المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سلسلة إصدارات الناشر المتميز (100) الرسائل الجامعية (19)   المناظرات العقدية لشيخ الإسلام ابن - المناظرات العقدية لشيخ الإسلام ابن تيمية

[هيثم الحمري]

فهرس الكتاب

سلسلة إصدارات الناشر المتميز (100)

الرسائل الجامعية (19)

المناظرات العقدية

لشيخ الإسلام ابن تيمية

جمع ودراسة

تأليف

هيثم قاسم موسى الحمري

تقديم فضيلة الشيخ

أ. د. محمد بن عبد الرحمن الخميس

أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الناشر المتميز للطباعة والنشر والتوزيع الرياض

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

أصل هذا الكتاب: رسالة علمية تقدم بها الباحث لنيل الدرجة العالمية "الماجستير" من قسم العقيدة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وقد أجيزت بتقدير:

ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى والتوصية بالطبع

بتاريخ 21 شعبان 1438 هـ، وتكونت لجنة المناقشة من:

1 -

د. عبد العزيز بن صالح الطويان

مشرفًا.

2 -

أ. د. عبد الله بن سليمان الغفيلي

مناقشًا.

3 -

أ. د. صالح بن عبد العزيز سندي

مناقشًا.

ص: 4

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،

أما بعد،،،

فإن لعلماء الدعوة السلفية جهود عظيمة ومشكورة في نشر عقيدة السلف والدعوة إلى التوحيد الخالص والتحذير مما يناقض العقيدة الصحيحة من الشرك والبدع، ومن جملة هؤلاء العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد تصدى للرد على المخالفين من أهل البدع وأهل الضلال تأليفا ومناظرة وإفتاءا وتدريسا.

وقد اشتملت مناظرات شيخ الإسلام على المخالفين على مسائل عقدية وقواعد مهمة تستوجب مزيدا من الدراسة.

وفي بيان جهوده رحمه الله في المناظرة ما كتبه الباحث/ هيثم بن قاسم الحمري في رسالته للحصول على العالمية الماجستير والموسومة بـ ((المناظرات العقدية لشيخ الإسلام ابن تيمية - جمعا ودراسة-))، وقد حازت على درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من الجامعة الإسلامية، حيث أنه وفق للتصدي لجمع شتات المادة العلمية في هذه الرسالة، إذ أن مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية للمخالفين جاءت مبعثرة في كتب العقيدة وكتب التراجم وغيرهما.

وقد قسم الباحث تلك المناظرات على قسمين رئيسيين:

القسم الأول: في المناظرات مع الطوائف غير المسلمة

القسم الثاني: في المناظرات مع الفرق المنتسبة إلى الإسلام

وذكر تحت كل قسم عددا من الطوائف والفرق، ولذا عرض ما وقف عليه من المناظرات ودرسها مستدلا على ذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح.

فأسأل الله التوفيق للباحث والمزيد من العناية بالعقيدة الإسلامية الصحيحة والذب عنها.

وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

كتبه: أ. د. محمد بن عبد الرحمن الخميس

أستاذ العقيدة في كلية أصول الدين

بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

ص: 5

المقدمة

وتشتمل على:

-أهمية الموضوع

-وسبب اختياره

-وخطة البحث

-وحدود الموضوع

-والمنهج المتبع فيه.

ص: 6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المتصف بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال والجمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثل ولا مثال، شهادة أدخرها ليوم لا بيع فيه ولا خلال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى أصح الأقوال، وأسد الأفعال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وخير آل، صلاة دائمة بالغدو والآصال

(1)

.

أما بعد:

فإن من السنن الكونية التي قضاها رب البرية، الصراع بين أهل الحق والباطل، وأهل الضلال والهدى، هذا الصراع الذي لا يقتصر على مكان، ولا يحده ظرف ولا زمان، بل هو قضاء مستمر إلى قيام الساعة، فمنه ما يكون بالسيف والسنان، ومنه ما يكون بالحجة واللسان، وقد قضى ربنا سبحانه فيما قضى به، أن تكون الحرب بالسيوف سجالاً، فيومٌ للحق وأهله ويوم عليهم، وأما صراع الحجج والبراهين، فما زالت الغلبة فيه لأهل الحق من قبل ومن بعد، وإلى يوم يبعث الله الخلق، قال ابن حزم

(2)

رحمه الله: «وقد تُهزم العساكر الكبار، والحجة

(1)

الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (1/ 3).

(2)

هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، عالم الأندلس في عصره، كان له رياسة فزهد بها، وانصرف للعلم والدراسة، وسيرته معلومة مشهورة، ومن أشهر مصنفاته: "الفصل في الملل والأهواء والنحل، والمحلى، وغيرها، (ت:456). انظر: جذوة المقتبس (ص: 308)، وفيات الأعيان (3/ 325)، السير (18/ 184).

ص: 7

الصحيحة لا تُغلب أبداً

وقد قُتِلَ أنبياء كثير وما غُلِبت حجتهم قط»

(1)

.

وهذا الصراع تنوعت ميادينه، وتعددت طرقه وأساليبه، ومن أعظمها نفعاً، وأبلغها أثراً، أسلوب (المحاورات والمناظرات) التي تعتبر-إذا توفرت شروطها ومقتضياتها- من أنفع الوسائل في بيان الحق وأفضلها، ويزداد نفعها ويعظم أثرها عندما يكون المتصدي لها هو أحد أئمة الإسلام ورجاله العظام، كشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، صاحب العلم الجم والفهم الثاقب والحجج القوية والبراهين الساطعة، الذي كان علمه بمذاهب الخصوم أكثر من علم أصحابها بها، والذي لا يُعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه أهله.

ويعظم أثرها أكثر، إذا كان أهل الباطل هم أهل التمكن والمنعة، وأهل الحق في ضعف وقلة، فحينئذ يظهر الحق بظهور أهله، وكشفهم للباطل، وردهم للجاهل، وقمعهم لكل مجادل.

وهذه هي الحال التي كانت في عصر شيخ الإسلام، فقد كانت الصولة والجولة في ذلك الزمان لأهل البدع والأهواء، وكان سوق البدعة هو الرائج، وأهلها هم أصحاب السلطة والكلمة، فكان لوجود تلك المناظرات، في مثل ذلك العصر، الأثر الكبير البارز، في إظهار الحق وأهله، وفضح الباطل وجنده، ورحم الله ابن القيم حين قال في وصف شيخه:

وله المقامات الشهيرة في الورى

قد قامها لله غير جبان

نصر الإله ودينه وكتابه

ورسوله بالسيف والبرهان

أبدى فضائحهم وبيّن جهلهم

وأرى تناقضهم بكل زمان

(1)

الإحكام في أصول الأحكام (1/ 24).

ص: 8

وأصارهم واللهِ تحت نعال أهـ

ل الحق بعد ملابس التيجان

وأصارهم تحت الحضيض وطالما

كانوا هم الأعلام للبلدان

ومن العجائب أنه بسلاحهم

أرداهم تحت الحضيض الداني

كانت نواصينا بأيديهم فما

منا لهم إلا أسير عان

فغدت نواصيهم بأيدينا فما

يلقوننا إلا بحبل أمان

وغدت ملوكهم مماليكا لأنصـ

ار الرسول بمنة الرحمن

وأتت جنودهمُ التي صالوا بها

منقادة لعساكر الإيمان

(1)

ومثل هذه المناظرات العلمية الجليلة، التي حوت التقريرات السديدة، والمباحث المفيدة، كان من الأهمية بمكان جمعها في رسالة علمية، لعلها تكون نصرة للحق والدين، وإعانة لأهل العلم المجاهدين، ليستفيدوا من كلام هذا العلم العلامة في مواجهة الباطل وأهله، وأسأل الله العون والتيسير في ذلك، وما توفيقي إلا بالله وهو المستعان وعليه التكلان.

• أهمية الموضوع وسبب اختياره:

1) ما حوته هذه المناظرات من مسائل عقدية وأصول مهمة؛ تستوجب مزيداً من العناية، وتستحق الجمع والدراسة.

2) عدم الوقوف على دراسة كاملة لهذا الموضوع، جامعة لكل ما يتعلق به.

3) أن هذه المناظرات جاءت مبعثرة في الكتب والدواوين كالدرر المنتشرة الشاردة الآبدة، ولم أجد أحدًا جمع هذه الجواهر من تلك الخزائن المدفونة، وقد كانت الحاجة ماسة إلى نظم تلك اليواقيت في بحث واحد؛ لتكون عدة وسلاحاً لأهل الحق في إبطال العقائد المنحرفة.

4) في جمع هذه المناظرات دفاع عن ذلك العَلَم الهمام والشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، وبيان لفساد ما اتهمه به خصومه ورموه به من الجهل،

(1)

النونية (ص:231 - 232).

ص: 9

وسوء الفهم، والحقد الدفين في قلبه

(1)

، وضعف وقلة عقله، وغيرها من التهم الزائفة التي رماه بها أصحاب القلوب المريضة

(2)

، وكما هو معلوم أن الدفاع عن أحد أبرز أئمة أهل السنة، والرد على ما يرمى به من دعاوى، إنما هو دفاع عن المعتقد والمنهج الذي يحمله ذلك الإمام.

5) بيان ضعف شُبه المبتدعة التي يثيرونها ضد معتقد أهل السنة والجماعة، وذلك من خلال عرضها، ثم عرض أجوبة شيخ الإسلام عنها ومناقشته لها وإفحامه للقائلين بها.

6) أن هذ الأقوال والشبه التي رد عليها شيخ الإسلام وناظر أصحابها لا يزال أهل الأهواء يرددونها ويحتجون بها في زماننا.

7) أهمية جمع جهود أعلام الإسلام وأئمة السنة في نصرة الحق ودحض الباطل، في مختلف الجوانب، وما هذا العمل إلا إبراز وإظهار لجانب مهم من جهود شيخ الإسلام ألا وهو مناظراته مع الخصوم.

8) المكانة العلمية الجليلة التي يحظى بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وظهور حجته، وقوة تأثيره تجعل لجمع مناظراته أهمية بالغة وفائدة كبيرة خصوصاً في الرد على الطوائف المنحرفة والأديان المحرفة.

9) حرص الباحث على قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لما في ذلك من عظيم النفع وكبير الفائدة.

(1)

انظر بعض هذه التهم في: دفع شبه من شبَّه للحصني (ص:45 - 63، 94، 107، 121)، ومقدمة تحقيق أحمد محمد مرسي للبرهان الجلي لأحمد الغماري (ص:25)، والبرهان الجلي (ص:56، 57، 58، 76).

(2)

انظر بعض هذه التهم في: تحفة النظار في غرائب الأمصار (ص:112). والسيف الصقيل للسبكي (ص:21)، والجوهر المنظم للهيتمي (ص:28)، وفيض الوهاب للقليوبي (4/ 120)، والرد المحكم المبين لعبد الله الغماري (ص:50).

ص: 10

• حدود الموضوع:

حدود الموضوع تظهر من عنوان الرسالة، فالموضوع يختص بأمور ثلاثة:

الأمر الأول: المناظرات بمعناها الاصطلاحي وهو: المحاورة في الكلام بين جانبين مختلفين، في قضية ما، إظهارا للحق والصواب

(1)

.

وهذا يُخرج ما قد يطلق عليه مناظرة على سبيل التجوز كالردود الكتابية وغيرها.

الأمر الثاني: يختص الموضوع بالمناظرات العقدية دون غيرها من المناظرات.

الأمر الثالث: يختص الموضوع بمناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دون غيره من العلماء.

الدراسات السابقة:

1) «مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية لأهل الملل والنحل»

للدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف.

وهو عبارة عن كتيب صغير، جمع فيه مؤلفه ما وقف عليه من مناظرات لشيخ الإسلام وقد كان جمعه جمعاً طيباً إلا أنه لم يكن وافياً بالمقصود وذلك لأمور:

أ -أنه كان يذكر المناظرات على سبيل الاختصار فقط، فقد يترك ذكر شيءٍ من الأحداث والوقائع والنقاشات والحجج التي تطرح في كثير من المناظرات؛ لأن مقصده هو التنبيه على أصل المناظرة وموضوعها الرئيس فقط، وذلك بشكل ميسر ومختصر، وأقرب مثال على هذا أنه عندما ذكر مناظرة شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية إنما ذكرها في ورقتين ونصف باختصار شديد جداً، بينما نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد ذكرها وحكى ما حصل فيها في نحو سبعين ورقة.

(1)

انظر: دراسة تعريف المناظرة في المبحث الأول من التمهيد (ص 28 - 30).

ص: 11

ب -أنه لم يقم بدراسة المسائل العقدية الواردة في المناظرات.

ت -أنه يكتفي فقط بعد ذكر المناظرة بذكر بعض الفوائد المستفادة من المناظرة لا غير.

ث -أنه قد نبه في مقدمة بحثه على أن هذا الموضوع يحتاج لمزيد بحثٍ ودراسة وذلك لأهميته، ويظهر من صنيعه -وفقه الله- أنه إنما أراد أن يفتح المجال لمن أراد بعد ذلك أن يشرع بالبحث في الموضوع ودراسته. حيث قال في مقدمته (ص:5): «فلا تزال جوانب مهمة في هذا الشأن - مجالاً رحباً للباحثين، ومن ذلك: مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل، فهو موضوع لم يسبق بحثه، حسب اطلاعي، وأحسب أنه من الموضوعات المهمة، والجديرة بالبحث والدراسة» .

ج -أنه لم يتبع الطريقة الأكاديمية في البحوث العلمية والتي تسهل على الباحث بحثه وترتبه، من تقسيم البحث لأبواب وفصول ومباحث وغيرها.

ح -أنه قد فاته ذكر بعض مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية التي جرت بينه وبين بعض المخالفين.

2) «مناظرات ابن تيمية لفقهاء عصره» للسيد الجميلي.

الناظر في عنوان هذ الكتاب يتبادر إلى ذهنه أمران اثنان:

الأمر الأول: أن هذ الكتاب مخصص في المناظرات الفقهية فقط دون غيرها.

الأمر الثاني: أنه قد حوى جميع مناظرات شيخ الإسلام لفقهاء عصره أو على الأقل جلها ومعظمها.

ولكن للأسف فإن الكتاب لم يكن فيه شيء من هذا ولا ذاك وعليه ملاحظات كثيرة واكتفي هنا بذكر أهمها؛ لأنها تغني عما دونها:

أ -أنه لم يذكر من مناظرات شيخ الإسلام إلا ثلاث مناظرات فقط. وهذا بخلاف ما يتوهمه المرء عند قراءة العنوان لأول وهلة. بل العجيب أنه لم يذكر في

ص: 12

الحقيقة إلا مناظرة واحدة فقط وهي المناظرة في العقيدة الواسطية، أما المناظرتان الأخريان فإنهما في الحقيقة ليستا من مناظرات شيخ الإسلام في شيء، كما سيتبين في النقاط القادمة.

ب -أنه أورد في كتابه مناظرة مكذوبة على شيخ الإسلام وهي مناظرته مع ابن عطاء الله الإسكندري

(1)

والتي من قرأها يُخيل إليه أن ابن تيمية هو ذلك الرجل المسكين الضعيف الذي لا علم له ولا حجة، بل ويظهر فيها ابن عطاء الله الإسكندري هو العالم صاحب الحجة وشيخ الإسلام عنده كالتلميذ يعلمه ويفهمه ويزيل عنه الشبه، ويظهر فيها شيخ الإسلام كأنه مقر لهذ الرجل على ما يقرره من مشروعية التوسل والاستغاثة بغير الله، والدفاع عن ابن عربي وغيرها من الأمور التي يستحيل أن يقرها شيخ الإسلام أو أن يسكت عنها

(2)

.

ت -أما المناظرة الثالثة التي ذكرها فهي مناظرة لم تقع ولم تكن، وإنما هي من صنع قلمه؛ حيث قام بصنع مناظرة بين شيخ الإسلام وابن المطهر الحلي

(3)

ويبدو أنه قد اعتمد في ذلك على منهاج السنة فكان يأخذ شبهة ابن المطهر ويتبعها برد ابن تيمية كأنها على شكل مناظرة وبهذا يتبين أنه لم يذكر في كتابه إلا المناظرة المشهورة وهي مناظرة العقيدة الواسطية لا غير.

(1)

هو أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله الشيخ العارف تاج الدين أبو الفضل الإسكندري، فقيه مالكي وصوفي شاذلي الطريقة، كان من كبار القائمين على شيخ الإسلام ابن تيمية وبالغ في ذلك، من مصنفاته: لطائف المنن، والقصد المجرد في معرفة الاسم المفرد. (ت:709 هـ). انظر: الوافي بالوفيات (8/ 38) الدرر الكامنة (1/ 324).

(2)

وهذه القصة المكذوبة والمناظرة المزعومة إنما نقلها السيد الجميلي من كتاب "ابن تيمية الفقيه المعذب"(ص:202 - 210) للكاتب المسرحي الروائي اليساري عبد الرحمن الشرقاوي، وهي من وضع قلمه، واختلاق يده، لم تُذكر في شيء من كتب التاريخ ولا السير ولا التراجم، وليس لها وجود في شيء من كتب التراث= =الإسلامي إلا في هذا الكتاب ومن نقل عنه من بعده، وما أكثر ما اختلقه الأدباء والروائيون من قصص خيالية وأحداث وهمية لمشاهير الأمة وأعلامها!

(3)

ستأتي ترجمته (ص:429) من هذه الرسالة.

ص: 13

ث -وما تبقى من الكتاب وهو أكثر من النصف فإنما هو في أمور وتحليلات خارجة عن جوهر البحث.

وهناك ملاحظات أخرى كثيرة وفيما ذكر كفاية.

3) "مناظرة ابن تيمية للطائفة الرفاعية" أفردها عبد الرحمن الدمشقية في كتيب صغير مع بعض التعليقات عليها. ويظهر من عنوان الكتاب كما هو واضح أنه إنما يتكلم عن مناظرة واحدة فقط من مناظرات شيخ الإسلام.

4) هناك كتب عامة لم تختص بذكر مناظرات شيخ الإسلام فقط وإنما كان أصحابها يوردون المناظرات المختلفة وقد يوردون مناظرة أو مناظرتين لشيخ الإسلام ابن تيمية عرضاً لا قصداً كما فعل سليم الهلالي في كتابه: " مناظرات أئمة السلف مع حزب إبليس وأفراخ الخلف".

• خطة البحث:-

تشتمل خطة البحث على: مقدمة وتمهيد وبابين وخاتمة وفهارس:

-أما المقدمة فتشتمل على أهمية الموضوع وسبب اختياره وخطة البحث والمنهج المتبع فيه.

-وأما التمهيد فيشتمل على مبحثين:

• المبحث الأول: تعريف المناظرة وأحكامها، ويشتمل على ثلاثة مطالب:

o المطلب الأول: تعريف المناظرة لغةً واصطلاحاً. ويشتمل على مسألتين:

المسألة الأولى: تعريف المناظرة لغة.

المسألة الثانية: تعريف المناظرة اصطلاحا.

o المطلب الثاني: أركان المناظرة.

o المطلب الثالث: حكم المناظرة.

• المبحث الثاني: التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية ومنهجه في المناظرات: ويشتمل على مطلبين:

ص: 14

o المطلب الأول: التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية.

o المطلب الثاني: منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في المناظرات.

• الباب الأول: مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع غير المسلمين:

ويشتمل على أربعة فصول:

• الفصل الأول: مناظراته مع النصارى ويشتمل على أربعة مباحث:

• المبحث الأول: مناظرته مع بعض علماء النصارى في تأليه المسيح وشبهتهم في ذلك: ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الثاني: مناظرته مع بعض النصارى في تشبيههم اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح في البدن: ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الثالث: مناظرته مع ثلاثة من رهبان الصعيد في احتجاجهم على شركهم بفعل بعض الجهلة من المنتسبين للإسلام: ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الرابع: مناظرته مع بعض معظمي رهبان النصارى في جعلهم الشرك من باب التوسل. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• الفصل الثاني: مناظرته مع بعض التتار في زعمه أفضليتهم بفضل ملكهم. ويشتمل على مبحثين:

ص: 15

o المبحث الأول: عرض المناظرة.

o المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• الفصل الثالث: مناظرته مع بعض المنجمين في فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بها. ويشتمل على مبحثين:

o المبحث الأول: عرض المناظرة.

o المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• الفصل الرابع: مناظرته مع بعض الفلاسفة. ويشتمل على مبحثين:

o المبحث الأول: عرض المناظرة.

o المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• الباب الثاني: مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع الطوائف المنتسبة للإسلام، ويشتمل على ستة فصول:

• الفصل الأول: مناظراته مع الاتحادية، ويشتمل على خمسة مباحث:

• المبحث الأول: مناظرته مع بعض حذاق الاتحادية في قولهم بأن الإحاطة هي الوجود المطلق، وفي أن أصل قولهم يرجع إلى القول بالوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الأعيان. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الثاني: مناظرته مع شيخ من شيوخ الاتحادية في اعتقاده فناء الحلاج واتحاد الحق سبحانه به. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الثالث: مناظرته مع جماعة من الاتحادية العارفين بالفلسفة وغيرها والداخلين في التصوف والزهد في اعتقادهم أن ابن هود هو الله وهو

ص: 16

المسيح ابن مريم. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الرابع: مناظرته مع حسام الدين الكرماني في معتقد ابن حمويه في التوحيد والإلحاد. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الخامس: مناظرته مع بعض شيوخ الاتحادية في رفضه قتال التتار لاعتقاده أن هذا قتال لله. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• الفصل الثاني: مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع الصوفية وعباد القبور: ويشتمل على تسعة مباحث:

• المبحث الأول: المبحث الأول: مناظرته مع بعض الرفاعية حول ما يدعونه من المخاريق. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الثاني: مناظرته مع جماعة من الرفاعية فيما يزعمونه من إشارات وأحوال. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الثالث: مناظرته مع شيخ من شيوخ الرفاعية في تعبدهم بلبس الأغلال. ويشتمل على مطلبين:

ص: 17

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الرابع: المناظرة الكبرى مع الرفاعية في قصر الإمارة. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الخامس: مناظرته مع بعض الرفاعية في دعواه دخول التنور وعدم الاحتراق بذلك. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث السادس: مناظرته مع بعض من يحسن الظن بالأحجار ويجوزون التبرك بها. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث السابع: مناظرته مع جماعة يستشفون بقبور العبيدين ويعتقدون ولايتهم. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الثامن: مناظرته مع بعض شيوخ المشرق في جواز دعاء القبور والحديث الموضوع في هذا. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث التاسع: مناظرته مع بعض المشايخ الذين يستغيثون بغير الله

ص: 18

ويدَّعون ظهور صورته لهم. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• الفصل الثالث: مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع الرافضة، ويشتمل على مبحثين:

• المبحث الأول: مناظرته مع أحد شيوخ الرافضة في عقيدة العصمة. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الثاني: مناظرته مع أحد أكابر شيوخ الرافضة في عقيدة الإمامة. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• الفصل الرابع: مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع المتكلمين: ويشتمل على سبعة مباحث:

• المبحث الأول: مناظرته مع مجموعة من القضاة والعلماء حول العقيدة الواسطية بحضرة نائب السلطان. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الثاني: مناظرته مع بعض المؤولة للأسماء والصفات في بطلان التأويل وفي صفة اليد وغيرها من المسائل. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

ص: 19

• المبحث الثالث: مناظرته مع ابن المرحل في تعلق الصفات وهل الحب والبغض ونحوها من الصفات وجودية أم عدمية؟ ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الرابع: مناظرته مع غير واحد من نفاة الصفات في مسألة الرؤية. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث الخامس: مناظرته مع بعض من يدعي أن الله يتكلم بكلام لا معنى له. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث السادس: مناظرته مع بعض المشغوفين بأهل الكلام في بطلان طريقتهم إما في الدلائل أو المسائل. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• المبحث السابع: مناظرته مع بعض منكري العلو من شيوخ المتكلمين. ويشتمل على مطلبين:

o المطلب الأول: عرض المناظرة.

o المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة

• الفصل الخامس: مناظرته مع بعض الجبرية الإباحية المحتجين بالقدر:

ويشتمل على مبحثين:

o المبحث الأول: عرض المناظرة.

ص: 20

o المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

• الفصل السادس: مناظرته مع ابن الوكيل الشافعي في نسبته قول المرجئة لأهل السنة والجماعة، ودفاعه عن ذلك: ويشتمل على مبحثين:

o المبحث الأول: عرض المناظرة.

o المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

-الخاتمة

-الفهارس:

o فهرس الآيات القرآنية.

o فهرس الأحاديث والآثار.

o فهرس الأعلام المترجم لهم.

o فهرس الفرق والطوائف.

o قائمة بمصادر البحث.

o فهرس تفصيلي للموضوعات.

تنبيه: أثناء تقييد البحث وكتابته -أي بعد تقديم الخطة واعتمادها- عثرت على بعض المناظرات الأخرى، ولم تسنح الفرصة لإضافتها ضمن البحث بسبب عدم سماح النظام الأكاديمي بذلك، وقد أثبتها الآن في مواضعها المناسبة كـ (ملحق للأصل)، وحيث أن أغلب مواضيعها مما قد تمت دراستها سابقاً ضمن فصول الرسالة، فقد اكتفيت بإيراد نص المناظرة، مع تخريج لأحاديثها وفق المقرر في الخطة، وتبيين للغوامض فيها، وشيء من التعليقات اليسيرة عليها.

• منهجي في كتابة البحث:-

1) جمعت المناظرات من جميع مؤلفات شيخ الإسلام المطبوعة، وكتب التراجم وغيرها قدر المستطاع.

2) قسمت المناظرات على حسب الطوائف والمعتقدات، وجعلت هناك قسمين رئيسين: الأول: في المناظرات مع الطوائف غير المسلمة. والثاني: في

ص: 21

المناظرات مع الطوائف المنتسبة للإسلام. وتحت كل قسم عدد من الطوائف والفرق، وذكرت تحت كل طائفة المناظرات التي جرت معها مقسمة على شكل مباحث، وتحت كل مبحث مطلبان: أحدهما في عرض المناظرة، والآخر في دراستها.

3) قمت في كل مبحث بعرض نص المناظرة كاملاً، ثم دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في المناظرة وذلك من خلال الاعتناء بتقريرات شيخ الإسلام في المسألة المراد دراستها وذلك من مختلف كتبه ورسائله، واعتني في دراستي بذكر أصل الشبهة عند المخالف -إن وجدت- والجواب عليها، وعند تكرر بعض المسائل فإني أشير إلى أنه قد تم دراستها في ما سبق.

4) عزوت الآيات إلى سورها بذكر السورة ورقم الآية.

5) عزوت الأحاديث إلى مظانها من كتب السنة، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بعزوه إليهما وإن كان في غيرهما عزوته إلى مصادره مع نقل حكم العلماء فيه.

6) وثقت النقول من مصادرها الأصلية.

7) قمت بالتعريف بالأعلام والفرق والملل والطوائف والأمكنة غير المشتهر منها.

8) قمت بخدمة البحث بفهارس علمية تيسر للباحث الوصول إلى الفائدة المرادة.

كلمة الشكرأحمد ربي -جل وعلا- وأشكره، فله الحمد كله وله الشكر كله، ومنه الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، لولاه ما كتبنا ولا قرأنا، ولا علمنا ولا تعلمنا، فكل فضل فهو منه، وكل منة فهي راجعة إليه، ولا حول ولا قوة لنا إلا به.

فله الحمد والشكر أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً، له الحمد حتى يرضى وله الحمد إذا رضي وله الحمد بعد الرضا، له الحمد عدد كل شيء، وملء كل شيء، ووزن كل

ص: 22

شيء، وعدل كل شيء، لا نحصي ثناء عليه، ولا نبلغ حمده، ولا ندرك فضله.

سُبْحَانَ مَنْ لَوْ سَجَدْنَا بِالْعُيُونِ لَهُ

عَلَى حمى الشَّوْكِ وَالْمَحْمِيِ مِنَ الْإِبَرِ

لَمْ نَبْلُغِ الْعُشُرَ مِنْ مِعْشَارِ نعمته

وَلا الْعُشَيْرَ وَلا عُشُرًا مِنَ الْعُشُرِ

ثم إني أتقدم بالشكر لوالديّ وقرة عينيّ اللذين كانا سبباً في وجودي، وعوناً في هدايتي واستقامتي، وسنداً لي في جميع أمور حياتي.

ولا أنسى أن أشكر الجامعة التي احتضنتنا، ومن معينها الصافي نهلنا، وفيها تعلمنا ومنها تخرجنا ألا وهي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية حرسها الله.

والشكر موصول للشيخ الدكتور/ عبد العزيز الطويان على تفضله بالإشراف على رسالتي، وما قدمه لي من توجيه وإرشاد.

وللشيخين الفاضلين / الشيخ الدكتور صالح السندي، والشيخ الدكتور عبد الله الغفيلي على تفضلهما بمناقشة رسالتي، وإرشادي وإفادتي.

والشكر كذلك لكل من ساعدني وساندني بكلمة أو مشورة أو نصيحة أو معلومة.

فجزى الله الجميع خيراً، وأجزل لهم الأجر والمثوبة.

كتبه

أبو عبد العزيز هيثم بن قاسم الحمري

مملكة البحرين -حرسها الله-

ص: 23

‌التمهيد:

ويشتمل على مبحثين:

المبحث الأول:

تعريف المناظرة وأحكامها

المبحث الثاني:

التعريف بشيخ الإسلام ومنهجه في المناظرات

* * *

ص: 25

‌المبحث الأول: تعريف المناظرة وأحكامها:

ويشتمل على:

المطلب الأول: تعريف المناظرة لغة واصطلاحاً.

المطلب الثاني: أركان المناظرة.

المطلب الثالث: حكم المناظرات

* * *

ص: 27

المبحث الأول: تعريف المناظرة وأحكامها، ويشتمل على ثلاثة مطالب:

‌المطلب الأول: تعريف المناظرة لغة واصطلاحاً:

‌تعريف المناظرة لغة:

المناظرة مشتقة في اللغة من (النظر)، و (النظر) يدور في اللغة على معنين اثنين:

1 -

المعنى الأول: النظر الذي هو حس البصر ورؤيته، ومنه قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23 - 24].

2 -

المعنى الثاني: النظر بمعنى التفكر والتأمل، ومنه قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:185].

قال ابن فارس

(1)

رحمه الله: «النون والظاء والراء أصل صحيح يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته، ثم يستعار ويتسع فيه. فيقال: نظرت إلى الشيء أنظر إليه، إذا عاينته. وحَيٌّ حِلَالٌ نَظَرٌ: متجاورون ينظر بعضهم إلى بعض»

(2)

.

(1)

أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب أبو الحسين القزويني، من أئمة اللغة والأدب، من مصنفاته: مقاييس اللغة، والمجمل، (ت:395 هـ). انظر: البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة (1/ 7)، السير (17/ 103)، والبداية والنهاية (11/ 335).

(2)

مقاييس اللغة (5/ 444).

ص: 29

فبين رحمه الله أن مادة نظر ترجع إما إلى تأمل الشيء وهو النظر الذي بمعنى التفكر والتأمل، وإما إلى معاينة الشيء وهو النظر الذي بمعنى حس البصر ورؤيته.

وقد جعل بعض الباحثين أصلاً ثالثاً ترجع إليه مادة (نظر): وهو النظر بمعنى الانتظار، والصواب أن هذا المعنى يرجع أيضاً إلى معنى النظر بعين البصر أو البصيرة، فما هو إلا فرع مقيس على الأصلين المذكورين كما بين ذلك ابن فارس رحمه الله فقال:«ويقولون: نظرته، أي: انتظرته. وهو ذلك القياس، كأنه ينظر إلى الوقت الذي يأتي فيه»

(1)

، وقال:«ومن باب المجاز والاتساع قولهم: نَظَرَتِ الأرضُ: أَرَتْ نَبَاتَهَا. وهذا هو القياس. ويقولون: نَظَرَتْ بِعَيْنٍ. ومنه نَظَرَ الدهر إلى بني فلان فأهلكهم. وهذا نظير هذا، من هذا القياس; أي أنه إذا نظر إليه وإلى نظيره كانا سواء. وبه نَظْرَةٌ، أي شحوب، كأنه شَيْءٌ نُظِرَ إِلَيْهِ فشحب لونهُ، والله أعلم بالصواب»

(2)

، وعليه فكل استعمال غير هذين الاستعمالين -كالانتظار وغيره- إنما هو مستعار منهما ومقيس عليهما.

وقال الراغب الأصفهاني

(3)

رحمه الله: «النظر: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته»

(4)

.

وقال أبو هلال العسكري رحمه الله

(5)

: «وحد النظر طلب إدراك الشيء من جهة

(1)

مقاييس اللغة (5/ 444).

(2)

المصدر السابق (5/ 444).

(3)

هو أبو القاسم، الحسين بن محمد بن المفضل الاصبهاني، الملقب بالراغب، من كتبه المفردات في غريب القرآن، والذريعة في مكارم الشريعة، اختلف في سنة وفاته وأكثر المترجمين على أنه توفي في أوائل المئة الخامسة، وذهب بعضهم إلى أنه توفي في نصف المئة الرابعة. انظر: السير (18/ 120)، الأعلام للزركلي (2/ 255).

(4)

المفردات (ص: 518).

(5)

هو الحسن بن عبد الله بن سهل أبو هلال العسكري، لغوي أديب شاعر، من مصنفاته:"الفروق في اللغة" و"التلخيص في اللغة" توفي بعد: (395 هـ). انظر: البلغة (1/ص 16). الوافي بالوفيات (12/ 51).

ص: 30

البصر أو الفكر ويحتاج في إدراك المعنى إلى الأمرين جميعاً

، وأصل النظر المقابلة فالنظر بالبصر الإقبال نحو ..

(1)

، والنظر بالقلب الإقبال بالفكر نحو المفكر فيه»

(2)

.

ويؤخذ من كلام ابن فارس والراغب الأصفهاني وأبي هلال العسكري أن النظر يقع على المحسوسات وعلى المعاني، فما كان من المحسوسات فالنظر إليه بالبصر وما كان من المعاني فالنظر فيه بالبصيرة والعقل.

فمن النظر بالبصر قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23 - 24]، ومن النظر بالبصيرة وهو التفكر والتدبر قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:185]{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101]

والمناظرة التي نحن بصدد تعريفها ترجع إلى هذين الأصلين فهي مأخوذة من نظر الحس وبصره، حيث ينظر كل منهما إلى صاحبه بعين البصر، ومأخوذة من نظر التفكر والتأمل فينظر كل منها في إلى الأدلة والحجج والأقوال بعين البصيرة، والملاحظ أن المعنى الأخير هو الجانب الأكبر في المناظرة، حيث لا تخلو منه المناظرة ولا تصح دونه بحال؛ ولذلك نجد أن أهل اللغة قد ركزوا في تعريفهم للمناظرة على هذا الجانب، فقال الخليل بن أحمد الفراهيدي

(3)

رحمه الله في تعريفه للمناظرة: «أن تناظر أخاك في أمر إذا نظرتما فيه كيف تأتيانه»

(4)

. وتبعه على هذا الأزهري

(5)

في

(1)

هكذا في المطبوع، ويبدو أن هناك سقطاً في الكلام، ولعله "الإقبال بالنظر نحو المُبَّصر".

(2)

الفروق اللغوية للعسكري (ص: 74).

(3)

هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمر بن تميم الفَرَاهِيدِي، صاحب العربية ومنشئ علم العروض، صنف كتاب الجمل وكتاب الشواهد وكتاب العروض وكتاب العين وكتاب الإيقاع وكتاب النقط والشكل وغير ذلك، (ت: 160 هـ). انظر: معجم الأدباء (11/ 72)، السير (7/ 429)، وفيات الأعيان (2/ 244).

(4)

العين (8/ 156).

(5)

هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة الأزهري الهروي اللغوي الشافعي، اعتنى بالفقه أولاً ثم غلب عليه التفقه في اللغة، له تهذيب اللغة، وغريب الألفاظ، (ت:370 هـ). انظر: الوافي بالوفيات (2/ 34)، البلغة (1/ 59).

ص: 31

تهذيب اللغة

(1)

، والزبيدي

(2)

في تاج العروس

(3)

، وغيرهم من أهل اللغة.

ونجد الراغب الأصفهاني رحمه الله يركز أيضاً على هذا الجانب في تعريفه للمناظرة فيقول: «والمناظرة المباحثة والمباراة في النظر واسْتِحْضَارُ كُلِّ ما يَرَاهُ ببصيرته»

(4)

.

وجمع الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

(5)

، في تعريفه للمناظرة بين المعنيين المذكورين فقال:«فالمناظرة في اللغة: المقابلة بين اثنين كل منهما ينظر إلى الآخر، أو كل منهما ينظر بمعنى يفكر»

(6)

.

‌تعريف المناظرة اصطلاحاً:

عرف الجرجاني

(7)

رحمه الله المناظرة في الاصطلاح بأنها: «النظر بالبصيرة من

(1)

/40).

(2)

هو محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الزبيدي، أبو الفيض، الملقب بمرتضى: له اطلاع واسع في اللغة والحديث والرجال والأنساب، أصله من العراق ومولده بالهند ونشأته في اليمن ووفاته بمصر، من مصنفاته "تاج العروس" و"إتحاف السادة المتقين" (ت:1205 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (7/ 70) ومعجم المؤلفين (11/ 282).

(3)

/254).

(4)

المفردات (ص: 518).

(5)

هو محمد الأمين بن محمد بن المختار الجنكي الشنقيطي، المدرس بالمسجد النبوي وأصله من بلاد موريتانيا، وله عدة مصنفات، من أشهرها:" أضواء البيان في تفسر القرآن" و"آداب البحث والمناظرة"(ت:1393 هـ)، ودفن في مكة المكرمة. انظر جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1/ 29 - 84). ومجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ص:10 - 15).

(6)

آداب البحث والمناظرة (ص:139).

(7)

هو علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني: متكلم، من كبار علماء العربية، له مصنفات، منها: التعريفات، وشرح المواقف، (ت:816 هـ). انظر: الوافي بالوفيات (22/ 56)، بغية الوعاة (2/ 196).

ص: 32

الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارا للصواب»

(1)

.

وتابعه على هذا التعريف المناوي

(2)

في "التوقيف على مهمات التعريف"

(3)

، وأبو البقاء الحنفي

(4)

في "الكليات"

(5)

، ومن الفقهاء صاحب

(6)

"حاشية الجمل على شرح المنهج"

(7)

، والبيجرمي

(8)

في "حاشيته على المنهج"

(9)

.

وعرفها عبد الوهاب الآمدي

(10)

رحمه الله بأنها: «تردد الكلام بين شخصين يقصد كل منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه مع رغبة كل منهما في ظهور الحق»

(11)

.

(1)

التعريفات (ص 298).

(2)

هو محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، زين الدين، له مصنفات وتآليف كثيرة، منها: التوقيف على مهمات التعريف، كنوز الحقائق وغيرها، (ت:1031 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (6/ 204)، معجم المؤلفين (10/ 166).

(3)

ص:316).

(4)

هو أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي، كان من قضاة الأحناف، توفي في تركيا. من مصنفاته "الكليات"(1094 هـ). انظر الأعلام للزركلي (2/ 39) معجم المؤلفين (3/ 31).

(5)

الكليات (1/ 1369).

(6)

هو سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري، المعروف بالجمل، مفسر فقيه، له مؤلفات منها: الفتوحات الإلهية، والمواهب المحمدية بشرح الشمائل الترمذية وغيرها، (ت: 1204 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (3/ 131)، معجم المؤلفين (4/ 271).

(7)

حاشية الجمل على شرح المنهج (1/ 4).

(8)

هو سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي، فقيه مصري، ولد في بجيرم (من قرى الغربية بمصر)، من مصنفاته: التجريد، وتحفة الحبيب وغيرها، (ت:1221 هـ). انظر الأعلام للزركلي (3/ 133)، معجم المؤلفين (4/ 275).

(9)

حاشية البجيرمي على شرح المنهج (1/ 4).

(10)

هو السيد عبد الوهاب بن حسين بن ولي الدين الآمدي الجرمكي، نحوي منطقي بياني، أصله من تركيا، وله شرح الرسالة الولدية في آداب البحث والمناظرة، (ت: 1190 هـ). انظر: هدية العارفين (1/ 643)، معجم المطبوعات العربية (2/ 995).

(11)

شرح الولدية في آداب البحث والمناظرة (ص: 57).

ص: 33

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله-في تعريفه للمناظرة اصطلاحاً: «وهي في الاصطلاح: المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر مع رغبة كل منهما في ظهور الحق، فكأنها بالمعنى الاصطلاحي مشاركتهما في النظر الذي هو النظر المؤدي إلى علم أو غلبة ظن ليظهر الصواب»

(1)

.

وقال طاش كُبري زاده

(2)

:

هي النظر من جانبي خصمين

معلل وسائل اثنين

في نسبة بينهما حكميه

ليظهر الصواب والخفية

(3)

وبالجمع بين هذه التعاريف جميعها يتلخص لنا أن المناظرة لا تسمى مناظرة حتى تجمع الأمور التالية:

أولاً: أن تكون المناظرة بين شخصين أو جانبين مختلفين، وتعبير الجرجاني رحمه الله بـ"الجانبين" أدق من تعبير غيره بـ"شخصين"؛ لأن المناظرة قد تكون بين شخصين وقد تكون بين أكثر من ذلك، فلا بد أن يكون فيها جانبان متناظران بغض النظر عن عدد كل جانب، والآمدي في تعريفه للمناظرة إنما نظر إلى أقل ما يتحقق به اسم المناظرة وهو وجود شخصين.

ثانياً: أن تكون بحضور الجانبين ومحاورتهما لبعضهما عن طريق الكلام، فيخرج بذلك ما قد يطلق عليه مناظرةً على سبيل التجوز كالردود الكتابية ونحوها.

ثالثاً: أن يكون الهدف منها إظهار الحق والصواب، وتعبير الجرجاني بقوله:«إظهاراً للصواب» أدق من تعبير الآمدي وغيره بقولهم: «مع رغبة كل منهما في

(1)

آداب البحث والمناظرة (ص:139).

(2)

هو أبو الخير، أحمد بن مصطفى بن خليل: عصام الدين طاش كبري زاده: مؤرخ تركي الأصل، مستعرب، ومن مؤلفاته: الشقائق النعمانية، ومفتاح السعادة، (ت:968 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (1/ 257)، معجم المؤلفين (2/ 177).

(3)

منظومة طاش كبري زاده ضمن مجموع المتون الكبير (ص:548).

ص: 34

ظهور الحق»؛ وذلك لأن المراد بالمناظرة إظهار الحق مطلقاً سواء لهما أو لأحدهما أو لغيرهما ممن حضر مناظرتهما أو سمعها، فالمقصود إظهار الصواب والحق، وهذا الشرط إنما جعل احترازاً من الجدال الذي لا يراد منه التوصل إلى الحق، وإنما يراد إفحام الخصم وإسكاته، سواء كان حقاً أو باطلاً.

وبتعداد هذه الأمور التي نص عليها أهل الفن مما يجب توافره في المناظرة، يتضح لك أن التعريفات السابقة وإن كانت وافية بغالب المقصود إلا أنه لم يخل شيء منها من قصور في ناحية من النواحي؛ ولذلك فإن التعريف المختار للمناظرة اصطلاحاً هو: المحاورة في الكلام بين جانبين مختلفين، في قضية ما، إظهاراً للحق والصواب.

‌المطلب الثاني: أركان المناظرة:

يظهر بوضوح مما ذكره أهل العلم في تعريف المناظرة وحدِّها، أن للمناظرة ثلاثة أركان رئيسة لا تقوم إلا بها، وهذه الأركان هي:

الركن الأول: موضوع مختلف فيه، تجري فيه المناظرة.

الركن الثاني والثالث: طرفان متناظران.

أحدهما: مُدع، أو ناقل خبر: ويسمى في علم المناظرة (مانعاً) أو (معللاً).

والآخر: معترض عليه: ويسمى في علم المناظرة (مستدلاً) أو (سائلاً)

(1)

.

(1)

فإن كان الموضوع (تعريفاً أو تقسيماً) سُمي المعترِض عليه (مُستدلاً)، وسمي صاحب التعريف أو التقسيم (مانعًا). وإن كان الموضوع (تصْديقاً) - أي قضية منطقية سواء أكانت مصرَّحا بها أو مفهومة من ضمن الكلام- فالمعترِض عليه يسمى (سائلاً)، وصاحب التصديق ومقدِّمه يسمى (مُعلِّلا).

وإنما سمي من يعترض على التعريف (مستدلاً) والآخر (مانعاً)؛ لأن الاعتراض على التعريف لا يتم بالدعوى مجردة، بل لابد لمدعى فساد التعريف من إقامة الدليل على دعواه اختلال شرط من شروط صحته مثلا وبذلك يتجه كونه مستدلا، ويقصدون بتسمية الآخر مانعاً أن جوابه عن الاعتراض على تعريفه يكفي أن يكون بمنع مقدمة من مقدمات دليل البطلان سواء ذكر سنداً لمنعه أو لم يذكره، وبذلك يتجه كونه مانعاً. انظر: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة (ص:376)، وآداب البحث والمناظرة (ص:139).

ص: 35

والأصل أن الأول (المعلل أو المانع) هو الذي يبدأ بالكلام وطرح الموضوع أو المسألة، ثم يوجه (السائل أو المستدل) عليه اعتراضه ويناقشه ويحاوره فيما طرح، وقد ينعكس الحال أثناء المناظرة، فينقلب السائل معللا والمعلل سائلاً، وذلك بحسب ما يتجدد من قضايا ومسائل أثناء الحوار والتناظر

(1)

.

‌المطلب الثالث: حكم المناظرات:

الجدال والمناظرة من حيث الحكم على قسمين

(2)

:

‌القسم الأول: جدل وتناظر محمود:

وهذا النوع من الجدل والمناظرات مشروع بالكتاب والسنة وفعل الصحابة وسلف الأمة:

فأما أدلة الكتاب فقد تنوعت دلالات القرآن الكريم على مشروعية المناظرات المحمودة -وما في معناها-وجوازها:

منها الأدلة المصرحة بالأمر بها والحث عليها كقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].

ومنها الأدلة الحاكية لشيء مما جرى من المناظرات بين أهل الحق

(1)

انظر: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة (ص:376)، وآداب البحث والمناظرة (ص:139) والتعريفات للجرجاني (ص 298)، والتعاريف للمناوي (ص 678).

(2)

هذا التقسيم سار عليه عدد كبير من العلماء المحققين وممن نص عليه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/ 230 - 235)، وابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (1/ 21 - 26)، وأبو المعالي الجويني في الكافية في الجدل (ص:22 - 24)، وشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في درء التعارض (7/ 156، 167)، وانظر: منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد (1/ 279 - 314).

ص: 36

وأهل الباطل على سبيل التقرير والاستشهاد، كمناظرات الأنبياء مع أقوامهم، قال تعالى:{قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود:32]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258] وغيرها من الأدلة.

ومنها الأدلة المثنية على من قام بمحاجة ومناظرة أهل الباطل كما قال سبحانه بعد حكاية مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83].

ومنها تقريره لقواعد فن المناظرة وأنواع الحجج والأدلة والأقيسة، قال ابن القيم رحمه الله:«وإذا تأملت القرآن وتدبرته وأعرته فكراً وافياً اطلعت فيه من أسرار المناظرات وتقرير الحجج الصحيحة وإبطال الشبه الفاسدة، وذكر النقض والفرق والمعارضة والمنع على ما يشفي ويكفي لمن بصره الله وأنعم عليه بفهم كتابه»

(1)

. وقال رحمه الله: «والمقصود ان القرآن مملوء بالاحتجاج وفيه جميع أنواع الادلة والأقيسة الصحيحة»

(2)

، وقال شيخ الإسلام رحمه الله:«وفيه من مناظرة المخالفين وإقامة البراهين على أصول الدين ما لم يذكر مثله في التوراة، مع أنه لم ينزل كتاب من السماء أهدى من القرآن والتوراة»

(3)

.

ومنها الأوامر العامة بالدعوة إلى سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والأمر بإحقاق الحق ورد الباطل، وغيرها من الأوامر التي تتضمن مناظرة أهل الباطل ومحاججتهم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأما ما في القرآن من ذكر أقوال الكفار وحججهم وجوابها، فهذا كثير جداً، فإنه يجادلهم تارة في التوحيد، وتارة في النبوات، وتارة في المعاد، وتارة في الشرائع بأحسن الحجج وأكملها، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)

(1)

بدائع الفوائد (4/ 130)

(2)

مفتاح دار السعادة (1/ 146)

(3)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (5/ 72).

ص: 37

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:32 - 33].

وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أولي العزم من الرسل بمجادلة الكفار فقال تعالى: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود:32]، وقال عن الخليل:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80]، إلى قوله:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام:83].

وأمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالمجادلة بالتي هي أحسن، وذم سبحانه من جادل بغير علم، أو في الحق بعدما تبين، ومن جادل بالباطل:{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران:66]. وقال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6]، وقال تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] وهذا هو الجدال المذكور في قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]»

(1)

.

وأما السنة: فقد دلت السنة بأنواعها القولية والفعلية والتقريرية على مشروعيتها، فمن السنة القولية قوله صلى الله عليه وسلم:(جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)

(2)

، قال ابن حزم رحمه الله:«وهذا حديث في غاية الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله»

(3)

.

ومن السنة الفعلية مناظراته ومحاوراته الكثيرة مع المشركين، ومناظرته مع

(1)

الجواب الصحيح (1/ 229 - 230).

(2)

رواه أحمد (12246)، والنسائي (3096)، وأبو داود (2504)، والحاكم (2427)، وابن حبان (4708) وغيرهم، كلهم من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه. قال ابن عبد الهادي في المحرر (2/ 439): إسناده على شرط مسلم. وقال النووي في رياض الصالحين (ص:28): إسناده صحيح. وصححه الألباني في المشكاة برقم: 3821.

(3)

الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 26)

ص: 38

اليهود

(1)

ومناظرته مع ابن صياد

(2)

وغير ذلك.

وأما فعل الصحابة والسلف فهو أكثر من أن يحصر، ومن أشهرها مناظرة ابن عباس للخوارج

(3)

، ومناظرات الإمام أحمد للجهمية

(4)

، قال ابن حزم رحمه الله:«وقد تحاج المهاجرون والأنصار وسائر الصحابة -رضوان الله عليهم- وحاجَّ ابن عباس الخوارج بأمر علي رضي الله عنه وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق»

(5)

. وقال صاحب كتاب "تنبيه الرجل العاقل إلى تمويه الجدل الباطل"

(6)

،، مبيناً ما جاء من حض الشرع للمؤمنين على الجدل المحمود: «وحضهم على المناظرة والمشاورة لاستخراج الصواب في الدنيا والآخرة حيث يقول لمن رضي دينهم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، كما أمرهم بالمجادلة والمقاتلة لمن عدل عن السبيل العادلة حيث يقول آمرا وناهيا لنبيه والمؤمنين لبيان ما يرضاه منه ومنهم {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، فكان أئمة الإسلام ممتثلين لأمر المليك العلام يجادلون أهل الأهواء المضلة حتى يردوهم إلى سواء الملة كمجادلة ابن عباس- رضي الله عنهما للخوارج المارقين حتى رجع كثير منهم إلى ما خرج عنه من الدين وكمناظرة كثير من السلف الأولين لصنوف المبتدعة الماضين ومن في قلبه ريب يخالف اليقين حتى هدى الله من شاء من البشر وعلن

(1)

رواها أحمد في مسنده (2483) وعبد الرزاق في تفسيره (431) وابن أبي حاتم في تفسيره (185) وسعيد بن منصور في سننه (1683) والطبراني في الكبير (12429) من حديث ابن عباس رضي الله عنه وحسنها الألباني في الصحيحة (1872).

(2)

رواه البخاري في كتاب الجهاد كيف يُعرض الإسلام على الصبي (3055) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة (2930).

(3)

رواها أحمد في مسنده (3187) وأبو داود (4073) والنسائي في الكبرى (8522) وحسنها الألباني في صحيح وضعيف أبي داود (4037).

(4)

انظر: المحنة على الإمام أحمد (51، 53، 55 - 60، 99).

(5)

الإحكام في أصول الإحكام (1/ 30).

(6)

ينسب هذا الكتاب إلى شيخ الإسلام رحمه الله في ثبوته له نظر كبير.

ص: 39

الحق وظهر، ودرس ما أحدثه المبتدعون واندثر»

(1)

.

وقد حكى إجماع العلماء على مشروعيتها الخطيب البغدادي

(2)

في كتاب الفقيه والمتفقه

(3)

وأبو الوليد الباجي

(4)

في إحكام الفصول

(5)

.

‌القسم الثاني: جدل وتناظر مذموم:

وهذا النوع من الجدل والمناظرات هو الذي جاءت النصوص من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة في ذمه والتحذير منه، وإنما تكون المناظرة مذمومة منهيا عنها في حالات ثلاث:

‌الحالة الأولى: إذا لم يكن المناظِر أهلاً للمناظرة؛ وذلك لأحد أسباب أربعة:

1) إذا كان المناظِر جاهلاً بالحق، أو ضعيف العلم والحجة، فيخشى عليه أن يفسده ذلك المضل، فمثل هذا يُنهى عن المناظرة، وتكون المناظرة في حقه مذمومة

(6)

.

2) إن كان المناظِر عالماً بالحق، ولكنه لا يحسن إيصاله للغير وبيانه لهم؛ فليس كل من يعلم الحق يمكنه إيصاله للغير، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ولكن ليس كل من عرف الحق -إما بضرورة أو بنظر- أمكنه أن يحتج على من ينازعه

(1)

تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (1/ 4).

(2)

هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد البغدادي، المعروف بأبي بكر الخطيب، صاحب التاريخ، والتصانيف الكثيرة، إمام أوحد، ثقة، علامة، حافظ متقن، له "تاريخ بغداد" و"الكفاية في علم الرواية" وغيرها، توفي سنة (463 هـ). انظر: السير (18/ 284)، وفيات الأعيان (1/ 92).

(3)

انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 62)

(4)

هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي الباجي، فقيه مالكي كبير، من رجال الحديث، له مصنفات: السراج في علم الحجاج، إحكام الفصول وغيرها، (ت:474 هـ). انظر: تاريخ بغداد (21/ 92)، تاريخ دمشق (22/ 224)، السير (14/ 55).

(5)

انظر: إحكام الفصول (ص: 714).

(6)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (7/ 174).

ص: 40

بحجة تهديه أو تقطعه، فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع، وما به يعرفه به غيره نوع، وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به»

(1)

.

3) إذا كان المناظِر عالماً بالحق ولكنه يحتج بالباطل لتقرير الحق قال شيخ الإسلام: «فلا يصلح ولا يحل أن نقول باطلاً أو نلتزمه لدفع مبطل؛ فإن ذلك رد باطل بباطل، ورد بدعة ببدعة، وهذا كما أنه حرام في الدين منكر في العقل، فمضرته أكثر من منفعته؛ فإن ذلك مما يوجب نفور المناظر، وظنه: أنا لا نعلم الحق، أو نعلمه ولا نتبعه؛ فيوجب ذلك إصراره على ما هو عليه من الباطل. فلا نكون قد نصرنا حقاً، ولا دفعنا باطلاً، بل أثرنا فتنة بلا فائدة، وإيقاع شبهات بلا بيّنات»

(2)

.

4) إذا كان للمناظر قصد سيء من ظلم للخصم أو إرادة علو في الأرض، أو مجرد إرادة إظهار العلم والتفاخر به، أو مجرد المراء والجدال والخصومات دون إرادة إيصال الحق وإظهاره، فهذا -أيضاً- تكون مناظرته مذمومة منهياً عنها

(3)

.

وبالجملة فـ"كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفَّى بموجب العلم والإيمان، ولا حَصَلَ بكلامه شفاء الصدور، وطمأنينة النفوس"

(4)

.

(1)

درء تعارض العقل والنقل (7/ 171).

(2)

مسألة حدوث العالم (ص: 157)، وقال رحمه الله في درء التعارض (7/ 165):«هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلاً، وإن قصد به نصر الكتاب والسنة، فيذمون من قابل بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، فكيف من قابل السنة بالبدعة، وعارض الحق بالباطل، وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق» .

(3)

انظر: أخلاق العلماء للآجري (ص:56 - 63)، ودرء تعارض العقل والنقل (7/ 168)، مسألة حدوث العالم (ص: 157 - 158)، والفوائد في اختصار المقاصد للعز بن عبد السلام (ص:144)

(4)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 357)، وانظر: التسعينية (1/ 232).

ص: 41

‌الحالة الثانية: إذا كانت المناظرة مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة

.

فأحوال المناظَرين لا تخرج عن أربع أحوال:

1) أن يكون ممن يفهم الحق ويقبله: فهذا تشرع مناظرته؛ لأنه ممن إذا بُين له الحق فهمه وقبله.

2) أن يكون ممن لا يقبل الحق: وهذا أحد نوعين:

أ -إذا كان في مناظرته انقطاع له وكفٌ لشره عن الناس ودفع له: فمثل هذا تشرع مناظرته

(1)

.

ب -إذا كان سوفسطائياً

(2)

يجحد الضروريات، ويجادل في البديهيات: فمثل هذا لا يناظر باتفاق العقلاء، وهم بعد ذلك إما:

1 -

أن يداووه إن كان فاسد العقل.

2 -

أو يتركوه إن كان عاجزاً عن معرفة الحق ولا مضرة تخشى منه.

3 -

أو يعاقبوه بالتعزير أو القتل إن كان مستحقاً للعقاب

(3)

.

ت -أن يكون ممن التبس عليه الحق، إما لضعف علمه بأدلته، أو لضعف عقله وفهمه، أو لما سمع من حجج أهل الباطل وشبههم: فمثل هذا يشرع مناظرته؛ لأن ذلك يفيده: إما معرفة الحق، وإما شكاً في اعتقاده الباطل وتوقفاً فيه وبعثاً لهمته على النظر في الحق وطلبه إن كان له رغبة بذلك

(4)

.

(1)

انظر: درء التعارض (7/ 168).

(2)

السوفسطائي: من السفسطة، وهي كما بين شيخ الإسلام: جحد الحقائق والضروريات، والمجادلة في البديهيات، ومبناها على التمويه والخداع، وهو لفظ مركب من" سوفيا"، وهي الحكمة، ومن" اسطس" وهو المموّه، فمعناها حكمة مموّهة. انظر: درء التعارض (7/ 174) الرد على المنطقيين (ص: 329) الرد على البكري (1/ 178 - 179) والتعريفات (ص:124) والتوقيف على مهمات التعريف (ص:194).

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (7/ 174).

(4)

انظر: المصدر السابق (7/ 168).

ص: 42

‌الحالة الثالثة: أن تكون في المناظرة مفسدة راجحة:

ومثال ذلك:

1.

أن يكون الحق ظاهراً معروفاً عند المسلمين ويكون أهل الحق هم الظاهرون الأقوياء، والبدع وأهلها في حال ضعف وعجز، فتكون في مناظرتهم مفسدة حاصلة، وهي إظهار بدعهم ونشر باطلهم وشبههم بين عوام الناس مما قد يؤثر على ضعاف النفوس ومرضى القلوب، ففي مثل هذه الحالة يُنهى عن المناظرة لما يترتب عليها من مفسدة راجحة، وإنما المشروع هنا هجر أهل البدع وزجرهم ومنع الناس ونهيهم عن الجلوس لهم وعن مناظرتهم ومجادلتهم

(1)

.

2.

أن تكون المناظرة سبباً للتفرق والاختلاف، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم من المجادلة ما يفضي إلى الاختلاف والتفرق. فخرج على قوم من أصحابه وهم يتجادلون في القدر فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان وقال: (أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض)، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: فما أغبط نفسي كما غبطتها ألا أكون في ذلك المجلس. روى هذا الحديث أبو داود في سننه وغيره وأصله في الصحيحين

(2)

، والحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها أنه قال صلى الله عليه وسلم:(تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة قيل: يا رسول الله ومن هي؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)

(3)

،

(1)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (7/ 173).

(2)

رواه أحمد (6668) ابن ماجه (85) وابن أبي عاصم (406) والطبراني في الأوسط (515) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في المشكاة (99) وظلال الجنة (406) وأصله في مسلم، كتاب العلم (2666) ولم أقف عليه عند أبي داود.

(3)

رواه أحمد (8377)، وأبو داود (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجه (3992) وغيرهم، عن غير واحد من الصحابة كأبي هريرة ومعاوية وعوف بن مالك رضي الله عنهم، قال شيخ الإسلام:«حديث صحيح مشهور» مجموع الفتاوى (3/ 345). وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (203، 204، 1493).

ص: 43

وفي رواية: (هي الجماعة)

(1)

، وفي رواية:(يد الله على الجماعة)

(2)

، فوصف الفرقة الناجية بأنهم المستمسكون بسنته وأنهم هم الجماعة. وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين. نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع»

(3)

.

فهذه الأنواع المذكورة من المناظرات هي التي جاء في النصوص والآثار ذمها والنهي عنها والتحذير منها لأن مفسدتها أكبر من مصلحتها، وضررها أكبر من نفعها، وجماع الأسباب التي ينهى عن المناظرة فيها هذه الأسباب الثلاثة المذكورة وقد نص على ذلك شيخ الإسلام رحمه الله فقال:«والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة: من لا يقوم بواجبها، أو من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة»

(4)

، ثم قال رحمه الله:«وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة تارة أخرى»

(5)

، وهذه هي الطريق الوحيدة التي يمكن الجمع فيها بين الآيات والأحاديث والآثار التي قد يفهم منها التعارض، فقد جاء في

(1)

رواها أبو داود (4597)، وابن ماجه (3993).

(2)

رواه الترمذي (2166)، وابن حبان في صحيحه (4577) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3621). وهو فيما يظهر حديث منفرد وليس رواية من روايات حديث الافتراق، كما يوهم كلام شيخ الإسلام رحمه الله.

(3)

درء تعارض العقل والنقل (7/ 171 - 172)

(4)

درء تعارض العقل والنقل (7/ 174).

(5)

المصدر السابق (7/ 174)، انظر: مجموع الفتاوى (26/ 107).

ص: 44

القرآن ذم الجدل وجاء الأمر به، وجاء في السنة ما يدل على مشروعيته، وجاء ما يرغب ويحذر عنه، وجاء عن السلف فعله والقيام به، وجاء عنهم التحذير والنهي عنه، وكل ذلك محمول على أن الجدل والتناظر نوعان فمنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، وما جاء في النصوص والآثار من مدح أو حث أو فعل فإنما هو من النوع الأول، وما جاء في النصوص من ذم أو نهي أو تحذير فهو من النوع الثاني.

وقد كانت مناظرات شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- مع خصومه من النوع الأول، فقد تحققت بها مصالح شرعية كثيرة، واندفعت بها مفاسد كبيرة، وظهر فيها الحق أيما ظهور، واندثر فيها الباطل أيما دثور، وارتفعت فيها أعلام السنن، واندحر فيها خلق من أهل الزيغ والفتن، وهدى الله بها أمة من الناس إلى صراط مستقيم، كما سيظهر للقارئ خلال عرضها، في المباحث القادمة.

* * *

ص: 45

المبحث الثاني:

التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ومنهجه في المناظرات:

ويشتمل على مطلبين:

المطلب الأول: التعريف بشيخ الإسلام رحمه الله.

المطلب الثاني: منهج شيخ الإسلام رحمه الله في المناظرات.

* * *

ص: 47

‌المطلب الأول: التعريف بشيخ الإسلام رحمه الله: ويشتمل على:

اسمه ونسبه ومولده.

صفاته: سعة علمه، قوة حفظه، جلده في العلم والتعليم، قوة حجته، زهده وكرم نفسه، حلمه وعفوه وصفحه، صبره وانشراح صدره، شجاعته، تواضعه.

ثناء أهل العلم عليه.

كثرة تصانيفه.

وفاته.

حزن الناس عليه.

* * *

ص: 49

المطلب الأول: التعريف بشيخ الإسلام رحمه الله:

‌تمهيد:

إن من الصعوبة بمكان الكلام على شخصية مثل شخصية شيخ الإسلام، في بضع ورقات أو عدة صفحات، وهو الذي بلغت شهرته الآفاق، وصنفت في ذكر مآثره، وتعداد مناقبه، المصنفات الكثيرة، ورحم الله الحافظ الذهبي حين قال:«وهو أعظم من أن يصفه كلمي أو ينبه على شأنه قلمي»

(1)

فإذا كان الذهبي مع عظم مكانه وعلو شأنه، يستصغر نفسه في الكتابة عن مثل هذا الإمام، فالكاتب باستشعار مثل هذا أولى وأحرى، كيف لا، والقلم يبقى حائرًا، والعقل منذهلًا، والخاطر مشتتًا، لا يدري ماذا يكتب في وصف هذا الإمام ونعته، وعلمه وفضله، ومكانته وقدره، وقوله وفعله، وحلمه وحزمه، وعفوه وصفحه، وسمته وهديه، وفطنته وعقله، وإنصافه وعدله، وهمته وهمه، وجهاده وصدقه.

ولكن لما لم يكن من الكتابة بُد، فقد استعنت بالله في اختيار ما تيسر من المناقب والفضائل والمآثر والشمائل التي تبرز شخصيه هذا الإمام وعلو كعبه وعظيم مكانته وقدره، وقديماً قيل: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق

(2)

.

(1)

العقود الدرية (ص: 40).

(2)

انظر مجمع الأمثال للميداني (1/ 196).

ص: 51

‌اسمه ونسبه ومولده:

هو أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن إبراهيم بن علي بن عبد الله النميري الحراني

(1)

الدمشقي

المعروف بابن تيمية

(2)

، الملقب بشيخ الإسلام

(3)

.

أما مولده: فكان كما قال تلميذه أبو حفص البزار

(4)

: «أخبرني غير واحد من

(1)

الحراني: نسبة إلى حران مدينة مشهورة بين الموصل والشام والروم، قيل: سميت بهاران أخي إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وهو والد لوط عليه السلام؛ لأنه أول من بناها، ثم عربت فقيل: حران، وذُكر أنها أول مدينة بنيت في الأرض بعد الطوفان، فتحت في أيام عمر رضي الله عنه على يدي عياض بن غنم بن زهير الفهري رضي الله عنه صلحاً في سنة تسع عشرة، وهي الآن جنوب شرق تركيا. انظر: معجم البلدان (2/ 235)، التبيان لبديعة البيان ضمن الجامع لسيرته (ص: 491).

(2)

تيمية: نُسِب شيخ الإسلام إلى شهرة أم جده محمد بن الخضر، كانت واعظة تسمى تيمية، وقيل: حج جده المذكور فمر على درب تيماء المشهور، فخرج عليه من خباء جارية طفلة سنية، فلما رجع رأى زوجته، وكانت حاملاً قد وضعت بنتاً، فقال لها: يا تيمية يا تيمية! فلزمه هذا الاسم لقباً مذكورا، وصار لذريته من بعده علماً مشهوراً. انظر: التبيان لبديعة البيان ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 492).

(3)

يعتبر ابن تيمية من أشهر من عُرِف بهذا اللقب، ولا يعرف في علماء الإسلام من فاقت شهرته بهذا اللقب بحيث ينصرف إليه، ولو لم يقرن باسمه، سوى: شيخ الإسلام ابن تيمية، ومع ذلك فغيظ الخصوم حملهم على تكفير مَن لقبه بشيخ الإسلام، حتى ألف الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي كتابه النافع العظيم (الرد الوافر على من زعم أن من لقب ابن تيمية بشيخ الإسلام فهو كافر) فساق فيه من أقوال أهل المذاهب، والفرق، من لقبه بذلك، وقد أبطل الله مناوآتهم، وكشف سريرتهم، ورفع شأن شيخ الإسلام. انظر: الرد الوافر لابن ناصر الدين ومعجم المناهي اللفظية (ص: 314).

(4)

هو الحافظ سراج الدين أبي حفص عمر بن علي البزار، أحد الحفاظ رحل إلى دمشق، وجالس ابن تيمية وأخذ عنه، وله ترجمة بديعة لشيخ الإسلام لا يمل قارئها أسماها:(الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية) وله (الكفاية في الجرح والتعديل)، (ت: 749 هـ) ـ انظر: ذيل طبقات الحنابلة (5/ 147)، الدرر الكامنة (3/ 180).

ص: 52

الحفاظ أنه ولد في حران في عاشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وست مئة، وبقي بها إلى أن بلغ سبع سنين، ثم انتقل به والده رحمه الله إلى دمشق المحروسة، فنشأ بها أتم إنشاء وأزكاه، وأنبته الله أحسن النبات وأوفاه، وكانت مخايل النجابة عليه في صغره لائحة، ودلائل العناية فيه واضحة

ولم يزل منذ إبان صغره مستغرق الأوقات في الجهد والاجتهاد، وختم القرآن صغيرا ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية حتى برع في ذلك مع ملازمة مجالس الذكر وسماع الأحاديث والآثار»

(1)

.

‌صفاته:

لقد جمع الله لشيخ الإسلام ابن تيمية من الخلال والأوصاف ما لا يكاد يعرف عن أحد ممن عاصره أو جاء بعده، ومثل هذا المقام لا يسع لذكر شيء منها إلا النزر اليسير والشيء القليل، وهي أضعاف أضعاف ما ذُكر بكثير، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، وبعد قراءة مطولة في تراجم الشيخ رحمه الله، حاولت أن أكون في تعدادي لصفاته وذكر مناقبه وخلاله (معتنياً مقتنيا): فاعتنيت بذكر أبرز ما يظهر علو كعبه وعظم مكانته، واقتنيت أجود ما عبر به المترجمون عن صفاته وعظيم خصاله، وهي كالآتي:

‌أولاً: سعة علمه:

إن مما اتفق عليه محبو شيخ الإسلام ومبغضوه، وشهد له به موافقوه ومخالفوه، أنه كان واسع العلم كبير المعرفة على دراية واطلاع بمختلف الفنون وأنواع العلوم قال ابن دقيق العيد

(2)

رحمه الله: «لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلاً

(1)

الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص: 16).

(2)

هو أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع ابن أبي الطّاعة القشيري المنفلوطي الشّافعي المصري، المعروف بابن دقيق العيد، له مصنفات منها:"الإلمام" وشرحه "عمدة الأحكام" وغيرها، (ت:702 هـ). انظر في ترجمته: تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1481)، الدرر الكامنة (4/ 210)، طبقات الشافعية الكبرى (9/ 207).

ص: 53

كل العلوم بين عينيه؛ يأخذ ما يريد ويدع ما يريد»

(1)

.

وقال ابن سيد الناس

(2)

: «ألفيته ممن أدرك من العلم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إِنْ تكلَّم في التفسير؛ فهو حامل رايته، أَو أفتى في الفقه؛ فهو مُدْرك غايته، أو ذاكر بالحديث؛ فهو صاحب علم وذو روايته، أَو حاضر بالنِّحل والملل؛ لم يُر أَوسع من نِحْلَتِه في ذلك ولا أَرفع من درايته، برز في كل فنِّ على أَبناء جِنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأَت عينه مثل نفسه»

(3)

.

وقال عَلم الشافعية العلامة كمال الدين ابن الزملكاني

(4)

: «كان -يعني: شيخ الإسلام- إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم: سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه

واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها»

(5)

.

وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله حاكياً عن نفسه: «أنا أعلم كل بدعة حدثت في

(1)

تتمة المختصر في أخبار البشر ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 329).

(2)

أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن سيّد النّاس الشافعي الإشبيليّ المصري، المعروف بابن سيّد الناس، كان حافظاً بارعاً متفنناً وله أشعار حسنة، من مصنفاته "عيون الأثر" و"بشرى اللبيب" (ت:734 هـ). انظر: طبقات الشافعية الكبرى (9/ 268 - 272) شذرات الذهب (8/ 189) فوات الوفيات (3/ 287).

(3)

أجوبة ابن سيد الناس اليعمري ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 188).

(4)

هو كمال الدين محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، المعروف بابن الزملكاني، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره، له مصنفات منها: رسالة في الرد على ابن تيمية في مسألتي (الطلاق والزيارة) وتعليقات على (المنهاج) للنووي، (ت: 727 هـ). انظر: طبقات الشافعية الكبرى (5/ 251)، الدرر الكامنة (4/ 74).

(5)

العقود الدرية (ص: 23 - 24).

ص: 54

الإسلام، وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها»

(1)

.

وقال ابن القيم: «ومن الجود بالعلم: أن السائل إذا سألك عن مسألة: استقصيت له جوابها جوابًا شافيًا، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا: نعم، أو: لا. مقتصرا عليها.

ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في ذلك أمراً عجيباً: كان إذا سئل عن مسألة حكمية، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة، إذا قدر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح. وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته. فيكون فرحه بتلك المتعلقات، واللوازم: أعظم من فرحه بمسألته وهذه فتاويه رحمه الله بين الناس، فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك»

(2)

.

ولم يكن علمه مقتصراً على العلوم الشرعية فحسب؛ بل لقد كان آية من آيات الله في مختلف العلوم وشتى الفنون قال العلامة أحمد بن يحيى العمري

(3)

: «وكان إماماً في التفسير وعلوم القرآن، عارفاً بالفقه واختلاف الفقهاء والأصلينِ والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق وعلم الهيئة واجَبْر

(4)

والمقابلة، وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية. وما تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه»

(5)

.

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 184).

(2)

مدارج السالكين (2/ 279)

(3)

أحمد بن يحيى بن فضل الله بن مجلى القرشي العمري، من علماء الشافعية، من كبار المؤرخين في عصره، له مصنفات منها:"مسالك الأبصار"، "نفحة الروض" وغيرها، مولده ومنشأه ووفاته في دمشق (ت: 749 هـ). انظر: فوات الوفيات (19/ 211) الدرر الكامنة (1/ 393).

(4)

هكذا في المطبوع ولعل الصواب (الجبر).

(5)

مسالك الأبصار ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 317).

ص: 55

وقد حكى الصفدي

(1)

عن المولى علاء الدين علي بن الآمدي

(2)

، وهو من كبار كتاب الحساب، قال:«دخلت يوماً إليه، أنا والشمس النفيس عامل بيت المال، ولم يكن في وقته أكتب منه، فأخذ الشيخ تقي الدين يسأله عن الارتفاع، وعما بين الفذلكة واستقرار الجملة من الأبواب، وعن الفذلكة الثانية وخصمها، وعن أعمال الاستحقاق، وعن الختم والتوالي، وما يطلب من العامل، وهو يجيبه عن البعض ويسكت عن البعض، ويسأله عن تعليل ذلك، إلى أن أوضح له ذلك وعلله؛ قال: فلما خرجنا من عنده قال لي النفيس: والله تعلمت اليوم منه ما لا كنت أعلمه»

(3)

.

‌ثانياً: قوة حفظه وسرعته:

لقد كان شيخ الإسلام أُعجوبة أهل زمانه في سرعة حفظه وفرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وسرعة إدراكه، وشدة استحضاره، وقد عد الحافظ أبو المظفر السُّرّمَرِّي

(4)

قوة حفظ شيخ الإسلام من عجائب ذلك الزمان، حيث قال رحمه الله في المجلس السابع والستين من أماليه في الذكر والحفظ:«ومن عجائب ما وقع في الحفظ في أهل زماننا: شيخ الاسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية؛ فإنه كان يمر بالكتاب فيطالعه مرة فينتقش في ذهنه، فيذاكر به وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه»

(5)

.

(1)

هو أبو الصفاء خليل بن أيبك بن عبد الله الأديب صلاح الدين الصفدي، برع في الأدب والبلاغة وله كتب في التأريخ منها "الوافي بالوفيات" و"أعيان العصر" ولقي شيخ الإسلام وأخذ عنه (ت:764 هـ). انظر: الدرر الكامنة (2/ 207)، البدر الطالع (1/ 220).

(2)

لم أقف على شيء من ترجمته إلا ما ذكره الصفدي هنا من أنه كان من كبار كتاب الحساب.

(3)

الوافي بالوفيات ضمن الجامع لسيرته (ص: 372).

(4)

هو أبو المظفر يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد العبادي ثم العقيلي السرمري نزيل دمشق الحنبلي، له مصنفات كثيرة منها:"الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية"، "عقود اللآلي في الأمالي"= =وغيرها، (ت: 776 هـ). انظر: الدرر الكامنة (6/ 247) شذرات الذهب (6/ 249).

(5)

الرد الوافر (ص: 133).

ص: 56

ولا أدل على عظمة حفظه، وقوة ذاكرته من مصنفاته العظيمة ومؤلفاته الجليلة، التي لم يعتمد في تصنيف معظمها -إن لم تكن كلها- إلا على حفظه وذاكرته، وهذه حقيقة تبهر العقول وتدهش الأذهان، قال ابن عبدالهادي

(1)

رحمه الله: «وله من المؤلفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل والتعاليق ما لا ينحصر ولا ينضبط، ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين جمع مثل ما جمع، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريبا من ذلك؛ مع أن تصانيفه كان يكتبها من حفظه، وكتب كثيرًا منها في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه، ويراجعه من الكتب»

(2)

.

‌ثالثاً: جلده في العلم والتعليم:

أما جلده في العلم فقد كان شيخ الإسلام رحمه الله محباً للقراءة والحفظ والمذاكرة، شغوفاً بالعلم، لا تكاد نفسه تشبع منه، ولا تروى من مطالعته، قال الصفدي: «وكان من صغره حريصا على الطلب، مجدًا على التحصيل والدأب، ولا يؤثر على الاشتغال لذة، ولا يرى أن تضيع لحظة منه في البطالة فذة، يذهل عن نفسه ويغيب في لذة العلم على حسه، لا يطلب أكلاً إلا إذا حضر لديه، ولا يرتاح إلى طعام ولا شراب في أبرديه

(3)

»

(4)

.

ومن جميل ما يذكر في بيان شغفه رحمه الله بالعلم وتحصيله، وجلده عليه وصبره وتشميره، تلك القصة التي حكاها ابن ناصر الدين الدمشقي

(5)

رحمه الله فقال: «ومن

(1)

محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي، إمام حافظ تتلمذ على يد شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان ماهراً في الحديث والعلل والعربية، له مصنفات منها:"الصارم المنكي"، "العقود الدرية" وغيرها، (ت:744). انظر: الدرر الكامنة (1/ ص 456) وشذرات الذهب (6/ 141).

(2)

مختصر طبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي ضمن الجامع لسيرته (ص: 257).

(3)

الأبردين: الفيء والظل أو الغداة والعشي. انظر: النهاية (1/ 114) لسان العرب (3/ 84).

(4)

أعيان العصر ضمن الجامع لسيرته (ص: 350).

(5)

هو محمد بن عبد الله بن محمد القيسي الدمشقي، شمس الدين، الشهير بابن ناصر الدين من فقهاء الشافعية كان حافظ الشام في عصره بغير منازع، قيل: لم يخلف في الشام بعده مثله، توفي مقتولاً في إحدى قرى دمشق (ت: 842 هـ). انظر: البدر الطالع (2/ 198)، شذرات الذهب (7/ 243).

ص: 57

أعجب ما سمعته عنه ما حدثني به بعض أصحابه: أنه لما كان صبياً في بداية أمره أراد والده أن يخرج بأولاده يوماً إلى البستان على سبيل التنزه، فقال له: يا أحمد تخرج مع إخوتك تستريح!

فاعتلَّ عليه، فألحَّ عليه والده، فامتنع أشد الامتناع.

فقال: أشتهي أن تعفيني من الخروج. فتركه وخرج بإخوته، فظلوا يومهم في البستان، ورجعوا آخر النهار.

فقال: يا أحمد، أوحشت إخوتك اليوم، وتكدر عليهم بسبب غيبتك عنهم، فما هذا؟!

فقال يا سيدي إنني اليوم حفظت هذا الكتاب، لكتاب معه

(1)

.

فقال: حفظته؟! كالمنكر المتعجب من قوله.

فقال له: استعرضه عليَّ، فاستعرضه فإذا به قد حفظه جميعه!!

فأخذه وقبّله بين عينيه، وقال: يا بني، لا تخبر أحداً بما قد فعلت، خوفاً عليه من العين، أو كما قال»

(2)

.

وقال الصفدي رحمه الله حاكياً همة شيخ الإسلام في جرد الكتب وقراءتها: «قلت: حكى لي من سمعه يقول: إني وقفت على مائة وعشرين تفسيراً، أستحضر من الجميع الصحيح الذي فيها، أو كما قال»

(3)

. وقال تلميذ شيخ الإسلام أبو عبد الله ابن رشيق رحمه الله

(4)

: «وقال لي مرة: ربما طالعت على الآية الواحدة

(1)

الكتاب هو: (جنة الناظر وجنّة المناظر) كما ذكر ذلك الصفدي رحمه الله انظر: أعيان العصر للصفدي (1/ 236).

(2)

الرد الوافر (ص: 133)، وانظر: أعيان العصر للصفدي (1/ 236).

(3)

الوافي بالوفيات ضمن الجامع لسيرته (ص: 368)

(4)

هو محمد بن عبد الله بن سبط ابن رشيق المغربي المالكي، أبو عبد الله، الفقيه صاحب شيخ الإسلام ابن تيمية وكاتب مصنفاته، وأعرف الناس بخط الشيخ حتى من الشيخ نفسه (ت: 749 هـ). انظر: البداية والنهاية (14/ 264) العقود الدرية (ص:43).

ص: 58

نحو مئة تفسير»

(1)

. قال الذهبي رحمه الله: «كان آية من آيات الله تعالى في التفسير والتوسع فيه، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين»

(2)

. وقال أبو حفص البزار: «ولقد كان إذا قُرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها فينقضي المجلس بجملته، والدرس برمته، وهو في تفسير بعض آية منها

يفعل ذلك بديهة»

(3)

.

ولربما أملى الكتاب في قعدة واحدة قال ابن عبد الهادي: «أملى شيخنا المسألة المعروفة بالحموية سنة ثمان وتسعين في قعدة بين الظهر والعصر»

(4)

، وهكذا ألف الواسطية في قعدة بين العصر والمغرب

(5)

، وألف قاعدة في كلام الله

(6)

، كتبها في قعدة واحدة كما نص على ذلك في آخرها، وغيرها كثير من فتاواه ومصنفاته رحمه الله تعالى وغفر له.

‌رابعاً: قوة حجته:

«وهو في وقت الحرب مجنة، قَلَّ أن قطعه خصمه الذي تصدى له وانتصب، أو خلص منه مناظره إلا وهو يشكو من الأين والنصب»

(7)

، بهذه العبارة اختار الصفدي رحمه الله أن يبين مدى قوة حجة شيخ الإسلام في مواجهته لخصومه، ومدى ضعف خصومه في منازعتهم له، وهذا الأمر ليس بغريب على شيخ الإسلام رحمه الله، فقد كان رحمه الله لقوة ما أتاه الله من علم وحجة وبيان يستخدم شتى أنواع الأسلحة العقلية والنقلية في مواجهة الخصوم وبيان باطلهم، ونصر الحق وإظهاره، وقد

(1)

الجامع لسيرته (ص: 282).

(2)

ذيل تاريخ الإسلام ضمن الجامع لسيرته (ص: 368).

(3)

الأعلام العلية (ص:20).

(4)

مختصر طبقات علماء الحنابلة ضمن الجامع لسيرته (ص: 259).

(5)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 164).

(6)

قاعدة مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (12/ 6 - 116).

(7)

أعيان العصر ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 348).

ص: 59

كان من عجيب أمره رحمه الله أنه يكتفي في الرد على خصمه بالدليل الذي يحتج به الخصم عليه، فيقلب حجة الخصم حجة عليه، والدليل الذي يحتج به على صحة قوله دليلاً على بطلان قوله، قال ابن القيم رحمه الله:«فأقام الله لدينه شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية -قدس الله روحه- فأقام على غزوهم مدة حياته باليد والقلب واللسان، وكشف للناس باطلهم، وبين تلبيسهم وتدليسهم، وقابلهم بصريح المعقول وصحيح المنقول، وشفى واشتفى، وبين مناقضتهم ومفارقتهم لحكم العقل الذي به يدلون، وإليه يدعون، وإنهم أترك الناس لأحكامه وقضاياه، فلا وحي ولا عقل، فأرداهم في حفرهم ورشقهم بسهامهم، وبين أن صحيح معقولاتهم خدم لنصوص الأنبياء شاهدة لها بالصحة، وتفصيل هذه الجملة موجودة في كتبه»

(1)

.

وقال رحمه الله:

أبدى فضائحهم وبيّن جهلهم

وأرى تناقضهم بكل زمان

ومن العجائب أنه بسلاحهم

أرداهم تحت الحضيض الداني

(2)

‌خامساً: زهده وكرم نفسه:

وكما تربى شيخ الإسلام على حب العلم والعمل، نشأ كذلك على صفات كريمة وأخلاق نبيله، كالزهد في الدنيا، والجود والكرم والسخاء، والتواضع ولين الجانب وغير ذلك من خلال الخير والبر، قال سراج الدين أبو حفص البزار: «ولقد اتفق كل من رآه -خصوصاً من أطال ملازمته- أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا، حتى لقد صار ذلك مشهوراً؛ بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها، بل لو سئل عامي من أهل بلد بعيد من الشيخ: من كان أزهد أهل هذا العصر، وأكملهم في رفض فضول الدنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية -رحمة الله عليه-

(1)

الصواعق المرسلة (3/ 1079 - 1080).

(2)

نونية ابن القيم الكافية الشافية (ص: 232).

ص: 60

لم يُسمع أنه رغب في زوجة حسناء، ولا سرية حوراء، ولا دار قوراء

(1)

، ولا مماليك جوار، ولا بساتين ولا عقار ولا شد على دينار ولا درهم، ولا رغب في دواب، ولا نعم ولا ثياب ناعمة فاخرة، ولا حشم ولا زاحم في طلب الرئاسات، ولا رئي ساعياً في تحصيل المباحات، مع أن الملوك والأمراء والتجار والكبراء كانوا طوع أمره، خاضعين لقوله وفعله، وادين أن يتقربوا إلى قلبه مهما أمكنهم، مظهرين لإجلاله أو أن يؤهل كلا منهم في بذل ماله»

(2)

.

وكذلك كرمه وجوده يفوق الوصف، قال العلامة أحمد بن يحيى العمري:«وكان يجيئه من المال في كل سنة ما لا يكاد يحصى، فينفقه جميعه آلافاً ومئين، لا يلمس منه درهما بيده، ولا ينفقه في حاجة له»

(3)

، «هذا مع ما جمع من الورع، وإلى ما فيه من العلى، وما حازه بحذافير الوجود في الجود، كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فيهبه بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئا إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه كله في سبيل البر، وطريق أهل التواضع لا أهل الكبر. لم يمل به حب الشهوات»

(4)

.

وأختم بقول الذهبي رحمه الله: «وما رأيت في العالم أكرم منه ولا أفرغ منه عن الدينار لا يذكره ولا أظنه يدور في ذهنه»

(5)

.

‌سادساً: حلمه وعفوه وصفحه:

إن من أبرز الصفات التي تحلى بها الشيخ الهمام شيخ الإسلام: حلمه وعفوه

(1)

القوراء: الواسعة. انظر: القاموس المحيط (ص: 467).

(2)

الأعلام العلية (ص: 46).

(3)

مسالك الأبصار ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 323).

(4)

المصدر السابق (ص: 317).

(5)

نقله عنه ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 473).

ص: 61

وصفحه وصبره على مخالفيه؛ ومن كان له أدنى اطلاع على حياة الشيخ أدرك مدى اتصاف شيخ الإسلام بهذا الخلق النبيل وتحليه به، فقد كان كريم النفس عظيم الصفح؛ يُقرِب مَن يقصيه، ويُكرِم من يؤذيه، ويعتذر لمن جنى عليه، وللشيخ رحمه الله حكايات عديدة ومواقف كثيرة يظهر فيها جلياً عفوه وصفحه وسماحته وكرم نفسه وصفاء سريرته، واكتفي هنا بذكر أهم وأبرز ما وقفت عليه منها:

الموقف الأول: بعد أن ارتفع نجم شيخ الإسلام في البلاد الشامية، وأظهر الله على يديه الحق والدين، وقمع به كثير من أهل الضلال والمنحرفين، ولم يستطع أهل الباطل مناظرته ومجاراته، وامتحن سنة خمس وسبعمائة بأمر السلطان في عقيدته الواسطية، وناظره فيها القضاة والعلماء بالقصر، وقرأوها في ثلاثة مجالس، وحاقَقُوه وبحثوا معه، ولم يستطيعوا أن يثبتوا على الشيخ مأخذًا أو مطعنًا وانتصر له السلطان، وحُكم بسلامة وصحة معتقده، قال ابن رجب رحمه الله: «ثم إن المصريين دبروا الحيلة في أمر الشيخ، ورأوا أنه لا يمكن البحث معه، ولكن يعقد له مجلس، ويدعى عليه، وتقام عليه الشهادات. وكان القائمون في ذلك منهم: بيبرس الجاشنكير

(1)

، الذي تسلطن بعد ذلك، ونصر المنبجي

(2)

، وابن مخلوف قاضي المالكية

(3)

، فطلب الشيخ على البريد إلى القاهرة، وعقد له

(1)

هو ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري، الملك المظفر: من سلاطين المماليك بمصر والشام، صار من كبار الأمراء في دولة الأشرف خليل بن قلاوون، وتقلبت به الأحوال (ت: 709 هـ). انظر: النجوم الزاهرة (8/ 232)، الدرر الكامنة (2/ 36).

(2)

هو أبو الفتح نصر بن سليمان المنبجي، أحد الصوفية المعظمين لابن عربي، أنشأ له زاوية خارج باب النصر وصار يتعبد فيها ويتردد عليه فيها الأكابر، ولشيخ الإسلام رسالة في الرد عليه في مسألة الاتحاد، (ت: 719 هـ). انظر: الدرر الكامنة (6/ 158)، الخطط المقريزية (2/ 432).

(3)

هو زين الدين علي بن مخلوف بن ناهض بن مسلم النويري المالكي قاضي القضاة، ولي قضاء الديار المصرية ثلاثا وثلاثين سنة، وذكر مترجموه أنه كان محمود السيرة، ولكن قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (3/ 235):«ذاك رجل كذاب فاجر قليل العلم والدين» (ت: 718 هـ). انظر: الوافي بالوفيات (22/ 118) الدرر الكامنة (3/ 202).

ص: 62

ثاني يوم وصوله - وهو ثاني عشرين رمضان سنة خمس وسبعمائة - مجلس بالقلعة، وادعي عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية، أنه يقول: إن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية.

وقال المدعي: أطلب تعزيزه على ذلك، التعزيز البليغ - يشير إلى القتل على مذهب مالك- فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال: أأمنع من الثناء على الله تعالى؟ فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى. فسكت الشيخ، فقال: أجب. فقال الشيخ له: من هو الحاكم في؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم فيَّ؟ وغضب، ومراده: أني وإياك متنازعان في هذه المسائل، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها، فأقيم الشيخ ومعه أخواه، ثم رد الشيخ، وقال: رضيت أن تحكم في، فلم يمكن من الجلوس» وأُمر به أن يحبس ويسجن، قال ابن رجب:«ويقال إن أخاه الشيخ شرف الدين ابتهل، ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ، وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نوراً يهتدون به إلى الحق»

(1)

. وهذا مصداق ما ذكره ابن القيم رحمه الله عنه حيث قال: «وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم»

(2)

.

الموقف الثاني: عاد السلطان الناصر محمد بن قلاوون

(3)

واسترد الملك الذي انتزع منه، والشيخ منفي بالإسكندرية بأمر الدولة وإنما أرادوا أَنْ يسيّروه إِلى الإِسكندرية كهيئة المنفيّ، لعل أحدًا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غِيلة فيستريحوا

(1)

الذيل على طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (475).

(2)

مدارج السالكين (2/ 328 - 329).

(3)

هو أبو الفتح محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي من كبار ملوك الدولة القلاوونية، ولي سلطنة مصر والشام سنة 693 هـ وهو صبي، وخلع منها لحداثته سنه، فأرسل إلى الكرك، وأعيد للسلطنة بمصر وبقي كالمحجور عليه، ثم استتب له الأمر مؤخراً، وكان وقورا مهيبا، (ت: 741 هـ). انظر: فوات الوفيات (2/ 263)، الدرر الكامنة (4/ 144).

ص: 63

منه، قال الشيخ علم الدين البرزالي

(1)

: «ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر، لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الإسكندرية معززا مكرماً مبجلاً، فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين، فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان في يوم ثامن الشهر، وخرج مع الشيخ خلق من الإسكندرية يودعونه، واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقاه ومشى إليه في مجلس حافل، فيه قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إليه، والأمراء والجند وجماعة كثيرة من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع منه، فقال أنا قد حاللت كل من آذاني»

(2)

.

الموقف الثالث: من أعظم ما يبين هذا الخلق العظيم الذي كان يتحلى به الشيخ رحمه الله موقفه العظيم مع القضاة الذين آذوه وحاربوه بشتى الوسائل ومختلف السبل، وانتهزوا فرصة غياب الناصر بن قلاوون فألّبوا وحرضوا عليه الأمراء، ونشروا حوله الأكاذيب والافتراءات، وسجن بسببهم المرات العديدة، وأبعد عن أهله ووطنه، وبيته ومسكنه، ثم لما تمكن الناصر بن قلاوون وعاد لكرسيه ومنصبه، وأصبحت الكفة لشيخ الإسلام وتمكن من الإيقاع بهم لو أراد، وخيره السلطان في ذلك، وحرضه على الفتيا بقتلهم أو تعزيرهم، أبى رحمه الله إلا العفو عنهم والصفح قال الشيخ علم الدين البرازلي: «وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت

(1)

هو أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف ابن العدل بهاء الدين ابن الحافظ زكي الدين البرزالي الإشبيلي ثم الدمشقي الشافعي، الْحَافِظ الكبير المؤرخ، له كتاب "تاريخ البرزالي" و"الوفيات" و"المعجم الكبير" (ت: 739 هـ). انظر: الرد الوافر (ص:119) وفوات الوفيات (3/ 196).

(2)

البداية والنهاية (14/ 54) وانظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 429).

ص: 64

أيضاً، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحداً منهم سوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مراراً. فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم وصفح. قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا»

(1)

. وقال ابن عبد الهادي: «فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: (ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكناً في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا»

(2)

.

وانظر إلى شهامته ومروءة نفسه وصفاء سريرته في قوله بعد الفتنة التي كانت بينه وبين القاضي ابن مخلوف المالكي، وبعد كل ما صنعه فيه:«وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط. ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه نيتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور. فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين»

(3)

.

الموقف الرابع: موقفه عندما قام جماعة من مقلدة أهل البدع بضربه وإيذائه في الجامع، قال ابن عبد الهادي رحمه الله: «فلما كان في رابع شهر رجب من سنة إحدى عشرة وسبعمائة جاء رجل فيما بلغني إلى أخيه الشيخ شرف الدين وهو في مسكنه بالقاهرة فقال له: إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على الشيخ وتفردوا به وضربوه.

(1)

المصدر السابق (ص: 431).

(2)

العقود الدرية (ص: 229).

(3)

مجموع الفتاوى (3/ 271).

ص: 65

فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وكان بعض أصحاب الشيخ جالسًا عند شرف الدين قال: فقمت من عنده وجئت إلى مصر فوجدت خلقا كثيرا من الحسينية وغيرها رجالاً وفرسانًا يسألون عن الشيخ؟ فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس. وقال له بعضهم: يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا!

فقال لهم الشيخ: لأي شيء؟

قال: لأجلك.

فقال لهم: هذا ما يحق.

فقالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس.

فقال لهم: هذا ما يحل.

قالوا: فهذا الذي قد فعلوه معك يحل؟! هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا.

والشيخ ينهاهم ويزجرهم. فلما أكثروا في القول قال لهم: إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله فإن كان الحق لي فهم في حل منه وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء.

قالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟!

قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه!!

قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق؟! فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم ووافقهم على قولهم!

فقال لهم: ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطئ له أجر»

(1)

.

(1)

العقود الدرية (ص: 301 - 303).

ص: 66

الموقف الخامس: قال ابن القيم رحمه الله في الدرجة الثانية من درجات الفتوة

(1)

: «الدرجة الثانية أن تقرب من يقصيك. وتكرم من يؤذيك. وتعتذر إلى من يجني عليك، سماحة لا كظمًا، ومودة لا مصابرة

وما رأيت أحداً قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: (وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه)، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.

وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه»

(2)

.

الموقف الخامس: واستمرت هذه السجية ملازمة لشيخ الإسلام حتى حَضرهُ الموت وهو مسجون مظلوم في سجن القلعة قد مُنع عنه كل شيء حتى الدواة والقلم، وفي تلك اللحظات جاءه شمس الدين الوزير بدمشق إذ ذاك، فاستأذن في الدخول عليه لعيادته، فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحله مما عساه أن يكون قد وقع منه في حقه من تقصير أو غيره، فأجابه الشيخ رضي الله عنه: «بأني قد أحللتك وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على الحق، وقال -ما معناه-: إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي؛ لكونه فعل ذلك مقلداً غيره، معذوراً، ولم يفعله لحظ نفسه، بل لما

(1)

الفتوة: مصطلح أطلقته الصوفية على مقام يتصف فيه صاحبه بالعدالة التي هي جماع الفضائل الخلقية ويتنزه عن الرذائل النفسية، والألواث الطبيعية، ويرجع إلى صفاء الفطرة. انظر: معجم اصطلاحات الصوفية لعبد الرزاق كشاني (ص:261)، والمعجم الصوفي للدكتورة سعاد الحكيم (ص:871).

(2)

مدارج السالكين (2/ 328 - 329).

ص: 67

بَلغهُ مما ظنهُ حقاً من مبلغه، والله يعلم أنه بخلافه، وقد أحللت كل واحد مما كان بيني وبينه، إلا من كان عدواً لله ورسوله»

(1)

.

وأختم بما ذكره رحمه الله في رسالة عظيمة أرسلها لبعضهم من مصر إلى دمشق وقد أوذي في الله أيما إيذاء، كان مما قال فيها:«فلا أحب أن يُنتصر من أحدٍ بسببِ كذِبهِ علي أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا فحكم الله نافذ فيهم»

(2)

.

‌سابعاً: صبره وانشراح صدره:

ذكر أهل العلم أن للصبر على المحن والمصائب والابتلاءات درجات ومقامات، وأعظمها مقام الحمد والشكر على البلاء، وعندما نتحدث عن صبر شيخ الإسلام فإننا لا نتحدث عن حبسه لنفسه عن السخط وحسب، فقد فاق شيخ الإسلام هذا المقام بمراحل، فكان مع صبره على البلاء راضيًا بالقضاء وحامدًا شاكرًا في الشدة والرخاء ممتنًا لله عارفًا بفضله ونعمته ذاكرًا له على كل حال، قال ابن القيم رحمه الله: «سمعت شيخنا شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة قدس الله روحه، ونور ضريحه، يقول: إِنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أَنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أَنا حبسي خَلْوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة - أَو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير - ونحو هذا

(1)

الأعلام العلية (ص: 82).

(2)

العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 281).

ص: 68

وقال مرة: المحبوس من حُبِس قلبُه عن ربِّه، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إِلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إِليه، وقال:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)} [الحديد:13].

قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كَانَ فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب النَّاس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرُّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.

وكنا إِذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إِلاَّ أَن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه! وفتح لهم أبوابها في دار العمل! فأتاهم من رَوحها ونسميها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إِليها اهـ»

(1)

.

وهذه الأمور كلها هي التي جعلت أعداءه يحارون فيه، ولا يزدادون منه إلا غيضا وعليه إلا حسداً، ومن ذلك أنه لما كان محبوسا في سجن القاهرة وقد أيس الواشون به من إرجاعه عن معتقده أو إسكاته عن كشف ضلالهم، وأصابهم من ذلك هم وضيق وحيرة، قاموا بإرسال بعض المشايخ التدامرة إليه، وقالوا له:«قد اجتمعنا بهؤلاء القائمين عليك، وقالوا قد بُلشنا به، والناس تلعننا بسببه، وقد قلنا: إنا قد أخذناه بحكم الشرع في الظاهر، فليبصر شيئًا لا يكون علينا ولا عليه فيه رد فيكتبه لنا ونتفق نحن وهو عليه» ، فلما قالوا له ذلك قال لهم:«أنا منشرح الصدر، وما عندي قَلَق، وهم برّا الحبس فَلِمَ يقلقون؟»

(2)

.

وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك، أو نفيك، أو حبسك، فقال لهم: «أنا إن قتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي

(1)

الوابل الصيب (ص:48).

(2)

فصل في تكسير الأحجار لإبراهيم الغياني ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 146).

ص: 69

معبدًا، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت تقلبت على صوف، فيئسوا منه وانصرفوا»

(1)

.

ولما يئسوا منه وقرروا إخراجه من سجن القاهرة ليُنفى ويسجن في الاسكندرية، قال خادم الشيخ إبراهيم بن أحمد الغياني

(2)

رحمه الله: «فوقفت أبكي، فقال الشيخ: «لا تبك، ما بقيت هذه المحنة تُبطئ» ، ثم صار يقرأ القرآن، فلما صلوا المغرب بقي يدعو بدعاء الكرب، وأنزل الله عليه من النور والبهاء والحال شيئًا عظيمًا، كأن وجهه شمع يجلوه مثل العروس، وفي ظلمة الليل جاء نائب الوالي فقال:«باسم الله، فبقي المحبوسون يودّعونه ويبكون ويدعون عليهم بدعاء مختلف، أقله أن يسلبهم الله نعمته، وركب على باب الحبس، فقال له إنسان: «يا سيدي هذا مقام الصبر» ، فقال له:«بل هذا مقام الحمد والشكر، والله إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قُسِّم على أهل الشام ومصر لفضل عنهم، ولو أن معي في هذا الموضع ذهبًا وأنفقته ما أديت عشر هذه النعمة التي أنا فيها»

(3)

.

‌ثامناً: شجاعته:

كان رحمه الله شجاعاً ثابت الجأش قوالاً بالحق، آمراً بالمعروف ناهيا عن المنكر. لا يخشى في الله لومة لائم ولا عذل عاذل، وسر ذلك كله ما اجتمع في قلبه من تعظيم الله وتبجيله وإجلاله، وما مُلئ به فؤاده من اليقين بالله والثقة به، وتجد أثر ذلك واضحاً في أقواله وتقريراته ومن ذلك قوله رحمه الله:«ولن يخاف الرجل من غير الله إلا لمرض في قلبه»

(4)

.

وقد كان تعلقه بالله عز وجل كبيرا، وتوكله عليه توكلاً عظيما، فليس لأحد من الخلق عليه منه، ولا فضل ولا نعمة فيخاف من ذهابها، ويخشى من زوالها، وقد

(1)

فصل في تكسير الأحجار الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 148).

(2)

هو إبراهيمُ بنُ أحمدَ الغيانيُّ، انظر ترجمته حاشية (ص:350) من هذه الرسالة.

(3)

فصل في تكسير الأحجار لإبراهيم الغياني ضمن الجامع لسيرته (ص: 150).

(4)

مجموع الفتاوى (3/ 259).

ص: 70

صرح رحمه الله بذلك فقال: «وليس لي ما أخاف الناسَ عليه: لا مدرسة، ولا إقطاع، ولا مال، ولا رئاسة، ولا شيء من الأشياء»

(1)

.

يغار على الْإِسْلَام من كل بِدعَة

وَمَا زَالَ مِنْهَا هادما كل بُنيان

وَفِي الله لم تَأْخُذهُ لومة لائم

وَلم يخْش مخلوقا من الْإِنْس والجان

(2)

وقد وصف غير واحد ممن عاصره وترجم له شجاعته وإقدامه ومن ذلك قول الذهبي رحمه الله: «وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت»

(3)

، وقال رحمه الله:«وإليه كان المنتهى في فرط الشجاعة»

(4)

، وقال ابن الوردي

(5)

رحمه الله: «بشجاعته تضرب الأمثال وببعضها يتشبه أكابر الأبطال»

(6)

، وقال عنه أيضاً:«أطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياماً لا مزيد عليه بدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أدى إليه اجتهاده، وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال، وجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية»

(7)

.

ومن المواقف المشهودة في ذلك موقفه في صد هجمة التتار عندما انزعج الناس وطاشت عقولهم وفر منهم من فر وجزع منهم من جزع، وشيخ الإسلام

(1)

المصدر السابق (28/ 449).

(2)

بيتان من قصيدة لشهاب الدين إبراهيم بن شهاب الدين ابن كوشب الحنفي (ت: 735 هـ)، نقلها ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص:491).

(3)

العقود الدرية (ص: 39).

(4)

ذيل تاريخ الإسلام ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 271).

(5)

عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس المعري زين الدين ابن الوردي، الفقيه الشافعي، الأديب الشاعر، من مصنفاته:"تتمة المختصر في أخبار البشر" و"خريدة العجائب"(ت:749 هـ). انظر: الدرر الكامنة (1/ 409)، البدر الطالع (1/ 491).

(6)

تتمة المختصر في أخبار البشر ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 334).

(7)

المصدر السابق (ص: 334).

ص: 71

على ثبات عظيم يحث الناس على القتال ويحضهم عليه، ويثبت العسكر والأمراء على القتال ويقوي جأشهم ويرفع من عزيمتهم، وذهب إلى السلطان في بلاد مصر فاجتمع به وبالوزير وأعيان الدولة وحرضهم على القتال وحثهم عليه، بل وجزم لهم بالنصر حتى جرَّدت العساكر إلى الشام لحمايته من بطش التتار، وشهد القتال بنفسه وأظهر فيه من الشجاعة أمرًا عجباً، ومن البسالة شيئا مذهلا

(1)

، قال ابن عبد الهادي رحمه الله: «ولقد أخبرني حاجب من الحجاب الشاميين أمير من أمرائهم ذو دين متين وصدق لهجة معروف في الدولة قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمَرْجُ الصُّفَّر

(2)

وقد تراءى الجمعان: يا فلان أوقفني موقف الموت قال فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم.

ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة فدونك وما تريد.

قال فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره وحرك شفتيه طويلا ثم انبعث وأقدم على القتال وأما أنا فخُيل إلي أنه دعا عليهم وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة

قال: ثم حال القتال بيننا والالتحام وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر وانحاز التتار إلى جبل صغير عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين تلك الساعة وكان آخر النهار

قال: وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضا على القتال وتخويفا للناس من الفرار.

فقلت يا سيدي: لك البشارة بالنصر فإنه قد فتح الله ونصر وهاهم التتار

(1)

انظر: البداية والنهاية ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 411 - 416).

(2)

مرج الصفر: سهل واسع من سهول دمشق جرت فيه معارك حاسمة. انظر: معجم البلدان (5/ 101). المعالم الأثيرة (ص:248).

ص: 72

محصورون بهذا السفح، وفي غد إن شاء الله تعالى يؤخذون عن آخرهم.

قال فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ودعا لي في ذلك الموطن دعاء وجدت بركته في ذلك الوقت وبعده»

(1)

.

ومن مواقفه في ذلك موقفه العظيم مع سلطان التتر السلطان محمود غازان

(2)

، قال العلامة أحمد بن يحيى العمري:«ولما قدم غازان دمشق خرج إليه ابن تيمية في جماعة من صلحاء الدماشقة، منهم القدوة الشيخ محمد بن قوام، فلما دخلوا على غازان كان مما قال ابن تيمية للترجمان: قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ مؤذنون على ما بلغنا، فغزوتنا، وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرين وما عملاً الذي عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت، وجرت له مع غازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونوب، قام فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله»

(3)

.

وقال القاضي شهاب الدين أحمد بن يحيى العمري: «جلس الشيخ إلى السلطان محمود غازان حيث تجم الأسد في آجامها، وتسقط القلوب دواخل أجسامها، وتجد النار فتوراً في ضرمها، والسيوف فرقاً في قرمها، خوفاً من ذلك السبع المغتال، والنمرود المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيلة محتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرأ في نحره، وطلب منه الدعاء، فرفع يديه ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه»

(4)

.

(1)

العقود الدرية (ص:193 - 194).

(2)

هو محمود غازان بن أرغون، من سلالة ملكية تنتهي إلى جنكيز خان، كان من أبرز الملوك في دولته وأقواهم، كان له خبرة بسياسة الأمور وتدبير الملك، وكان قد التحق في أفعاله بجده الأكبر هولاكو، ويعتبر عهده فترة تحول المغول من حياة البدو إلى الاستقرار (ت: 703 هـ). انظر: فوات الوفيات (4/ 97)، الدرر الكامنة (3/ 292).

(3)

مسالك الأبصار ضمن الجامع لسيرته (320).

(4)

تتمة المختصر ضمن الجامع لسيرته (ص: 334).

ص: 73

ومن شجاعته في قول الحق ولو في وجه السلاطين والأمراء ما حكاه البزار رحمه الله من موقفه مع الملك الناصر بن قلاوون، حيث قال: «أخبرني من لا اتهمه أن الشيخ رضي الله عنه حين وُشي به إلى السلطان المعظم الملك الناصر محمد، أحضره بين يديه، قال: فكان من جملة كلامه: إنني أُخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك؟

فلم يكترث به، بل قال له بنفس مطمئنة، وقلب ثابت، وصوت عالٍ سمعه كثير ممن حضر:(أنا أفعل ذلك، والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فلسين)، فتبسم السلطان لذلك، وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة، إنك والله لصادق، وإن الذي وشيء بك إليَّ كاذب، واستقر له في قلبه من المحبة الدينية ما لولاه لكان قد فتك به منذ دهر طويل من كثرة ما يلقى إليه في حقه من الأقاويل الزور والبهتان؛ ممن ظاهر حاله للطغام العدالة وباطنه مشحون بالفسق والجهالة»

(1)

.

‌تاسعاً: تواضعه:

ومع تلك المكانة الرفيعة التي نالها شيخ الإسلام، والتي دان له بها العلماء والأمراء إلا أنه رحمه الله كان غاية في التواضع ولين الجانب، والبعد عن الفخر والاعتداد بالنفس، قال الحافظ أبو حفص البزار رحمه الله:«وأما تواضعه فما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك»

(2)

، ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله: «ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً:(ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء)، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:

أنا المكدّي وابن المكدّي

(3)

وهكذا كان أبي وجدّي

(1)

الأعلام العلية (ص: 73).

(2)

المصدر السابق (ص: 49).

(3)

قال في لسان العرب (15/ 216): «كدت الأرض

إذا أبطأ نباتها

والكادي: البطيء الخير من الماء

وأكدى الرجل: قل خيره، وقيل: المكدي من الرجال الذي لا يثوب له مال ولا ينمي».

ص: 74

وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: (والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً)، وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:

أنا الفقير إلى رب البريات

أنا المسيكين في مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي

والخير إن يأتنا من عنده يأتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعة

ولا عن النفس لي دفع المضراتِ»

(1)

الثناء عليه:

كان من البساطة بمكان نقل ثناء أهل العلم على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وذلك أنه لا تخلو ترجمة من تراجمه على ما لا يحصى من أنواع التعظيم والمدح والثناء العاطر والذكر الحسن والجميل، وقد تفنن المترجمون له في ذكر صفاته الحميدة وأخلاقه العظيمة وعلمه الجم، حتى أن الناقل للثناء عليه ليتحير فيما ينقل وعمن ينقل؟! ولكن مع هذا كله كان مما لفت نظري وشد انتباهي عبارة عظيمة وُصِفَ بها شيخ الإسلام ولطالما تكررت أثناء ترجمته بنحو لم يعهد في ترجمة أحد غيره، وهي قول كثير ممن عاصره أو ترجم له: إنه لم يُرَّ مِثلُهُ، أو لم نرَّ مثلهُ، أو نحوها من العبارات التي تتضمن المدلول نفسه، وهذه العبارة على قلة كلماتها إلا أنها تُعتبر الغاية في الثناء، والمنتهى في المدح والإطراء، وهي الكلمة التي يقف عندها العاجز عن وصف ما شاهده، فإن الواقف على مكان جميل أو منظر خلاب إذا عجز عن وصف ذلك ورأى أنه مهما عبر للناس عن جماله وحسنه لم يؤد حقه، فإنه يلجأ إلى هذه الكلمة فيقول لم أر مثله قط، وكأنه يختصر المسافة أمام السامع فيقول له: تذكر أجمل مكان رأيته في حياتك فهذا أفضل منه وأجمل، فليس له نظير ولا مثيل ولا شبيه، وكذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله فريد وقته وأوحد عصره

(1)

مدارج السالكين (1/ 520).

ص: 75

ولذلك رأى كثير من مترجميه أنهم مهما وصفوه به من العلم والكرم والجود والزهد والتواضع والشجاعة وغيرها من الصفات، فإن هذا لن يوفيه حقه، فوصفوه بأنه لم يُرَّ مثله قط، وذلك لكي لا يتوهم السامع أن ما وصفوه به من الصفات هي كصفات غيره، فإن المتصفون بهذه الصفات كُثر، ولكن كان شيخ الإسلام أكثرهم علمًا وأعظمهم خُلقًا وأجلهم قدرًا، فليس في أحد منهم مساو له ولا نظير، ولهذه كله فإنني سأقتصر في ذكر ثناء الناس عليه، بذكر من وصفه بهذه العبارة أو بمعنى يقاربها، وهم أكثر من ثلاثين رجلاً منهم الموافق والمخالف، والملك والوزير، والمؤرخ والعالم، وقد رأيت أن أرتبهم حسب الوفاة وهم كالتالي:

1) سلطان التتر السلطان محمود غازان (703 هـ): حيث قال واصفاً شيخ الإسلام رحمه الله: «إني لم أر مثله ولا أثبت قلباً منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أَعظمُ انقيادًا مني لأحدٍ منهُ»

(1)

.

2) الشيخ عماد الدين الواسطي المعروف بابن شيخ الحزامين

(2)

(711 هـ)، قال رحمه الله:«واللهِ ثمَّ واللهِ ثمَّ واللهِ لم أَرَ تحت أديم السَّماء مِثْلَه؛ عِلْمًا وعملاً وحالاً وخُلُقًا وكرمًا وحِلْمًا في حقِّ نَفْسه، وقيامًا في حَقِّ الله عند انتهاك حرماته»

(3)

، وقال أيضاً:«ما رأينا في عصرنا هذا من تُستجلى النبوةُ المحمديةُ وسنتُها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل»

(4)

.

3) نائب السلطنة جمال الدين بن الأفرم

(5)

رحمه الله (716 هـ):

(1)

الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص: 70).

(2)

أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عماد الدين ابن الشيخ أبي إسحاق شيخ الحزامية الواسطي ثم الدمشقي، ولد بواسط، ورحل إلى بغداد، ثم القاهرة، ثم دمشق، اشتهر بالزهد وكثرة العبادة وحب السنة، كان من المعظمين لشيخ الإسلام المتصدين لفضح أهل الحلول والاتحاد (ت:711 هـ). انظر: الدرر الكامنة (1/ص 103) شذرات الذهب (6/ 24).

(3)

التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 123).

(4)

المصدر نفسه ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 123 - 124).

(5)

آقوش بن عبد الله الدواداري المنصوري، الأمير جمال الدين، المعروف بالأفرم -وهو غير الأفرم صاحب الرباط والأموال-كان من مماليك الملك المنصور قلاوون القُدم وكان ذا قوة ونجدة، يقاوم في الحروب بعدة، وما تمتع أحد بالقصر الأبلق كما تمتع،، وكان مغرى بحب الصيد لا يكاد يمله، ولي نيابة دمشق قرابة (14) عامًا، وأحبه أهل دمشق، (ت 720 هـ وقيل:716 هـ). انظر: أعيان العصر (1/ 560 - 572) السلوك لمعرفة دول الملوك (2/ 519).

ص: 76

قال ابن كثير

(1)

رحمه الله: «وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة أُخْبر نائب السلطنة بوصول كتاب من الشَّيخ تقي الدين من الحبس الَّذي يُقال له: الجبّ. فأرسل في طلبه، فجيء به، فقرئ على الناس. فجعل يشكر الشَّيخ ويُثني عليه وعلى علمه وديانته وشجاعته وزُهده. وقال: ما رأيتُ مثله»

(2)

. وقال ابن رجب رحمه الله: «ثمَّ في آخر هذه السنة وصل كتاب إِلى نائب السلطنة بدمشق من الشَّيخ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه، وأثنى عليه، وقال: ما رأيت مثله، ولا أشجع منه»

(3)

.

4) قاضي المالكية ابن مخلوف (718 هـ): قال: «ما رأينا مثل ابن تَيْمِيَّة حرَّضْنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا»

(4)

.

5) نجم الدين إسحاق بن أبي بكر ابن ألمي التركي

(5)

(بعد 720 هـ): قال رحمه الله:

(1)

هو الشيخ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصري ثم الدمشقي، الحافظ المعروف، كان عالمًا محققًا ثقة متقنًا، وكان غزير العلم واسع الاطلاع إمامًا في التفسير والحديث والتاريخ، وترك مؤلفات كثيرة قيمة أبرزها:"البداية والنهاية" و"تفسير القرآن العظيم"(ت:774 هـ). انظر: الدرر الكامنة (1/ 445) والمنهل الصافي (2/ 414).

(2)

البداية والنهاية ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 424).

(3)

ذيل طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 476).

(4)

المصدر نفسه ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 431).

(5)

إسحاق بن أبي بكر بن ألمى بن التركي المصري الحنبلي، الفقيه الحنبلي المحدّث الأديب الشاعر له شعر فائق، طلب الحديث وقتا وتوفي بعد (720 هـ) ولم تتحقق سنة وفاته. انظر: معجم الشيوخ الكبير للذهبي (1/ 170)، شذرات الذهب (8/ 157).

ص: 77

وَلَيْسَ لَهُ فِي الْعلم والزهد مُشبِهٌ

سوى الْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن الْمسيب

وَمن رام حبرًا غَيره الْيَوْم فِي الورى

فَذَاك الَّذِي قد رام عنقاء مغرب

(1)

6) شيخ الشافعية كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني (727 هـ): قال ابن رجب رحمه الله: «وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزَّمْلَكاني: أَنَّه سئل عن الشَّيخ فقال: لم ير من خمسمائة سنة، أَو أربعمائة سنة -الشك من الناقل، وغالب ظنه: أَنَّه قال: من خمسمائة سنة- أحفظ منه»

(2)

.

7) قاضي القضاة شمس الدين محمد ابن الحريري الحنفي

(3)

رحمه الله (728 هـ): قال العلامة شهاب الدين أحمد بن عبدالوهَّاب النُّوَيري

(4)

: «كان ممن تعصب لتقي الدين ابن تيمية في هذه الواقعة بالشام قاضي القضاة شمس الدين محمد ابن الحريري الحنفي، وأثبتَ محضرًا له مما هو عليه من الخير، وكتبَ في أعلاه بخطه ثلاثة عشر سطرًا يقول في جملتها: (إنه منذ ثلاث مئة سنة ما رأى الناس مثله)، وأراني قاضي القضاة زين الدين المالكي هذا المحضر»

(5)

.

8) الشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن عبد الكريم التبريزي

(6)

(730 هـ): قال رحمه الله:

(1)

العقود الدرية (456).

(2)

ذيل طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 470).

(3)

هو شمس الدين محمد بن عثمان بن أبي الحسن الدمشقي الحريري، قاضي الديار المصرية، كان رأسًا في المذهب الحنفي، عادلًا مهيبًا (ت: 728 هـ). انظر: الوافي بالوفيات (4/ 67)، الدرر الكامنة (4/ 39).

(4)

هو شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم النويري، له مصنفات منها: نهاية الأرب في فنون الأدب، (ت:733 هـ). انظر: الدرر الكامنة (1/ 231)، البداية والنهاية (14/ 164).

(5)

نهاية الأرب في فنون الأدب ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 180).

(6)

هو أحمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد بن أنو شروان التبريزي، المعروف بابن المكوشت اشتغل في مذهب أبي حنيفة ومهر وتقدم وقال الشعر الحسن، (ت: 730 هـ). انظر: الدرر الكامنة (1/ 207)، الطبقات السنية في تراجم الحنفية (ص:115).

ص: 78

يا ثُلمةً ثُلِمَت في الدين واتسعت

ولستِ حتى اللقا والحشرِ تلتئمي

هيهات هل تسمح الدنيا بمثلِ فتى

تيميةٍ أو يُرى في عالمِ الحُلمِ

(1)

9) الشيخ محمود بن علي الدقوقي البغدادي المحدث

(2)

(733 هـ): قال رحمه الله:

يَا وَاحِد الدُّنْيَا الَّذِي بِعُلُومِهِ

يمتاز فِي الْإِسْلَام كل موحد

يَا من يروم لَهُ عديلاً فِي الورى

قد رمت كالعنقاء مَا لم يُوجدِ

(3)

10) ابن سيد الناس اليعمري (734 هـ): قال رحمه الله: «ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأَت عينه مثل نفسه»

(4)

.

11) الشيخ مجير الدين الخياط الدمشقي

(5)

(735 هـ): قال رحمه الله في قصيدة له في رثاء شيخ الإسلام:

مَا كَانَ إِلَّا خير أمة أَحْمد

فِي الْعَصْر لم تسمح بِهِ الْأَعْصَار

(6)

وقال واصفاً الشيخ في قصيدة أخرى:

كَانَ وِتراً فِي الْفضلِ فَذَّاً وكلُّ النَّـ

اس جَاءُوا بشَفْعِهم والتُّؤامِ

كَانَ سَمحاً بِمثلِهِ الدَّهْرِ ضنًّا

فِي ليَالِي الزَّمَان وَالْأَيَّامِ

يَا فقيد الْمِثَال علماً وحلماً

وَقَرِيب المرمى بعيد المرامِ

(7)

(1)

العقود الدرية (ص:483 - 484).

(2)

هو أبو الثناء محمود بن علي بن محمود بن مقبل الدقوقي البغدادي الحنبلي، محدث بغداد وحافظها، توفي (733 هـ). انظر: الرد الوافر (ص:127) الدرر الكامنة (6/ 88 - 89).

(3)

العقود الدرية (516 - 517).

(4)

أجوبة ابن سيد الناس اليعمري عن سؤالات ابن أيبك الدمياطي ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 188).

(5)

هو أحمد بن الحسن بن محمد مجير الدين الخياط الدمشقي، (ت:735 هـ) وقد قارب السبعين وله ديوان كبير. انظر: أعيان العصر (1/ 212) والوافي بالوفيات (6/ 206) والدرر الكامنة (1/ 141).

(6)

العقود الدرية (ص:469)

(7)

العقود الدرية (ص:473، 474)

ص: 79

وله أيضاً في قصيدة أخرى:

مُطيعًا لرب الْعَرْش لم يعْص أمره

وَمِنْه لَهُ فِي الْعَصْر لم نر أطوعا

فَللَّه مَفْقُود فقدناه نَافِع

لنا مِنْهُ غير الله لم نر أنفعا

(1)

12) الشيخ علاء الدين بن غانم المقدسي

(2)

(737 هـ): قال رحمه الله:

حَاز علماً مَا لَهُ من مسَاوٍ

فِيهِ من عَالم وَلَا من مسام

ولم يكن فِي الدُّنْيَا لَهُ من نَظِيرٍ

فِي البرايا فِي الْفضل وَالْأَحْكَام

كَانَ فِي علمه وحيدا فريدًا

لم ينالوا مَا نَالَ فِي الأحلام

عَالمٌ فِي زَمَانه فاق بالعلـ

م جَمِيع الْأَئِمَّة والأعلام

أوحدٌ فيه قد أُصيبَ البرايا

فيعزى فيه جميع الأنامِ

حسدوه إِذْ مَاله من نَظِير

من بني دهره الْكِبَار الْكِرَام

(3)

13) العلامة ركن الدين محمَّد بن القوبع

(4)

رحمه الله (738 هـ): قال أحمد بن محمد الفيومي

(5)

رحمه الله: «سمعت من لفظ الشَّيخ الإِمامة العلامة ركن الدين محمَّد بن القوبع قال: (مات ابن تَيْميَّة ولم يترك على ظهر الأَرض مثله)، وحسبك بهذا القول من هذا الإمام»

(6)

.

(1)

العقود الدرية (ص:477).

(2)

هو علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان بن حمائل بن غانم المقدسي، كان وجيهاً فاضلاً كثير القضاء لحوائج الناس، وله يد طولى في النظر. (ت:737). انظر: أعيان العصر (3/ 496 - 502) الدرر الكامنة (3/ 103).

(3)

العقود الدرية (463 - 465).

(4)

هو أبو عبد الله ركن الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن التونسي، المعروف بابن القوبع، شيخ المالكية بالديار المصرية والشامية، له مصنفات منها: تفسير سورة ق، تعليق على ديوان المتنبي، (ت: 738 هـ). انظر: الدرر الكامنة (4/ 181)، الوافي بالوفيات (1/ 187).

(5)

أحمد بن محمد الفيومي ثم الحموي، كان عارفاً ماهراً في العربية والفقه، له مصنفات منها: المصباح المنير، ونثر الجمان (ت نحو: 770 هـ). انظر: الدرر الكامنة (1/ 372)، وبغية الوعاة (1/ 389).

(6)

نثر الجمان في تراجم الأعيان ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 403).

ص: 80

14) الشيخ صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق

(1)

(739 هـ): قال رحمه الله:

أَي حبر قد غيضته المنايا

فِي رجا حُفْرَة من الأرجاء

أعلم النَّاس كلهم بكتا

ب الله جلّ اسْمه بِغَيْر مراء

بمعانيه والعلوم الَّتِي فِيـ

هِ وأدرى بِالسنةِ الغراء

(2)

15) الحافظ المحدث أَبو الحَجَّاج المزي

(3)

رحمه الله (742 هـ) كان يقول: «لم يُر مثله منذ أربعمائة سنة»

(4)

. ويقول أيضاً: «ما رأيتُ مِثْلَه، ولا أرىَّ هو مِثْلَ نَفْسِه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسُنَّة رسوله، ولا أتبع لهما منه»

(5)

.

16) عبد الباقي بن عبدالمجيد اليماني

(6)

(743 هـ): قال رحمه الله: «أَجْمَعَ من شاهد معارفه، وتحقّق عوارفه: أَنّه نسيج وحده، وفريد وقته في علمه ومجده»

(7)

. وقال: «وعلى الجملة؛ لم يسمح الزمن له بمثيل»

(8)

.

17) العلامة الحافظ ابن عبد الهادي (744 هـ): قال رحمه الله: «لم يُر أوسع من

(1)

هو صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله البغدادي الحنبلي، مدرس البشيرية ببغداد، من مصنفاته "شرح المحرر" و"مراصد الإطلاع"، (ت:739 هـ). انظر: المعجم المختص (ص:152)، شذرات الذهب (8/ 213) أعيان العصر (3/ 181).

(2)

العقود الدرية (ص:480).

(3)

هو جمال الدين المزي أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف القضاعي ثم الكلبي الدمشقي الشافعي، الحافظ المحدث المشهور، من مصنفاته:"تهذيب الكمال""تحفة الأشراف"(ت:742 هـ). انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 193)، وطبقات الشافعية الكبرى (10/ 395).

(4)

ذيل طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 470).

(5)

مختصر طبقات علماء الحديث ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 251).

(6)

هو تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد بن عبد الله اليماني، ولد بمكة ودخل اليمن وقدم مصر والشام وتوفي بالقاهرة له مصنفات منها:"بهجة الزمن في تاريخ اليمن"(ت: 743 هـ). انظر: معجم المؤلفين (12/ 74).

(7)

لقطة العجلان في مختصر وفيات الأعيان ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (246).

(8)

المصدر نفسه ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (246).

ص: 81

نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مِثْلَ نفسه»

(1)

.

18) شيخ النحاة أَبو حيَّان

(2)

رحمه الله (745 هـ): قال العلامة القنوجي

(3)

رحمه الله: «وحضر عنده -أي عند شيخ الإسلام- شيخ النحاة أَبو حيَّان وقال: ما رأيت عيناي مثله»

(4)

، وقال فيه أبياتاً منها:

لمَّا رأينا تقيَّ الدين لاحَ لنا

داعِ إلى اللهِ فردٌ ماله وَزرُ

(5)

19) تقي الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان الجعبري

(6)

(745 هـ): قال رحمه الله:

يَا ابْن تَيْمِية وَيَا أوحد العصـ

ر وَيَا سيداً غَرِيب الدَّار

التقي النقي ذِي الْمجد والسـ

ود والمكرمات والإيثار

20) الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله (748 هـ): وقد تنوعت عباراته المؤكدة على أن شيخ الإسلام لم يُرَ مثله، فقد قال رحمه الله: «وهو أَكبر من أَن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: أَني ما رأَيت بعيني مثله ولا رأَى هو مثل

(1)

مختصر طبقات علماء الحديث ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 258).

(2)

هو أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن على بن حيان بن يويسف الأندلسي، إمام أهل عصره في النحو، له مصنفات منها: البحر المحيط في التفسير، وشرح التسهيل (ت: 745 هـ). انظر: الدرر الكامنة (5/ 70)، فوات الوفيات (2/ 282).

(3)

هو أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي، له مصنفات في العربية والفارسية والهندية منها "أبجد العلوم" و"قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر"، وكان ممن نصروا السنة في بلاده (ت:1307 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (6/ص 167)، معجم المؤلفين (10/ 90).

(4)

أبجد العلوم ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 708).

(5)

الذيل على طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 469).

(6)

هو محمد بن سليمان بن عبد الله بن سليمان، الفقيه المحدث الفاضل تقي الدين الجعبري الشافعي، ولد سنة (706 هـ) وتوفي (745 هـ). انظر: المعجم المختص بالمحدثين (ص: 232) أعيان العصر (4/ 463).

ص: 82

نفسه في العلم»

(1)

. وقال: «فوالله ما مَقَلتْ عيني مِثْلَه ولا رأى هو مِثْل نَفْسه»

(2)

، وقال أيضاً:«ولم يخلف بعده مثله في العلم، ولا من يُقاربه»

(3)

، وقال أيضاً:«ولم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته بالله تعالى، وكثرة توجهه»

(4)

، وقال:«وما رأيت في العالم أكرم منه ولا أفرغ منه عن الدينار لا يذكره ولا أظنه يدور في ذهنه»

(5)

، وقال:«هو في زمانه فريد عصره علماً وزهداً وشجاعةً وسخاءً، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، وكثرة تصانيف»

(6)

. وقال رحمه الله: «فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه»

(7)

. وله عبارات كثيرة أخرى تدل على ذلك

(8)

.

21) سراج الدين أبو حفص البزار رحمه الله (749 هـ): قال رحمه الله: «ولقد اتفق كل من رآه خصوصاً من أطال ملازمته أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا حتى لقد صار ذلك مشهوراً، بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها، بل لو سئل عامي من أهل بلد بعيد من الشيخ من كان أزهد أهل هذا العصر وأكملهم في رفض فضول الدنيا واحرصهم على طلب الاخرة لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية رحمة الله عليه»

(9)

، وقال أيضاً: «ما رأيت أحداً أثبت جأشا منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه؛ كان يجاهد في سبيل الله

(1)

تتمة المختصر في أخبار البشر ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 336).

(2)

المعجم المختص ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 279).

(3)

معجم الشيوخ ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 273).

(4)

ذيل تاريخ الإسلام ضمن الجامع لسيرته (ص: 271).

(5)

نقله عنه ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 473).

(6)

مختصر طبقات علماء الحنابلة ضمن الجامع لسيرته (ص: 255).

(7)

مختصر طبقات علماء الحنابلة ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 255 - 256).

(8)

انظر: ذيل تاريخ الإسلام ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 268، 468) وتذكره الحفاظ ضمن الجامع نفسه (ص:275).

(9)

الأعلام العلية (ص: 46).

ص: 83

بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لؤمة لائم»

(1)

، وقال:«ولا والله ما رأيت أحدا أشد تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحرص على أتباعه ونصر ما جاء به منه»

(2)

. وقال رحمه الله: «وأما تواضعه فما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك»

(3)

.

22) العلامة ابن الوردي رحمه الله (749 هـ): قال رحمه الله في رثائه للشيخ رحمه الله:

تقي الدِّين أَحمد خيرُ حبرٍ

خُروق المعضلات به تُخاطُ

(4)

وقال:

قضى نحبًا وليس له قرينٌ

ولا لنظيره لُفَّ القِماط

فتًى في علمه أَضحى فريدًا

وحلُّ المشكلات به يُناط

(5)

23) العلامة أحمد بن يحيى ابن فضل الله العمري (749) هـ قال رحمه الله: «كان أمةً وحده، وفردا حتى نزل لحده»

(6)

. وقال في رثائه لشيخ الإسلام:

ولم يكن مثله بعد الصحابة في

علم عظيمٍ وزهدٍ ما له خطرُ

(7)

وقال:

يا ليت شعريَ هل في الحاسدين له

نظيره في جميع القوم إن ذُكِروا

(8)

وقال:

لِفقدِ مثلِك يا مَن ما له مثل

تأسى المحاريب والآياتُ والسورُ

(9)

(1)

الأعلام العلية (ص: 67).

(2)

المصدر السابق (ص: 28).

(3)

المصدر السابق (ص: 49).

(4)

تتمة المختصر في أخبار البشر ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 330).

(5)

العقود الدرية (466) وتتمة المختصر ضمن الجامع لسيرته (ص: 330).

(6)

مسالك الأبصار ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (312).

(7)

المصدر السابق (ص: 324).

(8)

المصدر السابق (ص: 326)

(9)

المصدر السابق (ص: 327).

ص: 84

24) الشيخ زين الدين عمر بن الحُسام الشبلي

(1)

(749 هـ): قال في رثاء الشيخ:

لَو كَانَ يقنعني عَلَيْك بُكَائِي

لجرت سوابق عبرتي بدماء

أَتَرَى علمت وَأَنت أفضل عَالم

مَا عندنَا من لوعة وبلاء

بِأبي وحيداً مَاتَ مُنْفَرداً عَن ال

أحباب كَانَ بَقِيَّة الصلحاء

بَحر الْعُلُوم حوى الْفَضَائِل كلهَا

وسما سمو كواكب الجوزاء

متفرداً فِي كل علم دونه

لعلو رتبته ذرى العلياء

(2)

25) الإمام سعد الدين أبو محمد سعد الله بن بُخيخ

(3)

(749 هـ): قال رحمه الله:

يَا عَالما جلّ عَن ضد يضاهيه

وفَاق أقرانه فِيمَا يعانيه

يَا ذَا الْفَضَائِل يَا زين الأماثل يَا

مُردي المُماثل يَا مُوهي مُناويه

(4)

26) الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله (751 هـ): قال ابن رجب: «قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كَانَ فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب النَّاس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرُّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه»

(5)

.

27) العلامة الصفدي رحمه الله (764 هـ): قال رحمه الله «وكان إذا تكلم أغمض عينيه وازدحمت العبارة على لسانه فرأيت العجب العجيب، والحبر الذي ما له

(1)

هو عمر بن الحسام آقوش الشاعر زين الدين أبو حفص الشبلي الدمشقي الذهبي الشافعي، فيه تودد كثير وحسن صحبة وطهارة لسان، توفي في رمضان (749 هـ). انظر: أعيان العصر (3/ 598) فوات الوفيات (3/ 131).

(2)

العقود الدرية (ص:493).

(3)

عمر بن سعد الله بن بخيخ، بباء موحدة وخاء معجمة مفتوحة الإمام المفتي المتفنن زين الدين الحراني الحنبلي عالم زكي خير وقور متواضع بصير بالفقه والعربية (ت:749). انظر: أعيان العصر (3/ 630)، المعجم المختص بالمحدثين (ص: 181).

(4)

العقود الدرية (ص:561)

(5)

الوابل الصيب (ص:48).

ص: 85

مشاكل في فنونه ولا ضريب»

(1)

، وقال أيضاً:«وعلى الجملة؛ فما رأيت ولا أرى مثله في اطّلاعه وحافظته»

(2)

، وقال: «وعلى الجملة فكان الشيخ تقيُّ الدين ابن تيميَّة أحد الثلاثة الذين عاصرتُهم ولم يكن في الزمان مثلُهم، بل ولا قبلَهم من مئةِ سنة، وهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي، وقلت في ذلك:

ثلاثةٌ ليس لهمْ رابعٌ

فلا تكنْ مِن ذاكَ فِي شَكِّ

وكلُّهمْ مُنتسبٌ للتُّقَى

يَقْصُرُ عَنْهُم وَصْفُ مَنْ يَحْكِيْ

فإنْ تَشَأْ قُلت: ابن تيميَّةٍ

وابن دقيقِ العيدِ والسُّبْكيْ

(3)

28) الملك الأفضل عباس بن علي بن داود بن رسول

(4)

(778 هـ): قال رحمه الله: «لم يُر في حياته إلا كاتبًا أو ذاكرًا أو متوجهًا أو ناشرًا للعلم أو مُتكلِّمًا بفائدة، قليل النوم، مُكِبًّا على العلم مُذْ نَشَأ، قليل الأكل، لم يتزوج قط ولا تسرَّى، ولم يكمل أحدٌ من العالم كما كَمُل:

هيهاتَ لا يأْتي الزَّمانُ بمثلِه

إنَّ الزَّمانَ بِمِثْلِه لَعَدِيْمُ»

(5)

29) الشيخ الفقيه أمين الدين عبد الوهاب بن سلار الشافعي

(6)

(782 هـ): قال رحمه الله:

(1)

الوافي بالوفيات ضمن الجامع لسيرته (ص: 372).

(2)

المصدر السابق (ص: 374).

(3)

أعيان العصر وأعوان النصر ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 366).

(4)

عباس بن علي بن داود بن يوسف بن عمر ابن علي بن رسول الغساني، اليماني (الملك الافضل)، من ملوك بني رسول باليمن، كان سلطاناً مهاباً، كريماً جواداً، وله إلمام بالعلم والفضل، ومشاركة جيدة في عدة علوم ومصنفات منها:"العطايا السنية في ذكر أعيان اليمنية" و" نزهة العيون في تاريخ طوائف القرون"(ت:778 هـ). انظر: المنهل الصافي (7/ 56 - 58) معجم المؤلفين (5/ 61).

(5)

نزهة العيون في تاريخ طوائف القرون ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 450)، وفي هذا الكلام مبالغة واضحة، فالله على كل شيء قدير فإن شاء أن يأتي بمثله أو أعظم فعل.

(6)

أبو محمد عبد الوهاب بن يوسف ابن ابراهيم بن السلار الْفَقِيه الْفَاضِل عز الدَّين أَبُو عبد الله الأقفهسي الْمصْرِيّ أمين الدولة شيخ القراء، من مصنفاته "طبقات القراء السبعة وذكر مناقبهم" (ت:782 هـ). انظر: الرد الوافر (ص: 110) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (3/ 240).

ص: 86

قد رزئنا إِمَام علم وَدين

عَدِمَ الْمثل فِي الزَّمَان فريد

(1)

30) الشيخ قاسم بن عبد الرحمن بن نصير المقرئ

(2)

: قال رحمه الله في قصيدة له يرثي بها الشيخ:

عظُمَ الْمُصَاب وزادت الأفكار

وَجَرت بِحكم فراقك الأقدار

يَا واحداً فِي حلمه وعلومه

خلت الْبِقَاع وَقلت النصار

حبر لَبِيب أوحد فِي عصرنا

سل مَا تشا لَهُ بِهِ أَخْبَار

مَا كَانَ إِلَّا خير أمة أَحْمد

شخصت لعظم مصابه الْأَبْصَار

(3)

31) جمال الدين محمود بن الأثير الحلبي

(4)

: قال رحمه الله:

ابْن تَيْمِية يتيمة دهرٍ

مَا لَهُ من مساوم ومسامي

أوحد فِي الْعُلُوم وَالْفضل والزهد

لَا يرأي فِي مِلَّة الْإِسْلَام

فاق بِالْعلمِ والفضائل بالخلق

فأضحى إِمَام كل إِمَام

أوحد الْخلق فِي التفاسير طرا

وَالْأَحَادِيث والعلوم التَّمام

(5)

32) بدر الدين محمد بن عز الدين المغيثي

(6)

: قال في رثاء شيخ الإسلام:

لِتقيِّ دينِ الله وصفٌ باهرٌ

وخصائصٌ خَضَعت لَهَا الأفهامُ

(1)

العقود الدرية (ص:547).

(2)

لم أقف له على ترجمته.

(3)

العقود الدرية (ص:457، 458).

(4)

لم أقف له على ترجمة.

(5)

العقود الدرية (ص:498).

(6)

هو بدر الدين محمد بن عز الدين المغيثي، كان والده عز الدين من خواص أصحاب الشيخ تقي الدين، قال ابن عبد الهادي:«رجل فَاضل لَهُ محفوظات متنوعة، وَفِيه ديانَة وصلابة فِي دينه» ، له منظومات منها هذه المنظومة. انظر: العقود الدرية (ص:497)، الرد الوافر (ص:66)، الدرر الكامنة (4/ 17).

ص: 87

بَحرُ الْعُلُوم وكنز كلِّ فَضِيلَةٍ

فِي الدَّهْر فَردٌ فِي الزَّمَان إِمَامُ

وأناله رب السَّمَوَات الْعلَا

فِي الْعلم سبقا مَا إِلَيْهِ مرام

فاق الْقُرُون سوى الثَّلَاث فإنها

خير الْقُرُون يزينهن تَمام

وَسوى ابْن حَنْبَل إِنَّه علم الْهدى

حبر إِمَام صابر قوام

لَكِن أَحْمد مثل أَحْمد قد حوى

علما وزُهداً فِي الْعُلُوم تُؤامُ

(1)

33) الشيخ عبد الله بن خصر الرومي الدمشقي الحريري

(2)

: قال رحمه الله:

أَلا يَا تَقِيّ الدّين يَا فَرد عصره

بروقك قد لاحت كشمس مضيئة

(3)

وله أيضاً في قصيدة أخرى:

فِي علمه مَا علمنَا من يُنَاسِبه

إِلَّا أئمتنا أهل العنايات

فِي زهده مَا سمعنَا من يشاكله

إِلَّا رجال مضوا أهل الكرامات

فِي جوده مَا وجدنَا من يماثله

غير البرامك كَانُوا فِي سعادات

يجود وَهُوَ فَقير إِن ذَا عجب

هُوَ الَّذِي مَا سمعنَا فِي الحكايات

أعجوبة الدَّهْر فَرد فِي فضائله

عَلامَة الْوَقْت فِي الْمَاضِي وَفِي الْآتِي

(4)

34) بدر الدين حسن بن محمد النحوي المارداني

(5)

: قال رحمه الله:

تفردت فِي علم وزهد وفطنة

فضلت بهَا فِي الْفضل بَين الورى ذكرا

فأقسم بِالْقُرْآنِ فِي الْعَصْر صَادِقا

بأنك قد شرفت من دهرك العصرا

(6)

35) الشَّيْخ شمس الدّين الْحَنْبَلِيّ

(7)

، قال رحمه الله:

(1)

العقود الدرية (ص:501، 502، 503).

(2)

لم أعثر له على ترجمته.

(3)

العقود الدرية (ص:531).

(4)

المصدر السابق (ص:536 - 537).

(5)

لم أجد له ترجمة.

(6)

العقود الدرية (ص:578).

(7)

هذا اللقب أُطلق على غير واحد من علماء الحنابلة، ولم أقف على المراد منهم هنا.

ص: 88

قد كَانَ كَالشَّمْسِ للدنيا إِذا طلعت

وَالْيَوْم لَا عوض عَنهُ وَلَا بدلُ

لله در أبي الْعَبَّاس من رجل

مَا إِن يرى فِي البرايا مثله رجلُ

قد كنت أعجوبة فِي الدَّهْر مدهشة

وَكَانَ درسك فِيهِ الْعقل ينذهلُ

(1)

‌عاشراً: كثرة تآليفه وتصنيفاته:

لقد كان شيخ الإسلام أُعجوبة في الكتابة والتصنيف، والإفتاء والتأليف، فرسائله لا تحصى، والقواعد والأجوبة لا تكاد تستقصى، كما نصَّ على ذلك كبار تلامذته رحمه الله، مع براعة في التدوين، وجمعٍ للدلائل والبراهين منقطع النظير، قال العلامة ابن عبد الهادي:«وله من المؤلفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل والتعاليق ما لا ينحصر ولا ينضبط، ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين جمع مثل ما جمع، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريبا من ذلك»

(2)

.

وقال الذهبي: «وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر»

(3)

.

وقال البزار: «وأما مؤلفاته ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها أو يحضرني جملة أسمائها بل هذا لا يقدر عليه غالباً أحد؛ لأنها كثيرة جدًا كبارًا وصغارًا وهي منشورة في البلدان فقل بلد نزلته إلا ورأيت فيه من تصانيفه»

(4)

.

وقد سرد جملة منها تلميذه أبو عبدالله ابن رشيق في رسالة سماها: (أسماء مؤلفات شيخ الإسلام)، قال في مطلعها: «أما بعد فإن جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن أذكر له ما ألَّفه الشيخ الإمام العلامة الحافظ، أوحد زمانه، فريد العصر: تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه؛ فذكرت لهم إني أعجز عن

(1)

العقود الدرية (ص:582).

(2)

مختصر طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرته (ص: 257).

(3)

المصدر السابق (ص: 254).

(4)

الأعلام العلية (ص: 23).

ص: 89

حصرها وتَعْدادها»

(1)

.

وممن استطرد في تعداد مصنفات هذا الإمام -ولم يحصها- العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله في العقود الدرية، وكذا ابن رشيق رحمه الله في رسالة لطيفة له

(2)

وغيرهم كثير.

‌وفاته:

لكل شيء إذا ما تم نقصانُ

فلا يطيب بطول العيش إنسان

(3)

هكذا بعد حياة عامرة بالخير والدعوة والعلم والتعليم، جاء الأجل المحتوم، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فتوفي مسجوناً مظلوماً في قلعة دمشق في ليلة العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مائة، وقد كانت جنازته مشهودة؛ ضاقت بها الطريق، وانتابها الناس من كل فج عميق، وقد صور لنا شمس الدين الجزري

(4)

رحمه الله شيئاً من وصف تلك الجنازة المهيبة فقال رحمه الله: «وصلى عليه جميع من في قلعة دمشق، ثم حمل وأخرج منها إلى جامع دمشق، ووضعت الجنازة أول الخامسة، وقد امتلأ الجامع بالناس، وغلقت جميع أسواق دمشق ولم يبق حانوت مفتوح، إلا أن يكون نصرانيا، لأن اليهود كانوا في عيد المظلة، وأما دكاكين المراوزة والحريريين والقزازين وجميع أرباب الأنوال والحاكة والصناع، وجميع أرباب الصنائع، وسكان الأحكار ظاهر دمشق، وأهل الصالحية بأجمعهم حضروا إلى الجامع المعمور لأجل الصلاة عليه، وامتلأ الجامع أكثر من يوم الجمعة، لأن أهل الصالحية من أهل الأحكار يصلون

(1)

أسماء مؤلفات شيخ الإسلام لابن رشيق ضمن الجامع لسيرته (ص: 282).

(2)

وهي مطبوعة بعنوان: "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" لابن رشيق.

(3)

من قصيدة لأبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس. انظر: جواهر الأدب (2/ 1).

(4)

هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد العزيز الجزري الدمشقيّ، مؤرخ، له مصنفات منها: التاريخ المسمى بحوادث الزمان وأنبائه، ووفيات الاكابر والأعيان (ت: 739 هـ). انظر: أعيان العصر (4/ 220) الدرر الكامنة (5/ 27).

ص: 90

يوم الجمعة في جوامعهم، وفي هذا اليوم حضروا إلى الجامع بأجمعهم، ولعل من لا له عادة بالصلاة حضر لأجل الصلاة عليه، وصلى عليه قاضي القضاة الشيخ علاء الدين القونوي الشافعي

(1)

عقيب صلاة الظهر بالجامع، ثم حضروا الأمراء والحجاب والنقباء بالعصي والدبابيس حول نعشه، وحملوه الترك من الأمراء والمقدمين على رؤوسهم تبركا به

(2)

، والأجناد يضربون الناس، ولولا ذلك لما قدروا يصلوا به إلى قبره من كثرة الزحام والتبرك به. وكانت سويقة باب البريد قد أخربوها، فشق على الناس ذلك، وحملوه وخرجوا به من باب الفرج، وبعض الناس من باب الفراديس وباب النصر وباب الجابية

(3)

من كثرة الناس. وامتد العالم إلى سوق الخيل

(4)

وامتلأ، فصلى عليه أخوه زين الدين عبد الرحمن

(5)

، ثم حمل من سوق الخيل فمر به تحت القلعة المحروسة.

(1)

هو علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي علاء الدين الشافعي، له معرفة بالفقه والأصول، وكان معظماً وذاباً عن شيخ الإسلام ابن تيمية (ت:729 هـ). انظر: الدرر الكامنة (4/ 29)، البدر الطالع (1/ 419).

(2)

من المعلوم المتقرر أن التبرك لا يجوز شرعاً إلا بما ثبت فيه البركة من قبل الشارع، وعلى الهيئة التي جاءت في الشرع، على جهة السببية، وما فعله هؤلاء إنما هو من الأمور المبتدعة التي كانت منتشرة في عصره رحمه الله والتي بذل رحمه الله في إنكارها والتحذير منها الشيء الكثير، وهذا شأن كثير ممن غلا فيهم الناس وعظموهم وصرفوا لهم أنواع العبادات، وصنعوا عند قبورهم وأضرحتهم مختلف البدع والمحدثات، وهم كانوا أشد الناس أمرا بالتوحيد ونهيا عن الشرك والبدع والخرافات، وأمثلة ذلك كثيرة من الصحابة والأنبياء والأئمة والعلماء.

(3)

أسماء تاريخية لأبواب مدينة دمشق القديمة. انظر معجم دمشق التاريخي (1/ 19، 20، 26، 27، 29).

(4)

سوق الخيل: تسمية كانت تطلق على ساحة سوق الخيل التي تقع تحت القلعة وتخصصت بتجارة الخيول. انظر: معجم دمشق التاريخي (2/ 9).

