعلام النبلاء 18/ 468.

ص: 116

والأسفراييني

(1)

والشِّيرازي

(2)

والغزالي

(3)

، ثم في كلام مَنْ قفا قفوهم، وحَذَا حذوهم، مِنْ كلِّ ناقلٍ

راوي، وناقدٍ للعلوم جاري، كالرافعي

(4)

وابن الصلاح

(5)

والنواوي

(6)

، فإنَّ كلاً منهم صرَّح بمشروعية الزيارة واستحبابها، ومنهم من حكى عن بعض العلماء القولَ بإيجابها، ومنهم من أتى في تقرير المسألة بعبارة تلمع من حُللها بروق الواجب

(7)

/25 كقول أبي عمرو بن الصلاح: إذا انصرف الحاج والمعتمرون من مكة، فليتوجهوا نحو مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّها من أهمِّ القربات وأنجح المساعي، ومن حجَّ ولم يزره من غير مانع، فقد جفاه صلى الله عليه وسلم

(8)

، انتهى

(9)

.

(1)

هو أحمد بن محمد بن أحمد، أبو حامد، الأسفراييني. أحد أعلام الشافعية، ولد سنة 344 هـ، وتوفي سنة 406 هـ. طبقات الشافعية 4/ 61، البداية والنهاية 12/ 2.

(2)

هو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي، أبو إسحاق الشيرازي، الشافعي. ولد سنة 393 هـ، وتوفي سنة 476 هـ. طبقات الشافعية 4/ 356، سير أعلام النبلاء 18/ 452.

(3)

هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، الإمام حجة الإسلام أبو حامد، له أكثر من مائتي مصنف، علم من أعلام الإسلام. ولد سنة 450 هـ، وتوفي سنة 505 هـ. سير أعلام النبلاء 19/ 322، طبقات الشافعية 6/ 191.

(4)

هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، الرافعي، شيخ الشافعية، له مؤلفات كثيرة منها المحرر، و الشرح الصغير. ولد سنة 555 هـ، وتوفي سنة 623 هـ. طبقات الشافعية 8/ 281، سير أعلام النبلاء 22/ 254.

(5)

تقدمت ترجمته.

(6)

تقدمت ترجمته أيضاً.

(7)

لم تثبت مشروعية الزيارة بشد الرحال فضلاً عن الوجوب، ولاحجة في قول أحد دون قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

(8)

جفاء النبي صلى الله عليه وسلم من الذنوب الكبائر إن لم يكن كفراً، ولايكون تارك الزيارة مرتكباً لكبيرة بذلك، وهذا ممايدل على بطلان الحديث بذلك وعدم صحته، وبالله التوفيق.

(9)

في كتابه مناسك الحج وهو كتاب لم أقف عليه في فهارس الكتب المطبوعة. وانظر: هداية السالك للكناني 3/ 1369. حيث نقل عنه هذا القول.

ص: 117

وصيغة قوله «فليتوجهوا» : ظاهرةُ الدلالة على الوجوب، ثم قوله «فقد جفاه»: ظاهرة في حرمة ترك الزيارة؛ لأن الجفاء أذى، والأذى حرام بالإجماع، فتجب الزيارة؛ إذ إزالة الجفاء واجبة، وهي بالزيارة، فالزيارة واجبة.

ثم قال بعد ذلك: وينبغي للزائر أنْ ينويَ مع التقربِ بزيارتهِ صلى الله عليه وسلم التقربَ بالمسافرة إلى مسجدهِ وبالصلاة. ثم ذكر الأحاديثَ الدالَّةَ على فضل المسجد والصلاة فيه.

فانظر كيف جعل الخبر المُحقَّقَ أمرَ قَصْدِ المسجد تابعاً للزيارة بلفظ المعيَّة، الدالة على التبعيَّة.

ثم قال: ولا يلزمه خلل في زيارته، يعني: في ضم قصد المسجد إلى الزيارة.

ففهم بذلك أنَّ القَصْدَ الحقيقيَّ والأمرَ المقصودَ الأهمَّ الآكدَ؛ إنما هو الزيارة النبوية، وهي المبدوءُ بذكرها، فلا يتوهم متوهم أن الزيارة تابعة، فيكون ذلك سوء أدب مع الجناب الشريف، الذي لو سعى المؤمن المشتاق بالجفون والآماق، من أقصى الأقطار والآفاق، لكان ذلك في جنب ما ظفر به من السعادة يسيراً، وبالنسبة إلى ما وصل إليه من العِزِّ الأهنى قليلاً حقيراً.

وقد حذا حَذْوَه وسلك مسلَكه الشيخُ أبو زكريا

(1)

رحمه الله، فلينظر في كلامه، فإنه لم يَفُتْه شيءٌ من مرامه.

ومَنْ قصد استيضاحَ مذهبِ الإمامِ المُقدَّم أبي حنيفة وأصحابه رحمة الله عليهم، وتنوعِ عبارتهم، في مشروعية قصد الزيارة واستحبابه، فَلْيَطْرِفْ طَرْفَه

(1)

كتاب الأذكار 261، كتاب الإيضاح في مناسك الحج 488.

ص: 118

في روضات كتبهم ومؤلفاتهم، فإنها مشحونة بنظير ما قال به الشافعيُّ وأصحابُه رضي الله عنهم

(1)

.

وأما مذهب إمام دار الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنس رحمة الله عليه، ففي ذلك آكد وأبلغ، ونصوصُه في توفية حقوق التعظيم في الزيارة أكمل وأسبغ، سلك من الأدب في الزيارة ما لم يَسْلُكْ أحدٌ سُبُلَه، فقال: إذا سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة

(2)

. رأى أنَّ تَحويلَ الوجه عن القبر إلى القبلة تقصيرٌ في الأدب وقصور، وأفتى بالمسألة وقال بها وناظر

(3)

فيها أبا جعفر المنصور

(4)

، فرحم الله هذا الإمام القدوة، بما أعظم مع الجناب الشريف من الأدب، وجعل تِلاع

(5)

التعظيم صَحاصحَ

(6)

بإزالة ما كان

(1)

الاختيار 1/ 175.

(2)

لاأصل لذلك عن الإمام مالك رحمه الله، بل كانت السنة عند الصحابة وأئمة المسلمين إذا سلّم العبد على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، أن يدعو الله مستقبلاً القبلة، ولا يدعو مستقبل الحجرة، ولم يتنازعوا في ذلك، وإنما اختلفوا في وقت السلام عليه، فقال الأكثرون: يسلم عليه مستقبل القبر، وقال أبو حنيفة: يسلم عليه مستقبل القبلة مستدبر القبر، وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول: السلام عليك يارسول الله، السلام عليك ياأبا بكر، السلام عليك ياأبت، ثم ينصرف. انظر: مجموع الفتاوى 27/ 166.

(3)

الحكاية هذه باطلة لا أصل لها عن الإمام مالك مع المنصور، ولم يتنازع الأئمة في أن السنة استقبال القبلة وقت الدعاء لااستقبال القبر النبوي. انظر: مجموع الفتاوى 27/ 166.

(4)

هو عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي العباسي، استخلف بعد أخيه السفاح، ولد سنة 95 هـ أو نحوها، وتوفي ببئر ميمون قريب من مكة سنة 158 هـ. تاريخ بغداد 10/ 53، سير أعلام النبلاء 7/ 83.

(5)

جمع تَلْعَةٍ، وهي: ما ارتفع من الأرض، وما انهبط منها، ضدٌّ

والقطعة المرتفعة من الأرض. القاموس (تلع) ص 707.

(6)

الصَّحْصَحُ، والصَّحْصَاحُ والصَّحْصَحَان: ما استوى من الأرض. القاموس (صحح) ص 228، والجمع: الصحاصح، كما في اللسان (صحح) 2/ 508.

ص: 119

بها من كذب، وكذلك النقلُ /26 عن أصحابه وفقهاءِ مذهبه خلفاً عن سلَف، وهلمَّ جرّاً.

ومذهبُ الإمام القدوة أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله معروفٌ في ذلك مشهور

(1)

، وتصريحه بذلك عنه منقول مأثور.

وهؤلاء الأئمة الأربعة هم المشهورون، المأخوذُ بأقوالهم، المعمولُ بمذاهبهم شرقاً وغرباً، المتبوعون لجميع أهل الإسلام بُعْداً وقُرْباً، ولو كان القول بذلك مذهبَ واحدٍ منهم لكان كافياً، وللوارد الظمآن مَعيناً صافياً، فكيف وأربعتهم قد اتفقوا عليه، واستبقوا إليه؟! بل وعُدِّد لك جملةُ العلماءِ المجتهدين من المتقدمين والمتأخرين، بل وعليه إجماعُ

(2)

عمومِ المسلمين، وكافَّةِ المؤمنين، من أمة خير المرسلين، هذا مع نصوص القرآن العظيم، والأحاديث الصحيحة عن النبي الكريم.

وهذا بيانٌ قد محا كلَّ شبهةٍ

وأظهرَ أقمارَ الأدلةِ طُلَّعا

وقد لاحتِ الأنوارُ مِنْ كلِّ جانبٍ

ونادى منادي الحقِّ جهراً فأسمعا

(3)

* * *

(1)

المغني لابن قدامة 3/ 477.

(2)

ليس هناك إجماع والحق لاينظر إليه بالكثرة إن وجدت بل ماوافق السنة أخذنا به وماخالفها تركناه، وقد سبق بيان بطلان مانسب للإمام مالك قريباً.

(3)

لعل هذين البيتين للمؤلف، ومما يرجح ذلك أنه ذكرهما بعد استطرادات واستدلالات وبيان مجموعة من الأدلة التي تؤيد ما يريد تقريره، فكأنه خلص إلى النتيجة التي أراد، فأنشأ قائلاً البيتين.

ص: 120

‌فصل في بيان لطائفَ نفيسةٍ

في سبب مشروعيةِ زيارةِ القبر المقدَّس النبوي

صلَّى الله على ساكنه

وهي أمور:

الأول: قال بعضُ العارفِين

(1)

:

[ما] معناه: لَمَّا كَانَ صلى الله عليه وسلم صاحِبَ الظُّهورِ الأَعْلَى في كلِّ طَوْرٍ، وله السِّيادةُ والإمامَةُ العُظمَى في كلِّ عَصْرٍ، والأولون والآخِرونَ تَحْتَ لوائِهِ

(2)

، وكان صلى الله عليه وسلم نبياً وآدمُ عليه الصلاة والسلام بين طينهِ ومَائِهِ

(3)

، وهو الظَّاهِرُ بالدعوة العامَّة للخلائق أجمعين، وله الشفاعة العظمى

(4)

في الأولين والآخرين، وهوصلّى الله عليه وسلّم

(1)

لم أعرف هذا البعض الذي عزي له هذا القول.

(2)

لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عنه أبو سعيد: «وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي

» أخرجه الترمذي، في المناقب، باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم:3615، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

يشير لقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين» .

وهذا اللفظ لاأصل له، كما قال السيوطي في اللآلئ المنثورة ص 192. لكن المأثور: أنهم قالوا: يارسول الله، متى كنت نبياً؟ قال: كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد.

أخرجه أحمد 5/ 59، وأبو نعيم في الحلية 9/ 53، وابن سعد 7/ 260. وغيرهم.

من طرق عدة عن ميسرة الفجر قال: قلت يارسول الله

الحديث.

(4)

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: «فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لاتحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يامحمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفّع .. » . أخرجه البخاري في حديث طويل، في التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، برقم:7510. ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم:326.

ص: 121

أول من يظهر يوم البعث

(1)

، وأولُ من تنشق عنه الأرضُ

(2)

، وأول من يُجِيزُ

(3)

على الصراطِ

(4)

، وأول من يَقْرَعُ بابَ الجنة فيُفتحُ

(5)

.

فلما كان له صلى الله عليه وسلم هذا الظهورُ، في يوم النُّشور، ويعلو فيه نورُه على كل نور، نَاسَبَ أن يكون ضريحُه في دار الدنيا أشهرَ مَزُور، وأعرفَ من كلِّ أمر معروفٍ مشهور، لا تَملُّ زيارتَهُ الأُمَّةُ بِتَمَلْمُلِ المَلَوَين

(6)

مدى الدُّهُورِ، ولا

يَبْلَى شَأْنُهُ بِتجدُّد الأَجدَّيْن

(7)

ما تَعَاقَبَتِ الأَحْيَانُ والعُصُور.

الثاني: لَمَّا كان صلى الله عليه وسلم إمامَ النبيين وقائدَهم، وَرَئيسَ المرسلين وسيدَهم، حتى لو كانوا معاصرِيه لَمَا وَسِعَهُم إِلاَّ أنْ يكونوا تُبَّاعاً، ولم يعاملوه إلا اقْتِفَاءً واقْتِدَاءً واتباعاً، وكذلك في غَيْبَتِه، يلتزمُون سلوكَ الأدبِ في مِلَّتِه، كما أن عيسى يَنْزِلُ ويصلي خَلْفَ رَجُلٍ من أمتهِ

(8)

؛ فكان من المناسب أن يكون

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع» ، أخرجه مسلم، في الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق، رقم:2278.

(2)

انظر: التعليقة السابقة.

(3)

يُجِيز لغة في: يجوز، يقال: جاز وأجاز بمعنى. النهاية لابن الأثير 1/ 315.

(4)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يُجِيزُ»

أخرجه مسلم في حديث طويل في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم:299.

(5)

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة» ، أخرجه مسلم، في الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أنا أول الناس يشفع في الجنة» ، برقم:331.

(6)

المَلَوان: الليل والنهار، أو طرفاهما. القاموس (ملو) ص 1335.

(7)

الأَجَدَّان: الليل والنهار. ومثله: الجديدان. المرجع السابق (جدد) ص 271.

(8)

. انظر: صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،1/ 137، رقم:247. عقد الدرر في أخبار المنتظر 292.

ص: 122

ضَرِيحُه الكريم /27 أيضاً مَقْصِدَ الخلائِقِ، ومَفْزَعَ كلِّ مُحِبٍّ شَبِقٍ

(1)

ومشتاق شائق

(2)

، ويكون ذلك أمراً على مَمَرِّ الأيام ظاهِراً، ونُوراً مُستمراً بَاقياً بَاهِراً، حتى اسْتَتَرَ لِظُهورِ نُورهِ كُلُّ نورٍ سِوَاهُ، وظهر لامِعٌ من نُورهِ، فَسَتَرَ كلَّ سِرٍّ وأَخْفَاهُ، فسائرُ الأنبياءِ عند طلوع شَمْسِهِ أقمارٌ وكواكب، وإذا زَخَرَ البَحْرُ يَطِمُّ على الأنْهَار والكَوَاكِبِ

(3)

.

الثالث: أنَّهُ كان في الأَعْصُرِ السالفة إذا قُبِضَ نبيٌّ قام نبيٌّ يقوم بشرع الله تعالى وحِفْظِ دِينهِ، وإقامةِ حُجَّتِه وبراهِينِه، ولَمَّا كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم خاتَمَ النَّبِيِّينَ، قد أُغْلِقَ بَابُ النبوة والرسالة بعدَه، والخلقُ محفوظُونَ، والدين مرتفِعٌ قواعِدُ أَرْكَانهِ، والشرعُ مُشَبَّهٌ بِعَاقِدِ بنيانِه، وذلك ببركةِ أنْوارهِ وأخبارهِ وآثارِه، وخلفائهِ وأصحابهِ وأتباعِه، فهو القائمُ بأمر الله، والمقيمُ لِحُجَّةِ الله، والحافظُ المَحْفوظُ لله وبالله، مُدَّةَ إقامته في الدنيا، وبعد رجوعِهِ إلى الله تعالى، فنورُه باقٍ دائمٌ، ودينُه ثابتٌ قائمٌ، ناسَبَ

(4)

أن يكون مَزُوراً مشهوداً إلى يوم الدين، والخلائِقُ

متوجهين إلى جنابِهِ قاصدينَ، ولِضَرِيحِهِ الأقْدَسِ مُعظِّمين، وبساحةِ كَرَمِه حاضرينَ،

ولأنواره مُشاهِدينَ مُعَايِنينَ، لا يَبْرحُ ذلك دَهْرَ الداهِرِينَ، وعَوْضَ العائِضِينَ

(5)

.

(1)

الشَّبَق: شدة الحب. التاج (شبق) 6/ 390.

(2)

الشائق: العاشق، وجمعه: شُوق. اللسان (شوق) 10/ 192.

(3)

طَمَّ على الأنهار: أي: كثر، حتى علا وغلب. القاموس (طمم) ص 1133. والكواكب جمع: كوكب، والمراد به هنا: الطَّلْق من الأودية. المرجع السابق (كوكب) ص 131.

(4)

هذا رأي من المؤلف عفا الله عنه، ولادلالة عليه من الكتاب ولا من السنة.

(5)

جاء في اللسان (عوض) 7/ 193: ومن كلامهم: لا أفعله عَوْضَ العائضين ولا دَهْرَ الداهرين، أي: لاأفعله أبداً.

ص: 123

الرابع: أنَّه لَمَّا كانت أُمَّتُه ثابتةً على شرعِه ودينِه، ولا تَزَالُ طائفةٌ مِنْهَا قائمةً بأمر الله، ظاهرةً بالحقِّ حتى يأتيَ أمرُ الله وهُمْ على ذلكَ

(1)

، فإذا كَمُلَتْ عباداتُهُمْ وأَتَوْا بِقَواعِدِ الدين: من إقامةِ الصلواتِ، ولُزومِ الجُمَع والجَمَاعاتِ، وصيامِ رَمَضانَ وقيامهِ على أكملِ الصفاتِ، وأكملوا ذلك بِحَجِّ بيتِ الله العتيقِ، وجَابُوا إليه الفَلَوَاتِ من كل فَجٍّ عَميقٍ، وأَتَوْا بالمناسِكِ على الإكمَالِ والإِتْمَامِ، وأقاموا شِعارَ تَعْظِيمِ مشاعِرِ الله الحرَامِ، وزاروا بيتَ الله مَوْلاهُمْ، وشكروه على مَا مَنَحَهُمْ وأَوْلاهُمْ، وأقاموا بِها وظَائِفَ النَّفْلِ والفَرْضِ، وجدَّدُوا عُهُودَهم بالحَجَرِ الأَسْوَدِ الذي هو يَمِينُ اللهِ في الأرض

(2)

، وحَطُّوا أَوْزَارَهم، وبَلَغُوا أَوْطَارَهم، ونالوا من الله الكريم الرضا والغُفْرانَ، وابْيَضَّتْ وجوهُهم بِمَا فازوا به من الفضلِ والإحْسَانِ؛ ناسب

(3)

أن يتوجَّهُوا عَقِيبَ ذلك إلى زيارةِ مَنْ أَنقذَهم اللهُ به من الضلالِ، وهداهم وأَوْرَفَ

(4)

لهم من طُوبى رِضْوانِه أطيبَ الظِّلالِ، وهُدُوا به إلى الصِّرَاطِ المسْتَقِيمِ، ورُزِقوا بِيُمْنِ غُرَّتِهِ وبَرَكةِ طَلْعَتِهِ الفوزَ

العظيمَ، والنَّعيمَ المقيمَ، وكما أَتَوْا بِحقِّ لا إله إلا الله، كذلك يَأْتونَ بِحقِّ محمدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، اللَّذَيْنِ هُما أَسَاسُ قَواعِدِ الدِّين، وبِهما يصيرُ العبدُ /28 من المؤمنين، ولكن بشر صلى الله عليه وسلم بِهم إذا أَتْوه وقد غَفَر الله لهم، وقَبِلَ عملَهم، تُعْرَضُ

(1)

يشير إلى الحديث المشهور: «لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة» . أخرجه مسلم، في الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، برقم:247؛ وغيره.

(2)

أخرج عبد الرزاق في مصنفه، موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما:«الركن يمين الله في الأرض» . حديث رقم: 8919، وانظر: إثارة الترغيب 1/ 169.

(3)

هذا مما لايقال بالرأي ولايستدل بمثل هذه الاستدلالات مع معارضتها لما ثبت عن البشير النذير صلى الله عليه وسلم.

(4)

ورَف الظلُّ يرِف، وأَوْرَفَ يُورِف: اتسع وطال وامتدَّ. القاموس (ورف) ص 859.

ص: 124

عليهِ صلى الله عليه وسلم أحوالُهُمْ وأَعْمَالُهُمْ

(1)

، ويلتمسونَ منه أن يَشْفَعَ

(2)

في المزيد لِمَنْ قُبِلَ، والقَبولَ لِمَنْ أُوقِفَ وخُذِلَ، والمغفرةَ لِمَنْ لم يُغْفَرْ له، وحتى ينطِقَ لِسانُ حالِهم، إذا وقفوا عند شفيعِهِمْ، وسُئِلَ مالكم؟ فيقول: قَدْ تَمَّ بنعمةِ الله وفَضْلهِ عَامُنَا، وعَمَّ عارفتنا

(3)

وإنعامنا، وأنت قدوتُنَا في الدارين وإمَامُنَا، فعسى بعظيم بَرَكاتِكَ، ورحيمِ نَظَرَاتكَ، وعميمِ مَكْرُمَاتِكَ، وكريم عِناياتِكَ، أن يَتَقبل الله جل شأنُه منا ما وُفِّقْنا له من الحسنَاتِ، وأن يُقِيلَنا مازَلَّتْ به قَدَمُنا وأوقعنا من السيئات والعَثَرات، فإنك قد كَفِلْتَ لنا بالخير في حال الحياة والممات

(4)

.

الخامس: أنَّه صلى الله عليه وسلم لَمَّا كان بِشهادةِ الله تعالى على جَميع الأمم الماضين شاهداً أو شهيداً، ناسَبَ أن يكون قَبرُه المقدَّسُ إلى يوم الشهود مَزُوراً مَشْهُوداً

(5)

.

السادس: لَمَّا كان شرعُه صلى الله عليه وسلم مُتَقدِّماً مُتَأخِّراً، نَاسِخاً للشَّرَائِعِ، مُكمَّلاً

(1)

«إن أفضل أيامكم يومَ الجمعة،

فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ».

من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه، يرفعه.

أخرجه أبو داود، في الصلاة، باب تفريع أبواب الجمعة،2/ 84 - 85، رقم:1040، وغيره. إسناده صحيح، انظر: صحيح سنن أبي داود 1/ 196.

(2)

أخرج البزار من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرت الله لكم» . مسند الإمام أحمد 5/ 308 رقم: (1925)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 24: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. وانظر: كشف الأستار 1/ 397 رقم: 2845.

(3)

العارفة: المعروف. القاموس (عرف) ص 836.

(4)

يشير لاستغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته بعد وفاته، وقد سبق طرف الحديث.

(5)

هذا الاستدلال كغيره لا دلالة فيه في مشروعية شد الرحال لزيارة القبر لامن الكتاب العزيز ولا من السنة النبوية.

ص: 125

مُتمَّماً، مستقراً ثابتاً، دائماً مستمراً، لازباً

(1)

لازماً، ونورهُ المبين مستديم [السطوعِ

(2)

] في الأمم، وأحكامُ شريعتِه في اللموع نارٌ على عَلَم؛ ناسب أن تكون آثارُه ومثارُه، ومحلُّه، ودارُه، ومقرُّه ومزارُه، علماً إلى يوم الدِّين، مرفوعاً ممدوداً، ومَقْصِداً إلى انقضاء الدهر مقصوداً محموداً.

السابع: أنَّه وردَ أَنَّهُ لَمَّا قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اشتكت الأرضُ إلى ربها مفارقتها شهود ظاهر بشريته صلى الله عليه وسلم

(3)

وأَنَّهُ لا نبيَّ بعده، وبالأنبياء تحفظ الأرض وأهلُها، وتَعْمُرُ البَسيِطةُ حَزْنُها

(4)

وسَهْلُها، وبهم تتوالى إليهم الخيرات الصوائب

(5)

، وبهم تتولى عنهم الصَّيِّراتُ

(6)

والمصائب

(7)

، فهم المفازع الذين إذا فُزِع إليهم في الفَزَعات شَفَعوا، وإذا أشرفَتِ العقوباتُ بالحلول على الخلق نفعوا ودفعوا، فأجابها الله تعالى وأشكاها

(8)

، وأزال بلطفه

(9)

شكواها، وتفضَّل بإجابة دعوتها، وعوَّضها، ومنَّ على صَهْوتِها

(10)

، بإدامةِ شرائعه وطرائقه، وإقامة ذرائعه

(11)

وخلائقه، وتسلسلِ الإسناد بأحاديثه إلى يوم

(1)

اللازب: الثابت واللازم. القاموس (لزب) ص 134.

(2)

تحرّفت في الأصل إلى: (التطوع).

(3)

لم أقف على من أخرج هذا الخبر.

(4)

الحَزْن: ماغَلُظ من الأرض. القاموس (حزن) ص 1189.

(5)

الصَّوْب: كلُّ نازل من عُلْوٍ إلى سُفْلٍ. لسان العرب (صوب) 1/ 534.

(6)

الصيرات: الأمور الملتبسة. التاج (صار) 3/ 345.

(7)

إذ كان المراد من ذلك بما أتى به الأنبياء من شرائع فباتباعهم تكون السعادة للخلق والسعة في المال والرزق وتعم الخيرات، فهذا مما لاشك فيه وحق لامرية فيه.

(8)

أشكاها: أزال شِكايتها. القاموس (شكى) ص 1301.

(9)

في الأصل: (بلفظه) وهو سبق قلم.

(10)

الصهوة: المطمئن من الأرض، والبرج في أعلى الرابية. القاموس (صهو) ص 1304.

(11)

الذريعة: الوسيلة، والذريع: الشفيع. انظر: القاموس (ذرع) ص 717.

ص: 126

الدين، وإبقاء أحكامه في العالم عَوْضَ العائضين

(1)

، وإثباتِ نوعٍ من التشريع أبدَ الآبدين للأئمة المجتهدين، وكان من تمام هذا الفضل الحميد، وكمال هذا الفعل السعيد، جَعْلُ ضريحِه المُقدَّسِ صلى الله عليه وسلم /29 عَلَماً للعالمَين مرفوعاً، وقَبْرِه الشريف مَقْصَداً بالخيرات والبركاتِ، والأنوار الظاهرات مشفوعاً

(2)

الثامن: أَنه لَمَّا تقرر من مقتضى الحِكَمِ الإلهية، أنْ لابد من إبقاء رأسٍ وأصلٍ من كلِّ نوع يكون عليه انقضاء الأيام، وبه يقع للزمان التَّمامُ والختامُ، كالبيت العتيق في الديار، والحجرِ الأسود في الأحجار، وهَزْمة جبريل في الآبار

(3)

، وقريةِ الأنصار في القرى والأمصار، ولا إله إلا الله في الكَلِم والأذكار

(4)

، وسِدْرَةِ المنتهى في الأشجار؛ كذلك أبقى الله تعالى قبرَ سيدِ المرسلين من بين القبور والآثار، وخصَّه صلى الله عليه وسلم بالظهور والإظهار، ودوامِ القصدِ والازديارِ، من القُصَّد والزوار

(5)

، حتى لايُعلم عين

(1)

أي: أبد الآبدين. انظر: اللسان (عوض) 7/ 193.

(2)

إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لايقصد للتبرك به ولا التمسح به، وإنما يُتأدّب مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بالسلام عليه فقط دون إفراط في ذلك ودون غلو فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لاتطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا: عبدالله ورسوله» .

(3)

جاء في الحديث: «إن زمزم هَزْمَةُ جبريل عليه السلام» أي: ضربها برجله فنبع الماء. النهاية 5/ 363.

(4)

أخرج الترمذي في كتاب الدعوات، حديث رقم:3383، و النسائي في عمل اليوم والليلة، رقم: 2831، و ابن ماجه في الأدب رقم:3800، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أفضل الكلام لا إله إلا الله، وأفضل الذكر الحمد لله» .

(5)

بل إن قوله صلى الله عليه وسلم: «لاتجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، في المناسك، باب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره، رقم:2035،2/ 540 فيه أمر للأمة أن تصلي عليه وتسلم حيث ماكانت، مما يفيد أنه ليس للقبر تخصيص بالدعاء لا من قريب ولامن بعيد، بل فيه إفادة أن ذلك مما نهى عنه؛ لأن شد الرحال كما يريد المصنف مفضٍ إلى اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم عيداً، وبذلك يقع العبد في المحذور، والله المستعان، وانظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 27/ 243.

ص: 127

قبر

(1)

غيره من الأنبياء الأخيار.

التاسع: لَمَّا [نوَّه

(2)

] الله تعالى بذكره ونوَّر الأكوان والثرى، والأعيانَ والأحيانَ والورى، وشرَّفَ به جميعَ المخلوقاتِ من العرش إلى الثَّرى، فكتب على العرش اسمه، وعلى باب الجنة رسمَه ووَسْمَه

(3)

، وجعل اسْمَه الكريم أسمى الأسماء، فتذكره الملائكة المُقرَّبون عند الأذان في السماء، ويتشرف به المصاقع

(4)

على المنابر، ويتزين ويفتخر بذكره أربابُ الأقلام والمحابر، فلم يزل مذكوراً على تعاقب الزمان، وفي الخُطَب والصلوات والأذان، فجعل الله تعالى للعالم الأرضي نصيباً من بركاته وآثاره، وليكون في ملكوت السماوات ذكرٌ لروضته ومنْزله ومَزاره.

يا مَنْ بِهم طابتِ الأكوانُ وابتهجَتْ

من المسرَّة [وابتهَتْ]

(5)

بِهم طربا

حقٌّ لكم أن تطيبَ الكائناتُ بكم

وليسَ ذلك من أحوالكم عجبا

إذْ قدْ خُصِصْتُم بما لا نالَه بشرٌ

هذا عَطَاءُ الذي مِنْ فَضْلِه وهَبا

العاشر: أنَّ هذه الأمةَ الحميدةَ، السعيدةَ المرحومةَ، لما وفقها الله تعالى للقيام في حق نبيهم صلى الله عليه وسلم، بما لم يَحْظَ به أحدٌ سواهم من الأمم السالفة في حقِّ أنبيائهم، فكانوا خيرَ أمة، وكشفَ اللهُ عنهم بنبيهم الخاتَمِ كلَّ غُمَّة، حتى حصلت منهم الآدابُ الجليلة، والأخلاقُ الحميدة الجميلة، من الإيمان به صلى الله عليه وسلم

(1)

في الأصل (قبره) ولا يستقيم المعنى مع ذكر الضمير.

(2)

في الأصل: (نوَّر) ولعل الصواب ماأثبتناه.

(3)

الرَّسْم والوَسْم هنا بمعنى: الأثر. القاموس (رسم)، (وسم) ص 1113،1166.

(4)

جمع مِصْقَع، وهو: البليغ، أو: العالي الصوت، أو: من لايُرْتَج عليه في كلامه ولايتتعتع. القاموس (صقع) ص 737.

(5)

في الأصل: (ابتهجت) وهو تكرار مع ماتقدم، وما أثبتناه يستقيم به الوزن والمعنى. والبهاء: الحسن، وأبهى الرجل: حسن وجهه السابق (بهي) ص 1265.

ص: 128

أولاً، ثُمَّ المبالغةِ في محبته ونصرته ومناصحته، و بَذْلِ النفوس والنفائس، وهِجْرانِ الأُنْس والمآنس، ثمَّ حَمْلِ ما وفقهم الله تعالى له من علومه وسنته، وأخباره وآثاره، وتوصيله وتبليغه، وتشهيره وإظهاره، مع البراءة من الخيانة بالتحريف /30 والتغيير والتبديل، وملازمتِه للديانة والصيانةِ في سلوك هذه السبيل.

فذِكْرُه صلى الله عليه وسلم جِلاءُ قلوبهم

(1)

، وشفاءُ صدورهم، وحَلاوةُ ألسنتهم، في جميع الحالات، على اختلاف الأوقات والساعات، فيَشْرُفون بذكره في جميع العبادات، وفي الجُمع والجماعات، والخُطَب والصلوات، وسائر التَقلُّبات والتصرفات، حتى في المعاطاة والمبايعات، وعقود المناكحات، واستفتاح المعاقدات والمعاهدات، وخصوصاً عند الأذكار والدعوات، فإنَّ بها وُلُوجَهَا في أبواب الإجابات

(2)

، فهو صلى الله عليه وسلم ذخرهم ومَعاذُهم، وفخرهم ومَلاذُهم، وشافعهم ورافعهم، ومُفِيدُهم ونافعهم

(3)

، ووسيلتُهم العظمى، وفضيلتُهم

(1)

عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ماشئت إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها، قال صلى الله عليه وسلم: إذاً تكفى هَمَّك، ويغفرُ لك ذنبك.

أخرجه الترمذي في حديث طويل، في صفة القيامة، باب ماجاء في صفة أواني الحوض، برقم:2457. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لايصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم.

أخرجه الترمذي، في الصلاة باب ماجاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، برقم:486. وهذا موقوف له حكم المرفوع. انظر: سنن الترمذي،2/ 356 (هامش 7).

وفيه: قال أبو بكر ابن العربي في العارضة 2/ 273: مثل هذا إذا قاله عمر لايكون إلا توقيفاً، لأنه لايدرك بنظر. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 54.

(3)

النافع والضار هو الله سبحانه وتعالى ولا يجوز بأي حال إضافة ذلك ونسبته إلى غير الله عز وجل.

ص: 129

الكبرى، فكان من كمال نِعَم الكريم المنَّان عليهم، أنْ وفَّقَهُم بعد انتقاله إلى ربه لزيارة تُرْبتِه المُقدَّسةِ المُكرَّمة، ورَوْضتِه المُطَهَّرةِ المُعظَّمة؛ ليقوموا بالأدبين غيباً وشهادة، وتجتمعَ لهم ببركته الحسنى وزيادة.

الحادي عشر: إذا كان كمالُ البِّرِ إلى الوالد إنما يحصل بعد وفاته بإِسْداءِ البِرِّ إلى مَنْ كان يَبَرُّه من أحبابه وقراباته؛ فالجناب الشريفُ أَوْلَى بإكمال مبرَّته، بالمواظبة بعد الوفاة على زيارة قبره وحُجْرَتِه

(1)

.

الثاني عشر: لَمَّا وفق الله تعالى هذه الأمة وصانها عن الغلوِّ

(2)

في نبيها، كما غَلتِ الأمم السالفة، بل كانوا على منهج التوسُّطِ بين الغُلُوِّ والتقصير، وعلى لاحب

(3)

الاعتدال بين الإفراط والتفريط، والتقليل والتكثير، فأظهر الله تعالى قبرَه الكريمَ للازديار، وليظهر منهم ذلك التوسُّطُ أيضاً عند التشرف بهذا المزار، وهكذا-بحمدالله-فعلوا، وسلكوا فيه المسلكَ الأفضل الأحمد، ولم يجعلوا قبره -كغيرهم من الأمم- وثناً يُعبد، ولامسجداً يُسجد.

الثالث عشر: لَمَّا ثبت في الحديث النبوي: «أول ما خلق الله تعالى روحي»

(4)

، وفي لفظ:«أول ما خلق الله تعالى نوري»

(5)

، وفي لفظ:

(1)

بل إن البر الحقيقي هو في اتباع الشرع، لافي الإحداث والابتداع وارتكاب مانهى عنه الشرع من الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم وصرف مالا يُصرف إلا لله عز وجل له صلى الله عليه وسلم من الدعاء والاستغاثة ونحوها.

(2)

غلا في الأمر غلواً: جاوز حدَّه. القاموس (غلو) ص 1318.

(3)

اللاحب: الطريق الواضح. السابق (لحب) ص 133.

(4)

لم أقف على شيء بهذا اللفظ.

(5)

عن جابر بن عبدالله مرفوعاً: «أول ماخلق الله نور نبيك .. » كشف الخفا 1/ 265، وعزاه لعبدالرزاق.

قال في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 257: وليس له أساس من الصحة.

والصحيح: «أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم» كما سيأتي بعد قليل.

ص: 130

«القلم»

(1)

، وفي لفظ:«العقل»

(2)

، والمراد بالكل: رُوحُه صلى الله عليه وسلم

(3)

، سُميت بأسماء مختلفة باعتبارات، فكان هو صلى الله عليه وسلم أصلَ الأصول، ومبدأَ هذا العالم المعقول، وكان حنينُ النفوس ونزوعُها إلى أصولها أمراً ثابتاً مقرراً، وحُكْماً في الإنسان وغيرِه من سائر الحيوان مُعْتبَراً محُرَّراً، مصداقه مانشاهد في النحل التي تنْزع أبداً إلى يعسوبها، وتشتاق إلى رئيسها، وأصلها عند أُيوبِها

(4)

،/31 وقد قال صلى الله عليه وسلم:«أنا يعسوبُ الأرواح، كما آدم يعسوبُ الأشباح»

(5)

. وفي ذكر اليعسوبِ لطيفةٌ، تنْزِعُ إليها الأرواح والقلوب، ودقيقةٌ يشتاق لِذِكْرِهَا من خُصَّ بالإشراف على عوالم الغيوب

(6)

، ولَمَّا كان صلى الله عليه وسلم أصلَ جميعِ الخيرات والبركات، وحقيقةَ الرحمة الموجودةِ بين

(1)

عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون» .

أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 108، وأبو يعلى 1/ 126، والبيهقي في الكبرى 9/ 3، وغيرهم.

إسناده صحيح. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 257.

وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أخرجه الترمذي في حديث طويل، في القدر، باب ماجاء في الرضا بالقضاء، برقم:2155، وأحمد 5/ 317.

(2)

قوله: أول ما خلق الله العقل. المقاصد 221 رقم: 269، كشف الخفاء 1/ 263 رقم: 823، ونقل عن الصاغاني بأنه موضوع.

(3)

لم أقف على من قال هذا القول، وهو في الظاهر تأويل بعيد، فإن كان قد ورد بذلك نقل صحيح صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك وجب القول به، وإلا فلا.

(4)

الأَوْبُ: الرجوع، والمراد: رجَعَتْ إلى مبدئها. انظر: اللسان (أوب) 1/ 219.

(5)

لم أقف عليه، وفي النفس شيء من نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واليعسوب هنا: الرئيس الكبير. القاموس (عسب) ص 115.

(6)

قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ

} سورة الجن آية رقم: 26 - 27.

ص: 131

الموجودات

(1)

، حنَّتِ القُلوبُ المؤمنةُ إليه أولاً وآخراً، واشتاقتِ النفوسُ الزكية إليه غائباً وحاضراً، فنهضتِ الأشباحُ عَوْداً على بدءٍ للاقتراب من قبره المُقدَّسِ المُعظَّمِ، وتحرَّكَتِ الأجسامُ والأرواحُ للاغتراب في زيارة بيته المُطهَّرِ المُكرَّم، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحابته من كل صنديدٍ أَجَلَّ، ويَعْسوبٍ جَلَل، صلاةً وتسليماً لا يَنالان مِنّا -بمَنِّ الممتنين، وكلل الملوين- المنَّ والملَل.

* * *

(1)

قال الله تعالى واصفاً نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} سورة التوبة آية رقم: 128.

قال الحسين بن الفضل في تفسير الآية: "لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم " انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 302.

ص: 132

‌فصل في ذكر نبذ يسيرة

من وقائع نستأنس بِها إلى ما أوردناه

دليلاً على استمرار الحياة ودوام البقاء الذي لا مرية فيهما

(1)

فمنها: ما حكاه الحافظ أبو سعد

(2)

السمعاني

(3)

، عن علي بن أبي طالب

(1)

يجدر بنا أن نسجل بعض الملاحظات قبل الدخول مع المؤلف فيما نقله من الحكايات عن بعض أصحاب الرؤى والمنامات فنقول: يعمد كثير من المؤلفين المتأخرين في تاريخ المدينة المنورة بدافع حبهم وتعظيمهم للرسول صلى الله عليه وسلم -هكذا نحسبهم-إلى ذكر بعض المنامات والقصص التي حدثت لبعض الزوار والمجاورين بالمدينة المنورة، وإن كنا لا نثق تماماً بصحة نسبتها إلى قائليها أو بعضها على الأقل، فإننا نقول:

أولاً: إن مسألة تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإظهار يمنه وبركته على البشرية جمعاء أكبر بكثير، وأعظم مما يحكيه هؤلاء الذين يدعون بهذه القصص إلى التواكل وعدم فعل الأسباب، والجلوس عن السعي.

فيكفي في تعظيمه ما خصه الله تعالى وتبارك به من بين سائر المخلوقات، وما ادخر له ولأمته من الدرجات الرفيعات السنيات، التي جاءت مسطورة في الآيات البينات والأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: إن هذه القصص والحكايات لا تزيد المؤمن إيماناً، ولا العاصي توبة، لأن المؤمن مؤمن بما هو أعظم وأجلَّ وأسمى، فمن لم يزده القرآن الكريم إيماناً ولا السنة المطهرة هداية وإحساناً فما عساه أن يفيد من مثل هذه الحكايات التي فيها غلو وتعظيم للقبور والتمرغ بترابها مما يقدح في عقيدة المسلم ويوهنها ويعيدها إلى سيرة الجاهلية، ومن لم يهده القرآن والسنة فلا هدي.

ثالثاً: يلاحظ أن معظم هذه الحكايات إنما ظهرت في المؤلفات التي ألفت في القرون المتأخرة، وهي قرون ساد الأمة الإسلامية فيها كثير من الخرافات والبدع والخلود إلى الأرض، مع ما تحمل من مخالفات شرعية، فلهذا كله ينبغي ألاَّ يعوَّلَ على مثل هذه الأمور التي لا تستند إلى برهان من سنة أو كتاب.

(2)

في الأصل: (أبو سعيد)، وصوبها الناسخ على الحاشية:(أبو سعد).

(3)

هو عبد الكريم بن محمد بن منصور، أبو سَعْد السمعاني، الإمام الحافظ، محدث خراسان، له مصنفات كثيرة. توفي سنة 562 هـ. المنتظم لابن الجوزي 18/ 178، تذكرة الحفاظ 4/ 1316، سير أعلام النبلاء 20/ 456.

ص: 133

رضي الله عنه قال: قدم علينا أعرابيٌّ بعد ما دفَنّا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحَثَى من تُرْبِه على رأسه، وقال: يا رسول الله، قلتَ، فسمعنا قولَك، ووعَيْتَ عن الله سبحانه وما وعَيْنا عنك، وكان فيما أنزل عليك:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ، فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}

(1)

. وقد ظلمتُ نفسي، وجِئْتُكَ تستغفر لي، فنودي من القبر أنه قد غفر لك

(2)

.

ومنها: ما حكاه محمد بن حرب الهلالي

(3)

قال: دخلت المدينة، فانتهيت إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أعرابيٌّ يُوضِعُ

(4)

على بعيره، فأناخه وعقَلَه، ثم دخل إلى القبر، فسلَّم سلاماً حسناً، ودعا دعاءً جميلاً، ثم قال: بأبي وأمي يا رسول الله، إنَّ الله عز وجل خصَّك بوحيه، وأنزل عليك كتاباً، وجمع لك فيه علم الأولين والآخرين، وقال في كتابه- وقولُه الحق-: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ، فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً

(1)

سورة النساء آية رقم: 64.

(2)

ذكرها السمهودي في: وفاء الوفا 4/ 1361 نقلاً عن كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام للحافظ أبي عبدالله محمد بن موسى بن النعمان الصوفي المالكي، المتوفى سنة 683 هـ. معجم المؤلفين 12/ 68.

وهذه الواقعة فيها غلو شديد موقع في الشرك بالله عز وجل.

قال في الصارم 430: هذا خبر منكر موضوع، وأثر مختلق مصنوع لايصلح الاعتماد عليه، ولايحسن المصير إليه وإسناده ظلمات.

(3)

في الأصل: الباهلي، والمثبت هو الصواب، كما في مثير العزم الساكن 2/ 301، والدرة الثمينة ص 223، والصارم المنكي ص 336، ووفاء الوفا 4/ 1361. ولم أقف له على ترجمة.

(4)

قال الراغب: وضعَتْ الدابةُ تَضَعُ في سيرها وَضْعاً: أسرعَتْ، ودابَّةٌ حسنةُ الموضوع، وأوضَعْتُها: حمَلْتُها على الإسراع. مفردات ألفاظ القرآن (وضع) ص 874.

ص: 134

رَّحِيماً}. وقد أتيتك مُقِرّاً بالذنوب، مستشفعاً بك إلى ربك، ثم التفتَ إلى القبر وقال:

يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بالقاع أَعْظُمُه

فطاب من طيبهنَّ القاعُ والأَكَمُ

أنت النَّبيُّ الذي تُرْجَى شفاعتُه

عندَ السِّراطِ

(1)

إذا مازَلَّتِ القَدَمُ

/32 نفسي الفِداءُ لقبرٍ أنت سَاكِنُه

فيه العفافُ، وفيه الجودُ والكرمُ

(2)

قال محمد بن عبيد الله العُتْبِيُّ

(3)

أحدُ رواة هذا الخبر، فغلبَتْني عيناي، فرأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في النَّوم، فقال لي: يا عتبي، اِلْحَقِ الأعرابيَّ وبَشِّرْه أنَّ الله تعالى قد غفرَ له

(4)

.

ومنها: ما رُوِّيناه عن محمد بن المنكدر بن محمد

(5)

قال: إنَّ رجلاً من أهل اليمن أودع أباه ثمانين ديناراً، وخرج الرجل يريد الجهاد، وقال له: إن احتَجْتَ إليها، فأَنْفِقْها إلى أن آتيَ إن شاء الله تعالى. قال: فخرج الرجل، وأصاب أهلَ المدينة سَنَةٌ

(6)

وجهدٌ. قال: فأخرجها أبي فقسمها. قال: فلم يلبث الرجل أنْ قَدِم، فطلب مالَه، فقال له أبي: عُدْ إليَّ غداً. قال: وبات في المسجد مُتلوِّذاً بقبر النبي صلى الله عليه وسلم مرةً

(7)

، وبمنبره مرةً، حتى كاد يصبح، فإذا

(1)

السراط لغةٌ في الصراط، وهو: جسر ممدود على متن جهنم. القاموس. (صرط) ص 675.

(2)

الدرة الثمينة ص 224، مثير العزم الساكن 2/ 301، الصارم ص 336، وفاء الوفا 4/ 1361.

(3)

هو محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عتبة بن أبي سفيان، أبو عبد الرحمن، إخباري شاعر من أهل البصرة، يوصف شعره بالجودة. توفي سنة 228 هـ. تاريخ بغداد 2/ 324، سير أعلام النبلاء 11/ 96.

(4)

الدرة الثمينة ص 224، مثير العزم الساكن 2/ 301، الصارم ص 336، وفاء الوفا 4/ 1361.

قال ابن عبدالهادي في الصارم ص 338: إسنادها مظلم مختلف، ولفظها مختلف أيضاً.

(5)

لم أقف له على ترجمة.

(6)

السنة: الجدب والقحط. القاموس ص 1297.

(7)

هذا من الأعمال التي لايقرها الإسلام، بل هي من أعمال الجاهلية والاستعاذة هنا لا تكون إلا بالله عز وجل.

ص: 135

شخص في السَّواد يقول له: دُونَكَها يامحمد. قال: فمدَّ يدَه، فإذا صُرَّةٌ فيها ثمانون ديناراً. قال: وغدا عليه الرجل، فدفعها إليه.

(1)

ومنها: ما حكاه عبد السلام بن أبي القاسم الصَّقَلِّي

(2)

يقول: حدثني رجل ثقة نسيت اسمه، قال: كنت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن لي شيء، فضَعُفْتُ، فأتيت الحجرة وقلت: يا سيد الأولين والآخرين، أنا رجل من أهل مصر،

ولي خمسة أشهر في جوارك، وقد ضَعُفْتُ، فقلت: أسأل اللهَ تعالى، وأسألك

(3)

أنْ تُسَخِّرَ لي من يُشْبِعُني أو يخرجني، ثم دعوت عند الحجرة بدعوات، وجلست عند المنبر، فإذا برجل قد دخل الحجرة، فوقف يتكلم بكلام ويقول: ياجَدّاه ياجَدّاه، ثم جاء إليَّ وقبض على يدي، وقال لي: قم، فقمتُ صَحِبْتُه، فخرج بي من باب جبريل، وغدا إلى البقيع، وخرج منه، فإذا بخيمة مضروبة وجارية وعبد، فقال لهما: قوما اصنعا لضيفكما عيشه، فقام العبد، فجمع الحطب، وأوقد النار، وقامت الجارية وطحنت وصنعَتْ مَلَّةً

(4)

، وشاغلني بالحديث حتى أتت الجارية بالمَلَّة، فقسمها نصفين، وأتت الجارية بعُكَّةٍ

(5)

من سمن، فصب على المَلَّة، وأتت بتمر، فصنعها جيداً، وقال لي: كُلْ. فأكلتُ شيئاً قليلاً، فصدَرْتُ، فقال لي:

(1)

وفاء الوفاء 4/ 1380، باختلاف بسيط، وعزاها السمهودي إلى كتاب مصباح الظلام وقد تقدم التعريف به قريباً.

(2)

لم أقف له على ترجمة، والصَّقَلِّي نسبة إلى صَقَلِّية وهي: جزيرة في البحر الأبيض المتوسط فتحها المسلمون على يد أسد بن الفرات سنة (212 هـ)، وهي الآن تابعة لإيطاليا. معجم البلدان 3/ 416.

(3)

هذا من الأمور التي لا تجوز شرعاً، فالذي يُسأل دَفْعَ الضر وكشفَ البلوى هو الله وحده، وفي الحديث الشريف:«إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» .

(4)

المَلَّةُ: الرماد الحار الذي يحمى ليدفن فيه الخبز لينضج. القاموس (ملل) ص 1058، وهذا من باب إطلاق المحل وإرادة الحال.

(5)

العكة: وعاء من جلود مستدير يختص بالسمن والعسل، وهو بالسمن أخص. النهاية (عكك) 3/ 284.

ص: 136

كلْ. فأكلت، فقلت: يا سيدي، لي أشهر لم آكُلْ فيها حنطة ولا أريد فيها

(1)

شيئاً، فأخذ النصف الثاني، وضمَّ ما فضل من المَلَّة، وأتى بِمزْوَدٍ

(2)

، وصاعين من تمر، فوضعه في المِزْوَدٍ وقال: ما اسمك؟ فقلتُ: فلان. فقال لي: بالله عليك، لا تَعُدْ تشكو إلى جدي؛ فإنه يَعِزُّ عليه ذلك، ومن الساعة متى جعت يأتيك رزقُك /33 حتى يسبب اللهُ سبحانه لك مَن يخرجك، وقال للغلام: خذه وأوصله إلى حجرة جدي، فغدوت مع الغلام إلى البقيع، فقلت له: ارجع، فقد وصلت. فقال لي: الله الأحد ما أقدر أن أفارقك حتى أوصلك إلى الحجرة لئلاَّ يُعلِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سيدي بذلك، فأوصلني إلى الحجرة وودَّعَني ورجع، فمكثت آكلُ من الذي أعطاني أربعة أيام، ثم جُعْتُ بعد ذلك، فإذا بالغلام قد أتاني بطعام، ثم لم أزل كذلك كلما جُعْتُ أتاني، حتى سبَّبَ الله سبحانه لي جماعةً، فسافرت معهم إلى بلادي

(3)

.

ومنها: ما حكاه الإمام أبو بكر بن المقري

(4)

قال: كنت أنا والطبراني

(5)

وأبو الشيخ

(6)

في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا على حالةٍ وفاقةٍ أثَّرَ فينا الجوع،

(1)

كلمة (فيها) ليس لها معنى والكلام أصله "ولا أريد شيئاً". وهو كذلك في الوفاء 4/ 1384، ولعلها سبق نظر من الناسخ.

(2)

المزود: وعاء الزاد. القاموس (زود) ص 286.

(3)

وفاء الوفا 4/ 1383 - 1384.

(4)

أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان المقريْ الأصبهاني، حافظ ثقة مأمون، توفي سنة 381 هـ. الأنساب للسمعاني 3/ 119 - 5/ 367، مختصر تاريخ دمشق 21/ 338.

(5)

سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني الحافظ العلم عاش مائة سنة، توفي سنة 360 هـ. مختصر تاريخ دمشق 10/ 103، العبر 2/ 105، شذرات الذهب 3/ 30.

(6)

عبد الله بن محمد بن جعفر بن حِبّان، أبو محمد، المعروف بأبي الشيخ صاحب التصانيف الكثيرة، ولد سنة 274 هـ، وتوفي سنة 369 هـ. النجوم الزاهرة، سير أعلام النبلاء 16/ 276، العبر 2/ 132.

ص: 137

وواصلنا

(1)

ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء، حضرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، الجوع الجوع

(2)

، وانصرفت، فقال لي أبو القاسم: فإما أن يكون الرزق أو الموت. قال أبو بكر: فنمت أنا وأبو الشيخ، والطبراني جالس ينظر في شيء، فحضر البابَ عَلَويٌ، فدَقَّ، ففتحنا له، فإذا معه غلامان، مع كل واحد منهما زنبيل، فيه شيء كثير، فجلسنا وأكلنا، وظننا أن الباقي يأخذه الغلام، فَولَّى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال العَلَويُّ: يا قوم، أشكوتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإني رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن أحمل بشيء لكم

(3)

.

ومنها: ما أخبر به أبو العباس أحمد بن نفيس المقرئ

(4)

الضرير التونسي قال: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام بمصر بعد رجوعي من الحجاز، وتَوجُّهي إلى المغرب، فقال: أَوْحَشْتنا يا أبا العباس، وذلك أني كنت أكثر من قراءة القرآن عند ضريحه بالمدينة. قال القاضي: فقلت له: كم قرأت ختمة عند ضريحه يا أستاذ؟ قال: ألف ختمة! قال: وجُعْتُ بالمدينة ثلاثة أيام، فجئت إلى القبر، فقلت: يا رسول الله، جُعْتُ، ثم نمت ضعيفاً، فركضَتْنِي جاريةٌ برجلها، فقمت إليها، فقالت: اِعْزِم

(5)

. فقمت معها إلى دارها، فقدَّمَتْ إليَّ

(1)

في الأصل: (وأوصلنا) والتصحيح من الوفاء.

(2)

هذا النداء وهذه الاستغاثة لاتجوز البتة. لحديث «فإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» فاحذر ذلك، وإلا تقع في الشرك بالله من حيث لاتشعر.

(3)

ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء 16/ 400 - 401. والسمهودي في وفاء الوفا 4/ 1380.

(4)

أحمد بن نفيس المقرئ: له ذكر في ترجمة (أبي علي بن بليمة القيرواني) المتوفى سنة 514 هـ. العبر 2/ 402. تاريخ الإسلام سنة 501 - 521 ص 364.

(5)

اعزم أي: أجب. يقال: عزمتُ عليك، أي: أمرتك أمراً جداً. اللسان (عزم) 12/ 400.

ص: 138

خُبْزَ بُرٍّ وتمراً وسمناً، وقالت: كُلْ يا أبا العباس، فقد أمرني بهذا جَدِّي صلى الله عليه وسلم، ومتى جُعْتَ فَأْتِ إلينا.

(1)

ومنها: ما حكاه ابن أبي زرعة الصوفي محمد بن أحمد بن محمد

(2)

قال:

سافرت مع أبي ومع أبي عبد الله بن خُفَيْف

(3)

إلى مكة، فأصابتنا فاقة شديدة، فدخلنا مدينة الرسول /34 صلى الله عليه وسلم وبتنا طاوِينَ

(4)

، وكنت دون البلوغ، فكنت أجيء إلى أبي غير دفعة وأقول: أنا جائع، فأتى بي إلى الحضرة وقال: يا رسول الله، أنا ضيفك الليلة

(5)

، وجلس على المراقبة، فلما كان بعد ساعة رفع رأسه، وكان يبكي ساعة، ويضحك ساعة، فسئل عنه؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع في يدي دراهم، وفتح يده، فإذا فيها دراهم! وبارك الله فيها إلى أن رجعنا إلى شِيراز

(6)

، فكنا ننفق منها

(7)

.

ومنها: ما حكاه أحمد بن محمد الصوفي

(8)

قال: تِهْتُ في البادية ثلاثة أشهر، فانسلخ جلدي، فدخلت المدينة، وجئتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلَّمْتُ عليه

(1)

. وفاء الوفاء 4/ 1385.

(2)

لم أقف له على ترجمة.

(3)

محمد بن خفيف الشيرازي، أبو عبد الله، كان من مشهوري الصوفية في زمانه، عُمر أكثر من مائة سنة. توفي سنة 371 هـ. البداية والنهاية لابن كثير 11/ 319، مختصر تاريخ دمشق 22/ 140، سير أعلام النبلاء 16/ 342.

(4)

أي: لم نأكل شيئاً، يقال: طَوِي وأَطْوَى، فهو طاوٍ وطَوٍ. القاموس (طوي) ص 1308.

(5)

هذا من الغلو أيضاً فليحذر!.

(6)

شيراز بلد مشهور من بلاد فارس (إيران)، وقد نسب إليها كثير من العلماء. انظر: عنها معجم البلدان لياقوت الحموي 3/ 380.

(7)

وفاء الوفاء 4/ 1381.

(8)

لم أعرفه.

ص: 139

وعلى صاحبيه، ثم نمتُ، فرأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال لي: أحمدُ جئتَ؟ قلت: نعم، وأنا جائع، وأنا في ضيافتك، فقال: افتح كفيك. ففتحتهما، فملأهما دراهم، فانتبهت من نومي وهما ملأى دراهم، فقمت واشتريت خبزاً حُوَّارياً

(1)

وفالوذجاً

(2)

، وأكلت للوقت، ودخلت البادية

(3)

.

ومنها: ما حكاه برهان الدين إبراهيم بن الطيب المالكي

(4)

قال: قال لي من أثق به، وكان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّه أصابه الجوع، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني جائع

(5)

، وجلس بالقرب من حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل من الأشراف، فقال له: قمْ، فقال: إلى أين؟ فقال: تأكلُ عندي شيئاً، فمضى به إلى بيته، فقدَّم إليه جَفْنَةً

(6)

فيها ثريد عليه لحم ودهن، وقال له: كلْ. فأكل حتى شبع، وأراد الانصراف، فقال له: كلْ وازدد، فأكل، فلما أراد الانصراف قال له: يا أخي، الواحد منكم يأتي من البلاد البعيدة، ويقطع المفاوز والقِفار، ويترك الأهل والأوطان، ويشق البحار، ويأتي إلى زيارة هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم وتكون همته أن يطلب منه كسرة خبز، يا أخي، لو طلبت الجنة، أو المغفرة، أو الرضا، أو مهما طلبت، لنلته ببركة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

(1)

في الأصل: (حواري) والتصويب من وفاء الوفا، والحُوَّاري: بضم الحاء، وشد الواو، وفتح الراء: الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق. القاموس (حور) ص 381.

(2)

الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل، وتصنع الآن من النشا والماء والسكر. مُعرَّب. المعجم الوسيط (فلذ) 2/ 700.

(3)

وفاء الوفاء 4/ 1382.

(4)

لم أعرفه.

(5)

هذا من الشرك والعياذ بالله فاحذره، وما جر المؤلف إلى سياقه إلا الغلو في الحب، وإنما الحب الحقيقي في إفراد الله بالعبادة والمتابعة الصادقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبعدم الابتداع في الدين فتنبه.

(6)

الجفنة: القصعة. القاموس (جفن) ص 1186.

ص: 140

ومنها: ما حكاه الشيخ الصالح عبد القادر

(1)

التنيسي

(2)

بثَغْر دمياط

(3)

قال: كنت أمشي على قاعدة الفقر، فدخلت إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وسلَّمْتُ على النبي صلى الله عليه وسلم، وشكوت له ضرري من الجوع

(4)

، واشتهيت عليه طعاماً من البُرِّ واللحم والتمر، وتقدَّمْتُ بعد الزيارة إلى الروضة، وصلَّيْتُ فيها، ونمتُ فيها، فإذا بشخص يُوقظني من النوم، فانتبهتُ ومضيتُ معه، وكان شاباً جميلاً خَلْقاً وخُلُقاً، فقدَّم إليَّ /35 جَفْنَةَ ثريدٍ عليها شاة، وأطباقاً

(5)

من أنواع التمر الصَّيْحَاني

(6)

، وخيراً كثيراً، من جملته: خبز أقراص، سويق النَّبْق، فأكلتُ، وملأ لي جِرابي

(7)

لحماً وخبزاً وتمراً، وقال: كنت نائماً بعد صلاة الصبح، فرأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام، وأمرني أن أصنعَ لك هذا، وعَرَّفني مكانك بالروضة، وقال لي عنك: إنك اشتهيت هذا

(8)

.

ومنها: ما حكاه بعض المشايخ قال: بلغني أن شيخنا أبا المغيث ربيعاً المارديني

(9)

يقرأ القرآن في المصحف من غير تعليم سَبَقَ له للكتابة، وكنت أنكر ذلك منه حتى دخلت عليه يوماً بمكة، فوجدته يقرأ القرآن في المصحف

(1)

لم أعرفه.

(2)

تنيس: جزيرة تقع في النيل بين الفرما ودمياط. انظر: معجم البلدان 2/ 51.

(3)

دمياط: مدينة قديمة مشهورة، وكانت ثغراً من ثغور الإسلام، والثغر: مايلي دار الحرب، وموضع المخافة من فروج البلدان. معجم البلدان 2/ 472، القاموس (ثغر) ص 359.

(4)

هذا مما لايطلب من النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق التنبيه قريباً على مثله فاحذر ذلك.

(5)

في الأصل: (وأطباق) وما أثبتناه هو الصواب.

(6)

الصَّيْحاني: من تمر المدينة، نُسِب إلى: صَيْحان، لِكَبْشٍ كان يُرْبَط إليها. القاموس (صيح) ص 230.

(7)

الجراب -بالكسر-: وعاء من إهاب الشاء لا يُوعَى فيه إلا يابسٌ. اللسان (جرب) 1/ 261.

(8)

وفاء الوفاء 4/ 1383.

(9)

لم أقف له على ترجمة.

ص: 141

قراءة مجوَّدة، فسألته عن سبب ذلك؟ قال: كنت في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم [أبيت]

(1)

في المسجد، وأخلو به صلى الله عليه وسلم، فتشفَّعْتُ إلى الله سبحانه وتعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يسهل عليَّ القرآن في المصحف، قال: فجلست، فأخذتني سِنَةٌ، فرأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: قد استجاب الله تعالى دعاءك، فافتح المصحف، واقرأ القرآن. قال: فلما أصبح الصباح، فتحت المصحف وشرعت في القراءة، فكنت أقرؤه في المصحف، فربما تتصحف عليَّ الآية، فأنام، فأرى من يقول: الآية التي تصحَّفت عليك، كذا وكذا.

ومنها: ما حكاه الفقيه السيد الشريف تقي الدين عبد الغني بن أبي بكر بن عبدالله الحسيني الشافعي

(2)

قال: بلغني عن بعض المتصدِّرين في القرآن بالجامع العتيق

(3)

بمصر أنَّه حلفَ بالطلاقِ الثلاثِ أنْ لا يجيزَ أحداً يقرأ عليه القرآن مستحقاً للإجازة إلا بعشرة دنانير، فاتفق أنْ قرأَ عليه رجلٌ فقيرٌ، فلما كمَّل القراءة سأله الإجازة، فأخبره بيمينه، فتألم خاطره، واجتمع بأصحابه، فجمعوا له خمسة دنانير، فأتى بها إليه، فلم يَأْخُذْها، فخرج من عنده، فرأى المَحْمِلَ

(4)

يُدار به، فقال: والله لا أنفقت هذه إلا في الحجِّ، فاشترى ما

(1)

بياض في الأصل. وما أثبتناه يقتضيه سياق الكلام.

(2)

لم أقف له على ترجمة.

(3)

الجامع العتيق: هو الجامع الذي بناه عمرو بن العاص رضي الله عنه في الفسطاط بعد الاستقرار الإسلامي في مصر.

(4)

المحمل: عبارة عن إطار خشبي مكسو بكسوة من الحرير المزركشة، بداخله مصحفان في صندوقين من الذهب، ويصاحب المحمل مجموعة من الصناديق الخشبية، تحمل بداخلها كسوة الكعبة والمقام، ويقال: إن أول من أحدث المحمل الحجاج بن يوسف الثقفي، وعرف في التاريخ الإسلامي عدة محامل كانت تتوجه إلى الكعبة المشرفة وهي:

1 -

المحمل الشامي. 2 - المحمل العراقي 3 - المحمل اليمني 4 - المحمل المغربي 5 - المحمل التكروري 6 - المحمل العثماني 7 - المحمل المصري. للتوسع انظر: كتاب المحمل لإبراهيم حلمي.

ص: 142

يحتاجه، وسار حتى وصل مكة، وقضى تَفَثَه

(1)

، ورحل عنها إلى المدينة، فلما وقف على القبر المُقدَّس قال: السلام عليك يا رسول الله، ثم قرأ عشراً جَمَعَ للأئمة السبعة، وقال: هذه قراءتي على فلان، عن فلان، عنك، عن جبريل، عليكما السلام، عن الله عز وجل، وقد سألت شيخي الإجازة، فأبى، وقد استغثتُ بك يا رسول الله في

تحصيلها

(2)

، ثم نام، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: سَلِّمْ على شيخك، وقل له: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لك: أجزني بلا شيء، فإن لم يُصَدِّقُكَ، فقلْ له: بأمارة زُمَراً زُمَراً./36 فلمَّا وصل الفقير إلى مصر اجتمع [بشيخه]

(3)

وبلَّغه الرسالة عَرِيّةً عن الأمارة، فلم يصدِّقه، فقال له: بأمارة زُمَراً زُمَراً، فصاح الشيخ، وخرَّ مَغْشِيّاً عليه، فلمَّا أفاق، قال أصحابه: يا سيدَنا، ما الخبرُ؟ قال: كنت كثيراً ما أتلو القرآن، فمررتُ يوماً على قوله عز وجل:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ}

(4)

. فحلفت أن لا أقرأ إلا متدبراً فَهِماً، فأقمت لا أتجاوز من القرآن إلا يسيراً مدة طويلة، حتى نسيته، فكفَّرْتُ عن يميني، وشرعت في حفظه فحفظته، فبينا أنا أتلو ذات يوم، إذ مررت على قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الذَّينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}

(5)

. الآية، فقلت: ليت شعري، ليت شعري، من أي الأقسام أنا؟ لست من الثاني، ولا من

(1)

التَّفَثُ: هو مايفعله المحرم بالحج إذا حلَّ، كقص الشارب والأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة. وقيل: هو إذهاب الشَّعَث والدَّرَن والوسخ مطلقاً. النهاية (تفث) 1/ 191.

(2)

هذا من الشرك بالله عز وجل ومما لايطلب إلا من الله وحده.

(3)

أضفنا ما بين المعقوفين ليستقيم المعنى.

(4)

. سورة البقرة آية رقم: 78.

(5)

سورة فاطر آية رقم:32.

ص: 143

الثالث، فتعين أن أكون من القسم الأول، فنمت تلك الليلة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: بَشِّرْ قُرَّاء القرآن أنهم يدخلون الجنة زُمَراً زُمَراً. ثم أقبل على الفقير، وقَبَّلَ وجهه، وقال: أُشهدكم على أني قد أجزته ليقرأ ويقرئ من شاء. وذلك ببركة الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ومنها: ما رُوِّيناه عن سعيد بن المسيب

(2)

أنه قال: لقد رأيتني ليالي الحَرَّة وما في المسجد أحدٌ من خلق الله تعالى غيري، وإن أهل الشام ليدخلون زمراً زمراً يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون، قال: فلا يأتي وقت صلاة إلا سمعت أذاناً في القبر، ثم تقدَّمْتُ، فأقمت وصليت، وما في المسجد أحد غيري

(3)

.

ومنها: ما رُوِّيناه عن إبراهيم بن شيبان قال: حججت في بعض السنين، فتقدمت إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فسمعت من داخل الحجرة: عليك السلام

(4)

.

والأخيارُ من أمته الذين سمعوا جواب السلام من داخل الحجرة كثيرون، لا نُطيل بذكر كلِّ فرد فرد منهم، وفي إيراد فصل أو فصلين منها كفاية إن شاء الله تعالى.

ومنها: ما رُوِّيناه من عند الفقيه أبي محمد الإشبيلي

(5)

في مُؤلَّفِه

(1)

لم أجد من أورد هذا الخبر. وهذا مما لايطلب من النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق التنبيه قريباً على مثله فاحذر ذلك.

(2)

سعيد بن المسيب بن حزن أبو وهب القرشي المخزومي أحد التابعين الثقات العلماء الأثبات، توفي بالمدينة سنة 94 هـ. انظر: الطبقات الكبرى 5/ 119، حلية الأولياء 2/ 161، سير أعلام النبلاء 4/ 217.

(3)

الدرة الثمينة ص 223، مثير العزم 2/ 300.

(4)

الدرة الثمينة ص 224، مثير العزم 2/ 300.

(5)

هو عبدالحق بن عبدالرحمن بن عبدالله، المعروف في زمانه بابن الخراط، كان فقيهاً حافظاً عالماً بالحديث وعلله ورجاله. توفي ببجاية سنة 581 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 21/ 198، فوات الوفيات 2/ 256، شذرات الذهب 4/ 271.

ص: 144

الموضوع في

فضل الحجِّ قال: نزلَتْ برجل من أهل غرناطة عِلَّةٌ عَجَز عنها الأطباء، وأَيِسوا من بُرْئِها، فكتب عنه الوزير أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال كتاباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله

(1)

فيه الشفاءَ لدائه، والبُرْءَ مما نزل به، وضَمَّنَ الكتاب شعراً، وهو:

/37 كتابُ وقيذٍ

(2)

من زَمانَتِهِ

(3)

مُشْفِ

(4)

بقبِر رسولِ اللهِ أحمدَ يستشفي

(5)

له قَدَم قد قَيَّدَ الدهرُ خَطْوَها

فلم يستطِعْ إلا الإشارةَ بالكَفِّ

ولما رأى الزوَّارَ يبتدرونَهُ

وقد عاقَهُ عن قَصْدِهِ

(6)

عائقُ الضَّعْفِ

بكى أسفاً، واستودعَ الركْبَ إذ غدا

تحيةَ صِدْقٍ تُفْعِمُ الرَّكْبَ بالعَرْفِ

(7)

فيا خاتمَ الرُّسْلِ الشفيعُ لربِّهِ

دعاءَ مَهِيضٍ

(8)

خاشعِ القلبِ والطَّرْفِ

عَتِيقُكَ عبدُالله ناداكَ ضارعاً

وقد أخْلَصَ النَّجْوى وأيقَنَ بالعَطْفِ

رجاكَ لضُرٍّ أعجزَ الناسَ كَشْفُهُ

ليَصْدُرَ داعيهِ بما شاءَ من كَشْفِ

لِرِجْلٍ رَمَى فيها الزَّمَانُ فقصَّرتْ

خُطاه عن الصَّفِّ المقدَّمِ في الزحفِ

وإني لأرجو أن تعودَ سويَّةً

بِقُدْرَةِ من يُحْيِيِ العظامَ ومن يَشْفِ

(1)

تعلمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طلب الشفاء لا يكون إلا من الله «

أذهب الباس رب الناس أنت الشافي

» الحديث.

(2)

الوقيذ: الشديد المرض. القاموس (وَقَذَ) ص 339.

(3)

الزَّمانَةُ: العاهةُ. القاموس (زمن) ص 1203.

(4)

يقال: أشفى على الهلاك إذا أشرف عليه فهو مُشْفٍ. اللسان (شفي) 14/ 436.

(5)

الشافي هو الله وحده لا شريك له، وأكثر المؤلف من مثل هذه النقول التي تخالف العقيدة في الله وتشرك معه غيره فيما هو خاص به.

(6)

في الوفا: ظعنه.

(7)

أي: تملؤه برائحة الطيب. القاموس (عرف) و (فعم) ص 836،1145.

(8)

المهيض: المنكسر. القاموس (هيض) ص 657.

ص: 145

فأنتَ الذي نرجوه حياً ومَيِّتاً

لِصَرْفِ خُطوبٍ لا تَزِيغُ إلى صَرْفِ

(1)

عليكَ سلامُ اللهِ عِدَّةَ خلقه

وما يقتضيهِ من مَزِيدٍ ومن ضِعْفِ

قال: فما هو إلا أن وصل الرَّكْبُ إلى المدينة، وقرأ على قبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشِّعْرَ، وبَرِئ الرجل في مكانه، فلما قَدِم الذي استودعه إياه، وجده كأنه لم يُصِبْه ضُرٌّ قط.

(2)

(1)

كان الواجب على المؤلف رحمه الله أن يتحاشى من هذه الأشعار التي وصل فيها أصحابها من الغلو ما لا يخفى ممن يطلق بعض العبارات التي لا يجوز إطلاقها إلا في حق الله تعالى كالدعاء والتضرع والنجوى وطلب كشف الكربات والخطوب وغير ذلك.

(2)

وفاء الوفا 4/ 1387.

ص: 146

‌في فضل المجاورة بالمدينة الشريفة

تقدم فيه أحاديث كثيرة، أصرحها وأشرحها لهذا المعنى: قولُه صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أَنْ يموت بالمدينة، فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها» . رواه الترمذي

(1)

.

وقولُه صلى الله عليه وسلم: «ما على الأرض بُقْعةٌ أحبُّ إليَّ أن يكون قبري بها منها» . قاله ثلاث مرات. رواه مالك

(2)

.

ومن عند البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي، قولُه صلى الله عليه وسلم:«والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون» الحديث

(3)

.

ورُوِّينا بسند صحيح،: أن الرشيد

(4)

لَمَّا حجَّ سأل مالكاً، فقال: هل لك

(1)

من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً.

أخرجه الترمذي، في المناقب، باب في فضل المدينة، 5/ 719، برقم 3917، وابن ماجه، في المناسك، باب فضل المدينة، 2/ 1039، برقم:3112، وأحمد 2/ 74، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان 8/ 116.

قال الترمذي: هذا حديث حسن.

(2)

الموطأ 2/ 462، قال ابن عبد البر:" هذا الحديث لا أحفظه مسنداً، ولكن معناه موجود من رواية مالك وغيره ". التمهيد 24/ 92.

(3)

جزء من حديث طويل عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه، مرفوعاً.

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب من رغب عن المدينة، رقم:1875،4/ 107. ومسلم، في الحج، باب الترغيب في المدينة عند فتح الأمصار، رقم:1388،2/ 1009. ومالك، في الجامع، باب ماجاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 7، 2/ 887.

والنسائي في الكبرى، برقم:4263. ولم أجده عند الترمذي.

(4)

هارون بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أمير المؤمنين ولد سنة 149 هـ، وبويع بالخلافة سنة 170 هـ. وتوفي رحمه الله سنة 193 هـ. تاريخ خليفة بن خياط ص 447 - 460، تاريخ بغداد 14/ 5 - 13، البداية والنهاية 10/ 164 - 232.

ص: 147

دار؟ فقال: لا، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، وقال: اشترِ بها داراً. فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص

(1)

قال لمالك: (ينبغي أن تخرج معي، فإني عزمت أن أحمل الناس على «الموطأ

(2)

»، كما حمل عثمان رضي الله عنه الناسَ على القرآن

(3)

).

فقال: أما حمل الناس على الموطأ

(4)

، فليس إلى ذلك سبيل؛ لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار، فحَدَّثوا، فعند أهل كل [مِصْرٍ]

(5)

علْمٌ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:/38 «اختلاف العلماء رحمة»

(6)

. وأمَّا الخروج معك، فلا سبيلَ إليه؛ قال صلى الله عليه وسلم:«المدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون»

(7)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«المدينة تنفي خَبثَها»

(8)

. وهذه دنانيركم كما هي، إنْ شئتم فخذوها وإنْ شئتم

فدَعُوها

(9)

.

(1)

شَخَص من بلد إلى بلد شخوصاً: ذهب. القاموس (شخص) ص 621.

(2)

الموطأ: مصنف الإمام مالك، وهو من أقدم الكتب المؤلفة المتداولة الآن، وله عدة روايات، أشهرها رواية يحيى بن يحيى الليثي.

(3)

قيل لعثمان بن عفان-رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى .. فأمر بنسخ المصحف وتوزيعه على أقاليم الدولة الإسلامية. الرياض النضرة للمحب الطبري 3/ 33.

(4)

كرر الناسخ العبارة: كما حمل عثمان .. إلى قوله: أما حمل الناس على الموطأ.

(5)

في الأصل: (عصر).

(6)

بهذا اللفظ عزاه العجلوني في الكشف 1/ 66، إلى الخطيب البغدادي في الرواة عن مالك. والحديث قد حكم جماعة من المحدثين بأنه موضوع مكذوب، وانظر كلامهم في سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم:59.

(7)

الموطأ 2/ 887.

(8)

صحيح مسلم رقم:1381.

(9)

وتروى هذه القصة أنها حدثت له مع المنصور. ترتيب المدارك 1/ 192، سير أعلام النبلاء 8/ 278.

ص: 148

يعني: أنك تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إليَّ، فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ودلالة هذه الأحاديث والآثار على الحثِّ والحضِّ والتحريض على الإقامة بالمدينة، وطلبِ الفوز باستيطانها، وقصد السعادة بمجاورة ساحتها، ظاهرةٌ لائحة واضحة؛ فإنها منبع فيض بحار أنوار المِلَّة الإسلامية، ومشرقُ طلوع أقمار السعادة الحقيقية، والدارُ التي اختصها الله تعالى لهجرة حبيبه صلى الله عليه وسلم، وظهورِ دينه، ومحلِّ إعلانه بالحق، وإذعان الخلق، وأحبُّ البقاع إلى الله تعالى

(1)

، وموطنُ أحبِّ الخلق إلى الله عز وجل

(2)

، ومهبط الملائكة المقربين، ومُتنَزل الروح الأمين، ومثوى ضنائن

(3)

الله الأكرمين، من السادة القادة الأنصار والمهاجرين، ساداتِ المسلمين، وعظماءِ الدين، ثُمَّ اختارها الله تعالى محلاًّ للجسد الزاكي الطيب الطاهر، [وجعلها]

(4)

مضجع الطَّوْدِ الأشَمِّ والقمر الزاهر، فصارت مفزعاً للمحبين المشتاقين، وملجأً للعشاق الوالهين

(1)

أحب البقاع إلى الله مكة، كما ورد في حديث عبدالله بن عدي بن حمراء الزهري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحَزْوَرَةِ فقال: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ماخرجت.

أخرجه الترمذي، في المناقب، باب في فضل مكة، رقم:3925، 5/ 722. وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه ابن ماجه، في المناسك، باب فضل مكة، رقم:3108،2/ 1037. وغيرهما.

(2)

أخرج الترمذي في الجامع 5/ 587 رقم:3616، من حديث ابن عباس وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا وأنا حبيب الله ولا فخر» الحديث قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.

(3)

الضنائن: الخصائص، واحدهم: ضنينة، فعيلة بمعنى مفعولة، من الضَّنِّ، وهو ماتختصُّه وتَضِنَّ به، أي: تبخل؛ لمكانه منك وموقعه عندك، يقال: فلان ضِنِّي من بين إخواني وضِنَّتي، أي: أختص به، وأضِنُّ مودته. النهاية (ضنن) 3/ 104.

(4)

في الأصل: (جعله) والصواب ما أثبتناه.

ص: 149

التواقين، ومبدأ انعقاد خلافة الأربعة المنصوصين، المخصوصين من الله تعالى بالرضا، أئمة العدل المشهورين، السابقين في خير كل من بقي وكل من مضى، فذكرها يثير غرام المشتاقين، ونَشْرُها يعطر مَشامَّ المستنشقين، والتوقُّنُ في وُقْناتها

(1)

يزيد في يقين أرباب اليقين.

مواطِنُ أنسٍ كلَّما مَرَّ ذِكْرُها

تسامى إلى تلقائِها كُلُّ هِمَّةِ

إذا ما حدا حَادٍ وَجَادَ بذكرِها

أذوبُ أسىً لولا التَّسَلِّي برجعةِ

فيا حَبَّذا تَلْكَ الديارُ وأهْلُها

ويا فَوْزَ من يَحْظَى هناك بنظرةِ

تُرَى هل أَرى داراً بِسَلْعٍ ورامَةٍ

وتسمحُ لي الأيامُ فيها بعودةِ

وتَذْهَبُ أحْزَاني وتُقْضَى مآرِبي

ويُسعِدُني دَهْرِي وتأتي [مسرتي]

(2)

فأرتعُ في ظلٍّ ظليلٍ وغِبْطةٍ

وأَنْعُمُ إذ شاهدت أعلام طيبة

واعلم أنه لا يختار مجاورة المدينة الشريفة، ولا يُؤْثِرُ استيطانَها غالباً إلا من /39 يدَّعي محبة هذا النبي الكريم، ومن قبائح الخلال [التي]

(3)

يذمها أهلُ كل دين ومِلَّة، الدعاوي الكاذبة، فاجتنب، واستعذ بالله أن تتصف بها، أو تكون ممن تعلق بسببها، فلتكن لدعواك شواهدُ وعلامات، وقرائنُ وأمارات، وذلك بأمور:

منها: الإغضاء

(4)

عند القرب منه صلى الله عليه وسلم، فإن من علامات المحب عند نظر محبوبه إليه [رَمْيَه]

(5)

بطَرْفِه نحو الأرض، وذلك من مَهابتِه له، وحيائِه منه،

(1)

التوقُّن هو: التَّوَقُّل في الجبل، يقال: وَقَل في الجبل يَقِلُ وتَوقَّل يتَوقَّل، والمعنى: صَعَّد. والوُقْنات جمع: وُقْنَة، وهي: موضع الطائر. القاموس (وقل) ص 1069، (وقن) ص 1238.

(2)

في الأصل: (مسرة).

(3)

في الأصل: (الذي).

(4)

أغضى: أدنى الجفون

وأغضى عنه طَرْفَه: سَدَّه، أو: صَدَّه. القاموس (غضى) ص 1318.

(5)

في الأصل (ورميه).

ص: 150

وعَظَمتِه في صدره، ولهذا يستخف الملوك بمن خاطبهم وهو يُحِدُّ النَّظَرَ إليهم، بل يكون خافضَ الطَّرْفِ إلى الأرض، مخبراً عن كمال أدب رسوله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى}

(1)

. وهذا غاية الأدب، فإنَّ البصر لم يَزِغْ يميناً ولا شمالاً، ولا طمح

(2)

متجاوزاً ما هو رائيه ومقبلاً

(3)

عليه بالتَّشَاوُفِ

(4)

إلى ما وراء ذلك، ولهذا أُسند النهي والوعيد للمصلي أن يرفع بصرَه إلى السماء، وهُدِّد بخَطْفِ البصر

(5)

.

ومنها: المواظبة على الصلاة والتسليم، فإنَّ من علامات المحبِّ كثرةَ ذكر المحبوب، واللَّهَجَ بذِكْرِه وحديثه، ومَنْ أحبَّ شيئاً أكثر ذِكْرَه بقلبه ولسانه، ولأجل ذلك أَمرَنا الله تعالى بذكره في أخوف الأحوال، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الذينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

(6)

.

وأفضل أنواع الذكر أنْ يَحْبِسَ المُحِبُّ لسانهَ على ذكر حبيبه، ثم يحبسَ قلبَه على لسانه، ثم يحبسَ قلبَه ولسانَه على شهودِ مذكورهِ.

وكما أنَّ الذِّكْرَ من نتائج الحبِّ، فالحبُّ أيضاً من نتائج الذكر، فكل منهما يثمر الآخر، فافهم ذلك، فإنك إذا فهمته لم يبرحْ لسانك رطباً بالصلاة

(1)

سورة النجم آية رقم: 17. قال القرطبي: رحمه الله قيل: لم يمد بصره إلى غير ما رأى من الآيات. وهذا وصف أدب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام؛ إذ لم يلتفت يميناً ولا شمالاً. الجامع لأحكام القرآن 17/ 97 - 98.

(2)

طَمَحَ بصره إليه: ارتفع. القاموس (طمح) ص 232.

(3)

في الأصل: (مقبلٌ).

(4)

تشوَّف إلى الخبر: تطلع. القاموس (شوف) ص 826.

(5)

أخرجه البخاري، في الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، رقم:750.

(6)

سورة الأنفال آية رقم:45.

ص: 151

والتسليم، على هذا النَّبي الكريم، فإنَّه ذِكْرٌ صادرٌ عن المحبة، وأفضلُ الذِّكْرِ ماكان كذلك.

ومنها: الاجتهاد في أنْ يكون كثيرَ السماع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسِيَرِه وسُنَنِه وأيَّامِه، كثيرَ الإقبالِ عليه، حَسَنَ التلقي لما يفهم من معانيه، فإنَّ من علامات المحب إقبالَه على حديث حبيبه، وإلقاءَ سَمْعِه كُلِّه إليه، بحيث يُفْرِغُ لحديثه سمعَه وقلبَه، وإن ظهر منه إقبالٌ إلى غيره، فإقبال مستعار، فإنْ أعوزه

(1)

حديثُه بنفسه، فأحبُّ شيء إليه الحديثُ عنه، لاسيما إذا حدَّث عنه بكلامه، فإنَّه يقوم مَقام خطابه.

حديثُه وحديثٌ عنه يُطربني

هذا إذا غابَ وهذا

(2)

إذا حضرا

كلاهما مشتهى قلبي أَلَذُّ به

لكن أحلاهما ما وافق النظرا

/40 ومن الكلم الشهير في نعت المحبين: لاشيءَ أَلَذُّ لقلوبهم من سماع

(3)

.

(1)

أعوزه الشيء: احتاج إليه. القاموس (عوز) ص 519.

(2)

في الأصل: (وهذا ما إذا حضر) وحذفنا (ما) لاختلال وزن البيت بها.

(3)

هكذا جاء الكلام مبتوراً في الأصل، ويمكن أن تكون بقيته (حديث المحبوب، أو سماع الحديث عنه).

ص: 152

‌فصل في آداب الزائر

اعلم أن الأدب شرط في أعمال البر كلها، فرضها ونفلها، وكذا في سائر الأحوال والأعمال والعلوم والمعارف والمقامات والمنازل كلها، حتى قال بعض المشايخ: ليكن عملك مِلْحاً، وليكن أدبك دقيقاً، وهذا كلام لوخط بالذهب لكان حقيقاً، أي: ليكن أدبك في أمورك أكثر من عملك؛ لأن بكمال الأدب تحصل وتظهر ثمرة العبودية والمقصودُ منها.

ولهذا قال أبو علي الدَّقَّاق

(1)

: العبد يصل بطاعته إلى الجنة، ويصل بأدبه إلى الله تعالى. وقال: ترك الأدب يوجب الطَّرْد، فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رُد إلى سياسة الدواب

(2)

.

وقال ابن المبارك

(3)

: نحن إلى قليل من الأدب أحوج [منا]

(4)

إلى كثير من العلم

(5)

.

وأطال العلماء الكلام على الأدب وقل من يَتعرَّضُ لتعريفه، ويتعدى عن نعته وتوصيفه.

(1)

الحسن بن علي بن محمد، أبو علي الدقاق شيخ الصوفية، كان زاهداً عالماً، أخذ عنه القشيري صاحب الرسالة، وأكَثَرَ من الرواية له. توفي سنة 406 هـ. شذرات الذهب 3/ 180، تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 401 - 410.

(2)

الرسالة القشيرية 2/ 559 - 560.

(3)

عبد الله بن المبارك المروزي مولى بني حنظلة، ثقة ثبت، عالم جواد كريم مجاهد أديب، جمع من كل خصال الخير ما غبط عليه، وتمنى كل الوصول إلى ما وصل إليه. توفي سنة 181 هـ. العبر 1/ 217، سير أعلام النبلاء 8/ 378.

(4)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.

(5)

الرسالة القشيرية 2/ 561.

ص: 153

وأهل اللغة يقولون: الأدب الظَّرْفُ، وحُسْنُ التناول في الأمور كلِّها

(1)

.

وقال بعض العلماء: الأدب كلمة تجمع خصالَ الخير كلَّها.

وقال بعضهم: الأدب مراعاةُ حقوقِ الشرع والحقيقةِ والسلوكِ إلى الله تعالى ظاهراً وباطناً، وكلَّ مايدعو إلى الاتصاف بذلك من محاسن الأخلاق والأعمال والأحوال والأوصاف، وأَخْذِ النفس بذلك، مع ردها عما يدعو إليه طبعها، فمن فعل ذلك، فقد تحلى بنصيب من الأدب على حسب ذلك، ولكل طاعة أدب، ولكلِّ مكان أدب، ولكل زمان أدب.

وقال بعضهم: الأدب وصف من الأوصاف الحقيقية، المُتَّصِفُ بها الذواتُ الروحانية، كالرضا، والتوكل، والتوحيد، وكل ذلك باعتبارات أربعة: عمل، وعلم، وحال، وتحقيق باعتبار قيامه بالحقائق الأربعة، فإن قام بالقوالب كان عملاً، وإن اتصف به القلب كان علماً، وإن قام بالروح كان حالاً، وإن مال إلى السر كان تحقيقاً.

فإذا عرف ذلك، فاعلم أن لزائر قبر سيدنا رسول الله آداباً كثيرةً، يتعين التخلُّق بها حتى يكون إلى الظفر بالمقصود سبيلاً، وعلى الفوز بسعادة القبول وإقبال الرسول صلى الله عليه وسلم دليلاً:

الأول: صدق النية، وخلوص الطوية، فإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ مانوى

(2)

/41 وليس لكل امرئ إلا مانوى، والنية تُلحق غير العامل بالعامل في الأجر وزيادة، والطاعات بجملتها مربوطة بالنيات في أصل

(1)

القاموس (أدب) ص 58.

(2)

جزء من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري في بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم:1،1/ 13 وهو من الأحاديث المشهورة.

ص: 154

صحتها، وتضاعف فضلها ومثوبتها.

أما الأصل في الزيارة الكريمة وفي غيرها من القُرُبات: أن ينوي بها القُرْبةَ والطاعة لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية.

وأما تضاعف فضلها: فبكثرة النيات الحسنة، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيراتٍ كثيرةً، فيثاب بكل نية حسنة، ثم يضاعف كل حسنة بعشر أمثالها.

مثاله: أن ينوي الزائر أولاً زيارةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، والتبرُّكَ بالقُرْبِ من قبره الكريم وجسده المقدس، ثم ينوي الصلاةَ في مسجده صلى الله عليه وسلم، وينوي الاعتكافَ فيه مدة إقامته ولو ساعة أو لحظة، وينوي زيارةَ اللهِ تعالى سبحانه في مسجد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن من قعد في المسجد، فقد زار الله تعالى

(2)

وحقٌّ على المزور إكرام الزائر، وينوي التجرد فيه لذكر الله تعالى، وينوي إكثار الصلاة والتسليم فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وينوي الدعاء لأبي بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة رضي الله عنهم والأئمةِ المدفونين بالبقيع، وسائرِ مشاهد الشهداء، وغيرِهم من السادة الكبراء، وينوي الصدقة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيران المصطفى ولو بيسير من المقدور، وينوي ختم القرآن الكريم أو تلاوةَ ما تيسر عند الضريح المقدس

(3)

، وينوي

(1)

بل ينوي أولاً زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه، ويشد الرحال لذلك، وإذا أكرمه الله بذلك ووصل المسجد يصلي ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم. وأما التبرك بالقرب من القبر فمحذور.

(2)

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض» . أخرجه ابن ماجه، في اللباس، باب البياض من الثياب،2/ 1181، رقم:3568. وفي الحديث أيضاً: «إن بيوت الله في الأرض المساجد وعمارها زوارها وحق على المزور أن يكرم الزائر».

(3)

التلاوة عند القبور من المحدثات، ومفضية إلى صور خطيرة تتنافى مع التوحيد.

ص: 155

الاستعاذة

(1)

بالأولياء والأبدال

(2)

والصلحاء والأخيار المقيمين

والواردين على المدينة الشريفة، وينوي التخلق باختلاق

(3)

الكاملين في الزيارة، من كف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والتوردات، وينوي اجتناب المعاصي رأساً حياءً من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فينبغي للمؤمن الموُفَّقِ أن يكون دائم الاتصاف بِنِيَّةِ القُرُبات والعَزْمِ عليها، دائم التوجه بهما، مربوط الجأش عليهما، في جميع الطاعات، وكافة العادات، فهي عبارةٌ قليلة، وزِنَتُها في الحقيقة جليلة، ومَنْ فتحَ اللهُ تعالى عليه هذا البابَ أشرف منه على خير كثير، وفضل أثير، وجزاء كبير، على عمل قليل يسير، ويحصل له الجزاءُ الجزيل في جميع الأحوال، سواء تحلى بالأعمال، أو تخلى عن الأعمال، في حالة اليقظة والخيال، والتَّنبُّهِ والإغفال، وعند النَّشَطات والفَتَرات

(4)

، وفي الحياة وبعد الممات، كل ذلك ببركة /42 الشريعة المحمدية الجامعةِ لجميع الخيرات، وبديع البركات.

وثانيها: أن يكون دائم الأشواق إلى زيارة حبيبه وشفيعه، في أكثر أوقات عمره، بل في جميعه، مُحِباً كَلِفاً هائماً للوصول إلى قُرْبِ تُرب مَضْجِعه، مُسْتَهاماً

(5)

شَيِّقاً للظَّفَر والفَوْزِ بالدُّنو من جناتِ أعتابِ مَهْجَعِه

(6)

، فإنه لا مطمع للفوز والنجاة بجزيل الثواب، ومن وَبِيل العقاب، إلا لمن جُبِلَ على حبه من

(1)

قال شيخ الإسلام: وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، لأنها التجاء واعتصام وتحرز، وهذا لا يكون إلا لله. تيسير العزيز الحميد ص 213.

(2)

عن الابدال. انظر مجمع الزاوئد 10/ 62.

(3)

رجل خليق ومختلق: حسن الخُلُق. لسان العرب (خلق) 10/ 86.

(4)

فتر: سكن بعد حِدَّة، ولان بعد شدة. القاموس (فتر) ص 454.

(5)

يقال: قلب مُسْتَهَام: هائم، والهُيام: كالجنون من العشق. القاموس (هيم) ص 1172.

(6)

المهجع: اسم مكان من الهجوع، والهُجُوع: النوم ليلاً. القاموس (هجع) ص 774.

ص: 156

العالمين، ولا يُؤْمِن عبد حتى يكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين

(1)

، ومن كان كاملاً في محبته له وغرامه، كانت زورته منتهى قَصْدِه وأقصى مَرامِه، لا ينفك عن التوجه إليه [بذاته]

(2)

ولا تبرح في برج الأشواق ذاته وصفاته:

أُحِبُّ رسول الله شوقا وصبوة

لعلي غداً عن حوضه لا أُخلأُ

أَحِنُّ إلى تقبيلِ مَوْطِئِ نَعْلِهِ

ومن لي بأن أُروى بما منه أظمأُ

أُعد لأهوال القيامة حُبَّه

وحسبي فلي منه ملاذٌ وملجأ

(3)

ثمَّ إنَّه يُربِّي شَوْقَه وصبابَته، ويُقوِّي وَجْدَه وخِلابتَه

(4)

، ويُتَمِّمُ لاعِجَه

(5)

وشَجْوَه

(6)

، حتى يبادر إلى أن يَقْصِدَ قَصْدَه، ويَنْحُوَ نَحْوَه، فالشوق إلى لقائه، وطلبُ الوصول إلى فِنائه، من أظهر علامات الإيمان، وأكبر وسائل الفوز يوم الفزع الأكبر بالأمن والأمان.

(1)

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» .

أخرجه البخاري، في الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، رقم:15، ومسلم، في الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد، رقم:44.

(2)

جاءت الكلمة مرسومة هكذا (نواته) وجعل الناسخ عليها حرف " ط " صغير، وهذه عادته في الكلمات التي لم يتمكن من قراءاتها. وماأثبتناه أقرب للسياق.

(3)

ذكر المؤلف قدراً وافراً من الأشعار في مديحه صلى الله عليه وسلم، ولم يعزها لأحد، والظن أنها -أوبعضها - له وبعضها الآخر أخذها من مصادر كانت موجودة في عصره، وقد بذلنا جهوداً كبيرة في مراجعة المصادر المتاحة من معاجم اللغة، وكتب الأدب، ودواوين الشعر والمدائح النبوية ولم نجدها.

(4)

الخِلابة من الخَلبْ، وهو سلب الفؤاد من شدة الحب. اللسان (خلب) 1/ 364.

(5)

اللاعج: الهوى المُحرِق، يقال: هوى لاعج، لحرقة الفؤاد من الحب. اللسان (لعج) 1/ 357.

(6)

الشَّجْو: الهَمُّ والحزن. اللسان (شجو) 14/ 422.

ص: 157

نبذتُ جميل الصبر في العيش دونه

وقلتُ إلى كم يصبرالكَلِفُ

(1)

المُضْنَى

يكاد إذا هبت ليثربَ نفحةٌ

يطيرُ لها شوقا ويفنى بِها حُزْنَا

نأَت دار باغيه، وللقلب لوعة

فياليتنا إذ لم نُعاينه قد زُرْنَا

نُقْبِّلُ بالأفكار آثار نَعْله

ومَن فاته المحبوبُ حَنَّ إلى المعْنَى

ومنها: أنه إذا وفق للمسير، وساعده للنهوض إلى الزيارة التوفيق والتيسير، فليمتط في سيره ظهور العزمات العليَّات، قبل صَهَوات الأرحبيات

(2)

، وليشمر عن الهمم العالية العزائم دون الدَّنِيَّات، ولْيَسِرْ في ظهورها إلى أشرف الغايات، وأكرم الأمنيات.

وركبٍ سَرَوْا واللَّيلُ مرخٍ رُواقه

(3)

على كل مُغْبِّرالموارد

(4)

قائمِ

جدوا عزمات

(5)

ضاعت الأرض بينها

فصار سراهم في ظهور العزائمِ

أرَتهم نجوم الليل ما يطلبونه

على عاتق الشِّعْرى

(6)

وهام النعائم

(7)

فَأَمُّوا حمىً لاينبغي لسواهم

وما أخذتهُم فيه لومةُ لائمِ

/43 ولتكن أوقاته مُسْتغرَقةً في الطاعات والعبادات، وإكثارِ الخيرات والقُرُبات، لاسيما في إكثار الصلاة والتسليم على مَنْ وفَّقه الله للقصد

(1)

الكَلِفُ: الرجل العاشق. القاموس (كلف) ص 850.

(2)

الصَهَوات: جمع صهوة، وهي: مقعد الفارس من الفرس. القاموس (صهو) ص 1304. والأرحبيات هي النجائب المنسوبة إلى أرحب، وهي قبيلة من همدان. القاموس (رحب) ص 89.

(3)

الرُّواق من الليل: مُقَدَّمُه وجانبه. القاموس (روق) ص 888.

(4)

المَوْرِدَة: الجادَّة. القاموس (ورد) ص 325، والمعنى: اشتد غبار طرقهم من سرعة سيرهم.

(5)

العزمات: جمع عَزْمة، وهي: ماعقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله. اللسان (عزم) 12/ 399.

(6)

الشِّعْرى: كوكب نير يطلع بعد الجوزاء وطلوعه في شدة الحر

وهما الشِّعْرَيان: العَبُور التي في الجوزاء، والغميصاء التي في الذراع، وعَبَد الشّعْرى العبور طائفةٌ من العرب في الجاهلية. اللسان (شعر) 4/ 416.

(7)

النعائم: من منازل القمر. القاموس (نعم) ص 1163.

ص: 158

إليه، ومن خصَّه الله بإسعاده والوفود عليه، لا تقصر بغير ذلك شِفاهُه، ولا تَفْتُر عن الصلاة والتسليم نواجذُه، وكلما ازداد قُرْباً ودُنُواً، ازداد شوقاً وغراماً وحُنُواً.

