الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف
عزيزي القارئ.. هذا كتاب آخر خطّة قلم مؤلّف مغربي- أندلسي- يثبت تماسك هذه الأمة وتلاحمها.. إلّا يكن في حيّز المكان.. ففي تحاور الفكر والوجدان، المؤلّف سبق لنا الالتقاء به، فهو خاتمة تلك العصبة المباركة التي أخرجت لنا كتاب (المغرب في حلي المغرب) الذي قدّمت (الذخائر) أحد أجزائه وهو الخاصّ بمدينة الفسطاط.
وأما الكتاب فإنّ عنوانه التصويريّ الشاعريّ (المقتطف من أزاهر الطّرف) يوحي ببعض ما فيه، فهو روضة تزهو فيها خمائلها الاثنتا عشرة، ولعله قصد أن تكون الخمائل بعدد شهور السّنة، وأن روضته تظل طوال الفصول- ورغما عنها- مورقة نضرة، يجد المتأمّل فيها كلّ ما يسرّ ناظره ويمتع سمعه، وينعش روحه من ثمار هذه الروضة وأزهارها.
الثمار والأزهار هنا قطوف من المنظوم والمنثور، من فصيح وملحون، من مختلف الأنواع والمستويات، لمبدعين شتّى من مختلف البلدان والطبقات، أطلق عليها المؤلّف عديدا من الأسماء والصفات.
€
ذلك بعض ما يوحى به عنوان الكتاب، أما ما لا يوحي به، مما تجده في ثنايا صفحاته وبين سطوره، فهو مواصلة ذلك الحوار الطّيب المثمر بين عقول هذه الأمّة في شرقها وغربها، الحوار والجدل- وربّما الخلاف- ولكنه خلاف يقطع بحريّة الفكر واستقلال الرأي، ويؤكد- في الوقت نفسه- روح الحرص على التكامل والوحدة.
لقد حدثتك- عزيزي القارئ- من قبل عن صنيع ابن شهيد ت 426 هـ في (التوابع والزوابع) وهو يسعى إلى مساماة كبار شعراء المشارقة، ثم حدثتك عن صنيع ابن سناء الملك ت 608 هـ في (دار الطّراز) وهو يسعى إلى مساماة كبار شعراء المغرب، في الموشحات خاصّة، ثم وهو ينظّر لفنّ التوشيح- المغربيّ النشأة على الأرجح- وها أنت ذا تجد في (المقتطف) ذلك الحوار بين ابن سعيد مؤلّف الكتاب والملك الناصر يوسف الأيوبي سلطان الشام، وفيه يقرّر الأول أن الموشح والزّجل طرازان ابتدأهما المغاربة- يعنى الأندلسيّين- ليقرر الثاني أنّ فنّ الدّوبيت إنما هو من إحسان المشارقة، ليتّفق الرجلان على أنّ المحاسن قد قسّمها الله تعالي على البلاد والعباد.
ألست معي في أننا أرسينا من قديم أسس الحوار والتفاهم حين كان الآخرون يؤسسون للصّراع والتصادم؟
عبد الحكيم راضي سبتمبر 2004
€
محقق الكتاب
الأستاذ الدكتور سيد حنفي حسنين- تخرج في كلية الآداب 1955- حصل على الدكتوراه 1961- عيّن مدرّسا فأستاذا مساعدا ثم أستاذا للأدب العربي بآداب القاهرة 1978.
- عمل أستاذا زائرا في جامعات أسبانيا وأمريكا اللاتينية.
- أعير إلى جامعة الملك سعود بالرياض.
- عمل مستشارا ثقافيا ومديرا للمعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد من 1985- 1988.
- عمل وكيلا للدراسات العليا بكلية الآداب من 1982- 1985.
- تولّى عمادة آداب القاهرة فرع بني سويف من 1988- 1997.