(5)

هو عبد الرحمن بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني أخو شيخ الإسلام، حبس مع أخيه في الإسكندرية، وكان مؤثرا لأخيه على نفسه، يتفقده ويخدمه، ويذب عنه، وكان حسن السيرة ذا فضيلة معروفة (ت:747 هـ). انظر: معجم الشيوخ (1/ 361)، الدرر الكامنة (3/ 118).

ص: 91

والله العظيم لقد رأيت الناس قاعدين على الطريق يمينا وشمالا، الرجال والنساء مختلطين كأنهم ينتظرون عبور السلطان، ومنهم من يبكي، ومنهم من يضج ويصيح، ومن يتأسف، ومنهم من يتفرج، فلما وصلت إلى مقبرة الصوفية

(1)

رأيتها وقد امتلأت بالعالم، وقد حفروا قبره إلى جانب أخيه الشيخ شرف الدين

(2)

، وحضر أخوه زين الدين وحوله نقباء يحموه من الناس حتى شاهد القبر قبل وضع أخيه، وتأخرت الجنازة إلى قريب العصر حتى وضع في قبره وألحدوه وطم عليه ولقنوه

(3)

، وبعد ذلك انصرف الناس أولا بأول متأسفين عليه»

(4)

.

وقال البزار رحمه الله: «فما هو إلا أن سمع الناس بموته فلم يبق في دمشق من يستطيع المجيء للصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك وتفرغ له حتى غلقت الأسواق بدمشق وعطلت معايشها حينئذ وحصل للناس بمصابه أمر شغلهم عن غالب أمورهم وأسبابهم وخرج الأمراء والرؤساء والعلماء والفقهاء والأتراك والأجناد والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام، قالوا ولم يتخلف أحد من غالب الناس فيما أعلم إلا ثلاثة أنفس كانوا قد اشتهروا بمعاندته، فاختفوا من الناس؛ خوفاً على أنفسهم بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا

(1)

مقبرة الصوفية أو مقابر الصوفية كانت في المنيبع قبالة باب النصر، ثم أزيلت المقبرة وبني مكانها جامعة ومشفى للمرضى، ولم يبق منها إلا قبر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير رحمهما الله، تقديراً لمكانتهما عند الناس، إلا أن السلطات النصيرية قاتلها الله قامت مؤخرا بإزالة قبره من مكانه. انظر: معجم دمشق التاريخي (2/ 311).

(2)

هو عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، الشيخ الإمام الفقيه أخو شيخ الإسلام كان صاحب علم وفضل ولم يشتغل بالتصنيف (ت:727 هـ). انظر: أعيان العصر (2/ 692) الدرر الكامنة (3/ 42).

(3)

السنة الثابتة أن يدعو الحاضرون للميت ويسألوا الله له التثبيت ويستغفروا له، وأما تلقينه الشهادتين فلم يثبت فيه حديث صحيح، وإن أجازه جمع من العلماء، وانظر: أحكام الجنائز (ص:155 - 156).

(4)

تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه ضمن الجامع لسيرته (ص:198).

ص: 92

رجمهم الناس فأهلكوهم»

(1)

.

هكذا كان حرص أهل بلده ومن جاورهم من البلاد القريبة على حضور جنازة الشيخ والصلاة عليه، وأما من كان خارج البلاد، فقد قال ابن رجب رحمه الله:«وصلى عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة، حتى في اليمن والصين، وأخبر المسافرون: أنه نودى بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة (الصلاة على ترجمان القرآن)»

(2)

.

‌حزن الناس عليه:

أي حبر مضى وأي إمام

فجعت فيه ملة الإسلام

كل من في دمشق ناح عليه

ببكاء من شدة الآلام

فجع الناس فيه في الشرق والغر

ب وأضحوا بالحزن كالأيتام

لو يفيد الفداء بالروح كنا

قد فديناه من هجوم الحمام

(3)

هذه الأبيات عبر بها الشيخ علاء الدين علي بن غانم رحمه الله عما خيم من الحزن على جميع محبي الشيخ رحمه الله، فقد فقدوا إماماً عظيما، وشيخاً كبيرًا، يندر في الزمان مثله، فحُق لعيونهم أن تدمع، ولقلوبهم أن تألم وتتوجع.

لِفقدِ مثلِك يا مَن ما له مثل

تأسى المحاريب والآياتُ والسورُ

(4)

ومن المواقف المؤثرة المحزنة التي تحكي مكانة شيخ الإسلام في القلوب ومدى تأثر الناس بحزنه موقف الشيخ عبدالله بن حامد رحمه الله، الذي بذل ماله ووقته ونفسه من أجل السفر لرؤية الشيخ ولقاءه، ثم فوجئ في أثناء الطريق بخبر وفاة الشيخ رحمه الله، فبعث برسالة مؤثرة لتلاميذه يحكي في ضمنها مدى الحزن الذي غمره بوفاة الشيخ رحمه الله، وكان مما قال فيها: «ولما حججت سنة ثمان

(1)

الأعلام العلية (ص: 83).

(2)

الذيل على طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرته (ص: 487).

(3)

أعيان العصر وأَعْوَان النَّصْر ضمن الجامع لسيرته (ص: 362).

(4)

مسَالِكُ الأَبْصَار في مَمَالِكِ الأَمْصَار ضمن الجامع لسيرته (ص: 327).

ص: 93

وعشرين وسبعمائة صممت العزم على السفر إلى دمشق لأتوصل إلى ملاقاته، ببذل مهما أمكن من النفس والمال للتفريج عنه، فوافاني خبر وفاته -رحمه الله تعالى- مع الرجوع إلى العراق، قبيل وصولي الكوفة، فوجدت عليه مالا يجده الأخ على شقيقه -استغفر الله- بل ولا الوالد الثاكل على ولده، وما دخل في قلبي من الحزن لموت أحد من الولد والأقارب والإخوان كما وجدته عليه -رحمه الله تعالى- ولا تخيلته قط في نفسي ولا تمثلته في قلبي؛ إلا ويتجدد لي حزنٌ قديمهُ كأنه مُحدث، ووالله ما كتبتها إلا وأدمعي تتساقط عند ذكره أسفاً على فراقه وعدم ملاقاته، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»

(1)

.

وبهذا تم المقصود من ترجمته أسال الله أن يجمعنا وإياه في مستقر رحمته.

* * *

(1)

رسالة ابن حامد إلى ابن رشيق ضمن الجامع لسيرته (243 - 244).

ص: 94

‌ملحق الترجمة

جدول شامل لأبرز الأحداث في حياة شيخ الإسلام بتواريخها وسنة وقوعها وسن الشيخ عند وقوعها، منذ ولادته وإلى حين وفاته رحمه الله

العام

العمر

أبرز الأحداث

661 هـ

-

ولادته بحران

667 هـ

6

هجرته مع عائلته من حران إلى دمشق

682 هـ

21

وفاة والده عبد الحليم

683 هـ

22

2/ محرم: التدريس بدار الحديث السكرية.

10/صفر: بدء درس التفسير في الجامع الأموي بعد الجمعة.

692 هـ

31

الحج إلى مكة.

693

32

حادثة عساف النصراني وتأليف كتاب الصارم المسلول.

695

34

17/شعبان: بدء التدريس في المدرسة الحنبلية.

698 هـ

37

-تأليف الواسطية.

-تأليف الحموية الكبرى.

-محنة الحموية في شهر ربيع الأول، وانتصار الأمير للشيخ.

699 هـ

38

-فتنة قدوم التتار وزعيمهم غازان إلى الشام.

-3/ ربيع الثاني: الذهاب لغازان وقصته معه.

-2/ رجب: الذهاب لمخيم بولاي وفك أسرى المسلمين.

-17/رجب: خروج التتار من دمشق، وتكسير الشيخ وأصحابه للخمور وحاناتها وتعزير أصحابها.

ص: 95

700 هـ

39

-ابتداء من 2/صفر: موقفه العظيم في تثبيت الناس وتحريضهم للقتال بعد إشاعة خبر عودة التتار.

-11/جمادى الأول: الذهاب للسلطان بمصر وتحريضه على القتال، واستجابة السلطان.

-رجوع التتار لبلادهم بعد مجيئهم لأطراف الشام، أثناء ذهاب الشيخ لمصر.

701 هـ

40

-1/ رمضان: عودة التتار ووقوع معركة شقحب والجهاد العظيم الذي قام به الشيخ.

705 هـ

44

-2/محرم: وقعة كسروان وقتاله لهم مع النائب وإجلائهم من الجبل.

-9/ جمادى الأولى: مناظرته مع الرفاعية في القصر.

-8/ رجب: المجلس الأول في المناظرة الواسطية.

-12/ رجب: المجلس الثاني في المناظرة الواسطية.

-7/شعبان: المجلس الثالث.

-15/ رمضان: ورود أمر السلطان بإحضار الشيخ إلى مصر، للتحقيق في قضية الحموية.

-22/ رمضان: وصوله مصر.

-23/ رمضان: عقد مجلس للشيخ مع ابن مخلوف وجماعة، وعدم السماح له بالكلام، والأمر بحبسه في البرج.

-29/ رمضان: نقله إلى الحبس المعروف بالجب.

707 هـ

46

-23/ربيع الأول: إخراجه من السجن، بعد ذهاب الأمير ابن مهنا ملك العرب إلى مصر لإخراجه.

-وعقدت له 3 مجالس متفرقة في ربيع الأول وربيع الثاني انتهت بخير.

ص: 96

-10/شوال: شكاية خلق من المتصوفة والمبتدعة على الشيخ، وعقد مجلس له بدار العدل.

-18/شوال: خروجه للسفر إلى الشام بعد ورود الأمر بذلك، ثم إرجاعه من الطريق في اليوم نفسه.

-19/ شوال: حبسه بسجن الحكام بحارة الديلم.

709 هـ

48

-29/ صفر: الأمر بنقله ونفيه إلى الإسكندرية، واقامته ببرج مليح هناك.

-8/شوال: أمر السلطان الناصر بإحضار الشيخ من الإسكندرية بعد رجوعه من الكرك.

-18/ شوال: وصول الشيخ لمصر.

-24/شوال: اجتماع الشيخ مع السلطان بالقصر، وتعظيم السلطان له أمام الناس، وعفوه عن القضاة الذين ظلموه وكادوه.

-ثم نزول الشيخ للقاهرة وسكنه قرب مشهد الحسين.

711 هـ

50

-قيام جماعة من المتعصبين بضرب الشيخ في الجامع.

712 هـ

51

-1/ذو القعدة: عودة الشيخ إلى دمشق بعد غياب سبع سنين وسبع جمع.

716 هـ

55

-20/ شوال: وفاة والدته رحمها الله.

718 هـ

57

-1/جمادى الأول: ورود أمر السلطان بمنع فتوى الشيخ في مسألة الحلف بالطلاق.

-13/جمادى الأولى: عقد مجلس للشيخ بذلك، والاتفاق على ذلك.

-عودة الشيخ للإفتاء بها.

719 هـ

58

-29/ رمضان: ورود كتاب آخر من السلطان حول فتوى الطلاق، وعقد مجلس آخر للشيخ عُوتب فيه وأُكِّدَ عليهِ بالمنع.

ص: 97

720 هـ

59

-22/رجب: عقد مجلس للشيخ بسبب مسألة الطلاق وأمر النائب بحبسه بالقلعة.

721 هـ

60

-10/ محرم: إخراج الشيخ من السجن بعد ورود أمر السلطان بذلك.

726 هـ

65

-عثور خصوم الشيخ على فتوى للشيخ بمنع شد الرحال، وإحداثهم فتنة عظيمة بسبب ذلك، وقيامهم على الشيخ في الشام ومصر.

-6/شعبان: ورود أمر السلطان بحبس الشيخ في القلعة، والقيام بحبسه.

-15/شعبان: حبس وتعزير جماعة من أصحاب الشيخ بأمر القاضي.

728 هـ

67

-19/جمادى الآخرة: أمر السلطان بإخراج كل ما عند الشيخ من ورق ودواة وأقلام، ومنعه من التصنيف والكتابة، بعد انتشار رسائله.

-الحمى والمرض بضع وعشرين يومًا، وقيل 17 يومًا.

-الاثنين 20/ ذو القعدة: وفاته رحمه الله.

• تنبيهان:

التنبيه الأول: ميزت الأحداث التي وقعت للشيخ بمصر باللون الرمادي، وما كان بالأبيض فهو مما وقع له بالشام (دمشق).

التنبيه الثاني: قد يشكل على البعض وقوع تلك الأحداث الجسمية لشيخ الإسلام عند قدومه مصر عام 705 هـ فما بعدها، مع ما عرف من علاقته الجيدة بالسلطان، ومحبة السلطان للشيخ وتعظيمه إياه، والواقع أنه منذ عام 698 إلى عام 708 هـ والحاكم الفعلي لمصر هم أمراء المماليك ولم يكن للسلطان قلاوون إلا الاسم فقط، وفي عام 708 هـ استلم الجاشنكير الحكم وغادر السلطان للكرك، ثم عاد الملك الناصر للحكم الفعلي للبلاد منذ عام 709 هـ، وقضى على

ص: 98

خصومه وقام بإكرام الشيخ وتخييره في شأن خصومه، واستمر له الحكم حتى وفاته 741 هـ.

وختاماً أقول لكل من أراد أن يتعرف على شيخ الإسلام:

مهما قرأ القارئ في سيرة ابن تيمية وتراجم العلماء له، فلن يعرف حقيقة ابن تيمية حق المعرفة حتى يطلع على مؤلفاته، ويقرأ كتبه ورسائله ومصنفاته، ويبحر في أبحاثه ومسائله وكتابته

وعند ذلك سيجد شيئاً عجيباً، يعجز عن وصفه الواصف!

إن القارئ لكتبه ليقف حائراً مندهشاً، متعجباً منذهلاً من هذه الشخصية الفذة، أي عقل كانت تحمل؟! وبأي علم كانت تنطق وتكتب وتصنف؟!

قرأت في سيرته الكتب الكثيرة، فما تعجبت لشيء مما كُتِبَ عنه، تعجبي واستغرابي عند قراءة ما كَتَبَ وصنف!

إنه أعجوبة بحق .. إنه آية عظيمة من آيات الله!

وما أصدق ما قال فيه خصمه ابن الزملكاني رحمه الله:

ماذا يقولُ الواصفونَ له

وصِفاته جلَّتْ عن الحَصْرِ

هو حُجّةٌ لله قاهِرَةٌ

هُو بيننا أُعجوبةُ الدَّهْرِ

هو آيةٌ في الخَلْقِ ظاهِرَةٌ

أَنْوارها أرْبَتْ على الفَجْرِ

(1)

* * *

(1)

الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (ص: 252).

ص: 99

‌المطلب الثاني: منهج شيخ الإسلام في المناظرات:

لقد كان شيخ الإسلام رحمه الله مدرسة حية في جميع العلوم والفنون، والأخلاق والآداب، والمعاملات والعبادات. ولقد رسم شيخ الإسلام رحمه الله في مناظراته منهجاً علمياً رصيناً، ومنهجاً عملياً متيناً، يسير عليه ويحتذي حذوه فيه كل داعية للهدى والحق، ويستفيد منه في طريقة مناظرة الخصوم ومجادلتهم، ومقارعة أعداء الشريعة ومنازلتهم.

هذا .. وإن الكتابة عن منهج الشيخ في مناظراته ومناقشاته لخصومه، هو في حد ذاته مشروع مستقل، يستحق أن يفرد بالبحث والدراسة، ومن الصعوبة بمكان إعطاء هذا الجانب حقه من البحث والدراسة في مبحث ضمن عدة مباحث وفصول؛ لأن الموضوع أطول من هذا، ويستحق من العناية والتحقيق أكبر من هذا، ولكنني سأحاول في هذا المبحث الاقتصار على أهم الجوانب التي توضح منهجه، وتبرز طريقته ومسلكه، في مناظرة خصومه ومخالفيه، وتتمثل أبرز هذه المعالم في الأمور التالية:

1)‌

‌ إخلاص النية وحسن القصد والتخلص من حظوظ النفس:

إن ما تمتع به شيخ الإسلام -فيما أحسب- من إخلاص لله في نفسه، وحسن قصد في نيته، أمر يظهر لكل مطلع على محاورات الشيخ رحمه الله ومناظراته، وذلك أن التوفيق العجيب الملازم لشيخ الإسلام في جميع مناظراته ومحاوراته، لا يناله أي شخص وأي أحد، وإنما هو من حظ عباد الله المخلصين، الذين علم الله

ص: 100

صدق نياتهم في الدفاع عن شريعته، والذود عن حياض ملته، فأحاطهم بحفظه وعنايته، وأيدهم بنصره وإعانته في الأقوال والأفعال ومختلف المقامات والأحوال، قال أبو حفص البزار:«ولما علم الله نياته ونياتهم أبى أن يُظفِرهم فيه بما راموا حتى أنه لم يحضر معه منهم أحد في عقد مجلس، إلا وصنع الله له ونصره عليهم بما يظهره على لسانه من دحض حججهم الواهية وكشف مكيدتهم الداهية للخاصة والعامة»

(1)

وقال: «وما كان ذلك كذلك إلا لما عَلِمَ الله سبحانه من حسن طوية هذا الإمام، وإخلاص قصده، وبذل وسعه في طلب مرضاة ربه، ومتابعة سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه»

(2)

، ولم يكن له رحمه الله في مناظراته مصلحة دنيوية، ولا فائدة شخصية، بل كانت مناظراته سبباً فيما حصل له من حبس وعناء، وكرب وبلاء، وقد بين رحمه الله المقصد الصحيح الذي يجب على أهل العلم أن يسلكوه في مناظراتهم، ويكون هو غايتهم ومرادهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«فمن كان عالماً بالحق فمناظرته المحمودة: أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشداً طالباً للحق، أو يقطعه ويكف عداوته إن كان معانداً غير متبع للحق، ويوقفه ويسلكه ويبعثه على النظر في أدلة الحق إن كان يظن أن قصده الحق»

(3)

.

2)‌

‌ وحدة منهجه وطريقته ومسلكه:

امتاز شيخ الإسلام بوحدة منهجه وطريقته في التعامل مع الخصوم في مختلف مناظراته ومحاوراته، حتى أن الناظر في مناظراته لا يكاد يميز بين المتقدم منها والمتأخر؛ وذلك لأن مستنده الذي ينطلق منه في جميع ذلك مستند واحد، ألا وهو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفهم سلف هذه الأمة ولذلك لم تتغير طريقته ولم تتناقض مواقفه، كما سيتضح في النقطة القادمة.

(1)

الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص: 74)

(2)

المصدر السابق (ص: 80).

(3)

درء تعارض العقل والنقل باختصار (7/ 167).

ص: 101

3)‌

‌ الالتزام بالأدلة الشرعية من نصوص الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة:

لقد سار شيخ الإسلام طيلة حياته على منهج ثابت متزن دعا إليه الناس، ونافح من أجله وقرره في مختلف رسائله وكتبه، وهو اتباع ما جاء في الكتاب والسنة على فهم سلف هذه الأمة، وبهذا الميزان تعامل مع كل خصومه، وعليه بنى منهجه وطريقته في كتابته ومناظراته وشتى سبل دعوته، قال رحمه الله:«فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي، غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون»

(1)

.

ولما نازعه خصومه في مناظرة الواسطية، وأوهموا الناس أن له اعتقادًا خاصاً به يسير عليه ويدعو الناس إليه، أجابهم شيخ الإسلام بكل حزم وصرامة:«أما الاعتقاد: فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني؛ بل يؤخذ عن الله ورسوله وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم»

(2)

. وقال لهم: «وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به: آية أو حديثًا أو إجماعًا سلفياً»

(3)

.

وبين رحمه الله في كثير من مناظراته ورسائله وكتابته أن المرجع عند التنازع والاختلاف إنما هو كتاب الله وسنة نبيه، قال رحمه الله: «فإذا تنازع المسلمون في مسألة وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله و الرسول، فأي القولين دل عليه الكتاب

(1)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 272).

(2)

المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 161).

(3)

المصدر السابق (3/ 189).

ص: 102

و السنة وجب اتباعه»

(1)

، قال رحمه الله:«وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاعَ إلا كتاب من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل»

(2)

.

4)‌

‌ الثقة بالله تعالى، وبما رزقه من علم وبصيرة وحق:

وهذه الثقة بارزة في جميع مناظرات الشيخ ومحاوراته مع خصومه، بل وحتى في كتابته ومؤلفاته، ولعظيم ثقته هذه لم يُعرف عنهُ قط التردد في صحة ما دل عليه الكتاب والسنة، أو أجمع عليه سلف الأمة، ولذلك تحدى المخالفين في أحد مناظرته أن يأتوا بدليل واحد يخالف ما قرره من الحق وبينه من الهدى، وأمهلهم على ذلك ثلاث سنين قال رحمه الله: «وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:(خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)

(3)

، يخالف ما ذكرته، فأنا أرجع عن ذلك»

(4)

، ولم يزل قلبه معلقًا بالله ومحسنًا للظن به، فلما اجتمع عليه الرفاعية تجمع الأحزاب، وتكالبوا تكالب الأعداء، وأرادوا تأليب السلاطين والأمراء، وطالبوا بحضور ابن تيمية، قال حينئذ:«فلما علمت ذلك، أُلقى في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين»

(5)

، وقال:«فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته واستنصرته واستهديته وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى أُلقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون بردا وسلاما»

(6)

، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظيم ثقته بالله وتوكله عليه.

(1)

مجموع الفتاوى (20/ 12).

(2)

درء التعارض (1/ 229).

(3)

رواه البخاري، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3650)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة (2533) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

(4)

المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 169).

(5)

المناظرة الرفاعية ضمن مجموع الفتاوى (11/ 454).

(6)

المصدر السابق (11/ 455).

ص: 103

5)‌

‌ قوة حجته وحضورها:

على كثرة مناظرات شيخ الإسلام رحمه الله وتنوع خصومه ومخالفيه: من علماء وقضاة ومتكلمين وأذكياء، إلا ان أحداً منهم لم يستطع الوقوف في وجه شيخ الإسلام، وما ذلك إلا لما كان يمتلكه من قوة حجة تُبهت الخصم وتسكته، وكثرة أدلة تُبهر الخصم وتقطعه، وهذه الميزة تظهر بوضوح في كل مناظرات شيخ الإسلام ومحاوراته، ولا أدل على ذلك من رجوع كثير من مناظريه عن أقوالهم، واعترافهم بما كانوا عليه من ضلال وباطل، وتصريحهم بالتوبة والرجوع إلى الحق الذي قرره شيخ الإسلام وبينه ووضحه، وهذا الأمر منطلق مما يعتقده شيخ الإسلام من أن تقرير الحق وجواب شبه أهل الباطل يجب أن يكون بحجة قوية وأدلة ظاهرة بينة، تقطع ضلال الخصم وتكشفه، وتبرز الحق وتظهره، قال شيخ الإسلام:«وكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم، لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفَّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور والطمأنينة في النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين»

(1)

، وقال رحمه الله:«وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار، فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة»

(2)

.

6)‌

‌ تمام العلم والدراية بمذهب الخصم ومقالات المخالفين:

لقد كان شيخ الإسلام بمكان عظيم من العلم والدراية بمذاهب ومقالات الفرق والطوائف، يشهد له بذلك كل من عرف حاله وقرأ كتبه ومصنفاته، وقد ظهر أثر هذه المعرفة الواسعة في مناظرته مع خصومه، حيث كان رحمه الله يبين أقوال

(1)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 357).

(2)

المصدر السابق (7/ 173).

ص: 104

المخالفين ويفصل القول فيها، ما يصح نسبته إليها مما لا يصح ولا يثبت، وقد بين لمناظريه في العقيدة الواسطية ما رزقه الله من علم ودراية في هذا الباب فقال:«أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها»

(1)

، وكان مما قاله لهم أيضاً:«كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه!»

(2)

.

ومن أوضح ما يبين ذلك ويوضحه تبحره رحمه الله وتوسعه في معرف مذهب الاتحادية على ما في مذهبهم من المباحث الفلسفية والمسالك الوعرة التي لربما لم يفهمها رؤساؤهم وحذاقهم، قال رحمه الله: «ولهذا لما بينت لطوائف من اتباعهم ورؤسائهم قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون

»

(3)

.

وقد ظهر هذا أيضاً في تحريه دقة النقل عن المخالفين، والتحري في نسبة الأقوال لهم، كما سيظهر في النقطة القادمة.

7)‌

‌ الدقة في النقل والتحري في نسبة الأقوال للمخالفين:

كثير من المناظرين قد يخطئ في نسبة الأقوال لأصحابها، وإرجاع المقالات لأربابها، وذلك ناشئُ غالبًا عن قلة علم بالفرق والمقالات، وأحيانًا عن بغي وظلم للآخرين، ولما كان شيخ الإسلام ذا اطلاع واسع على أقوال الفرق والمذاهب، وذا صدق وإخلاص وعدل وإنصاف مع الموافق والمخالف، فقد كان دقيق النقل للأقوال متحرياً في نسبتها للطوائف والرجال.

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 84).

(2)

المصدر السابق (3/ 163).

(3)

المصدر السابق (2/ 138).

ص: 105

ففي مناظرته لأحد مُعظِّمي الرازي ومبجليه، بَيَّنَ خطأ ما نسبه الرازي لبعض الفرق: من القول بجواز أن يتكلم الله بكلام لا يعني به شيئاً، ولما حاول هذا المتعصب الدفاع عن الرازي ونسب هذا القول للكرامية، بين شيخ الإسلام خطأه أيضاً، وقال:«هذا لم يقله لا كرامي ولا غير كرامي، ولا أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم»

(1)

، وهذا الجزم إنما نشأ عن تمام العلم بمقالات الفرق وآراءها.

وبين في مناظرته لابن المرحل بطلان ما حكاه ونسبه لمذهب أهل السنة من أن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد دون القول والعمل

(2)

.

ولما نسب ابن المرحل إلى الحنابلة مخالفة الحسن البصري في كافر النعمة، بين له شيخ الإسلام بطلان هذا، وقال:«أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا فعمن تنقل من أصحابي هذا؟»

(3)

، ثم عاد ابن المرحل فنسب هذا إلى أصحابه من الشافعية، فبين له شيخ الإسلام أن أصحابه أيضاً لم يخالفوا في هذا، فكان أعلم بمذهبه منه.

ولما أحضر مخالفوه في المجلس الثاني للواسطية عالمهم الكبير صفي الدين الهندي ليناظر الشيخ، كان مما قرره أن أول مسألة اختلف فيها المسلمون هي مسألة الكلام، ونسب ذلك إلى الشهرستاني في كتابه الملل والنحل، فغضب شيخ الإسلام وبين له أن قوله خطأٌ وكذِبٌ مخالفٌ للإجماع، وأن الشهرستاني لم يذكر هذا على النحو الذي يريده، بل على خلاف ما يريد تقريره، فظهر عجز هذا الشيخ وإفلاسه أمام علم الشيخ ودرايته

(4)

.

وحين نسب بعضهم في المناظرة الواسطية إلى الإمام أحمد القول بأن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلي، بين شيخ الإسلام أن هذا كذب مفترى، لم

(1)

الصفدية (1/ 288).

(2)

العقود الدرية (ص: 115)، مجموع الفتاوى (11/ 138).

(3)

المصدر السابق.

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 183).

ص: 106

يقله أحمد ولا أحد من علماء المسلمين، لا من أصحاب أحمد ولا غيرهم، ولا يقوله عاقل

(1)

.

ومواقفه التي تبرز هذا الجانب من مناظراته كثيرة مشهودة لا يسع المقام لاستيعابها.

8) الأمانة العلمية في الطرح:

وهذه النقطة هي في الحقيقة تبع لما قبلها، وما تحريه في النقل ودقته في حكاية الأقوال إلا نموذج من نماذج الأمانة العلمية التي كان يتصف ويتحلى بها رحمه الله ومما يوضح ذلك أكثر ما نص عليه رحمه الله في رده على النصارى، حيث قال:«وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها، فصلاً فصلاً، وأُتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعًا وأصلاً وعقدًا وحلاً»

(2)

ويرى رحمه الله أنه يجب على الناقل لأقوال مخالفيه أن ينقلها بنصها وعينها دون تصرف أو رواية بالمعنى أو اختصار أو تلخيص؛ لما يقع في ذلك من الخلل والخطأ والزلل، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«ونحن في جميع ما نورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها، فإن التصرف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل، إما عمدًا وإما خطأ»

(3)

.

9)‌

‌ حرصه في مناظراته على جمع الكلمة واتفاقها:

مع ما عرض لشيخ الإسلام من قبل مخالفيه من كذب وكيد ووشاية ومكر وترصد وأذى، وحرص على الوقيعة بشيخ الإسلام في مناظراتهم ومخاصمتهم له، وإظهار شذوذه ومخالفته للجماعة، إلا أن ابن تيمية -وعلى خلاف ذلك -كان أحرص ما يكون على جمع الكلمة واتفاقها، وترك أسباب الفرقة واجتنابها، ولا أدل على ذلك من موقفه في العقيدة الواسطية بعد أن عرض له ما عرض من

(1)

المصدر السابق (3/ 197).

(2)

الجواب الصحيح (1/ 99).

(3)

بيان تلبيس الجهمية (4/ 307).

ص: 107

مخالفيه ومناوئيه، إلا أنه عاملهم بالرحمة، والعفو، والإحسان

(1)

، والسعي إلى الاجتماع والنهي عن الفرقة كما جاء مبسوطاً في ثنايا المناظرة.

ومن ذلك ما افتتح به رحمه الله المجلس الثاني من مناظرته حيث قال: «إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف ونهانا عن الفرقة والاختلاف. وقال لنا في القرآن: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، وربنا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله»

(2)

.

وفي مناظرته مع الرفاعية كان أحرص ما يكون قبل حدوث الموقعة الكبرى عند الأمير، على تأليفهم وإرجاعهم للحق، والاتفاق معهم على اتباع كتاب الله وسنة نبيه، وترك ما أحدثوه من بدع ومحدثات، والدخول في صالح ما عليه المسلمين، وقد أرسل إلى شيخهم غير ما مرة ليخاطبه بذلك

(3)

.

ومن تتبع سيرته رحمه الله علم حقيقة ما حكاه عن نفسه قائلاً: «أنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين، وطلباً لاتفاق كلمتهم، واتباعاً لما أُمرِنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة»

(4)

.

10)‌

‌ شجاعته في النطق بالحق، وعدم مهابته لأحد غير الله:

هذا الأمر شهد به لشيخ الإسلام أصدقاؤه وأعداؤه، واعترف به خصومه قبل محبيه، فقالوا عنه: «هذا رجل محجاج خصِم، وماله قلب يفزع من الملوك، وقد

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 161، 162، 164، 169، 210).

(2)

المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 182).

(3)

انظر: المناظر الرفاعية ضمن مجموع الفتاوى (11/ 453).

(4)

مجموع الفتاوى (3/ 227).

ص: 108

اجتمع بقازان ملك التتر وكبار دولته، وما خافهم»

(1)

، ومظاهر شجاعته رحمه الله وخصوصاً في مواجهة خصومه ومناظرتهم أشهر من أن تُذكر، ومن أمثلتها الواضحة موقفه العظيم مع الرفاعية، فعلى الرغم مما كان للأحمدية من مهابة ومكانة في نفوس الناس، ونفوذ عند السلاطين والحكام، فإن شيخ الإسلام أظهر الحق وبين أنهم ضلال مبتدعة ودجاجلة مفترون، وصاح بهم أمام الناس بذلك، وتحداهم وعارضهم بكل ما يستطيع.

وعارض علماء دمشق أولاً ثم علماء مصر بعد ذلك، مع أنهم قضاة البلاد، وأصحاب النفوذ ومرجع الأمراء والسلاطين، ووقف في بيان دين الله وإظهار الحق، أعظم المواقف وأجلها، وكان شجاعاً في الصدع بالحق في كل محفل وعند كل أحد، يصدع به أمام السلاطين والأمراء، والقضاة والعلماء والوجهاء، كما يصدع به أمام التلاميذ والأصدقاء، ويرى أن الرجل لا يخاف من النطق بالحق إلا لمرض في قلبه، وقلة توكل وإيمان بربه

(2)

.

غلب الْمُلُوك مهابةً وشجاعةً

لَيْثٌ يهابُ- لِقَاءه الْكُفَّارُ

(3)

11)‌

‌ فطنته بمكايد الخصم وسرعة بديهته في معرفة مراده:

كان شيخ الإسلام رحمه الله ذا فطنة كبيرة وخبرة عالية، بأغراض الخصوم ومقاصدهم، بحيث يفهم مراد الخصم قبل أن يصرح به، ويستعد للإجابة على استشكال الخصم قبل أن يورده عليه، ومن ذلك أن بعض مناظريه في العقيدة الواسطية طلب إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة مرة أخرى؛ فتفطن شيخ الإسلام لمراده من ذلك قبل أن يتفوه به فقال: «كأنك قد استعددت للطعن

(1)

الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص:146).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (28/ 449).

(3)

بيت من ضمن قصيدة في رثاء شيخ الإسلام للشيخ قاسم بن عبد الرحمن المقرئ. العقود الدرية (ص: 458).

ص: 109

في حديث الأوعال»

(1)

، ثم أجاب عن حديث الأوعال وبين صحته.

ولما تحداهم أن يأتوا بشيء عن السلف يخالف ما ذكره في العقيدة، أحضر بعض أكابرهم في المجلس الثاني (كتاب الأسماء والصفات) للبيهقي -رحمه الله تعالى- فقال:«هذا فيه تأويل الوجه عن السلف، قال شيخ الإسلام: «فوقع في قلبي ما أَعَد، فقلت: لعلك تعني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، فقال: نعم»

(2)

، ثم بين الشيخ له وللحاضرين أنه لا حجة في ذلك، وأن ما ورد في تفسير الآية عن مجاهد والشافعي ليس فيه شيء من تأويل الآية، ولا صرفها عن ظاهرها الذي تقتضيه.

ولما سأل بعضهم عما ينسب للإمام أحمد من القول بقدم مداد المصاحف وأصوات القارئين، وظنوا أن هذا هو مذهب الشيخ، فأرادوا أن يجعلوه بين أمرين: إما الإقرار بهذا فيظهر للناس شناعة قوله، وإما الرجوع لقولهم فيحصل مقصودهم، تفطن شيخ الإسلام لهذا فأجابهم بنقيض ما أرادوه، قال رحمه الله:«وكانت هذه المسألة: قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة ممن كان بعضهم حاضراً في المجلس، فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم، وكانوا قد ظنوا أني إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله، حصل مقصودهم من الشناعة، وإن أجبت بما يقولونه هم، حصل مقصودهم من الموافقة، فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة، وليس هو ما يقولونه هم، ولا ما ينقلونه عن أهل السنة -إذ قد يقوله بعض الجهال- بُهتوا لذلك»

(3)

.

12)‌

‌ العدل مع المخالف:

لما كان شيخ الإسلام رحمه الله يعتقد أن من أعظم أسباب النصر والتأييد والمعونة من رب العالمين ضد الأعداء والخصوم، هو العدل معهم في الأقوال

(1)

المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 192).

(2)

المصدر السابق (6/ 15 - 16).

(3)

المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 172).

ص: 110

والأفعال حيث يقول رحمه الله: «إن الإنسان إذا اتبع العدل نُصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه»

(1)

، لهذا السبب ولما أوجبه الله قبل هذا من ترك الظلم ولزوم العدل في جميع الأحوال كان شيخ الإسلام رحمه الله عادلاً في معاملته لخصومه منصفاً لهم، عادلاً في الحكم عليهم وعلى مقالتهم، وهو القائل تلك المقولة الجليلة:«أوجب الله العدل، لكل أحد، على كل أحد، في كل حال»

(2)

، وهذه السمة تجدها بارزة في جميع مناظرات الشيخ رحمه الله، ومن أبرز ملامحها تفاوت حكمه على المقالات بحسب قربها وبعدها من الكتاب والسنة، وتفريقه في الحكم بين القول وقائله، وإنصافه لخصومه في مخاطبتهم وإنزالهم منزلتهم التي يستحقونها، كما سيتضح في النقطة القادمة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وليس مما أمر الله به ورسوله، ولا مما يرتضيه عاقل، أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء،

وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم، إذ هم -ولله الحمد- أكمل الناس عقلاً وأتمهم إدراكاً وأصحهم ديناً، وأشرفهم كتاباً، وأفضلهم نبياً، وأحسنهم شريعة»

(3)

.

13)‌

‌ إنصاف الخصم وإنزاله منزلته التي يستحقها:

وترى هذا الأمر جلياً واضحا في حديث الشيخ عمن ناظرهم وفي مخاطبته لهم، فمع شدة العداوة بين شيخ الإسلام والفلاسفة والرافضة والأشاعرة وجميع الفرق المخالفة، وبعد الفجوة بينه وبينهم، وبغضه لآرائهم ومعتقداتهم، لم يمنعه هذا من نسبة الفضل لذي الفضل منهم فقد قال في مناظرته مع الفلاسفة:«ولهذا خاطبني بعض الأعيان من الفضلاء المتفلسفين»

(4)

، وقال في وصفه للشيخ

(1)

درء تعارض العقل والنقل (8/ 409).

(2)

الرد على المنطقيين (ص:425).

(3)

درء تعارض العقل والنقل (9/ 207).

(4)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 142).

ص: 111

الرافضي الذي ناظره: «ولقد طلب مني أكابر شيوخهم الفضلاء أن يخلو بي، وأتكلم معه في ذلك

»

(1)

.

ولما أتى مخالفوه في المجلس الثاني للمناظرة الواسطية بالشيخ صفي الدين الهندي لينتصروا به، وقع بينه وبين شيخ الإسلام ما وقع، ومع هذا قال الشيخ:«فذكر هو بحثاً حسناً يتعلق بدلالة اللفظ فحسنته ومدحته عليه»

(2)

، وقال:«وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ من أنه كبير الجماعة وشيخهم، وأن فيه من العقل والدين ما يستحق أن يعامل بموجبه، وأمرت بقراءة العقيدة جميعها عليه»

(3)

.

وصدق الناظم إذ قال فيه:

يا ابن تيمية يا أنصح العلما

يا من لأسرار دين الله قد فهما

يا آية ظهرت في الكون باهرة

لا زلت في سلك دين الله منتظما

إلى أن قال:

تعفو عن الجاهل الجاني وترحمه

وتكثر العدل والإنصاف للخُصَما

(4)

14)‌

‌ الاعتناء بالأصول والقواعد دون الفروع والجزئيات في الرد والتقرير:

لما كثرت الطوائف والفرق في عصر شيخ الإسلام وصار لكل طائفة شيوخ وأتباع، وقواعد وأصول بنوا عليها باطلهم وكثيرًا من ضلالتهم وانحرافاتهم مع نسبتها إلى الاعتقاد الحق، قام شيخ الإسلام بتمييز الحق الصافي عما خلطوه به من باطل وضلال، وركز في ذلك على نقد تلك القواعد والأسس ونقض تلك الأصول التي قامت عليها آرائهم المنحرفة ومعتقداتهم الباطلة، فنلحظ مثلاً في مناظرته المدنية كيف اعتنى شيخ الإسلام بمسألة تأويل الصفات، وقدمها في

(1)

منهاج السنة النبوية (1/ 101).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 188).

(3)

المصدر السابق (3/ 186).

(4)

العقود الدرية (ص: 531).

ص: 112

النقاش على كل المسائل التي خالف فيها الأشاعرةُ أهلَ السنة، وعلل ذلك بأنها:«الأم وسائر المسائل فرع عنها»

(1)

، وهذا من اهتمام شيخ الإسلام بالقواعد والأصول، في باب التقرير وفي باب الردّ والمناقشة.

ويرى شيخ الإسلام رحمه الله أن معرفة القواعد والأسس أمر ضروري يجب أن يتصف به المرء قبل حكمه على المقالات والأشخاص، ولذلك قال رحمه الله:«لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم»

(2)

.

15)‌

‌ ضرب الأمثلة والتطبيقات، لما يذكره من قواعد وتقريرات:

مما امتازت به طريقة شيخ الإسلام في تقرير الحق والرد على مخالفيه سواء في المناظرات أو غيرها، أنه كان يُتبِع ما قرره من قواعد وتأصيلات بالأمثلة والتطبيقات، فقد قرر لمناظِره في الرسالة المدنية، أن تأويل نصوص الصفات وصرفها عن ظاهرها لا يصح إلا بأربعة شروط، ثم جعل شيخ الإسلام صفة اليد أنموذجا تطبيقيا لما ذكره من شروط

(3)

. وفي مناظرته مع بعض النصارى قرر لهم قاعدة عامة وهي أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم منها؛ ثم ضرب شيخ الإسلام على هذا عدة أمثلة كأحياء الموتى، وجعل العصا حية وغير ذلك، فأتْبَعَ التقعيد بالتمثيل والتطبيق

(4)

. وفي مناظرته مع الرفاعية بين للسلطان أنهم أهل كذب وخداع وتلبيس على الأمراء والمسلمين، ثم حكى في ذلك عدة أمثلة من القصص والوقائع التي فعلوها ولبسوا فيها على الأمراء

(5)

. ولما كان من

(1)

الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 355).

(2)

مجموع الفتاوى (19/ 203).

(3)

انظر: الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 351 - 373).

(4)

مجموع الفتاوى (2/ 346 - 348).

(5)

المصدر السابق (11/ 457 - 458).

ص: 113

أعظم تقريراته أن أهل السنة يعلمون الحق، ويرحمون الخلق

(1)

، فقد حقق ذلك والتزمه في جميع مناظراته ومناقشاته لخصومه ومخالفيه. وغيرها من النماذج الكبيرة التي تدل على هذا وتبرهن عليه.

16)‌

‌ التدرج مع المخالف في بيان الباطل وتقرير الحق:

من حسن صنيع العالم في مناظرته للمخالف، أن يتدرج معه في النقاش والحوار حتى يوصله للمطلوب المراد دعوته إليه وبيانه له، وهذه الطريقة أقرب لقبول المدعوين وأجلب لقلوبهم، وقد كان شيخ الإسلام حريصًا على مثل هذا الأمر وعلى كل أمر ييسر قبول الخصم للحق ورجوعه عن الباطل، ومن تطبيقات شيخ الإسلام لهذا المسلك، ما فعله مع مناظره الرافضي حيث ابتدأ شيخ الإسلام ببيان مذهب الرافضة في الإمامة وتقرير معتقدهم في ذلك حتى أقر له الرافضي بما ذكر من اعتقادهم وشهد بأنه قرر مذهبهم على أكمل وجه، ثم بدأ معه شيخ الإسلام بنقض مذهبهم وبيان ما في قولهم من فساد وضلال

(2)

. وفي مناظرة الرسالة المدنية تدرج شيخ الإسلام مع مناظره في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في الصفات وذكر أقوال المخالفين، ثم ذكر له أمهات المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة والأشاعرة، قال «فقلت له: نبدأ بالكلام على مسألة تأويل الصفات، فإنها الأم والباقي من المسائل فرع عليها»

(3)

وكان يورد المسألة تلو المسألة، وقرر شروط التأويل المقبول، ثم طبق ما قرره بمثال واضح، وهكذا بأسلوب بديع في التدرج مع المدعو، حتى سلم له مناظره وعرف الحق وأظهر التوبة والإنابة

(4)

.

(1)

انظر: النبوات (1/ 415)، مجموع الفتاوى (3/ 279)، الرد على البكري (2/ 490)، شرح الأصبهانية (ص:43).

(2)

انظر: منهاج السنة النبوية (1/ 101).

(3)

الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 355).

(4)

انظر: الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 351 - 373).

ص: 114

17)‌

‌ البدء بنقض شبهة الخصم ومعتقده الفاسد، قبل تقرير الحق والمعتقد الصحيح:

من كمال التدرج المطلوب مع الخصم: أن يبدأ المناظر بنقض شبهة الخصم ومعتقده الفاسد، ثم يقرر له الحق والمعتقد الصحيح الذي يجب اعتقاده، وهذه الطريقة يطلق عليها بعض العلماء:(التخلية قبل التحلية)، أو (التصفية قبل التربية)، وكانت هذه من أهم المسالك التي يعتني شيخ الإسلام بسلوكها وتطبيقها، ويعلل ذلك فيقول:«إن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرت له الحق الذي عندك ابتداء أخذ يعارضك فيه، لِما قام في نفسه من الشبهة، فينبغي إذا كان المناظر مدعياً أن الحق معه أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فأعطه إياه وإلا فما دام معتقداً نقيض الحق لم يدخل الحق إلى قلبه، كاللوح الذي كتب فيه كلام باطل، امحه أولاً، ثم اكتب فيه الحق»

(1)

. وهذا من كمال فقه شيخ الإسلام وتمام علمه بمسالك المناظرات وطرقها المفضية إلى إقناع الخصم. ومن تطبيقات شيخ الإسلام لهذا الأمر ما تجده في مناظرته مع نفاة الرؤية حيث قام رحمه الله بتلخيص شبهة نفاة الرؤية في مقدمتين ونتيجة، ثم قام بنقض هذه الشبهة وبيان بطلانها، وبعد ذلك قام بتقرير الحق في ذلك بالنصوص الشرعية والآثار الصحيحة التي تدل على ثبوت الرؤية، فابتدأ بنقض الأصل الفاسد، ثم أتبعه بتقرير الحق

(2)

، وذلك لأن «الدليل إن لم تقرر مقدماته ويجاب عما يعارضها لم يتم»

(3)

.

18)‌

‌ التنزل مع الخصم أدعى لقبوله الحق:

كان شيخ الإسلام حريصاً أشد الحرص على بيان الحق للناس، وكشف ما

(1)

مجموع الفتاوى (17/ 159).

(2)

انظر: بغية المرتاد (ص:476).

(3)

شرح الأصبهانية (ص:47).

ص: 115

علق بأذهانهم من آراء فاسدة، بُنيت على شُبهٍ باطلة وأدلة واهية مخالفة للثوابت الشرعية والنصوص القطعية من الكتاب والسنة، ولذلك فقد يتنزل شيخ الإسلام مع مناظره شيئا ما ليكون أدعى لقبوله الحق وإن كان شيخ الإسلام على يقين تام ببطلان قوله وفساد معتقده قال رحمه الله:«فإنا في هذا المقام نتكلم معهم بطريق التنزل إليهم، كما نتنزل إلى اليهودي والنصراني في مناظرته، وإن كنا عالمين ببطلان ما يقوله، اتباعاً لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وقوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]. وإلا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول، ويصدون به أهل الإيمان عن سواء السبيل، وإن جعلوه من المعقول بالبرهان، أعظم من أن يبسط في هذا المكان»

(1)

.

وفي مناظرته مع بعض النصارى قال: «ولهذا كنت أتنزل مع علماء النصارى إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية»

(2)

.

ومن هذا الباب ما فعله شيخ الإسلام في مناظرته الرفاعية، فبعد أن بين حيلتهم في دخول النار، تنزل معهم وجاراهم في مخاريقهم فتحداهم في دخول النار بعد الاغتسال بالخل والماء الحار، وقال:«أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب»

(3)

أو قال: «فعليه لعنة الله»

(4)

.

ولما استعظم الأمير ذلك وقال: أتفعل ذلك؟ فقال له شيخ الإسلام مبيناً سبب إقدامه على مثل هذا الفعل: «نعم قد استخرت الله في ذلك، وأُلقي في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء؛ فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله،

(1)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 188)

(2)

مجموع الفتاوى (15/ 228)، وانظر: الرد على البكري (ص:327).

(3)

المصدر السابق (11/ 465).

(4)

المصدر السابق (11/ 465).

ص: 116

والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات»

(1)

، وقال:«وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم»

(2)

.

والتنزل للخصوم في المناظرات من تمام الإنصاف، وفيه دعوة لطيفة لأهل الانحراف.

فكم مُبْطل وافاه يَبْغِي جداله

فأنصفه فِي الْبَحْث من غير عدوانِ

ويكشف عَنهُ شُبْهَة بعد شُبْهَة

إِلَى أَن يبين الْحق أحسن تبيانِ

فَيُصْبِح عَن تِلْكَ الْمقَالة معرضًا

وَلَو كَانَ من أَحْبَار سوء وَرُهْبَانِ

(3)

19)‌

‌ الحرص على إفهام الخصم والإتيان بالعبارات الواضحة:

لم يكن شيخ الإسلام يبخل على خصمه بالبيان والتوضيح والشرح والتفصيل، ليتضح له الحق، وينكشف أمامه الباطل، ويتبين له الهدى من الضلال، ولم يكن هذا الحرص على المخالفين المنتسبين للإسلام والملة فحسب، بل وحتى مع غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم من الكافرين، وقد يردد الكلام ويعيده على الخصم حتى يستوعبه ويفهمه حق الفهم، ومن ذلك ما فعله في مناظرته لبعض النصارى حيث قال:«وجعلت أردد عليه هذا الكلام؛ وكان في المجلس جماعة حتى فهمه فهمًا جيدًا، وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له»

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 460).

(2)

المصدر السابق (11/ 460).

(3)

العقود الدرية (ص:490) وهي أبيات من قصيدة لشهاب الدين إبراهيم بن شهاب الدين ابن كوشب الحنفي (ت: 735 هـ).

(4)

مجموع الفتاوى (2/ 346).

ص: 117

وإذا رأى أن تفسير العبارات المجملة لا يحقق المقصود من هداية المخالف وبيان الحق له، فإنه يترك ذلك ويأتي بالعبارات البينة الواضحة، قال رحمه الله:«قد لا يتأتى في المناظرات تفسير المجملات، خوفاً من لدد الخصم، فيؤتى بالواضحات»

(1)

.

20)‌

‌ الاحتجاج بكتب المخالف وأقوال شيوخه الذين يعظمهم:

لقد جبل كثير من أهل البدع على تعظيم مشايخهم وكتبهم ومؤلفاتهم، حتى أن كثيراً منهم ونظراً للتعصب المقيت الذي انتشر بينهم قد يرد الآية أو الحديث، ولكنه يهاب من رد قول شيخه أو مخالفته ولو في أوضح المسائل، وقد كان من حسن صنيع شيخ الإسلام مع مخالفيه، احتجاجه عليهم بكتبهم التي يعظمونها، ونصوص علماءهم ومشايخهم الذين ينتسبون إليهم ويرجعون إليهم في فهم النصوص والعمل بها، وقد استخدم شيخ الإسلام هذا الأسلوب في عدة مناظرات ومن أجلى ذلك وأظهره ما قام به في مناظرة العقيدة الواسطية قال رحمه الله:«وقد أحضرت في الشام أكثر من خمسين كتاباً: من كتب الحنفية والمالكية والشافعية وأهل الحديث، والمتكلمين والصوفية كلها توافق ما قلته بألفاظه؛ وفي ذلك نصوص سلف الأمة وأئمتها، ولم يستطع المنازعون مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه»

(2)

.

(1)

المصدر السابق (18/ 140).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 217)، وانظر: مجموع الفتاوى (3/ 265) وفي رواية عبد الله بن تيمية رحمه الله للمناظرة: «وقد أحضرت كتب الأشعري، وكتب أكابر أصحابه: مثل كتب أبي بكر بن الباقلاني، وأحضرت أيضا من نقل مذاهب السلف: من المالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الحديث وشيوخ الصوفية، وأنهم كلهم متفقون على اعتقاد واحد. وكذلك أحضر نقل شيوخ أصحاب أبي حنيفة: مثل محمد بن الحسن والطحاوي وما ذكروه من الصفات وغيرها في أصول الدين وقرأ فصلا مما ذكره الحافظ ابن عساكر في كتابه: (الإبانة) وأنه يقول بقول الإمام أحمد. وأحضر كتاب: (التمهيد) للقاضي أبي بكر بن الباقلاني. وأحضر (النقول) عن مالك وأكابر أصحابه: مثل ابن أبي زيد والقاضي عبدالوهاب، وغيرهما من كبار أصحاب مالك بتصريحهم أن الله مستو بذاته على العرش. وقال: أما الذي أذكره فهو مذهب السلف، وأحضر ألفاظهم وألفاظ من نقل مذاهبهم من الطوائف الأربعة وأهل الحديث والمتكلمين والصوفية، وأذكر موافقة ذلك من الكتاب والسنة وأنه ليس في ذلك ما ينفيه العقل وإن كان الله تعالى يجمع قلوب الجماعة على ذلك فالحمد لله رب العالمين» [رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 205 - 206)].

ص: 118

وبين شيخ الإسلام أن نفع مثل هذه الطريقة ليس مقتصراً على الخصم فقط بل يعود نفعه على كثير من أهل الحق الذين يخشون من الصدع به، قال شيخ الإسلام:«وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة والأشعري وأكابر أصحابه على ما ذكرته؛ فإنه قبل المجلس الثاني: اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية والحنفية، وغيرهم ممن عَظُمَ خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه، وخافوا على نفوسهم أيضًا من تفرق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته، أو لم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها، لصارت فرقة، ولصعب عليهم أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم بما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم. فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك، وقامت عليه الحجة، وبان أنه مذهب السلف: أمكنهم إظهار القول به مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق»

(1)

.

21)‌

‌ تنوع أساليبه وطرقه في إبطال مقالة الخصم:

تنوعت أساليب شيخ الإسلام في إفساد مقالة الخصم خلال مناظراته ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

أ -بيان فساد المقالة بفساد دليلها: ومنه بيان شيخ الإسلام في مناظرته مع الصوفية فساد اعتقادهم نفع الأحجار، بفساد دليلهم الذي اعتمدوا عليه وهو

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 188).

ص: 119

حديث: (لو أحسن أحدكم ظنَّه بِحَجَرٍ لنفعه الله به)

(1)

، حيث بين أنه كذب موضوع.

وبيانه في مناظرة أخرى كذب الحديث الذي استندوا عليه في تجويزهم دعاء القبور (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)

(2)

.

وبيانه في مناظرته للنصارى عدم صحة احتجاجهم على ألوهية المسيح بتشبيهه بالشعاع الذي للشمس أو النور للنار، وغيرها من الأمثلة كثير

(3)

.

ب -بيان فساد المقالة بفساد لازمها: ومن ذلك إلزامه للنصارى -في تشبيههم اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن- أن يكون الإله قد تألم وتوجع بصلب المسيح ووجعه، كما تتألم الروح بألم البدن ووجعه

(4)

.

وبيانه في مناظرته لبعض الاتحادية فساد قول من اعتقد حلول الله سبحانه وتعالى بقلب الحلاج بذكر اللوازم الفاسدة المترتبة على هذا القول

(5)

.

ت -بيان فساد المقالة بإظهار تناقضها واضطرابها: ومن ذلك بيانه في مناظرة الفلاسفة لفساد مقالتهم ببيان تناقضها واضطرابها، وبيانه في المناظرة الواسطية تناقض ابن الوكيل وعدم استقراره على مقالة واحدة

(6)

، وبيانه في مناظرته مع بعض منكري العلو مناقضة عقيدته لفطرته وفعله

(7)

، وقد قرر رحمه الله قاعدة عامة في ذلك فقال:«وكل من نصر قولًا ضعيفًا فلا بد له من أحد أمرين: إما أن يتناقض، وإما أن يلتزم لوازم ظاهرة الفساد»

(8)

.

(1)

سيأتي بيان حال الحديث وكذبه أثناء الدراسة (ص:361).

(2)

ستأتي دراسته (ص: 385).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 346).

(4)

انظر: الجواب الصحيح (3/ 328).

(5)

انظر: مجموعة الرسائل (1/ 30) منهاج السنة النبوية (5/ 378).

(6)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 172)

(7)

انظر: درء التعارض (6/ 343).

(8)

نظرية العقد "العقود"(1/ 85).

ص: 120

ث -بيان فساد المقالة بفساد ما بنيت عليه: ومن ذلك بيانه في مناظرة المنجمين فساد صناعتهم بنقض مبناها الذي بنيت عليه، وهو أن الحركات العلوية هي السبب المؤثر في الحوادث الأرضية

(1)

.

وبيانه في مناظرته لبعض الاتحادية فساد مقالته: أنه لا فرق بين التوحيد والالحاد، وذلك ببيان فساد ما بنيت عليه هذه المقالة، وتفرعت عنه

(2)

.

وفي مناظرة نفاة الرؤية: ذكر شيخ الإسلام أن جميع شبههم مبنية على مقدمتين، ثم شرع في بيان فساد هاتين المقدمتين التي بُني عليهما هذا القول

(3)

.

ج -بيان فساد المقالة بكذب أصحابها وتحايلهم: ومن ذلك كشفه لحال الأحمدية وما انطوت عليه أقوالهم وأحوالهم من الكذب والحيل والتلبيس والخداع، قال شيخ الإسلام:«وهم كذابون مبتدعون، قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم»

(4)

ح -بيان فساد المقالة ببيان كذبها وعدم ثبوتها: ومن ذلك ما افتراه الرفاعية على شيخ الإسلام من أنه أمرهم بلبس الأطواق ودخول النار. قال الشيخ: «فقلت: هذا من البهتان، وها أنا ذا أصف ما كان.

قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح. وهؤلاء يكذبون في ذلك»

(5)

.

خ -بيان فساد المقالة بإظهار عجز صاحبها: ومن ذلك ما جاء في مناظرته مع بعض الأحمدية ممن يزعم القدرة على دخول النار وعدم الاحتراق بها، فقال له: «أنا ما أكلفك ذلك ولكن دعني أضع هذه الطوافة في ذقنك. فجزع ذلك

(1)

انظر: الفتاوى الكبرى (1/ 62).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 196).

(3)

انظر: بغية المرتاد (ص:476).

(4)

مجموع الفتاوى (11/ 457).

(5)

المصدر السابق (11/ 457).

ص: 121

الفقير وأبلس»

(1)

.

د -بيان فساد المقالة بفقدها الدليل الشرعي الذي تستند إليه: ومن ذلك ما فعله شيخ الإسلام رحمه الله في المناظرة الواسطية من تشديد على عدم وجود مستند شرعي لدى المخالفين على بطلان شيء من اعتقاده، وقال لهم متحديًا:«وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) يخالف ما ذكرته، فأنا أرجع عن ذلك»

(2)

وأعاد هذا الكلام وكرره وأكد عليه ليبين ضعف اعتراضهم وأن مبناه على الأهواء والظنون وليس الأدلة والنصوص.

22)‌

‌ قلب دليل الخصم دليلاً عليه:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ما احتج أحد بدليل سمعي أو عقلي على باطل إلا وذلك الدليل إذا أعطي حقه وميز ما يدل عليه مما لا يدل تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به؛ وأنه دليل لأهل الحق وأن الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقا والحق لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضا»

(3)

، وقال رحمه الله:«وقد كنت قديماً ذكرت في بعض كلامي أني تدبرت عامة ما يحتج به النفاة من النصوص، فوجدتها على نقيض قولهم أدل منها على قولهم»

(4)

، وقال أيضاً: «جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق، لا تدل على قول المبطل وهذا ظاهر يعرفه كل أحد، فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق، لا على باطل .... والمقصود هنا أن نفس الدليل الذي يحتج به المبطل هو بعينه إذا أعطي حقه وتميز ما فيه من حق وباطل، وبين ما يدل

(1)

الوافي بالوفيات ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص:371).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 169).

(3)

المصدر السابق (8/ 29).

(4)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 374).

ص: 122

عليه، تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به في نفس ما احتج به عليه. وهذا عجيب قد تأملته فيما شاء الله من الأدلة السمعية فوجدته كذلك»

(1)

.

ومن ذلك مناظرته لبعض القبورية حين استدلوا على ولاية العبيديين بأن الخيل تُشفى عند قبورهم، فقام شيخ الإسلام بقلب دليلهم دليلاً عليهم، وبين أن شفاء الخيل بسبب ما تسمعه من عذابهم في القبور، لا بسبب ولايتهم وصلاحهم

(2)

.

23)‌

‌ عدم الجدال والمناظرة في البديهيات والضروريات:

لم يكن شيخ الإسلام يتوقف في نقاش خصومه ومجادلتهم مادام أن موضوع البحث يمكن أن يكون محلا للبحث والنقاش والمجادلة، أما إذا وصل الأمر إلى المناقشة في البديهيات، والجدال في الضروريات التي لا يمكن أن يختلف فيها اثنان، فإن هذه إمارة واضحة على انقطاع الخصم وإفلاسه من الدليل والحجة، وهذه الطريقة يلجأ لها كثير من المعاندين للحق بعد تبينه لهم، والمستكبرين عن قبوله بعد ظهوره لهم، ولذلك لم يكن شيخ الإسلام يجاريهم، ومن ذلك ما وصل له شيخ الإسلام في مناظرته مع ابن المرحل، حيث قال له بعد إصراره على الجدال في مثل هذه الأمور:«الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم، وكون الحب والبغض أمراً وجودياً معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خالياً عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية، فإذا صار محباً فقد تغير الموصوف، وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب، وهو يحس ذلك من نفسه، يجده كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه»

(3)

، وقرر رحمه الله أن المناظرة في البديهيات، والمجادلة في المسلمات ما هو إلا ضرب من السفسطة، قال رحمه الله في مناظرته لابن المرحل: «وفي الجملة: فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة، فلا يقبل فيه نزاع

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 288).

(2)

انظر: الرد على البكري (2/ 587).

(3)

مناظرة ابن المرحل ضمن العقود الدرية (ص:126)، مجموع الفتاوى (11/ 149).

ص: 123

ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية»

(1)

24)‌

‌ الرحمة بالمخالف والإشفاق عليه، والحرص على هدايته:

لم تكن غاية شيخ الإسلام من مناظراته إقامة الحجة على المخالف وقطعه وإسكاته فحسب، بل كان شيخ الإسلام حريصًا أشد الحرص على هداية المخالفين وإرجاعهم للحق، وإنقاذهم من الضلال.

والناظر في مناظرات الشيخ يجد كثيرًا منها قد تحقق فيها مراد الشيخ من إقناع الخصم وهدايته للحق، وتوبته من الباطل.

فمع ما قام به الرفاعية من أذى للشيخ وكذب عليه ووشاية به عند السلاطين والأمراء، فإن شيخ الإسلام كان في المقابل حريصاً على هدايتهم مشفقاً عليهم، لم يسع لأذاهم أو إيقاع الضرر بهم، مع كونه أقدر على ذلك منهم، وأرسل لهم المرة تلو المرة لعلهم يراجعوا أنفسهم ويتركوا بدعهم وضلالتهم قال الشيخ رحمه الله: «فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة

فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة وطلبا للبيان والتبصرة ورجاء المنفعة والتذكرة»

(2)

، وقال:«وما أحببت البغي عليهم والعدوان ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرَّفهم بصورة الحال وإني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال وكثر فيكم القيل والقال، وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان فهو الذي أوقع نفسه في الهوان»

(3)

.

ولما ناظره أحد شيوخ الرافضة أحسن إليه وترّفق به، فوصفه بأنه من فضلاء

(1)

العقود الدرية (ص:127).

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 453).

(3)

المصدر السابق (11/ 454).

ص: 124

شيوخهم، وأجاب طلبه في الخلوة والكلام معه في مسألة الإمامة، كما بيّن شيخ الإسلام مذهب الرافضة بكل إنصاف، حتى أقرّ الرافضي بأن هذا البيان على غاية الكمال، وكان ابن تيمية في غاية التجرد للحق، والنصح لمخالفه، حيث قال:«فأنا وأنت طالبان للعلم والحق»

(1)

. فالباعث من تلك المناظرة المناصحة والرحمة، لا المغالبة والظهور

(2)

ونماذج ذلك من حياة الشيخ ومناظراته أشهر من أن تذكر.

25)‌

‌ مراعاته لقاعدة الجدل والمناظرة: (إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل):

هذه القاعدة من القواعد التي اعتنى بتقريرها شيخ الإسلام وكان كثيراً ما يعبر عنها بقوله: «العلم إما نقل مصدق وإما استدلال محقق»

(3)

. أو قوله: «والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم»

(4)

.

وقد طبقها شيخ الإسلام عمليا في مناظراته، فلا تكاد تخلو مناظرة من مناظراته رحمه الله إلا وهو يستدل فيها بالأدلة النقلية والعقلية الصحيحة، ولا يدعي رحمه الله أمرا إلا ويقيم عليه الدليل والبرهان، وكثيرا ما يطالب خصومه بإقامة الأدلة على ما ادعوه من مذاهب وآراء فيظهر عند ذلك عجزهم وضعفهم، ومن أوضح ذلك ما فعله في المناظرة الواسطية فقد تحداهم أن يأتوا بدليل أو أثر -بل وحتى حرف- عن القرون المفضلة يدل على صحة اعتراضهم ودعواهم

(5)

.

ويبين شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا عبرة بالدعاوى وإنما العبرة بالأدلة والبراهين، قال رحمه الله: «ولا عبرةَ بكثرةِ الدعاوي وتعدُّدِها وإنما العبرةُ بقوة

(1)

منهاج السنة النبوية (1/ 61).

(2)

مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل (ص:65 - 66)

(3)

مجموع الفتاوى (13/ 344).

(4)

المصدر السابق (13/ 329).

(5)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 169).

ص: 125

الأدلة وتعدُّدِها»

(1)

، وفي مناظرته مع الرافضي ادعى الرافضي عصمة الأئمة فطالبه شيخ الإسلام بالدليل على دعواه هذه

(2)

، وفي الواسطية طالب من نسب لأصحاب الإمام أحمد بعض الآراء الباطلة أن يسمي له من كان يتبنى هذا القول منهم

(3)

. ولما رمى ابن المطهر الحلي المسلمين بأنهم حشوية ومجسمة، قال شيخ الاسلام في معرض الرد عليه:«ومن أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسم القائل والناقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب، فقد تبين كذبه فيما نقله عن أهل السنة»

(4)

.

26)‌

‌ عدم رد الباطل بباطل:

لطالما نبه شيخ الإسلام إلى خطأ كثير من المتصدين للرد على أهل البدع ومناظرتهم، وذلك من جهة ما يقوم به بعضهم من رد الباطل بباطل مثله، ورد البدعة ببدعة، ويرى شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا الفعل هو من أعظم أسباب استطالة أهل الباطل على أهل الحق والهدى، وضرب على ذلك مثالاً بما فعله المتكلمون حين حاولوا الرد على الفلاسفة فردوا على باطلهم بباطل، قال رحمه الله: «والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل، وقابلوا الباطل بباطل، وردوا البدعة ببدعة، لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم، في مسألة حدوث العالم ونحوها، استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق، التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل، وقد اعترف حذاق النظار بفسادها

»

(5)

، ونبه على أن هذا الأمر كثيرا ما يقع فيه المتصدون لمناظرة أهل البدع، مع نهي السلف عنه وذمهم لأصحابه، قال رحمه الله: «والذين ناظروا هؤلاء من أهل الإثبات ربَّما زادوا في المناظرة نوعًا

(1)

تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (1/ 63).

(2)

انظر: منهاج السنة النبوية (1/ 61).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 186).

(4)

منهاج السنة النبوية (1/ 322).

(5)

درء تعارض العقل والنقل (8/ 279)

ص: 126

من الباطل، وإن كانوا في الأكثر على الحق، فكثيرًا ما يردُّ مُناظِرُ المبتدعِ باطلًا عظيمًا بباطلٍ دونَه، ولهذا كان أئمة السنة ينهون عن ذلك، ويأمرون بالاقتصاد ولزوم السنة المحضة، وأن لا يُردَّ باطلٌ بباطلٍ دونَه»

(1)

، وقال رحمه الله مبيناً عدم ثمرة مثل هذا النوع من المناظرة والجدال:«الجدل الباطل لا يُفلِحُ فيه مَن سَلكَه استدلالاً وسؤالاً وانفصالاً؛ فإن من استدلَّ بالباطل فهو مُبطِلٌ، ومن ردَّ الباطلَ بالباطل ولم يُبيِّن أن الدليل باطل فهو مُبطِلٌ، ومن أجابَ عن الباطل بباطلٍ ولم يُبيِّن أن السؤالَ باطل فهو مُبطِل، وكلُّ مبطلٍ فإنه يكون منقطعًا إذا بُيِّن بطلانُه والله أعلم»

(2)

.

27)‌

‌ مراعاة عوارض الأهلية - كالجهل والتأوّيل ونحوهما

-:

من تمام عدل شيخ الإسلام مع مخالفيه مراعاته لأحوالهم من علم وجهل وتأويل، فكان لا يحكم على شخص بعينه بحكم إلا بعد قيام الحجة وتوافر الشروط وانتفاء الموانع قال رحمه الله: «كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة، والذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش، لما وقعت محنتهم، أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال

»

(3)

.

وفي المناظرة الواسطية لما اعترض الخصوم بأن من خالف شيئاً من عقيدة الفرقة الناجية يلزم هلاكه. أجاب عنهم قائلاً: «وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا؛ فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد

(1)

جامع المسائل (8/ 237).

(2)

تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (1/ 210).

(3)

الرد على البكري (2/ 494).

ص: 127

ضده فقد يكون ناجيا، وقد لا يكون ناجيا، كما يقال:(من صمت نجا)»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ففعلوا به ذلك فقال الله له: ما حملك على ما فعلت. قال خشيتك: فغفر له)

(2)

، فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا»

(3)

.

ولما علم ما عليه كثير من معظمي مذهب الاتحادية ومشايخهم من جهل وقلة فهم وبصيرة، حرص على بيان الحق لهم بالعلم والحجة وبكل رفق وعناية، معتذرا لهم بجهلهم بحقيقة هؤلاء ومذهبهم

(4)

.

28)‌

‌ استخدام أسلوب الترغيب والترهيب عند الحاجة إليه:

كما يحتاج المناظر لاستخدام أسلوب الوعظ والتذكير، فإنه يحتاج في بعض الأحيان لاستخدام أسلوب الزجر والوعيد، ومن مظاهر ذلك ما قام به شيخ الإسلام مع مخالفيه في المناظرة الرفاعية، فإنه مع استخدامه لأسلوب الوعظ والتوجيه والنصح والبيان والإرشاد، إلا أنه لم يغفل الجانب الآخر عند الحاجة إليه، ومن ذلك ما حكاه من فعله مع كبير مشايخ الرفاعية حيث قال:«وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة، وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله»

(5)

.

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 179).

(2)

رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب الخوف من الله (6481)، ومسلم، كتاب التوبة (2757).

(3)

مجموع الفتاوى (3/ 230 - 231).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (7/ 594).

(5)

مجموع الفتاوى (11/ 450).

ص: 128

29)‌

‌ استخدام أسلوب الردع والزجر عند الحاجة لذلك:

كان شيخ الإسلام رحمه الله بشراً يعتريه ما يعتري البشر من غضب وحدة أحياناً، وخصوصاً عند معاندة المخالف للشرع، ورفضه الانصياع للدين والحق، ولذلك لما استطال خصومه من الرفاعية على شرع الله وتلاعبوا في دين الله، غضب عليهم أشد الغضب، ولما أخذ شيخهم يقول:«يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز يعني أتباع أحمد بن الرفاعي!»

(1)

، قال شيخ الإسلام: «فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز يا ذو

(2)

الزَّرْجَنة

(3)

، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله!»

(4)

، ولما تمادوا في الكذب والاحتيال شدد عليهم شيخ الإسلام في الخطاب، وكان مما دعاهم به:«يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب!»

(5)

، ولما أغضبه صفي الدين الهندي بكلامه فيما لا يعلم، وتخطئته للشيخ بغير وجه حق، ومخالفته للإجماع، قال الشيخ:«فغضبت عليه وقلت: أخطأت، وهذا كذب مخالف للإجماع. وقلت له: لا أدب ولا فضيلة، لا تأدبت معي في الخطاب، ولا أصبت في الجواب»

(6)

.

ولما أغضبه مرة أخرى بنقله كذب الرازي على أئمة الحنابلة بأنهم يقولون بالجسمية والحشو صاح عليه شيخ الإسلام ورفع صوته مغضبًا: «سمهم قل لي منهم؟ من هم؟! أبكذب ابن الخطيب

(7)

وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة وتندرس معالم الدين؟!! وانزعج الشيخ انزعاجاً عظيماً على نائب

(1)

المصدر السابق (11/ 474).

(2)

الصواب: يا ذا. والمثبت من الأصل.

(3)

قال في القاموس (ص: 1553): «الزرجنة: التخارج، والخب، والخديعة» .

(4)

مجموع الفتاوى (11/ 474).

(5)

المصدر السابق (11/ 474).

(6)

المصدر السابق (3/ 183).

(7)

المراد الرازي.

ص: 129

المالكي والصفي الهندي وأسكتهما سكوتاً لم يتكلما بعده بما يذكر»

(1)

.

ويعلل شيخ الإسلام لجوءه إلى مثل هذا المسلك في جوابه لمن أرسل إليه ناصحاً بلين الكلام ولطف الخطاب: «ما ذكرتم من لين الكلام والمخاطبة بالتي هي أحسن: فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالا لهذا، لكن كل شيء في موضعه حسن، وحيث أمر الله ورسوله بالإغلاظ على المتكلم لبغيه وعدوانه على الكتاب والسنة: فنحن مأمورون بمقابلته، لم نكن مأمورين أن نخاطبه بالتي هي أحسن»

(2)

.

ويقول رحمه الله في موضع آخر: «ولما كانت المحاجة لا تنفع إلا مع العدل قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن»

(3)

وذلك أن «الظالم باغ مستحق للعقوبة، فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة»

(4)

.

وصدق من وصفه قائلاً

(5)

:

حليمٌ كريمٌ مُشفِقٌ بَيْدَ أنَّهُ

إذا لم يُطَعْ في الله، للهِ يَغْضَبِ

(6)

30)‌

‌ جواز استعمال المصطلحات الحادثة للحاجة:

بين شيخ الإسلام أنه يجوز للمناظر أن يخاطب أهل الاصطلاح باصطلاحهم إذا كانت هناك حاجة تدعو لذلك وكانت المعاني التي تدل عليها تلك

(1)

رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 209)، وانظر: حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 190 - 192).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 232)

(3)

المصدر السابق (4/ 109).

(4)

الجواب الصحيح (3/ 72).

(5)

نجم الدين بن إسحاق بن أبي بكر بن ألمي التركي المتوفى (720 هـ) وله قصيدة في الثناء على شيخ الإسلام رحمه الله ومنها هذا البيت. انظر: العقود الدرية (452 - 457)

(6)

العقود الدرية (452).

ص: 130

المصطلحات معان صحيحة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعُرفهم فإنَّ هذا جائزٌ حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتاجوا إليه»

(1)

، وقد استخدم شيخ الإسلام هذه الطريقة في مخاطبته مع الفلاسفة وغيرهم من أصحاب المصطلحات الحادثة، كما تجد ذلك مبثوثاً في مناظراته، وبين شيخ الإسلام أهمية ذلك عند الحاجة فقال:«ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات كالسلاح في المحاربات. فإذا كان عدو المسلمين -في تحصنهم وتسلحهم-على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم: كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع وهو الأصلح في الدنيا والآخرة. وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك لا لفضل قوته وشجاعته ولكن لمجانسته لهم كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب - وهم خيار العجم - أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي وكما كون العربي المتشبه بالعجم - وهم أدنى العرب - أعلم بمخاطبة العرب من العجمي»

(2)

.

أثر منهج شيخ الإسلام في نتائج المناظرات:

لقد كان لمنهج شيخ الإسلام الذي اتبعه في محاورة ومناظرة مخالفيه وخصومه، عظيم الأثر في نتائج مناظراته، فالمتأمل في مناظرات شيخ الإسلام يجد لمناظراته كبير النفع والفائدة لمن ناظرهم، ولغيرهم ممن حضر هذه المناظرة أو قرأها أو نُقلت إليه وسمعها، فلم تكن مناظراته كحال كثير من المناظرات السقيمة التي تنتهي للسفسطة والجدل العقيم، ويخرج منها أطرافها بدون أي ثمرة

(1)

الفتاوى الكبرى (1/ 136).

(2)

مجموع الفتاوى (4/ 107).

ص: 131

أو نفع أو فائدة، بل كانت أكثر محاورات شيخ الإسلام لخصومه تنتهي بظهور الحق بأنصع صوره للموافق والمخالف والرائي والسامع، ولذلك فقد انتهت كثير من مناظراته برجوع خصومه عن مقالتهم وتوبتهم من باطلهم واعترافهم بالحق الذي بينه شيخ الإسلام وقرره، فإن لم يرجع الخصم عن مقالته ويعلن انصياعه للحق وقبوله، فإنه لا يجد محيصاً من الانقطاع أمام شيخ الإسلام، بحيث يظهر للناس المحق من المبطل وداعية الهدى من داعية الضلال، ويظهر ضعف الشبه الشيطانية، أما الحجج والأدلة الربانية.

وسأستعرض شيئاً مما يبرهن على ما ذكرته، ويؤيد ما قلته وسطرته، من وقائع أبرز المناظرات ونتائجها، وخاتمتها ونهايتها:

-ففي مناظرته مع بعض النصارى بين له شيخ الإسلام ولمن كان معه اللوازم الفاسدة التي تلزم من مقالتهم واعتقادهم «فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك»

(1)

.

-وفي مناظرته مع ثلاثة من رهبان الصعيد انتهت المناظرة باعترافهم وقولهم: «الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه»

(2)

.

-وفي مناظرته الأخرى مع أحد معظمي الرهبان، اعترف بعد سماعه حجة شيخ الإسلام، أن ما يقومون به شرك "حتى إن قسيساً كان حاضراً في هذه المسألة، فلما سمعها قال: نعم على هذا التقدير نحن مشركون"

(3)

.

-وفي مناظرته مع المنجمين، انتهت باعتراف رئيسهم بما قرره شيخ الإسلام من كذبهم وتخرصهم "فقال رئيسهم: والله إنا نكذب مائة كذبة حتى نصدق في كلمة"

(4)

.

-وفي مناظرته مع أحد حذاق الاتحادية، أفحمه شيخ الإسلام بقوة حجته

(1)

الجواب الصحيح (3/ 329).

(2)

مجموع الفتاوى (1/ 170 - 171)، انظر: الجامع لسيرته (ص:89 - 90)، (ص: 143).

(3)

مجموع الفتاوى (27/ص 461).

(4)

مجموع الفتاوى (35/ 172)، الفتاوى الكبرى (1/ 62).

ص: 132

حتى بُهِتَ ولم يجد جوابا فنازع في المسلمات، حتى ضحك منه الشيخ وظهر للناس فساد كلامه

(1)

.

-وفي مناظرته مع بعض معظمي الاتحادية والغالين في مشايخهم، بين له شيخ الإسلام حقيقة أقوالهم ومذهبهم "حتى رَجَعَ عن تعظيم هؤلاء، وكَفَر بما يقوله ابن العربي من الكفريات، وقال: ما كُنّا نَعرِف حقيقةَ حالِ هؤلاء، ولا نعرف أن كلامَهم مشتمل على هذا كله! "

(2)

.

-وفي مناظرته مع جمع من الرفاعية انتهت المناظرة بتوبة جماعة منهم

(3)

.

-وفي المناظرة الكبرى للرفاعية عند قصر الإمارة، انتهت المناظرة بظهور شيخ الإسلام عليهم، وطلبهم الصلح والتوبة مما مضى، وإلزام السلطان لهم باتباع الكتاب والسنة وعدم الخروج عنهما

(4)

.

-وفي مناظرته مع أحد مشايخ الرفاعية عندما أراد إظهار قدرته على دخول النار، قال له الشيخ:«أنا ما أكلفك ذلك ولكن دعني أضع هذه الطوافة في ذقنك. فجزع ذلك الفقير وأبلس»

(5)

.

-وانتهى المجلس الأول من المناظرة الواسطية وقد أظهر الله من قيام الحجة وبيان المحجة: ما أعز الله به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة

(6)

.

-وانتهت مجالس المناظرة الواسطية باعتراف الحاضرين جميعا بصحة ما جاء في العقيدة

(7)

.

(1)

الصفدية (1/ 296 - 297).

(2)

جامع المسائل (4/ 394).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 477).

(4)

انظر: المصدر السابق (11/ 474، 475).

(5)

الوافي بالوفيات ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (371).

(6)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 180).

(7)

انظر: العقود الدرية (ص:212).

ص: 133

-وفي المناظرة المدنية، تبين للرجل ما كان عليه من باطل واقتنع بما قرره شيخ الإسلام من الحق فـ «أظهر الرجل التوبة وتبين له الحق»

(1)

.

-وفي مناظرته مع بعض منكري العلو، تاب الرجل واستغفر الله، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم

(2)

.

فهذه أبرز المناظرات وأشهرها، وهذه نتائجها وثمرتها، وهي تبرز بوضوح عظيم أثر منهج شيخ الإسلام الذي اتبعه في نتائج هذه المناظرات، وضرورة التزام كل داعية يواجه أهل الباطل ويناظرهم ويخاصمهم ويجادلهم بمثل هذا المنهج العظيم، والمسلك القويم، الذي يثمر أفضل النتائج وأنفعها، وخير الثمار وأينعها.

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 372).

(2)

درء التعارض (6/ 344).

ص: 134

الباب الأول

مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع غير المسلمين

ويشتمل على أربعة فصول:

الفصل الأول: مناظراته مع النصارى.

الفصل الثاني: مناظرته مع التتار.

الفصل الثالث: مناظرته مع المنجمين.

الفصل الرابع: مناظرته مع الفلاسفة.

* * *

ص: 135

الفصل الأول

مناظرته مع النصارى.

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: مناظرته مع بعض علماء النصارى في تأليه المسيح دون غيره من الأنبياء.

المبحث الثاني: مناظرته مع بعض النصارى في تشبيههم اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح في البدن.

المبحث الثالث: مناظرته مع ثلاثة من رهبان الصعيد في شركهم ومخالفتهم لدين إبراهيم والمسيح عليهما السلام.

المبحث الرابع: مناظرته مع بعض معظمي رهبان النصارى في دينهم وشركهم وعكوفهم على التماثيل والقبور وعبادتها.

ص: 137

‌المبحث الأول: مناظرته مع بعض علماء النصارى في تأليه المسيح دون غيره من الأنبياء: وفيه مطلبان:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه المناظرة في معرض رده على القائلين بوحدة الوجود، حيث إن بعضهم قد شبه ما يدعيه من اتحاد الله به، بالظل وصاحبه، فبين شيخ الإسلام أن هذا مناقض للوحدة، وأن الظل مغاير لصاحب الظل، فيلزم منه إثبات شيئين لا شيء واحد.

ثم بين شيخ الإسلام أن ما ذكره هذا الرجل من التشبيه هو مثل تشبيه من شبه اتحاد المخلوق بالخالق بالشمس وشعاعها أو السراج وضوئه.

وذكر رحمه الله

(1)

أن هذه هي طريقة النصارى وأنهم يشبهون الاتحاد

(2)

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 345 - 346).

(2)

الاتحاد: صيرورة الشيئين واحدًا، وهو نوعان: عام، وخاص.

فالاتحاد العام هو: اتحاد الذات الإلهية مع جميع الكائنات فتصبح عين وجودها، وهو قول الملاحدة الذين يزعمون أن ذات الله هي عين وجود الكائنات.

والاتحاد الخاص: هو اتحاد الذات الإلهية ببعض الناس المخصوصين وامتزاج الذات مع الإنسان في شخص واحد، كما تقول بذلك فرق النصارى حيث يقولون: باتحاد اللاهوت والناسوت معًا، وامتزاجهما في شخص المسيح عليه السلام. وكلا النوعين باطل في حق الله عز وجل تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. انظر: التعريفات للجرجاني (ص: 6)، مجموع الفتاوى (2/ 171).

ص: 139

والحلول

(1)

بهذا، ثم أورد رحمه الله هذه المناظرة التي حصلت بينه وبين جماعة منهم ممن احتج بهذه الحجة وأتى بهذه الشبهة.

•‌

‌ نص المناظرة:

قال رحمه الله: «وقلت لمن حضرني منهم وتكلم بشيء من هذا: فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار، والخالق بالنار والشمس، فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره، فإن كل ما سوى الله -على هذا- هو بمنزلة الشعاع والضوء فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى؟ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا؟

(1)

الحلول: عبارة عن اتحاد جسمين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر، كحلول ماء الورد في الورد، وهو نوعان عام وخاص.

فالحلول العام هو: حلول الله في الكون فيصبح الكون كله بكل جزيئاته محلًا له سبحانه وتعالى، وهو قول غالب متعبدة الجهمية=

والحلول الخاص: يُقصد به حلول ذات الله أو صفة من صفاته في جسد إنسان معين من خلقه أو روحه أو في أي كائن آخر حيًا كان أو جمادًا، بحيث يصبح هذا الشخص المعين أو الكائن المعين محلاً للإله ومظهرًا له، وهذا الذي تقول به النصارى.

فالحلول يقارب معنى الاتحاد من صيرورة الشيئين، شيئاً واحداً، لذا يطلق على الاتحادية أهل الوحدة، بأنهم حلولية، كما يطلق على النصارى بأنهم حلولية؛ لأن بعضهم يفسر الاتحاد بالحلول، ولقرب معناهما من بعض. وبعض أهل العلم يفرق بين الحلول والاتحاد من جهتين:

1_

أن الحلول إثبات لوجودين، بخلاف الاتحاد فهو إثبات لوجود واحد.

2_

أن الحلول يقبل الانفصال، أما الاتحاد فلا يقبل الانفصال.

انظر: التعريفات للجرجاني (ص 82، 83)، الكليات (ص 390)، الفرق بين الفرق (ص 241)، مجموع الفتاوى (10/ 59).

ص: 140

وجعلت أردد عليه هذا الكلام؛ وكان في المجلس جماعة حتى فهمه فهما جيداً، وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له، وأن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد، وإما مشترك بين المسيح وغيره؛ وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل.

وذكرت له أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم منها؛ فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وإن كان جاء بإحياء الموتى، فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة:55] ثم بعثهم الله بعد موتهم كما قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة:56] وكالذي ضرب ببعض البقرة وغير ذلك.

وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء، والنصارى يصدقون بذلك.

وأما جعل العصا حية: فهذا أعظم من إحياء الميت فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة، وأما جعل خشبة يابسة حيواناً تبتلع العصي والحبال: فهذا أبلغ في القدرة وأندر، فإن الله يحيي الموتى ولا يجعل الخشب حيات.

وأما إنزال المائدة من السماء: فقد كان ينزل على قوم موسى كل يوم من المن

(1)

والسلوى

(2)

وينبع لهم من الحجر من الماء: ما هو أعظم من ذلك، فإن الحلوى أو اللحم دائماً هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة؛ من الزيتون والسمك وغيرهما.

وذكرت له نحوا من ذلك؛ مما يبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه وأن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من

(1)

قال الربيع بن أنس: المن: شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وقيل هو العسل نفسه. انظر: تفسير الطبري (2/ 92).

(2)

قال الطبري: السلوى: طائر يشبه السُّماني. ونقل ذلك عن ابن مسعود، والسدي وقتادة ومجاهد. انظر: تفسير الطبري (2/ 96).

ص: 141

المخلوقات، وإما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل، مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى: قد يكون أكمل في ذلك منه.

وأما خلقه من امرأة بلا رجل: فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك؛ فإنه خلق من بطن امرأة، وهذا معتاد بخلاف الخلق من ضلع رجل، فإن هذا ليس بمعتاد. فما من أمر يذكر في المسيح صلى الله عليه وسلم إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم، فعلم قطعا أن تخصيص المسيح باطل، وأن ما يدعونه له إن كان ممكناً فلا اختصاص له به، وإن كان ممتنعاً فلا وجود له فيه ولا في غيره»

(1)

.

وقال: «ولهذا كنت أتنزل مع علماء النصارى إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية فلا يجدون فرقاً، بل أبين لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم فإن كان حجة في دعوى الإلهية؛ فموسى أحق، وأما ولادته من غير أب فهو يدل على قدرة الخالق؛ لا على أن المخلوق أفضل من غيره»

(2)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌المسألة الأولى: مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة: وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

تشبيههم لاتحاد المسيح بالله باتحاد الشمس وشعاعها؛ إنما جاء لأنهم يعتقدون أن المسيح هو (الكلمة) وروح القدس هو (الحياة) فهي في الحقيقة كالصفات عند المسلمين، ولكن عندهم أن الصفات يجوز أن تكون مباينة للموصوف ومتصلة به في آن واحد.

ويمثلون على ذلك ببعض صفات الشمس، كالشعاع والحرارة والضياء، فهي

(1)

مجموع الفتاوى (2/ 346).

(2)

المصدر السابق (15/ 228)، وانظر: الرد على البكري (ص 327).

ص: 142

صفات مباينة ومنفصلة عن الموصوف (الشمس) وهي مع ذلك متصلة به

(1)

.

وبهذا يتبين أصل شبهتهم، ومن أين دخلت عليهم، ووجه هذا التشبيه والتمثيل الذي ذكروه.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

إن الناظر في كتب شيخ الإسلام رحمه الله يجد أنه قد اعتنى في بيان بطلان هذه الشبهة وأجاب عنها من عدة أوجه، أهمها ما يلي:

أولاً: أن القول بأن الصفات يجوز أن تكون مباينة للموصوف ومتصلة به في آن واحد قول باطل؛ لأنه جمع بين النقيضين

(2)

.

ثانياً: أن الشعاع والضوء والحرارة منه:

أ - ما هو قائم بذات الشمس؛ فيكون صفة لها قائم بها لم يحل بغيرها ولم يتحد بغيرها.

ب -ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها كالشعاع القائم بالهواء والأرض، فهذه ليست هي الشمس ولا من صفاته، وإنما هي أعراض منفصلة عنها قائمة بغيرها، فهي آثار حاصلة في غير الشمس بسبب الشمس.

وعلى هذا فليس هناك اتحاد بين اللاهوت والناسوت

(3)

كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة.

ويكون غاية قولهم إنه لا يوجد في الناسوت شيء من اللاهوت وإنما فيه آثار حكمته وقدرته.

(1)

انظر: الجواب الصحيح (3/ 296 - 297)(3/ 234 - 235) و (4/ 449).

(2)

انظر: المصدر السابق (3/ 296).

(3)

للاهوت والناسوت عدة إطلاقات، فيراد باللاهوت: الخالق، والناسوت: المخلوق. وربما يطلق الأول على الروح، والثاني على البدن، وربما يطلق الأول على العالم العلوي والثاني على العالم السفلي. وعلى السبب والمسبب. وعلى الجن والإنس، والمراد هنا الإطلاق الأول. انظر: الكليات للكفوي (4/ 173)، المعجم الفلسفي لجميل صليبا (2/ 277).

ص: 143

فيكون الذي حل في المسيح إنما هو آثار حكمة الإله وعلمه وقدرته وعلى هذا فلا يكون للمسيح اختصاص بذلك، بل هذا مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء، بل وعموم الخلق كلهم

(1)

.

وهذا هو معنى قول شيخ الإسلام: «فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار، والخالق بالنار والشمس، فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره، فإن كل ما سوى الله -على هذا- هو بمنزلة الشعاع والضوء فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى؟ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا؟»

(2)

.

ثالثاً: أنكم تقولون الإله (لا يتبعض ولا يتجزأ) وهذا مناقض لما ذكرتم من التشبيه بشعاع الشمس؛ لأن شعاع الشمس متجزئ متبعض فالشعاع قائم بالأرض والهواء وكل منهما متجزئ متبعض وما قام بالمتبعض فهو متبعض فإن الحال يتبع المحل وذلك يستلزم التبعض والتجزؤ فيما قام به، وهذا يناقض قولكم السابق

(3)

..

رابعاً: قال شيخ الإسلام رحمه الله: «إن الشمس نفسها لم تحل في الأرض ولا النور الذي قام بها فارقها وانتقل إلى الأرض ولكن إذا قابلتها الأجسام انعكس عليها شعاعها فالشعاع الحاصل على الأرض ليس هو عين ما قام بالشمس، بل حدث بسبب المقابلة، كما أن السراج إذا كان في البيت حصل على الارض والحيطان والسقف نور ينعكس من شعاع السراج ونفس النار الخارجة من السراج لم ينفصل منها شيء ولا قامت صفتها بغيرها، وتلك النار عين قائمة بنفسها والضوء الذي على الحيطان صفة وعرض وكذلك الشعاع الذي على الأرض صفة من الصفات وعرض من الأعراض»

(4)

.

(1)

انظر: الجواب الصحيح (2/ 138).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 346).

(3)

انظر: الجواب الصحيح (3/ 300).

(4)

تحقيق القول في مسألة عيسى كلمة الله والقرآن كلام الله (ص 42).

ص: 144

خامساً: أن الشعاع والحرارة والضياء القائمة بالأرض أو الهواء أعراض وأنتم تقولون إن الكلمة وروح القدس جوهران وليسا عرضان فتبين تناقض قولكم وبطلان استدلالكم

(1)

.

سادساً: أن قولكم هذا يقتضي كون الخالق -جل وعلا- محتاجاً مفتقراً للمخلوق، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «والمثل الذي ضربوه له، يقتضي أن يكون مفتقرًا إلى غيره، وغيرهُ مستغنٍ عنه، كالمثل الذي ضربه النصارى له، لما مثلوه بشعاع الشمس مع محله، فإن محل الشعاع مستغن عن الشعاع، والشعاع مفتقر إلى محله.

فمقتضى هذا التمثيل، أن الإله محتاج إلى الإنسان، والإنسان مستغن عن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا»

(2)

.

وبهذه الأوجه يتبين بطلان شبهتهم، وضعف قولهم، وبطلان حجتهم، وتناقض مذهبهم.

‌المسألة الثانية: في ذكر قاعدة مهمة تبطل ما ادعاه النصارى من ألوهية المسيح:

إن من أهم ما قرره شيخ الإسلام في هذه المناظرة تقريره لقاعدة مهمة تبطل جميع ما ادعاه النصارى في المسيح من الاتحاد والألوهية.

والقاعدة هي: أن سائر ما يذكر في الاستدلال على ألوهية المسيح إما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من المخلوقات أو الأنبياء وإما أن يكون ممتنعا في حق كل أحد.

وقد مثل شيخ الإسلام رحمه الله على ما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح، وهو في الحقيقة مشترك بينه وبين غيره من المخلوقات بعدة أمثلة منها ما يلي:-

(1)

الجواب الصحيح (3/ 235).

(2)

انظر: الجواب الصحيح (4/ 377 - 378).

ص: 145

‌أولاً: استدلالهم بإحيائه الموتى:

بين رحمه الله أنه لا يمكن الاستدلال بمثل هذا على ألوهية المسيح؛ لأن هذا الأمر لم يكن مختصا بالمسيح وحده، بل قد حدث لغيره وذكر على سبيل المثال لا الحصر:

ما جاء عن نبي الله موسى عليه السلام من إحياء للموتى قال رحمه الله: «فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة:55] ثم بعثهم الله بعد موتهم كما قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة:56] وكالذي ضرب ببعض البقرة وغير ذلك»

(1)

.

وأيضاً جعله للعصا حية، قال شيخ الإسلام:«فهذا أعظم من أحياء الميت؛ فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة، وأما جعل خشبة يابسة حيوانا تبتلع العصي والحبال فهذا أبلغ في القدرة وأندر»

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (2/ 347).

(2)

المصدر السابق (2/ 347)، وانظر: الجواب الصحيح (4/ 17 - 18).

وممن اشترك مع المسيح أيضاً في مثل هذا الأمر إبراهيم عليه السلام كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].

بل قد ورد في كتابهم المقدس إحياء الموتى عن غير واحد من الأنبياء فمن دونهم، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

إيليا أحيا طفلا (سفر الملوك الأول ص 17 عدد 17 إلى عدد 24)

حزقيال أحيا جيشا (سفر حزقيال ص 37 عدد 1 إلى عدد 10)

اليشع أحيا جيشا (سفر الملوك الثاني ص 4 عدد 32 إلى عدد 35)

وأحيا ميتا أخر كما في (سفر الملوك الثاني ص 13 عدد 20 إلى 21)

بطرس الرسول أحيا ميتا) أعمال الرسل ص 75 عدد 19 إلى عدد 16)

ص: 146

‌ثانياً: استدلالهم بإنزال المائدة من السماء:

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا الأمر أيضا قد حدث لموسى عليه السلام مع قومه حيث كان ينزل عليهم كل يوم المن والسلوى، وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من المائدة، فإن الحلوى واللحم أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون والسمك وغيرهما

(1)

.

‌ثالثاً: استدلالهم بخلقه من امرأة بلا رجل:

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا الأمر أيضا لم يختص به المسيح دون غيره فقال رحمه الله: «فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك؛ فإن عيسى خلق الله من بطن امرأة وهنا معتاد بخلاف الخلق من ضلع الرجل فإن هذا ليس بمعتاد»

(2)

.

‌رابعاً: استدلاهم بجعله الطين على هيئة الطير ونفخه فيه فيكون طيراً بإذن الله:

وهذه أيضًا لم تكن خصيصة لعيسى عليه السلام قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وكذلك الملك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله»

(3)

.

وهكذا كل دليل يحتج به النصارى على ألوهية المسيح عليه السلام فهو لا يخرج عن هذه القاعدة، فإما أن يكون مشتركاً بينه وبين سائر الخلق وإما أن يكون ممتنعاً في حق كل أحد، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله أوضح بيان

(4)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 347).

(2)

المصدر السابق (2/ 346).

(3)

الجواب الصحيح (3/ 251).

وشبيه ذلك أيضا قلب موسى للعصا إلى ثعبان عظيم بإذن الله، وتكليم الجمادات للنبي محمد صلى الله عليه وسلم كما كان يسلم عليه الحجر، ويحن الجذع لفقده.

(4)

ومما استدل به النصارى على ألوهية المسيح، وهو مشترك بينه وبين غيره: شفاؤه للمرضى بإذن الله فقد حدث هذا لآخرين كُثر منهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

بل قد جاء شفاء المرضى في كتابهم المقدس عن غير واحد: منهم اليشع كما جاء في (سفر الملوك الثاني ص 5 عدد 10) ومنهم بولس كا جاء في (أعمال الرسل ص 14 عدد 8) ومنهم بطرس الرسول كما جاء في (أعمال الرسل ص 5 عدد 14) وغيرهم. وانظر كتاب: رد السهام عن الأنبياء الأعلام عليهم السلام في دفع شبهات المنصرين عن أنبياء رب العالمين.

ص: 147

‌المبحث الثاني: مناظرته مع بعض النصارى في تشبيههم اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح في البدن

وفيه مطلبان:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة

.

•‌

‌ تمهيد:

أورد شيخ الإسلام رحمه الله هذه المناظرة في أثناء إبطاله لدعوى النصارى: اتحاد اللاهوت بالناسوت، وبالتحديد في الوجه الثاني عشر من ذلك، ولعل مما يحسن بنا هنا قبل عرض المناظرة أن نذكر ملخصاً لأهم هذه الأوجه التي ذكرها شيخ الإسلام الدالة في إبطال عقيدة الاتحاد، وهي كالآتي:

أولاً: أن هذا الأمر ممتنع عقلاً.

ثانياً: أن الأخبار الإلهية صريحة بأن المسيح عبد لله وليس رباً.

ثالثاً: أن يقال: إن المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الكلام مع الذات، وإما أن يكون الكلام بمفرده، والأول ممتنع وباطل باتفاق النصارى وسائر أهل الملل؛ لأنه يلزم منه أن يكون المسيح هو نفسه الأب وهذا خلاف ما يقولونه.

ص: 148

وإن كان المتحد هو الكلام أو الكلمة وحدها، فهذا باطل أيضًا؛ لأن الكلام صفة والصفة لا تقوم بنفسها، ولا تملك ولا تخلق ولا تستقل بالفعل.

رابعاً: أنه بعد اتحاد اللاهوت بالمسيح، إما أن يتحدا ويبقيا بعد الاتحاد ذاتين أو يصبحا ذاتا وجوهراً واحداً.

فإذا كان الأول فهذا لا يسمى اتحادًا، وإن كان الثاني فيلزم منه استحاله اللاهوت وتبدل حقيقته وصفته، وهذا ممتنع مرفوض.

خامساً: أن قول النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في الكلام؛ فإن مرجع أقوال الناس في الكلام إلى ثلاثة أقوال:

أ -القول بنفي الكلام، وأنه مجاز أو هو ما تفيض به النفوس، ونحوه من العبارات التي مرجعها إلى القول بنفي الكلام، وهذا مخالف لقولهم.

ب -أن الكلام مخلوق لله بائن عنه، وعلى هذا القول يكون المسيح مخلوقاً وليس بإله.

ت -أن الكلام صفة من صفات الله، والصفة من المعلوم أنها قائمة بالموصوف ليست مباينة له ولا تستقل بفعل، ولا تنفرد بخلق ولا تدبير، كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام.

سادساً: أن المسيح خُلق بالكلمة وليس هو الكلمة، وعلى هذا دلت النصوص.

سابعاً: أنهم يقرون بأن من الممتنع أن يكلم الله بشرًا إلا وحيًا أو من وراء حجاب، فإذا كان هذا ممتنعاً، فامتناع أن يتحد به أو يحل فيه من باب أولى.

ثامناً: أنهم يقرون بأن رؤية البشر لله في الدنيا ممتنعة، وبذلك جاءت التوراة عندهم، فإذا كانت الرؤية ممتنعة فالاتحاد من باب أولى.

تاسعاً: أنه لو كان اتحاد الله وحلوله في البشر ممكناً -تعالى الله عما يقولون- لما اختص عيسى عليه السلام بذلك دون سائر الأنبياء والناس، بل كما جاز أن يتحد به

ص: 149

فيجوز أن يتحد بغيره

(1)

.

هذه هي أهم الأوجه التي ذكرها رحمه الله، ثم إنه في الوجه الثاني عشر رد على شبهة يطرحها بعض النصارى للاحتجاج بها على إمكانية اتحاد اللاهوت بالناسوت، وهي تشبيههم اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن.

‌نص المناظرة:

قال رحمه الله: «الوجه الثاني عشر: أنهم يشبهون اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن، كما شبهوا هنا ظهوره فيه بظهور الروح في البدن، وحينئذ فمن المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح، وما تتألم به الروح يتألم به البدن، فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صلب وتألم وتوجع الوجع الشديد، كان اللاهوت أيضا متألماً متوجعا»

(2)

.

وبعد تقريره لهذا الأمر وجوابه على هذه الشبهة، أورد رحمه الله هذه المناظرة فقال:

«وقد خاطبت بهذا بعض النصارى

فقال لي: الروح بسيطة، أي لا يلحقها ألم.

فقلت له: فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت، أمنعمة أو معذبة؟

فقال: هي في العذاب.

فقلت: فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذب، فإذا شبهتم اللاهوت في الناسوت بالروح في البدن لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت كما تتألم الروح إذا تألم البدن.

فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك»

(3)

.

(1)

انظر: الجواب الصحيح (3/ 308 - 328).

(2)

الجواب الصحيح (3/ 328).

(3)

المصدر السابق (3/ 329).

ص: 150

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في المناظرة:

مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة والجواب عليها:

دار النقاش في هذه المناظرة حول شبهة أخرى من شبه النصارى، وهي تشبيههم اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح في البدن، وستكون مناقشة هذه الشبهة من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل هذه الشبهة وسبب إيراد النصارى لها:

من المعلوم عند جميع العقلاء أن اتحاد شيئين مختلفين، وصيرورتهما شيئاً واحداً يلزم منه ولا محالة، تغير كل منهما عن ماهيته وتحوله عن حقيقته التي كان عليها، وهذا إيراد يرد على النصارى في عقيدتهم بالاتحاد؛ وذلك لأن من لازم قولهم بالاتحاد استحالة اللاهوت وتغيره عن حقيقته بعد اتحاده بالناسوت، وهم ينكرون هذا؛ لأنه يلزم منه بطلان قولهم، ويقولون بأنهما اتحدا من غير استحالة أو تغير أو تحول.

ثم أتوا بهذه الشبهة ليحتجوا بها على إمكانية حدوث ذلك عقلا فقالوا: إن الروح تختلط بالبدن ويكونا معاً إنساناً واحداً، أحدهما ملتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت أو تحولت عن جوهرها أن تكون نفساً، ولا الجسد تغير، واستحال عن طبيعته. وبهذا يتضح سبب إيراد النصارى لهذه الشبهة، وتقريرهم لها

(1)

.

‌الوجه الثاني: بيان بطلان هذه الشبهة والجواب عليها:

بين شيخ الإسلام رحمه الله بطلان هذه الشبهة، والرد على القائلين بها، من عدة أوجه، منها ما يلي:

أولاً: أن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة فإن لا يوجد عاقل يقول: إن الجسد قبل وجود النفس فيه وبعد خروجها منه يبقى على صفة واحدة لا يتغير،

(1)

انظر: الجواب الصحيح (4/ 358).

ص: 151

ولا تتحول صفاته؟

(1)

.

ثانياً: أن الجسد بعد حلول الروح فيه ينتقل من حال الموت إلى حال الحياة وبعد خروجها منه ينتقل من حال الحياة إلى حال الموت، وأي تغير وتحول أعظم من انتقال الجسد من الموت إلى الحياة؟!

(2)

ثالثاً: أن من المتقرر المعلوم عند كل أحد: أن النفس عند اتصالها بالبدن تلتذ بلذته، وتتنعم بنعيمه، كما تتألم بألمه وتتوجع بوجعه، فيلزم من تشبيههم اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن، أن يكون اللاهوت قد تألم وتوجع وتضرر عندما صُلب الناسوت، وهذا لازم لهم لا محالة

(3)

.

رابعاً: أن الروح عند اتصالها بالبدن تتغير وتتبدل صفاتها وأحوالها ويصير لها من الصفات والأفعال ما لم يكن بدون البدن، فيلزم على قولهم هذا: أن يكون الرب قد تغيرت أوصافه وأفعاله لما اختلط بالمسيح كما تتغير صفات النفس وأفعالها عند اتحادها بالبدن

(4)

.

خامساً: أن الروح والبدن شريكان في الأعمال الصالحة والسيئة، ويشتركان في الأوامر والنواهي والثواب والعقاب، فما يفعله البدن هو في ذات الوقت فعل الروح، فالإنسان يصلي بروحه وبدنه ويصوم بروحه وبدنه، وأيضا ما تؤمر به الروح فهو أمر لها وللبدن وما تنهى عنه هو نهيٌ لها وللبدن.

فإن كان الرب مع الناسوت كالروح مع البدن فيلزم أن يكون الرب هو المأمور والمنهي بما يأمر به المسيح، ويكون الرب هو المصلي الصائم وبذلك تبطل مقولتهم التي يقرروها، وهي قولهم:«يخلق ويرزق بلاهوته ويأكل ويعبد بناسوته»

(5)

.

(1)

انظر: الجواب الصحيح (4/ 359).

(2)

انظر: المصدر السابق (4/ 358).

(3)

انظر: المصدر السابق (4/ 359).

(4)

انظر: الجواب الصحيح (4/ 359).

(5)

انظر: المصدر السابق (4/ 362).

ص: 152

سادساً: قال شيخ الإسلام رحمه الله: «بل أبلغ من ذلك، أن الجني إذا دخل في الإنسي وصرعه وتكلم على لسانه، فإن الإنسي يتغير، حتى يبقى الصوت والكلام الذي يسمع منه، ليس هو صوته وكلامه المعروف.

وإذا ضرب بدن الإنسي، فإن الجني يتألم بالضرب ويصيح ويصرخ، ويخرج من ألم الضرب، كما قد جرب الناس من ذلك ما لا يحصى، ونحن قد فعلنا من ذلك ما يطول وصفه.

فإذا كان الجني تتغير صفاته وأحواله لحلوله في الإنسي، فكيف بنفس الإنسان؟

وعندهم اتحاد اللاهوت بالناسوت أتم وأكمل من اتحاد النفس بالجسد.

فهل يقول عاقل -مع هذا الاتحاد-: إنهما جوهران، لكل منهما أفعال اختيارية، لا يشركه الآخر فيها.

ويقولون -مع قولهم بالاتحاد-: إن الذي كان يصلي ويصوم، ويدعو ويتضرع، ويتكلم ويتألم، ويضرب ويصلب، هو نظير البدن! والذي كان يأمر وينهى، ويخلق ويرزق، هو نظير النفس!»

(1)

.

وبهذا يتبين فساد هذه الشبهة التي ذكروها لتمرير باطلهم، وتبرير ضلالهم، والاحتجاج على مذهبهم الفاسد.

* * *

(1)

المصدر السابق (4/ 363).

ص: 153

‌المبحث الثالث: مناظرته مع ثلاثة من رهبان الصعيد في شركهم ومخالفتهم لدين إبراهيم والمسيح عليهما السلام: ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة

‌تمهيد:

وقعت هذه المناظرة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو في حبس قاعة الترسيم

(1)

، وذلك في السجن الرابع الذي سجنه الشيخ رحمه الله، وكانت هذه المناظرة في آخر شهر شوال سنة سبع وسبعمائة إلى أول سنة ثمان وسبعمائة للهجرة النبوية. وذلك أنه لما اختار بعد السجنة الثالثة السفر إلى دمشق بشروط، ردوه من مثاني الطريق يوم ليلة سفره الثامن عشر من شهر شوال سنة سبع وسبعمائة للهجرة بمشورة نصر المنبجي الحلولي

(2)

، الذي له مكانة عند الوالي، فعُرض الشيخ على قضاة المالكية فاختلفوا، فلما رأى الشيخ ذلك قال:(أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة)

(3)

فعكف عليه الناس زيارة وتعلماً واستفادة، وكان ممن دخل عليه ثلاثة من رهبان النصارى فحصلت بينه وبينهم هذه المناظرة

(4)

.

(1)

الترسيم نوع من الحبس. انظر: مجموع الفتاوى (35/ 399)، (15/ 136).

(2)

سبق ترجمته.

(3)

العقود الدرية (ص:287).

(4)

انظر: المداخل إلى آثار شيخ الإسلام وما لحقها من أعمال (ص 35).

ص: 154

•‌

‌ نص المناظرة:

قال تلميذ الشيخ إبراهيم بن أحمد الغياني

(1)

رحمه الله:

«ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم دخل إلى عنده ثلاثة رهبان من الصعيد فناظرهم وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار وما هم على الذي كان عليه إبراهيم والمسيح.

فقالوا له: نحن نعمل مثل ما تعملون: أنتم تقولون بالسيدة نفيسة

(2)

ونحن نقول بالسيدة مريم وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ونحن كذلك.

فقال لهم: وأي من فعل ذلك ففيه شبه منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له ولا ند له ولا صاحبة له ولا ولد له ولا نشرك معه ملكاً ولا شمساً ولا قمراً ولا كوكباً ولا نشرك معه نبياً من الأنبياء ولا صالحاً {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93].

وأن الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تطلب من غيره مثل إنزال المطر، وإنبات النبات، وتفريج الكربات، والهدى من الضلالات، وغفران الذنوب؛ فإنه لا يقدر أحد من جميع الخلق على ذلك ولا يقدر عليه إلا الله.

والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-نؤمن بهم ونعظمهم ونوقرهم ونتبعهم ونصدقهم في جميع ما جاءوا به ونطيعهم. كما قال نوح وصالح وهود وشعيب:

(1)

سبق ترجمته (ص:65).

(2)

هي نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. تقية صالحة، عالمة بالتفسير والحديث. ولدت بمكة، ونشأت في المدينة، وتزوجت إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق. وانتقلت إلى القاهرة فتوفيت فيها، حجت ثلاثين حجة. وكانت تحفظ القرآن. وسمع منها العلماء. انظر: وفيات الأعيان (5/ 423) والسير (10/ 106) البداية والنهاية (10/ 286).

ص: 155

{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3] فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده، والطاعة لهم؛ فإن طاعتهم من طاعة الله، فلو كفر أحد بنبي من الأنبياء وآمن بالجميع ما ينفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي، وكذلك لو آمن بجميع الكتب وكفر بكتاب كان كافراً حتى يؤمن بذلك الكتاب، وكذلك الملائكة واليوم الآخر، فلما سمعوا ذلك منه قالوا: الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه، ثم انصرفوا من عنده»

(1)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية في المناظرة

.

حوت مناظرة شيخ الإسلام مع هؤلاء الرهبان مسائل عدة، وأهمها ما يلي:

‌المسألة الأولى: مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة:

بعد أن أوضح شيخ الإسلام لهؤلاء الرهبان خطأ ما يقومون به ويفعلونه من الشرك بالله وأقام لهم الحجج والبراهين على أن فعلهم هذا منافٍ للدين وأنه كفر برب العالمين، بقيت لديهم شبهة رأوها بأعينهم وجعلوها حجة عليه يحتجون بها على شركهم وباطلهم، فقالوا:«نحن نعمل مثل ما تعملون: أنتم تقولون بالسيدة نفيسة ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ونحن كذلك»

(2)

.

وهذه الشبهة مناقشتها من وجهين اثنين:

‌الوجه الأول: أصل شبهتهم التي قامت عليه:

عند التمعن في شبهة القوم المذكورة يتضح للقارئ أنهم قد بنوا شبهتهم على مقدمتين ونتيجة:

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 170 - 171) وانظر: الجامع لسيرته (ص 89 - 90، 143).

(2)

مجموع الفتاوى (1/ 370).

ص: 156

المقدمة الأولى: أن كثيراً من المسلمين يعظمون الصالحين ويغلون فيهم ويستغيثون بهم من دون الله.

المقدمة الثانية: أن ما يفعلونه ويقومون به من دين الإسلام.

النتيجة: لا يجوز الإنكار عليهم؛ لأنه لا فرق بين دين المسلمين ودين النصارى، فكلاهما يوجد فيهما تعظيم القبور والغلو في الصالحين والاستغاثة بهم.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله بطلان هذه الشبهة من وجهين:

أولاً: بين رحمه الله أن هذه الأعمال ليست من دين الإسلام، ولا من فعل المسلمين، وإنما يفعلها بعض الجهلة ممن ينتسب للإسلام اسماً، ويخالفه فعلاً، وهم في الحقيقة بفعلهم هذا إنما يتشبهون بكم أيها النصارى وبما تقومون به من شرك، وفي هذا التقرير إبطال للمقدمتين، وإذا بطلت المقدمات بطلت نتائجها.

ثانياً: بين رحمه الله في جوابه أن دين الأنبياء جميعاً، سواء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو المسيح عيسى عليه السلام أو غيره من الأنبياء وعلى رأسهم إبراهيم عليه السلام هو عبادة الله وحده وعدم الإشراك به، وكلهم كانوا يدعون إلى هذا، وينهون عما تصنعونه من شرك وعبادة لغير الله.

فمع ما في هذه النقطة من إبطال لدعواهم أن هذه الأفعال من دين الإسلام، ففيها تنبيه لهم أيضاً أنهم مخالفون لما جاء به دينهم وما جاء به المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك ما يفعله هؤلاء المنتسبون للإسلام، ليس هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، بل دين جميع الأنبياء عبادة الله وحده لا غير.

وبعد توضيح شيخ الإسلام لهذه الحقيقة أقر بها المخالفون، وعرفوا أن ما هم عليه مخالف في الحقيقة لدين الأنبياء جميعاً، ولذلك قالوا في آخر المناظرة:«الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه»

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 371).

ص: 157

‌المسألة الثانية: الأثر السلبي المترتب على انحراف كثير من المنتسبين للإسلام في باب التوحيد:

لا شك أن لانحراف كثير من المنتسبين للإسلام في باب التوحيد أثراً سلبياً كبيراً، وأوضح مثال على ذلك، هو ما احتج به هؤلاء الرهبان في مناظرتهم لتصحيح ما هم عليه من شرك فإنهم احتجوا بما يفعله هؤلاء الجهلة المنتسبون للإسلام عند قبر السيدة نفيسة وما يعتقدونه فيها.

وذلك أن كثيراً ممن ينتسبون للإسلام قد غلوا فيها غلواً عظيماً تجاوز الحد، ورفعوها إلى مقام الربوبية والألوهية، وقاموا بصرف أنواع العبادات لها؛ حتى إنهم يسجدون لها، ويدعونها من دون الله ويقدمون النذر والقرابين لها ويطوفون حول قبرها، ويتبركون به، ويصرفون أنواع العبادات العملية المختلفة لها، مع صرفهم قبل هذا للعبادات القلبية: من خوف، ورجاء، ومحبة، وخشية، ورغبة، ورهبة لها، ويعتقدون أن الدعاء متقبل عند قبرها، وأنه موضع إجابة للدعاء، ومن صور الغلو فيها أنهم بنوا ضريحاً وقبة على قبرها، وخصصوا زيارات موسمية لهذا الضريح تبركاً واستشفاء به، وأقاموا الحفلات والموالد والأعياد البدعية عند مقامها الشهير هناك.

وقد قال ابن كثير رحمه الله في وصف ما حدث من كثير من المنتسبين للإسلام من غلو في قبر هذه المرأة: «وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيراً جداً، ولا سيما عوام مصر، فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز»

(1)

.

وقال الذهبي رحمه الله: «ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية»

(2)

.

(1)

البداية والنهاية (10/ 186).

(2)

سير أعلام النبلاء (10/ 106).

ص: 158

وقال الصفدي رحمه الله: «وللمصريين فيها اعتقاد عظيم»

(1)

.

والآثار السلبية المترتبة على مثل هذه الأفعال كثيرة جداً، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله جملة منها:

أولاً: أن هذه الأفعال ونحوها تكون حجة للنصارى وغيرهم من المشركين للبقاء على وثنياتهم والاستمرار في شركهم الذي هم عليه، ومحاجة المسلمين بذلك، كما وقع في هذه المناظرة وغيرها، مثل ما حكاه شيخ الإسلام عن بعض النصارى فقال:«وكان بعض النصارى يقول لبعض المسلمين: لنا سيد وسيدة، ولكم سيد وسيدة، لنا السيد المسيح والسيدة المريم، ولكم السيد حسين والسيدة نفيسة»

(2)

.

ثانياً: أن هذه الأفعال تُفرح المشركين والنصارى؛ لأنها توافق ما عندهم قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فالنصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر، ويحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عباد المسلمين وقسيسيهم مثل قضاة المسلمين»

(3)

.

ثالثاً: أن في هذه الأفعال تقوية لدين المشركين. قال شيخ الإسلام-رحمه الله: «والمقصود هنا: أن النصارى يحبون أن يكون في المسلمين ما يشابهونهم به ليقوي بذلك دينهم، ولئلا ينفر المسلمون من دينهم»

(4)

.

رابعاً: أن في هذه الأفعال تحقيقًا لمطلب هؤلاء النصارى وغيرهم من أهل الشرك، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد حصل للنصارى من الجهال كثير من

(1)

الوافي بالوفيات (27/ 101).

(2)

مجموع الفتاوى (27/ 462).

(3)

المصدر السابق (27/ 462).

(4)

المصدر السابق (27/ 464).

ص: 159

مطلوبهم، لا سيما من الغلاة من الشيعة، وجهال النساك والغلاة في المشايخ، فإن فيهم شبهاً قوياً بالنصارى في الغلو، والبدع في العبادات ونحو ذلك»

(1)

.

خامساً: أن في أفعالهم هذه صداً للناس عن دخول الإسلام واعتناقه، قال ابن القيم رحمه الله:«ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيراً من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام، ممن يعظّمهم الجهال من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع، ولمن جاء به، فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به، فالله طليب قطّاع طريق الله وحسيبهم»

(2)

.

‌المسألة الثالثة: مخالفة النصارى لدين المسيح عليه السلام

-:

إن ما عليه دين النصارى اليوم من غلو وبدع وشرك هو بلا شك ليس دين المسيح عليه السلام الذي بعثه الله به، بل هو مناقض له مخالف له ولدينه، وذلك ناتج عن انحراف النصارى وتبديلهم للدين، قال شيخ الإسلام رحمه الله في بيان انحرافهم عن دين عيسى عليه السلام: «وكان المسيح عليه السلام بعث بدين الله الذي بعث به الأنبياء قبله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة كل ما سواه، وأحل لهم بعض ما حرم الله في التوراة، فنسخ بعض شرع التوراة، وكان الروم واليونان وغيرهم مشركين يعبدون الهياكل العلوية والأصنام الأرضية، فبعث المسيح عليه السلام رسله يدعونهم إلى دين الله تعالى، فذهب بعضهم في حياته في الأرض، وبعضهم بعد رفعه إلى السماء، فدعوهم إلى دين الله تعالى، فدخل من دخل في دين الله، وأقاموا على ذلك مدة ثم زين الشيطان لمن زين له أن يغير دين المسيح فابتدعوا دينا مركباً من دين الله ورسله: دين المسيح عليه السلام، ومن دين المشركين.

وكان المشركون يعبدون الأصنام المجسدة التي لها ظل، وهذا كان دين الروم

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 464).

(2)

إغاثة اللهفان (2/ 416).

ص: 160

واليونان، وهو دين الفلاسفة أهل مقدونية

(1)

وأثينة

(2)

كأرسطو

(3)

وأمثاله من الفلاسفة المشائين

(4)

وغيرهم

فلما ظهر دين المسيح عليه السلام بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة في بلاد الروم واليونان، كانوا على التوحيد إلى أن ظهرت فيهم البدع، فصوروا الصور المرقومة في الحيطان، جعلوا هذه الصور عوضاً عن تلك الصور.

وكان أولئك يسجدون للشمس والقمر والكواكب، فصار هؤلاء يسجدون إليها إلى جهة الشرق التي تظهر منها الشمس والقمر والكواكب، وجعلوا السجود إليها بدلا عن السجود لها

وكان من أعظم أسباب عبادة الأصنام تصوير الصور وتعظيم القبور»

(5)

.

(1)

مقدونية من بلاد الروم القديمة تسمى مَدِينَة حكماء اليونان، تقع ما بين البحر الرّوميّ وخليج القسطنطينيّة، ومنها ابتداء ملك اليونان، وهي متصلة ببحر الروم بناها أحد ملوكهم يدعى "فيلبوس" بعد أن هدم مدينة أغريقيّة، وكان محبّا للحكمة فأكثر من الحكماء في دولته، قال شيخ الإسلام:«وهي جزيرة هؤلاء الفلاسفة اليونانيين الذين يسمون المشائين وهي اليوم خراب أو غمرها الماء» . انظر: مجموع الفتاوى (17/ 332) تاريخ ابن الوردي (1/ 50) تاريخ ابن خلدون (1/ 93) صبح الأعشى (3/ 476).

(2)

عاصمة اليونان وهي من أقدم مدن العالم؛ إذ أُسست فى أثناء حكم "ميكروبس" منذ عام (1582 ق. م)، واشتهرت بعلومها وفنونها وآدابها، وارتبطت بها أسماء كثير من الفلاسفة والأدباء، أمثال: سقراط وأفلاطون وأرسطو طاليس، وغيرهم. انظر: قصة الحضارة (6/ 183) والموسوعة الحرة (ويكبيديا) http://cutt.us/WgUS.

(3)

أرسطو: فيلسوف إغريقي، الملقب بـ (المعلم الأول)، ويُسمى (أرسطوطاليس)، ومعناه: محب الحكمة، وقيل: محبة الفضيلة، أستاذ الإسكندر المقدوني وتلميذ أفلاطون، كان بارعاً في الطب لكن غلب عليه علم الفلسفة، أول من قال بقدم العالم، وكان مشركاً يعبد الأوثان، من مؤلفاته:(ما بعد الطبيعة) - يُعرف بـ (الإلهيات) و (الحروف)(ت: 322 ق. م). انظر: قصة الحضارة (7/ 492) عيون الأنباء (ص 86).

(4)

نسبة إلى مدرسة أرسطو المشائية؛ حيث ذكروا أن أرسطو كان يعلم تلاميذه ماشيًا. انظر: المعجم الفلسفي لجميل صليبا (2/ 373)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 157).

(5)

الجواب الصحيح (1/ 344).

ص: 161

وبين شيخ الإسلام رحمه الله أن الذي تقوم به النصارى الآن هو أصل عبادة الأوثان التي كان عليها الوثنيون وهذا باعتراف علمائهم، قال رحمه الله: «فالذي تفعله النصارى أصل عبادة الأوثان، وهكذا قال عالمهم الكبير -الذي يسمونه فم الذهب

(1)

وهو من أكبر علمائهم- لما ذكر تولد الذنوب الكبار عن الصغار. قال: وهكذا هجمت عبادة الأصنام فيما سلف، لما أكرم الناس أشخاصاً يعظم بعضهم بعضاً فوق المقدار الذي ينبغي، الأحياء منهم والأموات»

(2)

.

‌المسألة الرابعة: دين المسيح عليه السلام ودين جميع الأنبياء واحد:

وضح شيخ الإسلام في هذه المناظرة أن دين المسيح عليه السلام هو دين جميع الأنبياء عليهم السلام وعلى رأسهم إبراهيم عليه السلام فكلهم جاءوا بالتوحيد والنهي عن الشرك والتحذير من طرقه ووسائله المفضية إليه، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ولم يأمر أحد من الأنبياء باتخاذ الصور والاستشفاع بأصحابها، ولا بالسجود إلى الشمس والقمر والكواكب، وإن كان يذكر عن بعض الأنبياء تصوير صورة لمصلحة، فإن هذا من الأمور التي قد تتنوع فيها الشرائع بخلاف السجود لها والاستشفاع بأصحابها، فإن هذا لم يشرعه نبي من الأنبياء، ولا أمر قط أحد من الأنبياء أن يدعى غير الله عز وجل لا عند قبره، ولا في مغيبه، ولا يشفع به في مغيبه بعد موته، بخلاف الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته ويوم القيامة، وبالتوسل به بدعائه، والإيمان به، فهذا من شرع الأنبياء عليهم السلام، ولهذا قال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزُّخرُف:45]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا

(1)

هو القديس يوحنا بطريق القسطنطنية، قام بإصلاحات في الكنيسة، فعُزل من الإمبراطورية وأوذي، ولقب بفم الذهب لبلاغته. (ت:407 هـ). انظر: الفصل في الملل (2/ 61) تاريخ مختصر الدول (1/ 84).

(2)

الجواب الصحيح (1/ 358).

ص: 162

الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل:36]، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس:18]، وقال تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} [الزُّمَر:1 - 3]»

(1)

.

(1)

الجواب الصحيح (1/ 350 - 351، 376). وانظر: التدمرية (168)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 826)، مجموع الفتاوى (1/ 18)، (10/ 36).

ص: 163

‌المبحث الرابع: مناظرته مع بعض معظمي رهبان النصارى في دينهم وشركهم وعكوفهم على التماثيل والقبور وعبادتها، وفيه مطلبان:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

أورد شيخ الإسلام رحمه الله هذه المناظرة في أثناء جوابه لسؤال ورد إليه عن المشهد المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بمدينة القاهرة هل تصح نسبته إليه أم لا؟

فأطال شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب وذكر -ما محصله- أن هذا المشهد كذب مختلق بلا نزاع بين العلماء، وأن هذا المشهد لم يُبْنَ إلا في عام بضع وأربعين وخمسمائة، وإنما نقل من مشهد بعسقلان

(1)

، وأن ذلك المشهد الذي بعسقلان هو نفسه إنما أحدث بعد التسعين والأربعمائة، فهو إنما أحدث بعد قتل الحسين رضي الله عنه بأكثر من أربعمائة وثلاثين سنة.

(1)

عَسْقَلانُ: مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر ويقال لها عروس الشام، وقد نزلها جماعة من الصحابة والتابعين وحدّث بها خلق كثير، وهي اليوم تحت الاحتلال الصهيوني ويشكل اليهود السواد الأعظم من سكان المدينة، بعد تهجير أهلها العرب. انظر: معجم البلدان (4/ 122) المعالمم الأثيرة (192).

ص: 164

ثم بين رحمه الله أن هذا المشهد العسقلاني قد ذكر طائفة أنه قبر بعض الحواريين أو غيرهم من أتباع عيسى بن مريم عليه السلام وذكر بعض المشهورين بالعلم أن قبر الحسين الموجود في القاهرة إنما هو قبر نصراني.

ثم أوضح رحمه الله أن ما ذكر من هذه الأمور غير مستبعد؛ وذلك لأن اليهود والنصارى معروفون بتعظيم القبور وتشييدها والغلو فيها، فلا يستبعد أنهم لبَّسوا على بعض جهال المسلمين أن هذا القبر قبر بعض من يعظمه المسلمون ليوافقوهم على تعظيمه، وأكد شيخ الإسلام هذا الأمر بعدة شواهد ضربها على ذلك.

ثم ذكر رحمه الله أن الذين يعظمون القبور والمشاهد ممن ينتسبون إلى الإسلام فيهم شبه شديد بالنصارى، ثم ضرب مثالاً على هذا في هذه المناظرة التي وقعت مع بعض رهبان النصارى

(1)

.

•‌

‌ نص المناظرة:

قال رحمه الله: «والذين يعظمون القبور والمشاهد: لهم شبهٌ شديد بالنصارى حتى إني لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض معظميهم من الرهبان، وناظرني في المسيح ودين النصارى، حتى بينت له فساد ذلك وأجبته عما يدعيه من الحجة.

وبلغني بعد ذلك أنه صنف كتاباً في الرد على المسلمين، وإبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأحضره إلي بعض المسلمين، وجعل يقرأه علي لأجيب عن حجج النصارى وأبين فسادها.

وكان من أواخر ما خاطبت به النصراني: أن قلت له: أنتم مشركون، وبينت من شركهم ما هم عليه من العكوف على التماثيل والقبور وعبادتها والاستغاثة بها.

قال لي: نحن ما نشرك بهم ولا نعبدهم وإنما نتوسل بهم كما يفعل المسلمون إذا جاءوا إلى قبر الرجل الصالح فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك.

فقلت له: وهذا أيضًا من الشرك ليس هذا من دين المسلمين وإن فَعلَهُ الجهال.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (27/ 455 - 461).

ص: 165

فأقر أنه شرك.

حتى إن قسيساً كان حاضراً في هذه المسألة، فلما سمعها قال: نعم على هذا التقدير نحن مشركون»

(1)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

من سياق المناظرة يظهر أنها كانت مناظرة طويلة بين شيخ الإسلام وهذا الراهب النصراني، حيث ذكر رحمه الله أنه ناظره في المسيح عليه السلام ودين النصارى عموماً، ولم يخصص رحمه الله موضوعاً معيناً؛ فدل على طولها وكثرة المباحث التي عرضت فيها.

وكان من آخر ما خاطبه به أن النصارى في حقيقة أمرهم مشركون، وبين له شيئاً من مظاهر الشرك التي وقع فيها القوم وذلك: كالعكوف على التماثيل والقبور، وعبادتها، والاستغاثة بها من دون الله.

•‌

‌ مناقشة الشبهة التي احتج بها هؤلاء الرهبان:

كانت حجة الراهب على تسويغ ما يفعلونه من شرك أمرين اثنين:

أولهما: أن ما يفعلونه ليس شركاً ولا عبادة لغير الله، وإنما هو من باب التوسل.

وثانيهما: أن ما يفعلونه هو في الحقيقة كفعل المسلمين عند قبور الصالحين.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده عليهم: «فقلت لهم: وهذا أيضا من الشرك ليس هذا من دين المسلمين وإن فعله الجهال»

(2)

.

فبين رحمه الله أن فعل الجهال ممن ينتسب للإسلام لهذه الأمور لا يعني كونها من دين الإسلام، بل هي شرك مخالف للدين، ونبه بقوله:(جهال) إلى أنهم: جاهلون بحقيقة الإسلام؛ لأن من عرف الإسلام حق المعرفة عرف أن مثل هذه الأفعال

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 461).

(2)

مجموع الفتاوى (27/ 462).

ص: 166

مضادة للدين من كل وجه ومناقضة لأصله الذي قام عليه.

وقد تم في المناظرة السابقة تفصيل القول حول هذه الشبهة وذكر ما يتعلق بها

(1)

، وأما هنا فيحسن بنا أن نقف مع الشبهة الأخرى ونفصل القول فيها وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل هذه الشبهة عند القائلين بها:

حقيقة هذه الشبهة التي احتج بها هؤلاء الرهبان هي: أن ما يقومون به من شرك واستغاثة بغير الله وصرف شتى أنواع العبادات لغيره إنما هو من باب التوسل ليس إلا.

وهذه الشبهة هي شبهة مشتركة بين هؤلاء النصارى وبين عباد القبور من الرافضة والمتصوفة وغيرهم ممن ينتسب إلى الإسلام والملة.

وقد احتج البكري

(2)

في رده على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بهذه الحجة أيضاً وقرر مثل هذا التقرير كما بين ذلك شيخ الإسلام في رده عليه

(3)

.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أصل هذه الشبهة في هذا الباب فقال في أثناء رده على البكري الذي احتج بهذه الحجة: «وهو-أي البكري- ظن أن الباب في التوسل كالباب في الاستغاثة وليس كذلك»

(4)

. وقال أيضاً: «فدخل عليه الخطأ من وجوه، منها أنه جعل المُتوسِل به بعد موته

(1)

راجع (ص:157) فما بعدها.

(2)

هو أبو الحسن علي بن يعقوب بن جبريل البكري المصري الشافعي، له كتاب في " البيان " وآخر في " تفسير الفاتحة "وله تصانيف في النيل من شيخ الإسلام ابن تيمية، وصدق فيه ابن كثير عندما قال:«كان البكري في جملة من ينكر على شيخ الإسلام ابن تيمية، وما مثاله إلا مثال ساقية ضعيفة كدرة لاطمت بحراً عظيماً صافياً!» (ت:742 هـ). انظر: البداية والنهاية (14/ 114 - 115) الوافي بالوفيات (22/ 205).

(3)

انظر: الرد على البكري (1/ 182).

(4)

المصدر السابق (2/ 498).

ص: 167

في الدعاء مستغيثاً به»

(1)

.

فبين رحمه الله أن أصل هذه الشبهة عندهم هو عدم التفريق بين التوسل وبين الدعاء والاستغاثة، فهما عندهم بمعنى واحد لا فرق بينهما.

بل نستطيع التعبير عن حقيقة مذهبهم بصورة أوضح وذلك بأن نقول: إنهم يجعلون عبادة غير الله والشرك به بمعنى التوسل.

وقد اتضح من كلام هذا النصراني هذا الأمر حيث سمى ما يقعون فيه من شرك وعكوف على التماثيل والقبور وعبادتها والاستغاثة بها، سماه توسلاً ليس إلا.

ولنستعرض أيضاً كلام بعض القبوريين في هذه الشبهة بعينها، ليتضح الأمر ويزول الإشكال، ويظهر بوضوح سبب غلطهم في هذا الباب العظيم ووجه تلبيس الشيطان عليهم.

قال أحمد زيني دحلان

(2)

: «فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب المؤمنين معنى إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى»

(3)

.

وقد قرر هذا قبله جمع منهم تقي الدين السبكي

(4)

فقال: «فلا فرق بين أن يعبر بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو التجوه، أو التوجه .. »

(5)

.

(1)

المصدر السابق (2/ 478).

(2)

هو أحمد زيني دحلان المكي الشافعي، ممن ناصب العداء لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وله مصنفات منها: الدرر السنية في الرد على الوهابية وغيرها، توفي سنة: 1304 هـ. انظر: هدية العارفين (1/ 191) والأعلام للزركلي (1/ 129) ومعجم المؤلفين (1/ 229).

(3)

الدرر السنية في الرد على الوهابية (ص:38).

(4)

هو أبو الحسن تقي الدين على بن عبد الكافي السبكي الشافعي، له مصنفات منها: الفتاوى الكبرى، والابتهاج في شرح المنهاج، شفاء السقام، وكان ممن ناصب العداء لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، توفي سنة: 756 هـ. انظر: الدرر الكامنة (1/ 365)، والبدر الطالع (1/ 446).

(5)

شفاء السقام (ص: 363).

ص: 168

وتبعه في تقرير هذا القول السمهودي

(1)

والقسطلاني شارح البخاري

(2)

، والهيتمي

(3)

،

والزرقاني

(4)

، وابن جرجيس

(5)

، والنبهاني

(6)

وغيرهم.

وقال محمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني

(7)

مقرراً ذلك: «لا فرق أن يعبر

(1)

هو أبو الحسن نور الدين علي بن عبد الله السمهودي الشافعي، له مصنفات منها: حاشية على إيضاح النووي، وجواهر العقدين في فضل الشرفين، توفي سنة: 911 هـ. انظر: البدر الطالع (1/ 449)، والنور السافر (ص 54 - 57)، الأعلام للزركلي (8/ 52).

(2)

هو أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، له مصنفات منها: إرشاد الساري شرح البخاري، لطائف الاشارات في علم القراءت، قال عنه الألوسي:(كان من غلاة القبورية)، توفي سنة: 923 هـ. انظر: البدر الطالع (1/ 95)، والأعلام للزركلي (1/ 232)، غاية الأماني (2/ 14).

(3)

هو أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي الشافعي، له مصنفات منها: الصواعق المحرقة على أهل الرفض والزندقة، الزواجر عن اقتراف الكبائر، وغيرها، ناصب العداء لشيخ الإسلام ابن تيمية وصنف في نصرة مذهب القبورية "الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم"، توفي سنة: 974 هـ. انظر: النور السافر (1/ 258)، وخلاصة الأثر (2/ 166).

(4)

هو أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري الأزهري المالكي، له عدة مصنفات منها: شرح الموطأ، ومختصر المقاصد، (ت:1122 هـ). انظر: سلك الدرر (2/ 83)، والأعلام للزركلي (6/ 184).

(5)

هو داود بن سليمان البغدادي النقشبندي الخالدي الحنفي، المعروف بابن جرجيس، من أكبر الدعاة إلى الوثنية وعبادة القبور، وله مصنفات منها: صلح الإخوان (ت:1299 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (2/ 332)، ومعجم المؤلفين (4/ 136 - 137)، هدية العارفين (1/ 363).

(6)

هو يوسف بن إسماعيل بن يوسف النبهاني، كان شاعراً وأديباً قاضياً، عُرف بغلوه بالأموات، من مصنفاته: المواهب المحمدية، والمجموعة النبهانية، شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، وكان شديد التحامل على شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب في كثير من كتاباته وقصائده، (ت:1350 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (8/ 218)، ومعجم المؤلفين (13/ 275 - 276).

(7)

هو محمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني الكاظمي، إمامي قبوري من كاظمة بالعراق، من مصنفاته: إزهاق الباطل في رد شبه الفرقة الوهابية، توفي سنة:1305 هـ. انظر: الأعلام للزركلي (6/ 258) ومعجم المؤلفين (10/ 298).

ص: 169

بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو التوجه»

(1)

.

ويقول بعض علمائهم

(2)

: «ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبر عنه بلفظ التوسل، أو الاستعانة، أو التشفع، أو الالتجاء، والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه متوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعله وسيلة لإجابة الله دعائه ومستغيث به»

(3)

.

فإذا علمت هذا علمت معنى التوسل عند عُباد القبور والأضرحة وعرفت وجه احتجاج النصراني بهذه الشبهة على شركهم وعبادتهم لغير الله.

ويوضح لنا القضاعي

(4)

ما يحويه معنى التوسل عند القبورية من معان بتقسيم سهل وواضح فيقول: «اعلم أن التوسل بالسادة على أنحاء:

الأول: أن يدعو الله بهم، كأن يقول: اللهم إني أسألك بأنبيائك، أو بالصالحين، أو بحرمتهم، أو بجاههم، أو بحقهم.

الثاني: أن يطلب المستغيث من المستغاث به: أن يشفع له إلى ربه في قضاء حاجته.

بأن يقول: ادع لي أن يرد عليّ بصري.

الثالث: أن يطلب المستغيث من المستغاث به قضاء حاجته، بأن يقول: يا فلان، ردّ عليّ بصري»

(5)

.

(1)

إزهاق الباطل لمحمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني ق (62) نقلا عن دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 319).

(2)

هو محمد عاشق الرحمن القادري الحبيبي الحنفي، من مؤلفاته: السيوف الآجلة، عذاب الله المجدي، قال الشيخ شمس الدين الأفغاني:«الهندي الخرافي الكذاب» انظر: جهود علماء الحنفية (3/ 1812).

(3)

عذاب الله المجدي لجوف منكر التوسل النجدي (ص 43) نقلا عن دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 326).

(4)

هو سلامة العزامي القضاعي، كان من دعاة الوثنية والقبورية سليط اللسان على أئمة السنة، من مصنفاته: البراهين الساطعة، توفي سنة: 1376 هـ انظر: معجم المؤلفين (13/ 390).

(5)

البراهين الساطعة (ص 391) نقلا عن جهود علماء الحنفية (2/ 1071).

ص: 170

أما النوع الأول فهو التوسل المحرم الممنوع، وأما النوع الثاني فهو مجمل محتمل، وأما النوع الثالث فهو عين الشرك الصريح الذي لا شك فيه، ومع هذا فقد جعلوه من جملة أنواع التوسل وهذا أصل ضلالهم وشبهتهم.

ويبين لنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن

(1)

رحمه الله ما وقع في لفظ التوسل من اشتراك فيقول: «إن لفظ التوسل صار مشتركاً، فعُباد القبور يطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله، ودعائه رغباً ورهباً، والذبح والنذر، والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق.

وأهل العلم يطلقونه على المتابعة والأخذ بالسنة فيتوسلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو التوسل في عرف القرآن والسنة .. ومنهم من يطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه نبيه أو بحق عبده الصالح أو بعباده الصالحين وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخرين كالسبكي والقسطلاني وابن حجر-أي الهيتمي-»

(2)

.

ويلخص لنا الشيخ شمس الدين الأفغاني

(3)

رحمه الله جميع ما تقدم فيقول: «الحاصل: أن القبورية قد أدخلوا في مفهوم التوسل الاستغاثة بالأموات، التي ليست بشرك فحسب، بل أم لعدة أنواع من الإشراك بخالق الأرض والسماوات.

وحرفوا دين الله أشنع التحريفات بأبشع التبديلات، وغيروا المصطلحات

(1)

هو عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي، كان عالماً فقيهاً مصلحاً، له مصنفات منها: تأسيس التقديس في الرد على داود بن جرجيس، مصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام، توفي سنة: 1293 هـ. انظر: مشاهير علماء نجد (1/ 69).

(2)

منهاج التأسيس (ص 267). وانظر مصباح الظلام (ص 178).

(3)

هو أبو عبد الله شمس الدين بن محمد بن أشرف بن قيصر الأفغاني، من أهل العلم المعاصرين، له مصنفات منها: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، توفي سنة: 1420 هـ. انظر مقدمتي رسالتيه السابقتين.

ص: 171

الشرعية بما هو عين الوثنيات، وفسروا بتوسلاتهم البدعية نصوص الكتاب والسنة، وادعوا إجماع السلف والخلف، فافتروا على أئمة الأمة، بل تقولوا على الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين»

(1)

.

ولكن قد يتساءل القارئ ما وجه تشبيههم الاستغاثة بالتوسل؟ والجواب يتضح من إيراد بعض تعليلاتهم في ذلك، يقول القباني

(2)

معللاً لهذا الأمر: «فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث؛ فهو تعالى مستغاث، والغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث، والغوث منه تسبباً وكسباً»

(3)

.

ويقول محمد بن عبد الوهاب الهمداني: «فالطلب في الحقيقة منه تعالى لا من سواه، وإن كان في الظاهر متوجها إلى غيره فلا بأس به في المعنى»

(4)

ويقول حسن الشطي

(5)

: «فإن قلت شبهة من منع التوسل رؤيتهم بعض العوام يطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتاً أشياء لا تطلب إلا من الله، ويجدونهم يقولون للولي افعل لي كذا وكذا، فهذه الألفاظ الصادرة منهم توهم التأثير لغير الله.

أجيب بأن الألفاظ الموهمة محمولة على المجاز العقلي، والقرينة عليه

(1)

جهود علماء الحنفية (3/ 1453).

(2)

هو أحمد بن علي البصري الشهير بالقباني، من خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، من مصنفاته: فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب، كان حياً سنة 1157 هـ ولم تعرف سنة وفاته. انظر: إيضاح المكنون (2/ 190)، دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 44).

(3)

"فصل الخطاب" ق 28. نقلاً عن دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 318).

(4)

إزهاق الباطل ق 62. نقلاً عن دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 319).

(5)

هو حسن الشطي الحنبلي، كان صوفياً خرافياً، ناصب العداء للدعوة وألف في نصرة الشرك والقبورية ومن مؤلفاته: النقول الشرعية في الرد على الوهابية، توفي سنة: 1348 هـ انظر: معجم المؤلفين (12/ 237).

ص: 172

صدوره من موحد، ولذا إذا سئل العامي عن صحة معتقده بذلك فيجيبك بأن الله هو الفعال وحده لا شريك له، وإنما الطلب من هؤلاء الأكابر عند الله تعالى المقربين لديه على سبيل التوسط بحصول المقصود

ولا يصح لنا أن نمنعهم من التوسل والاستغاثة مطلقاً»

(1)

.

‌الوجه الثاني: بيان بطلان هذه الشبهة والجواب عليها:

قام شيخ الإسلام رحمه الله بتفنيد هذه الشبهة وبيان فسادها من وجوه شتى كما سيتضح ذلك عند نقل كلامه رحمه الله، ويحسن بنا قبل عرض كلامه رحمه الله أن نبين أن هذه الأقوال وتعليلاتها هي عين تعليلات المشركين الأوائل، وأن ما ذكره هؤلاء وغيرهم هو جنس شرك المشركين، وكفى بهذا دليلاً وبرهاناً على بطلانها وفسادها، وذلك أن المشركين لم يكونوا يعتقدوا في آلهتهم خلقاً ولا إيجاداً، وإنما كانوا يتخذونها وسائط يتقربون بها إلى الله ويستشفعون بها كما أخبر الله عز وجل عن قولهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر:3]، وقال سبحانه مخبراً لنا عنهم وعن حقيقة شركهم ودعائهم واستغاثتهم بغير الله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]

والعبرة بالحقائق لا بالألفاظ والتسميات، فتسمية الشرك توسلاً لا تُغَيّر من حقيقته، وكذلك تسميته استشفاعاً أو تقرباً أو تزلفاً أو تبركاً لا يغير من حقيقة الأمر شيئًا، قال سبحانه:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]، فسمى الله دعاءهم لغيره عبادة وإن كانوا هم يعتقدونه زلفى أو شفاعة أو قربة إلى الله أو توسلاً.

وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] فسماه الله شركاً.

(1)

النقول الشرعية (ص 17، 108) باختصار، نقلا عن دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (ص 325).

ص: 173

قال الشيخ ابن سحمان

(1)

رحمه الله: «فإنه من المعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها، فلا تزول هذه المفاسد بتغير أسمائها، كتسمية عبادة غير الله توسلاً وتشفعاً، أو تبركاً وتعظيماً للصالحين وتوقيراً، فإن الاعتبار بحقائق الأمور، لا بالأسماء والاصطلاحات، والحكم يدور مع الحقيقة، وجوداً وعدماً لا مع الأسماء»

(2)

.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله فساد هذه المقالة في مواضع كثيرة من كتبه، ويمكن ترتيب أهم ردوده رحمه الله على الوجه الآتي:

‌أولاً: بيان أن جعلهم الاستغاثة والتوسل بمعنى واحد لم يقل به أحد من الأمم:

قال رحمه الله في أثناء رده على البكري: «فهذا القول لم يقله أحد من الأمم، بل هو مما اختلقه هذا المفتري وإلا فلينقل ذلك عن أحد من الناس وما زلت أتعجب من هذا القول وكيف يقوله عاقل والفرق واضح بين السؤال بالشخص والاستغاثة به؟»

(3)

.

وقال رحمه الله: «ولكن لم يسم أحد من الأمم هذا استغاثة»

(4)

. وقال رحمه الله: «ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي؛ هو استغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان أو بحرمته أو أتوسل إليك باللوح والقلم أو بالكعبة أو غير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور»

(5)

.

(1)

هو العلامة سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان النجدي، أحد أئمة الدعوة، ممن خدم السنة ودافع عنها وعن أهلها، له مصنفات كثيرة منها: منهج أهل الحق والاتباع، وإرشاد الطالب، وتبرئة الشيخين، توفي سنة: 1349 هـ. انظر: مشاهير علماء نجد (2/ 199)، والأعلام للزركلي (3/ 126).

(2)

الضياء الشارق (ص 182).

(3)

الرد على البكري (1/ 182).

(4)

المصدر السابق (2/ 477).

(5)

مجموع الفتاوى (1/ 103).

ص: 174

‌ثانياً: أن هذا القول مخالف لجميع اللغات:

قال رحمه الله: «فدخل عليه الخطأ من وجوه منها أنه جعل المتوسل به بعد موته في الدعاء مستغيثاً به وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازاً»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وقول القائل: إن من توسل إلى الله بنبي، فقال: أتوسل إليك برسولك فقد استغاث برسوله حقيقة، في لغة العرب وجميع الأمم قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بني آدم»

(2)

.

‌ثالثاً: أن هذا القول مخالف لإجماع علماء المسلمين:

قال رحمه الله: «لم يقل أحد من علماء المسلمين: إنه يستغاث بشيء من المخلوقات؛ في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى لا بنبي ولا بملك ولا بصالح ولا غير ذلك»

(3)

.

‌رابعاً: أن هذا القول مخالف لما علم من دين الإسلام بالضرورة:

قال رحمه الله بعد حكايته لإجماع العلماء على عدم جواز الاستغاثة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله «بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ أنه لا يجوز إطلاقه»

(4)

.

‌خامساً: بين رحمه الله الفرق بين الاستغاثة والتوسل من ناحية المعنى واللغة:

فقال: «فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به»

(5)

.

(1)

الرد على البكري (2/ 478).

(2)

المصدر السابق (1/ 104).

(3)

مجموع الفتاوى (1/ 103).

(4)

المصدر السابق (1/ 103).

(5)

المصدر السابق (1/ 103).

ص: 175

وقال: «فإن الاستغاثة به طلب منه لا طلب به»

(1)

، وقال:«المستغاث به هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به»

(2)

، وقال:«فالمستغاث به هو المسؤول، وأما المتوسل به فهو الذي يتسبب به إلى المسؤول»

(3)

.