قُرب الدِّيارِ يَهِيجُ شوق الوالِه

لاسيَّما إن لاح نُورُ جمَالِهِ

وتذكَّرَتْ أرواحنا برواحنا

لمقيلِهَا بالجذع تحت ظلاله

وسرى النسيم لها فهيج ما بها

وهَفَتْ

(1)

فطامنها [لهيب] وِصاله

أو بشَّرَ الحادي بأن لاح النَّقا

وبدت على بُعْدٍ رؤوس جبالِهِ

وبَدَتْ رُبا نَجْدٍ وهبَّت منهُمُ

ريحُ القَبُول

(2)

تشير عن إقبالِهِ

فهناك عِيلَ الصَّبْرُ من ذي صَبْوَةٍ

وبدا الذي يُخفيهِ من أحوالِهِ

ويَودُّ راجي القربِ أن لو يشتري

طِيْبَ الوصالِ بنفسِهِ وبِمالِهِ

من للمحِبِّ بأن يزور حبيبَهُ

نفساً ولو وهْنَاً لِطَيفِ خيالِهِ

ذاك المنى لو كان يَسمَحُ دهرُنا

ببلوغ ذي الآمل من آماله

يارب بَلِّغْ مَن يُحِبُّ حبيبه

ياربِّ صلِّ على النبي

(3)

وآلِهِ

ومنها: إذا دنا من حرم المدينة وأعلامها، وقرب من معاينة رباها الكريمة وآكامها، وانتشقَتْ مَعاطِسُه

(4)

من معاطر أزهارها، وبدأت تبدو للناظرين لوامع أنوارها، وظهرت للسائرين علاماتُ الطيبة وأسبابها، وتراءت للعالمين معالم طيبة وقبابها، فليستحضر هناك وظائفَ تضاعف الخشوع والمهابة، ولْيلزم قلبَه طرائقَ حقائق الخضوع والخشوع والإنابة، وليستبشر ببلوغ المنى، وفروغ العنا، وسبوغ الهنا.

(1)

هفتْ: أسرعت. القاموس (هفّ) ص 862 وطامَنَها: سكَّنها. القاموس (طمن) ص 1213. وبعدها في الأصل كلمة غير واضحة.

(2)

القبُول: هي ريح الصَّبا. القاموس (قبل) ص 1045.

(3)

في الأصل: (النبي الهاشمي وآله). وحذفت الهاشمي لاختلال الوزن بها.

(4)

المَعْطِس والمَعْطَس: الأنف. القاموس (عطس) ص 558.

ص: 159

فهي الدِّيار التي طِبُّ

(1)

المحبِّ، له

شوقٌ إليها، وتذكارٌ وإحسانُ

وأَنَّةٌ وحنينٌ كلما ذُكِرَتْ

ولوعةٌ وشَجَىً منهُ وأحزَانُ

يهيمُ إن لاح برقٌ أوبَدَت سحراً

نُسيمةٌ طابَ منها الرَّنْدُ

(2)

والبانُ

أوطانُ أُنس لها في القلب منزلة

وأهل حي هم في القلب سكان

وليضاعفْ هناك وظائفَ الصلاة والسلام، ويزداد ذلك كلما ازداد قُرْباً من الربا والأعلام، ثم إذا قرب دخولُه، ودنا وصولُه، فليغتسل وليتطيب بأطيب أطيابه،/44 وليلبس أحسن ثيابه.

أما الغسل: فقياساً على مكة المشرفة؛ لأنها تاليتُها في الحرمة والكرامة والإكرام، ونظيرتهُا في وجوبه للتعظيم والاحترام، وهذا على قول جماهير الأعلام، من أئمة الإسلام، وأما على قول من يقول بأفضلية المدينة

(3)

وأن محلها أشرف وأعلى، فالغسل عند دخولها أجدر، وأخلق، وأولى.

وأما لبس ما تهيأ من محاسن الثياب، ومفاخر ما اشتملت عليه العمائم، فلما رُوِّينا من حديث قيس بن عاصم

(4)

:

أنه لما قدم مع وفده أسرعوا هم بالدخول، وثبت هو حتى أزال تفَثَهُ

(5)

، وآثار سفره، ولبس ثيابه، وجاء على تُؤَدةٍ ووقار، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرضي

(1)

الطِّبُّ: علاج الجسم والنَّفس. القاموس (طبب) ص 108.

(2)

الرَّند: شجرٌ طيب الرائحة، والعود. القاموس (رند) ص 284.

(3)

يرى مالك أن المدينة ومسجدها أفضل، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين، وهو أحد الروايتين عن أحمد. التمهيد 2/ 258 وما بعدها، المواهب اللدنية 4/ 601 - 602.

(4)

قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر المنقري التميمي، قدم في وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع فلما رآه قال:«هذا سيد أهل الوبر» . وكان عاقلاً حليماً، توفي بحدود 20 هـ. الاستيعاب 3/ 354 رقم: 2164، الإصابة 3/ 242 برقم:7196.

(5)

التّفَث: إذهاب الشَّعَث والدَّرَن والوسخ مطلقاً. النهاية (تفث) 1/ 191.

ص: 160

له ذلك وأثنى عليه بقوله: «إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا الله تعالى: الحلْمُ والأَنَاة»

(1)

وليتجنّب ما يفعله بعض الجهلة والعوام، من التجرُّد عن المخيط تَشبُّهاً بحال الإحرام، فإن ذلك محض الابتداع، ولا نجاة لك إلا في اطِّراحه ولزومِ الاتباع.

ثم إذا انتهى إلى الحرم الكريم، ضاعف وظائف التبجيل والتعظيم، وأطرق مهابة وحياءً ووقاراً، وازداد خشوعاً وخضوعاً واحتقاراً، وليذكر عظيم حرمة المكان، وما خصَّه الله من أكرم السكان، وما منَّ الله تعالى به على النَّازل به من الشرف الباذخ، والعز الشاهق الشامخ، والقدر الرفيع، والصدر الوسيع، والجاه المنيع، وليجتهد أن يقتبس من أنوار هذه الأفكار، ويلتمس بآثار الاعتبار من شرف الديار، وإن لم يَجد من نفسه تَهيُّأً لقبول شيء مما ذكرناه، فذلك دليل على غلبة الهوى، واستيلاء أمور الدنيا، وغفلة القلب عن أمور الحق حتى ضَعُفَت آثار الإيمان، وقلت أنوار الإيقان، ونعوذ بالله من الخذلان.

وينبغي أن يدعو عند دخوله في أوائل الحرم بما تيسر من الدعوات المناسبة، كأن يقول: بسم الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة

(1)

جزء من حديث طويل عن أبي سعيد الخدري في وفد بني عبدالقيس.

أخرجه مسلم، في الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين، رقم:25.

قال الحافظ يعدد وفد بني عبد القيس: ومنهم المنذر بن عائذ وهو الأشج، وذكر صاحب المفهم أربعة أشخاص كل منهم قيل عنه بأنه هو صاحب القصة، ومنهم قيس ولكنه رجح كون صاحب القصة هو المنذر. المفهم لما أشكل من تلخيص 1/ 178.

وقيس الذي ذكره المؤلف من بني تميم، والذي في صحيح مسلم أن الوفد وفد عبد القيس فعلى هذا يكون المؤلف قد وهم. والله أعلم.

ص: 161

إلا بالله، حسبي الله، وما توفيقي إلا بالله، اللهم إن هذا حرم رسولك صلى الله عليه وسلم ونبيك وصفيك الذي حرَّمه ودعا فيه من الخير بِمثْلَيْ ما دعا به إبراهيم خليلك في حرم بيتك العتيق، وإني أسألك ياذا الجلال والإكرام أن تصلي وتسلم على ساكنه محمد عبدك ونبيك صلاة وتسليماً دائمَيْن بدوامك، وأن تَمُنَّ عليَّ بالنيل من بركاته وخيراته، وأن تعطيني من فضلك المؤمِّنِ من عذابك وسخطِك في الدينا والآخرة، وأن تجعلني من أوليائك وأهل طاعتك، وأن توفقني مادمت فيه لحسن الأدب في طاعتك وزيارة رسولك صلى الله عليه وسلم ومِنْ فِعْلِ الخيرات، كما مننت به على أوليائك وأحبابك، إنك على كل شيء قدير.

اللهم/45 صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك ونبيك ومحبوبك، صلاةً تكون لك رضاءً، ولحقه أداء، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسَلِّم تسليماً كثيراً

(1)

.

ومنها: إذا شاهد المدينة الشريفة وعمائرها، وعاين القبة المنيفة ومنائرها، فمن أدب المحب المشتاق، ودأب العاشق التواق، أن يبادر إلى النزول عن مركبه

(2)

، ويسابق على قدميه، إلى الحلول بباب الحبيب وعتَبِه، مع لزوم الإطراق، والخوف عند الوصال من هجوم الفراق، هذا في شأن الرجال.

(1)

هذه الصيغة فيها بعد عن السنة، والأولى أن يلتزم المسلم بماورد في الحديث الصحيح عن أبي حميد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد، فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك» .

أخرجه مسلم، في صلاة المسافرين وقصرها، باب مايقول إذا دخل المسجد، رقم:713.

وأخرجه أبو داود، في الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، رقم:466،1/ 373. وزاد في الدخول: فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: اللهم افتح لي

.

(2)

هذا مما لادليل عليه من الكتاب ولامن السنة ولامن عمل الصحابة، ولم يثبت عن أحد من السلف البتّة.

ص: 162

و أما النساء فلا يليق إلا بكل جلالة

(1)

عارية عن الجمال، فإنه لا بأس بها في فعله؛ تواضعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالاً، وإذا أُمِنَتِ الفتنةُ كما ذكرناه، وإلا فلا، لا.

وكيف لا يسعى المؤمن المحب المشتاق، ولو على الآماق

(2)

والأحداق

(3)

.؟!.

وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى الإِتْيَانِ زُرْتُكُمُ

سَحْباً عَلَى الوَجْهِ، بَلْ مَشْياً على الرَّأْسِ

وقد أحسن القائل إسماعيل بن محمد الدهان

(4)

صاحبُ الجوهري

(5)

وتلميذُه:

أَتَيْتُكَ زَائِراً وَوَدِدْتُ أَنِّي

جَعَلْتُ سَوَادَ عَيْنِي أَمْتَطِيهِ

وَمَالِي لا أَسِير عَلَى المَآقِي

إِلى قَبْرٍ رَسُولُ اللهِ فِيهِ

(6)

وقال الدهان أيضاً:

أَيَا خَيْرَ مَبْعُوثٍ إِلى خَيْرِ أُمَّةٍ

نَصَحْتَ وَأَبْلَغْتَ الرِّسَالَةَ والوَحْيَا

فَلَوْ كَانَ في الإِمْكَانِ سَعْيٌ بِمُقْلَتِي

إِلَيْكَ رَسُولَ اللهِ أَنْصَبْتُهَا سَعْيَا

(7)

(1)

الجُلالة والجليلة: الأنثى العظيمة. اللسان (جلل) 11/ 116.

(2)

الآماق جمع: مُوق، وهو: طرف العين مما يلي الأنف. القاموس (مأق) ص 922.

(3)

الأحداق جمع: حَدَقة، وهي: سواد العين. القاموس (حدق) ص 872.

(4)

إسماعيل بن محمد بن عبدوس الدهان أبو محمد النيسابوري، أنفق ماله في الأدب، وبرع في علم اللغة، والنحو والعروض، أخذ عن إسماعيل بن حماد وأكثر عنه. معجم الأدباء لياقوت 2/ 310.

(5)

الجوهري هو: إسماعيل بن حماد أبو نصر اللغوي الأديب، أول من حاول الطيران، ومات في تجربته سنة: 393 هـ. معجم الأدباء لياقوت الحموي 2/ 205 - برقم:240، الأعلام للزركلي 1/ 313.

(6)

معجم الأدباء لياقوت 2/ 311 ببعض الاختلاف في الألفاظ. وانظر: المواهب اللدنية 4/ 577.

(7)

معجم الأدباء 2/ 311.

ص: 163

ويذكر عن أستاذه وشيخه أبي نصر إسماعيل بن حماد

(1)

أنه لما شاهد المدينة المُقدَّسة من بعد بادر إلى النزول عن الكُور

(2)

مُترجِلاً، وأنشد:

وَلَما رَأَيْنَا رَسْمَ مَنْ لَمْ يَدَعْ لَنَا

فُؤَاداً لِعِرْفَانِ الرَسُومِ ولا لُبَّا

نزلْنَا عَنِ الأَكْوَارِ نَمْشِي مَهَابةً

لِمَنْ حَلَّ فِيهِ أَنْ نُلِمَّ بِهِ رَكْبَا

(3)

وكانت الملوك وعظماء الدول وكبراء الملة الحنفية، كلٌّ منهم كان يفعل ذلك إذا فاز بالحضور هنالك؛ رجاء لحصول الرفعة الباقية، وتأميلاً للحلول في المنزلة السامية الراقية، وأداء لحق النبي الكريم، من رسوم الإجلال والتعظيم، وليسرد حينئذ وظيفة الصلاة والتسليم، وكلما لمح عَلَماً من تلك الأعلام، يستحضر من شرائط الإجلال والإعظام، ما يليق بذلك المقام، ويراعي كلَّ مكان بحسبه حق الرِّعاء، ويأتي بما يليق به من الذكر والدعاء.

وإن أمكنه أن يدخل/46 المدينة حافياً، كان ذلك من الأدب وإن لم يكن كافياً، ولا لِحقِّ التَّعظيم وافياً، لكن كان شاهدَ صِدْقٍ على الخشوع والانكسار، والخضوع والافتقار، نعم إذا شك في تلوث رجله، فلا بأس عند دخول المسجد تجديد غسلها؛ ليطمئن قلبه، ويَسُدَّ على الشيطان طُرُقَ الوساوس وسُبُلَها من أصلها. ثم من سماع كلام محبوبهم، وفيه غاية مطلوبهم

(4)

.

ومنها: شِدَّةُ المبالغة في اتِّباع السنة والاقتداءِ بما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

هو الجوهري، وقد تقدمت ترجمته آنفاً.

(2)

الكور: الرَّحْل. القاموس (كور) ص 472.

(3)

الشفا للقاضي عياض 2/ 621، المواهب للقسطلاني 4/ 575، باختلاف في بعض الألفاظ، وهذان البيتان من قصيدة للوزير ابن عبيد الله محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم ابن الحي الحكيم اللخمي. كما ذكر ابن الرشيد.

(4)

هكذا جاءت هاتان الجملتان (ثم من سماع كلام محبوبهم، وفيه غاية مطلوبهم) وليس لهما-كما ترى- علاقة بما قبلهما ولا بما سيأتي بعدهما، والله أعلم.

ص: 164

فعله، فإن في ذلك دليلاً على طاعته وطاعة المحبوب، غير أن محبته والانقيادَ لأمر المحبوب، وإيثارَه على مراد الحِبِّ

(1)

، من أعظم دلائل المحبة، بل ينبغي أن يتحد مراد المحب والمحبوب.

والمحبون ثلاثة: منهم من يريد من المحبوب، ومنهم من يريد المحبوب، ومنهم من يريد مراد المحبوب مع إرادته المحبوب، وهذا أعلى أقسام المحبة، وهذا إنما يحصل بكمال المبالغة

(2)

، قال تعالى:{قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}

(3)

. فجعل سبحانه متابعةَ

(4)

رسولِه سبباً لمحبتهم له، وكونُ العبد محبوباً لله أعلى من كونه مُحِباً له، فليس الشأن أن تُحِبَّ اللهَ، ولكن الشأن أن يُحِبَّك اللهُ.

ومنها: أن لايخل بشيء من ما أمكنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغضبِ عند انهتاك شيء من حُرَمِه، وتضييع شيء من حقوقه صلى الله عليه وسلم، فإن من علامات المحبة غيرة المُحِبِّ لمحبوبه، وعلى محبوبه، والغَيرةُ له: أن يكره ما يكره، ويَغَارَ إذا عُصِي مَحْبُوبُه، فهذه غَيْرةُ المُحِبِّ، وأقوى الناس دِيناً أعظمُهم غَيْرة، وإذا خلا قلب المؤمن من الغَيْرة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهو من المحبة أخلى وأخلى، وإن زعم المحبةَ فهو كاذب.

وكلُّ من ادَّعى محبةَ محبوب من سائر الناس، وهو يرى غيره يهتك حرمة محبوبه، ويسعى في أذاه ومساخطه، ويَستخِفُّ بأمره، ويستهين بحقِّه، وهو لايغار لذلك، ولا يغلي قلبُه غَيْرةً، فهو كذَّابٌ، بارِدُ الدعوى، فكيف يصح

(1)

الحِب بالكسر -: المحبوب. القاموس (حبب) ص 70.

(2)

أي: في اتباع السنة والاقتداء بما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، كما تقدم أول هذه الفقرة. ويحتمل أن تكون كلمة (المبالغة) محرّفة عن: المتابعة، والمعنى واضح.

(3)

سورة آل عمران آية:31.

(4)

في الأصل: (متابعته).

ص: 165

لمؤمن محبَّتُه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يَغار عند انهتاك حُرْمَتِه، وتضييع حقوقه؟!.

وأقلُّ أقسام الغَيْرةِ لله تعالى: أن يغار له من نفسه، وهواه، وشيطانه؛ فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه، وارتكابه لمعصيته، وإذا ترحَّلَتْ هذه الغَيْرة من القلب تَرحَّلَتْ منه المحبة، بل تَرحَّلَ منه الدِّينُ وأنوارُه، وإن بقيت فيه حاله وآثاره، وهذه الغَيْرة هي أصل الجهاد، فلا تفارقك في حضرة هذا السيد الكريم، فإن مفارقتها تؤذن/47 بحرمان عظيم، وخِذلان جسيم.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ، ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}

(1)

.

ومنها: محبَّةُ المدينة ومنازِلِها وجبالِها التي أثبت لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فإن من علامات المحب محبَّةَ دارِ المحبوب، وبيتِه، والموضعِ الذي حلَّ فيه:

أمرُّ على الدّيارِ ديارِ ليلى

أُقَبِّلُ ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبُّ الديار شَغَفْنَ قلبي

ولكنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيارا

(2)

ومنها: مَحبَّةُ أهلِ المدينة وسكانِها، ومَودَّةُ مجاوريها وقُطَّانِها، فإن من علامات المحبة، محبَّة أحبابِ المحبوب وأصحابِه، وإخوانِه، وخَدَمِه، وجيرانهِ، وما يتعلق به من جميع شانه:

يشتاقُ واديها، ولولا حُبُّكُمْ

ماشَاقَهُ وادٍ زَهَتْ أزهارُهُ

ومنها: انشراحُ الصَّدْر، ودوامُ السرور، واستمرارُ الفرح لمجاورة هذا النبي الكريم، ومُساكَنَةِ مَنْ خصَّه الله تعالى بالخِلَّة والتعظيم، فإن من علامات

(1)

سورة المائدة آية: 54.

(2)

البيتان لقيس بن معاذ (مجنون ليلى)، وهما في خزانة الأدب 4/ 227 - 228.

ص: 166

المحبة ذهابَ الهموم والأحزان، عند رؤية المحبوب وازدياره، وزوالَ الغموم والأشجان، عند الاقتراب والحلول بمنزله ودياره.

ومنها: المبادرة إلى بذل ما عَزَّ عليه بَذْلُه من المال، و صَرْفِه إلى من هو أحوج إليه من ذوي العيال، فإن من علامات المحبة بَذْلَ المحب في رضى محبوبه ما أحبه، بل ما يقدر عليه مما يبخل به بدون المحبة.

قال العلماء: وللمحبة في هذا ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يبذله وهو عليه شاقٌّ كَلِفٌ وهذا في ابتداء الأمر، فإذا قويت المحبة بذله رضاً وتطوعاً، فإذا تمكنَتْ من القلب غايةَ التمكُّنِ بذلَه سؤالاً وتَضرُّعاً، حتى كأنه يأخذه من المحبوب، فيبلغ به ذلك إلى أن يبذل نفسه دون محبوبه، كما كانت الصحابة رضي الله عنهم يَقُونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، في الحرب بنفوسهم حتى يُصْرَعُوا حولَه، ولقد أحسن القائل:

ولي فؤادٌ إذا لَحَّ الغرامُ به

هَامَ اشتياقاً إلى لقيا معذِّبِهِ

يفديكَ بالنَّفْس صَبٌّ لو يكونُ له

أعزُّ من نَفْسِه شيءٌ فَدَاكَ بِهِ

ومن آثر المحبوب بنفسه، فهو له بماله أشدُّ إيثاراً.

ومنها: إدامة النظر إلى الحجرة الشريفة، قياساً على الكعبة المعُظَّمة شرَّفَها الله تعالى،/48 فإن النظر إلى الكعبة عبادة، كما جاء في الحديث الذي رُوِّيناه من عند

النسائي: «ينْزل على هذا البيت في كل يوم وليلة عشرون ومائة رحمة، فَسِتُّون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين»

(1)

.

فينبغي لساكن المدينة أن يديم النظر إلى الحجرة المُقدَّسة

(2)

إذا كان في

(1)

موضوع، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 124 - 125 رقم: 11248، وفي سنده خالد بن يزيد العمري وهو كذاب، ومحمد بن يزيد بن عبدالله: متروك، متهم بالكذب.

(2)

هذا مما لادليل عليه، بل من المغالاة بمكان.

ص: 167

المسجد حاضراً، وإلى القُبَّة الشريفة إذا كان خارجاً ظاهراً

(1)

، وذلك لأن في إدمان النظر إلى البِنَى

(2)

سراً، وفي إقبال العينين عليه لطيفة، وذلك أن العين بابُ القلب، وهي المُعبِّرةُ عن ضمائره، والكاشفةُ لأستاره، وهي أبلغ في ذلك من اللسان؛ لأن دلالتها حالية بغير اختيار صاحبها، ودلالة اللسان لفظية تابعة لقصده، فترى ناظر المحب يدور مع محبوبه كيف مادار، ويجول معه في النواحي والأقطار، ولقد أحسن القائل حيث قال:

أَذُودُ سَوامَ

(3)

الطَّرْف عنكَ ومالَهُ

على أحدٍ إلا عليكَ طريقُ

بل المحبوب في عين المحب تمثاله، كما في قلبه شخصه ومثاله، فنَظَرُ المحب وَقْفٌ على محبوبه، وفَوْزُه بذلك غايةُ مطلوبه:

إن تحْجُبوها عن العيونِ فقد

حجبت عيني لها عن البشر

وقد أجاد الشاعر في مقاله:

ومِنْ عَجَبٍ أَنيِّ أحِنُّ إليهِمُ

وأسألُ عنهم مَنْ رآهُمْ وهُمْ معي

وتطلُبهم عيني وهم في سَوادِهَا

ويشتاقُهم قلبي وهم بين أَضْلُعِي

ومنها: أن لا يقع نَظَرُه إلى الحجرة الشريفة سُدَى، ولا يَطْرُقَ سَمْعَه شيءٌ من ذكر أحواله وأخباره المنيفة على غير هدى، بل يكون بحيث يغلب عليه سلطان المحبة في الحالتين، ويستولي على بشريته إذعانُ المهابة في الصورتين، ويَتحلَّى بِحِلَى

(4)

المحبين من ارتياعهم

(5)

عند النظر، ولا ينحلُّ عما يعتريهم من التغيُّرِ عند استماع الخبر، ولا سيما إذا كانت الرؤية فُجاءَةً،

(1)

هذا مما لادليل عليه.

(2)

البِنَى: البناء. اللسان (بني) 14/ 93.

(3)

الذَّوْدُ: الدَّفْعُ، وأسام إليه ببصره، رماه به. القاموس (ذود) ص 281 و (سوم) ص 1125.

(4)

الحِلْية: الصِّفَة، والجمع: حِلَى وحُلَى. القاموس مع التعليق عليه. (حلي) ص 1276.

(5)

أي: توقُّفهم وتحيُّرهم. القاموس (ريع) ص 724.

ص: 168

والاطِّلاعُ بغتة، كما قال الشاعر

(1)

:

وما هو إلا أن أراها فُجَاءَةً

فأسقطَ حتى ما أكاد أجيبُ

فأرجعَ عن رَأْيِ الذي كان أولاً

وأذكرَ ما أعدَدْت حينَ تغيبُ

وكثير من المحبين اضطربوا عند سماع اسم المحبوب، وتَغيَّروا وبُهِتوا، وارتاعوا وتَحيَّروا، وقد رُوِّينا عن جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم إذا ذكر/49 رسول الله صلى الله عليه وسلم اختطف لونهم، وارتعدت فرائصهم، وتغيرت أحوالهم

(2)

.

وفي نحو ذلك يقول القائل:

وداع دعا إذ نحن بالخَيْفِ من منى

فهيَّجَ أشجان الفؤاد وما يَدْرِي

دعا باسم ليلى غَيْرَها فكأنَّما

أطار بِلُبِّي طائراً كان في صَدْرِي

(3)

إذا دخل المدينة، فالأدب أن يبدأ بالزيارة والصلاةِ

(4)

في المسجد قبل التعريج على أمرٍ من الأمور، أو شيءٍ هو إلى علاجه ومباشرته غيرُ مضطر ولا مضرور، وكلما مَرَّ في عمرانه، ونَظَرُه

(5)

إلى أبنيته وجدرانه يستحضر بها تلك الربوع والجدران، وسط تلك الأماكن الكريمات، والمعالم العاليات، والبَنِيَّات السَنِيَّات، ويستحضر أنها ديارُ تلك الأخيار، وآثارُ تلك الأبرار، وأن الله عز وجل بفضله العميم، قد مَنَّ عليه بوصوله إليه، فَيُفِيضُ فرحاً شوائق العَبرات، ويزيد طرباً إذا نظر إلى تلك الغَبرات:

أيها المغرمُ المشُوقُ هنيئاً

ما أنالُوكَ من لذيذ التلاق

(1)

الشاعر: جميل بن معْمر، وفي رواية أخرى: فأبهت حتى ما أكاد أراها.

(2)

ممن يروى عنه ذلك أمير المؤمنين عمر، وابنه عبد الله، وأنس بن مالك- رضي الله عنهم وغيرهم. انظر: حياة الصحابة للكاندهلوي 2/ 279.

(3)

ديوان قيس ص 33. وفي الأصل: (أطار بليلى) وهو تصحيف.

(4)

الأفضل البدء بالصلاة في المسجد قبل السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.

(5)

أي: ومَرَّ نَظَرُه.

ص: 169

قل لعينيكَ تَهملانِ سروراً

طالَ ما أسعداكَ يوم الفراق

واجمع الوَجْد والسرور ابتهاجاً

وجميعَ الأشجانِ والأشواقِ

وأْمُرِ العينَ أن تَفِيضَ انهمالاً

وتُوالي بدمعها المِهرَاقِ

هذه دارهمُ وأنت محبٌّ

ما بقاء الدموع في الآماق؟

(1)

وليذكر أن هذه البلدة التي اختارها الله تعالى محلاً لحبيبه وخليله، وحفَّها من خير الدنيا والآخرة بكثيره وقليله، وحقيره وجليله، وليتأمَّلْ في كثرة ألقابها وأسمائها، الدالة على إعلائها على البلدان وإسمائها، وأنَّ أرضَها مواطئُ أقدام سيد المرسلين، ومواطن الأعلام من آله المبجلين، وأصحابه المحجلين.

وعند دخوله من باب البلد يقول: بسم الله، ماشاء الله، لاقوة إلا بالله، {رَبِّ أَدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْني مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ ليِ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً}

(2)

حسبي الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لاحول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا إليك، فإني لم أخْرُجْه بَطَراً ولا أَشَراً ولا رياءً ولا سُمْعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. لايفوته ذلك؛ فإنا رُوِّينا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: /50 «من قال ذلك في مسيره إلى المسجد، وَكَّلَ الله تعالى به سبعين ألف ملك يستغفرون له، ويقبل الله تعالى عليه بوجهه»

(3)

.

(1)

الجواهر الثمينة لمحمد كبريت 1/ 168.

(2)

سورة الإسراء آية:80.

(3)

مسند أحمد 3/ 21 و ابن ماجه 1/ 256 رقم: 778 وفي الزوائد هذا إسناد مسلسل بالضعفاء ورواه ابن خزيمه من طريق فضيل بن مرزوق، وقال ابن أبي حاتم الموقوف أشبه. العلل لابن أبي حاتم 2/ 84، وانظر ميزان الاعتدال 4/ 127.

ص: 170

ثم يلتزم الأدبَ والوقار، والحياءَ والسكينة، والهيبة والخشوع، والصدقَ في ممشاه، إلى أن ينتهي إلى المسجد المُقدَّس، والمرقد المُطهَّر، صلَّى اللهُ على ساكنه وسلَّم.

ومنها: أنه إذا وقع نَظرُه على جدار المسجد المُقدَّس النبوي، وشَرُفَ بصره بالنظر إلى أركان الحرم المحمدي، والبيتِ الشريف الجنَاب، والمحل المُنِيف القِباب، فليستحضر أنه في مَهْبِط أبي الفتوح جبريلَ عليه الصلاة والسلام، ومَنْزِل أبي الغنائم

(1)

ميكائيلَ عليه السلام، والموضعِ الذي خصه الله تعالى بالوحي، والتنزيل، فيزداد خشوعه وحياؤه وخضوعه بحسب المقام، ومقتضى المحل الذي ترتعد دونه الأقدام، ويجتهد أن يوفق للوفاء بحق التعظيم والقيام، وهاهنا يَبِينُ على السالكين والطالبين، والعارفين والمحبين، آثارُ الإيمان، وأنوارُ الإيقان، وشواهدُ المحبة والعرفان، ويظهر على القوالب والقلوب علاماتُ الكمال، ويبدو على نفائس الأنفاس والنفوس محاسنُ الأحوال.

فإذا أراد الدخول في المسجد، فليقف هناك هنيهة كالمستأذن المتأدب، راغباً إلى الله تعالى ضارعاً أن يوفقه للأدب اللائق بالمكان، وينشر له إقامة رسوم الخشوع والخضوع بحسب الإمكان، فإذا صار حاضر القلب، مجموع الهمِّ، متفرغ البال، صافي الضمير، مقبلاً بكليته على ما هو بصَدَدِه، يُقدِّم رِجْلَه اليمنى لدخول المسجد

(2)

، ويقول: بسم الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة

(1)

لم أجد مستنداً يدل على إطلاق (أبي الفتوح) على جبريل و (أبي الغنائم) على ميكائيل، اللهم إلا إذا كان المؤلف يقصد أن جبريل عليه السلام يقذف في قلوب الكفار الرعب مما يسبب في نصر المسلمين وفتحهم لحصونهم، كما في قصة بني قريظة. وأن ميكائيل مكلف بالأرزاق، فكناهم بما كناهم به لذلك. والله أعلم.

(2)

انظر أحاديث دخول المسجد في سنن ابن ماجه بالأرقام:771 - 772 - 773.

ص: 171

إلا بالله، ما شاء الله لا قوة إلا بالله، اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك وسَلِّم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، رَبِّ وفِّقْني وسدِّدْني وأصلحني، وأَعِنّي على ما يرضيك عَنِّي، وعلى اغتنام هذه القُرُبات، وَمُنَّ عليَّ بِحُسْنِ الأدب في هذا المقام العظيم، وبالتسديد في هذه البقاع المُقدَّسة.

فإذا صار في المسجد نوى الاعتكافَ مدة لُبْثِه في المسجد، فإن في ذلك ثواباً عظيماً، ويَغفُل عنه كثيرٌ من الناس ولا ينبغي تفويته، وإن لم يقل به بعض الأئمة

(1)

وليفعل ذلْك على مذهب مَن يراه.

ثم ليتوجَّهْ إلى الروضة المقدسة غاضّاً طَرْفَه، هاضّاً عِطْفَه

(2)

، ملازماً للهيبة والوقار، ملابساً للخشية والانكسار والخضوع والافتقار، متجنباً عن شغل الحواسِّ بشيء من الظواهر، متنحياً عن الالتفات لِلَقْطِ الخرز عند معدن الجواهر.

ثم ليقف في مُصلَّى النبي صلى الله عليه وسلم /51، ويصلي تحية المسجد ركعتين خفيفتين خاشياً خاشعاً، خادياً

(3)

خاضعاً، ولنعمة الله تعالى عليه ذاكراً، وعلى ما منحه من هذه الموهبة السنية شاكراً.

فإذا فرغ من صلاته توجَّه إلى الله سبحانه بقلبٍ عَقُول، ولسان سَؤُول،

(1)

جمهور العلماء يشترطون الصيام لصحة الاعتكاف، ولذلك أقله عندهم يوم كامل خلافاً للشافعية وبعض العلماء فإنهم يرون جواز الاعتكاف ولو ساعة من نهار أو ليل كما ذكر المؤلف. الجامع لأحكام القرآن 2/ 334.

(2)

أي: ماشياً مشية انكسار، لاوياً عنقه. القاموس (هضض) ص 657 و (عطف) ص 838.

(3)

خَدَى البعيرُ والفرسُ خَدْياً وخَدَياناً: أسرع. القاموس (خدي) ص 1279، والمقصود هنا: يصلي ركعتين خفيفتين مسرعاً فيهما، شريطة أن لاتخرجه السرعة عن حدِّ الإتيان بالأركان، وواجب الاطمئنان، والله أعلم.

ص: 172

ويسأل مهماتِ الآخرةِ والأولى، ويطلب أن يكون قصده للزيارة مرضياً مقبولاً.

ومنها: أن يتوجه من الروضة المُقدَّسة إلى القبر الشريف، مستغيثاً بالله سبحانه مستمنحاً توفيقَه في رعاية الأدب في هذا المقام العظيم ويتقدَّم بأدبٍ ووقارٍ، وتذلُّلٍ وانكسار، حتى يقف تجاه المسمار الفضة

(1)

الذي في جدار الحجرة الشريفة، على أن الناس كانوا إذا وقفوا للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إدخال الحجرات في المسجد كانوا يستقبلون السارية التي فيها الصندوق، وفوق هذا الصندوق قائم من خشب محدد، وهي لاصقة بحائط الحجرة الغربي، ويستدبرون الروضة وأصطوانة التوبة.

وروي ذلك عن زين العابدين علي بن حسين بن علي بن أبي طالب

(2)

رضوان الله عليهم أجمعين، أنه كان إذا جاء يُسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على الأصطوانة

(3)

التي تلي الروضة، ويستقبل السارية التي فيها الصندوق اليوم، فيسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقول: هاهنا رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد

(4)

وأدخلت حجرات أزواجه رضوان الله عليهن

(5)

؛ وقف الناس مما

(1)

يذكر المؤرخون أن المسمار المذكور استبدل بالكوكب الدري، وهو: قطعة من الماس كبيرة في قدر بيضة الحمام موضوعة في لوح من الذهب، مزين بأحجار نفيسة من الماس، وياقوت وزمرد حولها. أهداها السلطان أحمد خان العثماني. تحقيق النصرة مع الحاشية ص 108.

(2)

هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين الإمام المعروف، ولد سنة 38 هـ، وتوفي سنة 94 هـ. الطبقات الكبرى 5/ 211، حلية الأولياء 3/ 133، سير أعلام النبلاء 4/ 386.

(3)

كذا في الأصل بالصاد، وليس في كتب اللغة سوى: أسطوانة، بالسين.

(4)

قام بإدخال الحجرة ووضع الحاجز من سقف المسجد إلى الأرض من جميع جهاتها عمر ابن عبدالعزيز رحمه الله. الدرة الثمينة ص 214، وفاء الوفا 2/ 540 - 550.

(5)

أدخل باقي الحجرات في المسجد في عهد عمر بن عبد العزيز على المدينة للوليد بن عبد الملك الذي كلفه بتوسعة الحرم والتعويض لمن حوله من أهل البيوت، فأدخلت الحجرات الشريفة في ذلك. وفاء الوفا للسمهودي 2/ 547.

ص: 173

يلي وجه رسول الله واستدبروا القبلة للسلام عليه صلوات الله عليه، وأشراف المدينة -الذين هم ولاتها اليوم

(1)

-يجمعون بين الموقفين، فيقفون فيهما جميعاً، فكلُّ من دخل منهم للزيارة تقدم أمامه أحد

(2)

كبراء المؤذنين رافعاً عقيرته

(3)

بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

في الموقف الأول، ويُغَرِّدُ بِفَصْلٍ حَسَنٍ من أنواع التسليم هنالك، ثم يتقدم والشريفُ وحَفَدتُه وراءَه حتى يقف به موقفَ الناس اليوم، مستقبلاً للقبر، مستدبراً للقبلة، مُغرِّداً بالصلاة والتسليم، ثم ينتهي بهم إلى محاذاة ضريحي الشيخين، ضجيعَيْ رسولِ الله ورضي عنهما، فيقف بهم هنالك وهو يُغرِّد بالتسليم عليهما، والثناء اللائق بجلال قدرهما، والتقريظ العَليِّ بِأَعْدَلِ شعار السنة، والتنويه المُعْلِم باحتبائهم من حبهما

(4)

بأقوى حُبَّة

(5)

.

وهذا من محاسن هذا الشريفِ المتولي في زماننا وجمالِ مناصبه/52 ومفاخره، التي تلوح رتبها على مناكب مناقبه.

ثم يرجع بهم مزورهم إلى محاذاة القبر الشريف، ويرفع عقيرتَه بالدعوات المأثورة وغيرها من مهماتهم، جعل الله ذلك شعاراً سرمداً باقياً، وللمستعين به إلى مراقي السنة النبوية راقياً.

(1)

بدأ المؤلف كتابه كما ذكر سنة 782 هـ، والأسرة التي كانت حاكمة في تلك الفترة هي (آل مهنا الحسينيين)، وفي سنة 782 كان المتولي هو عطية بن منصور آل مهنا. التحفة اللطيفة 2/ 179.

(2)

في الأصل: (إحدى)، والصواب ماأثبتناه.

(3)

أي: صوته، والعقيرة: صوت المغني والباكي والقارئ. القاموس (عقر) ص 443.

(4)

أي: بدنوهم منه واختصاصهم به. القاموس (حبو) ص 1272.

(5)

الحُبَّة -بالضم -: المحبوب. القاموس (حبب) ص 70.

ص: 174

ويستقبل الزائر المذكور جدار الحجرة الشريفة عند محاذاة تمام أربع أذرع من رأس القبر بعيداً، ويجعل القنديل على رأسه، ناظراً إلى أسفل ما يستقبل من جدار الحجرة الشريفة، ملتزماً للحياء والأدب التام في ظاهره وباطنه، وليتلبس بالخشوع والهيبة والإجلال، ويستحضر قول القائل، وقد أحسن في المقال:

وما تَزَيَّدْتُ

(1)

جزاءً من مهابَتكُم

إلا تَزَيَّدْتُ

(2)

من عِيِّي ومن بَكَمِى

كناظِرِ الشمسِ يرعاها بناظِرِه

تراه من كثرةِ الأنوارِ في ألمِ

ثم يسلم ولا يرفع صوته ولا يخفيه، بل يقتصد، ويقول

(3)

: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا حبيب الله، وليذكر من العبارات التي اختارها السادة الكبراء وأنت فلَكَ الخيارُ فيما تختار من ذلك.

ونقول: فمن ذلك: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، يقول ذلك ثلاث مرات، ثم يقول إن شاء: السلام عليك يا رسول رب العالمين، السلام عليك يا سيد المرسلين، السلام عليك يا خاتم النبيين، السلام عليك يا خير الخلق أجمعين، السلام عليك يا من بُعِثَ رحمةً للعالمين، السلام عليك يا إمام المتقين، السلام عليك يا حرز الأُمِّيين، السلام عليك يا شفيع المذنبين، السلام عليك يا قائد الغُرِّ المُحجَّلِين، السلام عليك يا خير النبيين، السلام عليك يا طه، السلام عليك يا يس، السلام عليك يا حبيب قلوب العارفين، السلام

(1)

كذا في الأصل.

(2)

كذا في الأصل.

(3)

هذه الصيغ في بعضها غلو.

ولقد كره الإمام مالك رحمه الله أن يطيل الرجل القيام والدعاء عند قبر النبي صلى الله

عليه وسلم؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك. ينظر الصارم المنكي ص 396.

ص: 175

عليك يا من نزل عليه الروحُ الأمين، السلام عليك يا من أُيِّد بروح القدس ونُصر بالملائكة المُقرَّبين، السلام عليك يا صاحب المقام المحمود، السلام عليك يا رسول المَلِكِ المعبود، السلام عليك يا بشير، السلام عليك يا نذير، السلام عليك يا من هو السراج المنير، السلام عليك يا من أتى بالهدى والبيان، السلام عليك يا من أُنزل عليه القرآن، السلام عليك يا رسول المَلِكِ الدَّيَّان، المبعوث إلى الإنس والجان، السلام عليك يا هادي الخلق إلى الصراط المستقيم، السلام عليك يا من وصفه الله الكريم، بقوله تعالى:

/53 {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

(1)

، وبقوله عز وجل:{بِالمُؤمِنينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ}

(2)

، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خليل الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا أكرم الخلق على الله، السلام عليك يا صاحب البركات الظاهرات، السلام عليك يا صاحب المعجزات الباهرات، السلام عليك يا من انشق له القمر، السلام عليك يا من سَلَّمَ عليه الحَجَر، السلام عليك يا من أذعنت لدعوته الشَّجَر، السلام عليك يا من سبح الحصا في يده، السلام عليك يا من حَنَّ الجذع إليه، السلام عليك يا من أمر اللهُ بطاعته وبالصَّلاة والسلام عليه، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى سائر النبيين والمرسلين والملائكة المقربين، وأزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين، وأصحابك

(3)

والتابعين، والصديقين والشهداء والصالحين أجمعين، كثيراً دائماً أبداً، كما يحب ربُّنا ويرضى، وكما تحب وترضى.

اللهم إنا نُشْهِدُك أنه صلى الله عليه وسلم بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأقام

(1)

سورة القلم آية:4.

(2)

سورة التوبة آية:128.

(3)

في الأصل: (وأصحابه).

ص: 176

الحجة، وأوضح المَحَجَّة، وجاهد في سبيلك، وأظهر دينك، ودعا إليك، فجزاه الله تعالى عن الإسلام والمسلمين أفضل ما جَزَى نبياً عن قومه، ورسولاً عن أمته، اللهم وآته الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة العالية، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته.

ثم يقول: الصلاة والسلام الأَتمَّان الأكملان عليك يا رسول الله. ثم يقول: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول:{إنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وِسَلِّمُوا تَسْلِيماً}

(1)

.

لبيك اللهم وسعديك، صلوات الله البَرِّ الرحيم، والملائكةِ المُقرَّبين، والنبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، ما سَبَّحَ لك من شيء يا رب العالمين، عليك يا سيد المرسلين، وحبيبَ رب العالمين، اللهم صَلِّ عليه وعلى آله، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، عدد خلقك، ورضاءَ نفسك، وَزِنَةَ عرشك، ومنتهى رحمتك، ومِداد كلماتك، ومبلغ رضاك، اللهم اغفر لأصحاب نبيك أجمعين من المهاجرين والأنصار، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ وَلا تَجْعَل فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِين آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ}

(2)

.

اللهم إن هذا عبدُك ورسولك ونَبِيُّك وحبيبك، وصَفِيُّك، الذي أرسلتَه رحمةً للعالمين، وأرسلتَه شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً، وداعياً إليك بإذنك وسراجاً منيراً، وإني أشهدك يا رب وأشهده في هذا المقام، أنيِّ أشهد أن لا /54 إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك، ورسولك، وأن جميع ما جاء به من عندك حَقٌّ وصِدْق، كما جاء عنك، وكما أخبر به رسولُك صلى الله عليه وسلم، على مُرادك

(1)

سورة الأحزاب آية:56.

(2)

سورة الحشر آية: 10.

ص: 177

ومُراد رسولك صلى الله عليه وسلم، وأقول كما أمرتني وكما بلغنا عنك:{آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنزلَ إلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إلى إبْرَاهِيمَ وَإسمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِم لا نُفرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُم وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}

(1)

، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أنزلْتَ واتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}

(2)

آمنت بالله، وملائكته، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليوم الآخر، وبالقَدَرِ خيره وشره، اللهم فَثبِّتْني على ذلك، وعلى ما تحب وترضى، كما تحب وترضى، وأَحْيِنا على سُنَّتِه، وأَمِتْنا على سُنَّتِه، وابْعَثْنا على ذلك، ولا تَحُلْ بيننا وبينه في الدنيا والآخرة، ولا تَرُدَّنا على أعقابنا و {لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ}

(3)

.

ثم يقول: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول:{ولَوْ أنَّهم إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّاباً رَحِيماً}

(4)

. وقد مَنَّ الله تعالى عليَّ ووفقني وهداني وحملني، وكفاني وحفظني، ورعاني حتى وَصَّلني إلى حضرتك، ومَنَّ عليَّ بمشاهدتك، وقد فارقتُ الأوطانَ والأهلين، وركِبْتُ من المَشَاقِّ ما بلغ مِنِّي البِلَغِين

(5)

، وقطَعْتُ المراحل، وأنصَبْتُ الرواحل، وقد أتيتك مذنباً مسيئاً، خائفاً خاشياً وجلاً، قد أثقلت ظهري الذنوب والأوزار، وعجَزْتُ عن سَيِّئَات نفسي وغلبَتْ عليَّ

(1)

سورة البقرة آية: 136.

(2)

سورة آل عمران آية: 53.

(3)

سورة آل عمران آية: 8.

(4)

سورة النساء آية: 64.

(5)

جاء في قول عائشة رضي الله عنها لعلي رضي الله عنه يوم الجمل: قد بلغت منا البلغين قال ابن الأثير: يروى بكسر الباء وضمها مع فتح اللام، وهو مثل، معناه: قد بلغت منا كلَّ مَبلغ. النهاية (بلغ) 1/ 153.

ص: 178

الأقدار، وقد ظلَمْتُ نفسي ظلماً كثيراً، وأتيت بجهلي وغفلتي أمراً كبيراً، وهذا كلام رب العالمين، وأنت شفيع المذنبين، وهو الفَعَّال لما يشاء التواب الرحيم، وأنت الشافع المُشَّفعُ المقبولُ الوجيهُ النبيُّ الكريم، وقد أتيتك معترفاً بخطئي، مُقِّراً بذنبي، مُتوسِّلاً

(1)

بك إلى الله ربي، فأسأل الله البَرَّ الرحيمَ الجوادَ الكريم أن يغفر لي، وأسألك يا رسول الله

(2)

أن تشفع لي وقد علَّقْتُ بكرم ربي الرجا، وهاأنا في حضرتك واقفٌ بباب المولى، لعله يرحم من أساء ويغفر عن مَن جنى، وقد وعد وهو تعالى لا يخلف الميعاد، ولا يخُيِّبُ عبدَه العاصي إذا تاب وعاد، وأنا نزيلك وفي جوارك يا سيد المرسلين، فأرجو أن

أفوز بمطلبي ببركاتك وشفاعتك يا خاتم النبيين، صلَّى الله وسلَّم عليك وعلى أهل بيتك الطاهرين، وصحابتِك الأكرمين، وعلى أزواجك الطاهراتِ، وعلى أشياعك وأتباعك إلى يوم الدين

(3)

.

/55 ولا بأس أن يُنْشِدَ عَقِيبَ ذلك هذه الأبيات:

يَا سَيِّدَ الشُّفَعَاء والنَّاسِ كُلِّهِمُ

وَأَشْرفَ الخَلْقِ مِنْ عُجْمٍ ومِنْ عَرَبِ

يا كاشِفَ الكرْبَةِ العُظْمَى وكُنْتَ لهَا

يومَ الحِسَابِ، وكُلُّ الخَلْقِ في كُرَبِ

يا صاحِبَ الموقِفِ المحمودِ أَنْتَ لَهُ

يا مَنْ لَهُ الرُّتْبةُ العليا على الرُّتَبِ

يا سَيِّدَ الرُّسْلِ، يا مَنْ نَالَ مَنزِلَةً

ما نَالَهَا بَشَرٌ حَقّاً بِلَا كذِبِ

أَتَاكَ عَبْدٌ فَقير قد ألمَّ بِهِ

كَرْبٌ شَدِيدٌ، وقد أَشْفَى على العَطَبِ

حَلَّ الحِمى والتجَى يا خَيْرَ من وَفَدَتْ

كُلُّ الوُفُودِ لهُ، يا طَيِّبَ الحَسَبِ

ضيفٌ ضعيفٌ غريبٌ قد أنَاخَ بكم

ومُسْتَجيرٌ بِكُمْ يا سادَةَ العَرَبِ

(1)

سبق بيان أن هذا التوسل غير مشروع كما في التعليق رقم () في ص ().

(2)

لا يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة وإنما الذي يُسأل هو الله «فإذا سألت فاسأل الله» ولك أن تقول اللهم شفّع فينا نبيك، أو ارزقنا شفاعته، ونحو ذلك.

(3)

هذا كغيره من الصيغ فيها مافيها من الغلو. والله المستعان.

ص: 179

يا مُكرِمَ الضيفِ يا عونَ الزَّمانِ ويا

غَوْثَ الفَقير، ومَرْمَى القَصْدِ والطَّلَبِ

(1)

هَذَا مَقَامُ الذي ضَاقَتْ مَذَاهِبُهُ

وأنتمْ في الرجَا مِنْ أَعْظَمِ السَّبَبِ

ورُوِّينا عن العارف الوَليِّ الشيخ أبي الحسن الشَّاذليّ

(2)

رحمه الله أنه وقف تُجاه الحجرة الشريفة، وقال: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته - ثلاث مرات- ثم قال: صلى الله عليك يا رسول الله أفضل وأزكى وأسمى وأعلى صلاةً صلاها على أحد من أنبيائه وأصفيائه، أشهد يا رسول الله أنك بلَّغْتَ ما أُرْسِلْتَ به، ونصَحْتَ أُمَّتَك، وعبَدْتَ ربَّك حتى أتاك اليقين، وكنت كما نعتَكَ اللهُ تعالى في كتابه:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}

(3)

، فصلوات اللهِ وملائكتِه وأنبيائِه ورسُلِه، وجميع خَلْقِه

من أهل سماواتِه وأرضِه، عليك يا رسول الله.

السلام عليكما يا صاحبي رسولِ الله، يا أبا بكر ويا عمر، ورحمةُ الله وبركاته، فجزاكما الله عن الإسلام وأهله أفضل ما جازى به وزيرَ نبيٍّ في حياته، وعلى حُسْنِ خلافته في أمته بعد وفاته، فلقد كنتما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزيرَيْ صِدْق في حياته، وخلَفْتُماه بالعدل والإحسان بعد وفاته، فجزاكما الله عن ذلك

(1)

هذا البيت فيه غلو شديد خطير بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ مغيث الخلق كلهم هو الله وحده لاشريك له، وطلبنا في العبادة إرضاء الله سبحانه وتعالى، وباسم محبة النبي صلى الله عليه وسلم يقع بعضنا بالغلو الموصل إلى درجة الألوهية، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لاتطروني كما أطرت النصارى أنبياءهم إنما أنا عبدالله ورسوله» .

(2)

هو: علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف، أبو الحسن الشاذلي المغربي رأس الطائفة الشاذلية، توفي في صحراء عيذاب في طريقه إلى الحج سنة 656 هـ، ولابن تيمية ردٌّ على بعض مؤلفاته، سير أعلام النبلاء 23/ 323، شذرات الذهب 5/ 278.

(3)

سورة التوبة آية: 128.

ص: 180

مرافقته في جنته، وإيانا معكما برحمته إنه أرحم الراحمين.

اللهم إني أشهدك، وأشهد رسولَك وأبا بكر وعمرَ، وأشهد الملائكةَ النازلين على هذه الروضة الكريمة والعاكفين عليها، أني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن كلَّ ما جاء به من أمر ونهي، وخبرٍ عما كان ويكون، فهو حقٌّ لا كذب فيه ولا امتراء، وإني مُقِرٌّ لك يا إلهي/56 بجنايتي ومعصيتي، في الخطرة، والفِكْرة والإرادة والغفلة، وما استأثرت به عني مما إذا شئتَ أخذتَ به، وإذا شئتَ عفوتَ عنه مما هو متضمن الكفر والنفاق، أو البدعة، أو الضلالة أو السيئة، أو سوء الأدب معك ومع رسولك، ومع أنبيائك، وأوليائك من الملائكة والجن، والإنس، وما خصصت من شيء في ملكك، فقد ظلمتُ نفسي بجميع ذلك، فاغفرلي، وامنُنْ عليَّ بالذي منَنْتَ به على أوليائك، فإنك المَنَّان الغفور الرحيم.

وبعض الأشراف أنشد عقيب تسليمه:

سَلامٌ كأَلْطَافِ الإِلَهِ المُمَجَّدِ

سَلامٌ كَأَخْلاقِ النَّبِيِّ المُؤَيِّدِ

سَلامٌ كَتَسْلِيمِ الحَبِيبِ الذي نَأَى

زَمَاناً فزار الصَّبّ مِنْ غَيْرِ مَوْعِدِ

سَلامٌ كَمِسْكِ الصدع يَلْهُوبِهِ الصَبا

على صَفْحَتَي كَافُورِ خَدٍّ مُوَرَّدِ

عَلَى المُصْطَفَى الهَادِي الشَّفِيعِ محمدٍ

[حبيبي]

(1)

رَسُولِ اللهِ جَدِّي وَسيدِي

وروى بعض مشايخ المدينة أنَّ مِنْ أكمل

(2)

ما يقال عند الزيارةِ والتَّسْليمِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا خاتم النبيين، السلام عليك يا شفيع المذنبين، السلام عليك يا إمام المتقين، السلام عليك يا قائد الغُرِّ المحُجَّلين، السلام عليك يارسول رب العالمين، السلام عليك يا مِنَّةَ الله على المؤمنين،

(1)

في الأصل: (حبيب)، وغيرناها إلى حبيبي ليستقيم وزن البيت.

(2)

كلا ليست هذه من أكمل مايقال، بل كره السلف إطالة الدعاء عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، كما سبق بيانه آنفاً.

ص: 181

السلام عليك يا طه، السلام عليك يا يس، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات البارّات أمهات المؤمنين، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، ورحمة الله وبركاته، جزاك الله عنا يا رسول الله أفضل الجزاء، وصلى عليك أفضل الصلوات.

السلام عليك يامن سَفَرَتْ لوامعُ مَجْدِه، السلام عليك يامن هَمَرتْ هوامِعُ رِفْدِه

(1)

، السلام عليك يا من ظهرت أنوار علائه، السلام عليك يا من بهرت آثار سنائه

(2)

، السلام عليك يا منيحة الشرف الباذخ

(3)

، السلام عليك ياسلالة المجد الراسخ، السلام عليك يا جوهرة الشرف الأعلى، السلام عليك يا واسطة العقد المحلى، السلام عليك يا إمام الأنبياء، السلام عليك يا صفوة الأصفياء، السلام عليك يا معنى الوجود، السلام عليك يا منبع الكرم والجود، السلام عليك يا دُرَّةَ لؤَيّ، السلام عليك يا غُرَّةَ قُصَيّ، السلام عليك يا نبعة المكارم، السلام عليك يا سُلالة الأكارم، السلام عليك يا ذا المحامد يا أبا القاسم، السلام عليك يا من عَظُمَتْ هِباتُه،/ 57 السلام عليك يامن بهرت أيامه، السلام عليك يا من ظهرت آياته، السلام عليك ورحمة الله وبركاته.

سلاماً تضوع عن مِسْكَةٍ

تجُرُّ بِدَارَيْن

(4)

ذيلاً طويلاً

وتنفح عن نسمة لم تزل

تعيد عليك إلينا الجميلا

وتتلو أحاديث قُرْب غدت

تَبِلُّ العليل وتروي الغليلا

والحمد لله الذي أقرَّ عيني برؤيتك، وأحلَّني شريفَ روضتك، وقضى

(1)

هَمَره: صبَّه. القاموس (همر) ص 498. وهَمَعَ: سال، ومنه: سحابٌ هَمِعٌ، ودموع هوامع. القاموس (همع) ص 776، والرِّفْد: العطاء والصِّلَة. القاموس (رفد) ص 283.

(2)

السَّناء: الرِّفعة. القاموس (سنو) ص 1296.

(3)

شَرَف باذخ: عال. القاموس (بذخ) ص 248.

(4)

المقصود بالدارين: الدنيا والآخرة.

ص: 182

لي أن أفوز بَزوْرَتِك، وأُحْرِزَ سابقَ السعادة بحلول بلدتك.

حيثُ النبوة جَرَّتْ من ذوائِبها

فضلاً، وأجرَت ينابيعاً من الحِكم

حيث السنا مُشْرِقٌ، والعِزُّ منبسقٌ

والجودُ مغدودقٌ

(1)

بالنَّارِ والشَّبَمِ

(2)

حيث الضريحُ وما ضَمَّت صفائِحُهُ

من النَّبيِّ الرَّضِيِّ الطَّاهِرِ الشِّيَمِ

أنوارُهُ غُرَّةٌ في المجدِ نَيِّرةٌ

وفخرُهُ شَمَمٌ في مَعْطِس الكَرمِ

دَرَّتْ عليه ينابيعُ الرِّضا وسرتْ

إليه نَفْحَةُ سِرِّ القُرْب في القِدَمِ

ولاح من نورِه معنىً أضاءَ به

مقامَ آدم فخراً وهو في العَدَمِ

إنسانُ عينِ العُلا سِرُّ الكمالِ سنا

فَخْرُ النُّبوَّة، نُورُ اللَّوْحِ والقلمِ

يا آخراً عند ختم الأنبياء به

وأولَ الرُّسْل عند الله في القدم

يا غُرَّةً أَوْضَحَتْ طه أسِرَّتَها

ودرةً جُلِّبَتْ في نونِ والقلم

كانت حياتك ما بين الأنام حيا

(3)

سَقَى ثَراهُمْ بغَيْثٍ واكِفِ الدِّيم

(4)

وكان فقدك خَطْباً شَاكَ أَنْفُسَهُمْ

لما أَلَمَّ بِصَدْعٍ غَيْرِ مُلتئمِ

فالآن ليس سوى قبرٍ حَلَلْتَ به

مَنْجَى الطريدِ، وملجَا كُلِّ معتصمِ

(5)

وقد حططنا لديه الرَّحْلَ هِمَّتُنا

على الصَّدى نَهْلَةٌ من مَوْرِد الكرم

نقبل التُّرْب إجلالاً لساكنه

وكل مَوْطِئ أقدام مَقَرُّ فَمِ

هذا عطاؤك فاغمرنا بمنهله

فقد مددنا أكف الفقر والعدم

وإن رمتنا الخطايا وسط مهلكة

فأنت ملجأ خلق الله كُلِّهِمِ

حسبي شفاعتك العظمى إذا صفرتْ

يداي أو [سفرت]

(6)

عن زَلَّةٍ قَدَمِي

فالعفو شيمتُك العُظمى التي شهرت

إذ كانت الموبِقاتُ اليومَ من شيم

(1)

مغدودق: أي: كثير، يقال: أغدق المطر واغدودق: كَثُر قَطْرُه. (القاموس)(غدق) ص 914.

(2)

الشبم: البرد. القاموس (شبم) ص 1125.

(3)

الحَيَا: الخِصْب، والمطر. القاموس (حيي) ص 1278.

(4)

الدِّيم جمع: ديمة، وهي: مطر يدوم في سكون بلا رعد وبرق. القاموس (ديم) ص 1108.

(5)

هذه الأبيات فيها غلو شديد وابتداع في الدين من تقبيل التراب، وغير ذلك مما في الأبيات من العبارات التي تتعارض معارضة ظاهرة مع المعتقد الصحيح الواجب بالله عز وجل.

(6)

مابين معقوفين غير واضح في الأصل.

ص: 183

/58 صلى عليك إلهُ العرشِ ما حَمَلَتْ

عنك الثناءَ المُرَجَّى ألسنُ الأممِ

وناسَمَ المِسكُ أنفاسَ السلام على

هذا الضريحِ وهذا البيتِ والحرمِ

ثم يدعو بما تيسر وحضر من الأدعية المأثورة الجامعة لخيرات الدنيا والآخرة، وكذلك ما تيسر من محاسن دعوات السلف الأخيار، والصلحاء الأبرار، فإن لهذه الدعوات باعتبار من أخذت عنه آثاراً عظيمة، وأنواراً كريمة، وبركاتٍ ظاهرةً، عاجلةً وآجلة، وينبغي أن يجمع ذلك ويُعِدُّه قبل الحضور، إما حفظاً وإما كتابا؛ لأن العبد ربما لم يستحضر كثيراً من محفوظه لهيبة ذلك المقام الكريم، ثم يتفكر فيما هو من ضروراته ومهماته، ومقاصده وحاجاته، فيضرع إلى الله سبحانه في تيسيره، ويتشفع في ذلك بحبيبه

(1)

سيدِ المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ثم يتقدم نحو ذراع إلى جهة اليمين، فإنه حينئذ يصير تجاه قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك ياخليفة رسول الله، السلام عليك يا صاحب رسول الله، السلام عليك يا صديق رسول الله، في الإيراد والإصدار، السلام عليك يا ثاني اثنين إذ هما في الغار، السلام عليك يا علم الأعلام، السلام عليك يا صاحب السَّبْقِ في الإسلام، السلام عليك يا أحب الصحابة إلى سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيَّدَ اللهُ به يوم الرِّدَّةِ الدِّين، السلام عليك يا من دَرَّ بالإيمان من غير توقُّف، السلام عليك يا من لم تستمله الدنيا بزخرف، السلام عليك يا من أنفق في دين الله مالَه، قليلَه وجليلَه، ولم يُبْقِ لنفسه ولا لأهله إلا الله ورسولَه، السلام عليك يا من تشرَّفَ بجميل المصاحبة في الغار والعريش

(2)

والطريق، السلام عليك يا أفضل الخلفاء يا أبا بكر الصديق.

(1)

التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، الصواب فيه أنه محدث وقد مضى ص (8) هامش رقم (3) بيان التوسل المشروع المتفق عليه.

(2)

لعله يريد العريش الذي بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، حيث كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه لينصر المسلمين على أعدائه يوم بدر. انظر السيرة لابن هشام 2/ 269.

ص: 184

ثم يتقدم نحو ذراع للتسليم على عمر الفاروق رضي الله عنه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيّد الله به الدين، وختم به الأربعين

(1)

، السلام عليك يا من شَدَّ أَزْرَ الإسلام فتمهَّد بعزائمه واتَّضَح، ومصَّر الأمصارَ وللأقاليمِ افتتح، السلام عليك يا من حمى حَوْزةَ الإسلام ذَبّاً، وأعلى أعلامَه شرقاً وغرباً، السلام عليك يا من لم يزل بالعدل صَبّاً، السلام عليك يا من أنزل الله البركات في خلافته صبا، السلام عليك يا قامعَ يَغُوثَ ويَعُوق، السلام عليك يا دامغ أهلِ الزَّيْغِ والفُسُوق، السلام عليك يا أبا حفص عمر الفاروق، السلام عليك يا من/59 لم يترك له الحقُّ صديقاً، السلام عليك يا من ما لقيه الشيطانُ سالكاً طريقاً إلا اتخذ غير طريقه طريقاً

(2)

.

أشهد أنكما قد خَلَفْتُمَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في أمته بأحسن خلافة، وسلكتما طريقته، وشيَّدْتُما شريعته، وكنتما له خليفتَيْ صدق، ووزيرَيْ حق، ولأمته إمَاميْ عدل، فجزاكما الله تعالى عن نبيكما وعن الإسلام وأهله خيرَ الجزاء، وأنزلكما أشرف منازل الصديقين والأولياء، وأنالكما أفضل ما ناله أحد من خلفاء الأنبياء، ونفعنا بهذه الزيارة والمحبة، وحشرنا مع نبينا ومعكما وسائرِ الأحبة، السلام عليكما ورحمة الله وبركاته.

(1)

يعني في ترتيب أوائل من أسلم وآمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، روى ابن عبدالبر عن هلال بن يساف، قال: أسلم عمر بن الخطاب بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة. الاستيعاب 3/ 236.

(2)

عن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر: «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك» . أخرجه البخاري في المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب، رقم:3683، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رقم:2396.

ص: 185

ولا بأس بالبكاء على سالف الذنوب، والتضرُّعِ رجاءً لكشف الكروب، فقد رُوِّينا عن الإمام الجليل أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك، سمعت أبا حنيفة يقول: قدم أيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ

(1)

وأنا بالمدينة، فقلت: لأنظرن ما يصنع، فجعل ظهره مما يلي القِبْلَةَ وَوَجْهَهُ مما يلي وجهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى غير متباك، فقام مقام رجل فقيه.

ورُوِّينا عن الأصمعي

(2)

قال: وقف أعرابي مقابل قبر

(3)

النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم إن هذا حبيبك، وأنا عبدك، والشيطان عدوك، فإن غفرتَ لي سُرَّ حبيبُك، وفاز عبدك، وغضب عدوُّك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبُك، ورضي عدوُّك، وهلَك عبدُك، وأنت أكرم من أن تغضب حبيبَك، وتُرْضِيَ عدوَّك، وتُهْلِكَ عبدَك، اللهم إن العرب الكرام إذا مات فيهم سيد أعتقوا على قبره، وإن هذا سيد العالمين، فأعتقني على قبره.

قال الأصمعي: فقلت: يا أخا العرب، إن الله تعالى قد غفر لك وأعتقك، بحسن هذا السؤال.

ثم يعود إلى موقفه الأول تجاه المسمار الفضة، ويعيد من السلام المتقدم ما تيسر، ثم يجلس إن طال القيام به، فيكثر من الصلاة والتسليم، ويأتي بأتم أنواع الصلاة وأكمل كيفياتها، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، وقد بسطت القولَ فيه في كتابي (الصِّلات والبِشَر في الصَّلاة على خير

(1)

أيوب بن أبي تميم كيسان السختياني أبو بكر البصري ثقة، ثبت، من كبار الفقهاء العباد، ولد سنة 66 هـ، وتوفي سنة 131 هـ. الطبقات الكبرى 7/ 246، حلية الأولياء 3/ 3.

(2)

عبد الملك بن قُرَيب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي، العالم اللغوي الأديب صاحب التآليف الكثيرة. ولد سنة بضع وعشرين ومائة، وتوفي سنة 216 هـ. الفهرست لابن النديم ص 60، سير أعلام النبلاء 10/ 175 - 181.

(3)

بل السُّنة في الدعاء استقبال القبلة مع مافي هذه العبارات من نكارة.

ص: 186

البَشَر)

(1)

، والذي أختاره لنفسي:

اللهم صل على سيدنا محمد وآلِه وصحبِه وأزواجِه الصلاةَ المأثورةَ، عددَ ما خلَقْتَ، وعدد ما أنت خالق، وزِنَةَ ما خلقت، وزنة ما أنت خالق، ومِلْءَ ما خلقت، وملء ما أنت خالق، وملء سماواتك، وملء أرضك، ومِثْلَ ذلك، وأضعافَ ذلك، وعدد خلقك، وزِنَةَ عرشك، ومنتهى رحمتك، ومدادَ كلماتك/60 ومبلغ رضاك وحتى ترضى، وإذا رضيت، وعدد ما ذكرك به خَلْقُك في جميع ما مضى، وعدد ما هم ذاكروك فيما بقي، في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة، وساعة من الساعات، ونَسَمٍ ونَفَس، ولمحة وطرفة، من الأبد إلى الأبد، أبد الدنيا وأبد الآخرة، وأكثر من ذلك، لا ينقطع أولاه، ولاينفد أخراه. ثم يقول ذلك مرةً، أو ثلاثَ مرات. ثم يقول: اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد كذلك. وهذه الصلاة قد جمَعَتْ أمراً كبيراً، وخيراً كثيراً، وقد تضمنت معنى ما جمع في الصلوات المأثورة، ثم قُرِنَتْ بهذه الأعداد التي هي غير محصورة، إذ لا غاية لعددها، ولا نهاية لمددها.

ثم يتلو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تيسر من القرآن المجيد، ويقصد الآي والسور الجامعة لصفات الإيمان ومعاني التوحيد، ويَجْنُبُ عما يفعله جَهَلةُ العوامِّ من لمس جدار الحجرة، والتقبيل، والطواف به، والصلاة إليه طلباً منهم أنه نوع من التبجيل، ولا يستدبر القبر المقدَّس، في صلاةٍ ولا في غيرها من الأحوال، ويلتزم الأدب

(2)

شريعة وحقيقة، في الأقوال والأفعال.

(1)

ذكره صاحب الشذرات في ترجمته 7/ 126 - 131 وغيره.

نشره: نور الدين الجزائري، وعبدالقادر الخياري، ومحمد مطيع الحافظ. دمشق، دار التربية،1969 م. 206 ص.

(2)

أسمى آيات الأدب اتباعه صلى الله عليه وسلم، فيما أمر ونهى، وليس الابتداع في الدين

واتباع الهوى.

ص: 187

ثم يأتي إلى الروضة المقدسة، وهي ما بين القبر والمنبر طولاً، ولم أر من يعرض له عرضاً، والذي عليه غلبة الظنون أنه من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه.

وأنا لا أوافق على ذلك، وقد بينته في موضعه من هذا الكتاب، وذكرت أن الظاهر من لفظ الحديث يقتضي أن تكون أكثر من ذلك؛ لأن بيت النبي صلى الله عليه وسلم بجميع مرافق الدار، كان أكثر من هذا المقدار، والله أعلم.

وينبغي أن يتنبه الزائر لفائدة جليلة، وهو أن يقضي صلاة أيام في الروضة الكريمة، ولو صلاةَ شهر واحد، ينوي بذلك عما وقع فيه تفريط من ترك أو إخلال بها، فإن المأمول من فضل الله سبحانه وسعة رحمته أن يكون ذلك عوضاً عن أيام كثيرة، فإنه صح أن كل صلاة في مسجده تَعْدِلُ [ألف] صلاة، فيرجى من واسع رحمة الله تعالى أن الصلوات الخمس المقضيات فيه تعدل [ألف] صلاة يكون ذلك عوضاً عما أخلَّ به، والباقي يجازى بفضل الله ورحمته، ولا يجوز للعبد المؤمن أن يجعل ذلك وسيلة إلى التفريط في فريضة وحاملاً على التقصير في أداء صلاة، فإنه يعصي بذلك ولا يدري هل يُوفَّقُ لقضائه، أم لا؟.

ومنها: أن يغتنم ملازمة المسجد الشريف، ولا يفارقه إلا لضرورة متبينة/61 أو مصلحة متعينة، وكلما دخل المسجد يجدد نية الاعتكاف على مذهب الإمام المُطَّلبِي

(1)

، ومن يرى رأيه سواء كان من مُقلِّديه أم من مقلدي غيره من الأئمة، فإن ذلك جائز في القربات، ويجتهد ما أمكنه في تحصيل المغانم والخيرات، ويكثر النوافل والحسنات، وقرع أبواب السعادات بأظافير الإرادات، والعروج في مدارج العبادات، للولوج في سُرادق المرادات

(2)

:

(1)

يعني الإمام أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله.

(2)

ورد في الأصل قبل هذه الأبيات بيتان مضطربان في الوزن، ومختلفان عن بقية الأبيات في الروي والمعنى ورسمهما كما يلي:

فما كُلُّ دارٍ رُوِّضَتْ دارُ الحِما

ولا كُلُّ بيضاء الترائب زينب

وما كُلُّ حين يَفِيض بنيل النيل

ولا كُلُّ وقتٍ يطلعُ فيه سُهيلُ

فربما يكونان استطراداً، أو تكون بينهما وبين الأبيات التالية عبارة سقطت من الناسخ.

ص: 188

تَمَتَّع إن ظَفِرْت بنيلِ قُربٍ

وحَصِّلِ ما استطعتَ مِنِ ادِّخَارِ

فها أنا قد أبحَتُ لكم عَطَائي

وها قد صرتَ عِنْدِي في جِوارِي

فخذُ ما شئتَ من كَرَمٍ وجُودٍ

ونلْ ما شئتَ من نِعَمٍ غِزَارِ

وقد وسَّعتُ أبوابَ التداني

وقد قرَّبتُ للزوَّارِ داري

وقد زُرتُم ووصلتم بخيرٍ

فيا فَرَحَ القلوبِ بذا المزارِ

فمتِّع ناظرَيكَ فها جمالي

تجلَّى للقلوب بلا استتارِ

وقد هبَّت نسيماتٌ لنجدٍ

فَطِب واشرب بكاساتٍ كبارِ

فما وقتٌ يَمُرُّ بمستعادٍ

وما دارُ الأعزَّة بالقرارِ

فودِّعْ أرضَ نجدٍ قبلَ بُعدٍ

فما نجدٌ لمرتحِلٍ بدارِ

ولو خُيِّرتُ ما اخترتُ التنائي

ولكن ليس ذلك باختيارِ

وما كان النوى عن طيب نفس

ولكن كان ذلك باضطرار

أقول لمن يمر بأرضِ نجدٍ

على وجناء

(1)

تُرقلُ

(2)

بابتكار

تزود من شميم عَرَارِ نجدٍ

فما بعد العشيَّةِ من عَرَارِ

(3)

وقل أيضاً لِمُغْتَنم صَفَاءً

على معنىً يلوح لذي اعتبار:

إذا العشرون من شعبان

ولَّتْ فواصل شرب ليلك بالنهارِ

(1)

الوجناء: الناقة الشديدة. القاموس (وجن) ص 1237.

(2)

ترقل: تسرع. القاموس (رقل) ص 1007.

(3)

عَرار: نبت طيب الريح، وهو: النرجس البري. اللسان (عرر) 4/ 560، معجم البلدان لياقوت 4/ 93. وهذا البيت نسبه ابن منظور مع ثلاثة أبيات أخرى لم يوردها المصنف هنا إلى الصِّمَّة بن عبدالله القشيري. كما نسبه البعض الآخر لجعده العقيلي مع الأبيات التي ذكرت أنها للصمه. انظر معاهد التنصيص 3/ 450 و التكملة للصاغاني 3/ 84 و الأمالي 1/ 32 و العلامة الجاسر مع الشعراء ص 104. وهذا مما يعطي انطباعاً أن المؤلف أحياناً يركب بعض الأبيات على بعض، مع أنه لا يذكر أي دليل على قائلها.

ص: 189

ولا تشرب بأقداحٍ صغارٍ

فإن الوقت ضاق عن الصغارِ

ومنها: أن يستحضر دائماً عظمة السكن لمن سكن، ولا يركب فيها دابة ما أمكن

(1)

، بل يجتهد في إيثار المشي، بل اختيار الخطا، ويترجى وقع أقدامه في مواطئ أقدام المصطفى،/ 62 وكان الإمام مالك رحمه الله لا يركب فيها دابة، يقول: أخشى أن يقع حافِرُها في محلٍّ صلَّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ومنها: اتِّباعُ السُّنَّة في جميع الأحوال والأعمال والعادات والعبادات، واجتنابُ البدعة في الأقوال والأفعال في ذلك كله، وإن كان لازماً في جميع الأماكن والأحوال، لكنَّ هذا المحلَّ الشريفَ والجناب الرفيعَ أحقُّ المواطنِ وأَوْلاها بذلك بلا مَقال.

ومنها: اغتنامُ ما أمكن من الصيام، ولو يسيراً من الأيام، ولإكثار الصوم في المدينة سر دقيق، لا يخفى على العارفين وأهلِ الصدق. وبالله التوفيق.

ومنها: إكثارُ الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم وإيثارُها على سائر الأذكار والكلمات، واختيارُ الاشتغال بها في أكثر الأحيان والأوقات، للأحاديث التي رواها الأَثْباتُ الثِّقات، وقد تقدم شيء من ذلك في فضل زيارة سيد الكائنات.

ومنها: تعظيم أهل المدينة وأبنائها، لاسيما علمائها وصلحائها، وأشرافها وكبرائها، وَسُوقَتهَا

(3)

وفقرائها، وسَدَنةِ الحُجْرةِ الشريفة وخدامها، القائمين بحق مهابة الحجابة، ورفع أعلامها، وهلم جراً إلى عوامِّها

(1)

من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

أخرجه البخاري، في الأدب، باب الوصاة بالجار، رقم:6014. ومسلم، في البر

والصلة، باب الوصية بالجار والإحسان إليه، رقم:2624. وغيرهما.

(2)

وفيات الأعيان 4/ 136.

(3)

السُّوقة: الرعية، للواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، أو قد يجمع: سُوَقاً. القاموس (سوق) ص 896.

ص: 190

وجَوامِها

(1)

، وشيوخها وكبارها، وأطفالها وصغارها، وَزراعها وحُرَّاثها، وباديتها وحاضرتها من جميع أطرافها، كُلاًّ منهم على حسب حاله ورتبته، وقرابته وقربته، ودُنُوِّه من قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتربته، وتعظيمه لشِعار دينه وشريعته، وقيامه بمصالح أمته ومناهج ملته.

فمنهم من حاز من هذه الفضائل ما استوجب به أن يزاد له في التعظيم والإكرام والتوقير، على تعظيم كل مَلِكٍ وسلطان، وعالم وعامل، وعارف وكبير، ومنهم مَنْ دون ذلك، إلى مَنْ لا تبقى له مزيةٌ سوى كونه في هذا البلد المقدس، والمحل العظيم، وجاراً لهذا النبي الكريم، وأَخلق بها مزيةً أن يُجَلَّ صاحبها، وأن يظهر لإِدلَالِ إِدْلَالِه بساحتها، وهؤلاء قد ثبت لهم حق الجوار، وإن عظمت إساءتهم فلا يسلب عنهم اسم الجار، وقد عَمَّ صلى الله عليه وسلم في قوله:«مازال جبريل يوصيني بالجار»

(2)

، ولم يخصص جاراً دون جار وكلما احتجَّ به مُحتَجٌّ من رمي عوامهم بالابتداع، وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت ذلك في شخص منهم مثلاً لا يترك إكرامه، فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيف دار، بل يرجى له أن يختم له بالحسنى، ويمنحَ ببركة هذا القرب الصُّوري قرب المعنى:

فيا ساكني أكنافَ طيبةَ كلكمْ

إلى القلبِ مِنْ أجلِ الحبيب حبيبُ

(3)

/63 وقال آخر:

أُحِبُّ بني العَّوام طُرَّاً لأجلها

ومن أجلها أحببتُ أخوالهَا كلباً

(4)

(1)

الجَوْم: الرِّعاء يكون أمرهم واحداً. القاموس (جوم) ص 1090.

(2)

المسند 2/ 85، من حديث عبد الله بن عمر.

(3)

انظر المواهب اللدنية 4/ 610.

(4)

هذا البيت قائله"خالد بن يزيد بن معاوية" لرملة بنت الزبير بن العوام ضمن أبيات منها:

تجول خلاخيل النساء ولا أرى

لرملة خلخالاً يجول ولا قلباً

انظر المعارف لابن قتيبة ص 221، و أعلام النساء لكحالة 1/ 461.

ص: 191

أليس كثيرهم من ذرية الأنصار، الذين نصروا الإسلام إلى أن صار إلى ما صار، وقد أحسن قيس

(1)

بن صِرْمة الأنصاري فيما رُوِّيناه له من الأشعار:

ثَوى في قريش بِضْع عَشْرة حَجَّة

يُذَكِّرُ، لو يَلقَى حبيباً مواتياً

ويعرضُ في أهل المواسم نَفسَهُ

فلم يَرَ من يُؤوي ولم يَرَ داعياً

فلما أتانا واستقرَّت به النَّوى

وأصبح مسروراً بطيبةَ راضياً

بذلنا له الأموال من كُل مالنا

وأنفُسَنا عندَ الوغى والتآسِيا

نُعادي الذي عادى من الناس كُلِّهم

جميعاً وإن كان الحبيب المصافيا

ونَعْلَم أن الله لا ربَّ غيرُه

وأن رسولَ الله أصبحَ هادياً

(2)

وأما من ليس من هذا في شيء، وإنما هو من الدخيل، ألا يُؤوي الذي أتاه واستوطن، وأورد هذا الموطن الكريم وأعطن، فحكمه حكمهم؛ إذ هو إليهم منسوب، وكلُّ ما نُسِب إلى الحبيب محبوب.

وأيضاً: قلَّ ما يوجد ساكنٌ بالمدينة إلا وتشمله البشرى، بالشفاعة والشهادة

(3)

والوعد بالحسنى، من غير تقييد منبع السعادة، ومجمع السيادة، وذلك لأن الَّلأْي والَّلأَىَ والَّلأْواء: الشدة

(1)

الصحيح أنه أبو قيس، وليس"قيس" كما جاء هنا واسمه: صرمة بن قيس بن صرمة بن مالك النجاري الأنصاري كان متنسكاً قبل الإسلام، ثم أسلم، وعرف بالصدق في قوله، وهو ممن نزل فيهم قول الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَّامِ الرَّفَثُ} . الاستيعاب لابن عبد البر 2/ 290 برقم:1244، أسد الغابة 3/ 18 رقم:2469.

(2)

الاستيعاب لابن عبد البر 1/ 138 - 2/ 291 مع اختلاف بسيط في ألفاظ الأبيات.

(3)

للحديث الذي يرويه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة» . أخرجه مسلم، في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم:1377،2/ 1004. ومالك، في الجامع، باب ماجاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم:2، 2/ 886.

ص: 192

مطلقاً

(1)

، وكلُّ من صبر بها على شدة ما فإنه يدخل تحت هذا الوعد السعيد.

ومنها: صَوْنُ النَّفْس عن ملابسة السآمة والمَلَل والضَّجَر، والفُتُورِ والقَلَق والحَصَر

(2)

، عن حصول ما لا يكاد تخلو المدينة الشريفة من شيء منها، من شَظَفِ

(3)

العيش، وضيق الحال، وقلة المال، وفقدان كثير من رفاهية العيش، ورفاعة الحياة، والتنعمات المعتادة في غيرها من المدن، فإن هذه الخصلة أيضاً من محاسنها ومفاخرها، ومعدودة في مناقبها ومآثرها.

وعساك حزمت بأن تحظى بحيازة درجات الفائزين المهاجرين، وتسعد بحياطة

(4)

حسناتِ الشاكرين والصابرين، من غير أن تعالج قليلاً من البلاء، وتَعَضَّ بناجِذَيْكَ على جِذْم

(5)

الصَّبْر الذي هو أمَرُّ من الأَلاء

(6)

، اصبر على لأوائها وبَلوائها، ولا تضجر ولو صِرْتَ في غِمار الشدة وغلوائها، فقد رأينا كثيراً من المُترَفين في هَوَى صورة من الصور يختارون من أنواع البلاء أشقَّها، ويَسْتَهْوِنون من ضروب المصائب

أَحْمَزَها

(7)

، بل يَسْتَحْلُون مُرارَها، ويستطيبون ضررَها.

/64 وكنت إذاما جئت ليلى أزورها

أرى الأرضَ تُطْوَى لي وَيَدْنُو بَعِيْدُها

من الخَفرَات

(8)

البيضِ وَدَّ جَليسُها

إذا حَدَّثَتْ أحدوثَةً لو تُعِيدُها

(9)

(1)

القاموس (لأى) ص 1329.

(2)

الحصر: ضيق الصدر. القاموس (حصر) ص 376.

(3)

الشَّظَف: الضيق والشدّة، ويُبس العيش وشدته. القاموس (شظف) ص 824.

(4)

حاطه حَوطاً وحيطة وحياطة: حفظه وصانه وتعهده. القاموس (حوط) ص 663.

(5)

الجِذْم: - بالكسر -الأصل. القاموس (جذم)1086.

(6)

الألاء: شجر مُرٌّ دائم الخُضرة. القاموس (ألو) ص 1260.

(7)

أحمزها: أمتنها، والحمازة: الشدة. القاموس (حمز) ص 509.

(8)

الخفر: شدة الحياء. القاموس (خفر) ص 386.

(9)

ينسب البيتان لكثير، (ديوانه 200) وللمجنون، (ديوانه 108) وهما في الأغاني 7/ 84، والتاج (حدث). والهمزة من قوله (إذا) لم تظهر في الأصل.

ص: 193

وقال آخر:

ولو قُلْتَ طأْ في النَّارِ أعْلَمُ أنَّه

رضَىً لَكَ أو مُدْنٍ لنا من وِصَالِكَ

لقدَّمتُ رِجلي نحَوها فوطِئْتُها

هُدَىً منكَ أوضَلَّةً من ضلالِكَ

(1)

دع هذا رأينا من يستهون العظائم الكبار، ويرتكب الأهوال والأخطار، ويستغرق الأعمار، في مصاعب الأسفار، وركوب البحار، ويصبر من العيش على أَمرَّ من العلقم، ويلوي على يديه ما هو أضرُّ من الأرقم

(2)

، ويفارق أهله وولده، ووطنه وبلده، ويستمر على ذلك الشهورَ والأيام، بل السنين والأعوام، كل ذلك لظن ربح دنيوي واكتساب مالي أو رضا ملك أو سلطان، بل في رضا مَن يَعِزُّ عليه من الأزواج والولدان.

وكم عسى تكون شدة المدينة ولأواؤها؟ وإلى متى تستمر عليك مشقتها وبلاؤها؟ وقد تجد في البلاد ما هو في الشدة وشَظَفِ العيش مِثْلَها، أو أشقَّ منها، وأهلها مقيمون فيها، وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال، فلا ينتقل ويُؤْثِرُ وطنَه مع إمكان الارتحال، على أن المدينة مع شَظَفِ العيش بها في غالب الأوقات، فإنه قد يُوسِّعُ اللهُ فيه العيشَ على بعض السكان، ويَحْسُنُ فيه حالُه ويَنْعُم فيها بالُه، دون سائر البلدان، ولعلك تكون واحداً من أولئك الرجال، أو تكون من أنعمهم وأطيبهم في طيب العيش ورفاهية الحال، وإن كانت الأخرى، فالصبر للمؤمن أجدر وأحرى، فإن تحمل العسر يتبعه الآلاء

(3)

بلا منّ، وتجرع الصبر يقترن به الأحلى والمَنّ.

يا مَنْ شكى شوقَه من طُولِ فِرقَتِه

اصبر لعلَّكَ تلقى من تحب غدا

(1)

معاهد التنصيص للعباسي 1/ 159. وفيه أن البيتين لابن الدمينه.

(2)

الأرقم: أخبث الحيات وأطلبها للناس. القاموس (رقم) ص 1115.

(3)

الآلاء: النعم. القاموس ص 1260.

ص: 194

وسر إليه بنار الشوق مجتهدا

عَسَاَكَ تَلْقَى على نار الغرام هُدى

فمن وفقه الله تعالى لسداد الأمر، صَبَّره في إقامتها ولو على أحرَّ من الجمر، فيتجرع مَرارة غَصَّتِها، حتى تجتلي عروسُ المرادِ على مِنَصَّتِها، ويا سعدَ من تَرِح

(1)

قليلاً، وفرح طويلاً، وكَبَح يسيراً، وربح كثيراً، يلقى بُرْءاً من لأوائها، فيوُقَى بها من مصائب الدنيا وبلائها، عَضَّ على ناجذ الصبر ساعات، فأعقبته في الآخرة راحات وإسباغات، ثبت قدمه العلية وهمته السَّنِيَّة، إلى أن تأتيه المنية، وكان بها وقد وافت، وساره ملك/65 الموت وخافت، فدُفِنَ في تربته الطيبة الطاهرة، وغُيِّبَ في بقعته المقدسة الزاهرة، متمسكاً بجوار أولئك الأخيار من أهل التقى، مستوثقاً من قرب تربتهم، بالعروة الوثقى، مُؤْثِراً على الدنيا الآخرة فإن الآخرة خير وأبقى، فطوبى لمن أسكنه الله في تلك المعاهد والديار، وشملته أنوار تلك المعالم والآثار، وقضى فيها ما قد بقي من الأنفاس والأعمار، يحاسن فيه الفقير العديم ويواسيه، ويصابح فيه النبي الكريم ويماسيه، يرفع حاجته إليه، ويبث ضروراته بين يديه

(2)

، يُسلِّم عليه شاكياً ذنوبه، ويصلي عليه، ذاكراً مقابحه وعيوبه، يتمرغ في تراب التذلل خاشعاً، ويتمسكن بباب التوبة عند الشفيع المشفع خاضعاً.

وأيم الله، إنه لجدير أن لا يقوم إلا وقد غفرت خطاياه، وكثرت عطاياه، وانقلب بالمنح الجزيلة من آماله مطاياه، وقضيت أوطاره وحاجاته، وقربت بالإقبال والقبول سراره ومناجاته.

فيا سعد من لم يستعظم احتمال المشقات، واعتمال محاسن العادات،

(1)

الترح: الهمُّ. القاموس (ترح) ص 214.

(2)

رفع الحاجات وبث الضروريات هذا مما لايجوز البتة طلبها من أي نبي مرسل أو ملك مقرّب، وشكوى الذنوب إنما تكون إلى الله عز وجل.

ص: 195

وإخلاص النيات والمرادات، في ملازمة العبادات، والمواظبة على الطاعات، والمداومة على نوافل الخيرات، ولزوم المجاهدات، والصبر على ما تقضيه هذه المقامات الظاهرات، من المعانات والمكابدات، لينال ما وعده به سيد الكائنات، وأفضل البريات، من جزيل المثوبات، وجميل المكرمات، وإنجاز الوعد بشفاعته وشهادته أرفع الشفاعات، وأنفع الشهادات.

جعلنا الله تعالى ممن خصهم من هذه المقامات بالحظ الأوفى، وأوردنا من مناهل فواضله وسلاسل نوافله المورد الأهنى الأصفى، وآوانا من جناب النبي الأعظم والحبيب الأكرم الظل الأسبغ الأضفى.

ومن آداب من صار بالمدينة حاضراً، زائراً كان أو مجاوراً، أن يديم التردد لزيارة البقيع ومن حوته تربته من سادات الصحابة من السابقين الأولين الأخيار، ومن بعدهم من المهاجرين والأنصار، عليهم رحمة الله الملك الجبار.

ص: 196

‌الباب الثاني: في تاريخِ البلدِ المقدسِ وذِكرِ مَن سَكَنَهُ أولاً من التبابعةِ

(1)

والعماليق

(2)

وهَلُمَّ جَرّاً إلى أن فَتَحَ الله تعالى بالقرآنِ لنبيهِ الكريمِ ما كان فيها من المغاليق.

‌فصل في ذكر نُبَذٍ من تاريخِ المدينةِ المقدسةِ والمسجدِ الشريف والروضةِ المطهرةِ صلى الله على مُشَرِّفها.

وهذا الفصلُ مُلَخَّصٌ من كتاب الزبير بن بكار

(3)

، وابن النجار

(4)

،

ومعجم ياقوت

(5)

الكبير /66 وغير ذلك. مهذب القواعد، مشذب الرواية، مرشحاً بفوائد

(1)

التبابعة: سلسلة من الملوك حكموا اليمن قبل الإسلام، واحدهم تُبَّعٌ. انظر: ابن خلدون 2/ 258. القاموس (تبع) ص 706.

(2)

قبيلة من العرب العاربة، ويضرب المثل بهم في الطول والضخامة، ويُنسبون إلى عمليق بن. . . بن نوح، وهم أمم تفرقت في البلاد فكان منهم أهل المشرق وعمان والبحرين والحجاز ومصر، ومنهم الكنعانيون بالشام، وكان أهل المدينة وعمان والبحرين يسمون جاسم، ومنهم بنو كعب وبنو لف وبنو مطر وبنو الأزرق. تاريخ الطبري 1/ 203، و ابن خلدون 2/ 30.

(3)

الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب الأسدي المدني، قاضي المدينة، كان ثقة ثبتاً عالماً بالنسب وأخبار المتقدمين، مات سنة ست وخمسين ومائتين. تذكرة الحفاظ 2/ 528، والتقريب 214. برقم 1991.

(4)

محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن، أبو عبد الله محب الدين ابن النجار، مؤرخ، ثقة متقن واسع الحفظ تام المعرفة، رحل إلى الشام ومصر والحجاز وأصفهان وحران، واستمرت رحلته سبعاً وعشرين سنة. من كتبه: ذيل تاريخ بغداد، و الدرة الثمينة في أخبار المدينة، وغيرها. توفي سنة 643 هـ. طبقات الشافعية 5/ 41، شذرات الذهب 5/ 226.

(5)

شهاب الدين، أبو عبد الله، ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي، أُخذ من بلاد الروم أسيراً وهو حَدَث، وحُمِلَ إلى بغداد فاشتراه تاجر اسمه عسكر الحموي، فنُسِبَ إليه ومات سنة 626 هـ. وفيات الأعيان 2/ 210، مرآة الجنان 4/ 59 - 63.

ص: 197

رشيقة، موشحاً بفرائد أنيقة إن شاء الله تعالى، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

أسند الزبير بن بكار رحمة الله عليه إلى مشيخة من أهل المدينة أنَّهم قالوا: كان ساكني المدينة في سالف الأزمان قومٌ يقال لهم: صعل وفالج، فغزاهم داود النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ منهم مئة ألف عذراء.

قال: وسلَّط الله تعالى عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل، وهي التي بناحية الجرف

(1)

، وبقيت امرأة منهم، وكانت تعرف بزهرة، وكانت تسكن بِهَا، فاكترت من رجل، وأرادت الخروج إلى بعض تلك البلاد، فلما دنت لتركب غشيها الدُّودُ، فقيل لها: إنا لنرى دوداً يغشاك، فقالت: بِهذا أُهْلِكَ قومي، ثم قالت: رُبَّ جسدٍ مصُونٍ، ومالٍ مدفونٍ، بين زهرة

(2)

ورانون

(3)

. قال: وقتلها الدودُ

(4)

.

قالوا: وكان قوم من الأمم يقال لهم بنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق، فيما بين مخيض

(5)

إلى غُرَاب الضائلة

(6)

إلى القصاصين

(7)

إلى طرف أحد، فتلك آثارهم هنالك.

(1)

في الأصل: (الزخرف) وهو تحريف، وصححت إلى (الجرف) مرتين: على يمين اللوحة وأعلاها، والخط حديث. والجرف: موضع في المدينة، يأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس.

(2)

موضع بالمدينة يأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس.

(3)

وهو رانوناء أحد أودية المدينة، يأتي ذكره في الباب الخامس.

(4)

رواه الزبير بن بكار، عن محمد بن الحسن بن زبالة، بسنده. وفاء الوفا 1/ 158.

وابن زبالة: كذبوه. تقريب ص 474. وذكره ابن النجار مختصراً ص 28 - 29.

(5)

مخيض: بلفظ مخيض اللبن، موضع قرب المدينة. يأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس.

(6)

غراب، بلفظ الطائر: جبل قرب المدينة. يأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس بدون إضافة (الضائلة) إليه.

(7)

القصاصين: المكان الذي تصنع فيه القَصَّة وهي الجِصّ، وقد أورد السمهودي هذا الموضع في (حدود العقيق). الوفا 3/ 1039.

ص: 198

وكانت العماليق منتشرة في البلاد، وكانت جُرْهُم

(1)

بِمكة المشرفة، وكانت قَنْطُورَاء

(2)

وطَسْم وجَدِيس

(3)

باليمامة

(4)

وبالشام.

وعن زيد بن أسلم

(5)

رحمه الله قال: إن ضَبُعاً رُئِيَت وأولادها رابضة في حِجَاجِ

(6)

عينٍ من العماليقِ. قال: وكان تمضي أربع مئة سنة وما يسمع بِجنازة.

(7)

وكانت العماليق قد انتشرت في البلاد فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله، وَعَتَوا عُتُوّاً كثيراً، فبعث إليهم موسى عليه السلام جنداً من بني إسرائيل فقتلوهم بالحجاز وأفنوهم

(8)

.

وإنما كان أول سكنى اليهود بالحجاز أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أظهره الله تعالى على العمالقة بِجنده [الذي]

(9)

بعثه إلى الحجاز، وكان أمَرَهُم

(1)

من العرب البائدة، كانت على عهد ثمود وعاد والعمالقة، أبادهم القحطانيون. المفصل 1/ 345.

(2)

وهم أبناء عم جرهم، كانوا يقيمون أسفل مكة بأجياد، بغت عليهم جرهم فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم تصالحوا، واستقر الأمر لجرهم. المفصل 1/ 345.

(3)

من العرب العاربة، كانت منازلهم في اليمامة والبحرين، هلكت طسم بالحرب مع جديس. الروض الأنف 1/ 20، الطبري 1/ 204.

(4)

من نجد، وكان اسمها جَوَّا والعروض، وكانت فيها منازل طسم وجديس وما حولها إلى البحرين ومنازل عاد الأولى. معجم البلدان 5/ 505.

(5)

زيد بن أسلم العدوي، مولى عمر بن الخطاب، أبو عبد الله، المدني، ثقة، عالم، مات سنة ست وثلاثين ومئة. التقريب ص 222، برقم 2117.

(6)

تصحفت في الأصل إلى: (فجاج). والحجاج ـ بالكسر وبالفتح ـ عظم ينبت عليه الحاجب. القاموس (حجج) ص 183.

(7)

رواه ابن زبالة، بسنده عن زيد بن أسلم. وفاء الوفا 1/ 157.

(8)

رواه ابن زبالة، بسنده عن عروة بن الزبير، وفاء الوفا 1/ 159.

وابن زبالة: كذبوه.

وذكره ابن النجار ص 29 مختصراً.

(9)

في الأصل: (التي).

ص: 199

ألا يستبقوا منهم حَالماً، ففعلوا ذلك، وقتلوهم، حتى انتهوا إلى ملكهم بتيماء، وكان يقال له الأرقم بن أبي الأرقم

(1)

، فقتلوه، وأصابوا له ابناً شاباً، وكان من أحسن الناس وجهاً، فضنوا بقتله، وقالوا: نستحييه حتى نَقْدَمَ به على موسى عليه السلام فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم، وَقَبَضَ الله تعالى نبيه موسى عليه أفضل الصلاة والسلام قَبْلَ قدومهم، فلما سَمِعَ بهم الناسُ تلقوهم، فسألوهم عن أمرهم، فأخبروهم بالفتح، وأنَّهم لم يَسْتَبْقُوا أحداً غير /67 هذا الشاب؛ ليرى نبي الله فيه رأيه، فقالوا: إن هذه لمعصيةٌ منكم لما خالفتم من أمر نبيكم، لا والله لا تدخلون علينا بلادنا أبداً، فحالوا بينهم وبين الشام، فقال الجيش: ما بلدٌ إذ مُنِعتُم بلادَكُم خيراً من البلدِ الذي خرجتم منه. وكانت الحجازُ إذ ذاك شجراً أشجر بلاد الله وأطهره ماءً، فهو أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق، فتركحوا

(2)

فيها حيث شاؤوا- أي: تفسحوا- وتبوؤوا، فكان جميعهم بزهرة، وكانت لهم الأموال بالسافلة

(3)

.

وزهرة: ثَبْرَةٌ بين الحَّرةِ والسَّافِلَةِ مما يلي القُف

(4)

، والثَّبْرَةُ: الأرضُ السَّهلةُ، ونزل جمهورهم بِمكان يُقال له يثرب بِمَجْمعِ السُّيولِ: سيل بطحان

(5)

، وسيل العقيق، وسيل قناة مما يلي زَغَابِة

(6)

.

(1)

انظر: الطبري 1/ 203، المفصل 1/ 346.

(2)

رُكْحَة الدار: ساحتها؛ والتَّرَكُّحُ: التَّوَسُّعُ. القاموس (ركح) ص 220.

(3)

رواه ابن زبالة، عن عروة بن الزبير. وفاء الوفا 1/ 159 - 160، 161.

وذكره ابن النجار ص 29 - 30.

والسافلة: القسم الشمالي من أرض المدينة، سميت هكذا لأنها تنخفض تدريجياً. يأتي ذكرها في الباب الخامس.

(4)

اسم لوادٍ من أودية المدينة. سيأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس.

(5)

بطحان والعقيق وقناة: أودية في المدينة. سيعرّف المؤلف بها في الباب الخامس.

(6)

موضع قريب من المدينة. يأتي ذكره في الباب الخامس.

ص: 200

قالوا: وكانت يثرب سقيفة طويلة فيها بغايا يُضرب إليهنَّ من البلدان، وكانوا يروحون

(1)

في قرية بيثرب ثَمانين جَمَلاً جَوْناً

(2)

سوى سائر الألوان

(3)

.

وذكر أن تُبَّعَاً

(4)

لما وصل إلى المدينة كان منْزله بقناة، وأنه أراد خراب المدينة، فجاءه حَبران من بني قريظة يقال لهما: سُخيت ومنبه

(5)

، فقالا: أيها الملك لا تفعل، انصرف عن هذه البلدة فإنَّها محفوظة، وإنَّها مُهَاجَرُ نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد، يخرج في آخر الزمان، فأعجبه ذلك، وكَفَّ عما أراد، ولم يزل بعد ذلك يَحوطُ المدينةَ

(6)

.