من أعماله العلمية:
- تحقيق ديوان حسّان بن ثابت- تحقيق كتاب (المقتطف) الذي نصدره فى هذه الطبعة- الفروسّية العربية في العصر الجاهلي 1960- الشعر الجاهلي: مراحله واتجاهاته الفنية- شعر بشار بن برد بين النظرية والتطبيق- حسّان بن ثابت شاعر الرسول- أعلام العرب- له العديد من البحوث والدراسات- بالعربيّة والأسبانية- نشرت بالمجلات العلمية المتخصصة في مصر والخارج.
€
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الجديد في مقتطف ابن سعيد
(مقدمة خصّ بها الأستاذ المحققّ طبعة الذخائر) حين قمت بتحقيق كتاب المقتطف من أزاهر الطرف لابن سعيد الأندلسى في الفترة من 1976 إلى 1978 كان اهتمامي محصورا في إظهار هذا النص مكتملا في أدق صورة يمكن أن يظهر بها بعد أن ترك فترة طويلة دون عناية حتى فقدت بعض أوراقه من مخطوطتي الاسكوريال ورفاعة رافع الطهطاوي، وكان علىّ أن أضمهما معا محاولا أن تكمل إحداهما الأخرى فأنقذ من الضياع واحدا من كتب ابن سعيد.
وحين انتهيت من إخراج هذا النص مطبوعا ومنشورا تكشّف لي جوانب من موضوعات هذا الكتاب لم تلق مني العناية الواجبة في تلك الدراسة التي قدمت بها النص وقتها، إذ وقفت عند بعضها وقوف المتعجل وأهملت بعضها وكانت تستحق مني بعض العناية.
لقد خصّص ابن سعيد الخميلة العاشرة من كتابه للدّوبيتيّات والمربّعات والمخمّسات، والخميلة الحادية عشرة للكان وكان والمواليا، والخميلة الثانية عشرة والأخيرة للموشّحات والأزجال، وقد أثار في نفسي هذا الترتيب بعد انتهاء طبع الكتاب سؤالا ظللت أبحث عن إجابة له
€
وهو: هل قصد ابن سعيد بترتيب هذه الخمائل الثلاث ترتيبا زمنيا؟
أي أنّ ظهور هذه الفنون في تاريخ الأدب العربى جاء على هذا التعاقب؟
نعلم أن الدوبيتيات والمربعات والمخمسات فن قديم يسبق فنون الخميلتين الأخريين، ولا جدال في هذا الرأي، ولكن الجدال يدور حول
أي فنون الشعر الملحونة أسبق؟
فالأندلسيون يرون أن فن الزجل سابق عندهم على الفنون المشرقية المشابهة، يقول ابن سعيد في المقتطف عن الموشّح والزجل:
هذان طرازان كان الابتداء بعملهما من المغرب، ثم ولع بهما أهل المشرق «1» ، ويقول في مكان آخر من كتابه: ولما عدت من العراق أنشدته (ويقصد الملك الناصر سلطان الشام) من محاسن الدوبيتيات ما أمر بكتبه. ثم قال لي: هذا طراز لا تحسنه المغاربة.
فقلت: يا خوند، كما أن الموشحات والأزجال طراز لا تحسنه المشارقة. والمحاسن قد قسمها الله على البلاد والعباد «2» .
والنصان يدلان على شيئين:
1-
أن الموشح والزجل في رأي ابن سعيد اختراع أندلسي.
2-
أن فن الدوبيتيات فن مشرقي لا تحسنه المغاربة.
وفي نص آخر يقول ابن سعيد عن المربعات: اشترك فيها المشارقة والمغاربة «3» . وحين يستشهد ببعض نصوصه المشرقية يقول:
€
وأكثر ما يشتغل بهذا العجم وهو وزن مستنبط من أوزانهم، وكثيرا ما يطربون عليه في السماع ولا يلتفتون إلى غيره.