‌سادساً: بيان المعنى الشرعي الذي جاءت به النصوص للتوسل:

فالتوسل المشروع الذي جاء في الكتاب والسنة هو التوسل إلى الله سبحانه بالأعمال الصالحات، والأسماء والصفات، وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: {يَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57].

فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات.

فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً.

(1)

الرد على البكري (2/ 477).

(2)

المصدر السابق (2/ 477).

(3)

المصدر السابق (2/ 498). وقال الشيخ محمد نسيب الرفاعي رحمه الله: «وليست الاستغاثة هي الوسيلة أبداً؛ لأن لكلٍ معنىً مستقلاً دون الآخر فالاستغاثة يتم حصولها بوجود شيئين فقط وهما: المستغيث والمستغاث به، أما الوسيلة فلا تتم إلا في وجود ثلاثة أشياء: المتوسل، والمتوسل به، والمتوسل إليه، فكيف يمكن أن نقول الاستغاثة هي الوسيلة؟!» . التوصل إلى حقيقة التوسل (ص 97). وانظر الفروق بينهما في: التوضيح عن توحيد الخلاق (ص 307 - 312).

ص: 176

فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وأصلُ ذلك الإيمان بما جاء به الرسول.

فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى ذلك إلا ذلك.

والثاني لفظ (الوسيلة) في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة)

(1)

»

(2)

.

والكلام في تقرير هذه المسألة طويل جداً، وليس هذا مقامه، وإنما المراد التنبيه على بطلانها من كلام شيخ الإسلام نفسه، وإلا فقد تتابع العلماء على رد هذه الشبهة

(3)

وبيان بطلانها في مختلف الكتب والتصانيف

(4)

، وفي الحقيقة أن

(1)

رواه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم (384).

(2)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 84).

(3)

ومما رد به الشيخ محمد الأمين السويدي الشافعي رحمه الله على أصحاب هذه الشبهة قال: «أما قولكم: أن ليس مقصودهم إلا التوسل والتشفيع، وإن تكلموا بما يفيد غيره.

فإنه يدل على أن الشرك لا يكون إلا اعتقادياً، وأن اللفظ لا يكون كفراً إلا إذا طابق الاعتقاد.

هذا يقتضى سد أبواب الشرائع، ومحو الأبواب التي ذكرها الفقهاء في الردة

كيف وأن الله سبحانه يقول: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة:74] والكلمة التي قالوها كانت على جهة المزح مع كونهم في زمن رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يجاهدون ويصلون، ويفعلون جميع الأوامر، وقال تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]، وقد ذكر المفسرون: أنهم قالوها على جهة المزح

ولو قلنا: إن الألفاظ لا عبرة بها، وإنما العبرة للاعتقاد لأمكن لكل من تكلم بكلام يحكم على قائله بالردة اتفاقاً أن يقول: لم تحكمون بردتي؟! فيذكر احتمالاً، ولو بعيداً، يخرج به عما كفر فيه، ولما احتاج إلى توبة ولا توجه عليه لوم أبداً.

وهذا ظاهر البطلان، ولساغ لكل أحد ان يتكلم بكل ما أراد، فتنسد الأبواب المتعلقة بأحكام الألفاظ» جلاء العينين (ص 515).

(4)

انظر للاستزادة: كتاب الرد على البكري لشيخ الإسلام رحمه الله، وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين للألوسي-رحمه الله، والتوضيح عن توحيد الخلاق للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله، وتأسيس التقديس للعلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله و"التوصل إلى حقيقة التوسل" للشيخ محمد نسيب الرفاعي رحمه الله. وجهود علماء الحنفية في بيان عقائد القبورية للشيخ شمس الدين الأفغاني رحمه الله.

ص: 177

جميع كتب علماء أهل السنة في باب توحيد الألوهية وخصوصاً كتب الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وكتب علماء الدعوة النجدية وشروحاتها جميعها لا تخلو من تقرير هذا الأمر وتبيينه وتوضيحه.

* * *

ص: 178

الفصل الثاني:

مناظرته مع بعض التتار في زعمه أفضليتهم بفضل ملكهم.

واشتمل على مبحثين:

المبحث الأول:

عرض المناظرة.

المبحث الثاني:

دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

* * *

ص: 179

‌المبحث الأول: عرض المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

هذه المناظرة ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في أثناء جوابه على سؤال ورد إليه عن حكم التتار وحكم قتالهم، وحكم من قاتل معهم من المسلمين؟

وقد أطال رحمه الله في جواب هذا السؤال، وبين رحمه الله أنه يجب قتالهم وقتال كل طائفة امتنعت عن شرائع الدين الظاهرة، ودلل على هذا بالنصوص وفعل الصحابة رضي الله عنهم-وإجماع علماء الملة على ذلك، وبين رحمه الله كذلك خطأ من جعل قتال هؤلاء من جنس قتال البغاة

(1)

، ووضح الفروق الظاهرة بينهما، وكشف حال التتار وما هم عليه من مخالفةٍ لشريعة الإسلام من أوجه كثيرة

(2)

.

(1)

هم طائفة من المسلمين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ ولهم منعة وشوكة. انظر: مجموع الفتاوى (10/ 376)، (28/ 486)، (35/ 53) والمغني (12/ 242) التعريفات الفقهية (ص: 42) القاموس الفقهي (ص: 40) معجم لغة الفقهاء (ص: 109).

(2)

وأهم هذه الأوجه ما يلي:

إفسادهم في الأرض وقتلهم للمسلمين وسبي ذراريهم وهتكهم للحرمات، قال رحمه الله:«وفعلوا ببيت المقدس وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله، حتى يقال: إنهم سبوا من المسلمين قريباً من مائة ألف، وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين في المساجد وغيرها كالمسجد الأقصى والأموي وغيره، وجعلوا الجامع الذي بالعقيبة دكا» مجموع الفتاوى (28/ 520).

تركهم للصلاة، قال رحمه الله:«وقد شاهدنا عسكر القوم فرأينا جمهورهم لا يصلون ولم نر في عسكرهم مؤذناً ولا إماماً» مجموع الفتاوى (28/ 520). =

ص: 181

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ترك الحج، قال رحمه الله:«وهم في بلادهم مع تمكنهم لا يحجون البيت العتيق» مجموع الفتاوى (28/ 520).

الولاء والبراء والقتال عندهم إنما هو على الملك الكافر لا على الدين. قال رحمه الله: «وهم يقاتلون على ملك جنكسخان، فمن دخل في طاعتهم جعلوه ولياً لهم وإن كان كافراً، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدواً لهم وإن كان من خيار المسلمين. ولا يقاتلون على الإسلام» مجموع الفتاوى (28/ 520 - 521).

تسويتهم بين دين الإسلام وسائر الأديان الكفرية، قال رحمه الله:«كذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى وإن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين، ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى ومنهم من يرجح دين المسلمين وهذا القول فاش غالب فيهم حتى في فقهائهم وعبادهم .. بل لو قال القائل: إن غالب خواص العلماء منهم والعباد على هذا المذهب لما أبعد وقد رأيت من ذلك وسمعت ما لا يتسع له هذا الموضع» مجموع الفتاوى (28/ 520 - 521).

اعتقاداتهم الكفرية في جنكسخان، قال رحمه الله:«وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله في تعظيم ما سنه لهم وشرعه بظنه وهواه، حتى قالوا لما عندهم من المال: هذا رزق جنكسخان ويشكرونه على أكلهم وشربهم. وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادي لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين» مجموع الفتاوى (28/ 520 - 521).

وضرب رحمه الله مثالاً على هذا بقصة حدثت مع أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام ولعله غازان، حيث ساوى فيها هذا الرجل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجنكسخان، وقال رحمه الله:«فهذا وأمثاله من مقدميهم كان غايته بعد الإسلام أن يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم بمنزلة هذا الملعون» مجموع الفتاوى (28/ 522).

تعظيمهم دين الكفار أعظم من تعظيمهم للإسلام. قال رحمه الله: «فهم يدعون دين الإسلام ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين» مجموع الفتاوى (28/ 523).

توليتهم الوزارات والقضاء والقيادات للباطنية والفسقة والزنادقة، قال رحمه الله:«وهؤلاء أكثر وزرائهم الذين يصدرون عن رأيه غايته أن يكون من هذا الضرب] أي من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض [؛ فإنه كان يهودياً متفلسفاً ثم انتسب إلى الإسلام مع ما فيه من اليهودية والتفلسف وضم إلى ذلك الرفض، فهذا هو أعظم من عندهم من ذوي الأقلام وذاك أعظم من كان عندهم من ذوي السيف» . وقال رحمه الله: «بل يجعلون القرامطة الملاحدة الباطنية الزنادقة المنافقين كالطوسي وأمثاله هم الحكام على جميع من انتسب إلى علم أو دين من المسلمين =

ص: 182

ثم بين رحمه الله أن قتال هؤلاء القوم آكد من قتال الخوارج، وقتال مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبوبكر الصديق رضي الله عنه، وبين حرمة معاونتهم والقتال معهم، وأن من قاتل معهم فحكمه القتل وقرر ذلك بالأدلة الشرعية وأقوال الأئمة الفقهاء.

ثم بين رحمه الله خطأ من زعم أن قتالهم من جنس قتال البغاة فقال رحمه الله: «لكن من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون فقد أخطأ خطأ قبيحاً وضل ضلالاً بعيداً؛ فإن أقل ما في البغاة المتأولين أن يكون لهم تأويل سائغ خرجوا به؛ ولهذا قالوا: إن الإمام يراسلهم، فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها. فأي شبهة لهؤلاء المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فساداً الخارجين عن شرائع الدين، ولا ريب أنهم لا يقولون: إنهم أقوم بدين الإسلام علماً وعملاً من هذه الطائفة؛ بل هم مع دعواهم الإسلام يعلمون أن هذه الطائفة أعلم بالإسلام منهم وأتبع له منهم. وكل من تحت أديم السماء من مسلم وكافر يعلم ذلك، وهم مع ذلك ينذرون المسلمين بالقتال فامتنع أن يكون لهم شبهة بينة يستحلون بها قتال المسلمين كيف وهم قد سبوا غالب حريم الرعية الذين لم يقاتلوهم، حتى إن الناس قد رأوهم يعظمون البقعة ويأخذون ما فيها من الأموال، ويعظمون الرجل ويتبركون به ويسلبونه ما عليه من الثياب ويسبون حريمه ويعاقبونه بأنواع العقوبات التي لا يعاقب بها إلا أظلم الناس وأفجرهم، والمتأول تأويلاً دينياً لا يعاقب إلا من يراه عاصياً للدين، وهم يعظمون من يعاقبونه في الدين ويقولون: إنه أطوع لله منهم.

= واليهود والنصارى. وكذلك وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد يحكم على هذه الأصناف ويقدم شرار المسلمين كالرافضة والملاحدة على خيار المسلمين أهل العلم والإيمان حتى تولى قضاء القضاة من كان أقرب إلى الزندقة والإلحاد والكفر بالله ورسوله» مجموع الفتاوى (28/ 525).

إظهارهم الرفض، قال رحمه الله:«وقد أظهروا الرفض ومنعوا أن نذكر على المنابر الخلفاء الراشدين وذكروا علياً وأظهروا الدعوة للاثني عشر» مجموع الفتاوى (28/ 527). وأمور أخرى كثيرة غير هذه ذكرها رحمه الله في ذلك الموضع.

ص: 183

فأي تأويل بقي لهم؟ ثم لو قدر أنهم متأولون لم يكن تأويلهم سائغاً؛ بل تأويل الخوارج ومانعي الزكاة أوجه من تأويلهم: أما الخوارج فإنهم ادعوا اتباع القرآن وإن ما خالفه من السنة لا يجوز العمل به، وأما مانعوا الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا: إن الله قال لنبيه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103]، وهذا خطاب لنبيه فقط فليس علينا أن ندفعها لغيره. فلم يكونوا يدفعونها لأبي بكر ولا يخرجونها له»

(1)

.

فبين رحمه الله أن البغاة في أقل أحوالهم يكون لهم تأويل سائغ وشبهة يقاتلون من أجلها وبسببها، وأما هؤلاء فليس لهم شبهة في قتالهم للمسلمين ومع ذلك فهم مصرون على قتالهم للمسلمين ومحاربتهم لهم، وحتى لو قدر أنهم متأولون لم يكن تأويلهم سائغاً، بل تأويل الخوارج ومانعي الزكاة على فساده أَوْجَه من تأويلهم.

ثم بين رحمه الله أنه إذا كانت حالهم هي هذه، فإن مثلهم لا ينبغي أن يناظر أو يجادل على قتاله للمسلمين؛ لأنه ليس لديهم حجة ولا شبهة ولا تأويل.

ثم ضرب مثالاً على ما هم عليه من إفلاس في الحجة وخواء في الأدلة بهذه المناظرة التي وقعت بينه وبين أحد هؤلاء القوم.

‌نص المناظرة:

قال رحمه الله: «وأما هؤلاء فلا يناظرون على قتال المسلمين، فلو كانوا متأولين لم يكن لهم تأويل يقوله ذو عقل، وقد خاطبني بعضهم بأن قال: ملكنا ملك ابن ملك ابن ملك إلى سبعة أجداد، وملككم ابن مولى. فقلت له: آباء ذلك الملك كلهم كفار، ولا فخر بالكافر، بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر، قال الله تعالى:{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221]، فهذه وأمثالها حججهم! ومعلوم أن من كان مسلماً وجب عليه أن يطيع المسلم، ولو كان عبداً ولا يطيع الكافر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(1)

المصدر السابق (28/ 542).

ص: 184

(اسمعوا وأطيعوا وإن أُمّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله)

(1)

.

ودين الإسلام إنما يفضل الإنسان بإيمانه وتقواه لا بآبائه، ولو كانوا من بني هاشم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفاً قرشياً.

وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات:13]، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب)

(2)

. وفي الصحيحين: عنه أنه قال لقبيلة قريبة منه: (إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين)

(3)

.

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن موالاته ليست بالقرابة والنسب، بل بالإيمان والتقوى، فإذا كان هذا في قرابة الرسول، فكيف بقرابة جنكيز خان

(4)

الكافر المشرك، وقد

(1)

رواه أحمد (16649) قال الأرناؤوط: صحيح على شرط مسلم.

(2)

هذا النص عبارة من قطعتين: القطعة الأولى رواها أحمد في مسنده برقم: (23489) والبيهقي في الشعب من حديث جابر رضي الله عنه برقم: (4774) وصححه الألباني في الصحيحة: (2700) صحيح الترغيب والترهيب: (2963). والقطعة الأخرى وهي قوله: (الناس من آدم وآدم من تراب) رواها أبو داود: (5116) والترمذي برقم: (3270) وأحمد: (8721) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5482) والصحيحة (2803).

(3)

رواه البخاري في كتاب: الأدب. باب: تبل الرحم ببلاها. برقم (5990)، ومسلم كتاب الإيمان. برقم (215).

(4)

هو طاغية التتار وملكهم الأول الذي خرب البلاد، وأباد العباد. وليس للتتار ذكر قبله، إنما كانوا ببادية الصين، فملكوه عليهم، وأطاعوه طاعة أصحاب نبي لنبي، بل طاعة العباد المخلصين لرب العالمين. وكان مبدأ ملكه في سنة تسع وتسعين وخمسمائة واستمر خمساً وعشرين سنة (ت:624 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (13/ 762) فوات الوفيات (1/ 301 - 303).

ص: 185

أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه في الإيمان والتقوى، وإن كان الأول أسود حبشياً، والثاني علوياً أو عباسياً»

(1)

.

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (28/ 541)، الفتاوى الكبرى (3/ 555).

ص: 186

‌المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة والجواب عليها:

تعد هذه المناظرة مثالاً واضحاً على ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من ضعف الحجة عند القوم وخوائها، فهذا المسكين أراد أن يرفع من شأن قومه التتر ويبين أنهم أعظم وأكرم من المسلمين، فاحتج بهذه الحجة الباطلة، التي حقيقتها الاغترار بالملك والدنيا والعصبية والقبلية.

ومن بديع جواب شيخ الإسلام عليه أنه لم يشتغل بنقض الشبهة نفسها، وإنما نقض أصل الشبهة التي بنيت عليه، وإذا انتقض أصلها انتقضت هي من باب أولى، فما بُني على باطل فهو باطل، ومن الخطأ في المحاورات والمناظرات أن يُشتغل بنقض الفروع إذا كان الأصل فاسداً، بل يُتوجه مباشرة إلى الأصل بالنقض، وعند ذلك ينتقض كل ما بُني عليه، أما إذا اشتغل المناظر بنقض أحد فروع الأصل، فستبقى فروع أخرى لم تنقض، أو ستبنى فروع جديدة لهذا الأصل، مما يطيل النقاش ولا يزول معه أصل الشبهة من رأس الخصم.

ففي هذه المناظرة لم يناقش ابن تيمية خصمه في صحة ما ادعاه من كلام، وهو أن ملكهم ملك ابن ملك إلى سبعة ملوك، ولا ناقشه في صحة ما ادعاه من أن ملك المسلمين إنما هو ابن مولى، بل ذهب مباشرة ليجتث أصل هذه الشبهة من جذورها، فبين له أن المعيار الحقيقي للمفاضلة بين الناس ليست الأموال

ص: 187

ولا الأنساب ولا الأحساب ولا الملك ولا الجاه، وإنما المعيار الحقيقي هو الدين والإيمان والتقوى، فالملك والثروة لا تغني عن صاحبها شيئاً إذا كان كافراً.

واستدل شيخ الإسلام على هذا بآيتين وحديثين مع الإجماع.

• فأما الآيتان:

فالأولى: قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221].

والثانية: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحُجُرات:13].

• وأما الحديثان:

فالأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. الناس من آدم وآدم من تراب)

(1)

.

والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي؛ إنما وليي الله وصالح المؤمنين)

(2)

.

• وأما الإجماع فقد بينه بقوله: «وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيماناً وتقوى كان أفضل ممن هو دونه في الإيمان والتقوى، وإن كان الأول أسود حبشياً والثاني علوياً أو عباسياً»

(3)

.

فإذا تقرر أن التفاضل لا يكون إلا بالإيمان، وأن التفاضل بغيره لا يصح، تبين بطلان هذه الشبهة التي احتج بها هذا التتري وفساد احتجاج من يحتج بالأنساب في التفضيل بين الأشخاص والأفراد، وقد بين شيخ الإسلام هذا الأمر في مواضع كثيرة من كتبه وزاده توضيحاً وتفصيلاً، ومن بيانه في ذلك:

(1)

سبق عزوه (ص:185).

(2)

سبق عزوه (ص:185).

(3)

مجموع الفتاوى (28/ 541).

ص: 188

أولاً: أن شرف النسب إنما يكون فضيلةً لصاحبه إذا كان مُعيناً له على البر والصلاح التقوى التي هي معيار التفاضل الحقيقي. قال رحمه الله: «أما الأمور الخارجية عن نفس الإيمان والتقوى، فلا يحصل بها فضيلة عند الله تعالى، وإنما يحصل بها الفضيلة عند الله إذا كانت معينة على ذلك; فإنها من باب الوسائل لا المقاصد، كالمال والسلطان، والقوة والصحة ونحو ذلك، فإن هذه الأمور لا يفضل بها الرجل عند الله إلا إذا أعانته على طاعة الله بحسب ما يعينه. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات:13]»

(1)

.

ثانياً: أن أفضلية النسب إنما هي أفضلية مظنة وسبب، لا أفضلية تحقق ويقين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الناس أكرم؟ فقال: (أتقاهم لله). قيل: ليس عن هذا نسألك، قال:(يوسف نبي الله بن يعقوب نبي الله بن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله)، قيل: ليس عن هذا نسألك. قال: (أفعن معادن

(1)

منهاج السنة (8/ 214).

ص: 189

العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)

(1)

.

بين لهم أولاً: أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، وإن لم يكن ابن نبي ولا أبا نبي، فإبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من يوسف، وإن كان أبوه آزر، وهذا أبوه يعقوب، وكذلك نوح أكرم على الله من إسرائيل، وإن كان هذا أولاده أنبياء، وهذا أولاده ليسوا بأنبياء، فلما ذكروا أنه ليس مقصودهم إلا الأنساب، قال لهم: فأكرم أهل الأنساب من انتسب إلى الأنبياء، وليس في ولد آدم مثل يوسف; فإنه نبي ابن نبي ابن نبي.

فلما أشاروا إلى أنه ليس مقصودهم إلا ما يتعلق بهم، قال:(أفعن معادن العرب تسألوني؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، بين أن الأنساب كالمعادن، فإن الرجل يتولد منه كما يتولد من المعدن الذهب والفضة، ولا ريب أن الأرض التي تنبت الذهب أفضل من الأرض التي تنبت الفضة. فهكذا من عرف أنه يلد الأفاضل، كان أولاده أفضل ممن عرف أنه يلد المفضول.

لكن هذا سبب ومظنة وليس هو لازماً؛ فربما تعطلت أرض الذهب، وربما قل نبتها; فحينئذ تكون أرض الفضة أحب إلى الإنسان من أرض معطلة، والفضة الكثيرة أحب إليهم من ذهب قليل لا يماثلها في القدر؛ فلهذا كان أهل الأنساب الفاضلة يظن بهم الخير، ويكرمون لأجل ذلك. فإذا تحقق من أحدهم خلاف ذلك، كانت الحقيقة مقدمة على المظنة. وأما ما عند الله فلا يثبت على المظان ولا على الدلائل، إنما يثبت على ما يعلمه هو من الأعمال الصالحة، فلا يحتاج إلى دليل، ولا يجتزئ بالمظنة.

فلهذا كان أكرم الخلق عنده أتقاهم، فإذا قدر تماثل اثنين عنده في التقوى، تماثلا في الدرجة، وإن كان أبو أحدهما أو ابنه أفضل من أبي الآخر أو ابنه، لكن إن حصل له بسبب نسبه زيادة في التقوى كان أفضل لزيادة تقواه»

(2)

.

ثالثاً: أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب؛ إنما هو حكم من أحكام الجاهلية، قال رحمه الله في رده على من علق الفضيلة بالأنساب: «إن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب؛ هو حكم من أحكام الجاهلية، الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل؛ فإن الله تعالى قال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات:13]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب)

(3)

،

(1)

رواه البخاري كتاب: أحاديث الأنبياء. باب: قول الله تعالى: [النساء:125] برقم (3353)، ومسلم كتاب الفضائل. برقم (2378).

(2)

منهاج السنة (8/ 214).

(3)

سبق عزوه.

ص: 190

ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحداً بنسبه، ولا يذم أحداً بنسبه، وإنما يمدح الإيمان والتقوى ويذم بالكفر والفسوق والعصيان. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، أنه قال:(أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم)

(1)

»

(2)

.

رابعاً: أن فضيلة النسب إنما هي فضيلة باعتبار الجنس والنوع لا باعتبار الأشخاص والأفراد، فيقال إنَّ جنس العرب أفضل من جنس العجم، وإن جنس الرجال أفضل من جنس النساء، ولكن قد يوجد من النَساء من هي أفضل من ألوف الرجال كمريم وفاطمة وعائشة، وقد يوَجد من العجم ما هوَ أفضلُ من ألوف العرب كصهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي وغيرهم؛ فإنَ كل واحدٍ منهم أفضلُ من آلافٍ من العرب بل أفضلُ من آلافٍ من قريش وبني العباس والأشراف، وهذا باعتبار الأفراد والأشخاص، فشرف النسب إنما هو فضيلة بالنوع، والفضيلة بالنوع لا تستلزم أن يكون صاحبها أفضل مطلقاً

(3)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية، فالأول يفضل به؛ لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد.

والثاني: يفضل به؛ لأنه الحقيقة والغاية، ولأن كل من كان أتقى لله كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا، لأن الحقيقة قد وجدت، فلم يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فلا يستدل بالأسباب والعلامات»

(4)

.

(1)

رواه مسلم باب: التشديد في النياحة. برقم (934).

(2)

الفتاوى الكبرى (1/ 172)، مجموع الفتاوى (35/ 230)، وانظر: مجموع الفتاوى (11/ 125).

(3)

انظر: مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب (ص: 35).

(4)

منهاج السنة (4/ 603 - 604).

ص: 191

وقال رحمه الله: «فالفضيلة بنوع لا تستلزم أن يكون صاحبها أفضل مطلقاً. ولهذا كان في الأغنياء من هو أفضل من جمهور الفقراء، وفي الفقراء من هو أفضل من جمهور الأغنياء; فإبراهيم وداود وسليمان ويوسف وأمثالهم أفضل من أكثر الفقراء، ويحيى وعيسى ونحوهما أفضل من أكثر الأغنياء.

فالاعتبار العام هو التقوى، كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات:13]، فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقاً، وإذا تساوى اثنان في التقوى استويا في الفضل، سواء كانا -أو أحدهما- غنيين أو فقيرين، أو أحدهما غنياً، والآخر فقيراً، وسواء كانا -أو أحدهما- عربيين أو أعجميين، أو قرشيين أو هاشميين، أو كان أحدهما من صنف والآخر من صنف آخر. وإن قدر أن أحدهما له من سبب الفضيلة ومظنتها ما ليس للآخر، فإذا كان ذاك قد أتى بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها، وإن كان أقدر على الإتيان بها، فالعالم خير من الجاهل، وإن كان الجاهل أقدر على تحصيل العلم، والبر أفضل من الفاجر، وإن كان الفاجر أقدر على البر، والمؤمن الضعيف خير من الكافر القوي، وإن كان ذاك يقدر على الإيمان أكثر من المؤمن القوي. وبهذا تزول شبه كثيرة تعرض في مثل هذه الأمور»

(1)

.

* * *

(1)

المصدر السابق (4/ 607 - 608).

ص: 192

الفصل الثالث:

مناظرته مع بعض المنجمين في فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بها.

ويشتمل على مبحثين:

المبحث الأول: عرض المناظرة.

المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

* * *

ص: 193

‌المبحث الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

هذه المناظرة أوردها شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في معرض جوابه على سؤال ورد إليه عن الكواكب وتأثيرها في الوجود وعلاقتها بسعادة بني آدم وشقاوتهم، وبعض الشبه التي يوردها من يعتقد فيها ذلك.

فذكر رحمه الله في جوابه أن النجوم آية من آيات الله التي سخرها لعباده وجعل فيها أنواعاً من المنافع، وذكر أن حركة الكواكب قد تكون تخويفاً من الله لعباده كما يحصل في الكسوف والخسوف وأن الواجب عند ذلك فعل أسباب الخير من الأعمال الصالحة التي يدفع الله بها البلاء عن الناس، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باللجوء إلى الصلاة عند الكسوف والخسوف.

وبين رحمه الله حكم السحر، وأنه محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وأن السحر في الحقيقة لا ينفع صاحبه وإنما يكون سبباً لفساد دنياه وآخرته.

ثم بين رحمه الله أن أحكام المنجمين

(1)

مبنية على الظن والتخمين والتخرصات،

(1)

التنجيم (لغة): مأخوذ من النجم وهو الكوكب، وهو اسم على الثريا. والمنجم والمتنجم: الذي ينظر في النجوم بحسب مواقيتها. انظر: العين (6/ 1514) وجمهرة اللغة (2/ 115)، لسان العرب (12/ 570).

والتنجيم (اصطلاحاً) عرفه شيخ الإسلام بأنه: «الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكية، والقوابل الأرضية كما يزعمون» مجموع الفتاوى (35/ 192).

ص: 195

وأن الكذب في أخبار المنجمين أضعاف أضعاف ما فيها من الصدق.

ثم ذكر رحمه الله هذه المناظرة كشاهد على ما ذكره من كذب المنجمين وفساد صنعتهم

(1)

.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام: «وأخبر أن الله إذا قضى بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خَضَعَاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان حتى إذا فزع عن قلوبهم، قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وأن كل أهل سماء يخبرون أهل السماء التي تليهم حتى ينتهي الخبر إلى سماء الدنيا، وهناك مسترقة السمع بعضهم فوق بعض، فربما سمع الكلمة قبل أن يدركه الشهاب، بعد أن يلقيها، قال صلى الله عليه وسلم:(فلو أتوا بالأمر على وجهه ولكن يزيدون في الكلمة مائة كذبة)

(2)

، وهكذا المنجمون، حتى إني لما خاطبتهم بدمشق وحضر عندي رؤساؤهم، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها، قال لي رئيس منهم: والله إنا نكذب مائة كذبة حتى نصدق في كلمة»

(3)

.

وجاء في مختصر الفتاوى المصرية: «ولما ناظرت بدمشق من حضرني من رؤسائهم وبينت له فساد صناعتهم بالأدلة قال: والله إنا لنكذب مائة كذبة حتى نصدق في واحدة.

وذلك أن مبني علمهم على أن الحركات العلوية هي السبب في الحوادث والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، وهذا إنما يكون إذا علم السبب التام، وهؤلاء أكثر ما يعلمون -إن علموا- جزءاً يسيراً من جملة الأسباب الكثيرة»

(4)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (35/ 166 - 172).

(2)

رواه البخاري كتاب: تفسير القرآن. باب: قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)} [الحِجر:18] برقم (4701)

(3)

مجموع الفتاوى (35/ 172)، الفتاوى الكبرى (1/ 62).

(4)

مختصر الفتاوى المصرية (ص: 151).

ص: 196

‌المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌المسألة الأولى: مناقشة أصل الشبهة عند المنجمين، وذلك من وجهين اثنين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

بين شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في هذه المناظرة كذب المنجمين وفساد صناعتهم، وأقام الحجة عليهم بذلك، وبين أصل انحرافهم واغترارهم بصناعتهم، "وذلك أن مبنى علمهم على أن الحركات العلوية هي السبب في الحوادث، والعلم بالسبب يوجب العلم بالمُسبَب"

(1)

؛ فلما اعتقدوا أن حركات النجوم والكواكب العلوية هي السبب في ما يقع من حوادث أرضية، وأنها مستقلة بالتأثير، ظنوا أن الاشتغال بتعلم حركات الكواكب وحساب النجوم يعرف من خلاله ما سيحدث ويقع في مستقبل الأيام والشهور من حوادث ووقائع تحدث لبني آدم.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

قد دل العقل والنقل على فساد هذه الشبهة وبطلان هذه الصنعة، أما الأدلة النقلية فكل حديث دل على كذب المنجمين ودجلهم، والوعيد لمن ذهب إليهم أو صدقهم، فهو دليل على فساد صنعتهم وسوء مذهبهم وبطلان طريقتهم، وكل نص

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 173).

ص: 197

في القرآن أو في السنة يدل على انفراد الله بالتدبير والخلق ففيه رد على هؤلاء وبرهان على فساد صنعتهم، وكذلك كل آية تدل على انفراده سبحانه بعلم الغيب فهي دليل على هذا أيضاً، وكذلك كل نص دل على أن الكواكب مسخرة بأمر الله وتقديره فهي أيضاً رد عليهم.

ويهمنا هنا أن نلقي الضوء على ما احتج به شيخ الإسلام على هؤلاء المنجمين من الأدلة العقلية على فساد هذه المقولة التي ذكروها، والشبهة التي قرروها، فقد بين رحمه الله ذلك من وجوه عدة، وهو وإن لم يذكر في المناظرة إلا وجهاً واحداً -وذلك لأنه إنما حكى ما حدث على سبيل الاختصار والإجمال لا التفصيل والاسترسال-، إلا أنه قد بين في مواضع كثيرة من كتبه أدلة أخرى على فساد هذه الشبهة خصوصاً، وفساد صناعة المنجمين عموماً، وسأذكر ما وقفت عليه منها وهي كالآتي:

أولاً: بين شيخ الإسلام رحمه الله أنه حتى ولو كان لهذه الكواكب سبب وتأثير، فإنما هي جزء من السبب المؤثر وليست مؤثراً تاماً بنفسها "بل تأثير الأرواح وغيرها من الملائكة أشد من تأثيره، وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض، وكذلك تأثير قلوب الآدميين بالدعاء وغيره من أعظم المؤثرات باتفاق المسلمين"

(1)

قال شيخ الإسلام: «هؤلاء أكثر ما يعلمون -إن علموا- جزءاً يسيراً من جملة الأسباب الكثيرة ولا يعلمون بقية الأسباب»

(2)

.

ثم ضرب مثالاً على هذا فقال: «مثل من يعلم أن الشمس في الصيف تعلو الرأس حتى يشتد الحر فيريد أن يعلم من هذا -مثلاً- أنه حينئذ أن العنب الذي في الأرض الفلانية يصير زبيباً؛ على أن هناك عنباً وأنه ينضج وينشره صاحبه في الشمس وقت الحر فيتزبب، فهذا وإن كان يقع كثيراً؛ لكن أخذ هذا من مجرد حرارة الشمس جهل عظيم إذ قد يكون هناك عنب وقد لا يكون؛ وقد يثمر ذلك

(1)

مجموع الفتاوى (25/ 198 - 199).

(2)

المصدر السابق (35/ 173).

ص: 198

الشجر إن خدم وقد لا يثمر، وقد يؤكل عنباً وقد يعصر، وقد يسرق وقد يزبب وأمثال ذلك»

(1)

.

ثانياً: أن يقال حتى لو فرضنا أنه سبب مستقل فالعلم به غير ممكن وذلك لسرعة حركته؛ "لأن سرعة الفلك عظيمة جداً، حتى قالوا: إن الفرس شديد العدو إذا رفع رجله ووضعها يكون الفلك قد تحرك ثلاثة آلاف ميل، فإن كان كذلك فمن الوقت الذي ينفصل فيه الجنين عن بطن أمه إلى أن يأخذ المنجم الإسطرلاب

(2)

وينظر في الفلك قد تحرك مسافات بعيدة جداً "

(3)

.

ولأن العلم به إما أن يكون بالخبر أو بالحس أو بالعقل وهذه كلها منتفية غير موجودة، وإما أن يكون بالتجربة وهي التي يحتجون بها، وفي الواقع لا يمكن وقوعها؛ لأن من شرطها التكرار، وهم يقررون أن الكوكب المعين إذا كان في موضع معين من الفلك، فإن ذلك الوضع المعين بحسب الدرجة والدقيقة لا يعود إلا بعد الآف السنين، وعمر الإنسان كله لا يفي بذلك

(4)

.

ثالثاً: أننا "وإن فرضنا أنه سبب مستقل وسلمنا أيضا بإمكانية العلم به، فمحل تأثيره في الحقيقة لا ينضبط؛ إذ ليس تأتي خسوف الشمس في الإقليم الفلاني بالأولى من الإقليم الآخر"

(5)

. وبهذه الحجة احتج علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنجمين عندما قيل له لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر في العقرب؟! فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم؟

(1)

المصدر السابق (35/ 173).

(2)

الإسطرلاب: تُقرأ بالسين والصاد كلمة يونانية، معناها مقياس النجوم، ويقصد بها الآلة المستعملة في استخراج حساب النجوم. انظر: مفتاح العلوم للخوارزمي (ص: 253)، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (1/ 176).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (25/ 199)، مفتاح دار السعادة (2/ 133)، التنجيم والمنجمون (ص: 226).

(4)

انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 134)، الفصل لابن حزم (5/ 149).

(5)

مجموع الفتاوى (25/ 199).

ص: 199

وكان ذلك في آخر الشهر

(1)

. قال القرطبي

(2)

رحمه الله: «انظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم»

(3)

.

رابعاً: أننا لو سلمنا بكونها سبباً مستقلاً بالتأثير، أو سلمنا باجتماع الأسباب مع إمكان العلم بها، وتحقق شروط التأثير فيها، فإنه لا بد مع هذا من زوال الموانع، فإن اجتماع الشروط غير كاف حتى تزول الموانع، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فلا ريب أن ما يصغر من الأعمال الصالحة من الصلاة والزكاة والصيام والحج وصلة الأرحام ونحو ذلك مما أمرت به الشريعة يعارض مقتضى ذلك السبب؛ ولهذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والدعاء والاستغفار والعتق والصدقة عند الخسوف

(4)

، وأخبر أن الدعاء والبلاء يلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض

(5)

. والمنجمون يعترفون بذلك حتى قال كبيرهم بطليموس

(6)

: ضجيج الأصوات في

(1)

تفسير القرطبي (19/ 28 - 29)، وانظر: مجموع الفتاوى (35/ 179)، الفتاوى الكبرى (1/ 67).

(2)

هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، من كبار المفسرين، كان ورعاً متعبداً، له "الجامع لأحكام القرآن" و"التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ت: 671 هـ). انظر: الديباج المذهب (2/ 308)، تاريخ الإسلام (15/ 229).

(3)

تفسير القرطبي: (19/ 29) وانظر: مجموع الفتاوى (35/ 178 - 179).

(4)

رواه البخاري في: أبواب الكسوف. باب: الصدقة في الكسوف. برقم (1044) ومسلم كتاب الكسوف. برقم (901).

(5)

رواه البزار في مسنده (8149) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الطبراني في الأوسط (2498) والحاكم في مستدركه (1813) من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الألباني في الضعيفة (6764):«ضعيف جدا» .

(6)

هو كلوديوس بطليموس، رياضي وجغرافيّ وعالم فلك يُونانِيّ من أهل القرن الثاني للميلاد. وُلِد نحو سنة 87 م وتوفّي قُرْب الإِسْكَندريّة نحو 150 م. قيل إنه أعظم علماء الفلك الأقدمين، عاش معظم حياته في الإسكندرية. وأهم ما يذكره به العالم إنه رفض نظرية أرستاركس القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس ويرى أن العكس هو الصحيح. ألف كتاب (المِجِسطي)، وهو أول كتاب دون فيه علم الفلك. انظر: قصة الحضارة (11/ 106) إخبار العلماء بأخبار الحكماء (ص: 78).

ص: 200

هياكل العبادات بفنون الدعوات من جميع اللغات يحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات. فصار ما جاءت به الشريعة إن حدث سبب خير كان ذلك الصلاة والزكاة يقويه ويؤيده وإن حدث سبب شر كان ذلك العمل يدفعه وكذلك استخارة العبد لربه إذا هم بأمر كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين)

(1)

الحديث. فهذه الاستخارة لله العليم القدير خالق الأسباب والمسببات خير من أن يأخذ الطالع فيما يريد فعله؛ فإن الاختيار غايته تحصيل سبب واحد من أسباب النجاح إن صح، والاستخارة أخذ للنجاح من جميع طرقه، فإن الله يعلم الخيرة، فإما أن يشرح صدر الإنسان وييسر الأسباب أو يعسرها ويصرفه عن ذلك»

(2)

.

وقال رحمه الله: «وهكذا قد اعترف رؤساء المنجمين من الأولين والآخرين أن أهل الإيمان أهل العبادات والدعوات يرفع الله عنهم ببركة عباداتهم ودعائهم وتوكلهم على الله ما يزعم المنجمون أن الأفلاك توجبه ويعترفون أيضاً بأن أهل العبادات والدعوات ذوي التوكل على الله يعطون من ثواب الدنيا والآخرة ما ليس في قوى الأفلاك أن تجلبه»

(3)

.

(1)

رواه البخاري كتاب: التوحيد. باب: قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} [الأنعام:65] برقم (7390).

(2)

مجموع الفتاوى (25/ 199 - 200)

(3)

المصدر السابق (35/ 196).

ويمكن أن يضاف إلى ما ذكر من الأوجه الموضحة لفساد هذه الصنعة وبطلان هذه الشبهة ما يلي:

أن القول بصدور الحوادث الأرضية عن حركة الكواكب يقتضي أنها مختارة مريدة بنفسها، وهذا باطل لا يقول به عاقل، إذ لو كانت كذلك لما بقيت على حركة واحدة، ومسار واحد لا تحيد عنه، فهذه صفة الجماد المدبر المسخر الذي لا اختيار له. انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (5/ 147).

أن هذه الكواكب تظهر وتأفل وتبدو وتختفي، والرب المتصرف المدبر لأمر الكون يجب أن يكون حياً قيوماً. وبهذه الحجة احتج إبراهيم عليه السلام على قومه المشركين كما في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام:76].

إن إثبات تأثير النجوم والكواكب لا يمكن إلا بمعرفة طبائعها وتأثيراتها، وهم قد عجزوا عن اكتشاف هذه النجوم، فبين كل حين وآخر يكتشف نجم جديد لم يعلموا به في السابق، فإذا عجزوا عن اكتشاف وجودها فعجزهم عن إدراك طبائعها وتأثيراتها أولى وأحرى، كيف وهم يقررون أن الكوكب المعين لا يعود على حالته التي هو عليها إلا بعد آلاف السنين فكيف يمكنهم إدراكه؟!

اختلاف المنجمين في الأصول التي بنوا عليها علمهم: ومن ذلك اختلافهم في البروج التي ثؤثر في العالم واختلافهم في اسمائها واختلافهم في دلالتها على طباع الناس، واختلافهم في مدة تأثيرها، واختلافهم في المذكرة منها والمؤنثة، ومن ذلك اختلافهم في السعود من الكواكب والنحوس منها، واختلافهم في كيفية معرفة السعادة من هذه الكواكب.

ومنها اختلافهم في درجات الفلك، وصورته وشكله وحركته، وصورة كواكبه، وأشكالها وحركاتها، وغيرها من الأمور الكثيرة. انظر تفصيل هذه الاختلافات: التنجيم والمنجمون (1/ 216 - 223).

ص: 201

‌المسألة الثانية: بيان كذب المنجمين:

كذِبُ المنجمين وتخرصاتهم الباطلة أمر أثبتته الشريعة، وظهر بالتجربة، ونقل بالتواتر، وأقر به المنجمون أنفسهم كما أقر أحد رؤوساء هؤلاء المنجمين الذين ناظرهم شيخ الإسلام بهذا فقال:«والله إنا نكذب مائة كذبة حتى نصدق في كلمة»

(1)

.

وهذا الأمر قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم غاية البيان كما في حديث عائشة رضي الله عنها-قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان. فقال: (ليسوا بشيء) فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثونا أحياناً بشيء فيكون حقاًّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تلك الكلمة من الحق يحفظها من الجني فيقرها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة)

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 172).

(2)

رواه البخاري كتاب: الأدب. باب: قول الرجل للشيء ليس بشيء، وهو ينوي أنه ليس بحق. برقم (6213) ومسلم كتاب السلام برقم (2228).

ص: 202

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن الأمور الغيبية التي يخبر بها المنجمون، ويسمونها أحكام النجوم، هي من جنس أخبار الكهان التي حكم عليها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ليست بشيء

(1)

.

ومن الأدلة التي استدل بها شيخ الإسلام رحمه الله على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض -وصف سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه -فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من- تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء)

(2)

.

وما أجمل كلام قتادة بن دعامة السدوسي

(3)

رحمه الله عندما قال: «إن الله تعالى إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها نهتدي بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد أخطأ حظه، وقال برأيه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. وإن ناساً جهلة بأمر الله تعالى قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة، من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما من النجوم نجم إلا يولد به الطويل والقصير، والأحمر والأبيض، والحسن والذميم، قال: وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب، وقضى الله أنه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي

(1)

انظر: الفتاوى الكبرى (1/ 62).

(2)

سبق عزوه (ص:193).

(3)

هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي البصري، حافظ البصرة المشهور، كان عالماً مفسراً فقيهاً، ثقة ثبتاً، حجة في الحديث، توفي بواسط بالطاعون سنة (218 هـ). انظر: الطبقات الكبرى (7/ 171 - 173) سير أعلام النبلاء (5/ 269 - 283).

ص: 203

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]، ولعمري لو أن أحداً علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله تعالى بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة فأكل منها رغداً حيث شاء، ونهاه عن شجرة واحدة، فما زال به البلاء حتى وقع بما نهي عنه، ولو كان أحد يعلم الغيب لعلمه الجن حين مات نبي الله سليمان عليه السلام، فلبث الجن يعملون له حولاً في أشد العذاب، وأشد الهوان، لا يشعرون بموته، وما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] قال: قد كانت تقول قبل ذلك: إنا نعلم. فابتلاهم الله تعالى، وجعل موت سليمان للجن والإنس عبرة»

(1)

.

ومما استدل به شيخ الإسلام رحمه الله على كذبهم اعتراف كثير من زعمائهم بأن هذه الصناعة تقوم على الخرص والتوهم ومن ذلك قول أبي نصر الفارابي

(2)

: «واعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت السعد نحساً، والنحس سعداً، والحار بارداً، والبارد حاراً، والذكر أنثى، والأنثى ذكراً، ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطئ تارة»

(3)

.

(1)

رواه الطبري في تفسيره (23/ 508) وابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 2913) وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (4/ 1226).

(2)

هو أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي، الفيلسوف يعرف بالمعلم الثاني، تركي الأصل، ولد في فاراب، وانتقل إلى بغداد، نشأ فيها، له تصانيف مشهورة، من ابتغى الهدى منها ضل وحار، ومنها "الفصوص" و"إحصاء العلوم" (ت: 339 هـ) ـ. انظر: وفيات الأعيان (4/ 239) سير أعلام النبلاء (15/ 418).

(3)

مجموع الفتاوى (35/ 182)، مفتاح دار السعادة (2/ 175).

ومما يفضحهم ويكشف سترهم ما ذكره كبيرهم يعقوب بن إسحاق الكندي مما أراد أن يجعله عذراً لكثرة اغلاطهم وأكاذيبهم، وهو في الحقيقة دليل عليهم فاضح لهم حيث قال:«إن علماء الهند أحذق الناس في علم التنجيم، فأرادوا أن يعلموه أبناءهم، فعجزوا لغموضه، فأجمع علماؤهم جزءاً من ألف جزء من علمهم، فتقبله أبناؤهم، وتعلموه، فلما نشأ أبناؤهم أرادوا تعليمهم هذا العلم كما علمهم آباؤهم ذلك من قبل، فعجزوا عن ذلك، فاختصروه، فصار جزءاً من ألف جزء مما علمهم آباؤهم، ففهمه أبناؤهم وأدركته أذهانهم. ثم قال الكندي: «فما ظنك بعلم اختصر منه جزء من ألف جزء ما يبقى منه الإصابة؟» . انظر: حكم علم النجوم (ق 14/ب) - (ق 298)، نقلاً عن: التنجيم والمنجمون (202).

ص: 204

ومن أعظم ما يدل على كذبهم وأن علمهم قائم على التخرصات حكم كل فريق منهم بفساد أصول الفريق الآخر، ونقض كل جماعة منهم لأقوال من سبقهم

(1)

.

وبين شيخ الإسلام أن مما يدل على هذا معرفة الخاصة والعامة بكذبهم وتواتر الناس على تكذيبهم على مر العصور

(2)

.

(1)

"ومن هذا أن الأوائل في عهد بطليموس عملوا رصداً، واتفقوا أنه هو الصحيح، وبقي الأمر على ذلك سبعمائة سنة تقريباً، حتى كان عهد المأمون، فاتفق الرصاد في عصره على أنهم امتحنوا رصد الأوائل فوجدوهم غالطين، وأنشئوا رصداً جديداً وسموه الرصد الممتحن، وبهذا أبطلوا رصد الأوائل

ثم حكمت طائفة بعد الرصد الممتحن بستين عاماً تقريباً، وزعيمهم أبو معشر محمد بن جعفر بفساد هذا الرصد الممتحن

ثم جاءت جماعة أخرى منهم كوشيار بن باشهري الجيلي، حكموا على من سبقهم من المنجمين بالجهل

ثم جاءت جماعة بعد هؤلاء منهم أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي، الذي ذكر أنه قد عثر على أغلاط كثيرة استدركها على المتقدمين، وصنف فيها كتاباً

ثم جاءت جماعة أخرى في عهد الحاكم بالديار المصرية، خالفوا من سبقهم، وحكموا على الأرصاد السابقة بالفساد

ثم جاءت جماعة أخرى منهم أبو الريحان البيروني حكموا بفساد أصول من تقدمهم

ثم جاءت طائفة أخرى بعدهم منهم أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن الزرقالة خالفوا الأوائل والأواخر، وحكموا على رصدهم وأحكامهم بالفساد

ثم جاءت جماعة أخرى منهم أبو الصلت الأندلسي حكم على المنجمين كلهم، الأوائل منهم والأواخر بأنهم أصحاب زور وهذيان

كما حكم إمامهم الفارابي على المنجمين كلهم بأنهم كذابون مخادعون، وأن علم التنجيم باطل في ذاته لا يمكن تحصيله

ولا شك أن حكم بعضهم على بعض بفساد أصولهم وصناعتهم دليل كاف يبين فساد الصناعة نفسها، ويبرهن على أن القوم ليس عندهم إلا الظنون الكاذبة" التنجيم والمنجمون (203 - 204).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (35/ 172)، وتجد ذلك في كثير مما أثر عن السابقين قديماً وحديثاً من شعر ونثر، بينوا فيه دجل هؤلاء وكذبهم ومن أجمل ما قيل في ذلك قول الخليل بن أحمد رحمه الله:

أبلغوا عني المنجم أني

كافر بالذي قضته الكواكب =

ص: 205

وأما ثبوت كذبهم بالواقع والتجربة فهو أشهر من أن يذكر وأكثر من أن يحصر، ومما يدل على صريح كذبهم القصص الكثيرة التي جزموا فيها بحصول أمر معين فوقع الأمر بخلاف ما جزموا به، قال شيخ الإسلام:«ولهذا قد علم الخاصة والعامة بالتجربة والتواتر أن الأحكام التي يحكم بها المنجمون يكون الكذب فيها أضعاف الصدق»

(1)

، وضرب مثالاً لذلك فقال: «ولهذا لا تزال أحكامهم كاذبة متهافتة حتى إن كبير الفلاسفة الذي يسمونه "فيلسوف الإسلام" يعقوب بن إسحاق الكندي

(2)

عمل تسييرا لهذه الملة: زعم أنها تنقضي عام ثلاث وتسعين وستمائة، وأخذ ذلك منه من أخرج (مخرج الاستخراج) من حروف كلام ظهر في الكشف لبعض من أعاده ووافقهم على ذلك من زعم أنه استخرج بقاء هذه الملة من حساب الجمل الذي للحروف التي في أوائل السور، وهي مع حذف التكرير أربعة عشر حرفاً. وحسابها في الجملة الكثير ستمائة وثلاثة وتسعون. ومن هذا أيضا ما ذكر في التفسير أن الله لما أنزل {الم} ، قال بعض اليهود: بقاء هذه الملة إحدى وثلاثون فلما أنزل بعد ذلك {الر} ، و {الم} ، قالوا. خلط علينا»

(3)

.

= عالم أن ما يكون وما كا

ن قضاء من المهيمن واجب

موقن أن من تكهن أو

نجم كل على المقادير كاذب

وقول الآخر:

من كان يخشى زحلاً

أو كان يرجو المشتري

فإنني منه وإن

كان أبي الأدنى بري

وقول الآخر:

خوفني منجم أخو خبل

تراجع المريخ في برج الحمل

فقلت دعني من أباطيل الحيل

المشتري عندي سواء وزحل

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 172).

(2)

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، وهو أحد أبناء ملوك كندة، وهو متبحر في فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية، متخصص في أحكام النجوم، نشأ في البصرة، ثم انتقل إلى بغداد، (ت: 260 هـ). انظر: الفهرست لابن النديم (ص: 357)، الأعلام للزركلي (8/ 195).

(3)

مجموع الفتاوى (35/ 189 - 190)، ومن أشهر تلك القصص والحوادث ما يلي: =

ص: 206

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ما ذكره الطبري وغيره في حوادث سنة سبع وثلاثين أن منجماً لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما خرج لمقاتلة الخوارج، فأشار عليه بسير وقت من النهار، وقال: إن سرت في غير ذلك الوقت لقيت أنت وأصحابك ضراًّ شديداً، فخالفه وسار في الوقت الذي نهاه عن السير فيه، فلما فرغ من النهر حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:«لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون: سار في الساعة التي أمره بها المنجم فظفر» . فما غزا رضي الله عنه غزوة بعد رسول الله أتم منها، حيث إنه لم ينجو من الخوارج إلا عدد قليل. انظر: تاريخ الطبري (6/ 47)، التنجيم والمنجمون (ص: 209 - 210).

ما أجمع عليه المنجمون من خراب العالم في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بدعوى أن الكواكب الستة تجتمع فيه في الميزان، فيكون طوفان الريح في سائر البلدان، فارتعد جهلة الناس، وتأهبوا بحفر مغارات في الجبال، وأسراب في الأرض، خوفاً من ذلك، فلما كانت تلك الليلة التي أشاروا إليها لم ير ليلة مثلها في سكونها وركودها وهدوئها، فظهر كذب المنجمين واستبانت حقيقة حالهم، حتى نظر الشعراء في تكذيب المنجمين، أشعاراً منها قصيدة مطلعها:

مزق التقويم والزيج فقد بان الخطأ

إنما التقويم والزيج هباء وهوا

انظر: الكامل لابن الأثير (11/ 528)، التنجيم والمنجمون (ص: 210).

ما زعمه المنجمون من أن المعتصم لا يفتح عمورية، وراسلته الروم بأنا نجد ذلك في كتبنا، أنه لا تفتح مدينتنا إلا في وقت إدراك التين والعنب، وبيننا وبين ذلك الوقت شهور يمنعك من المقام بها البرد والثلج، فأبى أن ينصرف، وأكب عليها ففتحها، فأبطل ما قالوا، فأنشأ أبو تمام قصيدة يمدح المعتصم فيها، ويذكر حريق عمورية وفتحها، ويبين كذب المنجمين وفساد علمهم المزعوم فقال:

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

أين الرواية أم أين النجوم وما

صاغوه من زخرف فيها ومن كذب

تخرصًّا وأحاديثًا ملفقة

ليست بنبع إذا عدت ولا غرب

عجائباً زعموا الأيام مجفلة

عنهن في صفر الأصفار أو رجب

وخوفوا الناس من دهياء مظلمة

إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب

وصيروا الأبرج العليا مرتبة

ما كان منقلباً أو غير منقلب

يقضون بالأمر عنها وهي غافلة

ما دار في فلك منها وفي قطب

لو بينت قط أمراً قبل موقعه

لم تخف ما حل بالأوثان والصلب

انظر: التنجيم والمنجمون (ص:211).

ومن ذلك إجماع المنجمين في زمن الواثق بالله أنه يعيش في الخلافة دهراً طويلاً، =

ص: 207

وبين شيخ الإسلام رحمه الله أن مما يدل على ظهور كذبهم تناقض أحكامهم، قال رحمه الله: «وكذلك دعوى المدعي أن نجم النبي صلى الله عليه وسلم كان بالعقرب والمريخ وأمته بالزهرة وأمثال ذلك: هو من أوضح الهذيان المباينة لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم لما

= وقدروا له خمسين سنة مستقبلة من يوم نظروا ولم يعش بعد ما نظروا إلا عشرة أيام ثم توفي. وانظر: تاريخ الطبري (11/ 24)، التنجيم والمنجمون (ص:211).

ومن ذلك اتفاقهم سنة اثنتين وتسعين ومائتين في قصة القرامطة على أن المكتفي بالله إن خرج لمقاتلتهم كان هو المغلوب الملزوم، وكان المسلمون قد لقوا منهم على توالي الأيام شراًّ عظيماً، وخطباً جسيماً، من ذلك أنهم قتلوا النساء والأطفال، واستباحوا الحريم والأموال، وهدموا المساجد، وربطوا فيها خيولهم ودوابهم، وقصدوا وفد الله وزوار بيته فأوقعوا فيهم القتل الذريع، والفعل الشنيع، وأباحوا محارم الله، فعزم المكتفي على الخروج إليهم بنفسه، فاجتمع المنجمون، وأشاروا على الخليفة أن لا يخرج؛ فإنه إن خرج لم يرجع، وبخروجه تزول دولته، وبهذا تشهد النجوم التي يقضي بها طالع مولده، فخالفهم المكتفي بالله وخرج وأقام بالرقة حتى أخذ أعداء الله جميعاً، وسيقت جموعهم بالسيف. انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 143)، التنجيم والمنجمون (ص: 212).

ومن ذلك النكبات التي حلت بمن تقيد بهذا العلم في أفعاله وأسفاره ومنها:

حال أبي علي بن مقلة الوزير، وتعظيمه لأحكام النجوم، ومراعاته لها أشد المراعاة، ودخوله داراً بناها بطالع زعم الكذابون أنه طالع سعد، ولا يرى به في الدار مكروهاً، فقطعت يده ولسانه، وخربت داره فصارت كوماً، ونكب أقبح نكبة نكبها وزير. انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 144)، التنجيم والمنجمون (ص: 213).

ومن ذلك أيضاً أن المنجمين حكموا للحاكم بأمر الله بركوب الحمار على كل حال، وألزموه أن يتعاهد الجبل المقطم في أكثر الأيام، وينفرد وحده بخطاب زحل بما علموه إياه من الكلام، ويتعاهد فعل ما وضعوه له من البخورات والأعزام، وحكموا بأنه ما دام على ذلك، وهو يركب الحمار فهو سالم النفس عن كل إيذاء، فلزم ما أشاروا به عليه، فجعل الله العزيز العليم، رب الكواكب ومسخرها، ومدبرها أن هلاكه كان في ذلك الجبل، وعلى ذلك الحمار، فإنه خرج بحماره إلى ذلك الجبل على عادته، وانفرد بنفسه، منقطعاً عن موكبه، وقد استعد له قوم بسكاكين، فقطعوه هنالك للوقت والحين، ثم أعدموا جثته فلم يعلم لها خبر. انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير (9/ 314)، التنجيم والمنجمون (213). والقصص في كذب المنجمين كثيرة جداً، وفيما ذكر كفاية لمن أراد معرفة حقيقتهم وما هم عليه من الكذب والأغاليط.

ص: 208

يدعونه من هذه الأحكام فإن من أوضح الكذب قولهم: إن نجم المسلمين بالزهرة ونجم النصارى بالمشترى، مع قولهم إن المشترى يقتضي العلم والدين والزهرة تقتضي اللهو واللعب. وكل عاقل يعلم أن النصارى أعظم الملل جهلا وضلالة، وأبعدهم عن معرفة المعقول والمنقول، وأكثر اشتغالا بالملاهي وتعبدا بها.

والفلاسفة متفقون كلهم على أنه ما قرع العالم ناموس أعظم من الناموس الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أكمل عقلاً وديناً وعلماً باتفاق الفلاسفة حتى فلاسفة اليهود والنصارى فإنهم لا يرتابون في أن المسلمين أفضل عقلاً وديناً

، فإذا كان المسلمون باتفاق كل ذي عقل أولى أهل الملل بالعلم والعقل والعدل وأمثال ذلك مما يناسب عندهم آثار المشترى والنصارى أبعد عن ذلك وأولى باللهو واللعب وما يناسب عندهم آثار الزهرة كان ما ذكروه ظاهر الفساد»

(1)

.

وبهذه الأوجه كلها يتبين بوضوح فساد صناعتهم شرعاً وعقلاً، وحقيقة ما هم عليه من الكذب والدجل والتناقض.

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 187 - 188).

ص: 209

الفصل الرابع:

مناظرته مع بعض الفلاسفة

ويشتمل على مبحثين:

المبحث الأول: عرض المناظرة.

المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في المناظرة.

* * *

ص: 211

‌المبحث الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

تعتبر حجة نفي التجسيم عن الله وتنزيهه عن الحيز والجهة والمكان، أبرز الحجج التي يحتج بها نفاة الصفات من الأشاعرة ومن سبقهم من أهل الكلام، وقد حاول الرازي

(1)

في كتابه (أساس التقديس)، أن يقرر هذا الأمر بشتى السبل ومختلف الطرق، وكان من عجيب ما استدل به على نفي الجسمية والحيز والجهة عن الله -جل وعلا-؛ استدلاله بسورة الإخلاص، وخصوصاً بما جاء من وصف الله عز وجل فيها أنه (أحد).

وقد قام شيخ الإسلام بالرد عليه فيما افتراه على آي الكتاب، وما حرفه من معان ولبَّس فيه من جواب، وبين أن ما احتج به إنما هي حجة عليه لا له، ودليل على بطلان قوله لا صحته، وبين شيخ الإسلام رحمه الله خطأ ما فسر به الرازي توحيد الله سبحانه وبطلان ما فسر به اسم (الأحد)، وأن هذا الانحراف في تفسير

(1)

هو أبو عبد الله، محمد بن عمر بن الحسين البكري الطبري الرازي، الملقب بابن خطيب الري، كثير الرحلة، اشتهر بالذكاء، اشتغل بالكلام والفلسفة، وبدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، ولكنه ندم وتراجع في آخر حياته، وكان يبكي ويقول: ليتني لم أشتغل بالكلام، من مصنفاته: التفسير الكبير، أساس التقديس، (ت: 606 هـ). انظر: وفيات الأعيان (3/ 381) السير (21/ 501) وتاريخ الإسلام (12/ 137) طبقات الشافعية (8/ 81).

ص: 213

التوحيد ليس مقتصراً على الرازي فقط، بل هو مشترك بين طوائف المعطلة، مستمد من أقوال الفلاسفة، وحكى هذه المناظرة التي تبين فساد تصورهم لتوحيد الله عز وجل، وقلبهم لمفهومه بما يخالف العقول المستقيمة والفطر السليمة واللغة العربية والنصوص الجلية

(1)

.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ولهذا خاطبني بعض الأعيان من الفضلاء المتفلسفين وأخذ يقول: إن الفلاسفة يوحدون وأنهم من أعظم الناس توحيدًا ويفضلهم على النصارى في التوحيد.

فبينت له أن الأمر ليس كذلك بل النصارى في التوحيد خير منهم، وأنهم مشركون لا موحدون.

فقلت: الفلاسفة الذين تذكرهم: إما مشركون يوجبون الشرك ويوالون عليه ويعادون، وإما صابئون

(2)

يسوغون الشرك ويجوزون عبادة ما سوى الله وكتبهم مشحونة بهذا؛ ولهذا كان أحسن أحوالهم أن يكونوا صابئة أو هم علماء الصابئة، وهل كان نمرود وقومه وفرعون وقومه وغير هؤلاء إلا منهم؟ وهل عبدت الكواكب وبنيت لها الهياكل وأصنامها إلا برأي هؤلاء المتفلسفة؟ بل وهل عبد الصالحون وعكف على قبورهم ومثلت صورهم إلا بآرائهم؟ حتى الذين كانوا متظاهرين

(1)

انظر: بيان تلبيس الجهمية (3/ 94 - 142).

(2)

قسَّم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الرد على المنطقيين"(ص:288) الصائبة إلى نوعين: النوع الأول: صائبة حنفاء موحدون أثنى الله عليهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [البقرة:62] النوع الثاني: صائبة مشركون: صوروا الأصنام على صور الكواكب ثم عبدوها من دون الله، ولحقتهم هذه التسمية أخذاً من الصبوة وهي الميل، وهؤلاء هم المقصدون هنا. وانظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 36)، والملل والنحل (2/ 63).

ص: 214

بالإسلام منهم قد صنفوا في الإشراك بالله وعبادة الكواكب والأصنام، وذكروا ما في هذا الشرك من الفوائد وتحصيل المقاصد، وبالاضطرار يعلم من عرف دين الرسل محمد وغيره أنهم إنما بعثوا بالنهي عن هذا الإشراك، وجميع الرسل بعثوا بذلك كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزُّخرُف:45]، وقال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقد اتفق المسلمون على أن دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى خير من دين من لا كتاب له من المشركين والصابئين وغيرهم، والعلماء على تنوع أصنافهم من الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأرباب المقالات، وإن اختلفوا في الصابئين فلتنوعهم؛ ولهذا كان للفقهاء فيهم طريقان: أحدهما أن في كونهم من أهل الكتاب قولين للشافعي وأحمد، والطريق الثاني: أنهم صنفان فمن تدين منهم بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا. هذا هو المختار عندهم، وأما الشرك الذي في النصارى فإنما ابتدعوه تشبهًا بأولئك فكان فيهم قليل من شرك أولئك، قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30] كالذين قالوا الملائكة أولاد الله كما يقوله هؤلاء المتفلسفة الصابئون فإنهم كانوا قبل النصارى.

قلت: وأما التوحيد الذي يذكر عن الفلاسفة من نفي الصفات فهو مثل تسمية المعتزلة لما يقولونه توحيدًا وهذا في التحقيق تعطيل مستلزم للتمثيل والإشراك، وأما النصارى فهم لا يقولون إن ثم إلهين متباينين بل يقولون قولاً متناقضًا حيث يجعلون الثلاثة واحدًا ويجعلون الواحد هو المتحد بالمسيح دون غيره مع عدم إمكان تميز واحد عن غيره وهذا الكفر دون كفر الفلاسفة بكثير وتكلمت في ذلك بكلام بعد عهدي به.

وفساد هذا وتناقضه أعظم حتى لقد قال عبد الله بن المبارك: «إنا لنحكي قول

ص: 215

اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية»

(1)

، وهذا يتبين بما نقوله: وهو أن ما فسر به هؤلاء اسم الواحد من هذه التفاسير التي لا أصل لها في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة باطل بلا ريب شرعًا وعقلاً ولغة.

أما في اللغة:

فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب ولا يرى منه شيء دون شيء إذ القرآن وغيره من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار من لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيرًا من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسمًا؛ إذ المخلوقات: إما أجسام، وإما أعراض عند من يجعلها غيرها، وزائدة عليها، وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحدًا امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم، وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء، وسيأتي بيان هذا ونذكر ما في اللغة من ذكر الواحد مع كونه موصوفًا ذا مقدار، بل لا يوجد في اللغة اسم واحد إلا على ذي صفة ومقدار كقوله تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزُّمَر:6]، وقال:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدَّثر:11]، وقال:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11] وسئل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: (أوَ لكلكم ثوبان؟)

(2)

وقال: (لا يصلِّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)

(3)

.

وسيأتي بسط هذا -إن شاء الله-.

(1)

رواه أبو داود في المسائل (ص:361)، والدارمي في الردّ على الجهمية (ص:26، 394) وعبد الله بن أحمد في السنَّة (1/ 111) والخلال في السنة (5/ 98) وابن بطة في الإبانة (6/ 97) والآجري في الشريعة (2/ 987).

(2)

رواه البخاري كتاب: الصلاة. باب: الصلاة في الثوب ملتحفاً به. (358)، ومسلم كتاب الصلاة. برقم (515).

(3)

رواه البخاري كتاب: الصلاة. باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه. (359) ومسلم كتاب الصلاة. برقم (516)

ص: 216

وأما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن سماه المسمي جسمًا.

وأيضًا فإن التوحيد إثبات لشيء هو واحد فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها ويتميز بها عما سواه حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية ولا مجرد عدم المثل، إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحدًا ولهذا فسر ابن كلاب

(1)

وغيره الواحد بأنه المنفرد عن غيره المباين له وهذا المعنى داخل في معنى الواحد في الشرع، وإن لم يكن إياه.

ولذلك أهل الإثبات من أهل السنة والحديث يصنفون كتب التوحيد يضمنونها ثبوت الصفات التي أخبر بها الكتاب والسنة؛ لأن تلك الصفات في كتابه تقتضي التوحيد ومعناه.

وأما الشرع فنقول مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم يُعرّف مسميات تلك الأسماء حتى يعطوها حقها ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين»

(2)

.

(1)

هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان البصري، رأس المتكلمين في البصرة في عصره، صاحب التصانيف في الرد على المعتزلة، وربما وافقهم، كان يلقب: كلابا؛ لأنه كان يجر الخصم إلى نفسه ببيانه وبلاغته. وهو أول من أحدث القول بالكلام النفسي. من مصنفاته "الصفات" و"خلق الأفعال"(ت:241 هـ). انظر: السير (11/ 174) تاريخ الإسلام (5/ 981) الوافي بالوفيات (17/ 104).

(2)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 142 - 149).

ص: 217

‌المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية في المناظرة:

‌مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة:

وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

إن ما قرره المخالف من تعظيم قول الفلاسفة في التوحيد، وجعلهم أعظم الناس توحيداً، إنما هو نتيجة محتمة للشبهة المتقررة في ذهن معطلة الصفات ونفاتها ممن خاض غمار الكلام والفلسفة، وغاص في لججها، ونهل من مشربها، من أن توحيد الله إنما يكون بنفي صفاته واسمائه وخصائصه الواجبة له سبحانه في ذاته وعظيم صفاته وتعطيله عن نعوته وكماله، وكلما زاد المرء في درجات التعطيل كلما ارتقى عندهم في سلم التوحيد، حتى صار عندهم أكثر الناس جحداً وتعطيلاً، هو أعظم الناس فقهاً وتوحيداً، ولما كانت الفلاسفة من أكثر الطوائف تعطيلاً لذات الله، ووصفاً له بالسلبيات، ونفياً لما يستحقه من النعوت والصفات، فقد تقرر عند هذا الرجل أنهم أعظم الناس وأفضلهم توحيداً.

وإنما أُتي هذا الرجل وأضرابه من تسميتهم للأشياء بغير مسمياتها الشرعية، وجعلهم المسميات الشرعية علماً على معتقداتهم الباطلة وآرائهم المنحرفة، وإدخالهم في مسمى التوحيد ما ليس منه حيث جعلوا نفي الصفات داخلاً في التوحيد، وإثبات الصفات منافياً للتوحيد ومناقضاً له، وجعلوا إثباتها تشبيهاً وتجسيماً، بل جعلوه شركاً وتنديداً، فألحدوا في أسماء الله وآياته وحرفوا الكَلِم

ص: 218

عن مواضعه، ولبسوا الحق بالباطل.

وعرفوا الواحد بأنه: ما لا صفة له ولا قدر ولا يعلم منه شيء دون شيء ولا يرى ولا يشار إليه

(1)

.

وهذا القول هو محصل تعريفات الفلاسفة للتوحيد والواحد وإن اختلفت عباراتهم في ذلك، فأرسطو، وهو المعلم الأول للفلاسفة يرى أن الإله والذي يعبر عنه بـ (المحرك الأول) واحد من جميع الوجوه، ووحدته تعني بساطة ماهيته في التصور الذهني، بمعنى أنه غير مركب أصلاً؛ وذلك لأنه ليس بجسم

(2)

.

والفارابي يرى أن الواحد: ما لا ينقسم بالعدد، ولا ينقسم بالأجزاء

(3)

، وابن سينا

(4)

يعبر عن الواحد بأنه: ما لا ينقسم في المعنى ولا في الكم، وهو الذي لا فصل له ولا ند ولا عرض له، ولا يشار إليه، ولا يكون خارج العالم ولا داخله ولا أين له ولا متى

(5)

.

ومن تعبيرات المتكلمين في تعريف الواحد: هو ما ليس بمنقسم ولا مركب وما لا حد له ولا غاية

(6)

. ومنها أيضاً: ما ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه

(1)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 224)، بيان تلبيس الجهمية (3/ 45).

(2)

انظر: الملل والنحل (2/ 445 - 446).

(3)

فصوص الحكم (ص: 132).

(4)

هو أبو علي، الحسين بن عبد الله بن سينا، الفيلسوف المشهور، كان يقول بضلالات وكفريات كقدم العالم، ونفي المعاد الجسماني، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وقررها في مؤلفاته، وكان ابن سينا - كما أخبر عن نفسه - هو وأبوه، من أهل دعوة الحاكم، من القرامطة الباطنيين العبيديين، من مصنفاته "القانون في الطب" و"المعاد" (ت: 428 هـ). انظر: وفيات الأعيان (1/ 419)، لسان الميزان (2/ 291).

(5)

انظر: الإشارات والتنبيهات (3/ 44)، رسالة أضحوية في أمر المعاد (ص: 44) آراء الفلاسفة (ص: 379).

(6)

انظر: بيان تلبيس الجهمية (3/ 45).

ص: 219

بحس ولا يتميز منه شيء من شيء ونحوها من العبارات التي مؤداها واحد وهو تعطيل ذات الله وإرجاع وجوده إلى الوجود الذهني المجرد من كل صفة، وعن كل ما يؤدي -في نظرهم- للتقسيم والكثرة

(1)

.

ومبنى شبهتهم أن الصفات أعراض يستلزم إثباتها لله التكثر والتعدد في ذاته، والتعدد يستلزم التركيب، والتركيب ممتنع في حق واجب الوجود، وسبب ذلك -كما بينه شيخ الإسلام- أن الفلاسفة يجعلون أخص وصف لله هو وجوب وجوده بنفسه، وإمكان ما سواه، والتركيب المذكور يوجب افتقاره لغيره وهذا يمنع من كونه واجبا بنفسه

(2)

.

قال شيخ الإسلام: رحمه الله: «وأصل هذا كله ما ادعوه من أن إثبات الصفات تركيب ممتنع، وهذا أخذوه عن المعتزلة ليس هذا من كلام أرسطو وذويه

، ثم بنوا هذا على أن الواحد لا يكون فاعلاً وقابلاً؛ لأن ذلك يستلزم التركيب وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؛ لأن صدور اثنين يقتضي تعدد المصدر فمصدر (ج) غير مصدر (ب) وذلك يستلزم التركيب الممتنع، فمدار كلامهم في التوحيد والصفات كله على لفظ التركيب»

(3)

.

وهذه الشبهة في فهم التوحيد وتفسير معناه، ليست مقتصرة على الفلاسفة وحسب، بل هي شبهة مشتركة بين الفلاسفة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام، وقد ذكر شيخ الإسلام في الموضع السابق أن شبهة التركيب إنما استفادها متأخرو الفلاسفة كابن سينا وأمثاله من المعتزلة، وليس هذا من كلام أرسطو ومن معه

(4)

، وذلك أن الفلاسفة المنتسبين للإسلام لم يسلكوا في إثبات وجود (واجب الوجود) طريقة أرسطو، وإنما سلكوا طريقاً مركبة من طريقة

(1)

انظر: المصدر السابق (3/ 45).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (6/ 344).

(3)

الرد على المنطقيين (ص: 314).

(4)

انظر: المصدر السابق (ص:314).

ص: 220

المتكلمين وطريق سلفهم من الفلاسفة المشائين

(1)

.

وقد كان معنى التوحيد وتفسيره مما ناظر به الإمام أحمد المعتزلة في عصره قال رحمه الله: «قلنا: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته، ولا نقول ولم يزل ونوره. ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر؟ ولا كيف قدر؟

فقالوا: لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء

(2)

.

فقلنا: نحن نقول قد كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته؟

»

(3)

إلى آخر ما أجاب به الإمام أحمد عن شبهتهم، مما ليس هذا موضع إيراده، وإنما المراد الإشارة إلى قِدم هذه الشبهة وجذورها الفاسدة

(4)

.

‌الوجه الثاني: الجواب على الشبهة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله فساد قول المنازع وضعف ما احتج به على قوله الفاسد ويمكن إجمال ردوده في طرق أربع:

‌أولاً: بيان المفهوم الصحيح للتوحيد:

من عظيم ما اعتنى به شيخ الإسلام رحمه الله في معظم مصنفاته ورسائله بيان حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، ويعتبر هذا المسلك من أهم المسالك في الرد على مثل هذه الشبه والأباطيل وبيان زيفها وانحرافها، وذلك أنه إذا اتضح طريق الصواب وعرفت معالمه وتبينت حدوده وملامحه،

(1)

انظر درء تعارض العقل والنقل (3/ 335)(9/ 275) ومجموع الفتاوى (1/ 49).

(2)

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «مقصودهم أنه لم يكن موجودًا بشيء يقال إنه من صفاته» . بيان التلبيس (3/ 98).

(3)

الرد على الزنادقة الجهمية (ص:140)

(4)

انظر بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 430)، (3/ 94 - 98) ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 224)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 385 - 388).

ص: 221

عرف بذلك كل طريق يخالفه ويناقضه، فإذا عرف الناس مفهوم التوحيد الصحيح الذي جاءت الشريعة به، عرفوا بذلك بطلان كل مفهوم يخالفه أو يباينه أو يناقضه أو يعارضه، وعلى رأس ذلك هذه الأقاويل الباطلة والشبه المنحرفة التي جعلت التوحيد هو النفي والتعطيل مخالفة للمعاني الدينية والمصطلحات الشرعية، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«وهم يفسرون الواحد والتوحيد بما ليس هو معنى الواحد والتوحيد في كتاب الله وسنة رسوله، وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، وهذا أصل عظيم تجب معرفته»

(1)

.

وبين شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع كثيرة من كتبه أن التوحيد الذي جاءت به الرسل يتناول أمرين:

1) التوحيد العلمي القولي

(2)

: وهو التوحيد في العلم والخبر، وهو توحيد الله في ربوبيته واسمائه وصفاته.

2) توحيد القصد والطلب

(3)

: وهو توحيد الألوهية والعبادة فلا يعبد إلا الله وحده لا شريك له.

وكثيراً ما يمثل لهما شيخ الإسلام بسورتي الإخلاص والكافرون، فسورة الإخلاص جاءت بالتوحيد العلمي وسورة الكافرون جاءت بالتوحيد العملي.

(4)

ويبين شيخ الإسلام ترابط هذين النوعين من التوحيد وتلازمهما فيقول: «الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما

(1)

بيان تلبيس الجهمية (464/ 1)، انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 224).

(2)

ويسميه شيخ الإسلام تارة بـ (توحيد العلم) أو (التوحيد القولي العملي)، أو (توحيد القول والعلم)، أو (توحيد العلم والقول).

(3)

ويسميه شيخ الإسلام (التوحيد العملي الإرادي) أو (التوحيد في القصد والإرادة والعمل) أو (توحيد العمل والإرادة) أو توحيد (الإرادة والقصد) أو (توحيد العمل).

(4)

انظر: التدمرية (ص: 5) وأمراض القلوب وشفاؤها (ص: 62)، الصفدية (2/ 315)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 566)، منهاج السنة النبوية (3/ 290).

ص: 222

اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل»

(1)

.

وقد اعتنى شيخ الإسلام رحمه الله ببيان توحيد الألوهية؛ لأنه التوحيد الذي خالفت فيه أكثر الطوائف، وبعثت الرسل للدعوة إليه ومحاربة ما ناقضه من الشرك والخرافات، قال رحمه الله مبيناً حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرسل ومفهومه في الكتاب والسنة:«وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئا فقد وحده، ومن عبد من دونه شيئا من الأشياء فهو مشرك به، ليس بموحد مخلص له الدين، وإن كان مع ذلك قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد»

(2)

، وقال رحمه الله: «أما التوحيد الذى ذكره الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة فهو كما قال الأئمة: شهادة أن لا اله الا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، فأخبر أن الإله إله واحد، لا يجوز أن يتخذ إله غيره فلا يعبد الا إياه، كما قال في السورة الأخرى: وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]، وقال:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]- إلى قوله: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39]، وكما قال:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزُّمَر:3]، وكما قال:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان:68]، والشرك الذي ذكره الله في كتابه إنما هو عبادة غيره من المخلوقات، كعبادة الملائكة أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء أو تماثيلهم، أو قبورهم، أو غيرهم من الآدميين ونحو ذلك مما هو كثير في

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 249).

(2)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 138).

ص: 223

هؤلاء الجهمية ونحوهم ممن يزعم أنه محقق في التوحيد وهو من أعظم الناس إشراكاً»

(1)

.

وكلام شيخ الإسلام في هذا الباب كثير مبثوث في جل كتبه ومؤلفاته مع تركيزه على بيان ما يضاد التوحيد من الشرك وأنواعه ووسائله، وقد أفرد ذلك في كتب مستقلة رحمه الله وغفر له-

(2)

.

‌ثانياً: بيان فساد تفسيرهم وتعريفهم للتوحيد

، وذلك من ثلاثة أوجه:

‌الوجه الأول: بيان فساده لغة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله بطلان تفسيرهم للتوحيد والواحد بأنه الذي لا ينقسم ولا يتجزأ وليس بجسم ولا يشار إليه ولا يرى، من عدة وجوه:

أولأ: أن أهل اللغة مجمعون على بطلان هذا المعنى، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب ولا يرى منه شيء دون شيء، إذ القرآن وغيره من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار من لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيرًا من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسمًا

وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحدًا امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء»

(3)

.

ثانياً: أن من المعروف في لغة العرب واصطلاحهم أنهم يطلقون على كثير من المخلوقات أنه واحد، وهو جسم من الأجسام التي يشار إليه وتثبت له الصفات،

(1)

التسعينية (ص: 208)، وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 264 - 265).

(2)

منها: (الجواب الباهر في زوار المقابر)، (الرد على الأخنائي)، (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)، (الرد على البكري)، وغيرها من تصانيف الشيخ ومؤلفاته.

(3)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 146 - 147).

ص: 224

وهذا مما «هو معلوم بالاضطرار من لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيرًا من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسمًا»

(1)

بل «لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد، الأحد، الوحيد إلا فيما يسمونه هم جسما ومنقسما»

(2)

، وكان ذا صفة ومقدار.

وضرب شيخ الإسلام أمثلة كثيرة على ذلك مما جاء في الكتاب والسنة ومن ذلك:

أ -قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزُّمَر:6].

ب -وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدَّثر:11].

ت -وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11].

ث -وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحدكم في ثوب واحد وليس على عاتقه منه شيء)

(3)

.

ج -قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَمْشي أحدكم في نعل واحد)

(4)

.

ح -والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وفرس واحد وجمل واحد، ودرهم واحد، وثوب واحد.

وكل هذه الموصوفات إنما هي أجسام مشار إليها، وهي تدل على استخدام الواحد فيما هو جسم خلافا لما يزعمه هؤلاء، "فكيف يجوز أن يقال إن الوحدة لا يوصف بها شيء من الأجسام وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام؟! "

(5)

.

(1)

المصدر السابق (3/ 147).

(2)

درء التعارض (7/ 114 - 115).

(3)

سبق عزوه (ص:210).

(4)

رواه البخاري كتاب: اللباس. باب: لا يمشي في نعل واحدة. برقم (5856) ومسلم كتاب اللباس والزينة. (2097)

(5)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 193).

ص: 225

ثالثاً: أن تفسير النصوص الشرعية من الصفات وغيرها، إنما يرجع فيه إلى لغة الذين خوطبوا به، وفهمهم لهذه النصوص، أما أن تحمل على المصطلحات الكلامية والفلسفية المحدثة المبتدعة، فهذا باطل، ومخالف لكون القرآن هدى للناس، وبياناً لكل شيء، وأنه بلسان عربي مبين، ولتنذر به قومك ومن بلغ، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«إن الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها، وقد نزل بلغة قريش كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4]، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص، بل ولا يحمله إلا على معانٍ عنوها بها، إما أخص من المعنى اللغوي أو أعم، أو مغايراً له، لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو، بل يضع القرآن على مواضعه التي بينها الله لمن خاطبه بالقرآن بلغته، ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفاً للكلام عن مواضعه، ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها، كما أن من المتكلمين من يقول: الأحد هو الذي لا ينقسم، وكل جسم منقسم، ويقول: الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة، حتى يدخل في ذلك الهواء وغيره، لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بها أمته، وهى لغة العرب عموما ولغة قريش خصوصا»

(1)

.

فلا يجوز أن تكون هذه المصطلحات الحادثة هي المرجع في تفسير نصوص الكتاب والسنة التي نزلت قبل أن تنشأ هذه المصطلحات بدهور، فكيف إذا كانت هذه المصطلحات تصادم المعنى الحق الذي دلت عليه النصوص؟!

‌الوجه الثاني: بيان فساده عقلاً:

1) أن هذا المعنى الذي ذكروه للواحد إنما هو أمر مقدر في الذهن لا وجود له في الخارج، قال شيخ الإسلام: «فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر

(1)

المصدر السابق (3/ 192 - 193).

ص: 226

العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل ولا له وجود في الخارج وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولايحاط به وإن سماه المسمي جسمًا»

(1)

.

2) أن "التوحيد إثبات لشيء هو واحد، فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها ويتميز بها عما سواه حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية

، فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحدًا"

(2)

.

3) أن قولهم بأن الواحد ما لا صفة له، فوق منافاته لما جاء من وصف الله في الكتاب والسنة فهو مستلزم أيضا لعدمه

(3)

، بل ويمتنع على هذا أن يكون في الوجود شيء يطلق عليه بأنه واحد

(4)

.

4) أن لازم قول هؤلاء جحد وجود الخالق -جل وعلا-، وهذا هو منتهى قولهم وغاية تحقيقهم الإلحاد بالله سبحانه، وإنكار أن يكون في السماء رب يعبد، أو إله يصلى له ويسجد

(5)

.

5) يلزم من قولهم أن أي موجود فُرض في الوجود فهو أكمل من رب العالمين؛ وذلك لأنهم جعلوا وجوده مشروطاً بنفي وسلب جميع الأمور الثبوتية عنه، فيكون وجود أدنى مخلوق أكمل من وجوده عز وجل

(6)

!

(1)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 189).

(2)

المصدر السابق (3/ 148).

(3)

انظر: المصدر السابق (3/ 115).

(4)

انظر المصدر السابق (3/ 115)

(5)

انظر: الصفدية (1/ 242 - 244) ومجموع الفتاوى (5/ 52).

(6)

انظر الرد على المنطقيين (221).

ص: 227

‌الوجه الثالث: بيان فساده شرعاً:

1) إن هذا التوحيد المذكور لا يوجد في كتاب ولا سنة، ولا دلت عليه الآيات الكريمة ولا الأحاديث الشريفة ولا فهمه سلف الأمة من الصحابة فمن بعدهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين»

(1)

، وقال:«وكل من سمع ما جاءت به الرسل يعلم بالاضطرار أن هذه الأمور ليست مما بعث الله به رسوله، ولم يكن الرسول يعلم أمته هذه الأمور، ولا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، فكيف يكون هذا التوحيد الذي هو أصل الدين لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون، بل يعلم بالاضطرار أن الذى جاء به الرسول من الكتاب والسنة يخالف هذا المعنى الذي سماه هؤلاء الجهمية توحيدا، ولهذا ما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون ذلك»

(2)

.

2) إن أقوالهم هذه غير كافية في تحقيق التوحيد الشرعي، ولا يعتبر من جاء بها موحداً "وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئا فقد وحده، ومن عبد من دونه شيئاً من الأشياء فهو مشرك به، ليس بموحد مخلص له الدين، وإن كان مع ذلك قائلا بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد"

(3)

.

3) أن هذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد يخالفهم فيها أئمة السلف وعلماؤهم، بل حتى أئمة المتكلمين ومتقدموهم يخالفونهم في مسمى الواحد

(1)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 149).

(2)

الفتاوى الكبرى (6/ 599).

(3)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 138).

ص: 228

وتعريفه كما جاء ذلك عن ابن كلاب وغيره

(1)

.

4) أن الشرع إنما جاء في توحيد الله واسمائه وصفاته، بالنفي المجمل والإثبات المفصل، وطريقتهم هذه عكس طريقة الشرع الكريم فهي عبارة عن نفي مفصل وإثبات مجمل أو لا يكاد يكون هناك إثبات أصلا. قال شيخ الإسلام: «والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصَّل، ونفي مجمل، فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل، كما قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، قال أهل اللغة:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم:65]: أي نظيرًا يستحق مِثْل اسمه، ويقال مُسامِيًا يُسامِيه

(2)

. وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: (هل تعلم له مِثْلاً أو شبيهًا)

(3)

وأما الإثبات المفصَّل، فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته، كقوله تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، الآية بكمالها، وقوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)} [الإخلاص:1 - 3]، وقوله:{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2]، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:14 - 16]، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]

إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله

(1)

انظر: المصدر السابق (3/ 111 - 113).

(2)

انظر: الصحاح (6/ 2383) ولسان العرب (14/ 403) والتاج (38/ 308).

(3)

رواه الطبري في تفسيره (18/ 226) والبيهقي في الاعتقاد (ص: 45) والأسماء والصفات برقم (610).

ص: 229

به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل -صلى الله عليهم أجمعين-.

وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية، والقرامطة الباطنية

(1)

، ونحوهم فإنهم على ضد ذلك، يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات»

(2)

.

‌ثالثاً: بيان فساد شبهة التركيب:

فصل شيخ الإسلام جواب هذه الشبهة من عدة أوجه، وفي عدة مواضع من كتبه واكتفي هنا بأبرز ما ينقض هذه الشبهة ويظهر فسادها، وتناقض القائلين بها:

أولاً: بين شيخ الإسلام أن المركب في اللغة والمعقول من كلام بني آدم إنما يطلق على: ما ركبه غيره، وعلى ما كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمعت، وعلى ما يقبل مفارقة بعضه بعضاً، فهذا هو التركيب بمعناه اللغوي، وما يفهم من كلام الناس، وهذه الأنواع الثلاثة منتفية عن رب العالمين باتفاق المسلمين.

وأما المعنى الذي يذكره أهل الفلسفة والمنطق فهو مخالف للغة وما يعقله بنو آدم من معنى التركيب بالفطرة الأولى

(3)

.

ثانياً: أن التركيب بالمعنى الذي يذكره الفلاسفة والمتكلمون إنما هو أمر

(1)

القرامطة هم: أتباع حمدان الأشعث المعروف بقرمط، كان في الكوفة فلقيه أحد دعاة الباطنية ودعاه إلى معتقدهم، فقبل الدعوة، ثم صار يدعو الناس إليها، ولذا تعد القرامطة إحدى فرق الباطنية. انظر: فضائح الباطنية للغزالي (ص: 12 - 14)، التنبيه والرد للملطي (ص: 31)، الفرق بين الفرق (ص: 282).

(2)

التدمرية (ص: 8 - 16)، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 395).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (6/ 346)، الرد على المنطقيين (ص: 314 - 315).

ص: 230

اعتباري ذهني ليس له وجود في الخارج

(1)

.

ثالثاً: أن اتصاف الذات بصفاتها اللازمة لها لا يسمى تركيباً ولا يقتضي تعدداً لغةً ولا شرعاً، "وإنما هي ذات قائمة بنفسها مستلزمة للوازمها التي لا يصح وجودها إلا بها؛ وليست صفة الموصوف أجزاء له ولا أبعاضاً يتميز بعضها عن بعض أو تتميز عنه؛ حتى يصح أن يقال هي مركبة منه "

(2)

. قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأما تسمية الواحد الموصوف بصفاته مركباً كتسمية الحي العالم القادر الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركباً فهذا اصطلاح لهم لا يعرف شيء من الشرائع ولا اللغات ولا عقول جماهير العقلاء جعلوا هذا تركيباً»

(3)

.

رابعاً: أننا لو سلمنا بتسمية هذا الأمر تركيباً، فإن هذا التركيب لا يلزم منه الحدوث والإمكان. قال شيخ الإسلام رحمه الله: «لو فرض أن هذا يسمى مركباً: فليس هذا مستلزماً للإمكان ولا للحدوث. وذلك أن الذي علم بالعقل والسمع أنه يمتنع أن يكون الرب تعالى فقيراً إلى خلقه؛ بل هو الغني عن العالمين، وقد علم أنه حي قيوم بنفسه وأن نفسه المقدسة قائمة بنفسه وموجودة بذاته وأنه أحد صمد غني بنفسه ليس ثبوته وغناه مستفاداً من غيره وإنما هو بنفسه لم يزل ولا يزال حقاً صمداً قيوماً، فهل يقال في ذلك إنه مفتقر إلى نفسه أو محتاج إلى نفسه؛ لأن نفسه لا تقوم إلا بنفسه؟ فالقول في صفاته التي هي داخلة في مسمى نفسه هو القول في نفسه. فإذا قيل صفاته ذاتية، وقيل إنه محتاج إليها، كان بمنزلة قول القائل إنه محتاج إلى نفسه، فإن صفاته الذاتية هي ما لا تكون النفس بدونها. وكذلك إذا قلنا: ذاته موجبة لوجوده، أو هو واجب بنفسه، أو هو مقتض لوجوبه. فلو قال قائل: يلزم أن يكون معلولاً، والمعلول مفتقر، قيل له: ليست العلة هنا غير المعلول والمنتفي افتقاره إلى غيره وكونه معلولاً لسواه. وأما قيامه بنفسه فحق.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (6/ 346).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 346 - 347).

(3)

الرد على المنطقيين (ص: 224).

ص: 231

ثم هذه العبارات التي توهم معنى فاسداً: إن أطلقت باعتبار المعنى الصحيح أو لم تطلق بحال: لم يضر ذلك إذا كان المعنى الصحيح معلوماً لا يندفع. فهذا المعنى الشريف يجب التفطن له فإنه يزيل شبهاً خيالية أضلت خلقاً كثيراً ....

فليس وصف الموصوف وجزء المركب -الذي لا تقوم ذاته إلا به- إلا بمنزلة ذاته، وليس في قولنا هو مفتقر إلى نفسه ما يرفع وجوبه بنفسه فكذلك هذا. فظهر الخلل في كل المقدمتين وهو أن الصفات مستلزمة للتركيب وأن التركيب مستلزم للحاجة إلى الغير وإذا كان كل من المقدمتين باطلة: بطل هذا بالكلية»

(1)

.

خامساً: بين شيخ الإسلام رحمه الله تناقضهم فيما يطلقون عليه مسمى التركيب، قال رحمه الله: «إن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع.

قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟، فهذه معان متعددة متغايرة في العقل وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيدًا.

فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيبًا ممتنعًا.

قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة وليس هو تركيبًا ممتنعًا»

(2)

.

ويحسن بنا هنا أن نذكر كلام الإمام أحمد رحمه الله في مناظرته للجهمية في تفسير التوحيد، وبيانه لهم أن إثبات الصفات لا يناقض التوحيد، ولا يقتضي تعدداً ولا كثرة قال رحمه الله: «فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته؟

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 346 - 350).

(2)

التدمرية (ص: 40 - 41).

ص: 232

وضربنا لهم مثلاً في ذلك فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكَرَب وليف وسَعَف وخُوص وجُمَّار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق له علماً فعلم والذي لا يعلم هو جاهل، ولكن نقول لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكًا لا متى ولا كيف، قال: وسمى الله رجلاً كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدَّثر:11]، وقد كان الذي سماه وحيدًا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، وقد سماه وحيدًا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد»

(1)

.

‌رابعاً: بيان شرك الفلاسفة وأنهم من أعظم الناس شركاً:

بين شيخ الإسلام رحمه الله لمن ناظره أن الفلاسفة أبعد الناس عن التوحيد، فهم لا يأمرون بالتوحيد ولا يفعلونه، ولا ينهون عن الشرك ولا يحذرون منه، بل إنهم إما مشركون يوجبون الشرك ويوالون ويعادون عليه، أو صابئة يجوزون الشرك ويسوغونه، فهم في الحقيقة الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر بالشرك منهم، فقد أجازه ولم ينه عنه

(2)

.

بل قد قرر شيخ الإسلام أن كل شرك في العالم فإنما حدث برأيهم، قال رحمه الله:«بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم إذ بنوه على ما في الأرواح والأجسام من القوى والطبائع وإن صناعة الطلاسم والأصنام والتعبد لها يورث منافع ويدفع مضار»

(3)

.

وقد كان أرسطو واتباعه المشائين وهم الذين انتقلت فلسفتهم للعالم

(1)

الفتاوى الكبرى (6/ 415).

(2)

المصدر السابق (6/ 415).

(3)

مجموع الفتاوى (9/ 34).

ص: 233

الإسلامي ولاقت الرواج والشهرة فيه، كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب ويبنون لها هياكل في الأرض، ويصورون لها أصناماً، ويجعلون لها طلاسم، ويتقربون لها بأنواع العبادات

(1)

.

وقد ظهر هذا حتى على الفلاسفة المنتسبين للإسلام كابن سينا والفارابي وغيرهم، فإنهم كانوا يسوغون الشرك ويجيزونه، بل حتى متصوفة الفلاسفة كابن عربي وابن سبعين وغيرهم يجوزون أن يكون الرجل يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً، ويجوزون له التمسك بأي ناموس كان ولا يوجبون اتباع نبي بعينه كما قد سبق بيانه

(2)

.

بل قد وصل الحال ببعض المتفلسفة المنتسبين إلى الإسلام إلى تصنيف مصنفات في الإشراك بالله وعبادة الكواكب والأصنام، وذكروا ما في ذلك من الفوائد وتحصيل المقاصد على حد زعمهم

(3)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الكواكب والملائكة وعبادة الأنفس المفارقة -أنفس الأنبياء وغيرهم- ما هو أصل الشرك. وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول، لا بالعبادة والعمل. والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله. وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه، والتوحيد الذي يدعونه: إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك، فلو كانوا موحدين بالقول والكلام -وهو أن يصفوا الله بما وصفته به رسله- لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لا بد من أن يعبد الله وحده ويتخذ إلها؛ دون ما سواه، وهو معنى قول:(لا إله إلا الله) فكيف وهم في القول والكلام معطلون جاحدون؛ لا موحدون

(1)

انظر: المصدر السابق (9/ 175)، (17/ 331)، والرد على المنطقيين (ص: 337).

(2)

انظر الرد على المنطقيين (ص: 282).

(3)

انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/ 481).

ص: 234

ولا مخلصون؟»

(1)

.

وبين رحمه الله أن الفلاسفة أعظم شركاً من النصارى فقد أجمع المسلمون على أن دين أهل الكتاب خير من دين غيرهم من المشركين والصائبة، وأن النصارى في التوحيد خير منهم، وشرك النصارى الذي وقعوا فيه إنما جاء من تشبههم بهؤلاء الصابئة الفلاسفة قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30]، ومعلوم أن صابئة الفلاسفة هم الذين كانوا قبل النصارى، وهم الذين ادعوا أن الملائكة أولاد الله، وغيرها من الكفريات التي حذا حذوهم فيها النصارى وغيرهم ممن جاء بعدهم

(2)

، بل النصارى بعد أن غيروا دين المسيح وبدلوا هم أقرب إلى الهدى ودين الحق من أولئك الفلاسفة الذين كانوا مشركين، وشرك أولئك الغليظ هو مما أوجب إفساد دين المسيح كما ذكره طائفة من أهل العلم»

(3)

.

وبين كذلك رحمه الله في مواضع من كتبه أن شركهم أعظم من شرك مشركي العرب من وجوه عديدة

(4)

.

فتبين بهذا كله بعد القوم عن التوحيد وأنهم أهل كفر وشرك وإلحاد بل هم من أعظم الناس في ذلك، فكيف يسوغ بعد هذا كله أن يقال: إنهم أعظم الناس توحيدا

(5)

؟!.

(1)

مجموع الفتاوى (9/ 35).

(2)

انظر: بيان تلبيس الجهمية (3/ 146)، الصفدية (2/ 227).

(3)

منهاج السنة النبوية (1/ 318).

(4)

انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 353)، الرد على المنطقيين (1/ 101)، مجموع الفتاوى (8/ 457).

(5)

وقد فصل شيخ الإسلام رحمه الله مدى شرك الفلاسفة في مواضع كثيرة من كتبه، انظر: مجموع الفتاوى (8/ 457)(17/ 290 - 294)، منهاج السنة (1/ 409)، (3/ 282)، والرد على الشاذلي (137)، ومسألة حدوث العالم (45 - 170).

ص: 235

الباب الثاني:

مناظرته مع الطوائف المنتسبة للإسلام

ويشتمل على ستة فصول

الفصل الأول: مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع الاتحادية.

الفصل الثاني: مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع الصوفية وعباد القبور.

الفصل الثالث: مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع الرافضة.

الفصل الرابع: مناظرات شيخ الإسلام ابن تيمية مع المتكلمين.

الفصل الخامس: مناظرته مع بعض الجبرية الإباحية المحتجين بالقدر.

الفصل السادس: مناظرته مع ابن الوكيل الشافعي في نسبته قول المرجئة لأهل السنة والجماعة ودفاعه عن ذلك.

* * *

ص: 237

الفصل الأول:

مناظرته مع الاتحادية،

ويشتمل على خمس مباحث:

المبحث الأول: مناظرته مع بعض حذاق الاتحادية في قولهم بأن الإحاطة هي الوجود المطلق، وفي أن أصل قولهم يرجع إلى القول بالوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الأعيان.

المبحث الثاني: مناظرته مع شيخ من شيوخ الاتحادية في اعتقاده فناء الحلاج واتحاد الحق سبحانه به.

المبحث الثالث: مناظرته مع جماعة من الاتحادية العارفين بالفلسفة وغيرها والداخلين في التصوف والزهد في اعتقادهم أن ابن هود هو الله وهو المسيح ابن مريم.

المبحث الرابع: مناظرته مع بعض أكابر الاتحادية في الفرق بين التوحيد والإلحاد.

المبحث الخامس: مناظرته مع بعض شيوخ الاتحادية في رفضه قتال التتار لاعتقاده أن هذا قتال لله.

ملحق:

مناظرته مع بعض الاتحادية في اعتقادهم إن الله هو الناطق في كل شيء.

مناظرته مع بعض الاتحادية في اعتقادهم أن الله ظهر في صورة الموجودات.

* * *

ص: 239

تمهيد: بين يدي هذا الفصل:

في هذا الفصل نقف مع خمس مناظرات حدثت لشيخ الإسلام مع طائفة الاتحادية بصنفيها: القائلين بالاتحاد الخاص، والقائلين بالاتحاد العام

(1)

-أعني أصحاب وحدة الوجود- وقبل الشروع في المناظرات يجدر التنبيه إلى أن قول هذه الطائفة مع أنه من أشنع وأبشع وأقبح الأقوال الكفرية، إلا أنه أيضًا من أشدها غموضاً، وأعقدها عبارة، وأصعبها فهماً، وأكثرها اضطراباً واختلافاً وتناقضاً؛ ولذلك فإن من الصعوبة بمكان معرفة مرادهم، وتصور أقوالهم على حقيقتها، وفهمها فهماً واضحاً، وهذا الأمر يجده كل قارئ في مذهبهم وعقائدهم وأقوالهم، وقد اعترف بذلك شيخ الإسلام رحمه الله وقال كالمعتذر للقارئ عندما لا يجد صورة واضحة لما ينقله شيخ الإسلام عنهم:«واعلم أن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصوراً حقيقياً؛ فإن هذا لا يكون إلا للحق»

(2)

. وإذا كانوا هم أنفسهم -أعني الاتحادية- لا يفهمون حقيقة ما يقولونه ويقصدونه كما بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع

(3)

، فكيف لغيرهم أن يفهم مذهبهم على حقيقته؟ ويوصله لغيره على أوضح صورة؟! وبسبب عدم فهمهم لأقوالهم افترقوا إلى فرق مختلفة

(1)

سبق التعريف بهذه المصطلحات في الفصل الأول من الباب الأول.

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 145).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 138).

ص: 241

وهم مع هذا -ولصعوبة مذهبهم- لا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم مع استشعارهم بأنهم مفترقون!

(1)

؛ ولذلك فإن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم لما فيه من الألفاظ المجملة المشتركة

(2)

، ولأنه كما ذكر شيخ الإسلام مذهب متخيل لا حقيقة له عند التحقيق

(3)

، وليس هو في الوقت نفسه مستمد من وحي ولا كتاب ولا سنة.

وقد بذلت جهدي في عرض أقوالهم وشبههم وتوضيح عباراتهم قدر المستطاع، ولي فيما ذُكِرَ آنفاً عذر عند القارئ الكريم فيما يجده من عبارات مستعصية أو ألفاظ غامضة، أو صعوبة فهم، أو عسر إدراك، وإذا وجدت فيما أحكيه عنهم تناقضا او اضطرابا فلا تظن أنه من الكاتب، بل هكذا مذهبهم وهذه طريقتهم فهم كما أخبر شيخ الإسلام رحمه الله:«من أكثر الخلق تناقضًا، وهم مُخلِطون تخليطًا عظيمًا»

(4)

.

* * *

ص: 242

‌المبحث الأول: مناظرته مع بعض حذاق الاتحادية في قولهم بأن الإحاطة هي الوجود المطلق، وفي أن أصل قولهم يرجع إلى القول بالوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الأعيان

.

ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

لقد اعتنى شيخ الإسلام رحمه الله ببيان فساد عقيدة الاتحاد والرد على القائلين به، وبيان عظم ما وقعوا فيه من كفر وانحلال، وشرك وضلال، وما ذلك إلا لانتشاره في وقته بين كثير من الخواص والعوام مع جهلهم بحقيقة أمره وعظيم خطره قال رحمه الله: «لكن هؤلاء -أي الاتحادية- التبس أمرهم على من لم يعرف حالهم، كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون وانتسبوا إلى التشيع فصار المتبعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم؛ ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقاً منافقاً، وإما جاهلاً ضالاً. وهكذا هؤلاء الاتحادية: فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة؛ فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون أعظم الكفر، وهم الذين يفهمون قولهم ومخالفتهم لدين المسلمين، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو

ص: 243

ذب عنهم أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم أو كره الكلام فيهم أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو أو من قال إنه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق؛ بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء وهم يسعون في الأرض فساداً ويصدون عن سبيل الله. فضررهم في الدين: أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم كقطاع الطريق وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم ولا يستهين بهم من لم يعرفهم فضلالهم وإضلالهم: أعظم من أن يوصف، وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية ولهذا هم يريدون دولة التتار ويختارون انتصارهم على المسلمين إلا من كان عامياً من شيعهم وأتباعهم فإنه لا يكون عارفاً بحقيقة أمرهم؛ ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه، ويجعلونهم على حق كما يجعلون عباد الأصنام على حق، وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر، ومن كان محسناً للظن بهم - وادعى أنه لم يَعرِف حالهم - عُرِّفَ حالهم، فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا أُلحِقَ بهم وجعل منهم. وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكياً فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقداً لهذا باطناً وظاهراً فهو أكفر من النصارى، فمن لم يكفر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد. والله أعلم»

(1)

.

ولما كانت هذه الطائفة بهذا الخطر، فقد اعتنى شيخ الإسلام ببيان ضلالهم وكشف زيفهم بشتى الطرق ومختلف السبل من موعظة ومكاتبة ومحاورة ومناظرة وغيرها من السبل التي كشف من خلالها سترهم وفضح أمرهم وحذر الناس منهم.

وكان مما وقع له معهم، هذه المناظرة التي جرت له مع بعض من يعتقد بعقيدة

(1)

مجموع الفتاوى (2/ 131 - 133).

ص: 244

وحدة الوجود، ذكرها رحمه الله في معرض بيانه لفساد عقيدة وحدة الوجود، وتأثر أهلها بعقائد الفلاسفة وأقوالهم.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ولما اجتمع بي بعض حذاقهم، وعنده أن هذا المذهب هو غاية التحقيق الذي ينتهي إليه الأكملون من الخلق ولا يفهمه إلا خواصهم، وذكر أن الإحاطة هو: الوجود المطلق

(1)

.

قلت له: فأنتم تثبتون أمركم على القوانين المنطقية، ومن المعروف في قوانين المنطق أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقاً، بل لا يوجد إلا معيناً، فلا يكون الوجود المطلق موجوداً في الخارج، فَبُهِتَ.

ثم أخذ يفتش لعله يظفر بجواب فقال: نستثني الوجود المطلق من الكليات.

فقلت له: غُلِبتَ، وضَحِكتُ؛ لظهور فساد كلامه؛

1.

وذلك أن القانون المذكور لو فرق فيه بين مطلق ومطلق لفسد القانون.

2.

ولأن هذا فرق بمجرد الدعوى والتحكم.

3.

ولأن ما في القانون صحيح في نفسه، وإن لم يقولوه، وهو يعم كل مطلق، فإنا نعلم بالضرورة أن الخارج لا يكون فيه مطلق كلي أصلاً»

(2)

.

توضيح المناظرة:

اجتمع هذا الرجل من القائلين بوحدة الوجود مع شيخ الإسلام رحمه الله، وكانت عقيدته التي يعتقدها أن الله هو الوجود المطلق الذي لا يتقيد بقيد، وهو ما يسمونه بمصطلحهم (الإحاطة).

ص: 245

فبين له شيخ الإسلام رحمه الله أن الوجود المطلق إنما هو أمر كلي، ومعلوم أن الكليات إنما هي أمور تتصور في الذهن ولا وجود لها في الخارج إلا مقيدة معينة، فالوجود المطلق الذي لا يتقيد بقيد ولا يتعين، إنما هو في الحقيقة أمر ذهني لا وجود له في الواقع ولا حقيقة، فكل وجود في الخارج فهو معين ومقيد، ولا يوجد في الخارج وجود مطلق، وهذا معروف حتى في قوانين المنطق الذي يحتكمون له ويرجعون إليه، وبهذا الجواب ينبه شيخ الإسلام مُناظِره إلى أن حقيقة قولهم هي نفي وجود الله إلا في الذهن، وهذا هو الإلحاد.

وبعد هذا الجواب من شيخ الإسلام، بُهت هذا الاتحادي وخرس. ولما لم يجد جواباً قال: نستثني الوجود المطلق من الكليات، أي أن الكليات جميعها إنما توجد في الذهن إلا الوجود المطلق فيمكن وجوده في الخارج، ولا يخفى أن هذا الجواب إنما هو مجرد تحكم وتخرص ليس إلا؛ فإنه قد أقر أن الوجود المطلق من الكليات ثم لما ألجمه شيخ الإسلام بالحجة والبرهان، عاد فاستثنى الوجود المطلق من الكليات بلا دليل ولا حجة، وإنما سفسطة ومكابرة وعدم إذعان للحق واعتراف به، كحال أهل المراء والجدال، ولذلك ضحك من كلامه شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأنه كلام المغلوب الذي لا حجة له.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

لقد اعتنى شيخ الإسلام غاية الاعتناء بفهم مذهب هؤلاء الاتحادية ومحاولة توضيحه وتبيينه مع غموض عباراته وصعوبة مصطلحاته، حتى كان أحذق به من كثير من أهله والمنتسبين إليه، قال رحمه الله:«ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم وسر مذهبهم صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد، لجعلوني من أئمتهم وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون»

(1)

، وترى فَهم شيخ الإسلام لحقيقة مذهبهم جلياً واضحاً

(1)

مجموع الفتاوى (2/ 138).

ص: 246

فيما جرى له من مناظرات معهم وفيما طرح له من مسائل عنهم، ومن ذلك هذه المناظرة التي أفحم فيها مخالفه، وحاكمه إلى قوانينه ومنطقه، فأظهر تناقضه واضطرابه، وقد دار موضوع المناظرة عن اعتقادهم أن الله هو الوجود المطلق.

‌مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة:

وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: أصل الشبهة:

أصل شبهتهم في القول بالوجود المطلق، ووحدة هذا الوجود أمران اثنان:

الأمر الأول: إنكارهم مباينة الله عز وجل لخلقه.

الأمر الثاني: عدم تفريقهم بين الوجود الواجب والوجود الممكن، أو قل: جعلهم الوجود جنساً واحداً وشيئاً واحداً غير منقسم ولا متعدد.

فأما الأمر الأول: فإنهم لما نفوا علو الله على خلقه، واعتقدوا أنه غير مباين لهذا العالم، صاروا بين أمرين اثنين لا ثالث لهما:

إما أن يقولوا بأنه معدوم لا وجود له: وهذا وإن كان هو حقيقة قولهم ولكنهم لم يجترئوا على التصريح به؛ لأنه يكشف مذهبهم ويفضحهم.

وإما أن يقولوا إنه هو عين هذا العالم وهذا الوجود: وهذا هو مذهبهم الذي اعتقدوه، وطريقتهم التي سلكوها؛ لأنهم رأوا أنها خير من إنكار وجوده، والحكم عليه بأنه معدوم صراحة، ففروا إلى هذا القول وهذا المذهب

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأصل ضلالهم إنكارهم مباينة الصانع للعالم وصارت قلوبهم تطلب موجوداً، وهي تأبى أن يكون مبايناً للعالم فصاروا يطلبونه في العالم أو يجعلون وجوده هو وجود العالم: فيجعلونه إما العالم، وإما جزءا منه، وإما صفة له، وإما أن يقولوا هو العالم وليس هو العالم، فيجمعوا بين

(1)

انظر: مختصر الصواعق المرسلة (4/ 1303 - 1304).

ص: 247

المتناقضين»

(1)

، وقال -رحمه لله-: «وأصل ضلال هؤلاء: أنهم لم يعرفوا مباينة الله لمخلوقاته وعلوه عليها وعلموا أنه موجود، فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها؛ بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أنه الشمس نفسها

(2)

»

(3)

.

وعلى هذا الأصل الفاسد بنوا قولهم: "أن وجود المخلوقات والمصنوعات، حتى وجود الجن والشياطين والكافرين والفاسقين، والكلاب والخنازير والنجاسات، والكفر والفسوق والعصيان: عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، وإن كان مخلوقاً له مربوباً مصنوعاً له قائماً به"

(4)

.

وأما الأمر الثاني: وهو قولهم بأن الوجود شيء واحد لا ينقسم ولا يتجزأ؛ فإنهم نظروا للقدر المشترك بين الأعيان وهو مسمى "الوجود" فرأوا أنه واحد في الذهن لا يتعدد، وظنوا أنه يلزم من اتفاق الخالق والمخلوق في مسمى (الوجود) أن يكون وجودهما واحداً فقالوا بـ (وحدة الوجود) أي أن الوجود واحد، فلا وجود إلا (الوجود المطلق) أو (الوجود الواجب) الذي هو وجود الله، فكل موجود فهو الله لا غير، وليس هناك للمخلوقات والممكنات وسائر الموجودات وجود يختص بها وتتميز به، وإنما هي (وجود واجب) ظهر وتجلى على هيئة (وجود الممكن) وإن كان في الحقيقة واجبًا وليس ممكنًا، فالصورة صورة (الممكن) والحقيقة حقيقة (الواجب)، لأنه ما ثم وجود سوى الوجود الواجب وهذا هو معنى عبارتهم المشهورة «الله هو الوجود الواجب تجلى لذاته بأحكام الممكنات»

(5)

فليس

(1)

الصفدية (1/ 263)

(2)

قال شيخ الإسلام رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية (2/ 43): «وهم يشبهون من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس الذي على الأرض والحيطان والجبال فظنه نفس الشمس التي في السماء، مع أن هذا الشعاع منفصل عن الشمس، ومع أنه قائم بأجسام غيرها والمخلوقات، وإن كان لها وجود وتحقق فهو مخلوق لله بائن منه» .

(3)

مجموع الفتاوى (2/ 297).

(4)

المصدر السابق (2/ 142).

(5)

انظر: الفتوحات المكية (4/ 19) والوجود الحق للنابلسي (ص:98).

فجميع الكائنات عندهم هي ذات الله ولكنه سبحانه ظهر بصورة الخلق، فالكون كله باعتبار ظاهره هو خلق وباعتبار باطنه هو حق، وسبب ظهوره في صور الكائنات هو أن الله تعالى كان وجودًا مطلقًا لا اسم له ولا صفة ولا قيد، فأراد تفصيل أسمائه وصفاته وأن يتجلى وجوده بتمامه فظهر في صور الكائنات -تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا-. انظر: عقيدة الصوفية وحدة الوجود الخفية (ص:31 - 33)

ص: 248

عندهم وجود حادث مطلقاً، بل كل الوجود قديم، ولا وجود ممكن، بل كل الوجود واجب وهو هو وجود الله، الذي ظهر لذاته

(1)

بأحكام الممكنات -تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا-

(2)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً أصلهم هذا: «فأما أصل ابن عربي

(3)

فهو أن الوجود واحد، وأن الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن

فوجود كل شيء عين وجود الحق عنده»

(4)

.

وقال رحمه الله: «ثم بعد هذا يجعل هذا الوجود هو وجود كل موجود فليس عنده وجودان: أحدهما واجب والآخر ممكن. ولا أحدهما خالق والآخر مخلوق؛ بل عين الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن»

(5)

.

وقال رحمه الله: «ومنشأ ضلال هؤلاء كلهم أنهم يأخذون القدر المشترك بين الأعيان، وهو الجنس اللغوي، فيجدونه واحداً في الذهن، فيظنون أن ذلك هو وحدة عينية، ولا يميّزون بين الواحد بالجنس، والواحد بالعين، وأن الجنس

(1)

وإنما قالوا تجلى لذاته، أي ظهر لذاته؛ لأنه لا شيء عندهم غير ذاته، فكل شيء في الوجود هو هو، فهو إنما تجلى بذاته لذاته.

(2)

انظر: التدمرية (ص: 107 - 109)، التسعينية (2/ 724 - 725)، درء التعارض (4/ 120)، منهاج السنة (2/ 588)، التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية (ص: 219).

(3)

هو أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي، من أئمة فلاسفة الصوفية أهل الزندقة والإلحاد، قدوة القائلين بوحدة الوجود، له مصنفات منها:"الفتوحات المكية" و"الفصوص"(ت:638 هـ). انظر: فوات الوفيات (2/ 241)، شذرات الذهب (5/ 190).

(4)

مجموع الفتاوى (2/ 112).

(5)

مجموع الفتاوى (2/ 114، 25).

ص: 249

العام المشترك لا وجود له في الخارج، وإنما يوجد في الأعيان المتميزة»

(1)

.

وإذا تقررت هذه الأصول الفاسدة التي بنى عليها الاتحادية مقالتهم في الوجود المطلق، فما منشأ هذه الأصول الفاسدة؟

والجواب: إن القول الذي تبناه هؤلاء الاتحادية هو في الحقيقة مأخوذ من ثلاثة طوائف: الجهمية، والصوفية، والفلاسفة، فقولهم مركب من تعطيل الجهمية، وشطحات الصوفية، وضلالات الفلاسفة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً هذا الأمر ومقرراً له: «مذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي وابن سبعين

(2)

، والقونوي

(3)

، والتلمساني

(4)

، مركب من ثلاثة مواد: سلب الجهمية وتعطيلهم، ومجملات الصوفية وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، وأيضاً كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال سكر، ومن الزندقة الفلسفية التي هي أصل التجهم، وكلامهم في الوجود المطلق، والعقول والنفوس والوحي والنبوة والوجوب والإمكان، وما في ذلك من حق وباطل.

فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي،

(1)

درء التعارض (4/ 120)، وانظر: منهاج السنة (2/ 588).

(2)

هو أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن سبعين، المرسي الصوفي الاتحادي الضال، كان صوفياً على قواعد الفلاسفة، وله كلام كثير في العرفان وتصانيف، وله أتباع ومريدون يعرفون بالسبعينية. انظر: فوات الوفيات (2/ 253)، شذرات الذهب (5329).

(3)

هو صدر الدين محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف بن علي القونوي الرومي، اتحادي صوفي، من كبار تلاميذ ابن عربي، (ت: 673 هـ). انظر: طبقات الشافعية (8/ 45)، الوافي بالوفيات (2/ 200).

(4)

هو سليمان بن علي بن عبد الله بن علي الكُومي التلمساني، عفيف الدين: شاعر اتحادي صوفي يتبع طريقة ابن عربي، قيل إن له ميل إلى مذهب النصيرية، (ت: 690 هـ). انظر: شذرات الذهب (5/ 412)، فوات الوفيات (1/ 178).

ص: 250

ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم، والتلمساني أعظمهم تحقيقاً لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله وكتبه ورسله وشرائعه واليوم الآخر»

(1)

.

والناظر في كلام القوم لا يشك فيما ذكره شيخ الإسلام من تأثرهم بهذه المذاهب وخصوصاً الفلاسفة؛ فإنهم في الواقع هم المصدر الرئيس لشبه القوم وضلالاتهم، وأما تعطيل الجهمية وسلبهم فهو في الحقيقة مستمد كذلك من الفلاسفة وأقوالهم ونظرياتهم، وأما مجملات الصوفية وكلامهم الموهم للوحدة والاتحاد، فما هو إلا تطبيق عملي وأثر من آثار تأثرهم بمذاهب الفلاسفة.

فكان المصدر الرئيس في هذا كله هي الفلسفة الذي كان التصوف في مراحله الأخيرة مستمداً منها وراجعاً إليها

(2)

، وشبهتهم هذه ما هي إلا مثال واقعي لمدى تأثرهم بالمذاهب الفلسفية، فإن قولهم بالوجود المطلق (الإحاطة) مأخوذ في الحقيقة من هؤلاء الفلاسفة، كما بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله فقال: «فلما كان

(1)

مجموع الفتاوى (2/ 175).

(2)

انظر: الصفدية (1/ 267).

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: «والشيوخ الأكابر الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية وأبو القاسم القشيري في الرسالة كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهل الحديث كالفضيل بن عياض والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي وغيرهم، وكلامهم موجود في السنة وصنفوا فيها الكتب، لكن بعض المتأخرين منهم كان على طريقة بعض أهل الكلام في بعض فروع العقائد ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلاسفة؛ وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين فصارت المتصوفة تارة على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارهم وأعلامهم، وتارة على اعتقاد صوفية، وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم، وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة كهؤلاء الملاحدة» الصفدية (1/ 267). وقال رحمه الله: «ولكن هؤلاء أخذوا مذهب الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام كابن سينا وأمثاله الذي دخل كثير منها في كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وأمثاله، فأخرجوها في قالب الإسلام بلسان التصوف والتحقيق» الصفدية (1/ 265).

ص: 251

منتهى الفلاسفة الصابئة وأعلى علمهم هو الوجود المطلق، وكان أصل التجهم وتعطيل صفات الرب إنما هو مأخوذ عن الصابئة وكان هؤلاء الاتحادية في الأصل جهمية، وأنه بما فيهم من النصرانية -المشاركة للصابئة صار بينهم وبين الصابئة نسب- صار معبودهم وإلههم هو الوجود المطلق، وزعموا أن ذلك هو الله مضاهاة لما عليه خلق من قدماء الفلاسفة من تعطيل الصانع وإثبات الوجود المطلق»

(1)

.

وقال رحمه الله: «ولكن هؤلاء أخذوا مذهب الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام كابن سينا وأمثاله الذي دخل كثير منها في كلام صاحب الكتب (المضنون بها على غير أهلها)

(2)

وأمثاله فأخرجوها في قالب الإسلام بلسان التصوف والتحقيق»

(3)

.

وخلاصة الأمر أن من تقررت لديه حقيقة الأصول الفاسدة التي بنى عليها الاتحادية مقالتهم، ومنبعهم الذي استقوا منه ضلالاتهم، تبين له دون أدنى شك ضلال هؤلاء وبعدهم عن الحقائق الشرعية والعقلية والفطرية، بل صارت تلك المعرفة كافية في الرد عليهم ونقض مقالتهم.

‌الوجه الثاني: الجواب عن الشبهة:

الجواب على هذه الشبهة من وجوه متعددة وأهمها ما يلي:

(1)

مجموع الفتاوى (2/ 91 - 93).

(2)

هو زين الدين محمد بن محمد بن محمدالغزالي الطوسي الشافعي الملقب بـ (حجة الإسلام)، برع في المذهب والأصول والخلاف والمنطق والفلسفة، واشتهر بتصوفه إلى جانب أشعريته، أظهر الفلسفة في قالب التصوف، وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومطالعة الصحيحين. له مصنفات: إحياء علوم الدين، المستصفى وغيرها (ت:505 هـ). انظر: تاريخ بغداد (21/ 27)، تاريخ الإسلام (11/ 63)، السير (9/ 327)، طبقات الشافعية (6/ 191). وهذا الكتاب ينسب له، وفي ثبوته عنه خلاف، وقد اشتمل "المضنون" على التصريح بقدم العالم، ونفي العلم القديم بالجزئيات، ونفي الصفات، وغير ذلك، وكان شيخ الإسلام يجزم بثبوته عنه. انظر المجموع (4/ 65).

(3)

الصفدية (1/ 265).

ص: 252

أولا: أن حقيقة قولهم نفي وجود الله تعالى؛ وذلك لأن الوجود المطلق لا يوجد إلا في الأذهان وليس له وجود في الخارج: فهو أمر يفرضه الذهن ولا وجود له في الحقيقة إلا مقيداً معيناً، وعلى هذا فتكون حقيقة قولهم نفي وجود الله تعالى إلا في الذهن، وهذا غاية التعطيل والكفر، وقد قرر شيخ الإسلام هذا الأصل في مواطن كثيرة من كتبه وردوده عليهم

(1)

، وبهذا الوجه رد على مُناظِره من الاتحادية وبين له فساد قوله بالقوانين المنطقية التي احتكموا إليها؛ فنبهه على أن (المطلق) عندهم هو: الذي لا يوجد في الخارج مطلقاً، بل لا يوجد إلا معيناً، فلا يكون الوجود المطلق موجوداً في الخارج، وهذا يعني نفي وجود الله سبحانه وتعالى، وقال له موضحا هذا:«فأنتم تثبتون أمركم على القوانين المنطقية، ومن المعروف في قوانين المنطق أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقا بل لا يوجد إلا معينا، فلا يكون الوجود المطلق موجودا في الخارج»

(2)

. إذا فهم لا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، وذلك أن من قال: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين: فحقيقة قوله إنه ليس للحق وجود أصلاً

(3)

.

قال شيخ الإسلام: «وتلخيص النكتة: أنه لو عنى به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلاً، وإن عنى به المطلق بلا شرط، فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معيناً فلا يكون للحق وجود إلا وجود الأعيان. فيلزم محذوران:

أحدهما: أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات.

(1)

انظر: منهاج السنة (2/ 112)، (3/ 301)، الصفدية (1/ 99 - 101)، (2/ 5 - 6)، ودرء التعارض (4/ 253 - 258)، (5/ 81، 84، 136)، (6/ 124)، ونقض التأسيس (2/ 380)، ومجموع الفتاوى (5/ 202، 207، 210).

(2)

الصفدية (1/ 296).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 167).

ص: 253

والثاني: التناقض وهو قوله إنه الوجود المطلق دون المعين»

(1)

.

وبين رحمه الله أن غاية معتقد أصحاب وحدة الوجود وجماع أمرهم هدم الدين وأصوله وعلى رأس ذلك الإيمان بالله سبحانه فقال رحمه الله: «وجماع أمر صاحب الفصوص وذويه: هدم أصول الإيمان الثلاثة؛ فإن أصول الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر. فأما الإيمان بالله: فزعموا أن وجوده وجود العالم ليس للعالم صانع غير العالم. وأما الرسول فزعموا أنهم أعلم بالله منه ومن جميع الرسل ومنهم من يأخذ العلم بالله -الذي هو التعطيل ووحدة الوجود- من مشكاته وأنهم يساوونه في أخذ العلم بالشريعة عن الله. وأما الإيمان باليوم الآخر فقد قال:

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده

وبالوعيد الحق عين تعاين

وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم

على لذة فيها نعيم يباين

وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها وحينئذ: فلا خوف ولا محذور ولا عذاب؛ لأنه أمر مستعذب. ثم إنه في الأمر والنهي: عنده الآمر والناهي والمأمور والمنهي: واحد؛ ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه:

الرب حق والعبد حق

يا ليت شعري من المكلف؟

إن قلت عبد فذاك رب

أو قلت رب أنى يكلف؟

وفي موضع آخر (فذاك ميت) رأيته بخطه. وهذا مبني على أصله فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب فمن المُكلَّف؟ وعلى أصله هو المُكلِّف والمُكلَّف كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولًا»

(2)

.

ثانياً: أن اشتراك الخالق والمخلوق في مسمى الوجود لا يعني أن وجودهما واحد، فالاشتراك في المسمى لا يلزم منه الاشتراك في الحقيقة: قال شيخ

(1)

المصدر السابق (2/ 167).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 241 - 242).

ص: 254

الإسلام مبيناً هذا: «فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى (الوجود) أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصّه ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الاضافة والتقييد والتخصيص ولا في غيره، فلا يقول عاقل -إذا قيل: إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود-، إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى (الشيء) و (الوجود)؛ لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل: هذا موجود وهذا موجود، فوجود كلّ منهما يخصه لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما، ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمّى صفاته بأسماء، فكانت تلك الاسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمّى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده عند الاطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص لا اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص، فقد سمّى الله نفسه حيًّا، فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2]، وسمّى بعض عباده حيًا، فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام:95]، وليس هذا الحيّ مثل هذا الحي؛ لأن قوله: (الْحَيُّ) اسم لله مختص به، وقوله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}، اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أُطلقا وجُرِّدا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمّى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرًا مشتركا بين المسميين، وعند الاختصاص يقيّد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق»

(1)

؛ وذلك لأن "كل موجودين قائمين بأنفسهما، فحينئذ لابد أن يجمعهما اسم عام يدل على معنى عام، لكن المعنى العام لا يوجد عاماً إلا في الذهن لا في الخارج.

(1)

التدمرية (ص:20 - 22).

ص: 255

فإذا قيل: هذا الموجود، وهذا الموجود مشتركان في مسمى الوجود، كان ما اشتركا فيه لا يوجد مشتركاً إلا في الذهن لا في الخارج، وكل موجود فهو يختص بنفسه وصفات نفسه، لا يشركه غيره في شيء من ذلك في الخارج، وإنما الاشتراك هو نوع من التشابه والاتفاق، والمشترك فيه الكلي لا يوجد كذلك إلا في الذهن، فإذا وجد في الخارج لم يوجد إلا متميزاً عن نظيره، لا يكون هو إياه، ولا هما في الخارج، مشتركان في شيء في الخارج"

(1)

.

قال شيخ الإسلام: «فمن فهم هذا انحلّت عنه إشكالات كثيرة يعثر فيها كثير من الأذكياء الناظرين في العلوم الكلية والمعارف الإلهية»

(2)

.

فبين شيخ الإسلام رحمه الله أن في الوجود وجودين:

أحدهما: أزلي واجب الوجود نفسه.

الثاني: محدث ممكن الوجود، موجود بغيره.

ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يتفقا في خصائصه، فإن وجود الواجب يخصه، ووجود المحدث يخصه:

وجود الخالق: واجب أزلي ممتنع الحدوث، أبدي ممتنع الزوال.

ووجود المخلوق: ممكن حادث بعد العدم قابل للزوال

(3)

.

ثالثاً: أن قولهم بعدم التفريق بين واجب الوجود وممكن الوجود ظاهر البطلان "وذلك أنه قد عُلم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد عُلم بالاضطرار أن المحدَث لا بد له من محدِث، والممكن لا بد له من واجب، كما قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون

(1)

انظر: منهاج السنة (2/ 30 - 31).

(2)

المصدر السابق (2/ 31).

(3)

انظر: تقريب التدمرية (ص: 35).

ص: 256

لأنفسهم تعين أن لهم خالقا خلقهم"

(1)

.

وقولهم هذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأنه مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل والحس والفطرة، فكلها تشهد بالتفريق بين الخالق والمخلوق وبين واجب الوجود وممكن الوجود، ومما يدل على بطلان قولهم ما يلزم عليه من وصف الله بالعدم ووصفه بكل نقص وعيب فإنه "إذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب، كان وجود كل مخلوق -يُعدم بعد وجوده، ويوجد بعد عدمه- هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي، الذي لا يقبل العدم، وإذا قدّر هذا، كان الوجود الواجب موصوفًا بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب"

(2)

، وهذا القول على بشاعته هو حقيقة مذهبهم، بل ويصرحون به في كتبهم ومقالتهم.

رابعاً: الإجماع على كفر هذه المقولة ومخالفتها للعقل:

لاشك أن النصوص متظافرة والإجماع منعقد على كفر القائلين بهذه المقالة وخروجهم من ملة الإسلام، وقد نقل شيخ الإسلام عن جملة من العلماء تكفير وتقبيح هذه المقالة ومن قال بها

(3)

، وقال رحمه الله:«أما كون وجود الخالق هو وجود المخلوق؛ فهذا كفر صريح باتفاق أهل الإيمان؛ وهو من أبطل الباطل في بديهة عقل كل إنسان، وإن كان منتحلوه يزعمون أنه غاية التحقيق والعرفان وهذا مبسوط في غير هذا الموضع»

(4)

، وبين شيخ الإسلام رحمه الله أن قولهم وكفرهم أكبر وأقبح من كفر اليهود والنصارى وذلك من وجهين: «من جهة أن أولئك قالوا: إن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين وهؤلاء يقولون: ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره.

والثاني: من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح وهؤلاء جعلوا

(1)

التدمرية (ص: 20).

(2)

التدمرية (ص:41 - 42).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 243 - 247).

(4)

مجموع الفتاوى (2/ 26).

ص: 257

ذلك ساريًا في الكلاب والخنازير والأقذار والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قد قال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] الآية. فكيف بمن قال: إن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانين والأنجاس والأنتان وكل شيء؟! وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصارى لما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، وقال لهم:{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] الآية، فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه؟! ولا يتصور أن يعذب الله إلا نفسه، وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع

وأن الناكح عين المنكوح؟!

»

(1)

.

خامساً: تناقضهم الواضح دليل على بطلان مذهبهم وفساده:

أما تناقضهم واضطرابهم فهو مقام واسع جدا يطول بيانه وذكر أمثلته، ولكننا نكتفي بذكر مثال بديع ضربه شيخ الإسلام على تناقض قولهم وفساده، وذلك أنهم يقولون بأن المحجوبين عن حقيقة التوحيد لا يرون الوجود واحداً بل يرون التعدد والكثرة في الوجود؛ لأنهم حجبوا عن الحقيقة التي أدركها هؤلاء، قال شيخ الإسلام مفحماً لهم ومظهراً لتناقضهم: «فإذا كان ما ثم غير ولا سوى، فمن المحجوب؟ ومن الحاجب؟ ومن الذي ليس بمحجوب وعم حُجب؟

فقد أثبتوا أربعة أشياء: قوم محجوبون، وقوم ليسوا بمحجوبين، وأمر انكشف لهؤلاء، وحجب عن أولئك. فأين هذا من قولهم: ما ثم اثنان ولا وجودان؟!!

كما حدثني الثقة أنه قال للتلمساني: فعلى قولكم لا فرق بين امرأة الرجل وأمه وابنته؟ قال: نعم الجميع عندنا سواء؛ لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم، فقيل لهم: فمن المخاطب للمحجوبين أهو هم أم غيرهم؟ فإن كانوا هم فقد حرم على نفسه لما زعم أنه حرام عليهم دونه، وإن كانوا غيره

(1)

مجموع الفتاوى (2/ 172 - 173).

ص: 258

فقد أثبت غيرين وعندهم ما ثم غير»

(1)

.

فهذه بعض الأوجه في الرد على أصل شبهة هؤلاء وضلالهم وأوجه الرد عليهم كثيرة، وإن كان قولهم مما ترفضه الفطر ابتداء، وترده العقول السليمة، وتنكره جميع الشرائع والملل، فمجرد حكايته وبيانه تغني عن إظهار بطلانه:

وليس يصح في الأذهان شيءٌ

إذا احتاج النهار إلى دليلِ

(2)

!

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 197).

(2)

البيت لأبي الطيب المتنبي، من مقطوعة تشتمل على سبعة أبيات، انظر: ديوانه شرح العكبري (3/ 90 - 92).

ص: 259

‌المبحث الثاني: مناظرته مع شيخ من شيوخ الاتحادية في اعتقاده فناء الحلاج واتحاد الحق سبحانه به. وتحته مطلبان:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه المناظرة في رسالة أرسلها إلى الحلولي نصر المنبجي

(1)

بين له فيها حقيقة مذهب الاتحادية والحلولية وما كان عليه ابن عربي ومن جاء بعده كالصدر الرومي

(2)

وابن سبعين

(3)

، وأنه وصل الحال ببعضهم لادعاء الألوهية لنفسه أو لشيخه، وإجازة حلول الله واتحاده بخلقه، ومنهم من يقول بالاتحاد العام في كل شيء وهم أصحاب الوحدة، ومنهم من يقول بالاتحاد الخاص وهو اتحاد الله ببعض خلقه، ومن هؤلاء من يصرح بذلك، ومنهم من يشير ويرمز إليه ولا يبوح أو يصرح.

وقد كانت المناظرة السابقة مع أحد القائلين بالاتحاد المطلق (وحدة الوجود) وفي هذه المناظرة يناقش شيخ الإسلام صنفاً آخر من أصناف الاتحادية ألا وهم

(1)

سبق التعريف به.

(2)

هو صدر الدين القونوي الرومي، سبق التعريف به.

(3)

سبق التعريف به.

ص: 260

الاتحادية القائلون بالاتحاد المقيد المعين لا المطلق، فيناقش شيخاً من شيوخهم يعتقد أن الله قد نطق على لسان الحلاج

(1)

بعد فنائه عن نفسه واتحاد الحق سبحانه به.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد خاطبني مرة شيخ من هؤلاء في مثل هذا، وكان ممن يظن أن الحلاج قال:(أنا الحق)؛ لكونه كان في هذا التوحيد.

فقال: الفرق بين فرعون والحلاج: أن فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، وهو يشير إلى نفسه. وأما الحلاج فكان فانياً عن نفسه، والحق نطق على لسانه.

فقلت له: أفصار الحق في قلب الحلاج ينطق على لسانه كما ينطق الجني على لسان المصروع؟! وهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات، فقلب الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق؟! ثم الجني يدخل في جسد الإنسان ويشغل جميع أعضائه، والإنسان المصروع لا يحس بما يقوله الجني ويفعله بأعضائه، لا يكون الجني في قلبه فقط، فإن القلب كل ما قام به فإنما هو عرض من الأعراض، ليس شيئاً موجوداً قائماً بنفسه، ولهذا لا يكون الجني بقلبه الذي هو روحه»

(2)

.

وقال رحمه الله أيضاً: «وجاء إلينا شخص كان يقول: إنه خاتم الأولياء فزعم أن الحلاج لما قال: (أنا الحق)، كان الله تعالى هو المتكلم على لسانه، كما يتكلم الجني على لسان المصروع، وأن الصحابة لما سمعوا كلام الله تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا الباب؛ فبينت له فساد هذا، وأنه لو كان كذلك كان

(1)

هو أبو مغيث الحسين بن منصور البيضاوي الفارسي الحلاج، أحد أئمة الاتحادية، وله كثير من الأقوال الكفرية، نشأ بتستر وخالط الصوفية وزعم أن الله حل فيه، فأمر الخليفة المقتدر بصلبه وقتله سنة (309 هـ) ـ وسيأتي مزيد توضيح لحاله أثناء الدراسة. انظر: تاريخ بغداد (8/ 112 - 141)، سير أعلام النبلاء (14/ 313 - 354).

(2)

منهاج السنة (5/ 379).

ص: 261

الصحابة بمنزلة موسى بن عمران، وكان من خاطبه هؤلاء أعظم من موسى؛ لأن موسى سمع الكلام الإلهي من الشجرة وهؤلاء يسمعون من الجن الناطق.

وهذا يقوله قوم من الاتحادية لكن أكثرهم جهال لا يفرقون بين الاتحاد العام المطلق الذي يذهب إليه الفاجر التلمساني وذووه، وبين الاتحاد المعين الذي يذهب إليه النصارى والغالية وقد كان سلف الأمة وسادات الأئمة؛ يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود كما قال عبد الله بن المبارك

(1)

والبخاري

(2)

وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحاً، وقل أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان.

وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية، ولكن السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه؛ فإن كثيراً من الناس قد لا يفهم تغليظهم في ذم المقالة حتى يتدبرها ويرزق نور الهدى، فلما اطلع السلف على سر القول نفروا منه»

(3)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌مناقشة شبهة فناء الحلاج واتحاد الحق -سبحانه- به:

وستكون دراستها من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن بعض المتصوفة قد تغلب عليه الواردات والأحوال، حتى تستولي على قلبه وفكره، فيفنى

(4)

عن كل موجود في نظره،

(1)

قال ابن المبارك رحمه الله: (إنَّا لنحكي كلام اليهود والنَّصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجَهمية) وقد سبق عزوه.

(2)

قال الإمام البخاري رحمه الله: (ما أبالي صليت خلف الجهمي الرافضي أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم) خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 31).

(3)

مجموع الفتاوى (2/ 476 - 477). وانظر: درء تعارض العقل والنقل (5/ 170).

(4)

قال شيخ الإسلام في كتابه الرد على الشاذلي (ص: 191): «مقامَ الفناء والاصطلام: وهو أن يغيب السالك بمعروفه عن معرفته وبمذكوره عن ذكره وبمعبوده عن عبادته وبموجوده عن وجوده» . وقال ابن القيم: «والفناء الذي يشير إليه القوم، ويعملون عليه: أن تذهب المحدثات في شهود العبد، وتغيب في أفق العدم، كما كانت قبل أن توجد، ويبقى الحق تعالى كما لم يزل، ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا، فلا يبقى له صورة ولا رسم، ثم يغيب شهوده أيضا، فلا يبقى له شهود، ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه، كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات، وحقيقته: أن يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل» . مدارج السالكين (1/ 168 - 169). وللفناء إطلاقات ثلاث انظرها ص:257. من هذه الرسالة.

ص: 262

ولا يشاهد سوى الله، فيفنى بمشاهدته عن مشاهدة الخلق، ويبلغ به الحال إلى أن يفنى حتى عن شهود نفسه، بل وعن مشاهدة شهوده أيضاً، ولا يبقى إلا الحق، فعند ذلك ينطق بقوله:(أنا الحق) و (سبحاني) و (ما في الجبة إلا الله)

(1)

وغيرها من العبارات الكفرية التي مدارها على الحلول والاتحاد، وادعاء الربوبية مع الله، ثم يجعلون هذه الأحوال التي يصلون إليها هي غاية التوحيد والتحقيق، قال شيخ الإسلام: «وطائفة من الصوفية المدعين للتحقيق يجعلون هذا تحقيقاً وتوحيداً كما فعله صاحب منازل السائرين

(2)

وابن العريف

(3)

وغيرهما. كما أن الاتحاد العام جعله طائفة تحقيقاً وتوحيداً: كابن عربي الطائي، وقد ظن طائفة أن الحلاج كان من هؤلاء»

(4)

.

فبين شيخ الإسلام "أن أصل شبهة هؤلاء أنهم جعلوا الاتحاد والحلول توحيداً؛

(1)

هذه مقالات تنسب لأبي يزيد البسطامي، انظر: السير (13/ 88).

(2)

هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي، شيخ خراسان في عصره، كان حافظاً للحديث، مظهراً للسنّة داعياً إليها، قال الذهبي:«كان شيخنا ابن تيمية بعد تعظيمه لشيخ الإسلام يحطّ عليه ويرميه بالعظائم بسبب ما في هذا الكتاب، نسأل الله العفو والسلامة» يعني منازل السائرين (ت: 481 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (10/ 490)، طبقات الحنابلة (2/ 247).

(3)

هو أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي الأندلسي المريي المعروف بابن العريف، له كتاب المجالس وغيره (ت: 536 هـ). انظر: السير (20/ 114)، وفيات الأعيان (1/ 168).

(4)

مجموع الفتاوى (8/ 313).

ص: 263

بل هو عندهم غاية التحقيق والتوحيد ثم ظنوا أن الحلاج وقع في هذا الفناء الذي يسمونه توحيدا

(1)

؛ ولذلك خرجت منه مثل هذه الكلمات والأقوال الكفرية كقوله: (أنا الحق) ونحوها من العبارات، فحال الحلاج من جنس حال أهل الفناء، فإن العبد قد يفنى عن شهود ذاته، ولا يشهد إلا الحق بأسمائه وصفاته، فيتكلم الحق على لسانه، فيوحد نفسه بنفسه، فيكون الحق هو الناطق على لسان العبد والله هو الموحد لنفسه لا العبد، ويفرقون بين قول فرعون:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، وبين قول الحلاج: أنا الحق وسبحاني. فإن فرعون قال ذلك: وهو يشهد نفسه فقال عن نفسه، وأما أهل الفناء فغابوا عن نفوسهم وكان الناطق على لسانهم غيرهم"

(2)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في بيانه لهذا الأمر: «حتى إن كثيراً من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد، وهو أن يكون الموحّد هو الموحَّد، وينشدون

(3)

:

ما وحد الواحد من واحد

إذ كل من وحده جاحد

توحيد من يخبر عن نعته

عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده

ونعت من ينعته لاحد»

(4)

(1)

قال القاشاني في كتابه: اصطلاحات الصوفية (ص:220) في بيان تعريف الصوفية للتوحيد: الفناء عن رسوم الصفات في حضرة الواحدية، وشهود الحق بأسمائه وصفاته لا غير. وانظر: معجم كلمات الصوفية للنقشبندي (ص: 197) والمعجم الصوفي للحفني (ص: 6).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 317).

(3)

من أبيات أبي إسماعيل الهروي ذكرها في منازل السائرين، وقد أفسد بها كتابه، وعلى أن ابن القيم أورد له اعتذارات إلا أنه قال: «في هذا الكلام من الإجمال والحق والإلحاد ما لا يخفى

الخ» مدارج السالكين (3/ 475). وقال: «فرحمة الله على أبي إسماعيل، فتح للزنادقة باب الكفر والإلحاد، فدخلوا منه وأقسموا بالله جهد أيمانهم: إنه لمنهم، وما هو منهم، وغره سراب الفناء، فظن أنه لجة بحر المعرفة، وغاية العارفين، وبالغ في تحقيقه وإثباته، فقاده قسرا إلى ما ترى» مدارج السالكين (1/ 168).

(4)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/ 325) وانظر: المصدر السابق (4/ 496).

ص: 264

ولما كان هذا هو اعتقادهم أجازوا حلول الله ببعض خلقه ونطقه على لسانه، وجعلوا ما كان يتلفظ به الحلاج من هذا الباب.

واحتج هذا الشيخ -أيضاً- لتبرير قوله بحلول الحق في قلب الحلاج ونطقه على لسانه، بحجة أخرى مشاهدة وهي حلول الجني في المصروع ونطقه على لسانه، فجعل هذا من جنس هذا.

فهذه هي أصل شبهة هذا الشيخ وأمثاله ممن يعتقدون هذا الاعتقاد، وهي الفهم الخاطئ لمعنى التوحيد، مما أدى للخطأ في تفسير الكلمات الكفرية التي صدرت عن بعض الاتحادية ومنهم الحلاج، وبنوا على هذا أمراً ثالثاً وهو أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة كان من هذا الباب.

‌الوجه الثاني: الجواب عن هذه الشبهة:

قد تبين مما سبق أصل الشبهة التي بنى عليها المخالف حجته، وهي الضلال في مفهوم التوحيد، وجعله حقيقة التوحيد هي حلول الله بعبده ونطقه على لسانه، مما يبرر أن ما وقع فيه الحلاج من الأقوال الكفرية هي عين التوحيد؛ وذلك بدعواهم أن الله حل بقلب الحلاج ونطق على لسانه، كما يحل الجان بقلب المصروع وينطق على لسانه، والجواب على هذه الشبهة، يتكون من ثلاثة أمور:

‌أولاً: بيان فساد اعتقادهم فناء الحلاج واتحاد الحق -تعالى الله سبحانه- به:

قد بين شيخ الإسلام رحمه الله في مختلف مصنفاته فساد هذه الشبهة وفساد ما تفرع عنها من وجوه كثيرة أبرزها ما يلي:

الوجه الأول: بين شيخ الإسلام رحمه الله أن مدعي الربوبية لأنفسهم من الصوفية لهم أحوال كثر، فمنهم من قد يدعيها لوصلوه إلى حال السكر والفناء فيظن أن ما حوله فني، ويغيب حتى عن نفسه وشهوده، فلا يشاهد إلا الحق، وإنما الذي فني في الحقيقة تصوره للأشياء، وشهوده لها وإلا فالموجودات في نفسها باقية

(1)

،

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (13/ 198).

ص: 265

ومنهم من قد يتلبس به الشيطان فينطق على لسانه بمثل هذه العبارات الكفرية

(1)

، ومنهم من الباعث له على ذلك الزندقة والإلحاد ولم يحدث له اصطلام ولا تلبس به جان، والحلاج إنما كان من النوع الثالث كما هو ظاهر من أقواله وأفعاله ومصنفاته قال شيخ الإسلام: رحمه الله: «وأما كونه إنما كان يتكلم بهذا عند الاصطلام فليس كذلك؛ بل كان يصنف الكتب ويقوله وهو حاضر ويقظان»

(2)

فلا يصح الاعتذار له بأنه كان من أهل هذه الأحوال.

الوجه الثاني: أننا حتى لو سلمنا أن الباعث لنطق الحلاج بمثل هذه الكفريات هو الفناء الذي وصل إليه، والحال الذي غلب عليه، فمثل هذا الحال التي يزول فيها تمييزه بين الرب والعبد، وبين المأمور والمحظور ليست علماً ولا حقاً، بل غايته أنه نقص عقله الذي يفرق به بين هذا وهذا، وغايته أن يعذر، لا أن يجعل قوله توحيدا وتحقيقا

(3)

!

الوجه الثالث: أن هذا التوحيد الذي يزعمون تحققه للعارف الفاني عن نفسه ووجوده بوجود الله سبحانه، إنما غايته ومنتهاه تحقيق ما أقر به المشركون من توحيد الربوبية، وهذا لا يدل على إسلام ولا إيمان فضلا أن يدل على صلاح وتوحيد وولاية، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فكذلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية. فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها، ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله أو من سادات

(1)

انظر: الجواب الصحيح (2/ 341).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 486).

(3)

المصدر السابق (8/ 313).

ص: 266

الأولياء»

(1)

، "وإنما الشأن في توحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب، وتميز به أولياء الله من أعدائه، وهو أن لا يعبد إلا الله، ولا يحب سواه، ولا يتوكل على غيره"

(2)

.

الوجه الرابع: أن مثل هذه الأحوال لا تدل على الكمال ولا على الغاية في التحقيق والتوحيد، بل هي حال ضعف ونقص؛ لأنها إنما تصيب ضعاف العقول وضعاف النفوس

(3)

، ولذلك لم تكن هذه الأمور تحدث للرسل الكرام ولا السلف الصالحين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان

(4)

.

الوجه الخامس: أن غياب العقل والوصول بصاحبه إلى حال كحال المجانين والسكارى ليس فيه مدح لا عقلاً ولا شرعاً ولا عادة، بل يذم من يتعمد ذلك شرعاً وعقلاً وعادة

(5)

.

الوجه السادس: بين شيخ الإسلام في مواضع كثيرة من كتبه أن الفناء ثلاثة أنواع وهي:

1) الفناء عن إرادة ما سوى الله، وهو إخلاص العبادة لله، فيفنى بعبادته عن عبادة ما سواه.