وحكى ياقوت عن بعض علماء الحجاز من اليهود أن سبب نزولهم المدينة، أن مَلِكَ الروم حين ظَهَرَ على بني إسرائيل وَمَلَكَ الشام، خطب إلى بني هارون وفي دينهم أن لا يزوجوا النصارى، فخافوه وأنعموا له، وسألوه أن يشرِّفهم بإتيانه إليهم، فأتاهم ففتكوا به وبِمن معه، ثُمَّ هربوا حتى لحقوا بالحجاز فأقاموا بِهَا

(7)

.

وقال آخرون: بل علماؤهم كانوا يَجدون صفةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في التوراة

(1)

أراح الإبِلَ: ردَّها إلى المُراح، أي المأوى. القاموس (روح) ص 221.

(2)

الجون من الإبل: الأدْهَمُ. القاموس (جون) ص 1187.

(3)

رواه ابن زبالة، عن عروة بن الزبير، في خبر طويل. وفاء الوفا 1/ 161. وابن زبالة متهم بالكذب.

(4)

أبا كرب تبان أسعد الحميري بن كليكرب بن زيد الأقرن بن عمرو بن ذي الأزعار بن أبرهة ذي المنار بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر. ابن خلدون 2/ 67، المفصل 1/ 42.

(5)

سخيت ومنبه: من أحبار اليهود، وليس لهما نسب في المصادر العربية. ويذكر ابن الأثير أن اسمهما كعب وأسد. الكامل 1/ 244، وفي (الروض الأنف) سُحَيْت ومنبِّه وفي رواية أخرى عن ابن إسحاق: أن الحبر الذي كلمه الملك اسمه: بليامين. الروض الأنف 1/ 35.

(6)

السيرة لابن هشام 1/ 57 بنحوه.

(7)

معجم البلدان 5/ 84.

ص: 201

وأنه يهاجر إلى بلد فيه نَخْلٌ بين حَرَّتَينِ، فأقبلوا من الشام يطلبون الصفة حرصاً منهم على اتباعه، فلما رأوا تَيْماءَ

(1)

وفيها النخلُ عرفوا صفته، وقالوا: هو البلد الذي نريده، فنَزَلوا، وكانوا أهله، حتى أتاهم تُبَّع فأنزل معهم بني عمرو بن عوف

(2)

، والله أعلم أي ذلك كان

(3)

.

قالوا: وخرجت قريظة وإخوانُهم [بنو

(4)

] هَدلٍ وعمرو ابنا الخزرج بن الصريح بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوى بن حبر بن النحام بن عازر بن عيزر ابن هارون بن عمران صلوات الله على هارون، والنضير بن النحام بن الخزرج بن

الصريح بعد هؤلاء، فتبعوا آثارهم فنَزَلُوا بالعالية

(5)

على واديين يقال لهما مُذَينِب ومَهْزُور

(6)

، فنَزَلت/68 بنو النضير على مذينب، واتَّخذوا عليه الأموال، وكانوا أول من احتفر بِهَا الآبار وغرس الأموال.

قال: ونزل عليهم بعض قبائل العرب، وكانوا معهم، واتَّخذوا الأموال، وابتنوا الآطام والمنازل

(7)

.

(1)

قال ياقوت: بليد في أطراف الشام بين وادي القرى، على طريق حاج الشام ودمشق. وهي: مدينة حجازية تقع شمال المدينة على بعد (420) كيلاً، وهي عامرة فيها جميع الخدمات. معجم البلدان 2/ 67، معجم معالم الحجاز 2/ 56.

(2)

بنو عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس بن حارثة، وهم أهل قباء ومن ولد ثعلبة بن عمرو بن مزيقيا بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف. جمهرة أنساب العرب ص 232.

(3)

معجم البلدان 5/ 84.

(4)

في الأصل: (بني)، وهو خطأ.

(5)

العالية: اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة. سيأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس.

(6)

مذينيب ومهزور: واديان بالمدينة. سيأتي ذكرهما بالتفصيل في الباب الخامس.

(7)

رواه ابن زبالة، بسنده عن محمد بن كعب القرظي. وفاء الوفا 1/ 161.

وذكره ابن النجار ص 29 مختصراً.

ص: 202

قال الزبير: حدثنا محمد بن الحسن

(1)

عن عبد العزيز بن محمد الدَّراوَرْدي

(2)

عن طلحة بن خراش

(3)

عن عبد الملك بن جابر بن عتيك

(4)

عن جابر بن عبدالله

(5)

يرفعه قال: «أقبل موسى وهارون عليهما السلام حَاجَّين، فمرا بالمدينة فخافا من يهود فخرجا مستخفيين، فنَزلا أُحُدَاً، فغَشِيَ هارونَ الموتُ، فقام موسى فحفر له، وَلَحَدَ، ثم قال: يا أخي إنك تَموت، فقام هارون فدخل في لَحْدِهِ فَقُبِضَ، فَحَثَا عليه التراب»

(6)

.

قالوا: وكان بالمدينة قرى وأسواق من يهود بني إسرائيل، وكان قد نزلها أحياء من العرب، وكانوا معهم، وابتنوا الآطام والمنازل، فكان ممن كان مع يهود من قبائل العرب قبل نزول الأوس والخزرج عليهم بنو

(1)

محمد بن الحسن بن زَبالة المخزومي، أبو الحسن المدني، كذبوه، من كبار العاشرة، مات قبل المئتين. التقريب ص 474، برقم 5815.

(2)

أبو محمد الجهني مولاهم، صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطئ، مات سنة ست أو سبع وثمانين ومئة. التقريب ص 358 برقم 4119.

(3)

طلحة بن خراش الأنصاري المدني، صدوق من الرابعة. التقريب ص 282 برقم 3019.

(4)

الأنصاري، ثقة، من الرابعة. التقريب ص 362، برقم 4169.

(5)

جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري ثم السلَمي صحابي ابن صحابي، مات بالمدينة بعد السبعين وله 94 سنة. أسد الغابة 1/ 307، الإصابة 1/ 213.

(6)

في سند الزبير: محمد بن الحسن بن زبالة: كذبوه.

وأخرجه ابن شبة 1/ 85 - 86، وابن النجار 87، وعنه المطري في التعريف ص 45. من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، به. والدراوردي: صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطئ.

قال السمهودي في وفاء الوفا 3/ 930: بأحد شعب يعرف بشعب هارون يزعمون أن قبر هارون عليه السلام في أعلاه، وهو بعيد حساً ومعنىً، وليس ثم مايصلح للحفر وإخراج التراب. اهـ.

ويذكر أن هارون قبض بأرض أدوم على جبل اسمه صور.

انظر: تاريخ الطبري 1/ 432، تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 9.

ص: 203

أنيف

(1)

وهم حي من بَليّ، ويقال: إنِّهم بقية من العماليق، وبنو مَرِيُد

(2)

حي من بلي، وبنو معاوية بن الحارث ابن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وبنو الجذماء

(3)

حي من اليمن

(4)

.

وكان ممن بقي بالمدينة من اليهود حين نزلت عليهم الأوس والخزرج، بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو محمم، وبنو زعورا، وبنو ماسكة، وبنو القمعة، وبنو زيد اللات وهم رهط عبد الله بن سلام

(5)

، وبنو قينقاع، وبنو حجر، وبنو ثعلبة، وأهل زهرة، وأهل زَبَالة، وأهل يثرب، وبنو القصيص، وبنو ناعصة، وبنو عكوة، وبنو مرابة، فكانت هذه القبائل كلها من بني إسرائيل، والأحياء الذين ذكروا معهم من العرب اتَّخذوا بالمدينة الآطام.

وكانت الآطام عز أهل المدينة ومنعتهم التي كانوا يتحصنون فيها من عدوهم، فكان منها ما يعرف اسمه، ومنها ما لا يعرف اسمه، ومنها ما يعرف باسم سيده، ومنها ما لا يدرى لمن كان، ومنها ما ذُكِرَ في الشعر، ومنها ما لم يُذكر.

(1)

وهم من بلي من قضاعة. معجم قبائل الحجاز 1/ 48.

(2)

ويقال لهم: الجعادرة، كانوا حلفاء بني أمية بن زيد. سكنوا عوالي المدينة وهم من بني جشم بن مالك بن الأوس. معجم قبائل الحجاز ص 482.

(3)

بطن من كهلان من القحطانية، وجذام أخو لخم، وعم كندة، ولجذام من الولد حرام وجشيم. انتقلوا إلى اليمن فنزلوا فحُسبوا أنهم من اليمن. نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 191.

(4)

ذكره ابن زبالة. وفاء الوفا 1/ 162. وفيه ابن زبالة كذبوه. وذكره ابن النجار ص 29 مختصراً.

(5)

عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي الأنصاري، صحابي كان حليفاً للقواقلة، وهو من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، أسلم إذ قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان اسمه الحصين فسماه الرسول عبد الله، وهو من خِيرة يهود، توفي سنة 43 هـ. أسد الغابة 3/ 264، الإصابة 2/ 320.

ص: 204

وروى الزبير بسند عن ربيعة بن عثمان

(1)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى الأنصار أن يهدموا آطامهم

(2)

وقال: «إنها من زينة المدينة»

(3)

.

فكان بنو أنيف بقباء، وكان لهم الأطم الذي يقال له الأجش، عند البئر التي يقال لها لاوة، وكان لبيجان

(4)

بن عامر بن مالك بن عامر بن أُنيف، وكان لهم الأطمان اللذان يقال لهما النواحان

(5)

، كانا عند مجلس بني أنيف، وكان لهم الأطم الذي /69 يقال له الهجيم

(6)

كان موضعه عند قرن بئر إسلام، كان لبني عبيد بن الحمير بن مالك بن عامر بن أنيف، وكان لهم أطم في دار محمد بن سعيد بن محمد الأنيفي، موضعه إلى جنب بئر الغدق

(7)

، في دار حميد بن دينار مولى عبد الله بن أبي أحمد

(8)

، كان لوبرة بن ثعلبة الأنيفي

(9)

،

(1)

ربيعة بن عثمان بن ربيعة التيمي المدني، صدوق له أوهام، مات سنة أربع وخمسين ومئة. التقريب ص 207، برقم 1913.

(2)

الآطام: جمع أطم، وهو الحصن المبني بالحجارة، وكل بيت مربع مسطح. القاموس (أطم) ص 1076.

(3)

رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار-من طرق - 4/ 194، وفي إسناده: عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، وهو ضعيف، كما في التقريب، وقال العقيلي في الضعفاء 2/ 311 - 312: روى أحاديث منكرة. وذكر منها هذا الحديث، وقال:(لا يتابعه إلا من هو دونه أو مثله). قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 301: رواه البزار عن الحسن بن يحيى ولم أعرفه. وانظر: التمهيد لابن عبدالبر 6/ 310.

(4)

جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 442.

(5)

وفاء الوفا 4/ 1324.

(6)

تحرفت في الأصل إلى: (حميم)، والمثبت هو الصواب. وفاء الوفا 4/ 1144.

(7)

سيأتي ذكره في الباب الخامس.

(8)

عبد الله بن أبي أحمد بن جحش بن رئاب، صحابي أتى به أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد فسماه عبد الله، أخرج له الطبراني حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. الإصابة 3/ 57.

(9)

وبرة بن ثعلبة بن غنم بن شرى بن سلمة، من بني أُنيف. جمهرة أنساب العرب ص 442.

ص: 205

وكان لهم أطم موضعه بين بئر غَدَق وبين المَكْرَعَة

(1)

كان لمليل بن وبرة بن ثعلبة الأنيفي، وكان لهم أطم كان موضعه إلى جنب أطم مليك بن وبرة وكان لصيفي بن وبرة بن ثعلبة الأنيفي

(2)

، وكان لهم أطمان كان موضعهما بين المال الذي [يقال]

(3)

له الماية، والمال الذي يقال له القائم، لا يُدْرَى لأيِّ بني أنيف كان

(4)

.

قال شاعر بني أنيف في آطامهم:

ولو نطقت يوماً قباء لخبرت

بأنا نزلنا قبل عادٍ وتُبَّع

وآطامنا عادَّيةٌ مُشْمَخِرِّة

تلوح فتنكي من نعادي وتَمنع

وكانت بنو قريظة في دارهم التي هم بِهَا اليوم، وكان لهم أطم يقال له معرض، وهو حصنهم الذي كانوا يلجؤون إليه إذا فزعوا، كان موضعه ما بين الدرجة

(5)

التي في بقيع بني قريظة، إلى النخل التي يَخرج منها السيل، وكان لهم أطم كان موضعه في موضع مسجد بني قريظة، وكان للزبير بن باطا القرظي

(6)

، وكان لهم أطم في غربي المال [الذي

(7)

] يقال له سطمار في بني قريظة، وكان للزبير ابن باطا أيضاً، وكان لهم أطم يقال له الملحة كان في بئر

(1)

موضع في المدينة. يأتي ذكره في الباب الخامس.

(2)

صيفي بن وبرة، وهو من بني عمرو بن عوف، شهد ابنه عبد الله الحديبية، وبيعة الرضوان. الطبقات الكبرى 4/ 355.

(3)

زيادة يقتضيها السياق.

(4)

وفاء الوفا 1/ 162 - 163 ..

(5)

هكذا في الأصل.

(6)

يكنى أبا عبد الرحمن، كان من أعلم اليهود، قال: إني وجدت سفراً كان أبي يختمه عليَّ، فيه ذكر أحمد النبي يخرج بأرض القَرَظ، فلما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم عمد إلى السفر فمحاه وكتم شأنه، قُتِلَ مع بني قريظة. الطبقات الكبرى 1/ 159.

(7)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 206

سعيد دبر مال ابن أبي حُدَيْر

(1)

، كان لكعب بن أسد القرظي

(2)

، وكان لهم أطم في المال الذي يقال له الشجرة، وكان لكعب بن أسد يقال له بلحان، وله يقول الشاعر:

من سره رطبٌ وماء باردٌ

فليأت أهل المجد من بلحان

وكان مع بني قريظة في دارهم إخوتهم بنو هدل وبنو عمرو بن الخزرج، وإنَّما سمي هَدلاً لِهَدْلٍ

(3)

كان في شفته، ومن ولده ثعلبة وأسيد ابنا سعية

(4)

، وأسد بن عبيد

(5)

ورفاعة بن سموأل

(6)

، وسُخيت ومنبه، ابنا هدل

(7)

.

وكانت بنو النضير في النواعم

(8)

وكان لهم أطم يقال له مَنْورَ، وهو الأطم الذي في دار ابن طهمان، وكان لسلام بن مِشْكَم النضري

(9)

، وكان لهم الأطم الذي في مال بني [أبي] أمامة بن سهل بن

(1)

ابن أبي حُدَير: أبو فروة، ويقال حدير أبو فوزة السلمي أو الأسلمي، مختلف في صحبته. الإصابة 2/ 316.

(2)

كعب بن أسد بن بن سليم بن أسد، من بني قريظة حلفاء الأوس. الطبقات الكبرى

1/ 134.

(3)

الهَدْلُ: استرخاء الشَّفة. القاموس (هدل) ص 1070.

(4)

في الأصل: (وابنا سعية)، بزيادة الواو، وهو خطأ.

(5)

ثعلبة وأسيد -وقيل أسد- بن سعية، و أسد بن عبيد: نفرٌ من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك، هم بنو عم القوم، أسلموا في الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. السيرة لابن هشام 1/ 239، الإصابة 1/ 134.

(6)

رفاعة بن سموأل القرظي: له ذكر في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنه طلق زوجته فبت طلاقها، وهو خال أم المؤمنين صفية بنت حُيَي بن أخطب رضي الله عنها. أُسد الغابة 2/ 228، الإصابة 1/ 518.

(7)

في الأصل: (منبه وابنا)، بزيادة الواو، وهو خطأ.

(8)

موضع قرب العوالي، يأتي ذكره في الباب الخامس.

(9)

كان شاعراً من يهود بني النضير، وممن يحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامرأته هي التي أهدت له الشاة المسمومة. سيرة ابن هشام 2/ 155،3/ 287.

ص: 207

حنيف

(1)

، وكان لكعب بن الأشرف

(2)

، وكان لهم الأطم الذي كان موضعه في زقاق الحارث دبر قصر ابن هشام الذي /70 دون بني أمية بن زيد

(3)

، كان لعمرو بن جحاش

(4)

، وكان لهم أطم البويلة كان لرهط منهم لحقوا باليمن، وكان لهم أطم في المال الذي يقال له فاضحة، كان لبني النضير عامة

(5)

.

وكان بنو مزيد في بني خطمة وناعمة إبراهيم بن هشام

(6)

، وكان لهم الأطم الذي هنالك الذي يقال له أطم بني مزيد، وفيه بئر.

وكانت بنو معاوية في بني أمية بن زيد، وكان لهم الأطم الذي يقال له

(1)

أبو أُمامة: أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاري الأوسي، من بني عمرو بن عوف، ولد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، حدث عن أبيه وعمر وعثمان وغيرهم، وكان من أبناء الذين شهدوا بدراً، ومن علماء المدينة، توفي سنة 100 هـ. جمهرة أنساب العرب 336، الوافي بالوفيات 9/ 27.

(2)

شاعر جاهلي، كانت أمه يهودية من بني النضير فتهود، كان سيداً في أخواله، يقيم في حصن قريب من المدينة، أدرك الإسلام ولم يسلم، وأكثر من هجو الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتحريض القبائل عليهم وشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتله خمسة من الأنصار على رأسهم محمد بن مسلمة في السنة الثالثة من الهجرة. الطبري 2/ 488. وقصة قتله في الصحيحين، انظر: البخاري، كتاب المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف، رقم:4037. ومسلم، كتاب الجهاد، باب قتل كعب بن الأشرف، رقم:1801.

(3)

أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو، بطن من أوس. كان مسكنهم في العوالي، منهم أبو لبابة وأخوه بشر ورفاعة وهم بدريُّون. جمهرة أنساب العرب ص 301.

(4)

من يهود بني النضير، همَّ بإلقاء رحى على النبي صلى الله عليه وسلم بقصد قتله، فأنذر جبريلُ عليه السلام النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقام من مكانه، فانتدب الصحابيُّ يامين ابن عمير بن كعب النضري رجلاً فقتله مقابل أجرٍ جعله له. الإصابة 3/ 648.

(5)

ذكر النص بكامله ابن زبالة. انظر وفاء الوفا 1/ 162 - 163.

(6)

إبراهيم بن هشام المخزومي: تولى إمارة المدينة المنورة ومكة والطائف سنة 106 هـ، لخاله هشام بن عبد الملك، ثم عُزِلَ سنة 114 هـ، وحُوسِبَ حساباً عسيراً، وصودرت أملاكه، ثم نُقِلَ إلى العراق ليلاقي مصيره تحت التعذيب من قبل الوالي يوسف بن عمر الثقفي. الطبري 7/ 29، البداية والنهاية 9/ 243.

ص: 208

أطم بشر في الدار [التي

(1)

] يقال لها دار المعاويين، كان لبشر أخي معاوية بن الحارث بن بُهْثة.

[و]

(2)

كان بنو ماسكة قريبين من صدقة مروان مما يلي صدقة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لهم الأطمان اللذان في القُفِّ

(3)

في القُرَيَّة، وكان لهم الأطم الذي في مال إسماعيل بن زيد بن ثابت

(4)

.

وكان بنو محمم في المكان الذي يقال له بنو محمم، وكان لهم المال الذي يقال له خُنافة، كان رجل منهم قطع يد رجل في الجاهلية، فقال المقطوع: اعطني خُنافة عقلاً بيدي، فأبوا، وحَفَرَ الذي قطعه كُوَّةً في خُنافة ثم أخرج يده منها من وراء الحائط وقال: اقطع، فقطع يده، فقال حين قطع يده:

الآن قد طابت ذرى خُنافة

طابت فلا جوع ولا مخافة

وكان بنو زعورا عند مَشْرَبَة

(5)

أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهم الأطم الذي عندها، وكان الأطم الذي في مال جحاف لبعض من كان هنالك، وكان بنو زيد اللات قريباً من بني غصينة، وهم رهط عبد الله بن سلام.

وكان بنو قينقاع عند منتهى جسر بطحان مما يلي العالية، وكان هناك سوق من أسواق المدينة، وكان لهم الأطمان اللذان عند منقطع الجسر على يَمينك وأنت ذاهب من المدينة إلى العالية إذا سلكت الجسر، وأطمان عند الحشاشين عند المال الذي يقال له حبرة، وأطم عند الحائط الذي يقال له ذو الشهر.

(1)

في الأصل: (الذي).

(2)

ما بين معقوفين زيادة يقتضيها السياق.

(3)

وادٍ من أودية المدينة. انظر الباب الخامس.

(4)

إسماعيل بن زيد بن ثابت الأنصاري: تابعي، ذكره ابن حِبان، وقال: يكنى بأبي مصعب، وهو أصغر ولد زيد بن ثابت. الإصابة 1/ 121.

(5)

بفتح الراء، وضمها. القاموس (شرب) ص 100.

ص: 209

وكان بنو حجر عند المشربة التي عند الجسر، وكان لهم أطم هنالك يقال له أطم بني حجر.

وكان بنو ثعلبة، وأهل الزهرة، وهم رهط الفِطْيون

(1)

وكان ملكاً من ملوك بني إسرائيل، وهو الذي كان يَفْتَضُّ نساء أهل المدينة قبل أن يدخلن على أزواجهن، لهم الأطم الذي عند مال يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة، والأطمان اللذان على الطريق العريض حتى يهبط من الحَرَّة، وكانت بزهرة جُماع من اليهود، وكانت من أعظم قرى المدينة، وقد بادوا فليس/71 منهم أحد يعرف.

وكان بالَجَّوانِيَّةِ ناس من اليهود، وكان لهم بِهَا الأطم الذي يقال لها صرار، وبه سميت تلك الناحية صراراً، وصارت لبني حارثة بن الحارث

(2)

، وله يقول نَهيك ابن إساف

(3)

:

لعل صراراً أن تجيش

(4)

بياره

ويسمع بالريان تبنى مشاربه

والريان كان لأصحاب صرار، وقد كان لبني حارثة بن الحارث، وهو

(1)

الفِطْيون: هو عامر بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن الحارث ابن عمرو مزيقيا، وذكر الزبير بن بكار أن الفطيون يهودي وليس من ولد عمرو بن عامر، وقال ابن دريد في الاشتقاق: إن الفطيون اسم عبراني وكان قد تملَّك يثرب فقتله رجل من الأنصار. جمهرة النسب ص 620، الاشتقاق ص 436، النسب ص 269، جمهرة أنساب العرب ص 373.

(2)

بنو حارثة بن الحارث: بطن من بني عمرو بن مالك بن الأوس، لُقِّبوا بالنبيت، وهم أهل راتج. جمهرة أنساب العرب ص 338، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 207.

(3)

نهيك بن إسَاف بن عدي بن زيد بن عمرو الشاعر، من بني حارثة بن الحارث، كان فيهم نفاق، وهم الذين قالوا:{إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} جمهرة النسب ص 638، النسب ص 274.

(4)

تصحفت في الأصل إلى: (تعيش)، والمثبت هو الصواب.

جاشت العين: فاضت. القاموس (جاش) ص 588.

ص: 210

أطم الجَوَّانِيَّةِ، وكان بنو الجذماء بين مقبرة بني عبد الأشهل

(1)

، وبين قصر ابن عرك، وكان لهم أطم هنالك يقال له الأبيض، ثم انتقلوا إلى راتج.

وكان بنو عكوة وهم رهط بني عكم في منازل بني حارثة، وكان لهم الأطم الذي هنالك يقال له أطم بني عكم.

وكانت بنو مرابة في شامي بني حارثة، ولهم الأطم الذي يقال له الحال في مال ابن مسافع، والمال الذي عند عفيرا مال خالد بن عقبة

(2)

، والأطم الذي يقال له الشَّبْعَان، وهو الأطم الذي في ثَمْغ صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(3)

.

وكان برَاتِج ناس من اليهود، وكان راتجٌ أطماً وبه سميت تلك الناحية راتِجَاً، ثم صار لبني الجذماء ثم صار بعد لأهل راتج الذين كانوا حلفاء في بني عبد الأشهل، وهو الذي يقول له قيس بن الخطيم

(4)

:

ألا إن بين الشرعبي وراتج .. ضراباً كتخذيم السَّيالِ

(5)

المعصد

(1)

بنو عبد الأشهل: بطن من بني النبيت من الأوس من الأزد من القحطانية، وهم بنو عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن النبيت، ومنهم سيد الأوس سعد بن معاذ.

نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 310.

(2)

خالد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس الأموي، أخو الوليد، أسلم يوم فتح مكة، نزل الرَّقَّة مع من نزلها من الصحابة، وله بِها عقب، قُتِلَ أبوه يوم بدر، أسد الغابة 2/ 104، الإصابة 1/ 410.

(3)

ثمغ: موضع بشامي المدينة. وفاء الوفا 4/ 1165.

(4)

قيس بن الخطيم بن عدي من بني ظفر الأوسي، يكنى أبا يزيد، ذكره علي بن سعيد بن العسكري في الصحابة، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: وهو وهم، فقد ذكر أهل المغازي أنه قدم مكة فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وتلا عليه القرآن، فأُعجب به، وطلب أن يمهله إلى الحول فمات في عامه. النسب ص 275، الإصابة 3/ 281، 4/ 276. والبيت في ديوانه ص 70.

(5)

السَّيَال: نباتٌ له شوك أبيض طويلٌ، أو ما طال من السَّمُر. القاموس (سيل) ص 1017.

ص: 211

وكان بالشَّوْطِ

(1)

والعبائق والوالج وزَبَالة إلى عين فاطمة ناس من اليهود، وكان لأهل الشوط الأطم الذي يقال له الشَّرْعَبي.

وكان لأهل العبائق الأحد عشر أطماً التي على يَمينك حين تفضي من زقاق الحسني، والأطمان اللذان مما يلي عين فاطمة، حيث كان يطبخ الآجُرُّ لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان لأهل الوالج الأطم الذي يقال له الأزرق، وهو الذي بطرف الوالج مما يلي قناة.

وكان لبعض من هناك من اليهود الأطمان اللذان يقال لهما الشيخان، بمفضاهما

(2)

المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى أحد، والثلاثة الآطام التي عند الشيخين.

وكان لأهل زَبَالة الأطمان عند كوم أبي الحمراء الرابض والأطم الذي دونَهما.

وكان في بعض المزارع المواجهة لسقاية سليمان

(3)

أطم يقال له المَجْدَل كان لبعض من تنسك من اليهود، وكان لأهل يثرب

(4)

، وكانوا جماعاً من اليهود، وقد بادوا فلم يبق منهم أحد.

فهذا عِلْمُ أول من سكن المدينة بعد الطوفان إلى قدوم الأوس والخزرج.

(1)

بستان في المدينة، سيأتي ذكره وذكر بقية المواضع المذكورة هنا في الباب الخامس.

(2)

فضا المكان فضاءً وفضواً: ما اتسع من الأرض. القاموس (فضا) ص 1321.

(3)

سليمان بن عبد الملك. الوفا 4/ 1299.

(4)

كلمة غير واضحة في الأصل، وقد وضع الناسخ عليها علامة توقف.

ص: 212

قالوا: ولم تزل اليهودُ العاليةَ بِهَا، الظاهرةَ عليها، حتى كان ما كان من أمر سَيْل العَرِمِ وما /72 قَصَّ الله تعالى من قِصَّتِهِ في القرآنِ

(1)

.

فأجمع عمرو بن عامر بن ثعلبة على بيع ماله بِمأرب -وهي أرض سبأ- لما رأى هو وغيره من كهلتهم من علامات ذلك السَّيلِ، فقال عمرو لقومه: إني واصف لكم البلاد، فمن أعجبه بلدٌ فليسر إليه، فكان منها أن قال: من أراد منكم الراسياتِ في الوحل

(2)

، المطعماتِ في المحل

(3)

، المدركاتِ بالدَّخْل

(4)

، فليلحق بيثرب، ذات النخل، وهي المدينة، فكان الذين اختاروها وسكنوها الأنصار؛ الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وهما ابنا قيلة ابنة كاهل بن عذرة ابن سعد بن زيد بن أسود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، ولهم يقول القائل

(5)

:

بَهالِيلُ

(6)

من أولاد قَيْلَةَ لم يجد

عليهم خليطٌ في مخالطةٍ عَتْبَا

مطاعيم في المقرى مطاعين في الوغا

يرون عليهم فعل آبائهم نحبا

(7)

وكانت المرأة تَخْرج من مأرب بِمعزلها فتنْزل قرية قرية حتى تنْزل الشام، لا تحمل طعاماً ولا شراباً، {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَينَ أسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أنْفُسَهُم}

(8)

فَنُقِلتْ

(1)

في سورة سبأ، الآية:16.

(2)

الوَحْلُ: الطِّينُ الرقيق. القاموس (وحل) ص 1067.

(3)

المَحْلُ: الشِّدَّة والجَدْبُ وانقِطاع المطر. القاموس (محل) ص 1056.

(4)

الدَّخْلُ: الداء والعَيْبُ والريبةُ. القاموس (دخل) ص 998.

(5)

لم أعرفه.

(6)

البُهْلول: العزيز الجامع لكل خير. القاموس (بهل) ص 970.

(7)

النَّحبُ: النَّذْزُ. القاموس (نحب) ص 136.

(8)

سورة (سبأ) آية رقم: 19.

ص: 213

غسان

(1)

إلى الشام، والأَزد

(2)

إلى عُمان، وخزاعة

(3)

إلى تِهامة، والأنصارِ إلى يثرب، فأقاموا بالمدينة ووجدوا الأموال والآطام والنَّخْل في أيدي اليهود مع القوَّةِ والعَدَدِ والعُدَدِ، فمكثوا فيهم ما شاء الله، ثم سألوهم أن يعقدوا بينهم وبينهم جواراً وحلفاً يأمن به بعضهم من بعض، ويَمتنعون به ممن سواهم، فتعاقدوا وتَحَالفوا، واشتركوا وتعاملوا، فلم يزالوا على ذلك زماناً طويلاً، وأمِرَتِ

(4)

الأوسُ والخزرجُ وصار لهم مالٌ وعَدَدٌ، فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم، فتنمَّرَوا عليهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم، وكانت قريظة والنضير أَعدَّ وأكثر، وكان يقال لهما الكاهنان وبنو الصريح. وفي ذلك يقول قيس بن الخطيم:

كنا إذا رامنا قومٌ بِمظلمة

شدت لنا الكاهنان الخيل واعتزموا

نسوا الرهون وآسونا بأنفسهم

بنو الصريح فقد عَفُّوا وقد كَرُمُوا

(5)

فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تُجلِيهم يهودُ، حتى

(1)

غسان: حي من الأَزد، من القحطانية، بنو جفنة من بني عوف بن عمرو بن مزيقيا، سموا غساناً لأنهم شربوا من ماء غسان، الذي يقع بين زبيد وربع. نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 348.

(2)

الأَزد: ويقال الأسد، وهم من كهلان من القحطانية، من أعظم أحياء العرب وأكثرها بطوناً وأمدها فروعاً. وأزد عمان -وهم المقصودون هنا- أحد فروعها، سكنت عمان لما تفرقت قبيلة الأزد. نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 92، معجم قبائل العرب 1/ 15.

(3)

خزاعة: اختُلف في نسبهم، ولكن اتفق على أنهم من ولد عمرو بن لحي، وهو ابن حارثة بن عمرو بن عامر بن ماء السماء، ويقال: إن اسم لحي ربيعة. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6/ 633، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 228، معجم قبائل العرب 1/ 338.

(4)

أمِرَ: كَثُرَ، وتَمَّ. القاموس (أمر) ص 344.

(5)

ديوانه) ص 143. وروايتهما فيه كما يلي:

إذا الخزارج نادت يوم ملحمة شدت الكاهنان الخيل واعتزموا

ساقوا الرُهون وآسونا بأنفسهم عن الشدائد قد بروا وقد كرموا

ص: 214

نَجَمَ

(1)

منهم مالك بن العجلان

(2)

أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج وَسَوَّدَهُ الحيانِ الأوسُ والخزرجُ.

وكان الفِطْيَوْنُ ملك اليهود بزهرة، وكانت لا تُهدى عروس من الحيين الأوس والخزرج حتى تُدخل عليه

(3)

، فكان هو الذي يفتضها قبل زوجها، فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلاً من قومها، فبينما هو/73 في نادي قومه إذ خرجت أخته فُضُلاً

(4)

فنظر إليها أهل المجلس، فَشَقَّ ذلك على مالك ودخل عليها فعَّنفَهَا وأنَّبَهَا، فقالت: ما يُصنع بي غداً أعظم من ذلك، أُهدى إلى غير زوجي.

فلما أمسى مالك اشتمل على السيف ودخل على الفِطيون متنكراً مع النساء، فلما خَفَّ مَنْ عِنْدَهُ عدا عليه، فقتله، وانصرف إلى دار قومه، ثم بعث هو وجماعة من قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يُخبرونَهم بِحالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود، وكان رسولهم الرَّمَق

(5)

بن زيد بن امرئ القيس أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج، وكان قبيحاً دميماً شاعراً بليغاً، فقال في خروجه إلى الشام:

طال الثواء على المراح فأصبحت

تسفي في إثر الرياح تحول

(1)

نَجَمَ: ظهر وطلع. القاموس (نجم) ص 1161.

(2)

سيد الأوس والخزرج في زمانه وهو قاتل الفطيون، والذي جاء بأبي جبيلة الملك الغساني. الاشتقاق ص 458.

(3)

نقل رزين عن الشرقي أن ذلك العمل إنما كان من الفطيون في غير الأوس

والخزرج، وأنه أراد أن يسير فيهم بذلك فقتله مالك بن العجلان. جمهرة

النسب ص 620، وفاء الوفا 1/ 179.

(4)

أي خرجت بالثياب التي تبتذل للنوم. القاموس (فضل) ص 1043.

(5)

شاعر جاهلي، واسمه عبيد بن سالم بن مالك بن سالم. وفي اللغة الرَّمق: باقي النَّفَس. الاشتقاق ص 456.

ص: 215

وأرى قطوعي قد بلين وأصبحت

أبناء قومي ذكرهن قليل

فنتحت أطعم ملء مروق قطرة

حتى تكمَّشَ

(1)

للرجاء رحيل

حتى أُلاقي معشراً مالي لهم

حلُّ ومالهم لنا مبذول

أرضٌ بِهَا ندعى قبائل سالمٍ

ويُجيب منها مالك وسلول

قوم أولوا عِزٍّ وعُزي غيرهم

إن الغريب ولو أُجير ذليل

ومضى الرَّمَقُ حتى قَدِمَ على أبي جُبَيْلةَ الغساني

(2)

ملك الشام، فشكى إليه حالهم وغلبة اليهود عليهم، وما يتخوفون منه، وأنَّهم يَخشون أن يُخرجوهم، وأنشده شعراً، فتعجب من شعره وبلاغته وقبحه ودمامته، فقال: عسل طيب في وعاءٍ خبيث. فقال الرُّمَقُ: أيها الملك إنَّما تَحتاج من الرجل إلى أصغريه؛ لسانه وقلبه. فقال: صدقت.

وأقبل أبو جبيلة في جمع عظيم لنصرة الأوس والخزرج، وعاهد الله تعالى أن لا يبرح حتى يُخرج مَنْ بِهَا من يهود، أو يُذلهم، ويصيرهم تحت أيدي الأوس والخزرج، فسار وأظهر أنه يُريد اليمنَ حتى قدم المدينة، وهي يومئذ تسمى يثرب، فلقيه الأوس والخزرج وأعلمهم ماجاء به، فقالوا: إن عَلِم القوم ما تريد تَحصنوا في آطامهم فلم تقدر عليهم، ولكن ادعهم للقائك وتلطفهم حتى يأمنوك ويطمئنوا فتتمكن منهم، فصنع لهم طعاماً وأرسل إلى وجوههم ورؤسائهم، فلم يبق من وجوههم أحد إلا أتاه، وجعل الرجل منهم يأتي بِحَامَّتِهِ

(3)

وحشمه رجاء أن يَحْبُوهُم

(4)

، وكان قد بنى حيزاً وجعل فيه قوماً، وأمرهم أن يقتلوا من دخل عليهم منهم ففعلوا حتى أتوا على وجوههم

(1)

تكمّش: أسرع. القاموس ص 604.

(2)

أبو جبيلة بن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جسم بن الخزرج، ملك الغسانيين في الشام. جمهرة أنساب العرب ص 356.

(3)

الحَامَّةُ: خاصة الرجل من أهله وولده. القاموس (حمم) ص 1097.

(4)

حبا فلاناً: أعطاه. القاموس (حبا) ص 1272.

ص: 216

ورؤسائهم، فلما فعل ذلك /74 عزَّت الأوسُ والخزرجُ بالمدينة، واتَّخذوا الديار والأموال والآطام، فقال الرَّمَقُ يثني على أبي جبيلة:

لم يُقْضَ دَينُك من

(1)

حسا

ن وقد غنيت وقد غنينا

الراشقات المرشقا

ت الجازيات بِما جزينا

أشباه غزلان الصرا

ئم يأتزرن ويرتدينا

الرَّيط

(2)

والديباج والـ

ـحَلْي المضاعف والبُرِينا

(3)

وأبو جُبَيْلَةَ خيرُ من

يَمشي وأوفاه يَمينا

وأبَرُّهُ براً وأشبهه

بفعل الصالحينا

القائدُ الخيلَ الصوا

نعَ بالكُماة المعلمينا

أبقت لنا الأيامُ والـ

حربُ الملمةُ تعترينا

كبشاً له درْءٌ يفل

متونها الذكر السمينا

ومعاقلاً شُمَّاً وأسـ

ـيافاً يقمن وينحنينا

ومحلة زوراء تَجحف

بالرجال الظالمينا

قالوا: ولما قدم أبو جُبَيْلَةَ المدينة، كان لمالك بن عجلان عَذْق

(4)

في ماله، كان طيب التمر، فكان يجنيه ويبعث به إلى أبي جبيلة، قال: فغاب مالك يوماً، فقال أبو جبيلة: إن مالكاً يقتِّرُ علينا تَمر عذقه هذا، فهل من رجل يَجُدُّهُ

(5)

فيأتينا به كله، فقال بعضهم: أنا. قال: فَجَدَّهُ فجاء به كله. قال: وافتقد مالك العذق، فقال: من عدا على عذق الملك؟ فأخبروه قصته، فجاء مالك حتى وقف على أبي جُبيلة فقال:

(1)

في الأصل: (مل).

(2)

الرَّيطةُ: كل مُلاءَة غير ذات لِفقين، كلها نسج واحد، وقطعة واحدة أو كل ثوب لين رقيق. القاموس (ريط) ص 668.

(3)

البُرِينا: جمع بُرَة، وهو الخلخال. القاموس (البرة) ص 1262.

(4)

العَذْق: النَّخلة بِحِملهَا، وبالكسر: القِنْوُ منها. القاموس (عذق) ص 907.

(5)

يجده: يقطعه. القاموس (جَدَّ) ص 271.

ص: 217

جددتَ جنا نَخلتي ظالماً

وكان الجدادُ لمن قد أبَّرَ

(1)

قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أطرفوه بِهذا الحديث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فإن الثَّمَرَ لمن قد أبَّرَهُ»

(2)

.

قالوا: وكانت يثرب في الجاهلية تدعى غَلَبَة، نزلت اليهود على العماليق فغلبتهم عليها، ونزلت الأوسُ والخزرجُ على اليهود فغلبوهم عليها

(3)

.

قالوا: فانصرف أبو جبيلة إلى الشام، وتفرقت الأوس والخزرج في عالية المدينة وسافلتها، وكان منهم من لجأ إلى عفاءٍ من الأرض لا ساكن فيه، ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها، واتَّخذوا الأموال والآطام.

/75 فنَزَلت بنو عبد الأشهل وبنو حارثة بن الحارث دار بني عبد الأشهل، وابتنى بنو حارثة الأطم الذي يقال له

(4)

المُسَيّر، وهو الأطم الذي عند دار الضحاك بن خليفة الأشهلي

(5)

، ثم صار ذلك الأطم لبني عبد الأشهل بعد خروج بني حارثة من دارهم.

وابتنى بنو عبد الأشهل أطماً يقال له واقم، وبه سميت تلك الناحية

(1)

معجم البلدان 5/ 85.

(2)

لم أقف على هذه القصة الطويلة بهذا السياق، أما الحديث المرفوع فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع» .

أخرجه البخاري، في المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، رقم:2379. ومسلم، في البيوع، باب من باع نخلاً عليها ثمر، رقم:1543.

(3)

رواه الزبير، عن ابن زبالة، بسنده وفاء الوفا 1/ 19. وابن زبالة كذبوه.

(4)

في الأصل: (لهم) وهو تحريف.

(5)

الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل الأنصاري، شهد غزوة بني النضير، وقِيلَ: شهد أُحُداً، توفي آخر خلافة عمر بن الخطاب. أُسد الغابة 3/ 46، الإصابة 2/ 205.

ص: 218

واقماً، وابتنوا الأطم الذي يقال له الرِّعل في مال كان يقال له واسط، وابتنوا أطماً يقال له عاصم في أدنى بيوت بني النجار.

وقيل: كان لحي من اليهود، وكانوا في بني عبد الأشهل.

ويقال: بل كان لرهط حذيفة بن اليمان

(1)

حليف بني عبد الأشهل.

قال الزبير: ثم إن بني عمرو بن عوف نزلوا قباء، فابتنوا الشُّنَيْفَ، وابتنوا المراوح، وابتنوا أطماً كان بين عزيز بن مالك

(2)

ودار عويم بن ساعدة

(3)

، كان لأبي عامر بن صيفي

(4)

أخي بني ضبيعة بن زيد، وابتنوا البُعْبُع، وابتنوا أطماً كان موضعه في غربي دار عبد الله بن أبي أحمد

(5)

، كان لكلثوم بن الهدم

(6)

(1)

حذيفة بن اليمان العبسي، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، وأبوه صحابي، كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين، مات في أول خلافة علي سنة 36 هـ. أُسد الغابة 1/ 468، الإصابة 1/ 317.

(2)

عزيز بن مالك بن عوف من بني حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقيا، من الأزد، ومن ذريته الصحابي عاصم بن أبي جبل. جمهرة أنساب العرب ص 334، الإصابة 2/ 245.

(3)

عويم بن ساعدة الأنصاري الأوسي، شهد العقبة والمشاهد كلها، قال فيه عمر عند موته:(لا يستطيع أحد من أهل الأرض أن يقول إنه خير من صاحب هذا القبر، ما نصب الرسول صلى الله عليه وسلم راية إلا وهو تحت ظلها). أُسد الغابة 4/ 315، الإصابة 3/ 44.

(4)

أبو عامر بن صيفي، واسمه عمرو ويقال عبد عمرو بن صيفي، من بني ضبيعة بن زيد، كان يعرف في الجاهلية بالراهب، عاند الرسول صلى الله عليه وسلم وحسده، وشهد بدراً وأحداً مع قريش، مات بمكة سنة 9 هـ. وابنه عبيد الله رئيس الأنصار يوم الحرة. جمهرة أنساب العرب ص 333، الإصابة 1/ 360.

(5)

عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، سماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله، أخرج له الطبراني حديثاً، لأبيه صحبة. أسد الغابة 3/ 171، الإصابة 3/ 57.

(6)

كُلْثُوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحرث بن زيد بن عبيد الأنصاري الأوسي، أسلم قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ذكر الطبري وابن قتيبة أنه أول من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أُسد الغابة 4/ 495، الإصابة 3/ 305.

ص: 219

أخي بني عبيد بن زيد، وابتنوا السرح.

وكان في رحبة ابن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف أربعة عشر أطماً يقال لها الصياصي.

وبنوا بقباء واقماً كان لأُحَيْحَة بن الجُلاح

(1)

، ثم صار لبني عبد المنذر بن

رِفاعة

(2)

في دية جدهم رفاعة بن زنبر.

وقال عاصم بن سويد

(3)

عن أبيه

(4)

: واقم: أطم لآل بني كنانة، وكذا المَسْكَبَةُ، وابتنوا المستظل، وابتنوا كسر حصين، وابتنوا الحصى

(5)

، وابتنوا عَزَّة، وابتنوا الضَّحْيَان، سلم وعدينة.

وابتنى بنو مجدعة وجحجبا أطماً عند المسجد الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرج بنو معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف

(6)

فسكنوا دارهم التي وراء بقيع الغرقد، التي يقال لها بنو معاوية، وابتنوا أطماً كان موضعه عند

(1)

أُحيحة بن الجلاح بن حريش بن جحجبى، كان شريف قومه في الجاهلية، مات قبل أن يولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ولده من سُمِّيَ بمحمدٍ في الجاهلية رجاء أن يكون هو النبي المبعوث. الإصابة 1/ 24.

(2)

عبد المنذر بن رفاعة بن زنبر بن زبير بن زيد بن أُمية من الأوس، شهد أولاده مبشر ورفاعة بدراً، وأما ولده أبو لبابة فقد استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة حين سار إلى بدر. جمهرة أنساب العرب ص 334، الإصابة 1/ 518.

(3)

عاصم بن سويد بن عامر الأنصاري، إمام مسجد قُبَاء، من كبار أتباع التابعين. التقريب ص 285، برقم 3061.

(4)

سويد بن عامر بن يزيد الأنصاري، من أهل المدينة، وقد سمع الشموس بنت النعمان ولها صحبة. التاريخ الكبير 2/ 2/145، الثقات لابن حبان 4/ 324.

(5)

ذكره في الباب الخامس بلفظ: الخَصِي.

(6)

بطن من الأوس من الأزد من القحطانية، ومنهم جبير بن عوف الصحابي، وقد شهد بدراً. نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 378.

ص: 220

دار عبد الملك بن عبيد المعاوي.

وخرج بنو السميعة

(1)

وهم بنو لوذان بن عمرو بن عوف فسكنوا عند زقاق ركيح، وابتنوا أطماً بِهَا يقال له السعدان، وكان موضعه في الرَّبع، حائط هناك.

ونزل بنو واقف والسَّلْم

(2)

ابنا امرئ القيس بن مالك بن الأوس عند مسجد الفضيخ، فكانا هناك وولدهما.

وابتنى بنو واقف أطماً يقال له الريدان

(3)

، كان موضعه في قبلة مسجد الفضيخ، كان لبني واقف عامة، وله يقول قيس بن رفاعة

(4)

:

وكيف أرجو لذيد العيش بعدهُمُ

وبعد مَنْ قد مَضَى من أهل ريدان

وابتنوا أطماً كان موضعه دبر دار هلال بن أمية الواقفي

(5)

، كان لحنظلة بن

رافع بن توبة/76 الواقفي، ثم إنه كان بين السَّلْم وواقفٍ كلامٌ، فلطم واقفٌ - وكان أكبرَ - عَيْنَ السّلْم - وكان شرساً - فغضب غضباً شديداً، وحلف لا يساكنه أبداً، وخرج فَنَزَل على بني عمرو بن عوف، فلم يزل هو وولده فيهم، وكان من بقية ولده سعد بن خيثمة بن الحارث

(6)

، ثم انقرضوا في

(1)

كانوا يدعون في الجاهلية ببني الصماء، فسماهم الرسول صلى الله عليه وسلم بني السميعة. جمهرة أنساب العرب ص 332.

(2)

وهم حلفاء بني عمرو بن عوف. جمهرة أنساب العرب ص 344.

(3)

تصحفت في الأصل إلى: (الزيدان)، والمثبت هو الصواب، انظر: معجم البلدان 3/ 111 - 112، وفاء الوفا 4/ 1226.

(4)

من بني واقف، ذكره المرزباني في معجم الشعراء ص 177، وقد أسلم، وكان أعوراً. أُسد الغابة 4/ 422، الإصابة 3/ 246.

(5)

هلال بن أُمية الواقفي الأوسي الأنصاري، شهد بدراً وما بعدها، كان أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ثم تاب الله عليهم. أُسد الغابة 5/ 406، الإصابة 3/ 606.

(6)

سعد بن خيثمة بن الحارث الأوسي الأنصاري، يكنى بأبي خيثمة، كان أحد النقباء بالعقبة، استشهد في بدر، واستشهد أبوه في أُحد. أُسد الغابة 2/ 346، الإصابة 2/ 25.

ص: 221

سنة تسع وتسعين ومئة.

وابتنى بنو السَّلْم الحصى شرقي مسجد قباء.

ونزل بنو وائل

(1)

بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس في دارهم التي هم بها اليوم، وابتنوا المَوْجَا والعَذْق، وابتنوا أطماً كان في دار رويفع التي في شرقي مسجد بني أمية، كان لرويفع بن عمرو، وابتنوا أطماً كان موضعه

في عذق مسجد آل صهيب بن سنان

(2)

، كان لعبد الله بن وديعة الأموي

(3)

، وابتنوا أطماً كان موضعه في دار رافع في بني أمية، كان لرافع بن قيس.

ونزل بنو عطية بن زيد بن قيس بصَفْنَة

(4)

، وابتنوا بِهَا شأساً، كان لشاس بن

قيس

(5)

أخي بني عطية بن زيد ووائل وأمية وعطية بنو زيد، هم الجَعَادِر، سُمُّوا به لأنَّهم أجاروا جاراً، وقالوا له: جَعْدِرْ حيثُ شئتَ، أي اذهب حيث شئت فلا بأس عليك، وكذلك القواقل إذا أجاروا جاراً، قالوا له:

(1)

بطن من بني زيد بن قيس، وهم الجعادرة، ومنهم الشاعر صيفي المعروف بأبي قيس بن الأسلت. جمهرة أنساب العرب ص 345.

(2)

صهيب بن سنان: أسلم هو وعمار في دار الأرقم، نشأ بالروم، ثم سُبِيَ وبِيعَ بمكة، كان ممن عُذِّبَ، ثم هاجر مع علي بن أبي طالب، شهد المشاهد كلها، مات سنة 38 أو 39 هـ، وهو في السبعين. أسد الغابة 3/ 36، الإصابة 2/ 195.

(3)

عبد الله بن وديعة الأموي الأنصاري، له صحبة، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أُسد الغابة 3/ 314.

(4)

موضع بالمدينة، وقيل: بقباء. سيأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس.

(5)

شاس بن قيس بن عبادة بن زهير بن عطية بن زيد بن قيس، كان من أشراف الأوس في الجاهلية، وكان شديد الضغن والحسد على المسلمين، كما كان يسعى في الوقيعة بين الأنصار الذين أسلموا. السيرة لابن هشام 2/ 196، جمهرة أنساب العرب ص 346.

ص: 222

قَوْقِلْ حيثُ شئتَ. قال الرَّمَقُ ابن زيد:

وإن لنا بين الجواري وليدة

مقابلة بين الجعادِر والكسر

متى تدع في الزيدين زيد بن مالك

وزيد بن قيس تأتها عزة النصر

والكسر أمية وعبيد وضُبَيْعَة بنو زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف وكان يقال لهم كسر الذهب.

ونزل بنو خَطْمَة، وخطمة هو عبد الله بن جُشَم بن مالك بن الأوس، دارهم المعروفة بِهم، فسكنوها وابتنوا بِهَا الآطام، وغرسوا بِهَا النخل، وابتنوا أطماً يقال له ضع ذَرع.

وابتنى بنو أمية

(1)

بن عامر بن خَطْمَة أطماً كان موضعه في مال الماجشون الذي يلي صدقة أبان بن أبي حُدير كان لأوس بن عدي بن أمية بن عامر بن خطمة.

وابتنى بنو عامر بن غَيَّان بن عامر بن خطمة أطماً يقال له أطم ثابت، كان لثابت بن الفاكه الخطمي

(2)

، وابتنوا أطماً كان في جوف ضَعْ ذَرْع

(3)

، في ناحيته اليمانية، وكان لحميضه بن رقيم الخطمي

(4)

، وابتنوا النّفاع، وابتنوا أطماً لحاطب ابن رفاعة الخطمي على بئر الدَرْك، وكان بنو خطمة متفرقين في آطامهم وأموالهم، ولم يكن في قصبة دارهم منهم أحد.

فلما جاء الإسلام اتَّخذوا مسجدهم،/77 وكان أول من سكن منهم

(1)

في الأصل: (مية) والمثبت من جمهرة أنساب العرب 343.

(2)

من بني جشم، وابنه خزيمة؛ ذو الشهادتين، وزوجته أم خزيمة كبيشة بنت أوس بن عدي ابن عامر بن خطمة. الطبقات الكبرى 4/ 378.

(3)

أطم بالمدينة شبه الحصن. سيأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس.

(4)

حميضة بن رقيم الخطمي الأنصاري، من أوس الله، شهد أُحُداً، وهو أحد الأربعة الذين لم يُسلم من أوس الله غيرهم. الإصابة 1/ 357.

ص: 223

رجل ابتنى عند المسجد بيتاً فكانوا يتعاهدونه كل غداة ويسألون عنه مخافة أن يكون السَّبْعُ عدا عليه من الليل، ثم كثروا في الدار حتى كان [يقال]

(1)

لها غزة

تشبيهاً بغزة الشام من كثرة أهلها.

ونزل بنو الحارث بن الخزرج دارهم المعروفة بِهِم، وابتنوا بِهَا أطماً بين دار خَلاَّد بن سويد

(2)

وخلاد بن السائب

(3)

، كان لبني امرئ القيس بن مالك

(4)

.

وخرج جشم وزيد ابنا الحارث بن الخزرج، وهما التوأمان حتى سكنا السُّنْح، وابتنوا أطماً يقال له السُّنْح، وبه سميت تلك الناحية السُّنْح، ويقال بل اسمه الريان.

ونزل عِنَبَة بن عمرو بن خديج بن عامر بن جُشَم بن الحارث بن الخزرج

(5)

الشوط، وكوم الكومة التي يقال لها كومة أبي الحمراء، ثم رجعوا في السُّنْح.

ونزل بنو خُدَارَة

(6)

بن عوف بن الحارث بن الخزرج الدار التي يقال لها جرار سعد

(7)

، فابتنوا بِهَا وسكنوا وابتنوا واسطاً.

(1)

الزيادة يقتضيها السياق.

(2)

خلاد بن سويد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، جد خلاد بن السائب الآتي ذكره شهد العقبة وما بعدها، واستشهد في غزوة بني قريظة. أُسد الغابة 2/ 142، الإصابة 1/ 454.

(3)

خلاد بن السائب بن خلاد بن سويد الأنصاري الخزرجي، كانت له ولأبيه وجده صحبة. الإصابة 1/ 454.

(4)

ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث. جمهرة أنساب العرب ص 363.

(5)

جمهرة أنساب العرب 361.

(6)

وقيل: جدارة. الاشتقاق ص 269.

(7)

جرار سعد: موضع بالمدينة كان يَنصُبُ عليه سعد بن عبادة جراراً يُبَرِّدُ فيه الماء لأضيافه. معجم البلدان 2/ 117.

ص: 224

ونزل بنو الأبْجر

(1)

بن عوف دارهم وابتنوا بِهَا الأجرد.

ونزل سالم وغنم ابنا عوف بن عمرو بن عوف الدار التي يقال لها دار بني سالم وابتنوا المُزْدَلِف، وابتنوا أذْبَلَ والشماخَ والقواقلَ، وأطماً آخر.

ونزل بنو غصينة -وهم حي من بَلِيّ حلفاء لبني سالم- الدار التي يقال لها دار بني غصينة عند مسجد بني غصينة.

ونزل بنو الحُبْلَى، بلفظ المرأة الحُبْلَى، واسمه مالك بن سالم بن غَنْم بن عوف ابن عمرو بن عوف بن الخزرج

(2)

الدار التي يقال لها بنو الحُبْلَى، فابتنوا بِهَا مُزَاحِمَاً، وأطماً آخر كان بين مال عمارة بن نعيم البياضي وبين مال ابن زمانة

(3)

كان لبني وديعة بن قيس الحبلي، وابتنوا أطماً آخر في جوف بيوت بني الحُبْلَى كان لآل رفاعة بن أبي الوليد

(4)

.

ونزل بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة

(5)

بن تزيد بن جُشَم بن الخزرج

(6)

، ما بين مسجد القبلتين إلى المذاد في سَنَدِ تلك الحرة، وكانت دارهم تلك تسمى خُرْبَى فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم صُلْحَةً.

(1)

الأبجر بن عوف: وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج بن حارثة، شقيق خُدَارة ابن عوف. جمهرة أنساب العرب ص 362.

(2)

جمهرة أنساب العرب ص 354.

(3)

تحرفت في الأصل إلى: (بن مانه).

(4)

رفاعة بن عمرو بن زيد الأنصاري الخزرجي، شهد العقبة وبدراً واستشهد في أُحد، يكنى بأبي الوليد، ويعرف بابن أبي الوليد، لأن جده زيد بن عمرو يكنى بأبي الوليد. أُسد الغابة 2/ 232، الإصابة 1/ 519.

(5)

تصحفت في الأصل إلى: (شاردة).

(6)

جمهرة أنساب العرب ص 358.

ص: 225

ونزل بنو سواد بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد القبلتين إلى أرض ابن عبيد الديناري ولهم مسجد القبلتين، وابتنوا الأغلب وخيطاً ومنيعاً.

ونزل بنو عبيد بن عدي بن غنم عند مسجد الخربة الذي يقال له جبل الدويْخل جبل بني عبيد، ولهم مسجد الخربة وابتنوا لهم الأشنف حبيشاً والأطول.

ونزل بنو حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد بني حرام

الصغير الذي بالقاع، بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك

(1)

فصارت لحزام بن عثمان، والأرض /78 التي كانت لمعبد بن مالك، فصارت لسلمة بن نافع مولى الجهنيين، وكانوا بين مقبرة بني سلمة إلى المَذَاد، وابتنوا المذاد، سميت تلك الناحية المذادية، وابتنوا جَاعِساً وأطماً آخر لم يعرف له اسم.

وابتنى بنو مري بن كعب بن سلمة، وهم حلفاء بني حرام أطم الأخنس.

وأما الأربعة

(2)

آطام بين المذاد والدويْخل، وتسمى أعماد، فبعضها لبني حرام وبعضها لبني عبيد، وكان بنو سلمة في دارهم تلك وكلمتهم واحدة، حتى دخل بين بني حرام وبين بني عبيد أمر، فظاهرت بنو سواد بن عبيد على بني حرام، وذلك أن بطون بني سلمة كلهم مَلَّكُوا عليهم أمة بن حرام، فلبث فيهم زمانا حتى هلك رجل من بني عبيد يقال له أميَّة بن خنساء بن عبيد، وترك أموالاً كثيرة من نَخل، ولم يترك غير غلام واحد يقال له صخر بن أمية،

(1)

جابر بن عتيك: وقيل جبر، الأوسي الأنصاري، من بني معاوية، شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت معه راية بني معاوية عام الفتح، توفي سنة 61 هـ، وعمره 91 سنة. أُسد الغابة 1/ 309، الإصابة 1/ 214.

(2)

في الأصل: (أربعة).

ص: 226

فأراد أمة بن حرام أن ينتزع من صخر بن أمية طائفة من أموالهم التي ترك أبوه فيقسمها في بني سلمة، وقال: إنه يكفي هذا الغلام بعض ما ترك أبوه، فَكَلَّمَهُ صخر بن أمية وعظم ذلك عليه، فقال له أمَة: أنت الغلام فرد، وهذا المال كثير يكفيك بعضه، فمشى صخر في بني عبيد وبني سواد فشكى ذلك إليهم، وقال: ما كان لأمة أن يأخذ مالي وإن كنت عنه غنياً، وكان غيري أفقر إليه، لِئَن أمةُ أجمع على قسم أموال أمية بن خنساء لأضربنه بالسيف، وسألهم أن يمنعوه إذا هو ضربه فأطاعوا له بذلك، ومضى أمة للذي أجمع عليه من قسمة أموال أمية بن خنساء، فأخذ بعض حوائطه لنفسه، وجمع لذلك بني سلمة، فقام إليه صخر وهو مشتمل على السيف فناشده أن لا يفعل فأبى عليه، فضربه صخر بالسيف ضربة على حبل عاتقه فقطع حبل العاتق، وقامت دونه بنو عبيد وبنو سواد تَمنعه، فلم يستطع أمة ولا حرام إليه سبيلاً، فنذر أمة أن لا يوريه ظل بيت ما عاش هو وصخر حتى يقتل بنو سلمة صخراً، أو يأتوه به فيرى فيه رأيه، وجلس أمة عند الغرب فوق مسجد الفتح مما يلي الجُرف في الشمس، فمرت به وليدة حطابة فقالت: مالك يا سيدي هاهنا في الشمس؟ فقال:

إن قومي أجمعوا لي أمرهم

ثم نادَوا ليَ صَخْرَاً فضرب

إنني آليت أن لا يستُرني

بيت من حَرُورٍ ذي لهب

أبداً ما دام صخر آمنا

بينهم يمشي ولا يخشى عطب

/79 فذهبت الجارية فأخبرَتْهُم بِما قال أمة، فربطوا صخراً ثم أتوه به، فعفا عنه، وأخذ الذي كان يريد أن يأخذ من أمواله، فهذا شأن ما دخل بين بني سلمة.

قال الزبير: ونزل بنو بياضة، وبنو حارثة، وبنو كعب بن مالك، وبنو عامر بن مالك، وبنو معاوية بن مالك، دار بني بياضة، فابتنى بنو عطية بن عامر بن بياضة الأطم الأسود الذي في شمالي أرض فراس بن ميسرة، كان في

ص: 227

الحرَّةِ فهُدِم وأُخِذَتْ حجارتُهُ، فهنالك كومة كانت لعاصم بن عامر بن عطية، ولهم كانت أرض فراس، وابتنوا عقرباً، وابتنى بنو عمرو بن عامر بن زريق العِقْيَان.

وابتنى بنو مالك بن عامر بن بياضة سويداً، وابتنى بنو عبيد بن عامر اللواء في السرارة، وابتنى بنو حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الأُطم الذي في أدنى بيوت بني بياضة، وكان أطماً انتزعت حجارته، وكان لآل صخر بن سلمان الشاعر فجميع ما أحصينا في دار بني أمية ثلاثة عشر أطمًا سوى

أطم بني عمرو بن لابن

(1)

.

وقيل: كان في بني بياضة تسعة عشر أطماً فلبثت بنو غضب بن جُشَم بن الخزرج في دار بني بياضة، وكلمتهم واحدة وأمرهم جميع، ثم إن زريق بن عامر هلك فأوصى ببنيه إلى عمه حبيب بن عبد حارثة، وكان يكلفهم النَّضْحَ، فلما اشتد عليهم النَّضْحُ عَدَوا على عمات عم أبيهم فقتلوه، فلبثت بنو حبيب وبنو زريق ما شاء الله، ثم إن بني حبيب بن عبد حارثة حالفوا بني بياضة لينصروهم على بني زريق، فخافت بنو زريق أن يكثروهم، وكانت بنو بياضة ذلك الزمان أثرى من زريق، فخرجوا من دار بني بياضة حتى حَلُّوا دارهم التي هم بها اليوم، فابتنى بنو خلدة بن عامر بن زريق الريان.

وابتنى بنو عوف المجن، وكان لبني زريق أطمان آخران [يقال]

(2)

لهما: ملحمة ومليحم، وكان يقال لبني مخلد بن عامر في الجاهلية أرباب الدور، لأنَّهم كانوا في البيوت والدور، وكان أكثر بني زريق وأعدَّه وأمنعه، وأقام بنو عمرو بن عامر بن زريق مع بني بياضة، وابتنوا هنالك أطماً سموه العِقْيَان

(1)

هكذا في الأصل. ووضع الناسخ عليها علامة توقف.

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 228

أيضاً، حتى انتقل رافع بن مالك هو وولده قبيل الإسلام فسكنوا طرف السبخة ما بين الأساس إلى طرف السبخة إلى الدار التي بها مسكن إسحاق بن عبيد بن رفاعة التي كانت تسكن زربابة فأقاموا فيها، وكان يقال لرافع بن مالك

(1)

الكامل لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون للرجل إذا كان كاتباً شاعراً الكامل.

وانتقل سائر بني عمرو بن عامر بعد ذلك /80 فاشتروا من بني عَوْف بن زُرَيْق دورهم وحصونَهم، وخرجت بنو عوف بن زُرَيْق قبل الإسلام إلى الشام، فيزعمون أن هنالك ناساً منهم.

ولبثت بنو بَيَاضَة وبنو حبيب زماناً لا يقاتلون بني زُرَيْق، والرسل تَجري بينهم، وبنو زُرَيْق يدعونَهم إلى الصلح، ويعرضون عليهم الدية، ثم إن بني زُرَيْق أرسلوا إلى بني حبيب يعرضون عليهم أن يقطعوا لهم طائفة من ديارهم وأموالهم، فقبلوا ذلك منهم، ووضعوا الحرب فيما بينهم، فكان الذي ودت بنو زُرَيْق لبني حبيب الناحية التي فيها دار ابن المعلى

(2)

ودار أبي عياش الزُرقي

(3)

ودار سعيد ودار أم عمرو ابنة سعيد، وتلك الناحية، فلذلك يسمى الزقاق الذي بين دار سعيد ودار أم عمرو زقاق الدِّيَة.

وانتقل بنو مالك بن زيد بن حبيب بن عبد حارثة من بني بَيَاضَة إلى الناحية التي وَدَتْ بنو زُرَيْق، فسكنوها، وابتنوا بِهَا أطم المعلا، وهو عند دار

(1)

رافع بن مالك بن العجلان الأنصاري، من بني زريق، شهد العقبة، وكان أحد النقباء، أول من أسلم من الخزرج، لم يشهد بدراً. الإصابة 1/ 499.

(2)

ابن المعلى، الأنصاري، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل في ترجمته: إنه رجل من الأنصار لا يعرف اسمه عند أكثر العلماء، وقيل: زيد بن المعلى، سكن الكوفة. الإصابة 4/ 182.

(3)

أبو عياش الزرقي، الأنصاري، اسمه زيد بن الصامت، ويقال: ابن النعمان، ويقال: عبيد ابن معاوية أو عبد الرحمن، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن سعد: إنه شهد أحداً وما بعدها، ويقال: إنه عاش إلى خلافة معاوية. أسد الغابة 4/ 142.

ص: 229

المعلا، وكانت بقية بني مالك بن زيد اللات بن حبيب بنو المعلا بن لوذان بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بن عدي بن مالك بن زيد اللات، وهم الذين ابتنوا ذلك الأطم، وتَخَلَّفَ بنو الصِّمَّةِ

(1)

بن حارثة بن الحارث بن زيد اللات بن حبيب بن عبد حارثة في بني بَيَاضَة في أطمهم، وهم رهط صخر بن سلمان بن الصِّمَّة بن حارثة الشاعر، ولبثت بنو المعلا بن لوذان في بني زُرَيْق ما شاء الله أن يلبثوا، ثم إن عبيد ابن المعلا قَتَلَ حصن بن خالد بن مخلد بن عامر بن زُرَيْق، فأراد بنو زُرَيْق أن يقتلوا عبيداً، ثم بدا لهم أن يدوا حصناً من أموالهم عن عبيد على أن يُحَالِفَهُم بنو المعلا، ويقطعون ما بينهم وبين بني بَيَاضَة من الحلف، فودوا حصناً، وتركوا عبيداً، وحالفهم بنو المعلا دون بني بَيَاضَة، فهذا شأن بني زُرَيْق وبني بَيَاضَة وحلف بني المعلا بني زُرَيْق وانتقالهم إليهم، وكان عامر بن زُرَيْق بن عبد حارثة أبا بني زُرَيْق وبني بَيَاضَة حين حضرته الوفاة أوصى ابنه بالصبر في الحربِ وشدةِ البأسِ، وأوصاه بأخيه زُرَيْق وكان أصغرهما، فقال بعض شعرائهم في ذلك:

بالصَّبْرِ أوْصَى عَامِرٌ بَيَّاضَهْ.

وكانت الثروة من بني مالك بن غضب بن جُشَم بن الخزرج في بني بَيَاضَة، ويقال للأوس والخزرج: أبطأهم فَرَّةً وأسرعهم كَرَّةً بنو بَيَاضَة، وبنو زُرَيْق، وبنو ظَفَر

(2)

، وأن الأوس والخزرج لم يلتقوا في موطن قط إلا كان لهذه القبائل فضل بَيِّنٌ /81 على غيرهم من بطون الأوس والخزرج.

فأما بنو عرارة بن مالك بن غضب بن جُشَم بن الخزرج -واسم عرارة

(1)

تحرفت في الأصل إلى: (الطبة).

(2)

بنو ظفر: بطن من بني النبيت من الأوس من القحطانية، وظفر هو كعب بن الخزرج بن عمرو ومنهم قتادة بن النعمان الصحابي الجليل الذي رد الرسول صلى الله عليه وسلم أحد عينيه يوم أحد. نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 298.

ص: 230

كعب- وهم رهط عمارة بن نعيم بن عبدة بن ثعلبة، فإنَّهم حين فارقوا بني بَيَاضَة وسكنوا قباء، كانوا قوماً ذوي شراسة وشدَّةِ أنفس، وكانوا أقل بطون بني مالك بن غضب عدداً، وأنَّهم قتلوا قتيلاً من بعض بطون بني مالك بن غضب، فسألهم بنو عرارة أن يقبلوا في صاحبهم الدِّيَةَ، فأبوا إلا أن يعطوهم قاتل صاحبهم ليقتلوه، فأبى بنو عرارة أن يعطوهم ذلك، فمشى أصحاب القتيل إلى بَيَاضَة، فسألوهم أن يعينوهم على بني عرارة حتى يعطوهم قاتل صاحبهم، وكلمتهم بنو بَيَاضَة في ذلك فأبوا أن يُخلوا بينهم وبينه، فأرادت

(1)

بنو بَيَاضَة أن يأخذوه عنوة، فيدفعوه إلى صاحب القتيل، فخرجوا من ديار بني بَيَاضَة حتى نزلوا على بني عمرو بن عوف فحالفوهم، وامتنعوا من بني بَيَاضَة، وتزوج نعيم بن عبدة خولة بنت عبيد بن ثابت البلوي حليف بني أمية بن زيد بن مالك، فولدت له عمارة بن نعيم، وتزوج عمارة بن نعيم جميلة بنت مجمع بن حارثة بن عامر بن العطاف، فولدت له سليمان ويحيى وعمران، ثم تزوج عويم بن ساعدة أخو بني عمرو بن عوف أُمامة بنت مكثر بن ثعلبة، فولدت له عتبة

(2)

وعميراً

(3)

ابني عويم بن ساعدة، ثم إنه دخل بين بني عمرو ابن عوف وبين بني عرارة قبيل الإسلام أمر، ادَّعَى بنو عرارة أنَّهم أساؤوا جوارهم فيه، فأجمعوا أن يُخرجوهم من عندهم، وينتقلوا إلى بني زُرَيْق، وكرهوا أن

يرجعوا إلى بني بَيَاضَة للذي كان بينهم، فخرجوا حتى جاؤوا بني زُرَيْق فمشوا إليهم

(1)

في الأصل: (فأردت) وهو خطأ.

(2)

عتبة بن عويم بن ساعدة، الأنصاري، مختلف في صحبته قيل: بأنه شهد بيعة الرضوان وما بعدها. وقيل غير هذا. أسد الغابة 3/ 564، الإصابة 2/ 455.

(3)

عمير بن عويم بن ساعدة، ذكره ابن عبد البر وقال: يعد من الكوفيين. وذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في القسم الرابع من الإصابة: (وهم الذين ذكروا في الصحابة على سبيل الوهم والغلط). الإصابة 3/ 181، وفي أسد الغابة 4/ 298 اسمه عمير بن تويم.

ص: 231

بأرحامهم وذكروا لهم الذي كان بينهم وبين بني عمرو بن عوف، والذي أجمعوا عليه من النقلة إليهم، فلقوهم بِما يُحبُّونَ، وسَدَّدوا لهم رأيهم في ذلك، وأتوا أبا عبادة سعد

(1)

بن عثمان بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زُرَيْق، فذكروا له الذي ذكروا لبني زُرَيْق، فرحب بِهم وذكر شرفهم وفضلهم في قومهم، ثم قال: إني أشير عليكم أن ترجعوا إلى أخوالكم، ولا تنتقلوا إلى بني زُرَيْق، فإنكم قوم في أخلاقكم شَرَاسَةً، وفي أخلاق بني زُرَيْق مثلها، وأنا أخاف عليكم إذا انتقلتم إن كان بينكم وبينهم مقاولة أن يؤذوكم في أنسابكم ويَحْسَبون أنكم دافَة

(2)

دُفَّتْ عليهم، بعد أن يَدْرُسَ أمركم، ويُجهل من أنسابكم وأرحامكم ما يُعرف، فليس مكان خير من مَنْزِلكم الذي أنتم به، فارجعوا إلى أخوالكم فصالحوهم،/82 فتفرقوا عن رأيه وقبلوا مشورته، ورجعوا إلى بني عمرو بن عوف فصالحوهم، فلم يزالوا معهم حتى فرض المهدي

(3)

للأنصار في سنة ستين ومئة فانتقلوا بديوانِهم إلى بني بَيَاضَة.

وكان بطنان من بطون بني مالك بن غضب ممن كان مع بني بَيَاضَة في دارهم، كان بينهم ميراث في الجاهلية، فاشتجروا

(4)

فيه، وادعاه بعضهم دون بعض، فلما رأوا أَنَّهُم لا يستقيمون فيه على أمر تداعوا إلى أن يدخلوا حديقة كانت في بني بَيَاضَة، فيقتتلوا فيها، فدخلوها جميعاً [و] أغلقوها حتى لم تبق منهم عين تطرف، فَسُميت تلك الحديقة حديقة الموت، وكان بنو مالك بن غضب

(1)

تحرفت في الأصل إلى: (سعيد بن عثمان بن خالد). والتصحيح من (جمهرة أنساب العرب) ص 357.

(2)

الدَّافَّةُ: هي الجماعة من الناس تُقبلُ من بلد إلى بلد. اللسان (دفف) 9/ 105.

(3)

المهدي، أبو عبد الله محمد بن المنصور ثالث خلفاء بني العباس، كان جواداً، محبباً إلى الرعية، تتبع الزنادقة وأفنى منهم خلقاً كثيراً، مات سنة 169 هـ. تاريخ الخلفاء ص 313.

(4)

تحرفت في الأصل إلى: (فاستخرجوا).

ص: 232

سوى بني زُرَيْق ألف مقاتل في الجاهلية.

وافترقت بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج في أربعة منازل، فَنَزَل بنو عمرو وبنو ثعلبة ابنا الخزرج بن ساعدة دار بني ساعدة التي بين السوق وبين بني ضمرة

(1)

، فابتنوا أطماً يقال له مُعْرِض، وابتنوا أطماً في دار أبي دجانة

(2)

الصغرى

(3)

التي عند بضاعة، كان لبني ثعلبة بن الخزرج، رهط أبي دجانة.

قال: ونزل بنو قشبة ـ واسم قشبة عامر بن الخزرج بن ساعدة ـ قريباً من بني حُدَيْلة وابتنوا أطماً يقال له أطم بني قشبة، وهو الأطم الذي عند خوخة عمرو ابن أميه الضَّمْري

(4)

.

ونزل بنو أبي حَزيْمَة

(5)

بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة، وهم رهط سعد بن عبادة بن دُلَيم

(6)

الدار التي يقال لها جِرَارُ سعد، فابتنوا الأطم الذي يقال له واسطة.

(1)

بنو ضمرة: بطن من كنانة من العدنانية، وهم بنو ضمرة بن بكر بن عبد مناة، منهم عمرو بن أمية الضمري. نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 293.

(2)

أبو دجانة: سماك بن خرشة البياضي الأنصاري، صحابي جليل، شهد بدراً وأحداً وجميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من الشجعان. استشهد يوم اليمامة. أسد الغابة 2/ 451، الإصابة 4/ 58.

(3)

تحرفت في الأصل إلى: (العصرى).

(4)

عمرو بن أمية الضمري بن خويلد الكناني، يكنى أبا أمامة، هاجر الهجرتين، وأول مشاهده بئر معونة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه في أموره. توفي في آخر أيام معاوية قبل الستين. أسد الغابة 4/ 194، الإصابة 2/ 524.

(5)

هكذا في الأصل والقاموس (حَزم) ص 1093: بفتح الحاء المهملة، وقال جد لسعد بن عبادة، وفي الإصابة 2/ 30: خزيمة بالخاء المعجمة.

(6)

سعد بن عبادة بن دليم الساعدي الأنصاري، نقيب بني ساعدة، كان سيداً جواداً، كريماً، ذا رياسة وسيادة في قومه. أسد الغابة 4/ 194، الإصابة 2/ 30.

ص: 233

ونزل بنو رقيش وبنو عنان ابنا ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الدار التي يقال لها بنو ساعدة، ويقال لها أيضاً بنو طريف، وهي بين الحماضة وبين جرار سعد، وابتنى بنو عنان تيساً

(1)

وابتنى بنو رقيش أطماً كان بين ظهراني البيوت.

ونزل بنو مالك بن النجار دارهم المعروفة بِهم، فابتنى بنو غنم بن مالك فويرعاً، وابتنوا أطماً آخر كان موضعه بين دار عامر بن ربيعة

(2)

ودار أبان بن عثمان

(3)

كان لآل النعمان بن إساف بن نضلة، ويقال بل كان للضحاك

(4)

بن زيد بن لوذان.

وابتنى بنو مَغَالة وهم بنو عدي بن عمرو بن مالك بن النجار فارعاً

(5)

، وقد يسمى بالبيضاء.

وابتنى بنو حُدَيلة وهم بنو معاوية بن عمرو بن مالك مسعطاً

(6)

، وابتنوا

(1)

تيس، بلفظ فحل المِعْزَى: أطم سيأتي ذكره في الباب الخامس.

(2)

عامر بن ربيعة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السابقين الأولين، هاجر إلى الحبشة ومعه امرأته، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدراً وما بعدها، استخلفه عثمان على المدينة لما حج. مات سنة سبع وثلاثين. أسد الغابة 3/ 121، الإصابة 2/ 249.

(3)

أبان بن عثمان بن عفان الأموي، المدني، أبو سعد، كان ثقة فقيهاً، عالماً بالقضاء، سمع أباه وزيد بن ثابت، حدث عنه عمرو بن دينار، والزهري، وجماعة، ولي إمارة المدينة سبع سنين، توفي سنة 105 هـ. التاريخ الكبير 1/ 450، سير أعلام النبلاء 4/ 351، شذرات الذهب 1/ 131.

(4)

الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمر بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، جد الصحابي الجليل زيد بن ثابت. الإصابة 1/ 561.

(5)

في الأصل: (فارغاً)، وهو تصحيف.

(6)

هكذا في الأصل بالسين المهملة، وذكره المؤلف في الباب الخامس بالشين المعجمة (مشعط) بكسر الميم، وضبطه البكري في معجم ما استعجم 2/ 1226 بضم الميم على لفظ الذي يسعط به، أي: بالسين المهملة.

ص: 234

أطماً آخر في الدار التي يقال لها دار الأطم في بني حُدَيلة.

وابتنى بنو مبذول ـ واسمه عامر بن مالك بن النجار ـ فلجاً، وابتنوا أطماً آخر كان في دار سرخس مولى الزبير الدنيا التي إلى بقيع الزبير كان لآل عبيد بن النعمان.

/83 وابتنوا أطماً آخر كان في دار آل حُيي بن أخطب

(1)

، كان لبني مالك ابن مبذول.

ونزل بنو عدي بن النجار دارهم المعروفة بِهم، نزلوها وبِهَا الأطم الذي يقال [له] الأشعر، وهو الأطم الذي في قبلة مسجد بني عدي، وابتنوا أطماً يقال له أطم الزاهرية، كان في دار النابغة عند المسجد الذي في الدار، كان لمالك بن عدي، وكان قد جعل فيه امرأته الزاهرية، وولدت له فيه، فلذلك سُمِّيَ أطم الزاهرية.

ونزل بنو مازن بن النجار دارهم المعروفة بِهِم، وابتنوا واسطاً، وأطماً آخر قريباً من بيت حسن بن النضر الليثي.

ونزل بنو دينار بن النجار دارهم التي خلف بطحان، ويقال لها بئر دينار، وابتنوا الْمُنِيفَ، وقيل إنَّهم نزلوا في الجاهلية في موضع دار أبي جهم بن حذيفة العدوي

(2)

، ويحكى أنه كانت امرأة منهم كان لها سبعة إخوة، فوقفت على بئر

(1)

حُيَيّ بن أخطب، من بني النضير، كان من أحبار يهود، ناصب الرسول صلى الله عليه وسلم العداوة والبغضاء. السيرة النبوية لابن هشام 2/ 155، تاريخ الإسلام للذهبي، قسم المغازي ص 159 - 284.

(2)

أبو الجهم ابن حذيفة، واسمه عامر، وقيل: عبيد من مسلمة الفتح، كان من معمري قريش ومن مشيختهم، وعالماً في نسبهم، حضر بناء الكعبة مرتين حين بنتها قريش، مات في آخر خلافة معاوية، وقيل: تأخر إلى أول خلافة ابن الزبير. أسد الغابة 3/ 120، الإصابة 4/ 35.

ص: 235

لهم في دار أبي جهم، ومعها مِدْرَى

(1)

لها من فضةٍ فسقط من يدها في البئر، فصرخت بأخوتِها، فدخل أولهم يُخرجه، فأسر، فاستغاث ببعض أخوته حتى دخلوا جميعاً، فماتوا في تلك البئر فقالت ترثيهم:

إخوتي لا تبعدوا بدار

بلى واللات قد بعدوا

كل من يمشي بتربتها

وارد الماء الذي وردوا

لو تَملتهم عشيرتُهم

لاصطناع العرف أو ولدوا

هان من بعض التذكر

أو هان من بعض الذي أجد

قال: ونزل بنو الشطية حين قدموا من الشام ميطان، فلم يوافقهم، فَنَزَلوا قريباً من جُذْمَان، فابتنوا هنالك أطماً يقال له أطم بني الشطية، ثم تحولوا فَنَزَلوا براتج، وكانت الآطام حصنَ المدينةِ وحسنَها.

قال الزبير مسنداً عن عبد الله بن حارثة

(2)

قال: أقامت الأوس والخزرج واتَّخذوا الآطام والأموال وكلمتهم واحدة، وأمرهم جميع، ثم دخلت بينهم حروب عظام، وكانت لهم أيام ومواطن، فلم تزل تلك الحروب بينهم حتى بَعَثَ الله تعالى رسولَهُ صلى الله عليه وسلم، فأكرمهم الله تعالى باتباعه، وكان يعرض نفسه على القبائل في مواسم العرب، فيأبونه، ويقولون: قوم الرجل أعلم به، حتى سَمِعَ بنفر من الأوس قدموا من يثرب في المنافرةِ التي كانت بينهم، فأتاهم في رحالهم، فقالوا: من أنت؟ فانتسب لهم، وأخبرهم خبره، وقرأ عليهم القرآن، وذكر لهم أحواله، وسألهم أن يُؤووه ويَمنعوه حتى يُبلِّغ رسالات ربه، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا:/84 والله هذا صادق، وإنه للنبي الذي يذكره أهل الكتاب، ويستفتحون به عليكم، فاغتنموه وآمنوا به، فقالوا: أنت رسول الله قد

(1)

المِدْرَى: المشط. القاموس (درى) ص 1282.

(2)

عبد الله بن حارثة بن النعمان الأنصاري، كان أبوه من كبار الصحابة، ولعبد الله صحبة. أسد الغابة 3/ 8، الإصابة 2/ 293.

ص: 236

عرفناك، وآمنا بك، وصدقناك، فمرنا بأمرك فإنا لن نعصيك، فَسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يختلف إليهم، ويزدادون فيه بصيرة، ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوا قومهم إلى دينهم، فسألوه أن يرتحل معهم، فقال: حتى يأذن لي ربي، فلحقوا بأهاليهم المدينة، ثم شَخَصُوا إليه في الموسم، وكان من أمر العقبة ما كان

(1)

.

ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمكة وَخَرَّجَ إليهم ناس من المهاجرين، ثم شَخَصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإذن من الله تعالى، ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة

(2)

، وابن أريقط

(3)

أخو بني عبد بن عدي بن الدئل ابن بكر رضي الله عنهم، وهو دليلهم وهو مشرك فأجاز بِهم في أسفل مكة، ثم مضى بِهما حتى جاء بِهما الساحل أسفل من عُسْفَان، ثم عارض الطريق على أمَجَ، ثم نزل من قُدَيْد خيام أم معبد

(4)

الخزاعية، ثم على الخَرَّار

(5)

، ثم أجاز على ثنية المُرَّة، ثم أخذ لِقْفَاً، ثم استبطن مدلجة مجاح، ثم سلك ملح عَرْج، ثم مَرْجِح ذي

(1)

انظر: سيرة ابن هشام 2/ 79.

(2)

عامر بن فهيرة التميمي مولى أبي بكر الصديق، وأحد السابقين كان يعذب في الله، هاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى المدينة، اشتراه أبو بكر وأعتقه وكان حسن الإسلام، استشهد ببئر معونة. أسد الغابة 3/ 136، الإصابة 2/ 256.

(3)

ابن أريقط، ويقال: أريقد بالدال، ويقال: بالقاف بصيغة التصغير الليثي ثم الدئلي. دليل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لما هاجرا إلى المدينة، ثبت ذكره في الصحيح، وأنه كان على دين قومه ولم يعرف إسلامه. سيرة ابن هشام 2/ 126، الإصابة 2/ 274.

(4)

أم معبد، اشتهرت بكنيتها، واسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية الكعبية، صحابية، وهي التي نزل عليها النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة، قدمت المدينة فأسلمت وبايعت. أسد الغابة 7/ 396، الإصابة 4/ 468.

(5)

هناك اختلاف في أسماء هذه المنازل. انظره عند (ابن هشام) 2/ 132، وعلى طريق الهجرة ص 254 - 256.

ص: 237

العضوين، ثم بطن كَشْر، ثم أخذ الأجرد، ثم سلك ذا سلم، ثم بطن اعداء مدلجة تِعْهِن، ثم العُنَابة، ثم أجاز القَاحَةَ، ثم هبط العَرْج، ثم سلك نقباً يقال له الغاير عن يمين رَكُوبَة، ثم طلع بطن ريم، حتى قدم المدينة على بني عمرو بن عوف بظاهر قباء

(1)

على كلثوم بن الهدم، وهو أحد بني زيد بن

مالك، فأقام فيهم اثنتين وعشرين ليلة.

وعن مشيخة بني عمرو بن عوف، أنَّه نزل على كلثوم

(2)

وهو مشرك

(3)

، وأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة

(4)

.

وعن ابن جريج

(5)

: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد بن خيثمة

(6)

في بني عمرو بن عوف

(7)

وأقام فيهم ثلاثاً

(8)

.

(1)

سيرة ابن هشام 2/ 133.

(2)

اتفق على ذلك: ابن إسحق، وموسى، والواقدي. انظر: الاستيعاب 3/ 315، فتح

الباري 7/ 244.

(3)

جزم بهذا محمد بن الحسن بن زبالة، كما في فتح الباري 7/ 244. قال ابن عبدالبر في

الاستيعاب 3/ 315: أسلم كلثوم قبل نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.

(4)

«وأقام في بني عمرو

» رواه البخاري، في حديث طويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه، في مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، رقم:3932.

(5)

عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، مات سنة خمسين أو بعدها. التقريب ص 363، برقم 4193.

(6)

سعد بن خيثمة بن الحارث الأنصاري الأوسي، أحد النقباء بالعقبة استشهد يوم بدر. الإصابة 3/ 76.

(7)

رواه يحيى الحسيني في أخبار المدينة، عن محمد بن إسماعيل بن مجمع. كما في وفاء

الوفا 1/ 245. قال رزين: والأصح أنه صلى الله عليه وسلم نزل على كلثوم بن

الهدم. قال الحاكم: وهو الأرجح.

(8)

بل أقام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة ليلة، كما في حديث أنس رضي الله

عنه. أخرجه البخاري، في مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم

وأصحابه إلى المدينة، رقم:3932.

وانظر في فتح الباري 7/ 244 أقوالاً أخرى في مدة مكثه صلى الله عليه وسلم في بني

عمرو بن عوف.

ص: 238

وعن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة

(1)

: أنه نزل على سعد ولم يقم فيهم إلا يومين، ويزعم بنو

(2)

عمرو أنه قد مَكَثَ فيهم أكثر من ذلك في شهر ربيع الأول يوم الاثنين لليلتين خلتا منه

(3)

.

وقال ابن شهاب

(4)

: للنصف منه

(5)

.

ويُروى أنه لما نزل على كلثوم بن الهدم، صاح كلثوم بغلام له: يا نجيح

(6)

، فقال صلى الله عليه وسلم:«أنجحت يا أبا بكر»

(7)

.

(1)

يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، أحد بني سلمة من الخزرج، حليف بني مخزوم. مات سنة 162 هـ. الطبقات الكبرى القسم المتمم ص 409.

(2)

في الأصل بني.

(3)

لم أقف عليه بهذا السند، وهو معضل، لكن روي عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، ولبث فيهم بضع عشرة ليلة.

أخرجه البخاري في حديث طويل، في مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، رقم:3906. وانظر: تاريخ الطبري 2/ 383.

(4)

محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه، مات سنة خمس وعشرين ومئة. التقريب ص 506.

(5)

فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7/ 287.

(6)

نجيح: غلام كلثوم بن الهدم، ذكر في الصحابة وتفاءل الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه لما نزل على كلثوم بن الهدم. الإصابة 3/ 552.

(7)

أخرجه ابن شبة، من طريق عبدالعزيز بن عمران، عن محمد بن عمرو بن مسلم، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن يزيد بن حارثة، مرفوعاً. وكذا أخرجه أبو سعيد النيسابوري في شرف المصطفى. كما في الإصابة 6/ 334 (ترجمة نجيح غلام كلثوم بن الهدم). في سنده: عبدالعزيز بن عمران: متروك.

ورواه محمد بن الحسن بن زبالة، عن محمد بن عبدالرحمن، عن إسحق بن إبراهيم بن حارثة، عن أبيه. كما ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة 6/ 334، والفتح 7/ 260. وابن زبالة: كذبوه.

ص: 239

وعن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن ثابت

(1)

قال: نزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن خيثمة، وأخذ من كلثوم بن الهدم مربده فجعله مسجداً وأسسه، وصلى فيه إلى بيت المقدس، وكان مدخله صلى الله عليه وسلم قباءً يوم الاثنين، وخرج منها يوم الجمعة إلى المدينة، وبنى المسجد

(2)

.

/85 وقال ابن شهاب: ركب صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة من قباء فمر على بني سالم بن عوف، فصلى فيهم الجمعة في الغُبيب ببني سالم، وهو المسجد الذي في بطن الوادي، فكانت أول جمعةٍ صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وباقي رواياته في فضل المساجد عند مسجد الجمعة، ثم دخل صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل في سِفْلِ بيت أبي أيوب

(4)

، فذكر أبو أيوب أن مَنْزِله فوق رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل ساهراً حتى أصبح، فقال: يا رسول الله، إني أخشى أن أكون قد ظلمت نفسي أني فوق رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فينتثر التراب من وطئ أقدامنا، وإني أطيب لنفسي أن نكون تَحتك، فقال صلى الله عليه وسلم: السفل أرفق بنا وبِمن يغشانا، فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العلو

(5)

.

(1)

لم أقف له على ترجمة.

(2)

الأرجح: أنه صلى الله عليه وسلم نزل على كلثوم بن الهدم.

وقال بعضهم: كان سعد عزباً، فكان صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في بيته، فلذلك

قيل: نزل عنده.

نقل ابن الجوزي، عن ابن حبيب الهاشمي قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم على

كلثوم، وكان

يتحدث في منزل سعد بن خيثمة. ويسمى منزل العزاب. انظر وفاء الوفا 1/ 246.

(3)

رواه البيهقي في (المعرفة) عن مغازي ابن إسحاق وموسى بن عقبة، ووصله ابن سعد من طريق الواقدي بأسانيد له، كما في التلخيص الحبير 2/ 58، وانظر: تاريخ الطبري 2/ 394.

(4)

أبو أيوب الأنصاري، النجاري معروف بكنيته، واسمه خالد بن زيد، صحابي جليل من السابقين، شهد العقبة وبدراً وما بعدها، اشترك في الفتوح إلى أن توفي في غزوة القسطنطينية بين سنة خمسين واثنين وخمسين، ودفن قريباً منها. أسد الغابة 2/ 94، الإصابة 1/ 429.

(5)

حديث أبي أيوب رضي الله عنه: أخرجه مسلم، في حديث طويل، في الأشربة، باب إباحة

أكل الثوم، وأنه ينبغي لمن أراد خطاب الكبار تركه، رقم:171. وأخرجه مختصراً: الترمذي، في

الأطعمة، باب ماجاء في كراهية أكل الثوم والبصل، رقم:1807، وقال: حسن صحيح.

ص: 240

فابتاع المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام

(1)

ذلك البيت من أبي

أفلح

(2)

مولى أبي أيوب الأنصاري بألف دينار، فتصدق به وقد بني ولم يغير سقفه.

قال ابن زبالة: وهو في موضع الحائطين من بني غنم.

وقال ابن إسحق

(3)

: هذا البيت الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بناه تُبَّع الأول لما مر بالمدينة، وكان معه أربع مئة عالم، فتعاقدوا على أن لا يَخرجوا منها، فسألهم تُبَّع عن سِرِّ ذلك، فقالوا: إنا نَجد في كتبنا أن نبياً اسمه محمد هذه دار مهاجره، فنحن نقيم لعل أن نلقاه، فأراد تبع الإقامة معهم، ثم بنى لكل واحد من أولئك داراً، واشترى له جارية وزوجها منه، وأعطاه مالاً جزيلاً، وكتب كتاباً فيه إسلامه وقوله:

شهدتُ على أحمد أنه

رسول من الله بارى النَّسَم

(4)

وختمه بالذهب، ودفعه إلى كبيرهم وسأله أن يدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإلا فمن أدركه من ولده أو ولد ولده وبنى للنبي صلى الله عليه وسلم داراً لينْزِلها إذ قدم

(1)

المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني، أبو هاشم أو هشام، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، روى عنه مالك بن أنس وغيره، وخرج إلى الشام غير مرة غازياً. مات سنة بضع ومئة في المدينة. طبقات ابن سعد 5/ 210، تاريخ البخاري الكبير 7/ 320، تهذيب الكمال 28/ 384.

(2)

أبو أفلح: وقيل: أفلح، مولى أبي أيوب الأنصاري، يكنى بكثير، وروى البخاري في الصحيح أنه قتل بالحرة سنة 64 هـ. الإصابة 1/ 110.

(3)

محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم، إمام المغازي، مات سنة خمسين ومئة. التقريب ص 467، برقم 5725.

(4)

الروض الأنف 1/ 35.

ص: 241

المدينة فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب، وهو من ولد ذلك العالم، وأهل المدينة الذين

(1)

نصروه كلهم من أولاد أولئك العلماء فعلى هذا إنَّما نزل صلى الله عليه وسلم في منْزِل نفسه لا منْزِل غيره، فأقام صلى الله عليه وسلم بِمنْزلِ أبي أيوب سبعة أشهر ينْزِل عليه الوحي، حتى ابتنى مسجده.

وقال صاحب المبتدأ

(2)

: اسم الذي بنى بيت أبي أيوب للنبي صلى الله عليه وسلم تِبَّان أسعد أبو كلكيكرب، وهو من التبابعة

(3)

.

وقد ذكرناه بأبسط من هذا في الباب الخامس عند ترجمة المبرك.

قال ياقوت: /86 لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة أقطع الناس الدُّور والرِّبَاع، فخط لبني زهرة

(4)

في ناحية من مؤخر المسجد، وكان لعبد الرحمن بن عوف

(5)

رضي الله عنه الحش المعروف به، وجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود

(6)

الهذليين الخطة المشهورة بهم عند المسجد، وأقطع الزبير بن

(1)

في الأصل: (الذي).

(2)

عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، ولد في تونس سنة 732 هـ ينحدر من أصل أندلسي إشبيلي، ارتحل إلى مصر والشام، وصادف وجوده في دمشق عندما حاصرها تيمورلنك. توفي في مصر سنة 808 هـ. أشهر مؤلفاته: (كتاب العبر

وديوان المبتدأ والخبر) المعروف باسم تاريخ ابن خلدون. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 4/ 145.

(3)

تاريخ ابن خلدون 2/ 63.

(4)

بنو زهرة: بطن من بني مرة بن كلاب من قريش من العدنانية ومنهم آمنة بنت وهب والدة الرسول صلى الله عليه وسلم. نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 254.

(5)

عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري من المهاجرين الأولين إلى الحبشة والمدينة ومن العشرة المبشرين بالجنة. أسد الغابة 3/ 482، الإصابة 2/ 416.

(6)

عبد الله وعتبة ابنا مسعود من هذيل من المسلمين السابقين في الإسلام، كان عبد الله أول من جهر بالقرآن بمكة، هاجر إلى الحبشة والمدينة وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها توفي عبد الله بالمدينة سنة 32 هـ في خلافة عثمان، وتوفي عتبة في خلافة عمر. أسد الغابة 3/ 384 - 569، الإصابة 2/ 369 - 456.

ص: 242

العوام

(1)

رضي الله عنه بقيعاً واسعاً، وجعل لطلحة بن عبيد الله

(2)

رضي الله عنه موضع دوره، ولأبي بكر الصديق رضي الله عنه موضع داره عند المسجد، وأقطع كل واحد من عثمان بن عفان، وخالد بن الوليد

(3)

، والمقداد

(4)

، وعبيداً

(5)

، والطفيل

(6)

، وغيرهم رضي الله عنهم مواضع دورهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقطع أصحابه هذه القطائع فما كان في عفاء من الأرض فإنه أقطعهم إياه، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له، فكان يقطع من ذلك ما شاء، وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثةُ بن النعمان

(7)

(1)

الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبا عبد الله ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، قتل سنة ست وثلاثين للهجرة. أسد الغابة 2/ 252، الإصابة 1/ 545.

(2)

طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي يعرف بطلحة الخير، من السابقين وأحد العشرة المبشرين بالجنة، شهد أحداً، وما بعدها قتل سنة 36 هـ في موقعة الجمل. أسد الغابة 3/ 85، الإصابة 2/ 229.

(3)

خالد بن الوليد المخزومي القرشي، سيف الله، أبو سليمان، أحد أشراف قريش في الجاهلية، شهد غزوة مؤتة وفتح مكة وحنيناً وغيرها، وله أثر مشهور في قتال الفرس والروم، له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما. أسد الغابة 2/ 109، الإصابة 1/ 413.

(4)

المقداد بن عمرو القضاعي حليف الأسود بن عبد يغوث الزهري، من السابقين المهاجرين، شهد بدراً، وكان أول من أظهر الإسلام بمكة. توفي في خلافة عثمان، ومات بأرض الجرف وحمل إلى المدينة. أسد الغابة 5/ 254، الإصابة 3/ 454.

(5)

عبيد بن الحارث بن المطلب، يكنى أبا الحارث من السابقين المهاجرين شهد بدراً، وكان أسن المسلمين فقطعت رجله وعاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر فتوفي بالصفراء. أسد الغابة 3/ 553، الإصابة 2/ 449.

(6)

طفيل بن عمرو الأزدي الدوسي يلقب ذا النور، أسلم في مكة ورجع إلى قومه دوس حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقدمها والرسول في خيبر، اشترك في فتح مكة، قتل شهيداً في اليرموك. أسد الغابة 3/ 80، الإصابة 2/ 225.

(7)

حارثة بن النعمان الأنصاري ذكر فيمن شهد بدراً، يكنى أبا عبد الله، أدرك خلافة معاوية ومات فيها. أسد الغابة 1/ 429، الإصابة 1/ 298.

ص: 243

فوهب له وأقطعه

(1)

.

وقال يا قوت: كان أول من زرع بالمدينة واتَّخذ بِهَا النخل وعَمَّرَ بِهَا الدور والآطام، واتَّخذ فيها الضياعَ العماليقُ، وهم بنو عملاق بن أرفخشد بن سام بن نوح، ونزلت اليهودُ بعدهم الحجاز، وكانت العماليقُ ممن انبسط في البلاد فأخذوا ما بين البحرين وعُمان والحجازَ كله إلى الشامِ ومصرَ، فجبابرة الشام، وفراعنة مصر منهم، وكان منهم بالبحرين وعُمان أمة يسمون جاسم، وكان ساكنو المدينة منهم، وهم بنو هَف وسعد بن هفان، وبنو مطرويل، وكان بنجد منهم بنو بديل ابن راحل، وكان ملك الحجاز الأرقم بن أبي الأرقم

(2)

.