ويقصد ابن سعيد بالعجم الفرس، كما يقصد بأنهم يطربون عليه في السماع أي أنه مرتبط بالغناء، وهنا يلتقي بفن التوشيح في أول ظهوره بغضّ النظر عن الخرجة التي في نهاية الموشح، تلك الخرجة التي قد تكون بعامية أهل الأندلس أو باللغة الأعجمية أو الرومانثية «1» . وهى ظاهرة وإن كانت خاصة بالموشح لكننا نجد شبيها لها أو صورة من صورها في بعض مقطوعات شعراء المشارقة مثل أبى نواس في مقطوعته التي يمزج فيها الفارسية بالعربية وخاصة في الشطر الأخير من المقطوعة من مثل قوله «2» :
يا غاسل الطّرجهار
…
للخندريس العقار
يا نرجسي وبهاري
…
بده مرا يك بار
والطّرجهار هو قدح الشراب، ومعنى الشطر الأخير: اعطني مرة واحدة.
وقد سمي هذا الشعر في المشرق بالملمّع تمييزا له عن سواه، وفيما بعد ظهرت في المشرق ازدواجات أخري بين اللغتين العربية والتركية، والعربية والكردية في الشعر العراقي خاصة.
€
وهنا نفطن إلى السبب الذي جعل ابن سناء الملك يجيء ببعض خرجات فارسية في موشحاته إلى جانب خرجاته بالعامية المصرية أو التي استعارها من الأندلسيين.
إنني بهذا الحديث لا أريد أن أثير قضية قديمة ناقشها الدارسون حول أصل الموشح، وهل هو ابتكار أندلسي، أو أن له أصولا مشرقية؟ ولكنني أحاول أن أقرأ نصوص ابن سعيد في مقتطفة، وهى نصوص لم يرد بعضها في كتبه الأخرى، مثل حديثه عن الدوبيتيات والمربعات، ومقارنته بين المشارقة والمغاربة في نظم هذين الشكلين من أشكال الشعر، وكان قد لفت نظري ما ذكره صفي الدين الحلّي في مقدمة كتابه: العاطل الحالي حين قال: فإني كنت أضفت إلى ديوان أشعاري فنّي الموشح والدّوبيت، لتحليتهما بالإعراب ونسجهما على منوال الأعراب، وأعريتة من الفنون الأربعة التي لحنها إعرابها، وخطأ نحوها صوابها «1» .
ويقصد بالفنون الأربعة: (الكان وكان) و (المواليا) و (القوما) و (الزّجل) . وما يلفت النظر في عبارة صفى الدين الحلي أن نسيج الموشح والدوبيب واحد، سواء في أنهما معربان، كما في صفتهما الأولي لتحليتهما بالإعراب، أو أن بناءهما من أصل مشترك فهما منسوجان على نول واحد، هو نول التقاليد الفنية للشعر العربي، ولذلك ضمهما إلى ديوانه الذي يضم سائر قصائده، فهناك إذن علاقة
€
في نظام بناء الفنين- سواء من حيث الشكل أو المضمون- بالإضافة إلى اللغة المعربة. ولهذا تظهر الحاجة إلى دراسة جادة لطبيعة تلك العلاقة من حيث وجودها الزمني ومدي الارتباط بين الفنين وخاصة أن ابن سعيد يقول مقابلا بينهما ومعلقا على الدوبيتيات في مقتطفة: هي التي ولع بها المشارقة كما تولع المغاربة بالموشحات «1» .