2) الفناء عن شهود ما سوى الله، وهو الفناء في توحيد الربوبية، وهو الفناء الذي يعنيه هؤلاء المتصوفة.

3) الفناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، فلا يوجد سوى الله، وهو قول أهل الاتحاد والحلول.

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 102).

(2)

مدارج السالكين (1/ 174).

(3)

انظر: التدمرية (ص: 220).

(4)

انظر: التدمرية (ص:222)، الرد على الشاذلي (ص:102).

(5)

مجموع الفتاوى (2/ 482)، وانظر: الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية لتقي الدين الهلالي (ص:120).

ص: 267

فالنوع الأول هو التوحيد الذي جاء به الشرع وهو فناء ديني شرعي، والنوع الثاني فناء صوفي بدعي، وهو طريق موصل للنوع الثالث وهو الفناء الإلحادي الكفري

(1)

.

الوجه السابع: إن المعنى الذي ذكروه للتوحيد معنى كفري باتفاق الأمة، فقد أجمعت الأمة على كفر من قال باتحاد الله وحلوله بشيء من خلقه، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«وبالجملة فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر واتحاده به وأن البشر يكون إلها وهذا من الآلهة: فهو كافر مباح الدم وعلى هذا قتل الحلاج. ومن قال: إن الله نطق على لسان الحلاج، وأن الكلام المسموع من الحلاج كان كلام الله وكان الله هو القائل على لسانه: أنا الله فهو كافر باتفاق المسلمين؛ فإن الله لا يحل في البشر ولا تكلم على لسان بشر»

(2)

.

الوجه الثامن: أن قولهم من جنس قول النصارى وكفر النصارى معلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ لاعتقادهم حلول الله بالمسيح عيسى عليه السلام واتحاده به "وهؤلاء حقيقة قولهم من جنس قول النصارى في المسيح يدعون أن حقيقة التوحيد أن يكون الموحِّد هو الموحَّد؛ فيكون الحق هو الناطق على لسان العبد والله الموحد لنفسه لا العبد، وهذا في زعمهم هو السر الذي كان الحلاج يعتقده، وهو بزعمهم قول خواص العارفين"

(3)

.

بل إن قول هؤلاء شر من قول النصارى؛ حيث إن النصارى إنما اعتقدوا حلول الله بالمسيح عليه السلام، أما هؤلاء فاعتقدوا حلول الله بمن هو دون المسيح عليه السلام، بل بمن هو من الزنادقة والمجرمين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فالنصارى الذين كفرهم الله ورسوله واتفق المسلمون على كفرهم بالله ورسوله: كان من أعظم

(1)

انظر: التدمرية (ص: 221 - 223)، الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق (ص: 101 - 103) ومجموع الفتاوى (13/ 200 - 205)، طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:260 - 263).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 481).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (14/ 185).

ص: 268

دعواهم الحلول والاتحاد بالمسيح ابن مريم فمن قال بالحلول والاتحاد في غير المسيح -كما تقوله الغالية في علي، وكما تقوله الحلاجية

(1)

في الحلاج، والحاكمية في الحاكم

(2)

، وأمثال هؤلاء - فقولهم شر من قول النصارى؛ لأن المسيح ابن مريم أفضل من هؤلاء كلهم»

(3)

.

الوجه التاسع: أن السلف كفروا الجهمية لمجرد تلويحهم بأن الله في كل مكان، فكيف بمن صرح بذلك كالاتحادية هؤلاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«وقد كان سلف الأمة وسادات الأئمة؛ يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود كما قال عبد الله بن المبارك والبخاري وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحا وقل أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان، وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية»

(4)

.

الوجه العاشر: أن إنكار بينونة الله لخلقه هو تكذيب في الحقيقة للكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، وتكذيبه كفر بالله وخروج عن الملة، وتقرير هذا الأمر أشهر من أن يذكر، وأوضح من أن يسطر، فهو ضرورة لا يمكن جهلها ولا يسع جحدها، إلا من مكابر معاند، أو ملحد زنديق، وقد كان مما رد به شيخ الإسلام على مناظره في اتحاد الحلاج بالحق أن قال له: «وهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات، فقلب الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق؟!

»

(5)

.

(1)

نسبة إلى مَن ألَّه الحلاج، وقد سبقت ترجمته.

(2)

هو (الحاكم بأمر الله) أبو علي، منصور ابن نزار (العزيز باللَّه) ابن معد (المعز لدين الله) ابن إسماعيل بن محمد العبيدي، متأله، غريب الأطوار، من خلفاء الدولة الفاطمية، وظهرت الدعوة إلى تأليهه سنة (407 هـ) على يد حمد بن إسماعيل الدرزي وحسن بن حيدرة الفرغاني، (ت:411 هـ). انظر: السير (15/ 173)، وفيات الأعيان (5/ 292).

(3)

مجموع الفتاوى (2/ 280 - 281)، وانظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 497).

(4)

مجموع الفتاوى (2/ 477).

(5)

منهاج السنة (5/ 379).

ص: 269

‌ثانياً: من جهة فساد اعتقادهم في الحلاج:

اعتقد الاتحادية في الحلاج اعتقاداً فاسداً؛ حيث غلو فيه حتى بلغوا به درجة الألوهية، وأنه كان يفنى عن ذاته، حتى تتحد به ذات الحق سبحانه، وينطق على لسانه -والعياذ بالله من هذه الأقوال وقائليها-.

وحقيقة الأمر كما بينها شيخ الإسلام أن الحلاج ما كان إلا ساحراً زنديقاً؛ قُتِل على الزندقة والإلحاد، ومقالاته مقالات كفرية باتفاق المسلمين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «الحلاج قتل على الزندقة، التي ثبتت عليه بإقراره وبغير إقراره، والأمر الذي ثبت عليه مما يوجب القتل باتفاق المسلمين، ومن قال: إنه قتل بغير حق فهو إما منافق ملحد، وإما جاهل ضال.

والذي قتل به ما استفاض عنه من أنواع الكفر، وبعضه يوجب قتله، فضلا عن جميعه، ولم يكن من أولياء الله المتقين، بل كان له عبادات ورياضات ومجاهدات، بعضها شيطاني، وبعضها نفساني، وبعضها موافق للشريعة من وجه دون وجه، فلبس الحق بالباطل.

وكان قد ذهب إلى بلاد الهند، وتعلم أنواعاً من السحر، وصنف كتاباً في السحر معروفاً، وهو موجود إلى اليوم، وكانت له أقوال شيطانية، ومخاريق بهتانية»

(1)

.

ولا يعلم أن أحداً من علماء المسلمين أثنى عليه أو ذكره بخير، سوى بعض متقدمي الصوفية الذين لم يتبين لهم حاله، قال شيخ الإسلام:«وما نعلم أحداً من أئمة المسلمين ذكر الحلاج بخير، لا من العلماء ولا من المشايخ؛ ولكن بعض الناس يقف فيه؛ لأنه لم يعرف أمره»

(2)

، بل حتى مشايخ المتصوفة لم يعدوه من أهل الطريق وذلك لظهور كفره وزندقته، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وعند جماهير

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 108)، وانظر: الفتاوى الكبرى (3/ 480)، جامع الرسائل (1/ 187).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 483).

ص: 270

المشايخ الصوفية وأهل العلم أن الحلاج لم يكن من المشايخ الصالحين؛ بل كان زنديقاً»

(1)

، «وقد ذكر أبوعبد الرحمن السلَمي

(2)

أن جمهور المشايخ أخرجوه عن الطريق، وكان ساحرًا، وله مصنف في السحر»

(3)

.

‌ثالثاً: فساد ما ذكروه من مثال لتقرير هذا الأمر:

بين شيخ الإسلام رحمه الله فساد المثال الذي ذكروه من أن الله حل بقلب الحلاج ونطق على لسانه، كما يحل الجان بقلب المصروع وينطق على لسانه، وقد نقض شيخ الإسلام ذلك من عدة أوجه:

الوجه الأول: قياسكم غير صحيح فأنتم تقولون إن الله حل بقلب الحلاج، كما يحل الجن ببدن الإنسان، والجن إذا دخل جسد الإنسان يسري في جميع جسده ويشغل جميع أعضائه، ولا يكون في القلب فحسب

(4)

.

الوجه الثاني: أن القلب إنما تحل وتقوم به الأعراض لا الأعيان القائمة بنفسها، والجن مخلوقات وأعيان قائمة بنفسها وليست أعراض، فكيف تحل بالقلب

(5)

؟!.

الوجه الثالث: يلزم على قولكم هذا أن ذات الله سبحانه إنما هي عرض من الأعراض، وليست ذاتًا قائمة بنفسها؛ وذلك لأن القلب لا تقوم به إلا الأعراض، -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-

(6)

.

(1)

المصدر السابق (8/ 318).

(2)

هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدي السلمي النيسابوري، شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم، له مصنفات منها: الأربعين، طبقات الصوفية وغيرها، (ت: 412 هـ). انظر: تاريخ بغداد (2/ 248)، ميزان الاعتدال (3/ 46).

(3)

جامع المسائل (4/ 384)، وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 384)، وانظر: طبقات الصوفية (ص:236).

(4)

انظر: منهاج السنة (5/ 378 - 379).

(5)

انظر: المصدر السابق (5/ 379).

(6)

انظر: المصدر السابق (5/ 379).

ص: 271

الوجه الرابع: أن هذا مناقض لما قد علم بالضرورة من الدين والعقل أن الله بائن عن خلقه، فكيف يصح أن يقال إنه حل بالحلاج أو غيره

(1)

؟!

الوجه الخامس: أن الله عز وجل أعظم وأكبر من جميع خلقه، فكيف يصح أن يقال: أنه حل بقلب الحلاج؟ وكيف يسع قلب الحلاج ونحوه ذات الحق سبحانه

(2)

؟!.

الوجه السادس: أن دعواهم مخالفة لما هو "معلوم بالاضطرار من العقل والدين أن الله لم يتكلم على لسان بشر، كما يتكلم الجني على لسان المصروع"

(3)

، "ولكن يرسل الرسل بكلامه فيقولون عليه ما أمرهم ببلاغه، فيقول على ألسنة الرسل ما أمرهم بقوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أما إن الله قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده)

(4)

، فإن كل واحد من المرسل والرسول: قد يقال إنه يقول على لسان الآخر، كما قال الإمام أحمد بن حنبل للمروذي:(قل على لساني ما شئت)

(5)

، وكما يقال: هذا يقول على لسان السلطان كيت وكيت، فمثل هذا معناه مفهوم، وأما إن الله هو المتكلم على البشر، كما يتكلم الجني على لسان المصروع: فهذا كفر صريح"

(6)

.

الوجه السابع: أن هذا القول مخالف لكمال غناه عز وجل مستلزم لفقره واحتياجه لما سواه، كقلب يحل فيه، أو لسان ينطق به، كما يقول هؤلاء -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- قال شيخ الإسلام رحمه الله:«وكل من وقع بنوع من الحلول لزم افتقار الخالق إلى غيره واستغناء غيره عنه»

(7)

.

(1)

انظر: المصدر السابق (5/ 379).

(2)

انظر: المصدر السابق (5/ 379).

(3)

مجموع الفتاوى (1/ 158).

(4)

رواه مسلم، باب: التشهد في الصلاة. برقم (404).

(5)

لم أقف على هذا الأثر.

(6)

مجموع الفتاوى (2/ 481 - 482).

(7)

درء تعارض العقل والنقل (10/ 287).

ص: 272

وبهذا القدر يتضح فساد ما احتج به هذا المناظر، لتبرير ما وقع به شيخهم الحلاج من ضلالات وكفريات، تناقض الشرع الكريم، وتخالف العقل المستقيم.

* * *

ص: 273

‌المبحث الثالث: مناظرته مع جماعة من الاتحادية العارفين بالفلسفة وغيرها والداخلين في التصوف والزهد في اعتقادهم أن ابن هود هو الله، وهو المسيح ابن مريم:

ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه المناظرة أثناء بيانه لحال الاتحادية، حيث بين رحمه الله أن أصحاب الحلول والاتحاد هم أحق الناس باتباع المسيح الدجال، حيث لا يمتنع على قولهم بجواز الاتحاد بين الخالق والمخلوق، أن يكون الدجال هو نفسه الله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-.

ثم عَرَجَ شيخ الإسلام رحمه الله على تكذيب الرازي وأمثاله للحديث الوارد في علامة الدجال وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)

(1)

، بحجة أن أدلة نفي الربوبية عن المسيح أوضح وأكثر من هذا فكيف يحتج على نفي ربوبيته

(1)

رواه البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (7131)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة (2933).

ص: 274

بالعور فقط؟

وقد أجاب شيخ الإسلام عن هذه الشبهة وبين صحة الحديث وثبوته، من وجوه عدة

(1)

، ثم شرع رحمه الله في ذكر هذه المناظرة التي حدثت له مع صنف آخر ممن لم ينكر الحديث وإنما فهمه على غير معناه ووجهه الصحيح؛ بل جعله دليلا على جواز اتحاد الله بابن هود -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-.

ويلاحظ القارئ تفاوت مسلك الفريقين مع الحديث وتناقضه، فالفريق الأول ينكر الحديث ويجحده، والفريق الآخر جعل الحديث مثبتا للاتحاد والحلول.

وقد مهد شيخ الإسلام قبل ذكر هذه المناظرة بذكر نبذة عن شخصية هذا الرجل الذي اغتر به الكثير ألا وهو ابن هود

(2)

، فذكر أنه كان شيخاً مشهوراً بدمشق، وكان من أعظم الاتحادية زهداً ومعرفة ورياضة، وكان معظماً لابن سبعين ومفضلاً له على ابن عربي، وقد بلغ الحال ببعض مريديه إلى أن ادعوا أنه هو المسيح عيسى ابن مريم، بل وادعو أنه هو الله -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-

(3)

.

(1)

انظر: بغية المرتاد (ص:514 - 519)، وسيتم ذكر أهم الأوجه أثناء دراسة المناظرة.

(2)

ابن هود: هو أبو علي بدر الدين حسن بن علي بن يوسف بن هود المرسي المغربي الأندلسي الصوفي الاتحادي الضال، حصل له زهد مفرط وفراغ عن الدنيا، وكان لا يفرق بين الملل والنحل، ويجيز التدين بأي دين، وربما أقام اليوم واليومين شاخص العينين لا يفوه بحرف، وصحِب ابن سبعين واشتغل بالفلسفة والطبّ وتُرَّهات الاتّحادية، وزُهْديّات الصوفية، وخلط هذا بهذا، وكان غارقاً في الفكر، مواصل الأحزان، يلبس نوعاً من الثياب مما لم يعهد لبس مثله، وحُمِلَ مرة إلى والي البلد وهو سكران أخذوه من حارة اليهود فأحسن الوالي به الظن وسرحه، وقيل: سقاه اليهود خبثاً منهم ليغضوا منه بذلك، ومن شعره:

علم قومي بي جهل

إن شأني لأجل

أنا عبد أنا رب

أن عز أنا ذل

أنا دنيا أنا أخرى

أنا بعض أنا كل

توفي سنة (699 هـ). انظر: السير (23/ 22)، وفوات الوفيات (1/ 345)، وشذرات الذهب (5/ 447)، وأعيان العصر (2/ 200 - 205)، والوافي بالوفيات (12/ 156).

(3)

انظر: بغية المرتاد (ص:514 - 520).

ص: 275

‌عرض المناظرة:

قال شيخ الإسلام: «وقد كان عندنا بدمشق الشيخ المشهور الذي يقال له: ابن هود، وكان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الاتحادية؛ زهداً ومعرفة ورياضة، وكان من أشد الناس تعظيماً لابن سبعين ومفضلاً له عنده على ابن عربي وغلامه ابن إسحاق

(1)

، وأكثر الناس من الكبار والصغار كانوا يطيعون أمره، وكان أصحابه الخواص به يعتقدون فيه أنه الله، وأنه أعني ابن هود هو المسيح بن مريم، ويقولون إن أمه كان اسمها مريم وكانت نصرانية، ويعتقدون أن قول النبي صلى الله عليه وسلم:(ينزل فيكم ابن مريم)

(2)

هو هذا، وأن روحانية عيسى تنزل عليه.

وقد ناظرني في ذلك من كان أفضل الناس إذ ذاك معرفة بالعلوم الفلسفية وغيرها مع دخوله في الزهد والتصوف، وجرى لهم في ذلك مخاطبات ومناظرات يطول ذكرها جرت بيني وبينهم، حتى بينت لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى بن مريم، وأن ذلك الوصف لا ينطبق على هذا، وبينت فساد ما دخلوا فيه من القرمطة حتى أظهرت

(3)

مباهلتهم

(4)

، وحلفت لهم أن ما ينتظرونه من هذا لا يكون ولا يتم، وأن الله لا يتم أمر هذا الشيخ؛ فأبر الله تلك الأقسام والحمد لله رب العالمين.

هذا مع تعظيمهم لي بمعرفتي عندهم، وإلا فهم يعتقدون أن سائر الناس محجوبون جهال بحقيقتهم وغوامضهم، وإلا فمن كان عند هؤلاء يصلح أن

(1)

هو صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي الرومي. وقد سبق ترجمته.

(2)

رواه البخاري، كتاب أخبار الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم (3448)، ومسلم، كتاب الإيمان (155).

(3)

في المطبوع: (ظهرت) ولعله خطأ.

(4)

الباء والهاء واللام) أصول ثلاثة: أحدها التخلية، والثاني جنس من الدعاء، والثالث قلة في الماء. والمباهلة ترجع إلى الثاني؛ فإن المتباهلين يدعو كل واحد منهما على صاحبه. قال الله تعالى:{ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]. انظر: مقاييس اللغة (1/ 310).

ص: 276

يخاطب بأسرارهم؟!

إنما الناس عندهم كالبهائم، حتى قال لي شيخ مشهور من شيوخهم لما بينت

(1)

له حقيقة قولهم، فأخذ يستحسن ويعظم معرفتي بقولهم، وقال: هؤلاء الفقهاء صم بكم عمي فهم لا يعقلون.

فقلت له: هب أن الفقهاء كذلك، أبالله

(2)

أهذا القول موافق لدين الإسلام؟ فيتحير المجتهدون ويضطربون إذا شبه عليهم؟!

وقال لي بعض من كان يصدق هؤلاء الاتحادية، ثم رجع عن ذلك، فكان من أفضل الناس ونبلائهم وأكابرهم: ما المانع من أن يظهر الله في صورة بشر؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في

الدجال: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)، فلولا جواز ظهوره في هذه الصورة لما احتاج إلى هذا في كلام له. وأخذ يحتج بذلك على إمكان أن يكون ابن هود الله.

فبينت له امتناع ذلك من وجوه، وتكلمت معه في ذلك بكلام طال عهدي به، لست أضبطه الآن حتى تبين له بطلان ذلك.

وذكرت له أن هذا الحديث لا حجة فيه، والله سبحانه قد بين عبودية المسيح وكفر من ادعى فيه الإلهية بأنواع غير ذلك؛ كقوله تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] فأكل الطعام لازم لكل بشر. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17]، وقال تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة:255]، وقال تعالى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وأمثال ذلك»

(3)

.

(1)

في المطبوع: (بنت) ولعله خطأ.

(2)

في المطبوع: (أبا الله) ولعله خطأ.

(3)

بغية المرتاد (ص:520 - 522).

ص: 277

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌المسألة الأولى: بطلان شبهتهم في اعتقاد ألوهية ابن هود:

ودراسة هذه المسألة من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

في هذه المناظرة كانت شبهة هذا الرجل الاتحادي شبهة نقلية وهي استدلاله بما جاء في وصف الدجال: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)

(1)

، على جواز ظهور الله في صورة بشر، وبالتالي جواز ظهوره في صورة شيخهم ابن هود، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الآية والعلامة التي يعرف بها كذب المسيح الدجال في ادعائه الألوهية هي العور، فزعموا أن هذا يدل على إمكانية ظهور الله في صورة البشر، وإلا لما احتاج في تقرير نفي ألوهية المسيح الدجال لمثل هذا الكلام

(2)

.

والاستدلال بالنصوص وإن كان ليس من طريقة أهل الاتحاد، إلا أن من عادة أهل الباطل بعد تقرير باطلهم بطرقهم المبتدعة، أن يبحثوا ويفتشوا عما يتعلقون به من نصوص الشرع للاحتجاج به على مذهبهم الذي قرروه، وطريقتهم التي سلكوها، ومن هذا الباب جاء استدلالهم بهذا الحديث.

‌الوجه الثاني: الجواب عن الشبهة:

أجاب شيخ الإسلام عن استشهاد هؤلاء الاتحادية بهذا الحديث من عدة أوجه:

أولاً: أن هذا الفهم السيء للحديث إنما دخل عليهم بسبب ظنهم أن ذكر صفة العور في الحديث إنما جاء؛ لأنها هي العلامة الفارقة الوحيدة التي يمكن التمييز بها بين الخالق جل وعلا والمسيح الدجال، والصواب أن ذكر صفة العور في

(1)

سبق عزوه.

(2)

انظر: بغية المرتاد (ص: 521).

ص: 278

الحديث الشريف ليس المراد به أنها هي العلامة الفارقة والمميزة الوحيدة، وليس هناك علامة غيرها، بل الحديث ظاهر في أنها إحدى العلامات، وإن كانت هناك علامات أخرى غيرها، ويؤكد ذلك ما يلي:

1.

أنه قد جاء في إحدى روايات الحديث، قوله صلى الله عليه وسلم:(لأقولن لكم فيه قولاً لم يقله نبي لأمته؛ إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)، فبين أن سبب تخصيصه لهذه الصفة بالذكر، أنه أول من يبينه ويوضحه من الأنبياء، حيث لم يذكر هذه العلامة أحد قبله.

2.

أنه لو كان هذا هو الدليل الوحيد على كذب هؤلاء لوجب على الأنبياء كلهم أن يبينوا ذلك؛ لوجوب بيان كذبه، وتحذير أمتهم منه، ومع ذلك فقد أخبر في الحديث أنه أول من يبين هذا الأمر وهذا الدليل، فدل على أنها ليست العلامة الوحيدة الفارقة.

3.

أنه قد جاء في الأحاديث نفسها ذكر علامات وأوصاف أخرى للدجال تدل على كذبه في دعواه

(1)

ومنها أنه (مكتوب بين عينيه كافر (ك ف ر) يقرؤها كل مؤمن)

(2)

ومنها: أنه يُرى في الدنيا، وقد أخبر في الحديث:(واعلموا أنّ أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)

(3)

، ومنها: أنه يريد أن يقتل ذلك المؤمن الذي قتله أولا فيعجز عن قتله مرة ثانية

(4)

(5)

.

(1)

انظر: بغية المرتاد (ص:516 - 517).

(2)

رواه البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (7131)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة (2933).

(3)

رواه مسلم باب: ذكر ابن صياد (2931).

(4)

حديث أبي سعيد، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً حديثا طويلا عن الدجال، ثم قال:(فيخرج إليه يومئذ رجل، وهو خير الناس - أو من خيار الناس - فيقول أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا، ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب لا يدخل الدجال المدينة (7132).

(5)

انظر: الجواب الصحيح (1/ 418)(6/ 419).

ص: 279

ثانياً: أنه إنما خص ذكر هذه العلامة؛ لأنها علامة ظاهرة لكل أحد ويعرفها ويقر بها جميع الناس، فإن قيل: أفلا يكفي في بيان بطلان ألوهية المسيح الدجال إثبات أنه بشر من بني آدم، والرب ليس كذلك؟

قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف ببيان بشرية المسيح الدجال؛ لأنه علم أن كثيرًا من الخلق سيضل في هذا الباب، فيجيز حلول الله بخلقه وظهوره في صورة البشر وحلوله واتحاده بهم، كما وقع هذا لكثير من الأمم، فالنصارى ادعت اتحاد الله بالمسيح عليه السلام، وادعى اليهود من بني إسرائيل أن العجل هو إله موسى مع وجود نبي الله فيهم وهو هارون عليه السلام، وكثير ممن ينتسب إلى الإسلام والقبلة يدعي حلول الله واتحاده ببعض المشايخ والأولياء، بل أصحاب وحدة الوجود يعتقدون أن كل شيء في الوجود هو الله عز وجل.

فلما علم صلوات الله وسلامه عليه، أن هذه العلامة -وهي بيان بشرية المسيح الدجال- لن تكون كافية في بيان المقصود بالنسبة لهؤلاء، ذكر علامة أظهر وأوضح يقر بها الجميع وهي (العور).

فإنه لو قال: أن الله ليس ببشر. لما أقر بذلك كثير من الناس ولنازعوا في ذلك، فاحتاج لذكر أمور ظاهرة لا يحتاج فيها إلى ذكر موارد النزاع

(1)

.

ثالثاً: يلزمكم إذا جوزتم دعوى الألوهية في ابن هود وغيره ممن ظهرت على أيديهم بعض الخوارق، أن تجوزوا دعوى المسيح الدجال بذلك، بل إن الدجال أولى بدعوى الألوهية ممن ذكرتم وذلك لوجهين:

1.

أن جميع خوارق هؤلاء لا تعد شيئا بالنسبة لخوارق الدجال.

2.

أن كثيراً ممن يعتقد فيهم الحلول والاتحاد لم يدَّعو ذلك لأنفسهم بل قد ينكرونه، ومع ذلك جوزتم الحلول لهم، بينما الدجال قد صرح بادعائها لنفسه،

(1)

انظر: الجواب الصحيح (3/ 325)، ومجموع الفتاوى (2/ 476)(3/ 392)، ومجموعة الرسائل والمسائل (1/ 180)، والوصية الكبرى (ص:80).

ص: 280

ويأتي بخوارق عظيمة يستدل بها على ذلك، أفلا يكون أحق بجواز اتحاد الله وحلوله به؟! -سبحانه وتعالى عما يشركون-.

والخلاصة: أنكم إما أن تعتقدوا صحة دعوى المسيح الدجال للألوهية وهذا هو الكفر بعينه، وإما أن تمنعوها فيه فيكون امتناعها في حق غيره كابن هود وغيره أولى وأحرى

(1)

.

رابعاً: أن في الحديث الذي احتجوا به دليل على بطلان قولهم، ونقض عقيدتهم في الاتحاد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)، فأخبر - صلى الله عليه وسلم أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، ومن المعلوم أن كل البشر يمكن رؤيتهم بالعين المجردة، فلو جاز اتحاد الله بالبشر وحلوله بهم، لأمكن رؤيته بالعين، وهذا باطل

(2)

.

‌المسألة الثانية: بطلان اعتقادهم أن ابن هود هو عيسى بن مريم:

من عجيب أمر هؤلاء الاتحادية وتناقضهم، أنهم مع اعتقادهم أن ابن هود هو الله، فإنهم يعتقدون أيضا أنه هو المسيح بن مريم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام، ولعل هذا اعتقاد طائفة أخرى من معظمي هذا الشيخ، وقد يكون هو اعتقاد الطائفة نفسها وهذا لا يستبعد لما هو معروف من تناقض القوم وتخليطهم واضطراب أقوالهم ومعتقداتهم، وقد أشار شيخ الإسلام إلى أن مما ساعدهم على مثل هذا الاعتقاد الفاسد هو أن أم ابن هود كان اسمها مريم وكانت نصرانية فزعموا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم:(ينزل فيكم ابن مريم)

(3)

، هو هذا وأن روحانية عيسى تنزل عليه.

وهذه الدعوى وإن كانت ظاهرة البطلان ومجرد ذكرها يغني عن بيان بطلانها،

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 481)، الجواب الصحيح (3/ 325)، بغية المرتاد (ص: 483)

(2)

انظر: الجواب الصحيح (3/ 324).

(3)

سبق عزوه.

ص: 281

إلا أن شيخ الإسلام رحمه الله قد بين في مناظرته لهم بطلان هذه الدعوى واستحالتها وقد اشتمل جوابه لهم على ثلاثة أمور:

الأول: احتجاجه بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى عليه السلام على فساد دعواهم أن ابن هود هو المسيح، فإن الأوصاف التي جاءت فيها لا تنطبق على ابن هود، قال رحمه الله:«حتى بينت لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى بن مريم، وأن ذلك الوصف لا ينطبق على هذا»

(1)

، ومن تلك الأوصاف التي جاءت في الاحاديث الصحيحة، (كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل)

(2)

، وأنه (رجل مربوع إلى الحمرة والبياض)

(3)

، وأما ابن هود فقال الذهبي:«وكان أشقر، أزرق»

(4)

،

والمسيح عليه السلام، إنما ينزل فجأة عند المنارة البيضاء شرقي دمشق في صلاة الصبح، ويقتل المسيح الدجال

(5)

، وتحدث قبل نزوله أحداث كثيرة، لا تصدق على حال ابن هود وزمنه.

الثاني: حلف لهم شيخ الإسلام أن ما ينتظرونه على يد ابن هود -ظنا منهم أنه هو المسيح- لا يتم بحال ولا يكون.

الثالث: طلب منهم المباهلة على هذا إن لم يصدقوه.

وقد أبر الله يمين شيخ الإسلام فكشف لهم بطلان دعواهم في هذا الرجل، ولم يحدث لهم شيء مما كانوا يتوقعون، ولا وقع لهم شيء مما كانوا يرجون ويؤملون، فظهر الحق وبطل ما كانوا يعتقدون.

* * *

(1)

بغية المرتاد (ص:26).

(2)

رواه أحمد (9270) وأبو داود (4324)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5386).

(3)

رواه البخاري باب إذا قال أحدك آمين (3239) ومسلم كتاب الإيمان (165).

(4)

تاريخ الإسلام (52/ 400).

(5)

الحديث رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة (2937).

ص: 282

‌المبحث الرابع: مناظرته مع بعض أكابر الاتحادية في الفرق بين التوحيد والإلحاد: ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

حكى شيخ الإسلام رحمه الله في غير موضع من كتبه مناظرة وقعت بينه وبين شيخ من أكابر شيوخ الاتحادية يدعى حسام الدين الكرماني

(1)

، ويلقبه أصحابه بـ (سلطان الأقطاب)، وهو من المعظمين جداً لابن عربي وابن حمويه

(2)

، وقد دار الحوار بينه وبين شيخ الإسلام رحمه الله في أمور كثيرة مما يتعلق بالاتحادية وحقيقة مذهبهم ومعتقدهم، وقد استطاع شيخ الإسلام بقوة حجته وحسن منطقه، وغزارة علمه، بعد توفيق الله، أن يقنع الخصم وينقذه من ضلالات الاتحادية وخرافاتهم، حتى رجع عن تعظيم من كان يعظم من الاتحادية، وكفر بما يقوله ابن عربي

(1)

لم أقف على ترجمته، إلا ما ذكر شيخ الإسلام في هذه المناظرة عن حاله ومناظراته معه ورجوعه عن مذهب الاتحادية. والله أعلم.

(2)

هو أبو إبراهيم سعد الدين محمد بن المؤيد بن عبد الله بن علي بن محمد بن حمويه الجويني الصوفي، كان صاحب رياضات وأحوال، وله كلام في التصوف على طريقة أهل الوحدة والاتحاد (ت:650 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (14/ 644)، الوافي بالوفيات (5/ 69)، الأعلام للزركلي (7/ 120).

ص: 283

من الكفريات، وتبين له ضلال كثير من الفقهاء المنتسبين لمذهب الاتحادية حتى قال:«هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صُمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون»

(1)

، وقال شيخ الإسلام:«وجَرَتْ لنا معه فصول أظهرَ اللهُ بها الحقَّ وبيَّنَ حالَ التوحيد وتلبيسَ هؤلاء المنافقين»

(2)

.‌

‌ نص المناظرة:

حكى شيخ الإسلام رحمه الله هذا المناظرة في عدة مواضع من كتبه نوردها بنصها كما أتت:

الموضع الأول: «ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية

(3)

عن صاحب هذه المقالة

(4)

؛ أنه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف.

فقلت له: هذا من أبطل الباطل، بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد، وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه؛ مثل قوله إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله؛ بحيث لا يظهر فيه شيء»

(5)

.

الموضع الثاني: «وهكذا حدثني بعض أكابر مشايخ هؤلاء الاتحادية، وكنتُ لما بينتُ له حقائقَ أمرِهم يتعجبُ من ذلك ويستعظمه ويقول: هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صُمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، حدثني أن سعد الدين ابن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرقٌ لطيف.

وهذا حقيقة هذا القول المحكيّ عنه، فإن الإلحاد المحض نفي الصانعِ بالكلية، وأن هذا العالم الموجود ليس له صانع!

(1)

جامع المسائل (4/ 424).

(2)

المصدر السابق (4/ 394).

(3)

هو حسام الدين الكرماني، كما سبق توضيحه.

(4)

هو سعد بن حمويه كما نص عليه في المواضع الأخرى.

(5)

مجموع الفتاوى (2/ 196)، مجموعة الرسائل (4/ 41).

ص: 284

فإذا قال القائل: إن هذا العالم الموجود هو الصانع، وهو الصانع المصنوع، فقوله مثل قول الملحدة المحضة في جحود ربّ العالمين؛ لكن ذاك لا يحتاج أن يقول: ظهرَ فيه صانعُه، وهذا يقول: هو صانعُه وما هو غير صانعه، لكن الصانع له ذات، وهو الوجود المطلق المرئي الذي له اسم ولا صفة، وله أسماءٌ وصفات، وهي نسبةُ ذلك الوجود إلى مظاهرِه ومجاليه أو نحو هذه العبارات التي ليس لها حقيقة في الخارج، وإنما كلّ منهم يتخيَّلُ نوعًا من الكفر ويقوله، ويقول: إنه غاية التحقيق ونهاية التوحيد وحقيقة النبوة»

(1)

.

الموضع الثالث: «حدثني الشيخ الملقب بحسام الدين القادم السالك طريق ابن حمويه الذي يلقبه أصحابه (سلطان الأقطاب)؛ وكان عنده من التعظيم لابن عربي وابن حمويه؛ والغلو فيهما أمر عظيم، فبينت له كثيراً مما يشتمل عليه كلامهما من الفساد والإلحاد والأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وجرى في ذلك فصول؛ لما كان عنده من التعظيم مع عدم فهم حقيقة أقوالهما وما تضمنته من الضلالات»

(2)

.

الموضع الرابع: «وما يروى في هذا الباب من الأحاديث: هو من هذا الجنس مثل كونه [أي النبي صلى الله عليه وسلم] كان نوراً يسبح حول العرش أو كوكباً يطلع في السماء ونحو ذلك

فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب حتى أنه اجتمع بي قديماً شيخ معظم من أصحاب ابن حمويه يسميه أصحابه "سلطان الأقطاب"، وتفاوضنا في كتاب "الفصوص" وكان معظما له ولصاحبه؛ حتى أبديت له بعض ما فيه فهاله ذلك وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث فبينت له أن هذا كله كذب»

(3)

.

الموضع الخامس: «وقد قَدِم علينا أكبر مشايخ تلك البلاد من السعدية حسام الدين الكرماني حاجًّاً، وخاطبتُه في حالِ هؤلاء، وبيّنتُ له من كلام ابن العربي

(1)

جامع المسائل (4/ 425).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 594).

(3)

مجموع الفتاوى (2/ 239) ومجموعة الرسائل (4/ 72).

ص: 285

وغيرِه ما كان طالبًا له، حتى رَجَعَ عن تعظيم هؤلاء، وكَفَر بما يقوله ابن العربي من الكفريات، وقال: ما كُنّا نَعرِف حقيقةَ حالِ هؤلاء، ولا نعرف أن كلامَهم مشتمل على هذا كله! مع أنه كان من أكثر المشايخ تعظيمًا لابن العربي، وهو من الغلاة في سعد الدين. وجَرَتْ لنا معه فصول أظهرَ اللهُ بها الحقَّ وبيَّنَ حالَ التوحيد وتلبيسَ هؤلاء المنافقين»

(1)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌المسألة الأولى: مناقشة قول ابن حمويه: (ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف):

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

يرى ابن حمويه أن وجود الله بالنسبة لوجود العالم كنور العين بالنسبة للعين، فالله هو نور العين، والعالم العلوي هو الأجفان العلوية للعين، والعالم السفلي هو الأجفان السفلية للعين، والله هو النور الذي يظهر بوجود هذه الأجفان، فإن الأجفان هي التي تحافظ على ظهور النور وهي شرط في ظهوره، وكذلك العالم هو الذي يظهر به الإله، ولولا هذه الأجفان لتفرق نور العين وانتشر بحيث لا يرى شيئاً أصلاً، وكذلك العالم لو عدم لما أمكن ظهور الله لأن وجوده إنما هو وجود مطلق لا يتقيد برسم ولا صفة ولا قيد

(2)

.

وهذا الاعتقاد هو أصل شبهة هذا الرجل والتي بنى عليها قوله بأنه لا يوجد فرق بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف، وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا فقال مبيناً سبب هذه المقولة: «وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه؛ مثل قوله إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله؛ بحيث

(1)

جامع المسائل (4/ 394).

(2)

انظر: (الرد على مذهب الاتحاديين) ضمن مجموع الفتاوى (2/ 186 - 199)، رسالة في (الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن حمويه) ضمن جامع المسائل (4/ 389 - 390).

ص: 286

لا يظهر فيه شيء»

(1)

.

وتوضيح هذه الشبهة أن يقال: إن ابن حموية وأتباعه اعتقدوا أن الله بالنسبة للعالم كنور العين بالنسبة للعين، وعندهم أن هذا هو غاية التوحيد، وبناءً على هذه المقالة لا يكون بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف، بل لا يكون هناك فرق بينهما أصلاً، وذلك أن أهل الإلحاد إنما يثبتون وجود العالم وينفون وجود الخالق له، وأهل الاتحاد يثبتون الخالق ولكن يجعلون الخالق هو العالم نفسه، أو جزء منه كما أن نور العين جزء من العين، فيكون غاية قولهم هو إثبات العالم فحسب، هذا من وجه.

ومن وجه آخر: أن توحيد أهل الاتحاد هو الاعتقاد أن الله هو الوجود المطلق تجلى وظهر بأحكام الممكنات، ولذلك شبهوه هنا بنور العين، وشبهوا العالم بالأجفان العلوية والسفلية للعين، لأنهما يحافظان على ظهور النور فهما شرط في وجود النور وبذهابهما يذهب النور، فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله، وهذا ما نص عليه التلمساني والقونوي وابن عربي في كثير من كلامه، أن وجود الله هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها، وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات، كما لا يتصور بقاء النور مع عدم الأجفان، وهذا القول إذا تأملته وجدت أنه لا فرق بينه وبين الإلحاد الذي هو حقيقة هذا المذهب وغايته

(2)

.

وخلاصة قولهم أنهم أقروا بوجود العالم، وأنكروا أن فوقه رب، كما أن أهل الإلحاد أقروا بوجود العالم، وأنكروا أن يكون فوقه ربا، والفرق بينهما أن الملاحدة لم يجعلوا العالم إلها، وهم جعلوه إلها

(3)

.

وبهذا نخلص إلى أن الخطأ الذي وقع فيه ابن حموية كان من جهتين:

أولاً: تقريره لمذهب الاتحادية، وأن الله بالنسبة للعالم كنور العين

(1)

مجموع الفتاوى (2/ 196).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 197 - 198).

(3)

انظر: المصدر السابق (2/ 191 - 192).

ص: 287

بالنسبة للعين.

ثانياً: ظنه أن حقيقة التوحيد هي القول بالاتحاد المذكور الذي قرره بالشبهة السابقة.

وبعد تأمله في حقيقة التوحيد المزعوم وما ضربه عليه من مثال، تبين له أنه شبيهٌ بقول أهل الإلحاد، إلا أن هناك فرقاً يسيراً بينهما، فقال هذه المقولة الفاسدة.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

استطرد شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في بيان فساد مذهب ابن حمويه ومن سلك طريقه وذلك من وجوه كثيرة، ويهمنا هنا أن نلقي الضوء على الشبهة التي حملت ابن حمويه على القول بمثل هذه المقولة، فأما خطأه في فهم التوحيد فقد تبين في فصول سابقة حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرسل وبطلان ما تسميه كثير من الطوائف توحيداً

(1)

، وأما شبهة ابن حمويه التي بنى عليها مقالته: وهي اعتقاده أن الله بالنسبة للعالم كالنور بالنسبة للعين، والعالم أجفان هذه العين، فقد أجاد شيخ الإسلام وأفاد في رد هذا التصور والاعتقاد، وذلك من وجوه كثيرة أبرزها ما يلي:

الوجه الأول: أن هذا الكلام ما هو إلا "دعوى مجردة بلا حجة ولا دليلٍ، وإذا كان من تكلَّم في مسألة من مسائل الاستنجاء أو الإجارة لم يُقبَل منه إلاّ بالحجة والدليل، فمن تكلم في خالقِ الخلق وربّ العالمين بكلامٍ لا يوجَد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قاله أحدٌ من السلف ولا شيخ من المشايخ الذين لهم لسان صدقٍ في عمومه، بل جميعُ أهل العلم والإيمان والمشايخ المقبولون يُكفرون من يقوله، ولم يأتِ عليه لا بحجةٍ ولا دليلٍ، كيف يُقبَل منه؟ "

(2)

.

(1)

راجع ص: 215.

(2)

جامع المسائل (4/ 396).

ص: 288

الوجه الثاني: أن هذا القول مخالف لمذهب جميع المسلمين، بل وسائر أهل الملل من اليهود والنصارى والمقرِّين بالصانع من أنه سبحانه حق موجود بنفسه، متميز عما سواه، وهو ربّ العالمين وخالق الخلق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاتِه شيء من ذاته، وأن جميع الكائنات عبادٌ لله فقراءُ إليه، وهو مالكهم وربهم وخالقُهم

(1)

.

الوجه الثالث: أن لهذا القول لوازم فاسدة كثيرة، منها:

1) يلزم منه أن يكون الله محتاجًا للعالم مفتقراً له وذلك أن "نور العين مفتقر إلى العين محتاج إليها لقيامه بها فإذا كان الله في العالم كالنور في العين؛ وجب أن يكون محتاجا إلى العالم"

(2)

.

2) يلزم منه أن يكون الله مفتقراً في وجوده إلى وجود مخلوقاته وذلك أنه جعل وجود الباري تبارك وتعالى مشروطاً بوجود العالم بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته وتفرقت وعدمت، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان بحيث لولا الأجفان لانتشر نور العين وتفرق وعدم

(3)

.

الوجه الرابع: قال شيخ الإسلام: «فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يئوده حفظهما، وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكهما أن تزولا، أيكون محتاجاً إليهما مفتقرا إليهما؟! إذا زالا تفرق وانتشر؟!»

(4)

.

الوجه الخامس: أن كفر هذا القول من الوضوح بمكان لا يخفى، "وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السماوات تقله أو تظله؛ أو أنه محتاج للعرش لحمله

فكيف بمن يقول إنه مفتقر إلى السموات والأرض وأنه إذا ارتفعت

(1)

انظر: المصدر السابق (4/ 416).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 195).

(3)

انظر: المصدر السابق (2/ 186 - 187).

(4)

المصدر السابق (2/ 187).

ص: 289

السموات والأرض: تفرق وانتشر وعدم؟! "

(1)

.

الوجه السادس: أن يقال لهؤلاء أنتم بين أمرين:

1.

إما أن تقولوا بقدم السماوات والأرض وقدم العالم: وهذا كفر بين.

2.

وإما أن تقولوا بحدوثهما، وعليه فيكون الله قبل خلقهما منتشراً متفرقاً معدوماً ثم لما خلقهما صار موجوداً مجتمعاً؟ وهذا من أقبح الكفر أيضاً!

فيكون قولهم دائرا بين نوعين من أنواع الكفر، مع غاية الجهل والضلال

(2)

.

الوجه السابع: قد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن ربه: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه)

(3)

، فأخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض وغيرهما، فمن تكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض لولا الحجاب، أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض

(4)

؟!.

الوجه الثامن: من المعلوم أن صور العالم ومخلوقاته، تزيد وتنقص وتموت وتحيا، وفيهم الكافر والمؤمن، والبر والفاجر، وقد جعلها ابن حمويه هي أهداب جفن حقيقة الله، ويلزم على هذا ثلاث لوازم فاسدة:

الأول: أن تكون أهداب جفن حقيقة الله لا تزال مفرقة كاشرة فاسدة، تزيد وتنقص

(5)

.

الثاني: أن يكون المشركون واليهود والنصارى والفجار من أجفان حقيقة الله! وقد لعن الله من جعلهم أبناءه على سبيل الاصطفاء فكيف بمن

(1)

المصدر السابق (2/ 188) باختصار.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 188).

(3)

رواه مسلم، كتاب الإيمان. (179).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 189).

(5)

انظر: المصدر السابق (2/ 190).

ص: 290

جعلهم من نفسه

(1)

؟!.

الثالث: أنه كلما عدم شيء من مخلوقات الله ينتقص من نور الحق ويتفرق بقدر ما عدم من ذلك، وكلما زاد شيء من ذلك زاده نوره واجتمع

(2)

.

الوجه التاسع: أن كلام ابن حمويه وأضرابه من أئمة الاتحادية في غاية الاضطراب والتناقض، وهذا من أعظم الأدلة على بطلان قولهم، فإن علامة الباطل تناقضه واختلافه، وابن حمويه كان كما أخبر شيخ الإسلام:«أكثرهم تناقضاً وهذياناً»

(3)

، قال شيخ الإسلام:«فسعد الدين-مع ما فيه من الإسلام والمتابعة- فيه تخليط كثير، فإنه أحيانًا يتكلم بكلام الاتحادية؟ وأحيانًا يُجرد الاتحادَ تجريدَهم، بل يَسلُك لنفسِه مسلكًا أبلقَ لا أبيضَ ولا أسودَ؛ وأحيانًا يتكلم بكلام أهل الإسلام الموافق للكتاب والسنة؛ وأحيانًا يحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

‌المسألة الثانية: بيان حال ابن عربي وابن حمويه وغيرهم من أئمة الاتحادية:

كان من أعظم ما بينه شيخ الإسلام رحمه الله لمناظره الشيخ حسام الدين الكرماني، حال أئمة الاتحادية كابن عربي والتلمساني والقونوي وصدر الدين ابن الرومي وابن حمويه وغيرهم من أصحاب مذهب الاتحاد ووحدة الوجود، حيث كان الشيخ حسام الدين الكرماني ممن يعظمهم ويحسن الظن بهم بل من الغالين في تعظيمهم وتبجيلهم، لعدم فهمه حقيقة أقوالهم وما تضمنته من كفر وضلالات.

والناظر في كتب شيخ الإسلام رحمه الله يجد أنها قد امتلأت ببيان حال هؤلاء،

(1)

انظر: المصدر السابق (2/ 190).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 187 - 188).

(3)

المصدر السابق (2/ 186)

(4)

جامع المسائل (4/ 395).

ص: 291

وكشف ضلالهم وكفرهم وتلبيساتهم، ولو جمع كلام شيخ الإسلام رحمه الله في ابن عربي وطائفته، لبلغ عدة مجلدات، وذلك لكثرة انتشار هذا المذهب في عصره واغترار الناس بهؤلاء وأمثالهم وإحسان الظن بهم، وعدم فهم حقيقة مذهبهم وأقوالهم، وسأكتفي في هذا الموضع ببيان شيء يسير مما ذكره شيخ الإسلام في بيان حقيقة مذهبهم واعتقادهم، وما حواه من كفر عظيم، وإلحاد برب العالمين، وتحريف للشرعة والدين.

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن غاية مذهب الاتحادية هو إنكار وجود الله والإلحاد به وبأسمائه وصفاته، كما سبق توضيح ذلك في المبحث الأول من هذا الفصل، وكل اعتقاداتهم التي يقررونها في الباري عز وجل إنما هي أوهام وخيالات لا وجود لها في الحقيقة، ولا تمت للواقع بأي صلة

(1)

، وحقيقة مذهبهم ترجع للإلحاد برب العالمين، حيث إنه لا فرق في الحقيقة بين ما يذكرونه من توحيد وبين مذهب الملاحدة الذين ينكرون وجود الصانع كما تم توضيح ذلك في المطلب الأول من هذا المبحث، وبين شيخ الإسلام أنهم يجعلون وجود الله نفس وجود الحيوانات والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار! ويجعلون رب العزة سبحانه هو عين المخلوقات ويصفونه بجميع النقائص والآفات التي يوصف بها كل كافر وكل فاجر وكل شيطان وكل سبع وكل حية من الحيات، فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم وسبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا

(2)

، وصرح بعض أئمتهم أن القرآن الذي بين أيدينا كله شرك وأن التوحيد إنما هو في كلامهم وحسب؛ وذلك لأن القرآن يفرق بين الرب والعبد وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد

(3)

، وأنكروا الخلق والملك والربوبية والرزق والرحمة والهداية

(4)

، وأشركوا بالله كل

(1)

انظر: جامع المسائل (4/ 404 - 405)

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 126).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (2/ 127)(2/ 201).

(4)

انظر: المصدر السابق (2/ 248).

ص: 292

شيء حتى الكلاب والقردة والخنازير جعلوها ألهة معبودة مع الله -والعياذ بالله-

(1)

، ويفضلون أنفسهم على الأنبياء بل حتى على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم

(2)

، ويعتقدون أن فرعون كان مؤمناً بل كان موحدا غاية التوحيد وكان قوله: أنا ربكم الأعلى. حق لا مرية فيه، وأن عباد الأصنام ما عبدوا شيئاً إلا الله، وعباد العجل ما عبدوا إلا الله

(3)

، ويصححون دين الكفار وكل المذاهب والملل والأديان، ويجوزون للمرء أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، لا فرق في ذلك كله؛ لأن كل معبود هو في الحقيقة الله، وينكرون ما جاء في اليوم الآخر والوعيد بالنار وعذابها

(4)

، وينكرون القدر، ويحرفون نصوص القرآن على معان باطنية قبيحة، ولا يحرمون فرجاً حتى المحارم، ولذلك لما سئل زعيمهم القبيح التلمساني، فقيل له: فإذا كان الوجود واحداً فلمَ كانت الزوجة حلالاً والأم حراماً؟ فقال: الكل عندنا واحد، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام. فقلنا: حرام عليكم

(5)

.

وغيرها من الأمور الكثيرة التي يستبشعها من كان في قلبه ذرة إيمان، ويستشنعها من كان لديه أدنى مسكة عقل، والتي حكايتها تغني عن ردها وإبطالها فلا يعلم مذهب جمع من الكفريات ولا حوى من الضلالات وشنيع المقالات مثل ما جمعه مذهب هؤلاء الاتحادية، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله:«وهؤلاء إذا قيل في مقالتهم إنها كفر: لم يُفهِم هذا اللفظ حالها؛ فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة بل كفر كل كافر جزء من كفرهم»

(6)

.

(1)

انظر: المصدر السابق (2/ 201).

(2)

انظر: المصدر السابق (2/ 201).

(3)

انظر: المصدر السابق (2/ 365).

(4)

نظر: المصدر السابق (2/ 242).

(5)

انظر: المصدر السابق (2/ 365).

(6)

المصدر السابق (2/ 127).

ص: 293

‌المبحث الخامس: مناظرته مع بعض شيوخ الاتحادية في رفضه قتال التتار لاعتقاده أن هذا قتال لله: ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

يضرب لنا شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المناظرة مثالاً آخر يظهر من خلاله عظم ما وصل له هؤلاء الاتحادية من الانحراف والضلال، حيث كانت مناظرته هذه مع رجل من هؤلاء الاتحادية، يناقشه فيها عن التتار هل هم الله -سبحانه- أم ليسوا الله؟!

وإن تعجب فحق لك أن تعجب من عقول وصل بها الحال إلا أن تعتقد مثل هذا المعتقد المخالف لكل عقل ودين وفطرة سليمة، وبمثل هذا تعلم سبب إكثار شيخ الإسلام رحمه الله في نقد هذا المذهب وبيان بطلانه في مختلف رسائله وفتاواه ومصنفاته، وذلك لشدة بشاعته، وعظم شناعته، مع انتشاره عند كثير من الناس في زمانه، وإلى نص المناظرة كما يحيكها شيخ الإسلام رحمه الله.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد خاطبني مرة شيخ من شيوخ هؤلاء الضلال لما قدم التتار آخر قدماتهم وكنت أحرض الناس على جهادهم.

ص: 295

فقال لي هذا الشيخ: أقاتل الله؟!

فقلت له: وهم من شر الخلق، هؤلاء إنما هم عباد الله خارجون عن دين الله،

وإن قدر أنهم كما يقولون: فالذي يقاتلهم هو الله ويكون الله يقاتل الله.

وقول هذا الشيخ لازم لهذا وأمثاله»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية الاتحادية حتى إن أحدهم إذا أُمر بقتال العدو يقول: أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله! ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم وبينا فساده لهم وضلالهم فيه غير مرة»

(2)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة والجواب عليها:

وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

رفض هذا الاتحادي وغيره ممن ينتحل مذهبه قتال التتار بحجة أن هؤلاء التتار هم الله، حتى إنهم أنكروا على شيخ الإسلام دعوته لجهادهم ودفعهم عن بلاد المسلمين، فقال هذا الشيخ متعجباً منكراً لتحريض شيخ الإسلام على قتالهم: أقاتل الله؟!

وأصل شبهة هؤلاء القوم التي دفعتهم للامتناع عن قتال التتار، ونهي الناس عن ذلك، بل ودفعت ببعضهم لمعاونة التتار والقتال معهم: هي اعتقادهم أن جميع أفعال الخلق إنما هي أفعال الله في الحقيقة، وليست أفعالا للعباد حقيقة وإنما تضاف للعباد على سبيل المجاز لا غير، وأن العارف بالله يغلب عليه شهود القدر والقيومية فلا يرى فرقا بين الأشياء، وينطق برد جميع الأشياء إلى خالقها كما

(1)

الرد على البكري (1/ 369).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 333 - 334)

ص: 296

يزعمون، وعلى هذا فقتال التتار للمسلمين هو في الحقيقة قتال الله نفسه للمسلمين، وليس قتالاً للتتار -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-. قال شيخ الإسلام:«فإن أصل هذا القول أن الله لما كان خالقا لأفعال العباد كان الفعل لهم في الصورة وله في المعنى»

(1)

. وقال رحمه الله: «وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من غير شهود الأمر والنهي والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور وهذا أعظم الضلال»

(2)

.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

أجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه الشبهة من وجوه متعددة، وأهمها ما يلي:

أولاً: أن هؤلاء التتار هم في الحقيقة من شر خلق الله، وأنهم عباد الله خرجوا عن دينه -سبحانه-، فكيف يكونون هم الله؟

ومضمون هذ الجواب رد القول من أصله وإبطاله، وإذا كان باطلاً فكيف يصح أن يحتج به على الامتناع عن قتال هؤلاء.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ومن قال إن الرب عز وجل يُنزل المخلوق منزلة نفسه في الأفعال أو ينزل هو منزلة المخلوق في الأفعال والأوصاف فقد زعم أن الله سبحانه يجعل له نداً وأنه يقيم المخلوق مقامه في الخلق والرزق والإحياء والإماتة وإجابة الدعاء وكونه معبوداً، وأنه يقوم مقام العبد في الصلاة والصيام والطواف وغير ذلك من أفعال العباد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]»

(3)

.

ثانياً: على فرض التسليم لهذا الشيخ بأن قتال التتار هو في الحقيقة قتال لله؛ لأن الذي يفعل في الحقيقة هو الله، والخلق إنما تضاف لهم الأفعال مجازاً،

(1)

الرد على البكري (1/ 365).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 328).

(3)

الرد على البكري (1/ 314).

ص: 297

فالجواب على دعواه يكون من عدة أوجه:

الوجه الأول: أن يقال لهم كذلك في قتال المسلمين للتتار يكون الله هو الذي يقاتل التتار، ويكون الواقع أن الله يقاتل الله -تعالى الله عن ذلك-.

وهذا في غاية التناقض والبطلان والعياذ بالله وهو الذي رد به شيخ الإسلام على هذا الاتحادي المحتج بمثل هذا فقال له: «وإن قدر أنهم كما يقولون فالذي يقاتلهم هو الله ويكون الله يقاتل الله، وقول هذا الشيخ لازم لهذا وأمثاله»

(1)

.

وهكذا يلزمهم في كل فعل من أفعال العباد أن ينسبوه للخالق عز وجل، ولما احتج بعضهم بقوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، على نفي الفعل عن العبد، وأن فعل العبد هو فعل الله في الحقيقة، رد عليه شيخ الإسلام قائلا:«قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله تعالى -كما تظنه طائفة من الغالطين- فإن ذلك لو كان صحيحاً لكان ينبغي أن يقال لكل أحد حتى يقال للماشي: ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى، ويقال للراكب: وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، ويقال للمتكلم: ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم، ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك. وطرد ذلك: يستلزم أن يقال للكافر ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر، ويقال للكاذب: ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب. ومن قال مثل هذا فهو كافر ملحد خارج عن العقل والدين»

(2)

.

وقال كذلك في رده على من احتج بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، على تصحيح هذا القول: «ويلزمك على هذا التقدير أن تقول إن الذين بايعتهم إنما بايعت الله، وطرده أن من قاتل شخصاً فإنما قاتل الله ومن بايعه فإنما بايع الله، بل يلزمهم أقبح من هذا وهو أن من لامسه أو جامعه أو ضاجعه فإنما يفعل ذلك مع الله، فإن أصل هذا القول أن الله لما كان خالقا لأفعال

(1)

المصدر السابق (1/ 369).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 331).

ص: 298

العباد كان الفعل لهم في الصورة وله في المعنى وهذا عام في كل الأفعال الخير والشر»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضًا فيكون الله قد بايع الله؛ إذ الله خالق لهذا ولهذا وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا فيكون الله قد بايع الله. وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية الاتحادية حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو يقول: أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم وبينا فساده لهم وضلالهم فيه غير مرة»

(2)

.

الوجه الثاني: يلزم من هذا القول أن لا يكون هناك فرق بين فعل نبي من الأنبياء وفعل كافر من الأشقياء ولا ملك من الملائكة ولا ولي ولا صالح ولا فاسق ولا طالح، بل ولا حتى الحيوانات والجمادات، فإن الكل باعتبار القيومية والتقدير أفعالهم مخلوقة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «واعلم أن من قال من النظار: إن أفعال العباد كلها فعل الله فلا فرق عندهم بين أفعال المؤمنين والكفار والبهائم وحركات الجمادات فإن مرادهم أن كل ما سوى الله فهو فعله أي مفعوله، وعلى قول هؤلاء فلا فرق بين فعل الرسول وغيره، وليس في كون الله خالقاً لشيء تفضيل لذلك المخلوق على غيره فإن الله خالق كل شيء»

(3)

.

ويلزم منه سلب خاصية الأنبياء والملائكة والأولياء وتسويتهم بأفجر الفجار وأكفر الكفار والعياذ بالله، قال شيخ الإسلام: «ومن ظن في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، أن المراد به أن فعلك هو فعل الله أو المراد أن الله حال فيك ونحو ذلك فهو -مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده- قد سلب

(1)

الرد على البكري (1/ 365).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 334).

(3)

الرد على البكري (1/ 318).

ص: 299

الرسول خاصيته وجعله مثل غيره وذلك أنه لو كان المراد به كون الله فاعلا لفعلك: لكان هذا قدراً مشتركاً بينه وبين سائر الخلق وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله ومن بايع مسيلمة الكذاب فقد بايع الله ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله»

(1)

.

ثالثاً: أن في قولهم هذا تعطيلاً للأمر والنهي وإبطالاً للشرع، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«وهذا يقع فيه كثير ممن يلحظ القيومية الشاملة العامة المتناولة لكل مخلوق وهؤلاء من أكفر الخلق ويجعلون هذا منافياً للأمر والنهي وهم من جنس الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}، إلى قوله: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام:148]»

(2)

.

رابعاً: نفي الفعل عن العبد لا يجوز بإجماع الأمة، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«ومما يبين ذلك أن أفعال العباد لا يجوز أن تنفى عنهم باتفاق المسلمين من قال: إن الله تعالى خالقها، ومن قال إنه لم يخلقها لا يجوز أن يقال: هذا ما أكل ولا شرب ولا قعد ولا ركب ولا طاف ولا ركع ولا سجد ولا صام ولا سعى ولكن الله هو الذي أكل وشرب وقعد وركب وطاف وركع وسجد وصام وسعى، وسواء كانت الأفعال محمودة أو مذمومة، وسواء كانت سبباً لخرق العادة أم لا، فلا يقال: إن موسى ما ضرب بعصاه البحر ولا الحجر ولكن الله ضرب، ولا يقال: إن نوحاً ما ركب في السفينة ولكن الله ركب، ولا يقال: إن المسيح ما ارتفع إلى السماء بل الله ارتفع، ولا يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ما ركب البراق بل الله ركب وأمثال هذا»

(3)

.

خامساً: أن "الفعل المختص بالمخلوق لا يضاف إلى الله تعالى إلا على بيان أن الله تعالى خلقه وجعل صاحبه فاعلا كقول الخليل عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وكما قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً

(1)

مجموع الفتاوى (2/ 333).

(2)

الرد على البكري (1/ 319).

(3)

الرد على البكري (1/ 337).

ص: 300

مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة:24] وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41] ولا يقال: إن الله يقيم الصلاة ويدعو إلى النار ولا إنه قد أسلم وقال تعالى {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} [المعارج:19 - 21]، ولا يوصف الله تعالى بالهلع و الجزع، وجماع الأمر أن الله عز و جل لا يوصف بمخلوقاته"

(1)

.

سادساً: أن كون الله هو خالق أفعال العباد لا يقتضي أن العبد هو الله قال رحمه الله: «أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق وقد قال الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128] فالله هو الذي جعل المسلم مسلماً، وقال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:19 - 21]، فالله هو الذي خلقه هلوعاً لكن ليس في هذا أن الله هو العبد؛ ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، ولا أن الله حال في العبد.

فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق والقول بأن الخلق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل. وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد وهذا عين الضلال والإلحاد»

(2)

.

سابعاً: يلزم من هذا القول تجويز دعاء غير الله وعبادة غير الله وتصحيح جميع الأديان الكفرية والمعبودات الوثنية، وأن العابد لها ما عبد ولا سجد ولا تقرب إلا لله، قال شيخ الإسلام: «وهذا كثيرا ما يقع فيه هؤلاء الإسماعيلية الاتحادية وأعرف منهم شخصا كان معظمًا وكان له حاجة إلى نصراني فذهب إليه وخضع له وقبل يده ورجله وربما قبل نعله حتى قضى حاجته ثم جعل يقول: ما رأيت إلا الله وما كان ذلك الخضوع والتقبيل إلا لله عز وجل، وهؤلاء يصرحون في

(1)

المصدر السابق (1/ 338).

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 332).

ص: 301

كتبهم بأن عباد العجل ما عبدوا إلا الله، وعباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، وعباد المسيح ما عبدوا إلا الله تعالى، وعندهم من عبد كل معبود كان محققاً موحداً وإنما المقصر عندهم من عبد بعض المظاهر دون بعض كالنصارى، وعباد العجل واللات والعزى، وفي كلام ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله من هذا ألوان»

(1)

.

وبهذا يتبين بطلان هذا القول، وشناعة ما يلزمه من لوازم، ويترتب عليه من مفاسد، والله أعلم.

* * *

(1)

الرد على البكري (1/ 377 - 378).

ص: 302

‌ملحق

•‌

‌ مناظرته مع بعض الاتحادية في اعتقادهم إن الله هو الناطق في كل شيء:

هذه المناظرة مثال آخر على ما وصل إليه الاتحادية من الإلحاد والكفر، وما يؤول إليه حال كثير منهم من الاضطراب والحيرة، بسبب مناقضة عقيدتهم للشرع والعقل والفطرة، وهي راجعة لعقيدتهم في (وحدة الوجود) وقد سبق عرض أصول شبههم في ذلك والرد عليها.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

«وهكذا تصرح به

(1)

هؤلاء الجهمية الاتحادية، كما وجدته في كتبهم وكما شافهني بذلك حذاقهم ومحققوهم وشيوخهم.

ويقولون: إنه هو المتكلم على لسان كل قائل، لا يكتفون بأن يكون هو الذي أنطق كل شيء كما يقول المسلمون.

بل يقولون: إنه الناطق في كل شيء، فلا يتكلم إلا هو ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب والدجال وفرعون يصرحون بأن أقوالهم هي قوله، وخاطبت بذلك بعضهم فذكرت له الدجال. فقال: يكون الدجال مستثنى من ذلك الشرع.

فقلت له: هذا لا يمكن على أصلكم في الوحدة فتحير وبقي في حيرة»

(2)

.

(1)

القول بوحدة الوجود.

(2)

بغية المرتاد (ص:349).

ص: 303

•‌

‌ مناظرته مع بعض الاتحادية في اعتقادهم أن الله ظهر في صورة الموجودات:

في هذه المناظرة بين شيخ الإسلام فساد اعتقاد أهل الاتحاد والوحدة: أن الله جل وعلا ظهر في صورة الموجودات. وذلك من جهة تناقضهم في المقالة، حيث يقررون وحدة الوجود وأنه ما ثم موجود إلا الله ثم يقررون أنه ظهر بصورة خلقه، وهذا يقتضي إثبات موجودين، واضطراب المقالة وتناقضها أوضح دليل على فسادها

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

«وقول هؤلاء

(1)

هو في الحقيقة قول الجهمية الذين كفرهم السلف والأئمة، لكن أولئك ظهر عنهم أنهم قالوا: إن الله بذاته في كل مكان. وكل من القائلين للقولين قد يقول مقالة الآخر كما بينته في غير هذا الموضع، فإن هؤلاء يقولون: بالمظاهر وإنه ظهر في الأشياء.

فقلت لبعضهم: فالمظاهر وجود أو عدم؟

قال: وجود.

قلت: فهي غيره أم لا؟ فإن قلتم غيره فقد قلتم بموجودين، وإن قلتم لا، بطل ما قررتموه، فتحير.

ولهذا لما فهم السلف حقيقة قول هؤلاء كفروهم كما قال عبد الله بن المبارك ما ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال قال: "وقال ابن مقاتل سمعت ابن المبارك يقول: من قال {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك»

(2)

.

(1)

أي: الاتحادية.

(2)

بغية المرتاد (ص:350).

ص: 304

الفصل الثاني:

مناظرته مع الصوفية وعباد القبور

ويشتمل على خمس مباحث:

المبحث الأول: مناظرته مع بعض الرفاعية حول ما يدعونه من المخاريق.

المبحث الثاني: مناظرته مع جماعة من الرفاعية فيما يزعمونه من إشارات وأحوال.

المبحث الثالث: مناظرته مع شيخ من شيوخ الرفاعية في تعبدهم بلبس الأغلال.

المبحث الرابع: المناظرة الكبرى مع الرفاعية في قصر الإمارة.

المبحث الخامس: مناظرته مع بعض الرفاعية في دعواه من دخول التنور وعدم الاحتراق بذلك.

المبحث السادس: مناظرته مع بعض من يحسن الظن بالأحجار ويجوزون التبرك بها.

المبحث السابع: مناظرته مع جماعة يستشفون بقبور العبيديين ويعتقدون ولايتهم.

المبحث الثامن: مناظرته مع بعض شيوخ المشرق في جواز دعاء القبور والحديث الموضوع في هذا.

ص: 305

المبحث التاسع: مناظرته مع بعض المشايخ الذين يستغيثون بغير الله ويدَّعون ظهور صورته لهم.

ملحق:

- مناظرته مع بعض المتصوفة في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} .

- مناظرته مع بعض اليونسية.

- مناظرته مع بعض الصوفية في بعض اعتقادتهم الباطلة.

ص: 306

‌المبحث الأول: مناظرته مع بعض الرفاعية فيما يدعونه من المخاريق: ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

لقد جرت لشيخ الإسلام رحمه الله وقائع عدة وحوادث كبيرة مع الطائفة الرفاعية والمنتسبين إليها، وذلك لمعايشته لهم، ووجوده بين ظهرانيهم، وانتشار تلك الطريقة في عهده وموطنه انتشارا كبيراً جداً، وتلبيسهم على العوام والأمراء والصغار والكبار والرجال والنساء. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام:«وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل»

(1)

، ولكن هذه الأمور كلها لم تثن شيخ الإسلام عن النطق بالحق، وإنكار ما عند القوم من بدع وخرافات، وكذب وضلالات، فقام بهذا الأمر أفضل قيام، ووقعت له معهم وقائع كثيرة ومناظرات عديدة وجدل ونقاش وحوار، وكان أكبرها ما وقع له من مناظرة معهم

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 457).

ص: 307

بقصر الإمارة، أمام الأمراء والعلماء والناس والأجناد، أظهر الله فيها الحق وأزهق فيها الباطل.

ولعظم هذه الموقعة، وجلالة قدرها، وكبير أثرها، فقد أفردها رحمه الله في رسالة ذكر فيها مجريات هذه المناظرة وما وقع فيها، وقبل ذكره لهذه المناظرة مهد بذكر بعض المجريات التي سبقت هذا المشهد العظيم وكانت سببا لوقوعه، ومن ضمنها ثلاث مناظرات جرت له مع بعض هؤلاء الرفاعية سبقت المناظرة الكبرى أمام السلطان وكانت كالتمهيد لها، ومن الملاحظ في جميع هذه المناظرات: تشابه موضوعاتها، وترابط أحداثها، وتكرر مسائلها. وهاك نص المناظرة الأولى كما حكاها الشيخ رحمه الله.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السموات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليماً دائما إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد كتبتُ ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحيَّة

(1)

، يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس

(2)

؛ لتشوُّف الهمم إلى معرفة ذلك، وحرص الناس على الاطلاع عليه، فإن من كان غائبًا عن ذلك قد يسمع بعض

(1)

البطائحية: هم الرفاعية، لقبوا بالبطائحية نسبة إلى قرى عديدة بين البصرة وواسط، وقد كان أحمد الرفاعي يسكن أحد هذه القرى، وهم تارة يلقبون بالرفاعية وبالأحمدية أيضاً نسبة إلى أحمد الرفاعي رحمه الله، وقد اقتصر مؤخرًا على تعريفهم بالرفاعية، تمييزا لهم عن جماعة الطريقة الأحمدية المنتسبة إلى أحمد البدوي. انظر: البداية والنهاية لابن كثير (16/ 559).

(2)

يعني سنة خمس وسبعمائة من الهجرة.

ص: 308

أطراف الواقعة، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع.

ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويره؛ لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين وظهور كلمته العليا، وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة والأحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين.

وقد كتبت في غير هذا الموضع

(1)

صفة حال هؤلاء البطائحية وطريقهم، وطريق

الشيخ أحمد بن الرفاعي

(2)

وحاله وما وافقوا فيه المسلمين وما خالفوهم؛

(1)

يشعر كلام شيخ الإسلام هنا أن له رسالة مفردة، فصَّل فيها القول عن الرفاعية واعتقاداتهم وبدعهم وأحوالهم وما يتعلق بهم، ولم أجد فيما وقفت عليه من مطبوعات شيخ الإسلام رحمه الله أي كتاب له أو رسالة مفردة فيما ذكر، وإن كانت له بعض الفتاوى في المجموع تطرق فيها لشيء من أحوالهم إجمالاً لا تفصيلاً وعرضاً لا قصداً، وقد ذكر ابن عبد الهادي رحمه الله في مصنفات شيخ الإسلام مصنفا بعنوان:(قاعدة في أحوال الشيخ يونس الغيبي والشيخ أحمد بن الرفاعي) انظر: العقود الدرية (ص:56)، ومصنفاً بعنوان:(قاعدة في الشيوخ الأحمدية وما يظهرونه من الإشارات) انظر: العقود الدرية (ص:56)، وذكر الذهبي في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية (ص:22) (قَاعِدَة فِي الشُّيُوخ الأحمدية نَحْو خمسين ورقة)، وذكر الصفدي في كتابيه: أعيان العصر، والوافي بالوفيات، في مصنفات الشيخ:(كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية)، ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 359). ولعل جميع هذه العناوين هي لرسالة واحدة أو مصنف واحد وهو المقصود فيما ذكره شيخ الإسلام وهو غير موجود فيما طبع من كتبه والله اعلم.

(2)

هو أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن رفاعي، كان رجلاً صالحاً فقيهاً شافعي المذهب، أصله من العرب، وسكن في البطائح بقرية يقال لها أم عبيدة، ويُوصل أتباعه نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ت: 578 هـ). انظر: البداية والنهاية لابن كثير (12/ 312)، السير (21/ 76)، طبقات الشافعية للسبكي (4/ 19). وقد انتسب الرفاعية إليه كذباً وزوراً، وخالفوا طريقته ومسلكه، وابتدعوا في الدين أموراً منكرة ما أقرها رحمه الله ولا رضي بها. انظر: مجموع الفتاوى (11/ 494)، والعبر في خبر من غبر (3/ 75) وغاية الأماني في الرد على النبهاني (2/ 341). وهو غير الرفاعي الذي جعل قبره وثناً يعبد في القاهرة فهو ابن حفيده علي بن أحمد، انظر: جهود علماء الحنفية (2/ 734).

ص: 309

ليتبين ما دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام؛ فإن ذلك يطول وصفه في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم.

وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع، وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع، ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف

(1)

والتصرف

(2)

، ونحو ذلك ما يوجد -فيوجد أيضًا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول والاستخفاف بشريعة الإسلام والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الباطلة وأكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد.

وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل وأحوالهم التي يسمونها الإشارات

(3)

، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق: مثل ملابسة النار والحيات وإظهار الدم واللاذن

(4)

والزعفران وماء

(1)

الكشف عند الصوفية: هو الاطلاع على ما وراء الحجاب، من المعاني الغيبية والأمور الخفية الحقيقية وجوداً أو شهوداً. انظر: التعريفات للجرجاني (ص:235)، التوقيف (ص:604)، المعجم الصوفي د. الحفني (ص: 208، 238).

(2)

التصرف عند الصوفية: هو تمكن الشيخ من فعل أمر يعجز الخلق عن فعله عادة؛ ولهذا يرد في كثير من تراجم الصوفية عبارة (المتصرف في الأكوان). انظر: المناظرة الرفاعية تعليق: عبد الرحمن دمشقية (ص:11).

(3)

الأحوال عند الصوفية: هي ما يرد على قلب السالك وبدنه من تغير وتحول من غير تصنع ولا اكتساب. انظر الرسالة للقشيري (ص: 54)، واللمع لأبي نصر السراج (ص: 66)، وموقف الإمام ابن تيمية من التصوف والصوفية د. أحمد البناني (ص: 108).

(4)

اللاذن واللاذنة: ضربٌ من العلوك. وقيل: هو دواء بالفارسية. وقيل: هو ندى يسقط في الليل على الغنم في بعض جزائر البحر وقيل تتعلق بشعر المعزى ولحاها، إذا رعت نباتاً يعرف بقلسوس أو قستوس، وما علق بشعرها جيد وهو مسخن ملين مفتح للسدد وأفواه العروق، مدر نافع للنزلات، والسعال، ووجع الأذن، وأما ما علق بأظلافها فهو رديء. لسان العرب (13/ 385) تاج العروس (36/ 111) القانون في الطب (1/ 536 - 537).

ص: 310

الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة وأراد -غير مرة- منهم قوم إظهار ذلك فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن أسترهم فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوبًا، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك.

وحكى ذلك الشيخ: أنه كان مرة عند بعض أمراء التتر بالمشرق وكان له صنم يعبده.

قال: فقال لي: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى أثر الأكل في الطعام بينا يرى فيه. فأنكرت ذلك.

فقال لي: إن كان يأكل أنت تموت؟ فقلت: نعم.

قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر.

فاستعظم ذلك التتري وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل، لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك.

فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك؛ ذلك التتري كافر مشرك ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة إلى أمثالك، فالتتري وأمثاله سود وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بلق

(1)

فيكم سواد وبياض، فأعجب هذا المثل من كان حاضرًا!»

(2)

.

(1)

الأبلق: هو ما اختلط فيه لون السواد بالبياض. انظر: لسان العرب (10/ 25)، تاج العروس (13/ 45).

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 445 - 448).

ص: 311

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في المناظرة:

اجتمع شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المناظرة مع جماعة من الرفاعية، وذلك في بعض البساتين، وناقشهم شيخ الإسلام رحمه الله في مسألتين اثنتين:

‌المسألة الأولى: كشف تلبيس الرفاعية في دعواهم: دخول النار وعدم الاحتراق بها:

في هذه المناظرة تحدى شيخ الإسلام جماعة من الرفاعية أن يدخل معهم النار ومن احترق كان مغلوباً؛ وذلك لأن أكبر حججهم وطرقهم التي كانوا يحتجون بها على صحة مسلكهم وطريقتهم، وأنهم من أهل الأحوال الباطنة والكرامات الخارقة، هي قدرتهم على دخول النار دون أن يحترقوا، وقد لبسوا بذلك على خلق من الناس، فسلموا لهم بما قالوه، وصدقوهم فيما ادعوه.

ولما رأى القوم صدق شيخ الإسلام في طلبه، خافوا أن يُكشف حالهم، ويُفضح أمرهم، فأمسكوا عن ذلك، وسكتوا عنه، كعادة كل مبطل عندما تَلزمُهُ الحجة، وتَقطَعُه المحجة.

وقد احتج الرفاعية بهذا الأمر نفسه في المناظرة الكبرى التي وقعت بقصر الإمارة، وحدثت خلالها وقائع أكبر وحوادث أكثر، وبين شيخ الإسلام في ذلك الموضع ما هي الحيل والخدع التي يقومون بها لفعل هذا الأمر، ولذلك كان من الأحرى تأجيل دراسة هذه المسألة إلى ذلك الموضع

(1)

.

‌المسألة الثانية: في عدم ظهور الأحوال الشيطانية عند أهل الإيمان:

بين شيخ الإسلام رحمه الله-لأحد شيوخ الرفاعية أن ما يحدث لبعض التتر من رؤية آثار الطعام الذي يقدمونه لأصنامهم التي يعبدونها ويتقربون لها، ونحوها من الأحوال التي قد تحدث عندهم، إنما هي من أفعال الشيطان لتضليلهم وإغوائهم

(1)

انظر (ص:338 - 342) من هذه الرسالة.

ص: 312

والتلبيس عليهم، وأن هذه الأحوال لا تظهر عند أهل الإيمان؛ لأن معهم من نور الإسلام والإيمان ما يوجب انصراف الشياطين، عن فعل ذلك بحضورهم.

وبين له شيخ الإسلام أنه كلما كان المرء أبعد عن الشرع، كلما كان تسلط الشيطان عليه أعظم، وتلبيسه عليه أكبر. وأشار شيخ الإسلام بذلك إلى أن الشياطين قد تلبس على هؤلاء الرفاعية وأمثالهم، ممن ابتعد عن هدي الكتاب والسنة، وإن كان تلبيسها على الكفار من التتر وغيرهم أعظم وأكبر، ولكن الشياطين تعجز عن إظهار هذه الأمور أمام أهل الإيمان الخلص، المتبعين للكتاب والسنة؛ لما معهم من نور الإيمان والسنة؛ ولذلك فقد عجز هؤلاء الرفاعية عن معارضة شيخ الإسلام وإظهار خوارقهم أمامه، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«ولهذا من تكون أخباره عن شياطين تخبره، لا يكاشف أهل الإيمان والتوحيد، وأهل القلوب المنورة بنور الله، بل يهرب منهم، ويعترف أنه لا يكاشف هؤلاء وأمثالهم، وتعترف الجن والإنس الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم، أنهم لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الإيمان والقرآن، ويقولون: أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة، وإنما تظهر عند الكفار والفجار؛ وهذا لأن أولئك أولياء الشياطين، ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين، ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانية؛ كدخول النار»

(1)

.

وقال رحمه الله: «الشياطين يخافون الرجل الصالح أعظم مما يخافه فجار الإنس، فهؤلاء الشياطين إذا كانوا مع جنسهم، الذين لا يهابونهم، فعلوا هذه الأمور. وأما إذا كانوا عند أهل إيمان وتوحيد، وفي بيوت الله التي يذكر فيها اسمه، لم يجترئوا على ذلك، بل يخافون الرجل الصالح أعظم مما يخافه فجار الإنس. ولهذا لا يمكنهم عمل سماع المكاء والتصدية في المساجد المعمورة بذكر الله، ولا بين أهل الإيمان والشريعة المتبعين للرسول. إنما يمكنهم ذلك في الأماكن التي يأتيها الشياطين؛ كالمساجد المهجورة، والمشاهد، والمقابر،

(1)

النبوات (1/ 1023 - 1024).

ص: 313

والحمامات، والمواخير

(1)

»

(2)

.

وبين رحمه الله أن هذه الأحوال تنتشر في الأماكن التي يقل فيها ذكر الله، وتكثر فيها الشياطين، قال رحمه الله:«فالمواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها؛ كالمقبرة، وأعطان الإبل، والحمام، وغيرها، فتكون حال هؤلاء فيها أقوى؛ لأنها مواضع الشياطين: كالمجزرة، والمزبلة، والحمام، ونحو ذلك، بخلاف الأمكنة التي ظهر فيها الإيمان والقرآن والتوحيد، التي أثنى الله على أهلها، وقال فيهم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} [النور:35 - 38]، فهذه أمكنة النور والصالحين والملائكة، لا تتسلط عليها الشياطين بكل ما تريد، بل كيدهم فيها ضعيف، كما أن كيدهم في شهر رمضان ضعيف»

(3)

.

وبين رحمه الله "أن الأحوال نتائج الأعمال. فالأكل من الطيبات والعمل الصالح يورث الأحوال الرحمانية: من المكاشفات والتأثيرات التي يحبها الله ورسوله. وأكل الخبائث وعمل المنكرات يورث الأحوال الشيطانية التي يبغضها الله ورسوله وخفراء التتر هم من هؤلاء وإذا اجتمعوا مع من له حال رحماني بطلت أحوالهم وهربت شياطينهم. وإنما يظهرون عند الكفار والجهال كما يظهر أهل الإشارات عند التتر والأعراب والفلاحين ونحوهم من الجهال الذين

(1)

المواخير: مجالس الريبة ومجتمعاتها. انظر: العين (4/ 262) تهذيب اللغة (7/ 166).

(2)

النبوات (2/ 1025 - 1026).

(3)

النبوات (2/ 1025 - 1027).

ص: 314

لا يعرفون الكتاب والسنة. وأما إذا ظهر المحمديون أهل الكتاب والسنة فإن حال هؤلاء يبطل والله أعلم"

(1)

. وستأتي دراسة هذه المسألة مستوفاة في المبحث التاسع من هذا الفصل، ونبين هناك أصل شبهة القوم، ومناقشة هذه الشبهة، والجواب عليها، حيث أن شيخ الإسلام قد فصل القول هناك ووضحه وبينه، وضرب عليه عدة أمثلة، وذكر هناك عدة مناظرات جرت له في المسألة ذاتها

(2)

.

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 499 - 500).

(2)

انظر: المبحث التاسع من هذا الفصل (ص:392).

ص: 315

‌المبحث الثاني: مناظرته مع جماعة من الرفاعية فيما يزعمونه من إشارات وأحوال

وتشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة

.

‌تمهيد:

ثم عقب شيخ الإسلام بعد ذكر المناظرة الأولى بمناظرة أخرى حدثت له في مجلس آخر، مع جماعة من الرفاعية، وهي قريبة من سابقتها في موضوعها ومحتواها.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقلت لهم في مجلس آخر لما قالوا: تريد أن نظهر هذه الإشارات؟

قلت: إن عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن: من الأعراب والفلاحين أو الأتراك أو العامة أو جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة لم يحسب لكم ذلك.

فمن معه ذهبٌ، فليأت به إلى سوق الصرف، إلى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش ومن الصفر، لا يذهب إلا عند أهل الجهل بذلك.

فقالوا لي: لا نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا.

ص: 316

فقلت: همتي ليست معكم؛ بل أنا معارض لكم، مانع لكم؛ لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم- فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا.

فانقلبوا صاغرين»

(1)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية في المناظرة: مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة: وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

أصل شبهة القوم التي بنوا عليها صحة مذهبهم واستقامة مسلكهم وطريقتهم: هي اغترارهم بتصديق عامة الناس لهم فيما يظهرونه من إشارات وأحوال، فجعلهم هذا يظنوا أنهم على الحق والصواب

(2)

.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين لهم شيخ الإسلام، أن العامة وجهلة الناس ليسوا معيارًا في معرفة الحق من الباطل، إذ أن طريقتهم وأحوالهم لا يسلم لهم بها إلا أحد شخصين:

1.

جاهل لا يعلم حقيقة ما يقومون به من خُدعٍ وحيل، وذلك كالأعراب والفلاحين والعامة.

2.

عارف عالم، ولكنه منقاد لهم وهمته وهواه معهم.

وأما إن كان الرجل عالماً بدين الله، وهمته فيما وافق الكتاب والسنة، فإنهم لا يستطيعون خداعه بمثل هذه الأمور.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأما الذين يفعلون ما أمر الله به ورسوله من الصلوات الخمس وغيرها ويخلصون دينهم لله فلا يدعون إلا الله ولا يعبدون غيره ولا ينذرون إلا لله ويحرمون ما حرم الله ورسوله؛ فهؤلاء جند الله الغالبون

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 448).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 448).

ص: 317

وحزب الله المفلحون، فإنه يؤيدهم وينصرهم. وهؤلاء يهزمون شياطين أولئك الضالين فلا يستطيعون مع شهود هؤلاء واستغاثتهم بالله أن يفعلوا شيئا من تلك الأحوال الشيطانية بل تهرب منهم تلك الشياطين.

وهؤلاء معترفون بذلك. يقولون: أحوالنا ما تنفذ قدام أهل الكتاب والسنة وإنما تنفذ قدام من لا يكون كذلك من الأعراب والترك والعامة وغيرهم»

(1)

.

وهذا هو ما كان عليه شيخ الإسلام رحمه الله، فإنهم لما عرفوا أنه ليس من الصنف الأول، طلبوا منه أن يكون من الصنف الثاني، لكي يتقبل ما يظهرونه من إشارات، وما يدعونه من كرامات.

ولكنه بين لهم رحمه الله أنه ليس من أحد الصنفين، فانقلبوا بعد ذلك صاغرين، ولم يستطيعوا إظهار شيء من ذلك.

ولتعلق هذه المسألة وارتباطها بسابقتها فسيكون لها -أيضاً- مزيد بحث وتحقيق في المبحث التاسع -إن شاء الله-.

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 668).

ص: 318

‌المبحث الثالث: مناظرته مع شيخ من شيوخ الرفاعية في تعبدهم بلبس الأغلال: ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم

(1)

، وهو وأتباعه معروفون بأمور، وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن، فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين ويتخذونه عبادة ودينا يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم وإنه سيماء أهل الموهبة الإلهية، السالكين طريقهم -أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه- خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع وقلت هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة ولا من المشايخ الذين يقتدى بهم، ولا يجوز التعبد بذلك ولا التقرب به إلى الله تعالى؛ لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء

(1)

قال الشيخ محمد رشيد رضا في تحقيقه لمجموعة الرسائل والمسائل (1/ 124): رأيت مثل هؤلاء في الهند من متصوفة الشرك.

ص: 319

للحديث المروي في ذلك وهو أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- رأى على رجل خاتماً من حديد فقال: (ما لي أرى عليك حلية أهل النار)

(1)

.

وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال

(2)

، فالتشبه بأهل النار من المنكرات. وقال بعض الناس قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- في حديث الرؤيا قال في آخره:(أحب القيد وأكره الغل، القيد ثبات في الدين)

(3)

، فإذا كان مكروهًا في المنام فكيف في اليقظة؟! فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحو منه مع زيادة. وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به، وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقًا إلى الله وسببًا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرًا عند الله وقربة إليه، ولا أن يجعل شعارًا للتائبين المريدين وجه الله الذين هم أفضل ممن ليس مثلهم. فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينًا لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها فلا حرام

ص: 320

إلا ما حرمه الله؛ ولا دين إلا ما شرعه الله؛ ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع دينًا لم يأذن الله به ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه، فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات ولهذا كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر فلو نذر الرجل فعل مباح أو مكروه أو محرم لم يجب عليه فعله كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه؛ بل عليه كفارة يمين إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة [طاعة وعبادة]، ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين كعهود أهل الفتوة

(1)

، ورماة البندق

(2)

، ونحو ذلك ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله، إلا ما كان ديناً وطاعة لله ورسوله في شرع الله؛ لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك؛ ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله واتباع الكتاب والسنة، إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله؛ وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال إنه قربة وطاعة.

فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله ولا التعبد به

(1)

الفتوة: المراد بها عند الصوفية مقام يتصف فيه صاحبه بالعدالة التي هي جماع الفضائل الخلقية ويتنزه عن الرذائل النفسية، والألواث الطبيعية، ويرجع إلى صفاء الفطرة. انظر: معجم اصطلاحات الصوفية لعبد الرزاق كشاني (ص: 261)، المعجم الصوفي للدكتورة سعاد الحكيم (ص: 871).

(2)

رماة البندق طائفة كبيرة يخرجون إلى ضواحي المدن يتسابقون في رميه على الطير ونحوه، ويعدون ذلك من قبيل الفتوة، ولهم زي خاص، ولهم أيمان وعهود مبتدعة يسمونها أيمان البندق، والبندق آلة صيد كانت تستخدم في عهد المماليك. انظر: نهاية الأرب (10/ 324) جامع المسائل (1/ 303)

ص: 321

ولا اتخاذه دينا ولا عمله من الحسنات فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول ولا بإرادة وعمل.

وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرمًا لا ينهى عنه؛ بل يقال إنه جائز ولا يفرقون بين اتخاذه دينًا وطاعةً وبرًا وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه دينا بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاصي وسيئات فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة»

(1)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية في المناظرة:

كان من شعائر القوم البدعية الظاهرة، لبسهم وتقلدهم للأطواق والأغلال والسلاسل حول أعناقهم، وتعبدهم الله بلبس هذه الأغلال وجعلها شعار لهم يميزهم عن بقية الناس، وكان هذا من أعظم ما قام شيخ الإسلام يإنكاره عليهم، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه المسألة معهم في مجلسين مختلفين: أولهما في هذه المناظرة، والآخر في المناظرة الكبرى بقصر الإمارة، وستكون مناقشة هذه المسألة من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل شبهتهم في لبس الأغلال:

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن أصل شبهتهم التي حملتهم على هذا الفعل، هي ما ادعوه من أن لبس هذه الأغلال وتقلد هذه الأطواق سر من أسرارهم التي لا يطلع عليها إلا هم، وهو شعار وسيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريق شيخهم، وأن الأمور التي لم يأت في الشرع بيان حرمتها فالأصل إباحتها وجواز التعبد لله بها، فلا مانع من التعبد لله بلبس الأغلال، واتخاذها شعاراً لهم يميزهم عن غيرهم

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 449 - 452).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 449).

ص: 322

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المناظرة بطلان وفساد هذه العادة التي اتخذها هؤلاء القوم قربة وعبادة، وبطلان شبهتهم في ذلك من ستة أوجه:

الأول: أن هذه بدعة لم يشرعها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن عبد الله بغير ما شرع فقد وقع في البدعة والضلالة

(1)

.

الثاني: أن هذا الأمر لم يفعله أحد من السلف الصالحين، ولا من مشايخ الدين المقتدى بهم، وإنما هو من إحداث هؤلاء القوم

(2)

.

الثالث: أن لبس الحديد قد كرهه من كرهه من العلماء لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل خاتما من حديد فقال: (مالي أرى عليك حلية أهل النار)

(3)

فقالوا بكراهة لبسه ولو كان لبسه على غير تعبد، فكيف إذا كان تعبدا وديانة

(4)

؟!

الرابع: أن هذا الفعل تشبه بأهل النار؛ لأن الله وصفهم بأن في أعناقهم الأغلال، والتشبه بأهل النار من المنكرات

(5)

.

الخامس: أنه قد جاء في السنة كراهة الأغلال ولو في المنام وذلك في ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في آخره: (أحب القيد وأكره الغل، القيد ثبات في الدين)

(6)

، فإذا كان مكروها في المنام فكيف في اليقظة

(7)

؟!

(8)

.

(1)

انظر: المصدر السابق (11/ 449).

(2)

انظر: المصدر السابق (11/ 449).

(3)

سبق عزوه.

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 449).

(5)

انظر: المصدر السابق (11/ 449).

(6)

سبق عزوه.

(7)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 449).

(8)

ويبدو أن المحتج بهذه الحجة هو أحد الحاضرين مع شيخ الإسلام وليس الشيخ نفسه، ولذلك قال الشيخ قبل أن يسوقها: قال بعض الناس. وقد استحسن شيخ الإسلام استنباطه ولذلك ساقه ضمن ما استدل به على إبطال بدعة هؤلاء القوم.

ص: 323

السادس: أن ما ليس مستحبًا في الشرع لا يجوز التعبد به باتفاق المسلمين، ولا اتخاذه طريقًا إلى الله ولا شعارًا لأهل الصلاح

(1)

.

السابع: أنه لا يجوز التدين إلى الله بالأمور المباحة وجعلها مستحبة أو واجبة، فإن المباح إنما يكون مباحا إذا بقي على أصله، أما إذا اتخذ واجبًا أو مستحبًا، كان ذلك دينًا لم يشرعه الله وقد جاء في الوعيد لمن يتخذ دينا لم يشرعه الله الشيء العظيم، فإذا كان هذا في اتخاذ المباحات ديناً فكيف التعبد بالمكروهات والمحرمات؟!

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين: هل يباح له ذلك؟ قال: نعم. فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة. قال: إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله، فإن تاب وإلا؛ قُتل.

ولو سئل عن كشف الرأس، ولبس الإزار، والرداء: أفتى بأن هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاج. قال: إن هذا حرام منكر.

ولو سئل: عمن يقوم في الشمس. قال: هذا جائز. فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة. قال: هذا منكر. كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال:(من هذا؟). قالوا: هذا أبو إسرائيل

(2)

يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(مروه؛ فليتكلم، وليجلس، وليستظل، وليتم صومه)

(3)

؛ فهذا لو فعله لراحة أو غرض مباح لم ينه عنه، لكن لما فعله على وجه العبادة نهى عنه.

وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة كما كانوا يفعلون في الجاهلية: كان أحدهم إذا أحرم لم

(1)

انظر: المصدر السابق (11/ 450).

(2)

اسمه قشير وهو رجل من الأنصار، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب القصة المشهورة في النذر. انظر: معرفة الصحابة (4/ 2363) والاستيعاب (4/ 1596) والإصابة (5/ 423).

(3)

رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور (6704).

ص: 324

يدخل تحت سقف؛ فنهوا عن ذلك، كما قال تعالى:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]، فبين سبحانه أن هذا ليس ببر وإن لم يكن حراماً، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصياً مذموماً مبتدعاً، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب

فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب؛ فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب»

(1)

.

الثامن: أنه ليس لأولياء الله لباس أو شعار يختصون به من دون الناس، قال شيخ الإسلام:"وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره، إذا كان مباحا، كما قيل: كم من صدِّيقٍ في قباء، وكم من زنديق في عباء"

(2)

.

وبهذه الأوجه كلها نقض شيخ الإسلام ما جاء به هؤلاء القوم من بدعة، وما فعلوه من ضلالة، وفند ما ذكره هذا الشيخ من شبهة.

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 631 - 634).

(2)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 51).

ص: 325

‌المبحث الرابع: المناظرة الكبرى مع الرفاعية في قصر الإمارة: ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة

.

‌تمهيد:

لقد كان ما أظهره الرفاعية من الطاعة والامتثال بعد المناظرة السابقة إنما هو كذب وتدليس، فهم لا زالوا على عقائدهم الفاسدة، وإنما أظهروا هذا عندما أعيتهم الحجة، وانقطعت أمامهم المحجة، وعجزوا عن الجواب على الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة التي أوردها شيخ الإسلام رحمه الله، ولم يجدوا أمام تلك السهام الصائبة إلا التخفي وراء جدار السكوت، وإظهار الطاعة والموافقة، مع مضيهم على ما هم عليه من غي وضلال، وشطحات وبدع وأحوال؛ مما أدى إلى وقوع حوادث أخرى لهم مع شيخ الإسلام، ومع عامة الناس، وكان أعظمها ما جرى في المناظرة الكبرى التي وقعت بينهم وبين شيخ الإسلام في قصر الإمارة أمام السلطان وبمرأى الناس وبحضور العامة والعلماء والأمراء في محفل عظيم.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك

ص: 326

الرفق والأناة وأنتظر الرجوع والفيئة وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر ذلك الشيخ لمسجد الجامع.

وكان قد كتب إلي كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار وهو كلام باطل لا تقوم به حجة بل إما أحاديث موضوعة أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل.

فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب.

فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك، وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه، وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]؛ ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون، وفيهم شَبه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء، فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب بالأحوال التي يعدونها للغلاب. فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله -صلى الله تعالى عليه وسلم-، ونتفق على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة -وكأنهم اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم- ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو

(1)

-على ما ذكر لي- وهم من الصياح والاضطراب على أمر من أعجب العجاب.

فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلبًا للبيان والتبصرة ورجاء المنفعة والتذكرة، فعمدوا إلى القصر مرة ثانية وذُكر لي أنهم قدموا من

(1)

لعله مسجد (الشاغور) وهي محلة مشهورة بالباب الصغير من دمشق. انظر: معجم البلدان (3/ 310) مراصد الاطلاع (2/ 774) معجم دمشق التاريخي (1/ 219).

ص: 327

الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد واضطراب الرؤوس والأعضاء والتقلب في نهر بردى

(1)

، وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى، وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال.

فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر! وسأل عنهم؟ فقيل له: هم مشتكون، فقال: ليدخل بعضهم. فدخل شيخهم وأظهر من الشكوى علي، ودعوى الاعتداء مني عليهم كلامًا كثيرًا لم يبلغني جميعه؛ لكن حدثني من كان حاضرًا أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا. قال: فنسمع كلامه فمن كان الحق معه نصرناه. قالوا: نريد أن تشد منا.

قال: لا ولكن أشد في الحق سواء كان معكم أو معه. قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم. فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم فأرسل إلي بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يَعرف ضلالهم، وعرفني بصورة الحال، وأنه يريد كشف أمر هؤلاء.

فلما علمت ذلك أُلقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين وكشف حال أهل النفاق المبتدعين؛ لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال وإني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال وكثر فيكم القيل والقال، وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان فهو الذي أوقع نفسه في الهوان.

فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة.

(1)

نهر بردى: نهر دمشق الرئيسي ينبع من بحيرة نبع بردى. انظر: معجم دمشق (2/ 326).

ص: 328

وقال شيخهم

(1)

الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله.

وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق وأجابوا إلى الوفاق.

ثم ذُكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لا بد من حضورهم لموعد الاجتماع.

فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته واستنصرته واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة الخليل، وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل. وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء. وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين نسب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة

(2)

والباطنية كالنُصَيرية

(3)

والإسماعيلية

(4)

يخرجون

(1)

قال ابن كثير رحمه الله: «الشيخ صالح الأحمدي الرفاعي شيخ المنيبع، كان التتر يكرمونه لما قدموا دمشق، ولما جاء قطلوشاه نائب التتر نزل عنده، وهو الذي قال للشيخ تقي الدين بن تيمية بالقصر: نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر، وأما عند الشرع فلا» البداية والنهاية (14/ 53)، وذكر هذا ابن عبد الهادي أيضاً في العقود الدرية (ص:211).

(2)

سبق التعريف بهم في مناظرته مع التتار من هذا البحث (ص:223).

(3)

هي إحدى فرق الشيعة الباطنية، تنسب إلى محمد بن نصير النميري، خالفوا الإمامية بإنكار إمامة محمد بن الحسن العسكري، ولهم عقائد غالية مشهورة أهمها تأليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه-ـ، وفي عهد المماليك كانوا موالين أتم الموالاة للنصارى وللتتار، وقد حرص الظاهر بيبرس على القضاء عليهم، ولابن تيمية-رحمه الله فتوى مشهورة في النصيرية وحقيقة مذهبهم وخطرهم وتعاونهم مع النصارى والتتار. انظر: الملل والنحل (1/ 188)، مجموع الفتاوى (35/ 145 - 160).

(4)

هي إحدى فرق الشيعة الباطنية، تنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، ولهم عقائد فاسدة في الله وصفاته وفي الصحابة وفي الثواب والعقاب والمعاد وغير ذلك، مبنية على الالحاد في النصوص وتحريف معانيها. انظر: الفرق بين الفرق (ص: 62)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 167).

ص: 329

إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة ثم إلى الإشراك ثم إلى جحود الحق تعالى.

ومن شركهم الغلو في البشر والابتداع في العبادات والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو به لائق كالملحدين من أهل الاتحاد والغالية من أصناف العباد.

فلما أصبحنا ذهبت للميعاد وما أحببت أن أستصحب أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضًا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب.

وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعاً مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم: أن لهم أحوالاً لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء وأن لهم طريقًا لا يعرفها أحد من العلماء.

وأن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن المنكر عليهم هو آخذ بالشرع الظاهر غير واصل إلى الحقائق والسرائر.

وأن لهم طريقًا وله طريق، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوى ذات الزخرف والتزويق.

وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد؛ لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل.

قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلي مرة ثانية، فبلغه أنَّا في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد كطوائف من المتفقهة والمتفقرة وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم

ص: 330

في حضورهم.

فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون، طالبين للاطلاع.

فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء، وقال: إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارا ويلبسوها.

فقلت: هذا من البهتان، وها أنا ذا أصف ما كان.

قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح

(1)

.

وهؤلاء يكذبون في ذلك وهم كذابون مبتدعون، قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم.

وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء وأنهم لبَّسوا على الأمير المعروف بالأيدمري

(2)

، ..................................

(1)

إشارة إلى حديث علي رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليهم رجل من الأمصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطبا وأوقدتم ناراً، ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطباً فأوقدوا، فلما هموا بالدخول فقام بعضهم ينظر إلى بعض فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فرارًا من النار أفندخلها؟! فبينما هم كذلك إذ خمدت النار، وسكن غضبه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:(لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري برقم (4085) ومسلم برقم (1840).

(2)

لعل المراد به الأمير الكبير بدر الدّين بيليك بن عبد الله الصّالحيّ، المعروف بالأيْدمُري أحد مماليك الملك المنصور قلاوون وخواصه، وكان من أعيان الأمراء بالديار المصرية، (ت: 686 هـ). ووجد الملك المنصور عليه وجداً عظيماً عندما مات. انظر: تاريخ الإسلام (15/ 590، 568)، المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي (3/ 515)، عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (2/ 368).

أو الأمير الكبير حسام الدين لاجين الأيْدمريّ، الداوادار، الملقَّب بالدّرفيل. (ت: 672 هـ) قال الذهبي: «سمع من سِبْط السِّلَفيّ، وكان مُحِبًّا للعلماء، مُقَرِّبًا لهم، مؤْثِرًا للفُقراء، خاضعًا لهم. له معرفة وفضيلة ومشاركة وذكاء مُفْرِط وهِمّة عالية وَنَفْس شريفة، وكان السّلطان يحبّه ويعتمد عليه فِي المهمّات والمكاتبات وأمر القُصّاد» تاريخ الإسلام (15/ 255) وانظر: ذيل مرآة الزمان (3/ 67).

ص: 331

وعلى قفجق

(1)

نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبَّسوا أيضا على الملك العادل كتبغا

(2)

في ملكه وفي حالة ولاية حماة

(3)

، وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم.

فذكرت تلبيسهم على الأيدمري وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب فصنعوا خشبًا طوالاً وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المِزَّة

(4)

، وذاك يرى من بعيد قوما يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض وأخذوا منه مالا كثيرًا ثم انكشف له أمرهم.

(1)

هو سيف الدين قبجق ويقال قفجق المنصوري نائب دمش وحماة وحلب، كان تركياً صاحب فروسية ودهاء، تام الشكل، محبباً إلى الرعية (ت: 710 هـ). انظر: أعيان العصر (4/ 61)، والبداية والنهاية (13/ 351)(14/ 8، 55)، والرد الوافر (ص: 41 - 42).

(2)

هو الأمير كتبغا المغلي المنصوري، الملك العادل زين الدين، كان شجاعًا ينطوي على دين وسلامة وباطن وتواضع، تسلطن بمصر عامين، وخلع في صفر سنة 696 هـ ثم أعطي حماة فتولاها وعدل، (ت: 702 هـ). انظر: البداية والنهاية (9/ 264)، تاريخ الخلفاء (1/ 412)، شذرات الذهب (6/ 5).

(3)

حماة: مدينة مشهورة من مدن الشام، وهي حاليا في بلاد سوريا. انظر: معجم البلدان (2/ 300).

(4)

إحدى مناطق مدينة دمشق تقع في الجهة الغربية الجنوبية للمدينة، سكن فيها الصحابي الجليل أسامة بن زيد ودحية الكلبي، ولها ينتسب الحافظ المزي، وقد ألف شمس الدين ابن طولون كتاباً في تاريخها، سماه "المعزة فيما قيل في المزة". انظر: معجم البلدان (5/ 122) معجم دمشق التاريخي (2/ 217)

ص: 332

قلت للأمير: وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك وهو ممن حدثني بهذه القصة.

وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم، وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير

(1)

إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب منه جملة من المال؛ فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله! وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز فذكرت للأمير هذا؛ ولهذا قيل لي: إنه لما انقضى المجلس وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابًا وهو نائب السلطنة بحماة يخبره بصورة ما جرى.

وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وأنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه فذكرت حديث العرباض بن سارية وحديث جابر بن عبد الله وقد ذكرتهما بعد ذلك بالمجلس العام كما سأذكره.

قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون بها النار وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع، ليس لهم أن يعترضوا علينا بل يسلم إلينا ما نحن عليه -سواء وافق الشرع أو خالفه- وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار

(2)

.

(1)

أحد أشهر مقابر دمشق وأكبرها، تقع خارج باب الصغير، وفيها قبر بلال بن رباح رضي الله عنه، وابن القيم والذهبي رحمهما الله. انظر: معجم دمشق التاريخي (2/ 313).

(2)

قال ابن كثير رحمه الله حاكياً كلام الشيخ: «ومن أراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام وليغسل جسده غسلا جيداً ويدلكه بالخل والأشنان» البداية والنهاية (14/ 41).

ص: 333

فقال الأمير ولمَ ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر النارنج

(1)

وحجر الطلق

(2)

وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك، وأُلقي في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء؛ فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات. وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم.

فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر

(3)

وأنا جالس بينهما على

(1)

النارنج: ويسمى الرانِج: ثمر جوز الهند، وهو لفظ فارسي معرب. انظر لسان العرب (2/ 284)، والقاموس (ص 265)، وتاج العروس (3/ 497).

(2)

حجر الطِّلْق: هو حجر براق يشتظى ويظهر أنوارًا إذا دُقَّ صفائح وشظايا، قال الزبيدي: «قال الأصمعي: يقال لضرب من الدواء، أو نبت طلق. محرك اللام نقله الأزهري، وقال غيره: هو نبت تستخرج عصارته، فيتطلى بها الذين يدخلون النار

وهو معرب) انظر: القاموس المحيط (ص: 1168)، تاج العروس (13/ 305).

(3)

هو سيف الدين الحاج بهادر آص المنصوري، الأمير الكبير، أكبر أمراء دمشق، طال عمره في الحشمة والثروات، وكان محببا إلى العامة، وله بر وصدقة وإحسان، (ت: 730 هـ). انظر: البداية والنهاية (9/ 400)، شذرات الذهب (6/ 93).

ص: 334

رأس السماط بالتركي ما فهمته منه إلا أنه قال: اليوم ترى حربًا عظيمًا. ولعل ذاك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.

وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون فقال الأمير إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال

(1)

بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة وأن لهم فيهم ظنًّا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال؛ فإنه ذُكر لي ذلك.

وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق؛ فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه فأمر ببساط يبسط في الميدان.

وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء

(2)

وحركة الرؤوس والأعضاء والطفر

(3)

والحبو والتقلب ونحو ذلك من الأصوات المنكرات والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان:19].

فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي وشيخ آخر يسمي نفسه خليفة سيده أحمد، ويركب بعلمين وهم يسمونه: عبد الله الكذاب ولم أكن أعرف ذلك.

وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة، وأظهر ما جرت به عادتهم من المسألة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا

(1)

أيوب أبو سليمان الحمال من كبار الزهاد في عصره ببغداد، كان صاحب أحوال وكرامات (ت: قبل 260 هـ). انظر: تاريخ بغداد (7/ 457) تاريخ الإسلام (6/ 56).

(2)

المراد الغضب والصياح والاضطراب مع إخراج الرغوة من الفم. انظر: لسان العرب (14/ 330).

(3)

الطفر: القفز والوثب مع ارتفاع. انظر: لسان العرب (4/ 501)، والقاموس (ص 553).

ص: 335

خفي علي تلبيسه إلى أن غاب وما يكاد يخفى علي تلبيس أحد؛ بل أدركه في أول الأمر فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديمًا فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون، حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.

فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة.

فقلت أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3]، هذه إلى جنب هذه، وقال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحِجر:49 - 50].

فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق، وذكر أن وهب بن منبه روى:(أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعل في عنقه طوقًا) في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت

(1)

.

فقلت لهم: ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: (أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم)

(2)

، وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب، فقال:(كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتابهم أُنزل إلى نبي غير نبيهم)

(3)

وأنزل الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى

(1)

لم أقف على هذه الحكاية.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 387)، (15195)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/ 312)، وحسنه الألباني بشواهده في كتاب السنة (50) والإرواء (6/ 34).

(3)

رواه أبو داود في المراسيل (416) والدارمي في سننه (495)، عن يحيى بن جعده أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بكتاب في كتف

الحديث. وهو مرسل فإن يحيى من التابعين انظر: تهذيب الكمال (31/ 253 - 254) وتقريب التهذيب (ص:588). وقد حكم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم بالإرسال على الحديث. انظر: مجموع الفتاوى (11/ 423)، الصواعق المرسلة (3/ 827).

ص: 336

عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51]، فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].

فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها، وما علينا من عباد بني إسرائيل:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]، هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية.

فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء، ونحن قوم شافعية.

فقلت له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين؛ بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته، وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا؟ فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال. وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك.

وقلت: ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله تعالى عليه وسلم-، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر؛ فإني تكلمت بكلام بَعُد عهدي به؟

فانتدب ذلك الشيخ عبدالله ورفع صوته، وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة

ص: 337

لا يوقف عليها. وذكر كلاماً لم أضبط لفظه: مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر؛ ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمرًا لا يقف عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا. فقلت له - ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء ولا من العلماء والقضاة وغيرهم؛ بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وذكرت هذا ونحوه.

فقال -ورفع صوته -: نحن لنا الأحوال وكذا وكذا.

وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها

(1)

واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها.

فقلت -ورفعت صوتي وغضبت-: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب؛ وربما قلت: فعليه لعنة الله؛ ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار؛ فسألني الأمراء والناس عن ذلك؟ فقلت: لأن لهم حيلا في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء: من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق.

فضج الناس بذلك فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال: أنا وأنت نلف في بارية

(2)

بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت.

(1)

ومن ذلك ما ذكره تقي الدين المقريزي في حكايته للحادثة: «وفيها: أظهر ابن تيمية الإنكار على الفقراء الأحمدية فيما يفعلونه: من دخولهم في النيران المشتعلة وأكلهم الحيات ولبسهم الأطواق الحديد في أعناقهم وتقلدهم بالسلاسل على مناكبهم وعمل الأساور الحديد في أيديهم ولفهم شعورهم وتلبيدها» السلوك لمعرفة دول الملوك (2/ 390). ومما ذكره ابن عبد الهادي وشهاب الدين النويري من الأحوال التي ادعوها في المناظرة: إخراج الزبد من الحلق. انظر: العقود الدرية (ص:210)، ونهاية الأرب في فنون الأدب (32/ 100).

(2)

البارية هي الحصير المنسوج. انظر: لسان العرب (4/ 87)، وتاج العروس (6/ 116).

ص: 338

فقلت: فقم؛ وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك فمد يده يظهر خلع القميص فقلت: لا حتى تغتسل في الماء الحار والخل فأظهر الوهم على عادتهم، فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا، أو قال حزمة حطب.

فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع؛ ولا يحصل به مقصود؛ بل قنديل يوقد وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل؛ ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله؛ أو قلت: فهو مغلوب. فلما قلت ذلك تغير وذل، وذُكِرَ لي أن وجهه اصفرَّ.

ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة ولو طرتم في الهواء؛ ومشيتم على الماء؛ ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم، فيقوم

(1)

. ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.

وذكرت قول أبي يزيد البسطامي

(2)

: «لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي»

(3)

، وذكرت

(1)

يشير إلى حديث النواس بن سمعان الذي عند مسلم (2937) وغيره.

(2)

هو طيفور بن عيسى البسطامي، أبو يزيد: زاهد متصوف مشهور قال ابن كثير: «وقد حُكى عنه شحطات ناقصات، وقد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة، وقد قال بعضهم: أنه قال ذلك في حال الاصطلام والغيبة. ومن العلماء من بدعه وخطأه وجعل ذلك من أكبر البدع وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته والله أعلم» انظر: البداية والنهاية (11/ 42) تاريخ الإسلام (6/ 345).

(3)

رواه البيهقي في الشعب (3/ 304)، والقشيري في الرسالة (1/ 58). وقريب من هذا أيضاً ما رواه

القشيري بسنده أنه قيل لأبي يزيد: فلان يمشي في ليلة إلى مكة! فقال: الشيطان يمشي في ساعة من المشرق إلى المغرب في لعنة الله. وقيل له: فلان يمشي على الماء ويطير في الهواء! فقال الطير: يطير في الهواء، والسمك يمر على الماء. ا. هـ الرسالة القشيرية (2/ 533).

ص: 339

عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا يعني الليث بن سعد؟ قال: «لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به» . فقال الشافعي: لقد قصر الليث: «لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به»

(1)

. وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به.

ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح، وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة، وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم وهم عدد كثير، والناس يضجون في الميدان ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.

فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119] وذكروا أيضًا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهما فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم، وذهب أنه مُلبِّس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها، أنه أُدخِل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة.

وأنه دخل إلى الروم واستحوذ عليهم، فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون، رجعوا وتخاطب الحاج بهادر، ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى داخل ودخلنا.

وقد طلبوا التوبة عما مضى وسألني الأمير عما تطلب منهم فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل: أن لا يعتقد أنه لا يجب عليه اتباعهما، أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما، ونحو ذلك أو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما، ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر.

(1)

رواه اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 164)، وابن بطة في الإبانة (2/ 534)، وابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه (ص 141).

ص: 340

وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه.

فقالوا: نحن ملتزمون الكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق؟ نحن نخلعها.

فقلت: الأطواق وغير الأطواق ليس المقصود شيئاً معيناً، وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله -صلى الله تعالى عليه وسلم-.

فقال الأمير فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزامًا عامًّا، ومن خرج عنه ضربت عنقه -وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان- وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًّا في حق جميع الناس، فإن هذا مشهد عام مشهور قد توفرت الهمم عليه فيتقرر عند المقاتلة وأهل الديوان والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الأمور: أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.

قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، فإن من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا علي في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد شيء لله.

وهذا مع أنه مبطل للصلاة، فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وهذا قد فعل بالأمس بحضرة شيخهم، فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة! وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا وهذا منكر يبطل الصلاة.

فقال: هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس.

فقلت: العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب

(1)

، ولا يملك

(1)

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب

» الحديث. رواه البخاري كتاب الأدب برقم: (6223).

ص: 341

أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس: أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود والنصارى مثلاً قول أحدهم: أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر: كذا وكذا من الإمام، ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكر ترك الصلاة يصلون بالنوبة، وأنا أعلم أنهم متولون للشياطين، ليسوا مغلوبين على ذلك، كما يغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها.

فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة، وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم، قلت له: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حال يرد عليهم.

فقلت: هذا من الشيطان الرجيم، لم يأمر الله به ولا رسوله -صلى الله تعالى عليه وسلم-، ولا أحبه الله ولا رسوله. فقال: ما في السموات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته. فقلت له: هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن.

فقال: فبأي شيء تبطل هذه الأحوال، فقلت: بهذه السياط الشرعية.

فأعجب الأمير وضحك! وقال: أي والله بالسياط الشرعية تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية. وأمسكت سيف الأمير، وقلت: هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام، وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن؟!

فقلت: اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته، فأفحموا لذلك. وحقيقة الأمر أن من أظهر منكرًا

ص: 342

في دار الإسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لم يقر، ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم: فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًّا فهو: إما مرتد، وإما مشرك، وإما زنديق ظاهر الزندقة. وذكرت ذم المبتدعة فقلت روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته:(إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)

(1)

. وفي السنن عن العرباض بن سارية قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال:(أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)

(2)

، وفي رواية:(وكل ضلالة في النار)

(3)

. فقال لي: البدعة مثل الزنا. وروى حديثًا في ذم الزنا، فقلت: هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزنا معصية والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري:«البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها»

(4)

.

وكان قد قال بعضهم: نحن نُتَوِّب الناس. فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد

(1)

رواه مسلم، كتاب الجمعة (867).

(2)

رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2678)، وأحمد (4/ 126)، وصححه الألباني في المشكاة (1/ 85).

(3)

قال الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 287): «هذه الزيادة (وكل ضلالة في النار) تفرد بها النسائي دون الآخرين، وسندها صحيح» .

(4)

رواه الهروي في ذم الكلام (ص: 217)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 149)(238)، والبغوي في شرح السنة (1/ 216).

ص: 343

تتويبكم؛ فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون تحريم ما هم عليه ويرجون رحمة الله ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه الله، وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي.

قلت مخاطبًا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب: أن رجلا كان يدعى حمارًا وكان يشرب الخمر وكان يُضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما أتي به النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- جلده الحد، فلعنه رجل مرة، وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم-!، فقال النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم-:(لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)

(1)

.

قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله، شهد له النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بذلك ونهى عن لعنه.

وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب، وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما -دخل حديث بعضهم في بعض-: أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال، فقال النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم-:(يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)

(2)

، وفي رواية:(لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل)

(3)

، وفي رواية:(شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه)

(4)

.

قلت: فهؤلاء -مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة

(1)

رواه البخاري كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر (6780).

(2)

رواه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء (3344)، ومسلم كتاب الزكاة (1064).

(3)

رواها مسلم كتاب الزكاة (1066).

(4)

رواه أحمد في مسنده (22151)، والترمذي (3000)، وابن ماجه (176)، وحسنه الألباني كما في المشكاة (3554).

ص: 344

والزهادة- أمر النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي:«لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء»

(1)

.

فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر.

أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز -يعني أتباع أحمد بن الرفاعي-!

فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز يا ذو الزَّرْجَنة

(2)

، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله!

فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم.

فقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم، وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرًّا مع الله! فنصر الله وأعان عليهم

(3)

.

وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.

وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب! -فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم أو يزيدون عليهم؛ فإنهم من

(1)

رواه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه (ص: 137).

(2)

قال في القاموس (ص 1553): «الزرجنة: التخارج، والخب، والخديعة» .

(3)

يعني: في وقعة جبل الكسروان، انظر تفاصيلها في مجموع الفتاوى (28/ 398 - 410).

ص: 345

أكذب الطوائف حتى قيل فيهم: (لا تقولوا: أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا: أكذب من الأحمدية على شيخهم)

(1)

. وقلت لهم: -أنا كافر بكم وبأحوالكم: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود:55].

ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة، أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك.

وأُعيد الكلام: أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضُربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك.

والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»

(2)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرات:

‌المسألة الأولى: مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة:

وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة

.

إن أعظم ما كان الرفاعية يحتجون به على تسويغ أحوالهم المنكرة، وهيئاتهم المحرمة، من شرك بالله، ودخول للنيران، وأكل للحيات، وإخراج للزبد من الحلوق، ولبس للسلاسل والأغلال، واضطراب في الحركات، وعويل وصراخ في الصلوات وغيرها من الأمور المنكرات، هي اعتقادهم أنه لا يجب عليهم الالتزام بالكتاب والسنة، بل يجوز لهم الخروج عن حكم الشريعة، وذلك بحجة أن لهم أحوالاً تخصهم لا يطلع عليها غيرهم، وطريقاً خاصاً يُسلم لهم بها، وأن

(1)

لم أقف على قائل لهذا المثل، ولم أجده في غير هذا الموضع، والله أعلم.

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 452 - 475). وقد حكى هذه المناظرة مختصرة عدة من العلماء منهم ابن كثير في البداية والنهاية (14/ 41)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص:210)، وشهاب الدين النويري في نهاية الأرب (32/ 100)، وتقي الدين المقريزي في السلوك لمعرفة دول الملوك (2/ 390).

ص: 346

لهم حقائقَ وأسرارًا وبواطن لا يطلع عليه أهل الشرع الظاهر.

ومن كان عنده علم الحقيقة فلا يجوز الإنكار عليه، بل الواجب الإقرار له بحاله، والتسليم له بطرقه ومكاشفاته؛ لأن ما يكون معصية ومنكراً في علم الشريعة قد يكون طاعة وقربة في علم الحقيقة، وبهذا التقرير يتم سد الطريق أمام كل من حاول الاعتراض عليهم بالنصوص الشرعية، والآيات الجلية والأوامر النبوية.

فهذا باختصار هو أصل شبهتهم التي احتجوا بها لتسويغ أفعالهم المنكرة، وأحوالهم الباطلة، وإقرار بدعهم وخرافاتهم

(1)

، وهذا قد ظهر واضحاً جلياً في هذه المناظرة، فإنهم ما جاءوا للأمير إلا ليطالبوه بإلزام شيخ الإسلام بالتسليم بطريقتهم وعدم الإنكار عليهم، ولطالما ردد مشايخهم هذه الشبهة خلال هذه المناظرة غير ما مرة، وفي غير ما موضع.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في هذه المناظرة أنه لا يسع أحداً كائناً من كان الخروج عن الشرع وأحكامه، وصاح في وجه مخالفيه مصرحاً بذلك:«الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء ولا من العلماء والقضاة وغيرهم؛ بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وقد بين رحمه الله في غير موضع من كتبه أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث برسالة كاملة شاملة عامة لجميع الخلق، ويجب على جميع الخلق الإيمان بما جاء به والالتزام بشرعته وملته، ولا يجوز لأحد الخروج عنها كائنا من كان، فإن الله لا يرضى ديناً سوى دين الإسلام، ولم يرتض طريقاً إلا طريق محمد -عليه أفضل صلاة وسلام-،

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 418).

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 465).

ص: 347

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فمحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل أحد من الإنس والجن، كتابيهم وغير كتابيهم، في كل ما يتعلق بدينه، من الأمور الباطنة والظاهرة، في عقائده وحقائقه وطرائقه وشرائعه، فلا عقيدة إلا عقيدته، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا طريقة إلا طريقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا يصل أحد من الخلق إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته وولايته، إلا بمتابعته باطناً وظاهراً؛ في الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده، وأحوال القلب وحقائقه، وأقوال اللسان وأعمال الجوارح، وليس لله ولي إلا من اتبعه باطناً وظاهراً، فصدقه فيما أخبر به من الغيوب، والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات.

فمن لم يكن له مصدقًا فيما أخبر، ملتزمًا لطاعته فيما أوجب وأمر في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمنًا، فضلاً عن أن يكون وليًا لله، ولو حصل له من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور، من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها، إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله، المقربة إلى سخطه وعذابه»

(1)

.

وبين رحمه الله أنه لا طريق للولاية ولا سبيل لتحصيلها إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بهديه فـ "كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

ومن قال إنه لا يأخذ من الشريعة إلا علم الظاهر، وأما علم الباطن فإنما يأخذه عن مشايخ طريقته، فهو ممن قد آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وكذلك هذا الذي يقول: إن محمدا بعث بعلم الظاهر، دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به، وكفر ببعض، فهو كافر، وهو أكفر من أولئك، لأن

(1)

الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 178 - 179) وانظر: جامع المسائل (ص: 498).

(2)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:94).

ص: 348

علم الباطن، الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها، هو علم بحقائق الايمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الاسلام الظاهرة. فإذا ادعى المدعي أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة، دون حقائق الايمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة؛ فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول، دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول: أومن ببعض، وأكفر ببعض، ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به، أدنى القسمين»

(1)

.

وبين رحمه الله تعالى أن مثل هذا الأمر من موجبات الردة، ونواقض الملة التي تستوجب قتل صاحبها، قال رحمه الله: «ومن فضل أحداً من المشايخ على النبي صلى الله عليه وسلم أو اعتقد أن أحداً يستغني عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم استتيب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وكذلك من اعتقد أن أحداً من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى عليه السلام، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه؛ لأن الخضر لم يكن من أمة موسى عليه السلام، ولا كان يجب عليه طاعته، بل قال له: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه؛ وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وكان مبعوثاً إلى بني إسرائيل. كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)

(2)

، ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين: إنسهم وجنهم، فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله»

(3)

.

وبهذا يتبين بوضوح فساد شبهتهم، وانحراف طريقتهم، ومخالفتهم للكتاب والسنة والإجماع، بما يوجب الردة عن الإسلام، والمروق عن الشرعة والدين، والله المستعان.

(1)

المصدر السابق (ص:95).

(2)

رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب (قول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) (438)، ومسلم، كتاب المساجد (523).

(3)

مجموع الفتاوى (3/ 422). وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 318).

ص: 349

‌المسألة الثانية: الأحوال والإشارات والمخاريق التي يدعيها الرفاعية:

كانت أكثر محاورات شيخ الإسلام مع أتباع هذه الطريقة هي حول ما يدعونه من هذه المخاريق والأحوال والإشارات؛ وذلك لأن القوم ليسوا أهل علم وأدلة ولا نصوص وبراهين حتى يحتجوا بها على صحة طريقتهم ومعتقدهم، بل إن غاية ما عندهم وأكبر ما لديهم مما يثبتون به ولايتهم وصحة مسلكهم ومذهبهم، هي هذه الأحوال التي يدعونها، والخوارق التي يزعمونها، فيروجونها على ضعاف العقول، وجهلة الناس وعامتهم، بزعم أنها لم تظهر على أيديهم إلا ولهم من الولاية النصيب الأكبر، ومن صحة الطريقة والمسلك الحظ الأوفر، ويوجبون على الناس التسليم لهم، وعدم الاعتراض على طريقتهم، أو إنكار بدعتهم وضلالتهم؛ لأن لهم أحوالاً وأموراً وإشارات وكرامات لا يرتقي لها آحاد الناس، ولما كان أكثر الناس لا يفرقون بين كرامات الأولياء والصالحين، وأحوال الكذبة والمفترين، من السحرة وأهل البدع والمارقين، فقد التبس عليهم الأمر، فحسبوا السراب ماء والورم شحماً والخيال حقيقة، ولكن مثل هذه الأغلوطات لا تنطلي على العلماء العارفين والدعاة الصادقين الذين عرفوا حقيقة الدين، وما جاء به الشرع الكريم، وعلموا ما يناقضه من البدع والمنكرات والأهواء والضلالات، فانبرى شيخ الإسلام رحمه الله ليبين حقيقة القوم وما يجري على أيديهم من مخاريق وما يدعونه من أحوال وإشارات، فأزال الغبش وأظهر الحق وأزهق الباطل وبين السنة من البدعة والهدى من الضلالة بالأدلة الدامغة والحجج الساطعة، ففند ما زعموه وأبطل ما أظهروه في هذه المسألة المهمة والقضية الجليلة العظيمة التي هي: "من أعظم المسائل التي يحتاج إليها جميع الناس، فإنه من لم يفرق بين الخوارق التي تكون آيات وبراهين ومعجزات للأنبياء، وتكون مما يكرم الله به الأولياء؛ وبين الخوارق التي تكون للسحرة والكهان وغيرهم من حزب الشيطان، وإلا اشتبه عليه الأنبياء وأتباعهم أولياء الله المتقون بالمنتسبين الكذابين وشبههم الكذابين الضالين، ولهذا اضطرب في هذا

ص: 350

الأصل كثير من أهل النظر والكلام في أصول الدين والعلوم الإلهية، ومن أهل العبادة والزهد والفقراء والصوفية. وأما اشتباه ذلك على عموم الناس، ومن شدا طرفاً من العلم

(1)

، أو كان له حظ من العبادة، فأعظم من أن يوصف، والله سبحانه بعث رسوله وأنزل كتابه لبيان الفرق بين هذا وهذا، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل رسول بعثه بأفضل كتاب إلى أفضل أمة بأفضل شريعة، فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، وأولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجند الله المفلحين وحزب إبليس اللعين"

(2)

.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن هؤلاء الذين تظهر على أيديهم مثل هذه الخوارق هم أحد صنفين، إما أهل حال شيطاني أو مُحال بهتاني، فإما أنهم ممن يستعينون بالجن والشياطين لعمل مثل هذه الخوارق وهم أهل الحال الشيطاني وهم خواص هؤلاء القوم، وإما أنهم يعتمدون في مخاريقهم على الحيل والخداع والكذب والتلبيس، وهم أهل الحال البهتاني، وهم جمهور أهل هذه الطائفة وأكثرهم، قال رحمه الله:«وكل من أظهر هذه الإشارات البدعية التي هي فشارات، مثل إشارة الدم واللاذن والسكر وماء الورد والحية والنار، فهم أهل باطل وضلال وكذب ومحال، مستحقون التعزير البليغ والنكال، وهم إما صاحب حال شيطاني، وإما صاحب حال بهتاني، فهؤلاء جمهورهم، وأولئك خواصهم»

(3)

. وقال رحمه الله: «وهؤلاء إذا أظهر أحدهم شيئا خارقًا للعادة لم يخرج عن أن يكون حالاً شيطانيًا أو حالاً بهتانياً فخواصهم تقترن بهم الشياطين كما يقع لبعض العقلاء منهم وقد يحصل ذلك لغير هؤلاء، لكن لا تقترن بهم الشياطين إلا مع نوع من البدعة: إما كفر، وإما فسق، وإما جهل بالشرع؛ فإن الشيطان قصده إغواء

(4)

بحسب قدرته

(1)

قال في تهذيب اللغة (11/ 271): «والشادي: الذي تعلم شيئا من العلم» .

(2)

جامع المسائل (1/ 95 - 96).

(3)

المصدر السابق (3/ 153).

(4)

كذا ولعل الصواب (إغواؤهم).

ص: 351

فإن قدر على أن يجعلهم كفاراً جعلهم كفاراً، وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقاً، أو عصاة، وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهم ببدعة يرتكبونها يخالفون بها الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فينتفع منهم بذلك»

(1)

. وقال رحمه الله: «وأصحاب هذه الإشارات ليس فيهم ولي لله بل هم بين حال شيطاني ومُحال بهتاني من حال إبليس ومحال تلبيس»

(2)

.

وهؤلاء الذين وقعت لشيخ الإسلام المناظرة معهم يظهر من حالهم أنهم من جنس أهل التلبيس والأحوال البهتانية؛ ولذلك كان غاية ما عندهم هو الكذب والتلبيس والخداع واستخدام الطرق والأساليب الماكرة من أجل إظهار هذه الأحوال المزيفة والمخاريق الباطلة. فبين شيخ الإسلام رحمه الله في مناظراته لهم كثيراً من خداعهم ومكرهم وأحوالهم الكاذبة التي هي في الحقيقة من هذا الباب ومن هذا القبيل، وناقشهم وخاصمهم في أنواع من هذه الحيل وبين أن كل ما يدعونه من مخاريق وأحوال إنما بُني على الكذب والتدليس والخداع والتموية، وذكر أن من أمثلته أنواعاً كثيرة، وهي كالآتي:

أولاً: تلبيسهم فيما يدعونه من مكاشفات: فمن حيلهم التي بينها شيخ الإسلام في ذلك أنهم كانوا يرسلون إلى بيت الأمير الأيدمري من النساء من يستخبر عن الأحوال الباطنة لبيت هذا الأمير، ثم يأتون إليه فيخبرونه بهذه الأحوال بزعم أنهم عرفوا وعلموا عن طريق المكاشفة

(3)

.

ثانيًا: تلبيسهم فيما يدعونه من القدرة على إظهار رجال الغيب ورؤيتهم: ومن ذلك أنهم وعدوا الأمير الأيدمري أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشباً طوالاً وجعلوا عليها من يمشي، فجعلوا يمشون على جبل المزة والأمير يرى من بعيد

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 82).

(2)

المصدر السابق (11/ 537) وانظر: الجواب الصحيح (2/ 338، 343)، مجموع الفتاوى (11/ 667) و (27/ 498).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 458).

ص: 352

قوما يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض، وأخذوا على هذه الحيلة أموالاً كثيرة

(1)

.

ثالثًا: تلبيسهم فيما يدعونه من تكلم الموتى: ومن ذلك أنهم ذهبوا بنائب السلطنة قفجق إلى المقابر، وكانوا قد ادخلوا رجلا في القبر يتكلم، ليوهموا نائب السلطنة بقدرتهم على التحدث مع الموتى

(2)

.

رابعًا: تلبيسهم على الناس بقضية دخول النار دون تأثر بها: وهذه الحيلة تعد من أكبر حيلهم، وأكثرها رواجاً، ولبسوا بها على خلق كثير من الناس، حتى ظنها الكثير خارقة من خوارقهم وكرامة من كرامتهم، وقد رد شيخ الإسلام عليهم وكشف ما يصنعونه من حيلة بدخولهم للنار من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: بيان طريقتهم التي تمكنوا بها من دخول النار دون أذى: فبين رحمه الله أن عدم احتراقهم بالنار ليس لكرامة لهم أو ولاية؛ وإنما لأنهم يطلون أجسادهم بأنواع من النباتات والأدوية التي تمنع احتراق الأجساد، من دهن الضفادع وباطن قشر النارنج وحجر الطلق وغيرها من الأعشاب، وبهذا يخدعون الناس

(3)

.

الوجه الثاني: تحدي شيخ الإسلام لهم بدخول النار: فتحداهم رحمه الله أن يدخل هو وهم النار بعد أن يغتسلوا جميعاً بالخل والماء الحار؛ وذلك لأنهم إن اغتسلوا سيذهب مفعول الأدوية والاعشاب التي طلوا بها أجسادهم خديعة للناس، ولذلك لما رأوا أن شيخ الإسلام قد كشف أمرهم واكتشف حيلتهم وخافوا من عاقبة السوء، أظهروا للأمير طلب الصلح وإطفاء الأمر وإنهائه

(4)

،

(1)

انظر: المصدر السابق (11/ 458).

(2)

انظر: المصدر السابق (11/ 458).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 447، 459، 456، 467) والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:199) وجامع المسائل (5/ 224).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 447، 459، 456، 467).

ص: 353

وتحدى الشيخ مرة أخرى شيخهم عبد الله الكذاب لما أظهر قدرته على دخول النار، أن يدخل أصبعه وأصبع شيخ الإسلام في قنديل بعد غسلها بما ذكر، فتغير وجه هذا الشيخ الضال واصفر وذل وبهت ولم يحر جوابا

(1)

.

الوجه الثالث: بيان أن ظهور مثل هذه الأمور على أيديهم لا تدل على كرامتهم وصحة طريقتهم: بين ذلك شيخ الإسلام بعد توضيحه لطريقتهم، وتحديه لهم، أنهم حتى لو اغتسلوا ودخلوا النار دون تأثر وفعلوا ما فعلوا من الخوارق، فإن هذا كله لا يدل على صحة ما يدعون إليه الناس من مخالفة الشرع، فإن هذه الخوارق وأعظم منها قد تظهر على أيدي أهل السحر والكفر والنفاق، بل إن الدجال يأتي بخوارق أعظم من هذه الخوارق التي يصنعونها بكثير، ومع ذلك فإنه دجال كذاب ملعون، فالخوارق منها ما هو كرامات رحمانية ومنها ما هو خوارق شيطانية، والكرامات لا تكون إلا لأولياء الله المتبعين للكتاب والسنة الملتزمين بالشرع غير المخالفين له، أما ما يحدث للمنابذين للشريعة والحائدين عنها والمخالفين لها من خوارق فإنما هي في الحقيقة أحوال شيطانية فلا يغتر بها ولا بأصحابها، وذكر رحمه الله شيئا من نصوص السلف في ذكر هذا الأمر وبيانه

(2)

.

فهذه بعض الحيل التي أظهر شيخ الإسلام طريقة القوم في القيام بها، وكيفية خداعهم للناس وتلبيسهم عليهم من خلالها.

‌المسألة الثالثة: التعبد ولبس الأغلال:

قد سبق في المبحث الثالث دراسة هذه المسألة وبيان الشبهة فيها والجواب عليها، وفي هذه المناظرة قام أحد مشايخ الرفاعية -ويدعى بشيخهم المشتكي- بالإنكار على شيخ الإسلام، والاحتجاج بحجج متهافتة على مشروعية ما يفعلونه من لبس الأغلال وتقلد الأطواق، فاحتج بأن وهب بن منبه رحمه الله روى: أنه كان

(1)

انظر: المصدر السابق: (11/ 466).

(2)

انظر: المصدر السابق (11/ 466 - 467).

ص: 354

في بني إسرائيل عابد، وأنه جعل في عنقه طوقا

(1)

.

فأجاب شيخ الإسلام على هذه الشبهة من عدة أوجه:

الأول: أنها حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت ولا تصح.

الثاني: أنه لا يجوز لنا أن نتعبد الله في ديننا بشيء من الاسرائيليات المخالفة لشرعنا.

الثالث: أنه لا يجوز لنا اتباع موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام فيما علمنا وتيقنا أنه قد أنزل عليهم من الله حتى يكون موافقاً لشرعنا، أما إذا كان مخالفاً لشرعنا، فلا يجوز لنا اتباعهم في ذلك، فإذا كان هذا مع الأنبياء، فكيف يجوز لنا أن نتبع عُباد بني إسرائيل في أمر مخالف للشرع، وحكاية لا تعلم صحتها

(2)

؟!

ثم احتج هذا الشيخ: بأنهم قوم شافعية، وأن هذا الأمر قد أجازه بعض علماء المذهب

(3)

.

وأجاب شيخ الإسلام عن هذا الأمر من ثلاثة وجوه:

الأول: أنه ليس لأحد الخروج عن الشريعة ولا عن الكتاب والسنة مهما كان قدره وعلمه، إذ العصمة في الرد لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة.

الثاني: أن هذا الأمر غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة من البدع المحدثة.

الثالث: أن الشافعية براء من هذا الفعل، وطلب شيخ الإسلام شهادة مفتي الشافعية وقاضيها ابن الزملكاني، فشهد الزملكاني أن هذا الأمر منكر، وأنه بدعة غير مستحبة أمام الملأ، وأخرج بعض الحاضرين فتوى فيها خطوط طائفة من

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 462)

(2)

انظر: المصدر السابق (11/ 463).

(3)

انظر: المصدر السابق (11/ 464).

ص: 355

العلماء بتحريم ذلك، فظهر كذب قولهم، وزيف دعواهم

(1)

.

‌المسألة الرابعة: إصدار الأصوات المزعجة وصياحهم وصراخهم أثناء الصلوات وفي الميادين والطرقات:

من الأحوال التي طالب الرفاعية شيخ الإسلام بالتسليم لهم بها، وقام شيخ الإسلام بإنكارها وطالبهم بالتوبة منها، ما يحدث منهم أثناء الصلوات وخارجها من صراخ وصياح واستغاثات شركية، وألفاظ بدعية.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله-في بعض فتاويه

(2)

أن مثل هذه الأحوال إنما يعذر أصحابها في حالين اثنين:

1) إذا لم يتمكن من العلم بحرمتها ومخالفتها للشرع، كأن يكون مجنوناً لا يميز، أو عالماً مجتهداً اجتهد فرأى جواز مثل هذا الفعل.

2) إذا لم يقدر على دفع هذه الحال؛ بأن غلب عليه الحال، ولم يتعمده ولا قصده، فهذا يعذر إذا لم يكن وقوعها بسبب مباشرته لأسباب محرمة، وكان مغلوباً عليها فلم يقدر على دفعها.

وهذان الصنفان وإن كانوا معذورين في أنفسهم إلا أنه لا يجوز لأحد اتباعهم ولا تقليدهم في هذا، ولا يكون فعلهم حجة في الإباحة ولا الاستحباب لأمر ظهر مخالفته للشرع الكريم.

وأما من لم يكن من أحد الصنفين، وهم أهل التصنع والمكر والكذب والدجل كهؤلاء الرفاعية، ونحوهم ممن عرف عنهم الكذب وتصنع هذه الأمور لكي لا ينكر عليهم أحد، فهؤلاء يجب أن لا يقروا على مثل هذا بل يجب أن ينكر عليهم ويبين كذبهم، ويعاقبوا على فعلهم، قال شيخ الإسلام: «وأما الذي لا يسلم إليه حاله: فمثل أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم، ككثير من المنتسبة

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 464).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (10/ 378 - 384).

ص: 356

إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي، واليونسية

(1)

فيما يأتونه من المحرمات ويتركونه من الواجبات، أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في وجده ليظن به خيراً، ويرفع عنه الملام فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يعرف منه أن الحق قد تبين له وأنه متبع لهواه، أو يعرف منه تجويز الانحراف عن موجب الشريعة المحمدية وأنه قد يتفوه بما يخالفها وأن من الرجال من قد يستغني عن الرسول أو له أن يخالفه أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين .. أو يسوغ لأحد بعد محمد الخروج عن شريعته كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى، فإنه لم يكن مبعوثاً إليه كما بعث محمد إلى الناس كافة، فهؤلاء ونحوهم ممن يخالف الشريعة ويبين له الحق فيعرض عنه يجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب. وكذلك أيضاً ينكر على من اتبع الأولين المعذورين في أقوالهم وأفعالهم المخالفة للشرع، فإن العذر الذي قام بهم منتف في حقه فلا وجه لمتابعته فيه»

(2)

.

وقد ظهر مصداق ما ذكره شيخ الإسلام في هذه المناظرة حيث احتج شيخهم على تبرير فعلهم هذا بأنهم مغلوبون عليه كما يغلب العطاس على صاحبه فلا يستطيع دفعه عن نفسه فهم إذا معذورون فيما يصدر عنهم أو منهم

(3)

.

وقد رد عليهم شيخ الإسلام وبين أنهم كاذبون فيما يدعون، فهم يتعمدون هذه الأفعال ويتقصدون القيام بها، وقياسهم هذا فاسد غير صحيح، فالمقاس عليه من غير جنس المقيس وذلك من وجهين:

الأول: أن العطاس من الله والله يحب العطاس كما جاء في الحديث

(1)

اليونسية: طائفة من طوائف الصوفية المنحرفة نشأت بعد الستمائة بقليل في دمشق، يسمون الملامية أو الملامتية، واليونسية والحيدرية، والملامتي لا يظهر خيراً ولا يضمر شراً، ولذلك فهم يسترون صلاحهم بأمور تتداولها العوام ليست بمخالفات ولا معاص مبالغة في الخفاء. انظر: الخطط المقريزية (2/ 432 - 433)، مجموع الفتاوى (35/ 163).

(2)

مجموع الفتاوى (10/ 384 - 385).

(3)

المصدر السابق (11/ 469).

ص: 357

الصحيح، وأما هذا الصراخ والصياح ونحوه، فإنما هو من الشيطان، "وآثار الشيطان تظهر في أهل السماع الجاهلي: مثل الإزباد والإرغاء والصراخات المنكرة، ونحو ذلك مما يضارع أهل الصرع الذين يصرعهم الشيطان، ولذلك يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت: إما وجد في الهوى المذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية التي تعتري أهل الاجتماع على شرب الخمر إذا سكروا بها؛ فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المطربة فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن وفهم معانيه واتباعه فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله"

(1)

.

ثانيًا: أن العطاس لا يملك المرء دفعه عن نفسه، بخلاف هذا الصراخ والعويل فهو إنما يكون باختيارهم وتكلفهم، وهم قادرون على دفعه

(2)

.

فظهر بهذا كذبهم واحتيالهم، وتلبيسهم وخداعهم، في تبريراتهم لأحوالهم الكاذبة، وصيحاتهم وصرخاتهم المنكرة.

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 643).

(2)

المصدر السابق (11/ 643).

ص: 358

‌المبحث الخامس: مناظرته مع بعض الرفاعية في دعواه دخول التنور وعدم الاحتراق بذلك

.

ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة

.

‌نص المناظرة:

قال الصفدي رحمه الله في ترجمته لسيرة شيخ الإسلام رحمه الله: «وكان مسلطاً على هؤلاء الفقراء الأحمدية واليونسية

(1)

والقرندلية

(2)

وغيرهم من هؤلاء المبتدعة.

حُكي لي أنه جاء إليه بعض الأحمدية وقال ما يقولونه على العادة في دخول

(1)

سبق التعريف بها (ص:346) من هذه الرسالة.

(2)

القرندلية أو القَلَنْدرية: هي طريقة صوفية يقوم مبدأها على تنفير الناس من أهلها وذلك بحلق اللحى وأحياناً الحواجب وإطالة الشعر، ولبس الثياب المرقعة، وكل ما فيه نفرة الناس من فاعله وعدم اعتقادهم فيه، وقد ظهرت هذه الطريقة لأول مرة في دمشق سنة (610 هـ)، وانتشرت بعد ذلك في الهند، قال شيخ الإسلام في هذه الطائفة:«من أهل الضلالة والجهالة وأكثرهم كافرون بالله ورسوله لا يرون وجوب الصلاة والصيام ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق؛ بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى وهم ليسوا من أهل الملة؛ ولا من أهل الذمة. وقد يكون فيهم من هو مسلم؛ لكن مبتدع ضال أو فاسق فاجر» . مجموع الفتاوى (35/ 163) وانظر: تاريخ الإسلام (13/ 948) ومسالك الأبصار (8/ 221).

ص: 359

التنور من بعد ثلاثة أيام من وقود النار فيه.

فقال له: أنا ما أكلفك ذلك ولكن دعني أضع هذه الطوافة

(1)

في ذقنك.

فجزع ذلك الفقير وأبلس.

قلت: وقد نقل الشيخ -رحمه الله تعالى- هذا من قول بعض الشعراء في النار التي يزعم النصارى أنها تنزل يوم سبت النور من السماء إلى القمامة بالقدس

(2)

:

لقد زعم القِسِّيسُ أنَّ إلههُ

ينزّل نورًا بكرة اليوم أو غدِ

فإن كان نورًا فهو نورٌ ورحمةٌ

وإن كان نارًا أحرقت كلَّ معتدِ

يُقَرِّبُها القسيسُ من شعر ذقْنهِ

فإن لم تحرقها وإلا اقطعوا يدي»

(3)

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية في المناظرة:

في هذه المناظرة أراد هذا الرفاعي أن يظهر شيئاً مما يدعونه من مخاريق وكرامات، وأحوال وإشارات، يحتالون فيها بأنواع الحيل ليخدعوا بها العوام والفلاحين، والضعاف والمساكين، والجهلة من الأمراء والمتفقهين، ولكنه فوجئ بجواب شيخ الإسلام الذي أبهته وأسكته، وما ذلك إلا لخبرة شيخ الإسلام بأقوالهم وأحوالهم، كيف لا، وهو القائل:«كل من خالفني في شيء مما كتبته، فأنا أعلم بمذهبه منه»

(4)

؟!

فلما عرض عليه هذا الأحمدي قدرته على دخول التنور وعدم الاحتراق به، وذلك بعد ثلاثة أيام من تسجيره واتقاده، رد عليه شيخ الإسلام رداً مفحماً، بأن طلب منه السماح له بما هو أسهل من ذلك وأسرع، وأقل أثراً وضرراً، فإن قدر عليه كانت هذه قرينة على صدقه فيما فوقه، وإن عجز عن هذا الفعل البسيط فهو

(1)

طَوَّافَة: مشعل يطاف على ضوئه في الطرقات ليلاً، وفي محيط المحيط: الفتيلة الموقدة يطاف على نورها ليلاً. انظر: تكملة المعاجم العربية (7/ 93).

(2)

أعظم كنيسةٍ للنصارى وهي في بيت المقدس، انظر "معجم البلدان":(4/ 396).

(3)

الوافي بالوفيات (7/ 13).

(4)

مجموع الفتاوى (3/ 136).

ص: 360

عما هو أكبر منه أضعف وأعجز، فاستأذن منه أن يضع الطوافة في ذقنه، فإنه إن كان صادقاً في ما ادعاه من قدرته على دخول النار فلن يتردد في قبول ذلك، وإن خاف وأحجم فهذا دليل واضح على كذبه واحتياله، وهذا ما حدث بالفعل، فإنه لم يستطع الإقدام على ذلك، فظهر كذبه واحتياله، وانكشف أمره وانفضح حاله.

وقد سبق في المناظرة السابقة بيان حقيقة ما يدعيه الرفاعية من دخول النيران وعدم التأثر بها، ودراسة المسألة هناك، وكيف كشف شيخ الإسلام حيلهم وألاعيبهم التي يلبسون بها على الناس، ليصدقوا مثل هذه الأمور، وفي هذه المناظرة يحسن الإشارة إلى ما تطرق له الصفدي من مشابهة هؤلاء الرفاعية في دجلهم وكذبهم، لرهبان النصارى في حيلهم وطرقهم التي يستخدمونها لخداع النصارى وعامة أهل ديانتهم، وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في عده مواطن من كتبه وبين كثيراً من حيل الرهبان وطرقهم التي يخدعون بها الناس.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: «وقد صنَّف بعض الناس مصنفًا في حيل الرهبان، مثل الحيلة المحكية عن أحدهم في جعل الماء زيتًا بأن يكون الزيت في جوف منارة، فإذا نقص صب فيها ماء، فيطوف الزيت على الماء، فيظن الحاضرون أن نفس الماء انقلب زيتًا.