وكان سببُ نزول اليهود المدينة ما قدمناه في أول الفصل أن موسى عليه السلام بعث بعثاً إلى الكنعانيين حين

(3)

أظهره الله تعالى على فرعون، فوطأ الشام وأهلك من كان بِهَا منهم، ثم بعث بعثاً آخرَ إلى الحجاز إلى العماليق، فأبادوهم إلى آخر القصة المتقدمة.

ثم لحق بِهم بعد ذلك بنو الكاهن بن هارون عليه السلام، فكانت لهم الأموال والضياع بالسافلة، وهي ما كان من أسفل المدينة إلى أحد وقبر حمزة رضي الله عنه، والعالية ما كان فوق المدينة إلى مسجد قُباء، وما وَالَى ذلك من مطلع الشمس، فزعمت بنو قريظة أنَّهم مكثوا كذلك زماناً طويلاً، ثم إن الروم ظهروا على الشام فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، فخرج بنو قريظةَ والنضيرِ وهدلٍ هاربين من الشام يريدون من بالحجاز من بني إسرائيل ليسكنوا معهم، /87

(1)

معجم البلدان 5/ 86.

(2)

معجم البلدان 5/ 84، تاريخ الطبري 1/ 203، ابن خلدون 2/ 30.

(3)

في الأصل: (حتى).

ص: 244

فلما فصلوا من الشام وجه ملك الروم في طلبهم من يَرُدَّهُم، فأعجزوا رسله وفاتوهم وانتهوا - أعني الرسل - إلى ثَمَدٍ بين الشام والحجاز فماتوا عنده عطشاً، فسُمِّي ذلك الموضع ثَمَد الروم، وهو معروف بذلك إلى اليوم

(1)

.

قال

(2)

: ولما كان من سيل العَرِمِ في ملك حبشان وأخْرَبَ الأمكنةَ المعمورةَ في أرض اليمن، وكان أكثر ما أخْرَبَ بلاد كهلان بن سبأ بن يشجُب، وعامة بلاد حمير بن سبأ، وكان ولد حمير وولد كهلان هم سادة اليمن في ذلك الزمانِ، وكان عمرو بن عامر كبيرهم وسيدهم وهو جد الأنصار، فمات عمرو بن عامر قبل سيل العرم وصارت الرئاسة إلى أخيه عمران بن عامر الكاهن، وكان عامر لا يُولد له، وكان جواداً عاقلاً، وكان له ولولد أخيه من الحدائق والجِنَانِ ما لم يكن لأحد من ولد قحطان، وكانت فيهم امرأة كاهنة تسمى طُرَيفة، فأقبلت يوماً حتى وقفت على عمران بن عامر وهو في نادي قومه، فقالت: والظلمة والضياء، والأرض والسماء، ليقبلن إليكم الماء، كالبحر إذا طما، فيدع أرضكم خَلا، تسفي عليها الصَّبَا، فقال لها عمران: ومتى يكون ذلك يا طُرَيفة؟ فقالت: بعد ستِّ عدد، يقطع فيها الوالد الولد، فيأتيكم السَّيلُ بفيض مهيل، وخطب جليل، وأمر ثقيل، فَيُخَرِّبُ الديارَ، ويعطِّلُ العشارَ، ويطيب العَرار

(3)

، قال لها: لقد فجعتنا بأموالنا يا طُرَيفة فبيني مقالتك، قالت: أتاكم أمر عظيم، بسيل لطيم، وخطب جسيم، فاحرسوا [السد]

(4)

لئلا يمتد، وإن كان لابد من الأمر المعد، انطلقوا إلى رأس الوادي، فسترون الجُرَذَ العادي، يَجُر كل صخرةٍ

(1)

معجم البلدان 5/ 84.

(2)

معجم البلدان 5/ 35.

(3)

العرار: بهار البر، وهو نبت طيب الريح، وقيل النرجس البري. لسان العرب (عرر) 4/ 560.

(4)

الزيادة من معجم البلدان 5/ 35.

ص: 245

صَيْخاد

(1)

، بأنياب حداد، وأظافير شداد.

فانطلق عمران في نفر من قومه حتى أشرفوا على السد، فإذا هم بِجُرذٍ أحمر، يَحْفِرُ الجبل الذي يليه بأنيابه، فيقلع الحجر الذي لا يستقله مئة رجل، ثم يدفعه بمخاليب رجليه حتى يُسَدّ به الوادي، مما يلي البحر، ويفتح مما يلي السد، فلما نظروا إلى ذلك علموا أنَّها قد صدقت، فانصرف عمران ومن كان معه من أهله، فلما استقر في قصره جمع وجوه قومه ورؤساءهم وأشرافهم وحدَّثهم بِما رأى، وقال: اكتموا هذا الأمر عن إخوتكم من ولد حِمْير لعلنا نبيع أموالنا وحدائقنا منهم، ثم نرحل عن هذه الأرض، وسأحتال في ذلك بِحيلة، ثم قال لابن أخيه حارثة: إذا اجتمع الناس إليَّ فإني سآمرك بأمر فأظهر فيه العصيان، فإذا ضربتُ رأسك بالعصا فقم إليَّ والطمني، فقال له: وكيف يلطم الرجل عمه، فقال: افعل يا بني ما آمرك /88 فإن في ذلك صلاحَكَ وصلاحَ قومك.

فلما كان من الغد، اجتمع إلى عمران أشراف قومه وعظماء حِمْير ووجوه رعيته مسلِّمين عليه، وأمَرَ حارثَةَ بأمر فعصاه، فضربه بِمَخْصَرَةٍ

(2)

كانت في يده، فوثب إليه فلطمه، فأظهر عمران الأنفة والحَمِيَّة، وأمرَ بقتل ابن أخيه حتى شُفِّعَ فيه، فلما أمسك عن قتله حَلَفَ أن لا يقيم في أرض امتهن بِهَا، ولا بُدَّ من أن ارتَحل عنها، فقال عظماء قومه: والله لا نقيم بعدك يوماً واحداً، ثم عرضوا ضِياعهم على البيع، فاشتراها منهم بنو حمير بأغلى الأثْمان، وارتَحلوا عن

(1)

صَيْخاد: شديدة. القاموس (صخد) ص 292.

(2)

في الأصل: (مخصرة) بدون باء، والتصويب من معجم البلدان 5/ 35. والمخصرة: ما يُتَوَكَّأُ عليه كالعصا ونحوه، وما يأخذه الملك يشير به إذا خاطب، والخطيب إذا خطب. القاموس (خصر) ص 385.

ص: 246

أرض اليمن، فجاء بعد رحيلهم بِمديدة السيل، وقد خَرَّبَ ذلك الجُرذُ السَّدَّ، فلم يَجد مانعاً، فَغَرَّقَ البلاد حتى لم يبقَ من جميع الأرضينَ والكرومِ إلا ما كان في رؤوس الجبالِ والأمكنة البعيدةِ، مثل ذمار

(1)

وحضرموت وعدن، وذهبت الضياع والحدائق والجِنانُ والقصور والدور، وجاء السيل بالرمل وطمَّها، فهي على ذلك إلى اليوم، وباعد الله تعالى بين أسفارهم كما سألوا فتفرقوا عباديد

(2)

في البلدان.

ولما فصل عمران وأهله من أرض اليمن عَطَفَ ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر ماء السماء بن حارثة بن الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن الزاد بن الأزد بن الغوث نَحْوَ الحجاز، فأقام ما بين الثعلبية

(3)

إلى ذي قار

(4)

، وباسمه سميت الثعلبية، فنَزَلها بأهله وولده وماشيته ومن تبعه، فأقام ما بين الثعلبية وذي قار يتتبع مواقع القطر، فلما كثر ولده وقَوِيَ ركنه سار نَحْوَ المدينة، وبِهَا ناس كثير من بني إسرائيل متفرِّقون في نواحيها، فاستوطنوها وأقاموا بِهَا بين قريظة والنضير وخيبر

(5)

وتيماء ووادي القرى

(6)

،

(1)

ذمار: قرية باليمن على مرحلتين من صنعاء. معجم البلدان 3/ 6.

(2)

العبابيد والعباديد: الفِرَق من الناس والخيل الذَّاهبون في كل وجهٍ. القاموس (عبد) ص 296.

(3)

الثعلبية: من المنازل الواقعة على طريق مكة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيمية، وأسفل ماء يقال له الضويجعة، سميت بذلك نسبة إلى ثعلبة بن عمرو مزيقاء بن عامر ماء السماء لما تفرقت الأزد من مأرب وقيل في تسميته غير ذلك. معجم البلدان 2/ 78.

(4)

ذي قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط، وقريباً منها كانت وقعة ذي قار المشهورة. معجم البلدان 5/ 293.

(5)

خيبر: مدينة تقع على بعد 200 كم من المدينة المنورة شمالاً، على طريق الشام، كان فيها قبائل من يهود، تشتمل على سبعة حصون ومزارع نخيل كثيرة، فتحها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبعة أو ثمانية هجرية. يأتي ذكرها في الباب الخامس.

(6)

وادي القرى: وادٍ بين المدينة والشام من أعمال المدينة كثير القرى، فتحها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع عنوة ثم صالح أهلها على الجزية. يأتي ذكرها في الباب الخامس.

ص: 247

ونزل أكثرهم بالمدينة إلى أن وجد عِزَّةً وقُوَّةً فأجلى اليهود عن المدينة

(1)

، واستخلصها لنفسه وولده، وتفرَّقَ من كان بِهَا من اليهود، فانضموا إلى إخوانِهِم الذين كانوا بِخيبر وفَدَكَ

(2)

وتلك النواحي، وأقام ثعلبة وولده بيثرب، فابتنوا فيها الآطام وغرسوا فيها النخل وهما الأنصار الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة العنقاء [بن عمرو مزيقياء، وانخزع عنهم عند خروجهم من مأرب حارثة بن عمرو مزيقياء]

(3)

بن عامر ماء السماء، وهو خزاعة، واقتحموا الحرم المكي وسكانه جُرْهُم، وكانوا قد طَغَوْا وبَغَوْا، فأظفر الله تعالى خزاعة عليهم فنفوا جرهماً إلى الحل، ونزلت خزاعة الحرم، وتفرقت جرهم في البلاد، وفي ذلك يقول شاعرهم

(4)

:

كأَنْ لم يكن بين الحَجُون إلى الصفا

أنيسٌ ولم يسمُرْ بِمكةَ سامرٌ

الأبيات المشهورة.

وعطف عمران بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء مفارقاً لأبيه

(1)

تُجمع الروايات الأخرى على أن الأوس والخزرج تسببوا في قتل سادة اليهود مستعينين

بملك الغساسنة، ولم تذكر تلك الروايات إجلاءهم، وعندما هاجر رسول الله صلى الله

عليه وسلم إليها كانوا فيها وقد عاداه معظمهم، وقد أجلي آخرهم عنها في عهد عمر

ابن الخطاب رضي الله عنه. انظر في ذلك الكامل لابن الأثير 1/ 401.

(2)

فَدَك: قرية من قرى الحجاز، أفاءها الله على رسوله لما نزل خيبر وفتح حصونها، صالح أهلها على نصف ثمارها وأموالها، وفيها عين فوارة ونخيل. يأتي ذكرها في الباب الخامس.

(3)

سقطت من الأصل، والتكملة من معجم البلدان 5/ 36.

(4)

هو عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هيّ بن نبت بن جرهم الجرهمي، انطلق بمن معه إلى اليمن فحزن لفراق مكة حزناً شديداً فقال قصيدته التي مطلعها:

وقائلة والدمع مُبادر سَكْب

وقد شرقت بالدمع منها المحاجر

السيرة النبوية لابن هشام 1/ 133، الروض الأنف 1/ 138.

ص: 248

وقومه/89 نَحو عُمان، فنَزَلها وأوطنها، وسارت قبائل نصر بن الأزد، وهم قبائل كثيرة منهم دَوْس

(1)

رهط أبي هُرَيرة

(2)

رضي الله عنه وغامد

(3)

وبارق

(4)

وأحجن

(5)

والجنادبة

(6)

وزهران

(7)

وغيرهم، نَحو تِهامة فأقاموا بِهَا، وشنئووا قومهم أو شنأهم قومهم إذ لم ينصروهم في حروبِهِم، أعني حروب الذين قصدو مكة فحاربوا جُرْهُماً، والذين قصدوا المدينة فحاربوا اليهود فهم أزد شنوءة

(8)

.

ولما تَقَصَّعَتْ قضاعة؛ أي تفرقت من تِهامة بعد الحرب التي جرت بينهم وبين بني نزار بن معدّ، وسارت بليٌّ وبهراءُ

(9)

وخَوْلان

(10)

بنو عمران بن

(1)

دوس: بطن من شنوءة من الأزد من القحطانية، وهم بنو دوس ابن عدنان بن ناصر وهو شنوءة ومنهم أبو هريرة الصحابي الجليل. نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 235.

(2)

أبو هريرة صحابي معروف اختلف في اسمه كناه الرسول صلى الله عليه وسلم، روى الكثير من الأحاديث، ولد عام 21 ق. هـ، وتوفي بالمدينة بين سنة 57 - 59 هـ. أسد الغابة 6/ 318، الإصابة 4/ 202.

(3)

غامد: قبيلة من بني الأزد بن النصر بن مالك. جمهرة أنساب العرب ص 473.

(4)

بارق: بطن من خزاعة من بني عمرو بن مزيقياء من الأزد من القحطانية، وهم بنو بارق ابن عدي بن حارثة بن مزيقياء. نهاية الأرب ص 162.

(5)

أحجن: قبيلة من بني نصر من الأزد من القحطانية. الاشتقاق ص 288.

(6)

الجنادبة: بطن من القحطانية النسبة إليهم جندبي وهم بنو جندب بن خارجة بن سعد ابن قطرة بن طيء، والجندب في اللغة ضرب من الجراد. نهاية الأرب ص 203.

(7)

زهران: بطن من بني مزيقياء من الأزد من القحطانية وهم بنو زهران بن الحجر بن عمران بن مزيقياء. نهاية الأرب ص 253.

(8)

معجم البلدان 5/ 36.

(9)

بهراء: بطن من قضاعة من القحطانية، وهم بنو بهرا بن عمرو بن الحافي بن قضاعة ومنها جماعة من الصحابة منهم المقداد بن الأسود. نهاية الأرب ص 172.

(10)

خولان: في جمهرة أنساب العرب بلي وبهراء وحيدان من ولد عمرو بن الحافي بن قضاعة. جمهرة أنساب العرب ص 172، وخولان من ولد مالك بن مرة بن أدد. نهاية الأرب ص 313، وفي السيرة النبوية لابن هشام 1/ 98: خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة.

ص: 249

الحاف [بن]

(1)

قضاعة، ومن لحق بهم إلى بلاد اليمن فَوَغَلُوا فيها حتى نزلوا مأرب أرض سبأ، بعد افتراق الأزد عنها وخروجهم منها، فأقاموا بِهَا زماناً. ثم أنزلوا عبداً لأراشة بن عَبيلة بن فَران بن بليّ يقال له أشعب بئراً لهم بمأرب، ودَلوُّا عليه دِلاءهم ليملأها لهم، فطفق العبد يملأ لمواليه وسادته ويؤثرهم، ويبطيء عن زيد الله بن عمرو بن عبيلة بن قِسْميل، فغضب من ذلك فحطَّ عليه صخرة وقال: دونك يا أشعب، فأصابته فقتلته، فوقع الشر بينهم لذلك، واقتتلوا حتى تفرقوا، فتقول قضاعة: إن خولان أقامت باليمن، فَنَزَلُوا مخالف خولان، وإن مَهْرَةَ

(2)

أقامت هناك وصارت منازلها الشَّحْر، ولحق عامر بن زيد الله بن عبيلة بسعد العشيرة فهم زيد الله، فقال المثلَّم بن قُرْط البلوي

(3)

:

ألم ترَ أن الحيَّ كانوا بغبطة

بِمأربَ إذ كانوا يحلُّونها معا

بليَ وبهراءٌ وخَوْلانُ إخوةٌ

لعمرو بن حافٍ فَرْعَ من قد تفرَّعَا

أقام به خولانُ بعد ابن أُمه

فأثرى لعمري في البلاد وأوسعا

فلم أرَ حيّاً من مَعَدِّ عمارةً

أجلَّ بدار العزِّ منَّا وأمنعا

وهذا دليل على أن قضاعة من معد والله أعلم.

وسار جفنة بن عمرو بن عامر إلى الشام، فهم ملوكها.

وفي لفظ بأتم مما سبق في أول الفصل

(4)

قالوا: لما كان من سيل العرم ما كان قال عمرو بن عوف

(5)

: من كان يريد الراسيات أو الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكان الذين

(1)

في الأصل: (و).

(2)

مَهْرَة بن حيدان بن عمرو بن الحافي بن قضاعة، وبلاد مهرة في ناحية الشحر من اليمن ببلاد العنبر على ساحل البحر. جمهرة أنساب العرب ص 440.

(3)

لم أجد له ترجمة.

(4)

معجم البلدان 5/ 37.

(5)

في الأصل: (عمران) والتصحيح من معجم البلدان 5/ 84.

ص: 250

اختاروها وسكنوها الأنصار، وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وأمهم في قول ابن الكلبي

(1)

قَيْلَة بنت الأرقم بن عمرو بن جَفْنة.

وقال: يقال قَيْلة بنت كاهل بن عُذْرَة من قُضَاعة.

وقال غيره: قَيْلة /90 بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن زيد بن أسود بن ليث ابن أسلم بن الحاف بن قُضَاعة، ولذلك سمي ابن

(2)

قَيْلَة، فأقاموا بِمكانِهم على جهد وضَنَكٍ من العيش، وكان ملك بني إسرائيل يقال له الفيطوان.

وتقدم من عند ابن الكلبي في أول الفصل أنه الفِطيون بالفاء المكسورة، وكان اليهود والأوس والخزرج يدينون له، وكانت له فيهم سنة لا تزوج امرأة منهم إلا أدخلت عليه قبل زوجها حتى يكون هو الذي يفتضها، إلى أن زوجت أخت لمالك ابن العجلان بن زيد السالمي الخزرجي.

فلما كانت الليلة التي تُهدى فيها إلى زوجها خرجت على مجلس قومها كاشفة عن ساقها، وأخوها مالك في المجلس، فقال لها: لقد جئت بسَوْءة بِخروجك على قومك وقد كشفت عن ساقيك، قالت: الذي يراد بي الليلة أعظم من ذاك، لأني أدخل على غير زوجي، ثم دخلت منْزلها، فدخل إليها أخوها وقد أرمضه قولها، فقال لها: هل عندك من خبر؟ قالت: نعم. فما ذاك؟ قال: أدخل معك في جملة النساء على الفطيون

(3)

فإذا خرجنَ من عندك ودخل

(1)

جمهرة النسب ص 621، واسمه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، كان عالماً بالأنساب، وأخبار العرب وأيامها ومن الحفاظ المشاهير. توفي سنة 204 هـ، وقيل غير هذا. وفيات الأعيان 6/ 82.

(2)

في معجم البلدان: (بنو). 5/ 85.

(3)

في الأصل: (القيطوان) والتصحيح من معجم البلدان 5/ 84.

ص: 251

عليك ضربته بالسيف حتى يبرد، قالت: افعل، فلما خرج النساء من عندها ودخل الفطيون عليها شد عليه مالك بن عجلان بالسيف حتى قتله، وخرج هارباً حتى قَدِمَ الشام، فدخل على أبي جُبيلة، -وفي بعض الروايات: أنه قصد اليمن إلى تُبّع الأصغر بن حسان فشكىإليه ما كان الفطيون يسير به في نسائهم، وذكر له أنه قتله وهرب، وأنه لا يستطيع الرجوع خوفاً من اليهود، فعاهده أن لا يقرب امرأة ولا يمس طيباً ولا يشرب خمراً حتى يسير إلى المدينة ويُذِلَّ من بِهَا من اليهود، وأقبل سائراً من الشام في جمع كثير يُظهر أنه يريد اليمن، حتى قدم المدينة ونزل بذي حُرُض

(1)

، ثم أرسل إلى الأوس والخزرج أنه على المكر باليهود عازم على قتل رؤسائهم، وأنه يُخشى أنَّهم متى علموا بذلك تَحصنوا في آطامهم، وأمرهم بكتمان ما أسره إليهم، وأرسل [إلى]

(2)

وجوه اليهود أن يحضروا طعامه لِيُحْسِنَ إليهم ويصلهم، فأتاه وجوههم وأشرافهم ومع كل واحد منهم خاصته وحشمه، فلما تكاملوا أدخلهم حيزاً بناه لهم ثم قتلهم عن آخرهم، فصارت الأوسُ والخزرجُ من يومئذ أعزَّ أهلِ المدينة، وقمعوا اليهود، وسار ذكرهم، وصار لهم الأموال والآطام. ولعنت اليهود مالك بن العجلان في كنائسهم وبيوت عباداتهم فبلغه ذلك فقال:

/91 تحايا اليهود بِتَلْعَانِهَا

تحايا الحمير بأبوالها

وماذا علي بأن يغضبوا

وتأتي المنايا بإذلالها

وقالت سارة القرظية ترثي من قتل من قومها:

بأهلي رِمَّة لم تغن شيئاً

بذي حرض تعفَّيهَا الرياحُ

كهول من قريظة أتلفتهم

سيوفُ الخزرجية والرماحُ

ولو أذنوا بأمرهم لَحَالَتْ

هنالك دونهم حربٌ رَدَاحُ

(1)

ذو حُرُض: وادٍ بالمدينة يأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس.

(2)

الزيادة من معجم البلدان.

ص: 252

ثم انصرف أبو جبيلة راجعاً إلى الشام وقد ذَلَّلَ الحجاز والمدينة ومهَّدَهَا للأوس والخزرج، فعند ذلك تفرقوا في عالية المدينة وسافلتها، وبنوا بِهَا الدور والقصور، واتخذوا الأموال والآطام

(1)

.

وعكس ياقوت القصة فجعل أن أهل المدينة هم الذين أزالوا عن أهل اليمامة هذه الفضيحة ونصروهم وأبادوا عدوهم، وقال: إن طَسْماً وجَدِيساً من ولد لاوذ ابن إرم بن لاوذ بن سام بن نوح أقاموا باليمامة وكثروا بِهَا وربلوا

(2)

حتى ملك عليهم ملك من طَسْم، يقال له عمليق بن هباش، وكان جباراً ظلوماً غشوماً، وكانت اليمامة أحسن بلاد الله أرضاً، وأكثرها خيراً ونَخْلاً، قالوا: وتنازع رجل يقال له قابس وامرأته هُزَيْلَة جَدِيسيان

(3)

في مولود لهما أراد أخذه، فأبت أمه، فارتفعا إلى الملك عمليق، فقالت المرأة: أيها الملك؛ هذا ابني حملته تسعاً، ووضعته دفعاً، وأرضعته شفعاً، ولم أنل منه نفعاً، حتى إذا تمت أوصاله، واستوى فصاله، أراد بعلي أن يأخذه كرهاً، ويتركني ولهى.

فقال الرجل: أيها الملك أعطيتها المهر كاملاً، ولم أصب منها طائلاً، إلا ولداً خاملاً، فافعل ما كنت فاعلاً، على أني حملته قبل أن تحمله، وكفلت أمه قبل أن تكفله.

فقالت أيها الملك: حمله خِفَّاً وحملته ثِقلاً، ووضعه شهوة ووضعته كرهاً.

فلما رأى عمليق متانة حججهما تَحير فلم يدر بِم يَحكم، فأمر بالغلام بأن يقبض منهما وأن يُجعل في غِلمانه، وقال للمرأة: أبغيه ولداً، وأجزيه صفداً،

(1)

معجم البلدان 5/ 86.

(2)

ربلوا: كثر أموالهم وأولادهم. القاموس (ربل) ص 1003.

(3)

في الأصل: (جديساً). والتصويب من معجم البلدان 5/ 442.

ص: 253

ولا تنكحي بعده أحداً، فقالت المرأة: أما النكاح فبالمهر، وأما السفاح فبالقهر، ومالي فيهما من أمر، فأمر عمليق بالزوج والمرأة أن يباعا ويرد على زوجها خمس ثمنها، ويرد على المرأة عشر ثمن زوجها، فاسُتِرقّا فقالت هُزَيْلَة:

أتينا أخا طَسْمٍ ليحكم بيننا

فأظهر حكماً في هُزَيْلَة ظالما

/92 لعمري لقد حكمت لا متورعاً

ولا كنت فيما يلزم الحكم حاكما

ندمتُ ولم أندم وأنى بعثرتي

وأصبح بعلي في الحكومة نادما

فبلغت أبياتها إلى عمليق فأمر أن لا تزوج بكرٌ من جَدِيس حتى تدخل عليه فيكون هو الذي يفترعها قبل زوجها، فلقوا من ذلك ذلاً، حتى تزوجت امرأة من جَدِيس يقال لها عُفَيرة بنت غِفار أخت سيد جَدِيس الأسود بن غِفار، وكان جَلْدَاً فاتكاً، فلما كانت ليلة الاهداء خرجت والقِيَانُ حولها لِتُحْمَلَ إلى عمليق وهنَّ يضربنَ بالدف وبمعازفهن ويقلن:

ابْدِيْ بعمليق وقومي فاركبي وبادري الصبح بأمرٍ معجبِ

فسوف تَلْقَيْنَ الذي لم تطلبي وما لبكرٍ دونه من مهربِ

ثم أُدخلت على عمليق فافترعها، وقيل إنها امتنعت عليه، وكانت أيدَة

(1)

، فخاف العار فوجأها بحديدة في قبلها فأدماها، فخرجت وقد تقاصرت إليها نفسها، فشقت ثوبها من خلفها ودماؤها تسيل على قدميها، فمرت بأخيها وهو في جمع من قومه وهي تبكي وتقول:

لا أحد أذل من جَدِيس

أهكذا يفعل بالعروس؟

يرضى بهذا الفعل قط الحرُّ

هذا وقد أعطى وسيق المهر

لأخذه الموت كذا لنفسه

خير من أن يفعل ذا بعرسه

(1)

الأيدة: الشديدة القوية. انظر القاموس (أيد) ص 266.

ص: 254

فأغضب ذلك أخاها فأخذ بيدها ووقفها على نادي قومها وهي تقول:

أيجمل أن يؤتى إلى فتياتكم

وأنتم رجال فيكمُ عدد الرمل؟

أيجمل تمشي في الدما فتياتكم

صبيحة زفت في العشاء إلى بَعْل؟

فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه

فكونوا نساء لا تغب من الكحل

ودونكمُ ثوبَ العروس فإنما

خُلِقتُم لأثواب العروس وللغسل

فلو أننا كنا رجالاً وكنتمُ

نساء لكنَّا لا نقر على الذُّلِّ

فموتوا كراماً أو أميتوا عدوَّكم

وكونوا كنار شبّ بالحطب الجزل

وإلا فخلوا بطنها وتحمَّلوا

إلى بلد قفر وهَزْلٍ من الهزل

فَلَلْمُوتُ خيرٌ من مقامٍ على أذىً

وللفقر خير من مقام على ثُكْلٍ

/93 فدبُّوا إليه بالصَّوَارم والقنا

وكل حُسَامٍ مُحْدَثِ العهد بالصَّقْلِ

ولا تجزعوا للحرب قومي فإنَّمَا

يقومُ رجال للرجال على رجل

فيهلك فيها كل وَغْلٍ مواكل

ويسلم فينا ذو الجَلادة والفضل

فلما سمعت جَدِيس ذلك منها امتلؤوا غيظاً ونكسوا رؤوسهم حياءً، فقال أخوها الأسود: يا قوم أطيعوني فإنه عز الدهر، فليس القوم بأعز منكم ولا أجلد، ولولا

(1)

تواكلنا لما أطعناهم وإن فينا لمنعة.

فقال له قومه: أشِرْ بما ترى، فنحن لك مانعون، ولما تدعونا إليه مسارعون، إلا أنك تعلم أن القوم أكثر منا عَدَداً وعُدَداً، ونَخافُ أن [لا]

(2)

نقوم لهم عند المنابذة، فقال لهم: قد رأيت أن أصنع للملك طعاماً، ثم أدعوه وقومه، فإذا جاؤونا قمت أنا إلى الملك فقتلته، وقام كل واحد منكم إلى رئيس من رؤسائهم

(3)

ففرغ منه، فإذا فرغنا لم يبق للباقين قوة، فنهتهم أخت الأسود بن غِفار عن الغدر، وقالت: نافروهم، فلعل الله تعالى أن ينصركم

(1)

في الأصل: (ولو).

(2)

الزيادة من معجم البلدان 5/ 444.

(3)

في الأصل: (روسها) والتصحيح من معجم البلدان 5/ 444.

ص: 255

عليهم لظلمها لكم، فعصوها. فقالت:

لا تغدرُنَّ فإن الغدرَ منقصةٌ

وكل عيب

(1)

يُرى عيباً وإن صَغُرا

إني أخاف عليكم مثل تلك غداً

وفي الأمور تدابير لمن نَظَرَا

حُشّوا

(2)

سعيراً لهم فيها مناهزةً

فكلكم باسلٌ أرجو له الظفرا

فأجابها أخوها الأسود يقول:

(3)

شتان باغ علينا غير متئد

يغشى الظِّلامة

(4)

لا يبقي ولن يذرا

إنا لعمرك لا نُبدي مناهزةً

نَخاف منها صُرُوفَ الدهر من ظفرا

إني زعيم لطَسْمِ حين تَحضرنا

عند الطعام بضرب يَهتك القِصَرا

صنع الأسودُ الطعامَ وأكثر، وأمر قومه أن يدفن كل رجل منهم سيفه تَحته في الرمل مشهوراً، وجاءهم الملك في قومه، فلما جلسوا للأكل وَثَبَتْ جَدِيس عليهم، فقتل الأسودُ الملكَ، وقتل قومه رجال طَسْمٍ حتى أبادوا أشرافهم، ثم قتلوا باقيهم، وقال الأسود بن غفار:

ذوقي ببغيك يا طَسْمُ مجللةً

فقد أتيتِ لعمري أعجب العجب

إنا أنفنا فلم ننفكَّ نقتلُهم

والبغيُ هَيَّجَ منا سَوْرَةَ الغضب

فلن نعود لبغي بعدها أبداً

لكي تكونوا بلا أنف ولا ذنب

/94 فلو رَعيتم لنا قربى مؤكَّدَةً

كنا الأقاربَ في الأرحامِ والنسب

وقال حُدَيْلَة بن المشَمخِر الجَدِيسي وكان من سادة جَدِيس:

لقد نَهَيْتُ أخا طَسْمِ وقلت له

لا تذهبنَّ بك الأهواء والمرحُ

واخشَ العواقبَ إن الظلمَ مهَلكةٌ

وكلُ فرحةِ ظُلمٍ عندها تَرَحُ

فما أطاع لنا أمراً فنعذره

وذو النصيحةِ عند الأمر يُنتصحُ

فلم يزل ذاك ينمي من فعالهمُ

حتى استقادوا لأمر الغيِّ فافتضحوا

(1)

في الأصل: (عتب) والتصحيح من معجم البلدان 5/ 444.

(2)

حشَّ النار: أوقدها. القاموس (حشش) ص 590.

(3)

هذه العبارة بعد البيت الذي يليها في معجم البلدان 5/ 444.

(4)

الظلامة: الظلم. القاموس (ظلم) ص 1134.

ص: 256

فباد آخرهم من عند أولهم

ولم يكن لهم رُشْدٌ ولا فَلَحُ

فنحن بعدهمُ في الحق نفعله

نُسقى الغَبوق

(1)

إذا شِئنا فنصطبح

فليت طَسْماً على ما كان إذ فسدوا

كانوا بعاقبة من بعد ذا صَلَحُوا

إذاً كنا لهم عزاً ومَمْنَعةً

فينا مقاول تسمو للعلى رُجَحُ

وهرب رجل من طَسْم يقال له رياح بن مرة حتى لحق بِتُبَّع أسعد تِبان بن كُلِكيكَرِب، وقيل: بل لحق بِحسَّان بن تبع الحميري، وكان بالمدينة، وقيل بِمكة، وقيل بنجران، فاستغاث به، وقال: نَحْنُ عبيدك ورعيتك وقد اعتدى علينا جَدِيس، ثم رفع عقيرته ينشده:

أجبني إلى قوم دعوك لغدرهم

إلى قتلهم فيها عليهم لك العُذْرُ

[دَعَونا وكنَّا آمنينِ لغدرهم

فأهلَكَنَا غدرٌ يشابُ به مَكْرُ]

(2)

وقال: اشهدونا مؤنسين لتنعمُوا

وتقضوا

(3)

حقوقاً من جوارٍ له حَجْرُ

فلما انتهينا للمجالس كَلَّلُوا

كما كَلَّلَتْ أُسدٌ مجوَّعة خُزْرُ

فإنك لم تسمع بيوم ولن ترى

ليوم أبادَ الحيَّ طَسْماً به المكر

أتيناهُمُ في أُزرِنا ونعالنا

علينا الملاءُ الخضرُ والحللُ الحمرُ

فصِرْنا لحوماً بالعراء وطعمةً

تَنَازَعَنا ذئب الرَّثيمة والنَّمْر

فدونك قوم ليس لله فيهمُ

ولا لهم منه حجاب ولا سِتر

فأجابه إلى سؤله ووعده بنصره، ثم رأى منه تباطؤاً، فقال:

إني طلبت لأوتاري ومَظلمتي

يا آل حسَّانَ إلى العز والكرم

المنعمين إذا ما نعمةٌ ذُكِرَتْ

والواصلين بلا قُربى ولا رَحِمِ

وعند حسان نصرٌ إن ظفرتَ به

منه يمين ورأي غير مقتسم

إني أتيتك كيما أن تكون لنا

حصناً حصيناً وردءاً غير مهتضم

/95 فارحم أيامى وأيتاماً بِمهلكة

يا خير ماش على ساقٍ وذي قدمِ

إني رأيت جَدِيساً ليس يَمنعها

من المحارم ما تَخشى من النِّقَمِ

(1)

الغبوق: ما يُشرب بالعشي. القاموس (غبق) ص 914.

(2)

سقطت من الأصل، والإضافة من معجم البلدان 5/ 445.

(3)

في معجم البلدان ونقضي 5/ 445.

ص: 257

فسر بِخيلك تظفر إن قتلتهمُ

تُشفي الصدور من الأضرار والسقمِ

لا تَزهدنَّ فإن القومَ عندهُمُ

مثل النعاج تراعي زاهر السَّلَمِ

ومُقْرَبَاتٍ

(1)

خناذيذ

(2)

مسوَّمة

تُعْشِي العيون وأصناف من النَّعَمِ

قال: فسار تبع من المدينة في جيوشه حتى قرب من جوّ اليمامة، فلما كان على مقدار ليلة منها عند جبلٍ هنالك، قال رياح الطَسْمِي: توقف أيها الملك، فإن لي أختا متزوجة في جَدِيس يقال لها: يَمامة، وهي أبصر خلق الله على بعد، فإنها لترى الشخص من مسيرة يوم وليلة، وإني أخاف أن ترانا وتُنذِرَ بنا القوم، فأقام تبع في ذلك الجبل، وأمر رجلاً أن يَصعدَ الجبلَ فينظر ماذا يرى، فلما صعد الجبلَ دخل في رجله شوكة، فأكب على رجله يستخرجها، فأبصرته اليمامة، وكانت زرقاء العين، فقالت: يا قوم إني أرى على الجبلَ الفلاني رجلاً، وما أظنه إلا عيناً فاحذروه، فقالوا لها: ما يصنع؟ فقالت: إما يخصف نعلاً، أو ينهش كتفاً، فكذبوها ثم إن رياحاً قال للملك: مُرْ أصحابك ليقطعوا من الشجرِ أغصاناً ليستتروا بِهَا لِيُشَبِّهُوا على اليمامة، وليسيروا كذلك ليلاً، فقال تبع: أوَ في الليل؟ قال: نعم أيها الملك، بصرُها بالليل أنفذ، فأمر تبع أصحابه بذلك، فقطعوا الشجر وأخذ كل رجل بيده غصناً حتى إذا دنوا من اليمامة ليلاً نظرت اليمامة فقالت: يا لجَدِيس، سارت إليكم الشجر أو جاءتكم أوائل خيل حِمْيَر، فكذبوها، فصبحهم حمير فاصطلموهم

(3)

، فهرب الأسود بن غفار في نفر من قومه ومعه أخته، فلحق بِجبلي طي، فَنَزَلَ هناك، وفيه يقول الأعشى

(4)

:

(1)

المُقْرَبَة: الفرسُ التي تُدنى وتُقْرَبُ وتُكرم ولا تترك. القاموس (قرب) ص 123.

(2)

الخِنذيذ، بالكسر: الفحل والخصيُّ. ضدٌّ. القاموس (خنذيذ) ص 333.

(3)

اصْطَلَمهُ: اسْتَأصَلَهُ. القاموس (صلم) ص 1130.

(4)

ديوان الأعشى ص 13.

ص: 258

قالت أرى رجلاً في كَفِّهِ كَتِفٌ

أو يَخصف النَّعْلَ لهفي أيَّةً صنَعا

فكذَّبوها بِما قالت فصبَّحهم

ذو آل حمير تُزجي السُّمر والسَّلَعَا

(1)

فاستنْزَلُوا آل جوٍّ من منازلِهم

(2)

وهدَّموا شاخص البنيان فاتضعا

ولما نزل بِجَدِيس ما نزل من أهل المدينة، قالت زرقاء اليمامة:

خذوا خذوا حذركم يا قومُ ينفعكم

فليس ما قد أرى مثل أمر مُحْتَقَرُ

إني أرى شجراً من خلفها بشرٌ

لأمرٍ اجتمع الأقوام والشجر

/96 وفتح أهل المدينة حصون اليمامة وامتنع عليهم الحصن الذي كانت فيه زرقاءُ اليمامة فصابره تبع حتى افتتحه وقبض على زرقاء اليمامة وعلى صاحب الحصن، وكان اسمه لا يكلم، وقال لليمامة: ماذا رأيت؟ وكيف أنذرت قومك بنا؟ فقالت: رأيت رجلاً عليه مِسْحٌ أسودٌ وهو ينكب على شيء، فأخبرتُهم أنه ينهش كتفاً، أو يَخْصفُ نعلاً، فقال للرجل: ماذا صنعت حين صعدت الجبل؟ فقال: انقطع شراك نعلي، ودخلت شوكة في رجلي، فعالجت إصلاحها بفمي، وعالجت إصلاح نعالي بيدي وفمي. فأمر تُبَّعٌ بقلع عينيها، وقال: أحبُّ أن أرى الذي أدى إليها هذا النظر، فلما قلع عينيها فوجد عروقها كلها محشوة بالإِثْمِدِ، قالوا: وكان قال لها: أنى لك هذا؟ قالت: كنت آخُذُ حجراً أسودَ فأدقُهُ، فأكتحل به، وكان يقوي بصري، فيقال: إنَّها أول من اكتحل بالأثْمِدِ من العرب، قالوا: ولما قلع عينيها أمر بصلبها على باب جَوٍّ وأن يسمى باسمها، وقال تُبَّعُ يذكر ذلك:

وسمّيْتُ جوّاً باليمامة بعدما

تركتُ عيوناً باليمامة هُمَّلا

نزعتُ بِهَا عيني فتاةٍ بصيرةٍ

رغاماً ولم أَحْفِلْ بذلك محفلا

تركت جَدِيساً كالحصيد مطرَّحاً

وسُقْتُ نساءَ القوم سوقاً معجَّلا

(1)

السَّلع: شجر مرٌّ. القاموس (سلع) ص 729، وفي الديوان ومعجم البلدان (ذو آل حسان يزجي الموت والشِّرَعَا).

(2)

في الديوان (مساكِنِهم).

ص: 259

أدَنْتُ جَدِيساً دَيْنَ طَسْمٍ بفعلها

ولم أكُ لولا فِعْلُهَا ذاكَ أفعلا

وقلت: خُذيها يا جَدِيس بأختها

فأنت لعمري كنت للظلم أولا

فلا تُدْعَ جوُّ ما بقيتُ باسمها

ولكنها تُدعى اليمامة مقبلا

وخربت اليمامةُ من يومئذ لأن تبعاً قَتَلَ أهلها، ولم يُخَلِّفْ بِهَا أحداً، ورجعَ إلى المدينةِ

(1)

.

* * *

(1)

معجم البلدان 5/ 442 - 447.

ص: 260

‌الباب الثالث: في ذكر أسماء المدينة المُقَدَّسَةِ ومعانيها وبيَانِ اشْتِقاقِ أَلْفاظِها مِنْ مَصَادِرِها ومَبانِيها مقرونةً بشواهد من الأشعار، مَشْحُونةً بفرائدَ مِنَ الآثارِ

وها نحن ناظموها بَدْأةً بَدْأةً

(1)

في سِلْكٍ وَاحِدٍ على حُرُوفِ المُعْجَم، ثمَّ نُتَرْجِمُ كلَّ اسْمٍ بِما تَيَسَّرَ بِتَوْفيقِ اللّه تَعالى كأَحْسَنِ مَنْ تَرْجَم.

(أ) أَثْرِبُ. أَكَّالَةُ البُلْدانِ. أَرْضُ الهِجْرَةِ. الإيمانُ.

(ب) البارَّةُ. البَحْرَةُ. البُحَيْرَةُ. البَرَّةُ.

(ج) الجابِرَةُ.

(ح) الحَبِيبَةُ. الحَرَمُ. حَرَمُ رَسُولِ الله. حَسَنَةُ.

(خ) الخَيْرَةُ. الخَيِّرَةُ.

(د) الدَّارُ. دَارُ الأبْرَارِ. دَارُ الأخْيارِ. دَارُ الإِيمانِ. دَارُ السُّنَّة. دَارُ الهِجْرَةِ.

(ش) الشَّافيةُ.

(ص) مَدْخَلُ صِدْقٍ

(2)

.

(ط) طابَةٌ. طَيْبَةٌ. طَيِّبَةٌ.

(ظ) ظَبَايَا.

(ع) العاصِمَةُ. العَذْراءُ. العَرَّاءُ. العَرُوضُ.

(1)

بدأة بدأة: أوَّل كُلِّ شْيءٍ. القاموس (بدأ) ص 34.

(2)

حَقُّ هذا الاسم أَنْ يؤخَّر إلى حرف الميم، ولكن المصنف اعتمد حرف الكلمة الثانية.

ص: 261

(غ) الغَرَّاءُ. غَلَبَةُ.

(ق) القاصِمَةُ. قُبَّةُ الإسْلامِ. قَرْيَةُ الأنْصارِ.

(م) المُؤمنَةُ. المُباركةُ. مُبَوَّأُ الحَلالِ والحَرَام. المُحَبَّةُ. المُحَبَّبَةُ. المَحْبُوبَةُ. المَجْبُورَةُ. المَحْبُورَةُ. المَحفوفَةُ. المُحَرَّمَةُ. المُخْتَارَةُ. المَدِينَةُ. مَدِينةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. المَرْحُومَةُ. المُسْلِمَةُ. المَرْزوقَةُ. المَكِينَةُ. المِسْكِينَةُ. المُطَيَّبَةُ. المُقَدَّسَةُ. الموفِيَةُ.

(ن) النَّاجِيَةُ. النَّجْرُ.

(ي) يَثْرِبُ. يَنْدَدَ. يَنْدَرُ.

أما أَثْرِبُ فبفتْح الهَمْزَةِ وَسُكُونِ المُثَلَّثَةِ وكَسْرِ الرَّاءِ المُهْمَلَةِ، وباءٌ مُوحَّدَة. وَهِيَ لُغَةٌ في يَثْرِبَ كَقَوْلهِم: أَلَمْلَمَ في يَلَمْلَم

(1)

، وَهُما لُغَتَانِ جَيِّدَتانِ صحيحتان مُسْتَعْمَلَتانِ

(2)

. والهَمْزَةُ فِيهِ بَدَلٌ مِنْ الياءِ، أو الياء بَدَلٌ مِن الهَمْزَةِ، قَولانِ

(3)

. والنِّسْبَةُ إليْها أَثْرَبِيٌّ وَأَثْرَابِيٌّ

(4)

، وَيَثربيٌّ، بِفَتح الرَّاء وَكَسْرِها فِيهِما.

وَاخْتُلِفَ في سَبَبِ تَسْمِيَتِها بِذَلِكَ، قال أبو القاسم الزَّجَّاجي

(5)

: سُمِّيَتْ

(1)

يَلَمْلَمُ: جَبَلٌ من جبال تِهامة جنوبي مكَّة، وهو ميقاتُ أهل اليمن، معجم البلدان 1/ 246.

انظر الباب الخامس قسم المواضع.

(2)

انظر: التكملة والذَّيل والصِّلة (ثرب)، الصِّحاح (لَمَمَ) 5/ 2033.

(3)

راجع عن إبدال الهمزة من الياء، وإبدال الياء همزةً، الممتع في التصريف: 1/ 343 - 347، 379 - 382.

(4)

لعلَّ هذه الكلمة سَبْقُ قَلَم مِنَ الناسِخ، فالسِّياق لا يقتضيها ولم أَجِدْ مَنْ قال بها، ومِمَّا يؤيد ذلك قوله:(بفتح الراء وكسرها فيهما) فالضمير يعود على أثربي ويثربي. وهو ما نص عليه المؤلف أيضًا في القاموس (ثرب) ص 62.

(5)

هو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزَّجاجي، تلميذُ الشَّيخ أبي إسحاق الزجاج، قرأ عليه ونُسِبَ إليه. له تصانيف عدّة من أشْهَرِها كتاب (الجمل في النحو). توفي سنة 340 هـ بطبرية.=

ص: 262

بِذَلك لأنَّ أَوَّل مَنْ سَكَنها عِنْدَ التَّفَرُّقِ يَثربُ بنُ قانِيةَ بن مهابيل

(1)

بن آدم بن عبيل بن عَوْصِ بن إِرم بن سام بن نوح، فَلَمَّا نزلها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَمَّاها طَيْبَةَ وطابَةَ كَرَاهِيَةً للتَّثريبِ. قال: ولو تكلَّف متكلِّفٌ أَمْكَنَهُ أنْ يَقُول في يَثرْب: إنَّهُ يفْعِل من قولهم: لا تَثريب عَلَيْكُم، أي: لا تَعْيِير ولا عَتْبَ كما قال تعالى: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}

(2)

مَعْنَاهُ: لا تَعْيِيرَ عليكَم بما صَنَعْتُم ولا تَوْبِيخ.

ويُقَال: أَصْلُ التَّثريبِ الإفساد، يُقَالُ: ثَرَبَ عَلَيْنا فلانٌ. انتهى

(3)

.

والأجْودُ أَنْ يُقالَ: فِعْلٌ مُضَارعٌ مِنْ ثَرَبَهُ يَثربُهُ ثَرْبًا، مِثَالُ: ضَرَبَهُ يَضرِبُهُ ضَرْبًا، إذا لامَهُ بذنْبهِ وَعَيَّرَه، وإنْ قال قائِلٌ: إنَّهُ مِنَ الثَّرْب، وَهُوَ شَحْمٌ رَقيقٌ يَغْشى الكِرش، والجَمْعُ ثُرُوبٌ وَأَثْرُبٌ، وَجَمْعُ الجَمْعِ أَثَارِبٌ. وَقَدْ أَثْرَبَ الكَبْش، إذا زادَ شَحْمُه، وشاةٌ ثَرْباءُ: سَمِينَةٌ وسمن كانَ لَهُ مَساغًا، وكأنَّهُ سُمِّيَ بذلِكَ تفاؤلًا بالسِّمَن والخِصْبِ وكَثْرةِ الخَيْرِ والبركة بِها.

أو يُقَالُ: إنَّهُ مِنْ ثَرَبَهُ يَثرِبُهُ ثَرْبًا، مِثَالُ: ضَرَبَهُ يَضرِبُه، إذا نَزَعَ عَنْهُ ثوبَهُ. وكانَ هذا حالُها قَبْلَ الإسلامِ، ودُخُولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وحُلُولهِ فيها. كانَ يَنْزِعُ ثَوْبَ العافِيةِ لِمَنْ نَزَلَ بِها.

أَو منَ الثَّرْب بِمَعنَى القِلَّةِ. يُقَالُ: أَثْرَبَ الرَّجُلُ إذا قُلِّلَ عطاؤُه، سُمِّيَ بِهِ لِقِلَّةِ وُجْدانِ الطعامِ بِها، أو منَ التَّثريبِ، بمعنى الطَّيِّ، يُقَالُ: ثَرَبَ بئرَه، أي طواها، وَأَتْقَنَ بناءَها، سُمّيَتْ بِهِ تفاؤلًا لحصانَتها وتَمَنُّعِها على مَنْ قَصدَها.

= بغية الوُعاة 2/ 160، إشارة التعيين ص 180.

(1)

في معجم البلدان 5/ 430 (مِهلائيل).

(2)

سورة (يوسف) آية: 92.

(3)

معجم البلدان 5/ 430.

ص: 263

ثُمَّ اخْتَلَفُوا؛ فقال بَعْضُهُم: أَثْرِبُ ويَثْرِبُ: اسْمان للنَّاحِيَةِ التي مِنْها مَدِينَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم

(1)

، وَقيلَ: اسْمانِ لمدينَةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم هُجِرا في الإسلامِ.

وقال الزُّبَيْرُ: كانَتْ يَثْرِبُ أُمَّ قُرَى المدِينَةِ، وَهْيَ ما بَيْنَ طرفِ قناةٍ

(2)

إلى طرفِ الجُرْفِ

(3)

، وما بَيْنَ المَالِ الذي يُقَال لَهُ: البرني إلى زبَالَة

(4)

.

قال الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّين المَطَرِي: هيَ اسْمُ ناحِيَةٍ بالمَدِينَةِ، وهي مَعْرُوفَةٌ بِهذا الاسْم اليَوْمِ، وَفِيها نَخِيلٌ كَثيرة مِلْكٌ لأهْلِ المَدِينَةِ، وَأَوْقَافٌ للفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِم، وَهي غرْبِيَّ مَشْهَدِ حَمْزَة رضي الله عنه، وَشَرْقِيَّ المَوْضِعِ المَعْرُوفِ بالبِرْكَةِ مَصْرِفَ عَيْنِ الأزْرَق يَنْزِلُها الرَّكْبُ الشامِيُّ في ورُودِهِ وصَدْره، وَيُسَمِّيها الحُجَّاجُ عُيُونَ حَمْزةَ، وكانَت يَثْرِبُ مَنْزِلَ بني حارِثَة بن الحارث

(5)

، بَطْنٌ ضَخْمٌ من الأوْسِ

(6)

. انتهى.

وأما قَوْلُه تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}

(7)

لحكايَةِ مَقَالَةِ بني الحارِثِ، أو مَقَالَةِ أَوْسِ بن قيظي وتابعيه

(8)

.

ويروى عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّهُ قال: "مَنْ قال للمدينة يَثْرِب

(1)

وقد ذهب إلى ذلك أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى. الدرة الثمينة ص 228، التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة ص 16.

(2)

تأتي في الباب الخامس (قسم المواضع).

(3)

تأتي في الباب الخامس (قسم المواضع).

(4)

الدرة الثمينة ص 28، وفاء الوفا 1/ 8، والقول منسوب فيهما إلى ابن زبالة، والزبير يروي عنه.

(5)

انظر عنهم جمهرة أنساب العرب ص 340.

(6)

التعريف ص 16.

(7)

سورة (الأحزاب) آية رقم: 13.

(8)

راجع تفسير القرطبي 14/ 147 - 149، وانظر شرح صحيح مسلم للنووي 9/ 155.

ص: 264

فَلْيَستَغْفِرِ الله تعالى ثلاثًا، إِنَّما هي طَيْبَة"

(1)

.

وروايَةُ الزُّبيرِ مَرْفوعًا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قال للمدينة يَثرب فَلْيَستَغْفِرِ الله عز وجل"

(2)

. وهذا الحَدِيث يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قال: إنَّ يَثربَ مِنْ أَسْماءِ المدينة لا اسْمُ ناحِيَةٍ كما تقدَّم.

ورواه أيضًا عَنْ أَبي أيُّوب رضي الله عنه أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهى أَنْ يُقَالَ للمدينةِ يَثرب

(3)

.

وَيَشْهَدُ لذلك الحَدِيثُ المتَّفَقُ على صِحَّتِهِ "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى، يقُولونَ يثرب وهي المَدِينَةُ"

(4)

.

ولَمَّا حُمِلَت نَائِلَةُ بِنْتُ الفَرَافِصَةِ

(5)

إلى عثمان بن عَفَّان رضي الله عنه، مِن

(1)

رواه ابن مردويه كما في القول المسدد لابن حجر ص 95، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان 2/ 357. كلاهما من طريق أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن ابن عباس، مرفوعًا.

إسناده ضعيف جدًّا. انظر علله في فضائل المدينة للرفاعي ص 37.

(2)

رواه الزبير بن بكار، عن ابن زبالة، من حديث أبي أيوب مرفوعًا. ذكره السمهودي في وفاء الوفا 1/ 10. وابن زبالة: كذبوه.

(3)

رواه ابن شبة في تاريخ المدينة 1/ 165، عن ابن أبي يحيى، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب، به.

في سنده: ابن أبي يحيى: هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، متروك. التقريب: 93، رقم:241.

(4)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أخرجه البخاري، في الحج، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس، رقم: 1871، 4/ 104.

ومسلم، في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم: 1382، 2/ 1006.

(5)

هي نائلة بنت الفَرافِصَة بن الأحوص الكلبي، كان والدها نصرانيًّا، ولَمَّا خطبها أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، أَمَر الفرافصة ولده ضبًا أن يزوجه إياها لأنَّه كان مسلمًا. كانت مَعَ عثمان لما حُوصِر يوم الدَّار، وقد قطعت بعض أصابعها، ولما سكتت الفتنة خطبها معاويةُ =

ص: 265

الكوفَةِ قالت تخاطِبُ أخاها:

(1)

أَحقًّا تَراهُ اليَوْمَ يا ضَبُّ أنَّنِي

مصاحبةٌ نَحْوَ المدينةِ أَرْكبا

لَقَدْ كانَ في فِتْيان حِصن بن ضَمْضم

لَكِ الويل ما تجري الخِباءَ المُحَجَّبا

قَضَى الله حَقًا أَنْ تموتي غريبةً

بِيَثْرِبَ لا تَلْقَيْنَ أُمَّا ولا أَبا

(2)

وقَدْ نَسَبُوا إليها السِّهام لِحُسْنِ صنْعَتِها بها، قال كُثيِّرٌ:

(3)

وَماءً كأنَّ اليثربِيَّةَ أنْصَلَتْ

بِأَعْقارِهِ دَفْعُ الإزاءِ نَزُوعِ

(4)

وَأَمَّا قول الرَّاعي

(5)

:

أَوْ رَعْلَةٌ مِنْ قَطا فَيْحَان حَلأهَا

عَنْ ماءِ يَثْرِبَةَ الشُّبَاكُ والرَّصَدُ

(6)

فَيَثْرِبَةُ بِزيَادةِ هاء اسْمُ لمَوْضع آخَرُ بِبلادِ العَرَبِ

(7)

.

وأمَّا عُرْقُوبُ صاحِب المواعِيدِ المَعرُوفَةِ، فالصَّحِيحُ أنَّهُ مِنْ أَهْلِ يَثْرِب، مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، مِنْ قُدَماءِ يَهُودها. لكن أَجْمَعُوا على تَثْنِيَةِ التَّاء وَفَتح

= رضي الله عنه فأبت ذلك. أنساب الأشراف ق 4 ط 1/ 496، التذكرة الحمدونية 3/ 29.

(1)

أخوها ضَبُّ بن الفرافِصة. انظر المصادر السابقة.

(2)

الأبيات على هذه الرواية وهذا الترتيب في معجم البلدان 5/ 430.

(3)

أبو صخر، كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر الخزاعي، شاعِرٌ متيم مشهور من أهل المدينة، كان يتشيَّع لآل البيت، يقول عنه المرزباني: كان شاعر أهل الحجاز في الإسلام لا يقدِّمون عليه أحدًا. معجم الشعراء ص 242، طبقات فحول الشعراء ص 540، الشعر والشعراء ص 510.

(4)

(ديوانه) ص 360.

(5)

هو عبيد بن حُصَيْن بن مُعَاوية النُّميري، شاعِرٌ أُمَوِيٌّ مُقَدَّم، سُمِّي بالرَّاعي لكثرة وصفه الإبل في شعره وإجادته ذلك. غلبَهُ جَريرٌ في الهجاءِ وفضحه. الشعر والشعراء ص 322، الأغاني 20/ 198، المذاكرة في ألقاب الشعراء ص 46.

(6)

ديوانه ص 59، وروايته:"عن ماء يَثْبَرة". والبيت على الرواية التي ذكرها المؤلف في معجم البلدان 5/ 431.

(7)

معجم البلدان 5/ 431.

ص: 266

الرَّاء

(1)

في قولِ الأشْجَعِيِّ:

(2)

وَعَدْتِ وكانَ الخُلْفُ مِنْكِ سجِيَّةً

مَواعِيدَ عُرْقُوبِ أخاهُ بِيَتْرَبِ

(3)

وَيَتْرَبُ هذه مَدِينَةٌ بِحَضْرَمَوْت نَزَلها كِنْدَةُ

(4)

ويُقَال: إنَّ عُرْقُوبَ صاحِبُ المواعِيدِ كانَ بِهَا.

قال الكَلْبيُّ:

(5)

سَمِعْتُ أَبي يُخْبِرُ بحديثِهِ أنَّهُ كانَ رَجُلًا مِنَ العمالِيقِ يُقَالُ لَهُ: عُرْقُوبٌ. فَأَتَاهُ أَخٌ لَهُ يَسْألهُ فقال لَهُ: إذا طلعت النَّخْلَةُ فَلَكَ طَلْعُها، فَلَمَّا أتاه للعِدَة قَالَ: دَعْها تَصِيرَ بَلَحًا، فَلَمَّا أبْلَحَتْ قال: دَعْها تَصِيرَ زَهْوًا، ثمَّ حَتَّى تَصيرَ بُسْرًا، ثمَّ حَتَّى تَصِيرَ رُطَبًا ثمَّ تَمْرًا، فَلَمَّا أَثْمَرَتْ عَمَدَ إِلَيْها عُرْقُوبُ مِنْ اللَّيْلِ فَجَزَّها ولم يُعْطِهِ شيئًا، فَصَار مَثلًا في الخُلْفِ

(6)

.

(1)

لم يُجمع العلماء على ذلك، بل رواه أبو عبيد القاسم بن سلام بالمثلثة، أي يثرب، ثم عَقَّبَ على تلك الرواية بقوله: وبعضهم يرويه: بأترب. الأمثال ص 87. وقد دار نقاش كثير بين العلماء في تحديد الرواية الصحيحة؛ سواء في هذا البيت أو في أبيات أخرى ضمَّنَتْ هذا المثل، مثل قول الشماخ:

وواعدني ما لا أحاول نفعهم

واعيد عرقوب أخاه بيترب

راجع (شرح أبيات سيبويه) لابن السيرافي: 1/ 343، فرحة الأديب ص 83، الصحاح (ترب) 1/ 91، اللسان (ترب) 2/ 231. وقد بسط القول في ذلك العلامة البغدادي في كتابه (حاشية على شرح بانت سعاد) 2/ 207210.

(2)

هو جبيهاء أو جبهاء الأشجعي، واسمه يزيد بن عبيد، شاعر أموي بدوي من مخاليف الحجاز، مُقِلٌّ، وليس من معدودي الفحول. الأغاني 16/ 141، المؤتلف والمختلف ص 77.

(3)

شعره ص 16، ضمن شعراء أمويون.

(4)

وقال قطرب: يَتْرَبُ: هي قرية بين اليمامة والوشم. معجم ما استعجم 14/ 1388، معجم البلدان 5/ 429.

(5)

هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، أبو المنذر، الأخباري النسابة، لم يوثقه أهل الحديث. مات سنة 204 هـ. وفيات الأعيان 6/ 82، لسان الميزان 6/ 196.

(6)

معجم البلدان 5/ 429، وعنه ينقل المؤلف.

ص: 267

أرْضُ الهِجْرَة: تَأْتي إِنْ شاء الله تعالى في دَارِ الهجرة.

أكَّالَةُ البُلدان: البلدانُ جَمْعُ بَلَدٍ، والبَلَدُ والبَلْدَةُ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْ الأرْضِ مُسْتَحِيزَةٍ عامرَةً كانَتْ أَوْ غَيْرَ عَامِرَةٍ

(1)

. وأصْلُ البلادةِ التأثِيرُ. والبَلَدُ: الأثَرُ. وسُمِّيَت المدينة بَلَدًا وبَلْدَة؛ لأنَّها مَوْضِعُ تأثير النَّاس. وَكِرْكِرَةُ البَعِيرِ بَلْدَةً؛ لأنَّها تُؤَثِّرُ في الأرْضِ، أَنْشَد سيبويه:

أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فوقَ بَلْدَةٍ

قَلِيلٍ بِها الأصْوات إلَّا بُغَامُها

(2)

قال أبو حاتم: البَلْدَةُ الصدر سميت المدينة بَلْدةً لأنَّها صَدْرُ القُرَى، كما يُقَالُ لأعلى المَجْلِسِ وأَرْفَعِهِ: صَدْرُ المَجْلِسِ. ومِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِكُلِّ مِصْرٍ: بَلْدَةً.

وَسُمِّيَتْ مَدِينةُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكَّالَةَ البُلْدَان؛ لأنَّها افْتُتِحَت منها جَمِيعُ البُلْدَان التي شرَّفَها الله تعالى بالإسلامِ والإيمان.

رُوِّينا من عند البخاري وَمُسْلم ومَالِكِ بن أَنَس في المُوَطَّأ مِنْ حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى يَقُولُون يَثْرب وَهِيَ المدِينة، تَنْفي النَّاس كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَث الحَدِيدِ"

(3)

.

وقال صاحِبُ النِّهايَةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللّه تعالى يَنْصُرُ الإسلامَ والدِّين بأهل المدينة، وهم الأَنْصَار، ويَفْتَحُ على أَيْدِيهِم القُرى يعني البُلْدان، وَيُغْنِمُها إيَّاهم

(1)

اللسان (بلد) 3/ 94.

(2)

البيت لذي الرُّمَّة، وهو في (ديوانه) ص 1004، الصحاح (بلد) 2/ 449، اللسان (بلد) 3/ 95، والمقصود بالبلدة الأولى: الصدر، وبالثانية: الأرض.

(3)

أخرجه البخاري، في الحج، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس، رقم: 1871، 4/ 104، ومسلم، في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم: 1382، 2/ 1006، ومالك، في الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 5، 2/ 887.

ص: 268

فيأكلونَها

(1)

.

وهذا من باب الاتِّساع والاخْتِصار وحذفِ المُضافِ، والتَّقْدِير: يأكل أهْلُها أَمْوَال القُرَى، ويَغْلِبُ أَهْلُها بالإسلام ونَصْرِ رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم على غَيْرِها مِن أهل المُدِنِ والقُرَى

(2)

.

وفي إيثار صِيغَةِ المُبالَغَةِ في التَّسْمِيَةِ إِشْعارٌ بأنَّ انْتِشَار الإسلام وغَلَبَةَ أهل المدينة واستيلاء الصَّحابَةِ على مُدِنِ الدُّنيا بفتْحِها وَتَسْخِيرِها يكُونُ سَرِيعًا ذَريعًا في مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَقَدْ كانَتْ، ولله الحمد، قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللّه زوى لي الأرْضَ فَأُرِيتُ مَشَارِقَها ومَغَارِبَها، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أمَّتي ما زُوِيَ لي منها"

(3)

.

وَسُمِّيَتْ أكَّالَةَ البُلْدَانِ لأنَّ اللّه سبحانه وتعالى أمرها بأن تُعْلِيَ وتَرفعَ سُطُوحَها على سُطُوحِ البُلْدَانِ، وكُلُّ ما علا على شَيْءٍ وارْتَفَع عَنْهُ قَدْرًا وسَما عَلَيْهِ رتبة حتى احتُقر صَغُر ذلك الشَّيءُ دونَه، وتضاءل فضلًا في ليانَةٍ ولدُونَةٍ، فإنَّه يُقَالُ عَنْهُ: أكله أو بَلَعَهُ يستعيرون الأكْل والبلع لشِدَّةِ العُلُوِّ وقوةِ الاستيلاء وسلطانِ القَهْرِ كما هُو هِجِّيرُهم

(4)

في أساليب بلاغاتهم.

وكتب عُثْمانُ إلى عَليٍّ رضي الله عنهما يوم الدَّارِ في جُمْلَةِ كتابٍ:

فَإِنْ كنْتُ مَأكولًا فكُن خَيْرَ آكِلٍ

وإلَّا فَأَدْرِكني وَلَمَّا أُمَزَّقِ

(5)

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 58.

(2)

غريب الحديث للخطابي 1/ 434، المجموع المغيث 1/ 82.

(3)

جزء من حديث طويل، عن ثوبان، مرفوعًا.

أخرجه مسلم، في الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعض ببعض، رقم: 2889، وأبو داود، في الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها، رقم: 4249، 5/ 13 - 14، والترمذي، في الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا في أمته، رقم:2176.

(4)

أي: دأبهم وشأنهم. القاموس (هجر) ص 495.

(5)

أنساب الأشراف ق 4 ح 1/ 568. عيون الأخبار 1/ 34، الكامل للمبرد ص 26، والبيت=

ص: 269

وَأَنْشَدَ بَعْضُ العَرَبِ قَصِيدةً لِبَعْضِ فصحائهم فأنْشَدَهُ أبياتًا ثم قال له:

لا تُبْرِزْ كَلِمَتَك لا تَأْكُلْها هذه الأبياتِ.

فَمُقْتَضَى الأمْرِ الإلهي: "يا مسكينَةُ ارفعي أجاجيرك

(1)

على أجاجير القرى"

(2)

، فتَسَلَّطت المدينةُ على جميع الأمْصَارِ واسْتَوْلَتْ، وارْتَفَعَتْ على بُلْدانِ الأقْطارِ قَدْرًا واسْتَعْلَت، وقَهَرَ مَدَرُها كل بَلَدٍ ودان، وسَنَحَتْ على سائر بلادِ العالم

(3)

والأرْدان، فَسُمِّيَتْ لذلك أكَّالَةَ البُلدَانِ.

الإيمانُ: ذكروهُ في أَسْماءِ المدينة مُحْتَجِّينَ بقوله تعالى، في الثَّنَاءِ على الأنْصار:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}

(4)

قال الزُّبَيْرُ: حدثني محمد بن الحسن عن محمد بن طلحة عن عثمان بن عبد الرحمن قال: "سمَّى الله عز وجل المدينة الدَّار والإيمان". وَأَسْنَدَ عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: "سَمَّى اللّه تعالى المدينة الدار والإيمان"

(5)

.

= للممزَّق العبدي، وهو من قصيدة له في (الأصمعيات) ص 164 - 166، واسم الممزق شأس بن نهار بن الأسود، وسمي بهذا الاسم لقوله هذا البيت. راجع ألقاب الشعراء 2/ 316، ضمن نوادر المخطوطات.

(1)

الأجاجير: السطوح. ابن شبة 1/ 163.

(2)

جزء من أثر عن كعب الحبر:

رواه ابن شبة 1/ 163، من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، عن كعب.

في سنده: الدراوردي: صدوق، كان يحدث من كتب غيره فيخطئ. التقريب 358 رقم:4119. ورواه ابن النجار في الدرة الثمينة ص 27، والمطري في التعريف ص 16، والسمهودي في وفاء الوفا 1/ 23. كلهم من طريق ابن زبالة. وابن زبالة: كذبوه.

(3)

كلمة غير واضحة.

(4)

سورة (الحشر) آية رقم: 9.

(5)

رواهما ابن زبالة، بسنده، عن عثمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن جعفر، موقوفًا كما في وفاء=

ص: 270

وقال الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسير الآية الكريمة: "ما معنى عَطْفِ الإيمانِ على الدَّار، ولا يُقَالُ: تَبَوَّؤوا الإيمان"؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ تَبَوؤوا الدَّار وأخلصُوا الإيمَانَ، كَقَوْلهِ

(1)

:

عَلَفْتُها تبنًا وماءً باردًا

(2)

أو جَعَلُوا الإيمانَ مُسْتَقَرًّا ومستَوطَنًا لهم لِتَمَكُّنِهِم منه واسْتِقَامَتِهِم عَلَيْهِ، كما جعلوا المدينة كذلك.

أو أرادَ دار الهِجْرَةِ ودار الإيمانِ، فأقام لام التَّعْرِيفِ في الدَّار مَقامَ المضَاف إليه، وَحَذَفَ المضافَ من دارِ الإيمان ووَضَعَ المضاف إليه.

أو سَمَّى المدينة لأنَّها دارُ الهِجْرَةِ، ومكان ظُهُورِ الإيمانِ بالإيمان

(3)

.

وقال القاضي البيضاوي

(4)

: قيل: سَمَّى المدينة بالإيمانِ لأنَّها مَظهَرُهُ وَمَصيرهُ

(5)

.

= الوفا 1/ 11.

وروى الثاني: ابن شبة 1/ 162 من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن ابن موسى، عن سلمة مولى منبوذ، عن عبد اللّه بن جعفر، موقوفًا. انظر علله في فضائل المدينة للرفاعي ص 305 - 307.

(1)

في الأصل: (لقوله)، وهو تحريف.

(2)

وبعده: حتى غدت همَّالة عيناها. وهذا الرجز كثير الدوران في كتب النحو واللغة، ولا يعرف له قائل كما نص على ذلك البغدادي في (الخزانة) 3/ 135. الخصائص 2/ 431، معاني القرآن للفراء 1/ 14، الإنصاف ص 322.

(3)

الكشاف 4/ 83.

(4)

هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي، أبو سعيد أو أبو الخير، ناصر الدين البيضاوي. قاضٍ مفسر علامة. توفي سنة 685 هـ. طبقات الشافعية للسبكي 5/ 59، بغية الوعاة 2/ 50.

(5)

تفسير البيضاوي المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل 2/ 481.

ص: 271

وقال الإمام فخرُ الدِّين

(1)

: أو سَمَّى المدينة بالإيمانِ؛ لأنَّه ظَهَر مِنْها

(2)

.

وقيل: هَذا من بابِ قَوْله:

متَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا

(3)

ومِنْهُ قولُه تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}

(4)

أي: وَادْعُوا شُرَكاءكم

(5)

.

وقيل: جَعَلَ تَمَكُّنَ الإيمانِ مِنْهُم واستقْرَارَهُ فِيهِم كأنَّ ذلِكَ مكان، كما قال سلمان

(6)

: أنا ابْنُ الإسلام.

وقال القُرْطُبِيُّ

(7)

: يَجُوزُ أَنْ يَكُون تبوُّءُ الإيمانِ على طريقِ المثل، كما يُقَالُ: تَبَوَّأ مِنْ بني فلان الصَّمِيم. والتَّبَوُّءُ: التَّمَكّنُ والاستِقْرَارُ

(8)

.

(1)

هو محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن التميمي البكري، فخر الدين أبو عبد الله، الطبرستاني الأصل، الرازي المولد، عالم متبحر فاق أهل زمانه في علم الكلام، له مصنفات كثيرة. توفي سنة 606 هـ. وفيات الأعيان 4/ 248، الوافي بالوفيات 4/ 248.

(2)

تفسير الفخر الرازي 29/ 288.

(3)

(متقلدًا سيفًا ورمحًا) عجز بيت وصدره: (يا ليت زوجك قد غدا)

والبيت - بلا نسبة - في الخصائص لابن جنّي 2/ 431، أمالي المرتضى 1/ 154، شرح المفصل لابن يعيش 2/ 50.

(4)

سورة (يونس) آية رقم: 71.

(5)

تفسير القرطبي 18/ 21.

(6)

أي: سلمان الفارسي. سير أعلام النبلاء 1/ 505، الإصابة 4/ 223.

(7)

هو محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي، من كبار المفسرين من أهل قرطبة، له مصنفات عدّة أشهرها تفسير للقرآن المسمى جامع أحكام القرآن، ويشار إليه اختصارًا باسم تفسير القرطبي. توفي سنة 671 هـ. الوافي بالوفيات 2/ 122، نفح الطيب 1/ 210.

(8)

تفسير القرطبي 18/ 21.

ص: 272

وقال ابن عطية

(1)

: معنى {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ}

(2)

معًا

(3)

.

والإيمانُ: التَّصْدِيقُ. وَأَصْلُهُ مِنَ الأمَانِ؛ لأنَّ المُؤمِنَ إذا صدَّقَ ما جاءَ بهِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ بِهِ، وعَمِلَ بِمَا أمَرَ، وانْتَهى عمَّا نَهَى، تورَّع عَنْ أمْوَالَ المُؤمِنِينَ وَدِمائِهِم وأَمِنُوه، وكانَ كُلُّ واحِدٍ في أَمانٍ منه، وكان هُو الذي أمَّنَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ لَه، وَيُقَالُ: آمَنَ به وَآمَن لَه، قال تعالى:{يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ}

(4)

وقال عز وجل: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)}

(5)

.

قال النابِغَةُ

(6)

:

والمُؤمِنُ العائِذاتِ الطَّير يَمْسَحُها

ركبانُ مَكَّةَ بين الغيلِ والسَّنَدِ

(7)

أي: والله الذي أمّن الطَّيْر العائذات في الحرمِ. فالإيمانُ مُشْتَقٌّ مِنَ الأمَانِ، والإيمانُ التَّصْدِيقُ

(8)

وذكرَ أبو بَكر أَحْمَد بن مروان المالِكي الدينوري

(9)

في كتاب "المحاسن"

(1)

هو القاضي الحافظ أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي. كان واسع المعرفة، من الحفاظ الفقهاء وأهل الحديث والتفسير والأدب. توفي سنة 542 هـ، وقيل: 541 هـ. قلائد العقيان 3/ 655، الخريدة قسم شعراء الأندلس 3/ 490، تاريخ قضاة الأندلس ص 109.

(2)

سورة (الحشر) آية رقم: 9.

(3)

المحرر الوجيز ص 15.

(4)

في آيات عدّة، منها التي في سورة (البقرة) آية رقم:232.

(5)

سورة (الشعراء) آية رقم: 111.

(6)

هو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر الذبياني، أبو أمامة، شاعر جاهلي اشتهر بمدحه للنعمان بن المنذر، واعتذارياته له، كان شريفًا مقدمًا في قومه، عَدَّهُ ابن سلام في الطبقة الأولى من الشعراء الجاهليين. طبقات فحول الشعراء 1/ 451، الشعر والشعراء 1/ 73، الأغاني 9/ 154.

(7)

(ديوانه) ص 20.

(8)

طمس بمقدار ست كلمات.

(9)

الفقيه العلامة المحدث، نزل مصر. مات سنة 293 هـ. الديباج المذهب ص 3233، سير =

ص: 273

من تَصنيفِهِ فقال: حدثنا إسماعيل بن يونُس ومحمد بن مهران، حدثنا عمرو بن ناجية حدثنا نُعيم بن سالم بن قنبر، مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لَمَّا حَشَر الله تعالى الخلائق إلى بابِل بَعَث إليهم رِيحًا شَرْقِيَّةً وغَرْبِيَّةً وقبلِيَّةً وَبَحْرِيةً، فجَمَعَتْهُم إلى بَابِلَ فَاجْتَمَعُوا يَوْمَئِذٍ يَنْظُرون لما حُشِرُوا له، إذْ نادى منادٍ: مَنْ جعلَ المَغْرِبَ عَنْ يَمِينِهِ والمَشْرِقَ عَنْ يسارِهِ واقْتَصدَ البَيْتَ الحرامَ بِوَجْهِهِ فَلَهُ كلامُ أَهْلِ السَّماءِ، فَفَعَلَهُ يَعْرُبُ بن قَحْطان، فقيل لَهُ: يا يَعْرُب بن قَحْطان بن هُود أنت هُوَ، فكان أوَّل مَنْ تكلَّم بالعَرَبيَّة، ولم يَزَلْ المنادي ينادي: مَنْ فَعَل كذا وكذا فَلَهُ كذا وكذا، حتَّى افْتَرَقُوا على اثنين وثلاثين لِسَانًا

(1)

، وانقطَع الصوْتُ وتَبَلبلَتِ الألْسُن، فَسُمِّيت بابل. وكان اللِّسان يَوْمَئِذٍ بِلُغَتِهِم بابل

(2)

. وهَبَطَتْ ملائِكَةُ الخير والشَّرِّ، وملائِكَةُ الحياءِ والإيمانِ، وملائِكَةُ الصِّحَّةِ وملائِكَةُ الشَّقاء وملائِكَةُ الغِنَى وملائِكَةُ الشَّرَف، وملائِكَةُ المرُوءةِ وملائِكَةُ الجفاء، وملائِكَةُ الجَهْلِ وملائِكَةُ السَّيف، وملائِكَةُ البَأْسِ، حتَّى انْتَهوا إلى العراقِ، فقال بَعْضُهُم لِبَعْضٍ: افْتَرِقُوا. فقال مَلَكُ الإيمان: أَنا أَسْكُنُ المدينة

(3)

، فقال مَلَكُ الحياء: وأنا معك، فَأَجْمَعَتِ الأمَّةُ على أَنَّ الإيمانَ والحياءَ ببَلَدِ رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم. فقال مَلَكُ الشَّقاءِ: أنا أَسْكُنُ البادِيَةَ، فقال مَلَكُ الصِّحَّةِ: وأَنا معك فَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ على أَنَّ الشَّقاءَ والصِّحَّة في الأعراب. فقال مَلَكُ الجَفَاءِ: أنا أَسْكُنُ المَغْرِب، فقال مَلَكُ الجَهْلِ: وأنا معك، فَأجْمَعَتِ الأُمَّةُ على أَنَّ الجَهَلَ والجَفَاءَ في البَرْبَرِ. فقال مَلَكُ السَّيْفِ: أَنا أَسْكُنُ الشَّام، فقال مَلَكُ البأْسِ: وأنا معك، وقال مَلَكُ

= أعلام النبلاء 15/ 427، حسن المحاضرة 1/ 367.

(1)

في معجم البلدان 1/ 310: "على اثنين وسبعين لسانًا".

(2)

في معجم البلدان: "وكان اللسان يومئذ بابليًا".

(3)

في معجم البلدان: "أنا أَسْكُنُ المدينة ومكة".

ص: 274

الغِنَى: أنا أُقِيمُ هاهنا، فقال مَلَكُ المروءةِ: وأَنا معك، فقال مَلَكُ الشَّرَفَ: وأنا مَعَكُما، فاجْتَمَعَ مَلَكُ الغِنَى والمُرُوءَةِ والشَّرَفِ بالعراق

(1)

.

البارَّةُ والبَرَّةُ: مِنْ قولهم: رَجُلٌ بارٌّ وبَرٌّ، وامْرَأةٌ بارَّةٌ وبَرَّةٌ، أي: كَثِير البِرِّ بالكسر، وهو الاتِّساع في الإحسان. وَرَجُلٌ بارٌّ بِأَبَوَيْه مُحْسنٌ إليْهِما

(2)

.

وقال بَعْضهُم: البَرُّ - بالفَتْحِ - مَنْ تتوالى مِنْهُ أَعْمَالُ البِرِّ

(3)

. وامرَأةٌ برَّةٌ إذا كانَتْ مُتَفَضِّلَةً على أهلها بالإحسانِ وَحُسْنِ العِشْرَةِ لهم. سُمِّيتَ المدينَةُ بِهما لِبِرِّها إلى أَهْلها خُصُوصًا، وإلى جَمِيعِ العالم عُمُومًا، وَبِرُّها إلى أهلها من وُجُوهٍ مِنْها:

كَثْرةُ المياهِ في قُنِيِّهَا

(4)

وآبارها ومَسَايلِ أَوْدِيتها وأنهارِها، ثُمَّ بعُذُوبَةِ مائها، وقُرْبِ رشائها، وَحُسْن بنائها، ورواحِ رياحها، وانْصِلاحِ هوائها، وسَعَةِ فِنَائِها، وحُلُولِ ترابها من العِلَلِ مَحَلِّ دوائها، وشفاء أدوائها مع كثرةَ مَنازِهها ومَرَافِقها، وانتساق

(5)

بساتينها وحدائقها، مَعَ البركَةِ النَّازِلَةِ في كُلِّ أَمْرِها لا سِيَّما في نَخْلِها وثمَرها، وحلاوةِ عنبها وتينها وخضرة بقولها ونضارة بساتينها. كُلُّ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ بِرِّ البلادِ ويَتنزَّلُ مَنْزِلَةَ الآباءِ والأمَّهات للأولاد.

ومنها: المَبَرَّةُ العُظْمَى والمَكْرُمَةُ الكُبْرَى، وذَلِكَ أَنَّها دارُ الهِجْرَةِ

(1)

الحديث بتمامه في معجم البلدان 1/ 310، وذكر جزءًا منه السمهودي في وفاء الوفا 1/ 11. زاد السمهودي في أسماء المدينة مما أوله همزة: أرض الله، أكالة القرى.

(2)

تهذيب اللغة 15/ 150، اللسان (برر) 4/ 53.

(3)

القاموس (برر) ص 348.

(4)

ورد في اللسان (قنا) 15/ 204 القني: جمع قناة، وهي الآبار التي تحفر في الأرض متتابعة ليستخرج ماؤها ويسيح على وجه الأرض. قال: وهذا الجمع إنما يصح إذا جمعت القناة على قَنًا، وجمع القنا على قُنِيِّ فيكون جمع الجمع، فإن فعلة لم تجمع على فُعول.

(5)

الانتساق: من النسق، وهو ما كان على طريقة نظام واحد. اللسان (نسق) 10/ 353.

ص: 275

المُحَمَّدِيَّةِ، وَمَحَلُّ ظُهُورِ أَنْوَارِ البَرَكات النَّبَوِيَّة، ومَنْبَعُ فيض بِحَارِ أَنْوارِ المِلَّةِ الإسلامِيَّة، دَارُ النَّصْرِ والانْتِصار، ومكان الظُّهُورِ والإظهار، مَهْبِطُ الملائِكَةِ المُقَرَّبين، وَفَلَكُ يَنْبُوع شُمُوس سَعَادات المُومِنين، دار الأحْبابِ الكِرَام، وَمَوْطِنٌ خَصَّهُ الله بالإجلالِ والإكرامِ، مَنْ نَزَل بجَنابها حَفَّتْهُ الخَيْرَات، ومَنْ حَلَّ بِبابِها شَمِلَتْهُ الأنْوَارُ والبَرَكات، فَهذِهِ الأمُوْرُ أَعْظَمُ المَبَرَّاتِ وَأَجَلُّ الحسناتِ.

البَحْرَةُ والبُحَيْرَة: الأوَّل بِفَتْحِ الباءِ وسُكُونِ الحاء المُهْمَلَةِ، والثاني بِلَفْظِ تَصْغِير الأوَّل.

ذكر هذَيْنِ الاسْمَيْن ياقوت الحموي في المُعْجَمِ الكبير، فقال في ترجمة بَحْرَةَ التي مِنْ أَعْمالِ الطائِفِ: والبَحْرَة أَيْضًا مِنَ أَسْماءِ مَدِينَةِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم والبُحَيْرَةُ أيضًا، مِن أَسْمائِها

(1)

.

والبَحْرَةُ: الأرْضُ والبَلْدَة، يُقَالُ: هَذِه بَحْرَتُنا، أي: أَرْضنا وَبَلْدَتنا

(2)

.

وفي حَدِيثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه لَمَّا عادَ سَعْدَ بن عبادَةَ رضي الله عنه، في مَرَضِهِ، وقَفَ في مَجْلِسٍ فيه عبد الله بن أُبَي بن [أبي] سَلُولٍ، فَلَمَّا غَشِيَتْ عُجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عبد الله بن أُبي أَنْفَه ثُمَّ قال: لا تُغَبِّروا عَلَيْنا، فَوقَفَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى اللّه تعالى وقراءَةِ القُرْآن، فقال لَهُ عبد الله: أَيُّها المرْءُ، إنْ كانَ ما تَقُولُ حَقًا فلا تُوذنا في مَجْلِسِنا، وَارْجِع إلى أَهْلِكَ، فَمَنْ جاءَكَ منَّا فَقُصَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَكِبَ دابَّتَهُ حَتَّى دَخَل على سَعْدِ بن عبادة رضي الله عنه فَقال: أي سَعْدُ؛ أَلَمْ تَسْمَعْ ما قال أبو حُبَابٍ قال كذا، قال سَعْدٌ رضي الله عنه: اعْفُ عنهُ واصْفَحْ، فَوَاللهِ لَقَدْ أَعْطاكَ الله الذي أَعْطاكَ، ولقد اصْطَلَح أَهْلُ هذه

(1)

معجم البلدان 1/ 346.

(2)

اللسان (بحر) 4/ 44.

ص: 276

البَحْرَة،

(1)

على أن يُتوِّجُوهُ، يَعْني يُمَلِّكوه، فَيُعَصِّبُوهُ بالعِصابَةِ، فَلمَّا رَدَّ اللّه تعالى ذلك عنه بالحقِّ الذي أَعْطَاكَهُ شرِقَ

(2)

لذلك، فَذَلِكَ فَعَلَ به ما رَأَيْتَ، فَعفا عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

والبُحَيْرَةُ لَيْسَتْ بِتَصْغِيرِ بَحْرٍ، ولو كان تَصْغِيرَهُ لكان بُحَيْرٌ، ولكنَّهم أرادُوا بالتَّصغِيرِ حَقِيقَة الصِّغر، ثُمَّ أَلْحَقُوا بِهِ التَّأنيث على معنى أَنَّ المؤنَّثَ أَقَلُّ قَدْرًا مِنَ المُذَكَّرِ، وشَبَّهُوهُ بالمُتَّسَعِ مِنَ الأرْضِ.

وأَمَّا اشْتِقاقُ البَحْرِ، فقال الخَلِيلُ: سُمِّيَ البَحْرُ بَحْرًا لاسْتِبحَارِهِ، وَهُوَ سَعَتُهُ وُانْبِسَاطه.

ويُقَالُ: اسْتَبْحَرَ فلانٌ في العِلْمِ، وتَبَحَّرَ الرَّاعي في رِعْيٍ كثِيرٍ، وتَبحَّرَ في المالِ؛ كَثُرَ مالُهُ

(4)

. سُمِّيَتْ مَدِيَنةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بالبَحْرَةِ وبُحَيْرَة، لكَوْنِها في مُتَّسَعٍ مِنَ الأرْضِ وَفُسْحَةٍ مِنَ الدِّيار، لا تَكْتَنِفُها الجبال والأطْوَاد، ولا تختنقها التِّلالُ والوِهَاد، بل واقعٌ في بَسيطٍ مِنَ الخُبوب كالكف ......

(5)

عَنْهُ مُنْدَفِعٌ مُتكَفٌّ

(6)

.

(1)

كذا في الأصل، وإحدى روايات البخاري. انظر: فتح الباري 8/ 80.

وفي رواية البخاري رقم: 4566، ومسلم رقم: 1798: البُحَيْرَة.

(2)

أي: غصَّ به، وهو مجاز، أي أنه لم يقدر على إساغته وابتلاعه فغصَّ به. اللسان (شرق) 10/ 177.

(3)

من حديث أسامة بن زيد، أخرجه البخاري، في التفسير، باب (ولتسمعن) من الذين أتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرًا، رقم: 4566، ومسلم، في الجهاد والسير، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين، رقم:1798.

(4)

العين 3/ 219، وليس فيه: كثر ماله.

(5)

أربع كلمات لم أستطع قراءتها.

(6)

زاد السمهودي في أسماء المدينة مما أوله حرف الباء: البلاط، البَلد، بيت الرسول. وفاء الوفا 1/ 12.

ص: 277

الجابِرَةُ والمَجْبُورَةُ: سُمِّيَت جَابِرَةً مِنْ قَوْلِهم: جَبَر الجابِرُ العَظْمَ المكْسُورَ جَبْرًا وجُبُورًا وجِبَارَةً، وَجَبَّرَه تَجْبِيرًا فَجَبَر العَظْمُ

(1)

بِنَفْسِهِ جَبْرًا، أَصْلَحَهُ فانْجَبَرَ، واجْتبَرَهُ فَتَجَبَّرَ. وَمِنْ

(2)

جَبَرَ الفَقِيرَ يَجْبُرُهُ جَبرًا؛ إذا أَحْسَنَ إِلَيْهِ أَوْ أغْنَاهُ بَعْدَ فَقْرٍ فاسْتَجْبَرَ واجْتبَرَ. أو مِن جَبَرَهُ على الأمْرِ: أَكْرَهَهُ وأَلْزَمَهُ إياهُ

(3)

، كأنَّها سُمِّيَتْ جابِرَةً لأنَّها تَجْبُرُ الكَسِيرَ بإرسانها

(4)

وبميزاتها، وتُغنِي الفَقِيرَ بإحْسَانِها ومَبَرَّاتِها، أو لأنَّها تُجْبِرُ المُهَاجِرَ إليها على مطالَعَةِ آياتِها، والاستضاءةِ مِنْ شَمْسِ السَّعَادَةِ باقْتِباسِ إياتِها

(5)

.

وأمَّا تَسْمِيَتُها بالمَجْبُورَةِ فلأَنَّ اللّه سبحانه وتعالى جَبَرها بكَشْفِ عَمَاها ونَقْلِ حُمَّاها، وتطييب قاعها وبِقَاعِها، وَإِضْعافِ البرَكَةِ في مُدِّها وصَاعها، إلى غَيْرِ ذلِكَ مِمَّا جَبَرَ الله تعالى بِهِ انْكِسَارَهَا، ويَسَّرَ بِهِ اعْتِسَارَها.

وجَبَرها الله سُبْحانَهُ لَمَّا بَكَتْ وشَكَتْ إلى مَوْلاها، وانجزعت لِمْوتِ خَيْرِ الخَلْقِ واضْطَرَبَتْ لِبَلْوَاها، فأجابَها اللّه تعالى وَأَشْكاها، وجَبَرَها بِدَفْنِهِ صلى الله عليه وسلم فيها وَأَزالَ شَكْوَاها، وضَمَّتْ تُرْبَتُها جَسَدَهُ الكَرِيمَ، واشَتَمَلَتْ بُقْعَتُهَا على أَعْظُمِ هذا النَّبِيِّ العظيم صلى الله عليه وسلم، فَتَاهَتْ بِذَلِكَ طَرَبًا وعَجَبًا، وسَحَبَتْ ذيل الافْتِخارِ على جِمِيعِ الآفاقِ والأقْطَارِ شَرْقًا وغَرْبًا، فَهِي بِهذا السِّرِّ الكريم مَسْرُورة، وحالها

(1)

ونحو ذلك في القاموس المحيط ص 360، وقد علق الشيخ نصر الهوريني على كلام المصنف فقال: (قوله: جبر العظم

إلخ، قال شيخنا: وقد خلط المصنف بين مصدري اللازم والمتعدي، والذي في الصحاح وغيره التفصيل بينهما، فالجبور كالقعود مصدر اللازم، والجبر مصدر المتعدي، وهو الذي يعضده القياس

).

(2)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب: أَوْمِنْ.

(3)

القاموس (جبر) ص 360.

(4)

الإرس: بالكسر، الأصل الطيب. القاموس (إرس) ص 530.

(5)

ضوءها. المعجم الوسيط 1/ 35.

ص: 278

على هذا اللطف بِأَعْظُمِها الشَّرِيفة مَجْبُورة.

الحَبِيبةُ والمُحَبَّةُ والمُحَبَّبَةُ والمَحْبُوبَةُ: هذه الأسماءُ الأرْبَعَةُ من وادٍ واحدٍ، والحُبُّ والحُبَابُ بضمِّهِما الوِدَاد:

[متى] أَلْقَ زِنْباعَ بْنَ رَوْحٍ بِبَلْدَةٍ

ليَ النِّصْفُ مِنْهُ يَقْرَع السِّنَّ مِنْ نَدَم

(1)

قُلْتُ: ولا على غير بيتين فيما ذكرهُ الزَّمَخْشَرِي

(2)

وَهُما:

تلكم قُرَيْشٌ تمناني لِتَقْتلَني

فلا وَرَبِّكَ ما بَرُّوا ولا ظَفِرُوا

فإن هَلَكْت فرَهْنٌ ذِمَّتِي لَهُمُ

بذات رَوْمَين لا يعفو لها أَثِرُ

(3)

والحِبُّ والحِبَاب، بِكَسْرِهما: المَحَبَّةُ والوِدَاد، يُقَالُ: أحَبَّهُ فهُوَ مَحْبُوبٌ، على غَيْرِ قياسٍ، ومُحَبٌّ على القِياسِ لكنَّهُ شاذٌّ. وحبَبْتُهُ أَحِبُّهُ

(4)

أَشَدُّ، وَأَحْبَبْتُه واسْتَحْبَبْتُه بِمَعْنَى

(5)

. وحَبَّبَهُ إليَّ: جعلني أُحِبُّهُ. والحَبيبُ: المُحِبُّ، والحبيب أيضًا، والحُبَابُ بالضَّمِّ، والحِبُّ بالكَسْرِ: المَحْبُوَبُ. والحِبَّةُ بالكَسْرِ: الحَبِيبَةُ.

سُمِّيَتْ بِهَذه الأسْماء لِقَوْلِ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم فيما رُوِّيناهُ مِن عندِ البخاري ومسلم في صحيحيهما والإمام مالك في مُوَطَّئِه عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: لما قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وُعِكَ أبو بَكْرٍ وبلال رضي الله عنهما، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِما فقالت: يا ابن كَيْفَ تَجدُك؟ و [يا] بلال كيف تَجِدُك؟ قالت: فكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُول:

(1)

البيت منسوب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في اللسان (قرع) 8/ 264.

(2)

الفائق 2/ 91 (روح).

(3)

في الأصل: فإن هلكت فرهن ذمتي لهم

بدار ودفني لا يعفى لها أثر

والمثبت من الزمخشري، ولم أعرف المقصود من إيراد المؤلف لهذه الأبيات الثلاثة.

(4)

القاموس (حبب) ص 70.

(5)

(فعلت وأفعلت) للزجاج ص 23.

ص: 279

كلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ

والمَوْتُ أدنى من شِرَاك نَعْلِهِ

وكان بلالٌ رضي الله عنه إذا أقلع يَرْفَعُ عَقِيرتَهُ وَيَقُولُ:

ألا لَيْتَ شعري هَلْ أبِيتنَّ لَيْلَةً

بوادٍ وحوليَ إذْخِرٌ وجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَومًا مياه مَجَنَّةٍ؟

وهل يَبْدُوَنَّ لي شامَةٌ وطَفيلُ

(1)

قالت عائِشَة رضي الله عنها: فجِئْتُ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُه، فقال: "اللَّهُمَّ حَبِّب إلَيْنَا المدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أو أشدَّ، اللهُمَّ وصَحِّحْها وبارِكْ لنا في مُدِّها وصالحها، وانْقُل حُمَّاها فاجْعَلْها بالجُحْفَةِ

(2)

"

(3)

.

قال مالِك رَحْمَةُ الله عليه، وكان عامر بن فُهَيْرَة رضي الله عنه يَقُول:

كُلُّ امْرِئٍ مُقَاتِلٌ بِطَوْقِهِ

قَدْ ذُقْتُ طَعْمَ المَوْتِ قَبْلَ ذَوْقِهِ

إنَّ الجَبانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ

كالثَّوْرِ يَحْمي جِلْدَهُ بِرَوْقِهِ

(4)

وفي لَفْظٍ مِن عِنْدِ الزُّبير بن بكَّار، لمَّا قَدِمَ صلى الله عليه وسلم وُعِكَ أَصْحَابُهُ فَخَرجَ يَعُودُ أبا بكْرٍ رضي الله عنه فوجَدَهُ يَهْجُرُ فقالَ: يا رَسُول الله:

(1)

الأبيات في البخاري حديث رقم (1889)، ومسلم في كتاب الحج (86)، و (الموطأ) (890). ومَجنَّة: بلد على أميال من مكة. وقال الأصمعي: مَجنَّة: جبل لبني الدؤل خاصة بتهامة بجنب طفيل. معجم البلدان 5/ 59 و 3/ 315.

وذكر الأستاذ البلادي: أن مَجنَّة هي بحرة، البلدة المعروفة بين مكة وجدة. معجم معالم الحجاز 5/ 10 - 232. وشامة وطفيل: جبلان قرب مكة.

(2)

الجُحْفَة: موضعٌ بين مكة والمدينة وهي ميقات أهل الشام، تبعد 22 كلم جنوب شرق مدينة رابغ. معجم معالم الحجاز 2/ 122 - 126.

(3)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، رقم: 1889، 4/ 119، ومسلم، مختصرًا، في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1376، 2/ 1003، ومالك، في الجامع، باب ما جاء في وباء المدينة، رقم: 14، 2/ 890 - 891.

(4)

الإصابة 2/ 247، مع اختلاف الترتيب.

ص: 280

لَقَدْ لَقِيتُ المَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ

إنَّ الجبانَ حَتْفُه مِنْ فوقِه

(1)

قالت فَخَرَجَ صلى الله عليه وسلم من عِنْدِهِ فدخَلَ على بلالٍ رضي الله عنه فوجده يَهْجُرُ ويَقُولُ: ألا ليت شعري

البيتين، ثمَّ دَخَل صلى الله عليه وسلم على أبي أحمد بن جحش رضي الله عنه

(2)

فوجده مَوْعُوكًا، فلمَّا جَلسَ إليه قال:

واحَبَّذا مكَّةَ من وادِي

أرْضٌ بِها يَكْثُرُ عُوَّادِي

(3)

أرْضٌ بِها تضْرَبُ أَوْتادي

أَرْضٌ بِها أهلي وأولادي

أَرْضٌ بِها أَمشِي بلا هادي

(4)

فَخَرَجَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَدَعَا بأن يُنْقَلَ الوباءُ عَنِ المدينَةِ فَيُجْعَلَ بِخُمّ

(5)

.

وفي لَفْظٍ: أتى صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ رضي الله عنه يَعُودُه فقال:

لَعَمْرُكَ لولا الله أَصْبَحْت أشْتَكي

بِبَلْدة قومي حَيْثُ يَحْضُرُ عُوَّادي

والله مَنْ عاش أو ماتَ مُسْلِمًا

فسيَّانِ سادٍ كان أو لم يسودي

قالت رضي الله عنها: ولم يَقُل أبو بَكْرٍ رضي الله عنه غير هذين البيتين، ولا عمر رضي الله عنه غير بَيْتٍ واحد.

والحُبَاب، بضَمِّها. لقول رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم:"اللهُمَّ كما أخرجتني مِنْ أَحَبِّ أرْضِكَ إلي، فأسكَني في أحَبِّ أرْضِكَ إِليْك"

(6)

فَبِمُقْتَضى هَذين الحَدِيثينِ هي

(1)

وفاء الوفا 1/ 57.

(2)

أبو أحمد بن جحش الأسدي، واسمه عبد بغير إضافة، وقيل: عبد الله، أخو أم المؤمنين زينب بنت جحش، كان ضريرًا يطوف مكة أعلاها وأسفلها من غير قائد. أنساب الأشراف 1/ 89 - 199، الإصابة 4/ 3.

(3)

في أنساب الأشراف: أرض بها أهلي وعوادي.

(4)

الأبيات في أنساب الأشراف 1/ 200، وعدا الثاني في الإصابة 4/ 3.

(5)

خُمّ: موضعٌ شرق الجحفة. انظر الباب الخامس.

(6)

ذكره ابن عبد البر في الاستذكار 6/ 110، ثم قال: فهو حديث موضوع منكر، لا يختلف أهل =

ص: 281

أَحَبُّ أَرْض الله إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وَرُوِّيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه قال: لم يَكُن رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يَقْدمُ مِنْ سَفَرٍ فينظر إلى جُدْرات

(1)

المدينة إلَّا أَوْضَعَ

(2)

دابَّتَهُ مِنْ حُبِّها

(3)

.