وقد يساعدنا على الإحساس بهذه المقابلة بعض نصوص من محاسن الدوبيتي المرصّع، ينسبه ابن سعيد إلى شريف شاعر معاصر له هو شرف العلا بن تاج العلا الحسيني «2» يقول:
ودعتهم إذ حان بين ورحيل
…
ناديتهم
الصبر إذا رحلتم غير جميل
…
شيعتهم
لمّا رحلوا وما إلى الصبر سبيل
…
أنشدتهم
لم يجر على الخد من الدمع قليل
…
يا ليتهم
ويقول:
يا مترلهم بأي أرض نزلوا
…
ولّوا وبقيت
لما كتموا سراهم وارتحلوا
…
عاشوا وفنيت
أصبحت وحيدا بعدهم في الرّبع
…
أحيا وأموت
أبكي وأقول لو يجيب الطلل
…
بالحب شقيت
ألا نلاحظ هنا ظاهرتين لهما مشابه في الموشح:
1) هذه التقسيمات التي تشبه ما في الموشح وينتج عنها الإيقاع
€
المطلوب للغناء.
2) أنه يسبق البيت الأخير ألفاظ (الإنشاد) كما في الدوبيت الأول، و (القول) في البيت الثاني وهو الذي يسبق الخرجة في الموشح، ثم نلاحظ أن فقرة تشبه الخرجة المعربة في الدوبيت الأول وهي يا ليتهم وفي الدوبيت الثاني بالحب شقيت.
حقيقة أن هذه الظاهرة ليست مطّردة ولكنها في المرات التي تأتي فيها لافتة لنظر الباحث.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على الدوبيتيات بل نراها أيضا في المربعات، ونجد في مقتطف ابن سعيد مربعا مجهول النسبة يقول «1» :
يا ساكني وادي زرود
…
هل لي وصول
لمن أبي إلا الصدود
…
عسي أقول
والله يا بدر التمام
…
يمين صادق
ما حلت عن تلك العهود
…
ولا أحول
فنراه بعد أن قال: عسي أقول، يأتي بما يشبه الخرجة المعربة في أسلوب بسيط أقرب إلى العامية في قوله: والله يا بدر التمام، يمين صادق، ما حلت عن تلك العهود، ولا أحول.
أنتقل بعد هذا إلى قراءة نصوص أخري في كتاب ابن سعيد تثير في نفسي تساؤلات عدة، وهي نصوص من الشعر العامي المشرقي والمغربي. ففي الخميلة الحادية عشرة المختصة بملح
€
(كان وكان) و (المواليا)، يقول ابن سعيد عن (كان وكان) :
ويعرفونه أيضا: البطائحي، لتولع أهل البطائح به، وأكثر ما حفظته من الملاحين في دجلة «1» .
ويقول عنه صفي الدين الحلي: ومخترعوه البغداديون، ثم تداوله الناس في البلاد فلم يجارهم فيه مجار، ولم يدخل لهم مبار في غبار «2» .
والواضح أن هذا الفن قد ظهر مبكرا في العراق منذ القرن الثالث أو بعده بقليل، وكان في بداية أمره فنا شعبيا، يقول صفي الدين الحلي عن ناظميه: لم ينظموا فيه سوي الحكايات والخرافات والمنصوبات والمراجعات، فكان قائلة يحكي ما كان وكان، ولفظه قالب لذلك، وقابل له، إلى أن كثر، واتسع طريق النظم فيه وظهر لهم مثل الشيخ العلامة قدوة الأفاضل جمال الدين بن الجوزي.
ونحن نعلم أن ابن الجوزي من علماء ووعاظ القرن السادس الهجري ت 597 هـ، فنشأة هذا الفن هي نشأة شعبية، ثم تحول إلى فن ينظم فيه الشعراء في موضوعات أخري مثل الزهديات والحكم، كما فعل ابن الجوزي، وهنا تظهر العلاقة بينه وبين فن الزجل الأندلسي.