ومثل الحيلة المحكية عنهم في ارتفاع النخلة، وهو أن بعضهم مر بدير راهب وأسفل منه نخلة، فأراه النخلة صعدت شيئًا شيئًا حتى حاذت الدير، فأخذ من رُطَبها ثم نزلت حتى عادت كما كانت، فكشف الرجل الحيلة، فوجد النخلة في سفينة في مكان منخفض إذا أرسل عليه الماء امتلأ حتى تصعد السفينة، وإذا صرف الماء إلى موضع آخر هبطت السفينة، ومثل الحيلة المحكية عنهم في التكحل بدموع السيدة، يضعون كحلًا في ماء متحرك حركة لطيفة، فيسيل حتى ينزل من تلك الصورة فيخرج من عينها فيظن أنه دموع. ومثل الحيلة التي صنعوها بالصورة التي يسمونها القونة

(1)

(1)

لعل المراد بها (الأيقونة)، وهي كلمة يونانية أو قبطية الأصل، يُعبر بها عن صور المسيح ومريم عليهما السلام، والحواريين والرسل والقديسين، ونحوهم، وهم يعظمون الأيقونات، ويوجبون وضعها في الكنيسة والبيوت والطرقات بزعم أن تأمل الأيقونة يحثهم على تكريم من ترمز إليه، وهو في الحقيقة عبادة للصور، وإن زعموا أنهم لا يقصدون عبادتها. انظر: معجم متن اللغة (1/ 223).

ص: 361

بصيدنايا

(1)

، وهي أعظم مزاراتهم بعد القمامة وبيت لحم، فإن هذه صورة السيدة مريم، وأصلها خشبة نخلة سُقِيت بالأدهان حتى تنعمت وصار الدهن يخرج منها دهنًا مصنوعًا يُظن أنه من بركة الصورة.

ومن حيلهم الكثيرة: النار التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة، وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى، ورأوها بعيونهم أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم، يظنون أنها نزلت من السماء، ويتبركون بها، وإنما هي صنعة صاحب مُحَالٍ وتلبيس. ومثل ذلك كثير من حيل النصارى، فجميع ما عند النصارى المبدلين لدين المسيح من الخوارق: إما حال شيطاني، وإما محال بهتاني ليس فيه شيء من كرامات الصالحين، وكذلك أهل الإلحاد المبدلين لدين محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتخذون دينا لم يشرعه الله ورسوله ويجعلونه طريقا إلى الله وقد يختارونه على الطريق التي شرعها الله ورسوله»

(2)

.

وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله: «ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم قد نصبوا حبائل الحيل، ليقتنصوا بها عقول العوالم، ويتوصلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم لهم واستدرار أموالهم، وذلك أشهر وأكثر من أن يذكر.

فمن ذلك ما يعتمدونه في العيد الذي يسمونه عيد النور -ومحله ببيت المقدس- فيجتمعون من سائر النواحي في ذلك اليوم، ويأتون إلى بيت فيه قنديل معلق، لا نار فيه، فيتلو أحبارهم الإنجيل، ويرفعون أصواتهم، ويبتهلون في الدعاء. فبينما هم كذلك، وإذا نار قد نزلت من سقف البيت، فتقع على ذبالة

(1)

بلد من أعمال دمشق مشهور بكثرة الكروم. انظر: معجم البلدان (3/ 438) مراصد الاطلاع (2/ 859).

(2)

الجواب الصحيح (2/ 339 - 341).

ص: 362

القنديل، فيشرق، ويضيء ويشعل، فيصيحون صيحة واحدة، ويصلبون على وجوههم، ويأخذون في البكاء والشهيق.

قال أبو بكر الطرطوشي

(1)

: كنت ببيت المقدس، وكان واليها إذ ذاك رجلاً يقال له: سقمان

(2)

، فلما انتهى إليه خبر هذا العيد أنفذ إلى بتاركهم، وقال: أنا نازل إليكم في هذا اليوم، لأكشف عن حقيقة ما تقولون فإن كان حقاً ولم يتضح لي وجه الحيلة أقررتكم عليه، وعظمته معكم، وإن كان مخرفة على عوامكم أوقعت بكم ما تكرهون.

فصعب ذلك عليهم جداً وسألوه ألا يفعل، فأبى وألح في ذلك، فحملوا له مالاً عظيماً فأعرض عنهم.

قال الطرطوشي: ثم اجتمعت بأبي محمد بن الأقدم بالإسكندرية، فحدثني أنهم يأخذون خيطاً دقيقا من نحاس -وهو الشريط- ويجعلونه في وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التي في القنديل، ويدهنونه بدهن البلسان

(3)

، والبيت مظلم، بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس.

وقد عظموا ذلك البيت، فلا يمكنون أحدا من دخوله. وفي رأس القبة رجل، فإذا قسسوا ودعوا ألقى على ذلك الخيط النحاس شيئا من نار النفط، فتجري النار

(1)

هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي، ويقال له ابن أبي رندقة فقيه حافظ إمام محدث ثقة، من فقهاء المالكية من كتبه: سراج الملوك والحوادث والبدع (ت:520 هـ). انظر: جذوة الملتمس (ص:135) وفيات الأعيان (4/ 262).

(2)

الملك سقمان بن أرتق بن أكسب التركماني له في حرب الفرنج الآثار الحسنة والحملات المستحسنة، كان أبوه والياً للسلاجقة على القدس، فلما توفي ورثه ولداه في حكم المدينة إلى أن أخذها منهم العبيديون (الفاطميون) عام 491 للهجرة (ت:497 هـ). انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 234) مجمع الآداب (2/ 384).

(3)

البلسان: شجر كثير الورق وله دهن معروف يجعل في الدواء. انظر: العين (7/ 262) لسان العرب (6/ 30)

ص: 363

مع دهن البلسان إلى آخر الخيط النحاس، فيلقى الفتيلة فيتعلق بها.

فلو نصح أحد منهم نفسه، وفتش على نجاته لتتبع ذلك، وطلب الخيط النحاس، وفتش رأس القبة، ليرى الرجل والنفط، ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرق الملبس.

وأنه لو نزل من السماء لظهر من فوق، ولم يكن ظهوره من الفتيلة!

ومن حيلهم أيضاً: أنه قد كان بأرض الروم في زمن المتوكل كنيسة، إذا كان يوم عيدها يحج الناس إليها، ويجتمعون عند صنم فيها، فيشاهدون ثدي ذلك الصنم في ذلك اليوم يخرج منه اللبن. وكان يجتمع للسادن في ذلك اليوم مال عظيم. فبحث الملك عنها، فانكشف له أمرها فوجد القيم قد ثقب من وراء الحائط ثقباً إلى ثدي الصنم، وجعل فيها أنبوبة من رصاص، وأصلحها بالجبس ليخفى أمرها، فإذا كان يوم العيد فتحها وصب فيها اللبن، فيجرى إلى الثدي فيقطر منه، فيعتقد الجهال أن هذا سر في الصنم، وأنه علامة من الله تعالى لقبول قربانهم، وتعظيمهم له، فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادن، ومحو الصور من الكنائس، وقال: إن هذه الصور مقام الأصنام. فمن سجد للصورة فهو كمن سجد للأصنام»

(1)

.

وما هذه الأمثلة إلا غيض من فيض وبها يتضح لك أن هذه الخدع الكاذبة والحيل الماكرة ليست مقتصرة على الرفاعية فحسب، بل هي طريقة قديمة استخدمها رهبان النصارى لترويج معتقداتهم الفاسدة، والمكر والخداع لاتباعهم، وأخذ الأموال ظلما وزورا، فبئس السلف لبئس الخلف.

* * *

(1)

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 288 - 289).

ص: 364

‌المبحث السادس: مناظرته مع بعض من يحسن الظن بالأحجار ويجوزون التبرك بها

ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

لم يكن شيخ الإسلام مجاهداً باللسان والقلم فحسب؛ بل قد توج جهاده هذا بالجهاد باليد، فجمع أنواع الجهاد كلها، وقام بمراتب إنكار المنكر كلها، فهو المعلم المرشد، وهو الكاتب المؤلف، وهو المقاتل المبارز، وهو الخطيب الواعظ، ومن أعظم جهاده بيده، تكسيره للصخور والأصنام، والأعمدة والأحجار، التي كانت منتشرة في دمشق ونواحيها، وكان الناس يحسنون الظن بها، ويتقربون لها بشتى القربات، ويصرفون لها أنواع العبادات، ويعتقدون فيها الأباطيل والمنكرات، فقام شيخ الإسلام بتكسيرها وتحطيمها، وتطهير البلاد منها، وأثبت للناس أنها لا تغني عنهم شيئاً، ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً، وقد ذكر كثيراً من هذه الوقائع والأحداث تلميذه ومرافقه الذي خدمه ولازمه إبراهيم بن أحمد الغياني

(1)

في رسالة لطيفة

(1)

هو إبراهيمُ بنُ أحمدَ الغيانيُّ الملقب بخادم شيخ الإسلام، كان يخدمه ويصحبه، وله فصل في حكاية تكسير شيخ الإسلام للحجارة التي كان يزورها الناس ويتبركون بها، يظهر من خلالها طول ملازمته لشيخ الإسلام، وكثرة الأحداث التي شهدها معه، ومع ذلك لم أجد له ترجمة فيما وقفت عليه من كتب التاريخ والتراجم، إلا ما ذكره محب الدين الخطيب في تحقيقه لرسالة أحمد بن إبراهيم الغياني "نبذه عن آخر حياة شيخ الاسلام" (ص:6) حيث قال: «كان معه طول مدة حبسه في قاعة الترسيم، ثم كان رسوله إلى دمشق عندما نقلوه إلى البرج الأخضر في الاسكندرية» ا. هـ.

ص: 365

له

(1)

ذكر فيها ما قام به شيخ الإسلام من تكسير للأحجار والأوثان، وضمنها كثيراً من الحوادث التي وقعت لشيخ الإسلام أثناء قيامه بهذه الأمور، ومن ذلك هذه المناظرة التي بين أيدينا، والتي حدثت له مع بعض المدافعين عن هذه الأحجار والمحسنين ظنهم بها.

‌نص المناظرة:

قال إبراهيم بن أحمد الغياني رحمه الله:

«{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزُّخرُف:22].

وصلى الله على محمد عبده ورسوله، خير الخلق وأكرمهم على الله المصطفى المأمون، صلاة دائمة مادامت الأيام والدهور والسنون.

أما بعد؛ فهذا فصل فيما قام به الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه وتفرّد به دون غيره من العلماء رضي الله عنهم الذين كانوا قبله وفي زمانه، وذلك بتكسير الأحجار التي كان الناس يزورونها، ويتبركون بها،

(1)

هذه الرسالة عثر عليها محب الدين الخطيب رحمه الله في كتاب الكوكب الدراري لابن عروة الحنبلي رحمه الله فأخرجها وعنون لها بـ (ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله) وطبعت مجددا بعنوان: (نبذة عن آخر حياة شيخ الإسلام ابن تيمية)، وهي موجودة في الجامع لسيرة شيخ الإسلام رحمه الله بعنوان:(فصل فيما قام به ابن تيمية وتفرد به وذلك في تكسير الاحجار).

ص: 366

ويقبلونها، وينذرون لها النذور، ويلطخونها الخَلُوق

(1)

، ويطلبون عندها قضاء حاجاتهم، ويعتقدون أنَّ فيها -أوْ لها- سرًّا، وأن من تعرَّض لها بسوء -بقالٍ أو فعال- أصابته في نفسه آفة من الآفات!

فشرع الشيخ يعيب تلك الأحجار، وينهى الناس عن إتيانها، أو أن يُفعل عندها شيء مما ذُكر، أو أن يُحسَنَ بها الظن.

فقال له بعض الناس: إنه قد جاء في حديث أن أم سلمة سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ بالتين والزيتون، فأخذت تينة وزيتونة وربطت عليهما وعلقتهما حِرْزًا. وبقيت كلما جاء إليها أحد به مرض تحطه عليه فيبرأ من ذلك المرض. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك، فقالت: سمعتك تقرأ بالتين والزيتون، فقلتُ: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك إلا وفيه سرّ أو منفعة، فعملت تينة وزيتونة لي حرزًا، وأحسنت ظني به، ونفعت بذلك الناسَ. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:(لو أحسن أحدكم ظنَّه بِحَجَرٍ لنفعه الله به)

(2)

.

فقال الشيخ: هذا الحديث كله -من أوله إلى آخره- كذب مختلق، وإفك مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أم سلمة رضي الله عنها. والذي صحَّ وثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني

)

(3)

الحديث، و (أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي خيرًا)

(4)

، وقال:(لا يموتنَّ أحدُكم إلا ويحسن ظنَّه بالله)

(5)

الذي تفرَّد بخلقه، وأوجده من العدم

(1)

الخلوق: طيب معروف من الزعفران وغيره، يخلق به الرجل. انظر: غريب الحديث لإبراهيم الحربي (1/ 25) وتهذيب اللغة (7/ 18).

(2)

سيأتي بيان حال الحديث وكذبه أثناء الدراسة (ص: 356).

(3)

رواه البخاري كتاب التوحيد، (7405)، ومسلم كتاب الذكر والدعاء (2675) واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه أحمد في مسنده (16980) والدارمي في سننه (2773) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه بلفظ: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4311).

(5)

رواه مسلم كتاب الجنة، (2877).

ص: 367

ولم يكن شيئًا، وبيده ضرُّه ونفعه، كما قال إمامنا وقدوتنا إبراهيم خليل الرحمن:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:78 - 82]، فهذا الرب العظيم الكبير المتعال، الذي بيده ملكوت كل شيءٍ، يُحسن العبد به ظنه، ما يحسن ظنه بالأحجار، فإن الكفار أحسنوا ظنهم بالأحجار فأدخلتهم النار، وقد قال الله تعالى في الأحجار وفي من أحسنوا بها الظنَّ حتى عبدوها من دونه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وقال:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُسْتجمر من البول بثلاثة أحجار

(1)

، ما قال أحسنوا ظنكم بها، بل قال: استجمروا بها من البول. وقد كسر النبي صلى الله عليه وسلم الأحجار التي أحسن بها الظن حتى عُبدتْ حول البيت وحرَّقها بالنار

(2)

»

(3)

ا. هـ.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

كما هو ملاحظ من هذه المناظرة فإن بعض الناس قد احتجوا لتبرير ما يقعون فيه من شرك وصرف لأنواع العبادات المختلفة للأعمدة والأحجار وغيرها من الأوثان، بحديث مختلق مكذوب، اخترعه عباد الأوثان من تلقاء أنفسهم ألا وهو حديث (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه ذلك)، وفي الواقع أن اختراعهم لهذا الحديث لم يأت من فراغ؛ وإنما نشأ عن عقيدة وشبهة مستقرة عندهم، جعلتهم يختلقون مثل هذه الأحاديث لتكون حجة لهم على عقيدتهم الفاسدة.

(1)

كما في حديث سلمان الفارسي عند مسلم كتاب الطهارة (262) وحديث أبي هريرة عند البخاري باب الاستنثار في الوضوء (161).

(2)

ومنه ما رواه البخاري (4287) ومسلم (1781) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(3)

نبذة عن آخر حياة شيخ الإسلام (ص:9)، ورسالة (فصل فيما قام به ابن تيمية وتفرد به وذلك في تكسير الأحجار) ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص: 134).

ص: 368

‌مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة

، وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

إن هذه العقيدة الفاسدة التي اعتقدها هؤلاء القوم في إحسان الظن بالأعمدة والأحجار والقبور، إنما دخلت عليهم من عقائد مشركي الفلاسفة، فإن شركهم كان على نوعين:

النوع الأول: من يعبد الكواكب، ويدعوها ويطلب منها، فتتنزل عليه الشياطين، ويظن أنها روحانية الكواكب نزلت عليه.

النوع الثاني: من يعبدون الكواكب وغيرها من الأوثان، ويقولون: إنه بنفس توجههم وجمع همتهم إلى ما يدعونه ويحبونه، يحصل لهم المقصود، حتى لو لم يعلم الداعي والمتوجه له، أن هذا دعاه أو توجه إليه. وهذا النوع هو الذي وقع فيه هؤلاء القوم.

وحقيقة هذا القول أنهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لا يحدث في العالم شيئاً، وأن الداعي إذا توجه للمدعو وجمع همته عليه تقوى نفسه حتى يحصل لها المطلوب، من غير أن يكون المدعو علم بذلك، أو كان له تأثير في حصول ذلك، بل المؤثر عندهم هي النفس، لكن بتوجهها إلى ذلك حصل لها قوة، ولذلك يقولون إن الإنسان لو جمع همته على أي شيء كان إلهاً أو حجراً أو صنماً أو كوكباً؛ ودعاه وتوجه إليه حصل له المقصود بمجرد دعائه وتوجهه له وجمع همته عليه، حتى إنهم يقولون: لا فرق بين قولك: يا حجر يا حجر، وبين قولك: يا حي يا قيوم يعني لأن المقصود بكليهما جمع الهمّة، فمتى اجتمعت الهمة أجيبت الدعوة لأي شيء كانت!

(1)

ومن هذا الباب قالوا: إن من أحسن ظنه ولو بحجر فإن ذلك سينفعه، ثم اختلقوا هذا الحديث المكذوب ليكون حجة لهم على ما يقررون،

(1)

انظر: قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 138).

ص: 369

وهذا هو ما بينه شيخ الإسلام ووضحه في قاعدته العظيمة (قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق)

(1)

.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المناظرة، وفي غيرها من المواضع، بطلان هذا القول وما بني عليه من أوجه كثيرة، أهمها ما يلي:

أولا: أن هذا الحديث مختلق مكذوب لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «هذا الحديث كله -من أوله إلى آخره- كذب مختلق، وإفك مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أم سلمة رضي الله عنها»

(3)

، وهو من رواية الكذابين. وقال رحمه الله: «والحديث الذي يرويه بعض الكذابين: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به)، كذب مفترى باتفاق أهل العلم، وإنما هذا من

(1)

انظر: المصدر السابق (ص:136 - 138).

(2)

هذا الحديث كذب موضوع باتفاق العلماء، وقد تتابع العلماء على تكذيبه والحكم بوضعه، قال العجلوني في كشف الخفاء (2/ 178): «قال ابن تيمية: كذب، ونحوه قول الحافظ ابن حجر: لا أصل له

وقال ابن القيم: هو من كلام عباد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالأحجار. والمشهور على الألسنة: "لو اعتقد أحدكم على حجر لنفعه". وعبارة النجم: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به" أو "لو اعتقد أحدكم حجرًا نفعه الله به" أو "لنفعه": كذب لا أصل له، كما قال ابن تيمية وابن حجر وغيرهما. انتهى». وذكره السخاوي في المقاصد الحسنة برقم:(883). والملا علي قاري في الموضوعات الكبرى (الأسرار المرفوعة) برقم: (376)(ص:288) وفي الموضوعات الصغرى (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع)(248)(ص:147)، ومرعي الكرمي في الفوائد الموضوعة (188) (ص: 137)، وأحمد بن عبد الكريم الغزي في الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث برقم:(391)، وقال:«كذب لا أصل له» ، ومحمد الأمير المالكي في الأحاديث المكذوبة على خير البرية (268)، وقال:«لا أصل له، وقد اشتهر على ألسنة العامة» ، وقال ابن القيم في المنار المنيف (ص: 139): «هو من وضع المشركين عباد الأوثان» . وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 335)، والفتاوى الكبرى (3/ 44).

(3)

نبذة عن آخر حياة شيخ الإسلام (ص: 9).

ص: 370

قول عباد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالحجارة»

(1)

وبين رحمه الله أن هذا الكلام ليس من كلام أهل الشرك والبهتان، وليس من كلام أهل الإيمان، فضلاً أن يكون من كلام النبي -عليه أفضل صلاة وسلام-، فقال:«وقول القائل: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به) هو من كلام أهل الشرك والبهتان»

(2)

.

ثانيًا: أن المتعين هو إحسان الظن بالله تعالى، لا بالأحجار والأصنام، وبهذا وردت النصوص ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:(يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)

(3)

وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي خيرًا)

(4)

، وفي صحيح مسلم عن جابر-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا يموتنَّ أحدُكم إلا ويحسن ظنَّه بالله)

(5)

؛ وذلك لأن الله هو "الذي تفرَّد بخلقه، وأوجده من العدم ولم يكن شيئًا، وبيده ضرُّه ونفعه، كما قال إمامنا وقدوتنا إبراهيم خليل الرحمن: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:78 - 82]، فهذا الرب العظيم الكبير المتعال، الذي بيده ملكوت كل شيءٍ، يُحسن العبد به ظنه، ما يحسن ظنه بالأحجار! "

(6)

.

ثالثاً: أن إحسان الظن بالأحجار، ليس من طبع المؤمنين بالله العلي العظيم،

(1)

جامع المسائل (5/ 104).

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 513).

(3)

سبق عزوه.

(4)

سبق عزوه.

(5)

سبق عزوه.

(6)

نبذة عن آخر حياة شيخ الإسلام (ص 9) وجامع المسائل (5/ 105 - 106)

ص: 371

وإنما هو من طبع الكفار والمشركين، كما عُرِف ذلك من حالهم

(1)

.

رابعاً: أن الكفار أحسنوا ظنهم بالأحجار فلم تنفعهم ولم تغن عنهم شيئا؛ بل كانت سببا لهلاكهم في الآخرة ودخولهم نار جهنم، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وقال:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24].

خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالاستجمار بهذه الأحجار ولم يأمر بإحسان الظن بها وعبادتها من دون الله، فحقها أن يستجمر بها، لا أن يستغاث بها، كما يفعله هؤلاء الجهلة

(2)

.

سادساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بتكسير الأحجار والأصنام التي كان المشركون يحسنون بها الظن وقام بتحريقها بالنار كذلك، وهذا دليل واضح بين على فساد هذا الظن، ومخالفته لدين الإسلام، وشرع رب الأنام، وأن الواجب في حق مثل هذه الأحجار التي يقدسها الناس ويصرفون لها أنواع العبادات، ويعتقدون فيها أنواع المعتقدات، هو التكسير والتحطيم والإزالة، لا إحسان الظن بها والاعتقاد فيها، كما كان يصنع هؤلاء القوم

(3)

.

سابعاً: قد دلت النصوص القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن العبادات لا تقبل إلا بإخلاص العمل لله، ويجب فيها اتباع ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وكل عمل فقد أحد الشرطين فلا يقبل، وليس لأحد أن يشرع برأيه عبادة لم يأذن بها الله، فكيف بشيء حرمه الشارع ونهى عنه وبين أنه شرك أكبر مخرج

(1)

انظر: قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 142).

(2)

انظر: المصدر السابق (ص: 10).

(3)

انظر: المصدر السابق (ص: 10).

ص: 372

من الملة فكيف تجوز عبادة الله به

(1)

.

ثامناً: أن هذا الفعل لم يفعله أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من التابعين، بل ولا حتى عامة المؤمنين الصادقين، وإنما هو من فعل الكفرة والمشركين

(2)

؛ بل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود خير الأحجار وأفضلها، وهو الحجر الأسود قال:(والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك)

(3)

.

تاسعاً: دعواهم أن النفس هي المؤثرة في حصول المطلوب دعوى باطلة، فإن النفس ضعيفة عاجزة عن التأثير، وكل من علق نفسه بغير الله وظن أن له تأثيراً دون الله، فقد علق نفسه بضعيف عاجز قال سبحانه وتعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:41 - 43]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:82]

(4)

.

عاشراً: ظَنُ بعضهم أن النفس لها تأثير لبعض ما يشاهده أو يجده من حصول بعض مطلوبه عند جمع همته، وتفريغ قلبه، ظَنٌ فاسد باطل، فإن الشياطين هي التي

(1)

انظر: جامع المسائل (4/ 229) و (5/ 101 - 102)، وقاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 16، 141).

(2)

انظر: قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 141).

(3)

رواه البخاري، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (1597)، ومسلم كتاب الحج (1270).

(4)

انظر: قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 140).

ص: 373

تفعل هذا "فإذا اجتمعت الهمّة على ذلك الشيء، وتفرغ القلب لما يلقى فيه، تمكن منه الشيطان، فألقى في قلوبهم ما يلقيه، وتمثل لهم، وقضى بعض حوائجهم، والمتفلسفة الذين لا يعرفون الجنّ، يقولون: هذا كله من قوى النفس، ولكن جمهور الناس الذين قد عرفوا حقيقة الأمر، يعرفون أن الشياطين تفعل من ذلك ما لا تفعل النفس"

(1)

. وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً هذا الأمر: «وهذا موجود في كثير من أهل زماننا، كما كان بعض الناس يقول لمريديه: توجه إلى قلبك وقل: لا إله إلا الله، وليس المقصود الذكر، إنما المقصود أن يجتمع قلبك، فإذا اجتمع قلبه تنزلت عليه الشياطين، فيخيل إليه أنه صعد إلى السماء، وألوان أخر، ويقول أحدهم: حصل لك ما لم يحصل لموسى بن عمران، ولا لمحمد ليلة المعراج، وشخص آخر من كبارهم كان يقول: لا فرق بين قولك: يا حجر يا حجر، وبين قولك: يا حي يا قيوم، يعني أن المقصود بكليهما جمع الهمّة، فهذا وأمثاله من أسرار هؤلاء المشركين.

ومن هؤلاء من يدعو بعض الكواكب، أو بعض الموتى من الأنبياء، والصالحين، أو بعض الملائكة، أو بعض الأوثان، فيرى صورًا: إما صورة بشر، وإما غير صورة بشر، فإنهم يرون أنواعًا من الصور تخاطبهم، وتقضي بعض حوائجهم، فيقولون: هذه روحانية الكوكب، أو سر الشيخ، أو رفيقته، أو نحو ذلك، وإنما ذلك شيطان يضلهم كما كانت الشياطين تضل عبّاد الأوثان، وإلى اليوم، وكانت الشياطين تكلمهم أحيانًا من الأصنام، وأحيانًا يرونها، قال ابن عباس رضي الله عنهما:(في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيتكلمون)

(2)

. وقال أبي بن

(1)

قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 137).

(2)

رواه عبد بن حميد في تفسيره (ص:118) برقم (395) من رواية الكلبي محمد بن السائب عن ابن عباس، والكلبي كذاب متروك، ولم يسمع من ابن عباس رضي الله عنه فالأثر ضعيف جداً. انظر: تهذيب التهذيب (9/ 180).

ص: 374

كعب رضي الله عنه: (مع كل صنم جنيّة)

(1)

»

(2)

.

الحادي عشر: اختلافهم وتناقضهم دليلٌ واضح على فساد قولهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون، عند قبر أو غيره، كل منهم قد اتخذ وثنا أحسن به الظن، وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده، ولا يستجاب عند غيره، فمن المحال إصابتهم جميعا، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم، وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد»

(3)

.

وبهذه الأوجه كلها، يظهر فساد مذهب القوم، وسوء معتقدهم، وبطلان كلامهم، وضعف حجتهم.

* * *

(1)

رواه عبد الله بن أحمد في المسند (21231) وابن أبي حاتم في تفسيره (5969) وحسنه الأرناؤوط.

(2)

قاعدة عظيمة (ص: 137 - 138).

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 208).

ص: 375

‌المبحث السابع: مناظرته مع جماعة يستشفون بقبور العبيديين ويعتقدون ولايتهم

ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة

.

‌تمهيد:

كان شيخ الإسلام رحمه الله غاية في الذكاء والفطنة، وسرعة البديهة وقوة الحجة، ولا غرو في ذلك ولا عجب؛ فهو ذلك البحر الزخار، والموج الهدار، الذي نال من العلوم النصيب الأوفر، ومن العقل والدهاء الحظ الأكبر، وكان من عجيب شأنه أنه لا يدع حجة لمحتج تخالف الشريعة إلا فندها، وأزال ما تحويه من شبهة وأبطلها، بل بلغ به الشأن أن يقلب حجة الخصم حجة عليه، ويجعل برهانه الذي استدل به برهانا عليه، وأمثلة ذلك كثيرة وعديدة، ومن أبرزها هذه المناظرة التي يحكيها لنا تلميذه وصاحبه، ورفيقه وخادمه، إبراهيم بن أحمد الغياني، فقد أورد في رسالته

(1)

التي حوت كثيرا من قصص شيخ الإسلام وأحواله وجهده في الدعوة وجهاده، ومناظرته لخصومه وأعدائه، الشيء النفيس الجليل، ومن تلك الحوادث التي ذكرها هذه الحادثة التي وقعت لشيخ الإسلام أثناء وجوده في بلاد

(1)

وهي الرسالة الموسمة بـ (نبذة عن آخر حياة شيخ الإسلام)، أو (فصل فيما قام به ابن تيمية وتفرد به وذلك في تكسير الاحجار).

ص: 376

مصر، وقبل هذا قد ذكرها الشيخ نفسه أثناء رده على ما زعمه البكري

(1)

: من أن منع الاستغاثة بغير الله من الأنبياء والملائكة والصالحين يعتبر انتقاصاً لهم وتقليلاً من شأنهم وحطاً من قدرهم ومكانتهم، فبين شيخ الإسلام رحمه الله أن الأمر على نقيض هذا، فإن ترك الشرك بالله وعدم الغلو في الصالحين هو من تعظيمهم وتبجيلهم وطاعتهم فيما جاءوا به وأمروا به، وبين أن المستغيثين بهم والغالين فيهم هم المنتقصون لهم في الحقيقة، وأن دعاءهم لهم واستغاثتهم بهم ليس نابعاً في الحقيقة من تعظيمهم ومعرفة قدرهم، ويدل على ذلك أنهم لو ظفروا بمقصودهم، وما يرجونه ويطلبونه من أمور دنياهم عند غيرهم لفعلوه عندهم، حتى لو كان هذا المرجو ممن لا يعرف باستقامة وصلاح بل قد يكون من أهل الكفر والفسوق، كما ثبت عنهم استغاثتهم بأمثال هؤلاء إن وجدوا منفعة في ذلك، بل إنهم قد يذهبون عند قبور الكافرين والمنافقين إذا حصل لهم المقصود بذلك، ووجدوا ما أرادوا هنالك، وضرب شيخ الإسلام على أفعالهم هذه عدة أمثلة ووقائع منها هذه الواقعة التي جرت له مع جماعة منهم كانوا يذهبون إلى قبور الكفرة من العبيدين

(2)

ونحوهم طلباً للسلامة والشفاء

(3)

.

‌نص المناظرة:

قال إبراهيم الغياني رحمه الله: «سمعت الشيخ يحكي غير مرة في مجالسه يقول: زرت يوما المارستان المنصوري

(4)

، فجاء إلي أناس فقالوا لي: تصدق وزر

(1)

الرد على البكري (2/ 588 - 589 - 590).

(2)

وهم قوم باطنية زنادقة، وسيأتي بيان حالهم واعتقادهم في مطلب مستقل.

(3)

وقد أوردت هذه المناظرة كما ذكرها تلميذه أحمد بن إبراهيم الغياني رحمه الله وأضفت لها بعض الزيادات المهمة التي لم توجد فيها مما ذكره شيخ الإسلام في (الرد على البكري) وميزتها بمعكوفتين.

(4)

المارستان: كلمة فارسية معربة تعني: دار المرضى، وأصلها:(بيمارسان) بالفارسية مركبة من (بيمار) أي مريض، (وستان) أي: موضع، فالمراد موضع المرضى. وأول من بناه بالشام السلطان، نور الدين الشهيد، وبمصر الملك الناصر محمد بن قلاوون، تغمدهما الله تعالى بالرحمة والرضوان. انظر الصحاح للجوهري (3/ 978)، وتاج العروس (36/ 168)، والكليات (ص: 874) والقاموس المحيط (ص: 574). والمارستان المنصوري: بناء عظيم بناه الناصر محمد بن قلاوون لعلاج المرضى، وأضاف له أمورا كثيرة عجيبة، من أهمها مدارس لحفظ القرآن الكريم وتدريس الفقة والحديث وغيرها، وقد وصف هذا البناء العظيم تقي الدين المقريزي في كتابه:(المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) وصف دقيقاً مفصلاً انظر: المواعظ والاعتبار (4/ 268).

ص: 377

المارستان العتيق فرحت معهم أزوره.

فقالوا لي: ألا تزور قبور الخلفاء -يعنون بني عبيد-؟

فرحت معهم إلى قبورهم، فوجدت قبورهم إلى القطب الشمالي.

فتكلم عليهم وعلى مذاهبهم.

[وكان بالبلد جماعة كثيرون يظنون بالعبيديين أنهم أولياء الله تعالى صالحون]

[فلما ذكرت لهم أن هؤلاء كانوا منافقين زنادقة، وخيار من فيهم الرافضة جعلوا يتعجبون ويقولون]: نحن نعتقد أن هؤلاء قوم صالحون، لأنّا إذا مغلت

(1)

عندنا الخيل نجيء بها إلى قبور هؤلاء فتبرأ، فلولا أنهم صالحون ما برأت الدواب من المغل عند قبورهم.

[فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم] وهو حجة أيضا على صحة ما أقوله فيهم.

[وطلبت من طائفة من سياس الخيل

(2)

، فقلت: أنتم بالشام ومصر إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون بهم؟

فقالوا: في الشام يذهب بها إلى قبور اليهود والنصارى، وإذا كنا في أرض

(1)

المغل: وجع أو داء في البطن، ومغلت الدابة إذا أكلت التراب مع البقل فأخذها وجع في بطنها. انظر: القاموس المحيط (ص: 1058)، المعجم الوسيط (2/ 886).

(2)

سياس الخيل: هم مؤدبوها ومروضوها والقائمون عليها. قال الفراهيدي في العين (7/ 336): «يسوس الدّوابَّ سياسهً، يقوم عليها ويروضها» . وقال الأزهري في تهذيب اللغة (13/ 91)«يقال: هو يسوس الدواب: إذا قام عليها وراضها» .

ص: 378

الشمال يذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية كالعليقة والمنقية

(1)

ونحوهما، وأما في مصر فيذهب بها إلى دير هناك للنصارى، ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف، وهم يظنون أن العبيديين شرفاء لما أظهروا أنهم من أهل البيت. فقلت: هل يذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين، مثل قبر الليث بن سعد، والشافعي، وابن القاسم

(2)

وغير هؤلاء؟

فقالوا: لا.

فقلت لأولئك: اسمعوا؛ إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين؛

وبينت لهم سبب ذلك قلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم، والبهائم تسمع أصواتهم كما ثبت في الحديث الصحيح؛] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوماً راكباً على بغلته فحادت حتى كادت تلقيه عن ظهرها، فقالوا: ما شأنها يا رسول الله؟ فقال: (إنها سمعت أصوات يهود تعذب في قبورها)

(3)

.

(1)

العليقة والمنيقة: من حصون الباطنية الإسماعيلية في شمال البلاد الشامية من أعمال طرابلس، انتزعها منهم بيبرس المملوكي سنة 668 هـ، والعليقة سنة (669 هـ). انظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (4/ 179 - 181)، وغلاة الشيعة الباطنية في الشام (ص: 33).

(2)

هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقيّ المصري، صاحب الإمام مالك، فقيه، جمع بين الزهد والعلم، كان ذا مال ودنيا، فأنفقها في العلم، صحب مالكاً عشرين سنة، وهو صاحب " المدونة " في مذهبهم، وهي من أجل كتبهم (ت: 191 هـ). انظر: وفيات الأعيان (3/ 129) تاريخ الإسلام (4/ 1149).

(3)

هذا النص الذي ساقه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، مجموع من حديثين مختلفين وليسا حديثاً واحداً: أما الحديث الأول فرواه مسلم برقم: (2867) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة -قال: كذا كان يقول الجريري- فقال: (من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟) فقال رجل: أنا، قال:(فمتى مات هؤلاء؟) قال: ماتوا في الإشراك، فقال:(إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) ثم أقبل علينا بوجهه، فقال:(تعوذوا بالله من عذاب النار» قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار)، فقال:(تعوذوا بالله من عذاب القبر) قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال:(تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن) قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال:(تعوذوا بالله من فتنة الدجال) قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال، وأما النص الآخر فرواه البخاري (1375)، ومسلم (2869) من حديث أبي أيوب رضي الله عنهم، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس، فسمع صوتا فقال:(يهود تعذب في قبورها).

ص: 379

فإذا جيء بها إلى قبور اليهود والنصارى في الشام، وإلى قبور المنافقين كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية، فإن الدواب إذا سمعت أصوات المعذبين في قبورهم تفزع، فيحصل لها حرارة تذهب بالمغل الذي حصل لها؛ فإن المغل من برد يحصل للدواب، [فإذا سمعت ذلك فزعت؛ فبسبب الرعب الذي يحصل لها؛ تنحل بطونها فتروث؛ فإن الفزع يقتضي الإسهال] وقال الشيخ: إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم، فما يروح أصحاب الدواب بها إلى قبر الشافعي ولا إلى قبر أشهب

(1)

فإن عند قبورهم تنزل الرحمة

(2)

[فيعجبون من ذلك!

وهذا المعنى كثيراً ما كنت أذكره للناس، ولم أعلم أحداً قاله، ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء]

(3)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌المسألة الأولى: مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة، وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

من المعلوم المستقر عند علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين أن

(1)

هو أبو عمر أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي، كان فقيه الديار المصرية في القرن الثاني للهجرة، وكان صاحب الإمام مالك رحمه الله، قال الإمام الشافعي:«ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه» (ت: 204 هـ). انظر: تهذيب الكمال (3/ 296)، السير (9/ 500).

(2)

هذا أمر غيبي لا يجوز إثباته إلا بدليل، ويبعد أن يكون من كلام الشيخ، وإنما هو من تصرف تلميذه الغياني كما يظهر، والله أعلم.

(3)

انظر: نبذة عن آخر حياة شيخ الإسلام (ص: 22)، الرد على البكري (2/ 588).

ص: 380

الخلفاء العبيديين كانوا زنادقة ملحدين، خارجين عن الشرائع والدين، وأنهم قد جمعوا من أصناف الكفر والضلال والزندقة، ما لم يجتمع لدى اليهود والنصارى وغيرهم من الفرق المارقة، ومع وضوح أمرهم، واتضاح حالهم، فإن هؤلاء القوم الذين ناظرهم شيخ الإسلام كانوا على نقيض هذا المقال، حيث كانوا يعتقدون أن العبيديين من أولياء الله، وأنهم من أهل الصلاح والولاية، والفضل والديانة، حتى إنهم تعجبوا من شيخ الإسلام عندما بين لهم حقيقة هؤلاء القوم، وما هم عليه من كفر ونفاق وزندقة.

وكان أصل شبهة هؤلاء القوم التي دخل عليهم منها هذا الاعتقاد الفاسد، والظن الخائب -غير الصائب-؛ هو أنهم وجدوا أن الخيل إذا أصابها المغل في بطونها، وذهبوا بها إلى قبور هؤلاء العبيديين، شفيت مما كان فيها من مرض وبلاء، وتعافت وزال عنها ما كان فيها من أذى، فظنوا أن حدوث هذا الأمر عند قبور هؤلاء؛ دليل على صلاحهم وولايتهم، وفضلهم وديانتهم، وأنه كرامة لهم، وجعلوا ما حدث دليلاً على هذا وحجة عليه

(1)

.

فقلب عليهم شيخ الإسلام الحجة، وأزال الشبهة، وبين المحجة، كما سيتضح في الجواب على هذه الشبهة.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «نفس الدليل الذي يحتج به المبطل هو بعينه إذا أعطى حقه، وتميز ما فيه من حق وباطل، وبين ما يدل عليه؛ تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به في نفس ما احتج به عليه»

(2)

، وقال ابن القيم رحمه الله:«وقال لي -شيخ الإسلام-: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله»

(3)

، وهذا كان من عجائب صنيع

(1)

انظر: الرد على البكري (2/ 587 - 590) والفتاوى الكبرى (3/ 499 - 500).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 288).

(3)

حادي الأرواح (ص:293).

ص: 381

شيخ الإِسلام رحمه الله فإنه كان لا يترك للمخاصم حجة إلا فندها، بل بلغت فيه القوة في الحجة، أن يقلب دليل الخصم دليلا عليه، كما كان صنيعه في هذه المناظرة، فقد بين لهم شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا الدليل الذي استدللتم به على ولاية القوم وصلاحهم، هو في الحقيقة دليل على كفرهم وزندقتهم، وعذاب الله لهم في قبورهم.

وذلك أنه قد ثبت بالسنة الصحيحة أن الكفار يعذبون ويعاقبون في قبورهم، وأن البهائم تسمع أصواتهم وهم يعذبون، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخلت علي عجوزان من عجز يهود المدينة، فقالتا لي: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فكذبتهما، ولم أُنْعِمْ

(1)

أن أصدقهما، فخرجتا، ودخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، إن عجوزين، وذكرت له، فقال:(صدقتا، إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم كلها)

(2)

، وعن أم مبشر رضي الله عنها

(3)

قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في حائط من حوائط بني النجار، فيه قبور منهم، قد ماتوا في الجاهلية، فسمعهم وهم يعذبون، فخرج وهو يقول:(استعيذوا بالله من عذاب القبر)، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنهم ليعذبون في قبورهم؟ قال:(نعم، عذاباً تسمعه البهائم)

(4)

.

فإذا ثبت هذا، فإن البهائم إذا سمعت أصوات المعذبين فزعت، وبسبب الرعب الذي يحصل لها تحدث لها حرارة؛ تذهب بالمغل الذي يحصل لها بسبب البرد، وتنحل بطونها فتروث فيذهب المغل الذي حصل لها، فإن الفزع يقتضي

(1)

ولم أنعم: أي لم تطب نفسي بذلك لظهور كذب اليهود وافترائهم. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 105)

(2)

رواه البخاري كتاب: الدعوات. باب: التعوذ من عذاب القبر. (6366)، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة (586).

(3)

هي أم أنس بنت البراء بن معرور وقيل: أم مبشر، أو بشر، قيل: اسمها خليدة ولم يصح، وقيل السّلاف. انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1926) الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 364).

(4)

رواه أحمد (27044). وابن حبان (3125)، وصححه الألباني في الصحيحة (1445).

ص: 382

الإسهال، فتشفى بطونها بسبب ذلك.

ويدل على هذا وأن ما يحصل لها إنما هو بسبب سماع أصوات المعذبين أن أصحاب هذه الخيول لا يذهبون بها إلى قبور الأنبياء والصالحين؛ ولا إلى قبور عموم المسلمين، ولا يذهبون بها إلى قبر الشافعي وأشهب وغيرها من قبور الصالحين بالديار المصرية، وإنما يذهبون بها إلى قبور هؤلاء المعذبين في قبورهم

(1)

.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه عادة معروفة لهؤلاء القوم وأمثالهم "إذا أصاب الخيل مغل ذهبوا بها إلى قبور النصارى بدمشق، وإن كانوا بمساكن الإسماعيلية والنصيرية ونحوهما، ذهبوا بها إلى قبورهم، وإن كانوا بمصر ذهبوا بها إلى قبور اليهود والنصارى، أو لهؤلاء العبيديين"

(2)

ونحوهم. ومما يؤكد كفر هؤلاء القوم، وأن ما يحدث للخيل هو بسبب سماع صوت عذابهم في القبور، أن قبورهم ليست إلى قبلة المسلمين وإنما هي موجهة إلى غير القبلة، بخلاف قبور سائر المسلمين والمؤمنين

(3)

.

‌المسألة الثانية: بيان حال العبيديين الفاطميين وكفرهم وزندقتهم:

لقد أحسن هؤلاء القوم الظن بالعبيدين بناء على الشبهة المذكورة التي سبق بيانها، وبناء على ما أشاعه العبيديون حول أنفسهم من انتسابهم إلى بيت النبوة، فلهذا اعتقد فيهم جماعة كبيرة من الناس أنهم كان من الأولياء الصالحين ومن السادة المنتجبين، بل لقد غلا البعض في الاعتقاد بهم حتى جعلوهم أئمة معصومين

(4)

، وهذا القول شر بكثير من قول الرافضة بعصمة أئمتهم "فإن الرافضة ادعت ذلك فيمن لا شك في إيمانه وتقواه بل فيمن لا يشك أنه من أهل الجنة:

(1)

انظر: الفتاوى الكبرى (3/ 499 - 500).

(2)

المصدر السابق (3/ 499 - 500).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (4/ 286)، (35/ 139)، الفتاوى الكبرى (3/ 499)، ونبذة عن آخر حياة شيخ الإسلام (ص: 22)، الرد على البكري (2/ 588).

(4)

جامع المسائل (4/ 32).

ص: 383

كعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والإيمان على أن هذا القول من أفسد الأقوال"

(1)

، وأن من ادعى عصمة هؤلاء السادة المشهود لهم بالإيمان والتقوى والجنة فهو في غاية الضلال والجهالة، فكيف بمن ادعى العصمة لقوم مشهورين بالكفر والالحاد والزندقة؟!

(2)

، بل قد بلغ الحال بطائفة من اتباعهم إلى ادعاء الألوهية فيهم -والعياذ بالله-

(3)

.

وقد بين شيخ الإسلام في هذه المناظرة لمن حاوره منهم أن العبيديين ما كانوا إلا زنادقة منافقين، خارجين عن الشرعة والدين، والناظر في مصنفات شيخ الإسلام رحمه الله يجد أنه أبان الكثير من حالهم ومعتقداتهم وضلالهم وانحرافاتهم، ويمكن إجمال أهم ما ذكره شيخ الإسلام عن الفاطمية العبيدين مما يتعلق بانحرافهم في العقيدة بالأمور التالية:

-تظاهرهم بالرفض وإبطانهم الكفر والزندقة والالحاد: "فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه، وإذا استجاب لهم نقلوه إلى الرفض والقدح في الصحابة، فإن رأوه قابلا نقلوه إلى الطعن في علي وغيره ثم نقلوه إلى القدح في نبينا وسائر الأنبياء وقالوا: إن الأنبياء لهم بواطن وأسرار تخالف ما عليه أمتهم"

(4)

، فيصبح بعد ذلك ملحداً زنديقاً، ولقد كان شيخ الإسلام كثيراً ما ينقل -عند ذكرهم -كلمة أبي حامد الغزالي:«ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض»

(5)

.

-اعتقادهم الباطني: فقد ادعوا أن للشريعة باطنا وظاهراً وأنهم أصحاب العلم الباطن، وهذا العلم كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى؛ بل أكثر المشركين على أنه كفر أيضاً؛ فإن مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 120).

(2)

انظر: المصدر السابق (35/ 126).

(3)

انظر الرد على الشاذلي (ص:177).

(4)

مجموع الفتاوى (35/ 136)، وانظر: مسألة في الكنائس (104، 106).

(5)

هذه العبارة ذكرها الغزالي رحمه الله في كتابه فضائح الباطنية (ص: 37).

ص: 384

واليوم الآخر؛ وأن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين

(1)

، بل هو كما قال شيخ الإسلام:«جامع لكل كفر»

(2)

، وبهذه الطريقة هدموا كل أصول الشرعية وتعاليمها، وقالوا إن لنصوص الشريعة بواطن تخالف الظاهر الذي يعلمه المسلمون منها "في الأوامر والنواهي والأخبار:

أما الأوامر: فإن الناس يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلوات المكتوبة والزكاة المفروضة وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق.

وأما النواهي: فإن الله تعالى حرم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون كما حرم الخمر ونكاح ذوات المحارم والربا والميسر وغير ذلك. فزعم هؤلاء أنه ليس المراد بهذا ما يعرفه المسلمون ولكن لهذا باطن يعلمه هؤلاء الأئمة الإسماعيلية الذين انتسبوا إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الذين يقولون إنهم معصومون وإنهم أصحاب العلم الباطن"

(3)

، وضرب شيخ الإسلام بعض النماذج على هذا منها:

- تحريفهم للمراد بأعظم شعائر الدين العملية من صلاة وزكاة وصيام وحج، فقالوا أما الصلاة فالمراد بها: معرفة أسرارنا "والصيام: كتمان أسرارنا. ليس هو الإمساك عن الأكل والشرب والنكاح. والحج: زيارة شيوخنا المقدسين"

(4)

.

وأما النواهي والمحرمات الشرعية فهم لا يحرمونها "بل يستحلون الفواحش ما ظهر منها وما بطن ونكاح الأمهات والبنات وغير ذلك من المنكرات"

(5)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (35/ 132، 135) وانظر: درء التعارض (10/ 61).

(2)

مجموع الفتاوى (35/ 135).

(3)

المصدر السابق (35/ 135).

(4)

مجموع الفتاوى (35/ 133).

(5)

المصدر السابق (35/ 133).

ص: 385

"وأما الأخبار: فإنهم لا يقرون بقيام الناس من قبورهم لرب العالمين؛ ولا بما وعد الله به عباده من الثواب والعقاب؛ بل ولا بما أخبرت به الرسل من الملائكة؛ بل ولا بما ذكرته من أسماء الله وصفاته"

(1)

.

فهذه هي عقيدتهم الباطنية الخبيثة التي هدموا بها الدين أصوله وفروعه -والعياذ بالله رب العالمين-.

-اعتقادهم سقوط الشرائع عنهم: قال شيخ الإسلام: "ويقولون إن الله أحل كل ما نشتهيه من الفواحش والمنكرات وأخذ أموال الناس بكل طريق؛ ولم يجب علينا شيء مما يجب على العامة: من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك؛ إذ البالغ عندهم قد عرف أنه لا جنة ولا نار؛ ولا ثواب ولا عقاب"

(2)

.

-الاستهزاء بالله عز وجل وشرعه: قال شيخ الإسلام: «ويستهينون بذكر الله واسمه حتى يكتب أحدهم اسم الله واسم رسوله في أسفله؛ وأمثال ذلك من كفرهم كثير»

(3)

.

-عبادتهم للكواكب، وتعظيمهم للمشاهد والقبور فقد "بنوا أرصاداً على الجبال وغير الجبال يرصدون فيها الكواكب يعبدونها ويسبحونها ويستنزلون روحانياتها التي هي شياطين تتنزل على المشركين الكفار كشياطين الأصنام ونحو ذلك"

(4)

"وهم من أشد الناس تعظيما للمشاهد ودعوة الكواكب ونحو ذلك من دين المشركين وأبعد الناس عن تعظيم المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وآثارهم في القاهرة تدل على ذلك"

(5)

.

-اعتقادهم أن إمامهم محمد بن إسماعيل جاء بشرع ناسخ لشرع

(1)

المصدر السابق (35/ 133).

(2)

المصدر السابق (35/ 137).

(3)

المصدر السابق (35/ 133).

(4)

مجموع الفتاوى (35/ 138 - 139).

(5)

الرد على البكري (2/ 583).

ص: 386

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

(1)

.

-تكذيبهم وجحدهم باليوم الآخر والبعث والنشور والحشر

(2)

.

-اتهام الرسل بالكذب والقول بأنهم "فيما أخبروا به وأمروا به لم يأتوا بحقائق الأمور؛ ولكن أتوا بأمر فيه صلاح العامة وإن كان هو كذبا في الحقيقة"

(3)

.

-جحدهم بأسماء الله وصفاته وتعطيلهم لها وقولهم في ذلك "أخبث من قول الجهمية وشر منه"

(4)

.

-مجاهرتهم بسب الصحابة ولعنهم حيث "كانوا ينادون بين القصرين: من لعن وسب فله دينار وإردب

(5)

. وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة؛ بل يتكلم فيها بالكفر الصريح"

(6)

.

-منعهم التحديث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلهم العلماء والمحدثين على ذلك، قال شيخ الإسلام: «وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُقتلْ، كما حكى ذلك إبراهيم بن سعد الحبال

(7)

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (4/ 162).

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (10/ 61).

(3)

مجموع الفتاوى (35/ 142).

(4)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (10/ 61).

(5)

الإردب: مكيال ضخم قيل كان لأهل مصر. انظر: العين (8/ 104) والصحاح (1/ 135). وهو مكيال لتقدير الحبوب يسع أربعة وعشرين صاعًا، ويزن مِائة وخمسين كيلو جرامًا. انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 83).

(6)

مجموع الفتاوى (35/ 138 - 139)، وانظر: مسألة في الكنائس (ص:116).

(7)

هكذا في المطبوع إبراهيم بن سعد، والصواب بن سعيد، وهو إبراهيم بن سعيد بن عبد الله، الحافظ أبو إسحاق النعماني، مولاهم المصري، المعروف بالحبال، كان متقنا، ثقة، حافظا متحريًا، صادقاً، وكانت الدولة الباطنية قد منعوه من التحديث، وأخافوه، وهددوه، فامتنع من الرواية، ولم ينتشر له كبير شيء. (ت:482 هـ) انظر: تاريخ الإسلام (10/ 503) الوافي بالوفيات (5/ 233).

ص: 387

صاحب عبد الغني بن سعيد

(1)

وامتنع من رواية الحديث خوفاً أن يقتلوه»

(2)

.

-نبذهم لعلوم الشريعة وتدريسها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وكانوا لا يدرسون في مدرستهم علوم المسلمين؛ بل المنطق والطبيعة [والهيئة]

(3)

ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة»

(4)

.

-معاداتهم للإسلام وأهل الإسلام، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«ومن علم حوادث الإسلام وما جرى فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين: علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للإسلام الذي بعث الله به رسوله أعظم من عداوة التتار وأن علم الباطن الذي كانوا يدعون حقيقته هو إبطال الرسالة التي بعث الله بها محمداً؛ بل إبطال جميع المرسلين؛ وأنهم لا يقرون، بما جاء به الرسول عن الله ولا من خبره ولا من أمره؛ وأن لهم قصداً مؤكداً في إبطال دعوته وإفساد ملته وقتل خاصته وأتباع عترته. وأنهم في معاداة الإسلام؛ بل وسائر الملل أعظم من اليهود والنصارى»

(5)

.

-تقريبهم لليهود والنصارى وبناء معابدهم، قال شيخ الإسلام: «وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع أعداء الدين. ولما كانوا ملوك القاهرة،

(1)

هو أبو محمد عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان الأزدي. إمام حافظ نسابة، محدث الديار المصرية، نشأ على الاتباع والسنة ومات على ذلك، ذكروا من مصنفاته:"الأوهام التي في المدخل" و "المؤتلف والمختلف"(ت:409 هـ) انظر: تاريخ دمشق (36/ 395) سير أعلام النبلاء (17/ 268).

(2)

مجموع الفتاوى (35/ 138 - 139). قال الذهبي معلقاً على هذا: «قلت: قبح الله دولة أماتت السنة ورواية الأثارة النبوية، وأحيت الرفض والضلال، وبثت دعاتها في النواحي تغوي الناس، ويدعونهم إلى نحلة الإسماعيلية، فبهم ضلت جبلية الشام، وتعثروا، فنحمد الله على السلامة في الدين» السير (18/ 497).

(3)

في المطبوع (الإلهي) ولعل المثبت هو الصواب، انظر: مجموع الفتاوى (4/ 210).

(4)

المصدر السابق (35/ 138 - 139).

(5)

المصدر السابق (35/ 140 - 141).

ص: 388

كان وزيرهم مرة يهودياً، ومرة نصرانياً أرمنياً

(1)

، وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرمني، وبنوا كنائس كثيرةً بأرض مصر

(2)

، في دولة أولئك الرافضة والمنافقين

وفي أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين»

(3)

.

-بين شيخ الإسلام أن مذهبهم لا يستند على عقل ولا نقل ولا أثر ولا قياس: «ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين -بني عبيد الباطنية-

من أعظم الناس نفاقاً وإلحاداً في الإسلام، وأبعد الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم نسباً وديناً، بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول، فليس لهم سمع ولا عقل»

(4)

.

-ودينهم مركب من مذهب الفلاسفة والمجوس والرافضة، قال شيخ الإسلام:«وهم ملاحدة في الباطن أخذوا من مذاهب الفلاسفة والمجوس ما خلطوا به أقوال الرافضة فصار خيار ما يظهرونه من الإسلام دين الرافضة، وأما في الباطن فملاحدة شر من اليهود والنصارى»

(5)

.

-كذبهم في انتسابهم لبيت النبوة ودعواهم أنهم من الأشراف، وقد بين شيخ

(1)

وممن ولي النيابة والوزارة في عهدهم عيسى بن نسطورس النصراني، ومنشأ إبراهيم بن القزاز اليهودي، فاعتز بهما النصارى واليهود وآذوا المسلمين، ومنهم أيضاً أبا سعيد ابراهيم اليهودي التستري، ومما قيل فيما حدث في عصر الفاطمية من رفعةٍ لليهود:

يهود هذا الزّمان قد بلغوا ......

غاية آمالهم وقد ملكوا

العزّ فيهم والمال عندهم ......

ومنهم المستشار والملكُ

يا+أهل مصر إنّي قد نصحت لكم ......

تهوّدوا قد تهوّد الفلكُ

انظر: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء (1/ 297، 197)

(2)

ومن ذلك أنه قدم مصر نحو الثلاثين ألف إنسان من النصارى الأرمن، وأكثروا من بناء الكنائس والديارات، حتى صار كل رئيس منهم يبني له كنيسةً بجوار داره. انظر: اتعاظ الحنفاء (3/ 159).

(3)

مسألة في الكنائس (ص:115 - 116).

(4)

درء تعارض العقل والنقل (10/ 60)، وانظر:(35/ 129).

(5)

الرد على البكري (2/ 582)، وانظر:(35/ 131).

ص: 389

الإسلام رحمه الله كذبهم فيما ادعوه من انتساب لبيت النبوة، وقد زعموا أنهم "من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر

(1)

؛ ولم يكونوا من أولاده؛ بل كان جدهم يهودياً ربيبياً لمجوسي"

(2)

. وتسموا بالفاطميين نسبة إلى فاطمة رضي الله عنها "مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريئون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نسبهم متصل بالمجوس واليهود"

(3)

و"هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث وأهل الكلام وعلماء النسب والعامة وغيرهم"

(4)

، وذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم، و"ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق ومعاداة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على بطلان نسبهم الفاطمي؛ فإن من يكون من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم القائمين بالخلافة في أمته لا تكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء؛ فلم يعرف في بني هاشم ولا ولد أبي طالب ولا بني أمية: من كان خليفة وهو معاد لدين الإسلام؛ فضلا عن أن يكون معادياً كمعاداة هؤلاء؛ بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم فيكون فيهم نوع حمية لدين آبائهم وأسلافهم فمن كان من ولد سيد ولد آدم الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق كيف يعادي دينه هذه المعاداة؟! "

(5)

.

-سوء سيرتهم في الملك، فقد كانت سيرتهم في الملك من أقبح السير، "وأكثرها ظلماً وانتهاكاً للمحرمات، وأبعدها عن إقامة الأمور والواجبات،

(1)

محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق الحسيني الطالبي الهاشمي: إمام عند القرامطة. ترى الطائفة الإسماعيلية أنه قام بالإمامة بعد وفاة أبيه سنة 138 هـ وأنه كان يكنى عنه بالمكتوم حذرا عليه من بطش العباسيين. وهو عندهم أول الأئمة (المكتومين) ويليه ابنه جعفر (المصدّق) ثم محمد (الحبيب) الذي يدعي االعبيديون -كذباً وزوراً- أنه والد إمامهم عبيد الله بن ميمون القداح (ت:198). انظر: اتعاظ الحنفاء (1/ 15 - 16) والأعلام (6/ 34).

(2)

مجموع الفتاوى (4/ 162).

(3)

المصدر السابق (28/ 483) وانظر: منهاج السنة (6/ 342).

(4)

مجموع الفتاوى (35/ 128).

(5)

المصدر السابق (35/ 131).

ص: 390

وأعظم إظهاراً للبدع المخالفة للكتاب والسنة وإعانة لأهل النفاق والبدعة" وظهرت فيهم "الفواحش والمنكرات والظلم والبغي والعدوان والعداوة لأهل البر والتقوى من الأمة، والاطمئنان لأهل الكفر والنفاق"

(1)

.

وبهذا كله يتضح مدى ما وصل إليه حال هؤلاء القوم من كفر وإلحاد وزندقة، وقد حكى شيخ الإسلام إجماع العلماء واتفاقهم على كفر هؤلاء القوم وإلحادهم وزندقتهم

(2)

، ولظهور هذا الأمر ووضوحه لم يكن بيانه مقتصراً على أئمة السنة فحسب، بل "حتى الشيعة والمعتزلة ونحوهم فإنهم متفقون على تكفيرهم، كما اتفق على تكفيرهم أئمة السنة»

(3)

، وقد صنف العلماء من مختلف المذاهب مصنفات عديدة في كشف أسرارهم وهتك أستارهم وبيان انحرافهم وقبح معتقداتهم

(4)

.

"ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان حتى قالت فيها العلماء: إنها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب"

(5)

.

فهذه هي حقيقة حال هؤلاء العبيدين، وما ذكر إنما هو بعض من مظاهر كفرهم بالله، وعدائهم لشرعه ومحاربتهم لأهل الإيمان والقبلة، وفسقهم وفجورهم، وسوأتهم أكبر من هذا وأكثر، ولكن المراد بيان فساد اعتقاد هؤلاء القوم فيهم، فمن كانت هذه حاله، فكيف يكون مؤمناً؟! فضلاً عن أن يكون ولياً أو صالحاً تقياً

(6)

؟!

(1)

المصدر السابق (35/ 127).

(2)

انظر: منهاج السنة النبوية (6/ 342) ومسألة في الكنائس (ص: 108).

(3)

درء تعارض العقل والنقل (5/ 8 - 9) وانظر: منهاج السنة النبوية (6/ 343)

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (35/ 129)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 8 - 9)، منهاج السنة النبوية (6/ 343).

(5)

الفتاوى الكبرى (3/ 499).

(6)

انظر لمعرفة المزيد من حالهم: اتعاظ الحنفاء للمقريزي، والدولة الفاطمية للصلابي.

ص: 391

‌المبحث الثامن: مناظرته مع بعض شيوخ المشرق في جواز دعاء القبور والحديث الموضوع في هذا

ويشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة

.

‌تمهيد:

قل أن تجد طائفة من طوائف أهل الضلال إلا وهي تستند في تقوية باطلها إلى أحاديث ضعيفة، وروايات مكذوبة، وحكايات باطلة.

وتعد طائفة القبورية من أشد الطوائف تعويلاً على هذا واستناداً إليه، وذلك من أجل تبرير عقائدهم الشركية ومعتقداتهم الوثنية، من تشييد القبور والبناء عليها وعبادتها واللجوء إليها، وقد وقعت لهم مع شيخ الإسلام وقائع عدة، أبطل فيها ما احتجوا به من شبهات نقلية كانت أو عقلية، وكانت هذه المناظرة التي وقعت له مع شيخ من شيوخ المشرق نموذجاً لما يحتج به هؤلاء القوم من روايات مكذوبة جعلوها حجة نقلية يستندون عليها لتجويز الشرك بالله ودعاء الأضرحة والقبور.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام أثناء حديثه عن دعاء الأموات: «وقد قدم بعض الشيوخ المشرق، وتكلم معي في هذا [أي في دعاء الأموات].

فبينت له فساد هذا.

ص: 392

فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور).

فقلت: هذا مكذوب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث»

(1)

.

وقال رحمه الله في موضع آخر: «وإن كان بعض الناس من المشايخ المتبوعين يحتج بما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور أو فاستعينوا بأهل القبور)»

(2)

.

وقال في موضع آخر: «وإن كان بعض المشايخ المبتدعين يحتج بما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور) أو قال: (فاستغيثوا بأهل القبور) فهذا الحديث كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه؛ لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة

(3)

»

(4)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌المسألة الأولى: مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة، وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

لما كانت عقيدة القبورية في دعاء الأموات، والاستغاثة بالقبور ومن تحت

(1)

الرد على البكري (2/ 578).

(2)

مجموع الفتاوى (1/ 356).

(3)

هذا الحديث كذب موضوع ولا يوجد في شيء من كتب الحديث كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وقد ذكره العجلوني في "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" (1/ 85) بلفظ:(إذا تحيرتم في الأمور، فاستعينوا بأصحاب القبور) وعزاه لكتاب الأربعين لابن كمال باشا المتوفي (940 هـ) وهو رجل صوفي ماتريدي، وكتابه المذكور طبع ضمن "رسائل ابن كمال باشا"، باستانبول 1316 هـ، ص 41 - 60. جمع فيه ثلاث أربعينات، وشرحها، وذكروا له كتاباً مستقلاً في شرح هذا الحديث بعنوان "تفسير حديث إذا تحيرتم في الأمور" وكثيراً ما يستدل الصوفية والقبورية بهذا الحديث المزعوم في مصنفاتهم فلا غرابة.

(4)

جامع الرسائل والمسائل (1/ 23 - 24).

ص: 393

الرفات، عقيدة باطلة فاسدة مناقضة لدين الإسلام، وجميع الشرائع والأديان، لا يدل عليها نقل صحيح ولا عقل سليم، قام عباد القبور وسدنتها، باختلاق أحاديث مكذوبة، نسبوها للنبي صلى الله عليه وسلم كذبا وزورا، لتمرير عقائدهم الباطلة وأفعالهم الفاسدة، من شرك ودعاء واستغاثة بغير الله، وأكثروا من ذكرها في مواعظهم وخطبهم، وكتبهم ومصنفاتهم، حتى اشتهرت عند العامة، فظنوها أحاديثَ صحيحة وحججاً مقبولة، كما هو ظاهر من مناظرة شيخ الإسلام لهذا الشيخ، حيث إن أصل شبهة هذا الشيخ وتجويزه للاستغاثة بالقبور ودعائها والالتجاء إليها، هذا الحديث المختلق المكذوب:(إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)؛ وبناء عليه أنكر هذا الرجل على شيخ الإسلام إنكاره دعاء القبور والاستغاثة بها ظاناً أن ما احتج به حجة صحيحة قطعية مقبولة! فقال سائلاً مستنكراً: «أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)؟!

فتبين بهذا أن أصل شبهة هذا الشيخ وأمثاله هي هذا الحديث، وقد بين شيخ الإسلام أن هذا الحديث هو عمدة هؤلاء القوم في استدلالهم، قال رحمه الله:«ولهم حديث مشهور بينهم سألني عنه غير واحدٍ من أعيان الشيوخ وكبراء الناس، فكانوا يعتمدون عليه، وهو قوله: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)»

(1)

.‌

‌ الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله بطلان الاحتجاج بهذا الحديث من وجوه كثيرة أهمها ما يلي:

أولاً: أن هذا الحديث مختلق مكذوب لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

:

(1)

قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 144)، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 169)، جامع الرسائل والمسائل (1/ 23 - 24)، مجموع الفتاوى (1/ 356)، الرد على البكري (2/ 578).

(2)

سبق أنه لم يذكره إلا العجلوني في كشف الخفاء (1/ 85)، وعزاه لابن كمال باشا في الأربعين.

ص: 394

بين شيخ أن هذا الحديث من الأساطير المفتعلة الموضوعة، والروايات المختلقة المصنوعة، في مواضع كثيرة من كتبه، وبعبارات منوعة مختلفة، فقال عنه:«هذا كذب منكر»

(1)

.

وبين أن سبب وضعه فتح باب الشرك، وإقامة دين المشركين فقال رحمه الله:«وإنما هذا الحديث من الأكاذيب التي وضعت ليقام بها دين أهل الشرك»

(2)

، وقال:«وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك»

(3)

. وبين اتفاق أهل العلم على كذبه وافترائه فقال رحمه الله: «فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم، بإجماع العارفين بحديثه»

(4)

.

ثانياً: أن هذا الحديث لا يوجد في شيء من مصادر المسلمين، ولا ذكره أحد من علماء الإسلام، فكيف يكون مثل هذا حجة مستساغة، أو دليلاً مقبولاً؟!

قال شيخ الإسلام: «ليس هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة في الحديث، ولا ذكره أحدٌ من علماء الإسلام، ولا إمام من أئمة المسلمين»

(5)

.

ثالثًا: لم يقتصر شيخ الإسلام رحمه الله في بيانه لوضع هذا الحديث وكذبه على نقد السند فحسب، بل بين ضعف الحديث ووضعه من خلال المتن أيضاً، فمتن الحديث ونصه ظاهر في بيان كذبه ووضعه، وقد بين ذلك شيخ الإسلام من وجوه:

1) أن ما جاء في هذا الحديث من الأمر بدعاء القبور والاستغاثة بها من دون

(1)

قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق" (ص:144).

(2)

المصدر السابق (ص:144).

(3)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:180) وانظر: مجموع الفتاوى (11/ 293).

(4)

مجموع الفتاوى (1/ 356). وانظر: جامع الرسائل والمسائل (1/ 23 - 24) والرد على البكري (2/ 578).

(5)

قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 144)، انظر: الرد على البكري (2/ 578)، جامع الرسائل والمسائل (1/ 23 - 24)، مجموع الفتاوى (1/ 356).

ص: 395

الله هو"مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام أنه غير مشروع"

(1)

، فالإسلام قائم على إخلاص الدين لله تعالى، وقد قرر هذا المعنى شيخ الإسلام في غير موضع، وقال في ثنايا مناظرته لمن اعتمد على هذا الحديث:«وقد قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره من الأولين والآخرين»

(2)

.

2) أن الإسلام قد جاء بالنهي عما هو دون الدعاء من الأعمال التي تفعل عند القبور فتكون ذريعة لدعائها والشرك بالله، وذلك كاتخاذها مساجد والصلاة عندها ونحو ذلك من الأمور المفضية للشرك، فإذا كان التحذير والنهي بل واللعن قد جاء في مثل هذه الأمور لكونها مفضية لدعاء القبور والشرك بالله، فكيف بالدعاء نفسه؟!

(3)

.

3) أن ما جاء به هذا الحديث المكذوب "هو أصل عبادة الأصنام أيضاً فإن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين في قوم نوح عليه الصلاة والسلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم اتخذوا الأصنام على صورهم كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره من العلماء"

(4)

.

4) أن ما جاء في هذا الحديث كما أنه مخالف لشريعة الإسلام فهو كذلك مخالف لجميع الشرائع والأديان كما جاء في التوراة "أن موسى عليه السلام نهى

(1)

جامع الرسائل والمسائل (1/ 23 - 24)، وانظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 323).

(2)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 325).

(3)

انظر: جامع الرسائل والمسائل 1/ 23 - 24

(4)

جامع الرسائل والمسائل 1/ 23 - 24 وانظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 324)

ص: 396

بني إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله"

(1)

، وبهذا جاء جميع الأنبياء قال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].

‌المسألة الثانية: الاستدلال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة:

لاشك أن الله سبحانه وتعالى تعبدنا بما شرعه لنا في كتابه، وما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة، فلا يستدل بها، ولا تؤخذ العقائد منها، ولا تجوز نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا على وجه يُبَيَّن فيه أنها ضعيفة، وإذا كان هذا هو حال الأحاديث الضعيفة، فكيف بالأحاديث الموضوعة المكذوبة عليه صلى الله عليه وسلم؟

وقد أجمع علماء الإسلام على عدم جواز روايتها ونسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الاحتجاج بها والاستناد عليها- إلا على سبيل التنبيه على كذبها وبيان وضعها والتحذير منها

(2)

؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)

(3)

.

ولا ريب أن فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من السنة الغُنْية والكفاية والخير كله، فلا حاجة لغيره من الضعيف والموضوع، ولا تتوقف معرفة الدين على الوقوف عليه، وأما أهل الأهواء فاستدلوا بالغثّ والضعيف والواهي والموضوع الذي فيه النصّ على ما يريدونه من الباطل والضلال، فامتلأت أقوالهم ومصنَّفاتهم من الاستدلال بهذا النوع المردود من الحديث، حتى صارت مصنَّفاتهم من مظانّ الحديث المردود.

وليس هذا المسلك بمستغرب على أهل الأهواء من القبورية ومن سار على منوالهم؛ فقد دلّت النصوص الشرعية على أن هذه طريقة متبعة عند أهل الهوى

(1)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 324)

(2)

انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/ 839).

(3)

رواه مسلم في المقدمة (ص: 9).

ص: 397

والضلال قال الله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23]، وواقعهم ومنهجهم في الاستدلال يصدق هذا ويؤكد عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وكل من خالف الرسول لا يخرج عن الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن كان ممن يعتقد ما قاله وله فيه حجة يستدل بها كان غايته الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، كاحتجاجهم بقياس فاسد، أو نقل كاذب، أو خطاب ألقي إليهم اعتقدوا أنه من اللّه وكان من إلقاء الشيطان، وهذه الثلاثة هي عمدة من يخالف السنة بما يراه حجة ودليلا

، وإن تمسك المبطل بحجج سمعية، فإما أن تكون كذبًا على الرسول، أو تكون غير دالة على ما احتج بها أهل البُطُول، فالمنع إما في الإسناد وإما في المتن ودلالته على ما ذكر»

(1)

، وقال أيضاً:«وأما أهل الأهواء ونحوهم فيعتمدون على نقل لا يعرف له قائل أصلا لا ثقة ولا معتمد وأهون شيء عندهم الكذب المختلق وأعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة بل إلى سماعات عن الجاهلين والكذابين وروايات عن أهل الإفك المبين»

(2)

.

فاعتماد أهل الأهواء والبدع على الروايات الضعيفة أو الموضوعة أمر ظاهر، ويبالغ بعضهم فيجعل من الأثر الضعيف دليلاً لا يصل إليه أدنى شك، بل قد يحارب دليلاً صحيحاً بآخر لا أصل له، ويجعلون من الروايات التي لا أصل لها ولا سند مصدراً للأحكام الشرعية والأمور الفقهية، ومعرفة الراجح من المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الأئمة، فكان لذلك المصدر أخطر الآثار على العقيدة الإسلامية لاشتهار الروايات الضعيفة والموضوعة عند العامة الذين لا يميزون واعتقادهم بصحتها وسلامتها من الأخطاء.

والمقصود أنه لا يجوز سلوك مسلك القبورية في الاستدلال، والتحديث بالأحاديث الكاذبة، فضلاً عن الاعتقاد بما تقتضيه وتدل عليه تلك الأحاديث من اعتقادات فاسدة زائغة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيكون في آخر أمتي

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 67 - 78).

(2)

المصدر السابق (27/ 479).

ص: 398

أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم)

(1)

، وفي رواية:(يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)

(2)

، وفي لفظ:(يأتونكم ببدع من الحديث)

(3)

.

* * *

(1)

رواه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 12) برقم (6) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواها مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 12) برقم (7).

(3)

هذا اللفظ جاء عند أحمد (8596) وابن وضاح في البدع (65، 71) وفي إسناده ضعف كما أشار له محققو المسند (حاشية المسند: 14/ 253).

ص: 399

‌المبحث التاسع: مناظرته مع بعض المشايخ الذين يستغيثون بغير الله ويدَّعون ظهور صورته لهم:

واشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

لم تزل العداوة قائمة بين الشيطان وبني آدم مذ أخرج إبليس من الجنة؛ بسبب إبائه واستكباره عن امتثال أمر ربه بالسجود لآدم عليه السلام، ومنذ ذلك الحين والشيطان مترصد لبني آدم لاغوائهم وإضلالهم بشتى السبل ومختلف الطرق، وقد أقسم على هذا:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17]، ومن أعظم الطرق الشيطانية التي لبَّس بها الشيطان على كثير ممن ينتسب للإسلام والملة، تصوره وتشكله لعامة الناس بصور الصالحين والأولياء، والمشايخ والعلماء الذين يبجلونهم ويعظمونهم، فتظهر لهم الشياطين بصور أولئك الصالحين، فتنة لهم وصداً عن سبيل الله، ولربما أغاثوا من استغاث بهم، ونصروا من استنصرهم، وأجابوا من دعاهم، وهو -في ذلك كله- يحسب أن الشيخ أو الولي الصالح هو الذي أغاثه أو نصره وأعانه، وما ذاك إلا شيطان تمثل بصورة الشيخ الصالح وتشكل على هيئته.

ص: 400

وبهذه الطريقة أضل الشيطان خلقاً من عباد الله، وشجعهم على صرف العبادة لغير الله، فعكفوا عند قبور الأنبياء والأولياء داعين لها مستغيثين بها، متعلقين بأستارها رجاء أن تحقق لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً.

وغالباً ما يكون ذلك بعد موت هؤلاء الصالحين وأحياناً في حياتهم، وقد يغتر بذلك الرجل الصالح نفسه، فيظن أن ما يتصور للناس إنما هو ملك من الملائكة ظهر على صورته كرامة له، فيقوم بحث الناس على أفعالهم الشركية، وصرفهم الدعاء له أو لغيره.

وقد افتتن بهذا خلق كثير ممن حاد عن الطريق المستقيم وخالف الشرع القويم، فزادهم الشيطان ضلالا إلى ضلالتهم، وغواية إلى غوايتهم.

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله من هذا نماذج كثيرة جداً، ومنها ما جرى له في هذه المناظرة مع بعض من استغاث بغير الله فحدث له مثل هذا، فاغتر بما حصل له، حتى بين له شيخ الإسلام حقيقة الأمر، وتوضيح الحال.

• نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وكثير ممن يستغيث بالمشايخ فيقول: يا سيدي فلان! أو: يا شيخ فلان! اقض حاجتي، فيرى صورة ذلك الشيخ يخاطبه ويقول: أنا أقضي حاجتك، أو أطيب قلبك، فيقضي حاجته أو يدفع عنه عدوه، ويكون ذلك شيطاناً قد تمثل في صورته لما أشرك بالله فدعا غيره.

وأنا أعرف من هذا وقائع متعددة، حتى إن طائفة من أصحابي ذكروا أنهم استغاثوا بي في شدائد أصابتهم، أحدهم كان خائفاً من الأرمن، والآخر كان خائفاً من التتر، فذكر كل منهم أنه لما استغاث بي رآني في الهواء وقد دفعت عنه عدوه، فأخبرتهم أني لم أشعر بهذا، ولا دفعت عنكم شيئاً، وإنما هذا شيطان تمثل لأحدهم فأغواه لما أشرك بالله تعالى.

وهكذا جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ مع أصحابهم، يستغيث أحدهم بالشيخ، فيرى الشيخ قد جاء وقضى حاجته، ويقول ذلك الشيخ: إني لم أعلم

ص: 401

بهذا، فيتبين أن ذلك كان شيطاناً.

وقد قلت لبعض أصحابنا؛ لما ذكر لي: أنه استغاث باثنين كان يعتقدهما، وأنهما أتياه في الهواء وقالا له: طيب قلبك نحن ندفع عنك هؤلاء ونفعل ونصنع.

قلت له: فهل كان من ذلك شيء؟

فقال: لا. فكان هذا مما دله على أنهما شيطانان، فإن الشياطين وإن كانوا يخبرون الإنسان بقضية أو قصة فيها صدق فإنهم يكذبون أضعاف ذلك، كما كانت الجن يخبرون الكهان.

ولهذا من اعتمد على مكاشفته التي هي من أخبار الجن كان كذبه أكثر من صدقه؛ كشيخ كان يقال له الشياح

(1)

توبناه وجددنا إسلامه، كان له قرين من الجن يقال له:(عنتر) يخبره بأشياء فيصدق تارة ويكذب تارة، فلما ذكرت له: إنك تعبد شيطاناً من دون الله، اعترف بأنه يقول له: يا عنتر لا سبحانك إنك إله قذر، وتاب من ذلك في قصة مشهورة.

وقد قتل سيف الشرع من قتل من هؤلاء، مثل الشخص الذي قتلناه سنة خمس عشرة، وكان له قرين يأتيه ويكاشفه فيصدق تارة ويكذب تارة، وكان قد انقاد له طائفة من المنسوبين إلى أهل العلم والرئاسة فيكاشفهم حتى كشف الله أمره، وذلك أن القرين كان تارة يقول: أنا رسول الله، ويذكر أشياء تنافي حال الرسول، فشهد عليه أنه قال: إن الرسول يأتيني ويقول لي كذا وكذا، من الأمور التي يكفر من أضافها إلى الرسول. فذكرت لولاة الأمور أن هذا من جنس الكهان، وأن الذي يراه شيطان، ولهذا لا يأتيه في الصورة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم بل يأتيه في صورة منكرة، ويذكر عنه أنه يخضع له ويبيح له أن يتناول المنكر وأمورا

(1)

لم يذكر شيخ الإسلام اسمه، وقد ذكر ابن حجر في إنباء الغمر بأبناء العمر (1/ 223) رجلاً اسمه: حسن بن الشياح -بمعجمه ثم تحتانية ثقيلة وآخره مهملة- الصالحي، أحد من يُعتقد بدمشق، وكان له مكاشفات كثيرة، ومات في ربيع الآخر سنة (782 هـ) ولكن بينه وبين وفاة شيخ الإسلام 54 عامًا، فلعل المراد أباه الشياح، والله أعلم.

ص: 402

أخرى، وكان كثيرا من الناس يظنون أنه كاذب فيما يخبر به من الرؤية، ولم يكن كاذبا في أنه رأى تلك الصورة، لكن كان كافرا في اعتقاده أن ذلك رسول الله، ومثل هذا كثير.

ولهذا تحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مراد الشيطان، فكلما بعدوا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وطريق المؤمنين قربوا من الشيطان، فيطيرون في الهواء والشيطان طار بهم، ومنهم من يصرع الحاضرين، وشياطينه صرعتهم، ومنهم من يحضر طعاماً وإداماً ويملأ الإبريق ماء من الهواء، والشياطين فعلت ذلك، فيحسب الجاهلون أن هذه كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال السحرة والكهنة وأمثالهم»

(1)

.

وقال رحمه الله: «فكثير من المنتسبين إلى الإسلام يستغيث بشيخه، ويرى من جاء راكبًا، أو طائرًا في الهواء، أو غير ذلك؛ فيظنه شيخه. وقد يأتي في صورته إن كان يعرف صورة شيخه فيظن هذا شيخه. وهذا قد وقع لخلق كثير، ووقع لغير واحدٍ من أصحابنا معي، لكن لما حكوا لي أنهم رأوني بينت لهم أني لم أكن إياه، وإنما كان شيطانًا تصور في صورتي ليضلهم، فسألوني: لم لا يكون ملكًا؟ قلت: لأن الملائكة لا تجيب المشركين، وأنت استغثت بي فأشركت»

(2)

.

وقال رحمه الله: «وقد جرى مثل هذا لي ولغيري ممن أعرفه ذكر غير واحد أنه استغاث بي من بلاد بعيدة وأنه رآني قد جئته ومنهم من قال: رأيتك راكبا بلباسك وصورتك ومنهم من قال: رأيتك على جبل ومنهم من قال: غير ذلك فأخبرتهم أني لم أغثهم وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليضلهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله»

(3)

.

(1)

الفتاوى الكبرى (3/ 484 - 486)، ومجموع الفتاوى (35/ 115 - 117)، وجامع الرسائل (1/ 195 - 196).

(2)

قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص:154)، وانظر: مجموع الفتاوى (19/ 47).

(3)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 321 - 322).

ص: 403

وقال رحمه الله: «كما جرى مثل هذا لي كنت في مصر في قلعتها وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق وقال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية. فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين

(1)

، وأرسل بذلك ملك ماردين إلى مصر رسولاً وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنياً يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاؤوا إلى دمشق كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر فعمل معهم مثل ما كنت أعمل وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك. قال لي طائفة من الناس: فلم لا يجوز أن يكون مَلَكاً؟ قلت: لا؛ إن الملك لا يكذب، وهذا قد قال: أنا ابن تيمية، وهو يعلم أنه كاذب في ذلك»

(2)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

كما ترى في هذه النصوص المذكورة، فإن هؤلاء القوم اغتروا بما حصل لهم من مشاهدة من استغاثوا بهم عياناً أمامهم، وربما رأوهم يطيرون في السماء أمام أعينهم، ويجيبون دعوتهم.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن أصل شبهة هؤلاء وسبب اشتباه الأمر عليهم عدة أمور بني بعضها على بعض، وهي كالآتي:

أولاً: ظنهم أن هذه الخوارق التي جرت أمام أعينهم، وحدثت تحت مرآهم،

(1)

مارِدِين: قلعة مشهورة على قلة جبل بالجزيرة، ليس على وجه الأرض قلعة أحسن منها ولا أحكم ولا أعظم، ودورهم فيها كالدرج كل دار فوق الأخرى وكل درب منها يشرف على ما تحته من الدور ليس دون سطوحهم مانع. انظر: معجم البلدان (5/ 39). وهي اليوم من مدن الجمهورية التركية جنوب شرق الأناضول.

(2)

دقائق التفسير (2/ 142).

ص: 404

أنها آيات وكرامات لهؤلاء الأولياء والصالحين.

ثانياً: ظنهم أن كل من وقعت له مثل هذه الخوارق يكون ولياً لله؛ لأن الكرامات إنما تكون للأولياء.

ثالثاً: أن من كان ولياً لله وظهرت له مثل هذه الخوارق فكل ما يخبر به حق وما يأمر به عدل فهو ولي لله معصوم لا يجوز عليه ان يخطئ.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ومما ينبغي أن يعلم أن سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية كغالية العباد والشيعة وغيرهم ثلاثة أشياء:

أحدها: ألفاظ متشابهة مجملة مشكلة منقولة عن الأنبياء وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها وهم كلما سمعوا لفظا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لم يكن دليلا على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها، وإما أن يتأولوها كما يصنع أهل الضلال، يتبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية ويعدلون عن المحكم الصريح من القسمين.

والثاني: خوارق ظنوها آيات وهي من أحوال الشياطين وهذا مما ضل به كثير من الضلال المشركين وغيرهم، مثل دخول الشياطين في الأصنام وتكليمها للناس، ومثل إخبار الشياطين للكهان بأمور غائبة ولا بد لهم مع ذلك من كذب ومثل تصرفات تقع من الشياطين.

والثالث: أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقا وهي كذب وإلا فليس مع النصارى ولا غيرهم من أهل الضلال على باطلهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح»

(1)

.

وقال رحمه الله: «والخوارق التي تضل بها الشياطين بني آدم مثل تصور الشيطان بصورة شخص غائب أو ميت ونحو ذلك، ضل بها خلق كثير من الناس من المنتسبين إلى المسلمين أو إلى أهل الكتاب وغيرهم وهم بنوا ذلك على مقدمتين:

(1)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 315 - 316).

ص: 405

إحداهما: أن من ظهرت هذه على يديه فهو ولي لله وبلغة النصارى هو قديس عظيم.

الثانية: أن من يكون كذلك فهو معصوم فكل ما يخبر به فهو حق وكل ما يأمر به فهو عدل وقد لا يكون ظهرت على يديه خوارق لا رحمانية ولا شيطانية، ولكن صنع حيلة من حيل أهل الكذب والفجور، وحيل أهل الكذب والفجور كثيرة جداً فيظن أن ذلك من العجائب الخارقة للعادة ولا يكون كذلك»

(1)

.

وقال رحمه الله: «فضلال الضلال من هؤلاء مبني على مقدمتين:

إحداهما: أن هذا له كرامة فيكون ولياً لله.

والثانية: أن ولي الله لا يجوز أن يخطئ بل يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليس لأحد من البشر أن يصدق في كل ما أخبر به ويطاع في كل أمر إلا أن يكون نبياً»

(2)

.

وساعد على هذا تعلق قلوبهم بهؤلاء الصالحين والغلو في حبهم فقد ثبت أن كل من أحب شيئاً وتعلق به لا بد أن يتصوره، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«وبالجملة فكل ما يريده الإنسان ويحبه لا بد أن يتصوره في نفسه، فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب فمن عبده عبد غير الله وتمثلت له الشياطين في صورة من يعبده، وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيئا غير الله فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها واستوائها ليكون سجود من يعبدها له. وقد كانت "الشياطين" تتمثل في صورة من يعبد كما كانت تكلمهم من الأصنام التي يعبدونها، وكذلك في وقتنا خلق كثير من المنتسبين إلى الإسلام والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يُعظمه من الأحياء والأموات من المشايخ»

(3)

.

(1)

المصدر السابق (2/ 338).

(2)

المصدر السابق (2/ 345).

(3)

مجموع الفتاوى (10/ 593)، الزهد والورع والعبادة (ص: 32).

ص: 406

فهذا أصل شبهتهم ومبدأ ضلالهم وغوايتهم.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام لجميع من وقعت له مثل هذه الأمور أن ما شاهدوه: إنما هي شياطين تمثلت لهم بهذه الصور، وهدفها من هذا إضلالهم وغوايتهم، وكان سبب تمكن الشياطين من هذا وتسلطها عليهم هو ما وقعوا فيه من شرك بالله واستغاثة واستعانة بمن سواه.

وبين شيخ الإسلام رحمه الله فساد شبهتهم التي بنوا عليها اعتقادهم وهي ظنهم أن ما رأوه من خوارق أنها من جنس الكرامات والآيات التي تكون للأنبياء والأولياء والصالحين.

فأوضح رحمه الله أن ما حدث لهم ليس من ذلك في شيء، وإنما هو من فعل الشياطين وتسلطهم عليهم، ويدل على هذا عدة أمور:

أولها: أن هذه الأمور إنما حدثت لهم بسبب ما وقعوا فيه مما نهى الله عنه ورسوله من الشرك والاستغاثة بغير الله، والكرامات إنما تكون بسبب الطاعات والقربات لا المعاصي والمنكرات، قال رحمه الله:«وبين كرامات الأولياء، وبين ما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة: منها: أن كرامات الأولياء سببها الايمان والتقوى، والأحوال الشيطانية، سببها ما نهى الله عنه ورسوله، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش، قد حرمها الله تعالى ورسوله، فلا تكون سبباً لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان، وبالأمور التي فيها شرك، كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية، لا من الكرامات الرحمانية»

(1)

،

(1)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:171 - 172).

ص: 407

وقال رحمه الله: «فإن ما يكون شبيه الشرك أو الفجور إنما يكون من الشيطان، مثل أن يشرك الرجل بالله فيدعو الكواكب أو يدعو مخلوقا من البشر ميتا أو غائبا أو يعزم ويقسم بأسماء مجهولة لا يعرف معناها أو يعرف أنها أسماء الشياطين أو يستعين بالفواحش والظلم، فإن ما كان هذا سببه من الخوارق فهو من الشيطان»

(1)

.

ثانياً: أن الكرامات إنما تحدث لأولياء الله المتقين المطيعين لله ورسوله ظاهراً وباطناً، لا للخارجين عن الكتاب والسنة المخالفين لها، كما هي حال هؤلاء عند حدوث هذا لهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«فكثير من هؤلاء الذين يعظمون القبور والمشايخ ويستغيثون بهم ويطلبون حوائجهم منهم؛ يطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور، وذلك من جنس السحر والشرك، فمنهم من تطير به الشياطين في الهواء حملاً له من مكان إلى مكان: فتارة تذهب به إلى مكة، وتارة إلى بيت المقدس وغيره من البلاد، ويكون زنديقاً فاجراً إباحياً تاركاً للصلاة وغيرها مما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وفرضه، ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويحلها لغيره، وإنما تقترن به الشياطين، وتخدمه لما فيه من الكفر والزندقة ومن الفسوق والعصيان، فإذا آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتاب، والتزم الطاعة لله ولرسوله فارقته تلك الشياطين، وتلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات»

(2)

.

وقال رحمه الله: «وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة، وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وعلى مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطئ، فإن كان الإنسي كافراً أو فاسقاً أو جاهلاً، دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة، أو يقلب فاتحة

(1)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 343).

(2)

الرد على البكري (1/ 137).

ص: 408

الكتاب، أو سورة الإخلاص، أو آية الكرسي، أو غيرهن، ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء، وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر، وقد يأتونه بمن يهواه من امرأة أو صبي، إما في الهواء، وإما مدفوعاً ملجأ إليه، إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها. والإيمان بها، إيمان بالجبت والطاغوت والجبت: السحر. والطاغوت: الشياطين والأصنام وإن كان الرجل مطيعاً لله ورسوله باطناً وظاهراً، لم يمكنهم الدخول معه في ذلك، أو مسالمته»

(1)

.

ثالثاً: أن هذه الأفعال والخوارق تحدث حتى للكفرة والفساق والسحرة والكهان، فلو كان وقوعها دليلاً على الصلاح والولاية، للزم القول بولاية هؤلاء، وقد علم بالاضطرار أن ما يحدث لهؤلاء إنما هي خوارق شيطانية تعينهم عليها الشياطين لما هم عليه من الشرك والضلال، قال شيخ الإسلام:«فإن هؤلاء يستلزم أقوالهم أن يجعلوا كثيرا من المشركين وأهل الكتاب -اليهود والنصارى- من أولياء الله المتقين، فإن لهؤلاء خوارق كثيرة، فمن أنكر وجودها كان كمن أنكر خوارق الأولياء وأنكر السحر والكهانة، ومن أقر بوجودها وجعلها دليلاً على أن صاحبها ولي لله فهو جعل خوارق السحرة والكهان دليلاً على أنهم أنبياء وأولياء الرحمن، وكلا القولين يوجب الخروج عن دين الإسلام، والخروج من النور إلى الظلام، بل يجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء بما بينه الله من الآيات والبراهين، وبما بعث به سيد المرسلين»

(2)

.

رابعاً: من الحقائق المهمة التي قررها شيخ الإسلام رحمه الله، أن كل من عبد غير الله ملكاً كان أو نبياً أو صالحاً أو صنماً، فهو عابد للشيطان، ولذلك يعينهم الشيطان على مثل هذه الخوارق؛ لأنهم في الحقيقة عابدون له، فيسهل عليه التسلط عليهم، قال شيخ الإسلام مبينا هذه الحقيقة: «ولهذا كان كل من لم

(1)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:174 - 175) وانظر الجواب الصحيح (2/ 343).

(2)

جامع المسائل لابن تيمية (1/ 97).

ص: 409

يعبد الله وحده، فلابد أن يكون عابداً لغيره، يعبد غيره فيكون مشركا. وليس في بني آدم قسم ثالث، بل إما موحد، أو مشرك، أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل؛ النصارى ومن أشبههم من الضلال، المنتسبين إلى الإسلام، قال الله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100]، وقد قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحِجر:42]، لما قال إبليس:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحِجر:40]، قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحِجر:42]، فإبليس لا يغوى المخلصين، ولا سلطان له عليهم، إنما سلطانه على الغاوين، وهم الذين يتولونه، وهم الذين به مشركون.

وقوله: {الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100]، صفتان لموصوف واحد. فكل من تولاه فهو به مشرك، وكل من أشرك به فقد تولاه. قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]. وكل من عبد غير الله فإنما يعبد الشيطان، وإن كان يظن أنه يعبد الملائكة والأنبياء، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41].

ولهذا تتمثل الشياطين لمن يعبد الملائكة والأنبياء والصالحين ويخاطبونهم، فيظنون أن الذي خاطبهم مَلَك أو نبي، أو وَلِيّ، وإنما هو شيطان، جعل نفسه ملكاً من الملائكة، كما يصيب عُبَّاد الكواكب وأصحاب العزائم والطلسمات، يسمون أسماء، يقولون: هي أسماء الملائكة، مثل منططرون وغيره، وإنما هي أسماء الجن.

وكذلك الذين يدعون المخلوقين من الأنبياء والأولياء والملائكة، قد يتمثل

ص: 410

لأحدهم من يخاطبه، فيظنه النبي، أو الصالح الذي دعاه، وإنما هو شيطان تصور في صورته، أو قال: أنا هو، لمن لم يعرف صورة ذلك المدعو.

وهذا كثير يجري لمن يدعو المخلوقين، من النصارى ومن المنتسبين إلى الإسلام، يدعونهم عند قبورهم، أو مغيبهم، ويستغيثون بهم، فيأتيهم من يقول: إنه ذلك المستغاث به، في صورة آدمي، إما راكباً، وإما غير راكب. فيعتقد المستغيث أنه ذلك النبي، والصالح، أو أنه سِرّه، أو روحانيته، أو رقيقته أو المعنى تَشَكَّل، أو يقول: إنه ملك جاء على صورته، وإنما هو شيطان يغويه؛ لكونه أشرك بالله ودعا غيره، الميت فمن دونه. فصار للشيطان عليه سلطان بذلك الشرك، فظن أنه يدعو النبي، أو الصالح، أو الملك، وأنه هو الذي شفع له، أو هو الذي أجاب دعوته، وإنما هو الشيطان؛ ليزيده غلواً في كفره وضلاله. فكل من لم يعبد الله مخلصاً له الدين، فلابد أن يكون مشركاً عابداً لغير الله، وهو في الحقيقة عابد للشيطان. فكل واحد من بنى آدم إما عابد للرحمن، وإما عابد للشيطان، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزُّخرُف:36 - 39]»

(1)

.

وقال رحمه الله: «والذين يعبدون الشيطان، وأكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان، بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين. كالذين يستغيثون بهم ويسجدون لهم فهم في الحقيقة إنما عبدوا الشيطان، وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد الله الصالحين، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41].

ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى يكون سجود عباد الشمس له وهم يظنون أنهم

(1)

الحسنة والسيئة (ص: 56 - 58).

ص: 411

يسجدون للشمس، وسجودهم للشيطان»

(1)

.

خامساً: مما يدل على أن هذه الأفعال من أفعال الشياطين، أنها تكثر في البلاد التي يقل فيها ظهور الإسلام والسنة، ويكثر فيها الكفر والفسوق والعصيان، وتتلاشى عند ذكر الله وتلاوة آياته، قال شيخ الإسلام: «وأما الجزيرة

(2)

والعراق وخراسان

(3)

والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها؛ وذلك لأن ظهور هذه الأشياء، من الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان، في تلك البلاد أقوى وأظهر، وظهور الإسلام والسنة وإخلاص الدين لله في أرض الشام أقوى من سائر البلاد؛ فلهذا ضعفت هذه الأحوال الشيطانية وأنكرت إذا ظهرت فيها، وإذا ظهرت ولم تنكر ولم تغير؛ قويت واشتدت شوكتها، فحيث قويت الأحوال الرحمانية الإيمانية المحمدية والتوحيد ونور القرآن وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية؛ فإن سلطانها إنما يقوى وتعظم جنوده في بلاد أهل الكفر والفسوق والعصيان، كبلاد جنكز خان

(4)

والهند والروم وغيرها من أهل الكفر والفسوق والعصيان، فبلادهم فيها مادتان: مادة كفر ونفاق وفسوق وعصيان، ومادة علم

(1)

الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 192).

(2)

الجزيرة: بلاد تشتمل على ديار بكر ومضر وربيعة، وإنما سميت جزيرة لأنها بين دجلة والفرات، وهي الجزء الشمالي من الأرض التي يكتنفها نهرا دجلة والفرات، وهي من أخصب أرض العرب، ومن أهم أعلامها «جبل سنجار» وأهم القبائل التي تسكنها الآن قبيلة طيئ ثم قبيلة عنزة. انظر: آثار البلاد وأخبار العباد (ص: 351) معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (ص: 82).

(3)

خُراسَانُ: كلمة فارسية معناها بلاد الشمس المشرقة (أي الشرق) وهي بلاد واسعة، أول حدودها مما يلي العراق، وآخر حدودها مما يلي الهند، وتشتمل على أمّهات من البلاد منها نيسابور وهراة ومرو وبلخ ونسا، وتتقاسمها اليوم إيران الشرقية «نيسابور» ، وأفغانستان الشمالية (هراة وبلخ)، ومقاطعة تركمانستان السوفيتية (مرو). انظر: معجم البلدان (2/ 350) المعالم الأثيرة في السنة والسيرة (ص: 108).

(4)

في المطبوع "جنكر خان"، ولعله خطأ. وقد سبق ذكر ترجمته.

ص: 412

وإحسان وإيمان فإذا غلبت إحدى المادتين على الأخرى أهلكتها.

والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل: الحبشة، والنجشية، والطوينية، والتوى ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم

(1)

، تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر ويصعد أحدهم في الهواء و يخبرهم بأمور غائبة، ويبقى الدف الذي يغني لهم به يمشي في الهواء ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم ولا يرون أحداً يضرب به ويطوف الإناء عليهم ولا يرون من يحمله، وإذا نزل بأحدهم مئة ضيف أتاهم بطعام يكفيهم ويأتيهم بألوان مختلفة مع كفرهم؛ وذلك كله من الشياطين تأتيه به من تلك المدينة، [أو من غيرها تسرقه وتأتي به]

(2)

، وهذه الأمور تكون كثيرة عند من يكون مشركاً أو ناقص الإيمان، وعند التتار من هذا أنواع كثيرة ولا سيما دولة تمرخان

(3)

وأتباعه، فإنهم سحروا الناس سحراً لم يُر مثله، وأظهروا أحوالاً لا حقيقة لها فوافقت قدر الله فعملت أعمالها؛ وذلك لما ضعف الإيمان بالشام وقل نور النبوة فظهر تأثير ذلك الأحوال في الناس لضعف الدين و امتلاء القلوب من حب الدنيا وظهور مناكير معروفة وكثرة الخبث

(1)

هي أسماء لعلماء مشركي الترك ومشايخهم وهم من السحرة والكهان، ويسمى شيخهم (البوا) ومن شرطه عندهم أن يكون مخنثا مأبونا يُنكح، ومن أحوالهم ما ذكره شيخ الإسلام هنا، ومنها أنهم يجتمعون في ظلمة فيذبحون ذبيحة للشيطان ويغنون له فتأتي الشياطين وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة كأحوال غائبيهم وسرقاتهم وغير ذلك ويُحمل البوا فيُوقف به في الهواء وهم يرونه، وهم أقرب ما يكونوا بعبدة الشيطان. انظر: درء التعارض (5/ 67) الصفدية (1/ 191) والرد على البكري (1/ 138).

(2)

في المطبوع (أو من غير تسوقه) والتصويب من مجموع الفتاوى (1/ 364).

(3)

لم أجد بعد بحث طويل أحداً من السلاطين بهذا الاسم، ثم إني وقفت في كتاب"معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي" للمستشرق زامباور (ص:426) على أحد الملوك باسم (قمر الدين تمرخان قِمران) أحد حكام (بِنغالة) تولى حكمها سنة (642 هـ)، فلعله هو المراد هنا والله أعلم، وبنغالة المذكورة: هي بلاد بنغلاديش المعروفة الآن، وهذا يظهر من خلال ما ذكره ابن بطوطة في رحلته إليها ووصفه إياها، وهو يسميها "بَنْجالة". انظر رحلة ابن بطوطة (4/ 100) فما بعدها.

ص: 413

وقلة الطيب ولما كان الطيب غالباً قوياً، والإسلام فاشياً ظاهراً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائماً به أهله، منصورون معانون، وأهل الفساد والفسوق مقهورون ذليلون؛ كان أولئك المذكورين بينهم وبين بلاد الشام خنادق وأسوار من قدر العزيز الجبار، فلا يصلون إليها، وكم قد حاولوا دخولها من سنين وشهور وأيام، وقد ضرب الله بينهم وبينها بسد فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا، فالأحوال الشيطانية عندهم كثيرة جداً؛ ولهذا الدجال إنما يخرج من قبلهم وبلادهم، وهم أتباعه، ويظهر على يديه من الأحوال الشيطانية والأمور الزنديقية ما يحار له الناظرون، وهو كافر بالله العظيم»

(1)

.

سادساً: مما يدل على أن ما حدث لهم هو من صنيع الشياطين أن مثل هذه الأمور لم تحدث لخير القرون من الصحابة -رضوان الله عليهم-؛ وذلك لأن الشيطان لا سبيل له عليهم لما هم عليه من إيمان وإسلام وطاعة لله ورسوله، وإنما تحدث هذه الأمور لمن تسلطت عليهم الشياطين بسبب شركهم وفجورهم. قال شيخ الإسلام: «والمقصود أن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل غيرهم من أهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، أو جهلوا السنة أو رأوا وسمعوا أموراً من الخوارق فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين، كما أضل النصارى وأهل البدع بمثل ذلك؛ فهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، وكذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية فيسمع ويرى أموراً فيظن أنه رحماني، وإنما هو شيطاني، ويدعون البين الحق الذي لا إجمال فيه، وكذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته ويغيث من استغاث به، أو أن يحمل إليهم صوتا يشبه صوته؛ لأن الذين رأوه علموا أن هذا شرك لا يحل، ولهذا أيضا لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه: إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري واستغيثوا بي لا في محياه ولا في مماته كما جرى مثل هذا لكثير من المتأخرين. ولا طمع الشيطان

(1)

الرد على البكري (1/ 137 - 139). وانظر: قاعدة جليلة (ص: 5).

ص: 414

أن يأتي أحدهم ويقول: أنا من رجال الغيب أو من الأوتاد الأربعة أو السبعة أو الأربعين. أو يقول له: أنت منهم. إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له. ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول: أنا رسول الله أو يخاطبه عند القبر كما وقع لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره وعند غير القبور، كما يقع كثير من ذلك للمشركين وأهل الكتاب»

(1)

.

وقال رحمه الله: «ولهذا لم يكن أحد من الأنبياء والصحابة يفعل بهم مثل هذا؛ فإنهم أجل قدراً من ذلك»

(2)

.

سابعاً: أن هذه الأفعال الشيطانية قد وقعت مراراً وتكراراً في مختلف العصور والأزمنة، بحيث لا يخفى على من له أدنى إطلاع عليها، أنها من فعل الشياطين، وقد ضرب شيخ الإسلام في كتابه (الجواب الصحيح) أمثلة كثيرة على هذا، نسوقها لأهميتها ومعرفة مدى تسلط الشيطان على طوائف كثيرة من بني آدم وطرقه ووسائله في ذلك.

قال رحمه الله: «ومثل هذا قد جرى لخلق عظيم في زماننا وقبل زماننا كناس كانوا بـ (تدمر)

(3)

فرأوا شخصاً عظيماً طائراً في الهواء، وظهر لهم مرات بأنواع من اللباس، وقال لهم: أنا المسيح ابن مريم، وأمرهم بأمور يمتنع أن يأمر بها المسيح عليه السلام وحضروا إلى عند الناس، وبينوا لهم أن ذلك هو شيطان أراد أن يضلهم.

وآخرون يأتي أحدهم إلى قبر من يعظمه ويحسن به الظن من الصالحين

(1)

مجموع الفتاوى (27/ 390 - 391).

(2)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 5)، انظر: الرد على البكري (1/ 140).

(3)

مدينة معروفة بأرض (سوريا) الشام قديمة، أبنيتها من أعجب الأبنية، موضوعة على العمد الرخام. زعموا أنها مما بنته الجن لسليمان، عليه السلام. انظر: آثار البلاد وأخبار العباد (ص: 169) الروض المعطار في خبر الأقطار (ص: 131).

ص: 415

وغيرهم فتارة يرى القبر قد انشق وخرج منه إنسان على صورة ذلك الرجل، وتارة يرى ذلك الإنسان قد دخل في القبر، وتارة يراه إما راكباً، وإما ماشياً داخلاً إلى مكان ذلك الميت كالقبة المبنية على القبر، وتارة يراه خارجاً من ذلك المكان ويظن أن ذلك هو ذلك الرجل الصالح وقد يظن أن قوماً استغاثوا به فذهب إليهم ويكون ذلك شيطاناً تصور بصورته، وهذا جرى لغير واحد ممن أعرفهم وتارة يستغيث أقوام بشخص يحسنون به الظن: إما ميت، وإما غائب فيرونه بعيونهم قد جاء وقد يكلمهم وقد يقضي بعض حاجاتهم فيظنونه ذلك الشخص الميت وإنما هو شيطان زعم أنه هو وليس هو إياه، وكثيراً ما يأتي الشخص بعد الموت في صورة الميت فيحدثهم ويقضي ديوناً ويرد ودائع ويخبرهم عن الموتى ويظنون أنه هو الميت نفسه قد جاء إليهم وإنما هو شيطان تصور بصورته.

وهذا كثير جداً لا سيما في بلاد الشرك، كبلاد الهند ونحوها، ومن هؤلاء من تراه أنت تحت سريره آخذ بيد ابنه في الجنازة، ومنهم من يقول إذا مت فلا تدعوا أحداً يغسلني، فأنا آتي من هذه الناحية أغسل نفسي، فيأتي بعد الموت شخص في الهواء على صورته يغسله هو والذي أوصاه، ويظن ذلك أنه جاء، وإنما هو شيطان تصور بصورته، وتارة يرى أحدهم شخصاً إما طائراً في الهواء، وإما عظيم الخلقة، وإما أن يخبره بأشياء غائبة، ونحو ذلك، ويقول له أنا الخضر، ويكون ذلك شيطاناً كذب على ذلك الشخص، وقد يكون الرائي من أهل الدين والزهد والعبادة، وقد جرى هذا لغير واحد وتارة يرى عند قبر نبي أو غيره؛ أن الميت قد خرج إما من حجرته، وإما من قبره، وعانق ذلك الزائر وسلم عليه، ويكون شيطاناً تصور بصورته، وتارة يجيء من يجيء إلى عند قبر ذلك الشخص، فيستأذنه في أشياء ويسأله عن أمور فيخاطبه شخص يراه أو يسمع صوتاً ولا يرى شخصاً، ويكون ذلك شيطاناً أضله.

وقد يرى أشخاصاً في اليقظة إما ركباناً، وإما غير ركبان، ويقولون هذا فلان النبي، إما إبراهيم وإما المسيح وإما محمد، وهذا فلان الصديق، إما أبو بكر وإما

ص: 416

عمر وإما بعض الحواريين، وهذا فلان لبعض من يعتقد فيه الصلاح إما جرجس

(1)

أو غيره ممن تعظمه النصارى، وإما بعض شيوخ المسلمين، ويكون ذلك شيطاناً ادعى أنه ذلك النبي، أو ذلك الشيخ، أو الصديق أو القديس.

ومثل هذا يجري كثيراً لكثير من المشركين والنصارى وكثير من المسلمين، ويرى أحدهم شيخا يحسن به الظن، ويقول: أنا الشيخ فلان ويكون شيطاناً، وأعرف من هذا شيئاً كثيراً، وأعرف غير واحد ممن يستغيث ببعض الشيوخ الغائبين والموتى، يراه قد أتاه في اليقظة وأعانه.

وقد جرى مثل هذا لي ولغيري ممن أعرفه، ذكر غير واحد أنه استغاث بي من بلاد بعيدة، وأنه رآني قد جئته، ومنهم من قال: رأيتك راكباً بلباسك وصورتك، ومنهم من قال: رأيتك على جبل، ومنهم من قال: غير ذلك. فأخبرتهم أني لم أغثهم، وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليضلهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله.

وكذلك غير واحد ممن أعرفه من أصحابنا استغاث به بعض من يحسن به الظن فرآه قد جاءه وقضى حاجته، قال صاحبي: وأنا لا أعلم بذلك، ومن هؤلاء الشيوخ من يقول: إنه يسمع صوت ذلك الشخص المستغيث به ويجيبه، وتكون الشياطين أسمعته صوتاً يشبه صوت الشيخ المستغيث له فأجابه الشيخ بصوته، فأسمَعتِ المستغيث صوتاً يشبه صوت الشيخ، فيظن أنه صوت الشيخ.

وهذا جرى لمن أعرفه وأخبر بذلك عن نفسه، وقال: بقي الجني الذي يحدثني يبلغني، مثل صوت المستغيثين بي، ويبلغهم مثل صوتي، ويريني في شيء أبيض

(1)

هو القديس جرجس أو مار جرجس ومعنى اسمه الزارع أو الفلاّح أحد المعظمين عند النصارى اشتهر عندهم بأنه تغلب على التنين وقتله، وهو من أعظم الشهداء عند النصارى أذاقه القياصرة أشد أصناف العذاب وقتلوه بفلسطين على عهد ديوقلسيانوس المغتصب في أوائل القرن الرابع. وله ذكرى سنوية عند النصارى، ويكثرون من التسمية باسمه ويسمون به كنائسهم وديرهم ومعابدهم أيضاً، (ت:303 م). انظر: الجواب الصحيح (4/ 207) هداية الحيارى (2/ 548 - 549).

ص: 417

نظير ما أسأل عنه، فأخبر به الناس أني رأيته، وأنه سيأتي ولا أكون قد رأيته وإنما رأيت شبيهه.

وهكذا تفعل الجن بمن يعزم عليهم ويقسم عليهم، وكذلك ما رآه قسطنطين

(1)

من الصليب الذي رآه من نجوم، والصليب الذي رآه مرة أخرى هو مما مثله الشياطين وأراهم ذلك ليضلهم به؛ كما فعلت الشياطين ما هو أعظم من ذلك بعباد الأوثان، وكذلك من ذكر أن المسيح جاءه في اليقظة وخاطبه بأمور؛ كما يذكر عن بولس

(2)

، فإنه إذا كان صادقا كان ذلك الذي رآه في اليقظة وقال: أنه المسيح، شيطانا من الشياطين؛ كما جرى مثل ذلك لغير واحد.

والشيطان إنما يضل الناس ويغويهم بما يظن أنهم يطيعونه فيه فيخاطب النصارى بما يوافق دينهم ويخاطب من يخاطب من ضلال المسلمين بما يوافق اعتقاده وينقله إلى ما يستجيب لهم فيه بحسب اعتقادهم.

ولهذا يتمثل لمن يستغيث من النصارى بجرجس في صورة جرجس أو بصورة من

يستغيث به النصارى من أكابر دينهم، إما بعض البطاركة

(3)

، وإما بعض

(1)

قسطنطين الكبير (الأول) الإمبراطور الروماني الشهير الذي سمح بالدين النصراني وأفسده وخلطه بالدين الروماني الوثني، كان وثنياً وقيل أنه تعمد على النصرانية وقد كان (مجمع نيقية الأول) الذي تم فيه تقرير (التثليث) وأن عيسى ابن الله تحت إشرافه (ت:337 م). انظر: مروج الذهب (1/ 350) قصة الحضارة (11/ 382).

(2)

هو شاول الطرسوسي اليهودي الفريسي، وكان من ألد أعداء دعوة المسيح عليه السلام، وكان يذيق أتباعه أشد العذاب، ثم زعم أنه رأى المسيح عند عودته من دمشق وأنه وبخه على اضطهاده لأتباعه، وأمره بالتبشير، ثم ادعى اعتناقه دين المسيح، وأصبحت له مكانة عظيمة عند النصارى، وهو أحد أعظم أسباب انحراف الديانة النصرانية وتحريفها وإدخال الوثنية عليها (ت:96 م). انظر: هداية الحيارى (2/ 548) ودراسات في اليهودية والنصرانية (ص:352 - 360).

(3)

بطرك وبطريك: لقب يطلق في المسيحية على مقدم النصارى ورئيس رؤساء الأساقفة انظر: مفاتيح العلوم (ص: 148) المعجم الوسيط (1/ 61).

ص: 418

المطارنة

(1)

، وإما بعض الرهبان، ويتمثل لمن يستغيث به من ضلال المسلمين بشيخ من الشيوخ في صورة ذلك الشيخ; كما تمثل لجماعة ممن أعرفهم في صورتي وفي صورة جماعة من الشيوخ الذين ذكروا في ذلك، ويتمثل كثيرا في صورة بعض الموتى: تارة يقول أنا الشيخ عبد القادر

(2)

، وتارة يقول أنا الشيخ أبو الحجاج الأقصري

(3)

، وتارة يقول أنا الشيخ عدي

(4)

، وتارة يقول

(1)

رئيس ديني عند النصارى وهو دون البطريرك وفوق الأسقف. انظر: مفاتيح العلوم (ص: 148) المعجم الوسيط (2/ 875).

(2)

هو عبد القادر بن أبي صالح أبو محمد، الجيلاني، أو الكيلاني، أو الجيلي: عالم حنبلي اشتهر بالزهد والعبادة والورع، وذاع صيته حتى نسبت إليه الطائفة القادرية، وهو بريء منهم، فقد كان مع زهده وعبادته متمسكاً بالسنة، ويذكرون عنه مكاشفات وكرامات أكثرها من باب الغلو، وعليه بعض المآخذ في أقواله وأفعاله، إلا أنه لا يستجيز هذه الطريقة البدعية التي نسبت إليه وفعلت ما لا يرتضيه، من مصنفاته "الغنية " و"الفتح الرباني" (ت:561 هـ). انظر: السير (2/ 439) البداية والنهاية (12/ 252) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 290) درء التعارض (5/ 5).

(3)

هو يوسف بن عبد الرحيم بن يوسف بن عيسى الزاهد، المعروف بأبي الحجاج الأقصري ولد ببغداد ثم نزل بالأقصر (بصعيد مصر) وقبره فيها معروف إلى الآن، الأعلام للزركلي (8/ 238)

قيل أنه على سنن السلف لكن جهال أتباعه أطنبوا في أمره، وظنوا أن ذلك من بره، وادعوا أنه في ليلة النصف من شعبان، عرج به إلى السماء، واتخذوه في كل سنة كالعيد، تأتي إليه الخلائق من العوالي، وتحضر الدفوف والشبابات ويختلط الرجال بالنسوان والشيخ بعيد عن ذلك كله، سنة (ت:644 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (14/ 509) والوافي بالوفيات (29/ 109) والأعلام (8/ 238)

(4)

هو عدي بن مسافر بن إسماعيل الهكاري الأموي: إليه تنتسب الطائفة العدوية (اليزيدية)، وغالى أتباعه " العدوية " فيه فهم يحجون لقبره، ويستقبلونه في صلواتهم ويعتقدون فيه النبوة بل والألوهية أيضاً، وهو بريء منهم ومن طريقتهم، قال شيخ الإسلام:«وغلوا في الشيخ عدي وفي يزيد بأشياء مخالفة لما كان عليه الشيخ عدي الكبير -قدس الله روحه - فإن طريقته كانت سليمة لم يكن فيها من هذه البدع» ووذكر أنه كان من العباد الصالحين والمشايخ المتبعين وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن الأصول الكبار لأهل السنة والجماعة وكان حريصاً على السنة ناشراً لها منابذاً لمن خالفها، مع أنه لا بد أن يوجد في كلامه وكلام نظرائه من المسائل المرجوحة والدلائل الضعيفة -كأحاديث لا تثبت ومقاييس لا تطرد- ما يعرفه أهل البصيرة (ت:557 هـ). انظر: وفيات الأعيان (3/ 254) رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أتباع عدي بن مسافر الأموي" المشهورة بـ" الوصية الكبرى" (ص:58، 106) والسير (15/ 124).

ص: 419

أنا أحمد بن الرفاعي، وتارة يقول أنا أبو مدين المغربي

(1)

، وإذا كان يقول أنا المسيح أو إبراهيم أو محمد فغيرهم بطريق الأولى

وكثير من هؤلاء. ومن هؤلاء من يقول: يرى في مكانين ويرى واقفاً بعرفات وهو في بلده لم يذهب فيبقى الناس الذين لا يعرفون حائرين، فإن العقل الصريح يعلم أن الجسم الواحد لا يكون في الوقت الواحد في مكانين، والصادقون قد رأوا ذلك عياناً لا يشكون فيه ولهذا يقع النزاع كثيراً بين هؤلاء وهؤلاء؛ كما قد جرى ذلك غير مرة، وهذا صادق فيما رأى وشاهد وهذا صادق فيما دل عليه العقل الصريح.

لكن ذلك المرئي كان جنيّاً تمثل بصورة الإنسان، والحسيات إن لم يكن معها عقليات تكشف حقائقها وإلا وقع فيها غلط كبير

وكذلك كما ظهر إبليس للمشركين في صورة الشيخ النجدي

(2)

وظهر لهم يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فلما رأى الملائكة هرب، قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ

(1)

هو شعيب بن الحسن الأندلسي التلمساني، أبو مدين، كان كبير الصوفية والعارفين في عصره، أصله من الأندلس. أقام بفاس، وسكن (بجاية) وكثر أتباعه حتى خافه السلطان يعقوب المنصور، وقد ذكره شيخ الإسلام مع المشايخ الذين يكفرون القائلين بالحلول والاتحاد ولا يرتضون طريقتهم، وذكره فيمن لا يرتضون السماع البدعي ولا يحضرونه، من مصنفاته "مفاتيح الغيب" (ت:594 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (12/ 922) الوافي بالوفيات (16/ 95) مجموع الفتاوى (11/ 534) مجموعة الرسائل والمسائل (1/ 227).

(2)

رواه عبد الرزاق في مصنفه (9743) وأبو نعيم في دلائل النبوة (ص:200) وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1687). قال صاحب الصحيح من أحاديث السيرة النبوية (ص: 141): «حديثٌ حسنٌ عدا ذكر إبليس» ، وحكم المعلق على الرحيق المختوم على قصة إبليس بأنها واهية وأسانيدها لاتصح. انظر: التعليق على الرحيق المختوم (ص:97).

ص: 420

نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]، وروي عن ابن عباس وغيره قال: تبدى إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال:{لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} ، وأقبل جبريل عليه السلام على إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبراً هو وشيعته، فقال: الرجل يا سراقة! أتزعم أنك لنا جار؟ فقال: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، قال ابن عباس: وذلك لما رأى الملائكة.

(1)

قال الضحاك: (سار الشيطان معهم برايته وجنوده، وألقى في قلوب المشركين أن أحداً لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دينكم ودين آبائكم)

(2)

.

وكثير من الناس تحمله الجن إلى مكان بعيد، فتحمل كثيراً من الناس إلى عرفات وغير عرفات، وإذا رئي واحد من هؤلاء في غير بلده، يكون تارة محمولاً قد حملته الجن، وتارة تصورت على صورته، ولا يكون هذا من أولياء الله المتقين الذين لهم كرامات، بل قد يكون من الكافرين أو الفاسقين، وأعرف من ذلك قضايا كثيرة ليس هذا موضع تفصيلها. وعند المشركين والنصارى من ذلك شيء كثير يظنونه من جنس الآيات التي للأنبياء.

إنما هي من جنس ما للسحرة والكهان، ومن لم يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ويفرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الصالحين، وبين خوارق السحرة والكهان ومن تقترن بهم الشياطين، وإلا التبس عليه الحق بالباطل، فإما أن يكذب بالحق الذي جاء به الأنبياء الصادقون، وإما أن يصدق بالباطل الذي يقوله الكاذبون والغالطون. وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر، والمقصود هنا

(1)

رواه الطبري في تفسيره (13/ 7) وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/ 612).

(2)

رواه ابن أبي حاتم في التفسير (5/ 1715)، وروى نحوه الطبري في تفسيره (13/ 7) عن الحسن.

ص: 421

التنبيه على هذا الأصل، وعلماء النصارى يسلمون هذا وعندهم من ذلك أخبار كثيرة من حكايات أولياء الشيطان الذين عارضهم أولياء الرحمن، وأبطلوا أحوالهم كما أبطل موسى -صلوات الله عليه- ما عارضته به السحرة من الخوارق، كما ذكر ذلك في التوراة وكما يذكرونه عن فلان وفلان، مثل حكاية سيمون الساحر

(1)

مع الحواريين وغير ذلك وإذا كان هذا معلوماً كان ما يذكرونه من هذا الجنس، إذا كان مخالفاً لما ثبت عن الأنبياء من الشيطان فلا يجوز أن يحتج به على ما يخالف شرائع الأنبياء الثابتة عنهم بل هؤلاء من جنس الدجال الكبير الذي أنذرت به الأنبياء كلهم»

(2)

.

* * *

(1)

سيمون الساحر (عاش في القرن الأول الميلادي) كان من السامريين، وصاحب سحر عظيم، وكان أهل سامرة يعتقدون فيه، ثم ادعى الإيمان بالمسيح، وفي صحة إيمانه به خلاف. انظر: أعمال الرسل الإصحاح الثامن (13).

(2)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 318 - 333).

ص: 422

ملحق

• مناظرته مع بعض المتصوفة في تفسير قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]:

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

«وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلاء الغالطين في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] قال: المعنى وما يعلم تأويل (هو) أي اسم "هو" الذي يقال فيه: "هو هو"، وصنف ابن عربي كتابا في "الهو".

فقلت له -وأنا إذ ذاك صغير جدًا-: لو كان كما تقول؛ لكتبت في المصحف مفصولة، {تأويل هو} ولم تكتب موصولة

(1)

. وهذا الكلام الذي قاله هذا معلوم الفساد بالاضطرار. وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلات الباطلة في الكتاب والسنة. وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحيحًا؛ لكن لا يدل عليه الكلام وليس هو مراد المتكلم وقد لا يكون صحيحًا. فيقع الغلط تارة في

(1)

أي "تأويله" لأن الضمير وهو الهاء قد وصل بالكلمة، ولم يكتب منفصلاً "هو".

ص: 423

الحكم وتارة في الدليل»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وقد صنف صاحب " الفصوص" كتابا سماه كتاب " الهو" وزعم بعضهم أن قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الهو، وإن كان هذا مما اتفق المسلمون بل العقلاء على انه من أبين الباطل، فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئًا من ذلك: لو كان هذا ما قلته لكتبت الآية: وما يعلم تأويل (هو) منفصلة»

(2)

.

• مناظرته مع بعض اليونسية في احتجاجهم على الردة وقتالهم مع التتر، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك لكون المسلمين قد عصوا!:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ولما جاء قازان وقد أسلم دمشق، انكشفت أمور أخرى فظهر أن اليونسية

(3)

كانوا قد ارتدوا وصاروا كفارا مع الكفار.

وحضر عندي بعض شيوخهم، واعترف بالردة عن الإسلام، وحدثني بفصول كثيرة.

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 560).

(2)

العبودية (139) الفتاوى الكبرى (5/ 211)

* في هذه المناظرة يوضح شيخ الإسلام شيئاً من تأويلات الصوفية الباطلة لنصوص الكتاب والسنة وتحريفهم لمعانيها، دون مستند في الشرع ولا حجة في اللغة.

(3)

سبق التعريف بهم.

ص: 424

فقلت له -لما ذكر لي احتجاجهم بما جاءهم من أمر الرسول-: فهب أن المسلمين كأهل بغداد كانوا قد عصوا -وكان في بغداد بضعة عشر بغيًا- فالجيش الكفار المشركون الذين جاءوا كانوا شرًا من هؤلاء؛ فإن هؤلاء كن يزنين اختيارًا، فأخذ أولئك المشركون عشرات الألوف من حرائر المسلمين وسراريهم بغير اختيارهم، وردوهم عن الإسلام إلى الكفر وأظهروا الشرك وعبادة الأصنام ودين النصارى وتعظيم الصليب حتى بقي المسلمون مقهورين مع المشركين وأهل الكتاب، مع تضاعيف ما كان يفعل من المعاصي، فهل يأمر محمد صلى الله عليه وسلم بهذا ويرضى بهذا؟!

فتبين له وقال: لا والله. وأخبرني عن ردة من ارتد من الشيوخ عن الإسلام لما كانت شياطين المشركين تكرههم على الردة في الباطن، وتعذبهم إن لم يرتدوا!

فقلت: كان هذا لضعف إيمانهم وتوحيدهم، والمادة التي يشهدونها من جهة الرسول، وإلا فالشياطين لا سلطان لهم على قلوب الموحدين، وهذا وأمثاله ما كانوا يعتقدون أنهم شياطين بل أنهم رجال من رجال الغيب الإنس وكلهم الله بتصريف الأمر، فبينت لهم أن رجال الغيب هم الجن كما قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن:6] ومن ظن أنهم إنس فمن جهله وغلطه؛ فإن الإنس يؤنسون أي يشهدون ويرون

(1)

؛ إنما يحتجب الإنسي أحيانًا لا يكون دائمًا محتجبا عن أبصار الإنس؛ بخلاف الجن فإنهم كما قال الله {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ (27)} [الأعراف:27]»

(2)

.

• مناظرته مع بعض الصوفية في بعض اعتقاداتهم الباطلة:

في هذه المناظرة يحتج بعض أهل السلوك والتصوف بقصة أخرى من قصصهم المكذوبة المفتراة، ليحتجوا بها على ما يزعمونه من كشوفات وكرامات، ويوضح

(1)

انظر: تهذيب اللغة (13/ 61) ومجمل اللغة لابن فارس (ص:104).

(2)

مجموع الفتاوى (13/ 216 - 218).

*لما كفر جماعة من اليونسية وارتدوا، واحتجوا أن كفرهم إنما هو بسبب ما وقع به المسلمون من الذنوب والمعاصي، ولذلك أمرهم الرسول -على حد زعمهم- بالكفر والردة، وأن يلحقوا الكفار من التتار.

بين لهم شيخ الإسلام أن ما وقع ويقع به الكفار من المعاصي والقبائح أشد بكثير مما ينقمونه على بعض أهل الإسلام فهم أحق بالانصراف عنهم وتركهم، ووضح لهم أن ما يشاهدونه من كشوفات مزعومة وما يظنونه رجالاً للغيب أو رسولاً يحدثهم، إنما هو شيطان يضلهم عن السبيل، ويدعوهم إلى الكفر والشرك.

ص: 425

لهم شيخ الإسلام بطلان هذه القصة وكذبها من جهة نقلها وصحتها، ومن جهة نكارة متنها وسياقها، وقد سبق بيان طريقتهم في الاحتجاج بالأحاديث المكذوبة، والقصص الواهية الموضوعة، والرد عليها في فصول سابقة فلتراجع.

نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

«ويذكرون ما هو أعظم كفرًا من هذه الحكاية: وهو أن الله تعالى أطلع رسوله على سر الأسرار ليلة المعراج، وأمره أن لا يخبر به أحد.

وأنه رأى أهل الصفة

(1)

يتكلمون به!

فقال لهم: من أين لكم هذا؟

فقالوا: أخبرنا الله به.

فقال: يا رب ألم تأمرني أن أكتم هذا السر.

فقال: أنا أمرتك أن تكتمه وأنا أخبرتهم به.

وقد ذكر لي هذه الأمور غير واحد من كبار شيوخ هؤلاء، عن غير واحد من شيوخهم الكبار، فبينت لهم كذب هذا، حتى قلت لبعضهم: الصفة إنما كانت بالمدينة، والمعراج كان بمكة فلم يكن ليلة المعراج أحد يذكر أنه من أهل الصفة!»

(2)

.

ص: 426

الفصل الثالث:

مناظراته مع الرافضة

واشتمل على مبحثين:

المبحث الأول:

مناظرته مع أحد شيوخ الرافضة في عصمة علي رضي الله عنه.

المبحث الثاني:

مناظرته مع أحد أكابر شيوخ الرافضة في عصمة علي رضي الله عنه والإمامة والمهدي المنتظر.

ملحق:

مناظرته مع مقدم المغل بولاي في يزيد بن معاوية، ومحبة أهل البيت.

* * *

ص: 427

‌المبحث الأول: مناظرته مع أحد شيوخ الرافضة في عصمة علي رضي الله عنه: واشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة

.

‌تمهيد:

تعد جبال الكسروان

(1)

معقلاً من أهم معاقل غلاة الشيعة في عصر شيخ الإسلام رحمه الله، فقد كان يعيش بها الرافضة الاثنا عشرية والنصيرية والإسماعيلية وغيرهم من الدروز

(2)

والباطنية الخارجين عن الشرعة المحمدية.

ومع ما يحمله هؤلاء القوم في قلوبهم من عقائد خبيثة وأفكار فاسدة، فإنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل ترجموا تلك العقائد بأفعالهم السيئة، فخرجوا على

(1)

تقع جبال كسروان غرب وسط لبنان في قضاء كسروان، وهو أحد أقضية محافظة جبل لبنان يمتد من مجرى نهر إبراهيم في الشمال، وحتى مجرى نهر الكلب في الجنوب، ومن شاطئ البحر الأبيض المتوسط في الغرب حتى قمم جبل صنين. من الموسوعة الحرة "ويكبيديا" على الشبكة العنكبوتية: http://cutt.us/DJIJC

(2)

الدروز فرقة من فرق الباطنية الإسماعيلية لهم بدع كثيرة منها: القول بتأليه الحاكم، وأن للشريعة باطنا وظاهرا، والأخذ بدين المجوس، وهم ملاحدة كفار، ينتسبون إلى الرجل الثاني في هذه الفرقة وهو محمد بن إسماعيل الدرزي المشهور بنشتكين المقتول سنة 411 هـ وهو أول من أله الحاكم العبيدي. انظر: مجموع الفتاوى (35/ 161 - 162) الشيعة والتشيع (ص:236).

ص: 429

الإمام، وقطعوا السبل، وأرهبوا الناس، واستولوا على جبل الصالحية

(1)

، وقتلوا الرجال وسبوا النساء، وحرقوا المساكن؛

انتقاماً من أهله؛ لأنهم من أهل السنة، الذين يسمونهم نواصب

(2)

.

وكان هؤلاء القوم من أشد الناس غلواً في الرفض فمن عقائدهم "اعتقادهم أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر وبيعة الرضوان، وجمهور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الإسلام وعلماءهم، أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك المسلمين وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم، كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون أكفر من اليهود والنصارى"

(3)

، ومن "مسح على الخفين فهو عندهم كافر، ومن حرم المتعة فهو عندهم كافر، ومن أحب أبا بكر أو عمر أو عثمان أو ترضي عنهم أو عن جماهير الصحابة فهو عندهم كافر، ومن لم يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر

، وعندهم: من قال: إن الله يرى في الآخرة فهو كافر، ومن قال: إن الله تكلم بالقرآن حقيقة فهو كافر، ومن قال: إن الله فوق السماوات فهو كافر، ومن آمن بالقضاء والقدر وقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وأن الله يقلب قلوب عباده وأن الله خالق كل شيء فهو عندهم كافر، وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله فهو عندهم كافر"

(4)

، وكانوا

(1)

قال ياقوت الحموي رحمه الله: «الصالحية: قرية قرب الرّها من أرض الجزيرة اختطّها عبد الملك بن صالح الهاشمي، وقال الخالدي: قرب الرّقّة، وقال: عندها بطياس ودير زكّى وهو من أنزه المواضع» معجم البلدان (3/ 389).

(2)

النواصب أو الناصبة: هم طائفة من الخوارج تتدين ببغض علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتنصب له العداوة وتظهر له الخلاف، وتؤذي أهل البيت وتعاديهم، ومن بدعهم إظهار الفرح والاحتفال بيوم عاشوراء، كان منهم جماعة في الكوفة، وعد شيخ الإسلام منهم بعض بني أمية كالحجاج. انظر: جامع المسائل (5/ 150، 152) مجموع الفتاوى (25/ 300)(3/ 154) الكليات (ص: 906) تاج العروس (4/ 277).

(3)

مجموع الفتاوى (28/ 400)، والعقود الدرية (ص: 200).

(4)

مجموع الفتاوى (28/ 401 - 402)، والعقود الدرية (ص: 202).

ص: 430

من المعاونين للكفار والتتار وأعداء المسلمين على الإسلام وأهله، وفيهم "خلق كثير لا يقرون بصلاة ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنة والنار، من جنس الإسماعيلية والنصيرية والحاكمية والباطنية"

(1)

، والعياذ بالله العظيم.

ولما كان حالهم كهذا الحال، فقد ذهب شيخ الإسلام مع وفد من الأعيان والأمراء لاستتابتهم وإقناعهم بالالتزام بالشريعة والطاعة والولاء، ولكنهم أبوا وأصروا على ما هم عليه ولم يستجيبوا لتلك المساعي، فعند ذلك قام شيخ الإسلام رحمه الله بحثِّ الولاة والناس على قتالهم، وكتب إلى أطراف الشام في تشجيع الناس على جهادهم والقيام بواجب الله تجاههم، وقام في ذلك خير قيام، حتى اجتمع له خلق كثير من المقاتلين، وخرجت معه العساكر الإسلامية والجيوش الشامية وجهز نائب السلطنة حملة كبيرة توجه بها من دمشق إلى أهل كسروان لقتالهم، كما شارك فيها نائبا طرابلس وصفد

(2)

، وقد كان جبل كسروان من أصعب الجبال وأشقها، وكانت الملوك لا تُقدم على حصار أهله لصعوبة الوصول إليهم ومشقة ذلك، وقد وصف شيخ الإسلام ذلك المكان بقوله:«والمكان الذي لهم في غاية الصعوبة حتى ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله»

(3)

.

ولكن هذا الأمر لم يكن مانعاً لشيخ الإسلام عن قتالهم ولا مثنياً له عن ذلك، بل قام هو ومن معه من الجيوش الإسلامية بمحاصرة الجبل وأهله، وقتالهم حتى فتح الله عليهم هذا الجبل العصيب، وذلك في عام (705 هـ)، وقاموا بإجلاء أهله منه وإخراجهم من ديارهم، وفي أثناء حصارهم لهذا الجبل حدثت لشيخ الإسلام مناظرة مع شيخ من شيوخ هؤلاء القوم في عصمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما

(1)

مجموع الفتاوى (28/ 408)، والعقود الدرية (ص: 208).

(2)

هي مدينة في جبال عاملة المطلة على حمص بالشام، وهي من جبال لبنان. انظر: معجم البلدان (3/ 412) مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (3/ 541).

(3)

مجموع الفتاوى (28/ 408)، والعقود الدرية (ص: 203).

ص: 431

ذكر هذه المناظرة ابن عبدالهادي رحمه الله في كتابه النفيس (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية).

‌نص المناظرة:

قال ابن عبد الهادي رحمه الله تحت عنوان: بحث للشيخ مع أحد الرافضة في عصمة غير الأنبياء: «وحكى أيضاً [أي: شيخ الإسلام رحمه الله] أنه تجادل مع كبير من كبراء أهل جبل كسروان، له اطلاع على مذهب الرافضة.

قال: وكان الجدل والبحث في عصمة الإمام وعدم عصمته، وفي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه معصوم من الكبائر والصغائر، في كل قول وفعل -وهذه دعوى الجَبَلي- وأن الشيخ حاجَّه في أن العصمة لم تثبت إلا للأنبياء عليهم السلام.

قال: وإنني قلتُ له: إن علياً وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، اختلفا في مسائل وقعت، وفتاوى أفتى بها كل منهما، وأن تلك الفتاوى والمسائل عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم فصوب فيها قول ابن مسعود رضي الله عنه.

هذا معنى كلام الشيخ في حديثه عن المجادلة مع الرافضي الجبليِّ

(1)

، وإن اختلفت العبارة انتهى ما ذكره»

(2)

ا. هـ.

•‌

‌ المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية في المناظرة:

يرى الشيعة الإمامية أن الأئمة الاثني عشر معصومون من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، بل حتى من الخطأ والنسيان والغفلة، وفي ذلك يقول علامتهم المجلسي

(3)

: «إنّ أصحابنا الإماميّة أجمعوا على عصمة الأئمّة -صلوات الله

(1)

لم يذكر ابن عبد الهادي اسم هذا الشيخ الرافضي، وإنما نسبه للجبل: أي جبل كسروان.

(2)

العقود الدرية (ص: 197).

(3)

هو الملا محمد باقر بن محمد تقي المجلسي، رافضي من ألد أعداء السنة وخصومها، سليط اللسان، فاحش القول، يسمونه خاتمة المجتهدين، له مصنفات بالعربية والفارسية منها: بحار الأنوار، وحياة القلوب وغيرها، (ت: 1111 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (6/ 48) معجم المؤلفين (9/ 91) الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير (ص: 73).

ص: 432

عليهم- من الذّنوب الصّغيرة والكبيرة عمدًا وخطأ ونسيانًا من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله عز وجل»

(1)

.

وتعتبر عقيدة العصمة من أهم الأسس التي بنى عليها الإمامية معتقدهم، وبنوا عليها القول بإمامة الاثني عشر إماماً، وتلقيهم الشرع عن الله، ووجوب طاعة الخلق لهم كطاعة الله ورسوله، وجعل ما يقولونه ويعملونه من أعمال تشريعاً للخلق كآيات الله عز وجل وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرها من الأمور الكثيرة المبنية على هذه العقيدة الباطلة، ولذلك فقد اعتنى شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في ردوده على الرافضة ببيان بطلان هذه العقيدة وتناقض أهلها؛ لأن نقض هذه العقيدة يعتبر نقضاً لأسس الرافضة التي يقوم عليها مذهبهم، ومن هذا الاعتناء هذه المناظرة والمحاورة مع هذا الشيخ الرافضي لبيان فساد هذه العقيدة وبطلانها. مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة، وذلك من وجهين: الوجه الأول: أصل شبهتهم في قولهم بالعصمة:

العقيدة الباطلة التي ينشئها الناس من تلقاء أنفسهم، لا بد أن تجر معها عقائد أفسد منها أو مثلها فساداً، فالباطل لا يولِّدُ إلا باطلا، ولما كانت فرية الاثني عشر إماماً التي اختلقها الرافضة من تلقاء أنفسهم وجعلوها أُس عقيدتهم وأصل ديانتهم عقيدة باطلة، ليس لها ولا عليها مستند شرعي ولا نص قطعي من كتاب ولا سنة، فقد احتاجوا لتقريرها وتمريرها إلى اختلاق عقائد أخرى ومن أعظمها عقيدة العصمة، فقالوا: إن الإمام لا بد أن يكون معصوماً لأمور أربعة:

أولها: أن الإمام قائم مقام النبي، بل هو كالنبي في قيامه على الأمة ومراعاة شؤونها ومصالحها الدينية والدنيوية، ولما كان قائماً مقام النبي لزم أن يكون معصوماً مثله.

(1)

بحار الأنوار (25/ 350 - 351)، وانظر أيضا البحار (25/ 211)، ومرآة العقول (4/ 352)، وميزان الحكمة الباب (74).

ص: 433

ثانيها: أن طاعة الإمام واجبة كطاعة النبي، فلزم أن يكون معصوماً، فلو أمكن أن يخطئ لكنا مأمورين بمتابعته وطاعته على الخطأ وهذا محال.

ثالثها: أن مفهوم الإمام يتضمن معنى العصمة؛ لأن الإمام لغة هو المؤتم به المقتدى به، فإذا جوزنا الذنب عليه فإما أن يلزمنا الاقتداء به في الخطأ وهذا مُنْتَف، وإما أن يلزمنا عدم الاقتداء به فلا يكون إماما بهذا الاعتبار.

رابعها: أن الأمة كلها معرضة للخطأ والضلال، فلا بد لها من عاصم يعصمها من ذلك ويسدد خطأها وذلك هو الإمام، إذ لو لم يكن معصومًا لافتقر إلى إمام آخر معصوم فيلزم التسلسل

(1)

.

وبهذا كله يتبين لك أصل شبهة هؤلاء القوم، وأصل عقيدتهم الفاسدة في العصمة، التي بنوها على هذه الأمور المذكورة، والإلزامات المطروحة، التي هي في الحقيقة حججٌ متهافتة، وأطروحات باطلة، اخترعها القوم ليبرروا باطلهم لا غير.

حججٌ تهافتُ كالزجُاج تخالها

شيئاً وكل كاسر مكسور

الوجه الثاني: الرد على الشبهة:

إن رد مثل هذه العقيدة الفاسدة يطول؛ وذلك لكثرة الأجوبة التي توضح فسادها وتظهر ضعفها وبطلانها، فهي في الحقيقية عقيدة منافية مضادة لأسس الدين ومبادئه، ومبنية على عقائد باطلة مثلها، وما بُني على باطل فهو باطل، وقد بين شيخ الإسلام فساد هذه العقيدة في مختلف كتبه ورسائله من وجوه عديدة أهمها ما يلي:

1) أن كل ما ذكروه من أدلة تؤكد حاجة الأمة إلى معصوم قد تحققت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المعصوم الذي تجب طاعته في كل زمان وكل

(1)

انظر: عقائد الإمامية للزنجاني (ص: 77)، أصول التشيع (ص: 131)، منهاج السنة (6/ 384).

ص: 434

مكان وعلى كل أحد، وعلم الأمة بأوامره ونواهيه أتم من علم آحاد الرعية بالأئمة المذكورين وأوامرهم ونواهيهم، فعند الأمة من معرفة شرعه وهديه ما يغنيها عن كل إمام سواه

(1)

، وقد أمر الله بالرجوع للكتاب والسنة عند التنازع والاختلاف، ولم يأمر بردها إلى إمام أو نحوه، قال سبحانه:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]

(2)

.

2) أن الله عز وجل قد بين أن الحجة قد قامت على الخلق بالرسل، كما قال الله سبحانه مبيناً ذلك:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165]، ولو كانت الأمة محتاجة للأئمة كحاجتها للرسل وكان وجود الرسل غير مغنٍ للناس عن الأئمة وغيرهم، لما كانت الحجة قائمة بهم كما أخبر الله في هذه الآية

(3)

.

3) أن الأمة معصومة بكتاب ربها وسنة نبيها ولا تجتمع على ضلالة، وعصمة الأمة جميعاً مغنية عما ادعيتموه وأوجبتموه من عصمة الأئمة، فلا يمكن لأحد أن يبدل شيئاً من الدين إلا أقام الله من يبين خطأه فيما بدله، فيبقى الدين محفوظاً مصوناً من الخلل والتحريف ومن الزيادة والخطأ والنقصان

(4)

.

4) أن الأمور والأدلة والمقاصد التي أوجبوا من أجلها عصمة الإمام لا تتحقق فيمن جعلوهم أئمة، فأدلتهم التي استدلوا بها، هي نفسها دليل عليهم، فهي تبطل إمامة من جعلوهم أئمة؛ لعدم تحقق مقاصد الإمامة بهم، وأوضح مثال يبرهن على ذلك: إمامهم الغائب المفقود، الذي لم يصحح عملاً ولا سدد خطأ، ولا عُرِف له خبر، ولا رؤي له أثر، فأيُّ معنًى في عصمته، وأي فائدةٍ من ذلك؟!

(5)

.

(1)

انظر: منهاج السنة النبوية (6/ 384).

(2)

انظر: المصدر السابق (2/ 105).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (19/ 66).

(4)

انظر منهاج السنة النبوية (6/ 409)، المنتقى مختصر منهاج السنة (410).

(5)

انظر: منهاج السنة النبوية (6/ 386)، (5/ 467).

ص: 435

5) أن هذه العصمة المزعومة للأئمة الاثني عشر، لا دليل عليها من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو من إجماع السلف الصالح -رضوان الله عليهم-، بل هي عقيدة مختلقة مفتراة من الرافضة أنفسهم، لا يدل عليها نقل صريح ولا عقل صحيح!

(1)

.

6) اختلاف الشيعة أنفسهم في أصول الدين وفروعه، بل حتى في الأئمة أنفسهم وتحديد أعيانهم، دليل واضح على بطلان هذه العقيدة، إذ أن من أهم واجبات المعصوم عصمة أتباعه من الخلاف والاختلاف، فإذا لم يعصمهم من ذلك فكيف يعصم غيرهم وما المصلحة من الإيمان بعصمته؟!

(2)

.

7) إذا كان المقصود من العصمة هو ما ذُكر من إزالة الظلم والشر، فيجب أن يكون في كل بلد إمام معصوم؛ لأن حاجة جميع المدائن للمعصوم واحدة، فجعلُها في مكان دون مكان تحكم لا دليل عليه

(3)

.

8) أن "حاجة الإنسان إلى تدبير بدنه بنفسه، أعظم من حاجة المدينة إلى رئيسها، وإذا كان الله تعالى لم يخلق نفس الإنسان معصومة، فكيف يجب عليه أن يخلق رئيسًا معصوماً؟ مع أن الإنسان يمكنه أن يكفر بباطنه، ويعصي بباطنه، وينفرد بأمور كثيرة من الظلم والفساد، والمعصوم لا يعلمها، وإن علمها لا يقدر على إزالتها، فإذا لم يجب هذا فكيف يجب ذاك؟ "

(4)

.

9) ومما يدل على بطلان ما ادعوه من عصمة للأئمة الاثني عشر، أن الأئمة أنفسهم كان يخالف بعضهم بعضاً ولو كانوا معصومين لامتنع اختلافهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد كان علي وابناه وغيرهم يخالف بعضهم بعضاً في العلم والفتيا كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضاً، ولو كانوا معصومين

(1)

انظر: المصدر السابق (3/ 378).

(2)

انظر: المصدر السابق (6/ 390).

(3)

انظر: منهاج السنة (6/ 400).

(4)

منهاج السنة النبوية (6/ 407).

ص: 436

لكان مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة، وقد كان الحسن في أمر القتال يخالف أباه ويكره كثيراً مما يفعله ويرجع علي رضي الله عنه في آخر الأمر إلى رأيه وتبين له في آخر عمره أن لو فعل غير الذي كان فعله لكان هو الأصوب

، وقد وصى الحسن أخاه الحسين بأن لا يطيع أهل العراق ولا يطلب هذا الأمر وأشار عليه بذلك ابن عمر وابن عباس وغيرهما ممن يتولاه ويحبه، ورأوا أن مصلحته ومصلحة المسلمين ألا يذهب إليهم، ولا يجيبهم إلى ما قالوه من المجيء إليهم والقتال معهم؛ وإن كان هذا هو المصلحة له وللمسلمين، ولكنه رضي الله عنه فعل ما رآه مصلحة والرأي يصيب ويخطئ، والمعصوم ليس لأحد أن يخالفه؛ وليس له أن يخالف معصوماً آخر؛ إلا أن يكونا على شريعتين كالرسولين ومعلوم أن شريعتهما واحدة»

(1)

.

10) تراجع الإمام عن قوله دليل واضح على عدم عصمته، وقد ثبت عن علي رضي الله عنه التراجع عن مسائل كثيرة، منها: رجوعه عن خطبة بنت أبي جهل

(2)

و"قوله في أمهات الأولاد فإن له فيها قولين: أحدهما المنع من بيعهن، والثاني إباحة ذلك. والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان"

(3)

.

11) وأما قولهم: بأنه لو لم يكن الإمام معصوماً لافتقر إلى إمام آخر؛ لأن العلة المحوجة إلى الإمام هي جواز الخطأ على الأمة، فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فيلزم التسلسل.

فقد أجاب عنه شيخ الإسلام بما لا مزيد عليه فقال: «لِمَ لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه على الخطأ، بحيث لا يحصل اتفاق المجموع على الخطأ، لكن إذا أخطأ بعض الأمة، نبهه الإمام أو نائبه أو غيره، وإن أخطأ

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 125 - 126).

(2)

انظر: منهاج السنة النبوية (6/ 29)، وقد روى الحديث ابن ماجه في سننه (1999)، وأحمد في فضائل الصحابة (1329).

(3)

مجموع الفتاوى (35/ 126).