الحَرَم: وَحَرَمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم[و] المُحَرَّمَةُ.

الحَرَم، بفتح الحاء والرَّاء بِمَعْنَى الحرام: مِثْلُ زَمَنٍ وَزَمَانٍ، كأنَّهُ حرام انْتِهاكُهُ وصَيْدُهُ وخلاؤهُ وكذا وكذا. مِنْ حَرَمَه الشَّيءَ يَحْرِمُهُ، كَضرَبَهُ يَضْرِبُهُ. وحَرَمَهُ يَحْرَمُهُ، كعَلِمَهُ يَعْلَمُه، حِرْمَانًا وَحَرْمًا وَحَريمًا، وحَرِمًا وحَرِمَةً وحَرِيمَةً؛ إذا مَنَعَه، وأَحْرَمَهُ لُغَيَّة

(4)

.

= العلم في نكارته وضعفه، وأنه موضوع، وينسبون وضعه إلى محمد بن الحسن بن زبالة المدني، وحملوا عليه فيه، وتركوه.

وقد روي نحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه الحاكم 3/ 3، ثم قال: هذا حديث رواته مدنيون. عقب عليه الذهبي قائلًا: لكنه موضوع، فقد ثبت أن أحب البلاد إلى الله مكة.

ومما يدل على أن أحب البلاد إلى الله مكة، حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْريِّ في فضل مكة قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرةِ فَقَالَ:"وَاللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ وَلَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ".

أخرجه الترمذي، في المناقب، باب في فضل مكة، رقم: 5293، 5/ 227. وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وأخرجه ابن ماجه، في المناسك، باب فضل مكة، رقم: 8013، 2/ 7301. والدارمي، في السير، باب إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، رقم: 152، 2/ 391، وغيرهم.

(1)

جدرات: جمع جُدُر، والجُدُر جمع جدار. القاموس (جدر) ص 362.

(2)

الإيضاع: سَيْرٌ حثيثٌ دون الجَهْد. غريب الحديث لابن قتيبة 2/ 3.

(3)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث، رقم: 1886، 4/ 117. وغيره.

(4)

تحرّفت في الأصل إلى: (بغية)، والمثبت هو الصواب كما في القاموس (حرم) ص 1092.

ص: 282

وَمِنْهُ الحِرم

(1)

لأنَّهُ مَمْنُوع التَّناوُلِ. والبَلَدُ حِرْمٌ، بالكَسْرِ، وحَرَمٌ، بالتَّحْرِيك، وحِرام كبحار.

والحَرَمُ مِنْ أسماءِ المدينة

(2)

، والحَرَمَان مَكَّةُ والمدِينَة

(3)

، وحَرَمُ رَسُوِل اللّه صلى الله عليه وسلم مِنْ أسْماءِ مَكَّة ومَنْ أسْماءِ المدينَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَخَافَ أَهْلَ حَرَمِي أَخَافَهُ الله تعالى، وَمَنْ آذى أهل حرمي وأخافَهُم فَقَدْ أخافَه الله عز وجل"

(4)

.

وفي الصَّحِيحَينِ عَنْ عاصم بن سليمان

(5)

قال: سألْتُ أنَسًا أحَرَّمَ رَسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم، هي حرامٌ لا يُخْتَلَى خلاها فَمَنْ فعل ذلك فَعَلَيْهِ لعنة اللّه والملائكة والنَّاسِ أَجْمَعِين

(6)

.

وفي لَفْظٍ مِن عِنْدِ مُسْلمٍ مِنْ حَدِيثِ أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: "المدِينةُ حَرَمٌ

(7)

فمَنْ أَحْدَثَ فيها حَدَثًا، أَوْ آوى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّه والملائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِين لا يُقْبلُ مِنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَدْلٌ ولا صَرْفٌ"

(8)

.

وفي لَفْظٍ: "أهْوَى إلى المدِينَةِ فَقَالَ: إنَّها حَرَمٌ آمِن"

(9)

.

(1)

الحِرم والحرام: نقيض الحلال. اللسان (حرم) 12/ 119.

(2)

وفاء الوفا 1/ 13.

(3)

معجم البلدان 1/ 243.

(4)

لم أقف عليه بهذا اللفظ.

(5)

في الأصل (سفيان)، وهو خطأ، والمثبت هو الصواب، كما في الصحيحين.

(6)

أخرجه البخاري، في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إثم من آوى محدثًا، رقم: 7306، 13/ 295، ومسلم، واللفظ له، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، رقم: 1366، 2/ 994.

(7)

كلمة (حرم) تكررت في الأصل، والصواب حذفها، كما في صحيح مسلم.

(8)

أخرجه مسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، رقم: 1371، 2/ 999.

(9)

من حديث سهل بن حنيف، مرفوعًا، أخرجه مسلم، في الحج، باب الترغيب في سكنى =

ص: 283

وعِنْدَ مالكٍ أن أبا أَيُّوب وَجَد غِلْمانًا قَدْ ألجَؤُوا ثَعْلَبًا إلى زاوِيةٍ فَطَرَدهم عَنْهُ. قال مالِكٌ: لا أَعْلَمُ إلَّا أنَّهُ قالَ: أفي حَرَمِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يُصْنَع هذا

(1)

.

وعِنْدَ رُزين مِنْ حَدِيثِ جابِرٍ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: "إنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام حَرَّمَ مَكَّةَ، وأَنا حَرَّمْتُ المدِينَةَ؛ ما بَينَ لابَتَيْها لا يُقْطَعُ عَضَاضُها

(2)

، ولا يُصَادُ صَيْدُها" رواهُ مُسْلم مُخْتَصَرًا ومُطَوَّلًا

(3)

. والأحادِيثُ كَثِيرَةٌ قَدْ ذُكِرَت في بابِ فَضائِلِ المدِينَةِ فلتُنظرْ هناك، إن شاء الله تعالى.

قال ياقُوتُ: الحرمَانِ بفتْحَتَيْن: مَكَّةُ والمدينة، والحِرْمانِ بالكَسْرِ: واديان باليَمنِ يُنْبِتَانِ السِّدْرَ والسَّلَمَ يَصُبَّانِ في بَطْنِ اللَّيثِ.

والنِّسْبَةُ إلى الحَرَمِ: مُحَرَّكةً حِرْمِيٌّ، بِكسْرِ الحاءِ وسُكُونِ الرَّاءِ، والأنْثَى حِرْميَّةٌ على غَيْرِ قِياس. ويُقَالُ في النِّسْبَةِ أيضًا: حُرْمِيٌّ، بالضَّمِّ، كأنَّهُمْ نَظَرُوا إلى حُرْمَةِ البَيْتِ، كذا حكاهُ المُبَرِّدُ في الكامِلِ

(4)

.

وَحَرَمِي بالتَّحْرِيك: على الأصْلِ أيضًا، وأَنْشَدَ راوي الكَسْرِ:

لا تَأوِينَّ لِحِرْمِيٍّ مَرَرْتَ بِهِ

يَوْمًا، ولو أُلْقِيَ الحِرْميُّ في النَّارِ

(5)

= المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1375، 2/ 1003.

(1)

أخرجه مالك، في الجامع، باب ما جاء في تحريم المدينة 2/ 890.

(2)

العَضاض: ما غَلُظَ من النَّبت، والشجر الغَلِيظ الذي يبقى في الأرض. اللسان (عضض) 7/ 189.

(3)

رواه مسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، رقم: 1362، 2/ 992. لكنه قال:(عضاهها) بدل: (عضاضها).

(4)

الكامل ص 1295.

(5)

نُسب البيت للأعشى في (المحكم) لابن سيده 3/ 245، وهو ليس في ديوانه، تحقيق د/ محمد محمد حسين. والبيت من غير نسبة في التهذيب 5/ 44.

ص: 284

وقال في العين: إذا نَسَبُوا غَيْرَ النَّاسِ إلى الحَرَمِ قالوا: ثَوْبٌ حَرَمِيٌّ، بِفَتْحَتَيْنِ

(1)

.

وأمَّا ما جاءَ في الحديثِ: أن فُلانًا كانَ حِرْمِيَّ

(2)

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ أَشْرَافَ العَرَب الذين كانُوا يَتَحَمَّسُونَ

(3)

كانَ إذا حَجَّ أَحَدُهُم لم يأْكُل إلَّا طعامَ رَجُلٍ مِنَ الحَرَمِ، ولم يَطُفْ إلَّا في ثِيابه، وكانَ لِكُلِّ شريفٍ مِن أَشْرَافِ العَرَب رَجُلٌ مِن قريش يَخْتَصُّ بِهِ في ذلك وكُلُّ واحِدٍ مِنْهُما حِرْمِيُّ صاحِبه، كما يُقَالُ: كَرِيٌّ للمُكْرِي والمُكْتَرِي.

وَحَرَمُ أيضًا بالتَّحرِيك: وادٍ [في] عارضِ اليمامَةِ مِنْ وراءِ أكمةٍ هُنَاكَ، بَيْنَهما وَبَيْنَ مَهَبِّ الجَنُوب.

قال الحازِمِيُّ

(4)

: ويُروى بِكَسْرِ الرَّاءِ أيضًا. وقال غَيْرُهُ: كان أسَدٌ ضارٍ انْحَدَر في حرمٍ فَحَمَاهُ على أَهْلِهِ سنة، فَقَال الرَّاجِزُ:

تَعْلَمنَّ الفاتِكَ الغَشَمْشَما

واحِدُ أمٍّ لَمْ تَلِدْهُ توأما

أَضْحى بِبَطْنِ حرمٍ مُسَوَّما

(5)

مسوَّم: أي سائم

(6)

. ويُروى بالأوجه الثلاثة قول ابن مقبل:

(7)

(1)

العين 3/ 221، والعبارة هناك فيها اضطرابٌ.

(2)

في اللسان (حرم) 12/ 120: أنه عياض بن حمار المجاشعي.

(3)

من الحمس، وهو لقب قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم في الجاهلية؛ لتحمسهم في دينهم. القاموس (حمس) ص 539.

(4)

هو أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الهمذاني، ولد سنة 548 هـ. ومات سنة 584 هـ. له مؤلفات عدّة، منها: كتاب البلدان. سير أعلام النبلاء 21/ 167، وفيات الأعيان 4/ 294.

(5)

معجم البلدان 2/ 243.

(6)

السائم: الذاهب على وجهه حيث شاء.

(7)

هو تميم بن مقبل من بني العجلان، شاعر مخضرم عمر طويلًا في الجاهلية وأدرك الإسلام =

ص: 285

حَيّ دَار الحَيّ لا دَارَ بِهَا

بِأَثَال فَسَخَال فحرم

(1)

وعَنْ كَعْبِ بن مالِكٍ رضي الله عنه قال: "حَرَّمَ رسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم الشَّجَرَ بالمدينَةِ بَرِيدًا في بَرِيدٍ

(2)

. وَأَرْسَلَنِي فَأَعْلَمْتُ على الحرم؛ على شَرَفِ ذاتِ الجَيْشِ، وعلى مُشَيْرِب، وعلى أَشْرَاف المجتهر وعلى يتيب"

(3)

.

وعَنْ كَعْبٍ أيضًا قال: "بَعَثنِي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أُعَلِّمُ على أَشْرَافِ حَرَمِ المَدينة فَأَعْلَمْتُ على شَرَفِ ذاتِ الجَيْشِ، وعلى مُشَيْرِب، وعلى أشْرَافِ مَخِيْضٍ، وعلى الحَفْيَاءِ، وعلى ذي العُشَيْرَة، وعلى يتِيب".

فأمَّا ذَاتُ الجَيْشِ

(4)

: فَنَقْبُ ثَنِيَّةِ الحَفِيرةِ مِنْ طَرِيق مَكَّة والمدِينَة.

وأمَّا مُشَيْرِب: فما بين جبالٍ في شامِيِّ ذاتِ الجَيْشِ بَيْنَها وبَيْنَ خلائِقِ الضَّبوعَةِ

(5)

.

= فأسلم، وهو الذي كانت تحته زوجة أبيه الدهماء - في الجاهلية - ففرق الإسلام بينهما. عده ابن سلام في الطبقة الخامسة من طبقات الشعراء الجاهليين. طبقات فحول الشعراء ص 143 - 150، الشعر والشعراء ص 425، الإصابة 1/ 187.

(1)

(ديوانه) ص 401. وسخال: موضع في اليمامة، وتحرفت في الأصل إلى: سخام. وأثال: اسم جَبَلٍ. والنص بأكمله في معجم البلدان 2/ 234.

(2)

البَريدُ: فَرْسَخان، والفَرْسخُ ثلاثة أَمْيال أو سِتَّةٍ، سُمِّي بذلك لأنَّ صاحِبَهُ إذا مَشى قَعَد واستراح. اللسان (برد) 3/ 86 و (فرسخ) 3/ 44.

(3)

رواه بهذا اللفظ: الطبراني في الأوسط ص 9/ 144.

وابن النجار ص 90 - 91، والمطري ص 65.

ثلاثتهم من طريق عبد العزيز بن عمران، عن أبي بكر بن النعمان، عن عبد اللّه بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن جده، به.

في إسناده: عبد العزيز بن عمران: متروك. التقريب 358. وسيرد في الرواية التالية بلفظ آخر.

(4)

تأتي في الباب الخامس.

(5)

تأتي في الباب الخامس.

ص: 286

وأمَّا أَشْرَافُ مَخِيضٍ

(1)

: فَجِبَالُ مخيض مِنْ طريقِ الشام.

وأمَّا الحفياء

(2)

: بالغَابَةِ شامِيّ المدَينَةِ.

وأمَّا ذو العُشَيْرَة

(3)

: فَنَقْبٌ في الحفياء.

وأمَّا يتِيبُ: فَجَبَلٌ شرقِيُّ المدِينَةِ. وذلِكَ كُلُّه يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ بَرِيدًا في بَريدٍ.

وعَنْ جَابرٍ رضي الله عنه يرفَعُهُ: "كُلُّ دافِعَةٍ

(4)

دُفِعَتْ

(5)

علينا مِنَ التِّلاع

(6)

فَقَدْ حَرَّمْتُها أَنْ تُعْتَضَدَ أو تُخْبَط أو تُقْطَعَ إلَّا لِعُصْفُورِ قَتَبٍ

(7)

، أو مَسَدِ محالةٍ

(8)

، أو عَصا

(9)

حَدِيدَةٍ"

(10)

.

(1)

تأتي في الباب الخامس.

(2)

تأتي في الباب الخامس.

(3)

تأتي في الباب الخامس.

(4)

الدافعة: واحد مدافع المياه التي تجري فيها. القاموس (دفع) ص 942.

(5)

تصحفت في الأصل إلى: (رافعة رفعت). والمثبت هو الصواب.

(6)

التلاع: مسايل الماء من الأسْنادِ والنجاف والجبال، حتى يَنْصبَّ في الوادي، ولا تكون التلاع إلا في الصحاري. النهاية لابن الأثير 1/ 194، القاموس (تلع) ص 707.

(7)

القَتَبُ: رَحْلٌ صغيرٌ على قدر سنام البعير، والعصفور: أحد عيدان القتب. الصحاح (قتب) 1/ 198، غريب الحديث لابن قتيبة 3/ 742، القاموس (قتب) ص 122.

(8)

المسد: المحور الذي تدور عليه المحالة، والمحالة: البكرة التي تستعمل في استخراج الماء من الآبار. غريب الحديث للحربي ص 519، ولابن قتيبة 3/ 742.

(9)

أي: عصا تقطع وتجعل فيها حديدة كالعنزة وأشباهها. غريب الحديث لابن قتيبة 1/ 395.

(10)

رواه الزبير بن بكار في التعريف ص 65 - 66، وعبد الرزاق 9/ 61، وابن عدي في الكامل 2/ 851، كلهم من طرق عن حرام بن عثمان، عن ابني جابر، عن أبيهما رضي الله عنه.

مداره على حرام بن عثمان. قال أحمد: ترك الناس حديثه. وقال الشافعي وغيره الرواية عن حرام حرام. ميزان الاعتدال 2/ 182.

فإسناده ضعيف جدًّا.

ص: 287

وعَنْ كعب بن مالِكٍ رضي الله عنه قال: "إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حمى الشَّجَرَ ما بَيْن المدِينَةِ إلى وَعِيرة، وإلى ثَنِيَّةِ المحدث، وإلى أَشْرَافِ مَخِيض، وإلى ثنية الحَفْياء، وإلى مَضْرِب القُبَّة، وإلى ذات الجيش، من الشَّجر أَنْ يُقَطَع، وَأَذِنَ لهم في مَتاعِ الناضِحِ

(1)

أن يُقْطَعَ مِنْ حِمَى المدينة"

(2)

.

وعَنْ سُلَيْمانَ بن الحكم قال: "إِنَّ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَزَلَ بِمَضْرِبِ القُبَّة فقال: ما بيني وبَيْنَ المدِينَةِ حِمىً لا يُعْضَدُ شَجَرُه، فقالوا: إلَّا المَسَدَ، فأذِنَ لهم في المَسَدِ"

(3)

.

قال الشيخ جمال الدين المطري: ليس مَضرِبُ القُبَّة معروفًا، ولا يعلم في أَيِّ جهَةٍ هُوَ مِن جِهاتِ المدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، واللّه أعلم

(4)

. والذي يَظْهَرُ ما بَيْنَ ذاتِ الجَيْشِ مِن غَرْبيِّ المدِينَةِ إلى مَخِيض. وجبل مخيض ذكرناهُ في حرف الميم من الباب الخامس

(5)

.

(1)

متاع الناضح: أداة البعير التي تؤخذ من الشجر. النهاية لابن الأثير 4/ 293.

(2)

رواه الزبير بن بكار، عن ابن زبالة. التعريف ص 66، ورواه الحربي في المناسك (405 - 406) من طريق عبد العزيز بن عمران. كلاهما عن إبراهيم بن محمد عن خارجة بن عبد اللّه بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن جده عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

في السند الأول: ابن زبالة: كذبوه.

وفي الثاني: عبد العزيز بن عمران: متروك.

ومداره في الطريقين إبراهيم بن محمد هو ابن أبي يحيى الأسلمي. متروك. التقريب ص 93. فإسناده ضعيف جدًّا.

(3)

رواه الزبير بن بكار، ثني محمد بن الحسن، عن إبراهيم بن محمد، عن ابن حزم، عن عبد الله بن سليمان بن الحكم الديناري، عن أبيه، به. التعريف ص 66. في إسناده محمد بن الحسن: ابن زبالة. كذبوه. ولم أقف على ترجمة سليمان بن الحكم الديناري.

(4)

التعريف ص 66.

(5)

في الأصل: (الرابع)، والصواب ما أثبتناه.

ص: 288

وعَنْ أبي سعيد الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: "بَعَثَتْني عمَّتي رضي الله عنها إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم تَسْتَأْذِنُهُ في مَسَدٍ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أَقْرِ عَمَّتَك السَّلامَ وَقُل: لو أَذِنْتُ لكم في مَسَدٍ طَلَبْتُمْ مِيزابًا

(1)

، ولو أَذِنْتُ لكم في ميزابٍ طَلَبْتُم خَشَبَةً" ثُمَّ قال صلى الله عليه وسلم: "حِمايَ من حيث انتسَقَت

(2)

بنو فَزَارة

(3)

لِقاحِي"

(4)

.

وروى الزُّبَيْرُ مَرْفوعًا إلى النَّبِيِّ صلّى لله عليه وسلّم: "ما على أحدكم لو أخذ مَرْتَعَتَهُ فخَبَطَ على ناضحه أو

(5)

يعني في الحمى".

وَرُوي عن عَدِيِّ بن زَيْدٍ رضي الله عنه قال: "إنَّ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم حَرَّم شَجَر المدينَةِ بَرِيدًا في بَرِيدٍ، وأَذِنَ لَهُم في المَسَد والمنْجَدَةِ ومتاعِ النَّاضِحِ أن يُقْطَع منه". والمنجدة: عصى الناضِح.

وعن زيد بن أَسْلَم رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: "مَنْ وجدتموهُ تقْطَعُ مِنْ حِمَى المدينةِ شيئًا رَطْبًا فَلَكُم سَلَبُهُ". يعني الرَّطْبَ مِنَ الشَّجَرِ.

وعن الحارث بن أبي ذباب رضي الله عنه قال: "إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أرخَصَ لصاحِبِ البَعيرِ المعْيي

(6)

أن يَخْبِط على رَأسِهِ، ولم يُرَخِّص في الخَبْطِ إلا للبَعيرِ المعصي".

(1)

الميزابُ: المِثْعبُ، فارسي معرب، وهو ما يثبت على السطوح لكي ينزْل منه الماء. اللسان (أزب) 1/ 213 و (وزب) 1/ 796، المعرب ص 326، القاموس (وزب) ص 141.

(2)

انْتَسَقت: أي أخذتها وساقتها تباعًا. اللسان (نسق) 10/ 353.

(3)

هم بنو فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان. جمهرة أنساب العرب ص 255.

(4)

قال المطري: وكانت لقاحه صلى الله عليه وسلم ترعى بالغابة وما حولها. التعريف ص 66.

وانظر عن هذه الوقعة السيرة النبوية لابن هشام 3/ 281، وهي تحت عنوان (غزوة ذي قرد).

(5)

كلمة غير واضحة.

(6)

البعير المعيي: أي المُتعبُ والمُجْهَدُ من السَّيْرِ. وأعيا الماشي: كَلَّ، والسَّيْرُ البعيرَ: أكَلَّهُ، وإبل معايا ومعاي: مُعَيِتيةٌ. القاموس (عيي) ص 1316.

ص: 289

وعَنْ زيد بن أَسْلم رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: "مَنْ وجدتموه قَدْ قطع مِنَ الحِمَى شيئًا فاسلُبُوه واضْرِبُوه".

وعن جابِرٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا لَنَسْمَعُهُ يتقي قطع شيءٍ مِن الحِمَى حتى المَسَدَ للمَحالة.

وعن مالِكٍ عن أبي محمد بن يزيد رضي الله عنه قال: "إنَّ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إلى رَجُلٍ يَخْبِطُ على غَنَمٍ، فَبَعَثَ فارِسَيْنِ فأمَرَهُما أنْ يَسُوقاهُ وغَنَمَهُ سَوْقًا رَفيقًا حَتَّى يُخْرِجاهُ وغَنَمَهُ، وقال عِنْدَ ذَلِكَ: هُشُّوا وارْعَوا".

قال مالِكٌ رحمه الله: حَرَّم الشجَرَ بريدًا في بَرِيدٍ. قلت:

(1)

هل لِتَخْصيصِ هذا القَدْرِ المُعَيَّن بالحُرْمَةِ سِرٌّ يُمْكِنُ اتضْاحُهُ أم لا؟ قلت: نَعَم يُمْكِنُ أن يُقال: إنَّما خَصَّ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم المِقْدَارَ المُعَيَّنَ المَعْلُومَ بالحُرْمَةِ بمُقْتَضَى امْتِثَالِ الأمْرِ الإلهي، واتِّباع الوَحْي الرَّبَّاني الذي نزل عَلَيْهِ بِتَعْيينِ ذلكَ. أو لما شاهَدَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ أمْرٍ ربَّانيٍّ وسِرٍّ روحانيٍّ مُوجَّهٍ إلى تلْكَ البِقَاع، فَكانَ منتهاها تِلْكَ الحُدودِ، التي عَيَّنها صلى الله عليه وسلم.

ويذكر أَهْلُ الكَشْفِ والشُّهود أنَّهم يُشَاهِدُونَ تلْكَ الأنوار واصلة إلى حُدُود الحَرَم، ولها منابع تنبع منها وتكونُ عنها. وذلك في الحَرَمَيْنِ جَمِيعًا. فَتِلْك الأحكَامُ الظَّاهِرة ناتِجَةٌ عَنْ تلْك الحقائِق الباطِنَةِ وأَدلَّةٌ عليها

(2)

.

تُمَّ اعْلَم أن العُقُولَ البَشَرِيَّةَ عُمُومًا قاصرة عن إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ معنى الأحكام المُتَلَقَّاةِ عن النُّبُوَّةِ، لأنَّها وارِدَةٌ عن طَوْرٍ فَوْق العُقُولِ البَشَرِيَّةِ، وإِنَّما تَظْهَرُ لائحِةً من أَنْوارٍ شوارقُ مطالِعِها مخصوص من ضنائن اللّه

(1)

في الأصل: (قال قلت) والسياق لا يقتضي كلمة (قال) فلذلك حذفتها.

(2)

رحم اللّه المؤلف، ما كان أغناه عن هذا الكلام الذي ليس عليه دليل، وهو إلى الباطل أقرب منه إلى الحق.

ص: 290

تعالى

(1)

، وذلك بإدراكِ القُلُوب الرَّبَّانِيَّةِ والفُهُومِ الإيمانِيَّةِ، لا بالأفكار العَقْلِيَّةِ والنُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ. وَلِذَلك يرى أَهْلُ التَّوقيفِ مِنْ عُلماءِ الظَّاهِرِ إذا مَرُّوا بشيءٍ مِنْ ذلِكَ أَضْرَبُوا عن الخوض في سَبيله، وتَجَنَّبُوا طُرُقَ تَعْلِيلِهِ، وتَلَقَّوْهُ حُكْمًا مَقْبُولًا عن اللّه تعالى ورَسُولهِ، فافتَخَرُوا بِقَبُولهِ، ومَنْ أراد غَيْرَ ذلِكَ لم يَبْرَحْ في تحيُّره وخموله.

وقد ذَكَرَ بَعْضُ العُلَماءِ في تحديد حرمِ مكَّة مَعْنىً آخَر، وَهُوَ أن الحجرَ الأسْوَدَ لَمَّا أُهْبِطَ مِنَ الجَنَّةِ، وكان أَبْيَضَ صَافِيًا لَمَّاعًا يَبْهَرُ ضِياءً وشُعَاعًا، انْتَشَر نُورُهُ، فَبَلَغَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ مَبْلَغًا وَمَحَلًا صيَّر اللّه تعالى ذلك حَدًّا لحرمه، وأمَرَ آدم عليه السلام أنْ يَخُطَّ عَليه بَيَانًا لِشَرفِهِ

(2)

.

وذكرِ النَّقَّاشُ وَجْهًا آخَر، وَهُوَ أنَّ آدم عليه الصلاة والسلام لَمَّا أُهْبطَ إلى الأرْضِ وتَغيَّرَتْ أَحْوَالُه واعْتَرَتْهُ المُكَدِّرات مِنْ أمُورِ هذه الدَّار المَدِرةُ الكَدِرة، شكا إلى اللّه تعالى شَعَثَ رَأْسِهِ وَطُولَ شَعْرِه، فأتاهُ جبريلُ عليه الصلاة والسلام بالحَجَرِ الأسْوَدِ، وَأَمَرَهُ حتَّى أمَرَّهُ على رأسه فانْحَلَقَ شَعْرُه، وأمر اللّه تعالى الرِّياحَ فَفَرَّقَتْهُ حتَّى صيَّرَتْهُ في جوانِبِ البَيْتِ على بُعْد، ثُمَّ أَمَرَ جبريل عليه السلام، أَنْ يَخُطَّ بجناحِهِ على مَرَاتِعِ الشَّعر، وكان ذَلِكَ تَحْدِيدًا للحرم.

والذي يُفْهَمُ مِنْ معنى الحرم بِحَسَبِ الظَّاهِر: التزامُ ما أَثْبَتَ اللّه تعالى له من الأحكام، ثُمَّ اغْتِنَامُ ما خَصَّهُ بهِ مِنَ البركاتِ وتَضْعِيفِ الحَسَنَاتِ، وانتهازِ ما يَجدُهُ المُؤمِن عِنْدَ صَيرُورَتِهِ في ذَلك المعنى، وحلوله في ذلك المَحَلِّ الأشْرَفِ الأسْنى، مِن الخيرات الظَّاهِرَةِ، والأنوارِ الباهِرَةِ، والأمور الغريبةِ التي يَكِلُّ اللِّسانُ عن عبارتها وتَقْرِيرِها، ويَمَلُّ البيان عن الإتيان بِقَلِيلٍ مِن كثيرها.

(1)

ضنائن اللّه: خواص خلقه. القاموس (ضنن) ص 1212.

(2)

شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/ 54.

ص: 291

حَسَنَة: بفَتْحِ الحاءِ والسِّين والنُّون. ذكرَهُ جماعَةٌ منْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ والحديِثِ مُحْتَجِّين بِقَوْلهِ تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}

(1)

.

قال المُفَسِّرون: معناهُ مباءَة حَسَنة وهي المدِينَة

(2)

. وقيل: نبوِّأنَّهُ حَسَنة، وهي في المدينة. وقيل: حَسَنَةٌ اسمٌ للمدِينَةِ

(3)

. وعلى هذا كان يَجبُ مَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ كما هو في حَسَنَةَ؛ اسْمُ قريَةٍ مِنْ قرى إصطَخْر، يُنْسَبُ إليهَا الحَسَنُ بن مُكْرَم الإصطخري الحسني، أَحَدُ مَشاهِيرِ المُحَدِّثين

(4)

. وكما في حَسَنَة اسم جبال بَيْنَ صَعْدَة وَعَثَّر مِنْ أَرضِ اليمن، عن نصر

(5)

.

والحَسَنَةُ لُغَةً: ضد السَّيِّئة، والحَسَنَةُ أيضًا: تأنيث الحسن، من حَسُنَ المَدْخَل يَحْسُنُ المدخل، كَكَرُمَ يَكْرُمُ. وحَسَنَ يَحْسُنُ. كنَصَرَ يَنْصر، فَهُوَ حاسِنٌ وحَسَنٌ وحَسِيْنٌ وحُسَان، وحُسَّانٌ. وهي حسناءُ وحَسَنَة وحُسَّانة. وإِنَّما سُمِّيَت المدينَةُ حَسَنَة لأنَّ الحُسْنَ يكونُ صُورِيًّا ويكون مَعْنَوِيًّا.

والصُّورِي

(6)

: عبارة عَنِ الجمالِ الظَّاهِرِ المَحْسُوس بِحُسْنِ الناظر، وذلك في المدينة والأمْصَارِ إنَّما يكُونُ بِارْتفاع مبانيها، واتِّساعِ مَغَانِيها، وكثرةِ مُتَفَرَّجاتها، ولُطْفِ مُتنزَّهاتِها، وإِحْداقِها بالبَسَاتين، وإرفاقِها بالفَواكِهِ والرَّياحِين، وما شاكَلَ من الجمالِ الباهِرِ والحُسْنِ الظاهر.

والمَعْنَوِيُّ: فعلى قِسْمَيْن؛ أَحَدُهُما: يَرْجِعُ إلى دُنْيَوِي، كحنينِ الأبناء، وَطِيبِ الماءِ، وَلُطْفِ الهَوَاءِ، وَدَوامِ الرَّخَاءِ وما يُضَاهِيها.

(1)

سورة (النحل) آية رقم: 41.

(2)

الكشاف 2/ 410.

(3)

تفسير القرطبي 10/ 107.

(4)

توفي في رمضان سنة 274 هـ. تاريخ بغداد 7/ 432، سير أعلام النبلاء 13/ 192.

(5)

معجم البلدان 2/ 260.

(6)

في الأصل: (والصور)، والصواب ما أثبتناه.

ص: 292

وثانِيها: يَعْطِفُ إلى أمْرٍ ديني؛ كتَضاعُفِ الحَسَنَاتِ، وتوالي البركات، وإجابَةِ الدَّعوات، وكَثرةِ المشاهِدِ المُتَبرَّكاتِ، والمزاراتِ المَقْصُودات

(1)

، وما شاكل ذلك مِنَ الخَيْراتِ الأخرويات.

والمدينَةُ قد جَمَعَتْ، بِحَمْدِ اللّه تعالى، أَكْثَر هذه المحامِد والميامِن، وَحَوَتْ غالِبَ هذه المفاخِرِ والمَحَاسِن.

فإن اعْتَرَضْتَ بِقِلَّةِ الرَّخاء، وقُلْتَ: لَيْسَ بينَهُ وبَيْنَ هذا المَحَلِّ المُقَدَّسِ إخاء، وإنَّ الغالِب عليه القِلَّةُ والغلاء، والعُدْمُ الذي هُوَ لِقُطَّانِ الأوْطَانِ أمَرُّ من الأَلاءِ

(2)

، أُجيبَ بأنَّ شَأْنَ المدِينَةِ عَجِيبٌ في ذلك لِمَن تأمَّل، وصرف رَوِيَّتَهُ إلى تَحْقِيقِ ذلِكَ وأَعْمل. وَذَلِكَ أن أَمْرَها في الرَّخاءِ والقَحْطِ على طريقِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ

(1)

هذه بدعة منكرة إذ لا يجوز التبرك بالقبور والمشاهد حتى قبره صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام والحجاز ولا الشام واليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد بني على قبر، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلًا، ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء. اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 752.

وليس هناك ما يُشَدُّ له الرحل في المدينة إلا مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا". أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، باب مسجد بيت المقدس، رقم: 7911، ومسلم في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، رقم:728.

وتشرع زيارة مسجد قباء بعد زيارة المسجد النبوي، قال شيخ الإسلام: (وليس بالمدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء، وأما سائر المساجد فلها حكم المساجد ولم يخصها النبي صلى الله عليه وسلم بإتيان. اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 708.

(2)

الألاء: شجر حسن المنظر مرُّ الطَّعم. اللسان (ألا) 14/ 44.

ص: 293

الإفْراطِ والتَّفْرِيط على أَحْسَنِ لُقَم

(1)

، وعلى قاعدِة الاعْتِدالِ بَيْنَ السَّعَةِ والضِّيق، والوجدان والعُدْم. يُوجَدُ بِها غلاءٌ مُعْتَدِلٌ في غالِبِ الأزْمانِ، وهي من القَحْطِ المَحْكِيِّ عنه في سائِر البُلْدانِ في أمان، لم يُسْمَع قَطُّ فيما حكاه أرباب التَّوَاريخ [أنَّهم] أسْنَتُوا

(2)

حَتَّى أكلوا سَنَانِيرهم وكلابَهُم، أو أكَلُوا أولادَهُم وَأَحْبَابَهُم وأَصْحَابَهُم، فأفضْىَ أكل بَعْضِهِم بَعْضًا إلى أن خَلَتْ من السُّكانِ، وَعَرِيَ عَنِ الإنْسانِ كُلُّ دارٍ وكُلُّ دكَّان، كما اتَّفقَ لِمِصْرَ والشَّام والعِرَاقِ وغيْرِها من سائرِ الأقْطارِ والآفاقِ.

هذه مِصرُ أرْخى بلادِ الدُّنيا على الإطلاقِ، وأكثر مُدُنِ العالم ضَرْعًا وزَرْعًا بالاتِّفاق، كم مَرَّةٍ أَصَابَتْها مَرَارَةُ الغلاء، فَنَزل على أَهْلِها أَعْظَمُ أنْوَاعِ البلاء، كم أمٍّ بَرَّةٍ شوَتْ واحِدَها وَأَكَلَتْ، وكم بنْتٍ حُرَّةٍ ذبَحَتْ والِدَها وعن أَكْلِهِ ما نكَلَتْ.

كان الرِّجَالُ على المناظِرِ

(3)

بأَيْدِيهم خَطاطيفُ يَنْتَظِرُونَ المارَّةَ، وأرْزَاقُهم مِنْ لُحُومِ عابِرِي الطَّرِيقِ عليهمَ دارَّة. ذَهَبَ عَنِ المَلِكِ والمُلْكِ الاتِّساقُ والانْتِظام، حتَّى إذا نَزَلَ المَلِكُ عَنْ فَرَسِهِ لم يَخْرُجْ إلَّا إلى كَومِ عظام. ومَدِينَةُ رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم مع شُسُوعها

(4)

عن البُلْدَانِ، عن أمثالِ ذلك مَحْفُوظَةٌ، وعظائم المصائب المجنحة عن شريف جنابها مَرْفوضة

(5)

، وبِعَيْنِ العناية الربَّانيةِ في كُلِّ الأوْقاتِ الزمانِيَّةِ مَنْظُورَةٌ مَلْحُوظَة.

الخَيْرَةُ والخيِّرة: بِفَتْحِ الخاءِ وكَسْر المُثنَّاةِ التَّحْتِيَّة المُشَدَّدة وراءٍ وهاءٍ،

(1)

اللقم: الوسط. القاموس (لقم) ص 1495.

(2)

أسنتوا: أصابتهم الجدوبة. القاموس (سنى) ص 1297.

(3)

المناظر: أشراف الأرض، أي: ما ارتفع منها. القاموس (نظر) ص 484.

(4)

شسوعها: بعدها القاموس (شسع) ص 732.

(5)

في الأصل: (مرفوظة)، ولعله خطأ من الناسخ.

ص: 294

الكَثِيرةُ الخَيْرِ، ويَجُوزُ تخَفْيِف يائها.

قال أَهْلُ اللُّغَةِ: الخَيْرُ والخَيْرَةُ بِسُكُونِ الياءِ فيهِما، والخَيِّرُ والخَيِّرَةُ بِتَشْدِيد الياءِ فيهما: بِمَعْنَى، وهو الكَثِيرُ الخَيْرِ

(1)

.

وقيل: الخَيْرُ والخَيِّرَةُ بالتَّخْفِيفِ يُسْتَعْمَلُ في الجمالِ والمِيسَمِ، والخَيِّرُ والخَيِّرَةُ بالتَّشدِيد يُسْتَعْمَلُ في الدين والصَّلاح

(2)

، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ.

وإذا أَرَدْتَ التَّفْضِيل قُلْتَ: فلانٌ خِيْرَةُ النَّاس بالهاء

(3)

وفلانة خَيْرُ النَّاس بلا هاءٍ. وَهَل

(4)

يُقَال: فلانةُ الخيْرَةُ مِنَ المرأتَيْنِ.

سُمِّيَتْ بِها لقوله صلى الله عليه وسلم: "المدِينَةُ خَيْرٌ لَهُم لو كانوا يَعْلَمُون".

وعِنْدَ مُسْلِمٍ من حَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: إنَّ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليأتِيَنَّ على النَّاس زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ قَرِيبَهُ وابْنَ عَمِّه هَلُمَّ إلى الرَّخاءِ، هَلُمَّ إلى الرَّخاءِ، والمدينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لو كانوا يَعْلَمُون، والذي نَفْسي بيَدِه، لا يَخْرُجُ مِنْهُم أحَدٌ رَغْبَةً عنها إلَّا أَخْلَفَ اللّه تعالى فيها خيرًا مِنْه، ألا وإِنَّ المدِينَةَ كالكِيرِ تُخرِجُ الخَبيثَ

(5)

، لا تقَوُمُ السَّاعَةُ حتَّى تنفيَ المدَينَةُ شِرارها،

(1)

القاموس (خير) ص 389.

(2)

تهذيب اللغة للأزهري 7/ 546، وقد ردَّ الأزهري على هذا الرأي بقوله: ولا فرق بين الخَيِّرة والخَيْرَةُ عند أهل المعرفة باللغة.

(3)

وجاء في هامش القاموس المحيط (خير) ص 389 تعليقًا على قول الفيروزآبادي ما نصه: (قوله: وإذا أردت التفضيل

إلخ، كذا في سائر نسخ القاموس، وفي الصحاح ما نصّه:(وإن أردت معنى التفضيل قلت: فلانة خير الناس ولم تقل: خيرة، وفلان خير الناس ولم تقل: أخير، لا يُثَنَّى ولا يجُمع؛ لأنه في معنى أفعل اهـ. وكذلك نقله المصنف في البصائر (يريد: بصائر ذوي التمييز) وذهب إلى ما ذهب إليه الأئمة، فتفطن لذلك، أفاده الشارح. وانظر الصحاح (خير) 2/ 652؛ اللسان (خير) 4/ 264.

(4)

هكذا في الأصل وفي القاموس: أو فلانة الخيرة من المرأتين.

(5)

في الأصل: (الخبث). والمثبت من صحيح مسلم.

ص: 295

كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ"

(1)

.

وعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ في صحِيحَيْهِما، ومالِكٍ في المُوطَّأ من حَدِيث سُفْيانَ بن أبي زهِيرٍ يرفعه: "تُفْتَحُ اليَمَنُ، فَيَأْتي قَوْمٌ يَبُسُّون

(2)

فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِم وَمَنْ أطاعَهُم، والمدِينَةُ خَيْرٌ لَهُم لو كانوا يَعْلَمُون، وتُفْتَحُ الشَّام، فَيَأْتي قَوْم يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِم وَمَنْ أطاعَهُم، والمدِينَةُ خَيْرٌ لَهُم لَوْ كانوا يَعْلَمُون، وتُفْتَحُ العِرَاقُ، فَيَأتي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِم وَمَنْ أطاعَهُم، والمدِينَةُ خَيْرٌ لهم لَوْ كانوا يَعْلَمُون"

(3)

.

الدَّار، دارُ الأبْرَارِ، دارُ الأخْيارِ، دارُ الإيمانِ، دارُ السُّنَّةِ، دارُ الفَتْح، دارُ الهِجْرَةِ، أَرْضُ الهِجْرَة.

أَمَّا الدَّارُ فَقَدْ نَطَقَ بِها التنزيلُ، قال تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ}

(4)

.

رُوِّينا عن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما أنَّهُ قال: سَمَّى اللّه تعالى المدينَة الدَّارَ والإيمان.

وعَنْ عثمان بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: سَمَّى اللهُ عز وجل المدينَةَ الدَّار والإيمان.

وقد تقَدَّم في الإيمانِ إشارَةٌ إلى تَفْسِيرِ الآية

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم، في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم: 1381، 2/ 1005.

(2)

يَبُسُّون: البَسُّ: صوت الزَّجْر للسَّوْق، وهو أن يقال في زجر الدَّابة: بس، بس. غريب الحديث للهروي 1/ 418.

(3)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب من رغب عن المدينة، رقم: 1875، 4/ 107، ومسلم، في الحج، باب الترغيب في المدينة عند فتح الأمصار، رقم: 1388، 2/ 1009، ومالك، في الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 7، 2/ 887.

(4)

سورة (الحشر) آية رقم: 9.

(5)

راجع ما تقدم في اسم الإيمان.

ص: 296

والدَّارُ في أصلِ اللُّغَةِ: المَحَلُّ الذي يَجْمَعُ البناءَ والعرَصَة. وهي مؤنَّثَةٌ وقد تُذَكَّرُ

(1)

. وتُجْمَعُ على أَدْيُر وأَدْوُر، وآدُر، ودِيَارٌ، وَدِيارَةٌ، وَدِيارَاتٌ، وَدِيران وَدُورانٌ، وَدُوراتٌ، وَأَدْوارٌ، وَأَدْوِرَةٌ. والدَّار أيضًا: البَلَدُ. والدَّار أيضًا: القَبِيلَةُ

(2)

.

والدَّارَةُ بِهاءٍ: كُلُّ أرْضٍ واسِعَةٍ بَيْنَ جبالٍ. وداراتُ العَرَب المَعْرُوفَةِ قَدْ عُنِي بجَمْعِها جماعَةٌ مِمَّنَ رَحَلَ وجالَ ولَقِي الرِّجَال، ولمْ يظْفَرْ أَحَدٌ مِنْهُم بقرابِ ما ظفَّرني بِها التَّوفِيق، فَرَأَيْتُ سَرْدها وَإيرادها وَإِنْ كان بِمَعْزِلٍ عن مغزانا مِمَّا هُوَ بالإيرادِ حَقِيقٌ، وهي:

دارَةُ أُحُد، دارَةُ الآرام، دارَةُ أبْرَق، دارَةُ الأرْحَام، دارَةُ الأسْوَاط، دارَةُ

(3)

الأكوار، دارَةُ الإكْلِيلِ، دارَةُ أَهْوى، دارَةُ باسِلِ، دارَةُ بحثر، دارَةُ بَدْوَتيْن، دارَةُ البَيْضَاء، دارَةُ التُّلَى، دارَةُ تِيَلٍ، دارَةُ الثَّلْمَاءِ، دارَةُ الجَأب، دارَةُ الجَثُوم، دارَةُ جُدَّى، دارَةُ جُلْجُل، دارَةُ الجُمُد، دارَةُ جَوْدَات، دارَةُ الجولاء، دارَةُ الخنازير، دارَةُ خَنْزَرٍ، دارَةُ الخَنْزَرتين

(4)

، دارَةُ الخِنْزِيرَيْن، دارَةُ خَوٍّ، دارَةُ دَمْخٍ، دارَةُ دَمُّون، دارَةُ الدُّور، دارَةُ الذِّئْبِ، دارَةُ الذُّؤيب، دارَةُ رابِغٍ، دارَةُ الرَّدْمِ، دارَةُ الرَّجْلَيْن، دارَةُ رَدْهَة، دارَةَ رَفْرَفٍ، [أو] دارَةُ زُفْرُفٍ، دارَةُ الرُّمْحِ، دارَةُ رِمْرِمٍ، دارَةُ الرُّهى، دارَةُ رَهْبَى، دارَةُ

(1)

لعل المصنف أوجز في عبارته فجاءت موهمة ومخالفة لما نصّ عليه العلماء من أنها مؤنثة.

(المذكر والمؤنث) لابن الأنباري ص 499، ولابن التستري ص 74، ولابن جني ص 67.

وقد يكون مراد المؤلف: وقد تذكر على معنى المثوى والموضع كما في قوله تعالى {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} .

(2)

القاموس (دور)393.

(3)

في الأصل: (دار)، والصواب ما أثبتناه.

(4)

في القاموس: الخَزْرديْنِ.

ص: 297

سَعْرٍ

(1)

، دارَةُ السَّلَم، دارَةُ شُبَيْثِ، دارَةُ شجى، دارَةُ صارَةٍ، دارَةُ الصَفائِح، دارَةُ صُلصُل، دارَةُ صَنْدَلٍ، دارَةُ عَبْسٍ، دارَةُ عَسْعَسٍ، دارَةُ عُوَارِضٍ، دارَةُ عُوَارِمٍ، دارَةُ العُوجِ، دارَةُ عُوَيج، دارَةُ الغُمَيْرةُ، دارَةُ غُبَيْرِة، دارَةُ الغُزَيِّل، دارَةُ الفُرُوع، دارَةُ القِدَاحِ

(2)

، دارَةُ قِرْحٍ

(3)

، دارَةُ القُطْقُطِ

(4)

، دارَةُ فَتْكٍ، دارَةُ القَلْتِينَ، دارَةُ قَوٍّ، دارَةُ القَمُوصِ، دارَةُ كامِسٍ، دارَةُ كِبْدٍ، دارَةُ كَبْسات، دارَةُ الكَوْر، دارَةُ لاقِطٍ، دارَةُ مَأْسَلٍ، دارَةُ مُتَالِعٍ، دارَةُ المَثامِنِ، دارَةُ مِحْصَنٍ، دارَةُ المَرَاضِ، دارَةُ المَرْدَمَةِ، دارَةُ المَرُوْرَات، دارَةُ مَعْرُوفٍ، دارَةُ مُعَيْطٍ

(5)

، دارَةُ المَكامِنِ، دارَةُ مكْمَنِ، دارَةُ مَلْحُوبٍ، دارَةُ المَلِكة، دارَةُ مَنْوَرٍ

(6)

، دارَةُ مَوَاضِيع، دارَةُ مَوْضُوع، دارَةُ النَّشاش

(7)

، دارَةُ النِّصاب، دارَةُ واحِدٍ، دارَةُ واسِطٍ، دارَةُ وَسْطٍ، دارَةُ وشْحَى، دارَةُ هَضْب، دارَةُ اليَعْضِيدِ، دارَةُ يَمْعُون، دارَةُ يَمْعُوز

(8)

(9)

.

وَأَمَّا دَارُ الأخْيارِ، ودار الأبْرَارِ، فإنَّها دار المهاجرين والأنصار، الذين أظْهَرُوا دين اللّه تعالى بالصارِمِ البتَّارِ، واستَأْصلوا شَأْفَة الكُفَّار، وَأَلْبَسَهم

(1)

في الأصل: (سعد)، والتصويب من القاموس.

(2)

في القاموس: ككِتَاب وكَتَّان.

(3)

في القاموس: قُرْح.

(4)

في القاموس: القِطْقِط - بكسرتين وبضمتين.

(5)

في هامش القاموس: (قوله: ومُعَيط كزُبَيْر، وقيل: كأمير اهـ مصححه).

(6)

في الأصل: (منون)، والتصويب من القاموس.

(7)

في هامش القاموس: (قوله: والنّشاش ككتَّان، هكذا في سائر النسخ، وفي المعجم: النشناش بزيادة نون ثانية بعد الشين. اهـ الشارح).

(8)

في القاموس: يمغُون أو يمعون.

(9)

ذكر المؤلف هذه الدارات في كتابه القاموس المحيط مادة (دور) ص 393 - 394 وانظر عن دارات العرب معجم ما استعجم ص 533 - 538، ومعجم البلدان 2/ 424 - 431.

ص: 298

اللّه تعالى حُلَّةَ الأخيار، وأَسْفَرَتْهُم مِنَ الدِّين مَطالِعُ الأنْوَار، وقَصَمَ بِبَأسِهِم رَقَبةَ كُلِّ عاتٍ جَبَّارٍ.

وهذان الاسْمانِ ذكرهُما مشايخُنا في كُتُبهم، ولا يكونُ إلَّا عن أَثَرٍ إن شاء اللّه تعالى.

وأمَّا دارُ الهِجْرَةِ، فلِمَا رَواهُ التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ عَنْ جرير بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال:"إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: إن اللّه تعالى أوحى إليّ [أيَّ] هذه الثلاث نَزَلْتَ فهي دَارُ هِجْرَتِكَ؛ المدينَة، أو البَحْرَين، أو قنَّسْرين"

(1)

.

ويُدعى الإمامُ مالِك رحمه الله إمَامَ دارِ الهِجْرَةِ.

وأمَّا دارُ الإيمانِ؛ فلأنَّهُ

(2)

كانَ مِنْها ظُهُورُهُ صلى الله عليه وسلم، كما نذكره آخر القَصْدِ، وسُمِّي بِهِ لأنَّهُ كان مِنها ظُهُورُه وانْتِشاره، وشيُوعُهُ وعُمُومُه، وعُلُوُّ كَلِمَتِهِ وَإِظهارهُ.

وفي صَحِيحِ البخارِي: دارُ السُّنَّةِ ودارُ الهِجْرَةِ

(3)

. والسَّبَبُ في التَّسْمِيَةِ بِهِما ظاهِرٌ؛ وذَلِكَ لأنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّة مِنْها ظهرت، وعَنْها انتشَرتْ، وعُصبَةُ الإسلامِ إليها هاجَرَتْ، وَأَوْطانَها هَجَرَت. وكانت رَحَى الإسلام إلى قيام القيام فيها يُدَار، فيا حُسْنَ الرَّحى ويا حُسْنَ المُدَار، لا يَبْرَحُ ولا يَزَال، ولا يَبْرَحُ لأفواجِ الأخيار إلى ساحةِ باحتِها الاستباقُ والابتدار، ولا تزال معاشر الضنائن

(4)

(1)

أخرجه الترمذي، في المناقب، باب فضل المدينة، رقم:3919. وقال: هذا حديث غريب.

(2)

في الأصل: (لأنه)، والصواب ما أثبتناه.

(3)

جزء من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:

أخرجه البخاري، في مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، رقم:3928.

(4)

الضنائن، ضنائن الله: خواص خلقه. القاموس (ضنن) ص 1212.

ص: 299

الأبرار إلى نالِ نالتها

(1)

في جلبات الخير والبَدار، ويتباهون عند الوُصُولِ بِلَثْمِ الأرْضِ وبِمَسِّ الجدار

(2)

، وَيَسْتَوِي شَوْقُهُم وَحُبُّهم واتِّبَاعُهُم عند شَرَفِ المزار، حتَّى لا يكادون يَفْتَرِقونَ بَيْن الإيرادِ بِها والإصدار، إذا انحدروا إليها مِنْ ثَنِيَّتها

(3)

فَضَّلوُا على كل عروج

(4)

ذَلِك الانْحِدار، فَيَخْتَصُّونَ في الدَّارين بارتفاع الأقدار وانتفاء الأكدار، وشفاء الأجدار

(5)

، واصطفى عن أنْس الأخْدارِ، والاكتفاء مِنْ دياراتِ الأقطارِ بِأَشْرَفِ دار، فَمَنْ وقاهُ اللّه هَجْرَه، ووفَّاهُ أجْرَه، بَوَّأه دَارَ الهِجْرَةِ. وَمَنْ حماهُ خلائِقَ الفاجِرِين، وكلاهُ طرائِقَ المشاجرين، آواه في دار الهاجرين. وَمَنْ رضي له بالأمْنِ والأمان، وأقصاه من اعتراء حوادِث الزَّمان، أفْضَى به إلى سُكْنَى دار الإيمان، ومن اختارَ اللّه تعالى لَهُ خَيْرَ الدِّيار، واشْتَارَ

(6)

لَهُ المنى أَحْسَن اشتيار، أسكنَهُ دار الأبْرارِ، ودارَ

(1)

المنالة: ما حول الحرم. القاموس (نول) ص 1066.

(2)

هذه من البدع المنكرة في العقيدة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله في القرآن وقال: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى} ، فإذا كان هذا بالسنة المتواترة وباتفاق الأئمة لا يشرع تقبيله بالضم ولا مسحه باليد. وأيضًا المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة دائمًا لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله. فإذا كان الموضع الذي كان بقدميه الكريمتين يطؤه ويصلي عليه لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله فكيف بما يقال إن غيره صلّى فيه أو نام عليه.

ثم ذكر ما يقصده بعض الناس للصلاة أو الدعاء، وبين أن هذا غير مشروع، ثم قال: وأما تقبيل شيء من ذلك والتمسح به فالأمر فيه أظهر، إذ قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا ليس من شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم. اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 997.

(3)

الثنية: العقبة أو طريقها أو الجبل أو الطريقة فيه أو إليه. القاموس (ثنى) ص 1268.

(4)

العروج: الارتقاء. القاموس (عرج) ص 198.

(5)

جمع جدرة، والجدرة غدة تكون في البدن خلقة، أو ورم يأخذ في الحَلْق. القاموس (جدر) ص 362.

(6)

يقال: شار العسل واشتاره: استخرجه. القاموس (شور) ص 420.

ص: 300

الأخْيارِ، ومن علاه مِنْ المعالى أعلى قُبَّة، وآتاه في الأعالي أقوى مُنَّة، وأبقاهُ مِنَ الأعادي بأوفى جُنَّة

(1)

، بيَّضَ بنور السُّنَّةِ سُنَّتَه

(2)

، وآواهُ دارَ السُّنَّة.

دارُ النَّبيِّ تُسَامي العَرْش مِقْدَارا

دارٌ حَوَتْ كلَّ خيرٍ في الورى دارا

دارٌ لها من قَدِيمِ الدَّهْرِ دائِرَةٌ

على السَّلاطِينِ من كِسْرى ومَنْ دارا

دار لها شرفٌ بادٍ على شُرَفٍ

تعلو على قبَّةِ الأفلاكِ أقْدَارا

دار بِها السُّنَّةُ الغرَّاء مَوْرِدُها

صافي المَشَارِبِ ما شَابَ أكدارا

دار النُّبوَّةِ دارُ المُصْطَفَى ولها

دار القُرآن سَمَّى أَكْرِمْ بِها دارا

وأمَّا أَرْضُ الهِجْرَةِ فقَدْ سَمَّاها بِهِ رسُول اللّه صلى الله عليه وسلم في حديثٍ رواهُ الطبراني في مُعْجَمَهِ الأوْسَطِ والصغِيرِ عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: "المدينَةُ قُبَّةُ الإسلامِ ودارُ الإيمان، وأرْضُ الهِجْرَةِ وَمَثوَى الحلالِ والحَرام"

(3)

. وقد نذكرُ سنده في باب القاف إن شاء اللّه تعالى

(4)

.

الشَّافِيَةُ: مِنْ شَفَاهُ يَشْفِيهِ شِفاءً، إذا أبْرَأهُ، أَوْ طَلَبَ لَهُ الشِّفاء، سُمِّيَتْ بها لِقَوْلِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"ترابها شفاءٌ منْ كُلِّ داءٍ. وذكر الجُذَامَ والبرَص"

(5)

.

(1)

الجُنَّة: السِّتر. القاموس (جنن) ص 1187.

(2)

السُّنة: الوجه. القاموس (سنن) ص 1207.

(3)

رواه الطبراني في الأوسط رقم: 5618، عن عيسى بن مينا، ثنا عبد الله بن نافع، عن أبي المثنى القارى، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، مرفوعًا.

إسناده ضعيف، فيه: أبو المثنى، سليمان بن يزيد، ضعيف. التقريب رقم:8340.

وانظر علله في سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/ 183، رقم:761.

(4)

زاد السمهودي مما أوله حرف الذال: ذات الحجر، ذات الحرار، ذات النخل.

ومما أوله حرف السين: سيدة البلدان، السلقة، قال: وهو محتمل بفتح اللام وكسرها، والسَّلق بالتحريك: القاع الصَّفْصفُ. والمسلاق: الخطيب البليغ. فتسميتها بذلك لاتساعها وبعدها عن جبالها، أو للأوائها، أو لشدة حرها وما كان بها من الحُمَّى الشديدة، أو لأن الله سلط أهلها على سائر البلاد فافتتحوها. وفاء الوفا 1/ 15 - 16.

(5)

"والذي نفسي بيده، إن تربتها لمؤمنة، وإنها لشفاء من الجذام". رواه الزبير بن بكار، عن =

ص: 301

وقوله صلى الله عليه وسلم: "تُرابُ أرْضِنا بِرِيقِ بَعْضِنا، يُشْفَى سَقِيمُنا بإذْنِ رَبنِّا"

(1)

. والحديثان يأتيانِ إن شاء اللّه تعالى في باب الفضائل.

وللعيان والمُشَاهَدَةِ فإنَّ جماعاتٍ مِنَ العُلماءِ ذكروا أَنَّهم جرَّبُوا تُرابَ صُعَيْبٍ

(2)

للحُمَّى فَوَجَدُوهُ صَحِيحًا. وأنا بنَفْسِي سَقَيْتُهُ غلامًا لي مريضًا مِن نَحْوِ سَنَةٍ تُواظِبُهُ الحُمَّى فانْقَطَعَت عَنْهُ الحُمَّى من يَوْمِهِ. وقد ذَكَرْتُ في تَرجَمَةِ صُعَيْبٍ مِنْ بَابِ الصَّاد كَيْفِيَّةَ الاسْتشفاء بتُرَابِه، والحديثُ الوارِدُ فِيهِ، فَلْيُنْظَر هُناكَ إن شاءَ اللّه تعالى

(3)

.

والتَّمْرُ مِنَ النَّخْلَةِ النابتة في تُرْبَتِها المُقَدَّسة قد صَحَّ فيه أن فِيهِ شفَاء مِنْ كُلِّ داءٍ، وأَنَّهُ تِرْياقُ أوَّلِ البُكرَةِ.

وفي صَحِيحِ مُسْلمٍ أن في العَجْوَةِ العالِيةِ شِفاء من كُلِّ داءٍ، وأَنَّها تِرْياقُ أوَّلِ البُكْرَةِ.

وصحَّ أن مَنْ تَصبَّح بِسَبعِ تمراتٍ مِمَّا يلي لابَتَيْها لم يَضُرُّهُ ذلك اليَوْمِ إلى

= محمد بن الحسن، عن محمد بن فضالة، عن محمد بن موسى بن صالح، - من ولد صيفي بن عامر - عن أبيه، عن جده، مرفوعًا.

ذكره السيوطي في الحجج المبينة ص 85. في سنده محمد بن الحسن: هو ابن زبالة: كذبوه.

(1)

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض:"بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا".

أخرجه البخاري، واللفظ له، في الطب، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 5475، 10/ 712. ومسلم، في السلام، باب استحباب الرقية، رقم: 4912، 4/ 4271.

(2)

صعيب: اسم مكان في المدينة سيفصل المؤلف الحديث عنه في الباب الخامس.

(3)

الحديث الوارد في الاستشفاء بتُرابِ صُعَيبٍ ضعيف، أما حديث:(تراب أرضنا) فقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، لكن جمهور العلماء ذكروا أن المراد بقوله:(أرضنا) جملة الأرض، ولا دليل على تخصيص الأرض بالمدينة. فتح الباري 10/ 219، عمدة القاري 21/ 270.

ص: 302

الليل سُمٌّ ولا سِحْرٌ، وحديثه في الصَّحِيحَيْنِ.

وصَحَّ مِن عِند أبي داود عَنْ سَعد بن أبي وقَّاصٍ

(1)

رضي الله عنه أَنَّهُ قال: مَرِضْتُ فأتاني رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم عائدًا فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْييَّ حتَّى وجَدْتُ بَرْدَها على فُؤادي، فقال:"إنَّكَ رَجُلٌ مَفْؤُودٌ"، أي: مُصَابُ الفُؤَادِ، "ايتِ الحارث بن كلدة أخا ثَقِيفٍ، فإنَّهُ رَجُلٌ يَتَطبَّب، فَلْيَأخُذْ سَبع تمراتٍ مِنْ عَجْوَةِ المدينة فَلَيجَأهُنَّ بِنَواهِنَّ، ثُمَّ لِيَلُدَّك بِهِنَّ"

(2)

فَلْيجَأَهُن، أي: فَلْيَدُقُّهُنَّ. قوله: ليلدُّك، أي: لِيَسْقِيكَ، يُقَالُ: لدَّهُ باللدُودةِ إذا سَقَاهُ الدَّواء في أحَدِ جانِبَي فَمِهِ، وجانبا الفَمِ: لَدِيَداهُ.

وأما مِياهُ آبارها، لا سِيَّما الآبارُ السَّبْعَةِ المَعْرُوفَةِ

(3)

فالاسْتشفَاءُ بِها مَعْرُوفٌ مِنْ قَديم الزَّمانِ، وإلى يومنا هذا، مَنِ اسْتشْفى بتُرْبَتِهِ أو بِشربته فَهُوَ مِنَ المَرَضِ وكربته في أمان، بفوائدها وافية، مناهلها وموارِدُها صافِية، ومنازِلُها ضافِية، ودوابها عن جرب الوباء في عافية،

(1)

ذكره المزي في التحفة 3916، والمنذري في تهذيبه 3726، على أن سعد هو ابن أبي وقاص، وأن الحديث منقطع، لأن راويه عن سعد هو مجاهد، ومجاهد لم يدرك سعدًا.

وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة 2/ 76 إلا أن في رواية الطبراني في الكبير 661 رقم: 5479: سعد بن أبي رافع ثم قال: إما أن وهم يونس بن الحجاج (أحد الرواة عن الطبراني) في قوله: ابن أبي رافع، أو تكون القصة تعددت.

(2)

أخرجه أبو داود، في الطب، باب تمرة العجوة، رقم: 3875، وابن سعد 3/ 146، والطبراني 6/ 61 رقم:5479. انظر علله في فضائل المدينة للرفاعي ص 656 - 659، وضعيف الجامع الصغير، رقم: 2032.

(3)

الآبار السبعة لا يعرف منها سوى ستة كما نص على ذلك المطري، قال: والآبار المذكورة ستة، والسابعة لا تعرف اليوم إلا بما يُسمع من قول العامة أنها جمل. التعريف ص 58.

والآبار الستة ذكرها ابن النجار وهي: بئر حاء، بئر أريس، بئر بضاعة، بئر غَرْسٍ، بئر البُصةِ، بئر رومة. الدرة الثمينة ص 72 - 82. سيأتي ذكرها بالتفصيل في الباب الخامس.

ص: 303

وَتُرْباؤها

(1)

عن جميع الأسْقَامِ والآلامِ شافِية.

- مَدْخَل صِدْقٍ: بفَتْح المِيمِ من قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}

(2)

. قال المُفَسِّرون: مُدْخَلَ صِدْقٍ: المدينة. ومُخْرَج صِدْقٍ: مكة

(3)

. على أن للمُفَسِّرين فيه أقوالًا:

الأوَّل: أَنَّ المُرَادَ إدخاله مكة ظاهِرًا على أهلها، قاهِرًا لِحِزْبِها

(4)

وإخراجُهُ منها آمِنًا مِنَ الكُفَّارِ، سالمًا عن شَرِّ ما نَوَوا له مِن الضِّرار.

الثَّاني: أَنَّ المُرَادَ إِدْخَالُهُ الغار، وخروجُهُ منه سالمًا من كُلِّ مُغِيرٍ ومغار.

الثَّالِثُ: أَنَّ المُرَادَ إدخَالُهُ فيما حَمَلَهُ مِنْ أَعْباءِ الرِّسالَةِ، وَإِخْراجُهُ منها بعد القيام بحقوق ما سار إليه منها

(5)

.

الرَّابعُ: أَنَّ المُرَادَ إدْخَالُهُ في كُلِّ ما لا بُدَّ لَهُ مِنْ ملابَسَتِهِ من المَكَارِهِ مَصحوبًا بالألطاف، وَإِخْرَاجُهُ مِنْها غير مَفْتُونٍ ولا مُمْتحَنٍ، ولا قَلِقٍ ولا جَزِعٍ ولا مُخَافٍ.

الخامِسُ: أَنَّ المُرَادَ إِدْخَالُهُ في القَبْرِ مُوقَّىً عن الملامَةِ، مَرْضِيًا عمَّا سَلَكَ مِنْ سبيل الإمَامَةِ، وإخراجُه مِنْهُ لِيَوْمِ القيامَةِ ملقَّىً بالكرامَة.

(1)

الترباء: الأرض. القاموس (ترب) ص 61.

(2)

سورة (الإسراء) آية رقم: 80.

وقراءة الفتح قراءة الحسن وعكرمة والضحاك، وحميد بن قيس وقتادة وأبي العالية، ونصر بن عاصم. تفسير القرطبي 1/ 313، زاد المسير 5/ 76، والقراءة المشهورة: (مُدْخَلّ

مُخْرَج) بضم الميم.

(3)

هذا ما رجحه الطبري في تفسيره 9/ 150.

(4)

كلمة غير واضحة.

(5)

هذا ما تبين لي من رسم الكلمات، والذي ذكره المفسرون: أدخلني في النبوة والرسالة، وأخرجني مخرج صدق .. يعني: أخرجني مِمَّا يجب علي فيها. زاد المسير 5/ 77.

ص: 304

السادس: أَنَّ المُرَادَ أَدْخِلني في القِيَامِ بِمُهِمَّاتِ أمْرِ دِينكَ المَتين، وشَرْعِكَ المُبين، وأخرجني مِنْها بعد الفراغِ إِخْراجًا لا تَبِعَةَ فِيهِ إلى يومِ الدِّين.

السَّابع: أَنَّ المُرَادَ أَدْخِلْني في أَنْوارِ توحِيدك وتنزِيهِكَ مُسَهَّلَ المَسَالِكِ، وأخرجني مِنْ حنادِسِ ظُلُماتِ الشُّكُوكِ والشُّبُهات الحوالِكِ.

الثَّامِنُ: أَنَّ المُرَادَ أَدْخِلْني المدينةَ مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْني إلى فَتْحِ مكَّةَ مُخْرَج صِدْقٍ. وَقَوْلُ مَنْ قال: إِنَّ المُرَادَ بقوله تعالى: {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}

(1)

هم اليَهُودُ

(2)

على هذا التَّأوِيلِ مِنْ أَعْدَلِ الشُّهود.

التَّاسِعُ: أَنَّ المُرَادَ أَدْخِلْني دار الهِجْرَةِ مُدْخَلَ صِدْقٍ، وأخرجني من مَكَّةَ مُخْرَج صِدْقٍ. وقول من قال: إِنَّ المُرَادَ بالذين هَمُّوا بإخراجهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ

(3)

في نُصْرة هذا التَّأويلِ مِنْ أَقْوى

(4)

ومِنْ أَعْظَم

(5)

.

العاشِرُ: أَنَّ المُرَادَ أَمِتْني إماتَةَ صِدْقٍ، وابْعَثْني عِنْدَ البَعْثِ مَبْعَثَ صِدْقٍ، وَوَجْهُهُ؛ أنَّهُ لَمَّا وعد بقوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}

(6)

؛ أمَرَهُ بالدُّعاء ليُنْجِزَ له ما صار له من رَبه مَوْعُودًا

(7)

.

الحادي عشر: أَنَّ المُرَادَ أدْخِلْني في المَأْمُوراتِ مؤيَّدًا، وأخرجني عَنِ المحظورات مُبْعَدًا

(8)

.

(1)

سورة (التوبة) آية رقم: 13.

(2)

البحر المحيط 5/ 16.

(3)

الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 8/ 86.

(4)

كلمة غير واضحة.

(5)

كلمة غير واضحة.

(6)

سورة (الإسراء) آية رقم: 79.

(7)

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10/ 202.

(8)

المصدر السابق 10/ 203.

ص: 305

الثاني عشر: أَنَّ المُرَادَ تَعْليمُهُ ما يَدْعُو بِهِ في صلاتِهِ وغَيْرِها مِنْ إِخْراجِهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُر المُشْرِكينَ المُبْغضِين منهاجه ودينه، وَإِدْخَاله مِنْ مَوْضِعِ الأمْنِ والمَأمَنِ والبُقْعَةِ المؤمِنة الأمينة، فَأَخْرَجَهُ مِنْ مَكَّة وَصيَّرَهُ إلى المدِينَةِ. وهذا المَعْنَى رواه التِّرمذي من حَدِيِثِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما قال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمكَّة، ثُمَّ أُمِرَ بالهِجْرَةِ فَنَزَلَتْ:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية.

الثَّالِث عشر: أَنَّ المُرَادَ أَدْخِلْني حَيْثُما أَدْخَلْتني بالصِّدقِ وأَخْرِجْني بالصِّدق، أي: لا تَجْعلني مِمَّن يَدْخُل بِوَجْهٍ ويَخْرُج بِوَجْه

(1)

، فلا أعدم تُعْجِبُها نَفْسا

(2)

، وأخْلِصْ وِجْهَتِي في نوائبي وَبُغْيَتي، فإنَّ ذا الوَجْهَيْنِ لا يَكُونُ عِنْدَ اللّه وجيهًا.

الرَّابع عَشَر: أَنَّ المُرَادَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ في جَمِيعِ ما يتناولُ صلى الله عليه وسلم من الأمور والأحْوالِ، وَيُحَاوِلُ منَ الأسْفارِ والأعْمَالِ، في جميع الأطوار، ويُنْتَظَرُ مِن تَصَرُّفِ المقَادِير في الدنيا ....

(3)

يكون دُعاءً معناهُ: رَبِّ أَصْلح لي وِرْدِي وصَدْري في كُلِّ أمْرِي والطُفْ بي في جميع أَحْوالي وهَبْ لي مِن لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصيرًا

(4)

.

طابَةُ، وَطَيْبَةُ، وَطَيِّبَةُ، والمُطيَّبةُ، أَخَواتٌ لَفْظًا وَمَعْنَى مختلفات صيغَةً وَمَبْنَى.

(1)

المصدر السابق 10/ 203.

(2)

قوله: (تعجبها نفسًا) هكذا في الأصل، ووضع عليها الناسخ علامة توقف.

(3)

طمس بمقدار خمس كلمات.

(4)

راجع عن هذه الأقوال في معنى الآية تفسير الطبري 19/ 148، زاد المسير لابن الجوزي 5/ 76، تفسير القرطبي 15/ 312، المحرر الوجير 10/ 337، مع ملاحظة أن المؤلف يضيف كلامًا من إنشائه على ما ينقله طلبًا للسجع.

ص: 306

طابَةُ: مِثَالُ طاقَةٍ وطاعَةٍ. وَطَيْبَةُ: مِثَالُ غَيْبَةٍ وعَيْبَةٍ. وطَيِّبَةُ: بكَسْر المُثَنَّاةِ التَحْتِيَّة مُشَدَّدَةً. والمُطَيَّبَةُ: بِفَتْحِ المُثنَّاةِ التَّحْتِيَةِ.

ثَبَتَ في الصَّحيح أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللّه تعالى سَمَّى المدينَةَ طابة"

(1)

.

وفي مُسْنَدِ الإمام أَحْمَدَ: "مَنْ سَمَّى المدينَةَ يثرب فَلْيَسْتَغْفِرِ اللّه تعالى، هي طابَةُ هي طابَة"

(2)

.

وَتَسْمِيَتُها بهذه؛ إمَّا لِطيبِ تُرْبَتِها وطَهَارَتِها مِنْ أَدْناسِ الكُفْرِ والشِّرك

(3)

، أَوْ لأنَّها كالكِيرِ تَنْفِي خبثها وَيَنْصَعُ طيبُها، أَو لِطيبِ هَوَائها وطِيبِ تُرْبَتِها وَطِيبِ أمُورِها كُلِّها، وذَلِكَ أمْرٌ وِجْدَانيٌّ يَجدُهُ مَنْ لَهُ أَدْنى إحْساسٍ وفِطْنَةٍ كما قال امْرُؤ القَيْسِ

(4)

:

خَلِيليَّ مُرَّا بي على أمِّ جُندُبِ

نَقْضِي

(5)

لبانات الفُؤادِ المُعَذّبِ

أَلَمْ ترياني كُلَّما جِئْتُ طارقا

وَجَدْتُ بِها طِيبًا وَإِنْ لم تطَيَّبِ

(6)

(1)

عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، يرفعه.

أخرجه مسلم، في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم: 1385، 2/ 1007. وغيره.

(2)

أخرجه أحمد في المسند 4/ 285، وابن شبة في تاريخ المدينة 1/ 165، وأبو يعلى 3/ 247. من طريق صالح بن عمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، مرفوعًا.

في سنده: يزيد بن أبي زياد، ضعيف، كبر فتغير وصار يتلقن وكان شيعيًا. التقريب (601) برقم:7717.

(3)

اللسان (طيب) 1/ 567.

(4)

هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، شاعر جاهلي مشهور، سبق الشعراء إلى طرائق ابتدعها في الشعر فاتبعوه بها، فلذلك يُعَدُّ المقدم على جميع الشعراء. طبقات فحول الشعراء ص 51 - 55، الشعر والشعراء ص 111 - 142.

(5)

في الأصل: (نفضي) وهو خطأ، والتصويب من (الديوان).

(6)

ديوانه ص 41، واللبانات: جمع لبانة، وهي الحاجة.

ص: 307

وقال الحافِظُ أبو مُحَمَّدٍ عبد الحقِّ الإشْبيلي

(1)

: اعْلَمْ أن لِتُرْبَةِ مدينة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نَفْحَةً لَيْسَ طِيبُها كما عُهِدَ مِن الطِّيب، ولا ....

(2)

منه فيها فيصيب، بل هِيَ عجبٌ مِنَ الأعاجيب، لا يعبر عَنْهُ بِبَعِيد ولا بِقَرِيب، هي كالجَنَّةِ لا يُشَارِكُ نَعِيُمها نعيم الدُّنيا إلَّا بالأسْماءِ، ولا يُشْبِهُهُ إلَّا كما يُشَبَّهُ الغَيْثُ والبَحْرُ بأَيْدِي الكُرَماء، وكما سَمَّى السماء العلياء، ومَا عَلاكَ مِنْ سَقْفِ البَيْتِ السَّماء، وَهَيْهاتَ ما بيْنَ الشَّبَيهَيْنِ والمُشَبَّهَيْنِ، وما بيْنَ الصِّفَتَيْنِ والمَوْصوفَيْنِ. وَأَنْتَ إذا حَقَّقْتَ النَّظَرَ إليها تكاد أَنْ تَتَضَادَّ تلك الصِّفات، وتتبَايَنَ كُلُّ المُشَبَّهات، ويَكُونُ منها ما بين مأمن، فالنهار حمل اللّه إليها، ولو سفك دمك عليها

(3)

بع في الوصول إليها الرفيع والدون، واليمن والميمون، وهون فيها ما لا يهون، وألق فيها أنواع المنون يكون في ذلك ما لا يكون. انتهى كلامه.

وهذه الأسْمَاءُ اشتقاقُها مِنْ طاب الطَّعامُ يَطِيبُ طابًا وطِيبًا وَطِيبَةً، وتَطْيابًا: إذا لَذَّ. والشيء: زكا. والأرْضُ: أَكْلأَتْ. والطَّابُ، والطُّيَّابُ، بالضمِّ والتّشدِيد: الطَّيِّبُ. والطَّابَةُ: الخَمْرُ. وَأَطَابَهُ وطَيَّبَه بِمَعْنَى. والطِّيْب، بالكَسْرِ، والطُّوب، بالضمِّ بِمَعْنَى واحِد

(4)

.

والطُّوبى أيضًا: جَمْعٌ للطِّيبَةِ

(5)

، وتَأْنِيثُ الأطْيَبِ

(6)

، والحُسْنَى،

(1)

هو الإمام الحافظ عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد اللّه الأزدي الأندلسي الإشبيلي، ولد سنة 510 هـ، وقيل: 514 هـ. وتوفي سنة 581 هـ. له مصنفات عدّة أهمها: (الأحكام الصغرى والوسطى). عنوان الدراية ص 41، سير أعلام النبلاء ص 21/ 198.

(2)

كلمتان غير واضحتين بالأصل.

(3)

كلمات غير واضحة بالأصل.

(4)

القاموس (طيب) ص 110.

(5)

المنتخب من كلام العرب: ص 557

(6)

على رأي ابن سيده. لسان العرب (طيب) 1/ 564.

ص: 308

والخَيْرِ، والخِيَرَة، والجَنَّةُ، أو شَجرةٌ فيها، وطوبى لُغَةٌ فيها.

وَقِيلَ: لَمَّا كانت طِينَةُ المدينة طَيِّبَةَ الأصلِ زكِيَّةَ الخِلقَةِ ظهر ذَلِكَ الحالُ فيها ظاهِرًا، حَيْثُ يُوجَدُ في أماكنها وَأَزِقَّتِها نَفحَةٌ طَيِّبَةٌ، لا يَخْفَى ذلك على مُتأمِّلِها ظاهِرًا وباطِنًا، حَيْثُ تنفِي الخَبَث عَنْ نَفْسِها حتَّى لا يَبْقَى فيها إلا الطيبُ الزَّاكي.

قال ياقوت: مِنْ خصائِصِ المدينَةِ أنَّها طَيِّبَةُ الرِّيحِ، وللعِطْرِ فيها فَضلُ رائحةٍ لا يوجَدُ في غَيْرِها

(1)

.

كما رُوِّيْنا مِنْ عِنْدِ مُسْلم من حَدِيثِ جابرٍ رضي الله عنه: "إنَّما المدينة كالكِيرِ تنفي خَبتَهَا، وينصع طيبها"

(2)

.

وفي هذا الحديث أَوْضَحُ بُرْهانٍ على طِيبِ هذه البُقْعَةِ المُقَدَّسَةِ وطهارَتِها، وهذا شَأْنُ العَوَالم النورانِيَّةِ، والجهاتِ المُقَدَّسَةِ مِنْ ذواتٍ وَبقَاعٍ. وفِيه إشارَةٌ إلى نوعٍ من العِلْمِ خَفِي، وإِثْباتٌ أن هذه البَلْدَةَ ثَبَتَ لها مِنَ الفَضْلِ أن جانَسَتْ بما اشتمَلت عليه ما لَيْسَ مِنْ جِنْسها، فتعالَتْ عن بقاعِ الأرْضِ وشَرُفَتْ عليهَا بثُبُوتِ أمْرٍ لها ظهر عِنْد نفي الخبث عنها، وظهورَ آثارِ الأنوارِ فيها. ويُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أن العَبْدَ المُؤمِنَ إذا رُزِقَ الحُلُولَ بِها أُعِينَ على الطَّاعات، وتَيَسَّرتْ لَهُ أَنْوَاعُ العبادات، وسَهُلَ عليه الإشْرَافُ على نيل المرادات، وتتضاعف أَنْوارُهُ وتَمْكِينُه، ويَزْدَادُ إيمَانُهُ ويَنْصانُ دِينُه، ويَقِلُّ عِصيانُهُ ويَثْبُتُ يَقِينُهُ.

هذا كُلُّه مِنْ خواصِّ البُقْعَةِ والطينةِ المُجَرَّدة، فكيف إذا قُورِنَ بِجِوارِ مَن

(1)

معجم البلدان 5/ 87.

(2)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث، رقم: 1883، 4/ 115، ومسلم، في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم: 1383، 2/ 1006.

ص: 309

حَلَّ بِها وسُرَّار

(1)

من وَصَل اللّه لنا بِهِ كُلَّ شَرَفٍ وكُلَّ بَها

(2)

.

ونَسْألُ اللّه التَّوفِيقَ للقِيامِ بواجِبِ شُكْرِه على ما مَنَّ بِهِ عَلَيْنَا من سوابِغِ نِعَمِهِ، ويَسَّرَ عَلَيْنا من أَسبَابِ الوُصولِ إلى جنابِ المُصْطَفى والإقامَةِ بِحَرَمِه.

أَنْشَدَنا الفقيه أبو مُحَمَّدٍ عبد اللّه بن أَسْعَد

(3)

وآخرون، إذنًا عن الأمِيرِ الأبْهري قال: أنشدنا أبو عبد اللّه بن العَطَّار الإفريقي الثِّقَة:

أطَيْبَةُ هَلْ يُقْضَى لنا بِوصَالِكِ

لَقَدْ طِبْتِ، إنَّ الطِّيب بعض خصالك

وطِبْتِ بِمَنْ طابَ الجنان بِطيِبِهِ

فَأَضْحَى مِثَالُ الشَّمْسِ دون مِثَالك

وَمِنْ طِيبِكِ الآفاق طُرًّا تَطَيبَّت

ولا طِيبَ إلا ما شذا مِنْ هنالك

جَمَالُكِ مَنْسُوبٌ إلى خَيْرِ مُرْسَلٍ

بِصُورتِهِ يجري نَهارُ جمالك

كَمُلْتِ وفُقْتِ الشَّمْسَ والبدر رفعةً

وخير البرايا موجِبٌ لكمالك

وَقال

..... متيم سقيم به ......

......... اللقاء له طب

(4)

مَتَى ألتَقي يومًا بِكُمْ وأراكمْ

ويَجْمَعُنا في طيبة المنْزِلُ الرحبُ

بِطيبِ رَسُولِ الله طابَ نَسِيمُها

فَما المِسْكُ ما الكافورُ ما المَنْدَلُ الرَّطْبُ

وقال:

أهدتْ لنا طيبَ الروائح يثربُ

فبطيبها عندَ التَّنَسُّم نطرَبُ

بها طابت الأنفاس من زهرها الذكي

فَنَسِيمُها أذكى شذاه وَأَطْيبُ

(1)

السُّرَّار: محض النسب وأفضله. القاموس (سرر) ص 406.

(2)

البهاء: الحسْنُ القاموس (بهو) ص 1265.

(3)

عبد اللّه بن أسعد بن علي اليافعي، عفيف الدين، مؤرخ باحث متصوف، من شافعية اليمن.

توفي سنة 768 هـ. الدرر الكامنة 2/ 247، الأعلام 4/ 72.

(4)

مكان النقط كلمات غير واضحة.

ص: 310

وأنشَدنا أبو عُمر الحَمَوي، إذنًا عن أبي حيان

(1)

قال: أَنْشَدَنا فخر الدِّين محمد بن مصطفى بن زكريا العسكري التُّرْكي

(2)

لِنَفْسِهِ:

قيل اتَّخِذْ مَدْحَ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ

فِينا شعارَك إنَّ شِعْرَك رَيِّقُ

وعلى ثنائِك للبراعة بَهْجَةٌ

وعلى ثيابك للبراعَةِ رونَقُ

(3)

يا قُطْبَ دائِرَةِ الوُجُودِ بأسْرِه

لَوْلاكَ لم يَكُنِ الوُجُودُ المُطْلَقُ

مُذْ كُنْتَ أَوَّلَهُ وكنْتَ أَخِيرَهُ

في الخافِقَيْنِ لواء مَجْدِك يَخْفِقُ

كُلُ الوُجُودِ إلى جمالِكَ شاخِصٌ

فإذا اجْتَلاك فعَنْ جلالِكَ يُطْرِقُ

(4)

يا أوَّلًا من قبله ما فاته

يا آخرًا من بعده لم يلحَقُوا

كُنْتَ النَّبيَّ وآدَمٌ في طِينِهِ

ما كانَ يَعْلَمُ أيَّ خَلْقٍ يُخْلَقُ

فضلت بك الأرْضُ السَّماءَ لأنها

فيها ضرِيحُك وَهْوَ مِسْكٌ يَعْبقُ

ما اسم المدِينَةِ طيبةَ إلَّا لما

يُغْرِى لِطيِبك طِيبها المُسْتَنْشَقَ

(5)

وقال صاحِبُنا الشَّيْخُ العَلَّامَة أبو عبد الله محمد بن أَحْمَد بن علي بن جابر الهوَّاري الأنْدَلُسُي

(6)

من قصيدةٍ طويلةٍ

(7)

:

(1)

لعله أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف بن حيان أَثِير الدين، صاحب التصانيف الشهيرة، التي منها (البحر المحيط)، و (ارتشاف الضرب من لسان العرب). توفي بالقاهرة سنة 745 هـ. الوافي بالوفيات 5/ 267، البلغة ص 148، بغية الوعاة 1/ 282.

(2)

ولد سنة 631 هـ، كان شيخًا فاضلًا من فقهاء الحنفية، له نظم ونثر، عمي في آخر عمره.

توفي سنة 713 هـ. الوافي بالوفيات 5/ 31، الأعلام 7/ 99.

(3)

رواية البيت في الوافي بالوفيات ونكت الهميان:

وعلى بنانك للبراعة بَهجة

وعلى بيانك للبراعة رونق

(4)

في هذه الأبيات غلو مفرط، لا ينبغي لمسلم أن يعتقده أو يوافق الشاعر عليه.

(5)

الأبيات عدا السادس والثامن في الوافي بالوفيات 5/ 31 - 32، ونكت الهميان ص 275.

(6)

شمس الدين، ولد سنة 698 هـ. في المريَّة، بيان ضريرًا، شاعر متمكن وصفه ابن الخطيب بقوله: الشيخ أبو عبد الله صدر صدور الأندلس علمًا ونظمًا ونحوًا، ارتحل إلى المشرق مع صاحبه أحمد بن يوسف الرعيني. توفي سنة 780 هـ، الإحاطة 2/ 330، نفح الطيب 1/ 162.

(7)

وهي تسمى الحُلَّة السِّيرا في مدح خير الورى، وعدد أبياتها 177 بيتًا وقد شرحها الرعيني =

ص: 311

بِطَيْبَةَ انْزِل ويَمِّم سَيِّدَ الأمَمِ

وانظم لَهُ المَدْح وانْثُر طَيِّبَ الكَلِمِ

ومنها:

جاوِرْهُ تُمْنَع، وَلُذْ يَشْفَع، وَسَلْهُ يَهَب

وَعُدْ يَعُدْ، واسْتَزِد يَفْعَل، وَدُمْ يَدُمِ

(1)

طِبايا: ذكره ياقوت في أَسْماء المدينَةِ

(2)

، ولَمْ يَضْبط الكَلِمَة. وَعِنْدي أَنَّها بكَسْرِ المُهْمَلَةِ وبِفَتْحِ المُعْجَمَةِ. فإنْ كانَتْ بالمُهْمَلَةِ فَإِنَّها مِن الطِّباب والطِّبَابَةِ التي هِيَ اسْمٌ للأرْضِ المستطيلة

(3)

. قال الصَّغَاني

(4)

: الطِّبابَةُ بِكَسْرِ الطَّاءِ: القِطْعَةُ مِنْ الأرْضِ المستطيلة، وكذلك مِنَ الثَّوب وَغَيْرِه، فَإِنَّما سُمِّيَتْ بذلِكَ لأنَّها كذلك.

وَإِنْ كانَت الظَّاء مُعْجَمَة مِنْ ظَبَّ وظُبْظِبَ: إذا حُمَّ

(5)

؛ لأنَّها كانَتْ لا يَدْخُلُها أَحَدٌ إلَّا حُمَّ، فَنَقَل الله سبحانه وتعالى حُمَّاها إلى مَهِيعَة

(6)

بدُعائِهِ صلى الله عليه وسلم

(7)

.

= وعنوان شرحه (طراز الحلة وشفاء الغلة).

(1)

طراز الحلة وشفاء الغلة للرعيني ص 95 - 395.

(2)

معجم البلدان 5/ 83.

(3)

اللسان (طبب) 1/ 556.

(4)

هو الحسن بن محمد الصغاني النحوي، من علماء اللغة والنحو المشهورين، له مصنفات عدّة، أهمها (مجمع البحرين)، و (العباب الزاخر). توفي في بغداد سنة 650 هـ. معجم الأدباء) 5/ 10، الوافي بالوفيات 12/ 240، البلغة 87.

(5)

التكملة والذيل والصلة للصغاني 1/ 198.

(6)

مَهِيعَة: اسم للجحفة، قال السمهودي: مَهِيعَة، كمَعيشَة. ويقال: مَهْيَعَة، كمَرْحَلة: اسم للجحفة. وفاء الوفا 2/ 1316، وضبطها ياقوت مَهْيَعَة، وقال: هي الجحفة، وقيل: قريب من الجحفة. معجم البلدان 5/ 235.

(7)

انظر: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرّى المدينة، رقم: 1889، 4/ 119. وغيره.

ص: 312

العاصِمَةُ: سُمِّيَتْ بِها لأنَّها عَصَمَت المُهاجرين ووقَتْهُم أَذَى المُشْرِكين، ومَنَعَتْ عَنْهُم شَرَّ كُفَّار قُرَيْشٍ وَمَنْ قَصَدَهم مِنَ المُتَمَرِّدِين، وتَكَفَّلَت بِعِصْمَتِهِم وحِفْظِهِم وكِلائِهِم، وضَمِنَت الغاية القصوى مِنْ واجِبِ رعايَتِهِم وحِمَايَتِهِم. ومادَّةُ عرض مَوَضُوعَةٌ لِلمَنْعِ والوقايَةِ

(1)

، وجميع تَفَاريعِها رَاجعَةٌ إلى هذا المَعْنَى؛ ومِنْهُ العِصَام للشِّكالِ. والعِصَامُ لِحَبْلِ الإداوة والدَّلوِ الذي يُربَطُ فِيهما فيكون لَهُما عاصِمًا وحافِظًا مِنَ السُّقُوط في البِئْرِ وعَنِ الضَّيْعَةِ.

والمِعْصمُ: اليد؛ لأنَّها تَمْنَعُ وتَحْفَظ، وكذَلِكَ المِعْصَمُ مَوْضِعُ السِّوَارِ لِذَلِكَ. ومِعْصمْ مِعْصَمْ للمَعْزِ إذا دُعِيَتْ لِلْحَلْبِ

(2)

؛ كأنَّك تَمْنَعُها وتَحْبِسُها لِتَحْلِبها. ومِنْهُ الأعْصَمُ من الظِّباء والوُعُول، لأنَّهُ يَعْتَصِمُ بالقُلَلَ والمواضِعِ المنيعَةِ

(3)

، أو هُوَ الذي في ذِرَاعَيْهِ بَياضٌ، وسائِرُهُ أَسْوَدُ أو أَحْمَر، شُبِّهَ ذلك البياضُ بِقَيْدٍ في يَدَيْهِ.

وأَبُو عاصم كُنْيَةُ السَّوِيقِ، وكُنْيَةُ السِّكباج

(4)

؛ لأنَّهُما يَقْبِضانِ البَطْنَ ويُمَسِّكانِهِ. ومِنْهُ العَصِيم لِوَسَخٍ يَيْبَسُ على فَخِذي الإبل لأنه يمتنع وينقبض، وكذا العُصْمُ، والعُصُم لِبَقِيَّةِ الخِضَابِ وأَثَرهِ الذي لا يَزُولُ سرِيعًا. وقال تعالى:{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}

(5)

. وقال عز وجل: {وَاللَّهُ

(1)

معجم مقاييس اللغة 4/ 331.

(2)

لم أجد هذا المعنى في مظنته، فيما رجعت له من مصادر، وقد ذكره المؤلف في القاموس (عصم) ص 1138.

(3)

ذكر المؤلف هذا المعنى في القاموس (عصم) ص 1138.

(4)

الصحاح مادة (عصم) 5/ 1989، والسكباج: مرقٌ يعمل من اللحم والخلّ، معرّب سِكْبَا، وهو مركّب من سِكْ، أي: خلّ، ومن با، أي طعام. الألفاظ الفارسيّة المعرّبة لآدي شير ص 92 (المطبعة الكاثوليكية - بيروت 1908)، المرصَّع في الآباء والأمهات ص 194.

(5)

سورة (هود) آية: 43.

ص: 313

يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}

(1)

.

والعَوَاصِمُ: حُصُونٌ مَوانِعٌ وَوِلايات تُحِيطُ بِها بَيْنَ حلب وأنطاكِية بناها قَوْمٌ واعتَصَمُوا بِها مِنَ الأعْدَاءِ، وأكْثَرُها في الجبالِ فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ.

وقيل: أَفْرَدَ الرَّشِيدُ تِلْكَ الأماكِنِ وسَمَّاها بالعَوَاصِمِ؛ لأنَّ المُسْلِمينِ كانوا يَعْتَصمُونَ بِها فتَعْصِمُهُم وتَمْنَعُهُم مِنَ العَدُوِّ، إذا

(2)

انْصرَفوا مِنْ غزْوهم وخرجوا مِنَ الثُّغُورِ

(3)

. فَسُمِّيَتْ المَدِينَةُ أيضًا عاصِمَةً لهذا المَعْنَى. ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ عاصِمَة بِمَعْنَى مَعْصُومَة كَـ (عِيشَةٍ راضِيَةٍ)، بِمَعْنَى مَرْضِيِّة، و (مَاءٍ دافِقٍ) بِمَعْنَى مَدْفُوقٍ.

فَسُمِّيَتْ عاصِمَة لأن الله تعالى عَصَمَها بِمُوسى وداود عَلَيْهما الصَّلاة والسَّلام، وبِجُيُوشِهِما التي وجَّهُوها إليها، وَحَماها وصانَها بِهم عن الكُّفَارِ والجَبَّارِين ومَنْ قَصَدَ كَيْدَها، كما أَسْلَفْنَا في البَابِ الثَّاني في تارِيخ المَدِينَة الشَّرِيَفةِ. أو لأنَّها مَعْصومَةٌ مَحْفُوظَةٌ بالحُرْمَةِ التي شرَّفها الله عز وجل بِها بدَعْوَةِ نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم، فلا يُعْضَدُ شَجَرُها، ولا يُخْبَطُ ثَمَرُها، ولا يُخْتَلى خلاها، ولا يُقْطَعُ كَلاها، ولا يُصَادُ صَيْدُها، بَلْ يُسْلَبُ صائِدُها، ولا تُذْعَرُ أَوابِدُها، وعَصَمَها الله وبالغ في عِصْمَتِها حَتَّى لم يَدَعْ فيها خبثًا، ولعَنَ بأتَمِّ اللعائِنِ مَنْ أَحْدَثَ فيها حَدَثًا، أَو آوَى فيها مُحْدِثًا.

وببلادِ هُذَيْلٍ مَوْضِعٌ مَنيعٌ يُدْعى عاصِمًا

(4)

؛ لِتَحَصُّنِهِ وتَمَنُّعِهِ، وفيه يَقُولُ

(1)

سورة (المائدة) آية: 67.

(2)

في الأصل: (وإذا)، ولعل الصّواب بإسقاط الواو، كما أثبتنا ليستقيم المعنى.

(3)

معجم البلدان 4/ 165.

(4)

يقول ياقوت: وهو اسم موضعٍ أظنه في بلاد هذيل. معجم البلدان 4/ 67.

ص: 314

أَبُو جُنْدُبٍ الهُذَلِيِّ

(1)

:

على حَنَقٍ صبَّحتهم بِمُغِيرَةٍ

كرِجْلِ الدَّبى الصَّيفِيِّ أَصْبَحَ سائِما

بغيتهمُ ما بين حدَّاء والحشا

وَأَوْرَدْتهم ماء الأثِيْلِ فعاصِما

(2)

العَذْرَاءُ والعَرَّاء: والعَذْرَاءُ هي في أَصْلِ اللغَةِ الرَّمْلَة التي لم تُوطأ، سُمِّيَتْ البِكْرُ بِها أيضًا لأنَّها لم توطأ. والعَذْرَاءُ: الدُّرَّةُ التي لم تُثْقَبْ، شُبِّهَتْ بالجارِيَةِ البِكْرِ في ذَلِكَ. وسُمِّيَتْ المَدِينَةُ بِذَلِك لأنَّها لَمْ توطأ أيضًا

(3)

. بِمَعْنَى أنَّها لم يَطَأْها العَدُوُّ القاهِرُ في أوَّلِ الزَّمانِ، وأنَّها لَمْ تَبْرَحْ مَحْفُوظَة مَصُونَةً مِنَ العُتَاةِ المتَمَرِّدين، والجُنَاةِ المُفْسِدِين إلى أَنْ تَسَلَّمَها مالِكُها ومَلِكُها سَيِّدُ الأنبياء والمُرْسَلِين كَوَديِعَةٍ تُصَانُ إلى أنْ تُرَدَّ إلى صاحبِها، وبديعةٍ تُحْفَظُ في خِدْرِها إلى أَنْ تُسَلَّمَ إلى خاطِبِها.

وهذا الاسْمُ لها مِنَ الأسْماءِ المَذْكُورَةِ في الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، كما رُوِّينا عن إبراهيم بن أبي يحيى أنَّهُ قال: للمدينة في التَّوراةِ أحد عشر اسْمًا؛ المَدِينَة، وطيبة، وطابَة، والمِسْكِينَة، وجابرة، والمجبورة، والمَرْحُومة، والعَذْراء، والمُحَبَّةُ، والمَحْبُوبَة، والقاصِمَةُ. وتَصحَّفَ على بَعْضِ المُصَنِّفين هذه اللفظة

(1)

هو أبو جندب بن مرة، أحد أولاد بني قرد، وكان بنو مرة عشرةً، منهم أبو جندب وأبو خراش، وكانوا جميعًا شعراء دهاة سراعًا لا يدركهم عدوٌ، وكان أبو جندب ذا شرٍّ وبأسٍ، وكان قومه يسمونه المشؤوم. الأغاني 21/ 45، المذاكرة في ألقاب الشعراء ص 141 - 145.

(2)

شرح أشعار الهذليين 1/ 353، معجم البلدان 4/ 67.

الدُّبى: أصغر الجراد والنمل. القاموس (دبى) ص 1282.

حَدَّاء: واد فيه حصن ونخل بين مكة وجدة. معجم البلدان 2/ 226.

الحشا: جبل الأبواء بين مكة والمدينة. معجم البلدان 2/ 261.

الأثيل: موضع في بلاد هذيل بتهامة. معجم البلدان 1/ 94.

(3)

(اللسان)(عذر) 4/ 553.

ص: 315

فأثْبَتَ مكان العذراء الهدراء بالهاء

(1)

، فلا تَغْتَرَّ بِها فإنَّها زلَّةُ ناسِخٍ، أو عَثرةُ راسِخٍ، وبالله التوفيق.

وأمَّا قول الراعي:

وكَمْ مِنْ قَتِيلٍ يَوْمَ عَذْرَاءَ لَمْ يَكنْ

لصاحِبِهِ في أوَّلِ الدَّهْرِ قالِيا

(2)

فإنَّما أَرادَ العَذْراء التي بِغُوطَةِ دِمَشْق على مَقْرُبَةٍ من راهط التي كانَتْ فيه الوقْعَةُ بَيْنَ الزُّبَيْرِيَّةِ والمَرْوَانِيَّةِ

(3)

.

وأمَّا العَرَّاء فَهِيَ بِمَعْنَى العَذْراء. قال أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: العَرَّاء: الجارِيَةُ العَذْراء

(4)

. شُبِّهَت بالنَّاقَةِ العَرَّاء، وهي النَّاقَةُ التي لا سَنَامَ لها، أو صِغَرُ سَنَامها في صِغَرِ نَهْدِها أو عدم ثديها

(5)

.

العَرُوضُ: مِثْلُ صَبُورٍ: المَدِينَةُ. وقِيلَ: المَدِينَةُ وما حولها عَرُوضُ. وقيل: مَكَّةُ والطَّائِفُ وما حَوْلها عَرُوضُ. وقيل: مَكَّةُ واليَمَنُ عَرُوضُ.