وقبل الحديث تفصيلا عن تلك العلاقة أريد أن أقف عند فن شعبي آخر هو (المواليا) فقد ذكره ابن سعيد مع فن (كان وكان) في خميلة واحدة. ويقول عنه «3» : ويعرفونه أيضا بالحلّاوي لتولع أهل الحلة بعمله وبالغناء في طريقته، ويقول في موضع آخر: وسايرني من
€
نصيبين إلي الموصل عامر زرومي الفلاح الثعلبي، وكنت أسمع به أنه إمام هذا الفن، وله فيه ديوان مشهور بأيدي الناس وأكثره في عشق غلام من أولاد ردساء اليمرية من أعيان الأكراد، وتهتك في حبه، وسلم من القتل غير مرة.
ومعني هذا أن عامر زرومي الفلاح الذي كان إمام هذا الفن قد عاصر ابن سعيد واستمع إليه، وشد انتباهه بهذه المواليا التي كان يحس فيها بصدي الزجل الأندلسي.
وقد أورد ابن سعيد في مقتطفه نصوصا كثيرة من فني (كان وكان) و (المواليا) أكثر مما أورده من نصوص الزجل، علي الرغم من أنه ألف كتابه في المشرق سواء في مصر أو في حلب، وهي بيئة تعرف فنون الشعر العامي المشرقي، وكان الأولي أن يكثر من النصوص الزجلية ليقدمها إلي المشرقيين الذين كانوا يتوقون إلي سماعها، ولكن قراءة في بعض فقرات كتبها ابن سعيد تدل علي معرفة المشارقة بهذا الفن، وأنه كان لديهم فن يشبهه. يقول ابن سعيد معلقا على الزجل: والمشارقة لهم بهذا الفن غرام، ويعرفونه بالبليقي، وأشهرها في طريقته الحولي «1» ، ثم يروى بليقا أنشده الناس لهذا الشاعر، وهو بهذا القول يرى أن البلاليق هي نفسها الزجل، ونوع منه بصفة خاصة يسمي (الملاعب) والغريب أننا نجد في المقتطف نصا يرويه ابن سعيد كنموذج لفن (كان وكان)«2» ، ويرويه في (المغرب) في الجزء الخاص بمصر الذى نشر بعنوان (النجوم الزاهرة في
€
حلي حضرة القاهرة) كنموذج لفن البليق «1» ، وهو النص الذي يقول:
السود مسكا وعنبر
…
ما يحتمل تمعيك
والبيض ثوبا دبيقى
…
والسمر قضبان الذهب
ويذكر ابن سعيد أنه سمعه من باعة الجميز على شط خليج القاهرة يتغنون به، وهذا يؤكد أن الفروق بين تلك الفنون العامية لم تكن محددة، فنص ابن سعيد في المقتطف يدل على أنه كان يري في البلاليق المصرية صورة أخري من الأزجال الأندلسية، بل إنها هي نفسها، وذلك حين يقول عن الزجل الأندلسي في مصر: ويعرفونه بالبليقي، وهو نفسه ما كان يراه في المواليا بصفه خاصة في العراق.
وهذا ما يثير التساؤل: فما هي طبيعة العلاقة بين تلك الفنون، ولماذا أدرك ابن سعيد وهو الخبير بالزجل الأندلسي أن هذا الفن ليس فنا تنفرد به الأندلس، بل هناك ما يشابهه في المشرق أو ما هو صورة مشرقية له.
حقيقة أنه لم يذكر شيئا عن أسبق تلك الفنون ظهورا في العالم الإسلامي في مشرقة ومغربه في هذا الوقت. ولكن الدراسات التي قام بها بعض الباحثين ومن بينهم المرحوم عبد العزيز الأهواني ثم من بعده د. إحسان عباس قد ذكرت أن بدايات الزجل كانت في القرن الخامس الهجري «2» .