ص: 437

الإمام أو نائبه نبهه آخر كذلك، وتكون العصمة ثابتة للمجموع، لا لكل واحد من الأفراد، كما يقوله أهل الجماعة؟

وهذا كما أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ، وربما جاز عليه تعمد الكذب، لكن المجموع لا يجوز عليهم ذلك في العادة. وكذلك الناظرون إلى الهلال أو غيره من الأشياء الدقيقة، قد يجوز الغلط على الواحد منهم، ولا يجوز على العدد الكثير وكذلك الناظرون في الحساب والهندسة، ويجوز على الواحد منهم الغلط في مسألة أو مسألتين، فأما إذا كثر أهل المعرفة بذلك امتنع في العادة غلطهم.

ومن المعلوم أن ثبوت العصمة لقوم اتفقت كلمتهم، أقرب إلى العقل والوجود من ثبوتها لواحد. فإن كانت العصمة لا تمكن للعدد الكثير، في حال اجتماعهم على الشيء المعين، فأن لا تمكن للواحد أولى وإن أمكنت للواحد مفرداً; فلأن تمكن له ولأمثاله مجتمعين بطريق الأولى والأحرى.

فعلم أن إثبات العصمة للمجموع أولى من إثباتها للواحد، وبهذه العصمة يحصل المقصود المطلوب من عصمة الإمام، فلا تتعين عصمة الإمام.

ومن جهل الرافضة أنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين، ويجوزون على مجموع المسلمين الخطأ إذا لم يكن فيهم واحد معصوم. والمعقول الصريح يشهد أن العلماء الكثيرين، مع اختلاف اجتهاداتهم، إذا اتفقوا على قول كان أولى بالصواب من واحد، وأنه إذا أمكن حصول العلم بخبر واحد، فحصوله بالأخبار المتواترة أولى.

ومما يبين ذلك أن الإمام شريك الناس في المصالح العامة، إذ كان هو وحده لا يقدر أن يفعلها، إلا أن يشترك هو وهم فيها، فلا يمكنه أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق، ولا يوفيها، ولا يجاهد عدوًا إلا أن يعينوه، بل لا يمكنه أن يصلي بهم جمعة ولا جماعة إن لم يصلوا معه، ولا يمكن أن يفعلوا ما يأمرهم به إلا بقواهم وإرادتهم. فإذا كانوا مشاركين له في الفعل والقدرة، لا ينفرد عنهم بذلك، فكذلك

ص: 438

العلم والرأي لا يجب أن ينفرد به بل يشاركهم فيه، فيعاونهم ويعاونونه، وكما أن قدرته تعجز إلا بمعاونتهم، فكذلك علمه يعجز إلا بمعاونتهم»

(1)

.

12) مما استدل به شيخ الإسلام على نفي العصمة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما ثبت من وقوع الخلاف بينه وبين ابن مسعود رضي الله عنه في مسائل عدة، عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم، فصوب فيها قول ابن مسعود رضي الله عنه، مما يدل على وقوع علي رضي الله عنه في الخطأ وعدم عصمته من ذلك

(2)

. وقد "كان الشافعي رضي الله عنه يناظر بعض فقهاء الكوفة في مسائل الفقه فيحتجون عليه بقول علي فصنف كتاب (اختلاف علي وعبد الله بن مسعود)

(3)

، وبين فيه مسائل كثيرة تُركت من قولهما؛ لمجيء السنة بخلافه، وصنف بعده محمد بن نصر المروزي

(4)

كتابًا أكبرَ من ذلك"

(5)

، وضرب شيخ الإسلام بعض الأمثلة التي تُرِكَ فيها قول علي رضي الله عنه لمخالفته للمنصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم:

أ. منها "أن المعتدة المتوفى عنها إذا كانت حاملاً فإنها تعتدُّ أبعدَ الأجلين، ويروى ذلك عن ابن عباس أيضاً واتفقت أئمة الفتيا على قول عثمان وابن مسعود وغيرهما في ذلك وهو أنها إذا وضعت حملها حلت لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن سبيعة الأسلمية

(6)

كانت قد وضعت بعد زوجها بليال فدخل عليها أبو السنابل

(1)

منهاج السنة النبوية (6/ 480 - 409 - 410) وطبعتي (4/ 23 - 24).

(2)

انظر: العقود الدرية (197).

(3)

وهذا الكتاب مطبوع ضمن كتاب الأم (9/ 1 - 70).

(4)

هو أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي، إمام في الفقه والحديث والسنة، كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة فمن بعدهم في الأحكام، له مصنفات منها: تعظيم قدر الصلاة، قيام رمضان وغيرها، (ت: 294 هـ). انظر: السير (14/ 33)، تهذيب التهذيب (9/ 489).

(5)

مجموع الفتاوى (35/ 124)، وانظر: مجموع الفتاوى (20/ 314)، منهاج السنة (6/ 29 - 30) وبغية المرتاد (ص:500).

(6)

هي امرأة سعد بن خولة، توفي عنها بمكة، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: إن أجلك أربعة أشهر وعشر، وقد كانت وضعت بعد وفاة زوجها بليال وتهيأت للخطّاب، فأنكر عليها أبو السنابل، وقال: حتى تعتدّي أربعة أشهر وعشرا، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعلمها أن قد حللت. روى عنها فقهاء أهل المدينة وفقهاء أهل الكوفة من التابعين حديثها هذا. انظر: الاستيعاب (4/ 1859) والإصابة (8/ 171).

ص: 439

بن بعكك

(1)

فقال: ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشراً، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال:(كذب أبو السنابل، حللت فانكحي)

(2)

فكذَّب النبي صلى الله عليه وسلم من قال بهذه الفتيا»

(3)

.

ب. ومنها حكمه في "المفوضة التي تزوجها زوجها ومات عنها ولم يفرض لها مهراً قال فيها علي وابن عباس: إنها لا مهر لها. وأفتى فيها ابن مسعود وغيره: أن لها مهر المثل. فقام رجل من أشجع فقال: (نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق

(4)

بمثل ما قضيت به في هذه)

(5)

"

(6)

.

ت. ومنها "قوله: إن المخيرة إذا اختارت زوجها فهي واحدة، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه

(7)

، ولم يكن ذلك طلاقاً"

(8)

(9)

.

(1)

هو أبو السنابل بن بعكك -بوزن جعفر- بن الحارث ابن عبد الدار القرشي العبدري، واسمه صبّة بموحدة، وقيل بنون، وقيل عمرو، وقيل عامر، وقيل أصرم، وقيل "لبيد ربه" بالإضافة، وهو من مسلمة الفتح، وأمه عمرة بنت أوس، وذكروا أنه كان ممن خطب سبيعة وأنه تزوّجها بعد ذلك. انظر: الاستيعاب (4/ 1684) والإصابة (7/ 162).

(2)

رواه البخاري كتاب الطلاق (5318)، ومسلم كتاب الطلاق (1485).

(3)

مجموع الفتاوى (35/ 125).

(4)

هي بروع بنت واشق الرؤاسية الكلابية، أو الأشجعية، زوج هلال بن مرة. مات عنها زوجها هلال بن مرة الأشجعي، ولم يفرض لها صداقا. فقضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل صداق نسائها. انظر: الاستيعاب (4/ 1795) الإصابة (8/ 49)

(5)

رواه أبو داود (2115)، والترمذي (1145)، وابن ماجه (1891) وصححه الألباني في الإرواء (6/ 358).

(6)

مجموع الفتاوى (35/ 125).

(7)

رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب من خير نساءه (5262)، مسلم، كتاب الطلاق (1477).

(8)

منهاج السنة (6/ 29).

(9)

ومن أوجه الرد على عقيدة العصمة المزعومة أنَّ كتب الرافضة ومصادرهم وأصولهم قد دلت بنفسها على بطلان هذه العقيدة، وذلك من وجوه كثيرة منها:

الآثار الواردة في نفي الأئمة لهذا الشيء عن أنفسهم، وتصريحهم بأنهم يخطئون، ومن =

ص: 440

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ذلك ما جاء في نهج البلاغة أن علياً رضي الله عنه قال: «إني لست آمن أن أخطئ» ، وقوله:«فإني لست في نفسي فوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي» ، وقول جعفر الصادق رحمه الله:«إنا لنذنب ونسيء ثم نتوب إلى الله متاباً» بحار الأنوار للمجلسي (25/ 207)، وقول موسى الكاظم: «ربي عصيتك بلساني ولو شئت وعزتك لأخرستني

» البحار (25/ 3). وغير هذا الكثير.

الآثار الواردة في عدم اشتراط الأئمة للعصمة في الإمامة، ومن ذلك ما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من عدم اشتراطها بل وبيانه أنه لا بد للناس من أمير برًا كان أو فاجرًا حيث قال كما في نهج البلاغة:«لا بد للناس من أميرٍ برٍ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي» نهج البلاغة (ص: 82).

الآثار الواردة في استغفارهم من الذنوب وهي كثيرة جداً، ولو كانوا معصومين -كما تقول الرافضة- لما كانت لهم ذنوب يستغفرون منها، ولكان استغفارهم من الذنوب عبثاً.

اختلاف الأئمة أنفسهم في الفتاوى والأحكام والآراء والمواقف يدل على عدم العصمة؛ لأن العصمة تقتضي اتحاد القول وعدم اختلافه، وأبرز مثال واضح على ذلك ما جرى من اختلاف بين الحسن والحسين في الصلح مع معاوية وتسليم الحكم له، وما جرى من خلاف بينهم في طريقة التعامل مع حكام بني أمية فأحدهما بايع وصالح مع القدرة على القتال، والآخر لم يبايع وقاتل مع القدرة على الصلح وحقن الدماء. انظر: أصول الدين لعبد القاهر البغدادي (ص: 72).

أن هذه العقيدة لم تكن عند متقدمي الشيعة، وإنما ظهرت في المتأخرين، بل إن الروايات الواردة عن المتقدمين تخالف هذه العقيدة وتدل على بطلانها، فهي إنما ظهرت متأخرة عن عصر الأئمة كما جاء في بحار الأنوار (25/ 350) عندما قيل للرّضا -وهو الإمام الثّامن الذي تّدعي الشيعة عصمته-:"إنّ في الكوفة قومًا يزعمون أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقع عليه السّهو في صلاته، فقال: كذبوا -لعنهم الله-؛ إنّ الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو" وانظر: من لا يحضره الفقيه (1/ 234).

ص: 441

‌المبحث الثاني: مناظرته مع أحد أكابر شيوخ الرافضة في عصمة الإمام علي رضي الله عنه والإمامة والمهدي المنتظر

واشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه المناظرة أثناء رده على ما قرره ابن المطهر الحِلّي

(1)

من أن الإمامة هي أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين، وقد رد عليه شيخ الإسلام من تسعة أوجه فنَّد فيها قوله وأبطله، وبين فساده بأحسن تفصيل وأفضل بيان، وأجاب خلال رده على كثير مما قد يورده الرافضة من إيرادات وشبه، وكشف عن فسادها وضعفها وتناقض أصحابها بما لا مزيد عليه.

وكان من أقوى الأوجه التي رد بها شيخ الإسلام رحمه الله على هذا الكلام الوجه الثالث؛ الذي بين فيه سبب اعتقاد الرافضة لمثل هذا الاعتقاد، وأساس هذا القول

(1)

هو الحسن -ويقال: الحسين- بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، جمال الدين، ويعرف بالعلامة: من أئمة الرافضة، وأحد كبار علمائهم، له مصنفات عدة، منها:(منهاج الهداية)، و (كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين) وغيرها، رد عليه شيخ الإسلام في منهاج السنة، (ت: 726 هـ). انظر: الدرر الكامنة (2/ 71)، لسان الميزان (2/ 317).

ص: 442

عندهم، وأصل شبهتهم في هذا الباب.

فذكر رحمه الله أن الإمامة إنما كانت أشرف مسائل الدين عندهم؛ لما تحققه من اللطف والمصلحة في الدين والدنيا، ثم بين رحمه الله أن هذا الأمر غير متحقق فيما يعتقدونه من إمامة، فهم في الحقيقة لا يستفيدون منها شيئاً لا في دين ولا دنيا؛ وذلك لأنهم يعلقون إمامتهم بإمام غائبٍ مفقود لم يروا له أثراً، ولم يسمعوا منه خبراً

(1)

.

ثم ذكر رحمه الله أنه قد جرت له مناظرة تتعلق بهذا الأمر مع أحد شيوخهم.

‌نص المناظرة:

قال رحمه الله: «ولقد طلب مني أكابر شيوخهم الفضلاء أن يخلو بي، وأتكلم معه في ذلك، فخلوت به، وقررت له ما يقولونه في هذا الباب، كقولهم: إن الله أمر العباد ونهاهم لينالوا به بعض مقاصدهم، فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب، وترك القبيح؛ لأن من دعا شخصاً ليأكل طعامه، فإذا كان مُراده الأكل فَعَلَ ما يُعين على ذلك من الأسباب كتلقيه بالبشرِ، وإجلاسه في مجلس يناسبه، وأمثال ذلك، وإن لم يكن مراده أن يأكل، عبس في وجهه، وأغلق الباب، ونحو ذلك، وهذا أخذوه من المعتزلة

(2)

ليس هو من أصول شيوخهم القدماء.

ثم قالوا: والإمام لطف؛ لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب، وينهاهم عن القبيح كانوا أقرب إلى فعل المأمور، وترك المحظور، فيجب أن

(1)

انظر: منهاج السنة (1/ 73 - 101).

(2)

المعتزلة: فرقة من أشهر الفرق الكلامية، ويسمون القدرية والعدلية، سموا بذلك لاعتزال واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري في صاحب الكبيرة، وهم فرق متعددة يجمعها القول بالأصول الخمسة: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر: مقالات الإِسلاميين (1/ 235)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 43)، التبصير في الدين للإسفراييني (ص: 63).

ص: 443

يكون لهم إمام، ولا بد أن يكون معصوما؛ لأنه إذا لم يكن معصوماً لم يحصل به المقصود، ولم تُدَّعّ العصمة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا لعلي، فتعين أن يكون هو إياه للإجماع على انتفاء ما سواه، وبسطت له العبارة في هذه المعاني.

ثم قالوا: وعلي نص على الحسن، والحسن على الحسين إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن صاحب السرداب الغائب

(1)

؛ فاعترف بأن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال.

قلت له: فأنا وأنت طالبان للعلم، والحق، والهدى، وهم يقولون: من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر، فهذا المنتظر هل رأيته؟ أو رأيت من رآه؟ أو سمعت له بخبر؟ أو تعرف شيئاً من كلامه الذي قاله هو؟ أو ما أمر به، أو ما نهى عنه مأخوذا عنه، كما يؤخذ عن الأئمة؟ قال: لا.

قلت: فأي فائدة في إيماننا هذا؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا، ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص، ونحن لا نعلم ما يأمر به، ولا ما ينهانا عنه، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه؟

وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟!

فقال: إثبات هذا مبني على تلك المقدمات.

قلت: لكن المقصود لنا من تلك المقدمات هو ما يتعلق بنا نحن، وإلا فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق بنا منه أمر ولا نهي، وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يُحصل لنا فائدة ولا لطفا، ولا يُفيدنا إلا تكليف ما لا يقدر عليه عُلِمَ أن الإيمان بهذا المنتظر من باب الجهل، والضلال لا من باب المصلحة واللطف.

(1)

هو محمد الحسن بن علي العسكري، يزعم الرافضة أنه ولد سنة 255 هـ، أو 256 هـ، ويقولون بحياته إلى اليوم، وهو الإمام الثاني عشر من أئمة الاثني عشرية. انظر: أصول الكافي للكليني (1/ 452)، مقالات الإسلاميين (90/ 91)، الملل والنحل (1/ 169)، أصول مذهب الشيعة لناصر قفاري (1/ 105).

ص: 444

والذي عند الإمامية من النقل عن الأئمة الموتى: إن كان حقا يحصل به سعادتهم، فلا حاجة بهم إلى المنتظر، وإن كان باطلا، فهم أيضا لم ينتفعوا بالمنتظر في رد هذا الباطل، فلم ينتفعوا بالمنتظر لا في إثبات حق، ولا في نفي باطل، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولم يحصل لواحد منهم به شيء من المصلحة، واللطف المطلوب من الإمامة»

(1)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في المناظرة:

تعتبر عقيدة الإمامة هي أكبر عقائد الرافضة وأجلها وأهمها عندهم على الإطلاق، بل إن كل عقيدةٍ أحدثها الرافضة؛ فإنما وضعوها لتمرير هذه العقيدة، أو للتأكيد على صحتها، أو للرد على الشبهات المثارة حولها.

وهي عندهم من الأهمية بمكان، حتى جعلوها منصبًا إلهيًا، ونص كثير من علمائهم على أنها تفوق مرتبة النبوة والرسالة

(2)

، وروى الكليني

(3)

ما يدل على أنها أعظم أركان الإسلام وأجلها

(4)

، وقد اختصر ذلك ابن مطهر الحلي بقوله:«إن الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين»

(5)

.

وهدم هذه العقيدة وبيان زيفها يعني بالطبع هدم دين الرافضة من أساسه، وإبطال معتقدهم كله؛ ولذلك فقد اعتنى شيخ الإسلام بذلك غاية الاعتناء، وتجد ذلك واضحاً وملموساً في كتابه العظيم منهاج السنة النبوية، فقد أولى شيخ الإسلام

(1)

منهاج السنة النبوية (1/ 101 - 103).

(2)

انظر: زهر الربيع لنعمة الله الجزائري (ص: 12)، ودايع النبوة لهادي الطهراني (ص: 114)، نقلاً عن أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية - عرض ونقد - (2/ 656).

(3)

هو أبو جعفر، محمد بن يعقوب بن إسحاق، أبو جعفر الكليني، رافضي إمامي، له مصنفات منها:(الكافي في علم الدين)، (رسائل الأئمة) وغيرها، (ت: 329 هـ). انظر: السير (15/ 280) الوافي بالوفيات (5/ 226).

(4)

انظر: أصول الكافي (2/ 18).

(5)

منهاج السنة النبوية (1/ 73).

ص: 445

هذه المسألة غاية الاهتمام، وبين بمختلف الأدلة العقلية والنقلية بطلانها وعدم صحتها، وكما يُلاحظُ في مناظرته هذه للشيخ الرافضي، فقد بين له طريقة الرافضة في تقرير هذه العقيدة ومسلكهم في ذلك، ثم بين فساد ما توصلوا إليه في تقرير هذه العقيدة.

وسأقوم في دراستي لهذه المناظرة ببيان وتوضيح ما ذكره رحمه الله في أصل الشبهة عندهم، ثم ذكر الرد عليها وتفنيد ما جاء فيها.

‌مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة

، وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

هذه الشبهة التي بنى عليها الرافضة عقيدتهم في الإمامة والتي ناقش فيها شيخ الإسلام هذا الشيخ الرافضي، مبنية على عدة أمور:

أولها: إيجاب اللطف من الله على عباده:

حيث يقرر الرافضة "أن الله أمر العباد، ونهاهم لينالوا به بعض مقاصدهم" فلذلك "يجب عليه أن يفعل أصلح ما يقدر عليه للعباد في دينهم ودنياهم"

(1)

، ويجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الصلاح والإتيان بالمأمور وأبعد عن الفساد والوقوع في المحظور

(2)

.

وقد وضح شيخ الإسلام أثناء تقريره هذه المقدمة لهذا الشيخ الرافضي هذا الأمر بمثال يضربونه حول هذا الموضوع وهو "أن من دعا شخصاً ليأكل طعامه، فإذا كان مراده الأكل فعلَ ما يُعين على ذلك من الأسباب: كتلقيه بالبشر، وإجلاسه في مجلس يناسبه، وأمثال ذلك. وإن لم يكن مُراده أن يأكل عبس في وجهه، وأغلق الباب، ونحو ذلك"

(3)

.

(1)

منهاج السنة (7/ 408).

(2)

انظر: المصدر السابق (6/ 389).

(3)

المصدر السابق (1/ 101).

ص: 446

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله-أن هذه المسألة قد أخذوها من قول المعتزلة بوجوب الأصلح على الله

(1)

.

ثانيها: أن الإمام المعصوم من اللطف الواجب على الله:

يعتقد الرافضة أن من اللطف الواجب على الله لعباده وجود إمام معصوم يطيعه الناس في كل زمن ويتبعونه، وذلك أن الله إنما أمر الناس ونهاهم ليكونوا أقرب لرحمته وينالوا بهذا بعض مقاصدهم، ومن المعلوم أن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب، وينهاهم عن القبيح كانوا أقرب إلى فعل المأمور، وترك المحظور، و"أن الجماعة متى كان لهم رئيسٌ مَهيبٌ مطاعٌ مُتصرفٌ مُنبسطُ اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإذا لم يكن لهم رئيس وقع الهرج والمرج بينهم، وكانوا عن الصلاح أبعد، ومن الفساد أقرب"

(2)

، فتحصل أن وجوده من اللطف بالمكلفين واللطف بالعباد واجب على الله، فتكون الإمامة واجبة

(3)

.

واشترطوا في الإمام العصمة؛ لأن مقصود اللطف لا يحصل إلا بها، إذ لو لم يكن معصومًا لجازَ أن يأمر العباد بما يبعدهم من الله ولا يقربهم، وهذا خلاف اللطف والمصلحة المقصودة

(4)

.

ثالثها: هذا الإمام المعصوم الذي يجب الإيمان به هو علي بن أبي طالب والأئمة الاثني عشر بعده وآخرهم الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري.

وهذه هي النتيجة التي يتوصل لها الرافضة من خلال المقدمتين السابقتين، ويبنون عليها دينهم، فبعد أن قرروا وجوب الإمامة ووجوب كون الإمام معصوماً، قرروا أن هذا الأمر لا يتحقق إلا في علي ومن بعده؛ وذلك لأن

(1)

انظر: المصدر السابق (1/ 101)، (6/ 389).

(2)

منهاج السنة (6/ 388).

(3)

انظر: المصد السابق (1/ 101 - 102)، (6/ 388).

(4)

انظر المصدر السابق (1/ 102)(6/ 390).

ص: 447

المعصوم يجب أن يكون معلوماً بالنص، إذ لا طريق إلى العلم بالعصمة إلا النص.

ثم قالوا: ولا منصوص عليه بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي؛ لأنه ليس في الأمة من ادعى النص لغيره؛ فلو لم يكن هو منصوصاً عليه لزم إجماع الأمة على الباطل.

ثم قالوا: وعلي نص على الحسن، والحسن نص على الحسين إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن صاحب السرداب الغائب

(1)

.

هذا باختصار هو أصل شبهة الرافضة في هذا الباب كما بينه وقرره شيخ الإسلام رحمه الله وملخص هذه الشبهة هو:

أن اللطف واجب على الله، والإمامة لطف، ولا تكون لطفاً إلا إذا كان صاحبها معصوماً، ولم تدع العصمة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا لعلي؛ فتعين أن يكون هو الإمام ثم من نص عليه من بعده وهكذا إلى الإمام المنتظر صاحب السرداب.

وقد عرض شيخ الإسلام هذا التقرير على هذا الشيخ الرافضي فأقر به، واعترف أنه هو المسلك الذي يسلكه الرافضة في تقرير الإمامة.

‌الوجه الثاني: الجواب على الشبهة:

لم يشتغل شيخ الإسلام رحمه الله بمناقشة المقدمات والمسالك التي أوردها الرافضة لتقرير إمامة الاثني عشر، بل ذهب مباشرة للنتيجة التي يريدون الوصول إليها فاشتغل بنقضها وبيان بطلانها ومناقضتها لما قرروه من مقدمات، وإذا كانت المقدمة التي بنوا عليها قولهم ورأيهم تخالف وتناقض النتيجة التي توصلوا لها، فهذا دليل واضح على فساد هذا القول برمته، وبطلان هذا الاعتقاد من أصله.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تناقضهم في هذه المسألة؛ حيث أوجبوا الإمامة

(1)

انظر المصدر السابق (1/ 102)، الفتاوى الكبرى (6/ 500)، وانظر في ادعاءهم النص على استخلاف علي رضي الله عنه: مقالات الإسلاميين (ص:16)، الفرق بين الفرق (ص:340)، والفصل (4/ 76). ونص ابن كثير رحمه الله على أن أول من ابتدع هذه البدعة وهي النص على علي عبد الله بن سبأ، انظر: البداية والنهاية (7/ 167 - 168).

ص: 448

لما فيها من مصلحة ولطف، ثم نصوا على إمامة اثني عشر رجلاً لم يتحقق بإمامة بعضهم مصلحة ولا لطف، وتحقق بإمامة بعضهم مصلحة هي متحققة بإمامة غيره على وجه أكبر وأتم وأكمل.

ويكفي في بيان ذلك وتوضيحه حال إمامهم الغائب المزعوم، الذي هو إمام الزمان منذ مئات السنين؛ فإنه لم تتحقق بإمامته أي مصلحة وأي لطف بالعباد، وذلك يتبين من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا الإمام الذي يوجبون على الخلق تصديقه والإيمان به، غائب بل مفقود منذ مئات السنين، لم يُرَ لهُ أثر ولم يُسمع لهُ خبر، ولا عُرِفَ لهُ أمرٌ ولا نهي، فأي فائدة في الإيمان بمثل هذا، وأي مصلحة وأي لطف يحصل لنا مع غيبته عنا؟!

(1)

.

فإن قالوا: أن اللطف حاصل في حال غيابه كما هو حاصل في حال ظهوره.

فيقال: إذاً فلا حاجة لظهوره، ولا فائدة من ذلك؛ لأن اللطف الذي هو المقصود من الإمامة متحققٌ حتى مع غيابه، وهذا ما لا يرتضونه أبدا

(2)

.

الوجه الثاني: أن وجود مثل هذا الإمام المعصوم، على مثل هذه الصورة، هو في الحقيقة شر وضررٌ على أهل الأرض، ولا نفعَ فيه ولا لُطف، وذلك لأمرين اثنين:

الأول: أن المؤمنين به وبإمامته لم ينتفعوا به، ولم يحصل لهم بإثبات إمامته أخذ حق ولا ردع باطل، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولا حصل لهم شيء من المصلحة واللطف، ولم يظهر لطائفته إلا الانتظار، ودوام الحسرة والألم، ومعاداة العالم بلا جدوى.

الثاني: أن المكذبين به يعذبون على تكذيبهم به كما يعتقد الإمامية.

(1)

انظر: منهاج السنة (1/ 103)، (3/ 378).

(2)

انظر: المصدر السابق (6/ 389).

ص: 449

فظهر بهذا وذاك أن مثل هذا الإمام شر محض، لا خير فيه ولا لطف ولا مصلحة لموافق ولا لمخالف، فمن خالفه صار مرتداً كافراً مستحقاً للعذاب، ومن وافقه صار ذليلاً مقهورًا لا يد له ولا سلطان؛ فأي لطف يحصل بمثل هذا الإمام؟!

(1)

الوجه الثالث: أن الأمر بطاعة إمام حاله كهذه الحال هو في الحقيقة من التكليف بما لا يطاق، وليس من اللطف بشيء، والرافضة من أشد الناس إنكاراً للتكليف بما لا يطاق، وهذا يدل على عظيم تناقضهم وضلالهم فيما يقررون، فكيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص لم نره، ولم نسمعه، ولم نعرف له أمراً ولا نهياً، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه؟!

(2)

الوجه الرابع: أن المقصود بالإمام إنما هو طاعة أمره، وكيف يكون ذلك ونحن لانعرف أمره ولا نهيه، فإذا كان العلم بأمره ممتنعاً؛ كانت طاعته وهي المقصودة منه ممتنعة، وإذا كان المقصود منه ممتنعًا لم يكن في إثبات الوسيلة وهي الإمامة فائدة أصلاً؛ بل إن إثبات الوسيلة التي لا يحصل بها مقصودها سفه وعبث

(3)

.

الوجه الخامس: أن الذين كذبوا بهذا الإمام المنتظر لم تَفُتْهُم مصلحة في الدين ولا في الدنيا، بل كانوا أقوم بمصالح الدين والدنيا من أتباعه الذين آمنوا به ولم يحصل لهم به مصلحة في الدين ولا في الدنيا

(4)

.

وأما قولهم: «أن الجماعة إذا كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد» ولذلك أوجبوا الإمامة، فهذا أيضا كتناقضهم الأول ويلزم منه بطلان إمامة الاثني عشر عموماً، وإمامة

(1)

انظر: المصدر السابق (4/ 90) و (7/ 408).

(2)

انظر: منهاج السنة (1/ 102)، والفتاوى الكبرى (6/ 500)

(3)

انظر: المصدر السابق (1/ 90).

(4)

انظر: المصدر السابق (1/ 91).

ص: 450

الغائب المنتظر منهم خصوصاً.

أما بالنسبة للأئمة الاثني عشر عموماً: فلأنه من المعلوم أنه لم يكن أحد منهم بهذه الصفة من انبساط اليد والتصرف إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فقد كان بيده شيء من هذا التصرف، ومع ذلك فعلي رضي الله عنه لم يكن تصرفه وانبساط يده في خلافته كتصرف من قبله من الأئمة، فلو كانت العبرة بهذا للزم أن يكونوا هم أولى بالإمامة منه، وهذا ما لا تقوله الرافضة

(1)

.

"ومن المعلوم أيضا بالضرورة أن حال اللطف والمصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة، أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في زمن خلافة علي زمن القتال والفتنة والافتراق"

(2)

؛ فإما أن يكون اللطف والمصلحة التي يدعونها في الأئمة المعصومين باطلة قطعا، وإما أن يكون هؤلاء الأئمة ليسوا بمعصومين ولا بمنصوصٍ عليهم

(3)

.

وأما بالنسبة للإمام الغائب المنتظر: فيقال: كيف يتحقق مثل هذا الوصف فيه مع غيبته عنهم؟ وأي طاعة، وأي هيبة له وأي تصرف له وهو غائب غير موجود؟!

وعندما يعلم الشخص بغياب هذا الإمام منذ مئات السنين وعدم ظهوره يكون هذا داعيًا له للفساد والإفساد لا للصلاح والإصلاح.

فإن الناس إذا عرفوا أنه غائب منذ مئات السنين، وأنه لم يعاقب أحدا ولم يُثب أحدًا؛ بل هو خائفٌ على نفسه، لا يُمكنه الظهور، فضلاً عن التصرف وإقامة الحدود، فكيف يهابه الناس ويمتثلوا أمره؟! بل إن مثل هذا مما يجعل الناس يقدمون على فعل القبائح وارتكاب المنكرات لاسيما مع طول الزمان، وهو لم يعاقب أحدا على منكر فعله، ولم يُثب أحدًا على خير فعله

(4)

.

(1)

انظر: منهاج السنة النبوية (6/ 390).

(2)

انظر: المصدر السابق (3/ 379)

(3)

انظر: المصدر السابق (3/ 379).

(4)

انظر: المصدر السابق (6/ 393).

ص: 451

فإن قالوا: إن المؤمن به يخاف من ظهوره ومعاقبته له على ذنوبه.

قيل: فإن خوف الناس من عقوبة ولاة أمرهم الحاضرين، أعظم من خوف هؤلاء من هذا الغائب، فاللطف الحاصل بهم أعظم من اللطف المُدَّعى في إمامهم الغائب!

(1)

بل هؤلاء مع ذنوبهم وظلمهم فإن الشرع يُقام بهم "أضعافَ ما يقام بمن يظهر بعد كل مدة، فضلا عمن هو مفقود يعلم جمهور العقلاء أنه لا وجود له، والمُقِرون به يعلمون أنه عاجز خائف، لم يفعل قط ما يفعله آحاد الناس، فضلا عن ولاة أمورهم"

(2)

.

وأما قولهم: إن علياً رضي الله عنه هو الإمام المنصوص عليه؛ لأنه لا منصوص عليه بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي؛ حيث إنه ليس في الأمة من ادعى النص لغيره؛ فلو لم يكن هو منصوصاً عليه لزم إجماع الأمة على الباطل.

فالجواب عليه من وجوه:

أولاً: أن هذه مجرد دعوى لا برهان عليها، وإجماعهم الذي يسمونه إجماع الطائفة المحقة لا يصح حتى يثبت أنهم الطائفة المحقة، ولا يثبت هذا حتى يثبت الإمام المعصوم الذي يدعونه، وقد تبين تناقضهم فيه وبطلان تقريرهم له

(3)

.

ثانياً: لا نُسلم أن أحداً من الأمة لم يدّع النص لغير علي؛ بل طوائف من أهل السنة يقولون: إن خلافة أبي بكر ثبتت بالنص. ثم منهم من يقول: بنص جلي. ومنهم من يقول: بنص خفي. وأيضاً فالرواندية

(4)

تدعي النص على العباس، وغيرهم يدعون ذلك أيضاً، فبطل بهذا ما قرروه من عدم ادعاء أحد

(1)

انظر: المصدر السابق (6/ 393).

(2)

منهاج السنة النبوية (6/ 393).

(3)

انظر: الفتاوى الكبرى (6/ 500).

(4)

الرواندية أو الراوندية: فرقة تنسب إلى أبي الحسين أحمد بن يَحْيَى بن إسحاق الراوندي، فيلسوف مجاهر بالإلحاد، طعن في القرآن الكريم، وادعوا إمامة العباس بن عبد المطلب. انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 94)، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص: 63)، الفصل لابن حزم (4/ 154).

ص: 452

العصمة إلا لعلي رضي الله عنه

(1)

.

ثالثاً: أن الشيعة أنفسهم ممن يدعون النص لعلي رضي الله عنه مختلفون في النص على من بعده من ولده اختلافاً كثيراً.

فلا يمكن للإمامية أن يقولوا: إنه لم يَدّعِ أحدٌ النص على واحد بعد واحد، إلا ما ادعوه في المنتظر وفيمن قبله، بل إخوانهم الشيعة يدَّعون دعاوى مثل دعاويهم

(2)

.

رابعاً: لو فُرِضَ أنه لم يدع النص غيرهم، فلا نسلم بما ذكروه من نص على إمامة علي رضي الله عنه، وإنما هو كذب افتروه، وقياس وضعوه، ثم زعموا أن ما ابتدعوه وافتروه إجماع يقتضي ثبوت ذلك وهذا في غاية الضلال

(3)

.

وبهذا كله يتبين ضعف حجة القوم، وخواء جعبتهم، وتناقضهم في عقيدتهم، فإذا كان هذا حال أصلهم الأصيل الذي بنوا عليه معتقدهم، فما بالك بما دون ذلك من أصولهم وعقائدهم؟!

* * *

(1)

انظر: الفتاوى الكبرى (6/ 500).

(2)

انظر: المصدر السابق (6/ 500).

(3)

انظر: المصدر السابق (6/ 500 - 501).

ص: 453

‌ملحق

•‌

‌ مناظرته مع مقدم المغل بولاي في يزيد بن معاوية، ومحبة أهل البيت:

في هذه المناظرة التقى شيخ الإسلام بمقدم التتر بولاي والذي يبدو بوضوح تأثره بمذهب الشيعة الرافضة الذين كان لهم دور بارز في دعم ومساندة المغول والتتار في حربهم ضد الإسلام والمسلمين، حتى أن أحد ملوكهم وهو محمد بن أرغون (خدابنده) اعتنق دين الرافضة بتأثير من ابن مطهر الحلي ونشر التشيع وأسقط اسماء الخلفاء الراشدين من الخطب والجوامع غير اسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد بين له شيخ الإسلام كذب ما يشاع عن أهل دمشق من أنهم نواصب، وأنهم يبغضون أهل البيت، وبين له الموقف الصحيح تجاه يزيد بن معاوية وأمثاله.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وأما جواز الدعاء للرجل وعليه فبسط هذه المسألة في الجنائز، فإن موتى المسلمين يصلي عليهم برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأولى أوسط وأعدل

(1)

، وبذلك أجبت مقدم المغل بولاي

(2)

، لما قدموا دمشق في الفتنة

(1)

انظر: التفصيل في حكم اللعن في جامع المسائل: (7/ 298) المنهاج (4/ 569) مجموع الفتاوى (6/ 511).

(2)

بولاي أحد مقدمي التتار الذين حضروا مع غازان، اسمه على الصحيح مولاي وإنما الناس يحرفونه تهكماً به، وهو ممن عاثوا في الأرض فساداً ونهب البلاد وخربها، وخلفه غازان على المقاتلين بعد مغادراته البلاد، قتله الملك خدابنده بعد أن بلغه عنه كلام كثير (ت:707 هـ). انظر: كنز الدرر (9/ 150) أعيان العصر (2/ 71) والبداية والنهاية (14/ 12).

ص: 454

الكبيرة

(1)

، وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات

(2)

، فسألني فيما سألني: ما تقول في يزيد

(3)

؟ فقلت: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحاً فنحبه، ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه.

فقال: أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالماً؟ أما قتل الحسين؟

فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون كالحجاج بن يوسف

(4)

وأمثاله: نقول كما قال الله في القرآن: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود:18] ولا نحب أن نلعن أحداً بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن.

وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً

(5)

.

قال: فما تحبون أهل البيت؟

قلت: محبتهم عندنا فرض واجب، يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح

(1)

وذلك سنة 699 هـ.

(2)

وذلك في الثاني من رجب سنة 699 هـ، قال ابن كثر:"وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد". البداية والنهاية (14/ 12 - 13).

(3)

يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي: ثاني ملوك الدولة الأموية في الشام ولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 60 هـ، وحدثت في عهد عدة وقعة الحرة ووقعة كربلاء وقُتل فيهما خلق من الفضلاء، (ت:64). انظر: تاريخ دمشق (65/ 394) تاريخ الإسلام (2/ 731).

(4)

الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي، أبو محمد: قائد، داهية، سفاك، خطيب. ولد ونشأ في الطائف، ولاه عبد الملك مكة والمدينة والطائف والعراق عشرين سنة. وبنى مدينة واسط (بين الكوفة والبصرة) وكان سفاكا سفاحا باتفاق معظم المؤرخين ومات بواسط (95 هـ). انظر: وفيات الأعيان (2/ 29) تاريخ الإسلام (2/ 1071).

(5)

صرفاً ولا عدلاً: قيل فريضة ولا نافلة، وقيل: توبة ولا فدية، وقيل غير ذلك انظر: شرح النووي على مسلم (9/ 141).

ص: 455

مسلم

(1)

عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعي خماً

(2)

، بين مكة والمدينة فقال " أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله " فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: "وعترتي

(3)

أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" قلت لمقدم: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"

(4)

قال مقدم: فمن يبغض أهل البيت؟

قلت: من أبغضهم فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.

ثم قلت للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد وهذا تتري؟

قال: قد قالوا له إن أهل دمشق نواصب.

قلت بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبياً ولو تنقص أحد علياً بدمشق لقام المسلمون عليه، لكن كان قديماً -لما كان بنو أمية ولاة البلاد- بعض بني أمية ينصب العداوة لعلي ويسبه، وأما اليوم فما بقي من أولئك أحد»

(5)

.

وقال أبو بكر بن أيبك: «وفي يوم الخميس توجه الشيخ تقي الدين ابن التيمية

(1)

رواه مسلم كتاب: فضائل الصحابة (2408).

(2)

موضع بين مكة والمدينة، يوجد مكانه شرق الجحفة، ويعرف اليوم «الغربة» ويقع شرق الجحفة على ثمانية أكيال. انظر: معجم البلدان (2/ 389) المعالم الأثيرة (208).

(3)

قال شيخ الإسلام: "العترة هم بنو هاشم كلهم: ولد العباس، وولد علي، وولد الحارث بن عبد المطلب، وسائر بني أبي طالب، وغيرهم، وعلي وحده ليس هو العترة، وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم". منهاج السنة النبوية (7/ 395).

(4)

هذا اللفظ رواه أحمد في المسند (1396) وأبو داوود (978) والترمذي (904) وابن ماجه (904).

(5)

مجموع الفتاوى (4/ 487 - 488).

ص: 456

إلى مخيم بولاي مقدم التتار يسأل المأسورين، وكانوا خلقًا كثيرًا. وتحدث بولاي في أمر يزيد بن معاوية مع الشيخ، وسأله: هل يجوز لعنته أم لا؟ ففهم الشيخ أن فيه موالاة، فكلمه بما لاق بخاطره بغير شيء يكره. فقال: هؤلاء أهل دمشق هم قتلة الحسين بن علي صلوات الله عليه. فقال له الشيخ: إنه لم يكن من أهل دمشق من حضر قتلة الحسين عليه السلام، وقتل عليه السلام بأرض كربلاء من العراق. فقال: صحيح، وكانوا بنو أمية خلفاء الدنيا، وكانوا يحبون سكنى الشام. فقال الشيخ: وماذا يلم من ذلك في قتلة الحسين، وهذه الشام ما برحت أرضًا مباركة ومحل الأولياء والصلحاء بعد الأنبياء صلوات الله عليهم. ولم يزل به حتى سكن غضبه على أهل الشأم. ثم ذكر للشيخ أن أصله مسلم من أهل خراسان. وجرى بينه وبين الشيخ كلام كثير»

(1)

.

* * *

(1)

كنز الدرر: (9/ 35 - 36).

ص: 457

الفصل الرابع:

مناظراته مع المتكلمين

واشتمل على سبعة مباحث:

المبحث الأول: مناظرته مع مجموعة من القضاة والعلماء حول العقيدة الواسطية بحضرة نائب السلطان.

المبحث الثاني: مناظرته مع بعض المؤولة للأسماء والصفات في بطلان التأويل وفي صفة اليد وغيرها من المسائل.

المبحث الثالث: مناظرته مع ابن المرحل في تعلق الصفات وهل الحب والبغض ونحوها من الصفات وجودية أم عدمية.

المبحث الرابع: مناظرته مع غير واحد من نفاة الصفات في مسألة الرؤية.

المبحث الخامس: مناظرته مع بعض من يدعي أن الله يتكلم بكلام لا معنى له.

المبحث السادس: مناظرته مع بعض المشغوفين بأهل الكلام في بطلان طريقتهم إما في الدلائل أو المسائل.

المبحث السابع: مناظرته مع بعض منكري العلو.

* * *

ص: 459

‌المبحث الأول: مناظرته مع مجموعة من القضاة والعلماء حول العقيدة الواسطية بحضرة نائب السلطان

واشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

لقد حظيت العقيدة الواسطية -التي صنفها شيخ الإسلام ابن تيمية -بمكانة رفيعة ومنزلة شريفة بين الكتب والمؤلفات التي صنفت في العقيدة الإسلامية، كيف لا؛ وهو المتن الذي تحدى صاحبهُ علماء عَصرهِ أن يأتوا بحرفٍ واحدٍ منهُ خالفهُ فردٌ واحدٌ من الصحابة، أو السلف الصالح أهل القرون المفضلة، فعجزوا عن أن يأتوا بحرف مُخالِف، أو بإمام يُخالف!

وقد امتاز هذا المتن بأن مصنفه هو أعلم أهل زمنه، وأخبر الناس في عصره بعقيدة أهل السنة وأصولهم وتقريراتهم، وقد جمع بين دفتي كتابه من أصول الاعتقاد الشيء الكبير الكثير، بأبسط عبارة، وأوجز إشارة، والتزم بأن يُبرهن على كل لفظ من ألفاظه بآية أو حديث أو إجماع سلفي، ولم يمضِ وقت قليل على تصنيفه حتى انتشرت نسخه وشاعت في الشام ومصر والعراق وغيرها من الأقطار، وأجمع علماء وقضاة وفقهاء بلاد الشام -الموافق منهم والمخالف- على قبول هذا الاعتقاد وصحته، وأنه معتقد سلفيٌ سنيٌ جيد.

ص: 461

هذا كله مع ما كان عليه شيخ الإسلام من جهاد عظيم، ونشر للمعتقد السليم، ورد على المنحرفين، مما استدعى غيظ الأعداء، وحسد الأقران، وعداوة أهل الأهواء، فما زالوا في مكرهم وسعايتهم به، حتى استطاعوا أن يصلوا إلى الأبواب السلطانية، فجاء أمر السلطان

(1)

من مصر إلى نائبه جمال الدين الأفرم في دمشق، بأن يعقد مجلساً لشيخ الإسلام يحضر فيه الفقهاء والقضاة والعلماء، يحاققه فيه عن معتقده، ويسأله عن عقيدته ومذهبه.

فعقد له نائب السلطنة، مجالس ثلاثة

(2)

، ناظره فيها علماء عصره، وفقهاء وقته، حول هذا المتن العظيم متن العقيدة الواسطية، وجرت في هذه المجالس مباحث كثيرة وحوارات عديدة، أظهر الله فيها من قيام الحجة، ورفع راية السنة، وقمع أهل البدعة والفتنة، وبروز علم شيخ الإسلام وحسن فقههِ وفهمهِ، الشيء العظيم الجليل.

(1)

هو السلطان محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي، سبقت ترجمته (ص:59).

(2)

المجلس الأول: يوم الاثنين الثامن من شهر رجب سنة 705 هـ، واستمر من الضحى إلى قريب العصر، وذكر ابن حجر في الدرر الكامنة وتبعه الشوكاني أنه في السابع من رجب، والصواب أنه في الثامن منه كما ذكر ذلك شيخ الإسلام نفسه، ونص عليه بقية من حكى هذه الواقعة من العلماء.

المجلس الثاني: يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب في السنة نفسها، بعد صلاة الجمعة، كما نص على ذلك شيخ الإسلام وجميع المترجمين، إلا أن صاحب (كنز الدرر) وهم في ذلك فجعله في الثامن عشر من رجب.

المجلس الثالث: وقد اختلفت الروايات في يوم وقوعه، فذكر ابن كثير وابن عبد الهادي أنه في السابع من شهر شعبان في السنة المذكورة، وذكر قطب الدين اليونيني صاحب (ذيل مرآة الزمان) وابن أيبك وشهاب الدين النويري وابن حجر أنها كانت في سلخ رجب أي في آخره، وذكر المقريزي أنها في التاسع من شعبان وما ذكره بعيد؛ لأنه انفرد به وهو متأخر لم يعاصر شيخ الإسلام، فيبقى الخلاف بين القولين السابقين، ويصعب الترجيح بينهما، خصوصاً أن شيخ الإسلام لم يذكر في موعد هذا المجلس شيئاً، بخلاف ما ذكره في المجلسين السابقين، والرواية الأولى رواتها أوثق، والرواية الثانية رواتها أقدم، وهي أيضاً أقرب زمناً إلى المجلسين السابقين؛ إذ هي في شهر رجب نفسه، والله أعلم.

ص: 462

ولِعِظَمِ هذه الحادثة وكبير شأنها، لا تكاد تجد مصنفاً في ترجمة شيخ الإسلام أو في حوادث ذلك الزمان يخلو من ذكرها أو الإشارة إلى ما وقع فيها، ويمكن إجمال الروايات التي كتبت في هذه الواقعة في سبع روايات:

الرواية الأولى: وهي أجمعُ الروايات وأشملها وأطولها، جاءت ضمن مجموع الفتاوى (3/ 160 - 193)، من حكاية شيخ الإسلام نفسه.

الرواية الثانية: رواية أخرى يحكيها الشيخ نفسه، نقلها ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص: 222 - 264) وهي قريبة من الرواية الأولى، ويبدو أنها منقولة منها بنصها إلا أن الناقل قام باختصارها، وحذْفِ بعض العبارات، والاستغناء عن بعض الفقرات، وقد استفدت منها في تصويب كثير من الكلمات التي كانت محل إشكال في الرواية الأولى.

الرواية الثالثة: رواية ثالثة من حكاية الشيخ نفسه، جاءت ضمن جامع المسائل (8/ 181 - 198)، وهي أصغر من الروايتين السابقتين، إلا أن فيها زيادات ومباحث لا توجد فيهما.

الرواية الرابعة: رواية الشيخ علم الدين البرزالي، جاءت ضمن مجموع الفتاوى (3/ 194 - 201)، وهي كالملخص لرواية الشيخ المذكورة ضمن مجموع الفتاوى.

الرواية الخامسة: رواية الشيخ شرف الدين عبد الله بن تيمية أخي شيخ الإسلام -رحمهما الله-، وهي ضمن مجموع الفتاوى (3/ 202 - 210)، وهي رواية مختصرة وفيها زيادات قليلة، ولكنها مهمة.

الرواية السادسة: ما جاء متفرقاً في بعض رسائل الشيخ وفتاويه، من ذكر بعض الأحداث التي وقعت في المناظرة، كما في مجموع الفتاوى (3/ 218، 224 - 231، 244)(6/ 15 - 17).

الرواية السابعة: الروايات الموجودة ضمن كتب التاريخ والتراجم، وهي كثيرة جداً، وغالبها يذكر مجمل الأحداث، ولا يذكر شيئاً من تفاصيلها، كرواية

ص: 463

ابن كثير، والذهبي، وابن عبد الهادي، وابن رجب، والمقريزي

(1)

، وشهاب الدين النويري

(2)

، وقطب الدين اليونيني

(3)

، وابن أيبك

(4)

، وابن حجر والشوكاني، وغيرهم.

وقد اعتمدت في ذكر نص المناظرة على الرواية الأولى التي جاءت ضمن مجموع الفتاوى؛ لأنها أوسع الروايات وأشهرها، وأكثرها شمولاً للأحداث التي جرت، ثم قمت بإضافة الزيادات المذكورة في غيرها من الروايات، وجعلتها بين معكوفتين، واجتهدت بوضعها في المكان المناسب ضمن المناظرة

(5)

، مع الإحالة في الحاشية إلى مصدر كل زيادة، محاولاً بذلك أن يكون النص المذكور جامعاً لكل ما ورد في هذه المناظرة برواياتها المتفاوتة ومصادرها المختلفة، بحيث يستغني القارئ بالرواية المذكورة عن الرجوع إلى الروايات والمصادر الأخرى، والله ولي التوفيق.

(1)

هو أحمد بن علي بن عبد القادر أبو العباس الحسيني، تقي الدين المقريزي، مؤرخ الديار المصرية، ولد ونشأ ومات في القاهرة، له "المواعظ والاعتبار" و"السلوك في معرفة دول الملوك" (ت: 845 هـ) انظر: البدر الطالع (1/ 79) والأعلام (1/ 178).

(2)

هو أحمد بن عبد الوهاب بن محمد شهاب الدين النويري عالم غزير الاطلاع أوكله لبعض أموره، وتقلب في الخدم الديوانية، له "نهاية الأرب في فنون الأدب" (ت: 733 هـ). انظر: أعيان العصر (1/ 281) الدرر الكامنة (1/ 231).

(3)

هو موسى بن محمد بن أبي الحسين أحمد اليونيني قطب الدين، أبو الفتح، صار شيخ بعلبكّ بعد وفاة أخيه، وكان مؤرخاً فاضلاً مليح المحاضرة، له "مختصر مرآة الزمان" و"ذيل مرآة الزمان" (ت: 726 هـ). انظر: أعيان العصر (5/ 686) والدرر الكامنة (6/ 147).

(4)

هو أبو بكر بن عبد الله بن أيبك، صاحب صرخد، المعروف بابن الدواداريّ، مؤرخ، من كبارهم.

مولده ومنشأه في القاهرة، وانتقل إلى دمشق سنة 710 هـ فعكف على الأدب والتصنيف، له "كنز الدرر وجامع الغرر" و"درر التيجان وغرر تواريخ الزمان" (ت: بعد 736 هـ). انظر: كنز الدرر (2/ 539) الأعلام للزركلي (2/ 66).

(5)

وقد أجعلها في الحاشية ولا أذكرها ضمن الأصل حسب ما يقتضيه الحال.

ص: 464

• نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-:

«بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهير له ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله إلى الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وعلى سائر عباد الله الصالحين.

أما بعد: فقد سُئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة في أمر الاعتقاد [بالقصر الأبلق]

(1)

؛ بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد [جمال الدين الأفرم]

(2)

؛ لما سعى إليه قوم من الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد

(3)

؛

(1)

زيادة من ذيل مرآة الزمان، لقطب الدين اليونيني الحنبلي (726 هـ) ضمن تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص:18) وانظر: كنز الدرر ضمن الجامع نفسه (ص:228).

والقصر الأبلق: أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في شعبان سنة 713 هـ، وهذا القصر يشرف على إصطبل الملك. انظر: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (3/ 366).

(2)

زيادة من كنز الدرر وجامع الغرر لأبي بكر بن أيبك (736 هـ) ضمن الجامع لسيرة الشيخ (ص:228). وانظر: نبذة من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية للحافظ الذهبي ضمن: تكملة الجامع (ص:45). وانظر: تاريخ الإسلام (15/ 809).

(3)

قال ابن كثير رحمه الله: «وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك، كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه، وذلك أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يتكلم في المنبجبي، وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي، وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له ومحبتهم له وكثرة أتباعه وقيامه في الحق، وعلمه وعمله» البداية والنهاية (14/ 42). وقال تقي الدين المقريزي: «وكان قد ظهر الشَّيخ نصر الدين المنبجيّ بمصر، واستولى على أرباب الدولة حتَّى شاع أمره. قيل لابن تَيْمِيَّة: إِنَّه اتّحاديّ وإنَّه ينصر مذهب ابن العربيّ وابن سبعين. فكتب إِليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه، فتكلّم نصر المنبجيّ مع قضاة مصر في أمره، وقال: هذا مبتدعٌ، وأخاف على الناس من شَرّه! فحسّن القضاة للأمراء طلبه إِلى القاهرة، وأن يعقد له مجلس بدمشق، فلمّا كَانَ في يوم الاثنين ثامن شهر رجب، طُلب ابن تَيْمِيَّة والفقهاء إِلى القصر الأبلق عند الأفرم» . انظر: المقفى الكبير ضمن الجامع لسيرة الشيخ (ص:503).

ص: 465

فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة: قضاة المذاهب الأربعة، وغيرهم من نوابهم، والمفتين والمشايخ، ممن له حرمة وبه اعتداد، وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد

(1)

.

وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة، فقال لي: هذا المجلس عقد لك؛ فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك، وعما كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد. وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء وتتباحثون في ذلك.

فقلت: أما الاعتقاد: فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني؛ بل يؤخذ عن الله ورسوله وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم، وأما الكتب: فما كتبت إلى أحد كتاباً ابتداءً أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني: من أهل الديار المصرية وغيرهم، وكان قد بلغني أنه زُوِّرَ عليَّ كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير أستاذ دار السلطان يتضمن ذكر عقيدة

ص: 466

محرفة ولم أعلم بحقيقته؛ لكن علمت أنه مكذوب، وكان يرد علي من مصر وغيرها من يسألني عن مسائل في الاعتقاد وغيره فأجيبه بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.

فقال: نريد أن تكتب لنا عقيدتك. فقلت: اكتبوا. فأمر الشيخ كمال الدين: أن يكتب؛ وكتبت

(1)

له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر ومسائل الإيمان والوعيد والإمامة والتفضيل. وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة: الإيمان بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه أمر بالطاعة وأحبها ورضيها، ونهى عن المعصية وكرهها، والعبد فاعل حقيقة والله خالق فعله، وأن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص، وأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بالذنوب، ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحداً، وأن الخلفاء بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، (ومن قدم علياً على عثمان: فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار)

(2)

، وذكرت هذا أو نحوه؛ فإني الآن قد بعد عهدي ولم أحفظ لفظ ما أمليته؛ لكنه كتب إذ ذاك.

ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقواماً يكذبون عليَّ؛ كما قد كذبوا عليَّ غير مرة، وإن أمليتُ الاعتقاد من حفظي: ربما يقولون كتم بعضه، أو داهن ودارى؛ فأنا أُحضر عقيدة مكتوبة، من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر إلى

(1)

هكذا في العقود الدرية (ص:224) وفي المجموع (فكتب).

(2)

رويت هذه العبارة عن جمع من السلف كإبراهيم النخعي، وأيوب السختياني، والدارقطني، قال ابن كثير رحمه الله:«وهذا الكلام حق وصدق وصحيح ومليح» . انظر: فضائل الصحابة لأحمد (1/ 249)، منهاج السنة (1/ 166)، (4/ 202)، مجموع الفتاوى (4/ 428)، البداية والنهاية (8/ 13)، الباعث الحثيث (ص: 183).

ص: 467

الشام

(1)

. وقلت قبل حضورها كلاماً قد بعد عهدي به وغضبت غضباً شديداً؛ لكني أذكر أني قلت: أنا أعلم أن أقواماً كذبوا علي، وقالوا للسلطان أشياء

(2)

، وتكلمت بكلام احتجت إليه؛ مثل أن قلت: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري؟! ومن الذي أوضح دلائله وبينه؟! وجاهد أعداءه وأقامه لما مال؟! حين تخلى عنه كل أحد؛ ولا أحد ينطق بحجته ولا أحد يجاهد عنه وقمت مظهراً لحجته مجاهداً عنه مرغباً فيه، فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام فيَّ، فكيف يصنعون بغيري؟! ولو أن يهودياً طلب من السلطان الإنصاف: لوجب عليه أن ينصفه، وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو، بل قد أطلب الإنصاف منه، وأن يُحضر هؤلاء الذين يكذبون؛ ليُحاققوا

(3)

على افترائهم، وقلت كلاماً أطول من هذا الجنس، لكن بَعُدَ عهدي به.

فأشار الأمير إلى كاتب الدرج

(4)

محيي الدين

(5)

: بأن يكتب ذلك. وقلت

(1)

وكان أول مجيء التتر إلى دمشق عام 699 هـ، وهذا المجلس كان عام 705 هـ، مما يفيد أن الواسطية ألفت في عام 698 هـ تقريباً، وهو العام الذي ألفت فيه الحموية أيضاً.

(2)

ومن ذلك ما قاله نصر المنبجي لابن مخلوف: «قل للأمراء بأن ابن تيمية يُخشى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب» انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص:322، 505، 544). ومنه أيضاً: الكتاب الذي زوره عليه بعض الصوفية سنة (702 هـ) وفيه: أنه يريد قلب الملك مع بعض العلماء والأمراء. انظر: الجامع لسيرته (ص:414) وتكملة الجامع (ص:9 - 10). ومنه ما ذكره أبو حفص البزار من قصته مع الملك عندما دعاه بسبب ما بلغه عنه من أن في نفسه أخذُ الملك، وتأليب الناس عليه. فقال له الشيخ: أنا أفعل ذلك؟! والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فلسين! انظر: الأعلام العلية (ص:783).

(3)

هكذا في بعض نسخ العقود الدرية (ص:267) وهو الأقرب للصواب، وفي بعض النسخ (ليحاقوا). وفي مجموع الفتاوى (ليوافقوا).

(4)

كاتب الدَّرْج: هو من يكتب الأحكام والفتاوى في الورق المسمى درجاً. انظر: تكملة المعاجم العربية (4/ 315 - 316).

(5)

هو أبو المعالي يحيى بن فضل الله العمري، وَلِي كتابة السر في دمشق إلى سنة (709 هـ) وكثر الثناء عليه، وتوفي (738 هـ). انظر: أعيان العصر (5/ 575) البداية والنهاية (18/ 406).

ص: 468

أيضاً: كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه! وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعده؟ لكنني قلت أيضاً بعد حضورها وقراءتها: ما ذكرت فيها فصلاً، إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف.

ثم أرسلت من أحضرها ومعها كراريس بخطي من المنزل فحضرت العقيدة الواسطية، وقلت لهم: هذه كان سبب كتابتها أنه قدم علي من أرض واسط

(1)

بعض قضاة نواحيها شيخ يقال له: رضي الدين الواسطي

(2)

من أصحاب الشافعي، قدم علينا حاجاً [من نحو عشر سنين]

(3)

، وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة؛ فخذ بعض عقائد أئمة السنة. فألح في السؤال وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت. فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر وقد انتشرت بها نسخ كثيرة؛ في مصر؛ والعراق؛ وغيرهما، [لئلا يستطيع أحد أن يغير بعض النسخ]

(4)

.

فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا؛ [لدفع]

(5)

الريبة وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين فقرأها على الحاضرين حرفاً حرفاً، والجماعة الحاضرون يسمعونها،

(1)

واسط بلدة في العراق، أنشأها الحجاج بن يوسف قُرب نهر دجلة لتكون عاصمة له، وسميت بذلك لأنها وسط بين الكوفة والبصرة والأحواز. انظر: معجم البلدان (5/ 348)، مراصد الاطلاع للبغدادي (3/ 1419).

(2)

رضي الدين الواسطي الشافعي، أحد قضاة واسط، كان من أهل الخير والدين، لم أقف له على ترجمة، إلا ما ذكره عنه شيخ الإسلام في هذا الموضع.

(3)

رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 203).

(4)

حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 183).

(5)

هكذا في العقود الدرية (ص:268) وهو الأقرب للصواب. وفي مجموع الفتاوى (لرفع).

ص: 469

ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء، والأمير أيضا يسأل عن مواضع فيها، وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف والهوى، ما قد علم الناس بعضه، وبعضه بسبب الاعتقاد، وبعضه بغير ذلك

(1)

.

ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات: في هذه المجالس فإنه كثير لا ينضبط؛ لكن أكتب ملخص ما حضرني من ذلك مع بعد العهد بذلك، ومع أنه كان يجري رفع أصوات ولغط

(2)

لا ينضبط.

فكان مما اعترض [عليه]

(3)

بعضهم لما ذُكِرَ في أولها: «ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل» .

فقال: ما المراد بالتحريف والتعطيل؟ ومقصوده أن هذا ينفي التأويل الذي أثبته أهل التأويل الذي هو: صرف اللفظ عن ظاهره، إما وجوباً وإما جوازاً.

فقلت: تحريف الكلم عن مواضعه كما ذمه الله تعالى في كتابه: وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى، مثل: تأويل بعض الجهمية

(4)

لقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، أي: جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً

(5)

! ومثل:

(1)

قال الشيخ عبد الله بن تيمية رحمه الله: «وفيهم من في قلبه على الشيخ ما لا يعلمه إلا الله، وكان ظنهم أنهم إذا تكلموا معه في هذا الكتاب أظهروا أنه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة» رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 204).

(2)

في العقود الدرية (ص:269)(ولفظٌ).

(3)

هكذا في العقود الدرية (ص:269) وهو الأقرب للصواب. وفي مجموع الفتاوى (عليَّ).

(4)

لم أقف على قائل معين ينسب له هذا القول، إلا أن صاحب كتاب (التفسير الحديث)، نسب هذا القول إلى الزمخشري (8/ 286)، وهذا خطأ منه على الزمخشري، فإنه كما في تفسير الكشاف أنكر هذه المقالة وجعلها من بدع التفاسير. انظر: تفسير الزمخشري (1/ 591).

(5)

في حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 184)، قال:«ينابيع الحكمة» ، والعبارة المشتهرة في كتب التفاسير وغيرها:«جرّح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن» انظر: تفسير الزمخشري (1/ 591)، تفسير الرازي (11/ 267)، البحر المحيط (4/ 139)، تفسير اللباب (7/ 136)، البرهان في علوم القرآن (2/ 393).

ص: 470

تأويلات القرامطة والباطنية

وغيرهم من: الجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم، فسكت -وفي [نفسه]

(1)

ما فيها.

وذكرت في غير هذا المجلس: أني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف؛ لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة، فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات؛ لأنه لفظ له عدة معان كما بينته في موضعه من القواعد؛ فإن معنى لفظ:(التأويل) في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين، من أهل الأصول والفقه وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف؛ [ولأن]

(2)

من المعاني التي قد تسمى تأويلا ما هو صحيح منقول عن بعض السلف؛ فلم أنف ما تقوم الحجة على صحته فإذا ما قامت الحجة على صحته وهو منقول عن السلف: فليس من التحريف.

وقلت له أيضاً: ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه؛ لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقال:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وكان أحب إلي من لفظٍ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله، وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح كما قد يعنى به معنى فاسد.

ولما ذكرت: أنهم «لا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته» ، جعل بعض الحاضرين يتمعض من ذلك؛ لاستشعاره ما في ذلك من الرد الظاهر عليه؛ ولكن لم يتوجه له ما يقوله، وأراد أن يدور بالأسئلة التي أعلمها، فلم يتمكن لعلمه بالجواب.

ولما ذكرت: آية الكرسي، أظنه سأل الأمير عن قولنا: «لا يقربه شيطان حتى

(1)

هكذا في العقود الدرية (ص:270) وهو الأقرب للصواب. وفي مجموع الفتاوى (نفسي).

(2)

هكذا في العقود لدرية (ص:270) وهو الأقرب للصواب، وفي مجموع الفتاوى (لأن).

ص: 471

يصبح»

(1)

، فذكرت: حديث أبي هريرة في الذي كان يسرق صدقة الفطر، وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه

(2)

.

وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم، ويطنبون في هذا ويعرضون لما

(3)

ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك. فقلت: قولي «من غير تكييف ولا تمثيل» : ينفي كل باطل وإنما اخترت هذين الاسمين؛ لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف كما قال ربيعة

(4)

، ومالك، وابن عيينة

(5)

وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)

(6)

، فاتفق هؤلاء السلف: على أن التكييف

(7)

غير معلوم لنا فنفيت ذلك اتباعاً لسلف الأمة. وهو أيضا منفي بالنص فإن تأويل آيات الصفات، يدخل فيها حقيقة الموصوف وحقيقة صفاته، وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، كما قد

(1)

المراد قوله في الواسطية بعد ذكر آية الكرسي: «ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح» .

(2)

رواه البخاري كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئا فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز. (2311).

(3)

في العقود الدرية (بما)(ص:272).

(4)

هو أبو عبد الرحمن ربيعة بن أبى عبد الرحمن فروخ القرشي التيمي، المدني المعروف بربيعة الرأي، من صغار التابعين، ثقة فقيه المدينة، (ت: 136 هـ). انظر: تاريخ البخاري (2/ 286)، تاريخ بغداد (8/ 420)، السير (6/ 89).

(5)

هو أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبى عمران: ميمون الهلالي الكوفي المكي، من الوسطى من أتباع التابعين، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، كان أثبت الناس في عمرو بن دينار، (ت: 198 هـ). انظر: التاريخ الكبير (4/ 94)، السير (8/ 454).

(6)

أخرجه الدارمي في الردّ على الجهميّة (ص:55، 56)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 304)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 325، 326)، والصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص:38)، وابن عبد البر في التمهيد (7/ 151)، وغيرهم من طرق مختلفة. وانظر تخريجه موسعاً في:(الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء) أ. د عبدالرزاق البدر.

(7)

في العقود الدرية (الكيف)(ص:272).

ص: 472

قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في "التأويل والمعنى، والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله"، وكذلك التمثيل: منفي بالنص والإجماع القديم مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف، إذ كنه الباري غير معلوم للبشر، وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي

(1)

[وأبو بكر الخطيب

(2)

، وغيرهما أن

(1)

هو حَمْدُ بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي -نسبة إلى عمر، أو زيد بن الخطاب رضي الله عنهما، الشافعي، صاحب التصانيف، إمام علامة، لغوي، (ت: 388 هـ). السير (17/ 23)، طبقات الشافعية (3/ 282).

والمقصود كلامه في كتابه: (الغنية عن الكلام وأهله) حيث قال: «فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها

والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى في ذلك حذوه وأمثاله، فإذا كان معلومًا أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول إنما وجب إثبات الصفات لأن التوقف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات». انظر: الحموية (ص: 362 - 365) والعرش للذهبي (2/ 458 - 459).

(2)

سبقت ترجمته، والمقصود من كلامه ما رواه الذهبي بسنده عن الخطيب البغدادي رحمه الله قال:«أما الكلام في الصفات، فأما ما روي منها في السنن الصحاح، فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيف والتشبيه عنها، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ونحتذي في ذلك حذوه ومثاله، وإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، فإنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ولا نقول: إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح وأدوات الفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]» . العرش للذهبي (2/ 457).

ص: 473

مذهب السلف]

(1)

هو إجراء آيات الصفات وأحاديث الصفات على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، إذ الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات، إثبات وجود لا إثبات تكييف فكذلك إثبات الصفات، إثبات وجود لا إثبات تكييف، [فلا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا أنَّ معنى السمع العلم، ولا نُشبِّهها بأيدي المخلوقين وأسماعهم ونجعلُها جوارحَ وأدواتٍ للفعل]

(2)

.

فقال أحد كبار المخالفين

(3)

: فحينئذ يجوز أن يقال: هو جسم لا كالأجسام. فقلت له أنا وبعض الفضلاء الحاضرين: إنما قيل إنه يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال، [وأول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي

(4)

(5)

.

وأخذ بعض القضاة الحاضرين والمعروفين بالديانة: يريد إظهار أن ينفي عنا ما يقول وينسبه البعض إلينا، فجعل يزيد في المبالغة في نفي التشبيه والتجسيم.

فقلت: ذكرت فيها في غير موضع «من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل» ، وقلت في صدرها:«ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل» ثم قلت: «وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك» إلى أن قلت: «إلى

(1)

زيادة من (حكاية المناظرة في الواسطية) ضمن جامع المسائل (8/ 187).

(2)

زيادة من (حكاية المناظرة في الواسطية) ضمن جامع المسائل (8/ 187).

(3)

في نسخة للعقود الدرية (كبار المجلس).

(4)

هو هشام بن الحكم الكُوفيُّ، الرافضي الخزاز الضال المشبّه، أحد رؤوس الرفض والجدل، ومن متكلمي الشيعة الحذاق، وكان شيخ الإمامية في وقته، وصنف كتبا منها " الإمامة " و " القدر " (ت:230 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (5/ 717)، الفهرست لابن النديم (ص: 223) الأعلام للزركلي (8/ 85).

(5)

رواية الشيخ علم الدين البرازلي للمناظرة الواسطية مجموع الفتاوى (3/ 196).

ص: 474

أمثال هذه الأحاديث الصحاح التي يخبر فيها رسول الله بما يخبر به؛ فإن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط

(1)

في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وبين أهل التمثيل المشبهة».

ولما رأى هذا الحاكم العدل ممالأتهم وتعصبهم، ورأى قلة العارف الناصر وخافهم، قال: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول

(2)

هذا اعتقاد أحمد: يعني والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، فإن هذا مذهب متبوع، وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم.

فقلت: ما جمعت

(3)

إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال أحمد

(4)

من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة محمد عليه الصلاة والسلام.

وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:(خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) يخالف ما ذكرته، فأنا أرجع عن ذلك وعلي أن آتي بنقول جميع الطوائف عن

(5)

القرون الثلاثة توافق ما ذكرته: من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والصوفية، وغيرهم، [وقلتُ: من أنكر من ذلك

(1)

في العقود الدرية (الوسط)(ص:274).

(2)

في العقود الدرية (فنقول)(ص:275).

(3)

في العقود الدرية (ما خرجت)(ص:275).

(4)

في العقود الدرية (أحد)(ص:275).

(5)

في العقود الدرية (من)(ص:276).

ص: 475

شيئًا فليكتُب خطَّه بما ينكره، ولينقلْ ذلك عن سلف الأمة، ويذكر مستنده، أو ليكتبْ عقيدةً تُناقض هذه، وتُعرَضُ الثنتانِ على سلطان المسلمين]

(1)

.

وقلت أيضاً: في غير هذا المجلس: الإمام أحمد رحمه الله لما انتهى إليه من السنة ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما انتهى إلى غيره، وابتلي بالمحنة والرد على أهل البدع أكثر من غيره، كان كلامه وعلمه في هذا الباب أكثر من غيره، فصار إماما في السنة أظهر من غيره، وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة -العلماء الصلحاء- قال:(المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد بن حنبل)

(2)

، يعني أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام، وإن كان لبعضهم من زيادة العلم والبيان وإظهار الحق ودفع الباطل، ما ليس لبعض.

ولما جاء فيها: «وما وصف به النبي ربه في الأحاديث الصحاح: التي تلقاها أهل العلم بالقبول

» ولما جاء حديث أبى سعيد المتفق عليه في الصحيحين

(3)

عن النبي - صلى الله عليه وسلم يقول الله يوم القيامة: (يا آدم فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثا إلى النار) الحديث. سألهم الأمير هل هذا الحديث صحيح؟ فقلت: نعم. هو في الصحيحين، ولم يخالف في ذلك أحد. واحتاج المنازع إلى الإقرار به، ووافق الجماعة على ذلك.

[فأخذ نائب المالكي يقول: أنت تقول: إن الله ينادي بصوت!

(1)

حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 192) وانظر أيضا: رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 206).

وقال في مجموع الفتاوى (3/ 244): «وقد قلت قبل ذلك بدمشق: هذه الإنكارات المجملة لا تفيد شيئاً، بل من أنكر شيئاً فليكتب خطه بما أنكره وبحجته، وأنا أكتب خطي بجواب ذلك ويرى أهل العلم والإيمان الكلامين، فهذا هو الطريق في الأمور العامة» .

(2)

ذكر الشيخ هذه العبارة في غير ما موضع من كتبه، ولم ينص على اسم قائلها، ولم أقف بعد البحث على صاحبها، انظر: منهاج السنة (2/ 365) درء التعارض (5/ 5).

(3)

رواه البخاري كتاب تفسير القرآن باب: {وترى الناس سكارى} (4741) ومسلم كتاب الإيمان (222).

ص: 476

فقال له الشيخ: هكذا قال نبيك إن كنت مؤمناً به، وهكذا قال محمد بن عبدالله إن كان رسولا عندك!]

(1)

.

[فقال آخر: الحديث (يُنادَى)؟ فقلتُ: أما غالبُ الرواة، فإنهم قالوا:«يُنادِي» ، وقد رواه بعضهم «يُنادَى» كما حكاه القاضي عياض

(2)

، ولا منافاة، فإن الروايتين الصحيحتين في الحديث كالقراءتين الصحيحتين في القراءات، فذلك مثل قوله:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47]، (وتُسَيَّرُ الجبالُ)

(3)

(4)

.

وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف والصوت؛ لأن ذلك طُلب منه. فقلت: هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه أن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلي، كما نقله مجد الدين ابن الخطيب

(5)

وغيره، كذب مفترى، لم يقل ذلك أحمد ولا أحد من علماء المسلمين، لا من أصحاب أحمد ولا غيرهم، [وفساد هذا معلوم بالحس]

(6)

[ولا يقوله عاقل]

(7)

، وأخرجت كراساً قد أحضرته مع العقيدة، فيه ألفاظ أحمد مما ذكره الشيخ أبوبكر الخلال

(8)

في كتاب السنة عن الإمام أحمد، وما جمعه صاحبه أبو بكر

(1)

رسالة عبد الله ابن تيمية في حكاية المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 209).

(2)

هو القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض البستي كان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم وصنف التصانيف المفيدة منها " الإكمال في شرح كتاب مسلم " و" مشارق الأنوار "(ت:544 هـ). انظر: وفيات الأعيان (3/ 483) والسير (20/ 212).

(3)

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (تُسَيَّرُ الجبالُ) بالتاء وقرأ الباقون {نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} بالنون. انظر: الحجة للقراء السبعة (5/ 151) حجة القراءات (ص:419).

(4)

حكاية المناظرة في الواسطية ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (8/ 198).

(5)

المقصود هنا الرازي، وهو فخر الدين بن الخطيب، وليس مجد الدين بن الخطيب فلعله وقع تصحيف هنا، وانظر: صيانة مجموع الفتاوى (ص: 255).

(6)

حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 184).

(7)

المصدر السابق (8/ 184).

(8)

هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي، المعروف بالخلال، الإمام العلامة الحافظ الفقيه شيخ الحنابلة وعالمهم، جامع علم الإمام أحمد، له مصنفات منها: الجامع في الفقه وكتاب العلل، وكتاب السنة والطبقات، وغيرها، (ت: 311 هـ). انظر: طبقات الحنابلة (2/ 12)، تذكرة الحفاظ (3/ 785).

ص: 477

المروذي

(1)

، من كلام الإمام أحمد وكلام أئمة زمانه وسائر أصحابه [في]

(2)

أن من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع

(3)

. قلت: وهذا هو الذي نقله الأشعري

(4)

في كتاب المقالات عن أهل السنة وأصحاب الحديث وقال: إنه يقول به

(5)

. قلت: فكيف بمن يقول: لفظي قديم؟! فكيف بمن يقول: صوتي غير مخلوق؟! فكيف بمن يقول: صوتي قديم؟! ونصوص الإمام أحمد في الفرق بين تكلم الله بصوت وبين صوت العبد كما نقله البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد وغيره من أئمة السنة

(6)

. وأحضرت جواب مسألة كنت سُئلت عنها قديماً [من نحو اثني عشر سنة]

(7)

، فيمن "حلف بالطلاق في مسألة الحرف والصوت ومسألة الظاهر في العرش"

(8)

، فذكرت من الجواب

(1)

هو أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز المروذي، شيخ بغداد، وأجل أصحاب الإمام أحمد، وممن يأنس به، روى عنه مسائل كثيرة، (ت: 275 هـ). انظر: طبقات الحنابلة (1/ 56)، تذكرة الحفاظ (2/ 631).

(2)

زيادة من العقود الدرية (283).

(3)

انظر: السنة لأبي بكر الخلال (3 - 63 - 117)، السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 163 - 164، 173)، مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود (ص:363)، مناقب الإمام أحمد (207 - 214).

(4)

هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سالم بن إسماعيل الأشعري، إليه ينتسب الأشاعرة، وقد مر بأطوار: حتى انتهى بطورٍ نَهجَ فيه منهج السلف مع بقاء بقايا من لوثة المتكلمين، له مؤلفات منها: مقالات الإسلاميين، الإبانة، وغيرها، (ت: 234 هـ). انظر: السير (15/ 85)، شذرات الذهب (2/ 303).

(5)

انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (ص:292).

(6)

انظر: خلق أفعال العباد (ص:62).

(7)

رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 206).

(8)

انظر الرسالة المشار إليها في مجموع الفتاوى (33/ 169 - 187). وانظر فتوى أخرى له في ذلك: (12/ 579 - 598).

ص: 478

القديم في هذه المسألة وتفصيل القول فيها، وأن إطلاق القول أن القرآن هو الحرف والصوت أو ليس بحرف ولا صوت، كلاهما بدعة حدثت بعد المائة الثالثة، [لم يتكلم الإمام أحمد ولا غيره من الأئمة بهذا التركيب نفياً ولا إثباتاً]

(1)

. وقلت: هذا جوابي.

وكانت هذه المسألة: قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة ممن كان بعضهم حاضراً في المجلس فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم، وكانوا قد ظنوا أني إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله، حصل مقصودهم من الشناعة، وإن أجبت بما يقولونه هم، حصل مقصودهم من الموافقة، فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة، وليس هو ما يقولونه هم، ولا ما ينقلونه عن أهل السنة، [أو قد]

(2)

يقوله بعض الجهال، بهتوا لذلك.

وفيه: أن القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه ليس القرآن اسماً لمجرد الحروف ولا لمجرد المعاني

(3)

.

وقلت في ضمن الكلام لصدر الدين بن الوكيل -لبيان كثرة تناقضه، وأنه لا يستقر على مقالة واحدة، وإنما يسعى في الفتن والتفريق بين المسلمين-: عندي عقيدة للشيخ أبي البيان

(4)

فيها: «أن من قال: إن حرفاً من القرآن مخلوق

(1)

حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 185).

(2)

هكذا في العقود الدرية (ص:279) وفي مجموع الفتاوى (إذ قد).

(3)

قال الشيخ في الواسطية: «وهو كلام الله؛ حروفه ومعانيه؛ ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف» . الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 144)

(4)

هو أبو محمد المعافى بن إسماعيل بن الحسين بن أبي السنان الشيباني الموصلي الشافعي، الملقب بجمال الدين، كان مفسراً عارفاً بالحديث والأدب وله «نهاية البيان في تفسير القرآن» «والكامل، والموجز» وكلاهما في الفقه، توفى بالموصل (ت: 630 هـ). انظر: تاريخ إربل (2/ 62)، معجم المؤلفين (12/ 301)، الأعلام للزركلي (2/ 896). والعقيدة التي أشار إليها شيخ الإسلام لم أقف عليها.

ص: 479

فقد كفر». وقد كتبت عليها بخطك: أن هذا مذهب الشافعي وأئمة أصحابه، وأنك تدين الله بها.

فاعترف بذلك، فأنكر عليه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني ذلك. فقال ابن الوكيل: هذا نص الشافعي. وراجعه في ذلك مراراً.

فلما اجتمعنا في المجلس الثاني: ذُكِرَ لابن الوكيل أن ابن درباس

(1)

نقل في كتاب (الانتصار)

(2)

عن الشافعي مثل ما نقلت.

فلما كان في المجلس الثالث: أعاد ابن الوكيل الكلام في ذلك. فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين بن الوكيل: قد قلت في ذلك المجلس للشيخ تقي الدين: إنَّه من قال: إن حرفاً من القرآن مخلوق فهو كافر، فأعاده مراراً فغضب هنا الشيخ كمال الدين غضباً شديداً ورفع صوته، وقال: هذا يكفر أصحابنا المتكلمين الأشعرية الذين يقولون: إن حروف القرآن مخلوقة، مثل إمام الحرمين

(3)

وغيره، وما نصبر على تكفير أصحابنا، فأنكر ابن الوكيل أنه قال ذلك. وقال: ما قلت

(1)

هو أبو عمرو عثمان بن عيسى بن درباس الماراني، ضياء الدين، من أعلم الشافعيين بالفقه في عصره، ولي القضاء بالديار المصرية سنة 566 هـ، له مصنفات منها: الاستقصاء لمذاهب الفقهاء، شرح للمهذب، شرح اللمع في أصول الفقه. (ت: 602 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (13/ 699) والوافي بالوفيات (19/ 331) وطبقات الشافعية الكبرى (8/ 337)، وابنه إبراهيم أحد العلماء المحدثين، وأخوه عبد الملك قاضي الديار المصرية، وكلهم يلتقون بجدهم ابن درباس، ويلقبون به، والمراد هنا عثمان الأب كما سيتضح في الحاشية التالية.

(2)

لم أقف على من ذكر هذا الكتاب إلا شيخ الإسلام في هذا الموضع والقرطبي في تفسيره (2/ 212) ونسبه إلى عثمان بن عيسى بن درباس؛ ولذلك بينت أن المراد بابن درباس فيما ذكره شيخ الإسلام عثمان بن عيسى وليس ابنه إبراهيم ولا أخاه عبد الملك والله أعلم.

(3)

هو أبو المعالي، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجُوَيْني، الملقب بإمام الحرمين: من أئمة الأشاعرة، ومن كبار فقهاء الشافعية، له مصنفات منها:"غياث الأمم"، "العقيدة النظامية" وغيرها، (ت:478 هـ). انظر: وفيات الأعيان (1/ 287)، طبقات الشافعية (3/ 249).

ص: 480

ذلك، وإنما قلت أن من أنكر حرفاً من القرآن فقد كفر، فرد ذلك عليه الحاضرون وقالوا: ما قلت إلا كذا وكذا، وقالوا: ما ينبغي لك أن تقول قولاً وترجع عنه. وقال بعضهم: ما قال هذا. فلما حرفوا: قال: ما سمعناه قال هذا، حتى قال نائب السلطان: واحد يُكْذِّبْ وآخر يشهد! والشيخ كمال الدين مغضب فالتفت إلى قاضي القضاة نجم الدين الشافعي

(1)

يستصرخه للانتصار على ابن الوكيل حيث كفر أصحابه. فقال القاضي نجم الدين: ما سمعت هذا؟!

(2)

، فغضب الشيخ كمال الدين وقال كلاماً لم أضبط لفظه إلا أن معناه: أن هذا غضاضة على الشافعي، وعار عليهم أن أئمتهم يكفرون ولا ينتصر لهم. ولم أسمع من الشيخ كمال الدين ما قال في حق القاضي نجم الدين، واستثبت غيري ممن حضر هل سمع منه في حقه شيئاً؟ فقالوا: لا. لكن القاضي اعتقد أن التعيير لأجله

(3)

، ولكونه قاضي المذهب ولم ينتصر لأصحابه، وأن الشيخ كمال الدين قصده ذلك. فغضب قاضي القضاة نجم الدين. وقال: اشهدوا علي أني عزلت نفسي، وأخذ يذكر ما يستحق به التقديم والاستحقاق، وعفته عن التكلم في أعراض الجماعة، ويستشهد بنائب السلطان في ذلك. وقلت له كلاماً مضمونه تعظيمه واستحقاقه، لدوام المباشرة في هذه الحال.

(1)

قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن محمد بن سالم بن الحسن ابن صصري التغلبي الدمشقي الشافعي رئيس دمشق، وكان بصيرا بالأحكام فصيحا دينا، وله أموال ضخمة ومماليك وخدم وحشم وحشمة، (ت:723 هـ). انظر: معجم الشيوخ (1/ 91) أعيان العصر (1/ 327).

(2)

قال في ذيل مرآة الزمان: «فكأنه تغافل حتى تنكسر الفتنة» ضمن تكملة الجامع لسيرة الشيخ (ص:20) وانظر: نهاية الأرب ضمن الجامع لسيرة الشيخ (ص:175)، وقال ابن أيبك في كنز الدرر ضمن المصدر السابق (ص: 229): «فكأن نجم الدين تغافل عن ذلك طلباً لإخماد الشر» .

(3)

وقد بين قطب الدين اليونيني ما قاله كمال الدين فقال: «فقال كمال الدين: ما جرى على الشّافعيّة قليل كونك تكون رئيسهم إشارة إلى ما ادعاه على صدر الدين، فاعتقد قاضي القضاة نجم الدين أن الكلام له» . ذيل مرآة الزمان ضمن تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام (1/ 20) وانظر: الدرر الكامنة، ضمن الجامع لسيرة الشيخ (ص:534).

ص: 481

ولما جاءت مسألة القرآن: «ومن الإيمان به الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود» نازع بعضهم في كونه (منه بدأ وإليه يعود)، وطلبوا تفسير ذلك.

فقلت: أما هذا القول: فهو المأثور الثابت عن السلف مثل ما نقله عمرو بن دينار قال: (أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود)

(1)

، وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كالحافظ أبي الفضل بن ناصر

(2)

، والحافظ أبي عبد الله المقدسي

(3)

، وأما معناه: فإن قولهم: (منه بدأ) أي: هو المتكلم به، وهو الذي أنزله من لدنه، ليس هو كما تقول الجهمية: أنه خلق في [الهواء]

(4)

أو غيره، أو بدأ من عند غيره.

وأما (إليه يعود): فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف، ووافق على ذلك غالب الحاضرين، وسكت المنازعون. وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس

(1)

رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 260) برقم (381)، وذكره الذهبي عن الخلال في العلو للعلي الغفار (ص: 155) برقم (421).

(2)

هو أبو الفضل محمد بن ناصر بن علي بن عمر السلامي، الإمام المحدث الحافظ، قال ابن النجار: كان ثقة ثبتاً حسن الطريقة متديناً فقيراً متعففاً نظيفاً نزهاً، وقف كتبه. ورجع عن الأشعرية، (ت: 550 هـ). انظر: السير (20/ 265)، وفيات الأعيان (4/ 293).

(3)

هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي المقدسي الصالحي الحنبلي، الشيخ الإمام الحافظ القدوة المحقق المجود الحجة، له مصنفات في الرد على المبتدعة منها: الأمر باتباع السنن واجتناب البدع، جزء في أحاديث الحرف والصوت وغيرها، (ت: 643 هـ). انظر: السير (23/ 126)، الوافي بالوفيات (4/ 65).

ويشير شيخ الإسلام إلى كتابه (اختصاص القرآن بعودِهِ إلى الرحيم الرحمن) طبع بتحقيق: عبدالله الجديع، مكتبة الرشد- الرياض، الطبعة: الأولى، 1409 هـ 1989 م.

(4)

هكذا في العقود الدرية (ص:280)، وفي مجموع الفتاوى (الهوى)، وهو تصحيف.

ص: 482

بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادري

(1)

، التي فيها أن القرآن كلام الله خرج منه فتوقف في هذا اللفظ. فقلت: هكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم: (ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه)

(2)

، يعني: القرآن. وقال خباب بن الأرت: (يا هنَتَاه تقرب إلى الله بما استطعت فلن يتقرب

(3)

إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه)

(4)

. وقال أبو بكر الصديق -لما قرأ قرآن مسيلمة الكذاب-: "إن هذا الكلام لم يخرج من إل - يعني رب -"

(5)

.

وجاء فيها: «ومن الإيمان به

(6)

: الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن -الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف: لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً»، فتمعض

(7)

بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة، بعد تسليمه أن الله تعالى تكلم به حقيقة، ثم إنه سلم ذلك لما بُين له: أن المجاز

(1)

هو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر الخليفة، الملقب بـ (القادر بالله)، له اشتغال بالعلم وصنف عدة تصانيف، وعقيدته هذه ساقها ابن الجوزي. انظر: السير (15/ 127 - 137) المنتظم لابن الجوزي (9/ 303).

(2)

رواه أحمد (5/ 268)، والترمذي (5/ 291)، وقال:«حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» . والحاكم (1/ 555)، وقال:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي. وضعفه الألباني في المشكاة (1332) والضعيفة (1957).

(3)

في العقود الدرية (تتقرب)(ص:281).

(4)

رواه ابن أبي شيبة في المصنف (30722)، وأحمد في الزهد (ص:35)، والحاكم في مستدركه (2/ 441)، والخلال في السنة (6/ 104)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص: 13)، ومن طريقه رواه الآجري في الشريعة (ص: 77)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص: 311).

(5)

ذكره أبو عبيدة في غريب الحديث (1/ 100) وابن قتيبة في غريب الحديث (1/ 532) وغيرهما.

(6)

في الواسطية: «ومن الإيمان بالله وكتبه» . والمعنى واحد.

(7)

في العقود الدرية (فامتعض)(ص:282) والمعنى واحد.

ص: 483

يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه، ولما بُين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم، وشعر الشعراء المضاف إليهم: هو كلامهم حقيقة، فلا يكون نسبة القرآن إلى الله بأقل من ذلك. فوافق الجماعة كلهم على ما ذكر في مسألة القرآن وأن الله تكلم حقيقة، وأن القرآن كلام الله حقيقة لا كلام غيره.

ولما ذُكر فيها: «أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغا مؤدياً» ، استحسنوا هذا الكلام وعظموه، وأخذ أكبر

(1)

الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام -كابن الوكيل وغيره- وأظهر الفرح بهذا التلخيص، وقال: إنك قد أزلت عنا هذه الشبهة وشفيت الصدور. ويذكر أشياء من هذا النمط.

ولما جاء ما ذكر من الإيمان باليوم الآخر وتفصيله ونظمه: استحسنوا ذلك وعظموه. وكذلك لما جاء ذكر الإيمان بالقدر، وأنه على درجتين إلى غير ذلك مما [فيه]

(2)

من القواعد الجليلة.

وكذا لما جاء ذكر الكلام في الفاسق الملي وفي الإيمان، لكن اعُترِض على ذلك بما سأذكره.

وكان مجموع ما اعترض به المنازعون المعاندون بعد انقضاء قراءة جميعها، والبحث فيها عن أربعة أسئلة:

الأول: قولنا: «ومن أصول الفرقة الناجية: أن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح» .

قالوا: فإذا قيل: إن هذا من أصول الفرقة الناجية خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك، مثل أصحابنا المتكلمين الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق. ومن يقول الإيمان: هو التصديق والإقرار. وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين.

(1)

في العقود الدرية (أحد)(ص: 283).

(2)

هكذا في العقود الدرية (ص:283) وهو الأقرب للصواب وفي مجموع الفتاوى (فيها).

ص: 484

وأما الأسئلة الثلاثة

(1)

: وهي التي كانت عمدتهم، فأوردوها على قولنا: «وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله في كتابه وتواتر عن رسول الله وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليٌّ على خلقه، وهو [سبحانه]

(2)

معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]. وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنه مختلط بالخلق؛ فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر أينما كان وغير المسافر

(3)

. وهو

(4)

سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وكل هذا الكلام الذي ذكره الله تعالى

(5)

من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان [عن]

(6)

الظنون الكاذبة».

السؤال الثاني

(7)

: قال بعضهم: نقر باللفظ الوارد مثل حديث العباس حديث الأوعال: (والله فوق العرش)

(8)

، ولا نقول فوق السموات ولا نقول على العرش.

(1)

أي السؤال الثاني والثالث والرابع، وقد لخصها عبد الله بن تيمية في حكايته للمناظرة فقال:«وأوردوا ثلاثة أسئلة، في ثلاث مواضع وهي: (تسميتها باعتقاد أهل الفرقة الناجية)، وقول: (استوى حقيقة) وقول: (فوق السموات)» رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (2/ 204).

(2)

زيادة من العقيدة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 142).

(3)

في الواسطية: «وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان» .

(4)

في الواسطية: «هو» من غير واو.

(5)

في الواسطية: «سبحانه» .

(6)

هكذا في الواسطية، وفي الأصل (على).

(7)

في العقود الدرية (والسؤال الأول) وجعل ما بعده الثاني والثالث، والسبب في اختلاف العد هو اعتبار الأسئلة مستأنفة من العد، أو تابعة للسؤال الأول.

(8)

سيأتي تخريج هذا الحديث.

ص: 485

[فقلت: المعنى واحدٌ، مع أن في الحديث أيضًا «فوق السماوات»

(1)

(2)

، وقالوا أيضاً: نقول: {الرحمن على العرش استوى} ولا نقول الله على العرش استوى، ولا نقول مستو. وأعادوا هذا المعنى مرارًا، أي أن اللفظ الذي ورد يقال اللفظ بعينه، ولا يبدل بلفظ يرادفه ولا يفهم له معنى أصلا، ولا يقال: إنه يدل على صفة لله أصلاً. ونبسط الكلام في هذا في المجلس الثاني كما سنذكره -إن شاء الله تعالى-.

السؤال الثالث

(3)

: قالوا: التشبيه بالقمر فيه تشبيه كون الله في السماء بكون القمر في السماء؟

السؤال الرابع

(4)

: قالوا: قولك "حق على حقيقته" الحقيقة هي المعنى اللغوي، ولا يفهم من الحقيقة اللغوية إلا استواء الأجسام وفوقيتها، ولم تضع العرب ذلك إلا لها، فإثبات الحقيقة

هو محض التجسيم، ونفي التجسيم مع هذا تناقض أو مصانعة؟

(5)

(1)

رواه الحاكم (2570) وصححه الذهبي والألباني السلسلة الصحيحة (2745).

(2)

حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 187).

(3)

في العقود الدرية (السؤال الثاني)(ص: 286).

(4)

في العقود الدرية (السؤال الرابع)(ص: 286).

(5)

قال في حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 190 - 192): «وقيل: لفظ العلو والفوقية لا يُفهم منه إلّا الفوقية المختصة بالمخلوق، كفوقية السلطان على السرير؟

فقلتُ: بل لفظ العلو والفوقية كلفظ الحياة والعلم والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات؛ فإنه وإن وُصِفَ الله بها ووُصِف بها العبد وهي على ظاهرها وحقيقتها في الموضعين، فالمفهوم منها في حق الله تعالى ليس هو ما يختصُّ به المخلوق.

فقيل: العلو من الأمور الإضافية بخلاف السمع والبصر ونحوهما.

فقلت: إذا كان الاشتراك في الصفة الثبوتية كالحياة أو في الصفة الثبوتية الإضافية كالسمع والبصر لا يقتضي تشبيهًا ونقصًا، فالاشتراك في الإضافة المحضة أولى أن لا يقتضي تشبيهًا ونقصًا، فإن الاشتراك في الصفات الثبوتية أولى بالمشابهة من الصفات الإضافية.

وقيل: إن ........ تعالى ذلك هل هو معلوم أو غير معلوم؟ =

ص: 486

فأجبتهم عن الأسئلة بأن: قولي: «اعتقاد الفرقة الناجية» : هي الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة، حيث قال: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم

= فقلت: هو معلوم من حيث الجملة غير معلومٍ من حيث التفصيل، معلوم من وجهٍ دون وجه، كما قال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وهكذا سائر ما يُعلم من معاني أسماء الله وصفاته إنما يعلمه الناس من بعض الوجوه، وأما الإحاطة بحقيقته فليست إلّا لله وحده.

قلت: وكذلك ما أخبرتْ به الرسلُ مما في الجنة والنار، بل ونفس الإنسان إنما يعلم ذلك من بعض الوجوه دون الإحاطة بحقيقته.

وقيل: إن صفة العلو هل هي صفة كمال؟

فذكرتُ أن فيها قولين:

من الناس من يقول: ليست بصفة نقص ولا كمال، كما يقوله كثير من المتكلمين من الأشعرية وغيرهم في صفات الفعل مثل الخلق والرزق، إذ لو كانت صفة كمالٍ لوجب اتصافه بها في الأزل، وهو منزه عن النقائص سبحانه وتعالى.

ومنهم من يقول: بل هي صفة كمال. ثم منهم من يقول: هي قديمة وإن تأخر أثرُها، كما يقولونه في الصفات الفعلية من الربوبية وغيرها، وصفة العلو استحقاقه للعلو عند وجود المخلوق.

ومنهم من يقول: هذه من الأمور النسبية الإضافية، وتجدُّد النِّسَب والإضافات جائز باتفاق العقلاء، وهي صفة كمال لا يستحق لذلك إلّا حينَ وجود المخلوق، وقبلَ وجود المخلوق يمتنع ثبوتها، فلا يقال صفة نقصٍ ولا كمال».

وقد بين شيخ الإسلام حقيقة اعتقادهم في علو الله تعالى أثناء حواره مع علاء الدين الطيبرسي في سجن مصر: «قلت: فإن هؤلاء يقولون: ما فوق العرش رب يدعى ولا فوق السماء إله يعبد؛ وما هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى؛ ولكن صعد إلى السماء ونزل. وأن الداعي لا يرفع يديه إلى الله.

ومنهم من يقول: إن الله هو هذا الوجود؛ وأنا الله؛ وأنت الله؛ والكلب والخنزير والعذرة ويقول: إن الله حال في ذلك. فاستعظم ذلك وهاله أن أحدا يقول هذا. فقال "هؤلاء" يعني ابن مخلوف وذويه فقلت: هؤلاء ما سمعت كلامهم ولا خاطبوني بشيء؛ فما يحل لي أن أقول عنهم ما لم أعلمه؛ ولكن هذا قول الذين نازعوني بالشام وناظروني وصرحوا لي بذلك وصرح أحدهم بأنه لا يقبل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في هذا الباب مما يخالفهم». مجموع الفتاوى (3/ 218).

ص: 487

وأصحابي)

(1)

، [مع أن هذا السؤال لا يرد؛ لأني إنما قلت: إن الدين والإيمان قول وعمل، وهذا متفق عليه لا خلاف أن مجموع الدين قول وعمل، لكني قلت: أنا ذكرت اعتقاد السلف المنقول عن الصحابة والتابعين، ومذهبهم الثابت عنهم أن الإيمان قول وعمل]

(2)

فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي وأصحابه رضي الله عنهم، وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية؛ فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال:«الإيمان يزيد وينقص»

(3)

. وكل ما ذكرته في ذلك، فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم [لم]

(4)

يضر في ذلك.

ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً؛ فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله [له]

(5)

خطأه [كسائر من يخالف بعض الأحاديث الصحيحة لاجتهادٍ سائغٍ؛ فإن المجتهد المصيب له أجرانِ، والمجتهد المخطئ له أجرٌ]

(6)

، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول [والتائب]

(7)

، وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى

(8)

، بل موجب هذا الكلام أن

(1)

سبق عزوه (ص:42).

(2)

حكاية المناظرة في الواسطية، ضمن جامع الرسائل (8/ 185 - 186).

(3)

كما جاء عن أبي الدرداء وأبي هريرة وروي عن ابن عباس وعمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنهم جميعاً. وانظر هذه الآثار مع تخريجها مطولاً في "زيادة الإيمان ونقصانه"(ص:113 - 116).

(4)

هكذا في العقود الدرية (ص:287) وهو الأقرب للصواب. وفي مجموع الفتاوى (لما).

(5)

زيادة من العقود الدرية (ص:287).

(6)

حكاية المناظرة في الواسطية، ضمن جامع الرسائل (8/ 186).

(7)

هكذا في العقود الدرية (ص:288) وهو الأقرب للصواب. وفي مجموع الفتاوى (القانت).

(8)

قال في حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع الرسائل (8/ 186): «وقد ذكرتُ في الاعتقاد أن أهل السنة لا يكفِّرون أهلَ الذنوب الكبائر مع شمول نصوص الوعيد لهم، لجواز أن يغفر الله لهم ويتوبوا، أو يكون لهم حسنات ماحيةٌ، أو لشفاعة فيهم، أو رحمة الله لهم، وإن كنا نُطلق بأن أهل النجاة هم أهل طاعة الله» .

ص: 488

من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً، وقد لا يكون ناجياً، كما يقال:(من صمت نجا)

(1)

، [وكنت أبين لهم أن ما نقُل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين. وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة: (الوعيد)؛ فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] الآية، وكذلك سائر ما ورد من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا: فهو كذا، ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه: بتوبة أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة. والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة. وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا، وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال:(إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ففعلوا به ذلك فقال الله له: ما حملك على ما فعلت. قال خشيتك: فغفر له)

(2)

، فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه

(1)

هذا حديث رواه الترمذي (2501)، وأحمد (2/ 159)، والدارمي (2/ 299)، وابن المبارك في الزهد من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما (385)، وقال الترمذي: حديث غريب. وأورده الألباني في الصحيحة (536). وقد جرى مجرى المثل فرواه أبو الشيخ الأصبهاني في أمثال الحديث (ص: 247)، وذكره الميداني في مجمع الأمثال (2/ 450).

(2)

رواه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (3478)، ومسلم كتاب التوبة (2756)، (2757) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ورواه أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه (2747).

ص: 489

لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك. والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا]

(1)

.

وأما السؤال الثاني: فأجبتهم أولا: بأن كل لفظ قلته فهو مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: لفظ فوق السموات، ولفظ على العرش، وفوق العرش.

وقلت: اكتبوا الجواب فأخذ الكاتب في كتابته، ثم قال بعض الجماعة: قد طال المجلس اليوم [وكان المجلس قد طال من الضحى إلى قريب العصر]

(2)

، فيؤخر هذا إلى مجلس آخر وتكتبون أنتم الجواب وتحضرونه في ذلك المجلس، فأشار بعض الموافقين بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب، لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم، وكان الخصوم لهم غرض

(3)

في تأخير كتابة الجواب ليستعدوا لأنفسهم ويطالعوا، ويحضروا من غاب من أصحابهم، ويتأملوا العقيدة فيما بينهم، ليتمكنوا من الطعن والاعتراض، فحصل الاتفاق على أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة وقمنا على ذلك.

وقد أظهر الله من قيام الحجة وبيان المحجة: ما أعز الله به [أهل]

(4)

السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة، وفي نفوس كثير من الناس أمور لما يحدث في المجلس الثاني.

وأخذوا في تلك الأيام يتأملونها، ويتأملون ما أجبت به في مسائل تتعلق بالاعتقاد، مثل (المسألة الحموية في الاستواء والصفات الخبرية) وغيرها.

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 230 - 231).

(2)

رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 204).

(3)

وفي العقود الدرية (وكأن الخصوم كان لهم)(ص:289).

(4)

زيادة من العقود الدرية (ص:289).

ص: 490

فصل

فلما كان المجلس الثاني: يوم الجمعة [بعد صلاة الجمعة]

(1)

في اثني عشر رجب، [وكان يوماً عظيماً مشهوداً، بين فيه للحاضرين من البحث والنقل أمر عظيم]

(2)

، وقد أحضروا أكثر

(3)

شيوخهم ممن لم يكن حاضراً ذلك المجلس، وأحضروا معهم زيادة صفي الدين الهندي

(4)

، وقالوا: هذا أفضل الجماعة وشيخهم في علم الكلام، [وعليه اشتغل الناس في هذا الفن، واتفقوا على أنه يتكلم مع الشيخ وحده فإذا فرغ تكلم واحد بعد واحد]

(5)

. وبحثوا فيما بينهم

(6)

، واتفقوا وتواطئوا، وحضروا بقوة واستعداد غير ما كانوا عليه؛ لأن المجلس

(1)

رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 204). والعقود الدرية (ص:290).

(2)

رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 204).

(3)

في العقود الدرية (أكبر)(ص:290).

(4)

هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي، صفي الدين الهندي: فقيه أصولي، كان من أعلم الناس بمذهب الأشعري، له مصنفات منها: زبد الكلام في علم الكلام، ونهاية الأصول في أصول الفقه وغيرها، (ت: 715 هـ). انظر: طبقات الشافعية الكبرى (9/ 162)، الدرر الكامنة (4/ 14)، الوافي بالوفيات (3/ 239).

(5)

رسالة عبد الله بن تيمية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 204). قال ابن كثير رحمه الله في حكايته للمناظرة: «وحضر الشَّيخ صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشَّيخ تقي الدين كلامًا كثيرًا، ولكن ساقيته لاطمت بحرًا!! ثمَّ اصطلحوا على أَن يكون الشَّيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني هو الَّذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر الناسُ من فضائل الشَّيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني وجودة ذهنه وحسن بحثه حيث قاوم ابن تَيْمِيَّة في البحث، وتكلم معه» . البداية والنهاية (4/ 42). وانظر: ذيل مرآة الزمان ضمن تكملة الجامع لسيرة الشيخ (ص:19).

(6)

قال عبد الله بن تيمية: «وقد كانوا بحثوا في تلك الأيام بالفصوص وطالعوه، واتفقوا على أنهم لا يبقوا ممكنا» [رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 204)].

ص: 491

الأول أتاهم بغتة، وإن كان أيضا بغتة للمخاطب الذي هو المسئول والمجيب والمناظر.

فلما اجتمعنا: وقد أحضرت ما كتبته من الجواب عن

(1)

أسئلتهم المتقدمة الذي طلبوا تأخيره إلى اليوم: حمدت الله بخطبة الحاجة خطبة ابن مسعود رضي الله عنه، ثم قلت: إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف ونهانا عن الفرقة والاختلاف. وقال لنا في القرآن: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، وقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، وربنا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين، وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك: كشفت له الأسرار، وهتكت الأستار، وبينت المذاهب الفاسدة التي أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس، فإن للسلم كلاماً وللحرب كلاماً. وقلت: لا شك أن الناس يتنازعون، يقول هذا: أنا حنبلي، ويقول هذا: أنا أشعري، ويجري بينهم تفرق وفتن واختلاف على أمور لا يعرفون حقيقتها. وأنا قد أحضرت ما يبين اتفاق المذاهب فيما ذكرته

(2)

، وأحضرت كتاب:(تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله) تأليف: الحافظ أبي القاسم بن عساكر

(3)

رحمه الله وقلت: لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة

(1)

في العقود الدرية (على)(ص:290).

(2)

قال شيخ الإسلام في موضع آخر: «وقد أحضرت في الشام أكثر من خمسين كتاباً: من كتب الحنفية والمالكية والشافعية وأهل الحديث، والمتكلمين والصوفية كلها توافق ما قلته بألفاظه؛ وفي ذلك نصوص سلف الأمة وأئمتها، ولم يستطع المنازعون مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه» مجموع الفتاوى (3/ 217). انظر: مجموع الفتاوى (3/ 265).

(3)

هو أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الْحُسَيْن، المعروف بابن عَسَاكِر، كان محدث الديار الشامية، ورفيق السَّمْعَاني (صاحب الأنساب) في رحلاته، مولده ووفاته في دمشق وله تأريخ دمشق الكبير، وتبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري وغيرها، (ت: 571 هـ). انظر: طبقات الشافعية الكبرى (7/ 215)، السير (20/ 554).

ص: 492

كتاب مثل هذا. وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتابه (الإبانة)

(1)

.

فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة: سأل الأمير عن معنى المعتزلة فقلت: كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملي، وهو أول اختلاف حدث في الملة، هل هو كافر أو مؤمن؟ فقالت الخوارج: إنه كافر. وقالت الجماعة: إنه مؤمن. وقالت طائفة: نقول هو فاسق لا مؤمن ولا كافر ننزله منزلة بين المنزلتين، وخلدوه في النار واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه -رحمه الله تعالى- فسموا معتزلة.

وقال الشيخ الكبير

(2)

[بِجَبَهٍ وردٍّ]

(3)

: ليس كما قلت، ولكن أول مسألة اختلف

(1)

في رواية عبد الله بن تيمية رحمه الله للمناظرة: «وقد أحضرت كتب الأشعري، وكتب أكابر أصحابه: مثل كتب أبي بكر بن الباقلاني، وأحضرت أيضا من نقل مذاهب السلف: من المالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الحديث، وشيوخ الصوفية، وأنهم كلهم متفقون على اعتقاد واحد. وكذلك أحضر نقل شيوخ أصحاب أبي حنيفة: مثل محمد بن الحسن والطحاوي وما ذكروه من الصفات وغيرها في أصول الدين وقرأ فصلا مما ذكره الحافظ ابن عساكر في كتابه: (الإبانة)، وأنه يقول بقول الإمام أحمد. وأحضر (كتاب التمهيد) للقاضي أبي بكر بن الباقلاني. وأحضر (النقول) عن مالك وأكابر أصحابه: مثل ابن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب، وغيرهما من كبار أصحاب مالك بتصريحهم أن الله مستو بذاته على العرش. وقال: أما الذي أذكره فهو مذهب السلف، وأحضر ألفاظهم وألفاظ من نقل مذاهبهم من الطوائف الأربعة وأهل الحديث والمتكلمين والصوفية، وأذكر موافقة ذلك من الكتاب والسنة وأنه ليس في ذلك ما ينفيه العقل وإن كان الله تعالى يجمع قلوب الجماعة على ذلك فالحمد لله رب العالمين» [رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 205 - 206)].

(2)

هو صفي الدين الهندي، كما يتضح مما سبق.

(3)

هكذا في العقود الدرية (ض:292)، وفي مجموع الفتاوى "بجبته وردائه". والمثبت أقرب للصواب، كما ذكر محقق العقود الدرية قال في تاج العروس (19/ 28):«جبهه كمنعه، ومن المجاز: جبه الرجل يجبهه جبهاً: إذا رده عن حاجته .. وفي المحكم: "جبهته" إذا استقبلته بكلام فيه غلظة، وجبهته بالمكروه إذا استقبلته به» والله أعلم.

ص: 493

فيها المسلمون مسألة الكلام، وسمي المتكلمون متكلمين؛ لأجل تكلمهم في ذلك. وكان أول من قالها عمرو بن عبيد

(1)

، ثم خلفه بعد موته عطاء بن واصل. هكذا قال! وذكر نحواً من هذا. فغضبت عليه وقلت: أخطأت، وهذا كذب مخالف للإجماع. وقلت له: لا أدب ولا فضيلة، لا تأدبت معي في الخطاب، ولا أصبت في الجواب. ثم قلت: الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلافة المأمون

(2)

، وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير في زمن عمرو بن عبيد، بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية، ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ولا تنازعوا فيها، وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعيد.

فقال: هذا ذكره الشهرستاني

(3)

في كتاب: (الملل والنحل).

(1)

هو أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب، ويقال: ابن كيسان، التميمي مولاهم، شيخ القدرية والمعتزلة، كان داعية إلى بدعته، اتهمه جماعة بالكذب، روي عنه العبادة والزهد، تزوج أخت واصل بن عطاء وتابعه على الاعتزال حتى صار خليفة له على ذلك، (ت: 143 هـ). انظر: كتاب المجروحين (2/ 69)، تاريخ الإسلام (3/ 943).

(2)

هو أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد بن المهدي بن أبي جعفر المنصور، سابع خلفاء بني العباس، قامت في عهده دولة الفلسفة والكلام المذموم، ترجم كتب الفلاسفة واليونان، وابتلي بمقالة المعتزلة في القرآن، فامتحن الناس عليها، حتى مات سنة (218 هـ). انظر: تاريخ الخلفاء: (ص: 306)، تاريخ بغداد (10/ 183)، السير (10/ 272).

(3)

هو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، شيخ أهل الكلام والحكمة ومن أخبرهم بالمقالات والاختلاف، اتهم بالميل إلى الإسماعيلية والدعوة إليهم ولضلالاتهم، حكى بعض أهل العلم توبته وحيرته، ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم ولا يكاد يرجح شيئاً للحيرة، له مصنفات منها: الملل والنحل، ونهاية الإقدام في علم الكلام وغيرها، (ت: 548 هـ). انظر: وفيات الأعيان (1/ 482)، السير (20/ 286 - 288)، شذرات الذهب (4/ 149).

ص: 494

فقلت: الشهرستاني ذكر ذلك في اسم المتكلمين لِمَ سُموا متكلمين؟ لم يذكره في اسم المعتزلة، والأمير إنما سأل عن اسم المعتزلة

(1)

.

وأنكر الحاضرون عليه وقالوا: غلطت

(2)

. وقلت في ضمن كلامي: أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها وما كان سبب ابتداعها. وأيضاً فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين؛ فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم قبل منازعتهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء

(3)

: إنه متكلم. ويصفونه بالكلام ولم يكن الناس اختلفوا في مسألة الكلام. وقلت أنا وغيري: إنما هو واصل بن عطاء، أي: لا عطاء بن واصل كما ذكره المعترض. قلت: وواصل لم يكن بعد موت عمرو بن عبيد، وإنما كان قرينه. وقد روي أن واصلاً تكلم مرة بكلام فقال عمرو بن عبيد: لو بُعث نبي ما كان

(4)

يتكلم بأحسن من هذا. وفصاحته مشهورة حتى قيل: إنه كان ألثغ وكان يحترز عن الراء، حتى قيل له: أمر الأمير أن يحفر بئر. فقال: أوعز القائد أن يقلب

(1)

المقصود قول الشهرستاني: «ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حيث نشرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام. وأفردتها فنا من فنون العلم، وسمتها باسم الكلام، إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها، هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فناً من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان» . الملل والنحل (1/ 29)، فهو هنا ذكر سبب تسمية علم الكلام، ولم يذكر سبب تسمية المعتزلة، بل إنه قد نص في الكتاب نفسه على سبب تسميتهم بالمعتزلة فقال:«والقدرية ابتدأوا بدعتهم في زمان الحسن، واعتزل واصل عنهم وعن أستاذه بالقول منه بالمنزلة بين المنزلتين، فسمي هو وأصحابه معتزلة» الملل والنحل (1/ 28 - 29).

(2)

في العقود الدرية (وقالَ: غلطتُ)(ص:293).

(3)

هو أبو حذيفة واصل بن عطاء المعتزلي، المعروف بالغزال، شيخ المعتزلة وإمامهم، وقصته مع الحسن معلومة مشهورة، كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يُخلص كلامه من الراء، وهو أول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين. (ت: 131 هـ). انظر: وفيات الأعيان (6/ 7)، تاريخ الإسلام (5/ 310).

(4)

في العقود الدرية (أكان؟)(ص:294).

ص: 495

قليب في الجادة

(1)

.

ولما انتهى الكلام إلى ما قاله الأشعري

(2)

: قال الشيخ المقدم فيهم: لا ريب

(1)

يقول المبرد في الكامل في اللغة (2/ 144): «وكان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب؛ وذلك أنه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء» . ويقول الجاحظ في البيان والتبيين (1/ 15) عن هذه اللثغة: «ولما علم واصل أنه ألثغ، فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل، وزعماء الملل

رام أبو حذيفة [أي واصل بن عطاء] إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه». وقد بلغ به الحال في محاولة الابتعاد عن الراء إلى التصرف حتى في آيات القرآن الكريم. قال الذهبي في تاريخ الإسلام (8/ 559):«كان يُمتحن بأشياء في الراء، ويتحيل لها، حتى قيل له: اقرأ أول سورة براءة. فقال على البديهة: (عهد من الله ونبيه إلى الذين عاهدتهم من الفاسقين فسيحوا في البسيطة هلالين وهلالين) وكان يجيز القراءة بالمعنى، وهذه جرأة على كتاب الله العزيز» . وانظر فيما قيل وروي عن لثغته واجتنابه الراء في حديثه: كنز الدرر (5/ 68) وفيات الأعيان (6/ 7 - 11) طبقات المعتزلة (ص:28).

(2)

قال رحمه الله في موضع آخر من مجموع الفتاوى، وهو يحكي بعض ما حدث في المناظرة:«وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه. وكما قال أبو إسحاق الشيرازي: إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة وكان أئمة الحنابلة المتقدمين كأبي بكر عبد العزيز وأبي الحسن التميمي ونحوهما يذكرون كلامه في كتبهم بل كان عند متقدميهم كابن عقيل عند المتأخرين، لكن ابن عقيل له اختصاص بمعرفة الفقه وأصوله وأما الأشعري فهو أقرب إلى أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها، فإنه كلما كان عهد الإنسان بالسلف أقرب كان أعلم بالمعقول والمنقول. وكنت أقرر هذا للحنبلية، وأبين أن الأشعري، وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم، وكذلك ابن عقيل كان تلميذ ابن الوليد وابن التبان المعتزليين، ثم تاب من ذلك، وتوبته مشهورة بحضرة الشريف أبي جعفر. وكما أن في أصحاب أحمد من يبغض ابن عقيل ويذمه: فالذين يذمون الأشعري ليسوا مختصين بأصحاب أحمد بل في جميع الطوائف من هو كذلك. ولما أظهرت كلام الأشعري -ورآه الحنبلية- قالوا: هذا خير من كلام الشيخ الموفق وفرح المسلمون باتفاق الكلمة. وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة ومعلوم أن في جميع الطوائف من هو زائغ ومستقيم. مع أني في عمري إلى ساعتي هذه، لم أدع أحداً قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها» مجموع الفتاوى (3/ 227 - 229).

ص: 496

أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر ومن أكبر أئمة الإسلام، لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء.

فقلت: أما هذا فحق وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام هو منهم بريء، قد انتسب إلى مالك أناس مالك بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى أبي حنيفة أناس هو بريء منهم، وقد انتسب إلى موسى عليه السلام أناس هو منهم بريء، وانتسب إلى عيسى عليه السلام أناس هو منهم بريء، وقد انتسب إلى علي بن أبي طالب أناس هو بريء منهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف الملاحدة والمنافقين من هو بريء منهم.

وذكر في كلامه: أنه انتسب إلى أحمد ناس من الحشوية والمشبهة ونحو هذا الكلام. فقلت: المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، هؤلاء أصناف الأكراد كلهم شافعية، وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية. قلت: وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم. وكان من تمام الجواب أن الكرامية المجسمة كلهم حنفية.

وتكلمت على لفظ الحشوية

(1)

-ما أدري جواباً عن سؤال الأمير أو غيره أو عن غير جواب- فقلت: هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة، فإنهم يسمون الجماعة والسواد الأعظم الحشو، كما تسميهم الرافضة الجمهور، وحشو الناس: هم عموم الناس وجمهورهم، وهم غير الأعيان المتميزين يقولون هذا من حشو

(1)

انظر تفصيل معنى الحشو والمراد بالحشوية حاشية (ص: 610 - 611) من هذه الرسالة.

ص: 497

الناس، كما يقال: هذا من جمهورهم. وأول من تكلم بهذا عمرو بن عبيد، وقال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه حشوياً. فالمعتزلة سموا الجماعة حشواً كما تسميهم الرافضة الجمهور.

وقلت -لا أدري في المجلس الأول أو الثاني-: أول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي. وقلت لهذا الشيخ: من في أصحاب الإمام أحمد رحمه الله حشوي بالمعنى الذي تريده؟ الأثرم

(1)

، أبو داود، المروذي، الخلال، أبو بكر عبد العزيز

(2)

، أبو الحسن التميمي

(3)

، ابن حامد

(4)

، القاضي أبو يعلى

(5)

،

(1)

هو أبوبكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الكلبي الأثرم البغدادي الإسكافي الفقيه الحافظ، صاحب أحمد بن حنبل، روى له النسائي، ثقة حافظ له تصانيف، قيل: إنَّه أحفظ من أبى زرعة الرازي وأتقن، (ت: 273 هـ). انظر: الجرح والتعديل (2/ 72)، طبقات الحنابلة (1/ 66)، السير (12/ 623).

(2)

هو أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، أبو بكر المعروف بغلام الخلال، كان أحد أهل الفهم، موثوقاً به في العلم، متسع الرواية، مشهوراً بالديانة، موصوفاً بالأمانة مذكوراً بالعبادة، وله مصنفات في العلوم المختلفات. وذكر أبو يعلى أنه كان معظماً في النفوس، متقدماً عند الدولة، بارعاً في مذهب الإمام أحمد، (ت: 363 هـ). انظر: السير (16/ 143)، تاريخ بغداد (10/ 309)، طبقات الحنابلة (2/ 119).

(3)

هو أبو الحسن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث التميمي، فقيه حنبلي، له اطلاع على مسائل الخلاف، صنف كتباً في الأصول والفرائض، ذُكر عنه ميل إلى الأشعري، (ت: 371 هـ). انظر: المنتظم (7/ 110)، تاريخ بغداد (10/ 461).

(4)

هو أبو عبد الله الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي، الوراق، شيخ الحنابلة ومفتيهم، وهو أكبر تلامذة أبي بكر غلام الخلال، (ت: 403 هـ). انظر: تاريخ بغداد (7/ 303)، طبقات الحنابلة (2/ 171)، السير (17/ 203).

(5)

هو القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد، المعروف بابن الفراء البغدادي من كبار شيوخ الحنابلة كان عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون، ولكنه في باب الصفات لم يثبت على قدم فتارة يُثْبِت على طريقة أهل السنة وتارة يفوض وتارة يؤول، كما وضح ذلك شيخ الإسلام في مواضع كثيرة من كتبه، ومن مصنفات أبي يعلى (أحكام القرآن) و (مسائل الإيمان) وغيرها (ت:458 هـ). انظر ترجمته: طبقات الحنابلة (2/ 193) وسير أعلام النبلاء (18/ 92).

ص: 498

أبو الخطاب

(1)

، ابن عقيل

(2)

؟! ورفعت صوتي وقلت: سمهم قل لي منهم؟ من هم؟! أبكذب ابن الخطيب

(3)

وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة وتندرس معالم الدين؟! كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون: إن القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين، وأن الصوت والمداد قديم أزلي. من قال هذا؟ وفي أي كتاب وجد هذا عنهم؟! قل لي! وكما نقلَ عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه والمقدمة التي نقلها عنهم. وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ من أنه كبير الجماعة وشيخهم، وأن فيه من العقل والدين ما يستحق أن يعامل بموجبه، وأمرت بقراءة العقيدة جميعها عليه؛ فإنه لم يكن حاضراً في المجلس الأول إنما أحضروه في الثاني انتصاراً به.

وحدثني الثقة عنه بعد خروجه من المجلس، أنه اجتمع به وقال له: أخبرني عن هذا المجلس؟ فقال: ما لفلان ذنبٌ ولا لي، فإن الأمير سأل عن شيء؟ فأجابه عنه فظننته سأل عن شيء آخر. وقال: قلت لهم أنتم ما لكم على الرجل اعتراض، فإنه نصر ترك التأويل، وأنتم تنصرون قول التأويل وهما قولان للأشعري. وقال: أنا أختار قول ترك التأويل، وأخرج وصيته التي أوصى بها وفيها قول ترك التأويل. قال الحاكي لي: فقلت له: بلغني عنك أنك قلت في آخر المجلس -لما أشهد الجماعة على أنفسهم بالموافقة-: لا تكتبوا عني نفياً

(1)

هو أبو الخطاب أحمد بن علي بن عبد الله المقرئ الصوفي البغدادي، له قصيدة في السنة، وقصيدة في عدد الآي، وكان من شيوخ الإقراء ببغداد المشهورين بتجويد القراءة وتحسينها، (ت: 476 هـ). انظر: ذيل طبقات الحنابلة (3/ 45)، معرفة القراء الكبار (1/ 446)، تاريخ الإسلام (32/ 183).

(2)

هو أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي، من متكلمي الحنابلة قال الذهبي:«أخذ علم العقليات عن شيخي الاعتزال: أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان صاحبي أبي الحسين البصري، فانحرف عن السنة» . وقال: «لم يكن له في زمانه نظير على بدعته» وله كتاب "الفنون" وتوفي سنة 513 هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 443) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 142 - 163).

(3)

المراد الرازي، كما سبق.

ص: 499

ولا إثباتاً فلم ذاك؟ فقال: لوجهين: أحدهما: أني لم أحضر قراءة جميع العقيدة في المجلس الأول، والثاني: لأن أصحابي طلبوني لينتصروا بي فما كان يليق، أن أُظهر مخالفتهم فسكَتُّ عن الطائفتين.

وأمرت غير مرة، أن يعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ، فرأى بعض الجماعة أن ذلك تطويل، وأنه لا يُقرأ عليه إلا الموضع الذي لهم عليه سؤال، وأعظمه لفظ "الحقيقة" فقرؤوه عليه، فذكر هو بحثاً حسناً يتعلق بدلالة اللفظ.

فحسَّنته ومدحته عليه، وقلت: لا ريب أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، سميع حقيقة، بصير حقيقة، وهذا متفق عليه بين أهل السنة والصفاتية من جميع الطوائف [قلتُ: كلُّ من نقلَ مذهبَ السلف من أهل الحديث والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم، مثل أبي سليمان الخطابي، وأبي بكر الخطيب، وأبي بكر الإسماعيلي

(1)

، وأبي عثمان الصابوني

(2)

، والقاضي أبي يعلى، وأبي عمر ابن عبد البر

(3)

وأبي محمد البغوي صاحب شرح السنة

(4)

، وأبي القاسم

(1)

هو أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي، الإمام الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام، جمع بين الفقه والحديث ورياسة الدين والدنيا، (ت: 371 هـ). انظر: السير (16/ 292)، الوافي بالوفيات (6/ 213)، طبقات السبكي (3/ 7).

(2)

هو أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني النيسابوري الواعظ، المفسر، المصنف، أحد الأعلام، كان يحفظ من كل فن، له مصنفات: عقيدة السلف وأصحاب الحديث، الفصول في الأصول، وغيرها، (ت: 449 هـ). انظر: طبقات الشافعية (3/ 117)، تاريخ دمشق لابن عساكر (3/ 27).

(3)

هو أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، الإمام، شيخ الإسلام، حافظ المغرب، صاحب سنة واتباع، لم يدخل في علم الكلام، بل قفا آثار مشايخه رحمهم الله، له مصنفات منها: كتاب التمهيد، والاستذكار، وجامع بيان العلم وغيرها، (ت: 463 هـ). انظر: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس (ص: 367) سير أعلام النبلاء (18/ 153).

(4)

هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، العلامة القدوة الحافظ شيخ الإسلام محيي السنة المفسر صاحب التصانيف الجليلة، له مصنفات منها: شرح السنة، التفسير وغيرها، (ت: 516 هـ). انظر: السير (19/ 439)، وفيات الأعيان (2/ 136).

ص: 500

التيمي

(1)

صاحب "الترغيب والترهيب" وخلق كثير، نقلوا نحو ذلك. فلفظُ بعضهم: أن مذهب السلف إجراؤها على ظاهرِها، ولفظ بعضهم: حملُها على ظاهرِها، ولفظُ بعضهم: إمرارُها على ظاهرها. وبعضهم يقول: حملُها على الحقيقة دون المجاز. وبعضهم يصرِّح عنهم بإثبات ما دلَّت عليه من الصفات، كما نقله الأشعري وابن خزيمة

(2)

والبيهقي

(3)

وسيف الدين الآمدي

(4)

.

وقد نقل لفظ الحقيقة عن السلف وأهلِ السنة أبو عمر ابن عبد البر، وأبو القاسم التيمي الأصفهاني، وأبو عبد الله القرطبي في تفسيره، وقال: لم يُنكر أحدٌ من السلف الصالح أن الله استوى على عرشِه حقيقةً. وكلهم يقول: (مع نفي الكيفية والتشبيه عنها)، ويقولون: إذا كانت ذات الله ثابتةً حقيقةً، وأسماؤه على ظاهرها مع أنا لا نعلم كيفية ذاتِه وصفاتِه، فكذلك صفاته؛ إذ العلم بكيفية

(1)

هو أبو القاسم، إسماعيل بن محمد ابن الفضل التيمي الأصبهاني الملقب بقوام السنة، إمام أئمة وقته وأستاذ علماء عصره، وقدوة أهل السنة في زمانه، له مصنفات منها: الحجة في بيان المحجة، والترغيب والترهيب وغيرها، (ت: 535 هـ). انظر: السير (20/ 80)، المنتظم (18/ 10)، الوافي بالوفيات (9/ 211).

(2)

هو أبو بكر محمد بن إسحاق بن إسحاق السلمي النيسابوري، المشهور بابن خزيمة، إمام علامة محدث مشهور من كبار أئمة السلف، له مؤلفات منها: التوحيد، الصحيح، وغيرها، (ت:311 هـ). انظر: السير (14/ 365)، شذرات الذهب (1/ 321).

(3)

هو أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي، الحافظ المحدث المشهور، من أكابر الشافعية ومقدميهم، من مصنفاته: الأسماء والصفات، شعب الإيمان، وغيرها، توفي سنة 458 هـ. انظر: السير 18/ 163، شذرات الذهب (3/ 304).

(4)

أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي الفقيه الأصولي المتكلم، الملقب سيف الدين الآمدي الحنبلي ثم الشافعي، قال الذهبي في السير (22/ 366):«قال لي شيخنا ابن تيمية: يغلب على الآمدي الحيرة والوقف حتى إنه أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل، وزعم أنه لا يعرف عنه جوابا، وبنى إثبات الصانع على ذلك، فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع، ولا حدوث العالم، ولا وحدانية الله، ولا النبوات، ولا شيئا من الأصول الكبار» له: "غاية المرام في علم الكلام" و"أبكار الأفكار" وغيرها (ت:631 هـ) انظر: وفيات الأعيان (3/ 293) وسير أعلام النبلاء (22/ 364 - 366).

ص: 501

الصفة فرعٌ على العلم بكيفية الموصوف، فإذا قال السائل: كيف صفاتُه؟ فقُلْ: كيف هو في ذاته؟ فإذا قال: لا أعلَمُ كيفيةَ ذاتِه، فقُلْ: لا أعلَمُ كيفيةَ صفاتِه. ونقلَ طائفةٌ منهم القاضي عياض وغيره أن مذهب السلف إمرارُها كما جاءت مع العلم أن الظاهر غير مراد.

قلتُ: يُجمَع بين النقلين بأن «الظاهر» لفظ مشترك، فالذي نقلَ نفيَه نفَى ما يظهر لبعض الناس من التشبيه بصفات المخلوقين، وما يقتضي نقصَ الخالق تعالى، مثل أن يقال: ظاهر قوله «في السماء» أن السماء تَحْوِيه أو تَحْمِلُه. ولا ريبَ أن هذا الظاهر لهذا غير مراد، فإن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى مخلوقاته ولا يَحصُره شيء، سبحانه وتعالى. بل قد {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:255]، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر:41]، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَر:67]، فمن قال: إنه محتاج إلى ما يَحمِلُه ويُقِلُّه، أو أنه في شيء يُحيط به ويُظِلُّه، فهو ضالٌّ مضلّ.

والذين نقلوا إثباتَه أرادوا به ما هو الظاهر اللائق بجلالِ الله تعالى الذي لا يقتضي نقصًا ولا حدوثًا. كما أنهم اتفقوا على أن هذا هو الظاهر في حياته وعلمه وسمعه وبصره وقدرته وإرادته، واتفقوا على أنه موجودٌ حقيقةً حيٌّ حقيقةً عليمٌ حقيقةً قديرٌ حقيقةً متكلمٌ حقيقةً، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وجرتْ بحوثٌ فيها]

(1)

، ولو نازع بعض أهل البدع في بعض ذلك، فلا ريب أن الله موجود والمخلوق موجود، ولفظ الوجود سواءً كان مقولاً عليهما: بطريق الاشتراك اللفظي فقط، أو بطريق التواطؤ المتضمن للاشتراك لفظاً ومعنى، أو بالتشكيك الذي هو نوع من التواطؤ. فعلى كل قول: فالله موجود حقيقة، والمخلوق موجودٌ حقيقة، ولا يلزم من إطلاق الاسم على الخالق والمخلوق بطريق الحقيقة محذور.

ولم أُرجح في ذلك المقام قولا من هذه الثلاثة على الآخر؛ لأن غرضي

(1)

حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 188 - 190).

ص: 502

[يحصلُ على كل مقصود]

(1)

، وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة والأشعري وأكابر أصحابه على ما ذكرته؛ فإنه قبل المجلس الثاني: اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية والحنفية، وغيرهم ممن عظم خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه، وخافوا على نفوسهم أيضاً من تفرق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته، [ولم يكن]

(2)

من أئمة أصحابهم من يوافقها، لصارت فرقة، ولصعب عليهم أن يُظهِروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم [لما]

(3)

في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم؛ فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك، وقامت عليه الحجة، وبان أنه مذهب السلف: أمكنهم إظهار القول به مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق، حتى قال لي بعض الأكابر من الحنفية -وقد اجتمع بي-: لو قلت هذا مذهب أحمد وثبت على ذلك لانقطع النزاع، ومقصوده: أنه يحصل دفع الخصوم عنك؛ بأنه مذهب متبوع، ويستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة. فقلت: لا والله؛ ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة أهل الحديث، وقلت أيضاً: هذا اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به: آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين والفقهاء الأربعة والمتكلمين وأهل الحديث والصوفية.

[وجعل نائب السلطان كلما ذكر حديثا وعزاه إلى الصحيحين يقول لهم: هكذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقولون: نعم. فيقول: فمن قال بقول النبي صلى الله عليه وسلم أي شيء

(1)

هكذا في العقود الدرية (ص:299)، وفي مجموع الفتاوى (تحصل على كل مقصودي).

(2)

هكذا في العقود الدرية (ص:299) وهو الأقرب للصواب، وفي مجموع الفتاوى (أو لم يكن).

(3)

هكذا في العقود الدرية (ص:300) وهو الأقرب للصوب. وفي مجموع الفتاوى (بما).

ص: 503

يقال له؟ وقال له: كل شيء قلته من عندك قلته؟ فقال-أي شيخ الإسلام رحمه الله: بل أنقله جميعاً عن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وأبين أن طوائف الإسلام تنقله عن السلف كما نقلته، وأن أئمة الإسلام عليه، وأنا أناظر عليه، وأعلم كل من يخالفني بمذهبه. وانزعج الشيخ انزعاجاً عظيماً على نائب المالكي والصفي الهندي وأسكتهما سكوتا لم يتكلما بعده بما يذكر]

(1)

.

وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية: [لأُبيننَّ]

(2)

أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قول الأشعري وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين أن القول المحكي عنه في تأويل الصفات الخبرية، قول لا أصل له في كلامه؛ وإنما هو قول طائفة من أصحابه فللأشعرية قولان، ليس للأشعري قولان.

فلما ذكرت في المجلس أن جميع أسماء الله التي [يُسمى]

(3)

بها المخلوق كلفظ (الوجود) الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب والممكن -على الأقوال الثلاثة-: تنازع كبيران هل هو مقول بالاشتراك أو بالتواطؤ؟ فقال أحدهما: هو متواطئ. وقال الآخر: هو مشترك؛ لئلا يلزم التركيب. وقال هذا: قد ذكر فخر الدين أن هذا النزاع مبني على أن وجوده هل هو عين ماهيته أم لا؟ فمن قال: إن وجود كل شيء عين ماهيته. قال: إنه مقولٌ بالاشتراك. ومن قال: إن وجوده قدرٌ زائد على ماهيته. قال: إنه مقولٌ بالتواطؤ. فأخذ الأول يرجح قول من

(1)

رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 209)، وانظر: حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 190 - 192).

(2)

هكذا في العقود الدرية (ص:301) وهو الأقرب للصواب. وفي مجموع الفتاوى (لأبين).

(3)

هكذا في العقود الدرية (ص:301)، وهو الأقرب للصوب. وفي مجموع الفتاوى (سمي).

ص: 504

يقول: إن الوجود زائد على الماهية؛ لينصر أنه مقول بالتواطؤ. فقال الثاني: ليس مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته، فأنكر الأول ذلك. فقلت: أما متكلمو أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته، وأما القول الآخر فهو قول المعتزلة: إن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وكل منهما أصاب من وجه؛ فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطؤ، كما قد قررته في غير هذا الموضع، وأجبت عن شبهة التركيب بالجوابين المعروفين

(1)

. وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عينه، فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب، فإنا وإن قلنا إن وجود الشيء عين ماهيته، لا يجب أن يكون الاسم مقولاً عليه وعلى نظيره بالاشتراك اللفظي فقط، كما في جميع أسماء الأجناس. فإن اسم السواد مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطؤ، وليس عين هذا السواد هو عين هذا السواد، إذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما وهو المطلق الكلي؛ لكنه لا يوجد مطلقاً بشرط الإطلاق إلا في الذهن، ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج؛ فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة، وهي جمهور الأسماء الموجودة في الغالب: وهي أسماء الأجناس اللغوية، وهو الاسم المطلق

(2)

على الشيء، وعلى كل ما أشبهه: سواء كان اسم عين، أو اسم صفة جامداً أو مشتقاً، وسواء كان جنساً منطقياً أو فقهياً أو لم يكن. بل اسم الجنس في اللغة يدخل فيه الأجناس والأصناف والأنواع ونحو ذلك. وكلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة.

وطلب بعضهم إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة؛ ليطعن في بعضها فعرفت مقصوده. فقلت: كأنك قد استعددت للطعن في حديث الأوعال، حديث العباس بن عبد المطلب، وكانوا قد تعنتوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (6/ 344 - 350) ودرء التعارض (4/ 219) فما بعدها.

(2)

في رواية الشيخ علم الدين (المعلق) ولعله تصحيف.

ص: 505

عبد العظيم

(1)

، من قول البخاري في تأريخه

(2)

: «عبد الله بن عميرة

(3)

: لا يعرف له سماع من الأحنف»

(4)

. فقلت: هذا الحديث مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود

(5)

وابن ماجه

(6)

والترمذي

(7)

وغيرهم

(8)

: فهو مروي من طريقين مشهورين فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر، فقال: أليس مداره على ابن عميرة، وقد قال البخاري:«لا يعرف له سماع من الأحنف» ؟ فقلت: قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في: كتاب التوحيد

(9)

الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: والإثبات مقدم على النفي،

(1)

هو أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، زكي الدين المنذري، عالم بالحديث والعربية، من الحفاظ المؤرخين، له مصنفات منها: الترغيب والترهيب، التكملة لوفيات النقلة وغيرها، (ت: 656 هـ). انظر: البداية والنهاية (13/ 212)، وفوات الوفيات (1/ 296)، طبقات الشافعية (5/ 108).

(2)

التاريخ الكبير (5/ 159).

(3)

هو عبد الله بن عميرة الكوفي، من كبار التابعين، روى له: أبو داود والترمذي وابن ماجه قال ابن حجر في التقريب: "مقبول". وانظر: تهذيب الكمال (15/ 385)، ميزان الاعتدال (2/ 469).

(4)

هو أبو بحر الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين التميمي السعدي البصري، من كبار التابعين،

ثقة روى له أصحاب الكتب الستة، (ت: 67 هـ). انظر: تاريخ البخاري (2/ 50)، تهذيب الكمال (2/ 282)، وفيات الأعيان (2/ 499).

(5)

رواه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية (4/ 231)، (4723).

(6)

رواه ابن ماجه في سننه المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية (1/ 69)(193).

(7)

رواه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب سورة الحاقة (5/ 424 - 425)، (3320).

(8)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 292)، والدارمي في الرد على الجهمية (72)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 253)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 234)، والآجري في الشريعة (3/ 1089)(665)، وابن منده في التوحيد (1/ 114)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 431) ومداره على سماك بن حرب عن الأحنف بن قيس عن ابن عميرة عن العباس مرفوعاً، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1247).

(9)

كتاب التوحيد (1/ 234).

ص: 506

والبخاري إنما نفى [معرفته بسماعه]

(1)

من الأحنف، لم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره -كإمام الأئمة ابن خزيمة- ما ثبت به الإسناد، كانت معرفته وإثباته مقدماً على نفي غيره وعدم معرفته، ووافق الجماعة على ذلك، وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه، وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن في العقيدة، ولكن لها تعلق بما أجبت به في مسائل، ولها تعلق بما قد يفهمونه من العقيدة.

فأحضر بعض أكابرهم [في المجلس الثاني]

(2)

: كتاب الأسماء والصفات للبيهقي -رحمه الله تعالى- فقال: هذا فيه تأويل الوجه عن السلف.

[فوقع في قلبي ما أعد]

(3)

، فقلت: لعلك تعني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].

فقال: نعم، قد قال مجاهد

(4)

والشافعي

(5)

: (يعني: قبلة الله).

[ولم يكن هذا السؤال يرد علي؛ فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه ولا أثبتها لكن طلبوها من حيث الجملة وكلامي كان مقيداً كما في الأجوبة فلم أر

(1)

هكذا في العقود الدرية (ص: 305) وهو الأقرب للصواب. وفي مجموع الفتاوى (معرفة سماعه).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 15).

(3)

المصدر السابق (6/ 15).

(4)

هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي، الإمام شيخ القراء والمفسرين، روى عن ابن عباس فأكثر وأخذ عنه القرآن والتفسير والفقه وعن جماعة من الصحابة، (ت: 101 هـ). انظر: طبقات ابن سعد (5/ 466)، حلية الأولياء (3/ 279)، تهذيب الكمال (27/ 228).

والمراد من قوله ما رواه البيهقي بسنده عن مجاهد في قوله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال: (قبلة الله، فأينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها» الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 107).

(5)

المراد ما رواه البيهقي مما حكاه المزني عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: (يعني والله أعلم: فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه) الأسماء والصفات (2/ 106 - 107).

ص: 507

إحقاقهم في هذا المقام]

(1)

، فقلت: نعم هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما، وهذا حق [المراد بها قبلة الله]

(2)

، وليست هذه الآية من آيات الصفات، ومن عدها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة؛ فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، والمشرق والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة؛ [أي فثمَّ جهةُ الله، فإن الوجه والجهة والوِجهة في مثل هذا بمعنى واحد]

(3)

، يقال:(أي: وجه تريده؟) أي: أي جهة؟ (وأنا أريد هذا الوجه): أي هذه الجهة. كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148]، [أي: يستقبلها]

(4)

؛ ولهذا قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، أي: تستقبلوا وتتوجهوا، [فثمَّ جهةُ الله: أي قبلةُ الله]، فقوله تعالى:{وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} ، كقوله:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، كلتا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان، وكلاهما في شأن القبلة والوجه والجهة هو الذي ذكر في الآيتين: أنا نوليه: نستقبله

(5)

(6)

، [وقد يَغلَط بعضُ الناس فيُدخِل في الصفات

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 16).

(2)

المصدر السابق (6/ 16).

(3)

حكاية المناظرة في الواسطية ضمن جامع المسائل (8/ 193 - 194).

(4)

المصدر السابق (8/ 194).

(5)

مجموع الفتاوى (6/ 15).

(6)

قال شيخ الإسلام في موضع آخر حاكياً بعض ما قرره في المناظرة: «قلت: والسياق يدل عليه؛ لأنه قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} وأين من الظروف وتولوا أي تستقبلوا. فالمعنى: أي موضع استقبلتموه فهنالك وجه الله فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله هذا بعد قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، وهي الجهات كلها كما في الآية الأخرى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]. فأخبر أن الجهات له فدل على أن الإضافة إضافة تخصيص وتشريف؛ كأنه قال جهة الله وقبلة الله. ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي قبلة الله ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه كما جاء في الحديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه)، وكما في قوله: (لا يزال الله مقبلا على عبده بوجهه ما دام مقبلا عليه فإذا انصرف صرف وجهه عنه)، ويقول: إن الآية دلت على المعنيين. فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه. والغرض أنه إذا قيل: (فثم قبلة الله)، لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه؛ الذي ينكره منكرو تأويل آيات الصفات؛ ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة فإن هذا المعنى صحيح في نفسه والآية دالة عليه، وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر» مجموع الفتاوى (6/ 16 - 17).

ص: 508

ما ليس منها، كما يَغلَط بعضُ الناس فيجعلُ من التأويل المخالف للظاهر ما هو ظاهر اللفظ، كما في هذه الآية ونحوها، ومثل ذلك قوله:(الحجر الأسود يمينُ الله في الأرض، فمن صافحه واستلمه فكأنما صافحَ الله وقبَّل يمينَه)

(1)

.

فقال لي بعض الحاضرين: فقد روي عن مالك أنه قال في حديث النزول: ينزل أمره. فقلت: هذا رواه حبيب كاتبه

(2)

، وهو كذاب فقال: قد رُوي من غير طريق حبيب، من طريق مطرف

(3)

.

وجواب هذه الرواية المنقولة عن مالك كجواب الرواية المنقولة عن الإمام أحمد في مثل ذلك، فإنه نُقِل عنه يومَ مناظرته للجهمية أمامَ الخليفة أنه قال في قوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:210] أنه أمره. فقيل: الراوي غلط عليه، وقيل: إنه قاله على سبيل الإلزام لهم لما احتجُّوا بمجيء القرآن على أنه مخلوق، فقال لهم: إنما مجيء ثوابه كما قلتم في قوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]: إنه أمره. وقيل: بل هذه رواية عنه أنه يتأول صفات المجيء والإتيان والنزول ونحو

(1)

رواه ابن خزيمة في صحيحه (4/ 221) والطبراني في الأوسط (1/ 178)، وقد روي مرفوعاً وموقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، ضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية مرفوعاً ورجح وقفه كما في مجموع فتاوى (6/ 397)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (224) وأشار إلى ضعفٍ في الموقوف أيضاً.

(2)

هو أبو محمد حبيب بن أبى حبيب: إبراهيم ويقال: رزيق، ويقال: مرزوق، المصري كاتب مالك بن أنس، من صغار أتباع التابعين، روى له ابن ماجه، متروك، كذبه أبو داود و جماعة، (ت: 218 هـ). انظر: إكمال تهذيب الكمال (3/ 363)، لسان الميزان (9/ 278).

(3)

هو أبو مصعب مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار اليساري الهلالي المدني، مولى ميمونة، ابن أخت مالك بن أنس، روى له البخاري، والترمذي، وابن ماجه، ثقة لم يُصِب ابن عدى فى تضعيفه، كانوا يقدمونه على أصحاب مالك، (ت: 220 هـ). انظر: إكمال تهذيب الكمال (11/ 230)، موسوعة أقوال الإمام أحمد بن حنبل في رجال الحديث وعلله (3/ 362).

ص: 509

ذلك بمعنى القصد، ولا يتأوَّل غيرها. وبعضهم جعلها رواية مخرجة عنه في بعض أحاديث الصفات التي يجب تأويلها عند هذا القائل، وهو ابن ....

(1)

، فالكلام في المنقول عن مالك وأحمد سواء.

وهذا إذا كان قولًا صحيحًا ثابتًا عن السلف لم يضرَّني؛ لأني لم أذكر في العقيدة لفظ التأويل نفيًا ولا إثباتًا، وإنما قلت:(من غير تحريف)، والتفسير الصحيح المأثور عن السلف الذي تقوم عليه الحجة الموجبة لقبوله ليس بتحريف، بل هو مثل ما يُنقل عنهم من تفسير القرآن والحديث. فهذا إذا ثبت ليس مخالفًا لما ذكرتُه.

وقلتُ للسادة الحاضرين: هل في شيء من هذه الأقوال والكلام كفرٌ أو فسقٌ؟ فصرَّح أكثرهم بأنه ليس فيه كفرٌ ولا فسقٌ، حتى من كان يُكثِر النزاعَ قبلَ ذلك المجلس ويدَّعي الكفر اعترفَ بأنه ليس فيه كفرٌ ولا فسقٌ.

وقال بعضهم: هذا بدعة. فأنكر جمهور الحاضرين عليه هذا القول، وطلب

(2)

الجمع بدعة أو أنه من البدع المستحسنة، وغلَّظ بعضهم الإنكار لهذا القول.

فقلت: الكتاب والسنة لا يكون بدعة، إنما البدعة مثل اعتقاد ابن التومرت

(3)

ونحوه، والسلف إنما كرهوا الكلام المخالف للكتاب والسنة، كما قال الشافعي رضي الله عنه: «حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد ويُطافَ بهم في القبائل

(1)

بياض في الأصل.

(2)

بياض في الأصل.

(3)

هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن تومرت، الملقب بالمهدي، صاحب دعوة السلطان عبد المؤمن بن علي ملك المغرب، وواضع أسس الدولة المؤمنية الكومية، كان يدعي أنه حسني علوي، وكان على مذهب المعتزلة في نفي الصفات، من مصنفاته:"كنز العلوم" و "أعز ما يطلب"(ت:524 هـ). انظر: وفيات الأعيان (5/ 45) تاريخ الإسلام (11/ 408) شرح الأصبهانية (ص:101).

ص: 510

والعشائر، ويقالَ هذا جزاءُ من تركَ الكتابَ والسنةَ وأقبلَ على الكلام»

(1)

فإنما عابوا على من ترك الكتاب والسنة.

فقال بعضهم: قد كره مالكٌ رواية مثل هذا.

قلت: المنقول عن مالك أنه كره لمحمد بن عجلان

(2)

رواية حديث الصورة

(3)

، وقد تكون كراهته مخصوصةً خشيةَ ضلالِ بعض الناس به، كما قال

(1)

رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 194) وروى نحوه الهروي في ذم الكلام (4/ 246).

(2)

هو محمد بن عجلان مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. ويكنى أبا عبد الله. وكان عابدا ناسكا فقيها. كان ثقة كثير الحديث، وأحد من جمع بين العلم والعمل (ت: 149 هـ). انظر: الطبقات الكبرى (5/ 431) تاريخ الإسلام (3/ 971).