وقال الخَارْزَنْجِي

(6)

:

(1)

نقله ابن زبالة عن إبراهيم بن يحيى أنه من جملة أسمائها في التوراة. تحفة الراكع والساجد للجراعي ص 151. وابن زبالة متهم بالكذب.

(2)

ديوانه ص 287.

(3)

معجم البلدان 4/ 91، وانظر عن موقعة مرج راهط. تاريخ الطبري 5/ 535.

(4)

تهذيب اللغة 1/ 103.

(5)

زاد السمهودي: فيجوز أن تكون تسمية المدينة بذلك لعدم ارتفاع أبنيتها في السماء. وفاء الوفا 1/ 18.

(6)

الخَارْزَنْجِي - بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعد الألف وفتح الزاي وسكون النون وفي آخرها الجيم - هذه النسبة إلى خَارْزَنْج، وهي قرية بنواحي نيسابور من عمل بُشْت - بالشين، والعجم يقولون: خارزنك - بالكاف. خرج منهم جماعة من أهل العلم والأدب، منهم: أحمد بن محمد إمام أهل الأدب بخراسان في عصره، ولما دخل بغداد تعجب أهلها من تقدمه في معرفة اللغة، وهو صاحب كتاب التكملة في اللغة، كمّل به كتاب العين المنسوب =

ص: 316

ما كانَ خلاف العِرَاقِ فهو عَرُوضُ

(1)

.

والعَرُوضُ في كَلام العَرَبِ: النَّاقَةُ التي لم تُرَض. والعَرُوضُ: النَّاحِيَةُ. والعَرُوضُ: طَرِيقٌ في عُرْضِ الجَبَلِ يَكُونُ في مَضِيقٍ، والعَرُوضُ من الكَلام: فَحْواهُ ومَضْمُونُهُ. والعَرُوضُ: الكَثيرُ مِنَ الشَّيء. والعَرُوضُ: السَّحَابُ. والعَرُوضُ: الطَّعَامُ. والعَرُوضُ: المَكَانُ الذي يُعَارِضُكَ إذا سِرْتَ

(2)

. والعَرُوضُ: ميزَانُ الشِّعْرِ. والعَرُوضُ أيضًا: الجُزْءُ الذي في آخِرِ النِّصْفِ الأوَّلِ مِنَ البَيْتِ

(3)

.

وقال ابنُ الكلبيِّ: بلادُ اليَمامَةِ والبَحْرَين وما والاها العَرُوض، وفيها نَجْدٌ وغَوْرٌ لِقُرْبِها مِنَ البَحْرِ وانْخِفَاضِ مَواضِعَ مِنْها وَمَسايلَ أودية فيها. والعَرُوضُ يَجْمَعُ ذلِك كُلَّه.

وقيل: هُوَ ما سِوى العِراقِ، كما تَقَدَّم عن الخارْزَنْجي.

قال أَهْلُ السِّيَرِ: لَمَّا سَارَ جَديِسُ مِنْ بَابِل يَؤُمُّ إخْوتَهُ فَلَحِقَ بِطَسْمٍ وَقَدْ نَزَلَ العَرُوضُ فَنَزَل هُوَ في أَسْفَلِهِ. وإنَّما سُمِّيَتْ تِلْكَ النَّاحِيَةُ العَرُوضُ لأنَّها مُعْتَرِضَةٌ في بلادِ اليَمَنِ والعَرَب ما بَيْنَ تُخُوم فارِس إلى أقْصَى أَرْضِ اليَمَنِ، مستطيلة مع ساحِلِ البَحْرِ، قالَ لَبِيدٌ

(4)

:

= للخليل بن أحمد. توفي الخارزنجي سنة 348 هـ. الأنساب للسمعاني 2/ 304، إنباه الرواة 1/ 99، معجم الأدباء 4/ 207، معجم البلدان (خارزنج) 2/ 336.

(1)

معجم البلدان 4/ 112.

(2)

مختصر العين 1/ 113، اللسان (عرض) 7/ 173.

(3)

القاموس (عرض) ص 645.

(4)

هو لبيد بن ربيعة العامري، صحابي جليل، وشاعر مخضرم، عمر طويلًا في الجاهلية وأدرك الإسلام فأسلم، عده ابن سلام في الطبقة الثالثة من شعراء الجاهلية، وقال عنه: كان لبيد فارسًا شاعرًا شجاعًا، وكان عذب المنطق رقيق حواشي الكلام، وكان مسلمًا رجل صدق. توفي =

ص: 317

نُقَاتِلُ ما بَيْنَ العَرُوض وخَثْعَمَا

(1)

والعَرُوضُ: الشَّيءُ المُعْتَرِضُ. وقال الخَلِيلُ: العَرُوضُ: طَرِيقٌ في عُرْضِ الجَبَلِ، والجَمْعُ: عُرُضٌ

(2)

.

وعَرَضَ الرَّجُلُ يَعْرُضُ ويَعْرِضُ إذا أتى المَدِينَةَ. وكذلك إذا أتى مَكَّةَ فقد عَرَضَ. فإنَّ المَدِينَةَ سُمِّيتْ عَرُوضًا؛ لأنَّها مِنْ بلادِ نَجْدٍ، ونَجْدٌ كُلُّها على خَطٍّ مستَقِيمٍ طولاني، والمَدِينَةُ مُعْتَرِضَةً عنها ناحِيةً على أنَّها نَجْدِيَّة. فَسُمِّيَتْ عَرُوضًا لذلك.

الغَرَّاءُ: تَأْنِيثُ الأغَرِّ

(3)

. وفرَسٌ أَغرُّ وغَرَّاء: إذا كانَ ذا غُرَّةٍ، وَهُوَ بياضٌ في مُقَدَّمِ وَجْهِهِ، وكذَلِكَ الغُرْغُرَة، والغُرَّةُ أَيْضًا: خِيارُ كُلِّ شيءٍ وما بدا لَكَ مِنْ صُبْحٍ أَوْ ضَوْءٍ فَقَدْ بَدَتْ غُرته. وغرة الإنْسانِ وَجْهُهُ. والأغرُّ: الأبَيضُ مِنْ كُلِّ شيءٍ. والأغَرُّ مِنَ الأيَّام الشَّدِيدُ الحَرِّ. والرَّجُلُ الكَرِيمُ الأفْعالِ الواضِحِ المكارم. والأغَرُّ: الذي أخَذتِ اللِّحْيَةُ جَمِيعَ وَجْهِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا القَلِيلُ. الأغَرُّ والغُرْغُرَةُ: الرَّجُلُ الشَّريف.

والغَرَّاءُ: نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، ويقال لَهُ: الغريراء

(4)

أيضًا، وقال أبو

= أوائل خلافة معاوية رضي الله عنه، وقيل: إن عمره آنذاك مائة وسبع وخمسون سنة. طبقات فحول الشعراء ص 123، الشعر والشعراء ص 280، الأغاني 14/ 90، الإصابة 6/ 4.

(1)

عجز بيت وصدره: (وإن لم يكن إلا القتال فإنَّنا)(ديوانه) ص 283.

وقول المؤلف من: قال ابن الكلبي

إلى نهاية بيت لبيد، منقول من معجم البلدان 4/ 112.

(2)

في الأصل: (والجمع: عروض). والمثبت من العين 1/ 275.

وانظر: اللسان (عرض) 7/ 175.

(3)

في الأصل: (الآخر).

(4)

في الأصل: (الغرير) والصواب ما أثبته من القاموس (غرر) ص 450.

ص: 318

حنيفة

(1)

: الغَرَّاءُ نباتُها مثل نبات الحرر. ولها أيضًا حَبٌّ كحَبِّهِ، وهي سَهْلية ورائِحَتُها طَيِّبَة. وقال الغافقي: رقيق البزر طَيِّبُ الرَّائِحَةِ. والغَرَّاء أيضًا: الشَّدِيدة الحَرِّ، يُقَالُ: هاجِرَةٌ غَرَّاء، وظَهِيرَةٌ غَرَّاء، ووديقَةٌ غَرَّاء، إذا أُرِيدَ وَصْفُها بِشِدَّةِ الحَرِّ

(2)

.

والغُرَّى: السَّيِّدَةُ الكَبِيرَةُ في قبيلَتِها

(3)

إذا ثبت ذلك فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المدينة سُمِّيَتْ بِها لِشَرَفِ مَعَالمها، وَوُضُوح مكارِمها، أو لِسُطُوع نورها، ولموع بُدُورها، أو لِصَفاءِ جبالِها وبَياضِ تُرَابها، أو لِكَثْرَةِ نَخْيلِها، أو التفافِ خَمِيلها، أو لذكاءِ ريِحها، وطِيب رائِحَتِها، أوَ لسيادتِها على القُرى، ورياسَتِها على أمْصَارِ الورَى. أو لأنَّها أظْهَرُ البلادِ سِكَكًا وشَوارعَ، وَأَهْلُها أَرْسَخُ العالَمينَ في المكارِمِ طبائِعِ، وأجرى إلى بِرِّ مَنْ هاجَرَ إليهم أو وفَدَ عليهم شمائِل ومنارِعَ، فخلائقهم أَسْمَح، ونواسقهم أفتح، وبواسِقُهم أنْفَحُ وأسْمَح، ومساكِنهم أَرْفَعُ وَأَفْسَح، وأحْوَالُ المجاوِرين بِها أهْدَى وأسكن، والطِّباعُ فيها إلى الطَّاعاتِ أَمْثلُ وأَرْكن.

وأما قَولُ أبي وجزة

(4)

:

كأنَّهُمْ يَوْمَ ذي الغَرَّاء حَينَ غَدَتْ

نُكْبا جمالهمُ للبَيْنِ فانْدَفَعُوا

لم يُصْبِحِ القَوْمُ جِيرانًا، فَكُلُّ نَوى

بالنَّاسِ لا صَدْعَ فِيها سَوْفَ تنصدعُ

(5)

(1)

هو أبو حنيفة الدينوري.

(2)

راجع عنه هذه المعاني: الصحاح (غرر) 2/ 767، اللسان (غرر) 5/ 20، القاموس (غرر) ص 450.

(3)

القاموس (غرر) ص 450.

(4)

هو يزيد بن عبيد، ينتسب إلى بني سعد بن هوازن ولاءً، وإلى سُليم محتدًا، وهو تابعي جيد الشعر، وأحد القراء، وقد وصفه أبو العلاء بقوله: وكان أحد القراء والمجيدين من الشعراء. الأغاني 11/ 75، الشعر والشعراء ص 441.

(5)

شعره ص 58، معجم البلدان 4/ 189.

ص: 319

فإنَّهُ أرادَ بِذِي الغَرَّاء مَوْضِعًا لعقِيقِ المدينَةِ ذكرناهُ في مَوْضِعِهِ.

وَأَمَّا ما أَنْشَدَهُ الأصْمَعِيُّ مِنْ قَوْلِ الشاعر:

وناصِفَة الغَرَّاء هَدْيٌ مُحَلَّلُ

(1)

فإِنَّ الغَرَّاءَ هُنا اسْمُ مَوْضِعٍ بِنَجْدٍ في ديار بني أسَدٍ، وَهِيَ جُرَيعَة في ديار بني أسد، وناصِفَةُ قُوَيْرَة

(2)

.

غَلَبَةُ: مُحَرَّكةَ بِمَعْنَى الغَلَب. هذا اسمٌ قَدِيمٌ جاهِليٌّ. قال اللُّغَوِيُّون: الغَلَبُ

(3)

والغَلْبُ والغَلَبَة، بالتَّحْرِيكِ، والغُلُبَّةُ، بِضَمَّتَيْنِ مُشَدَّدة الباء. والغَلُبَّةُ، بِفَتْحِ الغَيْنِ، والمَغْلَبَة، والمَغْلَب، والغُلُبَّى

(4)

، والغَلابِيَةُ: كُلُّ ذلك بِمَعْنَى؛ وهو القَهْرُ والاستيلاء. وقَدْ غَلَبَ يَغْلِب، كَضرَبَ يَضْرِبُ

(5)

. وَإِذا اسْتَبانَ ما ذكرناهُ عُرِفَ أَنَّ فيها ثلاثَ لُغَاتٍ.

غُلُبَّةٌ

(6)

: سُمِّيَتْ بذلِكَ لِظُهُورِها واستيلائها على البلادِ والأقْطارِ، وغَلَبَتِها وتَسَلُّطِها على ما سِوَاها مِنَ المدائِنِ والأمْصَار، وَهَذا اسْمٌ جاهِليٌّ قديمٌ.

قال الزُّبَيْرُ بنُ بكَّار: وكانَتْ يَثْرِبُ في الجاهِليَّة تُدْعَى غَلَبَة؛ نَزَلَتِ اليَهُودُ على العمالِيقِ فَغَلَبَتْهُم عليها، ونَزَلَت الأوْسُ والخَزْرجُ على اليَهُودِ فَغَلَبُوهم عليها، ونَزَلَ المُهاجرون على الأوْسِ والخَزْرَجِ فَغَلَبُوهم عليها

(7)

.

(1)

معجم البلدان 4/ 189 وفي الأصل: (وبين ناصيفة الغراء) وهو تحريف.

(2)

معجم البلدان 4/ 189.

(3)

وهي الأفصح. اللسان (غلب) 1/ 651.

(4)

زاد كراع: غِلِبَّى. المنتخب ص 545.

(5)

معجم مقاييس اللغة 4/ 338، اللسان (غلب) 1/ 652، القاموس (غلب) ص 121.

(6)

كرر الناسخ كلمة (غلبَّة).

(7)

وفاء الوفا 1/ 18 - 19، وفيه: ونزل الأعاجم على المهاجرين فغلبوهم عليها؛ بدل: نزل =

ص: 320

القاصِمَةُ: هذا الاسْمُ من الأسْماءِ المذكورَةِ في الكُتُب السَّماويَّة، وهي مِنَ الأسْماءِ العَشر التي في التوراة قَدْ ذكرناها في العذراءِ. وهي مُشْتَقَّةُ من قَصَمَ الشَّيءَ يَقْصِمُه، إذا كسره وأبانَه، فانْقَصَم وتَقَصَّم: انكسر. والقاف والفاء سواءٌ في ذلك؛ تقول: فَصَمَهُ يَفْصِمُهُ إذا كسره، فانفَصَمَ وتَفَصَّمَ

(1)

.

والقَصْماءُ: المَعْزُ المَكْسُورةُ القرنِ. ورجلٌ أقْصَمُ الثَّنِيَّةِ، أي: مُنْكَسِرُها من النِّصْف فهو بيِّنُ القَصَمِ. وَشَيءٌ قَصِمٌ بكسر الصَّاد: سريعُ الانكسار. سُمِّيَتْ بِها لأنَّها قَصَمَت كُلَّ جبَّار عناها، وكَسَرَتْ كُلَّ مُتَمَرِّدٍ أتاها وخَطَاها

(2)

، كما أن مَكَّةَ سُمِّيَتْ مَكَّةَ لأنَّها تَمُكُّ الفاجِرَ وتَمُصُّه، كما تَمُكُّ العَظْمَ وتَمُصُّ لاستِخْراجِ مُخِّه، إِذْ تُخْرِجُهُ مِنْها كما يُخْرَجُ المُخُّ

(3)

.

فَهِيَ قاصِمَة، كم قَدْ أَدْخَلَتْ مِنْ جَبَّارٍ في خبر كان، وقربت بَيْنَ طَرفَي الزَّمانِ والمكانِ. كم أَصْعَل من صَعْل

(4)

عَصَلَتهُ بعاصِلِ

(5)

داود، وكم أَفْلَجَ مِنْ

= المهاجرون على الأوس والخزرج. وقال: كذا في النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن زبالة، ونقله المجد عن الزبير بن بكار راوي كتاب ابن زبالة. زاد السمهودي مما أوله حرف الفاء: الفاضحة.

(1)

قال أبو عبيدة: القصم بالقاف: هو أن ينكسر الشيء فيبين،

وأما الفصم بالفاء: فهو أن ينصدع الشيء من غير أن يبين. اللسان (فصم) 12/ 485.

(2)

قال ابن سيده: أرى ذلك لأنها قصمت الكفر، أي: أذهبته. اللسان (قصم) 12/ 486.

(3)

شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ص 48.

(4)

هكذا في الأصل، ولم أتبين المراد ولعل المقصود بالصعل: الدقيق الرأس والعنق، أو الطويل. اللسان (صعل) 11/ 378. ولعل المقصود بالصعل هنا الرَّجل الشجاع، أو المراد ما جاء في الحديث: "استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحول بينكم وبينه من الحبشة رجل أصعل أصمع". غريب الحديث للهروي 2/ 140.

(5)

العاصل: السَّهم الشديد. القاموس (عصل) ص 1032.

ص: 321

فَالِجٍ أَفْلَجَتْ

(1)

على أعناقِه فوالج الدُّود، وكم جاثَلِيقٍ

(2)

أَنْزَلَتهُ مَنْزِلَةَ الجعالِيق، وكم رَمَتْ بِجَلاميقها

(3)

الصَّوائب حمالِيق

(4)

العمالِيق، فهي

(5)

للجبابرة كما يقُولُ الشاعر:

إنَّ القَصِيمَ بَلَدٌ مَحَمَّهْ

أَنْكَدُ أَفْنَى أُمَّةً فَأُمَّهْ

(6)

أراد بهِ القَصيمَ الذي يَشُقُّهُ طَرِيقُ بَطْنِ فَلْجٍ. قال أبو عُبَيْدِ

(7)

: هذا القَصيمُ قريبٌ مِنَ النَّباجِ يَسْرَةً في أقوازه وأجارِعِهِ، فيه أَوْدِيَةٌ وفيه أشجارُ التِّين والخَوْخِ والرُّمَّانِ، وفِيه يَقُولُ زيْدُ الخَيْلِ

(8)

:

ونَحْنُ الجالِبُونَ سِباءَ عَبْسٍ

إلى الجَبَلَيْنِ مِنْ أَهْلِ القَصِيمِ

فَكان رواحُها للحيِّ كَعْبٍ

وكانَ غُدُوُّها لبني تَمِيمِ

(9)

قُبَّةُ الإسلام: وهذا الاسْمُ مِمَّا سَمَّاها بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في حديث رويناهُ

(1)

لعل المقصود بأفلج: الفائز، وفالج: اسم رجل يقال له: فالج بن خلاوة الأشجعي. اللسان (فلج) 2/ 347.

أفلجت على أعناق: أي انقسمت إلى قسمين. وقوله: على أعناقه: لعله على سبيل المبالغة، وإلا فإن الإنسان ليس له سوى عنق واحدة.

(2)

الجاثليق: رئيس للنصارى في بلاد الإسلام بمدينة السلام. القاموس ص 871.

(3)

الجلاميق: جمع جِلماق، والجِلماق: ما عصبت به القوس من العقب. القاموس ص 872.

(4)

حماليق: جمع حملاق، وهو حملاق العين، يعني: باطن أجفانها الذي يُسَوَّد بالكَحْلة، أو ما غطته الأجفان من بياض المقلة. القاموس (حملق) ص 877.

(5)

في الأصل: (فهو)، والصواب ما أثبتناه.

(6)

معجم البلدان 4/ 367.

(7)

أبو عبيد السكوني، راجع المصدر السابق، الصفحة نفسها.

(8)

هو زيد بن مهلهل بن يزيد الطائي، شاعر مقلٌ مخضرم، وهو من الشعراء الفرسان وقد سمي زيد الخيل، لكثرة خيله، أدرك الإسلام فوفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، وسماه زيد الخير. مات رضي الله عنه منصرفه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة. الأغاني 17/ 245، الشعر والشعراء ص 292، الإصابة 3/ 34.

(9)

ديوانه ص 102.

ص: 322

من عند الطَّبراني في مُعْجَمهِ الأوْسَطِ والصَّغِيرِ. قال: حَدَّثنا مُحمَّد بن عبد الله الحَضْرَمي، قال ثنا عيسى بْنُ مينا، قال: ثنا عبد الله عن المُثَنَّى القاري عن سَعِيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المدينَةُ قُبَّةُ الإسْلامِ، ودارُ الإيمانِ، وَأرْضُ الهِجْرَةِ، وَمُبَوَّأُ الحلالِ والحرام".

لا يروى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم إلا بِهذا الإسناد، تَفَرَّد به عيسى بن مينا، قالون.

قَرْيَةُ الأنْصَار: قال ابْنُ سِيدَه: القَرْيَةُ والقِرْيَة، بالفَتْحِ وبالكَسْرِ، المِصرُ الجَامِعُ

(1)

من قولهم: قَرَى الماءَ في الحَوْضِ يَقْرِيهِ

(2)

قريا وقَرىً إذا جَمَعَهُ فِيهِ، وقَرَى البَعِيرُ جَمَعَ جرَّتَهُ في شِدْقِهِ. والمَقْرى والمَقْراةُ: كُلُّ ما اجتمع فيه الماء، والمِقراةُ أيضًا: القَصْعَةُ يُقْرَى فيها. والمَقارِي: القدور. سُمِّيَتْ المدينة الجامعة قَرْيَة لجمعها النَّاس وما يحتاج إليه الإنسان. والجمع قرى، والنسبة إليها قرئي وقروِي. والقاري: ساكنها. وأقرى: انتقل إلى القرى فلزمها. و (القريتين) في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)}

(3)

المُرَادُ بِهما مَكَّةُ والطَّائف

(4)

، لا مَكَّةَ والمدينة كما ظَنَّهُ بَعْضُ الأغْبياء.

والأنْصَار إخْوَانُ المُهاجرين، آخى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُم وبَيْن المهاجرين بَعْدَ أنْ كانَ قَدْ آخى بَيْنَ المُهَاجرين بَعْضِهُم مِنْ بَعْضٍ، يُرِيدُ أنْ يُبيِّنَ فَضْلَهُم، وأنَّهم قُرَناؤهم في الفضيلَةِ. ونَظُراؤهم في المرتبة، وَرُبَّما قالوا: قُرَيْشٌ والأنْصَار، يَعْنُونَ بِقُرَيشٍ المُهَاجرين، وما أكْثَرَ من يتكَلَّم بِهذا: قال الأخطل:

(1)

اللسان (قرى) 15/ 177.

(2)

زاد الناسخ كلمة (والقرية)، والتصحيح من القاموس (قرى)1324.

(3)

سورة الزخرف: آية 31.

(4)

الجامع لأحكام القرآن 16/ 83.

ص: 323

ذهَبَتْ قرَيَشٌ بالمفاخِرِ كُلِّها

واللُّؤم تَحْتَ عمائِمِ الأنْصَار

(1)

وذَلِكَ أَنَّ عبد الرَّحمن بن حَسَّان، وكان مِنَ الأنْصَار، شَبَّبَ بِبِنْتٍ لِمُعاوية

(2)

فَقَال:

ثمَ خاصَرْتُها إلى القبَّةِ الخَضْرا

ءِ تَمْشي في مَرْمَرٍ مَسْنُونِ

(3)

فَحَمل يزيدُ بن معاوية الأخْطَل على هِجاءِ الأنْصَار، فَقَال شِعْرًا فِيهِ البَيْتُ المُتَقَدِّم، فَدَخَلَ النُّعْمان بن بَشيرٍ الأنْصَاري على مُعَاوية، ووَضَعَ عِمامَتَهُ عن رَأْسِهِ فقال: يا معاوية هل تَرَى لُؤمًا؟ قال: بَلْ أرى كرمًا فما ذاك؟! فأخْبَرهُ بِما قال الأخْطَلُ، فوهَبَ لَهُ لِسانَهُ. فَمَنَعَهُ يزيد، وقال: هو جاري

(4)

.

والأنْصَار: واحِدُهم ناصِرٌ، سُمُّوا بذَلِكَ لِنَصْرِهم رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بأمْوَالِهِم وأَنْفُسِهم، ومدَحَهم الله تعالى في كتابِهِ العزيز فقال:{وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا}

(5)

وذلك أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا هاجرَ إليهم، ونَزَلَ عليهم سُرُّوا بِمَقْدَمهِ وفَرِحُوا بِمَأْتاه، ثُمَّ آوَوْهُ ونَصَرُوهُ فَسَمَّاهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم، وأَثنى عَلَيْهِم فقال

(6)

: "الأنْصَار كَرْشي وعيبتي

(7)

، ومَعْدِن سِرِّي"

(8)

"ولو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا وسلكت

(1)

ديوانه ص 483.

(2)

هي رملة بنت معاوية.

(3)

ديوانه ص 60.

(4)

الأغاني 13/ 141 - 142.

(5)

سورة (الأنفال) الآية: 72، والآية:74.

(6)

الحديث في صحيح البخاري، مناقب الأنصار: 211، وصحيح مسلم: فضائل الصحابة: 176.

(7)

الكَرشُ من الناس: الجماعة، أراد جماعتي وصحابتي الذين أثق بهم وأعتمد عليهم.

وقوله وعيبتي: عيبة الرجل موضع سره، والذين يأتمنهم على أمره. غريب الحديث لأبي عبيد 186.

(8)

جزء من حديث طويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يرفعه ولفظه "الأنصار كرشي =

ص: 324

الأنْصَار شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأنْصَار، ولولا الهِجْرَةُ لكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأنْصَار"

(1)

.

وهذان اسْمانِ سَمَّى بِهما رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه، لَمْ يُسَمَّ بِهِما أحَدٌ قَبْلَ ذلك. قال الكُمَيْتُ:

في طَلَقٍ مِيحَ للأوس

(2)

والخَزْ

رَجِ ما لا تَضَمَّنُ القُلُبُ

مَجْدُ حياةٍ وَمَجْدُ آخِرَةٍ

سَجْلان لا يَنْزَحانِ ما شَرِبُوا

واسْمٌ هُوَ المُسْتَفَادُ لا النَّبْزُ الـ

ــــكاذِبُ مَنْ قالَهُ ولا اللقَبُ

لا مِنْ تلادٍ ولا تُراث أبٍ

إلَّا عَطاءَ الذي لَهُ غَضِبُوا

(3)

يقول: كانت هجرة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في وجه رزق الله عز وجل فيه الأوس والخَزْرج، فَمَنَح لهم مَجْدَ حياةٍ ومَجْدَ آخِرَة لم يُمَحْ لهم الماء الذي يَخْرُجُ مِنَ القُلُبِ. مثَّل المَجْدَ الذي أعطاهُ الله عز وجل الأنْصَار فصارَ فخرًا لَهُم في الدنيا وَذُخْرًا لَهُم في العُقْبى، وَهُوَ مَجْدُ حَيَاةٍ ومَجْدُ آخِرَةٍ سَجْلانِ لا يَنْزَحان. والسَّجْلانِ: الدَّلوانِ العَظِيمان، جَعَلَهُ مِثالًا لِذلك. ولا ينزحانِ: لا ينفدان. ثُمَّ قال: اسْمٌ هو المستفاد، ليس بنَبْزٍ ولَقَبٍ كاذِبٍ، ثُمَّ هو اسْمٌ حَقٌّ؛ أَرَادَ أنَّهُم سُمُّوا الأنْصَار لِنَصْرِهم رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ هذَا الاسْمُ مِنْ تلادٍ ولا تُرَاثٍ لكن عطاء الله عز وجل، لأنَّهُم غَضِبُوا لله تعالى فَأعطَاهُمُ الله تبارك وتعالى ذلك

= وعيبتي". أخرجه البخاري، في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم"، رقم:1083. ومسلم، في فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم، رقم: 2510.

(1)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري، في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، رقم:3779.

(2)

في الأصل: (في طلق وجه ميح فيه الأوس) وهو خطأ، إذ لا يستقيم الوزن، والصَّواب ما أثبت من الديوان وشرح الهاشميات.

(3)

ديوانه 4/ 201، شرح هاشميات الكميت ص 116.

ص: 325

شرفَ الدُّنيا والآخِرة، ولبَّسَهم هذا الاسم هِبَةً مِنْهُ لَهُم وَجَزَاءً على فِعْلِهِم عاجلًا وَآجِلًا. قال الكُمَيْتُ في ذَلِكَ:

هِجْرَةٌ حُوِّلت إلى الأوْسِ والخَزْ

رَجِ أَهْلُ الفَسِيلِ والآطام

عِزُّ دُنْيا مُحَالِفًا واسْمُ صِدْقٍ

باقِيًا مَجْدُهُ بقاء السلامِ

(1)

يَعْني هِجْرَتَهُ إلى المدينَةِ حُوِّلت عَن الدُّنيا إلى الأوْسِ والخَزْرج فهُمُ الأنْصَارُ

(2)

.

المَرْحومَة: الرَّحْمَة، والرَّحَمَة، بالتَّحْرِيك، والرُّحْمِ والرُّحُمُ والمَرْحَمَةُ، كُلُّ ذلك بِمَعْنَى، وهو الرِّقَّةُ والمَغْفِرَةُ والتَّعَطُفِ

(3)

.

يقال: رَحَّمَ عَلَيْهِ تَرْحِيمًا، وترحَّمَ عَلَيْهِ تَرَحُّمًا، والأولى الفُصحى

(4)

. والاسْمُ: الرُّحْمَى بالضّمّ، كَبُشْرَى، والرَّحْمَةُ أيضًا: النُّبُوَّةُ، قِيلَ: ومِنْهُ قوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}

(5)

.

وهذا الاسم مِن الأسْماءِ التي سمَّاها الله تعالى به في الكُتُب السَّماوِيَّةِ فيما رُوِّيْنا عن إبراهيم بن يحيى أنَّهُ قال: للمدينة في التَّوراةِ أحَدَ عَشَر اسْمًا، المدينة، وطَيْبة، وطابَة، والمَسْكِينَة، وجابِرَةٌ، والمجبورة، والمَرْحُومَة، والعَذْراء، والمُحَبَّةُ، والمحبوبَة، والقاصِمَةُ. وقد تَقَدَّم في ترجمة العذراء.

(1)

ديوانه 4/ 176، شرح هاشميات الكميت ص 28، والفسيل: النخل الصّغار. القاموس (فسل) ص 1042، والآطام: الحصون. القاموس (أطم) ص 1076، والسِّلامُ: الحجارة. القاموس (سلم) ص 1121.

(2)

زاد السمهودي في أسماء المدينة ممَّا أوله حرف القاف: قرية رسول الله، قلب الإيمان. وفاء الوفا 1/ 20.

(3)

القاموس (رحم) ص 1111.

(4)

القاموس (رحم) ص 1111.

(5)

سورة (آل عمران): آية 74.

ص: 326

فلمَّا كانت المدينَةُ مَحَلَّ رحماتِ أَرْحَمِ الرَّاحمين، ومَقَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي أَرْسَلَهُ الله رَحْمَةً للعالمين، وَمَوْطِنَ من بَشَّرَهم الله بِرَحْمَتِهِ، وخَصَّهُمْ بِرَأْفَتِهِ في الغابِرِين، وكانت القَرْيَةُ تقري

(1)

المواهب الإلهية مخطومة

(2)

مَمْلُوءة، وسَنِيَّاتُ العَطِيَّات مَحْشوَّة مَرْحُومَة، وشُرور أهل الطغيانِ والعُدْوانِ بِعَيْنِ عِنَايَةِ الرَّحمن عنها مَصْرُوفَة مَدْفُوعَة، ناسَبَ أن تُدْعَى من بَيْن سائر البُلدَانِ بالمرحومة.

المَحْبُورَةُ: هذا الاسم مُشْتَقٌ مِنَ الحَبْرِ، بالفَتْحِ وَهُو السُّرُورُ وكذلِكَ الحَبْرَةُ والحَبَرُ بالتَّحْرِيكِ، والحُبُورُ كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى، وهو الفَرَحُ والمَسَرَّة، ومن الحَبْرِ والحَبْرَةِ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، والحُبْرُةُ أيضًا: السَّماعُ في الجَنَّةِ، وكُلُّ نِعْمَةٍ حَسَنَةٍ، والحَبْرَةُ أيضًا: المبالَغَةُ فيما وُصِف بِجَمِيلٍ

(3)

.

والمِحْبارُ من الأرْضِ السريعة النبات، وَحَبِرَتِ الأرْضُ كَفَرِحَتْ، وَأَحْبَرَتْ أي: كثر نباتُها. وَأَحْبَرَهُ: سرَّهُ وَفَرَّحه، فإنْ ثَبَتَ حَبَّرهُ بمَعْنَى أَحْبَرَهُ فَذَاك، وإلَّا قُدِّر له فِعْلٌ ويَكُونُ بِمَعْنَى المَبْرُورة، أو بمَعْنَى الكثيرَ النِّعمَةِ، أو بِمَعْنَى المَمْدوحَةِ المبالَغِ في مَدْحِها، أو بِمَعْنَى السَّرِيعةِ النَّباتِ، الكَثِيرَةِ الخَيْرَاتِ كما جاء في الحديث أنَّهُ قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:"كيف بِكِ يا عائشِةُ إذا رجع النَّاس المدينة فكانت كالرُّمَّانَةِ المَحْشُوَّة، قالَتْ: فَمِنْ أيْنَ يأكُلُّون يانبي الله؟ قال: يُطْعِمُهم الله تعالى مِنْ فَوْقِهِم، ومن تَحْتِ أَرْجُلِهِم، وَمِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ"

(4)

.

(1)

تقري: تجمع. القاموس (قري) ص 1323.

(2)

مخطومة: معلقة بها. القاموس (خطم) ص 1104.

(3)

القاموس (حبر) ص 370.

(4)

رواه ابن زبالة، كما ذكر السمهودي في وفاء الوفا 1/ 191. وابن زبالة: كذبوه. التقريب 5815، ص 474.

ص: 327

المَحْفُوفَةُ: مِنْ حَفَّ فُلانٌ فُلانًا بكذا إذا أَحاط بِهِ. وفي المَثَلِ: مَنْ حَفَّنا أو رَفَّنَا فَلْيَقْتَصد، أو فَلْيترك. أي

(1)

: مَنْ طافَ بنا واعتنى بِأَمْرِنا وخدمنا

(2)

.

ومِنْه قَوْلُهم: ما لَهُ حافٌّ ولا رافٌّ، وذَهَبَ مَنْ كان يَحُفُّهُ أو يَرُفُّهُ

(3)

، و {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}

(4)

، أي: مُحْدِقين بأحِفَّتِهِ، أي: جوانِبِهِ

(5)

.

سُمِّيَتْ بِها؛ لأنَّها مَحْفُوفة بالملائِكةِ الكِرَام، مُحَاطةٌ بالعِنايَةِ التي لا غايَةَ بَعْدَها إلى يَوْمِ القيامِ، محفوظَةً مِنَ المكارِهِ والمَخَاوِفِ والأوْجال، على أبْوَابِها ملائِكَةٌ لِئلَّا يَدْخُلها الطَّاعُونُ ولا الدَّجَّال، قد ضَمِنَ الله بالحِفْظِ والكلأ دُورَها وحصونَها، ووكَّلَ على أبوابها ملائِكة يَحْرُسُونَها، فَشُرُورُ الجبابِرَةِ عنها مصروفَةٌ مكفُوفة، وَسُورُها وقُصُورُها بِملائِكَةِ الرَّحْمَنِ مَحْفُوفُة.

المُخْتَارَة: المُجْتَباةُ مِنْ قولهم: اختارَهُ إذا اصطَفَاه، ويُقَال: اخْتَرتُهُ للرِّجال، واختَرْتُهُ مِنَ الرِّجال، واخْتَرْتُهُ على الرِّجالِ، كُلُّ ذلك بِمَعْنَى

(6)

.

والاسْمُ: الخِيرَةُ بالكَسْرِ، والخِيَرَةُ كَعِنَبَةٍ، والاسم من الاخْتِيار الخِيارُ

(7)

، والمُخْتَارَةُ - أَيْضًا - مَحَلَّة كبيرَةٌ بِبَغْدَاد

(8)

، والمُخْتَارُ - أيضًا - لكن بِغَيْرِ هَاءٍ، قَصْرٌ كان بسامرَّاء للمتوكل، قالوا قد أَتْقنوا الصُّنْعَ في بنائها وزَخْرَفَتها، وُجد على حائِطٍ من حِيطانِها بَعْدَ تَهدُّم بنيانه:

(1)

المثل في فصل المقال ص 31، جمهرة الأمثال 2/ 229.

(2)

أي: فليُمسك فقد استغنينا، أو: فلا يغلونَّ في ذلك. راجع المصدرين السابقين.

(3)

القاموس (حفف) ص 801.

(4)

سورة (الزمر): آية 75.

(5)

المجاز لأبي عبيدة 2/ 192.

(6)

القاموس (خير) ص 389.

(7)

القاموس (خير)389.

(8)

معجم البلدان 5/ 71.

ص: 328

هذي دِيَارُ مُلُوكٍ دبَّرُوا زَمَنًا

أَمْرَ البِلادِ وكانوا سادَةَ العَرَبِ

عَصَى الزَّمانُ عَلَيْهم بَعْدَ طاعَتِهِ

فانْظُرْ إلى فِعْلِهِ بالجوسقِ الخرب

وبزكُوار وبِالمُخْتَارِ قَدْ خَلَتا

مِنْ ذلك العزّ والسّلْطانِ والرُّتَبِ

(1)

سُمِّيَتْ المدينة مختارَةً؛ لأنَّهُ عز وجل اخْتَارَها من جَمْيعِ الأرْضِ لِمُهَاجَرِ خَير الخَلْقِ وحبيبه في خِيرَته، واخْتَارها مَضْجَعًا لِجَسَدِه الكَرِيمُ بَعْدَ وفاته صلى الله عليه وسلم.

المُؤْمِنَةُ: الإيمانُ لُغَةً: التَّصْدِيق، والإيمان - أيضًا - الإدخال في الأمْنِ والأمانِ، فَإِنْ كانَت بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ يحتمل فيها وجهان:

الأول: أنْ تُجْعَلَ على الحَقِيقَةِ وأنَّها هي مُصَدِّقةٌ بالله تعالى، مُؤمنَةٌ مُطِيعَةٌ كسائِر المُؤمِنين مِنْ ذوي العُقُولِ، قال تعالى:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}

(2)

وقال عز وجل: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}

(3)

وقَدْ سَبَّح الحَصَى في كفِّه صلى الله عليه وسلم، فلا غرْو أَنْ يَخْلُقَ الله تعالى في الجماد قوة قابِلَة للتَّصْدِيق والتكذْيبِ ونَحْوِ ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم:"نَهران مُؤْمِنَان، ونَهران كافِرَان، أمَّا المُؤمنانِ فالنِّيلُ والفُرَات، وأمَّا الكافِرَان فَدِجْلَةُ ونَهْرُ بلخ"

(4)

.

وإلى هذا ذهب كَثْيرٌ مِنَ العارِفين وَأَهْلِ التَّحْقِيقِ.

والثاني: أن يُحْمَلَ على المَجَازِ، وأنَّ المُرَاد بِها اتِّصَافُ أَهْلها بِصِفَةِ الإيمان، وأنَّ الإيمان مِنْهَا ظَهر وعنها انْتَشَر، وإِنْ كان بِمَعْنَى التَّصْدِيق فَيحتمل وجْهَيْن أَيْضًا.

ويقال: إنَّها سَمَّاها الله بِهذا الاسْم في الكتب السَّالِفَة.

(1)

المصدر السابق 5/ 70 - 71.

(2)

سورة (فصلت) آية 11.

(3)

سورة (سبأ) آية 10.

(4)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج أوله الخطيب في تاريخ بغداد من عدة روايات بألفاظ مختلفة. 1/ 54 - 58.

ص: 329

روى الزُّبَيْرُ بن بكَّار، عن سُهَيل بن أبي صالح، عَنْ سليمان بن سُحَيْم أنَّهُ حَدَّثَهُ "أَنَّ يَهُودِيًا أتى ابن الزُّبَيْر فقال له: افَتَحِ الكَعْبَةَ، فَفَتَحها لَهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قال لَهُ: اسْتَوْصِ بِأَهْلِ المدينَةِ خَيْرًا، فإنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كان بِبَلَدِكم هذا فَأخْرَجُوهُ إلى المدينة، والذي نَفْسي بِيَدِهِ إنَّ تُرْبتها لَمُؤمِنَة، ولو أنَّكَ لا تَعْلَمُ ذلك، إلَّا أَنَّ الله عز وجل جَعَلَ جَسَدَهُ فيها، ولَمْ يَكُن الله تعالى لِيَجْعَل جَسَدَهُ إلَّا في تُرْبَةٍ مُؤمِنَةٍ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ إنَّها عِنْدَنا في التَّوْراةِ لمكتوبَة مؤمِنَة، وإن الملائِكة لمَتُشَبِثَةٌ بأنقابِها لا يَدْخُلُها المَسِيحُ ولا الطَّاعون".

وروينا من عِنْد الزُّبير بِسَنَدِه إلى صيفي بن عامِرٍ حديثًا نذكُرُهُ في باب الفضائل إن شاء الله تعالى، وفيه:"والذي نَفْسِي بِيَدِه إنَّ تُرْبتها لَمُؤْمِنَةٌ، وإنَّها لَشِفَاءٌ مِنَ الجذَام"

(1)

.

ومِنَ الدَّليل على أنَّها مُؤمِنَةٌ كونُها كالإنسانِ المُؤمِنِ، فإنَّها لا تقبلُ الغِشَّ والخبث كما أن المُؤمِنَ لا يَقْبَلُ الخَبَثَ والنِّفاق.

المبارَكَةُ: سُمِّيَتْ المدينة مباركَةً لأنَّه بورك

(2)

فيها، والبَرَكَةُ في اللُّغَةِ: النَّماءُ والزِّيادَة، والبركَةُ - أيضًا - الخَيْرُ والسَّعادَة، والتَّبْرِيكُ: الدُّعاءُ بالبَرَكةِ، ويقال: بارَكَ الله لك وبارك فيك، وبارك عَلَيْكَ، وباركك

(3)

، كل ذلك بِمَعْنَى، أي: حلَّتْ عليكَ البَرَكَةُ. وبارَكَ على الأمْرِ: واظَبَ. وتَبَرَّك: تَيَمَّنَ، وشَيءٌ بَرِيكٌ مُبَارَك فيه، والمدينَةُ مبارَكَةٌ لا مِرْيَة فيها: لما رُوِّيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يرفَعُهُ: "اللهُمَّ بارِك لنا في ثمرنا، اللهُمَّ بارك لنا في مَدِينتَنا، وبارِك لنا في صاعِنا، وبارِك لنا في مُدِّنا، اللهُمَّ إنَّ إِبراهيم عَبْدُكَ وخَليلك

(1)

تقدم تخريجه في هذا الباب.

(2)

في الأصل: (لأنها بوركت) والصّواب ما أثبتناه.

(3)

في الأصل: (وبارك له)، والتصويب من القاموس (برك) ص 932.

ص: 330

ونبيك، وإني عَبْدُكَ ونَبِيُّكَ، وأنَّهُ دَعاكَ لمكَّة، وإني أَدْعُوكَ للمدينةِ بِمِثْلِ ما دعاك بِهِ لمكَّة ومثْله مَعَه"

(1)

.

ولما روينا من حديثِ أَنسٍ رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اللهُمَّ بارِك لهم في مكيالِهم، وبارِك لهم في صاعِهم، وبارِك لهم في مدِّهم" يعني أهل المدينة

(2)

.

ولما روينا من حديث عائشة رضي الله عنها ترفَعُهُ: "اللهم حَبِّب إلينا المدينة كحُبِّنا مكَّةَ أو أشدَّ، وصَحِّحْها، وبارك لنا في صاعها ومُدِّها"

(3)

.

وفي لَفْظٍ: "اللهم بارك لهم في سُوقِهم، وبارك لهم في صاعِهِم، وبارك لهم في مُدِّهم"

(4)

.

وجميع هذه الأحاديث تأتي بأتم من هذا في باب الفضائل إن شاء الله تعالى فَلْتنظر هناك، وإنَّما أتينا هنا بِمَوَاضِعِ الاستدَلال على "المباركة" والاستشهاد لهذه التَّسْمِية.

ولما روينا أيْضًا من حَدِيثِ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يَرْفَعُهُ:

(1)

أخرجه مسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها، رقم: 1373، 2/ 1000. ومالك، في الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 1375. وغيرهما.

(2)

أخرجه البخاري، في البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده، رقم: 2130، 4/ 407. ومسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها، رقم: 1368، 2/ 994.

(3)

أخرجه البخاري في حديث طويل في فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، رقم: 1889، 4/ 119. وأخرجه مسلم، في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1376، 2/ 1003.

(4)

تفرد بهذا اللفظ ابن زبالة، في رواية ذكرها السمهودي في وفاء الوفا 1/ 57 - 58. ولا يقبل تفرده لأنه متهم بالكذب.

ص: 331

"اللهم إنَّ إبراهيم كان عَبْدَكَ وخَلِيلَك، ودَعا لأهل مكَّة بالبركة، وأنا عبدك ورَسُولُكَ أَدْعُوكَ لأهل المدينة أن تُبارِك لهم في مُدِّهم وصاعهم مِثْلَيْ ما باركْتَ لأهل مكَّةَ مَعَ البركَةِ بركتين"

(1)

.

ومن حديث أَنَسٍ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: "اللهم اجْعَل بالمدينة ضِعْفَي ما جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البركةِ، اللهم بارك لَهُم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم وبارِكْ لهم في مُدِّهم"

(2)

.

ومِنْ حَدِيثِ أبي هُرَيرة رضي الله عنه: "اللهم بارك لنا في مَدِينتِنَا، وفي ثِمارنا، وفي مُدِّنا، وفي صاعِنا بركةً مع بركةٍ"

(3)

.

ومِنْ حَدِيثِ ابن عُمَر رضي الله عنهما يَرْفَعُهُ: "اصْبِرُوا يا أَهْلَ المدينة وأَبْشِرُوا، فإنِّي قَدْ بارَكْتُ على صاعِكُم ومُدِّكم"

(4)

.

وفي هذه الأحادِيث دَلِيلٌ لائِحٌ وبُرْهَانٌ واضِحٌ على تَفْضِيلِ هذه

(1)

أخرجه أحمد 1/ 115 - 116، والترمذي، في المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة، رقم/ 3914، 5/ 718. وابن خزيمة 1/ 106، رقم: 209، وغيرهم. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

أخرج القسم الأول منه: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة" البخاري، في فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث، رقم: 1885، 4/ 117. ومسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها، رقم: 1369، 2/ 994.

أما القسم الثاني: فقد تقدم تخريجه قبل صفحة واحدة.

(3)

أخرجه مسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، رقم: 1373، 2/ 1000.

(4)

جزء من حديث طويل: رواه البزار في مسنده 1/ 240، وابن الجوزي في مثير الغرام ص 455. وابن النجار في الدرة ص 58. من طريق عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر، يرفعه. قال البزار: تفرد به عمرو بن دينار، وهو لين الحديث. وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف، لضعف عمرو بن دينار. مصباح الزجاجة 4/ 6.

ص: 332

البَلدة

(1)

الكريمة المباركة، وتَعْظِيم شَأْنِها، وتَفْخِيمِ مكانتها ومكانها.

وقد يتعلَّق بِهذه الأحاديث جماعَةٌ مِنَ العُلماءِ وفقهاءِ الإسلام، ويَسْتَدِلُّون به على أَفْضَلِيَّةِ هذه البلدة على سائِرِ البُلْدَانِ مُطْلَقًا، مكَّة وغيرها. ومِمَّن قال بذلك عُمَرُ بن الخَطَّاب، وعبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما، والإمامُ مالِك وغيرهم، قالوا: دَلَّت هذه الأحاديث على ذلك من وُجُوهٍ:

الأوَّل: أَفْضَلِيَّةُ الدَّاعي هُنا.

الثاني: أَكْثَرِيَّةُ المَدْعُو به، لأنَّهُ سَأَلَ مِثْلَ ما سَأَلَ إبراهيم مِنَ البركةِ ومِثْلَهُ مَعَه، ومع البركة بركتين، قالوا: وهذا صريحٌ في التَّفْضِيل.

الثالث: تكْرَارُ الدُّعاءِ، فإنَّهُ قَدْ ثبت - هنا - أنَّهُ صلى الله عليه وسلم دعا للمدينة بِهذه الدَّعوات غير مَرَّة، ولم تَثبْتُ دَعْوَة إبراهيم عليه الصلاة والسلام سوى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ

(2)

وقَدْ بَسَطْتُ القَوْل في ذلك وفي الجوابِ عَنْهُ في كتابي "مُهِيجُ الغرامِ إلى البَلَدِ الحرام"

(3)

.

ولَقَدْ ظهرتْ آثارُ الدَّعوة المُباركةِ المَقْبُولَةِ في شَأْنِ المدينة المُقَدَّسَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْ أَوْضَحِها وَأَثْبَتِها ما هُوَ مُشَاهَدٌ مُعَايَنٌ للخاصِّ والعامِّ وَلِكُلِّ الخلائِقِ، لاسِيَّما لِمَنْ شاهَدَهُ من أَهْلِ الإسلام، وَهُوَ أَمْرُ تمَرِه المبارَك الذي شَمِلتْهُ آثار من تلك الدَّعوات الكريمات، فإِنَّه تَفِدُ عليه الوُفُود مِنْ كُلِّ قُطْرٍ بِحَيْثُ يَعْجِزُ العادُّ عَنْ إحصائِهم وحَصْرِهِم، وَيَرِدُ إليه الوارِدُونَ مِنْ سائِرِ الآفاقِ والأقْطار وجميع البُلْدانِ والأمْصَارِ مِنْ أُمَمٍ لا يُحْصِيهم إلَّا خَالِقُهم ومُنْشِيهم، ولا يَكاد يَرْجِعُ أحَدٌ مِنْهُم إلا مستصْحِبًا من ذلك التَّمر المبارَك لجزءٍ له بال،

(1)

في الأصل: (البلد)، وربما كان سهوًا من الناسخ، والصّواب ما أثبتناه.

(2)

انظر: وفاء الوفاء 1/ 28 - 39 ففيه زيادة وتفصيل.

(3)

لم أعثر على هذا الكتاب، ولا عن وجوده فيما اطلعت عليه من مصادر.

ص: 333

حسَب حال حامِلِه من إكثارٍ وإقْلالٍ، حَتَّى إن فيهم مِنْ أرْبابِ الثَّراءِ مَنْ يَحْمِلُ مِنْهُ عِدَّةَ أحمال، ثُمَّ عِنْدَ عَوْدِهِ يَنْشُرُهُ على من عاقَهُ بِبَلَدِهِ قِلة التوفيقِ، ومَنَعه العلائق عن الفوزِ بسلوك هذا الطَّور، حتَّى يَعُمَّ ذلك خَلْقًا كَثيرًا، ويكون ذلك في النُّفُوس مِنْ أَعْظَمِ الهدايا موقعًا، وَتَأثرًا هذا بعدما يقتات

(1)

به أهل المدينة الشَّريفة ومَنْ حولهم من الأعراب ينالُونَ مِنْهُ من أول الإبلاحِ والإزْهاءِ إلى آخِرِ الإثمار

(2)

والإرطاب وهذه بركة ظاهِرةٌ في الحِسِّ والعيان، ومُعْجِزَةٌ باقِيةٌ على مَرِّ الأزمانِ والأحيان.

ومن بركاتها سُهُولة القناعَةِ بِها والتَمَرِّي باليَسِيرِ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ والملابسِ والثِّيَابِ وجَمِيعِ ما يُحتاج إليه مِنْ أُمُورِ المعاشِ، ويكونُ به الارتفاقُ والانتعاش، وذَلِكَ بِبَرَكةِ دعاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه الزُّبير بن بكار بِسَنده إلى إسماعيل بن النعمان قال: دعا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِنَعَمٍ كانت تَرْعى بالمدينَةِ، فقال:"اللهُمَّ اجْعل نِصْفَ أكْرَاشِها مِثْلَ مَلْئِها في غَيْرِها مِنَ البلادِ"

(3)

فَقُبِلَتْ دَعْوَتُهُ صلى الله عليه وسلم، وتعدَّت إلى سائِر سُكَّانِها. وذلك أَمْرٌ مَحْسُوسٌ مُشَاهَدٌ؛ يَأتي الرَّجُلُ المُترَفُ المُعْتَادُ بالإكْثارِ مِنَ المَآكلِ والمطاعم الشَّهِيَّةِ فَيَسْكُنُ المدينة فيَعُودُ بعد قليل إلى حالةٍ تسلب منه جَميعَ تِلْكَ العاداتِ والأخلاقِ، ويَقْتَنِعُ فيها مِنَ العَيْشِ باليَسِيرِ مِنَ الطعامِ، وَهُوَ في ذَلِكَ غَيْرُ مَضْنُوكٍ ولا مُضَامٍ.

المَحْفُوظَةُ: سُمِّيَتْ بِها لأنَّ الله تعالى حَفِظَهَا وَصَانَها، وزَيَّن بيانع الخَيْراتِ والبركاتِ أَغْصَانَها. وفي حَدِيثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "القُرى المحفوظَة أَرْبعٌ؛

(1)

في الأصل: (يقتاب)، وهو تصحيف.

(2)

كلمة غير واضحة في الأصل وما أثبتناه أقرب للرسم والمعنى.

(3)

لم أقف عليه.

ص: 334

مكَّة، والمدينَة، وَإِيليا، ونَجْران"

(1)

.

المدينَةُ: ومَدِينَةُ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، المدينَةُ مَأْخوذةٌ من فِعْلٍ مُمَاتٍ، وَهُوَ مدن بِمَعنىَ أقامَ، فَهِي فعيلَةٌ بِمَعْنَى فاعلة، أي: مُقيمَةٌ أهلها، أو بِمَعْنَى مَفْعُولة، أي: مُقَامٌ فيها. وقِيلَ مِنْ قولهم: دانَهُ يَدينُهُ إذا مَلَكَه، لأنَّ كُلَّ مدينَةٍ مَمَلُوكةٍ.

وقال أبو حاتمٍ في المدينة: هي مِن دانَ يَدِين، أَيْ: أطاعَ، سُمِّيَتْ بِها لأنَّ السُّلطَانَ يَسْكُنُها مِنْ بَينِ القُرَى وتُقَامُ لَهُ الطَّاعَةُ فيها، وهو أَمِينٌ مُطَاعٌ، قال تعالى:{فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)}

(2)

.

قال: ومنها قيل لكل قريَةٍ يَسْكُنها أَمِير القُرَى التي حولها مَدِينَةٌ، ومِنْهُ المدِينَةُ للأمَةِ المملُوكةِ، وقيل: سُمِّيَتِ الأمَةُ مَدِينة مِنْ دانَهُ: أذَلَّه، لأنَّ العَمَل أذَلَّها، فَهِي على هذا مَفْعَلَة، أَصْلُهُ مَدْيَنَةٌ، فَنُقِلت حَرَكةُ الياء إلى الدَّال.

والمدِينُ: العَبْد، والمدِينُ: الأسَدُ. وأَنا ابْنُ مَدِينتها، أي: عَالمٌ بِها كما يُقَال ابن بَجْدَتِها.

والمدينة: الحِصْنُ الذي يُبْنَى في أُصْطُمَّةٍ

(3)

مِنَ الأرض إلى وسَطٍ أو شَرَف. والمدينة: أَبْيَاتٌ مُجْتَمِعَة كَثيرَةٌ تجاوِزُ القُرى كَثرةً وعمارةً ولم تَبْلُغْ حَدَّ الأمْصَار، وقيل: يُقَالُ لِكُلِّ مِصر مَدِينَةٌ، وقيل: يُحْتَمَلُ أنْ يكون اشْتِقاقُ المدِينَة مِن تَمَدْينَ، إذا تنعَّمَ وترفَّهَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لأنَّ تَمَدْيَن مُشْتَقة من المدينَةِ،

(1)

رواه نعيم بن حماد في الفتن ق: 158. وهو منكر، وقد تحدث عن علله د. صالح الرفاعي في فضائل المدينة ص 360 - 361.

(2)

سورة (الواقعة) آية رقم: 86.

(3)

في الأصل: (أطمة)، وهو تحريف، والتصحيح من القاموس (مدن) ص 1233، (صطم) ص 1129. والأصطمة: وسط الشيء.

ص: 335

وتَمَدْيَن، بمَعْنى تنَعَّم، حَقِيقَةُ مَعْنَاهُ: تَخَلَّقَ بأخلاقِ أَهْلِ المُدُنِ من استعمالِ النِّعمَةِ والدَّعةِ

(1)

.

والمدينة: عَلَمٌ لمدينة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بحَيْثُ إذا أُطْلِقَ لا يبادِرُ إلى الفَهْمِ غَيْرهُا. قال صاحِبُ ....

(2)

المدينة نكرَةٌ، اسْمٌ لِكُلِّ مدينة مِنَ المُدْنِ، وإذا أَرَدْتَ يَثربَ قُلْتَ: المدينة، لا تُقَال إلا مَعْرِفة؛ خُصَّت بِذَلِكَ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سكنها، وله دانت الأُمَمُ ولأمته.

أيضًا علم لِسَتة عشر بَلْدَةً، وَهِي: أصفهان، وأنبار، وبغداد، وبخارى، وسَمَرْقند، وكازَروُن

(3)

، ومَرْو، ومصر، ونَسَف، ونَيْسَابُور، وبَلَدٌ بالأندَلُس

(4)

، وبلد بنواحي البَحرين

(5)

، وبُلْدان بقزْوين، المباركة

(6)

، والموسَوِيَّة،

(7)

وبلدة معروفة على نَحْو ثلاث مراحل من دهك، وبَلَدٌ بَيْنَ الرَّيِّ وقَزْوين، غير أنَّه صار كالمهْجُورِ المتروك.

وقَدْ نُسِبَ إلى كل واحِدةٍ منها مديني، وإلى مدينة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مدَني.

قال الليث: "المدينة اسْمٌ لمدينة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خاصّةً، ونِسْبَةُ الإنسان إليه مَدَنِيٌّ، فأمَّا الطَّير ونحوه فلا يُقالُ إلا مديني

(8)

، وشذ نسبة أبي

(1)

انظر: القاموس (مدن) ص 1233، العين 8/ 52، جمهرة اللغة 683، الصحاح (مدن) 6/ 2201، اللسان (مدن) 13/ 402.

(2)

بياض في الأصل بمقدار كلمة.

(3)

مدينة بفارس، ولم يذكر ياقوت أنها تسمى بالمدينة. معجم البلدان 4/ 429.

(4)

لعلها التي يقال لها (مدينة قُبرة). معجم البلدان / 79.

(5)

واسمها مدينة محمد بن الغمْر. معجم البلدان 5/ 79.

(6)

ويقال لها: مدينة المبارك، وقد استحدثها مبارك التركي، المصدر السابق.

(7)

يقال لها مدينة موسى، نسبة إلى موسى الهادي. المصدر السابق.

(8)

كتاب العين 8/ 52، تهذيب اللغة 14/ 145.

ص: 336

الحسن

(1)

علي

(2)

بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السَّعدي المعروف بابن المديني، كان أَصْلُهُ مِنَ المدينة ونزل البَصْرة، كان حافظ وقْتِهِ

(3)

.

وقالَ البخاري: المديني هو الذي أقام بالمدينة ولم يُفَارِقْها، والمدني: الذي تَحَوَّل عنها وكان منها

(4)

.

هذا والمشْهُورُ أن النِّسْبَةَ إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدني مُطْلَقًا، وإلى غيرها من المدن مديني، للفَرْقِ لا لِعلَّةٍ أخرى

(5)

، وربما رَدَّهُ بعضهم إلى الأصْل فَنَسبَ إلى مدينة الرَّسُول أيضًا مديني كما تقدَّم في ....

(6)

المديني.

والمدينيُّون في النِّسبةِ إلى أصفهان فيهم كثرة. وأمَّا أبو سعيد الصَّابوني المديني فَنِسْبَة إلى بُخَارى. وإسْماعيل بن أحمد المديني إلى سَمَرْقَند، وأبو صادق المديني، وأبو علي الحَسَنُ بن يوسف المديني إلى مصر، وأبو روح حاتم بن يوسف المديني إلى مرو

(7)

، وأبو يَعْقُوب يوسف بن حمدان المديني إلى مباركة قزوين

(8)

، وأبو حامد بن شاكر

(9)

المديني إلى نَسَف، وأبو عبد الله

(1)

في الأصل: (الحسن بن علي)، والتصويب من التاريخ الكبير 6/ 284.

(2)

في الأنساب للسمعاني 5/ 235 (أبو الحسن علي بن عبد الله).

(3)

قال الذهبي: مولد علي في سنة إحدى وستين ومئة. قاله علي بن أحمد بن النضر، ولد بالبصرة. سير أعلام النبلاء 11/ 43. ولم ينص أحد على أن أصله من المدينة.

(4)

الأنساب 5/ 236.

(5)

وقد ذكر الإمام السمعاني أنه لا فرق في النسبة، فيقال: المدني والمديني نسبة إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. الأنساب 5/ 235.

(6)

كلمة غير مقروءة.

(7)

الأنساب 5/ 236.

(8)

المصدر السابق 5/ 238.

(9)

الأنساب 5/ 236 (أبو محمد حمّاد بن شاكر).

ص: 337

محمد الحسين بن عمارة المديني إلى نيسابور

(1)

.

وذكر المُنَجِّمُون أن طُولَ المدينة من جهة المغرب سِتُّون درجة ونصف، وعَرْضُها عِشْرون درجة، وهي من الإقليم الثاني من الأقاليم الحقيقية

(2)

، ومن إقليم الحجاز من الأقاليم العرفية.

المَرْزوقة: هذا الاسْمُ مِنْ أَوْضَحِ الأسْماءِ مَعْنىً في حَقِّ هذا البَلَدِ المُقَدَّس، وذلك لأنَّ الرزق لُغَةً: الحَظُّ وما انتفع به

(3)

، وَمِنْهُ قوله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}

(4)

. وخَصَّصَهُ العرب بِتَخْصيصِ الشَّيء بالحيوان للانتِفَاعِ به وتمكينهِ مِنه، وعلى هذا يكون المَعْنىَ مَرْزُوقَة الأهْلِ.

وقالت المُعْتَزِلَةُ: الحَرَامُ لَيْسَ برزقٍ، ولم يوافقهُم على ذلك جَماهِيرُ المُسْلمين بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عُرْوَة بن قُرَّة:"لَقَدْ رزقَكَ الله طَيِّبًا فاخْتَرْتَ بِما حَرَّم الله عليك من رِزْقه مكانَ ما أحَلَّ الله لك من حلالهِ"

(5)

.

وأيضًا لأنَّه لَوْ لَمْ يكن كذلك لكان المُتَعَدِّي بالحرام طول عُمْرِهِ غير مَرْزوُقٍ، ولَيْسَ كذلك؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(6)

.

المَشْكُورُ من قولهم: رزقَهُ إذا شكره، فالمدينة مَحْدُودةٌ مَحْظُوظَةٌ، وبِعَيْنِ عنايَةِ الله في الأزلِ مَحْفُوظَة، والمنافِعُ الدِّينيَّة والدنْيَوِيَّة لأهلها مَوْفُورَة، وهي على الألسِنَةِ كُلِّها بِأَنْواعِ المحامد والمماح مَذْكورة مَشْكُورَة. ويَشْهَدُ لها

(1)

المصدر السابق 5/ 236.

(2)

معجم البلدان 5/ 83 وكل ما ذكره المؤلف منقول منه.

(3)

القاموس (رزق) ص 886.

(4)

سورة (الواقعة) آية: 82.

(5)

لم أقف عليه.

(6)

سورة (هود) آية 6.

ص: 338

بأنَّها مرزوقة مشاهِدُ صِدْقٍ مِنْ قول الصَّادقِ المَصْدُوقِ لعائِشةَ الصِّدِّيقَةِ رضي الله عنها: "يُطْعِمُهُم الله مِنْ فَوْقِهم ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ"

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة، وأَشَارَ إلى السَّماء والأرْضِ، أو أنَّها مَرْزُوقةٌ بالأخيارِ دائمًا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صَحَّ عَنْهُ "لا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِن المدينةِ رَغْبَةً عنها إلَّا أبْدَلها الله خَيرًا مِنْهُ"

(2)

.

المِسْكِينَةُ: هذا مِنَ الأسْماء التي عَدَّها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثٍ رواه الزُّبَيْرُ بِسَنَده عن زَيْدِ بن أَسْلَم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمدينة أسماء هي المدينة، وهي طيبة، وطابة، ومسكينة، وجابرة، ومَجْبُورة، ويندد، ويثرب، والدَّار"

(3)

.

والمسكينُ - بكِسْرِ الميم وفَتْحِها - مَن لا شيءَ لَه، وقيل: المِسْكينُ مَن لَهُ شيءٌ لكنَّهُ لا يكْفيهِ. وقيل: المِسْكينُ مَنْ أَسْكَنَهُ الفقر، أي: قَلَّلَ حَرَكَتَهُ. وقيل: المِسْكِينُ الذَّليل. وقيل: المِسْكِين الضَّعيفُ. والجَمْعُ مَساكين ومَسْكِينُون.

وتَسَكّنَ، وتَمَسْكَنَ: صارَ مِسْكينًا. وَهِو مِسْكِينٌ أيضًا، ومِسْكِينَةٌ، والجَمْعُ: مِسْكِينات

(4)

.

(1)

رواه ابن زبالة، كما ذكر السمهودي في وفاء الوفا 1/ 191. وابن زبالة متهم بالكذب.

(2)

رواه بنحوه مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم: 1381، 2/ 1005.

(3)

رواه الزبير بن بكار، عن ابن زبالة، بسنده إلى زيد بن أسلم كما في الحجج المبينة ص 24 - 25. وابن زبالة: كذبوه. ورواه ابن شبة 1/ 162 من طريق عبد العزيز بن عمران بسنده إلى زيد بن أسلم. وفيه: جبار بدل جابرة، ولم يذكر الدار. في إسناده: عبد العزيز بن عمران: وهو متروك. للتوسع انظر: فضائل المدينة للرفاعي ص 305 - 306.

(4)

القاموس (سكن) ص 1206.

ص: 339

وفي حديث ليس إسناده بالقائم: "اللهُمَّ أَحيني مِسْكينًا، وَأَمِتْني مِسْكِينًا، واحْشُرْني في زُمْرَةِ المساكين"

(1)

. والمُراد بالمسكين: المُسْتكين الخاضِعُ الخاشِعُ المُتَواضِع.

قال ابنُ بَرِّي: اعْلم أن هذه المَسْألَة قد اخْتَلفَ فيها أَئِمَّةُ اللُّغَةِ؛ فذهب يُونُسُ إلى أنَّ الفقير أحسن حالًا من المسكين، وزعَمَ أَنَّهُ سَألَ بَعْضَ العَرَب فقالَ لَهُ: أَفَقِيرٌ أَنْتَ أم مسكين، فقال: لا والله بَلْ مِسْكِينٌ، فأَعْلَمَ أَنَّهُ أَسْوَأُ حالًا من الفَقيرِ، وإلى هذا القَول يذهب ابن السِّكيت

(2)

وغيره، واحْتَجُّوا على هذا القَول بقول الرَّاعي:

أمَّا الفَقِيرُ الذي كانَتْ حَلوبَتُهُ

رِفْقَ العِيالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَه سَبَدُ

(3)

فأثْبَتَ أن للفَقِيرِ حَلُوبَةً، وجعلها رفقا لعياله. وقول مالِكٍ رحمه الله في هذا كَقَوْل يُونس.

وقالَ الأصْمُعي: المِسْكِينُ أَحْسَنُ حالًا من الفقير

(4)

وإلى هذا القَوْلِ

(1)

روي عن أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت، وابن عباس.

أما حديث أنس، فقد أخرجه الترمذي، في الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، رقم:2352. والبيهقي في السنن 7/ 12.

أما حديث أبي سعيد، فقد أخرجه ابن ماجه، في الزهد، باب مجالسة الفقراء، رقم:4126.

وقد أورد الألباني في إرواء الغليل 3/ 358 - 363 شواهده، وتحدث عن عللها ثم قال: إن جميع طرق هذا الحديث لا تخلو من مادح، إلا أن مجموعها يدل على أن للحديث أصلًا، فإن بعضها ليس شديد، والحديث بمجموعهن أحسن. ثم قال: لم ينزل إلى مرتبة الضعيف، وإنما إلى مرتبة الحسن. والله أعلم.

(2)

إصلاح المنطق ص 326.

(3)

ديوانه ص 64، والسبد: بقية من نبت. اللسان (سبد) 3/ 201.

(4)

تهذيب اللغة 9114، اللسان (سكن) 13/ 215.

ص: 340

يَذْهَبُ علي بن حمزة الأصْبِهاني اللغوي

(1)

، ويرى أَنَّهُ الصَّوَابُ وما سِوَاهُ خَطَأ

(2)

.

واسْتَدَلَّ على ذلك بِقوْلهِ سبحانه وتعالى: {مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)}

(3)

فأكَدَ عز وجل سُوءَ حالِهِ بصِفَةِ الفَقْرِ، لأن المَتْرَبَة الفَقْرُ، ولا يُؤكَّدُ الشَّيء إلا بِما هُوَ أَوْكَدُ مِنْه، واسْتَدَلَّ أَيضًا بقوله جَلَّ وعَلا {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}

(4)

فَأَثْبَتَ أَنَّ لَهُم سَفِينَةً يَعْمَلُونَ عليها في البَحْرِ، واستَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِ الرَّاجِزِ، أَنْشَدَ ابنُ الأعرابي:

هلْ لَكَ في أَجْرٍ عَظيمٍ تُؤجَرُه

تغِيثُ مِسْكينًا قَلِيلًا عَسْكَرُهُ

عَشْرُ شِياهٍ سَمْعُهُ وبَصَرُهُ

قَدْ حَدَّث النَّفْس بِمصر يَحضرُهُ

(5)

فأَثْبَتَ أَنَّ لَهُ عشر شياهٍ، وأراد بِقَوْلهِ: عَسْكَرُهُ: غَنَمهُ، وأنَّها قليلة.

واستدل أيضًا بقول الرّاعي، وزعَمَ أنّهُ أَعدَل شاهدٍ على صِحّة قوله، وهو قوله: أما الفقير

البيت. لأنه قالَ: أما الفقير الذي كانت حلوبته، ولم يقل: الذي حلوبته. وقال: فلم يترك له سَبَد، فأعلمك أنه كانت له حلوبة تَقُوتُ عيالَه، ومَنْ كانت هذه حاله فَلَيس بفقير ولكن مسكين، ثم أَعْلمك أنها أُخِذَت منه، فصار إذ ذاك فقيرًا.

يعني ابن حمزة بهذا القول أنَّ الشاعر لم يُثْبِت أنَّ للفقير حلوبة لأنه قالَ: الذي كانت حلوبتُهُ، ولم يقل: الذي حلوبتُه، وهذا كما تقول: أمّا الفقير الذي

(1)

هو علي بن حمزة البصري اللغوي، عالم لغوي أديب، من أهم مصنفاته التنبيهات على أغاليط الرواة. مات سنة 375 هـ بصقلية. معجم الأدباء 4/ 1754.

(2)

التنبيهات ص 317.

(3)

سورة (البلد) آية 16.

(4)

سورة (الكهف) آية: 79.

(5)

الأبيات في اللسان (سكن) 13/ 215.

ص: 341

كان له مال وثروة فإنه لم يترك له سبدٌ، فلم يُثْبِتْ بهذا أن للفقير مالًا وثروةً، وإنما أَثْبَتَ سُوءَ حالِه الذي به صارَ فقيرًا بعد أن كان ذا مال وثروة.

وكذلك يكون المعين في قوله: أما الفقير

البيت، فحصَل بهذا أن الفقير في البيت هو الذي لم يُترك له سبدٌ بأخذ حلوبته، وكان قبل أخذ حلوبته مسكينًا، لأن من كانت له حلُوبةٌ فليس فقيرًا، وإذا لم يكن فقيرًا فهو إما غنيٌّ وإما مِسكينٌ، ومن له حلوبةٌ واحدةٌ فليس بغني، وإذا لم يكن غنيًا لم يبقَ إلا أن يكون فقيرًا أو مسكينًا، ولا يصحُّ أن يكون فقيرًا على ما تقدَّم ذكره، فلم يبق إلا أن يكون مسكينًا، فثَبَتَ أن المسكين أصلحُ حالًا من الفقير.

قال علي بن حمزة: ولذلك بدأ الله تعالى بالفقير قبل من يستحق الصدقة من المسكين وغيره، وأنت إذا تأملت قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}

(1)

وجدته سبحانه وتعالى قد رتبهم، فجعل الثاني أصلح حالًا من الأول، والثالث أصلح حالًا من الثاني، وكذا الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن.

قال: ومما يدلك على أن المسكين أصلح حالًا من الفقير أن العرب قد تسمت به ولم تتسم بفقير، لتناهي الفقر في سوء الحال، ألا ترى أنهم قالوا: تمسكن الرجل فبنوا منه فعلًا على معنى التشبيه بالمسكين في زيه، ولم يفعلوا ذلك في الفقير إذ كانت حاله لا يتزيا بها أحد.

قال: ولهذا رغب الأعرابي الذي سأله يونس عن اسم الفقر لتناهيه في سوء الحال، فآثر التسمية بالمسكنة، أو أراد أنه ذليل لبعده عن قومه ووطنه، ولا أظنه أراد إلا ذلك

(2)

.

(1)

سورة (التوبة) آية: 60.

(2)

راجع التنبيهات ص 316 - 319، وما ذكره المؤلف موجود في اللسان (سكن) 13/ 216 وانظر =

ص: 342

ووافق قول الأصمعي وابن حمزة في هذا قول الإمام المطلبي أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه

(1)

.

وقالَ قتادة: الفقير الذي به زمانة، والمسكين الصحيح المحتاج

(2)

.

وقال زيادة الله بن أحمد: الفقير القاعد في بيته لا يسأل، والمسكين الذي يسأل. فمن هاهنا ذهب من ذهب إلى أن المسكين أصلح حالًا من الفقير، لأنه يسأل فيعطى، والفقير لا يسأل ولا يشعر به فيعطى، للزومه بيته، أو لامتناع سؤاله فهو يتقنع بأيسر شيء، كالذي يتقوت في يومه بالتمرة والتمرتين ونحو ذلك، ولا يسأل محافظة على ماء وجهه، فحاله إذًا أشد من حال المسكين الذي لا يعدم من يعطيه، ويشهد لصحة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يسأل، ولا يفطن له فيعطى"

(3)

. فَأَعْلَمَ صلى الله عليه وسلم أن الذي لا يسأل أسوأ حالًا من السائل، وإذا ثبت أن الفقير هو الذي لا يسأل، وأن المسكين هو السائل، فالمسكين إذًا أصلح حالًا من الفقير وأشد فاقة وضرًا منه، إلا أن الفقير أشرفُ نفسًا من المسكين بعدم الخضوع الذي في المسكين؛ لأن المسكين قد جمع فقرًا ومسكنة، فحاله في هذا أسوأ من حال الفقير، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين

" الحديث فأبان أن لفظة المسكين في استعمال الناس أشد قبحًا

= رد ابن السيد على علي بن حمزة وتفنيده لأدلته في الاقتضاب شرح أدب الكتاب 2/ 22.

(1)

اللسان (سكن) 13/ 215، التنبيهات ص 319.

(2)

اللسان (سكن) 13/ 215.

(3)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري، في الزكاة، باب قول الله تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} رقم: 6741، ومسلم في الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم: 1039، 2/ 917، وأبو داود، في الزكاة، باب من يعطى من الصدقة، وحد الغنى، رقم:8261.

ص: 343

من لفظة الفقير، وكان الأولى بهذه اللفظة أن تكون لمن لا يسأل ذلك الفقر الذي أصابه، فلفظة المسكين من هذه الجهة أشد بؤسًا من لفظة الفقير، وإن كانت حالة الفقير في القلة والفاقة أشد من حال المسكين.

وأصل المسكين في اللغة: الخاضع، وأصل الفقير: المحتاج، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا"

(1)

، أي: خاضعًا لك يا رب ذليلًا غير متكبر، وليس يراد بالمسكين - هنا - الفقير المحتاج.

وقد يمكن أن يكون من هذا قوله سبحانه وتعالى في الحكاية عن الخضر عليه السلام: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}

(2)

. فسماهم مساكين لخضوعهم وذلهم من جور الملك الذي يأخذ كل سفينة وجدها في البحر غصبًا.

وقد يكون المسكين مقلًا ومكثرًا، إذ الأصل في المسكين أنه من المسكنة، وهو الخضوع والذل، ولهذا وصف الله تعالى

(3)

المسكين بالفقر لما أراد أن يعلم أن خضوعه لفقر لا لأمر غيره، وذلك في قوله سبحانه:{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)}

(4)

والمتربة: الفقر، وفي هذا حجة لمن جعل المسكين أسوأ حالًا، لقوله:{ذَا مَتْرَبَةٍ} وهو الذي لصق بالتراب لشدة فقره، وفيه أيضًا - حجة لمن جعل المسكين أصلح حالًا، لأنه أكد حاله بالفقر، ولا يؤكد الشيء إلا بما هو أوكد منه

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه قبل قليل.

(2)

سورة (الكهف) آية: 79.

(3)

هنا كلمة غير واضحة، ويبدو أنها غير واضحة في الأصل الذي نسخت منه هذه النسخة، فقد علّم عليها الناسخ بعلامة التوقف (ط).

(4)

سورة (البلد) الآيات: 14 - 16.

(5)

اللسان (سكن) 13/ 216، وقد اعتمد عليه المؤلف في هذه المسألة.

ص: 344

سميت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسكينة؛ لأنها مسكن المساكين، سكنها كل خاضع لله تعالى خاشع لجلاله مستكين، يثوي بها كل فاتر ضعيف ما به حراك ويأوي إليها كل مقعد أزمنه الزمن بالسكون والابتراك

(1)

، فإلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سكونه، وإلى الطاعات والعبادات وملازمة الخيرات ميله وركونه، أسكنه الفقر عن الاضطراب للاغتراب، وأمكنه الدهر من الفوز بالدنو من جناب الحبيب والاقتراب، فخصه الله تعالى من التمكن في هذا المكان بالمكانة المكينة، وأنزل على قلبه التأييد والتمسك بالسكون والسكينة، وأباح له السعادات المبينة، وأتاح السكون في باحات المسكينة.

‌ومن أسمائها:

المسلمة: ذكرها صاحب معجم البلاد في أسماء مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقد تقدم في أسمائها المؤمنة ومدينة الإيمان، وذكرنا معناهما والوجه في تسميتها بذلك.

وأما الإسلام في اللغة فعلى معنيين، أحدهما: الانقياد إلى الله تعالى بالطاعة والاستسلام، قالَ الشاعر:

وأسلمت نفسي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا

المزن: السحاب. واستسلامه انقياده لأمر الله تعالى؛ لأنه يمشي بأمره كما شاء لا يخالف. وكذلك المرء المسلم، هو المنقاد له بالطاعة لا يخالف ما أمر به إخلاصًا ويقينًا.

(1)

الابتراك: الاعتماد، يقال رجل مبترك أي: معتمد على الشيء مُلحٌّ. اللسان (برك) 10/ 397.

(2)

معجم البلدان 5/ 83.

ص: 345

والمسلم في الوجه الآخر، وهو الانقطاع، من أسلمه إذا قطعه، قال الأعشى

(1)

:

وفاضت دموعي فطل الشؤو

ن إمَّا وكيفًا وإما انحدارا

كما أسلم السلك في نظمه

لآلئ منحدراتٍ صغارا

السلك: خيط اللؤلؤ، يعني انقطع السلك فانحدرت اللؤلؤ، شبه دموعه بذلك في انقطاعها وانحدارها. قال زهير:

يشج بها الأماعز وهي

هويَّ الدلو أسلمها الرشاء

(2)

يصف حمارًا أو أتانًا يسرع، أي: يعدو بها عدوًا سريعًا فشبه سرعة عدوها بدلو قد انقطعت من الرشاء، أي الحبل، فمرت مرًا سريعًا.

وأسلمها: أي انقطع عنها. فكان المسلم هو المنقطع إلى الله تعالى، المتبتل إليه، الذي أسلم نفسه له بالطاعة، وانقطع بالعبودية الخالصة، قالَ تعالى في إسلام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}

(3)

أمره تعالى في حال كونه مؤمنًا بإسلام نفسه إليه، بإخلاص العبودية له، وأن لا يدعي لنفسه ملكًا على نفسه وعلى ما ملكت يده، وأن ينقطع إليه من بين جميع خلقه وكذلك وصى به بنيه ألا يموتوا إلا وهم مسلمون، قد أسلموا أنفسهم لله بالعبودية الخالصة، والقيام بطاعته.

فسميت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بها أهلها، لأنهم انقادوا لله تعالى بالطاعة والاستسلام، وبادروا إلى نصرة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وافتخروا بإيوائه وتنزيله على جميع الأنام، وارتادوا له من أمور الدين ما أراد، وتلقوه بالإذعان

(1)

ديوانه ص 82، ورواية البيت الأول فيه: ففاضت دموعي كفيض الغروب ....

والبيت الثاني (من) بدل (في).

(2)

شعره ص 130، ورواية الشطر الأول: فشج بها الأماعز فهي تهوي.

(3)

سورة (البقرة) آية: 131.

ص: 346

والطاعة والاستسلام والانقياد، وأصبحوا لجلال نبوته خاضعين، ولكمال غرته متواضعين، ولأوامره الكريمة ممتثلين، وبالجلاد بين يديه في الجهاد بأنفسهم للموت مستبسلين، أرهفوا بحدّهم سيوفه، وصرفوا بجدّهم مخوفه، قَوَّمُوا من الدّين عوجه، واقتحموا من اليقين لُجَجَه، ومَهَّدوُا من الشرع ثَبَجَهُ

(1)

وعَبّدُوا طريقه ومنهجه، فهم أصحابه الناصرون، وأنصاره المؤازرون. فتحوا من الإسلام مرتج مغلقاته، وأحرزوا على الإسلام قصب السّبْقِ وغاياته، وأظهروا كوكب الإسلام من هالاته، وأظفروا كوكب الإيمان على أحسن حالاته، فهمتهم لمناكب مناقبهم بأعلام الإسلام معلمة، ونصرتهم لخير الأنام بشعاشع أنوارها مُزِيحة مزيلة مدلَهِمَّة مظلمة، فهم المسلمون حقيقة، وخليقتهم الإسلام، وسليقتهم الاستسلام، ومدينتهم المسلمة.

المقدسة: هي بمعنى اسمها المطيبة، والتقديس في اللغة التنزيه، قال تعالى:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}

(2)

، قال الزّجّاج: أي ظهر أنفسنا لك، وكذلك نفعل بمن أطاعك، نقدسه: أي نطهره

(3)

.

قال: ومن هذا قيل للسطل

(4)

: القَدَس، لأنه يتقدس منه، أي يتطهر، ومن هذا بيت المقدس، كأنه البيت المطهر الذي يُتطهر به من الذنوب.

قال مروان

(5)

للفرزدق:

(1)

الثبج: ترك بيان الكلام. القاموس (ثبج) ص 182.

(2)

سورة البقرة آية: 30.

(3)

معاني القرآن وإعرابه 1/ 110.

(4)

إناء من معدن كالمِرْجل له علّاقة كنصف الدائرة مركبة في عروتين. المعجم الوسيط 1/ 430.

(5)

المقصود مروان بن الحكم أمير المدينة، والأبيات في الأغاني 19/ 43.

ومناسبة البيتين كما ذكر في الأغاني: أن الفرزدق تغزّل بنساء أهل المدينة فبلغ ذلك مروان=

ص: 347

قل للفرزدق والسفاهة كاسمها

إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس

ودع المدينة إنها محذورة

والْحَقْ بمكّة أو ببيت المقدس

وقيل: المراد بالمقدسة: المباركة، وإليه ذهب ابن الأعرابي، ومنه قيل للراهب مقدس، ومنه قول امرئ القيس

(1)

:

فأدركنه

(2)

يأخذن بالشوق والنسا

كما شبرق الولدان ثوب المقدس

وصبيان النصارى يتبركون به ويَتَمسَّحُونَ بِمُسحه الذي هو لابِسُه، وأخذ خيوطه عنه حتى يتمزق عنه ثوبه.

سميت المدينة النبوية مقدّسة لطهارتها عن الخبائث، وبعدها عن أقذار الأحداث وآفات الحوادث. أو لأنها يُتطهر بها من أرجاس الذنوب والآثام، يُقتثمُ

(3)

بها أدناس المعاصي والإجرام أحسن اقتثام [و] استئصال.

ولأنها مباركة في كل شأنِها الحقير والجليل، قد بَرَّكَ عليها الحبيب أضعاف ما بَرَّكَ على مكة الخليل.

المُوَفّيَةُ: من التوفية، ويجوز تخفيفها لأن التوفية والإبقاء بمعنى واحد.

يقال وَفَّى فلان حقه يُوَفِّيه، وأوفاه حقه إيفاء، ووافاه موافاة إذا أعطاه وافيًا كاملًا تامًّا لم ينقص منه شيء

(4)

. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ}

(5)

= وتوعّده وأجله ثلاثًا، وقال: اخرج عني، فأنشأ الفرزدق يقول:

دعانا ثم أجلنا ثلاثًا

كما وُعِدَتْ لمهلكها ثمود

قال مروان: فقولوا له عني: إني أجبته، فقلت:

قل للفرزدق ...... البيتان.

(1)

ديوانه ص 104، وشبرق الولدان: خرق ومزّق.

(2)

في الأصل: (فأدركه)، والتصحيح من الديوان.

(3)

الاقتثام: الاستئصال. القاموس (قثم) ص 1146.

(4)

فعلت وأفعلت للزجاج ص 93، اللسان (وفى) 15/ 398، القاموس (وفى) ص 1343.

(5)

سورة (النور) آية 25.

ص: 348

أي يكمل لهم جزاءهم.

سميت المدينة مُوَفِّيَةً لأنها وفت حق الواردين وأحسنت نزل الوافدين والقاصدين، طعامها يكفي منه القليل، شرابُها يَحكي السلسبيل، تُرابها شفاء السقام، غبارها ينفي الجذام، نقيعها يسيل إلى كل روض كريم، بقيعها يفضي إلى جنات النعيم، ....

(1)

، ذو محيا وسيم، عقيقها يحيي النفوس بطيب النسيم، مسجدها تضاعف فيه الصلوات، روضتها أشرف روضات الجنات، أحوالها محفوفة باللطف والارتفاق، لايحب أهلها إلا ذو إيمان، ولا يبغض أهلها إلا ذو نفاق، آبارها أطيب أنهار الدنيا شرابًا، وأقطارها

(2)

أعظم بلاد العالم ترابًا، وهي آخر قُرى الإسلام خرابًا، وأي بلدة تحلّت بهذه الأوصاف فقد وفت للتمدن والتمهر حقوقه، وصارت باسم الموفية من دون سائر المدن خليقة محفوفة

(3)

.

الناجية: هذا الاسم ذكره ياقوت الحموي في المعجم الكبير

(4)

، وهو من قولهم نجا نجوًا، ونجاءً ونجاءةً ونجايةً ونجاةً واستنجى، كل ذلك إذا خلص، وأنجاه الله ونجَّاه: خلّصه واستنجى منه حاجته وتنجاها منه: خلصها.

أو من نجا: أسرع. وناقة ناج، ونجية وناجية، أي: سريعة. وأنجت السحابة: ولّت مسرعة

(5)

.

(1)

كلمة غير واضحة.

(2)

أقطارها: نواحيها. القاموس (قطر) ص 463.

(3)

زاد السمهودي في أسماء المدينة ممَّا أوله حرف الميم: (المحرمة، مسجد الأقصى، مضجع الرسول، المقر، المكَّتان، المكينة، مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفاء الوفا 22/ 1 - 25.

(4)

معجم البلدان 5/ 83.

(5)

القاموس (نجا) ص 1337.

ص: 349

أو من نجاه نجوًا، ونجوى وناجاه: إذا سَارَّه. والنجوى: السر، وكذا النجا، وانتجاه: خصَّه بسراره.

أو من النجوة، وهي العالية المرتفعة من الأرض، وكذلك النجا والمنجى.

فسميت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناجية إما لنجاتها من العتاة والبغاة، وخلاصها وانفرادها عن التخلص من مخاليف الأوباء والطواعين من بين سائر البلدان، واختصاصها وتميُّزها بالتقلب عن أوحال الدجال بحكم النصوص الحاكمة بانتصاصها

(1)

.

وإما من نَجَا: أسرع، لسرعتها إلى الخيرات وابتدارها، وبسبقها إلى حيازة السبق من بين بلدان الدنيا وأمصارها وحرامها في جليات العليات على سائر القرى وبدارها.

وإما لإلطافها إلى قاطنيها بحسن سرارها ويُمنِ أسرارها، فإن المسَارَّةَ تشعر بمصادقة المسارين وصفاء أسرارها.

أو من النجوة، لارتفاع شأنها، وعلو مقدارها وسموها وصعودها في مراقي التراقي إلى ذرى أقدارها، وافتخارها على سائر البقاع بشرف جارها، وطيب نجارها، كما أمرت في الوحي الرباني أن تعلُوَ على أجاجير القرى تعالي إجارها، فهي بالمعالي حاجية

(2)

، وأهلها لخيراتها راجية، وهي لهم إليها راجية.

النَّجْرُ: هذا علم لأرض المدينة، وعلم لأرض مكة

(3)

. والنجر في اللغة

(1)

انتصاصها: ارتفاعها. القاموس (نصّ) ص 633.

(2)

حاجية: أي مقيمة. القاموس (حجا) ص 1273.

(3)

القاموس (نجر) ص 479، الصحاح (نجر) 2/ 823، اللسان (نجر) 5/ 195.

ص: 350

اللون، والجمع نِجارٌ، قالَ الشاعر:

كل نجار إبل نجارها

ونار كل العالمين نارها

(1)

يصف إبلًا مسروقة فيها من كل لون. والنَّجرُ أيضًا: السوق الشديد.

قالَ ابن الأعرابي: والنجر شكل الإنسان وهيئته. والنَّجرُ: كثرة شرب الماء، والنَّجارُ أيضًا: الأصل. وكذلك النِّجار بالكسر، والنجر أيضًا القطع، ومنه نجرُ النَّجَّار.

والنجر: شدة الحر

(2)

، ومنه قول شبل بن عاصم البرجمي

(3)

:

ذهب الشتاء بسبعة غبر

أيام شَهْلَتِنا من الشهرِ

فإذا انقضت أيام شهلتنا

صِنّ وصَنَّبْر مع الوبر

وبآمر وأخيه مؤتمر

ومُعَلِّل وبمطفئ الجمرِ

ذهب الشتاء موليًا عجلًا

وأتتك وافدة من النُّجرِ

(4)

(1)

الرجز في تهذيب اللغة 11/ 41، اللسان (نجر) 5/ 193. وروايته فيهما:

نجار كل إبل نجارها

ونارُ إبل العالمين نارُها

(2)

اللسان 5/ 193، القاموس (نجر) ص 479.

(3)

ذكر المرزباني أن اسمه (أبو شبل عاصم بن وهب البرجمي التميمي، كان في أيام المأمون وبقي بعده، وعمر دهرًا طويلًا حتى هتم وامتنع عليه الشعر. معجم الشعراء ص 275.

(4)

معجم الشعراء ص 275، والبيت الثالث في اللسان) (أمر) 4/ 34 ونسبه ابن منظور لأبي شبل الأعرابي، والبيت الرابع أيضًا في اللسان (نجر) 5/ 194 من غير عزو.

الغريب:

الشهلة: العجوز. القاموس (شهل) ص 1201.

سبعة غبر: عدد أيام العجوز وقد ذكرها وهي: صن، صَنَّبْر، الوَبْر، آمر، مؤتمر، مُعَلِّلٌ، مطفئ الجمر. القاموس (سنن) ص 1121، (صنبر) ص 427، (وبر) ص 490، (أمر) ص 344، (علل) ص 1035، (طفأ) ص 46.

قال في معجم الوسيط (عجز) 2/ 585: أيام العجوز عند العرب: سبعة أيام تأتي في عجز الشتاء يشتد فيها البرد، لكل منها اسم خاص، وهي توافق أربعة من آخر فبراير (شباط)، وثلاثة=

ص: 351

يحتمل أن النجر جعل علمًا لأرض المدينة ولأرض مكة لشدة الحر بهما.

وقيل نجر ولم يقل ناجرًا إشعارًا بالمبالغة، وإيذانًا بغلبة الحر، كما قالوا في المُقسِط: رجل عدل، إشعارًا بكثرة عدله، وكذا رجل صوام وأشباه ذلك ممّا قصدوا فيه الإيذان بالتأكيد والمبالغة.

أو سميت بالنجر بمعنى الأصل، لأنها بلاد الإسلام وأساسها، ورأس المدن التي ثار بالإيمان نبراسها

(1)

.

الهذراء: ذكر بعض المصنفين هذا الاسم هكذا مضبوطًا بالهاء، وهو سبق قلم وزلة قدم، وإنَّما الصواب بالعين المهملة، وقد ذكرناها في موضعها.

يثرب: بكسر الراء. قال أبو القاسم الزجاجي: سميت مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم يثرب لأن أول من سكنها عند التفرق يثرب بن قانية بن مهابيل بن آدم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها طيبة وطابة، وقد أوفينا الكلام بعض حقه فيما يتعلق بيثرب في أثرب، أول الحروف عند جمع أثرب، فأغنى عن الإعادة وبالله التوفيق.

يندد: هكذا ذكره كراع في المنتخب بدالين مهملتين

(2)

، وقال: يندد اسم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. فيحتمل أن يكون من ندَّ البعير يند ندًا ونديدًا وندودًا وندادًا إذا شرد ونفر.

أو من الند، والند - بالفتح والكسر - وهو الطِّيب المعروف وقيل: العنبر.

= من أول مارس (آذار).

(1)

زاد السمهودي فيما أوله حرف النون: (نبلاء). وفاء الوفا 1/ 25.

(2)

المنتخب ص 405.

ص: 352

أو من الند للتل المرتفع والأكمة العظيمة. أو من الناد وهو الرزق. يقال ما له ناد، أي: ما له رزق. ويندد - أيضًا - اسم موضع آخر فيما ذكره الصاغاني

(1)

.

ووقع ذكر هذا الاسم في حديث رواه الزبير بن بكار بسنده عن زيد بن أسلم رضي الله عنه يرفعه: "للمدينة أسماء؛ هي: المدينة، وهي: طيبة، وطابة، ومسكينة، وجابرة، ومجبورة، ويندد، ويثرب، والدار"

(2)

ووقع في بعض الكتب تيدد، بتاء مثناة من فوق، وفي بعضها كذلك إلا أنّ في آخره راء مهملة وكل ذلك تصحيف، والصواب ما رواه أولًا والله الموفق.

* * *

(1)

التكملة والذيل والصلة 2/ 351.

(2)

تقدم تخريجه قبل قليل في هذا الباب.

ص: 353

‌الباب الرابع: في ذكر الفضائل المأثورة وذكر ماروينا من الأحاديث والآثار في فضل كل واحد من الأماكن المذكورة

ما جاء في ذكر فضل المدينة الشريفة، وذكر أحاديث رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الواردة في ذلك، وأضربنا عن ذكر أسانيدها لأن عزوها إلى الكتب المذكورة فيها يغني عن ذكر أسانيدها.

ـ عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا» .

رواه البخاري ومسلم

(1)

.

تأْرِزُ مثال تَضْرِبُ، أي: تنقبضُ وتجتمعُ وتنتظمُ وتلتجئُ

(2)

.

ـ وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ وهو تابعيٌ يروي عن أبي سَعِيدٍ الْخُدري رضي الله عنه، روى أنهم /140 أَصَابَهُمْ بِالْمَدِينَةِ جَهْدٌ وَشِدَّةٌ وَأَنَّهُ أَتَى أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رضي الله عنه فقال: إِنِّي كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ أَصَابَتْنَا شِدَّةٌ فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْقُلَ عِيَالِي إِلَى بَعْضِ الرِّيفِ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه: لا تَفْعَل، الْزَمِ الْمَدِينَةَ فَإِنَّا خَرَجْنَا مَعَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ حَتَّى قَدِمْنَا عُسْفَانَ فَأَقمناَ بِهَا لَيَالِيَ فَقَالَ النَّاسُ

(1)

رواه البخاري، في فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة، رقم: 1876، 4/ 111. ومسلم: في الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، وأنه يأرز بين المسجدين، رقم: 144، 1/ 131.

(2)

وانظر: النهاية (أرز) 1/ 37، القاموس (أرز) ص 502.

ص: 355

وَاللَّهِ مَا نَحْنُ هَا هُنَا فِي شَيْءٍ وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ مَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي يبلغني مِنْ حَدِيثِكُمْ لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ إِنْ شِئْتُمْ لا أَدْرِي أَيَهُمَا قَالَ لآمُرَنَّ بِنَاقَتِي تُرْحَلُ ثُمَّ لا أَحُلُّ لَهَا عُقْدَةً حَتَّى أَقْدَمَ الْمَدِينَة، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَراَماً وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَاماً مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا

(1)

أَنْ لا يهراقَ فِيهَا دَمٌ وَلا يُحْمَلَ فِيهَا سِلاحٌ لِقِتَالٍ وَلا تُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلا لِعَلْفٍ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنَ الْمَدِينَةِ

شِعْبٌ وَلا نَقْبٌ إِلا عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا حَتَّى تَقْدَمُوا إِلَيْهَا ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ ارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا فَأَقْبَلْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَالَّذِي نَحْلِفُ بِهِ أَوْ يُحْلَفُ بِهِ مَا وَضَعْنَا رِحَالَنَا حِينَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى أَغَارَ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ وَمَا يَهِيجُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ

(2)

.

(3)

.

ـ وفي رواية جاء إلى أبي سَعِيدٍ رضي الله عنه لَيَالِيَ الْحَرَّةِ فَاسْتَشَارَهُ فِي الْجَلاءِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَشَكَا إِلَيْهِ أَسْعَارَهَا وَكَثْرَةَ عِيَالِهِ وَأَخْبَرَهُ أَنْ لا صَبْرَ لَهُ عَلَى جَهْدِ الْمَدِينَةِ ولأوائها فَقَالَ: وَيْحَكَ لا آمُرُكَ بِذَلِكَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لأوائها إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

أخرجه مسلم في صحيحه

(4)

.

ـ وعَنْ يُحَنَّس مَوْلَى مُصعب بن الزُّبَيْرِ قال: إنهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ

(1)

المأزم: المضيق في الجبال حيث يلتقي بعضها ببعض، ويتسع ماوراءه. النهاية (أزم) 4/ 288، القاموس (أزم) ص 1075.

(2)

في الأصل: (بشيء)، والمثبت من صحيح مسلم.

(3)

أخرجه مسلم، في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1374، 2/ 1001.

(4)

في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1374، 2/ 1002.

ص: 356

رضي الله عنهما فِي الْفِتْنَةِ فَأَتَتْهُ مَوْلاةٌ لَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: إِنِّي أَرَدْتُ الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ: اقْعُدِي لَكَاعِ

(1)

ـ ولفظ الترمذي: اصبري لَكَاعِ ـ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لا يَصْبِرُ عَلَى لأوائها وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

رواه مسلم، ومالك، والترمذي

(2)

.

ـ وعن سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لابَتَيِ

(3)

الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا

(4)

أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا، وَقَالَ: الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلا أَبْدَلَ اللَّهُ تعالى فِيهَا مَنْ هُوَ / 141 خَيْرٌ مِنْهُ وَلا يَثْبُتُ [أَحَدٌ]

(5)

عَلَى لأوائها

(6)

وَجَهْدِهَا إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إِلا أَذَابَهُ اللَّه تعالى فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ». أخرجه مسلم في صحيحه

(7)

.

(1)

اللكع: العبد، ثم استعمل في الحمق والذم، ويقال للمرأة لَكاع. النهاية 4/ 268 (لكع)، القاموس (لكع) ص 761.

(2)

رواه مسلم، في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1377، 2/ 1004.

ومالك، في الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 2، 2/ 886. والترمذي، في المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة، رقم: 3853.

(3)

مثنى لُوْبَةُ ولابة، واللاَّبة: الحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها. النهاية (لوب) 4/ 274، القاموس (لوب) ص 135، والمقصود من لابتي المدينة حرتاها؛ الغربية والشرقية.

(4)

العضاه: كل شجر عظيم له شوك، الواحدة: عِضةٌ. النهاية (عضه) 3/ 255، القاموس (عضه) ص 1249.

(5)

سقط ما بين المعقوفين في الأصل، والمثبت من صحيح مسلم.

(6)

اللأواء: الشدة وضيق المعيشة. النهاية (لأى) 4/ 221، القاموس (لأى) ص 1329.