أما المواليا فيقول صفي الدين الحلي أن الذي اخترعه في أول أمره
€
أهل مدينة واسط تعلمه عبيدهم المتسلمون عمارة بساتينهم، والفعول، والمعامرة، والأبّارون فكانوا يغنون به فى رءوس النخيل، وعلى سقي المياه، ويقولون في آخر كل صوت مع الترنم: يا مواليا، إشارة إلى ساداتهم، فغلب عليه الاسم وعرف به، ويقول: ولم يزالوا على هذا الأسلوب حتى تسلمه البغاددة، فلطفوه ونقحوه، ورققوا ودققوا وحذفوا الإعراب منه، واعتمدوا على سهولة اللفظ ورشاقة المعني، ونظموا فيه الجد والهزل، والرقيق والجزل، حتى عرف بهم دون مخترعيه، ونسب إليهم وليسوا بمبتدعيه، ثم شاع في الأمصار، وتداوله الناس في الأسفار «1» .
ويقول صفي الدين الحلي أنه يشترك مع الزجل في بعض الخصائص ويختلف عنه في أخري، ومما يذكره من اختلاف استعمال البغاددة: الإمالة في المواليا. ولا شك أنه اختلاف ضروري لأنه نتيجة لاختلاف لهجة أهل العراق عن لهجة الأندلس. وهو ما لاحظه الدكتور إحسان عباس حسين وجد أن صفي الدين الحلي يقيس كلام الأندلسيين على كلام المشارقة في عصره، أو يقيسه على اللغة الفصحى في محاولته لاستخراج القواعد العامة للزجل الأندلسي ومدي اختلافه عن مثيله من الشعر العامي المشرقي.
ومن الأمور التي تلفت النظر في تاريخ الموشحات والأزجال أن يكون الاثنان اللذان شرحا قواعد هذين الفنين مشرقيين وهما: ابن سناء الملك الذي فسر قوانين التوشيح في كتابه (دار الطراز) ، وصفي الدين
€
الحلي في كتابه (العاطل الحالي) ، وكان منتظرا من ابن سعيد الذي عرف أنواع الشعر العامي في المشرق والمغرب أن يسهم في التفريق بين تلك الأنواع، والفقرات التي أشرنا إليها سابقا نقلا من كتابه المقتطف تثبت أنه إما أنه يخلط بين هذه الفنون، أو أنه كان يراها متقاربة أو متشابهة؛ لأن الزجل الأندلسى لم يكن له شكل ثابت أو موضوع ينظم فيه، بل نظم الزجالون في جميع الموضوعات التي نظم فيها الشعراء العرب قصائدهم الفصيحة اللغة.
ولا نستطيع أن نعد تلك الملاحظات الذي ذكرها ابن قزمان في مقدمة ديوانه أو التي سجلها ابن خلدون في مقدمته تمثل تعريفا واضحا لفن الزجل يجعلنا ندرك الفرق بينه وبين فنون القول الأخرى الملحونة التي ذكرها صفي الدين الحلي حين قال عنها- محاولا تحديد الفروق فيما بينها: فمنها ما يكون له وزن واحد وقافية واحدة، وهو (الكان وكان) ، ومنها ما يكون له وزن واحد وأربع قواف، وهو (المواليا) ، ومنها ما يكون له وزنان وثلاث قواف، وهو (القوما) ، ومنها ما يكون له عدة أوزان وعدة قواف، وهو (الزجل) «1» ويقول: ومجموع فنون النظم عند سائر المحققين سبعة فنون، لا اختلاف في عددها بين أهل البلاد، وإنما الاختلاف بين المغاربة والمشارقة في فنين منها
…
والسبعة المذكورة هي عند أهل المغرب ومصر والشام هذه: الشعر القريض، والموشح، والدوبيت، والزجل، والمواليا، والكان وكان،
€
والحماق، وأهل العراق وديار بكر ومن يليهم يثبتون الخمسة منها، ويبدلون الزجل والحماق بالحجازي والقوما، وهما فنان اخترعهما البغاددة للغناء بها في سحور شهر رمضان، خاصة في عصر الخلفاء الراشدين من بني العباس.