(3)

المقصود ما رواه أبو جعفر العقيلي في الضعفاء الكبير قال: حدثنا مقدام بن داود، قال: حدثنا أبوزيد أحمد [هكذا في المطبوع، والصحيح أنه عبد الرحمن] بن أبي الغمر والحارث بن مسكين قالا: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال سألت مالكاً عمن يحدث بالحديث الذي قالوا: (إن الله خلق آدم على صورته). فأنكر ذلك مالك إنكاراً شديداً، ونهى أن يتحدث به أحد، فقيل له إن ناساً من أهل العلم يتحدثون به، فقال من هم، فقيل محمد بن عجلان عن أبي الزناد. فقال لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الأشياء ولم يكن عالماً. وذكر أبا الزناد فقال:«إنه لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات، وكان صاحب عمال يتبعهم» . قال العقيلي: «وكان مالك بن أنس لا يرضى أبا الزناد» الضعفاء (2/ 251). وفي إسناده مقدام بن داود قال النسائي: «ليس بالثقة» ، وقال الدارقطني:«ضعيف» ، وَقَالَ ابن يونس وابن أبي حاتم:«تكلَّموا فيه» . انظر: تاريخ الإسلام (6/ 838)، لسان الميزان (8/ 144)، وبهذه العلة ضعف هذه الرواية الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة (3/ 320)، وضعفها الشيخ حمود التويجري رحمه الله في عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (1/ 9).

وذكر تقي الدين السبكي في الكتاب المنسوب إليه «السيف الصقيل» ، أن الحسن بن إسماعيل الضراب في كتابه فضائل مالك روى هذه المقولة بسنده إلى ابن القاسم، وبسنده لابن وهب عن مالك رحمه الله، ولم يذكر السبكي إسناده، والكتاب المذكور لم أقف عليه، والضراب هذا ضعيف، ضعفه الإمام الدارقطني رحمه الله في "غرائب مالك" كما في لسان الميزان (3/ 30، 109). وأخرج ابن أبي زمنين في أصول السنة (ص:75) بسنده عن ابن القاسم قال: «وكان مالك يعظم أن يحدث أحد بهذه الأحاديث التي فيها: أن الله خلق آدم على صورته وضعفها» وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم بن ميسرة التجيبي، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 495): «قال ابن الفرضي:

ولم يكن له علم بالحديث بل ينقل بالمعنى». وقال ابن فرحون في الديباج المذهب (ص: 96): «لم يكن له بالحديث كبير علم» ، وفيه إسناده أيضاً محمد بن أحمدَ العُتْبِيِّ، قال الذهبي:«قَالَ أسلم بن عبد العزيز: أخبرني ابن عبد الحكم، قَالَ: أتيت بكتب حسنة الخط، تُدْعى: (المستخرجَةُ) من وضعِ صاحبكم محمد بن أحمدَ العُتْبِيِّ فرأيت جلها مكذوباً ومسائل لا أصول لها، ولما قد أسقط وطرح، وشواذ من مسائل المجالس لم يوقف عليها أصحابها» . وَقَالَ ابن الفرضي: «جمع المستخرجة، وأكثر فيها من الروايات المَطروحة، والمَسائل الشَّاذة» سير أعلام النبلاء (12/ 336).

ص: 511

عبد الله بن مسعود: (ما من رجلٍ يُحدِّثُ قومًا حديثًا لا تبلُغُه عقولهم إلَّا كان فتنةً لبعضهم)

(1)

، وإلّا فقد حدَّثَ به سائر الأئمة، وهو في الصحاح، وهذا الحديث ليس في هذا الاعتقاد، وقد روى مالك في الموطأ حديث النزول والضحك.

قلت: وأنا لم أخاطبْ عامةً ولا دعوتُ أحدًا إلى اعتقاد، وإنما كتبت لبعض القضاة]

(2)

، والله أعلم. وصلى الله على محمد». ا. هـ.

(1)

رواه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 11).

(2)

حكاية المناظرة في الواسطية، ضمن جامع المسائل (8/ 194 - 197).

ص: 512

«تتمة في نتيجة المناظرة وخاتمتها»

لم يستطع علماء الأشاعرة وقضاتهم، الصمود أمام قوة شيخ الإسلام العلمية، وبراهينه الساطعة وأدلته الباهرة، التي تدع خصمه مبهوتاً حائراً، لا يجد جواباً يجيب به، ولا ملاذاً فيفر إليه، وانتهى بهم المطاف إلى وجوب الاستسلام لما ذكره شيخ الإسلام وبينه، والإقرار بصحة ما كتبه ودونه، فأجمعوا بعد ذلك على التسليم بصحة العقيدة الواسطية، واعترفوا بأنها معتقد سلفي سني جيد.

قال الذهبي رحمه الله: «ثم وقع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد»

(1)

، قال ابن رجب رحمه الله:«فمنهم من قال ذلك طوعاً، ومنهم من قاله كرها»

(2)

، قال ابن كثير: «وعاد الشيخ إلى منزله معظماً مكرماً، وبلغني أن العامة حملوا له الشمع من باب النصر

(3)

إلى القصّاعين

(4)

على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء»

(5)

، قال ابن عبد الهادي:«وقد أظهر الله من قيام الحجة ما أعز به أهل السنة»

(6)

، قال المقريزي: «وقد كتب الأفرم

كتابًا إِلى السلطان، وكتب معه محضر فيه خطوط عدّةٍ من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء يصفون ما جرى في المجلسَين بدمشق، وأَنَّه لم يثبت عليه فيهما شيءٌ، ولا مُنِعَ من الإِفتاء»

(7)

، قال ابن عبد الهادي: «وفي اليوم السادس والعشرين من شعبان ورد كتاب

(1)

نبذة من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص:45).

(2)

ذيل طبقات الحنابلة ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص:475).

(3)

أحد أبواب دمشق القديمة، كان في الجهة الغربية للسور قريباً من دار الحكم عند مدخل سوق الحميدية الآن، وقد تمت إزالته في العهد العثماني. انظر: معجم دمشق التاريخي (1/ 29).

(4)

هي إحدى حارات دمشق قبالة جامع القلعي تعرف حديثاً بـ"محلة الخيضرية". انظر: معجم دمشق التاريخي (2/ 163).

(5)

البداية والنهاية (14/ 42).

(6)

العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 220)، البداية والنهاية (14/ 43).

(7)

مسالك الأبصار ضمن الجامع لسيرة الشيخ (ص:322).

ص: 513

السلطان

وفيه إنا كنا رسمنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين وقد بلغنا ما عقد له من المجالس وأنه على مذهب السلف وما قصدنا بذلك إلا براءة ساحته»

(1)

ووصف الشيخ عبد الله ابن تيمية أخي الشيخ رحمه الله ما وقع: «بالنصر الأكبر، والفتح المبين»

(2)

، وأن «العقول تعجز عن دركه على التفضيل، والألسن عن وصفه عن التكميل»

(3)

.

ومع هذا فقد وقع من خصوم شيخ الإسلام رحمه الله كذب وتحريف لما حدث، قال عبد الله بن تيمية رحمه الله:«وبعد المجلس حصل من ابن الوكيل وغيره: من الكذب والاختلاق والتناقض بما عليه الحال ما لا يوصف»

(4)

، وقال ابن عبد الهادي:«واختلفت نقول المخالفين للمجلس وحرفوه ووضعوا مقالة الشيخ على غير موضعها وشنع ابن الوكيل وأصحابه بأن الشيخ قد رجع عن عقيدته فالله المستعان»

(5)

.

وقد حاول بعض من أرخ لهذه الحادثة تغطية هذه الهزيمة التي حصلت لعلماء الأشاعرة وأئمتهم، بتصوير أن ما جرى في ختام المناظرة من اتفاق وإجماع، لم يكن على صحة العقيدة الواسطية والتسليم بما فيها، والإقرار بما ذكره شيخ الإسلام خلالها، بل إن إقرارهم إنما كان بعد أن أشهد ابن تيمية الحاضرين على نفسه أنه شافعي المذهب، يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي رحمه الله، هذا ما ذكره قطب الدين اليونيني صاحب "ذيل مرآة الزمان" حيث قال: «وانفصل الأمر فيما بينهم أنه أشْهَد تقيُّ الدين على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب، يعتقد ما

(1)

العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 222).

(2)

رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 202).

(3)

المصدر السابق: (3/ 202).

(4)

رسالة عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين عن حاصل المناظرة في الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/ 210).

(5)

العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 220)، البداية والنهاية (14/ 43).

ص: 514

يعتقده الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه، فرُضِيَ منه بهذا القول، وانصرف كلٌّ منهم إلى منزله، وبعد ذلك حصل من أصحاب الشّيخ تقي الدين ابن تيمية كلام هذياني وقالوا: ظهر الحق مع شيخنا تقيّ الدين»

(1)

وتبعه على هذا التقرير أبو بكر بن أيبك الداوردي في "كنز الدرر"

(2)

، وشهاب الدين النويري فيما نقله عن شمس الدين الجزري في "نهاية الأرب"

(3)

، وتبعهم من المتأخرين ابن حجر في "الدرر الكامنة"

(4)

وغيرهم

(5)

، وما ذكروه هنا محل نظر وتأمل، ولا يمكن التسليم به، وذلك؛ لأنه:

-مخالف للحقيقة التي بينها شيخ الإسلام بنفسه في روايته للمناظرة.

-ومخالف لما ذكره من شهد المناظرة كأخيه عبد الله، والشيخ علم الدين البرزالي.

-ومخالف لما نص عليه عدد من المؤرخين الثقات العدول، كابن كثير والذهبي وابن عبد الهادي والمقريزي، وغيرهم ممن ذكر هذه المناظرة وبيَّن ما جرى فيها.

-ومما يدل على عدم صواب مثل هذا القول؛ أن ما زعموا الاتفاق عليه لم يكن هو محور البحث والكلام، وإنما كانت العقيدة الواسطية وما ذكر فيها من اعتقاد هي موضوع البحث ومحل النقاش.

-ثم إن ما ذكروه من إشهاد شيخ الإسلام على نفسه بأنه يعتقد ما يعتقد الشافعي، إنما هو تحصيل حاصل؛ وذلك لأن عقيدة الشافعي هي عقيدة أهل السنة، وعقيدة جميع العلماء والأئمة، فقوله بأنه على اعتقاد الشافعي أو اعتقاد أحمد أو اعتقاد مالك، لا يؤثر في القضية شيئاً؛ لأن اعتقاد الجميع واحد

(1)

ذيل مرآة الزمان، ضمن تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص:19).

(2)

كنز الدرر، ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص:228).

(3)

نهاية الأرب، ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص:174).

(4)

الدرر الكامنة، ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (534).

(5)

انظر: عقد الجمان لبدر الدين العيني (4/ 411) والبدر الطالع للشوكاني (1/ 66).

ص: 515

وهو اعتقاد أهل السنة قاطبة.

-ومما يكشف ما في هذه المقالة من مغالطة للواقع، ما جاء فيها:«أنه أشْهَد تقيُّ الدين على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب» ، فقوله "شافعي المذهب" أول ما يتبادر إلى ذهن قارئ هذا الكلام أن شيخ الإسلام أصبح على مذهب الشافعي في الفروع والفقه؛ وذلك لأنه ليس للشافعي مذهب يختص به إلا في الفقه والفروع؛ ولأن "ال" هنا: ال العهدية: أي المذهب المعهود، ولا مذهب معهود للإمام الشافعي رحمه الله إلا مذهبه الفقهي، وبطلان مثل هذا القول أظهر من أن يذكر، فمن المعلوم بالضرورة من سيرة شيخ الإسلام أنه كان أحد الأئمة المجتهدين وكان على مذهب أحمد بن حنبل وعاش ومات عليه، فكيف يقال بأنه أقر على نفسه أنه شافعي المذهب؟!

-ثم إن تحوله من مذهب فقهي إلى مذهب آخر ليس له أي أثر في الاعتقاد الذي ذكره وصنفه؛ لأن النقاش والمناظرة إنما كانت في الاعتقاد والأصول، ولم تكن في الفقه والفروع. فلم يوفق صاحب هذه الرواية لاختيار عبارة مناسبة للمقام، وهذا من عناية الله بحملة شرعه ودينه.

-وأخيراً، قد يقال -إحساناً للظن بمن نقل هذا الخبر-: إن نقلهم إنما كان عن سوء فهم لما قاله شيخ الإسلام أثناء المناظرة، كقوله:«وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية: لأبيَّنن أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قول الأشعري وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، "ولينتصرن كل شافعي"، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين أن القول المحكي عنه في تأويل الصفات الخبرية، قول لا أصل له في كلامه؛ وإنما هو قول طائفة من أصحابه فللأشعرية قولان، ليس للأشعري قولان»

(1)

فقالوا بهذه المقالة بناءً على سوء فهمهم لمراد شيخ الإسلام بهذا الكلام، والواقع أن شيخ الإسلام أراد باستشهاده بأقوال الشافعي وأئمة مذهبه،

(1)

المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 190).

ص: 516

بيان موافقة معتقده لما ذكره ونص عليه، والرد على ما انتشر من أن للشافعي اعتقاداً يخالف معتقد الإمام أحمد وما عليه أهل السنة في باب الأسماء والصفات وغيرها من أبواب العقائد، والله أعلم.

* * *

ص: 517

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌المسألة الأولى: تسمية المتكلمين التحريف تأويلاً:

•‌

‌ تمهيد:

كان مما أغضب بعض شيوخ الأشعرية في عقيدة شيخ الإسلام قوله أثناء تقريره لعقيدة أهل السنة في إثبات الأسماء والصفات: «من غير تحريف ولا تعطيل» ، فاعترض معترضهم على لفظ التحريف -في قالب سؤال واستفسار-؛ لعلمه أن شيخ الإسلام يعني بهذه العبارة نفي تأويلهم الباطل المزعوم المحدث، الذي لجأوا إليه لصرف نصوص الصفات عن حقائقها وتحريفها عن معانيها، وستتم مناقشة هذه المسألة من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

يظهر من قول المعترض على تعبير شيخ الإسلام أن أصل شبهته: هي عدم تفريقه بين التأويل والتحريف، وظنه أن نفي التحريف يستلزم منه نفي التأويل، فلذلك سأل شيخ الإسلام سؤال مستنكر، ما مرادك بنفي التحريف؟!

فتكونت شبهته من مقدمتين:

الأولى: ظنه أن التحريف الذي سلكوه هو التأويل.

الثانية: ظنه أن التأويل كله حق وصدق.

وتفصيل ذلك: أن الجهمية الأوائل قد عطلوا الصفات ونفوها وما دلت عليه صراحة، والسلف وأهل السنة قد أثبتوا الصفات وما دلت عليه، فجاء ابن كلاب، ومن نحى نحوه فأرادوا أن يجمعوا بين طريقة أهل السنة وطريقة الجهمية، فأثبتوا ألفاظ النصوص ونفوا ما دلت عليه من معاني بطريقة سموها تأويلاً وما هي في الحقيقة إلا تحريف.

ولما شاعت هذه الطريقة وأصبحت مذهباً متبعاً ومسلكاً معروفاً عند

ص: 518

المتكلمين من الكلابية والأشاعرة والماتريدية وغيرهم، بحثوا لها عن مسمى شرعي جاء في النصوص ليسموها به فيجعلوا لها صبغة شرعية تروج من خلالها بضاعتهم الكاسدة وطريقتهم الفاسدة، فاختاروا لفظ التأويل وجعلوا له معنى حادث غير المعنى الذي جاءت به النصوص وتتابع عليه السلف الصالحون، فقالوا التأويل: هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى غير ظاهره؛ لقرينة دلت على ذلك، أو هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لقرينة دلت عليه

(1)

.

ثم إنهم لم يلتزموا هذا التعريف الذي ذكروه ولا الدليل الذي اشترطوه، وإنما جعلوا هذه ذريعة لهم لتقرير معتقداتهم الباطلة، وترويج آرائهم الفاسدة.

فجعلوا هذه القرينة التي تجيز صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته ليست قرينة لغوية ولا دليلاً وحجة شرعية، وإنما أهواؤهم وعقولهم، فمخالفة عقولهم الضعيفة وأهوائهم الفاسدة هي الدليل والقرينة التي توجب صرف اللفظ عن ظاهره، وتحريف الكلم عن معناه.

وليس المقصود حصر ظهور هذا الأمر بظهور الكلابية والأشاعرة، بل إن هذا المسلك قديم، ولكنهم أذاعوه وأشهروه والتزموه، قد وصف الدارمي رحمه الله حال بعض أسلافهم بقوله: «وبلغنا أن بعض أصحاب المريسي

(2)

قال له: كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا، مما لا يمكن التكذيب بها؟ .. قال: فقال المريسي: لا تردوه فتفتضحوا، ولكن غالطوهم بالتأويل فتكونوا قد رددتموها بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف»

(3)

.

(1)

انظر: البرهان للجويني (1/ 511)، المستصفى للغزالي (1/ 387)، الأحكام للآمدي (3/ 599)، شرح مختصر الروضة (3/ 599)، شرح ابن أبي العز (ص:182).

(2)

هو بشر بن غياث بن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي، العَدَوى بالولاء، أبو عبد الرحمن من روؤس الجهمية الفقه عن القاضي أبي يوسف، وقيل: كان أبوه يهوديا، ورماه غير واحد بالزندقة، رد عليه الإمام الدارمي في كتاب النقض (ت: 218 هـ). انظر: تاريخ بغداد (7/ 531) وفيات الأعيان (1/ 277).

(3)

نقض عثمان بن سعيد (ص 558).

ص: 519

وبذلك فتح المتكلمون باباً خطيراً وشراً مستطيراً على الأمة الإسلامية تُروُّج من خلاله البدع والضلالات، وتشيع من خلاله الأهواء والانحرافات بين أبناء المسلمين.

‌الوجه الثاني: الجواب عن الشبهة:

أجاب شيخ الإسلام في هذه المناظرة وفي مواضع أخرى من كتبه ورسائله على هذه الشبهة بعدة أجوبه ويمكن إجمالها فما يلي:

أولاً: بين شيخ الإسلام أنه إنما يعني بتعبيره بنفي (التحريف): تحريف معنى الكلام عن ظاهره المعروف المتبادر إلى معنى آخر غير ظاهر ولا متبادر؛ وذلك إما لهوى أو بدعة أو رأي مخالف للشرع احتاج معه صاحبه لتحريف معاني الشرع إلى مراده من غير دليل بيّن، ولا حجة صحيحة، وذلك مثل ما صنع بعض الجهمية في تحريفه لمعنى قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] قال: جرحه بأظافر الحكمة تجريحاً،. قال شيخ الإسلام:«فالمراد بالتحريف: التأويل المذموم الباطل الذي هو صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه، صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، كتأويل من تأول: استوى بمعنى استولى، ونحوه»

(1)

.

ثانياً: بين شيخ الإسلام لهذا السائل أنه نفى التحريف ولم ينف التأويل؛ لأن التحريف قد جاءت النصوص بذمه فوجب نفيه ومنعه عن نصوص الكتاب والسنة، وأما التأويل فلم يذكره شيخ الإسلام لسببين اثنين:

• السبب الأول: أن النصوص لم تأت بنفيه.

• السبب الثاني: أن لفظ التأويل أصبح لفظا مجملاً مشتركاً، يستخدم في عدة معاني، منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، فهو يطلق ويراد به عدة معانٍ وهي كالتالي:

(1)

درء تعارض العقل والنقل (5/ 382).

ص: 520

المعنى الأول: حقيقة ما يؤول إليه الكلام، فتأويل الأوامر فعلها، وتأويل النواهي اجتنابها، وتأويل الخبر نفس المخبر عنه، قال شيخ الإسلام:«وأما لفظ (التأويل) في التنزيل فمعناه: الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب، وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها، فتأويل ما أخبر به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر، وتأويل ما أخبر به عن نفسه هو نفسه المقدسة الموصوفة بصفاته العلية»

(1)

. وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة كقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]، ومنه قول عائشة:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا ولك الحمد اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)

(2)

.

المعنى الثاني: تفسير الكلام، وهو بيان المعنى المراد، أي معنى الكلام ومراد المتكلم به، قال شيخ الإسلام:«ويراد بلفظ التأويل: التفسير، وهو اصطلاح كثير من المفسرين، ولهذا قال مجاهد -إمام أهل التفسير-: إن (الراسخين في العلم)، يعلمون تأويل المتشابه، فإنه أراد بذلك تفسيره وبيان معانيه وهذا مما يعلمه الراسخون»

(3)

.

وهذان المعنيان للتأويل حق، ويكونان في سائر الكلام، وبهما يتحصل على معنى كلام المتكلم ومراده، إلا أن الأول يكون تحصيله خارج الذهن، والثاني يكون تحصيله في الذهن.

المعنى الثالث: وهو المعنى الذي اصطلح عليه بعض المتأخرين، ولا يوجد في اصطلاح أحد من السابقين، وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر إلى غير

(1)

درء تعارض العقل والنقل (5/ 382) وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 68)، الصفدية (1/ 288).

(2)

رواه البخاري كتاب الأذان، باب: التسبيح والدعاء في السجود (817)، ومسلم كتاب الصلاة (484).

(3)

مجموع الفتاوى (4/ 69).

ص: 521

ظاهره، وهذا الصرف إما أن يكون:

1) بدليل وقرينة صحيحة أرادها المتكلم ودل عليها السياق: فهذا المعنى للتأويل معنى صحيح وهو راجع للمعنيين الأوليين، ولا يصح أن يكون معنى ثالثاً بل غايته أن يرجع لأحد المعنيين السابقين، قال شيخ الإسلام:«وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف، اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال: إنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هو التفسير، لكونه تفسيراً للكلام وبياناً لمراد المتكلم به، أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها؛ لكونه مندرجاً في ذلك، لا لكونه مخالفا للظاهر»

(1)

.

2) بدون دليل صارف ولا قرينة، أو بدليل وقرينة غير صحيحين: وهذا هو التحريف الذي نفاه شيخ الإسلام عن النصوص، وهو المسلك الذي اتَّبعه المتكلمون لتعطيل دلالة النصوص، وسموه (تأويلاً)، وهو في الحقيقة تحريف واضح؛ فإن "التحريف نوعان: تحريف اللفظ، وتحريف المعنى: فتحريف اللفظ: العدول به عن جهته إلى غيرها، إما بزيادة، وإما بنقصان، وإما بتغيير حركة إعرابية، وإما غير إعرابية، فهذه أربعة أنواع

وأما تحريف المعنى: فهذا الذي جالوا وصالوا وتوسعوا وسموه تأويلاً، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يعهد به استعمال في اللغة: وهو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر بقدر ما مشترك بينهما "

(2)

.

قال شيخ الإسلام: «والتأويل الذي ذمه السلف والأئمة هو تحريف الكلام عن مواضعه، وإخراج كلام الله ورسوله عما دل عليه وبينه الله به، وقد حده طائفة بأنه صرف الكلام عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير

(1)

الصفدية (1/ 291).

(2)

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 387).

ص: 522

دليل»

(1)

، وقال رحمه الله:«ويراد بالتأويل تحريف الكلم عن مواضعه، وتفسير الكلام بغير مراد المتكلم، كتحريف أهل الكتاب لما حرفوه من الكتاب، وتحريف الملاحدة وأهل الأهواء لما حرفوه من معاني هذا الكتاب»

(2)

.

وهذا النوع من التأويل قد قام شيخ الإسلام بنقضه وبيان فساده من وجوه عدة، أهمها ما يلي:

أولاً: أنه اصطلاح حادث لم يكن في عرف السلف، ووُضِع من جهة غير مؤتمنة وهم المتكلمون، قال شيخ الإسلام:«وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفاً لما يدل عليه اللفظ ويبينه، وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام»

(3)

، وعلى ذلك فهو بدعة شرعية ولغوية، إذ لم تدل عليه اللغة فلا وجه لفهمه، ولم يقصده الشرع فلا وجه للتدين به، ويعود على اللغة وعلى الشرع وعلى العلوم بالإبطال.

ثانياً: أن "التأويل المقبول: هو ما دل على مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يُعلم أن الرسول أرادها، بل يُعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يُعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص. وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد"

(4)

.

(1)

جامع المسائل (3/ 160 - 161)، وانظر: الصفدية (1/ 289)، بيان تلبيس الجهمية (8/ 548).

(2)

جامع المسائل (5/ 291).

(3)

مجموع الفتاوى (4/ 69)، وانظر: الصفدية (1/ 288)، بيان تلبيس الجهمية (8/ 548)، جامع المسائل (3/ 160 - 161).

(4)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 201)، وانظر: الصفدية (1/ 288).

ص: 523

ثالثاً: أن التأويل مبني على قواعد فاسدة كالاعتقاد بأن النصوص الشرعية ظنية لا تفيد العلم القطعي، وتقديم العقل على النقل، والقول بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وقد قرر شيخ الإسلام أنه تقسيم حادث بعد القرون الثلاثة المفضلة، وأن مراد المتقدمين بالمجاز ما يعبر به ويجوز في اللغة

(1)

، وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية لا يعدّ مجازاً بالمعنى الذي قرره المتأخرون

(2)

.

رابعاً: أن التأويلات التي نافح عنها المناظر لشيخ الإسلام ومن سار على شاكلته هي من باب تحريف الكلام عن مواضعه، وصرف النصوص عن مدلولها ومقتضاها، وإخراج كلام الله ورسوله عما دل عليه وبينه

(3)

، قال شيخ الإسلام:«هذه التأويلات من باب تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في آياته»

(4)

، وقال أيضاً:«فإن هذا التأويل في كثير من المواضع -أو أكثرها وعامتها- من باب تحريف الكلم عن مواضعه من جنس تأويلات القرامطة والباطنية. وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ورموا في آثارهم بالشهب»

(5)

.

خامساً: أن المتكلمين ليس لهم ضابط دقيق يُرجع إليه فيما يصح تأويله وما لا يصح تأويله، وحجتهم الدائمة في تأويل النصوص هي عدم موافقتها للعقل، ويلزم كل منهم الآخر بتأويل ما لا يعتقد تأويله بحجة مخالفة العقل، فكل يدعي أن هذا الظاهر مخالف للعقل، فإلى أي عقل نحتكم؟ وبأي عقل نرجح؟

(6)

.

سادساً: تناقض واضطراب طوائف المتكلمين والمؤولة؛ فإنه ما من تأويل

(1)

انظر: كتاب الإيمان (ص: 83 - 86)، والحقيقة والمجاز ضمن مجموع الفتاوى (20/ 403، 452).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (12/ 277).

(3)

انظر: المصدر السابق (5/ 235)، (5/ 349)، الصفدية (1/ 291).

(4)

درء تعارض العقل والنقل (5/ 383).

(5)

مجموع الفتاوى (4/ 69).

(6)

انظر: بيان تلبيس الجهمية (6/ 294 - 295).

ص: 524

تذكره طائفة إلا وترده طائفة أخرى وتبطله، قال شيخ الإسلام: «لا خلاف بين جميع الطوائف أن كثيرًا من هذه التأويلات أو أكثرها باطل، بل كثير من التأويلات يعلم فسادها بضرورة العقل؛ وذلك أنه ما من طائفة من الطوائف الذين يحرفون الكلام عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته ويسمون ذلك تأويلاً من أصناف المتجهمة ونحوهم إلا وهي ترد كثيرًا من تأويلات الطائفة الأخرى، وتقول إنها باطلة كما أن المؤسس

(1)

وأمثاله يردون تأويلات المعتزلة للآيات والأخبار التي فيها وصف الله تعالى بأن له علماً وقدرة وحياة وسمعًا وبصرًا، وأن له كلامًا قائمًا بنفسه وأنه يُرى ونحو ذلك، ويردون تأويل الجهمية من المعتزلة وغيرهم لعذاب القبر والصراط والميزان وغير ذلك، وهم والمعتزلة يردون تأويلات الفلاسفة الصابئين للجنة والنار، وما فيهما من نعيم وعذاب، والفلاسفة العقلاء مع سائر المتكلمين يردون تأويل القرامطة والباطنية للصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، والباطنية ترد كل طائفة منهم تأويل الآخرين؛ فإن بينهم نزاعًا طويلاً، والمعتزلة أيضًا ترد تأويل الأشعرية ونحوهم للآيات التي فيها تنزيه الله نفسه عن الظلم وفيها إثبات فعل العباد لأفعالهم فيها وإخراج الأعمال الصالحة من الإيمان ونحو ذلك»

(2)

.

سابعاً: أن التأويل الفاسد آل ببعض المتكلمين إلى مخالفة المسلمات ومعارضة البديهيات، قال شيخ الإسلام: «ما زال أهل العقل والعلم إذا سمعوا كثيرًا من هذه التأويلات ورأوها في المصنفات يعلمون أنها من أظهر الأمور فسادًا في البديهي من المعقولات، ولا ينقضي تعجبهم من قوم يذهبون إلى تلك التأويلات ممن له في العلم صيت مشهور، وقد رأيت وسمعت من ذلك بعجائب، ولكن ننبه ببعض ما ذكره هذا المؤسس وذلك بأمثلة أحدها قوله في تأويل قوله تعالى {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]

إن الرب هو المربي فلعل

(1)

أي الرازي ..

(2)

بيان تلبيس الجهمية (6/ 291 - 292).

ص: 525

ملكًا عظيمًا هو أعظم الملائكة كان مربيًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وكان هو المراد من قوله {وَجَآءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]. فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل وإيمان أنه من المعلوم بالاضطرار في دين الإسلام أن هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى رسوله وعلى كلامه، وأن الله لم يجعل لمحمد قط ربًّا غير الله {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]»

(1)

.

ثامناً: أن تأويل المتكلمين وتحريفاتهم كانت سبباً لتسلط الدهرية والفلاسفة والملاحدة على المسلمين وتقرير إلحادهم وزندقتهم؛ قال شيخ الإسلام: «وينبغي أن يعلم أن الذي سلط هؤلاء الدهرية على الجهمية شيئان:

أحدهما: ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة، ويخالفون بها المعقولات الصحيحة التي يفسر بها خصومهم أو غيرهم.

والثاني: مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة، ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه، فإنهم لما شاركوهم فيما شاركوهم فيه بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها، كما احتج به هذا الفيلسوف، وكما يذكره أبو عبد الله الرازي ومن قبله حتى إن الدهرية قالوا لهم: القول في آيات المعاد كالقول في آيات الصفات. فكان من حجتهم عليهم، وضموا ذلك إلى ما قد يطلقونه من الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، فقالوا له أنت تقول الظواهر لا تفيد القطع أيضًا، والآيات المتشابهة في القرآن الدالة على المشيئة والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد الجسماني، ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات، فلم لاتجوزون أيضًا تأويل الآيات الواردة ها هنا؟!»

(2)

.

(1)

بيان تلبيس الجهمية (6/ 306).

(2)

المصدر السابق (2/ 71 - 72).

ص: 526

والملاحظ في طرق الفرق المنحرفة يجد أن العمل بمجموع تأويلاتهم يعني هدم الدين كله، وإبطال كل نصوص الكتاب والسنة، فطائفة أولت نصوص الصفات، وطائفة أولت نصوص الأسماء، وطائفة أولت أمور المعاد والبعث واليوم الآخر، ثم جاءت الباطنية فأولوا كل نصوص العبادات والواجبات والمحرمات، وبهذا أصبح الدين كله مؤولا، والشرع كله فاسدا، والله المستعان

(1)

.

تاسعاً: خفاء الحق في هذه التأويلات وعدم التمييز بين الحق فيها من الباطل يوجب عدم قبول شيء منها؛ لعدم الأمن من كونه باطلا؛ إذ "كُلٌ من هؤلاء المختلفين يقول إن العقل يوجب عليه التأويل الذي يزعم الآخر أنه تأويل باطل، وعند هذا فيقول نفاة هذه التحريفات: إذا ثبت أن هذه التأويلات منها باطل كثير باتفاق الطوائف، وثبت أن الحق الذي يدعيه مدع فيها لم يتفق على أنه حق، بل النزاع واقع فيه هل هو حق أو باطل؟ وهم يقولون لا يفصل بينهم إلا العقل، وكل منهم يدعي أن العقل معه، وليس العقل متكلمًا ظاهرًا يفصل بينهم؛ كان الفصل بينهم متعذرًا، وكذلك النزاع بينهم واقعًا لازمًا ضرورة عدم الفصل بينهم، وكان معهم باطل قطعًا، ولم يُعلم أن معهم حقًّا، أو الحق الذي معه لا يمكن تمييزه، كانت مذاهبهم من جنس مذاهب اليهود والنصارى بعد التبديل، بل أولئك أجود مما يقوله هؤلاء من التأويلات وإن لم يكونوا أجود في الجملة مما هو عليه كل طائفة من طوائف المسلمين، إذ مع كل طائفة من المسلمين الذين هم مسلمون حقيقة من الحق الذي لا ريب فيه أعظم مما مع اليهود والنصارى، لكن الكلام هنا في تأويلاتهم التي ينازعهم فيها أهل الإثبات، فإن أهل الكتابين معهم حق مأثور عن الأنبياء بلا ريب ومعهم باطل ابتدعوه وباطل حرفوه، -كما مع هؤلاء الجهمية ونحوهم من المتكلمين- ومع هذا فلا نزاع بين المسلمين أنه لا يجوز اتباعهم في علومهم وأنهم ضُلال، وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر الرسالة التدمرية (ص:21)، درء التعارض (5/ 347).

ص: 527

قال: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه)

(1)

، كان هؤلاء المتكلمون بهذه التأويلات أولى أن ترد عليهم كلها ولا يقبل منها شيء؛ إذ لم يعلم أن فيها ما هو حق، فإذا كان الكلام الذي علم أن فيه حقًّا وباطلاً قد أمرنا أن لا نقبله، فمثل هذا الكلام أولى أن لا نقبله، وهذا بينٌ ظاهر لمن قصدهُ إسكاتُ هؤلاء عن التأويلات ومنعهم من التكلم بها ومنع قبولها»

(2)

.

عاشراً: أن تحريفات المؤول تعود على ما يلي بالإبطال:

1.

تعود على الدين بالإبطال، لانعدام الثقة بالنصوص.

2.

تعود على اللغات بالإبطال؛ لأن اللغات وضعت لقصد بيان مراد المتكلم.

3.

تعود على العلوم كلها بالإبطال؛ لأنها تكون بالكلام وتوضح به.

4.

بل إنها تبطل المعنى المؤول ذاته.

قال شيخ الإسلام: «ومآلهم في تلك التأويلات إلى القرمطة؛ التي هي: تحريف الكلم عن مواضعه، وإفساد الشرع واللغة والعقل، بالتمويه والتلبيس

ولما كان مآل هؤلاء إلى السفسطة؛ التي هي جحود الحقائق وجحود الخالق، وكان لا بد لهم من النفاق، كان تنبيه من نبَّه من الأئمة، كمالك وأحمد وأبي يوسف

(3)

وغيرهم، على أن كلام هؤلاء جهل، وأن مآله

(1)

رواه أحمد (17225) وأبو داود (3644) وغيرهما من حديث أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه، وقواه الألباني بشواهده في الصحيحة (2800). والحديث عند البخاري من حديث أبي هريرة، (7542) دون زيادة (فإما أن يحدثوكم

).

(2)

بيان تلبيس الجهمية (6/ 294 - 295).

(3)

هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، أبو يوسف: صاحب الإمام أبي حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه، كان فقيها علامة، من حفاظ الحديث، ولي القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد، ومات في خلافته (ت: 182 هـ). انظر: وفيات الأعيان (2/ 303)، شذرات الذهب (1/ 298).

ص: 528

إلى الزندقة: كقول أحمد: (علماء الكلام زنادقة)

(1)

، وقول أبي يوسف ويُروى عن مالك:(من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب)

(2)

، وقول الشافعي:(ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح)

(3)

»

(4)

.

وقد تنوعت طرق شيخ الإسلام في إبطال قانون التأويل الفاسد عند المتكلمين، وفيما ذُكر كفاية والله أعلم.

‌المسألة الثانية: نسبة مقالة التشبيه والتجسيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

-:

•‌

‌ تمهيد:

لما بين شيخ الإسلام بطلان طريقة التحريف والتأويل التي يقوم عليها علم الكلام، ولم يجد القوم مأخذاً على ما قرره وبينه، اشتغلوا بالتلويح والتعريض بشيخ الإسلام مشيرين بذلك إلى أن مذهبه هو التشبيه والتجسيم، وأخذوا يطنبون في تنزيه الله عن التشبيه والتجسيم، ويفصلون القول في ذلك، وهم إنما يريدوا

(1)

ذكره أبو حامد الغزالي في الإحياء (1/ 95) وقواعد العقائد (ص:87) والعمراني في الانتصار (1/ 130) وابن الجوزي في التلبيس (ص:75).

(2)

رواه ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص: 61)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 166)، (305)، والهروي في ذم الكلام (231)، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (5)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم (2/ 1033).

(3)

رواه بن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 530)(666)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 165)(303)، والبيهقي في مناقب الشافعي (ص: 186)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 111)، وأبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام وأهله (4/ 285)، وقال الحافظ الذهبي في العلو (ص: 166): «تواتر عن الشافعي ذم الكلام وأهله، وكان شديد الاتباع للآثار في الأصول والفروع» .

(4)

بيان تلبيس الجهمية (1/ 457).

ص: 529

التوصل بذلك إلى نفي صفات الله عز وجل وتعطيلها عن ذاته، كما سيتضح خلال دراسة هذه المسألة، وستكون دراستها من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

أصل شبهة المتكلمين التي جعلتهم يشتغلون في تقريرهم للاعتقاد وفي جدالهم مع أهل السنة وردهم عليهم بنفي التشبيه والتجسيم، وتكرار هذا الأمر والإكثار منه والتفصيل في جزئياته، هي اعتقادهم أن إثبات صفات الباري عز وجل، يقتضي تجسيمه وتشبيهه بخلقه.

قال شيخ الإسلام وهو يذكر ما يستلزمه إثبات الصفات في اعتقادهم: «ويستلزم أيضًا [أي إثبات الصفات] التشبيه. والتوحيد عندهم: نفي التشبيه والتجسيم»

(1)

؛ ولذلك فقد رأوا أن تعبير شيخ الإسلام في عقيدته الواسطية بنفي التمثيل والتكييف، غير واف بالمقصود ولا مُحققٍ للمطلوب من تنزيه الله عن مشابهة خلقه، بل لا بد مع ذلك من نفي التشبيه والتجسيم أيضاً

(2)

.

ومن أسباب تركيزهم على هذا الأمر غير ما سبق ذكره هو أن "كثيراً من هؤلاء قرأوا كتباً من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابها، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله فوق الخلق للزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ وما أراد بها أصحابها"

(3)

، فاعتقدوا ما فيها، فجعلوا إثبات الصفات تجسيماً وتشبيهاً، فضلوا عن الصراط المستقيم وحادوا عن الطريق القويم.

‌الوجه الثاني: الجواب على الشبهة المذكورة:

لم يكن شيخ الإسلام يترك كلمة مما يطرحه مناظروه دون بيان الحق فيها،

(1)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 99).

(2)

انظر شرح الأصبهانية (ص:697)، منهاج السنة (2/ 526).

(3)

جامع المسائل (3/ 206).

ص: 530

وتفصيل المجمل منها، وتوضيح المبهم خلالها، فمخالفو الشيخ وإن لم يصرحوا هنا بالرد عليه ومواجهته بما اعتقدوه، وإنما عرَّضوا دون تصريح، ولمحوا دون توضيح؛ خشيةَ ردهِ عليهمْ، وكشفهِ لزيفهم، إلا أن الشيخ -مع هذا-لم يدعْهم وشأنهم، بل بين حقيقة ما إليه لمحوا، وفساد ما به عرضوا، وذلك في المناظرة نفسها، وقبل المناظرة وبعدها من خلال ما صنف وألف من كتب ورسائل.

وبين شيخ الإسلام سبب تعبيره بنفي التكييف والتمثيل دون التشبيه والتجسيم، وذلك من أوجهٍ كثيرة أهمها ما يلي:

أولاً: أن الشرع إنما جاء بنفي التكييف والتمثيل، وهو الذي وردت به النصوص، وجاء نفيه على لسان السلف، وقد التزم شيخ الإسلام بأن لا يعبر في عقيدته الواسطية إلا بما ورد في الكتاب والسنة، أو كان بإجماع سلف هذه الأمة، حيث قال رحمه الله:«وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة»

(1)

، وقال:«ليس في هذا لفظٌ واحدٌ من عندي، وإنما هو من كتاب الله وسنةِ رسوله وألفاظِ سلفِ الأمة، أو ألفاظِ مَن نقلَ مذاهب سلف الأمة وأهل السنة من الأئمة الموثوق بهم»

(2)

، وقال أيضاً:«وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين والفقهاء الأربعة والمتكلمين وأهل الحديث والصوفية»

(3)

. وقال: «أنا أُمهِل من خالفني ثلاثَ سنين، فإن جاء بحرفٍ واحدٍ ثابتٍ عن القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابعيهم يُناقِضُ حرفًا مما قلتُه وذكرتُه عنهم رجعتُ عن ذلك»

(4)

.

ثانياً: ما في لفظا التشبيه والتجسيم من إجمال وإيهام، فإن نفي التشبيه وإن كان حقًا واردًا عن سلف الأمة، إلا أن أهل البدع قد ادخلوا في التشبيه الواجب

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 165).

(2)

جامع المسائل (8/ 192).

(3)

مناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 189).

(4)

جامع المسائل (8/ 192).

ص: 531

نفيه عن الله ما ليس منه، فجعلوا من نفي التشبيه نفي الاشتراك في المعنى العام أو ما يسمى القدر المشترك، ليتوصلوا بذلك إلى نفي الصفات وتحريفها عن معانيها، وقد بين شيخ الإسلام أن نفي التشبيه من كل وجه هو التعطيل والجحود لرب العالمين وإثباته مطلقاً هو جعل الأنداد لرب العالمين

(1)

، ولما كان كذلك "لم يرد الكتاب والسنة به مطلقًا لا في نفي ولا إثبات، ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ: المثل والكفو والند والسمي"

(2)

. وإثبات القدر المشترك حق لا يستلزم تمثيل الله بخلقه، ولا ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله تعالى

(3)

"وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه، فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه، وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه"

(4)

.

قال شيخ الإسلام: «وأصل ضلال هؤلاء أن لفظ: (التشبيه) لفظ فيه إجمال، فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفق فيه الشيئان، ولكن ذلك المشترك المتفق عليه لا يكون في الخارج بل في الذهن، ولا يجب تماثلهما فيه، بل الغالب تفاضل الأشياء في ذلك القدر المشترك، فأنت إذا قلت عن المخلوقين: حي وحي، وعليم وعليم، وقدير وقدير، لم يلزم تماثل الشيئين في الحياة والعلم والقدرة، ولا يلزم أن تكون حياة أحدهما وعلمه وقدرته نفس حياة الآخر وعلمه وقدرته، ولا أن يكونا مشتركين في موجود في الخارج عن الذهن؛ ومن هنا ضل هؤلاء الجهال بمسمى التشبيه الذي يجب نفيه عن الله، وجعلوا ذلك ذريعة إلى التعطيل

(1)

انظر: بيان تلبيس الجهمية (6/ 484 - 491).

(2)

المصدر السابق (6/ 485).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 69)، التدمرية (ص:125).

(4)

منهاج السنة النبوية (2/ 117 - 118).

ص: 532

المحض، والتعطيل شر من التجسيم، والمشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والممثل أعشى، والمعطل أعمى»

(1)

.

وأما لفظ الجسم فلا يطلق على الله نفياً ولا إثباتاً؛ لأنه لم يرد في النصوص نفيه ولا إثباته، ولأنه من الألفاظ المجملة التي يحتمل نفيها حقاً وباطلاً، ولذلك يستفصل ممن نفاه: أتريدُ به أن الله جسمٌ من جنس الأجسام المخلوقة، بحيث يكون من جنس البشر لحمًا ودمًا وعصبًا وعظمًا، فنفي هذا المعنى حق ويجب تنزيه الله عنه، وهو داخل في (التمثيل) الذي جاءت النصوص بنفيه.

وإن أردت بالجسم: الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به، فنفي هذا المعنى عن الله باطل؛ لأننا نؤمن بأن لله ذاتاً موصوفة بصفات الكمال اللائقة به سبحانه وتعالى، وهذا ما جاءت به النصوص ودلت عليه الأدلة السمعية والعقلية.

وهذا المعنى الصحيح الثابت هو الذي يعنيه هؤلاء المعطلة بنفيهم للتجسيم، فهم إنما أرادوا التوصل بهذا إلى نفي ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات اللائقة بجلاله وعظيم سلطانه

(2)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «والمقصود هنا أنه لما ظهرت الجهمية نفاة الصفات تكلم الناس في (الجسم)، وفي إدخال لفظ (الجسم) في أصول الدين وفي التوحيد، وكان هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة، فصار الناس في لفظ (الجسم)، على ثلاثة أقوال: طائفة تقول: إنه جسم، وطائفة تقول: ليس بجسم، وطائفة تمتنع عن إطلاق القول بهذا؛ وهذا لكونه بدعة في الشرع، أو لكونه في العقل يتناول حقاً وباطلاً، فمنهم من يكف عن التكلم في ذلك، ومنهم من يستفصل المتكلم: فإن ذكر في النفي أو الإثبات معنى صحيحاً قبله، وعبر عنه بعبارة شرعية، لا يعبر عنها بعبارة مكروهة في الشرع، وإن ذكر معنى باطلاً رده؛ وذلك أن لفظ (الجسم) فيه اشتراك بين معناه في اللغة، ومعانيه المصطلح عليها،

(1)

المصدر السابق (2/ 526).

(2)

انظر: منهاج السنة (2/ 221)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 61).

ص: 533

وفي المعنى منازعات عقلية، فيطلقه كل قوم بحسب اصطلاحهم وحسب اعتقادهم»

(1)

.

ثالثاً: بين رحمه الله أن قوله في الواسطية: (من غير تكييف ولا تمثيل)، يقتضي نفي كل معنى باطل ينزه الله عنه، وإنما جاءت النصوص والآثار بنفيهما؛ لأن في نفيهما نفي كل ما يتصور منه مشاركة المخلوق للخالق في أي شيء من خصائصه، وتنزيهه عن مماثلة مخلوقاته من أي وجه من الوجوه، قال شيخ الإسلام موضحا هذا: «ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ المثل والكفو والند والسمي

وبينا أن الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، فيجب أن ينفى عنه المثل مطلقاً ومقيداً، وكذلك الند والكفو والشريك ونحو ذلك من الأسماء التي جاء القرآن بنفيها، وذكرنا من أدلة ذلك أن الله تعالى لما نفى المثل عن نفسه

فلا يخلو:

إما أن يكون النفي من ذلك مختصًّا بالمماثل له من كل وجه: وهو المكافئ له من كل وجه فقط، والمساوي والمعادل له والمكافئ له من كل وجه.

أو يكون النفي عاماً في المماثل ولو من بعض الوجوه، والمكافئ ولو من بعض الوجوه.

ولا يجوز أن يكون النفي مختصًّا بالقسم الأول؛ لأن هذا لم يعتقده أحد من البشر، وهو سبحانه ذم ونهى عما هو موجود في البشر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: (أجعلتني لله ندًّا، بل ما شاء الله وحده)

(2)

، فثبت أن هذه الأسماء المنفية تعم المثل والكفو والند والشريك والعديل ولو من بعض الوجوه، وهذا هو الحق؛ وذلك لأن المخلوقات وإن كان فيها شبه من بعض الوجوه: في مثل معنى الموجود والحي والعليم والقدير، فليست مماثلة بوجه من الوجوه ولا مكافأة له، بل هو سبحانه له المثل الأعلى في كل ما يثبت له

(1)

منهاج السنة النبوية (2/ 198).

(2)

رواه البخاري في الأدب المفرد (ص: 265)(784)، وابن ماجه (1/ 684)(2117)، وأحمد في المسند (1/ 214)، والحديث حسن إسناده الألباني كما في الصحيحة (139).

ص: 534

ولغيره، ولما ينفى عنه وعن غيره، لا يماثله غيره في إثبات شيء ولا في نفيه، بل المثبت له من الصفات الوجودية المختصة بالله التي تعجز عقول البشر عن معرفتها، وألسنتهم عن صفتها، ما لا يعلمه إلا الله، مما لا نسبة إلى ما علموه من الأمر المشتبه المشترك إليه.

والمنفي عنه لابد أن يستلزم وصفاً ثبوتيًّا -كما قررنا هذا في غير هذا الموضع- ومنافاته لذلك المنفي وبعده عنه، ومنافاة صفاته الوجودية له، فيه من الاختصاص الذي لا يشركه فيه أحد ما لا يعلمه أيضاً إلا هو.

بخلاف لفظ التشبيه فإنه يقال على ما يشبه غيره ولو من بعض الوجوه البعيدة، وهذا مما يجب القول به شرعاً وعقلاً بالاتفاق، ولهذا لما عرف الأئمة ذلك، وعرفوا حقيقة قول الجهمية، وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع ووجوده؛ كانوا يبينون ما في كلامهم من النفاق والتعطيل، ويمنعون عن إطلاق لفظهم العليل؛ لما فهموه من مقصودهم، وإن لم يفهمه أهل الجهل والتضليل»

(1)

.

رابعاً: أن لفظ التشبيه الذي ينفونه عن الله عز وجل، ويحرصون على نفيه، هم أنفسهم مختلفون فيه، وليس لهم ضابط محدد فيه؛ فلذلك تجدهم يرد بعضهم على بعض، وينقض بعضهم ما يثبته البعض، بحجة أن هذا تشبيه ينزه الله عنه، قال شيخ الإسلام:«فطرق العلم بنفي ما ينزه الرب عنه متسعة، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك وفرّقوا بين المتماثلين، حتى إن كل من أثبت شيئًا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه»

(2)

.

خامساً: أن إثبات الصفات لا يقتضي مشابهة المخلوقات، بل نفيها عنه يقتضي تشبيهه بالمعدومات؛ ولذلك فقد وقعوا فيما فروا منه، فلا زالوا ينفون عن الله ما يستحقه من الأسماء والأوصاف، حتى شبهوه بالمعدومات بل غلوا في ذلك

(1)

بيان تلبيس الجهمية (6/ 484 - 491).

(2)

التدمرية: (ص: 140).

ص: 535

حتى شبهوه بالممتنعات، فهربوا من أمر ووقعوا في ما هو أعظم منه، قال شيخ الإسلام:«فآل بهم إغراقهم في نفي التشبيه إلى أن وصفوه بغاية التعطيل، ثم إنهم لم يخلصوا مما فروا منه، بل يلزمهم على قياس قولهم أن يكونوا قد شبهوه بالممتنع الذي هو أخس من الموجود والمعدوم الممكن، ففروا في زعمهم من تشبيهه بالموجودات والمعدومات، ووصفوه بصفات الممتنعات التي لا تقبل الوجود، بخلاف المعدومات الممكنات، وتشبيهه بالممتنعات شر من تشبيهه بالموجودات والمعدومات الممكنات»

(1)

.

‌المسألة الثالثة: دعواهم أن إثبات الصفات إنما هو اعتقاد أحمد فحسب:

‌تمهيد:

بعد أن أعيت مناظري شيخ الإسلام الحجة، وانقطعت أمامهم المحجة، بدأوا باستخدام طريقة العجزة المفلسين، وذلك برمي الدعاوى والاتهامات دون حجج وأدلة، فرموه بتهمة التشبيه والتجسيم، ثم حاولوا بعد ذلك أن يبحثوا عن منشأ القول بإثبات الصفات -الذي يسمونه تشبيهاً وتجسيماً-؛ وذلك ليقرروا تأثره بتلك الجذور، وأن هذا القول إنما اختص به شيخ الإسلام ومن تأثر به، ولذلك فقد نسبوا اعتقاده الذي كتبه في إثبات الصفات إلى أنه مذهب الإمام أحمد، وأشاروا إلى أنه قد اعترى أصحاب أحمد ومتبعيه من التشبيه والتجسيم الشيء الكثير.

ومن الحاضرين من تعاطف مع شيخ الإسلام فأشار عليه بأن ينسب هذا القول لأحمد، لينقطع الخصوم، ويتخلص شيخ الإسلام -بهذه الطريقة- من نقاشهم وجداله؛، وما ذلك إلا لأن القوم أهل تقليد أعمى، فالاحتجاج عليهم بمذهب إمام متبع، أوقعُ في نفوسهم وأجدرُ بالقبول، من الاحتجاج بآية بينة أو حديث صحيح.

(1)

شرح حديث النزول (ص: 8 - 9).

ص: 536

ودراسة هذه المسألة ومناقشة هذه الشبهة من وجهين اثنين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

يبدو أن أصل الشبهة عند من طرح هذه المسألة: هي ظنه أن المعتقد الذي نص عليه شيخ الإسلام في الواسطية: من إثبات صفات الباري عز وجل. إنما هو مذهب اختص به الإمام أحمد دون غيره من علماء الأمة كافة، وأئمة المذاهب الأربعة خاصة، حتى آل الأمر بكثير من الحنابلة إلى القول بالتشبيه والتجسيم، وذلك لكثرة النصوص الواردة عن الإمام أحمد في إثبات الصفات والرد على منكريها ومحرفيها، واشتهار الحنابلة بذلك، بخلاف أتباع المذاهب الثلاثة الذين انتشرت فيهم مذاهب المتكلمين أكثر، من تعطيل الصفات وتحريفها، وأصبح أكثر المنتسبين لها على مذهب المعطلة: من جهمية وكلابية وأشاعرة وماتريدية.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه التهمة -أي التشبيه والتجسيم- لم تقتصر على الحنابلة فقط، بل إن أهل البدع يطلقونها على جميع مثبتة الصفات من أهل السنة والحديث، وإنما اشتهرت النسبة لأحمد دون غيره؛ لما كان عليه رحمه الله من إمامةٍ لأهل السنة، ووقوف في وجه أهل الكلام والبدعة، ورفعهِ لراية الإثبات ورده على معطلة الصفات.

قال شيخ الإسلام: «لكن لما جرت محنة الجهمية نفاة الصفات، وسموا من أثبتها مجسماً في عهد الإمام أحمد، وقالوا: إن القرآن مخلوق، وحقيقة ذلك أن الله لم يتكلم بشيء. وقالوا: إنه لا يُرى، ونحو ذلك -قام أحمد بن حنبل من إظهار السنة والصفات، وإثبات ما جاء في الكتاب والسنة من هذا الباب بما لم يحتج إليه غيره من الأئمة، وظهر ذلك في جميع أهل السنة والحديث من جميع الطوائف، وصاروا متفقين على تعظيم أحمد وجعله إماماً للسنة، فصار يظهر في أصحابه من الإثبات ما لا يظهر في غيرهم، بسبب كثرة نصوصهم في هذا الباب، والنفاة يسمون المثبتة مجسمة ومشبهة»

(1)

.

(1)

درء تعارض العقل والنقل (10/ 250 - 251).

ص: 537

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام فساد هذا القول من أوجه عدة أهمها ما يلي:

أولاً: أن نسبة هذه العقيدة لأحمد فحسب خطأ؛ وذلك أن هذا الاعتقاد هو اعتقاد أئمة السلف جميعهم وليست عقيدة أحمد فحسب، فكلهم مجمعون على إثبات الصفات له عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وهذا ما احتج به شيخ الإسلام عليهم في هذه المناظرة، فقال:«ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا»

(1)

وقال مرة: «لا والله؛ ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة أهل الحديث، وقلت أيضاً: هذا اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به: آيةً أو حديثًا أو إجماعًا سلفيًا»

(2)

.

ثانياً: أن هذه العقيدة إنما هي مأخوذة من الكتاب والسنة، فهي العقيدة التي جاء بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ويجب على كل مسلم اعتقادها، وما الإمام أحمد إلا مبلغ للعلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو جاء بشيء من تلقاء نفسه لم يقبل منه

(3)

"فإن أحمد لم يأخذ عنه المسلمون كلمة واحدة من صفات الله تعالى قالها هو، بل الأحاديث التي يرويها أهل العلم في صفات الله تعالى: كانت موجودة عند الأمة قبل أن يولد الإمام أحمد، وقد رواها أهل العلم غير الإمام أحمد؛ فلا يحتاج الناس فيها إلى رواية أحمد بل هي معروفة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يخلق أحمد"

(4)

، قال شيخ الإسلام: «وما تكلم به من السنة؛ فإنما أضيف له لكونه أظهره وأبداه، لا لكونه أنشأه وابتدأه، وإلا فالسنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وما قاله الإمام أحمد هو قول

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 169).

(2)

المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 189).

(3)

المصدر السابق (3/ 169).

(4)

مجموع الفتاوى (6/ 214).

ص: 538

الأئمة قبله؛ كمالك، والثوري

(1)

، والأوزاعي

(2)

، وحماد بن زيد

(3)

، وحماد بن سلمة

(4)

، وقول التابعين قبل هؤلاء وقول الصحابة الذين أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث السنة معروفة في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام. والنقل عن أحمد وغيره من أئمة السنة: متواتر بإثبات صفات الله تعالى وهؤلاء متبعون في ذلك ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم»

(5)

.

ثالثاً: أن سبب اشتهار هذا المعتقد عن الحنابلة هو "أن الإمام أحمد له من الكلام في أصول الدين وتقرير ما جاءت به السنة والشريعة في ذلك، ما هو عليه جماعة المؤمنين وإظهار دلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، والرد على أهل الأهواء والبدع المخالفين للكتاب والسنة في ذلك، أعظم مما لغيره؛ لأنه ابتلي بذلك أكثر مما ابتلي به غيره؛ ولأنه اتصل إليه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم والأئمة بعدهم أعظم مما اتصل إلى غيره، فصار له من الصبر واليقين الذي جعلهما الله تعالى سببًا للإمامة في الدين بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا

(1)

هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أمير المؤمنين في الحديث، أحد الأئمة المجتهدين، إمام أهل العراق في زمانه، مشهور بالورع والزهد والعلم، (ت: 161 هـ). انظر: تهذيب التهذيب (4/ 111)، شذرات الذهب (1/ 250).

(2)

هو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الدمشقي الأوزاعي، الإمام الفقيه المشهور، صاحب سنة واتباع، وزهد وورع، وهو من أفضل أهل زمانه، ت سنة 157 هـ. انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 184)، تذكرة الحفاظ (1/ 178).

(3)

حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، مولاهم البصري، أبو إسماعيل، شيخ العراق في عصره، من الحفاظ، كان ضريراً طرأ عليه العمى، وخرج حديثه الأئمة الستة، ت سنة 179 هـ. انظر: حلية الأولياء (6/ 257)، تهذيب التهذيب (3/ 9).

(4)

حماد بن سلمة بن دينار البصري الربعي بالولاء، أبو سلمة، الإمام المشهور، مفتي البصرة، محدث نحوي، حافظ ثقة، ساء حفظه لما كبر، ت سنة 167 هـ. انظر: حلية الأولياء (6/ 249)، تهذيب التهذيب (3/ 11).

(5)

مجموع الفتاوى (6/ 215).

ص: 539

عَابِدِينَ} [الأنبياء:73]، ما جعله الله له من الإمامة في أصول الدين السّنية الشرعية ما أنعم الله به عليه وفضله به، فأتباعه لا يمكنهم مع إظهار موافقتهم له من الانحراف ما يمكن غيرهم ممن لم يجد لمتبوعه من النصوص في هذا الباب ما يصده عن مخالفته، ولهذا يوجد في غيرهم من الانحراف في طرفي النفي والإثبات في مسائل الصفات والقدر والوعيد والإمامة وغير ذلك، أكثر مما يوجد فيهم وهذا معلوم بالاستقراء؛ ولهذا مازال كثير من أئمة الطوائف الفقهاء وأهل الحديث والصوفية، وإن كانوا في فروع الشريعة مُتَّبعين بعض أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين-، فإنهم يقولون: نحن في الأصول أو في السنة على مذهب أحمد بن حنبل، لا يقولون ذلك لاختصاص أحمد بقول لم يقله الأئمة، ولا طعنًا في غيره من الأئمة بمخالفة السنة؛ بل لأنه أظهر من السنة التي اتفقت عليها الأئمة قبله أكثر مما أظهره غيره، فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة إليه، وظهور المخالفين للسنة، وقلة أنصار الحق وأعوانه"

(1)

.

رابعاً: أن مرادهم بالتشبيه والتجسيم الذي رموا به الحنابلة هو إثباتهم للأسماء والصفات فجعلوا إثبات الأسماء والصفات تشبيهاً وتجسيماً "فلزم -على قولهم- أن يكون ما جاء به الكتاب والسنة، وما فطر الله عليه عباده، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها تجسيماً! "

(2)

والعياذ بالله!

خامساً: أن وقوع بعض المنتسبين للإمام أحمد بأمور منكرة في الاعتقاد أو غيره، لا يكون حجة في رد ما جاء به وقرره من الاعتقاد الصحيح، أو حُجةً في نسبة هذه الأمور المنكرة إليه، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا الأمر ليس مختصاً بأحمد فحسب، فما من إمام إلا وقد انتسب إليه أناس هو منهم براء، كما انتسب إلى مالك والشافعي وأبي حنيفة أناس هم بريؤون منهم، وأوضح من ذلك: انتساب من انتسب إلى علي بن

(1)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 548 - 551).

(2)

درء تعارض العقل والنقل (10/ 250).

ص: 540

أبي طالب رضي الله عنه، أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من: الرافضة والقرامطة والباطنية، وغيرهم من أهل الإلحاد والنفاق

(1)

.

الوجه الثاني: أن المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، ولا يوجد نوع غلو في بعض الحنابلة إلا ويوجد في غيرهم من الطوائف ما هو أكثر منه، قال رحمه الله:«ثم ذلك ليس مختصًّا بالحنابلة، ولا هو فيهم أكثر منه في غيرهم، بل يوجد في الشافعية والمالكية والحنفية والصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام من الإمامية وغيرهم من يطلق من هذه الألفاظ أمورًا لا يصل إليها أحد من الحنابلة»

(2)

، وقال:«ولهذا يوجد في غيرهم من الانحراف في طرفي النفي والإثبات في مسائل الصفات والقدر والوعيد والإمامة وغير ذلك أكثر مما يوجد فيهم وهذا معلوم بالاستقراء»

(3)

.

وضرب شيخ الإسلام -لتقرير ما ذكر- بعض الأمثلة الواقعية التي يشاهدونها، فمن ذلك أن أصناف الأكراد كلهم شافعية، وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر، وأهل جيلان

(4)

فيهم تشبيه وتجسيم وهم شافعية وحنبلية؛ والكرامية المجسمة كلهم حنفية وهم أهل تشبيه وتجسيم كما هو معلوم

(5)

.

‌المسألة الرابعة: مناقشة شيخ الإسلام فيما قرره من اعتقاد في القرآن وصفة الكلام:

يعتبر مذهب الكلابية والأشاعرة في كلام الله تعالى، من أهم خصائص

(1)

انظر: مناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 185).

(2)

بيان تلبيس الجهمية (3/ 547 - 548).

(3)

المصدر السابق (3/ 549).

(4)

جيلان: بالكسر، اسم لبلاد كثيرة من وراء بلاد طبرستان، وهى قرى كلها فى مروج، بين جبال، وعلى ساحل بحر طبرستان. انظر: معجم البلدان (2/ 201) مراصد الاطلاع (1/ 368).

(5)

انظر: مناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 185).

ص: 541

مذهبهم التي تميزه عن غيره؛ وذلك لأن قولهم في صفة الكلام قول غريب محدث لم يسبقوا إليه من قبل، بل هم أول من أحدثه وأول من ابتدعه، فقد كان الناس قبل ظهور الأشعري وابن كلاب على قولين لا ثالث لهما: ففريق يقول بأن كلام الله مخلوق منفصل بائن عنه وهم الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم، وفريق يقولون هو صفة قائمة بذات الله متعلقة بمشيئته وقدرته وهم أهل السنة والجماعة. ثم ظهر ابن كلاب فابتدع القول بأن كلام الله معنى واحد قديم لا تعلق له بمشيئة الله وإرادته، وتبعه على ذلك الأشعري وغيره، ولم يسبقهما لهذا القول أحد

(1)

.

ولأهمية هذه المسألة عندهم، ولأنها من أخص الأصول التي يقوم عليها مذهبهم واعتقادهم؛ فقد أطالوا النقاش مع شيخ الإسلام حولها، وناقشوه في مواضع مختلفة منها، وذلك من خلال ما قرره رحمه الله في عقيدته الواسطية، وستكون دراسة هذه المسألة من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل شبهتهم في القرآن وكلام الله:

اعترض الحاضرون في المناظرة على شيخ الإسلام بعدة أمور مما قرره في مسألة القرآن وكلام الله سبحانه، فاعترضوا عليه في قوله:«هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول: بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه»

(2)

، وفي قوله:«هو كلام الله؛ حروفه ومعانيه»

(3)

، وفي قوله:«منه بدأ، وإليه يعود»

(4)

، وفي إثباته كلام الله سبحانه بصوت

(5)

، وناقشوه فيما افتراه الرازي، وغيره من دعوى أن الإمام أحمد يقول: بأزلية الصوت والمداد

(6)

.

(1)

انظر: درء التعارض (2/ 99)، وانظر: التسعينية (ص 149 - 288).

(2)

العقيدة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 144).

(3)

العقيدة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 144).

(4)

المصدر السابق (3/ 144).

(5)

انظر: المصدر السابق (3/ 139).

(6)

انظر: المناظرة في العقيدة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 170).

ص: 542

وأصل شبهة القوم التي بنوا عليها اعتقادهم في القرآن الكريم وكلام الله سبحانه، ومن ثمَّ اعترضوا على جميع ما يخالفها من تقريرات أهل السنة: هي اعتقادهم أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته؛ وذلك لأن هذا يستلزم -عندهم-حلول الحوادث بالله سبحانه، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.

فلما خالفوا المعتزلة وأثبتوا الكلام صفة لله عز وجل وعندهم كما سبق أن الصفات لا تعلق لها بالمشيئة؛ لأنها لو كانت كذلك لكانت حوادث، قالوا بأن كلام الله: إنما هو معنى واحد قديم، ليس قائماً بالذات، وليس بحروف ولا أصوات، لأن الحروف والأصوات مقدورة مرادة تتعلق بها المشيئة.

ثم إنهم نظروا للقرآن الكريم فوجدوه يتألف من معان وحروف، وهم قد نفوا أن يكون كلام الله بحروف وأصوات؛ فقالوا -لكي لا ينقضوا أصلهم-: القرآن ليس هو كلام الله حقيقة، وإنما هو حكاية أو عبارة عن كلام الله، واعترضوا على شيخ الإسلام فيما ذكر في عقيدته من بطلان هذا.

وقالوا -إضافة إلى ذلك-: إن القرآن إنما كان ابتداء لفظه ومبناه من جبريل عليه السلام أو من محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك استشكلوا عبارة أهل السنة التي نقلها شيخ الإسلام في اعتقاده ألا وهي:(منه بدأ وإليه يعود)

(1)

.

وهكذا لما بنوا عقيدتهم على باطل، لزمتهم هذه اللوازم كلها، فانحرفوا هذا الانحراف كله، وما مثلهم إلا مثل من بنى بيتاً على أساس معوج، ثم أراد أن يبني فوقه طابقاً آخر فجعله -لكي يستقيم مع الأساس- معوجاً مثله، ثم بنى ثالثاً ورابعاً كل منها أعوج من سابقه، فصار المبنى على أقبح صورة وأبشع منظر، يهتز مع كل ريح تعصف به، ولا يستطيع الرسوخ أمام سيول الحق الجارفة ورياحه العاصفة، ولو أن أصحابه اشتغلوا بتسوية الأساس وتقويمه، خير لهم من البناء على أساس ذي اعوجاج، يكون عاقبته الانهيار والدمار. {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (12/ 178) والاستقامة (1/ 212).

ص: 543

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

إن مفهوم كلام الأشاعرة -بل هو صريح قولهم- أن القرآن ليس كلام الله سبحانه؛ لأن القرآن مكون من حروف ومعان، وكلام الله إنما هو معنى قائم في ذاته لا غير، فيكون القرآن كلام غير الله، حاكياً أو معبراً به عن كلام الله القائم في نفسه، فهو كلام جبريل أو كلام محمد صلى الله عليه وسلم عبر به عن كلام الله القائم بنفسه، وتسميته كلاماً لله إنما هو من باب المجاز لا الحقيقة

(1)

.

وقد رد عليهم شيخ الإسلام بردود عديدة بين فيها فساد شبهة القوم ومقالتهم من وجوه عدة أهمها ما يلي:

‌الوجه الأول: الرد على قولهم: إن القرآن كلام الله معانيه دون حروفه

، وذلك من وجوه:

1) أن "الله تعالى قد سمى نفس مجموع اللفظ والمعنى: قرآناً، وكتاباً، وكلاماً، فقال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحِجر:1]، وقال: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:1 - 2]، وقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29]، إلى قوله تعالى: {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} [الأحقاف:30]، فبين أن الذي سمعوه هو القرآن"

(2)

، والمعنى المجرد من الحروف لا يمكن سماعه بديهةً.

2) أن الله عز وجل قد أخبر عن تكليمه موسى في آيات عديدة، وقد "وكد تكليمه لموسى بالمصدر"

(3)

، وفي ذلك "دليل على تكليمٍ سَمِعهُ موسى، والمعنى المجرد

(1)

انظر: المواقف (ص: 293 - 294)، مشكل الحديث لابن فورك (212، 169) الإرشاد (ص: 116 - 117) شرح جوهرة التوحيد (ص:94).

(2)

مجموع الفتاوى (12/ 125).

(3)

المصدر السابق (12/ 39).

ص: 544

لا يُسمع بالضرورة، ومن قال: إنه يُسمع فهو مكابر"

(1)

.

3) ومن الأدلة التي تدل على هذا أيضًا قوله تعالى: «{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، كان بعض المشركين يقولون: إن محمداً إنما يتعلم القرآن من عبد لبني الحضرمي، فقال الله - تعالى -: لسان الذي يضيفون إليه القرآن لسان أعجمي، وهذا لسان عربي مبين، وهذا يبين أن محمداً بلغ القرآن لفظه ومعناه، لم ينزل عليه معاني مجردة، إذ لو كان كذلك لأمكن أن يقال: تلقى من هذا الأعجمي معاني صاغها بلسانه، فلما ذكر قوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، بعد قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102]، دل ذلك على أن روح القدس نزل بهذا اللسان العربي المبين»

(2)

.

4) أن قولهم مخالف للغة والعرف واصطلاح الناس؛ فإنهم لا يجعلون الكلام حروفاً مجردة فقط ولا معاني مجردة فقط، بل الكلام مجموع الأمرين؛ وذلك كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد بل مجموعهما

(3)

.

5) أن قولهم مخالف لإجماع السلف؛ فإن "الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد، والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد

(4)

، وغيره، وسائر الأمة قبلهم، وبعدهم اتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه، ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسماً لمجرد المعاني، ولا لمجرد الحروف

(1)

المصدر السابق (12/ 130).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 536).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (12/ 144).

(4)

انظر: خلق أفعال العباد (ص: 45).

ص: 545

بل لمجموعهما"

(1)

.

‌الوجه الثاني: الرد على نفيهم تعلق كلام الله بمشيئته وإرادته:

أما نفيهم كون القرآن كلام الله؛ لأن كلام الله لا يتعلق بمشيئته وإرادته، فهذا باطل؛ لأن النصوص الدالة على أن كلام الله متعلق بمشيئته لا تحصى كثرة كقوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، قال شيخ الإسلام معلقاً على هذا النص:«وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي، ولم يناد قبل ذلك، ولما فيها من معنى الظرف»

(2)

.

ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]، فإنه وقت النداء بظرف محدود، "فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه"

(3)

.

"ومثل هذا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]

، وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين؛ فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته"

(4)

، وهذه النصوص واضحة الدلالة في الرد عليهم؛ لأنها إذا كانت دالة على أن الله تكلم بالكلام المذكور، في ذلك الوقت، فكيف يقال إن هذا الكلام كان أزلياً أبدياً.

وهل يمكن أن يقال: إنه لم يزل ولا يزال قائلاً: {يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30]، و {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34]، و {يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} [هود:48]؟!

(5)

.

وأما الأحاديث الدالة على ذلك فكثيرة أيضاً: ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى

(1)

التسعينية (2/ 541)، وانظر: مجموع الفتاوى (12/ 456، وما بعدها).

(2)

مجموع الفتاوى (12/ 131).

(3)

المصدر السابق (12/ 131).

(4)

المصدر السابق (12/ 131).

(5)

انظر: منهاج السنة (3/ 104 - 105).

ص: 546

بهم صلاة الصبح بالحديبية (أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

)

(1)

، الحديث.

وحديث: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كالسلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: قال الحق وهو العلي الكبير

) الحديث

(2)

.

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي علقت بعض ما يتكلم به الباري سبحانه بوقت معين، مما يدل دلالة واضحة على أن كلامه عز وجل متعلق بمشيئته وقدرته.

ومما يدل على ذلك ما جاء في الأحاديث من وصف الله بالسكوت كحديث: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو

)

(3)

، الحديث.

وحديث: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)

(4)

. فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على أن كلام الله متعلق بمشيئته وإرادته عز وجل فإن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم.

(1)

رواه البخاري كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم (846)، ومسلم، كتاب الإيمان (71).

(2)

رواه البخاري، كتاب التفسير، باب إلا من استرق السمع، (4701)، وباب حتى إذا فزع عن قلوبهم، (4800).

(3)

رواه الحاكم في المستدرك (3419) والدارقطني في سننه (2066) والبيهقي في السنن الكبرى (19724) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2255).

(4)

رواه الدارقطني في السنن (4396) والطبراني في الأوسط (8938) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، ورواه غيرهما من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1597).

ص: 547

‌الوجه الثالث: الرد على إضافتهم ابتداء القرآن إلى جبريل أو محمد عليهما الصلاة والسلام

(1)

:

أنكر بعض المخالفين على شيخ الإسلام عبارته في القرآن "منه بدأ وإليه يعود"؛ وذلك لأنهم يرون عدم ابتدائه من الله جل وجلاله؛ بل يضيفونه لمن بلغه عنه أو أداه، وهذا القول باطل من وجوه:

أولاً: أن قولهم هذا مخالف لصريح ما دلت عليه النصوص كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6]، وقوله:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، وقوله:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، وغيرها من النصوص الكثيرة التي تدل على هذا وتبرهن عليه

(2)

.

ثانياً: أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً ومؤدياً، "فالرجل إذا بلغ قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)

(3)

، كان قد بلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم بحركاته، وأصواته، وكذا إذا أنشد شعر شاعر كامرئ القيس

(4)

أو غيره، فإذا قال:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

(5)

(1)

انظر: المواقف (ص:292 - 294).

(2)

انظر: جامع الرسائل والمسائل (1/ 162).

(3)

رواه البخاري كتاب بدء الوحي (1)، ومسلم كتاب الإمارة (1907).

(4)

هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي، من بني آكل المرار، من فحول شعراء العرب وأشهرهم على الإطلاق، وأمه أخت المهلهل الشاعر، فلقنه المهلهل الشعر، فقال الشعر وهو غلام، يُعرف بالملك الضّليل؛ لاضطراب أمره طول حياته، وذي القروح؛ لما أصابه في مرض موته، وكتب الأدب مشحونة بأخباره، توفي نحو 130 - 80 ق هـ. انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة (ص: 31)، خزانة الأدب للبغدادي (1/ 160)، الأعلام للزركلي (2/ 12).

(5)

شطر من البيت الأول لمعلقة امرئ القيس المشهورة التي مطلعها:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

انظر: شرح المعلقات التسع (ص: 120)، شرح المعلقات السبع للزوزني (ص: 35).

ص: 548

كان هذا الشعر شعر امرئ القيس، وإن كان هذا قاله بحركاته، وأصواته. وهذا أمر مستقر في فطر الناس كلهم يعلمون أن الكلام كلام من تكلم به مبتدئاً، آمراً بأمره، ومخبراً بخبره، ومؤلفاً حروفه، ومعانيه، وغيره إذا بلغه عنه علم الناس أن هذا كلام للمُبلَغ عنه لا للمُبلِغ، وهم يفرقون بين أن يقوله المتكلم به، والمبلغ عنه، وبين سماعه من الأول، وسماعه من الثاني؛ ولهذا كان من المستقر عند المسلمين أن القرآن الذي يسمعونه هو كلام الله كما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، مع علمهم بأن القارئ يقرؤه بصوته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(زينوا القرآن بأصواتكم)

(1)

، فالكلام كلام البارئ، والصوت هو صوت القارئ"

(2)

.

ثالثاً: أن قولهم هذا مخالف لما تواتر عن السلف من قولهم عند ذكر عقيدة أهل السنة في القرآن «منه بدأ وإليه يعود» ، ومرادهم بذلك أنه "هو المتكلم به، لم يبتدئ من غيره كما قالت الجهمية القائلون بأن القرآن مخلوق، قالوا: خلقه في غيره"

(3)

، "فيكون قد ابتدأ، وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما يقولون: كلامه لموسى خرج من الشجرة. فبين السلف، والأئمة أن القرآن من الله بدأ، وخرج"

(4)

، لم يبتدئ من غيره من الموجودات.

‌الوجه الرابع: الرد على إنكارهم كلام الله بصوت:

وأما ما أنكروه من ثبوت نداء الله بصوت، فقد بين شيخ الإسلام أن هذا مما تكاثرت فيه النصوص من القرآن كقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ

(1)

رواه أحمد (18688)، (4/ 283) وأبو داود (1468) وصححه الألباني في المشكاة (2199).

(2)

التسعينية (3/ 963 - 965)، وانظر بسط هذا في الجواب الصحيح (4/ 335 - 349)، مجموع الفتاوى (12/ 261 - 265)، (12/ 456 - 463).

(3)

مجموع الفتاوى (17/ 83).

(4)

المصدر السابق (12/ 518).

ص: 549

نَجِيًّا} [مريم:52]، وقوله:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، وقوله:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:22]، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62]، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]، ففي هذه الآيات "إثبات النداء لله تعالى، وقد أخبر الله تعالى في القرآن بندائه لعباده في أكثر من عشرة مواضع، والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة، وسائر الناس"

(1)

.

وقد "استفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أئمة السنة أنه -سبحانه- ينادي بصوت: نادى موسى، وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بصوت"

(2)

، "والنداء في لغة العرب هو صوت رفيع؛ لا يطلق النداء على ما ليس بصوت لا حقيقة، ولا مجازاً"

(3)

"باتفاق أهل اللغة"

(4)

. و"هذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم"

(5)

.

‌المسألة الخامسة: محاولة الخصوم إثبات التأويل عن السلف:

‌تمهيد:

قرر شيخ الإسلام رحمه الله أثناء مناظرته في العقيدة الواسطية، وجوب إثبات الصفات لله عز وجل من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تكييف، وأكد أن هذه العقيدة عليها إجماع السلف، وأنهم كانوا يثبتون ما ورد في النصوص من صفات الله عز وجل من غير تمثيل لها بصفات المخلوقين، ومن غير تحريف لها عن معناها الحق وصرفها عن ظاهرها التي دلت عليه، بل يقرون بها كما هي حق على حقيقتها، ويفوضون علم كيفيتها إلى الله سبحانه، وبين رحمه الله أن هذا الأمر

(1)

منهاج السنة (5/ 423).

(2)

مجموع الفتاوى (12/ 304 - 305).

(3)

المصدر السابق (6/ 531، 12/ 130).

(4)

مجموع الفتاوى (12/ 40).

(5)

المصدر السابق (12/ 40).

ص: 550

لا خلاف فيه بين السلف رحمهم الله، وعلى رأسهم الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-، وتحدى مخالفيه بأن يأتوا بحرف واحد عن القرون المفضلة يخالف ما ذكره وقرره فقال:«قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك»

(1)

. وجزم رحمه الله في مواضع أخرى بعدم وجود أي اختلاف بين الصحابة، في تأويل أي صفة عن مقتضاها الظاهر منها، حيث قال رحمه الله:«وأما الذي أقوله الآن وأكتبه -وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس-: أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات، أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف»

(2)

.

وبالفعل فقد وقف القوم أمام هذا التحدي من شيخ الإسلام موقف العجز والضعف، فلم يستطيعوا الإتيان بشيء من ذلك في المجلس الأول الذي تحداهم فيه شيخ الإسلام، وطلبوا عقد مجلس آخر لعلهم أن يظفروا بشيء من ذلك ليواجهوا به الشيخ، فلما كان المجلس الثاني، جاءوا له ببعض ما ظنوه حججاً تبطل ما ادعاه شيخ الإسلام، فأظهر شيخ الإسلام -كما سيتضح- بطلان ما استدلوا به، وسوء فهمهم لنصوص الصفات، وما جاء عن السلف في تفسيرها، وغاية ما استدلوا به في هذه المناظرة -كما بين شيخ الإسلام- أمران اثنان:

(1)

المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 169).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 394).

ص: 551

الأمر الأول: ما جاء من تفسير مجاهد والشافعي لقوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] بقبلة الله.

احتج المخالف على صحة طريقة المتكلمين التي يسمونها تأويلاً، بما جاء من تفسير مجاهد والشافعي للوجه بالجهة والقبلة. وأصل شبهة المخالف: ظنه أن هذه الآية هي من آيات الصفات التي لا يحتمل ظاهرها غير إثبات الصفة، ومع ذلك فقد قام الإمامان مجاهد والشافعي بتأويلها وصرفها عن ظاهرها، كما يفعل مؤولة الصفات بآيات الصفات وأحاديثها.

وقد أجاب عنهم شيخ الإسلام بعدة أجوبة، تبطل شبهتهم هذه وتفسد عليهم احتجاجهم، فبين رحمه الله أن هذا التفسير الذي ذكر عن مجاهد والشافعي تفسير صحيح ومقبول، وليس من التأويل المذموم التي تصرف فيه النصوص عن ظاهرها المراد، وتحرف عن معناها بغير حجة ولا دليل، وبيان ذلك من وجوه:

أولاً: أن الوجه يطلق في اللغة على الجهة والوجهة، يقال:(قصدت هذا الوجه)، و (سافرت إلى هذا الوجه) أي: إلى هذه الجهة. ويقال: (أي وجه تريده؟) أي: أي جهة؟ و (أنا أريد هذا الوجه) أي: هذه الجهة. وهذا كثير مشهور، ومنه قول أنس في حديث الاستسقاء "فلم يقدم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبر بالجود" وإذا كان الوجه يطلق في اللغة على الصفة التي هي الوجه وعلى الجهة، فالذي يحكم أيهما المراد هو سياق الكلام والقرائن المتصلة به

(1)

.

ثانياً: أن سياق الآية التي وردت به، يوضح هذا الأمر ويزيل اللبس فيه؛ "فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية"

(2)

، وقد كان السياق هنا في ذكر الجهات حيث قال:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، والمشرق والمغرب جهات. وأيضاً قد قال قبلها {فَأَيْنَمَا

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (6/ 16)، بيان تلبيس الجهمية (6/ 74 - 75)، جامع المسائل (8/ 194).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 14).

ص: 552

تُوَلُّوا} وأين من الظروف. وتولوا: أي تستقبلوا. فالمعنى: أي موضع استقبلتموه، فهنالك وجه الله، فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله هذا، فدل على أن المراد الجهة والقبلة"

(1)

.

ثالثاً: أنه "قد أخبر أن وجهه (ثمَّ): أي في ذلك المكان، وهذا يناسب أن يكون قبلته في ذلك المكان؛ لأن صفته ليست في مكان"

(2)

، "وتوجيه ذلك أن يقال: قوله (فثمَّ) إشارة إلى مكان وجود، والله تعالى فوق العالم، ليس هو في جوف الأمكنة"

(3)

.

رابعاً: أن "قوله تعالى: {وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} كلتا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان، وكلاهما في شأن القبلة والوجه والجهة هو الذي ذكر في الآيتين: أنا نوليه: نستقبله"

(4)

.

خامساً: ومما يؤيد حملها على القبلة ما ذكره أهل العلم "أن هذه الآية: فيما لا يتعين فيه استقبال الكعبة، كالمتطوع الراكب في السفر، فإنه يصلي حيث توجهت به راحلته، والعاجز الذي لا يعلم جهة الكعبة، أو لا يقدر على استقبال الكعبة، فإنه يصلي بحسب إمكانه إلى أي جهة أمكن، وذكروا أيضاً أنه نسخ ما تضمنته من تسويغ الاستقبال بيت المقدس كما كان ذلك قبل النسخ"

(5)

.

سادساً: أن ما جاء عن السلف من تفسير الآية بالجهة والقبلة، فليس مرادهم فيه: صرفها عن ظاهرها ولا نفي صفة الوجه عن الله، كما هو فعل أهل الأهواء من المتكلمين وغيرهم الذين اعتقدوا عدم اتصاف الله بالصفات، ثم قاموا بتأويل النصوص الواردة فيها لتوافق ما قرروه من معتقد باطل. أما من ذكر عنهم تأويل

(1)

المصدر السابق (6/ 16).

(2)

بيان تلبيس الجهمية (6/ 74).

(3)

المصدر السابق (6/ 77).

(4)

مجموع الفتاوى (6/ 16).

(5)

بيان تلبيس الجهمية (4/ 548).

ص: 553

الآية من السلف فإنهم يثبتون صفات الله، ومنها صفة الوجه كما تليق بالله سبحانه، ويمرون الآيات الواردة في ذلك كما جاءت على ظاهرها، ويرون فساد طريقة أهل التأويل والتحريف، وإنما قالوا في هذه الآية ما قالوا؛ لأن ظاهر هذه الآية عندهم هو ما ذكروه من تفسير، فشتان بين صنيعهم وصنيع هؤلاء المتأخرين المنحرفين من أهل الكلام وأضرابهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«والمقصود بهذا الكلام أن من قال من السلف والأئمة لم يقولوه؛ لأنهم ينفون وجه الله الذي يراه المؤمنون في الآخرة، بل قالوه؛ لأن ذلك ظاهر الخطاب عندهم؛ لأن لفظ الوجه مشهور أنه يقصد به الجهة والقبلة هي الجهة»

(1)

، وقال رحمه الله:«والغرض أنه إذا قيل: (فثم قبلة الله) لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه؛ الذي ينكره منكرو تأويل آيات الصفات؛ ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه والآية دالة عليه، وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر»

(2)

. والخلاصة أن إثبات الصفة مقام، والخلاف في دليل معين مقام آخر، فالخلاف في دليل معين هل هو دال على الصفة أم لا، لا يستلزم الخلاف في الصفة نفسها، وعد الدليل المعين ليس عدمًا للمدلول.

هذه الأدلة كلها ذكرها شيخ الإسلام ليبين أن تفسير الوجه في الآية بالجهة والقبلة تفسير صحيح في اللغة ودل عليه السياق في الآية، وليس هذا من تحريف القوم وتأويلهم في شيء، والذي خاصمهم فيه شيخ الإسلام وتحداهم أن يأتوا عن السلف بشيء منه: هو تأويل النصوص وصرفها عن ظاهرها المتبادر إلى معنى آخر غير ظاهر، بلا دليل صارف ولا حجة واضحة ولا قرينة صحيحة، كما يفعلون مع الآيات والأحاديث الصريحة في صفات الباري جل جلاله.

هذا، ومن الأدلة التي تقوي حمل الآية على القبلة، ما ورد في سبب نزول هذه الآية: وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية في غزاة، فأصابتهم ظلمة فلم يهتدوا

(1)

المصدر السابق (6/ 74).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 17).

ص: 554

للقبلة فصلى كل منهم في جهة، فلما رجعوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فسكت، فأنزل الله عز وجل هذه الآية

(1)

. ونحوها من الروايات التي تحمل نفس المعنى وتدل على الأمر ذاته، وهي وإن كانت لا يسلم شيء من طرقها وشواهدها من ضعف ليس باليسير، كما قال البيهقي رحمه الله:«لم نعلم لهذا الحديث إسناداً صحيحاً قوياً»

(2)

، وقال العقيلي رحمه الله:«وأما حديث عامر بن ربيعة، فليس يروى من وجه يثبت متنه»

(3)

، إلا أن عدداً من أهل العلم ذهبوا إلى تقوية بعضها ببعض، خصوصاً مع تعدد الصحابة الذين رووا هذه الآثار، قال شيخ الإسلام:«وبعض هذه الطرق مما يغلب على القلب أن الحديث له أصل، وهو محفوظ، فإن المحدث إذا كان إنما يخاف عليه من سوء حفظه، لا من جهة التهمة بالكذب، فإذا عضده محدث اخر أو محدثان من جنسه، قويت روايته، حتى يكاد أحياناً يعلم أنه قد حفظ ذلك الحديث، لا سيما إذا جاء به محدث آخر عن صحابي آخر؛ فإن تطرق سوء الحفظ في مثل ذلك إلى جماعة بعيد لا يلتفت إليه، إلا أن يعارض حديثهم ما هو أصح منه. وقد روى أصحاب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة فتحروا القبلة وصلوا، فمنهم من صلى قبل المشرق، ومنهم من صلى قبل المغرب، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا. فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فنزلت هذه الآية. فهذا وإن لم يكن مما يحتج به منفرداً، فإنه يشد تلك الروايات ويقويها»

(4)

. وقال

(1)

رواه الترمذي (345)، وابن ماجه (1020)، والدارقطني في سننه (1/ 272)(5)، وابن جرير في تفسيره (1/ 401) من حديث عامر بن ربيعة، وفي الباب عن جابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين-، ولا يخلو كل من الحديث وشواهده من ضعف ليس باليسير. انظر: سنن الدراقطني (1/ 271)، السنن الكبرى للبيهقي (2/ 11)، تفسير ابن كثير (1/ 337).

(2)

السنن الكبرى (2/ 11).

(3)

الضعفاء الكبير (1/ 31).

(4)

شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الصلاة (ص: 546).

ص: 555

ابن كثير رحمه الله: «وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشدّ بعضها بعضًا»

(1)

.

ويؤيد هذا أيضاً ما جاء من تفسير بعض الصحابة لهذه الآية بما ظاهره أن المراد منها القبلة والجهة، ومن أصرح ما جاء في ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال:(كان النبي يصلي على راحلته تطوعاً، أينما توجهت به وهو جاي من مكة إلى المدينة ثم قرأ ابن عمر: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، فقال ابن عمر رضي الله عنه: في هذا أنزلت الآية)

(2)

.

ومع هذا كله، فإنه لا مانع أيضاً من جعل الآية مع دلالتها على القبلة، دالة أيضاً على صفة الوجه لله عز وجل؛ لأن الله إنما ذكر هذا الموضع بلفظ الوجه لا بلفظ الجهة، وقد ثبت أيضاً بالنصوص الصحيحة المتواترة أن العبد عند استقباله للقبلة فإنه يستقبل ربه عز وجل، والله يقبل عليه بوجهه ما لم يصرف وجهه عنه، ومعلوم علو الله عز وجل على الخلق وإحاطته بهم، وكل الجهات مخلوقة فمن استقبل شيئاً منها فهو متوجه إلى ربه جل جلاله

(3)

.

وخلاصة الأمر أن الآية محتملة للمعنيين فمن فسرها بأحدهما أو كليهما معاً، فإنه لم يصرفها عن ظاهرها المتبادر، ولم يتأول شيئاً منها على خلاف ما هو عليه، فلا مدخل لهم في ذلك، ولا حجة لهم فيما ورد من تفسير ذلك.

الأمر الثاني: ما روي عن مالك في تأويل صفة النزول:

واحتج المخالف أيضاً بما ورد عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله من تأويل صفة نزول الله بنزول أمره.

وأصل الشبهة عنده: اعتقاده ثبوت هذا التأويل عن إمام دار الهجرة مالك بن

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 337).

(2)

رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها (700).

(3)

انظر: بيان تلبيس الجهمية (6/ 76 - 80)، مختصر الصواعق المرسلة (ص: 413 - 419).

ص: 556

أنس رحمه الله، وبنى على ذلك أن تأويل الصفات مذهب معتبر عند السلف -رضوان الله عليهم-.

وقد أجاب شيخ الإسلام على كلام المعترض ببيان عدم صحة الاستدلال بهذا الأثر وتوضيح وذلك لعدة بوجوه:

أولاً: أن هذا الأثر لا يثبت عن الإمام مالك رحمه الله؛ وذلك لأنه من رواية كاتبه حبيب ابن أبي حبيب وهو كذاب لا تقبل روايته باتفاق أهل الجرح والتعديل، ولما احتج المخالف بأن لهذا الأثر طريقاً آخر ذكرها ابن عبد البر عن مطرف، بين شيخ الإسلام عدم حجية هذا الإسناد أيضاً؛ للجهالة التي فيه، فقال:«لكن الإسناد مجهول»

(1)

، وقال مرة:«وفي إسنادها من لا نعرفه»

(2)

.

ويزيد ذلك توضيحاً بيان إسناد هاتين الروايتين، وما في إسنادهما من ضعف:

أما الرواية الأولى: فهي ما جاء في موطأ مالك من رواية الجوهري قال: أخبرنا أحمد بن محمد المدني، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس.

وأخبرنا أحمد بن محمد المكي، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:(ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) لفظ المكي

(3)

.

قال الجوهري: «قال: حبيب: قال مالك: يتنزل أمره في كل سحر، فأما تبارك وتعالى فهو دائم لا يزول وهو بكل مكان»

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى (16/ 405)

(2)

شرح حديث النزول ضمن مجموع الفتاوى (5/ 402).

(3)

مسند الموطأ برواية الجوهري (ص: 151، 152).

(4)

مسند الموطأ برواية الجوهري (ص: 152).

ص: 557

وقال الحافظ الذهبي في السير: «قال ابن عدي: حدثنا محمد بن هارون بن حسان، حدثنا صالح بن أيوب، حدثنا حبيب بن أبي حبيب، حدثني مالك، قال: «يتنزل ربنا تبارك وتعالى: أمره، فأما هو فدائم لا يزول»

(1)

، وفي الإسناد حبيب بن أبي حبيب الذي بين شيخ الإسلام أنه كذاب باتفاق أهل العلم، قال أبو داود:«كان من أكذب الناس» وقال: «أحاديثه كلها موضوعة» وقال ابن حبان: «يروي الموضوعات عن الثقات»

(2)

. وقال ابن عدي: «وعامة حديث حبيب موضوع المتن مقلوب الإسناد، ولا يحتشم حبيب في وضع الحديث على الثقات، وأمره بيّن في الكذابين»

(3)

ـ

وأما الرواية الثانية: فقد ذكرها ابن عبد البر في التمهيد فقال: «وقد روى محمد بن علي الجبلي -وكان من ثقات المسلمين بالقيروان- قال: حدثنا جامع بن سوادة بمصر، قال: حدثنا مطرف، عن مالك بن أنس، أنه سئل عن الحديث: (إن الله ينزل في الليل إلى سماء الدنيا) فقال مالك: يتنزل أمره»

(4)

.

وإسناد هذا الأثر باطل من وجوه ثلاثة:

أولاً: الانقطاع بين ابن عبد البر والجبلي؛ فإن ابن عبد البر لم يذكر إسناده للجبلي.

ثانياً: محمد بن علي الجبلي أبو الخطاب الشاعر، ترجم له الخطيب في تاريخه وقال:«وقيل كان رافضياً شديد الترفض»

(5)

، وترجم له الذهبي في تاريخ الإسلام فقال:«وكان أبو الخطاب مفرط القصر، وهو رافضي جلد»

(6)

، وجاء

(1)

سير أعلام النبلاء (8/ 105).

(2)

انظر هذه الأقوال في ميزان الاعتدال (1/ 452)، تهذيب التهذيب (2/ 181).

(3)

الكامل في ضعفاء الرجال (2/ 414).

(4)

التمهيد (7/ 143).

(5)

تاريخ بغداد (3/ 31).

(6)

تاريخ الإسلام (7/ 378).

ص: 558

في ترجمته أنه كان شاعراً، وله قصيدة في مدح أبي العلاء المعري

(1)

مع ما هو معروف من انحرافه وزندقته

(2)

.

ثالثاً: جامع بن سوادة، روى له الدارقطني في غرائب مالك حديثاً، وقال:«هذا الحديث باطل وجامع ضعيف»

(3)

، وأخرج له ابن الجوزي حديثاً في الموضوعات، ثم قال:«هذا موضوع، وجامع مجهول»

(4)

، وقال الذهبي في الميزان: «جامع بن سوادة عن آدم بن أبي إياس

(5)

بخبر باطل في الجمع بين الزوجين» ثم قال: «كأنه آفته»

(6)

.

ومما يدل على ضعف هاتين الروايتين وعدم ثبوتهما عن إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، مخالفتهما للمشهور المعلوم الثابت عن الإمام من إثباته للصفات الاختيارية على حقيقتها دون تأويل باطل ولا تمثيل.

ومن ذلك ما رواه ابن أبي زمنين

(7)

في (أصول السنة) عن زهير بن

(1)

هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان، التنوخيّ المعري: شاعر فيلسوف. ولد ومات في معرة النعمان. قال الذهبي: «الشاعر المشهور، صاحب التصانيف المشهورة والزندقة المأثورة

وكان عجبا في الذكاء المفرط والاطلاع الباهر على اللغة وشواهدها». وله شعر يدل على الزندقة، قال أبو طاهر السلفي:«إن قال هذا الشعر معتقدا معناه، فالنار مأواه، وليس له في الإسلام نصيب» . انظر: وفيات الأعيان (1/ 113) تاريخ الإسلام (9/ 721).

(2)

انظر الميزان (3/ 657)، لسان الميزان (7/ 378).

(3)

لسان الميزان (2/ 415).

(4)

الكشف الحثيث لابن سبط ابن العجمي (ص 83).

(5)

هو أبو الحسن آدم بن أبى إياس الخراساني المروذي العسقلاني، مولى بنى تيم أو تميم، من صغار أتباع التابعين، ثقة، قال أبو حاتم: ثقة مأمون متعبد من خيار عباد الله، (ت: 221 هـ). انظر: طبقات ابن سعد (7/ 490)، التاريخ الكبير (2/ 39)، السير (10/ 335).

(6)

ميزان الاعتدال (1/ 387).

(7)

هو أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن عيسى بن محمد، المري الأندلسي، الألبيري، شيخ قرطبة، كان راسخاً في العلم مفنناً في الآداب، مقتفياً لآثار السلف، له مصنفات منها: تفسير القرآن، أصول السنة وغيرها، (ت: 399 هـ). انظر: ترتيب المدارك (2/ 259)، الوافي بالوفيات (3/ 321)، السير (17/ 188).

ص: 559

عباد

(1)

قال: «من أدركت من المشايخ مالك، وسفيان، وفضيل بن عياض، وعيسى بن المبارك، ووكيع، كانوا يقولون: إن النزول حق»

(2)

.

وكما في الأثر المشهور المستفيض عندما جاءه رجل وقال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟، فتأثّر مالك رحمه الله من هذه المسألة الشنيعة وعلاه الرحضاء، وقال في إجابته لهذا السائل:(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) وأمر بالسائل أن يُخرج من مجلسه

(3)

.

"وحسبك بهذا الأثر نكارةً أنه لم يُذكر في شيء من كتب السنة التي تنقل معتقد السلف وأقوالهم قط، ولا في شيء من كتب أصحاب الإمام مالك التي تنقل أقواله واختياراته كالمدونة وغيرها، ولم يُسطر في كتاب يحكي عقيدة الإمام مالك، كالرسالة لابن أبي زيد القيرواني

(4)

"

(5)

.

ثانياً: بين شيخ الإسلام رحمه الله أن هذه الرواية لو ثبتت بإسناد صحيح فإن الجواب عنها يكون كالجواب عن الرواية المنقولة عن الإمام أحمد في تأويل المجيء: بمجيء الأمر. وقد أجاب عنها شيخ الإسلام في عدة مواضع من كتبه

(6)

(1)

هو أبو محمد زهير بن عباد الرؤاسي ابن عم وكيع، سمع من: مالك بن أنس، وحفص بن ميسرة، وفضيل بن عياض. وسمع منه: محمد بن أحمد العريبي، والحسن بن الفرج الغزي، وجماعة منهم: أبو حاتم الرازي. وقال: ثقة، (238 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (5/ 824)، لسان الميزان (3/ 528).

(2)

أصول السنة لابن أبي زمنين (ص:113).

(3)

سبق عزوه (ص:453).

(4)

هو أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، إمام مالكي، من مؤلفاته: الرسالة، الجامع وغيرهما، توفي سنة:(386 هـ). انظر: السير (17/ 10)، شذرات الذهب (3/ 131).

(5)

الأشاعرة في ميزان أهل السنة (ص: 583).

(6)

انظر شرح حديث النزول (ص 56 - 75)، مجموع الفتاوى (5/ 399 - 400)، (16/ 405 - 406)، جامع المسائل (8/ 195).

ص: 560

بأجوبة ثلاثة حاصلها ما يلي:

1) أن هذا غلط من الراوي على الإمام أحمد رحمه الله.

2) أنه رحمه الله قاله على سبيل إلزام الخصوم

(1)

.

3) أن هذه رواية أخرى عنه، مخالفة للروايات المشهورة عنه في عدم تأويل آيات الصفات وإمرارها على ظاهرها.

وإذا تبين بطلان هذه الرواية وعدم صحة نسبتها إلى الإمام مالك، فإننا في غنى عن مثل هذه التبريرات، ولسنا بحاجة لمثل هذه التخريجات، وهذا هو الحال؛ فإنها لم تثبت بنقل صحيح ثابت، ولا بسند سليم معتبر، والله أعلم.

‌المسألة الثامنة

[*]

: رد دعواهم في أنه ليس لنصوص الأسماء والصفات معنى:

‌تمهيد:

كان مما اعترض به بعض المخالفين على شيخ الإسلام في عقيدته الواسطية، ما نص عليه من أن الله فوق سماواته، وأنه فوق العرش، مستو عليه رقيب على خلقه مطلع عليهم، وكل هذه المعاني حق على حقيقته، فاعترضوا باعتراضات، مفادها عدم صحة وجواز التعبير بهذه الألفاظ، بل يجب الاقتصار على الألفاظ التي جاءت في النصوص، وعدم التعبير عنها بأي معنى مرادف، أو قريب، أو مشتق منها. ودراسة هذه الشبهة من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

وأصل شبهتهم في هذه المسألة اعتقادهم أن ألفاظ الصفات التي وردت بها النصوص ليس لها معنى فيعبر عنه، أو يؤتى بمرادفه، بل هي نصوص لا يفهم لها معنى ولا تظهر منها دلالة؛ فلذلك لا يجوز التعبير عنها بأي معنى مرادف أو قريب

(1)

وهذا الوجه قد يستقيم فيما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله، ولا يستقيم هنا فيما روي عن مالك رحمه الله.

[*](تعليق الشاملة): كذا في المطبوع، وقبلها الخامسة

ص: 561

أو مشتق منها، بل يجب أن تمر كما جاءت بلا دلالة ولا معنى، ولذلك قالوا في اعتراضهم: نقول كما جاء في الحديث (والله فوق العرش)، ولا نقول:(فوق السموات)، ولا نقول:(على العرش)، وقالوا أيضاً: نقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ولا نقول:(الله على العرش استوى)، ولا نقول (مستو)

(1)

.

واعترضوا بناء على هذا الأصل على تعبير شيخ الإسلام بعد ذكره عقيدة أهل السنة في علو الله واستوائه على عرشه (حق على حقيقته)؛ لأن هذه العبارة تثبت معنى حقيقياً لهذه النصوص، والذي ألجأهم لهذا كله هو اعتقادهم أن العلو والاستواء صفات لا يفهم منها في اللغة إلا استواء الأجسام وعلوها وفوقيتها، فإثبات حقيقتها هو محض التجسيم، ونفي مدلولات النصوص ومعانيها هو عندهم غاية التعظيم والتنزيه

(2)

.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع كثيره من كتبه ومصنفاته، بطلان عقيدة التفويض التي مبناها على التجهيل ونفي دلالات النصوص ومعانيها، وجعل النصوص ألفاظًا مجردة، لا معنى لها ولا فائدة، من وجوه كثيرة يطول ذكرها ويصعب حصرها، ويكفي في بيان بطلان هذا القول، ما ذكره شيخ الإسلام من لوازم فاسدة تلزم القائلين بهذه المقالة ومنها ما يلي ومنها ما يلي:

1) جعل كلام الله من العبث والباطل الذي لا معنى له ولا فائدة، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«فالكلام إنما المقصود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك كان عبثاً وباطلاً، والله تعالى قد نزّه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم»

(3)

.

(1)

انظر: المناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/ 178).

(2)

انظر: المصدر السابق (3/ 178).

(3)

مجموع الفتاوى (17/ 397).

ص: 562

2) تجهيل الأنبياء، وأنهم يتكلمون بما لا يعقلون معناه، ولا يعلمون المراد منه، قال شيخ الإسلام:«فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه»

(1)

.

3) القدح في القرآن، وأنه ليس فيه هدى للناس ولا بيان لهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهى، ووعد وتوعّد، أو عمّا أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه فلا يعقل، ولا يتدبّر، ولا يكون الرسول بيّن للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين»

(2)

.

4) فتح الباب أمام أهل البدع والضلال والإلحاد للتقول في دين الله بآرائهم وعقولهم وأهوائهم، وادعاء الهدى في طريقتهم، قال شيخ الإسلام: «وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدلّ به، فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا، لا في طريق الأنبياء؛ لأنّا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنّة والسلف

(1)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 204).

(2)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 204).

ص: 563

من شر أقوال أهل البدع والإلحاد»

(1)

.

5) تجهيل السلف والقدح في علمهم وفضلهم، وتفضيل الخلف المتأخرين على السابقين الأولين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لا يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها، من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، فإنّ هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنّوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، وإن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالات التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف»

(2)

.

وقد جمع ابن القيم رحمه الله إلزامات شيخه للقائلين بهذه المقالة في سبعة وجوه فقال رحمه الله:

«قال شيخ الإسلام: إن كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة الذين لا يوجد ما يقولونه في الكتاب والسنة وكلام القرون الثلاثة المعظمة على سائر القرون ولا في كلام أحد من أئمة الإسلام المقتدى بهم، بل ما في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة يوجد دالاً على خلاف الحق عندهم: إما نصاً، وإما ظاهراً، بل دالا عندهم على الكفر والضلال لزم من ذلك لوازم باطلة منها:

(1)

المصدر السابق (1/ 204 - 205).

(2)

الفتوى الحموية (185 - 189).

ص: 564

الأول: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيه من هذه الألفاظ ما يضلهم ظاهره، ويوقعهم في التشبيه والتمثيل.

الثاني: ومنها أن يكون قد نَزَّلَ بيان الحق والصواب لهم، ولم يُفصح به، بل رمز إليه رمزاً وألغزه إلغازاً لا يفهم منه ذلك إلا بعد الجهد الجهيد.

الثالث: ومنها أن يكون قد كلف عباده أن لا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها، وكلفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك.

الرابع: ومنها أن يكون دائماً متكلماً في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب، تارة بأنه استوى على عرشه، وتارة بأنه فوق عباده، وتارة بأنه العلي الأعلى، وتارة بأن الملائكة تعرج إليه، وتارة بأن الأعمال الصالحة ترفع إليه، وتارة بأن الملائكة في نزولها من العلو إلى أسفل تنزل من عنده، وتارة بأنه رفيع الدرجات، وتارة بأنه في السماء، وتارة بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وتارة بأنه فوق سماواته على عرشه، وتارة بأن الكتاب نزل من عنده، وتارة بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وتارة بأنه يرى بالأبصار عياناً يراه المؤمنون فوق رؤوسهم، إلى غير ذلك من تنوع الدلالات على ذلك، ولا يتكلم فيه بكلمة واحدة يوافق ما يقوله النفاة، ولا يقول في مقام واحد فقط ما هو الصواب فيه، لا نصاً ولا ظاهراً ولا يبينه.

الخامس: ومنها أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا الشأن العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان، وذلك إما جهل ينافي العلم، وإما كتمان ينافي البيان، ولقد أساء الظن بخيار الأمة من نسبهم إلى ذلك، ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلم بالباطل والسكوت عن بيان الحق، تولد من بينهما جهل الحق وإضلال الخلق، ولهذا لما اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارات بما يدل على التعطيل والنفي نصاً وظاهراً، ولا يتكلمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصاً ولا ظاهراً، وإذا ورد عليهم من

ص: 565

النصوص ما هو صريح أو ظاهر في الإثبات حرفوه أنواع التحريفات وطلبوا له مستكره التأويلات.

السادس: ومنها أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل ولم تكن الحقائق من شأنهم.

السابع: ومنها أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب؛ فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال، ولم يستفيدوا منها يقيناً ولا علماً بما يجب لله ويمتنع عليه إذ ذاك، وإنما يستفاد من عقول الرجال وآرائها.

فإن قيل: استفدنا منها الثواب على تلاوتها، وانعقاد الصلاة بها، قيل هذا تابع للمقصود بها بالقصد الأول، وهو الهدى والإرشاد والدلالة على إثبات حقائقها ومعانيها والإيمان بها، فإن القرآن لم ينزل لمجرد التلاوة وانعقاد الصلاة عليه، بل أنزل ليتدبر ويعقل ويهدى به علماً وعملاً، ويبصر من العمى، ويرشد من الغي، ويعلم من الجهل، ويشفي من الغي، ويهدي إلى صراط مستقيم، وهذا القصد ينافي قصد تحريفه وتأويله بالتأويلات الباطلة المستكرهة التي هي من جنس الألغاز والأحاجي، فلا يجتمع قصد الهدى والبيان وقصد ما يضاده أبداً. وبالله التوفيق»

(1)

.

وركز شيخ الإسلام في جوابه على الخصوم أثناء المناظرة على بيان صحة ما قرره من اعتقاد وما ذكره من ألفاظ الأسماء والصفات وقوله: (حق على حقيقته) دون أن يتطرق لبيان شبه الخصم والجواب عليها، والاستطراد في تقرير ذلك؛ لأن مراده إفحام الخصوم وبيان فساد ما أوردوه على العقيدة، وهذا شأنه في سائر مناقشاته في الواسطية؛ التي غايته فيها: تقرير صحة ما ذكره فيها وإبطال ما يورده الخصوم عليها.

فبين هنا أن ما جاء من أسماء الله وصفاته، إما أن تكون من باب المشترك أو

(1)

الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 315).

ص: 566

المتواطئ أو المشكك، وليس هناك مذهب رابع في ذلك، وعلى أي مذهب كان فلا محظور في إطلاق لفظ: الحقيقة، أو حق على حقيقته.

وتفصيل ذلك: أن الاشتراك في الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق، كالوجود والسمع والبصر والاستواء والكلام، إما أن يكون:

1) من باب المشترك اللفظي: وهو ما اتفق لفظا فقط، مع اختلافه في المعنى. وذلك كاتفاق العين الباصرة، والعين النابعة، بلفظ: العين، مع اختلافهما في المعنى والحقيقة؛ ومع ذلك فإطلاق لفظ العين حقيقة في كل منهما وليس مجازاً.

وإذا كانت الأسماء والصفات من هذا القبيل، فيكون إطلاقها حق على حقيقته، لا إشكال في ذلك.

2) من باب المتواطئ: وهو ما اتفق لفظاً، واشترك في معنىً كلي، تساوت فيه أفراده. وذلك كاتفاق زيد وعمرو وخالد في مسمى "الإنسان"، واتفاق الأسد والفهد والفيل في مسمى الحيوان، فيطلق على زيد وعمرو وخالد أنه "إنسان"، فقد اشتركوا في هذا المعنى الكلي على حد التساوي، وأطلق على كل منهم على سبيل الحقيقة. وإذا كانت الأسماء والصفات من هذا القبيل، فهي أيضاً من باب الحقيقة.

3) من باب "المشكِّك": وهو ما اتفق لفظًا، واشترك في معنى كلي، تفاوتت فيه أفراده.

وذلك كـ"العلم"، فإنه يشترك فيه زيد وعمرو وخالد، ولكنهم يتفاوتون في مقداره، ومع تفاوتهم في مقداره، فهو يطلق على كل منهم على سبيل الحقيقة.

ومن هذا الباب الاشتراك الحاصل في أسماء الله وصفاته

(1)

.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع أخرى من كتبه ورسائله أن الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق ليست مشتركة اشتراكاً لفظياً، وإنما هي من

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (20/ 227 - 234)، (3/ 123 - 129)، (11/ 83)، والتدمرية (ص:130)، والتعريفات للجرجاني (ص: 215، 216، 219)، والمزهر (1/ 370 - 386).

ص: 567

باب المشكك، وبين رحمه الله أن بعض أهل الاصطلاح لا يجعل المشكك قسما ثالثاً، بل يجعله من قسم المتواطئ، ورجح شيخ الإسلام هذا القول، وعلى هذا يكون المتواطئ نوعان:

1) ما استوت فيه أفراده.

2) ما تفاوتت وتفاضلت فيه أفراده (وهو المتواطئ الخاص الذي يسمى مشككًا).

ولذلك تجد شيخ الإسلام كثيراً ما ينص على أنها متواطئة، ويعني بالتواطئ: التواطئ الخاص، وأما من جعل المشككة قسماً ثالثاً، فإنه يجعلها من قبيل المشككة لا المتواطئة، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا عُلم المقصود وفُهم المراد، قال شيخ الإسلام: «ثم من جعل المشككة نوعا من المتواطئة لم يمتنع -عنده- إذا قيل: مشككة، أن تكون متواطئة، ومن جعل ذلك نوعاً آخر جعلها مشككة لا متواطئة، وهذا نزاع لفظي، فإن المتواطئة التواطؤ العام، يدخل فيها المشككة؛ إذ المراد بالمشككة: ما يتفاضل معانيها في مواردها، كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد، كبياض الثلج، والخفيف كبياض العاج، والشديد أولى به.

ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف، فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك، وهو المعنى العام الكلي، وهو متواطئ بهذا الاعتبار، وهو باعتبار التفاضل يسمى مشككا. وأما إذا أريد بالتواطؤ: ما تستوي معانيه، كانت المشككة نوعاً آخر، لكن تخصيص لفظ المتواطئة بهذا عرف حادث، وهو خطأ أيضاً؛ فإن عامة المعاني العامة تتفاضل، والتماثل فيها في جميع مواردها بحيث لا تتفاضل في شيء من مواردها إما قليل، وإما معدوم. فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة بل مشككة، كان عامة الأسماء الكلية غير متواطئة»

(1)

.

(1)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 425 - 426).

ص: 568

وبين شيخ الإسلام لخصمه أن عدم الإقرار بأن ما جاء من صفات الله في القرآن حق على حقيقته، يعني جواز تكذيب ما جاء في القرآن والقول بضده؛ وذلك لأن ما كان مجازا وليس حقيقة فإنه يصح نفيه، بل علامة المجاز صحة نفيه، فلو قلت: فلان أسد، جاز أن تقول فلان ليس بأسد ولكنه إنسان، وهكذا في كل لفظ استخدم في غير الحقيقة، فيلزم على القول بأن نصوص الأسماء والصفات ليست على حقيقتها، جواز نفيها، فيقال: في قوله: (سميع بصير)، ليس بسميع ولا بصير، ويقال في {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لم يستو الرحمن على العرش، ونحو هذا، مما يعلم فساده وبطلانه بالضرورة من دين الإسلام "فكل من أنكر أن يكون اللفظ حقيقة لزمه جواز إطلاق نفيه، فمن أنكر أن يكون استوى على العرش حقيقة؛ فإنه يقول: ليس الرحمن على العرش استوى. كما أن من قال: إن لفظ الأسد للرجل الشجاع والحمار للبليد ليس بحقيقة؛ فإنه يلزمه صحة نفيه، فيقول: هذا ليس بأسد ولا بحمار ولكنه آدمي. وهؤلاء يقولون لهم: لا يستوي الله على العرش. كقول إخوانهم: ليس هو بسميع ولا بصير ولا متكلم؛ لأن هذه الألفاظ عندهم مجاز. فيأتون إلى محض ما أخبرت به الرسل عن الله سبحانه، يقابلونه بالنفي والرد؛ كما يقابله المشركون بالتكذيب"

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 219).

ص: 569

‌المبحث الثاني: مناظرته مع بعض المؤولة للأسماء والصفات في بطلان التأويل في صفة اليد وغيرها من المسائل:

واشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

تعتبر الرسالة المدنية من أهم الرسائل التي اعتنت بتقرير منهج أهل السنة في التعامل مع نصوص الصفات، وفي بيان التأويل الصحيح من التأويل الفاسد، وقد امتازت عن غيرها من تقريرات شيخ الإسلام بأنها جمعت بين التقرير والتطبيق، فقد قرر فيها شروط جواز تأويل الصفات، ثم طبق تلك الشروط على صفة اليد، وامتازت أيضاً بصيغتها التي وردت فيها، وهي صيغة الحوار والمناقشة والمناظرة، وذلك أن شيخ الإسلام إنما حكى فيها ما جرى بينه وبين بعض المتكلمين ممن يرى أن منهج تأويل الصفات هو المنهج المستقيم في التعامل مع النصوص.

وإلى الشروع في ذكر المناظرة التي عناها شيخ الإسلام رحمه الله:

ص: 570

•‌

‌ نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله في نص الرسالة المدنية

(1)

:

«السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام على جيرانه سكان المدينة طيبة من الأحياء والأموات، من المهاجرين والأنصار وسائر المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

إلى الشيخ الإمام العارف الناسك، المقتدي الزاهد العابد: شمس الدين

(2)

، كتب الله في قلبه الإيمان وأيده بروح منه، وآتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا، وجعله من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وخاصته المصطفين، ورزقه اتباع نبيه باطنًا وظاهرًا، واللحاق به في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

من أحمد بن تيمية: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد»

(3)

ثم ذكر رحمه الله مقدمة لطيفة في الوعظ

(4)

، ثم قال بعدها:

(1)

ذكر هذه الرسالة ابن القيم في ثبت مؤلفات شيخ الإسلام (ص: 30)، وكذا ابن عبد الهادي في العقود الدرية، وطبعت ضمن مجموع الفتاوى جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (6/ 351 - 373)، وطبعت ضمن تحقيق: محمد عبد الرزاق حمزة للفتوى الحموية، مطبعة المدني، القاهرة. وطبعت مستقلة بتحقيق: الوليد بن عبد الرحمن الفريان، الطبعة الأولى 1408 هـ.

(2)

هو محمد بن أحمد بن أبي نصر أبو عبد الله شمس الدين الدباهي البغدادي، ولد في ست أو سبع وثلاثين وستمائة ببغداد، ودخل الروم والجزيرة ومصر والشام والحرمين وجاور فيهما، فلما لمعت له أنوار شيخ الإسلام رحمه الله ارتحل إلى دمشق بأهله، وصحب شيخ الإسلام، واستوطن دمشق إلى أن توفي، قال الذهبي:«وكان ذا تأله، وصدق، وعلم» وقال: «وكَانَ حسن المجالسة، متبعاً للسنة، محذرا من البدعة» وقال البرازلي: «وهو حسن الجملة، عديم التكلف، وافر الإخلاص، متبع للسنة، حسن المشاركة فِي العلم، سيد من السادات» ، (ت: 711 هـ). انظر: العبر في خبر من غبر (4/ 29)، شذرات الذهب (8/ 51)، أعيان العصر (4/ 239)، ذيل طبقات الحنابلة (4/ 385 - 386).

(3)

الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 351).

(4)

انظر: الرسالة المدنية ضمن المجموع (6/ 351 - 352).

ص: 571

«وأما ما ذكرت من طلب الأسباب الأربعة، التي لابد منها في صرف الكلام من حقيقته إلى مجازه. فأنا أذكر لك ملخص الكلام الذي جرى بيني وبين بعض الناس في ذلك

(1)

، وهو ما حكيته لك وطلبته، وكان -إن شاء الله- له ولغيره به منفعة، على ما في الحكاية من زيادة ونقص وتغيير:

قال لي بعض الناس: إذا أردنا أن نسلك طريق سبيل السلامة والسكوت، وهي الطريقة التي تصلح عليها السلامة، قلنا كما قال الشافعي رضي الله عنه:«آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(2)

، وإذا سلكنا سبيل البحث والتحقيق، فإن الحق مذهب من

(1)

الذي يظهر أن هذه المناظرة قد وقعت لشيخ الإسلام قبل مناظرة الواسطية بزمن؛ وذلك لأن هذه الرسالة التي بعثها شيخ الإسلام لشمس الدين الدباهي إنما كانت وشمس الدين في المدينة المنورة، ثم إنه بعدها بفترة قدم إلى دمشق وصحب شيخ الإسلام فيها فترة من الزمن، وبقي فيها إلى أن توفي سنة 711 هـ، وكانت المناظرة الواسطية قد وقعت لشيخ الإسلام سنة 705 هـ، ثم أُبعدَ بعدها إلى مصر واستمر هناك سبع سنين أي إلى سنة 712 هـ، وذلك بعد وفاة شمس الدين بعام، فتكون صحبة الدباهي له إنما كانت قبل 705 هـ بلا شك، ويكون بعث شيخ الإسلام للرسالة المدنية لشمس الدين قبل ذلك بمدة، وذلك عندما كان الدباهي يقطن المدينة المنورة.

(2)

ذكره ابن قدامة في لمعة الاعتقاد (ص:7)، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه (البداية والنهاية) (138/ 14):(وقد روي عن الربيع وغير واحد من رؤوس أصحابه (أي الشافعي) ما يدل على أنه كان يمر آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف؛ على طريق السلف). وقال الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه "العلو للعلي الغفار"(ص:166): (وعن يونس بن عبد الأعلى؛ سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحداً -قامت عليه الحجة- ردها). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه (فتح الباري)(407/ 13): (وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى، سمعت الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].

ص: 572

يتأول آيات الصفات وأحاديث الصفات من المتكلمين.

فقلت له: أما ما قاله الشافعي؛ فإنه حقٌ يجب على كل مسلم أن يعتقده، ومن اعتقده ولم يأت بقول يناقضه، فإنه سالك سبيل السلامة في الدنيا والآخرة، وأما إذا بحث الإنسان وفحص، وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث كله باطلاً، وتيقن أن الحق مع أهل الحديث ظاهرًا وباطنًا.

فاستعظم ذلك وقال: أتحب لأهل الحديث أن يتناظروا في هذا؟

فتواعدنا يومًا، فكان فيما تفاوضنا: أن أمهات المسائل التي خالف فيها متأخرو المتكلمين ممن ينتحل مذهب الأشعري لأهل الحديث ثلاث مسائل:

1.

وصف الله بالعلو على العرش.

2.

ومسألة القرآن.

3.

ومسألة تأويل الصفات.

فقلت له: نبدأ بالكلام على مسألة تأويل الصفات؛ فإنها الأم والباقي من المسائل فرع عليها، وقلت له: مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة المفضلة ومن سلك سبيلهم من الخلف: أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت. ويؤمن بها وتصدق، وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل.

وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف منهم الخطابي

(1)

مذهب السلف: أنها تجرى على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدًا وسمعًا، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ومعنى السمع: العلم.

(1)

وقد مر معنا كلام الخطابي، انظر: حاشية المناظرة في العقيدة الواسطية (ص:454).

ص: 573

فقلت له: وبعض الناس يقول: مذهب السلف: أن الظاهر غير مراد، ويقول: أجمعنا على أن الظاهر غير مراد

(1)

، وهذه العبارة خطأ، إما لفظًا ومعنى، أو لفظًا لا معنى؛ لأن الظاهر قد صار مشتركًا بين شيئين:

أحدهما: أن يقال: إن اليد جارحة مثل جوارح العباد، وظاهر الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف، فلا شك أن من قال: إن هذه المعاني وشبهها من صفات المخلوقين ونعوت المحدثين غير مراد من الآيات والأحاديث فقد صدق وأحسن؛ إذ لا يختلف أهل السنة أن الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم يكفرون المشبهة والمجسمة.

لكن هذا القائل أخطأ، حيث ظن أن هذا المعنى هو الظاهر من هذه الآيات والأحاديث، وحيث حكى عن السلف ما لم يقولوه، فإن ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة، ثم قد يكون ظهوره: بمجرد الوضع، وقد يكون بسياق الكلام، وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله تعالى هي السابقة إلى عقل المؤمنين، بل اليد عندهم كالعلم والقدرة والذات، فكما كان علمنا وقدرتنا وحياتنا وكلامنا ونحوها من الصفات أعراضًا تدل على حدوثنا يمتنع أن يُوصف الله سبحانه بمثلها، فكذلك أيدينا ووجوهنا ونحوها أجسامًا كذلك محدثة، يمتنع أن يوصف الله تعالى بمثلها.

ثم لم يقل أحد من أهل السنة: إذا قلنا: إن لله علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا، أن ظاهره غير مراد، ثم يفسره بصفاتنا، فكذلك لا يجوز أن يقال: إن ظاهر اليد والوجه غير مراد، إذ لا فرق بين ما هو من صفاتنا جسم أو عرض للجسم.

ومن قال: إن ظاهر شيء من أسمائه وصفاته غير مراد فقد أخطأ؛ لأنه ما من اسم يسمى الله تعالى به إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد به، فكان

(1)

انظر: تحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص: 57).

ص: 574

قول هذا القائل يقتضي أن يكون جميع أسمائه وصفاته قد أريد بها ما يخالف ظاهرها، ولا يخفى ما في هذا الكلام من الفساد.

والمعنى الثاني: أن هذه الصفات إنما هي صفات الله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله، نسبتها إلى ذاته المقدسة كنسبة صفات كل شيء إلى ذاته، فيعلم أن العلم صفة ذاتية للموصوف ولها خصائص، وكذلك الوجه. ولا يقال: إنه مستغن عن هذه الصفات؛ لأن هذه الصفات واجبة لذاته، والإله المعبود سبحانه هو المستحق لجميع هذه الصفات.

وليس غرضنا الآن الكلام مع نفاة الصفات مطلقًا، وإنما الكلام مع من يثبت بعض الصفات.

وكذلك فعله، نعلم أن الخلق هو إبداع الكائنات من العدم، وإن كنا لا نكيف ذلك الفعل ولا يشبه أفعالنا، إذ نحن لا نفعل إلا لحاجة إلى الفعل، والله غني حميد.

وكذلك الذات، تعلم من حيث الجملة، وإن كانت لا تماثل الذوات المخلوقة ولا يعلم ما هو إلا هو، ولا يدرك لها كيفية، فهذا هو الذي يظهر من إطلاق هذه الصفات، وهو الذي يجب أن تحمل عليه.

فالمؤمن يعلم أحكام هذه الصفات وآثارها وهو الذي أريد منه، فيعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، وأن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، وأن المؤمنين ينظرون إلى وجه خالقهم في الجنة، ويتلذذون بذلك لذة ينغمر في جانبها جميع اللذات، ونحو ذلك.

كما يعلم أن له ربًا وخالقًا ومعبودًا، ولا يعلم كنه شيء من ذلك، بل غاية علم الخلق هكذا، يعلمون الشيء من بعض الجهات ولا يحيطون بكنهه، وعلمهم بنفوسهم من هذا الضرب.

قلت له: أفيجوز أن يقال: إن الظاهر غير مراد بهذا التفسير؟

فقال: هذا لا يمكن.

ص: 575

فقلت له: من قال: إن الظاهر غير مراد، بمعنى: أن صفات المخلوقين غير مرادة، قلنا له: أصبت في المعنى، لكن أخطأت في اللفظ، وأوهمت البدعة، وجعلت للجهمية طريقًا إلى غرضهم، وكان يمكنك أن تقول: تمر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن صفات الله تعالى ليست كصفات المخلوقين، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه.

ومن قال: إن الظاهر غير مراد بالتفسير الثاني وهو مراد الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والأشعرية وغيرهم فقد أخطأ.

ثم أقرب هؤلاء الجهمية الأشعرية يقولون: إن له صفات سبعًا: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر. وينفون ما عداها، وفيهم من يضم إلى ذلك اليد فقط، ومنهم من يتوقف في نفي ما سواها، وغلاتهم يقطعون بنفي ما سواها

(1)

.

وأما المعتزلة: فإنهم ينفون الصفات مطلقًا ويثبتون أحكامها، وهي ترجع عند أكثرهم إلى أنه عليم قدير، وأما كونه مريدًا متكلمًا فعندهم أنها صفات حادثة، أو

(1)

وقد لخص شيخ الإسلام مجمل خلافاتهم بقوله في مجموع الفتاوى (12/ 32): «وهؤلاء أهل الكلام القياسي من الصفاتية فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم، وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقلي عليها كالصفات السبع وهي: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.

ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام هل هو من الصفات العقلية، أو الصفات النبوية الخبرية السمعية،

ولهم اختلاف في البقاء والقدم وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات.

ولهم أيضاً اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية كالوجه واليد فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها، وكثير من متأخريهم لا يثبتها، وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها.

ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقلي عنده، ومنهم من يفوض معناها». وانظر تفصيل ذلك: شرح الأصبهانية (ص: 29 - 33).

ص: 576

إضافية أو عدمية. وهم أقرب الناس إلى الصابئين الفلاسفة من الروم، ومن سلك سبيلهم من العرب والفرس، حيث زعموا أن الصفات كلَّها ترجع إلى سلب أو إضافة، أو مركب من سلب وإضافة، فهؤلاء كلهم ضلال مكذبون للرسل

(1)

.

ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصرًا نافذًا، وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء، علم قطعًا أنهم يلحدون في أسمائه وآياته، وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله؛ ولهذا كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه

(2)

. ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة، والأشعرية مخانيث المعتزلة

(3)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (12/ 20).

(2)

كثيراً ما ينص شيخ الإسلام على أن البدع بريد الكفر، وأحياناً يقول: مشتقة من الكفر. وينسبها إلى بعض السلف، ومعناها صحيح بلا شك، ولكني لم أقف خلال البحث على قائلها، وإنما وقفت على قول أبي حفص النيسابوري (ت: بعد 261 هـ) الذي رواه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص:104) والبيهقي في الشعب (9/ 384): «المعاصي بريد الكفر، كما أن الحمى بريد الموت» .

(3)

ذكر شيخ الإسلام نحو هذه العبارة في غير موضع من كتبه، انظر: مجموع الفتاوي (8/ 227 - 14/ 348)، الفتاوى الكبرى (5/ 330) النبوات (1/ 307) وغيرها من المواضع، وقد شنع بها بعض المخالفين على شيخ الإسلام، وسبب ذلك أمران اثنان: الأول: ظنهم أن شيخ الإسلام هو أول من استخدم مثل هذه العبارة. الأمر الثاني: الجهل من بعضهم بمعنى كلمة (مخنث) في لغة العرب.

فأما الأمر الأول: فإن شيخ الإسلام ليس هو أول من استخدم مثل هذا التعبير عن الفرق المخالفة، فقد استخدم هذا التعبير عبد القاهر البغدادي (ت: 429 هـ) في الفرق بين الفرق (ص:9) قال: «ولهذا قيل للمعتزلة: إنهم مخانيث الخوارج» ، وذكر العبارة نفسها أبو المظفر الإسفراييني (ت: 471 هـ) في التبصير في الدين (ص:68)، ونقل شيخ الإسلام عن أبي إسماعيل الهروي (ت: 481 هـ) قوله: «الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة» . كما أن الشهرستاني (ت: 548 هـ) في نهاية الإقدام (ص: 159) قال عن المعتزلة: «الخناثى من المعتزلة لا رجال ولا نساء» ، ووردت عبارة (المعتزلة مخنثة الفلاسفة)، في نفخ الطيب (5/ 307).

وأما الأمر الثاني: فإن معنى المخنث والخنثى عند العرب كما بين الفراهيدي وغيره: هو ما اجتمع فيه شيء من الذكورة وشيء من الأنوثة فليس معدوداً من الذكور ولا من الإناث، ومنه مسألة الخنثى عند الفقهاء، وهو الذي له آلة الرجال وآلة النساء جميعاً. وانظر في ذلك: العين (4/ 248)، غريب الحديث للقاسم بن سلام (2/ 283)، الزاهر (2/ 152)، الصحاح (1/ 281). وعليه فمعنى كلام شيخ الإسلام:(الأشاعرة مخانيث المعتزلة) أن الأشاعرة ليسوا فحولاً في الاعتزال، بل خلطوا بين مذهب المعتزلة وغيره، وأما ما فهمه الجهلة بالعلم واللغة من المعنى الشائن القبيح؛ فإنه معنى لم تعرفه العرب من كلامها إلا في العصور المتأخرة، وربما بعد عصر شيخ الإسلام، حتى أن الفيروز آبادي لم يُشر إليه في القاموس، وهو من طبقة تلاميذ تلاميذ شيخ الإسلام. وقال ابن الطيب الفاسي رحمه الله كما في تاج العروس (5/ 241):«التَّخْنِيثُ الذي هو فِعْل الفاحشة لا تعرفه العرب، وليس في شْيءٍ من كلامهم، ولا هو المقصود من الحديث» والله أعلم.

ص: 577

وكان يحيى بن عمار

(1)

يقول: (المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث)

(2)

، ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب (الإبانة) الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنًا بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر، والكلام مع هؤلاء الذين ينفون ظاهرها بهذا التفسير.

قلت له: إذا وصف الله نفسه بصفة، أو وصفه بها رسوله، أو وصفه بها المؤمنون الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة، لابد فيه من أربعة أشياء:

أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي؛ لأن الكتاب والسنة

(1)

هو يحيى بن عمار بن العنبس، الإمام المحدث الواعظ، شيخ سجستان، أبو زكريا الشيباني السجستاني، نزيل هراة، قال الذهبي: «كان شيخ تلك الديار ديناً وعلماً وصيانة وتسنناً

وكان متصلباً على المبتدعة والجهمية، وله قبول زائد عند الكافة لفصاحته وحسن موعظته»، (ت: 422 هـ). انظر: السير (17/ 481)، تاريخ الإسلام (9/ 384).

(2)

لم أقف على هذا الأثر، إلا من نقل شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-.

ص: 578

وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنحَ له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.

الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة، فلا بد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.

الثالث: أنه لابد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصًا قاطعًا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرًا فلا بد من الترجيح.

الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته، فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه سبحانه وتعالى جعل القرآن نورًا وهدى، وبيانًا للناس، وشفاءً لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

ثم هذا الرسول الأمي العربي بُعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات، ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علمًا، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره إلا وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره، إما أن يكون عقليًا ظاهرًا، مثل قوله:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد: أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:102] يعلم المستمع:

ص: 579

أن الخالق لا يدخل في هذا العموم، أو سمعيًا ظاهرًا، مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعض الظواهر.

ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي، لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيًا أو عقليًا؛ لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه، ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب ألا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئًا من ظاهره؛ لأن هناك دليلاً خفيًا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره، كان هذا تدليسًا وتلبيسًا، وكان نقيض البيان وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان.

فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد؟! أم كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟!

فسلم لي ذلك الرجل هذه المقامات.

قلت له: ونحن نتكلم على صفة من الصفات، ونجعل الكلام فيها أنموذجًا يحتذى عليه، ونعبر بصفة اليد، وقد قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، وقال تعالى لإبليس:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَر:67]، وقال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [المُلك:1]، وقال:{بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] وقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

فالمفهوم من هذا الكلام: أن لله تعالى يدين مختصتان به، ذاتيتان له، كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوى السموات بيده اليمنى، وأن {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]،

ص: 580

ومعنى بسطهما: بذل الجود وسعة العطاء؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها، وتركه يكون ضمًا لليد إلى العنق، صار من الحقائق العرفية إذا قيل: هو مبسوط اليد فهم منه يد حقيقة، وكان ظاهره الجود والبخل، كما قال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]، ويقولون: فلان جَعْد البنان وسَبْط البنان

(1)

.

قلت له: فالقائل إن زَعَمَ أنه ليس له يد من جنس أيدي المخلوقين، وأن يده ليست جارحة، فهذا حق، وإن زعم أنه ليس له يد زائدة على الصفات السبع، فهو مبطل، فيحتاج إلى تلك المقامات الأربعة.

أما الأول: فيقول: إن اليد تكون بمعنى النعمة والعطية، تسمية للشيء باسم سببه، كما يسمى المطر والنبات سماء، ومنه قولهم: لفلان عندي أياد، وقول [عبد المطلب]

(2)

لما فقد النبي صلى الله عليه وسلم:

يا رب رد راكبي محمدًا

رده علي واصطنع عندي يدا

(3)

وقول عروة بن مسعود

(4)

لأبي بكر يوم الحديبية: (لولا يد لك عندي لم أجزك

(1)

فلان جعد البنان: كناية عن البخل. وسبط البنان: كنابة عن الكرم. انظر: غريب الحديث للخطابي (1/ 31)، الفائق في غريب الحديث للزمخشري (1/ 444)، معجم اللغة العربية (1/ 250).

(2)

في الأصل (أبي طالب) وهو خطأ والمثبت هو الصواب.

(3)

رواه أبو زرعة في تاريخه (ص:143 - 144)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 91)، والبغوي في معجم الصحابة (2/ 586)، والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 151)، والثعلبي في تفسير القرآن (10/ 226)، بسندهم إلى كندير بن سعيد، عن أبيه قال: (رأيت رجلاً يطوف بالبيت في الجاهلية، وهو يقول:

يا رب رد راكبي محمدا

رده إلي واصطنع عندي يدا

قال: فقلت: من هذا؟ قالوا: عبد المطلب بن هاشم، بعث بابن ابن له في طلب إبل له، ولم يبعث به في حاجة إلا جاء بها -أو قال: نجح- فلم يلبث أن جاء فضمه إليه، وقال: لا أبعث بك في حاجة -أو قال: في شيء-.

(4)

هو عروة بن مسعود بن معتب الثقفي رضي الله عنه صحابي مشهور، كان كبيراً في قومه بالطائف قيل: إنه المراد بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرُف:31]، ولما أسلم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه يدعوهم للإسلام، فقال: أخاف أن يقتلوك، قال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني! فأذن له، فرجع، فدعاهم إلى الإسلام، فخالفوه، ورماه أحدهم بسهم فقتله، (ت:9 هـ). انظر: معرفة الصحابة لأبي نعيم (4/ 2188 - 2189)، الاستيعاب (3/ 1066)، أسد الغابة (4/ 30)، الإصابة (4/ 406 - 407).

ص: 581

بها لأجبتك)

(1)

.

وقد تكون اليد بمعنى القدرة، تسمية للشيء باسم مسببه؛ لأن القدرة هي تحرك اليد، يقولون: فلان له يد في كذا وكذا، ومنه قول زياد

(2)

لمعاوية: «إني قد أمسكت العراق بإحدى يدي، ويدي الأخرى فارغة»

(3)

، يريد نصف قدرتي ضبط أمر العراق. ومنه قوله:{بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]، والنكاح كلام يقال، وإنما معناه أنه مقتدر عليه.

وقد يجعلون إضافة الفعل إليها إضافة الفعل إلى الشخص نفسه؛ لأن غالب الأفعال لما كانت باليد جعل ذكر اليد إشارة إلى أنه فعل بنفسه، قال الله تعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، إلى قوله:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:182] أي: بما قدمتم، فإن بعض ما قدموه كلام تكلموا به. وكذلك قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50]، إلى قوله:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال:51] والعرب تقول: (يَدَاك أوْكَتَا، وفُوكَ نَفَخ)

(4)

؛

(1)

رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (2731)، وأحمد في مسنده (18910)، وابن هشام في مختصر السيرة (2/ 313).

(2)

هو زياد بن أبيه: أمير، من الدهاة، القادة الفاتحين، الولاة من أهل الطائف، اختلفوا في اسم أبيه، فقيل عُبَيد الثقفي وقيل أبو سفيان، ولي لعلي بلاد فارس ثم ولي لمعاوية بلاد العراق، وذكروا في مناقبه وسياسته ودهائه الشيء الكثير. (ت:35 هـ) انظر: السير (694 - 497)، الوافي بالوفيات (15/ 6 - 8).

(3)

رواه الطبري في تاريخه (5/ 288 - 289)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 477).

(4)

ذكره المفضل الضبي في أمثال العرب (ص: 117)، وابن سلام في الأمثال (ص:331)، وأبو هلال العسكري في جمهرة الأمثال (2/ 243)، والهاشمي في الأمثال (1/ 289) وقصته كما ذكرها من تقدم: أن قوماً كانوا في جزيرة من جزائر البحر في الدهر الأول، ودونها خليج من البحر، فأتاها قوم يريدون أن يعبروها فلم يجدوا معبراً، فجعلوا ينفخون أسقيتهم ثم يعبرون عليها، فعمد رجل منهم فأقلّ النفخ وأضعف الربط، فلما توسط الماء جعلت الريح تخرج حتى لم يبق في السقاء شيء، وغشيه الموت فنادى رجلا من أصحابه أن يا فلان إني قد هلكت. فقال: ما ذنبي (يداك أوكتا وفوك نفخ).

ص: 582

توبيخًا لكل من جر على نفسه جريرة؛ لأن أول ما قيل هذا لمن فعل بيديه وفمه.

قلت له: ونحن لا ننكر لغة العرب التي نزل بها القرآن في هذا كله، والمتأولون للصفات الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، وألحدوا في أسمائه وصفاته وآياته تأولوا قوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] على هذا كله، فقالوا: إن المراد نعمته، أي: نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقالوا: بقدرته، وقالوا: اللفظ كناية عن نفس الجود من غير أن يكون هناك يد حقيقة، بل هذه اللفظة قد صارت حقيقة في العطاء والجود، وقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: خلقته أنا، وإن لم يكن هناك يد حقيقية. قلت له: فهذه تأويلاتهم؟ قال: نعم. قلت له: فننظر فيما قدمنا:

المقام الأول: أن لفظ اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأن من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع، كقوله:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] ولفظ الجمع في الواحد كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران:173] ولفظ الجمع في الاثنين كقوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]. أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد فلا أصل له؛ لأن هذه الألفاظ عدد وهي نصوص في معناها لا يتجوز بها، ولا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني رجلين، ولا عندي رجلان، ويعني به الجنس؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس، والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد.

فقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة

ص: 583

واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد.

ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية.

ولا يجوز أن يكون لما خلقت أنا؛ لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفعل كقوله:{بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] و {قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:182]، ومنه قوله:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71].

أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدى الفعل إلى اليد بحرف الباء، كقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]؛ فإنه نص في أنه فعل الفعل بيديه؛ ولهذا لا يجوز لمن تكلم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك ويقال: هذا فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: فعلت، كاف في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة، ولست تجد في كلام العرب ولا العجم -إن شاء الله تعالى- أن فصيحًا يقول: فعلت هذا بيدي، أو فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها.

وبهذا الفرق المحقق تتبين مواضع المجاز ومواضع الحقيقة، ويتبين أن الآيات لا تقبل المجاز البتة من جهة نفس اللغة.

قال لي: فقد أوقعوا الاثنين موقع الواحد في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق:24]، وإنما هو خطاب للواحد.

قلت له: هذا ممنوع، بل قوله:{أَلْقِيَا} [ق:24] قد قيل: تثنية الفاعل لتثنية الفعل، والمعنى: ألق ألق. وقد قيل: إنه خطاب للسائق والشهيد. ومن قال: إنه خطاب للواحد، قال: إن الإنسان يكون معه اثنان: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فيقول: خليليَّ! خليليَّ! ثم إنه يوقع هذا الخطاب وإن لم يكونا موجودين، كأنه يخاطب موجودين، فقوله:{أَلْقِيَا} [ق:24] عند هذا القائل إنما هو خطاب لاثنين يقدر وجودهما، فلا حجة فيه البتة

(1)

.

(1)

انظر: معاني القرآن للفراء (3/ 78 - 79)، معاني القرآن وإعرابه للزجاج (5/ 45)، تفسير القرطبي (17/ 16) وتفسير ابن كثير (7/ 376)، الفوائد لابن القيم (ص: 10).

ص: 584

قلت له: المقام الثاني: أن يقال: هب أنه يجوز أن يعني باليد حقيقة اليد، وأن يعني بها القدرة أو النعمة، أو يجعل ذكرها كناية عن الفعل، لكن ما الموجب لصرفها عن الحقيقة؟

فإن قلت: لأن اليد هي الجارحة وذلك ممتنع على الله سبحانه.

قلت لك: هذا ونحوه يوجب امتناع وصفه بأن له يدًا من جنس أيدي المخلوقين، وهذا لا ريب فيه، لكن لم لا يجوز أن يكون له يد تناسب ذاته تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات؟

قال: ليس في العقل والسمع ما يحيل هذا.

قلت: فإذا كان هذا ممكنًا وهو حقيقة اللفظ فلم يصرف عنه اللفظ إلى مجازه؟ وكل ما يذكره الخصم من دليل يدل على امتناع وصفه بما يسمى به، وصحت الدلالة سلم له أن المعنى الذي يستحقه المخلوق منتف عنه، وإنما حقيقة اللفظ وظاهره يد يستحقها الخالق كالعلم والقدرة، بل كالذات والوجود.

المقام الثالث: قلت له: بلغك أن في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أئمة المسلمين أنهم قالوا: المراد باليد خلاف ظاهره، أو الظاهر غير مراد، أو هل في كتاب الله آية تدل على انتفاء وصفه باليد دلالة ظاهرة، بل أو دلالة خفية؟ فإن أقصى ما يذكره المتكلف قوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] وهؤلاء الآيات إنما يدللن على انتفاء التجسيم والتشبيه. أما انتفاء يد تليق بجلاله، فليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه.

وكذلك هل في العقل ما يدل دلالة ظاهرة على أن الباري لا يد له البتة؟ لا يدًا تليق بجلاله، ولا يداً تناسب المحدثات، وهل فيه ما يدل على ذلك أصلا، ولو بوجه خفي؟ فإذا لم يكن في السمع ولا في العقل ما ينفي حقيقة اليد البتة، وإن

ص: 585

فرض ما ينافيها فإنما هو من الوجوه الخفية عند من يدعيه وإلا ففي الحقيقة إنما هو شبهة فاسدة.

فهل يجوز أن يُملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يديه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ جَهْم ابنُ صفوان بعد انقراض عصر الصحابة، فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه بشر بن غياث ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق

(1)

.

وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، ويقول:(ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به)

(2)

، (تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)

(3)

، ثم يترك الكتاب المنزل عليه، وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه؟!

وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: (أمروها كما جاءت)

(4)

، مع أن معناها

(1)

قال الخليل بن أحمد: «ويقال للرجل إذا كان مَطعُوناً عليه في دِينهِ: إنه لمغُمُوصٌ عليه أي مَطعُونٌ في دينه» العين (4/ 375)، وانظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 386).

(2)

رواه الحاكم في مستدركه (2/ 5)(2136)، والبيهقي في شعب الإيمان (13/ 19)(9891)، وابن مردويه في أماليه (ص:171) (24)، وهناد بن السري في الزهد (1/ 281)(494)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: (إنه ليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه ليس من شيء يدنيكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به

) الحديث، وحسنه الألباني في الصحيحة (2886).

(3)

رواه أحمد (28/ 367)، (17142)، وابن ماجه (1/ 16)(43)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 403)(88)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 247)(619)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وصححه الألباني في الصحيحة (937).

(4)

قال الوليد بن مسلم: «سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن الأحاديث التي فيها الصفات، فكلهم قال: أمروها كما جاءت بلا تفسير» رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه (2/ 345)(3283)، والآجري في الشريعة (3/ 1146)(720)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 377) (955) وأخرج أيضاً عن بقية قال: حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، ومكحول، قالا:«امضوا الأحاديث على ما جاءت» الأسماء والصفات (2/ 377).

ص: 586

المجازي هو المراد وهو شيء لا يفهمه العرب، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار!

المقام الرابع: قلت له: أنا أذكر لك من الأدلة الجلية القاطعة والظاهرة، ما يبين لك أن لله يدين حقيقة.

فمن ذلك تفضيله لآدم يستوجب سجود الملائكة، وامتناعهم عن التكبر عليه، فلو كان المراد أنه خلقه بقدرته أو بنعمته، أو مجرد إضافة خلقه إليه؛ لشاركه في ذلك إبليس وجميع المخلوقات.

قال لي: فقد يضاف الشيء إلى الله على سبيل التشريف، كقوله:{نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس:13] وبيت الله.

قلت له: لا تكون الإضافة تشريفًا حتى يكون في المضاف معنى أفرده به عن غيره، فلو لم يكن في الناقة والبيت من الآيات البينات ما تمتاز به على جميع النوق والبيوت لما استحقا هذه الإضافة، والأمر هنا كذلك، فإضافة خلق آدم إليه أنه خلقه بيديه، يوجب أن يكون خلقه بيديه أنه قد فعله بيديه، وخلق هؤلاء بقوله: كن فيكون، كما جاءت به الآثار.

ومن ذلك أنهم إذا قالوا: بيده الملك، أو عملته يداك، فهما شيئان:

أحدهما: إثبات اليد.

والثاني: إضافة الملك والعمل إليها، والثاني يقع فيه التجوز كثيرًا.

أما الأول: فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له يد حقيقة، ولا يقولون: يد الهواء ولا يد الماء، فهب أن قوله:{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [المُلك:1] قد علم منه أن المراد بقدرته، لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة.

ص: 587

والفرق بين قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] من وجهين:

أحدهما: أنه هنا أضاف الفعل إليه، وبين أنه خلقه بيديه، وهناك أضاف الفعل إلى الأيدي.

الثاني: أن من لغة العرب أنهم يضعون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس، كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] أي: يديهما، وقوله:{{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] أي: قلباكما، فكذلك قوله:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71].

وأما السنة فكثيرة جدًا، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا) رواه مسلم

(1)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:(يمين الله ملأى لا يَغِيضُهَا نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يَغِض ما في يمينه، والقِسْط بيده الأخرى، يرفع ويخفض إلى يوم القيامة) رواه مسلم في صحيحه

(2)

؛ والبخاري

(3)

فيما أظن.

وفي الصحيح أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكون الأرض يوم القيامة خُبْزَةً واحدة، يتكفؤها الجبار بيده، كما يتكفأ أحدكم بيده خُبْزَتَه في السفر)

(4)

.