(7)

في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم: 1363، 2/ 992.

ص: 357

ـ وعن أنس

(1)

رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ

(2)

الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ

(3)

رَاحِلَتَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّها.

أخرجه البخاري في صحيحه، والترمذي في جامعه

(4)

.

ـ وعن أمير المؤمنين عَلِي بن أبي طالب رضي الله عنه قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ فَمَنْ أَحْدَثَ

(5)

فيها حَدَثاً أَوْ آوَى مُحْدِثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلا صَرْفٌ

(6)

ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ وَلا صَرْفٌ».

(1)

في الأصل: (جابر بن سمرة). والصحيح أن هذا الحديث من مسند أنس رضي الله عنه، كما في البخاري والترمذي.

(2)

جُدُرَات: جمع جُدُر، والجُدُر جمع جدار. القاموس (الجدر) ص 362، فتح الباري 3/ 620.

(3)

أوضع راحلته: أي حملها على سرعة السير. النهاية (وضع) 5/ 196، القاموس (وضع) ص 772.

(4)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث، رقم:1886،4/ 117. والترمذي، في الدعوات، باب ما يقول إذا قدم من السفر، رقم: 3441، 5/ 499.

(5)

الحدث: الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولامعروف في السنّة. ومعنى إيواء المحدث: الرضا به، والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقرّ فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه. النهاية 1/ 351 (حدث).

(6)

العدل: الفدية، والصرف: التوبة. النهاية 3/ 24،190. القاموس (صرف) ص 826، (عدل) ص 1030.

ص: 358

أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو داود والترمذي والنسائي

(1)

.

ـ ولأبي داود زيادة: «لا يُخْتَلَى خَلاهَا

(2)

وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلا لِمَنْ

(3)

أَشَادَ بِهَا

(4)

وَلا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا السِّلاحَ لِقِتَالٍ وَلا أَنْ يُقْطَعَ مِنْهَا شَجَرَةٌ إِلا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَه»

(5)

.

ـ وفي رواية للبخاري: «خَطَبَنَا عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ وَإِذَا فِيهَا الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْف وَلا عَدْل»

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري، في الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، رقم: 6755، 12/ 42.

و مسلم في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم: 1370، 2/ 994. وفي العتق، باب تحريم تولي العتيق غير مواليه، رقم: 1507، 2/ 1146. وأبو داود، في المناسك، باب في تحريم المدينة، رقم: 2027، 2/ 537، بلفظ:«ما بين عائر إلى ثور» . والترمذي، في الولاء والهبة، باب ما جاء فيمن تولى غير مواليه أو ادعى إلى غير أبيه، رقم:2127، 4/ 438. والنسائي مختصراً في القسامة، باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس، رقم: 4734، 8/ 19.

(2)

أي لايقطع نبتها الرطب. النهاية 2/ 75 (خلا).

(3)

في الأصل: (من).

(4)

الإشادة: تعريف الضالة. القاموس (شاد) ص 292.

(5)

في المناسك، باب في تحريم المدينة، رقم: 2028، 2/ 537.

(6)

أخرجه البخاري، في الجزية والموادعة، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة يسعى بها أدناهم، رقم: 3172، 6/ 315. وفي الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع، رقم: 7299، 13/ 289.

ص: 359

ـ وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ المازني رضي الله عنه قال إنه سمعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لها ـ وفي لفظ: دعا لأهلها ـ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لمَكَّةَ» .

أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما

(1)

.

ـ وعَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنه قال: إَنَّ مَرْوَانَ بن الْحَكَمِ خَطَبَ النَّاسَ فَذَكَرَ مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا، فَنَادَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رضي الله عنه وَقَالَ: مَا لِي أَسْمَعُكَ تذكرُ مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا وَلَمْ تَذْكُرِ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا، وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا وَذَلِكَ عِنْدي فِي أَدِيمٍ

(2)

خَوْلانِيٍّ إِنْ شِئْتَ أَقْرَأْتُكَهُ، [قَالَ] فَسَكَتَ مَرْوَانُ ثُمَّ قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ ذَلِكَ

(3)

.

ـ وعن أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ /142 رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لابَتَيِ الْمَدِينَةِ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّة، قَالَ الراوي: وكَانَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه يَأْخُذُ، أو قالَ: يَجِدُ في يَد أَحَدنَا الطَّيْرَ فَيَفُكُّهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، في البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 2129، 4/ 406، وفيه:(ودعا لها). وأخرجه مسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم: 1360، 2/ 991، وفيه:(ودعا لأهلها).

(2)

الأديم: الجلد، أو أحمره، أو مدبوغه. القاموس (أدم) ص 1074.

(3)

أخرجه مسلم، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم: 1361، 2/ 991.

(4)

أخرجه مسلم، في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1374، 2/ 1003.

ص: 360

روى الحديثَين مُسلمٌ في صحيحه.

ـ وعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قال: إَنَّ سَعْداً أُرْكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْداً يَقْطَعُ شَجَراً يَخْبِطُهُ

(1)

فَسَلَبَهُ فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلامِهِمْ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئاً نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ

(2)

.

ـ وفي رواية أبي داود: أنه وجد عَبيداً من عَبيد الْمَدِينَة يَقطعون من شَجَرِ الْمَدِينَة فأخذَ مَتاعَهُم وقال -[يعني] لمواليهم-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى أَنْ يُقْطَعَ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ شَيْءٌ وَقَالَ: «مَنْ قَطَعَ مِنْهُ شَيْئًا فَلِمَنْ أَخَذَهُ سَلَبُه»

(3)

.

ـ وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أَخَذَ رَجُلاً يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ الَّذِي حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ فَجَاءَ مَوَالِيهِ فَكَلَّمُوهُ [فيه]، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ هَذَا الْحَرَمَ وَقَالَ: مَنْ وجَدَ أَحَداً يَصِيدُ فِيهِ فَلْيَسْلُبْهُ، فَلا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ

(4)

دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ

(5)

ثَمَنَهُ.

أخرجه أبو داود

(6)

.

ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ في المَدِينَة مَا ذَعَرْتُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ» .

(1)

الخبط: ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها. النهاية (خبط) 2/ 7، القاموس (خبط) ص 664.

(2)

أخرجه مسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم: 1364، 2/ 993.

(3)

أخرجه أبو داود، في المناسك، باب في تحريم المدينة، رقم: 2031، 2/ 538.

(4)

في الأصل: (شئت)، والمثبت من سنن أبي داود.

(5)

في الأصل: (إليك)، والمثبت من سنن أبي داود.

(6)

أخرجه أبو داود، في المناسك، باب في تحريم المدينة، رقم:2030، 2/ 538.

ص: 361

رواه الشيخان ومالك والترمذي

(1)

.

ـ وعَنْ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمَىَ كُلَّ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ بَرِيداً بَرِيداً أن لا يُخْبَطَ شَجَرُهُ وَلا يُعْضَدَ ولا يُقْطعَ منها إِلا مَا يَسوقُ به إنسان بَعيرَهُ

(2)

.

أخرجه رزين.

ـ وعن عَاصِم الأحول قَالَ قُلْتُ لأَنَسٍ رضي الله عنه: أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ قَالَ: نَعَمْ مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً ثُمَّ قَالَ لِي هَذِهِ شَدِيدَةٌ مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلاً

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب لابتي المدينة، رقم: 1873، 4/ 107. ومسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم: 1372، 2/ 999. ومالك، في الجامع، باب ما جاء في تحريم المدينة، رقم: 11، 2/ 889. والترمذي، في المناقب، باب في فضل المدينة، رقم: 3921، 5/ 3921

(2)

أخرجه أبو داود، في المناسك، باب في تحريم المدينة، رقم: 2029، 2/ 538 بنحوه. والطبراني في الكبير 17/ 111. كلاهما من طريق سليمان بن كنانة، أخبرنا عبدالله ابن أبي سفيان، عن عدي، به.

إسناده ليس بالقوي، في سنده: سليمان بن كنانة، مجهول الحال. تقريب التهذيب رقم: 2603، ص 254.

وفي سنده أيضاً: عبدالله بن أبي سفيان: قال المنذري: هو في معنى المجهول. مختصر سنن أبي داود 2/ 445.

(3)

أخرجه البخاري، في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إثم من آوى محدثاً، رقم: 7306، 13/ 295. ومسلم، واللفظ له، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صَلَّى

اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم: 1366، 2/ 994.

ص: 362

ـ وفي لفظ: قَالَ نَعَمْ هِيَ حَرَامٌ لا يُخْتَلَى خَلاهَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

(1)

.

ـ وفي لفظ من رواية أنس رضي الله عنه آخرَ حديث طويل يَتضمنُ تزويجَ صَفِيَّةَ قالت: ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا أُحُدٌ قَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ» .

/ 143 أخرجه البخاري ومسلم

(2)

.

ـ وعن سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ

(3)

وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [وَتُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]

(4)

وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

أخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ

(5)

.

وفي لفظ من عند الزهري: «وإنها سَتكونُ قُرى وأريَاف فيَخرُجُ إليها

(1)

أخرجه مسلم، رقم: 1366، 2/ 994 واللفظ له.

(2)

أخرجه البخاري، في كتاب الأطعمة، باب الحيس، رقم: 5425، 9/ 465. ومسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم: 1365، 2/ 993.

(3)

في الأصل: (أهليهم)، والمثبت من البخاري ومسلم والموطأ.

(4)

سقط ما بين المعقوفين في الأصل، والمثبت من البخاري ومسلم والموطأ.

(5)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب من رغب عن المدينة، رقم: 1875، 4/ 107. ومسلم، في الحج، باب الترغيب في المدينة عند فتح الأمصار، رقم: 1388، 2/ 1009. ومالك، في الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 7، 2/ 887.

ص: 363

الناسُ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون».

يُبِسُّونَ

(1)

: بضم الباء الموحدة وكسرها، أي يَسوقون بهائمَهُم سَائرينَ عن الْمَدِينَة إلى غيرها.

ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ليَأْتِين عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ قَرِيبَهُ وابْنَ عَمِّهِ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ ألا وإِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تُخْرِجُ الْخَبِيثَ

(2)

لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».

رواه مسلم في صحيحه

(3)

.

ـ وعَنْ جَابِر رضي الله عنه قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌ إلى النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم فبَايَعَهُ فَجَاءهُ من الغد مَحْمُومَاً ـ وفي لفظ فَأَصَابَ الأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ ـ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى ثُمَّ جَاءهُ فَأَبَى ثُمَّ جَاءهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ الأَعْرَابِيُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنما الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبَهَا

(4)

».

(1)

يبسون: بفتح الياء المثناة من تحت وبعدها باء موحدة تضم وتكسر (يَبِسُّوْنَ -يَبُسُّونَ)، ويقال أيضاً بضم المثناة مع كسر الموحدة (يُبِسُّونَ)، فتكون اللفظة ثلاثية ورباعية، انظر: مشارق الأنوار 1/ 100 (بسس)، شرح مسلم للنووي 9/ 158. وقد ذكر النووي عدة أقوال في معناها، ثم قال: والصواب الذي عليه المحققون أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله باساً في سيره مسرعاً إلى الرخاء في الأمصار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها. شرح مسلم للنووي 9/ 159. ووافقه الحافظ في الفتح 4/ 110.

(2)

في الأصل: (الخبث)، والمثبت من صحيح مسلم.

(3)

في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم: 1381، 2/ 1005.

(4)

قال الحافظ في الفتح: طيبها: ضبطه الأكثر بالنصب على المفعولية، وللجميع بالتشديد. الفتح 4/ 116.

ص: 364

أخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي

(1)

.

أَقِلْنِي بَيْعَتِي: أي انقض العهدَ الذي بيننا من الإسلام حتى أرجعَ عنك إلى وطني، وذلك لما نالهُ من المرضِ بِالْمَدِينَةِ.

وَيَنْصَعُ: بالنون والصاد المهملة كيَمْنَعُ، أي: تَخَلصُ وتَصفى، والناصعُ: الخالصُ الصافي.

ويفسر الزمخشري الكلمة ويشرحها على أنها بالباء والضاد من أبْضَعَهُ إذا أعطاه بضاعة، وهمٌ من الزمخشري فاضحٌ، والله أعلم

(2)

.

ـ وعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَبِي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ

(3)

تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيد».

رواه البخاري ومسلم ومالك

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث، رقم: 1883، 4/ 115. بلفظ: فجاء من الغد محموماً. ورواه بلفظ: فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة: البخاري، في الأحكام، باب من بايع ثم استقال البيعة، رقم: 7211، 13/ 213. ومسلم، في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم: 1383، 2/ 1006. والترمذي، في المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة، رقم: 3920، 5/ 720. والنسائي، في البيعة، باب استقالة البيعة، رقم: 4185، 7/ 151. ومالك، في الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 4، 2/ 886.

(2)

قال الزمخشري: هو من أبضعته بضَاعَته، إذا دفعتها إليه، الفائق 3/ 290 (كير)، قال ابن الأثير: يعني أن المدينة تعطي طيبها لمن سكنها. و المشهور بالنون والصاد المهملة. النهاية 1/ 134.

(3)

أي أمرني ربي بالهجرة إليها أو سكناها؛ فالأول محمول على أنه قاله بمكة، والثاني على أنه قاله بالمدينة. فتح الباري 4/ 104.

(4)

أخرجه البخاري، في الحج، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس، رقم: 1871، 4/ 104. ومسلم، في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم: 1382، 2/ 1006. ومالك، في الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 5، 2/ 887.

ص: 365

تَأْكُلُ الْقُرَى: أي يُنصَرُ الإسلامُ بأهلِهَا، وتُفْتَحُ على أيديهم البُلدان، وقد شرحناه في باب أسماء المدينة

(1)

.

ـ وعن حَفْصَةَ و أَسْلَمَ رضي الله عنهما قالا: قالَ عُمَرُ رضي الله عنه: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِك.

قالت حَفْصَةُ رضي الله عنها فقلت: أنى يَكونُ هذا فقالَ: يَأتيني بهِ الله تعالى إذا شَاءَ.

أخرجه البخاري، ومالك

(2)

(1)

في الباب الثالث، وقد تقدم.

(2)

رواه مالك، في الجهاد، باب ما تكون فيه الشهادة، رقم: 34، 2/ 462، عن زيد بن أسلم، عن عمر، مرسلاً. ووصله البخاري في فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، رقم:1890، 4/ 119، من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر. وأما رواية حفصة وأسلم: فقد رواها البخاري رقم: 1890 تعليقاً من طريقين: وقال ابن زريع عن روح ابن القاسم، عن زيد بن أسلم، عن أمه، عن حفصة. وقال هشام، عن زيد، عن أبيه، عن حفصة.

أما التعليق الأول فقد وصله الإسماعيلي، عن إبراهيم بن هاشم، عن أمية بن بسطام، عن ابن زريع، به، ولفظه: اللهم قتلاً في سبيلك، ووفاة ببلد نبيك. قالت: فقلت: وأنى يكون هذا؟ قال: يأتي به الله إذا شاء. ذكره الحافظ في الفتح 4/ 121. وانظر: تغليق التعليق 3/ 135 (1885).

وأما التعليق الثاني، فقد وصله ابن سعد، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن هشام، به، ولفظه: اللهم ارزقني قتلاً في سبيلك، ووفاة ببلد نبيك. قالت: قلت: وأنى ذلك؟ قال: إن الله يأتي بأمره أنى شاء. الطبقات 3/ 331.

وللحديث طريق أخرى أشار إليها الحافظ في الفتح 4/ 121. أخرجها ابن شبة من طريق عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر.

وقال: إسنادها صحيح.

ص: 366

ـ / 144 وعن يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان جَالِساً وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ، فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ، فَقَالَ: بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ

(1)

، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِئْسَ مَا قُلْتَ. فَقَالَ

(2)

الرَّجُلُ: إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا، إِنَّمَا أَرَدْتُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(لا مِثْلَ لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّه تعالى، مَا عَلَى الأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا) يَعْنِي منَ الْمَدِينَةِ، ثلاثَ مَرَّاتٍ.

أخرجه الإمام مالك في الموطأ

(3)

.

ـ وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم [الْمَدِينَةَ]

(4)

وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبلالٌ رضي الله عنهما، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بلالُ كَيْفَ تَجِدُكَ، قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ

وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلالٌ رضي الله عنه إِذَا أَقْلَعَ [عَنْهُ الْحُمَّى]

(5)

يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:

أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

(6)

(1)

في الأصل: (المؤمنين).

(2)

في الأصل: (قال).

(3)

أخرجه مالك، في الجهاد، باب الشهداء في سبيل الله،، رقم: 33، 2/ 462.

قال ابن عبدالبر: هذا الحديث لا أحفظه مسنداً، ولكن معناه موجود من رواية مالك وغيره. التمهيد 24/ 92.

(4)

سقطت في الأصل، وأثبتها كما في مصادر التخريج.

(5)

سقط ما بين المعقوفين في الأصل، والمثبت من مصادر التخريج.

(6)

إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ: الإذخر حشيش طيب الرائحة، والجليل: شجر الثمامة. النهاية 1/ 289، القاموس (ذخر) ص 395.

ص: 367

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ

(1)

وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

(2)

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ»

(3)

.

وقَالَتْ رضي الله عنها: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَكَانَت أَوْبَأَ أَرْضِ اللَّهِ تَعَالى، قَالَتْ رضي الله عنها: وَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلاً تعْنِي مَاءً آجِناً

(4)

.

أخرجه البخاري ومسلم ومالك

(5)

.

ورواه الزبير وزاد قالت عائشة رضي الله عنها: فَرَجَعتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهُ بحالهم فَكَرِهَ ذلك وقال: اللهُم أنتَ بَيني وَبَيْنَ عَمْرو بن هِشام وعُتْبَة بن رَبيعَة والعَاص بن شُعْبَة وأُمَية بن خَلَف ونُبَيْه بن الحَجاج والأسود بن عَبدِ الأَسَد وعُقْبَة بن أبي مُعَيْط فإنهم أخرَجُوني من مكة».

(1)

مَجنّة: بالفتح، وتشديد النون، بلد على عدة أميال من مكة المكرمة. معجم البلدان 5/ 59.

هي بحرة، البلدة المعروفة اليوم بين مكة وجدة. وانظر: معجم معالم الحجاز 8/ 31 - 32.

(2)

شامة وطفيل: جبلان قرب مكة. معجم البلدان 3/ 315.

(3)

الجحفة: موضع بين مكة والمدينة، وهي ميقات أهل الشام. معجم البلدان 2/ 111.

وتبعد 22 كيلاً جنوب شرق مدينة رابغ. معجم معالم الحجاز 2/ 122.

(4)

آجن: بفتح الهمزة وكسر الجيم بعدها نون، وهو الماء المتغير الطعم واللون. فتح الباري 4/ 121، القاموس (أجن) ص 1174.

(5)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، رقم: 1889، 4/ 119. وأخرجه دون قول أم المؤمنين عائشة: وقدمنا المدينة

: البخاري، في مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، رقم: 3926، 7/ 308. ومسلم، مختصراً، في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1376، 2/ 1003. ومالك، في الجامع، باب ما جاء في وباء المدينة، رقم: 14، 2/ 891.

ص: 368

ثم عَمدَ إلى بَقيع الخَيْل

(1)

وهو سُوقُ الْمَدِينَةِ فقامَ فيه وَوَجْهُهُ إلى الْقِبْلَةِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلى الله تعالى فقال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لأهل الْمَدِينَةَ في سُوقِهِمْ، وبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ، وبَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ، اللَّهُمَّ انْقُلْ ما كان بالْمَدِينَة من وَبَاء إلى مَهْيَعَة»

(2)

.

ـ وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أن سَوْدَاءَ رَدِفَتْ خَلْفي حتى بَلَغَتْ الْجُحْفَةَ فَنزلَتْ بها فَأَولتُهَا حُمَّى الْمَدِينَةِ»

(3)

.

ـ وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه /145 قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِحَرَّةِ السُّقْيَا الَّتِي كَانَتْ لِسَعْدِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ائْتُونِي بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَكَ وَخَلِيلَكَ وَدَعَا لأهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنَا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَدْعُوكَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ مِثْلَيْ مَا بَارَكْتَ لأهْلِ مَكَّةَ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ» .

أخرجه الترمذي

(4)

.

ـ وعَنْ أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه قال: إن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ

(1)

بقيع الخيل: موضع بالمدينة عند دار زيد بن ثابت. معجم البلدان 1/ 474.

(2)

مهيعة: هي الجحفة. معجم البلدان 2/ 111.

(3)

أخرجه بمعناه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: البخاري، في التعبير، باب إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة فأسكنه موضعاً آخر، رقم: 7038،12/ 443. والترمذي، في الرؤيا، باب ما جاء في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الميزان والدلو، رقم: 2290، 4/ 541. وابن ماجه، في تعبير الرؤيا، باب تعبير الرؤيا، رقم: 3924، 2/ 1293. إلا أنهم قالوا: امرأة سوداء.

(4)

أخرجه الترمذي، في المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة، رقم: 3914، 5/ 718، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 369

اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ»

(1)

.

وزاد في رواية: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ، وبَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ» .

رواه البخاري ومسلم ومالك

(2)

.

ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جاءوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ وَإِنِّي أَدْعُوا لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ. ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ» .

وفي لفظ كان يُؤْتَى صلى الله عليه وسلم بِأَوَّلِ الثَّمَرِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَفِي ثِمَارِنَا وَفِي مُدِّنَا وَفِي صَاعِنَا بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ» ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ.

أخرجه مسلم ومالك والترمذي

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث، رقم: 1885، 4/ 117. ومسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم: 1369، 2/ 994.

(2)

أخرجه البخاري، في البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده، رقم: 2130، 4/ 407. ومسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم:1368، 2/ 994. ومالك، في الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 14، 2/ 891.

(3)

أخرج الرواية الأولى: مسلم، في الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها، رقم:1373، 2/ 1000. والترمذي، في الدعوات، باب ما يقول إذا رأى الباكورة من الثمر، رقم: 3454، 5/ 506. ومالك، في الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم:1375. وأخرج الرواية الثانية: مسلم، رقم: 1373، 2/ 1000.

ص: 370

ـ وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا، وَاجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ» .

أخرجه مسلم في صحيحه

(1)

.

ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: «حُرِّمَ مَا بَيْنَ لابَتَيِ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي» ، قَالَ: وَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي حَارِثَةَ وقَالَ: «أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ» .

أخرجه البخاري

(2)

.

ـ وحديث تَمِيم الدَّارِي رضي الله عنه (الجساسة) وقوله: لو أُطلِقَتْ لي رِجْلايَ هاتان لم تبق بَلدةٌ إلا وَطِئْتُهَا إلا مَكَّةَ والْمَدِينةَ. وقوله صلى الله عليه وسلم: «هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ»

(3)

.

(1)

في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1374، 2/ 1002. وفي حديث طويل، رقم: 1374، 2/ 1001.

(2)

في فضائل المدينة، باب حرم المدينة، رقم: 1869، 4/ 97.

(3)

أخرجه مسلم في حديث طويل، في الفتن وأشراط الساعة، باب قصة الجساسة، رقم: 2942، 4/ 2264 ولفظه: «إِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الأرْضِ فلا أَدَعَ قَرْيَةً إلا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عَنْهَا وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلائِكَةً يَحْرُسُونَهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ يَعْنِي الْمَدِينَةَ. وفي رواية في الباب عند مسلم: قَالَتْ فَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْوَى بِمِخْصَرَتِهِ إِلَى الأَرْضِ وَقَالَ هَذِهِ طَيْبَةُ يَعْنِي الْمَدِينَةَ.

وفي رواية ثالثة في الباب عند مسلم: أَمَا إِنَّهُ لَوْ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَدْ وَطِئْتُ الْبِلادَ كُلَّهَا غَيْرَ طَيْبَةَ فَأَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّاسِ فَحَدَّثَهُمْ قَالَ هَذِهِ طَيْبَةُ».

ص: 371

ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ ولا الدَّجَّال» .

أخرجه البخاري ومسلم

(1)

.

وفي لفظ لمسلم: «يَأْتِي الْمَسِيحُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وهِمَّتُهُ الْمَدِينَةُ حَتَّى يَنزلَ دُبُرَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ الْمَلائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وَهُنَاكَ يَهْلِكُ»

(2)

.

ـ وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما / 146 قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ شَهْرِ رَمَضان بالْمَدِينَةِ كَصِيَامِ ألفِ شَهْر فيمَا سِوَاه» .

وعنه رضي الله عنه يَرفعهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلاةُ جُمُعَة بالْمَدِينَةِ كألفِ صَلاة فيمَا سِواهَا» .

أخرجهما أبو الفَرَج الأموي

(3)

بسنده

(4)

(1)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب لا يدخل الدجال المدينة، رقم: 1880، 4/ 114. ومسلم، في الحج، باب صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها، رقم: 1379، 2/ 1005.

(2)

أخرجه مسلم، في الحج، باب صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها، رقم: 1380، 2/ 1005. وفيه: وهنالك يهلك.

(3)

هو أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني الأموي، صاحب الأغاني.

(4)

الحديث بمتنيه أخرجه عن ابن عمر:

أبو نعيم في أخبار أصبهان 2/ 337، والبيهقي في الشعب 8/ 87 (3852)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (ترجمة عمر بن أبي بكر الموصلي)، وابن النجار ص 63.

كلهم من طرق عن ابن عمر.

= وقال البيهقي في الشعب: هذا إسناد ضعيف بمرة. وقال ابن الجوزي في العلل 2/ 86: هذا حديث لايصح. ولهما شاهد من حديث جابر بن عبدالله، وبلال بن الحارث، رضي الله عنهما. أما حديث جابر فقد أخرجه البيهقي في الشعب 8/ 86. وسنده ضعيف جداً، انظر: ضعيف الجامع الصغير 3574.

وأما حديث بلال بن الحارث:

فقد أخرجه الطبراني في الكبير 1/ 359 (1144)، وابن عساكر (ترجمة عبدالله بن أحمد بن علي)، ومداره عندهما على كثير، وفي الطبراني: عبدالله بن كثير.

قال الهيثمي 3/ 301: رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبدالله بن كثير، وهو ضعيف.

والحديث من هذه الطريق ضعيف، ولايعضد بعضها بعضاً لشدة ضعفها.

ص: 372

ـ وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ» .

أخرجه البخاري.

(1)

.

ـ وعن أَنَس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إلا عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا فَيَنزلُ السَّبْخَةَ

(2)

ثم تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بأهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافر ومُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ».

أخرجه البخاري ومسلم

(3)

.

وفي لفظ للبخاري والترمذي: «الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ الْمَلائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا فَلايَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ ولا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّه تعالى»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب لا يدخل الدجال المدينة، رقم:1879، 4/ 113. وفي الفتن، باب ذكر الدجال، رقم: 7125، 7126، 13/ 96.

(2)

السبخة: أرض ذات نز وملح. القاموس (سبخ) ص 252.

(3)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب لا يدخل الدجال المدينة، رقم: 1881، 4/ 114. ومسلم، في الفتن وأشراط الساعة، باب قصة الجساسة، رقم: 2943، 4/ 2265.

(4)

أخرجه البخاري، في الفتن، باب لا يدخل الدجال المدينة، رقم: 7134، 13/ 109. والترمذي، في الفتن، باب ما جاء في الدجال لا يدخل المدينة، رقم: 2242، 4/ 514.

ص: 373

ـ وعَنْ مِحْجَنِ بْنِ الأدْرَعِ رضي الله عنه قال: «إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: يَوْمُ الْخَلاصِ وَمَا يَوْمُ الْخَلاصِ، يَوْمُ الْخَلاصِ ثَلاثاً فَقِيلَ لَهُ: وَمَا يَوْمُ الْخَلاصِ؟ قَالَ: يَجِيءُ الدَّجَّالُ فَيَصْعَدُ أُحُداً، فَيَنْظُرُ إلى الْمَدِينةِ فَيَقُولُ لأصْحَابِهِ: أَتَرَوْنَ هذا الْقَصْرَ الأبْيَضَ؟ هَذَا مَسْجِدُ أَحْمَدَ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَصْعَدُ الْمَدِينَةَ فَيَجِدُ بِكُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكاً مُصْلِتاً

(1)

فَيَأْتِي سَبْخَةَ الجُرْفِ فَيَضْرِبُ رُوَاقَهُ ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاثَ رَجَفَاتٍ فَلا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلا مُنَافِقَةٌ وَلا فَاسِقٌ وَلا فَاسِقَةٌ إِلا خَرَجَ إِلَيْهِ وذَلِكَ يَوْمُ الْخَلاصِ».

رواه الإمام أحمد في مسنده.

(2)

ـ وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قالَ: إنَّ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ زَارَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ الْمَخْزُومِيَّ، فَرَأَى عِنْدَهُ نَبِيذاً وَهُوَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ أَسْلَمُ: إِنَّ هَذَا الشَّرَابَ يُحِبُّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ قَدَحاً عَظِيماً فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَوَضَعَهُ فِي يَدَهِ، فَقَرَّبَهُ عُمَرُ رضي الله عنه إِلَى فِيهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه إِنَّ هَذَا لَشَرَابٌ طَيِّبٌ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ رَجُلاً عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا أَدْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ نَادَاهُ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: أَأَنْتَ

(3)

الْقَائِلُ لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ قال: فَقُلْتُ هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ، وَفِيهَا بَيْتُهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لا أَقُولُ فِي حَرَمِ الله وبَيْتِه شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَأَنْتَ

(4)

الْقَائِلُ

(1)

مصلتاً: أي مجرداً سيفه. يقال: أصلت السيف إذا جرده من غمده. النهاية (صلت) 3/ 45.

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 338. والحاكم في المستدرك 4/ 543. وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 3/ 308.

(3)

في الأصل: (أنت). بدل: (أأنت).

(4)

في الأصل: (أنت). بدل: (أأنت).

ص: 374

لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ فَقُلْتُ: هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ، وَفِيهَا بَيْتُهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لا أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ ولا فِي بَيْتِ اللهِ شَيْئاً. / 147 ثُمَّ انْصَرَفَ.

رواه مالك في الموطأ

(1)

.

ـ وعن سَعْدٍ رضي الله عنه قالَ: إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما رَجَعَ مِنَ تبَوُك تَلقاهُ رِجَالٌ من المُتَخَلفينَ من المؤمنين، فأثاروا غُبَاراً، فخَمَّرَ بَعضُ مَن كان مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [أنفه] فَأزَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللثامَ عَن وَجههِ وقال:«والذي نَفْسي بيَدِهِ إن في غُبَارِهَا شِفَاءً مِنْ كُل دَاءٍ» ، وأراهُ وذكرَ مِنَ الجُذَامِ والبَرَصِ.

أخرجه رَزين العَبْدَرِي

(2)

.

ـ وعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلى أن قال: ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِي الْقُرَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي مُسْرِعٌ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُسْرِعْ مَعِي وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ فَخَرَجْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ.

أخرجه البخاري ومسلم

(3)

.

(1)

أخرجه مالك، في الجامع، باب جامع ماجاء في أمر المدينة، رقم: 21، 2/ 894. ورجاله ثقات.

(2)

في تجريد الصحاح، وقد ذكره ابن الأثير تبعاً له في جامع الأصول 9/ 334، دون إسناد.

قال الذهبي: أدخل رزين في كتابه زيادات واهية، لو تنزه عنها لأجاد. سير أعلام النبلاء 20/ 205.

(3)

أخرجه البخاري، في الزكاة، باب خرص الثمر، رقم: 1481، 3/ 402، في حديث طويل. ومختصراً في المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، رقم: 4422، 7/ 731. وأخرجه مسلم، واللفظ له، في الحج، باب أحد جبل يحبنا ونحبه، رقم: 1392، 2/ 1011. وفي الفضائل، باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث طويل، رقم: 1392، 4/ 1785.

ص: 375

وقد ذكرنا معنى الحب المذكور في ترجمة أحد من الباب الثالث.

ـ وعن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَرفَعُهُ: «يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ أنِقَابَ

(1)

الْمَدِينَةِ، يَنزلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ مَن هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتَم إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لا، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ، فَيَقُولُ

(2)

الدَّجَّالُ: أَقْتُلُهُ، فَلا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ».

خَرَّجَهُ البخاري في صحيحه

(3)

.

ـ وعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: أَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ: «إِنَّهَا حَرَمٌ آمِنٌ» .

خَرَّجَهُ مسلم في صحيحه

(4)

.

ـ وعَنِ الْبَرَاء بن عَازبِ رضي الله عنهما عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: «مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ تَعَالى، هِيَ طَابَةُ، هِيَ طَابَةُ» .

(1)

في البخاري: نقابها.

والأنقاب والنقاب بمعنى واحد. والمراد بها المداخل، أو الأبواب. انظر: فتح الباري 4/ 114.

(2)

هكذا وردت الرواية في الأصل. وفي البخاري، في فضائل المدينة، 4/ 114: فيقول الدجال: أقتله فلا أسلط عليه. أما في الفتن، 13/ 109: فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه.

(3)

في فضائل المدينة، باب لا يدخل الدجال المدينة، رقم: 1882، 4/ 114. وفي الفتن، باب لا يدخل الدجال المدينة، رقم: 7132، 13/ 109.

(4)

في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1375، 2/ 1003.

ص: 376

خَرَّجَهُ الإمام أحمد في مسنده

(1)

.

ـ وفي لفظ من عند الزبَيْر بن بَكار من حَديثِ أبي أَيوب رضي الله عنه قال: إن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُقَالَ يَثْرِب

(2)

.

ـ وعن يَعْقوب بن عُتْبة قال: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بن عَبد العَزيز رَحمَةُ الله عَليه حينَ عُزِلَ عن الْمَدِينَةِ إلى الشامِ فكانَ كَثيراً مَا يَقولُ لي: يَا يَعقوبُ أتخشى أن نَكونَ مِنَ اَلمَنفيينَ؟ فأقول: لا إن شاءَ الله ويقول: إن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَ الرجَالِ، كَمَا يَنْفي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»

(3)

(1)

أخرجه أحمد في المسند 4/ 285، وابن شبة في تاريخ المدينة 1/ 165،

وأبو يعلى في المسند 3/ 247. كلهم من طريق صالح بن عمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، به. في سنده: يزيد بن أبي زياد الهاشمي مولاهم الكوفي، ضعيف، كبر فتغير وصار يتلقن وكان شيعياً. التقريب (601) برقم 7717.

(2)

رواه الزبير بن بكار، عن ابن زبالة، به (ذكره السمهودي في الوفا 1/ 10).

وابن زبالة كذبوه.

ورواه ابن شبة في تاريخ المدينة 1/ 165 عن ابن أبي يحيى، عن عبدالله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب، به. في سنده: ابن أبي يحيى: هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، متروك. التقريب 93 برقم 241. فإسناده ضعيف جداً.

(3)

روى هذا الأثر مالك في الجامع بلاغاً، باب ماجاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم:9، 2/ 889، من طريق عمر بن عبدالعزيز عن مولاه مزاحم.

وعنه: ابن سعد 5/ 293، وابن عبدالحكم في سيرة عمر بن عبدالعزيز ص 27.

أما الحديث المرفوع فمتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب فضل المدينة وإنها تنفي الناس، رقم 1871، 4/ 104 بلفظ:

أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.

وأخرجه مسلم، في الحج، باب المدينة تنفي شرارها، رقم:1381، 2/ 1005، بلفظ:«إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تُخْرِجُ الْخَبِيثَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» .

ص: 377

ـ وعن الصُمَيْتةِ الليْثِيةِ رضي الله عنها التي كانت في حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالت: / 148 قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ استَطَاعَ مِنكُمْ أن يَمُوتَ بالْمَدِينَةِ فليَمُتْ فإنهُ مَنْ مَاتَ بها كُنتُ لهُ شَهِيداً أو شَفِيعَاً يَومَ القِيَامَةِ»

(1)

.

ـ وعن بَكر بن عَبد الله المُزَني رضي الله عنه قال: إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ زَارَني في الْمَدِينَةِ كَانَ في جِوَارِي يَومَ القِيَامَةِ، وَمَن مَاتَ بوَاحِدٍ مِنَ الحَرَمَيْنِ بُعِثَ في الآمِنين يَومَ القِيَامَةِ»

(2)

.

ـ وعن هِشَام بن عُرْوة عن أبيه رضي الله عنه قال: إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يُحَازَ

(3)

الإيمَانُ إلى الْمَدِينَةِ كَمَا يَحُوزُ السَّيْلُ الدِّمَن

(4)

».

(5)

.

(1)

أخرجه النسائي في الكبرى كما في التحفة 11/ 345 رقم (15911)، وابن حبان (الإحسان 6/ 21). والطبراني في الكبير 24/ 331 - 332. والبيهقي في شعب الإيمان 8/ 112 - 113. وإسناده صحيح بشواهده.

(2)

رواه يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي في أخبار المدينة من طريق عبدالله بن وهب، عن رجل، عن بكر، به، قال:

و ذكره السبكي في شفاء السقام ص 40. في سنده رجل مبهم، وبكر بن عبدالله المزني: تابعي. قال ابن عبدالهادي: خبر معضل لايعتمد على مثله، وهو من أضعف المراسيل وأوهى المنقطعات. الصارم المنكي ص 243.

للتوسع انظر: شفاء السقام ص 40، الصارم المنكي ص 243؛ فضائل المدينة للرفاعي ص 279 - 280.

(3)

الحَوْزُ: الجمع وضم الشيء. القاموس (الحوز) ص 509.

(4)

الدِّمَن: جمع دمنة، وهي ما تدمنه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها، أي تلبده في مرابضها. النهاية 2/ 134. والمعنى: أن الإيمان يُجمَعُ ويُضمُ إلى المدينة كما يَجمَعُ السيل كل ما يجده في طريقه.

(5)

رواه عبد الرزاق في المصنف 9/ 266، وابن أبي داود في مسند عائشة رقم: 57، كلاهما من طريق هشام عن أبيه مرسلاً. وسنده ضعيف لإرساله. وهو في الصحيح من المتفق عليه من حديث أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا. رواه البخاري، في فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة، رقم: 1876، 4/ 111. ومسلم، في الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، وأنه يأرز بين المسجدين، رقم: 147، 1/ 131.

ص: 378

ـ وعن مَالك بن أَنَس رضي الله عنه قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حينَ فتحَ الله تعالى عليه مَكَّةَ قَامَ على الصَّفَا وَقَامَت الأنصَارُ تحتَهُ فقالوا فيما بَينَهُم: قد فَتَحَ الله تعالى على نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم بَلَدَهُ ومَولِدَهُ وأحَبَّ البلادِ إليه، ولا نراهُ إلا مُقِيمَاً بها، فَفَطِنَ بِهِم رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهم يَتَخَافَتُونَ بَينهُم بذلك، فقالَ:«مَاذا تَقُولون؟ قالوا: لاشيءَ يا رَسُولَ اللَّهِ، قال: لَتُخْبِرَنّي فأَخْبَرَهُ، فقال: يَأْبَى الله ذلك، الْمَحْيَا مَحيَاكُمْ، والْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ»

(1)

.

ـ وعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه أنهُ كَانَ تَحتَ المنبَرِ ومَروان يَخطُبُ فذكرَ مَكَّةَ وَفَضْلَهَا وَحُرْمَتَها، ولم يذكر الْمَدِينَةَ بشيءٍ، فقالَ رَافعُ: أيهَا المتَكلمُ، إنك لم تذكر مَكَّةَ بشيءٍ إلا وَهيَ أفضل منهُ، وإني لم أَسمَعكَ ذَكَرتَ الْمَدِينَةَ، وأشهدُ لسَمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ:«الْمَدِينَةُ خَيْرٌ من مَكَّةَ»

(2)

.

ـ وعن ابن عُمَرَ عن أبيه رضي الله عنهما أنهُ قال: اشتدَّ الجَهْدُ بالْمَدِينَةِ

(1)

أخرج نحوه في حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه: مسلم، في الجهاد والسير، باب فتح مكة، رقم: 1780، 3/ 1405. وأحمد 10526.

(2)

رواه المفضل الجندي في فضائل المدينة ص 22، والطبراني في الكبير 4/ 343 رقم:4450 واللفظ له، وأبو بكر ابن المقرئ في معجم شيوخه رقم:39، ورواه البخاري في تاريخه الكبير 1/ 160 مقتصراً على المرفوع منه، كلهم من طريق محمد بن عبدالرحمن بن رداد العامري، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبدالرحمن، عن رافع بن خديج، به. وعند الجندي: المدينة أفضل من مكة. ومدار هذا الحديث على محمد بن عبدالرحمن العامري، وقد قال فيه أبو حاتم الرازي كما في الجرح 7/ 315: ليس بقوي، ذاهب الحديث. وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 638 (رقم:1444): حديث باطل. للتوسع انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 638، فضائل المدينة للرفاعي ص 349 - 350.

ص: 379

وغَلا السِّعْرُ، فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اصبِرُوا يَا أهلَ الْمَدِينَةِ وأَبْشِروُا فإني قَد بَارَكتُ على صَاعِكُمْ وَمُدِّكُمْ، كُلُوا جَمِيعَاً ولا تَفَرَّقُوا، فإنَّ طَعَامَ الرَّجُلِ يَكفِي الاثنَيْن فمَنْ صَبَرَ على لأوائِهَا وَشِدَّتهَا كُنْتُ لهُ شَفِيعَاً وكُنْتُ لهُ شَهِيدَاً يَومَ القِيَامَةِ، وَمَن خَرَجَ عَنها رَغْبَةً عَمَّا

(1)

فيها أَبدَلَ الله عز وجل فيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ منهُ، وَمَنْ بَغَاهَا أو كَادَهَا

(2)

بسُوءٍ أذَابَهُ الله تعالى كَمَا يَذوُبُ المِلحُ في الماءِ»

(3)

.

رواه ابن النجار بسند له صالح.

ـ وعن ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: «أَجِدُ نَعتي في الكتاب نبياً أحمد الْمُخْتَار، مَوْلِدُهُ مَكَّةَ، ومُهَاجرهُ طَيْبَةَ، وأُمَّتُهُ الْحَمَّادُون

(4)

.

(1)

في الأصل: (عنها)، بدل:(عما).

(2)

في الأصل: (كلاها). بدل: (كادها).

(3)

رواه البزار في مسنده 1/ 240. وابن الجوزي في مثير الغرام ص: 455. وابن النجار في الدرة الثمينة، واللفظ له، ص 58، وروى ابن ماجه طرفاً منه، في الأطعمة، باب طعام الواحد يكفي الاثنين، رقم: 3255، 2/ 1084 بلفظ: إِنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ.

كلهم من طريق عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر، به.

قال البزار: هذا الحديث لا يروى عن عمر إلا من هذا الوجه، تفرد به عمرو بن دينار وهو لين الحديث وإن كان قد روى عنه جماعة، وأكثر أحاديثه لا يشاركه فيها غيره.

وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف لضعف عمرو بن دينار. مصباح الزجاجة 4/ 6.

(4)

ذكره السيوطي في الدر المنثور 3/ 134 عن ابن مسعود وعزاه إلى الزبير بن بكار في أخبار المدينة، أخرجه الطبراني في الكبير 10/ 89 (رقم:10046)، وأبو نعيم في الدلائل 1/ 82. بلفظ:(صفتي أحمد المتوكل، ليس بفظ ولاغليظ، يجزي بالحسنة الحسنة، ولايكافي السيئة، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وأمته الحمادون).

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 271: وفيه من لم أعرفهم.

وله شاهد من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص.

أخرجه البخاري مختصراً في كتاب تفسير القرآن، باب إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، رقم: 4838، 8/ 449.

ورواه الدارمي 1/ 10 - 11 عن ذكوان بن أبي صالح، عن كعب، بلفظ:(محمد رسول، عبدي المختار، لا فَظٍّ ولاغليظ ولاصخاب في الأسواق، ولايجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة).

وأخرجه بنحوه: ابن سعد 1/ 158 - 159، والبيهقي في الدلائل 1/ 375.

ص: 380

ـ وعن جَابر بن عَبدِ الله رضي الله عنهما قال: أشهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَعَليهِ لَعنَةُ اللهِ تَعَالى وَالْمَلائِكَةِ وَالناسِ أَجمَعين، لا يَقْبَلُ الله منهُ صَرْفَاً ولا عَدْلاً، وَمَنْ أَخَافَهَا فقد أَخافَ / 149 مَا بَينَ هَذين. وَوَضَعَ يَدهُ على جَنْبَيه»

(1)

.

ـ وعن عَمْرو بن عُبَيْد عن الحَسَن رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَدِينَةُ مُهَاجَري، وبها وَفَاتي، وَمِنهَا مَحْشَري، وَحَقيقٌ على أُمتي أن يَحفَظُوني في جيرَاني ما اجْتَنَبُوا الكَبيرَةَ، مَن حَفِظَ منهُم حُرْمَتي كُنْتُ لهُ شَهيدَاً أو شَفيعَاً يَومَ القيَامَة»

(2)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 12/ 180 بإسناد صحيح. ورواه مختصراً: البخاري في التاريخ 1/ 117، والجندي في فضائل المدينة ص:30.

(2)

مرسل، ومراسيل الحسن من أوهى المراسيل. وقد روي من طرق أخرى عن الحسن، عن معقل ابن يسار رضي الله عنه: أخرجه ابن عدي في الكامل 5/ 1762، وابن النجار في الدرة الثمينة ص: 60، والمطري في التعريف ص:14. ثلاثتهم من طريق عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن معقل بن يسار المزني، به، بزيادة في آخره: ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال. قيل للمزني: ما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار.

إسناده منقطع، قال أبو حاتم: لم يصح للحسن سماع من معقل. المراسيل ص: 42. وفيه عمرو ابن عبيد: متهم بالكذب. الجرح 6/ 246.

ورواه الطبراني في الكبير 20/ 205، من طريق عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الحسن، عن معقل، به.

قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد السلام بن أبي الجنوب، وهو متروك. مجمع 3/ 310.

ص: 381

ـ وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لها: «كيفَ بكِ يَا عَائِشَةُ إذا رَجَعَ الناسُ الْمَدِينَةَ وَكَانَت كالرُمانةِ الْمَحْشُوةِ، قالت: فمِنْ أينَ يَأكلونَ يا نَبي الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: يُطعِمهمُ الله من فَوقِهمْ ومن تَحتِ أَرجُلِهِمْ من جَناتِ عَدْنٍ»

(1)

.

ـ وعن صَالح بن كَيْسَان رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَافَ أهلَ الْمَدِينَةِ أو ظَلَمَهُمْ أَخَافَهُ الله تعالى يَومَ الفزعِ الأكبرِ، وعليهِ لعنةُ الله والملائكةِ والناسِ أجمعين، لا يَقبَلُ الله منهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفَاً ولا عَدْلاً»

(2)

.

ـ وعن عَطاء بن يَسَار وغيره رضي الله عنهم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى جَعَلَ الْمَدِينَةَ مُهَاجَرِي، وبها مَضجَعي، وَمنهَا مَبْعَثي، فَحَقٌ على أمتي حِفظُ جِيرَاني ما اجتَنَبُوا الكَبَائِرَ، مَنْ حَفِظَ فيهم حُرْمَتي كُنْتُ لهُ شَفِيعَاً يَومَ القِيَامَةِ، وَمَنْ ضَيَّعَ فيهم حُرْمَتي أورَدَهُ الله تعالى حَوضَ الخَبَال»

(3)

.

(1)

رواه ابن زبالة، وذكره السمهودي في (وفاء الوفا 1/ 191) وابن زبالة كذبوه. التقريب 5815 ص 474.

(2)

إسناده معضل، صالح بن كيسان من الرابعة، مات بعد المائة والثلاثين. انظر: التقريب رقم: 2884 ص 273.

وقد روي نحوه من حديث جابر بن عبد الله رضي عنهما، والسائب بن خلاد الخزرجي رضي الله عنه، وغيرهما.

وقد تقدم حديث جابر قبل قليل، أما حديث السَائِب بن خلاد الخزرَجي رضي الله عنه، فقد رواه الإمام أحمد 4/ 55،56، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف 3/ 255، والطبراني في الكبير 7/ 169،170، رقم 6631،6633، وغيرهم.

كلهم من طرق عن السائب مرفوعاً.

وإسناده صحيح. للتوسع انظر: فضائل المدينة للرفاعي 241 - 246.

(3)

ذكره السمهودي في وفاء الوفا 1/ 48 وعزاه لابن زبالة. وابن زبالة: كذبوه.

ص: 382

ـ وعن سُليْمَان بن بُرَيْدة وغيره رضي الله عنهم قال: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حينَ أَمَرَهُ الله تبارك وتعالى بالهِجرَةِ قال: «اللهُمَّ إنكَ أخرَجْتَني من أَحَبِّ بِلادِكَ إليَّ فَأسْكِنّي أحَبَّ بِلادِكَ إليك»

(1)

.

ـ وعن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لَيُوشِكَنَّ الدينُ أن يَنزوِيَ إلى هَذَينِ الْمَسجِدَينِ كَمَا تَنزوي الْحَيَّةُ إلى جُحْرِهَا، ويُوشِكَنَّ أن يَتَشَاحُّوا على مَوضعِ الوَتَدِ بالجَمَّاءِ

(2)

، كَشُحِّ أَحَدِكُمْ أن يُنْتَقَصَ مِنْ دَارِهِ إلى جَانِبِ المسجِدِ، وَلَيُوشِكَنَّ أن يَبْلُغَ بُنيَانُهُمْ يَهِيقَاً»

(3)

.

قالوا: يا رَسُولَ اللَّه فَمِن أَينَ يَأكلونَ؟ قال: مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا يُشِيرُ إلى

(1)

ذكره ابن عبد البر في الاستذكار 6/ 110، ثم قال: فهو حديث موضوع منكر، لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه، وأنه موضوع، وينسبون وضعه إلى محمد بن الحسن بن زبالة المدني، وحملوا عليه فيه، وتركوه.

وقد روي نحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه الحاكم 3/ 3، ثم قال: هذا حديث رواته مدنيون. عقب عليه الذهبي قائلاً: لكنه موضوع، فقد ثبت أن أحب البلاد إلى الله مكة.

ومما يدل على أن أحب البلاد إلى الله مكة، حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ حَمْرَاءَ الزُّهْرِيِّ في فضل مكة قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَالَ:«وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» .

أخرجه الترمذي، في المناقب، باب في فضل مكة، رقم: 3925، 5/ 722. وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وأخرجه ابن ماجه، في المناسك، باب فضل مكة، رقم: 3108، 2/ 1037. والدارمي، في السير، باب إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، رقم: 2510، 2/ 193، وغيرهم.

(2)

الجَمَّاء: بالفتح وتشديد الميم، ثلاثة جبال بالمدينة. للتوسع انظر: الباب الخامس (الجماء)، وفاء الوفا 3/ 1063.

(3)

قال المصنف في الباب الخامس: يَهِيْق: موضع بقرب المدينة، ولم أر من تعرض لذكره ممن صنف في أسماء الأماكن.

ص: 383

السَّمَاءِ والأرضِ

(1)

.

ـ وعن مُحَمَّد بن مُوسَى بن صَالِح - مِن وَلدِ صَيْفي بن عَامِر - عن أَبيهِ عن جَدهِ رضي الله عنهم قال أقبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من غَزَاةٍ غَزَاهَا، فلمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ أَمسَكَ بعضُ أصحَابِهِ على أنفِهِ من تُرَابِهَا، فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَالذي نَفْسي بِيَدِهِ، إنَّ تُرْبَتَهَا لَمُؤمِنَةٌ، وإنَّها لَشِفَاءٌ مِنَ الْجُذَامِ»

(2)

.

ـ وعن إبراهيم بن أبي الجَهْم رضي الله عنه قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أتى بَلحَارث بن الخَزرَج فإذا هُمْ رَوْبَى

(3)

، فقال: مَالَكُم /150 يَابَني الحَارث رَوْبَى؟ فقالوا: أَصَابَتنَا يَا رَسُولَ اللَّه هذه الْحُمَّى، قال صلى الله عليه وسلم: فَأينَ أَنتُمْ عن صُعَيْب

(4)

؟ قالوا: مَا نَصنَعُ به يَا رَسُولَ اللَّه؟ قالَ صلى الله عليه وسلم: تَأخُذونَ من تُرَابِهِ فَتَجعَلوُنَهُ في مَاءٍ، ثمَّ يَتْفُلُ عليه أَحَدُكُم، ويَقول: بسمِ الله، تُرَابُ أَرضِنَا بِريقِ بَعضِنَا شِفَاءٌ لِمَريضِنَا بإذن رَبّنَا. فَفَعَلوا فَتَرَكَتْهُمُ الْحُمَّى»

(5)

.

(1)

ذكره السمهودي في وفاء الوفا 1/ 119 - 120 نقلاً عن ابن زبالة، وابن زبالة: كذبوه.

(2)

ذكره السيوطي في الحجج المبينة ص: 58، من رواية الزبير بن بكار، حدثني محمد، عن محمد بن فضالة، عن محمد بن موسى بن صالح، به، فذكره. ومحمد هو ابن زبالة، كذبوه. ورواه ابن عدي في الكامل 3/ 1082، من حديث أم المؤمنين عَائِشَة بلفظ: إن الْمَدِينَةَ تُرْبَتُهَا مُؤمِنَة. وفي سنده ضعف.

(3)

روبى: قال في اللسان (روب) 1/ 441 - نقلاً عن سيبويه - هم الذين أثخنهم السفر والوجع فاستثقلوا نوماً.

(4)

صُعَيْب: تصغير صَعب للشديد العسر، وقيل: صعين بالنون تصغير صعن للصغير الرأس، موضع في بطن وادي بطحان، وهو على مقربة من دار بني الحارث بن الخزرج. الدرة الثمينة: ص 52، المغانم 218، وفاء الوفا 4/ 1252.

(5)

رواه الزبير بن بكار (ذكره ابن النجار في الدرة ص 52)، ويحيى بن الحسن بن جعفر العلوي (ذكره السمهودي في الوفاء 1/ 68)، وابن النجار في الدرة ص 52.

كلهم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة، عن محمد بن فضالة، عن إبراهيم بن الجهم، به. وابن زبالة: كذبوه.

ص: 384

ـ وعن أمِّ سَلَمَة زَوجِ النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها كانت تَنعتُ مِنَ القَرْحَةِ تُرَابَ الضبة

(1)

.

ـ وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه يرفعهُ: «تُرَابُ أَرضِنَا شِفَاءٌ لقُرْحَتِنَا بإذن رَبِّنَا»

(2)

.

ـ وعن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: إنَّ رَجُلاً أُتيَ به رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وبرجلهِ قَرْحَةٌ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَ الْحَصِير، ثمَّ وَضَعَ إِصْبَعَهُ التي تَلي الإبهامَ على الترابِ بَعدَمَا مَسَّهَا بريقهِ فقال:«بسْمِ اللَّهِ، بِرِيقِ بَعْضِنَا، بتُرْبَةُ أَرْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا» .

ثمَّ وَضَعَ إِصْبَعَهُ على القَرْحَةِ، فكأنَّمَا حُلَّ من عِقَال

(3)

.

وهذا الحديث في الصحيحين مختصراً

(4)

.

ـ وعن إبراهيم بن مُحَمَّد قال: بَلَغَني أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «غُبَارُ الْمَدِينَةِ يُطفئُ الْجُذَامَ»

(5)

.

ـ وعن سُهَيل بن أبي صَالِح عن سُلَيْمَان بن سُحَيْم أنَّهُ حَدَّثَهُ عن يَهودي أتى ابنَ الزُّبَير، فقالَ لهُ: افتحِ الكَعْبَةَ، فَفَتَحَهَا لهُ، فأسلمَ، ثمَّ قالَ لهُ: استوصِ

(1)

ذكره السمهودي في الوفا 1/ 69، نقلاً عن ابن زبالة.

(2)

رواه ابن زبالة كما ذكر السمهودي 1/ 69.

(3)

ذكره السمهودي في الوفاء 1/ 69، نقلاً عن ابن زبالة.

(4)

عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ «بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» .

أخرجه البخاري، واللفظ له، في الطب، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 5745، 10/ 217. ومسلم، في السلام، باب استحباب الرقية، رقم: 2194، 4/ 1724.

(5)

ذكره السيوطي في الحجج المبينة ص: 58، من رواية الزبير بن بكار، من طريق محمد ابن الحسن بن زبالة.

ص: 385

بأهلِ الْمَدِينَةِ خيراً، فإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِبَلَدِكُم هذا فَأَخرَجُوهُ إلى الْمَدِينَةِ، ثمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عشرينَ غَزوةً، كُلُّ ذَلكَ يَرجِعُ إلى الْمَدِينَةِ، وَالذي نَفسي بيَدِهِ إنَّ تُربَتَهَا لَمُؤمِنَةٌ ولو أنَّكَ لا تعلمُ ذلك إلا أنَّ الله عز وجل جَعَلَ جَسَدَهُ فيها وَلم يَكُنِ الله تعالى ليَجعَلَ جَسَدَهُ إلا في تُربَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَالذي نَفسي بِيَدِهِ إنَّهَا عِندَنا في التوراةِ لَمَكتُوبَة مُؤمِنَة، وإِنَّ الْمَلائِكَةِ لَمُشبَّكة لأنقابِهَا لا يَدْخُلُهَا الْمَسِيحُ ولا الطَّاعُونُ.

ـ وعن مُحَمَّد بن عُمَر بن عَليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ

(1)

وانقل وباءها إلى مَهْيَعَة

(2)

، وَمَا بَقِيَ مِنهُ فاجعلهُ تحت ذَنْبِ مَشْعَط

(3)

»

(4)

ـ وعن يَحيى بن عبد الرحمن قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنْ كانَ الوباءُ في شيءٍ من الْمَدِينَةِ فهو في ظِلِّ مَشْعَط»

(5)

.

ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «آخِرُ قَرْيَةٍ مِنْ

(1)

في الأصل بزيادة: (كما حببت إليهم).

(2)

مَهْيَعَة: هي الجحفة. معجم البلدان 2/ 111.

(3)

مشعط: جبل أو موضع بالمدينة. المغانم 382.

(4)

ذكره السمهودي في الوفاء 1/ 60 وعزاه لابن زبالة.

وقد روي نحوه في حديث أمِّ المؤمنين عَائِشَة بلفظ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ» .

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، رقم: 1889، 4/ 119. ومسلم، في الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، رقم: 1376، 2/ 1003. ومالك، في الجامع، باب ما جاء في وباء المدينة،، رقم: 14، 2/ 890.

(5)

ذكره السمهودي في الوفاء 1/ 60 وعزاه لابن زبالة.

ص: 386

قُرَى الإسْلامِ خَرَاباً الْمَدِينَة»

(1)

.

أخرجه النسائي

(2)

.

ـ وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَتْرُكُونَ

(3)

الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ /151 مَا كَانَتْ لا يَغْشَاهَا إلا الْعَوَافِي يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وآخِرُ من يُحشَر رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا مُلِئَتْ وحوْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا»

(4)

.

وفي رواية: لَيَتْرُكَنَّهَا أَهْلُهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ مُذَلَّلَةً لِلْعَوَافِي يَعْنِي السِّبَاع وَالطَّيْرَ

(5)

.

خرجه البخاري ومسلم.

وفي الموطأ: «لتُتْركَنَّ الْمَدِينَة، عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ، حَتَّى يَدْخُلَ الْكَلْبُ أَوِ الذِّئْبُ فَيُغَذِّي عَلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ

(1)

أخرجه الترمذي، في المناقب، باب في فضل المدينة، رقم: 3919، 5/ 720. وابن حبان (الإحسان 8/ 272).

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث جُنَادَة عن هشام بن عروة. قال: وتعجب محمد بن إسماعيل (البخاري) من حديث أبي هريرة هذا.

وقال في ترتيب العلل 2/ 945: سألت محمداً عن هذا الحديث فلم يعرفه وجعل يتعجب من هذا، وقال: كنت أرى أن جنادة بن سلم مقارب الحديث. ا. هـ.

جنادة بن سَلْم: صدوق له أغلاط. التقريب رقم: 974 ص 142.

(2)

لم أقف عليه من رواية النسائي، ولعل الصواب: أخرجه الترمذي كما تقدم في التخريج.

(3)

في الأصل: (ينزلون). والمثبت من مصادر التخريج، وهو الصواب.

(4)

أخرجه البخاري، في فضائل المدينة، باب من رغب عن المدينة، رقم: 1874، 4/ 107. ومسلم، في الحج، باب في المدينة حين يتركها أهلها، رقم: 1389، 2/ 1010.

(5)

أخرجه مسلم: في الحج، باب في المدينة حين يتركها أهلها رقم: 1389، 2/ 1009.

ص: 387

اللَّهِ، فَلِمَنْ تَكُونُ الثِّمَارُ ذَلِكَ الزَّمَانَ؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: لِلْعَوَافِي؛ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ»

(1)

.

غَذَّى الكلبُ تغذيةً رمى ببوله متقطعاً.

ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يرفعه: تَبْلُغُ الْمَسَاكِنُ إِهَابَ

(2)

أَوْ يَهَابَ

(3)

.

خَرَّجَهُ مسلم. وقد شرحته في ترجمة إهاب

(4)

، والله أعلم.

(1)

أخرجه مالك، في الجامع، باب ماجاء في سكنى المدينة والخروج منها، رقم: 8، 2/ 888.

(2)

إهاب: ككتاب، موضع قرب المدينة. انظر: الباب الخامس، حرف الهمزة وفاء الوفا 3/ 1133 وزاد: بئر في الحرة الغربية.

(3)

أخرجه مسلم، في الفتن وأشراط الساعة، باب في سكنى المدينة وعمارتها قبل الساعة، رقم: 2903، 4/ 2228، من طريق زُهَيْر عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فذكره، وزاد في آخره: قَالَ زُهَيْرٌ قُلْتُ لِسُهَيْلٍ فَكَمْ ذَلِكَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ كَذَا وَكَذَا مِيلاً.

(4)

في الباب الخامس.

ص: 388

‌ما ورد في فضل المسجد الشريف والروضة المقدسة والمنبر المطهر

ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَمَسْجِدِ الأقْصَى» .

خرجه البخاري ومسلم

(1)

.

ولمسلم: «إِنَّمَا يُسَافَرُ إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْكَعْبَة، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِد إِيلِيَاءَ»

(2)

.

وأخرجه أبو داود والنسائي وقالا: ومَسْجِدِي هَذَا

(3)

.

ـ وعن أَبي سَعِيدٍ الْخُدريّ رضي الله عنه: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هذا، والمَسْجِد الْحَرَامِ، وَالمَسْجِد الأقْصَى» .

خَرَّجَهُ البخاري، ومسلم، والترمذي

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم: 1189، 3/ 76. وأخرجه مسلم، في الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، رقم: 1397، 2/ 6014.

(2)

أخرجه مسلم، في الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، رقم: 1397، 2/ 1015.

(3)

أخرجه البخاري، في الصوم، باب صوم يوم النحر، رقم: 1995، 4/ 283. وأبو داود، في المناسك، باب في إتيان المدينة، رقم: 2026، 2/ 536. والنسائي، في المساجد، باب ما تشد الرحال إليه من المساجد، رقم: 700، 2/ 37.

(4)

أخرجه في حديث طويل: البخاري، في جزاء الصيد، باب حج النساء، رقم: 1864، 4/ 87، وفيه: مسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد الأقصى. ومسلم، في الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، رقم: 827، 2/ 975. والترمذي، في الصلاة، باب ماجاء في أي المساجد أفضل، رقم: 326، 2/ 148. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 389

ـ وعَنْ جَابِرِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ مَا رُكِبَتْ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ مَسْجِدِي هَذَا، وَالْبَيْتُ الْعَتِيقُ»

(1)

.

رواه الإمام أحمد في مسنده.

ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَال: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ من المسَاجدِ إلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»

(2)

.

ـ وفي رواية أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأغَرِّ الْجُهَنِيِّينَ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخِرُ الأنْبِيَاءِ، وَإِنَّ مَسْجِدَهُ آخِرُ الْمَسَاجِدِ» .

قَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الأغَرِّ: لَمْ نَشُكَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَنَا ذَلِكَ أَنْ نَسْتَثْبِتَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه تَذَاكَرْنَا ذَلِكَ وَتَلاوَمْنَا أَنْ لا /152 نَكُونَ كَلَّمْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ حَتَّى يُسْنِدَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَ سَمِعَهُ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ جَالَسَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَالَّذِي فَرَّطْنَا فِيهِ مِنْ نَصِّ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْهُ، فَقَالَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ قَالَ

(1)

أخرجه الإمام أحمد 3/ 350، أبو يعلى في مسنده 4/ 182، ابن حبان (الإحسان 3/ 70)، الطبراني في الأوسط 1/ 415. وإسناده صحيح.

(2)

أخرجه البخاري، في فضل الصلاة في مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم: 1190، 3/ 76. ومسلم، في الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، رقم: 1394، 2/ 1012. وسيرد تخريجه في الرواية التالية من طرق أخرى.

ص: 390

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي آخِرُ الأنْبِيَاءِ، وَإِنَّ مَسْجِدِي آخِرُ الْمَسَاجِدِ»

(1)

.

وفي رواية يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الأنصَاري قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا صَالِحٍ هَلْ سَمِعْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَذْكُرُ فَضْلَ الصَّلاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ، أَوْ كَأَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» .

خرّجه مسلم

(2)

.

وأخرج البخاري قال: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»

(3)

.

وأخرج الموطأ بلفظ البخاري. وأخرج الترمذي بلفظ الرواية الأولى، وقال:«خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ»

(4)

.

وأخرج النسائي الرواية الثانية بطولها

(5)

.

(1)

أخرجه بطوله: مسلم، في الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، رقم: 1394، 2/ 1013. والنسائي، في المساجد، باب فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه، رقم: 694، 2/ 35.

(2)

أخرجه مسلم، في الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، رقم: 1394، 2/ 1013.

(3)

متفق عليه فقد أخرجه البخاري، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم: 1190، 3/ 76.

وأخرجه بلفظ البخاري: مسلم، في الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، رقم: 1395، 2/ 1013. ومالك، في القبلة، باب ماجاء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 9، 1/ 196. والترمذي، في الصلاة، باب ماجاء في أي المساجد أفضل، رقم: 325، 2/ 147.

(4)

رواية الموطأ والترمذي بلفظ رواية البخاري: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ.

(5)

أي رواية: أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر. وقد تقدم تخريجها عند مسلم والنسائي.

ص: 391

ـ قُلْتُ ولقد روينا بطرقٍ كثيرةٍ، ورواياتٍ مُتنوعاتٍ من حديث مَيْمُونَةَ مَولاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّ صَلاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلاةٍ فِي غَيْرِهِ، قَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَتُهْدِي لَهُ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَنْ أَتَاهُ»

(1)

.

ذكره ابن سندي في كتاب البشارة بإسناد حسن.

وَذَكَرَهُ أبو يَعْلَى في كتابهِ في مُسْنَدِ مَيْمُونَة أُمِّ الْمُؤمنينَ وَهمَاً منهُ، والصوابُ ما ذَكَرنَاهُ

(2)

وقد تَوارَدَتِ الرواياتُ في سياقِ مَتنِ الحديثِ على فضيلةِ الصَّلاةِ ببَيْتِ المقدسِ على غيرهِ بألفِ صَلاةٍ، وهذهِ الفضيلةُ محفوظةٌ من غيرِ وَجهٍ في

(1)

أخرجه أبو داود، في الصلاة، باب في السرج في المساجد، رقم: 458، 1/ 371. وابن ماجه، في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ماجاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس، رقم: 1407، 1/ 451. وأحمد 6/ 463. والطبراني في الكبير 25/ 32. والمقدسي في فضائل بيت المقدس 51.

قال البوصيري في الزوائد 2/ 14: وإسناد طريق ابن ماجه صحيح، ورجاله ثقات.

قال الدكتور محمود ميرة: بل هو منكر، وعلته الاختلاف فيه على زياد بن أبي سودة.

انظر: الجوهر النقي لابن التركماني 2/ 441. ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 90.

واضطرب فيه الألباني فصححه في تخريج أحاديث فضائل الشام ص 15، ثم عاد فقال في تحذير الساجد ص 198: ثم بدا لي أنه غير جيد السند فيه علة تقدح في سنده. وانظر: ضعيف ابن ماجه رقم:299، وتمام المنة ص 294.

(2)

أخرجه في مسند ميمونة أم المؤمنين: أبو يعلى في مسنده، رقم:7090. والمقدسي في فضائل بيت المقدس 49، من طريق عمرو بن الحصين، عن يحيى بن العلاء. عمرو: متروك. ويحيى: رمي بالوضع. انظر التقريب (595 - 7618).

قال الطبراني في الكبير 25/ 32: عن مَيْمُونَة وليست بمَيْمُونَة زوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 392

الصحيحِ لمسجدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على غيرهِ من المسَاجدِ إلا المسجدَ الحرامَ، وكلا المعنيينِ صَحيحٌ، المعِيَّةُ في طريق الجمعِيَّةِ بشهادةِ الآثارِ، وَجهُ الجمعِ بَينَهُمَا أنَّ فَضلَ الصَّلاةِ ببَيتِ المقدسِ بألفِ صَلاةٍ على مَسَاجدِ الأنبياءِ قبلَهُ، وفضلُ الصَّلاةِ بمسجدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بألفِ صَلاةٍ على مَا تَعَيَّنَ.

ـ وعن مَيْمُونَةَ رضي الله عنها قَالَتْ مَنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الرَسُولِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الصَّلاةُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ»

(1)

.

/ 153 أخرجه النسائي.

ـ وعن أمِّ الدَّردَاءِ عن أبي الدَّردَاءِ رضي الله عنهما عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: فضلُ الصَّلاةِ في المسجدِ الحرامِ على غَيرهِ مائةُ ألفِ صَلاةٍ، وفي مَسجدي ألفُ صَلاةٍ، وفي بَيتِ المقدسِ خَمْسُمائةِ صَلاةٍ»

(2)

.

أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

(1)

أخرجه بهذا اللفظ: النسائي، في المساجد، باب فضل الصلاة في المساجد، رقم: 691، 2/ 33.

وأخرجه مسلم، في الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، رقم: 1396، 2/ 1014، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى فَقَالَتْ إِنْ شَفَانِي اللَّهُ لأخْرُجَنَّ فلأصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ فَجَاءَتْ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ فَقَالَتِ اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«صَلاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إلا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ» .

(2)

رواه البزار (كشف الأستار 1/ 248)، وابن عدي 3/ 1234، والبيهقي في شعب الإيمان 8/ 79. في سنده: سعيد بن سالم القداح، صدوق يهم (التقريب 2315) ص 236. والحديث بشواهده التي تقدم ذكرها: حسن الإسناد، إلا الجملة الأخيرة: وفي بَيتِ المقدسِ خَمْسُمائةِ صَلاةٍ، فهي ضعيفة الإسناد.

ص: 393

قال: ولانعلم حَديثَاً يَشتَمِلُ على فَضِيلَةِ الصَّلاةِ بالمسَاجِدِ الثلاثَةِ خُصوصَاً سِواهُ مما يَصِحُّ عندَ الاعتبارِ مَعناهُ، والله أعلم

(1)

.

ـ وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ»

(2)

.

أخرجه البخاري ومسلم ومالك والنسائي.

ـ ورواه الترمذي من حديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما بلفظه

(3)

.

ـ ورواه البخاري ومسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه جَزماً

(4)

، ومالك من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَوْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه على الشك، وزاد في آخره:«وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي»

(5)

.

(1)

لم أقف عليه في سننه. ثم رأيت بعد أن السمهودي نقل هذه الرواية بتمامها عن المصنف ثم قال: لم أره في الترمذي. الوفاء 2/ 420.

(2)

أخرجه البخاري، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر، رقم: 1195، 3/ 84. ومسلم، في الحج، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة، رقم: 1390، 2/ 1010. والنسائي، في المساجد، باب فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه، 695، 2/ 35. ومالك، في القبلة، باب ما جاء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 11، 1/ 197.

(3)

أخرجه الترمذي، في المناقب، باب ماجاء في فضل المدينة، رقم: 3915، 5/ 718، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث علي، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

(4)

أخرجه البخاري، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر، رقم: 1196، 3/ 84. ومسلم، في الحج، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة، رقم: 1391، 2/ 1011.

(5)

أخرجه مالك، في القبلة، باب ماجاء في مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، رقم: 10، 1/ 197.

ص: 394

ـ وعن أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها قالت: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ قوَائِمَ مِنْبَرِي هذا رَوَاتِبُ

(1)

في الجنَّةِ».

أخرجه النسائي

(2)

.

ـ وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى قَالَ فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الأرْضَ ثُمَّ قَالَ: «هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا» . لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ

(3)

.

أخرجه مسلم.

فَضلهُ من مَسَاجدِ الأنبياءِ قبلَهُ بدليلِ قولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي آخِرُ الأنْبِيَاءِ وَمَسْجِدِي آخِرُ الْمَسَاجِدِ»

(4)

، ولا مَسْجِدَ قبل مَسْجِدِهِ تَتَعيُن الفَضِيلَةُ بعلمِهَا سِوَى الْمَسْجِد الحرام إلا مسجد بَيتِ المقدسِ، فَتَكونُ صَلاةٌ بمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بألفِ صَلاةٍ ببَيْتِ المقدسِ، وبألفِ ألفِ صَلاةٍ في غيِر بَيتِ المقدسِ من مَسَاجدِ الأنبياءِ قبلَهُ، فاعلَمْ ذلك فإنهُ من الفَوَائِدِ الجليلَةِ التي

(5)

تُضرَبُ إليها أَكبادُ الإبِلِ، والله أعلم.

(1)

قال ابن الأثير: الرواتب: جمع راتب، وهي الشيء الثابت المقيم. جامع الأصول 9/ 330.

(2)

أخرجه الحميدي في مسنده 1/ 139، والنسائي في المساجد، باب فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه رقم: 696، 2/ 35، والجندي في فضائل المدينة، رقم: 53، وأبو نعيم في الحلية 7/ 248. وفي أوله:«مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» . وإسناده صحيح.

(3)

أخرجه مسلم، في الحج، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، رقم: 1398، 2/ 1015.

(4)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث متفق عليه، تقدم تخريجه في مطلع هذا الباب.

(5)

في الأصل: (الذي).

ص: 395

ـ وفي رواية الترمذي والنسائي: تَمَارَى رَجُلانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ وَقَالَ الآخَرُ هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هُوَ مَسْجِدِي هَذَا»

(1)

.

قَالَ الترمذي: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.

قلت: أشرت إلى معنى هذا الحديث في ترجمة قباء من الباب الخامس، فَلْيُنْظَر

(2)

.

ـ وعن عبد الرحمن بن زَيْد بن أَسْلَم عن أبيه رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَدَا إلى مَسجدي هَذا أَوْ رَاحَ لِيُعَلِّمَ خَيْرًا أَوْ لِيَتَعَلَّمَهُ كَانَ بمَنزلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعَالى»

(3)

(1)

أخرجه من حديث أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه: الترمذي، في تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، رقم: 3099، 5/ 280. والنسائي، في المساجد، باب ذكر المسجد الذي أسس على التقوى، رقم: 697، 2/ 36. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقد روي هذا عن أبي سعيد من غير هذا الوجه. يشير إلى ما أخرجه مسلم، في الحج، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، رقم: 1398، 2/ 1015.

(2)

يأتي ذكره في الباب الخامس، حرف القاف.

(3)

لم أقف على هذه الرواية بهذا السند، وهو معضل، وفيه: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ضعيف. تقريب التهذيب، رقم: 3865 ص 340.

وله شاهد من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا لَمْ يَأْتِهِ إلا لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ فَهُوَ بِمَنزلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنزلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ» . أخرجه ابن ماجه، في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم:227. وابن أبي شيبة 12/ 209. وأحمد 2/ 350. وابن حبان (الإحسان 1/ 151). والحاكم 1/ 91. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح على شرط مسلم.

وأخرج نحوه مالك، في قصر الصلاة في السفر، باب انتظار الصلاة والمشي إليها، رقم: 53، 1/ 160، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ يَقُولُ مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ لا يُرِيدُ غَيْرَهُ لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَجَعَ غَانِمًا.

ص: 396

/ 154 ـ وعن زَيْد بن أَسْلَم رضي الله عنه يَرفعهُ: «مَنْ دَخَلَ مَسْجِدي هذا لِصَلاةٍ أو لذكرِ اللهِ عز وجل، أو لِيتَعَلَّمَ خَيْرَاً أو ليُعَلِّمَهُ كانَ بمَنزلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعَالى» . ولم يجعل ذلك لمسجد غيره

(1)

.

ـ وعن سَهْل بن سَعْد رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: «مَنْ دَخَلَ مَسْجِدِي هَذا لا يَدخلهُ إلا لِيُعَلِّمَ خَيْرًا أَوْ لِيَتَعَلَّمَهُ كَانَ بمَنزلَة الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالى، وَمَن دَخَلَه لِغَير ذَلكَ من أحَاديث الناسِ كانَ بمَنزلَة مَن يَرى ما يُعجِبُهُ وهو شَيءُ غَيرِهِ»

(2)

.

ـ وعن أبي سَلَمَة بن عَبد الرحمن رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا خَاتَمُ الأنبياءِ، وَمَسجدِي خَاتَمُ [مَسَاجدِ] الأنبياءِ، وهُوَ أَحَقُّ المسَاجِدِ أن يُزَارَ وأن يُرْكَبَ إليه على الرَّوَاحِلِ بَعدَ المسجِدِ الحرَامِ»

(3)

.

(1)

رواه ابن زبالة، بسنده، عن زيد بن أسلم. (الوفا 2/ 425) وابن زبالة: كذبوه.

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 6/ 215. وأبو نعيم في الحلية 3/ 254. وابن النجار في الدرة الثمينة 117.

قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، وفيه: يعقوب بن حميد بن كاسب وثقه البخاري، وابن حبان، وضعفه النسائي وغيره. مجمع الزوائد 1/ 123.

قال الحافظ في التقريب ص 607 (7815): صدوق ربما وهم.

(3)

رواه الزبير بن بكار في أخبار المدينة، من طريق موسى بن عبيدة، عن داود بن مدرك، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، مرسلاً. ذكره السيوطي في الحجج المبينة 54. ومع ضعف بعض رواته فهو مرسل. وروي من طريق آخر موصولاً: رواه البزار (كشف الأستار 2/ 56). وابن الجوزي في مثير الغرام 465. وابن النجار في الدرة الثمينة 117. كلهم من طريق عروة، عن أم المؤمنين عائشة. قال الهيثمي: رواه البزار، وفيه: موسى بن عبيدة، وهو ضعيف. مجمع الزوائد 4/ 4.

للتوسع انظر: فضائل المدينة للرفاعي ص 437.

ص: 397

ـ وعن أبي أُمَامَةَ بن سَهْل بن حُنَيْف رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: «مَنْ خَرَجَ على طُهْرٍ لا يُرِيدُ إلا الصَّلاةَ في مَسْجِدِي حتى يُصَليَ فيهِ كانَ بمَنزلَةِ حِجَّةٍ»

(1)

.

ـ وعن سَعيد بن الْمُسَيِّب قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَسمَعُ النداءَ أَحَدٌ في مَسْجِدِي هذا فيخرج إلا لِحَاجَةٍ ثُمَّ [لا] يَرجعُ إلا مُنَافِق»

(2)

.

ـ وعن يَزِيد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُبْصَقُ في مسجدي هذا» .

ـ وعن كَعْب الْحِبْر رضي الله عنه قال: نَجِدُ في كِتَابِ الله تَعَالى الذي

(1)

رواه الزبير بن بكار في أخبار المدينة (ذكره السيوطي في الحجج 54، 55)، وابن النجار في الدرة الثمينة 119، وذكره السمهودي في الوفاء 2/ 424، كلهم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة، بسنده، عن أبي أمامة. وهذا سند معضل لأن فيه ابن زبالة: كذبوه.

وروي من طريق آخر موصولاً: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 8/ 379 من طريق إسماعيل بن المعلى الأنصاري، عن يوسف بن طهمان، عن أبي أمامة، عن أبيه، مرفوعاً. وإسماعيل ويوسف: ضعيفان. انظر: الجرح والتعديل 2/ 200. ميزان الاعتدال 4/ 467.

(2)

أخرجه الطبراني في الأوسط 4/ 326، من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: لايسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة، ثم لايرجع إليه إلا منافق.

وعزاه السيوطي لأبي الشيخ في الأذان (الجامع الكبير 1/ 632).

قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح 2/ 5.

ورواه مالك بلاغاً، في قصر الصلاة في السفر، باب انتظار الصلاة والمشي إليها، عن سعيد بن المسيب، رقم: 56، 1/ 162.

ص: 398

نزلَ على مُوسَى عليه السلام إنَّ الله تَعَالى قالَ للمَدِينَةِ: «يَا طَيْبَةُ، يَا طَابَةُ، يَا مِسْكِينَةُ، لا تَقْبَلِي الكُنوزَ، ارفَعِي أَجَاجِيرَكِ على أَجَاجِيرِ القُرَى»

(1)

.

الأَجَاجيرُ: السطوح، واحد إِجَّار بكسر الهمزة، ومنه الحديث: من بات على إجار ليس عليه ما يرده فقد برئت منه الذمة

(2)

.

ـ وعن إسمَاعيل بن عَبد الله عن أبيه قال: إنَّ عبدَ الله بن الزُّبَيْر وَمَروَانَ بن الْحَكَم وَثَالِثَاً كَانَ مَعَهُمَا دَخَلُوا على عَائِشَةَ زَوجِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَتَذَاكَرُوا الْمَسجِدَ، فَقَالَت عَائِشَةُ رضي الله عنها إنِّي لأَعلَمُ سَارِيَة من سَوَارِي الْمَسجِدِ لو يَعلَمُ النَّاسُ مَافي الصَّلَاةِ فيها لاضطَرَبُوا عليها بالسُّهمَان.

فَخَرَجَ الرَّجُلانِ وَبَقيَ ابنُ الزّبَير عندَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فقالَ الرَّجُلان: مَا تَخَلَّفَ عندهَا إلا لِيَسأَلهَاَ عن السَّارِيَةِ، وَلئن سَأَلَهَا لتُخبِرَنَّهُ، ولئن أَخبَرَتهُ لا يُعلِمُنَا، وإن أَخبَرَتهُ عَمَدَ لهَا إذا خَرَجَ فَصَلَّى إليهَا، فاجلِسْ بنَا مَكَانَاً نَرَاهُ وَلايَرَانَا فَفَعَلا، فلم يَنْشَبْ أن خَرَجَ مُسرِعَاً فَقَامَ إلى هَذهِ السَّارِيَةِ فَصَلَّى مُتَيَامِنَاً إلى الشقِّ الأَيمنِ منها، فَعَلِمْتُ أنَّهَا هيَ. وسُمّيَت أُسْطوانَةُ عَائِشَة بذلك. قالوا: وَبَلَغَنَا أنَّ الدُّعَاءَ عِندَهَا مُستَجَاب

(3)

.

(1)

أخرجه ابن النجار في الدرة الثمينة 27، والسمهودي في الوفاء 1/ 23، كلاهما من طريق ابن زبالة. وابن زبالة: كذبوه.

(2)

أخرجه أحمد 5/ 271، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من نام على إجار ليس عليه مايدفع قدميه فخرَّ فقد برئت منه الذمة. وإسناده جيد. وانظر: الصحيحة للألباني 2/ 501 (رقم:828).

(3)

قال السمهودي في وفاء الوفا 2/ 440: روينا في كتاب ابن زبالة، عن إسماعيل بن عبدالله

وحديث عائشة هذا موقوف.

ورواه الطبراني في الأوسط 1/ 475 رقم: 866 عن عائشة مرفوعاً بنحوه. وسميت: أسطوانة القرعة.

والحديث ضعيف مرفوعاً وموقوفاً.

وانظر للتفصيل: فضائل المدينة للرفاعي ص 486 - 489. رقم الحديث 248.

ص: 399

/ 155 قلت: وهذه الأُسْطوانَةُ تُسَمَّى أُسْطوانَةَ عَائِشَة رضي الله عنها لهذا الحديث، هي المعروفة بالأُسْطوانَةِ الْمُخَلَّقَةِ، وبأُسطوانَةِ الْمُهَاجِرين، وهي في الصَفِّ الأولِ خَلفَ الإمَامِ إذا صَلَّى في محرَابِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وهيَ التي صَلَّى إليها رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المكتوبةَ بعدَ تحويلِ القبلةِ بضعَ عشرةَ يَوماً ثمَّ تَقدَّمَ إلى مُصلاهُ اليوم، وهي الثالثةُ من المنبرِ، والثالثةُ من القبلةِ، والثالثةُ من القبرِ الشريفِ، وكانت أيضاً الثالثةُ من رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ قبلَ أن يُزادَ في القبلةِ الرُّواقَانِ الْمُستَجدانِ، وهي مُتوسطةٌ في الروضةِ، وتعرف بأُسْطوانةِ الْمُهاجرين، كان أكابرُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم يُصَلُّونَ إليها ويجلِسُونَ حَولَها.

وإلى جَانبِ هذهِ الأُسْطوانَةِ مما يلي القبرَ الشريف أُسْطوانَةٌ أُخرى تُسَمَّى أُسْطوانَةَ التوبةِ، وهي الأُسْطوانَةُ الثانيةُ من القبرِ الشريفِ، والثالثةُ من القبلةِ، والرابعةُ من المنبرِ، والخامسةُ من رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ.

وقال بعض مشايخ المدينة: هي في آخرِ صَف الروضةِ، وهي الأُسْطوانَةُ الملاصِقَةُ للشباكِ على ما ذكرَ عبدُ الله بنُ عُمر رضي الله عنهما وتَبِعَهُ مَالكُ بن أَنَس، وما قيل إنها غيرها فغلطٌ أوجبهُ أشياءُ يطَولُ ذكرُهَا. انتهى كلامه

(1)

.

ـ وروى الزبَيْر بن بَكَّار عن عُمرَ بن عَبد الله بن المهَاجر أنهُ قال في

(1)

ذكره السمهودي في الوفاء نقلاً عن البدر بن فرحون، 2/ 446. ولم يوافقه، ثم قال: ومنشأ ما فهمه عَدُّهُ للأسطوانة اللاصقة بجدار القبر، وقد علم من كلامهم في أسطوان القرعة أنهم لا يعدون الأسطوانة اللاصقة بجدار القبر.

ص: 400

أُسْطوانةِ التوبةِ: كان أكثر نَافلةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إليها

(1)

.

ـ قيل وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذا اعتَكَفَ في رَمَضَان طَرَحَ فِرَاشَهُ، وَوُضِعَ لهُ سَريرٌ وَرَاءَ أُسْطوانَةِ التوبَةِ

(2)

.

ـ وعن يَزيد مَولَى سَلَمَة بن الأَكوعِ رضي الله عنهما أنهُ كَانَ يَأتي مَعَ سَلَمَةَ رضي الله عنه إِلَى سُبْحَةِ الضُّحَى فَيَعْمِدُ إِلَى الأُسْطُوَانِ دُونَ الْمُصْحَفِ فَيُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهَا فَأَقُولُ لا تُصَلِّ هَا هُنَا وَأُشِيرُ إِلَى بَعْضِ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ فَيَقُولُ إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى هَذَا الْمقَامَ وَكَانَ إذا صَلَّى الصُّبحَ انصَرَفَ إليهَا وَقَدْ سَبَقَهُ إليهَا الضُّعَفَاءُ والْمَسَاكِينُ وأَهلُ الضُّرِّ وَضِيفَانُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبهُم وَمَنْ لا مَبِيتَ لَهُمْ إلا المسجِدَ وَقَد تَحَلَّقُوا حَولَهَا حِلَقَاً بَعضُهَا دونَ بَعضٍ، فَيَنْصَرِفُ إليهِمْ مِنْ مُصَلاَّهُ مِنَ الصُّبحِ فيَتلوَ عَليهم مَا أَنزلَ الله تَعالى عَليهِ مِنْ لَيْلَتِهِ وَيُحَدِّثُهُم وَيُحَدِّثُونَهُ حَتى إذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ جَاءَ أَهلُ الطَّوْلِ وَالشَّرَفِ والغِنَى فَلم يَجِدُوا إليهِ مَخْلَصَاً فَتَاقَتْ أَنْفُسُهُم إليهِ وَتَاقَت نَفسُهُ إليهم فَأنزلَ الله عز وجل: {وَاصبرْ نَفْسَكَ مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَدَاةِ وَ العَشيّ /156

(1)

رواه الزبير بن بكار، عن ابن زبالة. (ذكره ابن النجار في الدرة 146، والسمهودي في الوفاء 2/ 444).

(2)

عن نافع، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ نَافِعٌ وَقَدْ أَرَانِي عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنهم الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَسْجِدِ.

أخرجه مسلم، في الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، رقم: 1171،2/ 830.

ورواه ابن ماجه من وجه آخر: عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اعتكف طُرِحَ له فراشه أو يُوضَعُ له سَريره وراء أسطوانة التوبة.

أخرجه ابن ماجه في الصيام، باب في المعتكف يلزم مكاناً في المسجد، رقم: 1774، 1/ 564. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله موثقون.

ص: 401

يُرِيدُونَ وَجهَهُ}

(1)

إلى مُنتهى الآيتين

(2)

.

ـ وروي عن مُحَمَّد بْن كَعْبٍ الْقُرَظِي قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يُصلي نَوَافِلَهُ إلى أُسطوانةِ التوبَةِ

(3)

.

وهي الأُسطوانَةُ التي رَبَطَ بها أبو لُبَابَة نفسَهُ إليها، وَحَلَفَ ألا يَفتَحَهُ إلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أو تَنزلَ تَوبَتُه، فَجَاءَت فَاطِمَةُ رضي الله عنها تَحلُّهُ، فقال: لا، حتى يَحلَّني رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي»

(4)

.

(5)

وأما الأُسطوانةُ التي خَلفَ أُسطوانَةِ التوبَةِ من جهَةِ الشمالِ فَتُعرَفُ بالْمَحْرَسِ، وبأُسْطوانَةِ أَميرِ الْمُؤمنينَ عَلي رضي الله عنه لأنهُ كَانَ يَجلِسُ عندَهَا لِحرَاسَةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وهي مُقَابِلَةٌ للخَوخَةِ التي كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخرجُ منها إذا كانَ في بَيتِ عَائِشَةَ رضي الله عنها إلى الروضَةِ الشريفَةِ للصَّلاةِ.

وعن عَبد العَزيزِ بن مُحَمَّد قال: إنَّ الأُسْطوانَةَ التي في الرَّحْبَةِ التي في صَفِّ أُسْطُوَانِ التَّوبَةِ بَينَهَا وَبَينَ أُسْطوَانِ التَّوبَةِ مُصَلَّى عَلي بن أبي طَالِب رضي الله عنه وأنَّهُ المجلسُ الذي يُقَالُ لهُ مَجلِسُ القِلادَةِ، كانَ يَجلِسُ فيه سَرَاةُ النَّاسِ

(1)

سورة الكهف: الآية 28.

(2)

أخرجه مختصراً من حديث سلمة رضي الله عنها: البخاري، في الصلاة، باب الصلاة إلى الأسطوانة، رقم: 502، 1/ 687. وابن ماجه، في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ماجاء في توطين المكان في المسجد يصلى فيه، رقم: 1430، 1/ 459.

وأخرجه بطوله ابن زبالة. كما في وفاء الوفاء 2/ 444 - 445.

(3)

رواه ابن زبالة، عن عمر بن عبد الله بن المهاجر، عن محمد بن كعب، به. (ابن النجار 146، تحقيق النصرة 59، وفاء الوفا 2/ 444).

(4)

ذكر قصة أبي لبابة بطولها: ابن إسحاق (ابن هشام 3/ 1048)، والطبري 11/ 10 - 12، والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 271 - 272، وفيها: أن الرَسُولَ صلى الله عليه وسلم أطلقه عندما مر عليه خارجاً إلى صلاة الصبح. وذكر طرفاً منها الإمام أحمد 3/ 502.

(5)

كتب على الهامش بخط الناسخ: أسطوانة المحرس.

ص: 402

قَديماً. قال: وإنما سُمِّيَ القِلادَةَ لِشَرَفِ مَنْ كَانَ يَجلِسُ إليهَا مِن بَني هَاشِم وغيرهم

(1)

.

ـ

(2)

وعن مُسْلِم بن أبي مَرْيَم وغيره قالوا: عَرْسُ

(3)

بَيْتِ فَاطِمَةَ بِنْت رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الأُسْطُوانِ التي خَلفَ الأُسْطُوانِ المواجهةِ الزَّورَ

(4)

، وَكَانَ بَابُهُ في الْمُرَبَّعَةِ التي في القَبْرِ. قالَ سُليمانُ بن سَالِم: قالَ لي مُسْلم: لا تَنسَ حَظَّكَ من الصَّلاةِ إليهَا فإنَّهَا بَابُ فَاطِمَة رضي الله عنها الذي كَانَ عَليٌ رضي الله عنه يَدخُلُ عَليها منهُ

(5)

.

ـ قال ابن زَبَالَة: وَرَأيتُ حَسَنَ بن زَيد

(6)

يُصَلِّي إليهَا. وَهذهِ الأُسْطُوانَةُ أيضاً تُعرَفُ بأُسْطُوانَةِ الوفودِ.

ـ

(7)

ومنها أُسْطُوانَةٌ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلي صَلاةَ الليلِ عندَهَا، وَمكتُوبٌ فيها بالرُّخَام: هَذا مُتَهَجَّدُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

ـ ورَوى ابنُ النَجَّارِ عن عيسَى بن عَبدِ الله عن أبيه قال: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه ابن زبالة عن غير واحد من أهل العلم، منهم: عبد العزيز بن محمد (ذكره السمهودي في الوفاء 2/ 449 - 450).

(2)

كتب على الهامش بخط الناسخ: أسطوانة الوفود.

(3)

العَرْسُ: عمود في وَسَطِ الفُسْطَاطِ. القاموس (عرس) ص 557.

(4)

الزوْرُ: وسط الصدر. القاموس (زور) ص 402، قال السمهودي: الزور يعني الموضعَ المُزَوَّرَ في بناء عمر بن عبد العزيز خلف الحجرة. الوفا 2/ 451.

(5)

أخرجه ابن زبالة، ويحيى، عن سليمان بن سالم، عن مسلم بن أبي مريم، وغيره. ذكره السمهودي في الوفاء 2/ 450.

(6)

حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد المدني، ولي إمرة المدينة للمنصور، مات سنة ثمان وستين ومائة. ابن سعد (القسم المتمم 386 - 387)، تاريخ بغداد 7/ 309 - 313.

(7)

كتب على الهامش بخط الناسخ: أسطوانة التهجد.

ص: 403

يَطرَحُ حَصِيرَاً كُلَّ لَيلَةٍ إذا انكفَتَ النَّاسُ وَرَاءَ بَيتِ عَليّ رضي الله عنه ثُمَّ يُصَلِّي صَلاةَ الليلِ

(1)

ـ قال الشيخ جَمَالُ الدينِ الْمَطَري: هَذهِ الأُسْطُوانَةُ خَلفَ بَيتِ فَاطِمَةَ رضي الله عنها والوَاقِفُ [الْمُصَلِّي]

(2)

إليهَا يَكونُ بَابُ جِبريل المعروفُ قديماً ببَابِ عُثْمَانَ على يَسَارِهِ، وَحَولَهَا الدرَابزينُ الدَّائِرُ على حُجْرَةِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعلى بَيتِ فَاطِمَةَ رضي الله عنها

(3)

.

وروي عن سَعيد بن عَبد الله بن فُضَيْل قال: مَرَّ بي / 157 مُحَمَّدُ بن

(1)

رواه يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي في أخبار المدينة عن عيسى بن عبد الله، به. أخرجه ابن النجار في الدرة الثمينة 125. والسمهودي في الوفاء 2/ 450. وإسناده مرسل.

والمشهورُ من حَالِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ كانَ يُصلي صَلاةَ الليلِ- في غير رمضان في بَيتهِ. أخرج البخاري في العلم، باب السمر في العلم، رقم: 117، 1/ 256، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنزلِهِ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ .. الحديث.

وأخرج البخاري في الصلاة، باب الصلاة على الفراش، رقم: 382، 1/ 586، عَنْ أمِّ المؤمنيَن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا .. الحديث.

أما في رمضان فكان للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَصيرٌ يَحْتَجِرُهَا بالليلِ في المسجدِ فيجعلها على باب أمِّ المؤمنيَن عَائِشَةَ فَيُصَلي فيه ويَجلسُ عليه بالنهارِ. أخرج البخاري، في الأذان، باب صلاة الليل، رقم: 730، 2/ 251 عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ حَصِيرٌ يَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ وَيَحْتَجِرُهُ بِاللَّيْلِ فَثَابَ إِلَيْهِ نَاسٌ فَصَلَّوْا وَرَاءَه.

قال النووي: معنى يحتجر: يحوط موضعاً من المسجد بحصير يستره ليصلي فيه ولا يمر بين يديه مار. نقله الحافظ في الفتح 3/ 16.

(2)

سقطت من الأصل، وأثبتها كما في كتاب التعريف.

(3)

التعريف بما آنست الهجرة ص: 33.

ص: 404

الحنَفِيَّة وأنا أُصَلّي إليها فقال: أراكَ تَلزمُ هذه الأُسْطوانةَ، هَلْ جَاءَكَ فيها أثَرٌ؟ قلتُ: لا، قال: فالزَمْهَا، فإنَّهَا كَانَت مُصَلَّى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم من الليلِ

(1)

.

وهذهِ الأُسْطُوانَةُ وَرَاءَ بَيتِ فَاطِمَةَ رضي الله عنها من جِهَةِ الشمَالِ، وفيهَا مِحْرَابٌ إذا صَلَّيْتَ إليهِ كَانَ بَابُ جِبْريلَ على يَسَارِكَ

(2)

.

(1)

رواه يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي في أخبار المدينة عن عيسى بن عبد الله، عن سعيد، به. أخرجه ابن النجار في الدرة الثمينة 125. ومن طريقه: المطري في التعريف 33، والسمهودي في الوفاء 2/ 451. وقد تقدم الحديث قبل قليل عن صلاته صلى الله عليه وسلم في الليل.

(2)

التعريف 34.

ص: 405

‌ذكرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الشَّريفِ

وَمَا حَدَثَ فيه إلى زَمَانِنَا هذا

ـ كَانَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ مِرْبَدَاً

(1)

للتمرِ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَينِ مِن بَني النَجَّارِ في حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.

(2)

ـ وقيل: كَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَينِ لأَبي أَيوبٍ الأنْصَاريّ، يُقَالُ لَهُمَا: سَهْلٌ وَسُهَيْل ابنا عَمْرو، فَطَلَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من أبي أيُّوب، فقالَ أبو أيُّوب: المِرْبَدُ يَا رَسُولَ الله لِيَتِيمَيْنِ وأنا أُرضِيْهِمَا، فَأرضَاهُمَا، فَأعطَاهُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فاتَّخَذَهُ مَسْجِدَاً

(3)

.

ـ وقيل: كان المِرْبَدُ لسَهْل وسُهَيْل ابني عَمْرو من بني غَنْم فأعطياهُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَبَنَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَاً.

(4)

(5)

.

ـ ويقال عَوَّضَهُمَا أَسعَدُ بنُ زُرَارَة نَخلاً في بَني بَيَاضَة ثَوَابَاً من مِرْبَدِهمَا

(1)

الْمِرْبَد: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة، هو الموضع الذي يجفف فيه التمر. وقال الأصمعي: كل شيء حبست فيه الإبل أو الغنم. النهاية في غريب الحديث 2/ 182 (ربد). فتح الباري 7/ 289.

(2)

أخرجه البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الْمَدينَة، رقم: 3906، 7/ 281 في حديث طويل عن سراقة بن جعشم رضي الله عنه، وفيه: كان مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.

(3)

أخرجه يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي، كما في تحقيق النصرة 39. وأخرجه الزبير ابن بكار، كما ذكر الحافظ في الفتح 7/ 290.