فإذا انتقل صفي الدين الحلي بعد ذلك إلى أقسام الزجل قال:
قسّمه مخترعوه على أربعة أقسام، يفرق بينها بمضمونها المفهوم، لا بالأوزان واللزوم، فلقبوا ما تضمن الغزل والنسيب والخمري والزهري:
(زجلا)، وما تضمن الهزل والخلاعة والأحماض:(بلقيا) ، وما تضمن الهجاء والثلب (قرقيا)، وما تضمن المواعظ والحكمة:(مكفرا)
…
وأطلقوا على كل ما أعرب بعض ألفاظه من هذه الفنون (المزنم) .
إن هذه التعريفات والتقسيمات التي وضعها صفي الدين الحلي لا تاريخ لدينا لنشأتها أو لتطورها، وإن كانت لدينا بعض أسماء المبكرين ممن نظموا فيها مثل ابن المقامر، والجلال، والعماد المرميط، وعلى بن المراغي، وهؤلاء جمعيا من العراق، والخولي من مصر.
ولكن الذي يلفت النظر في كلام صفي الدين الحلي أنه يقول إن الزجل هو لفظ عام لنوع من فنون الشعر العامي وتندرج تحته فنون أخري حسب موضوعاتها مثل البليق المصري الذي هو زجل يتضمن الهزل والخلاعة والأحماض، ولكن أليست أزجال ابن قزمان تتضمن هذا الموضوع أيضا.؟!
€
إن مجموع تلك الأسئلة التي تدور بخاطر قارئ كتاب المقتطف في خميلتيه الأخيرتين الخاصتين بالشعر العامي تجعلنا نتصور أن الرحلة المستمرة للشعراء والأدباء بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه سواء للحج أو للتعلم أو للتجارة أو لأسباب سياسية جعلت فنون الشعر العامي تتداخل فيما بينها، وتتشابه ملامحها وتتأثر فيما بينها، حتى إننا نجد أن الفروق تتحدد في الفروق بين لهجات أقاليم العالم الإسلامي المختلفة.
وفي رأيي أن الفارق الوحيد هو الفارق اللغوي، ولذا يتعذر معرفة السابق من اللاحق، إلا إذا نظرنا إلى أن استقرار العرب في الأندلس وتكوينهم لخلافتهم المستقلة عن خلافة بغداد كانت لا حقة، وبالتالي فإن فن شعرهم العامي لا حق علي الشعر المشرقي.
أ. د/ سيد حنفى
€
الهوامش
((1) - المقتطف ص 255.)
((2) - السابق ص 288.)
((3) - السابق ص 232.)
((4) - السابق ص 233.)
((5) - العاطل الحالى ص 1.)
((6) - المقتطف ص 225.)
((7) - السابق ص 231.)
((8) - السابق ص 237.)
((9) - السابق ص 239.)
((10) - العاطل الحالى ص 115.)
((11) - المقتطف ص 244.)
((12) - السابق ص 265.)
((13) - السابق ص 239.)
((14) - النجوم الزاهرة ص 372.)
((15) - انظر:- (الزجل فى الأندلس) للدكتور عبد العزيز الأهوانى- (تاريخ الأدب الأندلسى) مج 2 عصر الطوائف والمرابطين للدكتور إحسان عباس.)
((16) - العاطل الحالى ص 106- 107.)
((17) - العاطل الحالى ص 2.)
مصادر البحث ومراجعه:
1-
تاريخ الأدب الاندلسي د. إحسان عباس 2- الزجل في الأندلس د. عبد العزيز الأهواني 3- العاطل الحالي- صفي الدين الحلي تحقيق حسين نصار 4- المغرب في حلي المغرب- لابن سعيد الأندلسي تحقيق شوقي ضيف وزميليه 5- المقتطف من أزاهر الطرف- لابن سعيد الأندلسي تحقيق سيد حنفي 6- النجوم الزاهرة في حلي حضرة مصر والقاهرة لابن سعيد الأندلسي تحقيق حسين نصار