(4)

أخرجه ابن إسحق (ابن هشام 2/ 137 - 138).

(5)

قال الحافظ في الفتح 7/ 290: والأول أثبت وقد يجمع باشتراكهما، أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكر واحداً بعد واحد.

ص: 406

فقالا: بَلْ نُعطيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. يقال: بل اشترَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

ـ وفي الصحيح: «يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا فقَالُوا: لا وَاللَّهِ ما نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلا إلى اللَّهِ تعالى»

(2)

.

ـ وفي طبقات ابن سعد: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشتراهُ من بَني عَفراء بعَشَرَةِ دَنانير ذَهَبَاً وَأَمَرَ أبا بَكرٍ رضي الله عنه أن يُعطِيَهُمَا فَدَفَعَهَا إليهِمَا أبو بَكر الصّديق رضي الله عنه

(3)

.

ـ قال ابن إسحق: قال أسعد: أنا مُرضيهِمَا منهُ فَابْنِهِ

(4)

.

ـ ويروى أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لما أَرَادَ أن يُحَجِّرَ بنَاءَ الْمَسجِدِ، قيلَ لهُ: عَريشٌ كعَريش أَخِيكَ مُوسَى

(5)

.

ـ قال أنس رضي الله عنه فَبَنَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ مَا بَنَاهُ بالْجَريدِ، وَإنّمَا بَنَاهُ باللَّبِنِ بَعدَ الهجرَةِ بأربَعِ سِنينَ

(6)

.

(1)

أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 2/ 538، من حديث موسى بن عقبة، عن الزهري. وأخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 239، عن الواقدي، عن معمر بن راشد، عن الزهري. وهو مرسل، والواقدي: متروك. التقريب رقم: 6175 ص 498.

(2)

أخرجه البخاري، في الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، رقم: 428،1/ 624. ومسلم، في المساجد ومواضع الصلاة، باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 524، 1/ 373.

(3)

أخرجه ابن سعد عن الواقدي، عن معمر بن راشد، عن الزهري. الطبقات 1/ 239. والواقدي: متروك.

(4)

يجمع بين هذه الآثار بأنه صلى الله عليه وسلم لما قالوا له: (لا نطلب ثمنه إلا لله) سأل عمن يختص بملكه منهم، فعينوا له الغلامين فابتاعه منهما، أو أن يكون الذين قالوا له:(لا نطلب ثمنه إلا لله) تحملوا عنه للغلامين بالثمن. فتح الباري 7/ 290.

(5)

رواه ابن زبالة. فيما ذكره السمهودي في الوفاء 1/ 327.

(6)

رواه ابن زبالة. ذكره السمهودي في الوفاء 1/ 327. ومن طريقه الزبير بن بكار في أخبار الْمَدينَة. ذكره الحافظ في الفتح 7/ 290. قال الحافظ في الفتح 7/ 290: وفي رواية عطاف بن خالد، عند ابن عائذ أنه صلى فيه وهو عريش اثني عشر يوماً، ثم بناه وسَقَفَهُ.

ص: 407

ـ وعَنِ الْحَسَنِ رضي الله عنه قال: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لما أَخَذَ في بنَاءِ الْمَسجِدِ قال: «ابنوا لي عَرِيشَاً كَعَريشِ مُوسَى، وَجَعَلَ يُنَاوِلُ اللَّبِنَ ويَقُولُ:

اللَّهُمَّ لاخَيْرَ إلا خَيْرُ الآخِرَة

فَاغْفِرْ للأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة

وَجَعَلَ يَتَنَاوَلُ من عَمَّار وَيَقُولُ: وَيْحَكَ يابْنَ سُمَيَّةَ، تَقْتُلكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَة»

(1)

.

ـ وعن مُحَمّدَ بن عَلي رضي الله عنهما: قيلَ للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الْمَسجِدِ بيده فقال: عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى.

ـ وعن ابن شِهَاب قال: كَانَت سَواري الْمَسجِدِ في عَهدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم جُذوعَاً من جُذوعِ النَّخلِ / 158 وَكَانَ سَقفهُ جَرِيدَاً وخُوصُاً

(2)

ليسَ على السَّقفِ كَثيرُ طِيْنٍ، إذا كانَ الْمَطرُ امْتَلأَ المسجِدُ طِينَاً، إنما هُوَ كَهَيئَةِ العَرِيشِ

(3)

.

(1)

من مراسيل الحسن البصري، وهي من أوهى المراسيل. وقد وصله مسلم، فأخرجه مختصراً من رواية الحسن البصري، عن أمه، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون الميتَّ من البلاء، رقم: 2916، 4/ 2236.

وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه البخاري، مختصراً، في الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد، رقم: 447، 1/ 644. وفي الجهاد والسير، باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله، رقم: 2812، 6/ 36.

(2)

الجَرِيد: جمع جَريدَة، والجريدَة: غصن من النخل جرد من خوصه. القاموس (الجرد) ص 272.

الْخُوصُ: بالضم: ورق النخل. القاموس (الخوص) ص 618.

(3)

أخرجه بنحوه في حديث طويل ابن سعد 1/ 240، عن محمد بن عمر الواقدي، عن معمر بن راشد، عن الزهري. والواقدي: متروك.

وقد ورد وصف المسجد بنحو هذا في حديثين:

الأول: حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، وفيه: جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ.

أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، رقم: 2016، 4/ 301. ومسلم، في الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، رقم: 1167، 2/ 826.

الثاني: حديث ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبْنِياً بِاللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ. أخرجه البخاري، في الصلاة، باب بنيان المسجد، رقم: 446، 1/ 643. وأبو داود، في الصلاة، باب في بناء المساجد، رقم: 452، 1/ 367.

ص: 408

ـ وعن بُسْر بن سَعيد قال: كان سَقفُ الْمَسجِدِ عَرِيشَاً من جَريدٍ وَسَعَف.

ـ وعن خَالد بن مَعْدَان قال: خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم على عَبدِ الله بن رَوَاحَة وأبي الدَّردَاءِ رضي الله عنهما وَمَعَهُمَا قَصَبَةٌ يَذْرَعَانِ بهَا في الْمَسجِدِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا تَصنَعَانِ؟ فَقَالا: أَرَدنَا أن يُبنَى مَسْجِدُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم على بُنيَانِ الشَّامِ، فَنَقْسِمَ ذلك على الأنْصَارِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: هاتياها

(1)

، فَأَخَذَ القَصَبَةَ منهُمَا، ثمَّ مَشَى بها حتى أَتَى البَابَ، فَدَحَا

(2)

بها، وقال: كَلاَّ، ثُمَامٌ

(3)

وخُشَيْبَاتٌ فَظُلَّة كَظُلَّةِ مُوسَى، والأمرُ أقرَب من ذلك، قيل: وماظُلَّةُ مُوسَى؟ قال: إذا قَامَ أَصَابَ رَأسَهُ السَّقْفُ

(4)

.

(1)

في الأصل: (هاتها)، والتصحيح من الوفا 1/ 339.

(2)

دحا: أي رمى وألقى. اللسان 14/ 252 (دحا).

(3)

الثُّمَامُ: نبت معروف في البادية. اللسان 12/ 79 (ثمم) وهو نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص وربما حشي به أو سدّ به خصاص البيت.

(4)

رواه ابن زبالة، من حديث خالد بن معدان، كما في وفاء الوفا (1/ 339) وسنده منقطع: خالد بن معدان هو الكلاعي الحمصي أبو عبدالله، مات سنة ثلاث ومائة، ثقة عابد يرسل كثيراً. تقريب ص 190 برقم 1678.

وأخرجه الجندي في فضائل المدينة 35 - 36 من حديث راشد بن سعد، يرفعه. وسنده معضل: راشد بن سعد هو المَقْرَئي الحمصي، مات سنة ثمان ومائة وقيل ثلاث عشرة، ثقة كثير الإرسال. تقريب ص 204. برقم:1854.

ص: 409

ـ وعن جَعفر بن مُحَمَّد رضي الله عنهما قال: إن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْني مَسْجِدَهُ بالسَّمِيطِ

(1)

، ثمَّ إنَّ النَّاسَ كَثروا فَبَنَاهُ بالسَّعِيدَةِ

(2)

، فقالوا: يَا رَسُولَ الله، لو أَمَرتَ به فَزيدَ فيه، قالَ صلى الله عليه وسلم: نعم، فَأَمَرَ به، فَزِيدَ فيهِ وَبَنَى جِدَارَهُ بالأنثَى والذَّكَر

(3)

، ثَّم اشتدَّ عليهمُ الحَرُّ، فقالوا: يَا رَسُولَ الله، لو أَمرتَ بالمسجِدِ فَظُلِّلَ، قال: نعم، فَأَمَرَ به، فَأُقِيمَت سَوَارٍ من جُذُوعِ النَّخلِ، ثَّم طُرِحَ عليها العَوَارِضُ والْخَصَفُ والإِذْخِرُ

(4)

، فَعَاشُوا فيهِ وَأصَابَتهُمُ الأمطارُ، فَجَعَلَ المسجِدُ يَكِفُ عَليهم، فقالوا: يَا رَسُولَ الله، لو أمرتَ بالمسجدِ فَطُيِّنَ، فقالَ صلى الله عليه وسلم لهم: لا، عَرِيشٌ كعَريشِ مُوسَى، فَلم يَزَل كذلك حتى قُبِضَ صلى الله عليه وسلم، وكانَ جِدَارُهُ قبلَ أن يُظَللَ قَامَة

(5)

.

ـ وعن جَعفر بن مُحَمَّد رضي الله عنهما قال: بَنَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّتينِ حينَ قَدمَ أَقلَ من مَائة في مَائة فلمَّا فَتَحَ الله تعالى عليه خَيْبَر بَنَاهُ وَزَادَ فيه مثلهُ في

(1)

السَّمِيطُ: الآجر القائم بعضه فوق بعض. اللسان 7/ 324 (سمط). وجاء تفسيره في رواية عند رزين: لبنة على لبنة. وفاء الوفا 1/ 325.

(2)

أي: لبنة ونصف أخرى. وفاء الوفا 1/ 335.

(3)

أي: لبنتان مختلفتان. وفاء الوفا 1/ 335.

(4)

الإذخر: حشيش طيب الريح. اللسان 4/ 303 (ذخر).

(5)

أخرجه ابن زبالة، ومن غير طريقه: يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي في أخبار الْمَدينَة. ذكرهما السمهودي في الوفاء 1/ 335، 336. وسندهما منقطع.

وروى آخره عبد الرزاق 3/ 154، عن الثوري، بلاغاً. والبيهقي في دلائل النبوة 2/ 542، عن الحسن البصري، مرسلاً.

ص: 410

الدّورِ وَضَرَبَ الْحُجُرَاتِ مَا بَينَهُ وبينَ القِبلَةِ والشَّرقِ إلى الشَّامِ ولم يَضربهَا في غَربيهِ وَكَانَت خَارِجَةً من الْمَسجِدِ مُدِيرَةً به إلا من المغرِبِ وَكَانَت أبوابهَا شَارِعَةً في الْمَسْجِدِ

(1)

.

ـ وعن محمد بن شهاب قال: ثمَّ نزلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في بَيتِ أبي أيوب، يَنزلُ عليهِ القرآنُ، ويَأمرهُ جبريلُ فيهِ بَأمرِ الله عز وجل حتى ابتَنَى مَسْجِدَهُ. ومَسكنهُ كان مِرْبَدَاً لِغُلامَينِ يَتيمَينِ

(2)

.

ـ وقال رافع بن عَمرو: وقد كَانَ رِجَالٌ من الْمُسلِمين يُصَلُّونَ في ذلك المِرْبَدِ قَبلَ قُدومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدينَة.

ـ قال محمد بن سعد: بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ فَطَفِقَ هو وأصحَابُهُ يَنْقُلُونَ اللَّبِنَ وهو / 159 صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مع أصحَابه وهم يقولون:

هَذَا الْحِمَالُ لا حِمَالَ خَيْبَرْ

هَذَا أَبَرُّ رَبِّنَا وَأَطْهَرْ

وَيَقُولُ:

اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إلا خَيْرُ الآخِرَهْ

فَارحم الأنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ

وعَمِلُوا

(3)

ودَأبوا فقالَ قَائِلٌ من المسلمين وهم يعملون في الْمَسْجِدِ:

لَئِنْ قَعَدْنَا والنبيُّ يَعْمَلُ

ذَاكَ إذاً للعَمَلُ الْمُضَلَّلُ

ـ زاد رَزِين

(4)

: وكان رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ اللَّبِنَ مَعَهُم ويقولُ:

هَذَا الْحِمَالُ لا حِمَالَ خَيْبَرْ

هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ

(1)

ذكره مختصراً ابن النجار ص 120 منسوباً إلى أهل السير.

(2)

أخرج نحوه ابن إسحق (ابن هشام 2/ 137).

(3)

كتب على الهامش بخط الناسخ: أسطوانة الوفود.

(4)

في الأصل بزيادة: (ابن).

ورَزِين هو: أبو الحسن رَزِين بن معاوية بن عمار العبدري الأندلسي السقسطي. صاحب كتاب: تجريد الصحاح. الصلة 1/ 186 - 187. سير 20/ 204،206.

ص: 411

ولَقِيَهُ رَجُلٌ وهو يَنْقُلُ التُّرَابَ فقالَ: يَا رَسُولَ الله نَاولني لَبِنَتَكَ أحملها عنك قال صلى الله عليه وسلم اذهب فخُذْ غَيرَهَا فلَستَ بأفقرَ منِّي إلى الله تعالى.

قال: وَجَاءَ رَجُلٌ يُحسِنُ عَجْنَ الطين وكان من حَضْرَمَوْتَ فقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ الله امرءاً أحسَنَ صَنْعَتَهُ، وقال له: الزَمْ أنتَ هذا الشغلَ فإني أراكَ تُحْسِنُهُ»

(1)

.

ـ وعن أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها قالت: بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ، فَقَرَّبَ اللَّبِنَ ومَا يَحتَاجُونَ إليهِ، فَقَامَ إليهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ رِدَاءهُ، فَلمَّا رَأى ذلك المهَاجِرونَ الأَوَّلونَ والأنصارُ رضي الله عنهم جَعَلوُا يَرتَجِزُونَ ويَقُولونَ ويَعمَلُونَ:

لَئِنْ قَعَدْنَا والنبيُّ يَعْمَلُ

ذَاكَ إذاً للعَمَلُ الْمُضَلَّلُ

قال: وَكَانَ عُثمَانُ بنُ عَفَّان رضي الله عنه رَجُلاً نَظِيفَاً مُتَنَظِّفَاً، وَكَانَ يَحمِلُ اللَّبِنَةَ فَيُجَافي بها عن ثَوبِهِ، فإذا وَضَعَهَا نَفَضَ كُمَّيهِ ونَظَرَ إلى ثَوبِهِ فإن كان أَصَابَهُ شَيءٌ من التُّرَابِ نَفَضَهُ، فَنَظَرَ إليه عَليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه فَأنشأ يقولُ:

لا يَسْتَوي مَنْ يَعْمُرُ الْمَسَاجِدَا

يَدأَبُ فيها قَائِمَاً وقَاعِدَاً

ومَنْ يُرَى عن الغُبَارِ حَائِدَاً

(1)

أخرجه رزين في تجريد الصحاح (جامع الأصول 11/ 184). قال الذهبي: أدخل رزين في كتابه زيادات واهية، لو تنزه عنها لأجاد. سير أعلام النبلاء 20/ 205.

وأخرج الإمام أحمد في المسند رقم: 5/ 456 من حديث طلق بن علي بن المنذر قَالَ جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ قَالَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ عَمَلُهُمْ قَالَ فَأَخَذْتُ الْمِسْحَاةَ فَخَلَطْتُ بِهَا الطِّينَ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ أَخْذِي الْمِسْحَاةَ وَعَمَلِي فَقَالَ دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ. وأخرجه بنحو هذا ابن حبان الإحسان 2/ 224، والطبراني في الكبير 8/ 398.

ص: 412

قال: فَسَمِعَهَا عَمَّارُ بنُ يَاسر رضي الله عنه [فَجَعَلَ يَرتَجِزُ بها]

(1)

وهو لا يَدرِي مَنْ يَعْنِي بها، فَمَرَّ بعُثمَان رضي الله عنه فقال: يَا ابنَ سُمَيَّة ما أعرَفَنِي بمن تُعَرِّض، ومَعَهُ جَرِيدَة وقال: لَتُكَفَّنَّ بها أو لأعتَرِضَنَّ بها وَجهَكَ، فَسَمِعَهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو جَالسٌ في ظِلَّ بَيتي فَغَضِبَ ثمَّ قال:«إنَّ عَمَّارَاً جِلْدَةُ مابَينَ عَيني وأَنفي فإذا بَلَغَ ذلك مِنَ المرءِ فَقَد بَلَغ» ، وَوَضَعَ يَدَهُ بَينَ عَينيهِ، فَكَفَّ النَّاسُ عن ذلك، ثمَّ قالوا لعَمَّار: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد غَضِبَ فيك، ونَخَافُ أن يَنزلَ فينا قُرآن، فقال رَضيَ الله تعالى عَنه: أنا أُرْضِيهِ كمَا غَضِبَ، فَأتَاهُ، فقال: يَا رَسُولَ الله مَالي ولأصحَابِكَ؟ قال: مَالَكَ ولَهُم؟ قال: يُريدونَ قَتلي، يَحمِلُونَ لَبِنَةً لَبِنَةً / 160 ويَحمِلُونَ عَليَّ اللبِنَتَيْنِ والثلاث، فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم بيَدِهِ فَطَافَ بهِ في الْمَسجِدِ، وَجَعَلَ يَمسَحُ وَفْرَتَهُ

(2)

من التُّرَابِ ويقولُ: «يا ابنَ سُمَيَّة لا يَقتُلُكَ أَصحَابي، ولكن تَقتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ»

(3)

ـ قال رَافع بن عَمرو: ضَرَبَ لَبِنَهُ من بَقيعِ الْخَبْجَبَةِ

(4)

وَجَعَلَ أَسَاطِينَهُ

(1)

سقط مابين المعقوفين في الأصل، والمثبت من وفاء الوفا 1/ 330.

(2)

الوَفْرَةُ: الشعر المجتمع على الرأس، أو ماسال على الأذنين منه، أو ماجاوز شحمة الأذن. القاموس (وفر) ص 493.

(3)

أخرجه ابن زبالة، ومن طريقه يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي. (وفاء الوفا 1/ 329). مداره على ابن زبالة، وابن زبالة متهم بالكذب.

وأخرج نحوه ابن إسحق (ابن هشام 2/ 138). وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عِندَمَا حَدَّثَ عَنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ. فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ:«وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ» .

أخرجه البخاري، في الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد، رقم: 447، 1/ 644.

(4)

بقيع الخبجبة: بفتح الخاء المعجمة، والباء الموحدة، وفتح الجيم والباء بعدها. الباب الخامس من المغانم. القاموس (بقع) ص 704. وهو شجر عرف به هذا الموضع، ويقع يسار بقيع الغرقد. المعالم الأثيرة ص 52.

ص: 413

خَشَبَاً شَقة شَقة، وَجَعَلَ وَسَطَهُ رَحبة، وبَنَى بَيتَين لزَوجَتَيهِ يعني عَائِشَة وَسَودَة رضي الله عنهما

(1)

.

وقد ذكرنا تفسير الْخَبْجَبَةِ في حرف الباء من الباب الخامس

(2)

.

ـ وفي لفظ: كانوا يَنقُلونَ لَبِنَةً لَبِنَة، وَعَمَّارُ رضي الله عنه اثنَتَين؛ لَبِنَةً لَنفسِهِ، وَلَبِنَةً لرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَامَ إليه رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أو مَسَحَ ظَهرَهُ فقال:«يا ابنَ سُمَيَّة لكَ أجرَان وللنَّاسِ أجرٌ أجر، وآخِرُ زَادِكَ من الدُّنيَا شَربَةُ لَبَن، وتَقتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ»

(3)

ـ وعن جَرير بن مُحَمَّد الثَّقَفي قال: بَينَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبني في أَسَاسِ مَسجِدِ المدينَةِ وَمَعَهُ أبو بَكر وعُمر وعُثمان رضي الله عنهم فَمَرَّ به رَجُلٌ فقالَ: يَا رَسُولَ الله مَا مَعَكَ إلا هؤلاء الرهط؟ فقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَؤلاءُ وُلاةُ الأمرِ من بَعدي

(4)

.

(1)

أخرجه بمعناه يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي في أخبار الْمَدينَة، من طريق عبد العزيز بن عمر، عن يزيد بن السائب، عن خارجة بن زيد بن ثابت. (وفاء الوفا 1/ 334).

(2)

في الأصل: (الثالث)، والمثبت هو الصواب.

(3)

من حديث أم سلمة: أخرجه يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي في أخبار الْمَدينَة. وفاء الوفا 1/ 331)، والبيهقي في دلائل النبوة 2/ 550.

وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه البخاري، في الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد، رقم: 447، 1/ 644.

وللجزء الأخير شاهد آخر من حديث أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ قَالَ عَمَّارٌ يَوْمَ صِفِّينَ ائْتُونِي بِشَرْبَةِ لَبَنٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «آخِرُ شَرْبَةٍ تَشْرَبُهَا مِنَ الدُّنْيَا شَرْبَةُ لَبَنٍ فَأُتِيَ بِشَرْبَةِ لَبَنٍ فَشَرِبَهَا ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقُتِلَ» . أخرجه أحمد 18123.

(4)

أخرجه بهذا اللفظ ابن زبالة كما في وفاء الوفا 1/ 332.

وروي من طريق آخر من حديث سفينة مولى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المسجِدَ جَاءَ أبو بَكرٍ رضي الله عنه بحَجَرٍ فوَضَعَهُ ثُمَّ جَاءَ عُمَر بحَجَرٍ فوَضَعَهُ ثُمَّ جَاءَ عُثمان بحَجَرٍ فَوضَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَؤلاءِ وُلاةُ الأمرِ مِنْ بَعدِي» . أخرجه الحاكم 3/ 14، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 553.

ص: 414

ـ وعن مجاهد قال: رآهم رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهم يحملون الحجارة على عمار بن ياسر رضي الله عنه وهو يبني المسجد فقال: «مالهم ولعمار؟ يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وذلك فعل الأشقياء الأشرار»

(1)

.

ـ وعن داود بن قيس قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ أَسَاسَ المسجِدِ حينَ وَضَعَهُ وجبريلُ قائِمٌ يَنظرُ إلى الكعبَةِ قد كَشَفَ ما بَينَهُ وَبَينَهَا

(2)

ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت قبلة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الشام، وكان مُصَلاهُ الذي يُصلي فيهِ بالنَّاسِ إلى الشاَّمِ أن تَضَعَ مَوضَعَ الأسطوانَةِ الْمُخَلَّقَةِ اليومَ خَلفَ ظَهرِكَ وتَمشي إلى الشَّامِ، حتى إذا كنتَ بفناءِ بابِ آلِ عُثمانَ كانت

(3)

قِبلَةُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضعِ

(4)

.

وأحاديث تحويل القبلة ذكرناها في ترجمة مسجد القبلتين

(5)

فلا حاجة إلى إعادتها.

(1)

أخرجه ابن زبالة، ويحيى. (وفاء الوفا 1/ 331). إسناده معضل.

(2)

سنده مرسل ساقه السمهودي بهذا اللفظ من رواية ابن عجلان في وفاء الوفا 1/ 366.

ورواه الزبير بن بكار، عن محمد بن الحسن، بسنده، عن داود بن قيس، عن أبيه، بلاغاً، كما ذكر السيوطي في الحجج المبينة، ص 52 - 53.

وفي سنده: محمد بن الحسن.

(3)

في الأصل: (فكانت).

(4)

رواه ابن النجار من حديث الزبير بن بكار، عن محمد بن الحسن بن زبالة، به. الدرة الثمينة 116.

(5)

في الباب الخامس.

ص: 415

ـ وذكر البيهقي المسجدَ فقال: كانَ جِدَارَاً مُجدراً ليسَ عليه سَقفٌ وقِبلته إلى القدسِ وكان أسعد بن زرارة رضي الله عنه بَنَاهُ، وكان يصلي بأصحابه فيه ويُجَمِّعُ بهم فيه الجمعة قبل مَقْدَمِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فأمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالنخلِ التي في الحديقةِ [و]

(1)

بالغَرْقَدِ أن يُقْطَعَ، وكان فيه قُبورٌ جَاهِليَّة فأمَرَ بها فَنُبِشَتْ، وَأَمَرَ بالعظام أن تُغَيَّبَ، وكان في المربَدِ مَاءٌ مِسْحَل

(2)

فَسَيَّرُوُهُ حتى ذَهَبَ المِسْحَلُ بمسرَبِ المطرِ

(3)

ـ /161 وذكر ابن النجار وغيره أن حُدودَ مَسْجِدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الأوَلِ من جهةِ القِبلةِ الدَّرَابزينَاتُ التي بين الأسَاطين التي في قِبلَةِ الرّوضَةِ، ومن الشَّامِ الخشَبَات المغروزاَت في صَحنِ المسجِدِ، هذا طولُهُ.

وأما عَرضُهُ من المشرقِ إلى المغربِ فهو من حُجرَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الأسطوانَةِ التي بَعدَ المنبَرِ وهو آخرُ البلاطِ

(4)

.

ـ قال الشيخ جمال الدين المطري: إن الدَّرَابزينَات التي ذكر من جهة القبلة متقدمة عن موضع الحائط القبلي إلا أن الحائط القبلي كان مُحَاذياً لِمُصَلَّى

(1)

سقطت من الأصل، وأثبتها كما في وفاء الوفا 1/ 326.

(2)

المِسْحَل: ماء مطر مجتمع. القاموس (سحل) ص 1014.

(3)

لم أقف عليه من رواية البيهقي. وذكره السمهودي في وفاء الوفا 1/ 326 نقلاً عن (المغانم: 410)، وقال: لم أره في المعرفة للبيهقي ولا في السنن الكبير، ولا في الدلائل.

وفي الباب عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدينَة فَنزلَ أَعْلَى الْمَدِينَة، وفيه: فَقَالَ أَنَسٌ فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ خَرِبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ. أخرجه البخاري، في الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، رقم:428، 1/ 624. ومسلم، في المساجد ومواضع الصلاة، باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم رقم: 524، 1/ 373.

(4)

الدرة الثمينة 170 - 171.

ص: 416

رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لما وَرَدَ أن الواقفَ في مُصَلَّى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم تكون رمانة المنبرِ الشريف حذو منكبهِ الأيمن، فمَقَامُ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُغيَّر باتفاق، وكذلك المنبرُ لم يُؤخر عن مَنصبِهِ الأول، وإنما جعل هذا الصندوق الذي في قِبلَةِ مُصلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم سُتْرَةً بينَ المقامِ وبينَ الأسطوانَاتِ

(1)

.

ووَرَدَ أيضاً أنهُ كَانَ بين الحائطِ القِبليّ وبَينَ المنبَرِ مَمَرُ الشَاةٍ

(2)

، وبَينَ المنبَرِ والدرَابزين اليومَ نحو أربَعَةِ أذرعٍ ورُبْع

(3)

.

وفي صَحنِ المسجِدِ الشّرِيفِ حَجَرَانِ نَاتِئَانِ من بَينِ الرّملِ يُذكَرُ أنهما حَدُّ مَسْجِدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم من الشَّامِ والمغرِبِ، ولكنهُمَا ليسَا على سَمتِ المنبِر الشَّريفِ، بل هُما دَاخِلانِ عن سَمتِهِ إلى جَهةِ الشَّرقِ بمقدَارِ أربَعِ أذرُعٍ أو نحوها، وكذلك مُتَقَدِّمَانِ إلى القِبلَةِ عن الذرعِ الأوَلِ

(4)

.

ـ قال الشيخ جمال الدين المطري: اعتبرت ذلك فوجدته [ليس]

(5)

كذلك

(6)

.

وذكرَ ابن النجار أن طولَ مَسْجِدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم اليومَ ـ بعد الزيادات كلها ـ

(1)

التعريف بما آنست الهجرة 30.

(2)

عن سَلَمَة بن الأكوَعِ رضي الله عنه قال: كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مَا كَادَتِ الشَّاةُ تَجُوزُهَا. أخرجه البخاري، واللفظ له، في الصلاة، باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة، رقم: 497، 1/ 684. وأخرجه مسلم، في الصلاة، باب دنو المصلي من السترة، رقم: 508، 1/ 364، بلفظ: كَانَ بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْقِبْلَةِ قَدْرُ مَمَرِّ الشَّاةِ. وأخرجه أبو داود، في الصلاة، باب موضع المنبر، رقم: 1075، 2/ 100 بلفظ: قَالَ كَانَ بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْحَائِطِ كَقَدْرِ مَمَرِّ الشَّاةِ.

(3)

التعريف بما آنست الهجرة 30.

(4)

السابق ص 30.

(5)

سقطت من الأصل، وأثبتها من التعريف 30، ووفاء الوفا 1/ 234.

(6)

التعريف 30.

ص: 417

مائتا ذِرَاعٍ وأربَعٌ وخَمسُون ذِرَاعَاً، وَعَرضُهُ من مُقدمهِ من المشرِقِ إلى المغرِبِ مائةُ ذِرَاعٍ وَسَبعونَ ذِرَاعَاً، وَعَرضُهُ من مُؤخرهِ مائةُ ذِرَاعٍ وخَمسةٌ وَثَلاثونَ ذِرَاعَاً ينقص مؤخره عن مقدمه خمسة وثلاثون ذِرَاعَاً، كل ذلك تقريبٌ

(1)

.

ـ وروى ابن النَجَّار أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَنَى مَسْجِدَهُ مُرَبَّعَاً وَجَعَلَ قِبلَتَهُ إلى بَيتِ المقدِسِ، وجَعَلَ طُولَهُ سَبعينَ ذِرَاعَاً في عَرضِ ستينَ ذِرَاعَاً أو يَزيد، وجَعَلَ له ثَلاثَةَ أبوابٍ، باباً في مُؤخرهِ، وبَابُ عَاتِكَة وهو بابُ الرحمةِ، والبابُ الذي كان يَدخلُ منهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو بابُ عُثمان، ولما صُرِفَت القِبلَةُ إلى الكَعبةِ سَدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم البَابَ الذي كان خَلفَهُ، وفَتَحَ باباً حِذَاهُ أي تُجَاهَهُ، وكان الْمَسْجِدُ لهُ ثلاثةُ أبوابٍ: خلفهُ، وباب عن يمينِ المصَلي، وباب عن يَسَارِهِ

(2)

.

ـ قال أهل التاريخ: لم يَزد أبو بَكر رضي الله عنه في الْمَسْجِدِ شيئاً /162 لأنه اشتغل بالفتح ثانياً فلمَّا وَليَ عُمَر رضي الله عنه قال: إني أريدُ أن أزيِدَ في الْمَسْجِدِ ولولا أني سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: يَنبغي أن يُزادَ في الْمَسْجِدِ مَا زِدتُ فيهِ شَيئاً

(3)

.

ـ وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: إنَّ النَّاسَ في عَهدِ عُمَر رضي الله عنه قالوا: يَا أمِيرَ المؤمنينَ لو وَسَّعتَ في الْمَسْجِدِ فَزَادَ فيه عُمَرُ رضي الله عنه وأدخَلَ فيه دَارَ العبَّاسِ رضي الله عنه فَجَعَلَ طولَهُ مائةً وأربعينَ

(4)

ذِرَاعَاً،

(1)

التعريف 30 - 31، الدرة الثمينة 169.

(2)

الدرة الثمينة 114.

(3)

أخرجه أحمد 1/ 47، من حديث عبد الله بن عمر العمري عن نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه زَادَ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الأسْطُوَانَةِ إِلَى الْمَقْصُورَةِ وَزَادَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لَوْلا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ نَبْغِي نزيدُ فِي مَسْجِدِنَا مَا زِدْتُ فِيهِ. وفي سنده: عبد الله بن عمر العمري: ضعيف. التقريب (3489) ص 314.

(4)

في الأصل: (وأربعون).

ص: 418

وَعَرضَه مائةً وَعشرينَ، وَبَدَّلَ أَسَاطِينَهُ بأُخَرَ مِنْ جُذُوعِ النَّخلِ كَمَا كَانَت على عَهدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَسَقفَهُ بجَرِيدٍ، وَجَعَلَ سُتْرَةَ الْمَسْجِدِ فَوقَهُ ذِرَاعينِ أو ثَلاثَةً، وَكانَ بَنَى أَسَاسَهُ بالحجَارَةِ إلى أن بَلَغَ قَامَةً، وَجَعَلَ له سِتَّةَ أبوابٍ؛ بَابَينِ عن يَمينِ القِبلَةِ، وبَابَينِ عن يَسَارِهَا، وبَابَينِ خَلفَهَا

(1)

.

فلمَّا فَرَغَ من زيادته قال: لو انتهى بِنَاؤُهُ إلى الجبَّانَةِ لكانَ الكُلُّ مَسْجِدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقال أبو هُرَيرَة رضي الله عنه يَرفعهُ: «لو زِيدَ في هذا الْمَسْجِدِ ما زِيدَ كَانَ الكُلُّ مَسْجِدِي»

(3)

.

وفي لفظ: «مازيد في مَسْجِدِي فهو منهُ ولو بَلغَ ما بَلغ» . قال أبو هريرة رضي الله عنه: فلو مُدَّ إلى بَابِ دَارِي مَا عَدَوتُ الصَّلاةَ فيهِ

(4)

.

ـ وعن ابن أبي ذئب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو مُدَّ مَسْجِدُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الْحُلَيفَةِ لكانَ مِنهُ

(5)

.

(1)

أخرجه بنحوه الزبير بن بكار، عن محمد بن الحسن بن زبالة، (الدرة الثمينة 151). وأخرجه يحيى بن جعفر العلوي في أخبار الْمَدينَة، ورزين، (ذكرهما السمهودي في وفاء الوفا 1/ 495).

(2)

رواه ابن شبة، ويحيى، كلاهما من طريق عبدالعزيز بن عمران، عن مليح بن سليمان، بسنده. (الوفا 1/ 496_497) وعبدالعزيز بن عمران متروك.

عبدالعزيز بن عمران: متروك.

(3)

رواه بمعناه يحيى بن جعفر العلوي، عن هارون بن موسى، عن عمر بن أبي بكر الموصلي، عن ثقات من علمائه، مرفوعاً. ساقه السمهودي في وفاء الوفا 2/ 497.

وقال: وهو منقطع.

(4)

رواه ابن شبة، ويحيى، والديلمي (الوفا 2/ 497).

وقال: فيه متروك.

(5)

رواه يحيى، من طريق محمد بن الحسن، بسنده، عن ابن أبي ذئب، به. (الوفا 1/ 497). سنده معضل، وفيه محمد بن الحسن هو ابن زبالة. ورواه ابن شبة من طريق أبي غسان المدني، بسنده، عن ابن أبي ذئب. وسنده معضل أيضاً.

ص: 419

ـ قال أهل السير: زَادَ عُمَرُ رضي الله عنه من جهةِ القِبلَةِ إلى مَوضعِ الْمَقْصُورَةِ اليومَ

(1)

، وزَادَ عن يَمينِ القِبلَةِ وذَكَرَ الأذرعَ المتقدمةَ، قال: وَجَعَلَ طُولَ الْمَسْجِدِ مائةً وأربعين

(2)

ذراعاً، وجَعَلَ طُولَ السَّقفِ أَحدَ عَشَرَ ذِرَاعَاً، وسقفهُ جَريدٌ ذِرَاعان

(3)

.

ـ وعند رزين: كانَ سَقفُ الْمَسْجِدِ من جَريدِ النَّخلِ فَأَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه في خِلافَتِهِ

بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وقال: أَكِنَّ

(4)

النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ.

(5)

ولم يَزلْ كذلك إلى سَنةِ أربعٍ من خِلافَةِ عُثمَانَ رضي الله عنه فَكَلَّمَهُ النَّاسُ أن يَزيدَ في مَسْجِدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وشَكوا إليه ضِيقَهُ فَشَاوَرَ عُثمَانُ رضي الله عنه أهلَ الرَأي فَأشَارُوا عليهِ بذلكَ فصعدَ المنبَرَ فخَطَبَ ثمَّ أعلمَهُم بذلك كالْمُستَشيرِ والْمُعْلِمِ لَهُم بما يُريد، قال: وقد تَقَدَّمَني إلى مثلِ ذلك عُمَرُ بن الخطابِ رضي الله عنه، فَحَسَّنُوا لهُ ذلك وَدَعَوا لهُ، فَدَعَا العُمَّالَ وَجَدَّ فيه، فأَمَرَ بالقَصَّةِ

(6)

وَجَعَلَ العُمُدَ حِجَارَةً مَنقُوشَةً وَسَقَفَهُ سَاجَاً وَجَعَلَ طُولَهُ مائةً وستينَ

(1)

أخرج الإمام أحمد 1/ 47، من حديث عبد الله بن عمر العمري عن نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه زَادَ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الأسْطُوَانَةِ إِلَى الْمَقْصُورَةِ. وفي سنده: عبد الله بن عمر العمري: ضعيف. التقريب (3489) ص 314.

(2)

في الأصل: (وأربعون).

(3)

: الدرة الثمينة 151، تحقيق النصرة 47.

(4)

الكِنُّ: مايردُّ الحرّ والبرد من الأبنية والمساكن. النهاية (كنن) 4/ 206.

(5)

أخرجه البخاري، تعليقاً، في الصلاة، في ترجمة باب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ 1/ 642، من حديث أبي سلمة، عن أبي سَعِيد الخدري.

(6)

القَصَّة: الْجَصُّ، لغة حجازية، وقيل: الحجارة من الْجَصِّ. اللسان 7/ 76 (قصص). قَالَ أبو داود: الْقَصَّةُ: الْجصُّ (فيه لغتان: فتح الجيم، وكسرها). السنن 452. وقال الخطابي: تشبه الجص وليست به. فتح الباري 1/ 643.

ص: 420

ذِرَاعَاً وعرضهُ مائةً وخَمسين ذِرَاعَاً وجعلَ الأبوابَ سِتةً كَمَا كَانَت

(1)

.

ـ وعند البخاري عن / 163 ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: كان الْمَسْجدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبْنِيّاً بِاللَّبِنِ وَسَقفهُ بالْجَرِيدِ وَعَمَدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه شَيْئاً وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ رضي الله عنه وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَباً ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه وزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَبيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ وَجَعَلَ عَمَدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ

(2)

.

ـ قال: فرفع بِالآجُرِّ في سنن أبي داود ولفظه: إنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كَانَتْ سَوَارِيهِ مِنْ جُذُوعِ

(3)

النَّخْلِ أَعْلاهُ مُظَلَّلٌ بِجَرِيدِ النَّخْلِ ثُمَّ إِنَّهَا نَخِرَتْ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَبَنَاهَا بِجُذُوعِ النَّخْلِ وجَرِيدِ النَّخْلِ ثُمَّ إِنَّهَا نَخِرَتْ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَبَنَاهَا بِالآجُرِّ فَلَمْ تَزَلْ ثَابِتَةً حَتَّى الآنَ

(4)

.

ابتَدَأَ به عُثمَانُ في شَهرِ رَبيعِ الأولِ سَنَةَ تَسعٍ وعشرين، وَفَرغَ منهُ في هِلالِ المحرَّمِ سَنَةَ ثَلاثين، وَزَادَ من القِبلَةِ إلى مَوضعِ الجدَارِ اليومَ، وَزَادَ فيه من المغربِ أسطواناً بعدَ الْمُربَّعَةِ، وهي الأسطوانَةُ التي في القِبلَةِ والتي رُفِعَ أسفلهَا مُرَبَّعَاً قَدرَ الجلسةِ، وهي مُنتَهَى زِيَادَةِ عُثمانَ رضي الله عنه من المغرِبِ، وقبالَةَ الأسطوانةِ التي زَادَهَا عُثمَانُ رضي الله عنه في الحائِطِ طِرَازٌ آخر من العصابَةِ السُّفلى إلى سَقفِ الْمَسْجدِ، وهو حَدُّ زِيادَةِ عُثمَانَ رضي الله عنه، وزَادَ من

(1)

أخرج أوله البخاري تعليقاً، وقد تقدم تخريجه معلقاً وموصولاً، وسيأتي في الرواية التالية تخريج معظمه عند البخاري وأبي داود. وأخرجه بهذا اللفظ ابن زبالة، ومن طريقه يحيى، (تحقيق النصرة 47).

(2)

أخرجه البخاري، في الصلاة، باب بنيان المسجد، رقم: 446، 1/ 643.

(3)

في الأصل: (جريد). بدل: جذوع. والمثبت من سنن أبي داود، وهو الصواب.

(4)

أخرجه أبو داود، في الصلاة، باب في بناء المساجد، رقم: 453،1/ 368.

ص: 421

الشَّامِ خَمسينَ ذِرَاعَاً وَلم يَزد فيهِ من المشرقِ شَيئاً، وَبَنَى المقصُورَةَ بلَبِنٍ مَطبُوخٍ، وَجَعَلَ فيهِ طياقَاً يَنظرُ النَّاسُ منها إلى الإمامِ، وكان يُصلي فيها خَوفَاً من الذي أصَابَ عُمَر رضي الله عنه، وكانت صَغيرَةً، وَجَعَلَ في عُمُدِ الْمَسْجدِ أعمدةَ الحديدِ فيها الرَّصَاصُ، وبَاشَرَ رضي الله عنه العَملَ بنفسهِ، وَكانَ يَصومُ النَّهارَ ويَقومُ الليلَ، وكانَ لا يَخرجُ من الْمَسْجدِ

(1)

.

[وَبَقيَ]

(2)

كذلك إلى أيامِ الوَليدِ فبَعَثَ بمَالٍ جَزيلٍ إلى عُمَرَ بن عَبد العَزيز رضي الله عنه وَكان عَامِلَهُ على مَكَّةَ وَالمدِينَة آنذاك وَقالَ لهُ: زِدْ في الْمَسْجدِ، ومَنْ بَاعَكَ فأعطهِ ثَمَنهُ، ومَنْ أبى فاهدِمْ عَليهِ وأعطهِ المالَ، فإن أَبى أن يَأخُذَهُ فأعطهِ إلى الفقرَاءِ

(3)

.

وأرسَلَ الوليدُ إلى مَلكِ الرومِ يَقولُ لهُ: إنَّا نُريدُ أن نعمرَ مَسْجدَ نَبِيِّنَا الأعظم، فَأعِنَّا بعُمَّالٍ وفُسَيْفُسَاء، فَبَعَثَ إليه بضعةً وعشرينَ عَامِلاً، وقيل: بعَشَرَةٍ من العُمَّالِ، فَكَتَبَ: أنْ قَد بَعثتُ إليكَ بعَشَرَةٍ من العُمَّالِ يَعدِلونَ مائةً، وقيل: بَعَثَ بثَمانينَ عَامِلاً؛ أربَعينَ مِنَ الرُّومِ، وأربَعينَ من القِبط، وبثمَانينَ ألفَ مِثقَال، / 164 وبأحمَال من الفُسَيْفُسَاء، وبأحمَال من سَلاسَلِ القَناديلِ، فاشترَى عُمَرُ بن عَبدِ العَزيزِ رضي الله عنه الدُّورَ وأدخَلهَا مَعَ حُجُرَاتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجدِ وأدخَل القبرَ الشَّريفَ فيهِ فبَينَمَا أولئكَ العُمَّال من الرومِ يَعمَلونَ يَومَاً خَلا لهمُ المَسْجِد فقالَ وَاحدٌ لأصحابه: لأبُولَنَّ على قبرِ نَبيهم فَنَهَوهُ فَأبَى وَتَهيأ لذلك فألقيَ على رَأسهِ، فانتَثَرَ دِمَاغُهُ، فَأَسلَمَ بعضُ أولئكَ العُمَّال.

(1)

انظر: تحقيق النصرة 47 - 48، الدرة الثمينة 155 - 156، وفاء الوفا 2/ 500 - 512.

(2)

طمس في الأصل.

(3)

تحقيق النصرة 49، وفاء الوفا 2/ 513. وكلاهما نقلاً عن رزين.

ص: 422

وَكانَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ رضي الله عنه خَمَّرَ النورةَ التي تعمل بها الفسيفساء سنة، وجعل العُمُدَ حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص.

وكان أولئك الروم يَصنعون بالفُسيفسَاءِ في الحيطان قُصورَاً وأشجَارَاً وقال بعض أولئك العُمَّال الذين عملوا الفسيفساء إنا عملناه على ما وجدنا من صور شجر الجنة وقصورها، وكان إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء فأحسن عملها نفله ثلاثين درهماً.

صور أحدهم في القبلة خِنزيراً فأمر به عمر رضي الله عنه فضربت عنقه.

ووضع عمررضي الله عنه القبلة بعد أن دعا مشيخة أهل الْمَدينَة من قريش والأنصار والعرب والموالي فقال: احضروا قبلتكم، فوضعوها على ما كانت عليه لا ينزع حجراً إلا وضع حجراً مكانه

(1)

.

وجعل للمسجد أربع منارات في كل ركن واحدة، وفرغ من بنائه في ثلاث سنين، وكانت المنارة الرابعة مطلة على دار مروان، فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن، فأطل على سُليمان وهو في الدَّارِ فأمَرَ بتلكَ المنارة فهدمت إلى ظهر المَسْجِد، ولم يَزل الْمَسْجدُ الشريفُ على ثلاث منارات إلى سنة ست وسبعمائة، فإنه أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بإنشائها.

وأدخل عمر بن عبد العزيز بيت فاطمة بنت رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وهو شمالي بيت عائشة رضي الله عنها الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وبنى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على بيت عائشة رضي الله عنها حائطاً، لم يوصلهُ إلى سَقفِ الْمَسْجدِ، بل دوين السقف بمقدار

(1)

رواه ابن زبالة، عن محمد بن عمار، عن جده، به. ذكره ابن النجار في الدرة ص 159، والسمهودي في وفاء الوفا 2/ 520.

ص: 423

أربعة أذرع، وأدار عليه شباكاً من خشب من فوق الحائط إلى السقف يراه المتأمل من تحت الكسوة التي على الحجرة المقدسة، وجعل للحجرة الشريفة خمسة أركان مُخمَّسَة.

قلت: وشكلها شكل عجيب لا يكاد يتأتى تصويره ولا تمثيله، يقال إن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه اخترع ذلك في تدبير بنائها مخافة أن يتخذها الناس مصلى، فإن الصفحات الأربع محرفة عن القبلة / 165 تحريفاً بديعاً لا يتأتى معه لأحد استقبالها في صلاته لأنه ينحرف عن القبلة.

وسعة الصفحة القِبلية منها أربعة وأربعون شبراً، وسعة الصفحة الشرقية ثلاثون شبراً، وما بين الركن الشرقي إلى الركن الجوفي صفحة سعتها خمسة وثلاثون شبراً، ومن الركن الجوفي إلى الركن الغربي صفحة سعتها تسعة وثلاثون شبراً، ومن الركن الغربي إلى القِبلي أربعة وعشرون شبراً، وفي هذه الصفحة صندوق آبنوس، مختم بالصندل

(1)

، مصفح بالفضة مكوكب بها، هو قبالة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أسطوان، وخلفه محراب، وفوق الصندوق قائم من خشب مجدد.

وأما الصندوق فطوله خمسة أشبار وعرضه ثلاثة أشبار وارتفاعه في الهواء أربعة أشبار. فجميع الحجرة الشريفة سعتها من جميع جهاتها مائة شبر واثنان وسبعون شبراً، وهي مؤزرة بالرخام البديع النحت الرائق النعت، ومنتهى الإزار منها إلى نحو الثلث أو أقل شبراً، وهي مقدار قامة وبسطة، وهو مما فاز بفعله جمال الدين الجواد الأصفهاني ذو المراتب المأثورة، وقد كان سبقه إليه المتوكل بالله فإنه أول من أزر الحجرة الشريفة بالرخام فلما عَتُق ذلك جدده

(1)

كتب في الأصل: (بالصندوق)، ثم صححت:(بالصندل)، وكذا في وفاء الوفا 2/ 575 نقلاً عن المغانم.

ص: 424

جمال الدين الجواد، وهو باق إلى اليوم.

وتمام الكلام على كيفية وضع الحجرة الشريفة والقبور المقدسة في فصل الحوادث التي حدثت في الْمَسْجدِ الشريف قريباً إن شاء الله تعالى.

ولَمَّا بَنَى عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ رضي الله عنه الْمَسْجدَ وَوَسَّعَهُ جُعِلَ لهُ عشرونَ باباً

(1)

، ثَمانية من جِهَةِ المشرِقِ، والبَابُ القِبليُّ منها سُميَ ببابِ النَبيِّ صلى الله عليه وسلم لكونِهِ مُقَابِلاً لبَيتِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لا لأمرٍ آخرَ، وقد سُدَّ عندَ تَجديدِ الحَائطِ، وجُعِلَ مَكانه شُبَّاكٌ يَقِفُ الإنسانُ عندَهُ من خَارج فيرى حُجرَةَ النَبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا الشباك يُقابِلهُ مَدفَنُ الجمال الجواد الأصفهاني

(2)

في رِبَاطِه الذي أنشأهُ هناك، خَصَّهُ الله تعالى بذلك، فيَتَنَشَّقُ من هذا الشباكِ الشريفِ رَحمَةً ورِضوَانَاً ورَوْحَاً ورَيحَاناً.

والثاني: بابُ عَلي رضي الله عنه، كان يُقابِلُ بَيتَهُ خَلفَ بَيتِ النَبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد سُدَّ أيضاً عندَ تَجديدِ الحائطِ.

والثالث: باب عُثمَان رضي الله عنه، وهو البابُ الذي وضِعَ قبالةَ البابِ الذي كان يدخلُ منهُ النَبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهو البابُ المعروفُ اليومَ ببَابِ جِبريلَ عليه السلام، ولم يَبقَ من الأبوابِ التي كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدخلُ منها إلا هذا الباب، وهذا أيضاً باعتبارِ أنهُ مُحَاذٍ لذلك الباب، مقابل له /166 لا أنه نفسه

(3)

، وهذا البابُ مُقابلٌ لِدَارِ عُثمانَ بن عَفان رَضيَ الله

(1)

كذا قال المطري ص 35، وتبعه المراغي ص 75، والمؤلف هنا، وهو وهم.

والحاصل أن المنقول في هذه الأبواب أنها إنما كانت في زيادة المهدي، وفاء الوفا 2/ 686.

(2)

جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني وزير بني زنكي، توفي سنة تسع وخمسين وخمسمائة. التعريف بما آنست الهجرة 35 - 36.

(3)

في الأصل: (أعسه)، ووضع الناسخ فوقها علامة توقف. ولعل المثبت هو الصواب.

ص: 425

عَنهُ، ومُقابلٌ أيضاً بميلٍ يَسيرٍ إلى الشَّمالِ للطريقِ السَّالكِ من بَابِ جِبريلَ عليه السلام إلى بَابِ الْمَدينَةِ الخارجِ منهُ إلى البَقيعِ، وكتبَ عَليهِ من خَارج بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم:{لقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}

(1)

الآيتين.

والرابع: باب رَيْطَة ابنة أبي العَبَّاس السَّفاح، ويُعرَفُ ببَابِ النِّسَاءِ، وسَبَبُ تَسميتهِ ببَابِ النِّسَاءِ ما رواه أبو دَاود عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ قَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ

(2)

.

وكتب عليه من خارج آية الكرسي إلى قوله تعالى: {لا انفِصَامَ لَهَا والله سَمِيعٌ عَليم}

(3)

، وكتب عليه من داخل بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم:{إنما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله}

(4)

إلى آخر الآية.

ودار رَيْطَة المقابل لهذا الباب كانت دار أبى بكر الصديق رضي الله عنه، ونقل أنه توفي فيها، وهي الآن مدرسة للحنفية بناها باركوج التركي أمير كان بالشام، وتعرف اليوم بالباركوجية وهو مدفون فيها

(5)

.

(1)

سورة التوبة آية 128.

(2)

أخرجه أبو داود، في الصلاة، باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال، رقم:463، 1/ 373. وباب التشديد في خروج النساء إلى المساجد، رقم:572،/421.

من طريق عبدالوارث، ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال أبو داود بعد مرفوعاً الرواية الأولى رقم 463: وقال غير عبدالوارث: قال عمر، وهو أصح.

وقال بعد الرواية الثانية رقم:572: رواه إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، قال: قال عمر، وهذا أصح. ا. هـ. أي أن الأصح روايته موقوفاً.

الرواية الموقوفة أخرجها أبو داود، في الصلاة، باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال، رقم:464،1/ 373. وسندها منقطع لأن نافعاً لم يدرك عمر ولا الواقعة.

(3)

سورة البقرة الآيتان 255 و 256.

(4)

سورة التوبة آية 18.

(5)

قال السمهودي في وفاء الوفا 2/ 731: والصواب أن دار أبي بكر كانت خلف المدرسة المذكورة في جهة المشرق.

ص: 426

والطريق إلى باب البقيع بينها وبين دار عثمان رضي الله عنه، وعرض الطريق نحو من سبعة أذرع.

الخامس: باب يقابل دار أسماء بنت الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم، وكانت لجبلة بن عمرو الساعدي الأنصاري، كانت بعضاً من داره، ثم صارت لسعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان

(1)

ثم صارت لأسماء المذكورة، وكتب عليه من خارج بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم {يَا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً}

(2)

الآية.

وكتب عليه من داخل بعد البسملة {يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده [ولا مولود هو جازٍ عن والده] شيئاً}

(3)

إلى آخر السورة.

وقد سد هذا الباب أيضاً عند تجديد الحائط الشرقي من المنارة الشرقية الشمالية إلى هذا الباب، في أيام الناصر لدين الله سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ودار أسماء المذكورة هذه رباط للنساء اليوم.

السادس: باب يقابل دار خالد بن الوليد رضي الله عنه وقد دخل في بناء الحائط المذكور، والدار المذكورة رباط للرجال اليوم، ومعها من جهة الشمال دار عمرو بن العاص، والرباطان المذكوران بناهما القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشَّهْرُزُوري

(4)

رحمه الله.

(1)

جمهرة أنساب العرب ص 95.

(2)

سورة الأحزاب آية 70.

(3)

سورة لقمان الآيتان 33 و 34.

(4)

كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبدالله بن القاسم الشهرزوري، ولد سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، ولي قضاء الموصل ودمشق، توفي سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. الكامل 11/ 180، سير 21/ 57 - 60.

ص: 427

وكتب على هذا الباب من داخل بعد البسملة {و إلهكم إله واحد}

(1)

الآيتين، ثم على إثرهما {وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب}

(2)

الآية. وعليه من خارج {وقالوا الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن}

(3)

الآية.

السابع: باب كان يقابل زقاق المناصع، بين دار عمرو / 167 بن العاص ودار موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومي، والزقاق اليوم ينفذ إلى دار الحسن بن علي العسكري رحمه الله، وكان الزقاق نافذاً إلى المناصع خارجاً عن الْمَدينَة، ودار موسى بن إبراهيم المخزومي اليوم رباط للرجال، أنشأه القاضي الفاضل محيي الدين أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن اللَّخْمي البَيْسَاني

(4)

.

ودخل هذا الباب في الحائط عند تجديده، وكان مكتوباً عليه من داخل بعد البسملة {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض}

(5)

الآيتين، ومن خارج بعد البسملة {ألهاكم التكاثر}

(6)

إلى آخر السورة.

الثامن: باب كان يقابل أبيات الصوافي - وهي دور كانت بين موسى بن إبراهيم المخزومي، وبين عبيد الله بن الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم-دخل في الحائط، وموضع هذه

(1)

سورة البقرة الآيتان 163 و 164.

(2)

سورة البقرة آية 186.

(3)

سورة فاطر آية 34.

(4)

محيي الدين أبو علي عبدالرحيم بن علي بن الحسن اللخمي البيساني، ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة، صاحب ديوان الإنشاء الصلاحي، توفي سنة ست وتسعين وخمسمائة. البداية والنهاية 13/ 24، سير 21/ 338 - 344.

(5)

سورة الأعراف، الآيتان رقم 54 و 55.

(6)

سورة التكاثر، الآيات 1 - 8.

ص: 428

الدار اليوم دار اشتراها الشيخ صفي الدين أبو بكر أحمد السلامي رحمه الله وأوقفها على ذوي قرابته من السلاميين.

وكان على هذا الباب من داخل مكتوباً بعد البسملة {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم

} إلى قوله {

لا إله إلا هو العزيز الحكيم}

(1)

اللهم صل على محمد عبدك ونبيك. ومن خارج بعد البسملة {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض}

(2)

إلى آخر الآيتين.

التاسع: باب كان في دبر الْمَسْجدِ مما يلي الشام، أول الأبواب الأربعة التي كانت نافذة في هذا الجانب، وكان مكتوباً عليه من داخل بعد البسملة {ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً}

(3)

إلى خاتم السورة، ومن خارج {الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، ومن أصدق من الله حديثاً}

(4)

اللهم صل على محمد عبدك ورسولك إمام المتقين وخاتم النبيين.

العاشر: وهو الثاني من أبواب هذا الجانب، كتب عليه من داخل {في بيوت أذن الله أن ترفع} إلى منتهى ثلاث آيات {والله يرزق من يشاء بغير حساب}

(5)

وعليه من خارج بعد البسملة: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، واجزه خير ما تجزي النبيين، و أعطه أفضل ما تعطي المرسلين، أمر بعمارة هذا الْمَسْجدِ وزينته وتوسعته عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين.

(1)

سورة آل عمران، الآيات 1 - 6.

(2)

سورة الزمر الآيتان: 68 - 69.

(3)

سورة الفرقان الآيات 71 - 77.

(4)

سورة النساء آية 87.

(5)

سورة النور الآيات من 36 - 38.

ص: 429

الحادي عشر: وهو الباب الثالث من هذا الجانب، كتب عليه من داخل بعد البسملة {قد أفلح المؤمنون

} إلى قوله {

أولئك هم الوارثون}

(1)

وكتب عليه من خارج: الله لا إله إلا هو الحي الذي لا يموت سبحان الله وتعالى عما يشركون علواً كبيراً / 168 هو الحي الذي لم يتخذ ولداً وهو العلي الكبير.

الثاني عشر: وهو الباب الرابع من أبواب هذا الجانب وفيه كتب من داخل بعد البسملة {لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون

} إلى {

سبحان الله عما يشركون}

(2)

، وكتب عليه من خارج: الله العزيز الحكيم أذن بنعمته وفضله لعبده و خليفته المهدي محمد أمير المؤمنين بالزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسعته وزينته، فأعظم الله أجر أمير المؤمنين و أتم عليه نعمته، وهناه كرامته وأعز نصره.

الثالث عشر: باب كان يقابل دار منيرة من جهة الغرب كتب عليه من داخل بعد البسملة {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار

} إلى قوله {

لا تخلف الميعاد}

(3)

، وفي نجاف الباب من داخل دون الطاق: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، مما أمر به عبد الله المهدي أمير المؤمنين من عمل أهل البصرة.

وبينه وبين الباب الذي يليه منجنيق تُقَمُّ

(4)

عليه سقف الْمَسْجدِ.

الرابع عشر: باب كان يقابل دار شخص يسمى نصير، وكتب عليه من

(1)

سورة المؤمنون الآيات 1 - 10.

(2)

سورة الحشر الآيات 20 - 23.

(3)

سورة آل عمران الآيات 190 - 194.

(4)

تُقَمُّ عليه: يُتَتَبَّعُ عليه الكناسات. القاموس (قمم) ص 1151. أي تنظف.

ص: 430

داخل بعد البسملة: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين

}

(1)

إلى خاتمة السورة، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك ونبيك، ومن خارج:{الحمد لله الذي صدقنا وعده .. }

(2)

الآيتين.

الباب الخامس عشر: باب كان يقابل دار جعفر بن يحيى، وكان عليه من داخل بعد البسملة {الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً .. } إلى قوله {

وكبره تكبيراً}

(3)

اللهم صل على محمد عبدك ورسولك أفضل ما صليت على أحد من أنبيائك ورسلك، اللهم ابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون كما بلغ رسالاتك ونصح لعبادك وتلا آياتك.

وفي الطاق تحته {إن ربكم الله

} إلى قوله {تبارك الله رب العالمين}

(4)

صلوات الله على محمد النبي والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. وعليه مكتوب من خارج {ألم نشرح}

(5)

.

السادس عشر: باب عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية، وهو باب الرحمة كان يقابل دار عاتكة المذكورة ثم صارت ليحيى بن خالد بن برمك وزير الرشيد، وكتب عليه من داخل بعد البسملة: {آمن الرسول

}

(6)

إلى آخر السورة، وتحته في الطاق بعد البسملة {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}

(7)

الآيتين و {قل هو الله أحد}

(8)

إلى آخرها، صلى الله على

(1)

سورة المؤمنون الآيات 112 - 118.

(2)

سورة الزمر الآيتان 74 - 75.

(3)

سورة الإسراء آية 111.

(4)

سورة الأعراف آية 54.

(5)

سورة الشرح آية 1.

(6)

سورة البقرة الآيتان 285 - 286.

(7)

سورة التوبة الآيتان 128 - 129.

(8)

سورة الإخلاص الآيات من 1 - 4.

ص: 431

محمد النبي وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ومن خارج بعد البسملة {إن الله يأمر بالعدل والإحسان

} إلى {تذكرون}

(1)

أمر عبد الله عبد الله أمير المؤمنين بعمل هذا الْمَسْجدِ / 169 وبلصق هذا الباب دار صغيرة تعرف بالحسينية، وفي خارجها شباك حديد مفتوح يشاهد منه الإنسان الذي في الْمَسْجدِ والروضة والحجرة المقدسة، وليس على الْمَسْجدِ شباك غير ذلك.

وكان من الاتفاق السعيد لنا أن العام الأول الذي حصل لي فيه الفوز بجوار حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت في أول مقدمي في دار أحد أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمير الْمَدينَة حينئذ، وكانت الضيافة لنا من عنده أولاً، ثم تبعه الناس، وكان المنزل والضيافة من خاص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، ثم قصدت القرب من الْمَسْجدِ المطهر والروضة المقدس فأرسل إلي مفتاح هذه الدار المساند لباب جبريل، المشاهد منها مظاهر الأنوار النبوية، والحمد لله رب العالمين على ما أولاه وابتداه وأعاده من صنعه الجميل وأبداه، فهو أهل الحمد ومستحقه لا إله سواه.

السابع عشر: باب كان يعرف بباب زياد

(2)

، كان عليه لوح مضروب بمسامير من خارج، وعليه مكتوب بعد البسملة وآية الكرسي: مُحَمَّد رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله بعمل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة هذه الرحبة توسعة لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن حضر من المسلمين في سنة إحدى وخمسين ومائة ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.

(1)

سورة النحل آية 90.

(2)

هو زياد بن عبيدالله بن عبدالمدان الحارثي، عينه السفاح أميراً للمدينة خلفاً لعمه داود حوالي سنة 132 إلى 141 هـ، توفي سنة 150 هـ. الوافي بالوفيات 15/ 14، المنتظم 8/ 31.

ص: 432

وكان أمير المؤمنين أكرمه الله أولى الناس بالنظر في ذلك لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اختصه الله به من خلافته، فأعظم الله أجر أمير المؤمنين، وأحسن ثوابه.

الثامن عشر: باب آخر كان بين باب زياد وبين الخوخة التي تقابل خوخة الصديق رضي الله عنه، وهذان البابان سدا جميعاً عند تجديد الحائط.

التاسع عشر: الخوخة المنقولة المعمولة تجاه خوخة أبي بكر رضي الله عنه التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبقائها دون سائر الخوخ التي كانت إلى الْمَسْجدِ

(1)

.

قال أهل السير: إن باب أبي بكر رضي الله عنه كان غربي الْمَسْجدِ، وكان قريب المنبر، ولما زادوا في الْمَسْجدِ إلى حده من المغرب نقلوا الخوخة وجعلوها في مثل مكانها أولاً، كما نقل عثمان رضي الله عنه أعني باب جبريل عليه الصلاة والسلام إلى موضعه اليوم، وباب خوخة أبي بكر رضي الله عنه اليوم هو باب خزانة لبعض حواصل الْمَسْجدِ، إذا دخلت من باب السلام تجده على يسارك قريباً من الباب بنحو عشرين ذراعاً، ولم يكن على هذه الخوخة كتابة لا من داخل ولا من خارج.

/170 العشرون: باب السلام، وبه يعرف اليوم، ويقال له: باب الخشية أيضاً، ويقال له: باب الخشوع، وهو باب مروان بن الحكم، وكانت داره مقابلة من جهة المغرب، وكتب عليه من داخل بعد البسملة: {إن الله

(1)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر.

أخرجه البخاري، في الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد، رقم 467، 1/ 665.

ص: 433

وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}

(1)

اللهم صلِّ على محمد وعليه السلام، وبَيضْ وجهه، وأعلِ درجته، وشرف بنيانه، وأكرم نزله، واجزه خير ما جزيت نبياً عن أمته، فإنه قد بلغ رسالاتك، وجاهد على أمرك، حتى عز دينك، وظهر سلطانك، وتمت كلمتك، واستُحل حلالك، وحرِّم حرامك، وبك نفذ ذلك وحدك لا شريك لك، والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته، أمر بعمل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله عبدالله أمير المؤمنين في سنة ثلاثين ومائة كرامة من الله الكريم، أكرم الله بها خليفته من ذخيرة ذخرها له عَمَّن كان قبله، ونافلة نفله إياها على من بعده، فالحمد لله الذي ولى أمير المؤمنين توسعته بعد غيره، وأكرمه بتزيينه وتطهيره، عظم الله لأمير المؤمنين أجره، وكثر به حسناته.

وكتب عليه من خارج: لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق

(2)

، اللهم اغفر لأنبيائك وخلفاء المؤمنين حيهم وميتهم، اللهم صل على محمد عبدك ونبيك أنت وملائكتك [و] المؤمنون جميعاً، أمر عبد الله عبد الله أمير المؤمنين بعمل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإصلاح ما أفسد منه، وعمارته، في سنة اثنتين وخمسين ومائة.

ولم يكن في جهة القبلة ولا إلى اليوم باب إلا خوخة آل عمر المتقدم ذكرها

(3)

، وخوخة كانت لمروان عند داره في ركن الْمَسْجدِ الغربي وكانت موجودة إلى سنة ست وسبعمائة، فلما أمر الناصر بن قلاوون بإنشاء المنارة الكبيرة الرابعة المستجدة، وكان باب الخوخة عليها فانسدت بحائط المنارة

(1)

سورة الأحزاب آية 56.

(2)

في الأصل زيادة كلمة: (الآية). والصواب حذفها لأن الجملة المثبتة ليست آية.

(3)

نقله المؤلف عن المطري في التعريف ص 37. وقد رد السمهودي على المطري بنص طويل. وفاء الوفا 2/ 705.

ص: 434

الغربي، وكان عليها باب من ساج لم يبل ولا ينتخر إلى حين قُلِع.

وأما الخوخة التي تحت الأرض _ ولها شباك ظاهر في القبلة وطابق في أرض الْمَسْجدِ أمام وجه المصلين في صدر الروضة مما يلي الحجرة الشريفة ويفتح هذا الطابق أيام الحاج -فهي طريق آل عبد الله بن عمر رضي الله عنهم إلى دارهم التي تسمى اليوم دار العَشَرة وليست بدار العشرة، وإنما هي دار آل / 171 عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وكان بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنهما قد صار إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فلما وسع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الْمَسْجدَ بأمر الوليد وأدخل بيت حفصة في الْمَسْجدِ، جعل لهم طريقهم إلى المَسْجِد، وفتح لهم باباً في الحائط القبلي يدخلون منه إلى الْمَسْجدِ، فلما حج الوليد ودخل الْمَدينَة طاف في الْمَسْجدِ رأى الباب في القبلة فقال لعمر: ما هذا الباب فذكر له ما جرى بينه وبين آل عمر في بيت حفصة رضي الله عنها، وكان قد جرى بينه وبينهم كلام كثير، وجرى الصلح على أن فتح لهم هذا الباب، فقال له الوليد: أراك صانعتهم لمكان الخؤولة، ولم تزل طريقهم تلك حتى عمل المهدي بن المنصور المقصورة على الرواق القبلي فمنعوهم الدخول من بابهم، فجرى في ذلك أيضا كلام كثير، فاصطلحوا على أن يُسَدَّ الباب، ويجعل عليه شُبَّاك حديد، ويحفر لهم من تحت الأرض طريق يخرج إلى خارج المقصورة، وهي التي عليه هذا الطابق الموجود اليوم وهي بيد آل عبد الله بن عمر رضي الله عنهم إلى اليوم.

قال الزبيري: وعرض مَنْقَبَةِ جدار الْمَسْجدِ مما يلي المغرب ذراعان ينقصان شيئاً، وعرض منقبته مما يلي المشرق ذراعان وأربع أصابع، وهو أعرضهما لأنه من ناحية السيل

(1)

.

(1)

ساقه في وفاء الوفا 2/ 683 من طريق ابن زبالة، ويحيى.

ص: 435

قال الزبير: وفي صحن الْمَسْجدِ أربع وستون بلاعة، عليها أرحاء، ولها صمائم من حجارة، يدخل الماء من أصفائها، كان أبو البَخْتَري

(1)

لما كان والياً على الْمَدينَة لهارون كشف سقف الْمَسْجدِ في سنة ثلاث وتسعين ومائة، فوجد فيه خشبة مكسورة، فأدخل مكانها خشباً صحاحاً، وكان ماء المطر إذا كثر في الصحن يغشى قبلة الْمَسْجدِ، فجعل بين القبلة والصحن لاصقاً بالسواري حجاباً

(2)

من حجارة من المربعة التي في غربي الْمَسْجدِ إلى المربعة التي في شرقيه، فمنع الماء من الصحن أن يغشى القبلة، ومنع حصباء القبلة أن تصير إلى الصحن.

وفي صحن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة سقاية إلى سنة تسع وتسعين ومائة، منها ثلاث عشرة أحدثتها خالصة، وكانت أول من أحدث ذلك، ومنها ثلاث لزيد البربري مولى أمير المؤمنين، ومنها سقاية لأبي البختري، ومنها سقاية لشجر الدر أم هارون أمير المؤمنين، ومنها سقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر.

قال: وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في قبلة الْمَسْجدِ على الجدار كتابة، /172 أولها أم القرآن، ثم {والشمس وضحاها} إلى آخر {قل أعوذ برب الناس} ، وهو على يمين الداخل من باب مروان إلى أن ينتهي إلى باب علي، والذي كتبه مولى لآل حويطب بن عبد العزى يقال له سعد خصبه

(3)

.

(1)

هو قاضي القضاة وهب بن وهب أبو البختري القرشي المدني، ولي قضاء المدينة وحربها وصلاتها. توفي سنة مائتين. ابن سعد 7/ 332، سير أعلام النبلاء 9/ 374، شذرات الذهب 1/ 360.

(2)

في الأصل: (حجاراً)، والمثبت من وفاء الوفا 2/ 676 - 677، وهو الصواب.

(3)

وضع عليها الناسخ: ط علامة توقف.

ص: 436

وعمر رضي الله عنه هو الذي عمل الرصاص الذي على طنف

(1)

الْمَسْجدِ، والميازيب التي من رصاص، ولم يكن للمسجد شرفات حتى عملها عبد الواحد النضري

(2)

وكان والياً بالْمَدينَة.

ونقض الحرورية الكتابة التي كانت في القبلة فأعادها ابن عطية

(3)

حين كان والياً في سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم نقضها داود بن علي بن حسين

(4)

حين قدم والياً لأبي العباس سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان من جملة ما كتب حول صحن الْمَسْجدِ فوق الطاقات، دون الشرفات بالفسيفساء بعد البسملة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبد الله ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون، أمر عبد الله عبد الله أمير المؤمنين بتقوى الله وطاعته، والعمل بكتاب الله وسنة نبيه، وبصلة الرحم، وبتعظيم ما صغر الجبابرة من حق الله، وتصغير ما عظموا من الباطل، وإحياء ما أماتوا من الحقوق، وإماتة ما أحيوا من العدوان والجور، وأن يطاع الله ويعصى العباد في طاعة الله، فالطاعة لله ولأهل طاعته، لا طاعة لأحد في معصية الله، يدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى العدل في أحكام المسلمين والقسم بالسوية في فيئهم، ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله بها لذوي

(1)

الطَّنَفُ: -بالتحريك، وبضمتين- إفريز الحائط، وماأشرف خارجاً عن البناء، والسقيفة تشرع فوق باب الدار. القاموس (طنف) ص 833. ونقل في التاج عن الزمخشري قوله: وأهل مكة يبنون على السطح جداراً يسمونه الطنف. مادة (ط ن ف).

(2)

عبدالواحد بن عبدالله النضري. ولي إمارة المدينة ليزيد بن عبدالملك سنة 104 هـ

وعزل في سنة 106 هـ. جمهرة أنساب العرب 269، ابن سعد 8/ 474، المنتظم

7/ 87.

(3)

عبدالملك بن محمد عطية السعدي. أمير مكة والمدينة والطائف واليمن في خلافة مروان، قتل سنة 131 هـ. العقد الثمين 5/ 511، تاريخ خليفة 595، الطبري 7/ 393.

(4)

داود بن علي القرشي. ولي إمارة المدينة لأبي العباس سنة 132 هـ، توفي سنة 132 هـ. جمهرة 34،52، تاريخ خليفة 612، الطبري 7/ 459.

ص: 437

القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

قال: لما بنى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الْمَسْجدَ أراد أن يجعل في الأبواب حلقاً ويجعلها كالدروب لئلا يدخلها الدواب، فعمل الحلقة التي في باب الْمَسْجدِ مما يلي دار مروان ثم بدا له فتركها، ولما فرغ من بنيان الْمَسْجدِ أرسل إلى أبان بن عثمان بن عفان

(1)

رضي الله عنهما، فحمل في كِساء خَز حتى انتهى به إليه، فقال له عمر رضي الله عنه: أين هذا البناء من بنائكم؟ فقال: بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس

(2)

.

قال: وكان مما أُدخِلَ في الْمَسْجدِ من الدور دار مُليكة

(3)

، وكانت لعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، وإنما أضيفت إلى مليكة لأنه لما أُتيَ بمليكة بنت خارجة بن سنان وفُرِّق بينها وبين منظور بن زبان

(4)

، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من يكفلها؟ قال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: أنا، فأنزلها / 173 داره، فغلب عليها اسمها، ثم باعها بنو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فباعها عبد الله بن جعفر من محمد بن أبي جعفر ثم باعها للمهدي حين بنى الْمَسْجدِ فأدخل بعضها في الْمَسْجدِ، وبعضها في رحبة المسارب، وبعضها في الطريق، وأدخل

(1)

أبان بن عثمان بن عفان، أبو سعيد الأموي المدني، من الطبقة الوسطى من التابعين، توفي سنة خمس ومائة. سير أعلام النبلاء 4/ 351.

(2)

وفاء الوفا 1/ 523، الدرة الثمينة ص 161.

(3)

مليكة بنت خارجة بن سنان بن أبي حارثة بن مرة بن عوف، من طبقة المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته. الإصابة 4/ 415.

(4)

منظور بن زَبَّان بن سَيَّار. تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة، ففُرِّقَ بينهما بعدما حلف أنه لم يعلم أن الله حرّم ذلك. الإصابة 3/ 462.

ص: 438

دار شُرَحبيل بن حَسَنة، وكانت صدقة، فابتاعوا منها دوراً ومنازل فأوقفوها صدقة، وبقيت منها بقية، فابتاعها منهم يحيى بن خالد بن برمك فدخلت في الحش حش طلحة وابتاعها بما صار في أيديهم دوراً ومنازل فأوقفوها، وأدخل بقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء ودار المسور بن مخرمة

(1)

.

* * *

(1)

وفاء الوفا 1/ 538 - 539، الدرة الثمينة ص 163 - 164.

ص: 439

‌فصل في ذكر دور

كانت حول المسجد الشريف محدقة به

قال الزبير رحمه الله: بلَّط مروان بن الحكم البلاط بأمر معاوية بن أبي سفيان، وكان مروان بلَّط ممر أبيه الحكم إلى المسجد، وكان قد أسنَّ، وأصابته ريح، فكان يجر رجليه فتمتلئ تراباً، فبلَّطه مروان لأجله، فأمره معاوية بتبليط ما سوى ذلك مما قارب المسجد، ففعل، وأراد أن يبلِّط بقيع الزبير

(1)

، فحال ابن الزبير بينه وبين ذلك، وقال: أردت أن تنسخ اسم الزبير، ويقال: بلاط معاوية. فأمضى مروان البلاط، فلما حاذى دار عثمان بن عبيد الله

(2)

، ترك الرحبة التي بين يدي داره، فقال له: عبد الرحمن بن عثمان

(3)

: لئن لم تبلطها لأدخلنَّها في داري، فبلَّطها مروان.

(4)

والدور الشوارع حول المسجد من القبلة؛ دار عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي اليوم لهم. وكانت مربداً ......

(5)

عثمان بن عفان رضي الله عنه حين بَنَا المسجد و كان أدخل بيت حفصة رضي الله عنها في المسجد حين زاد فيه.

(1)

بقيع الزبير: موضع بالمدينة فيه دور ومنازل، سيأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس.

(2)

هو عثمان بن عبيد الله بن عثمان القرشي التيمي، أسلم وهاجر، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له رواية عنه. أسد الغابة 3583، الإصابة 2/ 462.

(3)

هو عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي، أسلم يوم الحديبية، وقيل: يوم الفتح، شهد اليرموك مع أبي عبيدة بن الجراح، وكان من أصحاب ابن الزبير، وقتل معه في مكة سنة 73 هـ. أسد الغابة 3/ 472، الإصابة 2/ 410.

(4)

تاريخ المدينة المنورة لابن شبه 1/ 16.

(5)

كلمتان غير واضحتين في الأصل.

ص: 440

وفي هذه الدار الأسطوانة التي كان بلال رضي الله عنه يؤذن عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، وفيها خوخة آل عمر رضي الله عنهم.

ثم دار مروان التي ينزل فيها الأمراء، وكان بعضها للنحام من بني عدي وبعضها من دار العباس رضي الله عنه، فابتاعها مروان وجعل فيها داراً لابنه عبدالعزيز بن مروان

(2)

، وجعل فيها باباً في القبلة، فخشي أن يمنع، فجعل باباً على يمين مخرجه إلى المقصورة، فقال: أخشى أن أُمنع المسجد، فجعل الباب الذي على باب المسجد.

وإلى جنبها دار يزيد بن عبد الملك التي صارت لزبيدة، وكان في موضعها دار لآل أبي سفيان بن حرب، وكانت أشرف دار في المدينة بناءً، وأذهبها في السماء.

ودار كانت لآل أبي أُمية بن المغيرة

(3)

، فابتاعها يزيد /174

(4)

وأدخلها في داره وهدمها. وكان بعض أهل المدينة وَفَدَ على يزيد بن عبد الملك وقد فرغ من بناء داره، فسأله عنها، فقال: ما أعرف لك أصلحك الله بالمدينة داراً، فلما رأى ما في وجهه، قال: يا أمير المؤمنين، إنها ليست بدار؛ ولكنها مدينة. فأعجب ذلك يزيد.

(1)

الدرة الثمينة ص 164، تحقيق النصرة ص 74.

(2)

هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، يكنى أبا الأصبغ، تولى مصر أكثر من عشرين عاماً، توفي سنة 85 هـ، وقيل:86. الطبقات الكبرى 5/ 236. سير أعلام النبلاء 4/ 249.

(3)

أبو أمية، حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي، أبو أُم المؤمنين أُم سلمة رضي الله عنها، لُقِّبَ بزاد الراكب، كان أسنَّ قريش عند بناء الكعبة. الكامل 2/ 29، جمهرة أنساب العرب ص 144، نسب قريش ص 299.

(4)

بداية طمس مقداره صفحة كاملة، وقد استعنا لقراءة النص بتاريخ المدينة لابن شبة، ووفاء الوفا.

ص: 441

ثم وُجَاه

(1)

دار يزيد، دار أويس بن سعد بن أبي سرح ....

(2)

ثم إلى جنبها دار مطيع أحد بني عدي بن كعب

(3)

.

وكان حكيم بن حزام ابتاعها هي وداره التي من ورائها بمائة ألف درهم، فشركه ابن مطيع، فقاومه حكيم بن حزام، فأخذ ابن مطيع داره بالثمن كله، وبقيت داره ربحاً في يده، فقيل لحكيم: خدعك، فقال: دار كداري، ومائة ألف درهم

(4)

.

وبين دار ابن مطيع أبيات ليزيد بن عبد الملك فيها الغسالون

(5)

.

وفي غربي المسجد دار ابن مُكَمِّل

(6)

ودار ابن النَّحَّام

(7)

، الطريق بينهما قدر ستة أذرع.

ثم إلى جنب دار ابن النحام دار جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك

(8)

،

(1)

وجاه: مقابل. القاموس (وجه) ص 1255.

(2)

طمس في الأصل بمقدار سطرين.

(3)

هومطيع بن الأسود بن حارثة بن نَضْلة بن عبيد بن عُوَيج بن عدي بن كعب، توفي بالمدينة في خلافة عثمان رضي الله عنه. أسد الغابة 5/ 191، الإصابة 3/ 425 - 426؛ جمهرة 158.

(4)

تاريخ المدينة المنورة لابن شبَّة. 1/ 248.

(5)

طمس بمقدار سطر.

(6)

عبد الله بن مُكَمِّل بن عوف بن الحارث بن زهرة. ذكره عمر بن شبة في الصحابة. الإصابة 2/ 373.

(7)

هو نُعَيم بن عبد الله النَّحَّام، القرشي العدوي، من السابقين إلى الإسلام، هاجر سنة 6 هـ، وشهد المشاهد كلها، واستشهد في اليرموك سنة 15 هـ، وقيل بأجنادين سنة 13 هـ. أسد الغابة 5/ 346، الإصابة 3/ 567.

(8)

هو أبو الفضل، وزير الرشيد ومقدَّمه، ولي نيابة دمشق، كان مقرباً للرشيد ثم نقم عليه وعلى البرامكة فقتله سنة 187 هـ. تاريخ بغداد 7/ 152، سيرأعلام النبلاء 9/ 59.

ص: 442

وكان فيها بيت عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية

(1)

، وكان فيه أطم حسان بن ثابت، المسمى بفارع.

ثم إلى جانب دار جعفر بن يحيى دار معين مولى المهدي، وكانت منْزِلاً لسكينة بنت حسين بن علي

(2)

.

ثم إلى جنبها الطريق إلى دور طلحة

(3)

، ستة أذرع.

ثم إلى جنب الطريق دارُ مُنيرة مولاة أُم موسى، كانت لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب

(4)

، رضي الله عنهم.

ثم إلى جنبها خوخة لآل يحيى بن طلحة بن عبيد الله

(5)

، هي لهم اليوم.

ثم إلى جنبها حش

(6)

طلحة بن أبي طلحة الأنصاري، ثم إلى جنب الطريق خمسة أذرع.

ثم إلى جنب الطريق أبيات كانت لخالصة مولاة أمير المؤمنين، باعتها من ابني حَرمَلة الأسود الغزِّي، مولى هارون أمير المؤمنين، كانت تلك الأبيات من

(1)

تاريخ المدينة المنورة لابن شبَّه. 1/ 247، 257. تحقيق النصرة ص 79.

(2)

هي سكينة بنت حسين بن علي تزوجها ابن عمها عبد الله بن الحسن، فقتل مع أبيها قبل أن يدخل بها، ثم تزوجت بغير واحد، كانت شهمة مهيبة بديعة الجمال، توفيت في ربيع الأول سنة 117 هـ. نسب قريش ص 59، الطبقات الكبرى 8/ 475، سير أعلام النبلاء 5/ 262.

(3)

هو طلحة بن عبيد الله من بني كعب بن عدي. أسد الغابة 3/ 90.

(4)

له صحبة ورواية، وهو من صغار الصحابة، وآخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصَحِبَهُ من بني هاشم، كان كبير الشأن كريماً جواداً، توفي سنة 80 هـ، وقيل غير ذلك. نسب قريش ص 81، 92، الإصابة 2/ 289.

(5)

القرشي التيمي، تابعي، حدَّث عن أبيه وأُمه سُعْدى بنت عوف بن خارجة، وعمر بن الخطاب وغيرهم، وهو من الثقات الأثبات. الطبقات الكبرى 5/ 164، تهذيب الكمال 31/ 387، التاريخ الكبير للبخاري 8/ 283.

(6)

الحَشُّ: البستان. الصحاح (حشش) 3/ 1001، القاموس ص 590.

ص: 443

دار خَبَّاب مولى عُتْبَةبن غزوان.

ثم إلى جنبها دار أبي الغيث بن المغيرة بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهي صدقة بأيدي بني عذير.

ثم إلى جنبها بقية دار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كانت لجعفر بن يحيى، وقد قبضت صافية عنه.

ثم من الشرق دار موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، كان ابتاعها هو وعبيد الله

(1)

بن الحسين بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فتقاوماها.

(2)

.

وإلى جنبها أبيات فيها أُطم

(3)

. والطريق بين دار موسى بن إبراهيم ودار عمرو بن العاص وهي الآن خراب صوافي

(4)

.

وإلى جنبها دار خالد بن الوليد، وهي دار أيوب بن سلمة

(5)

، وكان أيوب بن سلمة اختصم فيها هو /175 وإسماعيل بن الوليد بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة.

فيقول أيوب: هي ميراث، وأنا أَرِثها دونكم بالقُعْدُدِ

(6)

.

(1)

قال في (التحفة) 3/ 115: إن له بيتاً. وله ذكرٌ في المجدي في أنساب الطالبيبن ص 194.

(2)

تاريخ المدينة المنورة لابن شَبَّه 1/ 258.

(3)

في تاريخ المدينة المنورة لابن شَبَّه 1/ 259: أبيات قُهْطُم.

(4)

الصوافي: الأملاك والأراضي التي جلا عنها أهلها، أو ماتوا ولاوارث لهم، واحدها صافية. النهاية (صفا) 3/ 40.

(5)

أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة.

(6)

القُعْدُدُ، والقُعْدَدُ: قريب الآباء من الجد الأكبر، والقُعْدُدُ: البعيد الآباء منه، ضِدٌّ. القاموس (قعد) ص 311.

ومعنى هذا أنه لم يبق من ذرية خالد بن الوليد وارثٌ، فورث أيوب بن سلمة دارهم لاتصاله بهم عن طريق جده عبد الله، وهو أخو خالد بن الوليد رضي الله عنه.

وأول من قال بانقراض ذرية خالد بن الوليد هو المصعب بن عبد الله الزبيري بقوله: وقد انقرض ولد خالد بن الوليد؛ فلم يبق منهم أحدٌ، وورث أيوب بن سلمة دارهم بالمدينة. كتاب نسب قريش لمصعب الزبيري ص 328.

وقد ردَّ على هذه المقولة ونقضها -انقراض ولد خالد بن الوليد- عبد الله بن محمد الزبن الخالدي، في كتابه (الاختيارات الزبنية من تراجم ذرية خالد بن الوليد المخزومية).

ص: 444

وإسماعيل يقول: هي صدقة. فأعطيها أيوبُ ميراثاً.

وهي الدار التي اشتكى خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيق منزله، فقال له:«ارفع في السماء، وسل الله السَّعة»

(1)

ثم إلى جنبها دار أسماء بنت الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس رضي الله عنهم

(2)

.

ثم إلى جنبها دار رَيْطة

(3)

بنت أبي العباس، كانت من دار جَبَلَة

(4)

، ودار أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ثم الطريق بينهما وبين دار عثمان رضي الله عنه خمسة أذرع، وهي صدقة. ثم الطريق خمسة أذرع، ونحو ذلك بين

(5)

دار عثمان رضي الله عنه، ومنْزِل النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب الأنصاري الذي ابتاع المغيرة بن عبدالرحمن، وجعل فيه ماءه الذي يسقى في المسجد.

(1)

رواه ابن زبالة، عن يحيى بن المغيرة، عن أبيه. وفاء الوفا 2/ 730.

ورواه ابن شبة 1/ 244، عن عبدالعزيز بن عمران، عن يحيى، به.

إلا أنه قال: (اتسع في السماء). في الأول: ابن زبالة: كذبوه. وفي الثاني: عبدالعزيز بن عمران: متروك.

(2)

تاريخ المدينة المنورة لابن شبَّه. 1/ 259. تحقيق النصرة ص 77.

(3)

في الأصل: (رائطة)، والصواب ما أثبتناه.

(4)

تاريخ المدينة المنورة لابن شبَّه، 1/ 259، التعريف 36، تحقيق النصرة ص 77. وفيها أن دار أسماء ابنة الحسين هي التي كانت من جملة دار جَبَلَة بن عمرو الساعدي الأنصاري.

(5)

في الأصل: (بنى).

ص: 445

وكان المغيرة ابتاعه من أفلح مولى أبي أيوب بألف دينار، وابتاع من أفلح الدار التي في البقيع، و [هي] إلى جنب دار جعفر

(1)

بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكانت لحارثة بن النعمان

(2)

.

وقُبالته دار الحسن

(3)

بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو الأطم الذي كان ابتاعه، فهدمه وبناه، وخاصمه فيه ابن عوف النجاري

(4)

. والطريق بينها وبين دار فرج الخَصيِّ

(5)

خمسةُ أذرع، وكانت دار فرج قِبلة موضع الجنائز، وكان لإبراهيم بن هشام فيها سرب تحت الأرض يسلكه إلى داره دار التماثيل. وإلى جنبها دار عامر بن عبد الله بن الزبير

(6)

، وكان ابن هشام لما بنى داره أخذ بعض حق عامر، فقال له عامر: فأين طريقي؟ قال: في النار، قال عامر: تلك طريق الظالمين.

(1)

جعفر الصادق، أبو عبد الله، ولد سنة ثمانين، ورأى بعض الصحابة، منهم أنس بن مالك وسهل بن سعد رضي الله عنهما، حدث عن أبيه وعروة بن الزبير وعبيد الله بن أبي رافع وغيرهم، توفي سنة 148 هـ. التاريخ الكبير للبخاري 2/ 198، حلية الأولياء 3/ 192، سير أعلام النبلاء 6/ 255.

(2)

أبو عبد الله الأنصاري النجاري، شهد بدراً والمشاهد كلها، أدرك خلافة معاوية ومات فيها. أُسد الغابة 1/ 429، الإصابة 1/ 298.

(3)

يكنى أبا محمد، له من الأولاد سبعة، ذو محاسن كثيرة، كان والياً للمنصور، توفي بالحاجر. المجدي في أنساب الطالبيين 20 - 21.

(4)

وفي تاريخ المدينة المنورة لابن شبه 1/ 260: أبو عوف النجاري.

(5)

هو فرج، أبو مسلم الخصي، مولى أمير المؤمنين. له ذكر في التحفة 3/ 393، تاريخ الخلفاء 448.

(6)

ابن العوام الأسدي، أبو الحارث المدني، ثقة عابد، مات سنة 121 هـ. التقريب ص 288، برقم:3099.

ص: 446

ثم رجع دار عبد الله بن عمر من حيث ابتدأه

(1)

.

قال أهل السير

(2)

: لم يزل المسجد على ما بناه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في أيام الوليد، إلى أن حج أبو جعفر

(3)

، عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهم، فهمَّ بالزيادة وشاور فيه، وكتب إليه الحسن بن زيد يصف له ناحية موضع الجنائز، ويقول: إنْ زِيدَ هذا في المسجد، توسط قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد.

فكتب إليه أبو جعفر: أن قد عَرَفْتُ الذي أردتَ، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان رضي الله عنه

(4)

. فتوفي [أبو] جعفر ولم يزد فيه شيئاً.

ثم حج المهدي

(5)

سنة ستين ومائة، وقدم المدينة منصرفه من الحج، فاستعمل عليها جعفر

(6)

بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله

(1)

يقصد الفيروزابادي أن الزبير بعد أن ذكر الدور المطيفة بالمسجد النبوي، وعدَّدها، وصل إلى حيث ابتدأ، وهي دار عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(2)

الدرة الثمينة ص 178، التعريف ص 83.

(3)

ثاني خلفاء بني العباس، كان عارفاً بالفقه والأدب، محباً للعلماء، بنى مدينة بغداد، زاد في المسجد الحرام، وهو والد الخلفاء العباسيين جميعاً، قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه، توفي ببئر ميمون من أرض مكة محرماً بالحج ودفن بالحجون سنة 158 هـ، مدة خلافته 22 عاماً. سير أعلام النبلاء 7/ 83، البداية والنهاية 10/ 124، الأعلام 4/ 117.

(4)

حيث كانت دار عثمان بن عفان رضي الله عنه في الناحية الشرقية من المسجد. والقصة مذكورة في وفاء الوفا 2/ 536، و (خلاصة الوفا) 2/ 121.

(5)

محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس أبو عبدالله المهدي، ولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 158 هـ. كان محمود العهد والسيرة، محبباً إلى الرعية، حسن الخلق، جواداً، توفي سنة 169. سير أعلام النبلاء 7/ 400، البداية والنهاية 10/ 155، الأعلام 6/ 221.

(6)

أمير المدينة والحجاز في خلافة أبي جعفر المنصور، كان جواداً عالماً فاضلاً، موصوفاً بالشجاعة والفروسية، توفي سنة 174 هـ. الكامل 5/ 549، 564، 569، سير أعلام النبلاء 8/ 240، تاريخ الخلفاء ص 430.

ص: 447

عنهم، وأمر بالزيادة فيه، فزاد من جهة الشام

(1)

/176 إلى منتهاه اليوم، فكانت زيادته مائة ذراع

(2)

، ولم يَزِدْ شيئاً غيره، وهي آخر الزيادات في المسجد الشريف إلى يوم تاريخ هذا الكتاب؛ سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، وطول المسجد في السماء خمس وعشرون ذراعاً، وطول منائره خمس وخمسون ذراعاً، وعرضُهُنَّ ثمانية أذرع في

ثمانية أذرع.

قال ابن النجار

(3)

: وأما بطحاء المسجد، فأول ما بُطِحَ المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، روى أبو داود عن أبي الوليد

(4)

قال: سألت ابن عمر رضي الله عنه عن الحصى الذي كان في المسجد، فقال: إنا مَطِرْنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يجيء بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:«ما أحسن هذا»

(5)

.

ومن الدليل على أنه كان الحصى في عهدِه صلى الله عليه وسلم، قولُه صلىالله عليه وسلم:«ومن مس الحصى فقد لغا»

(6)

.

(1)

أي من ناحية الشمال.

(2)

مثير العزم الساكن لابن الجوزي ص 260.

(3)

لم أجد هذا الموضوع -لا معنى ولا مبنى- عند ابن النجار في كتابه (الدرة الثمينة).

(4)

أبو الوليد، قيل: هو نسيب ابن سيرين. وقال أبو حاتم: هو مولى رواحة. قال الحافظ في التقريب: وهو أرجح، وهو مجهول. التقريب، رقم: 8439، ص 682.

(5)

أخرجه أبو داود، في الصلاة، باب في حصى المسجد، حديث رقم: 459، 1/ 371، وابن خزيمة، رقم:1296، وغيرهما. وسنده ضعيف، فيه أبو الوليد: مجهول.

(6)

جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: أخرجه مسلم، في الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، رقم: 857،2/ 588. وأبو داود، في الصلاة، باب فضل الجمعة، رقم:1043، 2/ 86. والترمذي، في الصلاة، باب ماجاء في الوضوء يوم الجمعة، رقم:498. وغيرهم.

ص: 448

وقال الزبير: كان الوليد يبعث كل عام رجلاً إلى المدينة يأتيه بأخبار الناس، وبما يَحْدُثُ بها، فأتاه عاماً آتٍ، وقال: لقد رأيت أمراً، لا والله مالك معه سلطان، ولا رأيت مثله قط، قال: وما هو؟ قال: كنت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا مَنْزِلٌ عليه كِلَّةٌ

(1)

، فلما أقيمت الصلاة رفعت الكِلَّةُ، وصلى صاحبها فيها بصلاة الإمام، هو ومن معه، ثم أُرخيت الكِلَّةُ، وأُتِيَ بالغداء فتغذى هو وأصحابه، فلما أقيمت الصلاة فعل مثل ذلك، وإذا هو يأخذ المرآة والكحل وأنا أنظر، فسألت، فقيل: هو حسن

(2)

بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قال: ويحك، فما أصنع؟ هو بيته وبيت أمه، فما الحيلة في ذلك؟ قال: نزيدُ في المسجد، ونُدخلُ هذا البيت فيه، قال: فكتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يأمر بالزيادة في المسجد، ويشتري هذا المنْزِل، قال: فعرض عليهم أن يبتاع منهم، فأبَوْا، وقال حسن: لا والله لا نأكل له ثمناً أبداً، قال: فأعطاهم به سبعة آلاف دينار، أو

(3)

ثمانية، فأبَوْا، وكَتَبَ إلى الوليد في ذلك، فأمر بهدمه وإدخاله في المسجد، وطَرْحِ الثمن في بيت المال، ففعل.

وانتقلت فاطمة

(4)

بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم إلى

موضع دارها بالحرة، فابتنتها وهي يومئذ براح

(5)

، وموضعها بين دار

(1)

الكلة: الستر الرقيق. القاموس (كلل) ص 1053.

(2)

هو الحسن المثنى، تزوج ابنة عمه فاطمة بنت الحسين، وأنجب منها عبد الله وغيره، رضي الله عنهم. المجدي في أنساب الطالبيين لعلي بن أبي الغنائم العمري ص 36، 91، التعريف ص 59.

(3)

في الأصل: (و)، وما أثبتناه من الوفا 2/ 514.

(4)

تزوجها ابن عمها الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وولدت له ثلاثة أولاد، ثم تزوجت بعد موته عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وولدت له محمد بن عبدالله الملقب: الديباج. المجدي في أنساب الطالبيين 91،92.

(5)

براح: المتَّسع من الأرض لا زرع بها ولا شجر. القاموس (برح) ص 213.

ص: 449

ذكوان، وبناء إبراهيم بن هشام، فلما بَنَتْ، قالت: مالي بُدٌّ من بئر للوضوء وغيره، فصلَّت في موضع من دارها ركعتين، ثم دعت الله عز وجل وأخذت المِسْحَاةَ

(1)

وحفرت بيدها، وأمرت العمَّال فعملوا، فما

(2)

لقيت حصاة حتى أماهت

(3)

.

فلما بنى إبراهيم بن هشام داره بالحرة بعد وفاة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهما، وأراد نقل السوق /177 إليها، صنع في حفيرته التي بالحوض مثل ما صنعت فاطمة، فلقيَ جبلاً أوْقَلَ

(4)

عليه، وعَظُمَ غُرْمُهُ، فسأل عبد الله

(5)

بن حسن ابن حسن بن علي رضي الله عنهم أن يبيعه دار فاطمة، فأباعه

(6)

بثلاثة آلاف دينار

(7)

.

* * *

(1)

المِسْحاة: الآلة التي يسحى بها، أي المجرفة، إلا أنها من حديد. اللسان (سحا) 14/ 372.

(2)

في الأصل: (فلما)، والصواب ما أثبتناه.

(3)

أماهت: بلغت الماء. القاموس (موه) ص 1253.

(4)

بمعنى: كَثُرت حجارته، فتعذَّر حفره عليه، قال في اللسان: وَقَلَ في الجبل: صَعَّدَ فيه، والوَقَلُ: الحجارة (وقل) 11/ 733.

(5)

يروى عن أمه فاطمة بنت حسين وأبي بكر بن حزم، وعنه ليث بن أبي سليم وابن عليه. التاريخ الكبير 3/ 1/71.

(6)

أباعه: عرضه للبيع. القاموس (بيع) ص 705.

(7)

القصة مذكورة في وفاء الوفا 2/ 514، عند كلامه على بئر فاطمة 3/ 1140، وذكر السمهودي أن المطري في التعريف ص 59، رَجَّحَ أن هذه البئر؛ هي البئر المعروفة اليوم ببئر زمزم، وَرَدَّ عليه بأنها بقربها.

ص: 450