وفي الصحيح أيضاً عن ابن عمر، يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأخذ

(1)

رواه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل (1827)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب: الحث على النفقة (993)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، (7411)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عه-.

(4)

رواه البخاري كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة (6520)

ص: 588

الرب عز وجل سمواته وأرضه بيديه، وجعل يقبض يديه ويبسطهما ويقول: أنا الرحمن)، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك أسفل منه، حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله؟ وفي رواية: أنه قرأ هذه الآية على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَر:67]، قال:(يقول: أنا الله، أنا الجبار) وذكره

(1)

. وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)

(2)

وما يوافق هذا من حديث الحبر

(3)

.

وفي حديث صحيح: (إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت. قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته)

(4)

، وفي الصحيح:(إن الله كتب بيده على نفسه لما خلق الخلق: إن رحمتي تغلب غضبي)

(5)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، ومسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2788)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 172) واللفظ المثبت في النص هو لفظ ابن خزيمة.

(2)

رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، وباب قوله:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزُّمَر:67]، ومسلم، كتاب تفسير القرآن (2787).

(3)

رواه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن باب قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، (4811)، ومسلم، كتاب صفة القيامة (2786).

(4)

رواه الترمذي في سننه (5/ 312)(3368)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 91)(206)، والبزار في مسنده (15/ 150)(8478)، وأبو يعلى في مسنده (11/ 453)(6580)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 160)، كلهم من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (5209).

(5)

رواه البخاري كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27](3194)، ومسلم كتاب التوبة (2751)، ولفظ (بيده) ثابتة عند أحمد (9159) والترمذي (3543)، وابن ماجه (189)، وغيرهم وليست في الصحيح. انظر: الصحيحة (1629).

ص: 589

وفي الصحيح: أنه لما تحاج آدم وموسى قال آدم: (يا موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده) وقد قال له موسى: (أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه)

(1)

. وفي حديث آخر: أنه قال سبحانه: (وعزتي وجلالي، لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن، فكان)

(2)

وفي حديث آخر في السنن: (لما خلق الله آدم ومسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيده الأخرى فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)

(3)

.

فذكرت له هذه الأحاديث وغيرها، ثم قلت له: هل تقبل هذه الأحاديث تأويلاً، أم هي نصوص قاطعة؟ وهذه أحاديث تلقتها الأمة بالقبول والتصديق ونقلتها من بحر غزير. فأظهر الرجل التوبة وتبين له الحق.

فهذا الذي أشرت إليه أحسن الله إليك أن أكتبه.

وهذا باب واسع، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] و {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى المحمدين، وأبي زكريا، وأبي البقاء عبد المجيد

(4)

، وأهل البيت ومن تعرفونه من أهل المدينة وسائر أهل البلدة الطيبة».

(1)

رواه البخاري في صحيحه كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله (6614) ومسلم في صحيحه، باب حجاج آدم وموسى (193).

(2)

رواه الطبراني في الأوسط (6/ 196) والبيهقي في الأسماء والصفات (688) وفي الشعب (147) وضعفه الألباني في الضعيفة (4980).

(3)

رواه أبو داود في سننه (4703)، والترمذي (3075)، والنسائي في السنن الكبرى (112) وغيرهم، وصححه الألباني في تعليقه على الطحاوية (ص:47) (42)، وذلك بعد تضعيفه له قبل ذلك. انظر: تراجعات الألباني (166، 170).

(4)

لم أقف على تراجمهم.

ص: 590

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

‌المسألة الأولى: مقالة المتكلمين: (الظاهر من نصوص الصفات غير مراد):

كثيراً ما يقف القارئ في كتب المتكلمين ومصنفاتهم على قولهم عند التعرض لنصوص الصفات: (وظاهرها غير مراد) أو (الظاهر غير مراد)؛ وذلك لأن ظاهرها يقتضي عندهم التشبيه.

والعجب ليس في ذلك، وإنما العجب من إضافتهم هذا الاعتقاد وهذه المقالة إلى السلف الصالح -رضوان الله عليهم-، وادعاء الإجماع على ذلك!

وفي هذه المناظرة ناقش شيخ الإسلام هذه المقالة وبين ما لها وما عليها، وفصَّل القول فيها، وستكون دراسة هذه المسألة من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

يظهر بوضوح لكل من عرف مذهب القوم أن الأصل الحامل لهم على إطلاق مثل هذه المقالة، واعتقاد أن ظاهر نصوص الصفات غير مراد، هو ظنهم أن ظاهر هذه النصوص هو التشبيه، وإذا كان هذا هو ظاهرها، فلا بد من الجزم حينئذ بأن هذا الظاهر غير مراد فبنوا شبهتهم على أمرين:

الأول: ظنهم أن الظاهر من النصوص التشبيه.

الثاني: إذا كان ظاهرها التشبيه فنجزم أن الظاهر غير مراد.

وذلك -بزعمهم- تنزيهاً لله عن مشابهة المخلوقات، وتبريراً لطرقهم المبتدعة في التعامل مع النصوص من تأويل وتفويض وتعطيل.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع من كتبه ورسائله فساد هذه العبارة، وعدم صحة التعبير بها على كل حال؛ فإنها لا تخلو من حالين: إما أن تكون باطلة

ص: 591

اللفظ، أو باطلة اللفظ والمعنى، كما فصل ذلك شيخ الإسلام أثناء مناظرته، والذي يهمنا هنا بيان فساد الشبهة التي حملتهم على إطلاق هذه المقالة، وهي اعتقاد أن ظواهر النصوص تفيد التشبيه، ويمكن إجمال أهم الأوجه التي تدل على بطلانها بما يأتي:

أولاً: أن ظاهر الكلام: هو ما يتبادر إلى العقل السليم من المعاني، لمن يفهم بتلك اللغة. ولا يمكن بحال أن يتبادر إلى ذهن المؤمن سليم العقل والفطرة، أن ظاهر ما وصف الله به نفسه كصفات المخلوقين المحدثة، فكيف يقال بعد ذلك إن هذا هو ظاهر النصوص

(1)

.

ثانياً: أن القول بأن ظواهر النصوص يقتضي التشبيه، يلزم منه أن ظواهر نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، ظواهر كفرية، إذ هي تقتضي تمثيل الله بعباده، وتشبيهه بخلقه، وهذا من أشنع الأقوال وأقبحها في حق كلام الله رب العالمين، وحديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ثالثاً: أن القول في الصفات كالقول في بعضها البعض، فكما يقر المخالف بأن الله يوصف بالعلم والحياة والقدرة، ولا يقول: إن ظاهرها غير مراد، وإن ظاهرها التشبيه والتجسيم، فكذلك جميع صفات الباري -جل وعلا- يقال فيها الكلام ذاته، أما أن نجعل ظاهر بعض الصفات غير مراد، وظاهر بعضها مراد، فهذا تناقض لا دليل عليه

(3)

.

رابعاً: أن هذه المقالة لم يقل بها أحد من سلف هذه الأمة وأئمتها، ولم يكونوا يسمون هذا المعنى ظاهرا

(4)

.

خامساً: أن في مثل هذا التقرير فتح الباب أمام الجهمية والباطنية والفلاسفة وأضرابهم

(1)

انظر: الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 356).

(2)

انظر: التدمرية (ص:69).

(3)

انظر: الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 356).

(4)

انظر: التدمرية (ص:69).

ص: 592

من الملاحدة، ليحرف كل منهم كلام الله ويفسره بالمعاني الباطلة، والتأويلات الفاسدة التي يريدها، بدعوى أن ظاهرها غير مراد

(1)

.

سادساً: أن ادعاء كون هذا النص غير مراد تحكم لا دليل عليه وجناية على المتكلم؛ إذ مراد المتكلم يُعرف من لفظه، ودعوى أن ظاهر كلامه غير مراد، قدح فيه فإن الأصل في المتكلم أن يبين مراده، إلا لعجز أو ضعف في البيان والفصاحة، أو لإرادة التلبيس على المخاطبين

(2)

.

سابعاً: أن معظم نصوص القرآن ليست من قبيل "الظاهر"، وإنما من قبيل " النص"؛ وذلك أن الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

«أحدها: ما هو (نص) في مراده لا يحتمل غيره.

الثاني: ما هو (ظاهر) في مراده وإن احتمل أن يريد غيره.

الثالث: ما ليس بنص ولا ظاهر في المراد، بل هو (مجمل) يحتاج إلى بيان.

فالأول يستحيل دخول التأويل فيه، وتحميله التأويل كذب ظاهر على المتكلم، وهذا شأن عامة نصوص القرآن الصريحة في معناها كنصوص آيات الصفات والتوحيد، وأن الله سبحانه مكلم متكلم، آمر ناه، قائل مخبر موحي، حاكم واعد موعد، منبئ هاد داع إلى دار السلام، فوق عباده عليٌ على كل شيء، مستو على عرشه، ينزل الأمر من عنده ويعرج إليه، وأنه فعال حقيقة، وأنه كل يوم في شأن فعال لما يريد، وأنه ليس للخلق من دونه ولي ولا شفيع ولا ظهير، وأنه المنفرد بالربوبية والإلهية والتدبير والقيومية، وأنه يعلم السر وأخفى وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، وأنه يسمع الكلام الخفي كما يسمع الجهر، ويرى ما في السماوات والأرض ولا يخفى عليه منها ذرة واحدة، وأنه على كل شيء قدير فلا يخرج مقدور واحد عن قدرته البتة كما لا يخرج عن علمه وتكوينه، وأن له

(1)

انظر: الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 358).

(2)

انظر: الحموية (280 - 282).

ص: 593

ملائكة مدبرات بأمره للعالم تصعد وتنزل وتتحرك وتنتقل من مكان إلى مكان، وأنه يذهب بالدنيا ويخرب هذا العالم ويأتي بالآخرة ويبعث من في القبور جل جلاله، إلى أمثال ذلك من النصوص التي هي في الدلالة على مرادها: كدلالة لفظ العشرة والثلاثة على مدلوله، وكدلالة لفظ الشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والخيل والبغال، والإبل والبقر والغنم، والذكر والأنثى على مدلولها لا فرق بين ذلك البتة»

(1)

.

ثامناً: اللوازم الفاسدة التي تلزم من هذه المقالة وتدل على بطلانها، وقد سبق معنا في الرد على شبهة التفويض ذكر جملة من اللوازم الباطلة التي تلزم من تلك المقالة وتدل على شناعتها وفسادها وبطلانها، وفي الحقيقة أن كل لازم يلزم من تلك المقالة فهو لازم أيضاً لهذه المقالة، فنكتفي بما تم إيراده هناك، فمن أراد مزيد بيان وتوضيح فليراجع ذلك الموضع.

‌المسألة الثانية: شروط التأويل الجائز:

تبين لنا مما سبق في المناظرة الواسطية، ما أدخله المتكلمون في لفظ التأويل من معان فاسدة، توصلوا من خلالها لتحريف معاني النصوص، وصرفها عن مدلولاتها.

وقدمنا هناك شيئاً من الدراسة لأصل شبهة التأويل والجواب عليها وبيان فسادها، والأوجه التي نقض بها شيخ الإسلام تأويلهم الفاسد من جهة وضعه، ومن جهة آثاره ونتائجه الوخيمة، وما يترتب عليه من لوازم فاسدة تدل على بطلانه

(2)

.

وقد تميزت الرسالة المدنية هنا، بمحاكمة شيخ الإسلام أهل الكلام إلى قوانينهم التي وضعوها، ونقضه للتأويل الفاسد من جهة المنهج المتبع فيه؛ وذلك ببيان الأمور التي يشترط وجودها في التأويل ليكون التأويل صحيحاً مقبولا،

(1)

الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 382 - 383).

(2)

انظر: (ص:495 فما بعدها) من هذه الرسالة.

ص: 594

وإلا فهو فاسد مردود.

وقد ذكر شيخ الإسلام أربع مقامات يتميز من خلالها التأويل الصحيح من التأويل الفاسد، سأوردها هنا مع مزيد من التفصيل والتوضيح، وهي كالآتي:

المقام الأول: أن يكون اللفظ محتملاً في اللغة للمعنى الذي أُوِّل إليه، ومستعملاً فيه؛ وذلك لأن الكلام في الكتاب والسنة والآثار جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب، فلا بد أن تكون العرب قد استخدمت هذا اللفظ بالمعنى المصروف إليه، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.

والتأويل الذي لا يحتمله لفظ النص وسياقه لغةً أنواع

(1)

:

1.

ما لم يحتمله اللفظ في أصل وضعه: كتأويل القدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه)

(2)

، بالجماعة من الناس و"كتأويلات الجهمية والقرامطة الباطنية، كتأويل من تأول الصلوات الخمس: بمعرفة أسرارهم، والصيام، بكتمان أسرارهم، والحج: بزيارة شيوخهم، والإمام المبين: بعلي بن أبي طالب، وأئمة الكفر: بطلحة والزبير، والشجرة الملعونة في القرآن: ببني أمية، واللؤلؤ والمرجان: بالحسن والحسين، والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين: بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والبقرة: بعائشة، وفرعون: بالقلب، والنجم والقمر والشمس: بالنفس والعقل، ونحو ذلك. فهذه التأويلات من باب التحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في آيات الله، وهي من باب الكذب على الله وعلى رسوله وكتابه"

(3)

.

(1)

هذه الأنواع ذكرها ابن القيم رحمه الله، انظر: مختصر الصواعق (ص:23 - 27)، وقد نقلتها عنه بشيء من الاختصار والتصرف، وأضفت لها شيئاً من كلام شيخ الإسلام الموضح ذلك.

(2)

رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30](4848)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2846).

(3)

درء تعارض العقل والنقل (5/ 383).

ص: 595

2.

ما لم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع وإن احتمله مفرداً: ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام في هذه المناظرة من أن: «لفظ اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأن من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع، كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، ولفظ الجمع في الواحد كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران:173]، ولفظ الجمع في الاثنين كقوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]. أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد فلا أصل له؛ لأن هذه الألفاظ عدد وهي نصوص في معناها لا يتجوز بها»

(1)

.

3.

ما لم يُؤلف استعماله بذلك المعنى في لغة المخاطب، وإن كان هذا المعنى مألوفاً كاصطلاح خاص حادث: كتأويل الفلاسفة الأفول في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام:76] بالتحرك والانتقال، وبنوا على ذلك أن المتحرك لا يكون إلهاً، قال شيخ الإسلام:«والأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير: هو الغيب والاحتجاب؛ بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن وهو المراد باتفاق العلماء»

(2)

.

4.

ما لم يعرف تأويله إلا بطريق خفي لا يعرفه إلا أفراد من أهل النظر: كتأويل (الأحد) بالذات المجردة عن الصفات، فلو أمكن ثبوت هذا التأويل لم يدرك إلا بمقدمات صعبة وطويلة لا يدركها إلا مبتدعوها، قال شيخ الإسلام: «ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي، لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيًا أو عقليًا؛ لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه، ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب ألا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئًا من ظاهره؛ لأن هناك دليلاً خفيًا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره، كان هذا تدليسًا وتلبيسًا، وكان نقيض

(1)

الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 365).

(2)

مجموع الفتاوى (6/ 254) وانظر: العين (8/ 337) تهذيب اللغة (15/ 271).

ص: 596

البيان وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان»

(1)

.

5.

ما أُلِف استعماله في غير ذلك المعنى، لكن في غير التركيب الذي ورد به النص: كتأويل النظر في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة:22 - 23] بانتظار الثواب؛ فإنه مضاف إلى الوجوه.

6.

ما لم يعهد استعماله في المعنى المؤول إلا نادراً: فحمله على خلاف المعهود باطل، ما لم يتضمن قرائن قوية تدل على خروجه عن المعنى المعهود.

7.

ما عطل معناه الأكمل إلى دونه بمراتب: كتأويل الفوقية المطلقة للرب تعالى في قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] إلى كون قدره فوق بني آدم.

8.

ما لم يحتمله السياق المعين وإن جاز في غيره: كتأويل إتيان الرب في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] بإتيان أمره، فسياق التنويع والتقسيم يأباه.

ومن ذلك إضافة الفعل إلى الفاعل، وتعدية الفعل إلى اليد بحرف الباء، كما في قوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فإنه نص في أنه فعل الفعل بيديه؛ ولهذا لا يجوز لمن تكلم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك ويقال: هذا فعلته يداك.

9.

ما لم يحتمله اللفظ للمعنى الذي تأول في ذلك التركيب من حيث اللغة، ومن ذلك تفسير الاستواء بالاستيلاء: فهو مع كونه معنى لا تعرفه العرب في لغتها، ولم يقله أحد من أئمة اللغة. فالتركيب هنا أيضاً لا يحتمله؛ فإن استيلاءه سبحانه وغلبته للعرش لم يتأخر عن خلق السموات والأرض، والعرش مخلوق قبلهما.

المقام الثاني: إقامة الدليل الصحيح الصارف للفظ عن معناه، فلو اُدعي وجوب صرف المعنى عن ظاهره المتبادر لأول وهلة، فلا بد من دليل قطعي الدلالة عقلي أو سمعي يوجب الصرف.

والدليل الصارف لابد فيه من أمرين:

(1)

الرسالة المدنية ضمن مجموع الفتاوى (6/ 362).

ص: 597

1 -

أن يتعين هذا الدليل (بأن يكون اللفظ يحتمله باللفظ والسياق).

2 -

أن يكون موافقاً لمراد المتكلم.

قال شيخ الإسلام: «التأويل المقبول: هو ما دل على مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص.

وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم، كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد»

(1)

.

ولا يمكن أن يجد أهل التأويل دليلاً موجبًا لصرف نصوص الصفات عن حقيقتها سوى دعواهم تنزيه الله عن صفات المحدثين، وهذا الأمر لا نزاع فيه؛ إذ أن حقيقة ألفاظ الصفات وظواهرها هي على ما يستحق الله عز وجل ويليق بجلاله من غير مماثلة لمخلوقاته، فالنصوص الشرعية دلت على انتفاء التمثيل بين صفات الخالق والمخلوق، أما نفي ثبوت صفات تليق بالله جل جلاله فليس في النصوص ما يدل عليه بوجه من الوجوه.

ويتضح من ردود شيخ الإسلام على المؤولة أنه لا يوجد لهم دليل صحيح على تأويل الصفات، بل دليل مدعي الحقيقة قائم سمعاً وعقلاً: أما السمع فلا يمكن المكابرة فيه؛ لكثرة النصوص الصريحة في إثبات الصفات وإضافتها لله تعالى.

وأما العقل: فإن العلم بكمال علم المتكلم، وكمال بيانه وكمال نصحه، يمنع من إرادته بكلامه خلاف الظاهر. وكل صفة وصف الرب بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فهي كمال قطعاً؛ ولا يجوز تعطيل الرب عن كماله وإبطال حقائق صفاته.

(1)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 201).

ص: 598

المقام الثالث: أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض، فأي تأويل عارض أصل النص وجب رده؛ لكونه يعود على أصل النص بالإبطال، ومن ذلك تأويل المرأة بالأمة، في قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت من غير إذن وليها

)؛ فإن تتمة الحديث (فإن دخل بها فلها المهر .. )

(1)

، يبطل التأويل؛ فمهر الأمة لسيدها وليس لها.

وعليه فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن إثبات صفات الله على الحقيقة، وأنها مرادة امتنع ترك هذه الدلالة؛ لتأويلات تفرضها بعض الأذهان من وجوه خفية، وهي في الحقيقة شبهة فاسدة، تعارض النصوص المتواترة والمتكاثرة على إثبات الصفات على الوجه اللائق به سبحانه.

المقام الرابع: إذا كان الكلام من الشارع وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلا بد أن يبين بياناً واضحاً للأمة بدليل عقلي أو سمعي أنه لم يُرد حقيقته، وإنما أراد به معنى آخر، وذلك لما يلي:

أ-أن الله سبحانه جعل القرآن نوراً وهدى وبياناً للناس وشفاءً لما في الصدور من الوساوس، والشكوك، وحبائل الهوى.

ب-وأرسل سبحانه الرسل لتبين للناس ما نزل إليهم، ولتحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، حتى تنقطع بهم الحجة، وتتضح أمامهم السبل.

ج-والنبي صلى الله عليه وسلم بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات.

د - والأمة التي تلقت عنه، والتزموا نهجه كانوا أعمق الناس علماً، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يلزم أن يوضح النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ومن تبعهم كل ما يتعلق بقضايا الدين، وبمسائل العقيدة وضوحاً لا خفاء فيه، ولا لبس معه،

(1)

رواه أحمد (24205)، وأبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879)، وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها وصححه الألباني إرواء الغليل (1840).

ص: 599

ولا يحتاج معه إلى تأويلات خفية، وخصوصاً أشرف النصوص وأجلها: وهي النصوص اامُعرفة بأشرف المعارف سبحانه، والمخبرة بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله وكماله. ومن ثم فلا يجوز أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصبوا دليلاً يمنع من حمله على ظاهره.

هذه هي خطوات المنهج الذي سلكه شيخ الإسلام في إثبات صفات الخالق جل وعلا، وهو المنهج الذي عالج فيه قضية التأويل وبين من خلاله بطلان تأويلات المتكلمين، ومعارضتها للحقيقة السمعية والعقلية، وما اشتملت عليه من ضلال وتحريف وبهتان يؤدي لرد الدين وهدم الرسالات؛ فكل باطل دخل الشريعة كان عن طريق التأويل، وظهر جلياً أن نصوص الصفات من النصوص التي لا يدخلها التأويل المحدث، وإنما يدخلها التأويل الشرعي الذي هو بمعنى التفسير، أو بمعنى الوجود في الخارج، والله أعلم.

ص: 600

‌المبحث الثالث: مناظرته مع ابن المرحل في تعلق الصفات وهل الحب والبغض ونحوها من الصفات وجودية أم عدمية:

واشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

لقد ناظر شيخ الإسلام كبار علماء دمشق، وكانت له مساجلات مع عدة من قضاتها وعلمائها، ويعتبر الشيخ زين الدين ابن المرحل والمشهور بـ (ابن الوكيل)

(1)

من أكثرهم معارضةً لشيخ الإسلام ومناظرة له، قال ابن كثير رحمه الله: «وكان [أي ابن المرحل] ينصب العداوة للشيخ ابن تيمية

(2)

، ويناظره في كثير

(1)

محمد بن عمر بن مكي، أبو عبد الله صدر الدين (ابن المرحل) المعروف بابن الوكيل، من كبار فقهاء الشافعية في عصره، وكان من الشعراء الأذكياء المشهود لهم بقوة الذاكرة وسعة الحفظ، ومع ذلك فقد ذكر العلماء في ترجمته من القبائح والشنائع والأمور السيئة ما يستبعده القارئ لأول وهله، إلا أن كثرة القائل تُريب العاقل، كما قاله السبكي، (ت: 716 هـ). انظر: البداية والنهاية (14/ 80)، فوات الوفيات (4/ 13 - 26)، طبقات الشافعية للسبكي (8/ 342 - 267)، الدرر الكامنة (5/ 374 - 382).

(2)

ومن ذلك أنه نظم قصيدة في هجاء شيخ الإسلام رحمه الله عندما خرج من دمشق في محنته الأولى، وذكر فيها أن سماء دمشق أمطرت فرحًا لخروج شيخ الإسلام منها، وقد رد عليه الإمام نجم الدين إسحق بن ألمى التركي بأبيات قال في مطلعها:

من مبلغ عني الخبيث مقالة

كالسيف أقصم ظهره بفرنده

أزعمت إذ غاب الإمام همى الغما

م كذبت بل بكت السماء لفقده

انظر: العقود الدرية (ص:440).

ص: 601

من المحافل والمجالس، وكان يعترف للشيخ تقي الدين بالعلوم الباهرة ويثني عليه، ولكنه كان يجاحف عن مذهبه وناحيته وهواه، وينافح عن طائفته»

(1)

. وقال ابن حجر-رحمه الله في ترجمته له: «وكان لا يقوم بمناظرة ابن تيمية أحد سواه»

(2)

.

وقد دون بعض طلاب شيخ الإسلام رحمه الله ثلاث مناظرات جرت بينهما، وقام بتلخيص مباحثها، ونقل لنا الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله في العقود الدرية هذه المباحث الثلاثة التي جرت لشيخ الإسلام ابن تيمية مع ابن المرحل الشافعي، فقال:«وَقد رَأَيْت بِخَط بعض أَصْحَابه مَا صورته»

(3)

، ثم ساق المباحث الثلاثة، الأول والثاني لهما تعلق بالاعتقاد، وهذا المبحث الذي بين أيدينا هو المبحث الثاني منها، وسيأتي ذكر المبحث الأول منهما "في فصل: مناظرته مع المرجئة"

(4)

؛ لكونه هو الموضع المناسب له.

ويظهر أن هذه المناظرة التي بين أيدينا قد وقعت قبل مناظرة الواسطية والرفاعية بسنوات كثيرة؛ وذلك لأن الإمام زين الدين بن المنجى الحنبلي

(5)

كان

(1)

البداية والنهاية (14/ 80).

(2)

الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (5/ 374)، وانظر: فوات الوفيات (4/ 14) وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (9/ 253).

(3)

العقود الدرية (ص: 111). ولم أقف على الشخص المذكور.

(4)

ص:665) من هذه الرسالة.

(5)

هو زين الدين المنجّى بن عثمان بن أسعد بن المنجّى التنوخي الدمشقيّ الحنبلي، الإمام العلامة مفتي المسلمين، انتهت إليه رئاسة المذهب في دمشق، وهو أحد شيوخ شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر مترجموه من علمه وفضائله الشيء الكثير، ولد عام (631 هـ) وتوفي عام (695 هـ) ومن تصانيفه (الممتع شرح المقنع) و (تفسير القرآن الكريم). انظر: تاريخ الإسلام (52/ 278 - 280) و البداية والنهاية (13/ 407) الوافي بالوفيات (26/ 10 - 12) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 271 - 274).

ص: 602

من الحاضرين فيها، وهو قد توفي رحمه الله سنة (695 هـ) ـ، ومناظرتا الواسطية والرفاعية إنما كانتا في سنة (705 هـ) ـ أي بعد وفاة ابن المنجى بعشر سنين، مما يفيدنا أن هذه المناظرة قد وقعت بلا شك قبل سنة خمسٍ وتسعين وستمائة من الهجرة، والله أعلم.

•‌

‌ نص المناظرة:

قال ابن عبد الهادي رحمه الله:

«بحثٌ ثانٍ جرى: أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص؛ فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها؛ فإنه يكون على جميع الصفات، والشكر لا يكون إلا على الإحسان

(1)

، والشكر أعم من جهة ما به يقع؛ فإنه يكون بالاعتقاد والقول والفعل، والحمد يكون بالفعل

(2)

أو بالقول أو بالاعتقاد.

أورد الشيخ الإمام زين الدين بن المنجى الحنبلي: أن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر؛ لأن كونه يقع على كذا، ويقع بكذا خارج عن ذاته،

(1)

قال شيخ الإسلام: «الحمد يتضمن: المدح، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه: الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان» مسألة (حقيقة الحمد والشكر) ضمن الفتاوى الكبرى (2/ 379 - 380).

(2)

إضافة "بالفعل" هنا مُشكل؛ فلا يكون حينئذٍ هناك فرق بين الحمد والشكر من جهة ما يقع به، وهذا خلاف ما تم تقريره في أول الكلام، ومخالف -أيضاً- لما نص عليه شيخ الإسلام من أن الحمد إنما يكون بالقول والاعتقاد، والشكر يكون بهما ومع الفعل أيضاً، قال شيخ الإسلام: «الشكر

يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

ولهذا قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13]. والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه». مسألة "حقيقة الحمد والشكر" ضمن الفتاوى الكبرى (2/ 379 - 380). ولعل هذه الكلمة أعني "بالفعل" سبقُ قلم من كاتب المناظرة أو خطأ من قبل النساخ، وقد أثبتها محقق كتاب العقود الدرية، وأشار بالهامش إلى عدم وجودها في نسخة (ف). انظر: العقود الدرية (ص:157) وهو الأقرب للصواب والله أعلم.

ص: 603

فلا يكون فرقاً في الحقيقة، والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات لا لما خرج عنها.

فقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: المعاني على قسمين: مفردة ومضافة.

فالمعاني المفردة: حدودها لا تؤخذ عنها متعلقاتها.

وأما المعاني الإضافية: فلا بد أن يوجد في حدودها تلك الإضافات؛ فإنها داخلة في حقيقتها، ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلَّقات، فتكون المتعلَّقات جزءاً من حقيقتها، فتعين ذكرها في الحدود.

والحمد والشكر معنيان متعلِّقان بالمحمود عليه والمشكور عليه، فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلَّقِهما، فيكون متعلَّقُهما داخلاً في حقيقتهما.

فاعترض الصدر ابن المرحل: بأنه ليس للمتعلِّق من المتعلَّق صفة ثبوتية، فلا يكون للحمد والشكر من متعلَّقِهما صفة ثبوتية؛ فإن التعلق

(1)

صفة نسبية

(2)

، والنسب أمور عدمية، وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة؛ لأن العدم لا يكون جزءاً من الوجود.

فقال الشيخ تقي الدين: قولك: (ليس للمتعلِّق من المتعلَّق صفة ثبوتية)، ليس على العموم؛ بل قد يكون للمتعلِّق من المتعلَّق صفة ثبوتية، وقد لا يكون، وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين:(ليس لمتعلَّق القول من القول صفة ثبوتية)

(3)

. ثم

(1)

التعلق عند المتكلمين: هو طلب الصفة أمراً زائداً على قيامها بالذات، كاقتضاء العلم معلوماً ينكشف به، واقتضاء الإرادة مراداً يتخصص بها. انظر: حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين (ص:307)، والتحف الربانية (ص:98).

(2)

أمر نسبي: أي أمرٌ مقيد بغيره مرتبط به غير مطلق. انظر: معجم اللغة العربية (3/ 2200).

(3)

انظر: هذه العبارة في المحصول للفخر الرازي (1/ 91)، وانظر: تعقيب القرافي عليها في نفائس الأصول في شرح المحصول (1/ 219)، وقال شيخ الإسلام رحمه الله:«والتحقيق أن متعلق القول قد يكون له منه صفة وجودية، كمتعلق التكوين والتحريم والإيجاب، وقد لا يكون، كمتعلق الإخبار» درء تعارض العقل والنقل (1/ 349).

ص: 604

الصفات المتعلقة نوعان:

أحدهما: إضافة محضة، مثل: الأبوة والبنوة والفوقية والتحتية ونحوها، فهذه الصفة التي يقال فيها: هي مجرد نسبة وإضافة، والنسب أمور عدمية.

والثاني: صفة ثبوتية مضافة إلى غيرها: كالحب والبغض والإرادة والكراهة والقدرة وغير ذلك من الصفات؛ فإن الحب صفة ثبوتية متعلِّقة بالمحبوب، فالحب معروض للإضافة بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له؛ لا أن نفس الحب هو الإضافة، ففرق بين ما هو إضافة، وبين ما هو صفة مضافة. فالإضافة يقال فيها: إنها عدمية، وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية كالحب.

قال ابن المرحل: الحب أمر عدمي؛ لأن الحب نسبة والنسب عدمية.

قال الشيخ تقي الدين: كون الحب والبغض والإرادة والكراهة أمراً عدمياً باطلٌ بالضرورة، وهو خلاف إجماع العقلاء، ثم هو مذهب بعض المعتزلة في إرادة الله؛ فإنه زعم أنها صفة سلبية؛ بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره، وأطبق الناس على بطلان هذا القول.

وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحداً من العقلاء قال: إنهُ أمرٌ عدمي.

فأصر ابن المرحل: على أن الحب -الذي هو ميل القلب إلى المحبوب- أمرٌ عدمي، وقال: المحبة: أمر وجودي.

قال الشيخ تقي الدين: المحبة هي الحب، فإنه يقال: أحبه وحبه حباً ومحبةً، ولا فرق، وكلاهما مصدر.

قال ابن المرحل: وأنا أقول: إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي.

قال له الشيخ تقي الدين: الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم، وكون الحب والبغض أمراً وجودياً معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خالياً عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية، فإذا صار محباً فقد تغير الموصوف، وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب، وهو

ص: 605

يحس ذلك من نفسه، يجده كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه؛ ودليل ذلك: أنك تقول: أحب يحب محبة، ونقيض أحب: لم يحب، ولم يحب صفة عدمية، ونقيض العدم الإثبات.

قال ابن المرحل: هذا ينتقض بقولهم: امتنع يمتنع؛ فإن نقيض الامتناع: لا امتناع، والامتناع صفة عدمية.

قال الشيخ تقي الدين: الامتناع أمر اعتباري عقلي؛ فإن الممتنع ليس له وجود خارجي، حتى تقوم به صفة، وإنما هو معلوم بالعقل باعتبار كونه معلوماً له ثبوت علمي. وسلب هذا الثبوت العلمي: عدم هذا الثبوت؛ فلم ينقض هذا قولنا: نقيض العدم ثبوت.

وأما الحب فإنه صفة قائمة بالمحب؛ فإنك تشير إلى عين خارجة وتقول: هذا الحي صار محباً بعد أن لم يكن محباً، فتخبر عن الوجود الخارجي بصفة، فإذا كان نقيضها عدماً خارجياً كانت وجودًا خارجيًا.

وفي الجملة: فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة، فلا يقبل فيه نزاع ولا يُناظرُ صاحبهُ إلا مناظرة السوفسطائية.

قلت: وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلِّقة بالغير: صفات وجودية، ظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة، وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة، فالحمد والشكر من القسم الثاني؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلِّق بالمحمود عليه، وكذلك الشكر أمر وجودي متعلِّق بالمشكور عليه، فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلِّقة بالغير، وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما، فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر، وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما، وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكر حقيقتهما، والدليل على هذا: أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر فَعُلِم أن تصور متعلَّق الشكر داخل في تصور الشكر.

قلت: ولو قيل: إنه ليس هذا إلا أمراً عدمياً، فالحقيقة إن كانت مركبة من

ص: 606

وجود وعدم وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة، كما أن من عرف الأب من حيث هو أب، فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة التي هي نسبة وإضافة، وإن كان الأب أمراً وجوديًا، فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه، وإن لم يكن هذا التعلق عارضاً لصفة ثبوتية، فلا يُفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا التعلق، كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة الذي هو التعلق، وكذلك الحمد والشكر أمران متعلِّقان بالمحمود عليه والمشكور عليه، وهذا التعلق جزء من هذا المسمى؛ بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد، ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر، فإذا كان فهمها موقوفاً على فهم متعلَّقِهما، فوقوفه على فهم التعلق أولى؛ فإن التعلق فرع على المتعلَّقِ وتبع له، فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلَّقِ الذي هو أبعد عنهما من التعلق، فتوقفه على فهم التعلق أولى، وإن كان التعلق أمراً عدمياً. والله أعلم»

(1)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية:

•‌

‌ تمهيد:

بين شيخ الإسلام ابن تيمية لابن المرحل أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص، فالحمد أعم من جهة أسبابه؛ فإنه يكون على الصفات الذاتية وعلى المتعدية، بينما الشكر لا يكون إلا على المتعدية منها، والشكر أعم من جهة أنواعه؛ فإنه يكون بالقلب واللسان والجوارح، بينما الحمد لا يكون إلا بالقلب واللسان، فاعتُرض عليه أن ما ذكره ليس فرقاً على الحقيقة؛ وإنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر، لا من جهة معنى الحمد والشكر مجرداً عن متعلقاته.

وعليه فلا حقيقة للمعاني التي تساق من هذا الباب، كالمحبة والبغض والإرادة والكراهة؛ إذ هي معانٍ عدمية، ومن هذا المنطلق عطلوا صفات الله تعالى عما تدل عليه من معانٍ وجعلوها معانٍ عدمية لا حقيقة لها.

(1)

العقود الدرية (ص 123 - 128). مجموع الفتاوى (11/ 146 - 155).

ص: 607

‌مناقشة الشبهة الواردة في المناظرة: وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

يرى ابن المرحل أن الحب والبغض والإرادة ونحوها من الصفات ليست صفات ثبوتية، وإنما هي صفات عدمية، وإضافتها للموصوف إنما هي من باب النسب والإضافات، وكل ذلك لا يتضمن قيام أي معنى بالموصوف: فالمحبة مثلاً ليست صفة لله تعالى، وإنما تنسب إلى الله وتضاف إضافة محضة، لا يترتب عليها وصف يقوم بالله، ولا فعل يقوم به، وهكذا بقية الصفات من باب النسب والإضافات المحضة

(1)

.

قال شيخ الإسلام: «ولهذا يقول كثير منهم: إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات»

(2)

.

والإضافة كما عرفها ابن سينا: هي المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر، وليس له وجود غيره، مثل الأبوة بالقياس إلى البنوة

(3)

.

ومما يُمثل به لتوضيح معنى النسب والإضافات: لو أن شخصاً جلس يمين زيد، ثم جلس عن يساره، فقد كان في الأول يميناً، ثم صار يساراً له من غير أن يقع تغير لذات زيد ولا صفة حقيقية له، بل تلك إضافة محضة

(4)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (6/ 149).

(2)

مجموع الفتاوى (5/ 412).

(3)

انظر: الملل والنحل (3/ 15). ومثله تعريف يعقوب بن إسحاق الكندي حيث قال: «المضاف: ما ثبت بثبوته آخر» وفخر الدين الرازي حيث قال: «المضاف: هو الذي تكون ماهيّته مقولة بالقياس إلى غيره» وقال: «أمّا المضاف: فهو طبيعة غير مستقلّة بنفسها بل هي تابعة لغيرها» . انظر: موسوعة مصطلحات الفلسفة (ص:801، 803). وانظر: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (1/ 468).

(4)

انظر: الجديد في الحكمة لابن كمونه (ص:558).

ص: 608

وهذه الشبهة هي أحد الشبه التي يحتج بها أهل الفلسفة والكلام على تعطيل الصفات وتحريفها عن معانيها.

وكلام ابن المرحل هنا وإن كان في صفة الحب والبغض والإرادة ونحوها عموماً دون النظر للمتصف بها، إلا أن أول ما يدخل فيها هو ما جاء من وصف الباري سبحانه بهذه الصفات، بل إن الداعي لهم لجعل هذه الصفات من باب النسب والإضافات إنما هو نصرة مذهبهم في نفي صفات الباري عز وجل بحجة تنزيهه سبحانه عن مشابهة مخلوقاته.

فما يرد على الذهن من معان عند إطلاق أسماء الله وصفاته فإنما هي معان موجودة في العقل، وأما في الخارج فلا وجود لتلك المعاني (الصفات) في ذات الله إطلاقاً، فإنما هي نسب وإضافات يمتنع وجودها في الخارج على سبيل المعاني الثبوتية القائمة بالذات.

‌الوجه الثاني: الجواب عن هذه الشبهة:

وقد أجاب شيخ الإسلام عن هذه الشبهة بما يلي:

أولاً: أن معاني الأشياء على قسمين

(1)

:

القسم الأول: معانٍ مفردة: وهي التي تُعرف حدودها دون ما نظرٍ أو حاجة لمتعلقاتها.

القسم الثاني: معانٍ مضافة: وهي التي لا يمكن تصورها إلا بتصور متعلقاتها؛ فتكون المتعلقات جزءاً من حقيقتها، فتعين ذكرها في الحدود.

وهذا النوع من المعاني والصفات المتعلقة على نوعين:

1.

صفات (نسبية) إضافتها إضافة محضة؛ مثل الأبوة والبنوة والفوقية والتحتية ونحوها، فهي مجرد نسبة وإضافة، والنسب أمور عدمية، وهذه تعلقها تعلق عدمي.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 146 - 147)، العقود الدرية (ص:123 - 124).

ص: 609

2.

صفات (ثبوتية) مضافة إلى غيرها فإضافتها إضافة عرضية، وليست إضافة محضة، فالإضافة عرضت للصفة الثبوتية، لا أن نفس الصفة هي الإضافة، كالحب عرض للمحبوب، والشكر والحمد أضيف وتعلق بالمشكور والمحمود، وهذه تعلقها تعلق ثبوتي وليس عدمي.

فلا يتم فهمُ حقيقة مثل هذه المعاني إلا بفهم متعلقاتها، وتلك المتعلفات جزء من حقيقتها، ومن هذا النوع صفات الله كالحب والبغض والرضا ونحوها.

فتبين أن هنا فرقاً بين الصفات التي هي بنفسها (إضافة ونسبة) وهي النوع الأول، وبين الصفات التي هي:(مضافة منسوبة) ومنها النوع الثاني.

وتبين أن الحقائق والصفات المضافة على نوعين:

الصفات التي هي إضافة ونسبة: كالأبوة التي هي حقيقة مركبة من وجود وعدم، فتصور الأب موقوف على تصور الأبوة التي هي نسبة وإضافة، وإن كان الأب أمراً وجوديًا.

الصفات التي هي مضافة منسوبة: كالحمد والشكر؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه، وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه، فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم متعلقهما، وذلك المتعلق داخل في حقيقتهما

(1)

.

ثانياً: أن دعوى عدمية معنى المحبة والبغض والإرادة والكراهة والشكر دعوى باطلة بالضرورة، أطبق الناس على بطلانها، بل هي مخالفة لإجماع

(1)

قال ابن رشد: «إن المضاف صنفان:

أحدهما: المضاف بذاته: وهو الذي يكون وجود كل واحد منهما في الإضافة،

والصنف الثاني: المضاف من قبل غيره: أعني من قبل أن غيره أضيف إليه مثل المحسوس والمعقول، فإن المعقول والمحسوس إنما صارا من المضاف؛ لأن العقل والحسّ اللذين هما مضافان بذاتهما أضيفا إليهما لا أنهما من المضاف بذاته» تفسير ما بعد الطبيعة (ص:1345) نقلاً عن موسوعة مصطلحات الفلسفة (ص:815). وانظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 349).

ص: 610

العقلاء، وكون هذه الصفات ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة، فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية

(1)

.

ثالثاً: مما يوضح كونها صفات وجودية ثبوتية: أن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خالياً عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية، فإذا صار محباً فقد تغير الموصوف، وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب

(2)

.

رابعاً: أن الشيء يعرف بضده، وكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء. ومن المعلوم "أنك تقول: أحب يحب محبة، ونقيض أحب: لم يحب، ولم يحب صفة عدمية، ونقيض العدم الإثبات"

(3)

فإذا كان عدم المحبة وصف عدمي، فإن المحبة وصف وجودي ثبوتي بغير شك.

خامساً: أن ابن المرحل أطلق القول بعدمية هذه الصفات والمعاني في الخالق والمخلوق، وهذا التعميم والإطلاق لا يُعلم له قائل، ولم يسبقه إليه أحد وإنما وقع الخلاف فيما اتصف به الخالق سبحانه من هذه الصفات، قال شيخ الإسلام:«وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحداً من العقلاء قال: إنه أمر عدمي»

(4)

.

سادساً: قال شيخ الإسلام: «التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة، اقتضى مجرد التشريف.

فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة، أوجب ذلك إثبات الصفة، التي لولاها ما تمت النسبة، فإن قولنا: خلق الله الخلق بقدرته. لما نُسب الفعل إلى تعلقه بصفة الله، اقتضى ذلك إثبات إحاطة بصفة هي القدرة، ولا يكون مجرد النسبة واجب منها الصفة، فكذلك هاهنا لما كان ذكر التخصيص، مضافًا إلى صفة وجب إثبات

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 148) العقود الدرية (ص:125).

(2)

العقود الدرية (ص:126) مجموع الفتاوى (11/ 149).

(3)

مجموع الفتاوى (11/ 149) العقود الدرية (ص:126).

(4)

مجموع الفتاوى (11/ 148) العقود الدرية (ص:125).

ص: 611

تلك الصفة

(1)

. وهذا لا شك فيه ولا مرية، وبهذا يبعد عما ذكروه»

(2)

.

ويتلخص لنا من هذه الأوجه بطلان ما ذكره ابن المرحل من عدمية صفات الباري سبحانه، وجعلها صفات سلب وإضافة، وأن الحق الذي لا شك فيه أنها صفات ثبوتية وجودية لها معانٍ حقيقية قائمة بذات الله سبحانه، وإن أضيفت لما تتعلق به فهي من باب الصفة المضافة، لا من باب الإضافة. والله أعلم.

(1)

يعني في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/ 266).

(2)

بيان تلبيس الجهمية (1/ 267).

ص: 612

‌المبحث الرابع: مناظرته مع غير واحد من نفاة الصفات في مسألة الرؤية

.

واشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

إن من أعظم المسائل والعقائد التي وردت في الكتاب والسنة وأجمع عليها علماء أهل السنة خلفاً عن سلف، كابراً عن كابر، وأنكرها أهل الزيغ والافتراء وذوو البدع والأهواء: عقيدة رؤية المؤمنين لله عز وجل في الآخرة، تلك الرؤية التي "هي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا نالها أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم؛ اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، ومن حبل الله منقطعون، وعلى مسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عاكفون، وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون"

(1)

.

(1)

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 285).

ص: 613

وقد تصدى شيخ الإسلام لكل من شكك في هذه العقيدة بالرد والبيان والحجة والبرهان، بشتى الطرق ومختلف السبل، خطبةً وتصنيفاً، ومناظرةً وتأليفاً، ورداً وتقريراً، دفاعاً عن هذه العقيدة العظيمة الشريفة الجليلة؛ وقد ذكر رحمه الله أنه ناظر في هذه المسألة غير واحد من نفاة الرؤية ومحرفي معناها من مختلف الفرق الزائغة من معتزلة ومتكلمة ورافضة، وبين أن كل شبههم إنما تعود إلى لوازم التزموها، ومقدمات قرروها، خلطوا فيها حقاً بباطل؛ ليصلوا إلى بغيتهم من نفي رؤية المؤمنين لربهم.

•‌

‌ نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد ناظرت غير واحد من هؤلاء من نفاة الرؤية ومحرفيها: من شيعي، ومعتزلي، وغيرهما. وذكرت لهم الشبهة التي تذكرها نفاة الرؤية. فقلت: هي كلها مبنية على مقدمتين:

إحداهما: أن الرؤية تستلزم كذا وكذا كالمقابلة والتحيز وغيرهما.

والثاني: أن هذه اللوازم منتفية عن الله تعالى.

فكل ما يذكره هؤلاء فأحد الأمرين فيه لازم:

1.

إما أن لا يكون لازماً بل يمكن الرؤية مع عدمه: وهذا المسلك سلكه الأشعري وطوائف كالقاضي

(1)

، أحياناً وابن عقيل

(2)

وغيرهم، لكن أكثر العقلاء يقولون: إن من ذلك ما هو معلوم الفساد بالضرورة.

2.

وإما أن يكون لازمًا فلا يكون مُحالاً: فليس في العقل ولا في السمع ما يحيله، بل إذا قُدِّر أنه لازم للرؤية فهو حق؛ لأن الرؤية حق، قد عَلِمَ ذلك بالاضطرار عن خير البرية أهل العلم بالأخبار النبوية»

(3)

.

(1)

يعني القاضي أبا يعلى الفَرَّاء وقد سبقت ترجمته.

(2)

يعني أبو الوفاء علي بن عقيل من متكلمي الحنابلة، وقد سبقت ترجمته.

(3)

بغية المرتاد (ص: 476).

ص: 614

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: «فيقال: لهذا المنكر للرؤية المستدل على نفيها بانتفاء لازمها وهو الجهة: قولك ليس في جهة، وكل ما ليس في جهة لا يرى، فهو لا يرى، وهكذا جميع نفاة الحق ينفونه لانتفاء لازمه في ظنهم، فيقولون لو رُئي للزم كذا، واللازم منتف فينتفي الملزوم.

والجواب العام لمثل هذه الحجج الفاسدة بمنع إحدى المقدمتين إما معينة وإما غير معينة؛ فإنه لا بد أن تكون إحداهما باطلة، أو كلتاهما باطلة، وكثيراً ما يكون اللفظ فيهما مجملاً يصح باعتبار ويفسد باعتبار، وقد جعلوا الدليل هو ذلك اللفظ المجمل، ويسميه المنطقيون الحد الأوسط

(1)

، فيصح في مقدمة بمعنى، ويصح في الأخرى بمعنى آخر، ولكن اللفظ مجمل، فيظن الظان لما في اللفظ من الإجمال وفي المعنى من الاشتباه أن المعنى المذكور في هذه المقدمة هو المعنى المذكور في المقدمة الأخرى، ولا يكون الأمر كذلك.

مثال ذلك في مسألة الرؤية أن يقال: له: أتريد بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟

فإذا أردت به أمراً وجودياً كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى. وهذه المقدمة ممنوعة، ولا دليل على إثباتها، بل هي باطلة؛ فإن سطح العالم

(1)

الحد الأوسط عند المنطقيين: هو الرابط بين الحدين الأصغر والأكبر، ومَثَّلَ له شيخ الإسلام بقولك:«كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فكل نبيذ حرام» ، فهذه الجملة مكونة من مقدمتين ونتيجة. وكل مقدمة مكونه من محمول وموضوع فالمقدمة الأولى:"كل نبيذ مسكر" موضوعها: النبيذ. ومحمولها: مسكر. ويسمى الموضوع (حداً أصغر) والمحمول (حداً أكبر) وهكذا في المقدمة الثانية موضوعها (الحد الأصغر) هو المسكر، ومحمولها (الحد الأكبر) هو حرام، ثم في النتيجة يظهر (الحد الأوسط)، والنتيجة هنا هي أن"كل نبيذ حرام" فالنبيذ هو موضوعها وهو (الحد الأصغر) والحرام محمولها وهو (الحد الأكبر)، والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو (الحد الأوسط)، الذي يمثل العلاقة بين الطرفين وعلة ارتباطهما، وهو الذي يكون محمولاً في المقدمة الأولى وموضوعاً في المقدمة الثانية. انظر: الرد على المنطقيين (ص:211)، والمعجم الفلسفي (1/ 449).

ص: 615

يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر.

وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً؛ كانت المقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس بجهة بهذا التفسير.

وهذا مما خاطبت به غير واحد من الشيعة والمعتزلة فنفعه الله به، وانكشف بسبب هذا التفصيل ما وقع في هذا المقام من الاشتباه والتعطيل. وكانوا يعتقدون أن ما معهم من العقليات النافية للرؤية قطعية لا يقبل في نقيضها نص الرسل، فلما تبين لهم أنها شبهات مبنية على ألفاظ مجملة ومعان مشتبهة، تبين أن الذي ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق المقبول، ولكن ليس هذا المكان موضع بسط هذا، فإن هذا النافي إنما أشار إلى قولهم إشارة»

(1)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة

.

•‌

‌ تمهيد:

بين شيخ الإسلام رحمه الله لمن ناقشه وناظره من نفاة الصفات مبنى الشبه التي استندوا عليها وابتدأ بإبطالها ونقض الأصول الفاسدة التي قامت عليها، ثم بعد ذلك قرر لهم الحق الذي يجب الصيرورة إليه في هذه المسألة، وهذا من بديع صنع شيخ الإسلام رحمه الله، كما علل رحمه الله سلوكه هذا المسلك بقوله:«فإن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرت له الحق الذي عندك ابتداء أخذ يعارضك فيه، لما قام في نفسه من الشبهة، فينبغي إذا كان المناظر مدعياً أن الحق معه أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فأعطه إياه»

(2)

.

(1)

منهاج السنة النبوية (2/ 348 - 349).

(2)

مجموع الفتاوى (17/ 159).

ص: 616

‌مناقشة شبهة نفاة الرؤية:

وذلك من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل شبهتهم:

بين شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أن أصل شبهة جميع نفاة الرؤية -على اختلاف طوائفهم- مبناها على مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن إثبات الرؤية يستلزم منه كذا وكذا من الأمور: كالجهة، والمعاينة، والجسمية، والتحيز، والتركيب، وغيرها من الأمور التي ذكروها.

المقدمة الثانية: أن هذه اللوازم منتفية في حق الله سبحانه

(1)

.

وقرر هذا الأمر في غير موضع من كتبه

(2)

.

وكل من نفى رؤية الله عز وجل فقد بنى نفيه على هذه المقدمات، ومثال ذلك -وهي أكبر شبهة يحتج بها النفاة على منع الرؤية- قولهم: إن رؤية الشيء يلزم منها أن يكون المرئي في جهة تقابل الرائي، وهذه هي المقدمة الأولى التي أشار إليها شيخ الإسلام رحمه الله. قالوا وهذا الأمر منتف في حق الله ولا يصح وصف الله به؛ لأن هذه هي صفة الأجسام، والله منزه عن ذلك، وهذه هي المقدمة الثانية؛ ثم ينتج عن المقدمتين إثبات عقيدتهم التي اعتقدوها وهي نفي رؤية الله رب العالمين للهروب من الالتزام بمثل هذا اللازم.

فهذا هو أصل جميع شبه القوم وأساسها.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن بطلان مثل هذه الشبهة يكون: إما بإبطال المقدمة الأولى أو إبطال الأخرى؛ فإما أن يكون اللازم الذي ذكروه للرؤية باطلاً وليس بلازم

(1)

انظر: شرح الأصول الخمسة (ص:238) غاية المرام (ص:166) المواقف (ص:299 - 300).

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 250)، منهاج السنة (2/ 349).

ص: 617

في الحقيقة، وإما أن يكون اللازم صحيحاً، ولكنه غير منتف في حق الله سبحانه.

فمن الطريقة الأولى وهي إبطال اللازم:

إبطال قولهم: إن كل مرئي يلزم أن يكون مركباً من أجزاء، أو مجتمعاً بعد تفرق، فهذا في الحقيقة ليس لازماً من لوازم الرؤية، ولا يصح أن يكون كذلك، وذلك من وجهين:

الأول: أن يقال ما مرادك بالتركيب والاجتماع اللازم للرؤية؟

إن كان المراد: أن من لازم ما تصح رؤيته أن يكون مركباً من أجزاء يجوز تفرقها، فهذا باطل وليس بلازم؛ وذلك لأن ليس كل ما نشاهده يكون كذلك.

وأبسط مثال على ذلك هذه السماوات مرئية مشهودة ولا نعلم أنها كانت متفرقة فاجتمعت، وكذلك الشمس والقمر هي شيء واحد لا نعلم -لا بحس ولا ضرورة- أنها مركبة من الأجزاء المفردة، ومع ذلك فهي مرئية مشاهده!

وإن كان المراد بالمركب: أن منه شيئاً ليس هو الشيء الآخر، فنحن نقول كل ما يرى في الشاهد والغائب لابد وأن يكون كذلك

(1)

.

الثاني: أن يقال: إذا جاز أن نرى ما هو مجتمع ويقبل التفريق والتقسيم، فرؤية ما لا يقبله أولى وأجدر؛ فكلما كان وجود الشيء أكمل كلما كانت رؤيته أجوز وأمكن

(2)

.

فتبين بهذا بطلان أن يكون التركيب من لوازم الرؤية، وهذه هي المقدمة الأولى؛ وإذا بطلت أولى المقدمتين بطلت الأخرى، وبطلت النتيجة المترتبة عليهما.

ومن إبطال المقدمة الثانية:

إبطال قولهم: بأن من لازم الرؤية المعاينة، وكون المرئي في جهة.

(1)

انظر: بيان تلبيس الجهمية (4/ 479 - 480).

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 251)، بيان تلبيس الجهمية (4/ 480).

ص: 618

قالوا: وهذا منفي عن الله عز وجل؛ فلا يجوز أن نثبت الرؤية له سبحانه.

وبهذه الحجة احتجت المعتزلة على نفي رؤية الله عز وجل، وإبطال هذا الشبهة إنما يكون بإبطال المقدمة الثانية من المقدمتين؛ إذ إن المقدمة الأولى مقدمة صحيحة، واللوازم التي ذكروها للرؤية لوازم صحيحة لا يصح إنكارها.

وقد وقع متأخرو الأشاعرة -بسبب إثباتهم للرؤية مع نفيهم لعلو الله عز وجل على خلقه- في قول هو في غاية التناقض، خرجوا به عن ضرورات العقل، وخالفوا فيه ما اتفق عليه عقلاء بني آدم من جميع الطوائف؛ حيث قاموا بإنكار هذه اللوازم الصحيحة للرؤية وقالوا: إن الله يُرى ولكن بلا جهة ولا مقابلة ولا معاينة؛ فإنه يمكن أن يرى لا فوق الرائي ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا في شيء من جهاته. فأنكروا المقدمة الأولى وجحدوا الضروريات، وكابروا في المعقولات

(1)

.

ورحم الله ابن القيم حيث قال

(2)

:

فسل المعطل هل يُرى من تحتنا

أم عن شمائلنا وعن أيمان

أم خلفنا وأمامنا سبحانه

أم هل يُرى من فوقنا ببيان

يا قوم ما في الأمر شيء غير ذا

أو أن رؤيته بلا إمكان

إذ رؤيةٌ لا في مقابلةٍ من الر

ائي مُحالٌ ليس في الإمكان

ومن ادعى شيئاً سوى ذا كان دعـ

واه مكابرة على الأذهان

وأما أهل السنة فهم يثبتون الرؤية وكل ما كان لازما لها، فإذا كانت المقابلة والجهة والمعاينة لازمة للرؤية فهي حق، وما كان حقاً وصواباً فلازمه كذلك، فـ"من ادّعى ثبوت الشيء؛ فقد ادّعى ثبوت لوازمه، ولوازم لوازمه، وهلم جرّاً ضرورة عدم الانفكاك عنه"

(3)

.

(1)

انظر: بيان تلبيس الجهمية (2/ 432 - 435).

(2)

نونية ابن القيم (ص: 82).

(3)

تنبيه الرجل العاقل (1/ 63).

ص: 619

لكننا وإن سلمنا لهم بهذا لأنه حق، فلا نسلم لهم بما ذكروه في المقدمة الأخرى من أن تلك اللوازم -كالجهة والمعاينة ونحوها- ممتنعة في حق الله عز وجل؛ ولذلك نفوا الرؤية عنه سبحانه، بل نقول: بما أن الرؤية قد ثبتت بالتواتر القطعي وصريح نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فإننا نثبتها لله عز وجل على حقيقتها وبلوازمها اللازمة منها، ولا يجوز إنكار مثل هذه اللوازم الصحيحة وجحدها.

وما ادعوه في المقدمة الثانية من امتناع هذه اللوازم في حق الله تعالى، فهي دعوى باطلة، وقد بين شيخ الإسلام بطلانها من وجوه عديدة وأهمها ما يلي:

الأول: أن النصوص الواردة في الرؤية -وهي كثيرة بل ومتواترة- دالة على أن رؤية المؤمنين لربهم إنما تكون في جهة وعن معاينة، ولا يتأتى إثبات الرؤية إلا كذلك، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)

(1)

، والتشبيه هنا تشبيه الرؤية بالرؤية، فشبهها برؤية الشمس ليس دونها سحاب، أو رؤية القمر ليلة البدر صحواً. قال شيخ الإسلام:«فأخبر أن رؤيته كرؤية الشمس والقمر وهما أعظم المرئيات ظهورًا في الدنيا، وإنما يراهم الناس فوقهم بجهة منهم»

(2)

، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إنكم ترون ربكم عياناً)

(3)

فهذا صريح بأن الرؤية إنما تكون عن معاينة، فكيف يجوز بعد أن ظهر من دلالات النصوص وعباراتها أن الله يُرى في جهة ويرى عن معاينة ومقابلة، أن ننفي عن الله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الخلق بربه، وننفي ما جاءت به اللغة العربية -التي خاطب الله عباده بها- من الدلالات والمعاني.

(1)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر (554)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (633)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

(2)

بيان تلبيس الجهمية (2/ 433).

(3)

رواه البخاري كتاب التفسير، باب قول الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22](7435)، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

ص: 620

الثاني: أنهم إنما أردوا بنفي الجهة نفي علو الله الثابت بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، فكل دليل يثبت علو الله سبحانه -وهي أكثر من أن تحصر- فهو حجة على هؤلاء، ولولا ظهور هذه القضية وشدة وضوحها، وخشية الإطالة في غير موضعها، لسقت النصوص الكثيرة التي تدل على علو الله على خلقه سبحانه وتعالى، وتثبت الجهة بالمعنى الذي أراد هؤلاء نفيه، ويكفينا القول بأن كل رد على نفاة العلو وكل نص في إثباته، وكل دليل عقلي أو سمعي أو فطري عليه، فهو يمثل رداً مفحماً على نفاة الرؤية بحجة تنزيه الله عن الجهة والتحيز

(1)

.

الثالث: أن يقال لقائل هذا الكلام: لفظ الجهة مجمل فما تعني بقولك: أنه يلزم من إثبات الرؤية أن تكون في جهة؟

فإما أن تريد بها أمراً وجودياً، أي أن كل ما يرى لا بد أن يكون في جهة موجودة أي حالّاً في موجود آخر، فهذا باطل وليس بلازم، فإن سطح العالم يُمكن أن يُرى وليس العالم في عالمٍ آخر.

وإما أن تريد بالجهة أمراً عدمياً: أي أن كل ما يُرى لا بد أن يكون فيما يسمى جهة ولو معدوماً؛ فإنه إذا كان مبايناً للعالم سمي ما وراء العالم جهة، وعلى هذا التفسير لا تكون الجهة ممتنعة بل هي الحق الذي يجب إثباته

(2)

، فإن "قال: لأنَّ ما باين العالم ورُئي لا يكون إلا جسماً أو متحيزاً؛ عاد القول إلى لفظ الجسم والمتحيز كما عاد إلى لفظ الجهة. فيقال له: المتحيز يراد به ما حازه غيره.

ويراد به ما بان عن غيره فكان متحيزاً عنه، فإن أردت بالمتحيز الأول؛ لم يكن سبحانه متحيزاً؛ لأنه بائن عن المخلوقات، لا يحوزه غيره، وإن أردت الثاني؛

(1)

انظر: درء التعارض (1/ 140)، التسعينية (2/ 545)، الفتوى الحموية (ص:201 - 225)، مسألة في العلو ضمن جامع المسائل (3/ 193 - 202)، مجموع الفتاوى (5/ 13 - 24) ومجموعة الرسائل والمسائل (1/ 247 - 262).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (6/ 39 - 40)، ومنهاج السنة النبوية (2/ 348 - 349)، درء التعارض (239 - 240).

ص: 621

فهو سبحانه بائن عن المخلوقات، منفصل عنها، ليس هو حالاً فيها، ولا متحداً بها؛ فبهذا التفصيل يزول الاشتباه والتضليل"

(1)

.

ويحسن بنا هنا أن نذكر ما قاله ابن أبي العز

(2)

وابن القيم -رحمهما الله -حول هذه الشبهة، حيث قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي -وهو الله- بالمرئي -وهو الشمس والقمر-، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه؛ وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة! ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله! فإما أن يكون مكابراً لعقله، أو في عقله شيء، وإلا فإذا قال: يرى لا أمام الرائي، ولا خلفه، ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.

ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية، وقالوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة»

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: «إخباره تعالى عن نفسه، وإخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عياناً جهرة كرؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، والذي تفهمه الأمم على اختلاف لغاتها وأوهامها من هذه الرؤية رؤية المقابلة والمواجهة التي تكون بين الرائي والمرئي فيها مسافة محدودة غير مفرطة في البعد فتمتنع الرؤية ولا في القرب فلا تمكن الرؤية، لا تعقل الأمم غير هذا، فإما أن يروه سبحانه من تحتهم - تعالى الله - أو من خلفهم أو من أمامهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم أو من فوقهم، ولا بد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 39 - 40)، وانظر: منهاج السنة النبوية (2/ 350 - 358).

(2)

علي بن علي بن محمد بن أبي العز، الحنفي الدمشقيّ: فقيه. كان قاضي القضاة بدمشق له كتب، منها: التنبيه على مشكلات الهداية، شرح الطحاوية، (ت:513 هـ). انظر: الدرر الكامنة (4/ 103)، الأعلام للزركلي (4/ 313)، معجم المؤلفين (7/ 156).

(3)

شرح الطحاوية (ص:160).

ص: 622

حقاً، وكلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم كما في حديث جابر الذي في المسند وغيره (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم)

(1)

، ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية أصلهم وصرحوا بذلك، وركبوا النفيين معاً، وصدق أهل السنة بالأمرين معاً، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه مذبذباً بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء»

(2)

.

رابعاً: أن إثبات رؤية المؤمنين لربهم بلوازمها اللازمة لها، لا يقتضي تمثيلاً ولا تشبيهاً لله بخلقه، إذ إن رؤية الخالق ليست كرؤية المخلوق، فكما أنه لا يجب استواء ذات الله في حقيقتها وماهيتها وذوات المخلوقات المحدثات، فكذلك لا يجب استواءهما في اللوازم؛ فإنه لا يصح عقلاً ولا شرعاً قياس الخالق بالمخلوق، ولا قياس صفاته بصفات خلقه، وإنما وقع القوم فيما وقعوا فيه من جهة هذا القياس الفاسد.

وهذا الموضوع مبسوط في مظانه بكثرة، وإنما المراد الإشارة إلى بطلان هذه الشبهة، ويكفي في الدلالة على ذلك قوله تعالى مع ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى ورؤية المؤمنين له:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]

(3)

.

وبهذا يتبين بطلان المقدمة الثانية، التي زعموا فيها استحالة هذه اللوازم في

(1)

رواه ابن ماجه (184)، الدينوري في المجالسة (2223)، الآجري في الشريعة (615)، الدارقطني في رؤية الله (51)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه وضعفه الألباني في المشكاة (5664) وضعيف الجامع (2363).

(2)

إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 217).

(3)

انظر: التدمرية (ص:39 - 40)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 59، 95).

ص: 623

حق الله سبحانه وتعالى، وبالتالي نفوا رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وأنكروا النصوص الواضحة والأدلة المتواترة.

ويتبين صدق ما ذكره شيخ الإسلام من أن جميع الأدلة التي يحتج بها منكرو الرؤية راجعة لهاتين المقدمتين، فهم: إما أن يجعلوا للرؤية لوازم باطلة، ثم ينكروا الرؤية بسبب هذه اللوازم، وإما أن يثبتوا للرؤية لوازم حقه، ثم ينفوا هذه اللوازم في حق الله سبحانه بزعم تنزيه الله عنها، واستحالة اتصاف الله بها.

ص: 624

‌المبحث الخامس: مناظرته مع بعض من يدعي أن الله يتكلم بكلام لا معنى له

.

واشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

لقد كان شيخ الإسلام على دراية تامة بمقالات الفرق، وكان رحمه الله دقيقاً فيما ينسبه لشتى الفرق والطوائف والأشخاص من أقوال ومعتقدات مهما كان قدر الخلاف بينه وبينها، ومهما كانت قدر مخالفتها للكتاب والسنة والعقيدة السليمة؛ فإن الخلاف لا يبيح التقول على الخصوم والتجني عليهم، وهذا الأمر يفتقده كثير من أهل البدع حين ينسبون الأكاذيب والافتراءات إلى عقيدة أهل السنة وأعلامهم وعلمائهم، ونلحظ في هذه المناظرة شيئاً من إنصاف شيخ الإسلام، ودقته في نسبة الأقوال لقائليها، وخبرته بذلك، وعدله مع خصومه رحمه الله.

•‌

‌ نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وكثير من المنتسبين إلى السنة وغيرهم ظنوا أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله: هو معنى الكلام الذي أُنزل القرآن لبيانه؛ فصاروا يجعلون كثيراً من القرآن كلاماً خوطب به الناس، وأنزل إليهم، وأمروا بتلاوته وتدبره، وهو كلام لا يفهم معناه، ولا سبيل إلى معرفة مراد المتكلم به.

ص: 625

وقد يحكى عن بعضهم: أنه سمع كلاماً لا معنى له في نفس الأمر، كما حكى الرازي في محصوله عمن سماهم بـ (حشوية)

(1)

أنهم قالوا: يجوز أن يتكلم الله بكلام، ولا يعني به شيئاً.

لكن هذا القول لا أعرف به قائلاً، بل لم يقل هذا أحد من طوائف المسلمين!

(1)

الحشو من الكلام: الفضل الذي لا يعتمد عليه. وكذلك هو من الناس؛ فحشوة الناس: رذالتهم. انظر: تهذيب اللغة (5/ 90)، وتاج العروس (37/ 430 - 433).

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: «مسمى الحشو في لغة الناطقين به ليس هو اسما لطائفة معينة لها رئيس قال مقالة فاتبعته: كالجهمية، والكلابية، والأشعرية. ولا اسما لقول معين، من قاله كان كذلك.

والطائفة إنما تتميز بذكر قولها، أو بذكر رئيسها» إلى أن قال: «وإذا كان كذلك، فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ: عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة؛ فقيههم وعابدهم، فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله، فقال: كان ابن عمر حشوياً؛ نسبه إلى الحشو، وهم العامة والجمهور. وكذلك تسميهم الفلاسفة كما سماهم صاحب هذا الكتاب -يعني الرازي-.

والمعتزلة ونحوهم يسمونهم الحشوية. والمعتزلة تعني بذلك كل من قال بالصفات وأثبت القدر. وأخذ ذلك عنها متأخرو الرافضة، فسموا هم الجمهور بهذا الاسم.

وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية، فسموا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة؛ فمن قال عندهم بموجب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم رمضان، وحج البيت، وتحريم الفواحش والمظالم والشرك ونحو ذلك، سموه حشوياً؛ كما رأينا ذلك مذكوراً في مصنفاتهم. والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الجسمي والنعيم الحسي حشوياً. وأخذ ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعرية فسموا من أقر بما ينكرونه من الصفات، ومن يذم ما دخلوا فيه من بدع أهل الكلام والجهمية والإرجاء حشوياً. ومنهم أخذ ذلك هذا المصنف» يعني الرازي. بيان تلبيس الجهمية (2/ 129 - 131).

وبين القرافي مراد الرازي بالحشوية في هذا الموضع فقال: «مراده بقوله: (خلافا للحشوية): الطائفة الذين لا يرون البحث في القرآن إذا تعذر إرادة ظاهره، نحو آيات الصفات؛ فإنهم لا يعتقدون ظاهرها، بخلاف المجسمة منهم، فإنهم يجرونها على ظواهرها، وهؤلاء يقولون: ما يعرف معنى هذه الآيات أصلاً، بل يفوضها إلى الله تعالى في تعين مجازها بعد أن يعتقد أن خفاءها غير مراده» نفائس الأصول في شرح المحصول (3/ 1060).

ص: 626

ولهذا كنا مرة في مجلس فجرت هذه المسألة، فقلت: هذا لم يقله أحد من طوائف المسلمين، وإن كان أحد ذكره، فليس فيما ذكره

(1)

حجةٌ على إبطاله.

فقال بعض الذابين عنه: هذا قالته الكرامية

(2)

.

فقلت: هذا لم يقله لا كرامي ولا غير كرامي، ولا أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم، وبتقدير أن يكون قولاً، فإنما احتَّجَ

(3)

على فساده بأن هذا عبث، والعبث على الله محال.

وهذه الحجة فاسدة على أصله؛ لأن النزاع إنما هو في الحروف المؤلفة، هل يجوز أن يُنزل حروفاً لا معنى لها، والحروف عنده من المخلوقات، وعنده يجوز أن يخلق الله كل شيء؛ لأن فعله لا يتوقف على الحكمة والمصلحة، فليس فيما ذكره حجة على بطلان هذا.

وإنما النزاع المشهور هل يجوز أن ينزل الله تعالى ما لا يفهم معناه؟ والرازي ممن يجوز هذا في أحد قوليه، ووافق من قال إن التأويل لا يعلمه إلا الله، مع قولهم إن التأويل هو المعنى.

وأصل الخطأ في هذا أن لفظ التأويل مجمل يراد به:

1.

ما يؤول إليه الكلام: فتأويل الخبر نفس المخبر عنه، وتأويل أسماء الله وصفاته نفسه المقدسة بما لها من صفات الكمال.

2.

ويراد بالتفسير التأويل: وهو بيان المعنى المراد، وإن لم نعلم كيفيته وكنهه»

(4)

.

(1)

أي الرازي.

(2)

الكرامية: هم أتباع محمد بن كرام؛ يعتقدون أن الله تعالى جسم، وأنه تعالى محل للحوادث، وأن له ثقلاً، وأنه خالق رازق بلا خلق ولا رزق. ولهم في الإيمان قول منكر؛ حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً. انظر: مجموع الفتاوى (3/ 103)، الملل والنحل (1/ 108)، الفرق بين الفرق (ص: 202 - 214).

(3)

أي الرازي.

(4)

الصفدية (1/ 287).

ص: 627

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

في هذه المناظرة حدث حوار ونقاش بين شيخ الإسلام وأحد المتعصبين لفخر الدين الرازي المنافحين عنه، وكان موضوع النقاش ومحوره حول صحة ما ادعاه الرازي من أن هناك من يقول إن الله يتكلم بكلام لا معنى له، وهل يصح نسبة هذا القول لأي طائفة من طوائف المسلمين، أم لا؟ وقد حمل هذا الرجل تعظيمه وتعصبه للرازي، أن يثبت ما قرره الرازي وينسب هذا القول إلى الكرامية، فبين له شيخ الإسلام خطأ ما قرره الرازي وخطأ ما دافع به عن إمامه الرازي كما سيتم إيضاحه أثناء دراسة المسألة.

‌أصل الشبهة:

من المعلوم أن من المسائل التي حصل فيها النزاع بين أهل القبلة مسألة: هل يجوز أن يكون في القرآن ألفاظٌ لا يَفهمُ أحد معناها، ولا يمكن إدراك المراد بها؟

وهذه المسألة أطال العلماء في دراستها سواء في كتب الاعتقاد، أو في كتب ومباحث أصول الفقه، وقلَّ أن تجد مصنفاً مطولاً من مصنفات الأصول إلا وقد تعرض لها، إلا أن الرازي، وسبقه إلى ذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي

(1)

، وتبعهما على ذلك بعض المتأخرين: أظهروا هذه المسألة بقالب شنيع، وغلطوا في تصويرها، وجعلوا ما لم يرد فيه اختلاف، محلاً للنزاع والخلاف.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال: (لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئاً، خلافاً للحشوية). وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له. وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه؟، وبَيَنَ نفي المعنى عند المتكلم ونفي الفهم عند المخاطب بونٌ عظيم»

(2)

.

(1)

هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن خليل الهمذاني شيخ المعتزلة ولي قضاء القضاة بالري، وتصانيفه كثيرة منها: المغني، وشرح الأصول الخمسة، (ت:415 هـ). انظر: السير (17/ 244 - 245) والوافي بالوفيات (18/ 20 - 22).

(2)

المحصول (1/ 386).

ص: 628

وبهذا يتبين أصل شبهة من أطلق الخلاف في هذه المسألة، ونسب القول فيها لبعض طوائف الإسلام، وهو الخلط بينها وبين مسألة: إمكان إنزال الله كلاماً قد لا يفهم العباد معناه؟ مما هو محل نزاع بين أهل القبلة، بخلاف هذه المسألة التي لم تخالف فيها أي طائفة من طوائف هذه الأمة كما سيأتي توضيح ذلك من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب على هذه الدعوى.

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة وهذه الدعوى:

لقد تنوعت طرق شيخ الإسلام في نقض هذه الدعوى وبيان فسادها، وعدم صحتها وبطلانها، ويمكن حصر أهم طرق شيخ الإسلام في رد هذه المقالة بما يأتي:

‌أولاً: بيان خطأ هذه الدعوى:

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن القول بأن الله يتكلم بكلام لا معنى له، قول لا يعرف عن أحد من علماء المسلمين، ولم يرد عن شيءٍ من طوائف المسلمين. وقد وقع الرازي في خطأ واضح حيث أضاف هذا القول إلى من أسماهم حشوية فقال كما في محصوله:

«المسألة الأولى: في أنه لا يجوز أن يتكلم الله تعالى بشيء ولا يعني به شيئاً، والخلاف فيه مع الحشويَّةِ، لنا وجهان:

أحدهما: أن التكلم بما لا يفيد شيئاً هذيان، وهو نقص، والنقص على الله تعالى محال.

وثانيهما: أن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى، وشفاء، وبيانات؛ وذلك لا يحصل بما لا يفهم معناه»

(1)

.

فأخطأ الرازي هنا بحكاية الخلاف في المسألة وهي محل اتفاق وإجماع، ثم

(1)

المحصول في أصول الفقه (1/ 385).

ص: 629

أخطأ في نسبة هذا القول إلى الحشوية، كما أخطأ هذا الشخص المتعصب له بنسبته هذا القول إلى الكرامية، والواقع أن هذا القول لم يقل به أحد، لا كرامي ولا حشوي ولا غير ذلك.

وقد بين الآمدي أن اشتمال القرآن الكريم على ما لا معنى له، أمرٌ لا يتصور أصلاً، فكيف يقول به عاقل؟! قال رحمه الله:«القرآن لا يتصور اشتماله على ما لا معنى له في نفسه؛ لكونه هذياناً ونقصاً يتعالى كلام الرب عنه، خلافاً لمن لا يؤبه له»

(1)

.

وقال الزركشي رحمه الله

(2)

: «لا يجوز أن يرد في القرآن ما ليس له معنى أصلاً»

(3)

، وقال علاء الدين المرداوي

(4)

رحمه الله: «قوله: (وليس فيه ما لا معنى له): وهذا مما يقطع به كل عاقل، ممن شم رائحة العلم، ولا يخالف في ذلك إلا جاهل أو معاند؛ لأن ما لا معنى له هذيان، ولا يليق النطق به من عاقل، فكيف بالباري سبحانه وتعالى»

(5)

.

وبين العلامة حسن بن محمد العطار

(6)

في حاشيته على "شرح المحلي على

(1)

الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 167).

(2)

هو أبو الحسن بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشافعي، فقيه أصولي محدث، مشارك في بعض العلوم. من تصانيفه الكثيرة: الديباج في توضيح المنهاج للنووي، شرح جمع الجوامع للسبكي، (ت:794 هـ). انظر: طبقات المفسرين (2/ 162)، معجم المؤلفين (10/ 205).

(3)

البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 197).

(4)

علي بن سليمان بن أحمد المرداوي ثم الدمشقي الصالحي فقيه حنبلي، من العلماء. من مصنفاته: الإنصاف، والتحبير شرح التحرير، (ت:885 هـ). انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (5/ 225) البدر الطالع (1/ 446)، الأعلام للزركلي (4/ 292).

(5)

التحبير شرح التحرير (3/ 1399).

(6)

هو حسن بن محمد بن محمود العطار: من علماء مصر، أصله من المغرب، ومولده ووفاته في القاهرة، له مصنفات منها: كيفية العمل بالاسطرلاب، والإنشاء والمراسلات، وغيرها، (ت:1250 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (2/ 220)، معجم المؤلفين (3/ 285).

ص: 630

جمع الجوامع" أن "أحداً ممن يوثق به لم يقل بذلك فلا يصلح أن يكون محل النزاع، كيف والقرآن العزيز في أعلى طبقات البلاغة المشترط فيها فصاحة الكلام، ووقوع ما يخل بالفصاحة فيه يخرجه عنها، فكيف بالمهمل؟! وأيضاً لو تلفظ واحد منا في خطابه بمُهمل نُسب إلى هذيان وعبث، فكيف بالحضرة العلية

(1)

؟! وأيضاً لو فرض وقوعه في القرآن للزم إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يخاطب به مصاقع البلغاء وأعاظم الفصحاء الذين هم نقدة الكلام وحاكة برده وقد تطأطأت رءوسهم عند سماعه، ولم يجدوا فيه مغمزاً من جهة البلاغة والفصاحة، فلو وقع فيه لفظ مهمل لسارعوا إلى المبادرة بالطعن فيه"

(2)

.

‌ثانياً: بيان الخلط الذي وقع فيه الرازي ومن تبعه على هذه المقالة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن الرازي ومن تبعه قد خلطوا بين مسألتين مختلفتين.

المسألة الأولى: كلام الله بما بكلام قد لا يفهمه المخاطبون.

المسألة الثانية: كلام الله بما لا معنى له.

فأما المسألة الأولى ففيها إثبات المعنى للكلام، وإن كان العباد قد يجهلون هذا المعنى.

وأما المسألة الثانية فليس فيها إثبات معنى للكلام أصلاً.

والمسألة الأولى قد قالت بها بعض الفرق، وأما المسألة الثانية فلم تقل بها طائفة قط، ولا يكاد يقول بها مؤمن عاقل وذلك لظهور فسادها، وضرورة بطلانها.

وقد وقع الخلط لدى الرازي وبعض المعظمين له والمتعصبين معه، بين

(1)

هذه العبارة من العبارات التي خرجت من عباءة الصوفية ولم تأت في كتاب ولا سنة، ولم تعرف عن أحد من سلف هذه الأمة، وفيما أخبر الله تعالى وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من أسمائه غنية عن هذه الألفاظ التي ينطوي تحتها من الاعتقادات الباطلة ما الله به عليم.

(2)

حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (1/ 301).

ص: 631

المسألتين، فصوروا الخلاف الواقع في جواز أن يتكلم الله بكلام له معنى ولكن لا تدركه عقول العباد وأفهامهم، بأن الله يتكلم بكلام لا معنى له أصلاً، قال شيخ الإسلام:«وهذا لم يقله مسلم (إن الله يتكلم بما لا معنى له)، وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه؟ وبين نفي المعنى عند المتكلم ونفي الفهم عند المخاطب بون عظيم»

(1)

. فغلطوا في تصوير المسألة وأخطأوا في تحرير محل النزاع.

وقد بين جماعة من شراح الأصول هذا الخلط الذي وقع للرازي ومنهم العلامة الزركشي حيث قال: «واعلم أن الرازي ترجم المسألة في المحصول: بأنه يجوز أن يتكلم الله ورسوله بشيء، ولا يعني به شيئا.

ثم استدل بما يقتضي أن الخلاف في التكلم بما لا يفيد، وبينهما فرق، فإنه يمكن أن يعني به شيئاً، وهو يفيد في نفسه، ويمكن أن يفيد ولا يعني به شيئاً، فمحل النزاع غير منقح»

(2)

.

وبين القرافي

(3)

أن الصواب أن يقال في المسألة: «لا يجوز أن يتكلم الله تعالى بما لا يفهم» ولا يقال: بما لا معنى له؛ لأن هذا متفق على امتناعه

(4)

. قال ابن النجار الحنبلي

(5)

معلقاً على كلام القرافي: «وما قاله ظاهر؛ لأنه لا يخالف فيه إلا جاهل أو معاند؛ لأن ما لا معنى له هذيان لا يليق أن يتكلم به عاقل. فكيف بالباري سبحانه وتعالى؟»

(6)

.

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 286).

(2)

البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 199).

(3)

هو أحمد بن إدريس المشهور بالقرافي، الفقيه الأصولي شهاب الدين الصنهاجي، انتهت إليه رئاسة الفقه على مذهب مالك، ونسب إلى القرافة ولم يسكنها، من مصنفاته: التنقيح، وأنواء الفروق، (ت:684 هـ). انظر: الوافي بالوفيات (6/ 146) والديباج المذهب (1/ 236).

(4)

نفائس الأصول في شرح المحصول (3/ 1060).

(5)

محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي، تقي الدين أبو البقاء، الشهير بابن النجار: فقيه حنبلي مصري. له مصنفات أهمها: منتهى الإرادات في الفقه الحنبلي (ت: 972 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (6/ 6) ومعجم المؤلفين (8/ 276).

(6)

مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (2/ 144).

ص: 632

فتبين من هذا كله أن الرازي ومن تبعه قد خلطوا بين مسألتين مختلفتين، ولم يفرقوا بين أن يتكلم المتكلم بما لا معنى له، وبين أن يتكلم بما لا يفهم معناه ظاهراً، وذلك أنه لا قائل بأن الله يجوز عليه أن يتكلم بكلام لا معنى له، وإنما النزاع المشهور هل يجوز أن ينزل الله تعالى ما لا يفهم معناه؟ فالأول يتعلق بالمتكلم، والثاني يتعلق بالسامع، والفرق بينهما ظاهر.

‌ثالثاً: بيان خطأ نسبة هذا القول إلى الكرامية:

أبطل شيخ الإسلام دعوى مناظره أن هذا القول هو قول الكرامية في كلام الله سبحانه، وبين أن الكرامية لا تقول بمثل هذا القول لا هي ولا غيرها.

وقد بين شيخ الإسلام في غير موضع من كتبه مذهب الكرامية في كلام الله تعالى، وذكر أنهم يعتقدون أن كلام الله حروف وأصوات حادثة قائمة بذات الله سبحانه، ويسمونها صفة (القول). وأما صفة الكلام عندهم فهي صفة قديمة، ومعناها: القدرة على إحداث القول. ففرقوا بين الكلام والقول، وأتوا بقول لم يسبقهم إليه أحد حيث فسروا صفة الكلام بالقدرة، وجعلوا هناك صفة أخرى مختلفة عن الكلام وهي (القول).

وقالوا: قول الله حادث، والقرآن عندهم من هذا الباب فهو قول الله وليس كلام الله، ومع كونه حادثاً فهو قائم بذات الله، بناءً على أصلهم في عدم امتناع قيام الحوادث بذات الله.

ومعنى حادث أي أنه ليس بأزلي؛ بل تكلم الله به بعد أن لم يكن يتكلم، وإن كان قادراً على الكلام.

ويقولون بأن مسمى الكلام حقيقة في اللفظ مجاز في المعاني، بعكس قول الكلابية والأشاعرة الذين يقولون هو حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ

(1)

.

(1)

انظر لبيان مذهب الكرامية في كلام الله: التسعينية (3/ 754)، النبوات (1/ 589)، مجموع الفتاوى (12/ 315)، الفرق بين الفرق (ص:217 - 218)، التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين (ص: 114).

ص: 633

ولكن الكرامية مع عدم إدخالهم المعاني في مسمى الكلام، إلا أنهم -كما أخبر شيخ الإسلام- لا ينفون أن يكون لكلام الله معنى، قال شيخ الإسلام:«لكن هؤلاء الذين يقولون: إن الكلام ليس هو إلّا الحروف والأصوات، لا يمنعون أن يكون للكلام معنى، بل النَّاس كلهم متفقون على أن الحروف والأصوات التي يتكلم بها المتكلمون تدل على معان»

(1)

.

‌رابعاً: بيان ضعف مذهب الرازي وتناقضه في تقرير المسألة وردها:

تناقض الرازي في تعليله لعدم الجواز بأن يتكلم الله بكلام لا معنى له بقوله: «أن التكلم بما لا يفيد شيئاً هذيان، وهو نقص، والنقص على الله تعالى محال»

(2)

، وهذا التعليل لا يصح على مذهبه، وذلك لأنه مبني على أمرين:

الأمر الأول: إثبات الحكمة والتعليل في أفعال الرب.

الأمر الثاني: إثبات التحسين والتقبيح العقليين.

والرازي من نفاة الحكمة والتعليل في أفعال الرب، كما صرح بذلك في محصوله ودلل عليه

(3)

، وهو أيضاً من نفاة التحسين والتقبيح العقليين وقد جعل لهذا فصلاً في محصوله فقال:«الفصل السابع: في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع»

(4)

.

قال شيخ الإسلام «احتج بما لا يجري على أصله فقال: هذا عبث والعبث على الله محال. وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلاً، بل يجوز أن يفعل كل شيء!

وليس له أن يقول: العبث صفة نقص فهو منتف عنه؛ لأن النزاع في الحروف وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة.

(1)

التسعينية (2/ 435).

(2)

المحصول في أصول الفقه للرازي (1/ 385).

(3)

انظر: المصدر السابق (5/ 182 - 196).

(4)

المصدر السابق (1/ 123).

ص: 634

فلا نقل صحيح ولا عقل صريح»

(1)

.

ولذلك تعقبه القرافي -شارح المحصول-، وبين مناقضة قول الرازي لمذهبهم فقال:«قلنا: مذهب أهل الحق أن الله تعالى لا يجب تعليل أفعاله ولا أحكامه بالأغراض، ولا يجب على الله تعالى رعاية مصلحة ولا درء مفسدة، وإنما تصح هذه الدعوى على قاعدة المعتزلة في الحسن والقبح»

(2)

.

وقال الأصفهاني

(3)

-أيضاً-: «والحق أرجو أن الكلام بما لا يعني به مُفَّرعٌ على التحسين والتقبيح العقليين، ووجههُ ظاهر، ثم قال: وحينئذ فيسهل المنع على مذهب المعتزلة، أما على رأي الأشاعرة: فكيف يستقيم لهم المنع مع أنهم لا يقولون التحسين والتقبيح العقليين؟»

(4)

ويتلخص لنا من هذا كله بطلان هذه الدعوى التي ذكرها الرازي، وعدم صحة نسبة هذا القول لأحد لا من الكرامية ولا من غيرهم، ويظهر من هذا كذلك مدى وسعة ما بلغ شيخ الإسلام من علم بأقوال الفرق، وأمانته في تحرير المسائل ودقته في نقل الأقوال، والله أعلم.

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 286).

(2)

نفائس الأصول في شرح المحصول (3/ 1044 - 1045).

(3)

هو أبو عبد الله شمس الدين، محمد بن محمود بن محمد العلامة، الأصفهاني، الأصولي وانتهت إليه الرياسة في معرفة أصول الفقه قدم دمشق وناظر الفقهاء واشتهرت فضائله. له مصنفات منها: شرح المحصول، والفوائد في الأصلين، (ت: 678 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (15/ 619)، بغية الوعاة (1/ 240).

(4)

البحر المحيط للزركشي (2/ 199).

ص: 635

‌المبحث السادس: مناظرته مع بعض المشغوفين بأهل الكلام في بطلان طريقتهم إما في الدلائل أو المسائل. وفيه مطلبان:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة

.

•‌

‌ تمهيد:

لقد كان شأن شيخ الإسلام شأناً عظيماً؛ فقد رزقه الله منذ صغره وحداثة سنه من العلم الغزير والبصيرة النافذة الشيء الجليل الكبير، حتى إنه كان يجابه أهل الكلام والفلسفة ويبين تهافت مذهبهم وضعف طريقتهم بالأدلة القوية والبراهين الجلية؛ وما هذه المناظرة -التي بين يدينا- والتي حصلت له وهو قريب عهد بالاحتلام، إلا نموذج على ما حباه الله به من العلم الواسع، والخبرة العظيمة بالحق وما يخالفه من المذاهب الفاسدة والأقوال الباطلة.

•‌

‌ نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «المعلوم من حيث الجملة: أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشواً وقولاً للباطل وتكذيباً للحق في مسائلهم ودلائلهم؛ لا يكاد -والله أعلم- تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك.

وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم، وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الاحتلام، كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل:

ص: 636

-إما في الدلائل،

-وإما في المسائل.

إما أن يقولوا مسألة تكون حقاً، لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة، وإما أن تكون المسألة باطلاً، فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظم هذا، وذكر مسألة التوحيد.

فقلت: التوحيد حق، لكن اذكر ما شئت من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه. فذكر بعضها بحروفه حتى فهم الغلط وذهب إلى ابنه -وكان أيضاً من المتعصبين لهم- فذكر ذلك له، قال: فأخذ يعظم ذلك علي.

فقلت: أنا لا أشك في التوحيد ولكن أشك في هذا الدليل المعين»

(1)

، ثم استطرد رحمه الله في ذكر الأدلة الدالة على بطلان طريقتهم في الدلائل والمسائل.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

نبه شيخ الإسلام في غير موضع من كتبه أن أكثر كلام الفلاسفة والمتكلمين، حشو لا فائدة فيه، فهم من أكثر الطوائف تقريراً للباطل وتكذيباً للحق، وهذه سمة لازمة لهم: إما في مسائلهم، أو دلائلهم.

وجميع ردود شيخ الإسلام على المتكلمين: إما في بيان مسألة باطلة أحدثوها، أو دليل فاسد قرروه، وهذا هو ما قرره شيخ الإسلام لمناظره ووضحه له، وستكون دراسة المناظرة التي بين أيدينا من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان أصل الشبهة:

أشار شيخ الإسلام في رده على مناظره إلى أن هذا المناظر إنما أوتي من تعظيمه لطريقة المتكلمين وولعه بهم وشغفه بمسائلهم ودلائلهم، ولذلك استشنع كلام شيخ الإسلام واستعظم ما قرره من بطلان مذهب القوم، سواء في المسائل

(1)

مجموع الفتاوى (4/ 27).

ص: 637

أو في الدلائل، وكثير من أهل البدع إنما تشربوا بدعهم من جهة تعظيم مشايخهم وعلمائهم والغلو فيهم، حتى استثقلوا قول الحق خشية مخالفة أشياخهم ورد تنظيراتهم وأقوالهم، وما ظهرت كثير من العقائد الفاسدة والآراء الشاذة المنحرفة والأهواء المضلة إلا من هذا الباب حتى بلغ الأمر بكثير من الناس إلى درجة ادعاء العصمة في الأساتذة والأشياخ، بل بلغ الأمر بطوائف -غير قليلة من الناس- إلى تأليه الأشخاص واتخاذهم أرباباً من دون الله، وهذا أمر يطول شرحه، ويصعب بسطه

(1)

، وإنما أردت الإشارة إليه في مثل هذا المقام، لبيان سبب محاجة هذا الرجل عن أهل الكلام، واستعظامه لما قرره شيخ الإسلام.

‌الوجه الثاني: الجواب على شبهتهم:

بين شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المناظرة بطلان ما عليه المتكلمون والفلاسفة بقاعدة عامة إجمالية يدخل فيها كل قضية اعتقدوها وكل مقالة تبنوها، وهي أن جميع ما يأتي به أهل الكلام والفلسفة إما أن تكون مسألة مخترعة حادثة لم يدل عليها دليل شرعي جعلوها أصلاً من أصول الدين وعقيدة تلزم جميع المسلمين، وإما أن يأتوا بأصل شرعي صحيح ومسألة عقدية مقررة، ولكن يستدلون عليها بأدلة باطلة ضعيفة أو مضطربة متهاوية،

وكثير من باطلهم هو من النوع الأول: وهي المسائل المحدثة التي جعلوها ديناً وقرروها في كتب الأصول والعقائد، كمسألة نفي الصفات ونفي القدر، ونحوها من المسائل.

وقد فصل شيخ الإسلام القول في بيان فساد كل مسألة من هذه المسائل، بل إن كثيراً من مصنفاته إنما صنفها لبيان فساد بعض هذه المسائل، وإنما اكتفي في هذا المقام بذكر بعض الأجوبة الإجمالية التي بين فيها شيخ الإسلام فساد مسائل القوم ودلائلهم على وجه العموم لا التخصيص، وأهم هذه الأجوبة ما يلي:

(1)

انظر: قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق (ص: 145 - 150).

ص: 638

‌أولاً: أن مسائلهم التي قرروها مسائل محدثة لم ترد في الشرع، بل هي مخالفة له:

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن مسائل الدين التي يجب اعتقادها قد بينها الله ورسوله بياناً شافياً كافياً؛ ولا يوجد أصل من أصول الدين إلا وقد بُيِّنَ في القرآن والسنة على أكمل وجه وأوضح بيان، ولذلك فإن كل مسألة أحدثها المتكلمون والفلاسفة وألزموا الناس باعتقادها مما لم يأت في كتاب ولا سنة ولا نص عليها أحد من سلف هذه الأمة فهي مسألة باطلة، وقد أنكر شيخ الإسلام على من سأله عن الخوض في مسائل من أصول الدين لم ترد في النصوص، فقال ضمن جوابه للسائل:«فقول السائل: هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين لم ينقل عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيها كلام أم لا؟ سؤال ورد بحسب ما عهد من الأوضاع المبتدعة الباطلة، فإن المسائل التي هي من أصول الدين التي تستحق أن تسمى أصول الدين، أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، لا يجوز أن يقال: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيها كلام، بل هذا كلام متناقض في نفسه، إذ كونها من أصول الدين، يوجب أن تكون من أهم الدين، وأنها مما يحتاج إليه»

(1)

.

بل إن هذه المسائل المذكورة وغيرها من المسائل التي يقررها المتكلمون مع كونها غير واردة في النصوص فإنها كذلك مخالفة لما دلت عليه الآيات والنصوص قال رحمه الله: «ومن تدبر هذا كله وتأمله وتبين له أن ما جاء به القرآن من بيان آيات الرب ودلائل توحيده وصفاته هو الحق المعلوم بصريح المعقول وأن هؤلاء خالفوا القرآن في أصول الدين في دلائل المسائل وفي نفس المسائل خلافاً خالفوا به القرآن والإيمان وخالفوا به صريح عقل الإنسان وكانوا في قضاياهم التي يذكرونها في خلاف ذلك أهل كذب وبهتان، وإن لم يكونوا متعمدين

(1)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 26).

ص: 639

الكذب، بل التبس عليهم ما ابتدعوه من الهذيان»

(1)

.

‌ثانياً: أن أدلتهم التي يقررون بها أصولهم ومسائلهم أدلة محدثة مبتدعة:

فمثل ما قيل في ابتداعهم لكثير من المسائل المحدثة، فكذلك القول فيما اخترعوه من أدلة وسلكوه من طرق لتقرير المسائل الشرعية والأصول العقدية قال شيخ الإسلام رحمه الله: «والمقصود هنا أن هذه هي أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية، والنصوص النبوية، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.

فيقال لهم: أنتم وكل مسلم عالم تعلمون بالاضطرار أن إيمان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكن مبنياً على هذه الحجج المبنية على الجسم، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً أن يستدل بذلك على إثبات الصانع، ولا ذكر الله تعالى في كتابه وفي آياته الدالة عليه وعلى وحدانيته شيئاً من هذه الحجج المبنية على الجسم والعرض، وتركيب الجسم وحدوثه وما يتبع ذلك.

فمن قال: إن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام.

ومن قال: إن سلوك هذه الطريق واجب في معرفة الصانع تعالى كان قوله من البدع الباطلة المخالفة لما علم بالاضطرار من دين الإسلام.

ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا: وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب، بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل، لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم

(2)

.

ثم القائلون بأن هذه الطريق ليست واجبة قد يقولون: إنها في نفسها صحيحة،

(1)

المصدر السابق (5/ 203).

(2)

انظر: رسالة إل أهل الثغر (105 - 116).

ص: 640

بل ينهى عن سلوكها لما فيها من الأخطار، كما يذكر ذلك طائفة منهم: الأشعري، والخطابي، وغيرهما.

وأما السلف والأئمة فينكرون صحتها في نفسها، ويعيبونها لاشتمالها على كلام باطل، ولهذا تكلموا في ذم هذا الكلام؛ لأنه باطل في نفسه، لا يوصل إلى الحق، بل إلى باطل، كقول من قال:(الكلام الباطل لا يدل إلا على باطل)

(1)

، وقول من قال:(لو أوصى بكتب العلم لم يدخل فيها كتب علم الكلام)

(2)

، وقول من قال:(من طلب الدين بالكلام تزندق)

(3)

ونحو ذلك.

ونحن الآن في هذا المقام نذكر ما لا يمكن مسلماً أن ينازع فيه، وهو أنا نعلم بالضرورة أن هذه الطريق لم يذكرها الله تعالى في كتابه، ولا أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا جعل إيمان المتبعين له موقوفاً عليها، فلو كان الإيمان بالله لا يحصل إلا بها لكان بيان ذلك من أهم مهمات الدين، بل كان ذلك أصل أصول الدين، لا سيما وكان يكون فيها أصلان عظيمان: إثبات الصانع، وتنزيهه عن صفات الأجسام، كما يجعلون هم ذلك أصل دينهم، فلما لم يكن الأمر كذلك عُلم أن الإيمان يحصل بدونها، بل إيمان أفضل هذه الأمة وأعلمهم بالله كان حاصلاً بدونها.

(1)

روى أبو إسماعيل الهروي بسنده إلى الإمام مالك رحمه الله قال: لعن الله عمرًا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولوكان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل. ذم الكلام (72 - 73/ 5).

(2)

رواه أبو الفضل المقرئ في أحاديث في ذم الكلام وأهله (ص:90) من قول الإمام الشافعي رحمه الله، وانظر: شرح السنة للبغوي (1/ 218)، والسير (10/ 30). وانظر شيئاً من أقوال الشافعي ومواقفه في الكلام وأهل الكلام في "آداب الشافعي ومناقبه" لأبن أبي حاتم (ص:137 - 145)

(3)

رواه أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام وأهله (5/ 71:85) من قول مالك بن أنس رحمه الله، ورواه أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام وأهله (5/ 202:998). والخطيب في الكفاية (ص:142) وشرف أصحاب الحديث (ص:5) والسمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (ص:85) وابن عدي في الكامل (1/ 111) كلهم من قول القاضي أبي يوسف رحمه الله.

ص: 641

فمن قال بعد هذا: إن العلم بصحة الشرع لا يحصل إلا بهذا الطريق ونحوها من الطرق المحدثة؛ كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، وعلم أن القدح في مدلول هذه الطرق ومقتضاها، وأن تقديم الشرع المعارض لها، لا يكون قدحاً في العقليات، التي هي أصل الشرع، بل يكون قدحاً في أمور لا يفتقر الشرع إليها، ولا يتوقف عليها، وهو المطلوب»

(1)

.

‌ثالثاً: أن إحداث مسائل جديدة في أصول الدين يعتبر طعناً في الشرع وقدحاً في النبوة:

بين شيخ الإسلام رحمه الله أن إحداث مسائل جديدة في أصول الدين هو في الحقيقة طعن في الشرع ومن جاء به، واتهام للنبي صلى الله عليه وسلم إما بالكتم والخيانة، وإما بالتفريط والتقصير، وهو أيضاً اتهام لخير القرون -الصحابة فمن بعدهم- بذلك؛ فإن عدم بيان أصول الدين -وهي أهم ما يحتاج له المسلمون- لا يخلو سببه من أحد هذين الأمرين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ثم نفي نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين:

إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج الدين إليها فلم يبينها، أو أنه بينها فلم تنقلها الأمة، وكلا هذين باطل قطعاً. وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين؛ وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ما جاء به الرسول أو جاهل بما يعقله الناس بقلوبهم أو جاهل بهما جميعاً.

فإن جهله بالأول: يوجب عدم علمه بما اشتمل عليه ذلك من أصول الدين وفروعه.

وجهله بالثاني: يوجب أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يسميه هو وأشكاله عقليات؛ وإنما هي جهليات.

وجهله بالأمرين: يوجب أن يظن من أصول الدين ما ليس منها من المسائل

(1)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 308 - 311).

ص: 642

والوسائل الباطلة، وأن يظن عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يعتقد في ذلك، كما هو الواقع لطوائف من أصناف الناس حذاقهم فضلا عن عامتهم»

(1)

.

‌رابعاً: إحداثهم لهذه المسائل إنما جاء بناء على جهلهم بما جاءت به الشريعة من الأدلة والبراهين:

وذلك أنهم ظنوا أن الشرع لم يأت بالأدلة العقلية، وإنما جاء بالأدلة الشرعية الخبرية ولذلك قاموا بمحاولة نصب الأدلة العقلية والفلسفية والمنطقية للدلالة على هذه المسائل، فأتوا من المحالات والتناقضات والاضطرابات شيئاً كثيراً عجيباً؟!

والحق أن الله سبحانه وتعالى بين من أنواع الأدلة العقلية في تقرير العقائد الشرعية ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره، ولا يقدرون على الإتيان بمثله، وما فيه الكفاية والغنية وما من دليل صحيح نصبوه إلا وقد جاء القرآن بخلاصته على أحسن الوجوه، قال سبحانه:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33]، ومن أوضح ما يبين ذلك أنواع الأمثلة التي ضربها الله في كتابه {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم:58]، وما هذه الأمثلة المضروبة على كثرتها إلا نوع من الأقيسة الذهنية والبراهين العقلية التي جاءت بها الشريعة المحمدية، وأنواع أدلتها العقلية أكثر من هذا بكثير

(2)

.

خامساً: واقع المتكلمين يدل على ضعف وبطلان ما أحدثوه من مسائل ودلائل، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أنك تجد أهل الكلام أعظم الناس شكاً واضطراباً، وأضعف الناس علماً ويقيناً، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم، ويشهده الناس منهم، وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر، وإنما نتج هذا الشك والاضطراب بسبب مسائلهم

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 294 - 295).

(2)

انظر: درء التعارض (1/ 29).

ص: 643

ودلائلهم التي لا تقوم على حجة صحيحة ولا نقل مستقيم

(1)

.

الوجه الثاني: أنك تجد غالب حججهم تتكافأ وكل منهم يقدح في أدلة الآخر، قال شيخ الإسلام: «ومما يوضح الأمر في ذلك أن النفاة ليس لهم دليل واحد اتفقوا على مقدماته؛ بل كل طائفة تقدح في دليل الأخرى؛ فالفلاسفة تقدح في دليل المعتزلة على نفي الصفات؛ بل على نفي الجسم والتحيز ونحو ذلك؛ لأن دليل المعتزلة مبني على أن القديم لا يكون محلاً للصفات والحركات، فلا يكون جسماً ولا متحيزاً؛ لأن الصفات أعراض، وهم يستدلون على حدوث الجسم بحدوث الأعراض والحركات، وأن الجسم لا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. بل الأشعري نفسه ذكر في رسالته إلى أهل الثغر

(2)

: أن هذا الدليل الذي استدلوا به على حدوث العالم -وهو الاستدلال على حدوث الأجسام بحدوث أعراضها- هو دليل محرم في شرائع الأنبياء لم يستدل به أحد من الرسل وأتباعهم، وذكر -في مصنف له آخر- بيان عجز المعتزلة عن إقامة الدليل على نفي أنه جسم، وأبو حامد الغزالي، وغيره من أئمة النظر بينوا فساد طريق الفلاسفة التي نفوا بها الصفات، وبينوا عجزهم عن إقامة دليل على نفي أنه جسم، بل وعجزهم عن إقامة دليل على التوحيد وأنه لا يمكن نفي الجسم إلا بالطريق الأول الذي هو طريق المعتزلة الذي ذكر فيه الأشعري ما ذكر.

فإذا كان كل من أذكياء النظار وفضلائهم يقدح في مقدمات دليل الفريق الآخر الذي يزعم أنه بني عليه النفي، كان في هذا دليل على أن تلك المقدمات ليست ضرورية؛ إذ الضروريات لا يمكن القدح فيها»

(3)

الوجه الثالث: أن المطلع على حال أهل الكلام يجدهم أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول، وجزماً بالقول في موضع وجزماً بنقيضه وتكفير قائله في موضع

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (4/ 27).

(2)

انظر: رسالة إلى أهل الثغر (ص: 105 - 116).

(3)

مجموع الفتاوى (5/ 289 - 290)، انظر: المصدر السابق (4/ 28).

ص: 644

آخر، وهذا بخلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، فإنهم كما أخبر شيخ الإسلام «ما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك وإن امتحنوا بأنواع المحن وفتنوا بأنواع الفتن»

(1)

.

الوجه الرابع: ومما يدل على هذا أيضاً: ما هو معلوم من رجوع أكثر أئمتهم إلى مذهب عموم أهل السنة وعجائزهم، بينما تجد أئمة السنة والحديث لا يرجع منهم أحد؛ لأن الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وقد ضرب شيخ الإسلام في مختلف كتبه ومصنفاته أمثله كثيرة جداً على تراجع صناديد علم الكلام وأئمته عن مذاهبهم ومعتقداتهم، ومن أجمع هذه المواضع ما ذكره رحمه الله في مجموع الفتاوى، حيث قال: «وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك: إما عند الموت، وإما قبل الموت والحكايات في هذا كثيرة معروفة:

-هذا أبو الحسن الأشعري: نشأ في الاعتزال أربعين عاماً يناظر عليه ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم

(2)

.

-وهذا أبو حامد الغزالي: مع فرط ذكائه، وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع

ص: 645

إلى طريقة أهل الحديث وصنف (إلجام العوام عن علم الكلام)

(1)

.

-وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي: قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات

(2)

: «لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وأقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي» وكان يتمثل كثيراً:

نهاية إقدام العقول عقالُ

وأكثر سعي العالمين ضلالُ

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذىً ووبالُ

(1)

"إلجام العوام عن علم الكلام" المسمى بـ "رسالة في مذهب أهل السلف" هو آخر ما كتب أبو حامد الغزالي، كتبه في أوائل جمادي الآخرة سنة 505 هـ أي: قبيل وفاته بزمن قصير جداً، أقلّ من أسبوعين، حيث توفي رحمه الله يوم الاثنين 14 جمادي الآخرة عام 505 هـ. وكان مما قال فيه الغزالي:«اعلم: أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف -أعني مذهب الصحابة والتابعين-، وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه. فأقول: حقيقة مذهب السلف، وهو الحق عندنا؛ أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة امور: التقديس، ثم التصديق، ثم الاعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الإمساك، ثم الكف، ثم التسليم لأهل المعرفة» . ثم يجعل من قول الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- مقدمة مهمة جداً في هذا الموضوع، يأخذ به ويكرره في عدة مواضع، حيث يقول الإمام مالك رضي الله عنه عندما سُئل عن الإستواء:(الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة). ويعقد الإمام الغزالي فصلاً في أن الجواب الحق عن هذه المسائل هو جواب الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه-، وهذا الكتاب من أصحِّ الكتب نسبة إليه. وطبع الكتاب في بيروت، دار الكتب العلمية ضمن (مجموعة رسائل الإمام الغزالي) 1414 هـ/1994 م. نقلاً عن "كتب الإمام الغزالي الثابت منها والمتحول" للدكتور مشهد العلاف.

(2)

رسالة (أقسام اللذات) أو (ذم لذات الدنيا) للفخر الرازي (ص:262). وانظر: وفيات الأعيان (4/ 250) وطبقات الشافعية (5/ 40).

ص: 646

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

(1)

-وهذا إمام الحرمين: ترك ما كان ينتحله ويقرره واختار مذهب السلف. وكان يقول: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام؛ فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به»

(2)

وقال عند موته: «قد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه. والآن: إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي -أو قال-: عقيدة عجائز نيسابور»

(3)

.

-وكذلك قال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، أخبر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، وكان ينشد:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالمِ

فلم أر إلا واضعاً كف حائرٍ

على ذقن أو قارعا سن نادمِ

(4)

-وابن الفارض

(5)

: من متأخري الاتحادية

لما حضرته الوفاة أنشد:

إن كان منزلتي في الحب عندكمُ

ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

(1)

رواها لسان الدين ابن الخطيب بإسناده للرازي في "الإحاطة في أخبار غرناطة"(2/ 222). وانظر: وفيات الأعيان (4/ 250) وطبقات الشافعية (5/ 40).

(2)

رواه أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي بإسناده إلى الجويني في "المنثور من الحكايات والسؤالات"(1/ 51)(63) وعنه ابن الجوزي في المنتظم (9/ 19).

(3)

نقل شيخ الإسلام هذا الكلام في غير موضع، وذكره السبكي في طبقات الشافعية (3/ 260)، والذهبي في السير (18/ 471).

(4)

هذين البيتين ذكرهما في مقدمة، (نهاية الإقدام في علم الكلام) (ص:7)

(5)

هو أبو حفص وأبو القاسم، عمر بن علي بن مرشد بن علي الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، شرف الدين ابن الفارض، أشعر المتصوفين، لقب بسلطان العاشقين، اتحادي ضال. له ديوان مطبوع، (ت:632 هـ). انظر: ميزان الاعتدال (3/ 214)، (تاريخ الإسلام (14/ 76)، الأعلام للزركلي (5/ 55).

ص: 647

أمنية ظفرت نفسي بها زمناً

واليوم أحسبها أضغاث أحلامِ

(1)

»

(2)

ويتلخص لنا من هذه الوجوه كلها، ضعف مذهب القوم وبطلان ما أحدثوه من مسائل ودلائل، لم تأت في كتاب ولا سنة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة، وأن مآل من اعتقد هذه المسائل والدلائل وانتصر لها هو الحيرة والتناقض، وأن العباد إنما كلفوا بما جاءت به الشريعة من مسائل في أصول الدين الاعتقاد، وأن فيما جاءت به الشريعة من أدلة على أصول الدين الغُنية والكفاية عن أي دليل يُنصب أو حجة تُجتلب، والله أعلم.

(1)

ديوان ابن الفارض (ص:207) وذكر الذهبي -أيضاً- أن ابن الفارض أنشد هذين البيتين عند موته. انظر: تاريخ الإسلام (14/ 76).

(2)

مجموع الفتاوى (4/ 72 - 75).

ص: 648

‌المبحث السابع: مناظرته مع بعض منكري العلو: واشتمل على مطلبين:

‌المطلب الأول: عرض المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه المناظرة في معرض بيانه لزيف ما ادعاه الرازي في كتابه الأربعين من بطلان كون علو الله عز وجل أمراً ضرورياً فطرياً لا يمكن إنكاره ولا جحده، فبين رحمه الله زيف وبطلان الشبه التي احتج بها الرازي، وأن ما ادعاه من إنكار لعلو الله على خلقه واعتقادٍ بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا محايث له ولا مباين عنه

(1)

، مما يتصادم مع الفطر السليمة والعقول المستقيمة التي توجب كون الله عالياً على مخلوقاته فوق أرضه وسماواته، وهذا مما يجده كل أحد من نفسه، حتى المنكر المخالف، فلا بد وأن يجد هذا الشعور في داخله خصوصاً عند نزول الملمات وحلول الكربات، التي لا يجد منها مفزعاً إلا اللجوء إلى رب الأرض والسماوات، متجهاً له بقلبه، رافعاً إليه يده، شاخصاً إلى السماء ببصره منتظراً لفرجه ولطيف أمره.

(1)

انظر: الأربعين في أصول الدين (152).

ص: 649

•‌

‌ نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام في معرض كلامه عن دلالة الفطرة على علو الله سبحانه وتعالى: «ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هذه القضية الضرورية قبل أن يعلموا أن في الوجود من ينكرها ويخالفها، وأكثر الفطر السليمة إذا ذكر لهم قول النفاة بادروا إلى تجهيلهم وتكفيرهم، ومنهم من لا يصدق أن عاقلاً يقول ذلك، لظهور هذه القضية عندهم، واستقرارها في أنفسهم، فينسبون من خالفها إلى الجنون، حتى يروا ذلك في كتبهم أو يسمعوه من أحدهم.

ولهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة، ولا يلتفت إلى ما اعتقده من المعارض لها؛ فالنفاة لعلو الله إذا حزبَ أحدهم شدة وَجَّهَ قلبه إلى العلو يدعو الله.

ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم، وهو يطلب مني حاجة، وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له، وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره، فرفع طرفه ورأسه إلى السماء وقال: يا الله.

فقلت له: أنت محقق! لمن ترفع طرفك ورأسك؟! وهل فوق عندك أحد؟!

فقال: استغفر الله. ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بينت له فساد هذا القول، فتاب من ذلك ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم»

(1)

.

‌المطلب الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية في المناظرة:

•‌

‌ تمهيد:

استطاع شيخ الإسلام رحمه الله أن يستدرج خصمه ويرجعه إلى أصل فطرته التي تناقض اعتقاده ومذهبه، ويثبت له من نفسه صحة دلالة الفطرة على علو ربه سبحانه وتعالى،

(1)

درء التعارض (6/ 343).

ص: 650

هذا الأمر الذي أنكر الجهمية ومتأخرو الأشاعرة وعلى رأسهم الفخر الرازي أن تكون الفطرة دالة عليه، منتصرين لقولهم بظنون وأوهام زعموا أنها براهين وحقائق، ومناقشة الشبهة التي ذكروها في إنكار دلالة الفطرة على علو الباري -جل شأنه- على مخلوقاته، ستكون من وجهين:

‌الوجه الأول: بيان شبهتهم في إنكار دلالة الفطرة على مسألة العلو:

ساق شيخ الإسلام هذه المناظرة في كتابه العظيم درء التعارض في معرض رده على الرازي في إنكاره كون علو الخالق -جل شأنه- أمراً مستقراً في الفطر ومعلوماً بالاضطرار، وقد اعترض الرازي على ما يستدل به جمهور الناس على علو الله تعالى من الضرورة الفطرية، التي تقضي بأن كل موجودين: إما ان يكون أحدهما سارياً في الآخر، أو مبايناً له، والله منزه عن الأول، فيثبت له العلو على خلقه مع مباينته لهم -جل وعلا-.

وتتلخص الوجوه التي انتقد بها الرازي دلالة الفطرة في وجهين اثنين:

الأول: أن هذا الأمر لو كان بديهياً لامتنع إطباق الجمع العظيم على إنكاره، وهم من سوى الحنابلة والكرامية، إذ العلوم البديهية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها للجمع العظيم.

الثاني: عدم التسليم بأن كل موجودين: إما ان يكون أحدهما سارياً في الآخر، أو مبايناً له؛ وذلك أن العقل لا يمنع وجود قسم ثالث: وهو أن يكون هناك موجودان، لا يكون أحدهما سارياً في الآخر، ولا يكون مبايناً له.

وضرب الرازي على ذلك بعض الأمثلة من القضايا الذهنية والكليات المطلقة: كمسمى الإنسان، وكالأعداد، والنفي والإثبات، وغيرها من الأمور التي يمكن أن يتصورها العقل بغير جهة ولا حيز ولا مكان ولا سريان ولا مباينة ولا صورة ولا شكل

(1)

.

(1)

انظر: الأربعين في أصول الدين للرازي (1/ 152 - 156) ودرء التعارض (6/ 340 - 344).

ص: 651

‌الوجه الثاني: الجواب على هذه الشبهة:

إن الأمور المستقرة في الفطر، والمغروسة في النفوس، لهي أوضح وأظهر من أن تحتاج إلى دليل أو برهان أو حجة أو بيان، وما هي إلا كما قال الشاعر:

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

(1)

ولكن البدعة إذا استحكمت في قلب امرئ ما، وتوغلت في أحشائه، جعلتهُ عبداً لها، وأسرتهُ في هواها، وطمست على بصيرته؛ حتى لا يرى حقاً سواها، فتراه يرد الآيات الواضحات والسنن الثابتات، وما حكى الأئمة من نقول وإجماعات، نصرة لبدعته وهواه، بل إن الحال يصل به إلى إنكار الضروريات ومصارعة الفطرة التي خُلق بها، وجبل عليها، ومكابرتها وجحدها، لا لشيء إلا انتصاراً لهواه وبدعته، أو تقليداً لشيخه، أو تعصباً لمذهبه ونحلته.

وما منكرو علو الباري -جلا وعلا- إلا صنف من هذه الأصناف، التي حاربت فطرتها نصرة لمذهبها، ولولا وجود من ينكر علو الباري سبحانه وتعالى، وتلبيسهم على الناس بأنواع الشبه لتقرير باطلهم ونصرة مذهبهم، وجحدهم لدليل الفطرة وقدحهم في دلالتها على علو ربهم وخالقهم، لما نازع في ذلك أحد، ولما احتيج مع ذلك لكتاب أو رد، ولكن لما قام سوقهم وانتشرت بدعتهم قام الأئمة الأعلام بالرد عليهم وفضحهم، وبيان مخالفتهم للنصوص والعقول والفطر، وقد كان شيخ الإسلام من أعظم من قام بهذا الأمر حق قيام، فسطر الرسائل والمجلدات، في إبطال هذه السفسطات، التي عارض بها القوم الفطر والضروريات.

وقد أطال شيخ الإسلام وأسهب في بيان ضعف هذا المذهب، ولا يمكن حصر جميع ما ذكره الشيخ رحمه الله في مثل هذا الموضع، ولكن يكفي من ذلك بيان أهم الأدلة التي أوردها والطرق التي سلكها في الرد عليهم وإبطال شبهتهم، ويمكن إجمال طرق رده عليهم في ثلاث مسالك:

(1)

البيت لأبي الطيب المتنبي. ديوان المتنبي (ص:343).

ص: 652

‌المسلك الأول: تقرير دلالة الفطرة على علو الله سبحانه وتعالى:

قرر شيخ الإسلام رحمه الله دلالة الفطرة على علو الله عز وجل من وجوه كثيرة كلها تدل على أن العلم بعلوه جل وعلا أمر بديهي فطري مستقر في النفوس والأفئدة، ويمكن إجمال الوجوه الدالة على ذلك بما يلي:

1) أن الخلق كلهم إذا حزبهم أمر، ووقعت بهم شدة، توجهت قلوبهم لانتظار نزول الفرج من السماء، وذلك لما استقر في أفئدتهم من أن خالقهم -جلا وعلا- فوق خلقه عال على عرشه، منه تتنزل الرحمات، ومن عنده تكشف الكربات، وهذا أمر محسوس معلوم لا ينكره أحد حتى النفاة، فإنهم يجدون ذلك من ضرورة أنفسهم. قال شيخ الإسلام:«وعامة هؤلاء إذا أصابت أحداً منهم ضرورة تلجئه إلى دعاء الله وجد في قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ففطرته وضرورته تقر بالعلو، وينكر وجود موجود لا محايث ولا مباين، وعقيدته التي اعتقدها تقليداً أو عادةً أو شبهةً تناقض فطرته وضرورته»

(1)

.

قال ابن عبد البر-رحمه الله: «ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم»

(2)

.

ومما يوضح ذلك ويبينه تلك القصة التي حكاها شيخ الإسلام في كتبه غير ما مرة

(3)

عن أبي جعفر بن أبي علي الحافظ

(4)

قال:

(1)

درء تعارض العقل والنقل (6/ 272)

(2)

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 134)

(3)

انظر: الاستقامة (1/ 167) وبيان تلبيس الجهمية (1/ 52) ومجموع الفتاوى (3/ 220)(4/ 44) ومنهاج السنة (2/ 642 - 643).

(4)

أبو جعفر الهمذاني محمد بن أبي علي الحسن بن محمد الحافظ الصدوق، شيخ، صالح، ثقة مأمون، معمر قال ابن السمعاني: ما أعرف أن في عصره أحداً سمع أكثر منه، (ت:531 هـ). انظر: تاريخ الإسلام (11/ 554) وشذرات الذهب (4/ 97).

ص: 653

سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه:5]؟

فقال: كان الله ولا عرش -وجعل يتخبط في الكلام-.

فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟!

فقال: ما تريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة؟

فقلت: ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة، فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت؟! وبكيت وبكى الخلق.

فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة! وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل، ولم يجبني إلا: يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة!

فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني الهمداني

(1)

.

2) أن ما تجده النفوس من علو ربها جل جلاله أمر متفق عليه بين أمم الأرض باختلاف أجناسها وأعمارها وأديانها، من مسلمين ويهود ونصارى ومشركين، وعجائز وصبيان، وعربٍ وعجم

(2)

.

3) أن العلم بعلو الله مما جبل وفطر عليه الناس، واشترك في العلم به الجاهل والعالم، وهو مستقر عند العامي الذي لا يقرأ ولا يكتب كما هو مستقر عند العالم القارئ الكاتب

(3)

.

(1)

العلو للعلي الغفار (ص:259) قال الشيخ الألباني رحمه الله: وإسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ. مختصر العلو (ص:277).

(2)

انظر درء تعارض العقل والنقل (6/ 12)

(3)

انظر: المصدر السابق (6/ 12)

ص: 654

4) أن دعوى الضرورة لا يمكن إبطالها إلا بتكذيب المدعي أو بيان خطئه، والمدعون لذلك أمم كثيرة منتشرة يُعلم بالضرورة استحالة تواطئهم على الكذب، فالقدح في ذلك كالقدح في سائر الأخبار المتواترة، فلا يجوز أن يقال: إنهم كذبوا فيما أخبروا به عن أنفسهم من العلم الضروري

(1)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وكما يمتنع اتفاق الطوائف الكثيرة التي لم تتواطأ على دعوى الكذب في مثل ذلك، يمتنع اتفاقهم على الخطأ في مثل ذلك، ولو جاز الخطأ في مثل ذلك، لم يكن الجزم بما يخبر به الناس عما عرفوه بالحس، أو الضرورة لإمكان غلطهم في ذلك، فإن غلط الحس الظاهر أو الباطن أو العقل يقع لآحاد الناس، ولطائفة حصل بينها مواطأة، وتلقي بعضها عن بعض، كالمذاهب الموروثة، وكقول التابعين، لكون هذا معلوماً بالضرورة؛ فإنهم أهل مذهب تلقاه بعضهم عن بعض.

وأما الجازمون بالضرورة في أن الله فوق العالم، أو أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، ولا يعقل موجودان ليس أحدهما محايثاً للآخر ولا مبايناً له، وأن مثل هذا ممتنع بالضرورة التي يجدونها في أنفسهم، كسائر العلوم الضرورية، فهؤلاء أمم كثيرة لم يتواطأوا ولم يتفقوا على مذهب معين»

(2)

.

5) أن الداعي إذا أراد أن يدعو ربه، فإنما يرفع يديه إلى السماء، وهذا أمر يفعله جميع أرباب النحل، فدل على أن من المتقرر في فطر وعقول جميع الخلق أن إلههم فوق و"هذا الرفع يُستدل به من وجوه:

أحدها: أن العبد الباقي على فطرته يجد في قلبه أمراً ضرورياً إذا دعا الله دعاء المضطر أنه يقصد بقلبه الله الذي هو عالٍ وهو فوق.

الثاني: أنه يجد حركة عينيه، ويديه بالإشارة إلى فوق، تتبع إشارة قلبه إلى

(1)

انظر: المصدر السابق (6/ 341)

(2)

درء تعارض العقل والنقل (6/ 341 - 342).

ص: 655

فوق، وهو يجد ذلك أيضاً ضرورة.

الثالث: أن الأمم المختلفة متفقة على ذلك من غير مواطأة.

الرابع: أنهم يقولون بألسنتهم إنا نرفع أيدينا إلى الله ويخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون في قلوبهم اضطرارً إلى قصد العلو، فالحجة تارة بما يجده الإنسان من العلم الضروري في نفسه، وتارة بما يخبر به الناس عن أنفسهم من العلم الضروري، وتارة بما يدل على العلم الضروري في حق الناس، وتارة بأن الناس لا يتفقون على ضلالة؛ فإنه إذا كان إجماع المسلمين وحدهم لا يكون إلا حقاً، فإجماع جميع الخلق الذين منهم المسلمون أولى أن لا يكون إلا حقاً"

(1)

.

‌المسلك الثاني: الأجوبة الإجمالية على حجج القوم واعتراضاتهم على دليل الفطرة:

1) بين شيخ الإسلام أن النفاة لا يستطيعون إنكار علو الله عز وجل، وإثبات ما ادعوه مما يناقض صريح الفطرة: من كون الله عز وجل لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا سارياً فيه ولا مبايناً له، لا يمكنهم تقرير قولهم هذا حتى يثبتوا مقدمات ثلاث:

أولها: أن يثبتوا أن قولهم هذا غير معارض للفطرة والعلوم البديهية وغير ممتنع فيها.

ثانيها: أن يبينوا ثبوت قولهم هذا -الذي قرروا إمكانه- في الخارج؛ فإن العلم بإمكانه لا يقتضي ثبوته ووجوده.

ثالثها: إذا ثبت وجوده فيجب عليهم أن يثبتوا معارضته لما جاءت به النصوص من علو الله سبحانه وترجيحه عليها.

وبغير إثبات هذه المقدمات الثلاث لا يمكنهم أن يثبتوا قولهم ويُسلم لهم به،

(1)

بيان تلبيس الجهمية (4/ 521).

ص: 656

بل لا بد أن يثبتوا عدم امتناعه فطرة، ثم إذا ثبت عدم امتناعه فلا بد أن يثبتوا وجوده أيضاً، ثم إن ثبت الأمران فبقي لهم أن يثبتوا معارضته لما جاءت به النصوص من علو الله سبحانه.

فإن ثبت امتناعه بالفطرة فهذا كاف في بيان فساده، ثم إن ثبت عدم إمكان وجوده وثبوته فلا فائدة منه حينئذ، ثم لو فرض عدم امتناعه ووجوده في الخارج، فإنه مع ذلك لا يتعارض مع كون الله عز وجل في العلو، فحينئذ لا يكون هناك تعارض بين النصوص الشرعية وما ذكروه من أمور عقلية.

وإذا ثبت فساد مقدمة من هذه المقدمات فقد فسد قولهم، فكيف إذا ثبت فسادها جميعها وهو الواقع؟!

فتبين أن قولهم في غاية البعد وغاية الفساد، وأن بينهم وبين تقريره خرط القتاد!

(1)

2) أن الحجج التي اعترض بها الرازي وأشباهه من نفاة العلو، ما هي إلا حجج نظرية عقلية والإقرار بعلو الخالق -جل وعلا- ضروري بديهي فطري، والضروريات لا يمكن القدح فيها بالنظريات، وكل نظرية تعارض أمراً بديهياً، فإنما هي سفسطة لا غير

(2)

، وأيضاً فإن القدح في البديهيات قدح في النظريات؛ لأن النظريات لا تصح إلا بصحة البديهيات، فيلزم من فساد البديهيات فساد النظريات من باب أولى

(3)

.

3) أن ما عارضوا به دليل الفطرة ما هو في الحقيقية إلا من باب الوهم والخيال الباطل؛ فإن من اعتقد أن الكليات الذهنية الثابتة في العقل موجودة في الخارج، فقد توهم وتخيل ما لا حقيقة له في الواقع، ثم عارض الحقائق البديهية الفطرية بهذا الخيال المتوهم، فكيف تكون القضايا التخيلية الوهمية قادحةً في القضايا

(1)

انظر: درء التعارض (6/ 11 - 12).

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (6/ 14، 18).

(3)

انظر: المصدر السابق (6/ 122).

ص: 657

البديهية والعلوم الفطرية الضرورية؟!

(1)

.

4) أنه قد عُلم بالضرورة أن ما يخلو من وصفين متقابلين -يمتنع خلو الموجود عن أحدهما-، فإنما هو في الحقيقة ممتنع معدوم، فوصف الله سبحانه بأنه غير مباين للعالم ولا محايث له ولا داخله ولا خارجه، إنما هو من صفة المعدوم والممتنع الذي لا وجود له ولا حقيقة

(2)

.

5) أن الفطر قد جبلت على تعظيم الله ووصفه بصفات الكمال والجلال، وقولهم هذا ليس فيه أي إثبات أو تعظيم أو كمال، وهذا -ولا شك- منافٍ لما جبلت عليه الفطر من تعظيم الخالق -جل وعلا-، بل إنه في الحقيقة من تشبيهه عز وجل بالمعدومات والممتنعات، وفي ذلك من عظيم التنقص ما فيه

(3)

.

6) أن من لازم قولهم في تجويز إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا محايث له، تجويز قول الحلولية والاتحادية الذين يقولون بأن الله في كل مكان بلا حلول ولا مماسة ولا مباينة، وليس مع ذلك كالجسم مع الجسم ولا كالعرض مع العرض، فليس تناقض هؤلاء ببعيد عن تناقض أولئك، ولذلك قال شيخ الإسلام:«لا تكاد تجد أحداً من نفاة المباينة والمداخلة جميعاً، أو من الواقفة في المباينة يمكنه مناقضه الحلولية والاتحادية مناقضة يبطل بها قولهم، بل أي حجة احتج بها عليهم عارضوه بمثلها، وكانت حجتهم أقوى من حجته»

(4)

.

بل إن قول النفاة أشد بطلاناً وأبعد عن العقل السليم والفطرة المستقيمة من قول الحلولية؛ لأن الوصف بما هو أقرب للموجودات أولى من الوصف بالممتنعات والمعدومات

(5)

.

(1)

انظر: المصدر السابق (6/ 18).

(2)

انظر: المصدر السابق (6/ 133، 134).

(3)

انظر المصدر السابق (6/ 178)

(4)

درء التعارض (6/ 159) وانظر: المصدر نفسه (6/ 144، 145، 156، 176)

(5)

انظر المصدر السابق (6/ 176).

ص: 658

‌المسلك الثالث: الأجوبة التفصيلية عن أهم شبههم:

كان أهم ما اعترض به الرازي على دلالة الفطرة على العلو: شبهتان اثنتان سبق ذكرهما، وقد تبين فيما سبق الرد الإجمالي عليهما، ونذكر هنا أهم الردود التفصيلية التي رد بها شيخ الإسلام على هاتين الشبهتين الفاسدتين:

الجواب على الشبهة الأولى: وهي احتجاجهم بأن الجمع العظيم قد اتفقوا على إنكار العلو فكيف يكون مع هذا أمرا بديهياً، وإنما هو قول الكرامية والحنابلة فحسب:

1) أن هذا الكلام باطل وعكسه هو الصحيح، فجماهير الخلائق يخالفون هؤلاء، ولم يعرف هذا القول إلا عن الجهمية كالمعتزلة ومتأخري الأشاعرة ونحوهم، ومن وافقهم من بعض الفلاسفة، وأما المنقول عن أكثر الفلاسفة فهو قول أهل الإثبات كما نقله ابن رشد الحفيد

(1)

عنهم، وهو من أعظم الناس معرفة بأقوالهم وانتصارا لهم

(2)

.

2) إن من أعظم ما يبطل هذا الكلام أن متقدمي أهل الكلام وأئمتهم الذين تلقى نفاة العلو مذهبهم عنهم، هم أنفسهم على نقيض أقوال النفاة، فيصرحون بعلو الله على خلقه، بل ويحكون الإجماع على ذلك، ويردون مقالة نفاة العلو كما فعل ذلك أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبو الحسن الأشعري وأئمة أصحابه، وقد نقل أقوالهم كلها شيخ الإسلام في معرض رده على الرازي في كتابه العظيم "درء تعارض العقل والنقل" بل حتى الفلاسفة الذين بنى أهل الكلام

(1)

هو محمد بن أحمد بن محمد القرطبي، ابن رشد الحفيد، فيلسوف الوقت، كان متقدِّمًا في علوم الفلسفة والطبِّ، وله باع في الفقه، وأغرق في الفلسفة فضاع، مما قيل عنه: إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، له مصنفات منها: كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وكتاب الكليات في الطب، (ت:595 هـ). انظر: السير (21/ 307)، الديباج المذهب (2/ 259).

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (6/ 266، 113).

ص: 659

مذهبهم على أقوالهم، قد صرح غير واحد منهم بنقض قول النفاة، ومن ذلك ما نقله شيخ الإسلام عن ابن رشد الحفيد حين قال وهو يتحدث عن إثبات العلو:«وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله. وظواهر الشرع تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ومثل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:255]، ومثل قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، ومثل قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، ومثل قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [المُلك:16]، إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سُلِّط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً، وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات، عاد الشرع كله متشابهاً؛ لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من في السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى»

(1)

.

فكيف يقال بعد ذلك أن المخالف في ذلك إنما هم الكرامية والحنابلة وحسب، وهذا كلام بعض رؤوس أهل الكلام والفلسفة في هذا الباب.

وأما كلام أئمة السلف الذين كانوا قبل أن يوجد الحنابلة والكرامية فأكثر من أن يحصر وأكبر من أن يسطر، وقد ذكر شيخ الإسلام نقولاً كثيرة عنهم في تقرير العلو والرد على نفاته يطول سردها، وذكرها في هذا الموضع فليراجعها من يشاء، "فإذا كان سلف الأئمة وأئمتها وأفضل قرونها متفقين على قول أهل الإثبات، فكيف يقال: ليس هذا إلا قول الكرامية والحنبلية؟ "

(2)

.

3) أنه لم يطبق على نفي العلو عن الله عز وجل إلا طوائف أخذ بعضهم عن بعض

(1)

درء تعارض العقل والنقل (6/ 214)، وانظر: مناهج الأدلة (ص: 145).

(2)

درء تعارض العقل والنقل (6/ 266).

ص: 660

كما أخذ النصارى دينهم بعضهم عن بعض وكذلك اليهود والرافضة وغيرهم، وجميع أهل المذاهب الموروثة لا يمتنع إطباقهم على جحد العلوم البديهية؛ فإنه ما من طائفة من طوائف الضلال إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية، "ولولا النشأ على هذه الأقاويل، وعلى التعظيم للقائلين بها، لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع، ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة"

(1)

.

‌الجواب على الشبهة الثانية: وهي استدلالهم بالقضايا الذهنية والكليات المطلقة:

1) أن هذه القضايا لا توجد في الخارج وإنما هي في الذهن، فليس كل ما في الأذهان موجود في الأعيان، وهذه الكليات المطلقة توجد مطلقة في الأذهان فقط، أما في الأعيان فلا توجد إلا مقيدة، فإمكان الشيء في الذهن لا يدل على إمكانه في الخارج، وكثير من شبه القوم إنما بنيت على هذا الأساس، وما ذكروه هو من هذه الكليات الذي لا يوجد أي دليل يثبت وجودها في الخارج

(2)

.

2) أنه لم يقل أحد بثبوت مثل هذه الكليات في الخارج إلا ما ذكر عن بعض أهل المنطق اليوناني، وهم أيضاً متناقضون في ذلك تناقضاً كثيراً، "وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل مثل هذه القضية مقدمة في إبطال قضية اعترف بها جماهير الأمم، واعترفوا بأنها مركوزة في فطرهم، مغروزة في أنفسهم، وأنهم مضطرون إليها، لا يمكنهم دفعها عن أنفسهم"

(3)

.

3) أن مجرد تقدير الذهن للأقسام لا يدل على إمكانها في الخارج، فالذهن يقدر كون الشيء: "إما موجود وإما معدوم، وإما لا موجود ولا ومعدوم، وأن الموجود: إما أن يكون واجباً، وإما أن يكون ممكناً، وإما أن يكون لا واجباً

(1)

المصدر السابق (6/ 234)، وانظر: مناهج الأدلة (ص: 79).

(2)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (6/ 37).

(3)

المصدر السابق (6/ 276).

ص: 661

ولا ممكناً، وأنه: إما قديم وإما محدث، وإما قائم بنفسه أو بغيره، أو لا قائم بنفسه ولا بغيره، وأمثال ذلك من التقديرات، ثم لم يكن هذا دليلاً على إمكان كل هذه الأقسام في الخارج"

(1)

.

4) مجرد الإمكان الذهني -وهو عدم العلم بالامتناع - لا يدل على الإمكان الخارجي ولا العلم به، وإنما غايته أن يقول: إني لا أعرف إمكانه ولا امتناعه.

والمدعي يقول: أنا أعلم امتناعه بالضرورة، وقد ذكرنا أنهم طوائف متفرقون اتفقوا على ذلك من غير مواطأة، وذلك يقتضي أنهم صادقون فيما يخبرون به عن فطرهم. ومعلوم أن العلوم الضرورية لا يقدح فيها نفي النافي لها، فكيف يقدح فيها شك الشاك فيه

(2)

.

5) أن ظن ثبوت مثل هذه الكليات في الخارج إنما هو في الحقيقة من باب الوهم والخيال، كما قد سبق بيانه.

6) أن المتكلمين أنفسهم يرد بعضهم على بعض في هذا الموضع، ويقدح بعضهم في مقدمة الآخر، ولا شك أن المقدمات المتنازع فيها لا ترتقي لمعارضة الضروريات فضلاً أن تكون منها

(3)

.

7) أن القضايا العقلية الكلية يختلف تصورها عن تصور المعينات الداخلة فيها، فلا يكفي تصور القضية الكلية الذهنية في تصور المعين الداخل فيها الموجود في خارج الذهن، فتصورنا للقضية الكلية وهي أن كل موجود: فإما أن يكون قديماً أو حادثاً، يختلف عن حكمنا على معين بأنه قديم أو محدث، فإنه لا بد حينئذ أن نعينه بما يخصه عن غيره من الأمور التي تشاركه وتدخل معه في القضية الكلية، فتصور المعين شيء، وتصور القضية الكلية شيء آخر، فمن أثبت موجودين أحدهما غير مباين للآخر ولا سارياً فيه؛ فإنه إنما أثبت قضية كلية مطلقة

(1)

المصدر السابق (6/ 283).

(2)

درء تعارض العقل والنقل (6/ 284).

(3)

انظر: المصدر السابق (6/ 37، 191).

ص: 662

في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج، وهذا هو مذهب الجهمية الذين يثبتون موجوداً مطلقاً يمتنع وجوده في الخارج

(1)

.

ويتلخص لنا من هذا كله، وضوح وظهور دلالة الفطرة على علو الله عز وجل على خلقه، وفساد ما احتج به الرازي ونازع فيه في إبطال دليل الفطرة، وأن إنكار دلالة الفطرة على العلو ما هو إلا مكابرة ظاهرة معلومة الفساد بالضرورة، والله أعلم.

(1)

انظر: المصدر السابق (6/ 95).

ص: 663

الفصل الخامس:

مناظرته مع بعض الجبرية الإباحية المحتجين بالقدر.

واشتمل على مبحثين:

المبحث الأول: عرض المناظرة.

المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

ص: 665

‌المبحث الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

إن من أهم المسائل والأسباب التي أَوْدَتْ بأصحابها إلى القول بالجبر، خطأهم في مفهوم المحبة والإرادة، وعدم التفريق بين ما قدره الله وقضاه وبين ما شرعه وأحبه، وقد حكى الإمام ابن القيم رحمه الله في غير موضع من كتبه مناظرةً وقعت لشيخ الإسلام رحمه الله مع رجل ممن حصل لهم اللبس في مفهوم المحبة وقال بقول الجبرية

(1)

في قضاء الله وقدره، ومحبة عباده له، وقد جعلت رواية ابن القيم لهذه المناظرة في كتابه (مدارج السالكين)، هي الأصل، وأضفت لها الزيادات التي رواها في مواضع أخرى من كتبه، وجعلتها بين معكوفتين، وأحلتها إلى مواضعها من كتبه.

‌نص المناظرة:

قال ابن القيم رحمه الله: «[وأخبرني شيخ الإسلام -قدس الله روحه- أنه لام بعض هذه الطائفة على محبة ما يبغضه الله ورسوله.

(1)

الجبرية: هي طائفة نفت فعل العبد وقدرته واختياره، وزعمت أن حركته كحركة الأشجار عند هبوب الرياح وكحركة الأمواج، وأنه مجبور على الطاعة والمعصية وغير ميسر لما خلق له، بل هو عليه مقسور مجبور، وسموا بذلك؛ لأنهم يقولون: إن العبد مجبور على أفعاله. انظر: الملل والنحل (1/ 87)، مقالات الإسلاميين (1/ 338)، شفاء العليل (ص:3).

ص: 667

فقال له الملوم]

(1)

: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب

(2)

. وجميع ما في الكون مراده، فأي شيء أبغض منه؟

قال الشيخ: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض أفعالاً وأقوالاً وأقواماً [ومقتهم]

(3)

[وذمهم]

(4)

، وعاداهم فطردهم ولعنهم، فأحببتهم [وواليتهم]

(5)

، [وأحببت أفعالهم ورضيتها]

(6)

: تكون موالياً للمحبوب [موافقاً له، أو مخالفاً له]

(7)

معادياً له؟

قال: فكأنما ألقم حجراً. وافتضح بين أصحابه. وكان مقدماً فيهم مشاراً إليه»

(8)

.

(1)

شفاء العليل (ص:4).

(2)

هذا التعريف ذكره القشيري في الرسالة (2/ 490)، انظر: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (2/ 1181).

(3)

طريق الهجرتين (ص:303).

(4)

شفاء العليل (ص:4).

(5)

طريق الهجرتين (ص:303).

(6)

شفاء العليل (ص:4).

(7)

طريق الهجرتين (ص:303).

(8)

مدارج السالكين (3/ 16)، وانظر: طريق الهجرتين (ص 303)، شفاء العليل (ص: 4).

ص: 668

‌المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة:

أفحم شيخ الإسلام رحمه الله هذا الشيخ المقدم في جماعته، فلم يكن بإمكانه أن يقول في إجابته على سؤال شيخ الإسلام: إن من كانت هذه حاله يكون موالياً للمحبوب موافقاً له؛ لأن هذا ظاهر الفساد والكذب والبطلان، فكيف يكون موالياً له موافقاً له، وهو يحب ما يبغضه ويوالي من يعاديه؟! بل إن من كانت هذه حاله مع محبوبه فهو في الحقيقة عدو له مخالف له، ولذلك فقد لزم هذا الشيخ الصمت وبهت ولم يحر جواباً، وكأنما ألقم حجرا كما ذكر ابن القيم رحمه الله.

ودراسة شبهة هذا الشيخ ستكون من وجهين:

‌الوجه الأولى: بيان أصل الشبهة:

أصل شبهة هؤلاء الجبرية الإباحية: هي ظنهم أن كل ما قضاه الله وقدره وأراده فقد أحبه ورضيه، وكل ما في الكون فقد أراده الله؛ إذ لولا ذلك لم يكن، وبالتالي فيجب حب كل ما في الكون؛ لأن كل ما في الكون قد أراده الله وأحبه.

فشبهة هذا الرجل بنيت على أمرين:

الأمر الأول: أن كل ما أراده الله فقد أحبه.

الأمر الثاني: أن المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب.

فمن أحب الله فيجب عليه أن يحب كل ما أراده الله وأحبه، والله قد أراد كل

ص: 669

شيء وأحبه.

قال شيخ الإسلام: «وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب. وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء، حتى الكفر والفسوق والعصيان»

(1)

وقال رحمه الله: «وأصل ضلالهم: أن هذا القائل الذي قال: إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب، قصد بمراد الله تعالى: الإرادة الكونية في كل الموجودات»

(2)

، وقال أيضاً:«فشهدوا أن الله رب الكائنات جميعها، وعلموا أنه قدر كل شيء وشاءه، وظنوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره الله ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى قال بعضهم: (المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب) قالوا: والكون كله مراد المحبوب، وضل هؤلاء ضلالا عظيماً؛ حيث لم يفرقوا بين الإرادة الدينية والكونية، والإذن الديني والكوني، والأمر الديني والكوني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني»

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: «وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحد؛ فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبه»

(4)

.

فهذا هو أصل ضلالهم ومبنى شبهتهم ومقالهم

(5)

.

‌الوجه الثاني: الجواب عن الشبهة:

نقض شيخ الإسلام هذه الشبهة وبين بطلانها من وجوه عدة، منها ما يلي:

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 210).

(2)

العبودية (ص: 116).

(3)

الاستقامة (2/ 78 - 79).

(4)

شفاء العليل (ص:4).

(5)

انظر للاستزادة: الاستقامة (1/ 424)(2/ 78)، العبودية (ص: 116)، الفتاوى الكبرى (2/ 395)، (5/ 200)، مجموع الفتاوى (10/ 210، 211، 684)، (22/ 125).

ص: 670

الأول: أن القول بأن كل ما أراده الله فقد أحبه قول باطل؛ وذلك لأن الإرادة جاءت في النصوص الشرعية على معنيين:

النوع الأول: إرادة كونية قدرية: وهي بمعنى المشيئة لا يخرج عنها شيء فكل ما يقع من خير أو شر من طاعة أو معصية فهو داخل فيها، وهذا النوع من الإرادة لا يستلزم محبة الله ورضاه، فقد تكون لما يحب ويرضى كالطاعات الواقعة من عباد الله الصالحين، وقد تكون لما لا يحب ولا يرضى، بل يسخط ويكره كالمعاصي والكفر، ومن هذا النوع قوله جل وعلا:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107].

النوع الثاني: إرادة دينية شرعية: وهي المتعلقة بألوهيته وشرعه، وهي مستلزمة لأمره، ومتعلقة بما يحبه ويرضاه. ومنها قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27].

فما أراده الله إرادة كونية، فإنه لا بد من وقوعه وقد يكون مما يحبه الله ويرضاه، وقد لا يكون كذلك كالكفر والفسوق والعصيان، وما أراده إرادة شرعية فهو مستلزم لمحبته ورضاه وقد يقع وقد لا يقع، والأمر مستلزم للإرادة الدينية الشرعية، دون الإرادة الكونية، فالله لا يأمر إلا بما يحب ويرضى

(1)

.

قال شيخ الإسلام: «ينبغي أن يعرف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين:

أحدهما: الإرادة الكونية وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة في مثل قوله:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (8/ 58 - 61)، درء تعارض العقل والنقل (8/ 476، 741)، منهاج السنة (3/ 180).

ص: 671

وقوله: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، وقال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] وقال تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39] وأمثال ذلك

وأما النوع الثاني: فهو الإرادة الدينية الشرعية، وهي محبة المراد ورضاه، ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسنى، كما قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقوله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27 - 28]، فهذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد، إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة، ولهذا كانت الأقسام أربعة:

أحدها: ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع؛ فأمر به وأحبه ورضيه وأراده إرادة كون فوقع؛ ولولا ذلك لما كان.

والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط. وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة فعصى ذلك الأمر الكفار والفجار فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها، لو وقعت ولو لم تقع.

والثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها: كالمباحات والمعاصي؛ فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها، إذ هو لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

والرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا ما لم يكن من أنواع

ص: 672

المباحات والمعاصي»

(1)

.

وبهذا يتضح الخطأ الذي وقع فيه الجبرية كهذا الشيخ وأمثاله، حيث ظنوا أن كل ما أراده الله فقد أحبه ورضيه، ولم يفرقوا بين الإرادة الكونية التي لا تستلزم المحبة والرضا، وبين الإرادة الشرعية المستلزمة لذلك.

ثانياً: أنه ينبغي التفريق بين قضاء الله تعالى الذي هو فعله، وبين المقضي وهو أثر فعله سبحانه، فالقضاء غير المقضي؛ إذ القضاء فعل الله تعالى ومشيئته، وما قام به، واتصف به، فعلى هذا قضاؤه كله حق.

أما المقضي: فهو أثر القضاء، وهو مفعول منفصل مباين له، مشتمل على الخير والشر، فالمقضي فيه حق، وفيه باطل، فما كان حقاً: رضينا به، وما كان باطلاً: لا نرضى به، فنحن مأمورون بكره المقضي، إذا كان باطلاً وكفراً وفساداً، فرضا العبد يدور مع الشرع، أي مع الأمر والنهي، لا مع المشيئة والقدر الكوني

(2)

.

ثالثاً: أن ذلك يفتح باب الاستهانة بالذنوب، والإباحية المطلقة؛ وهذا ما آل إليه كثير من الجبرية؛ فمنهم من "يتدين بحب الصور الجميلة من النساء الأجانب والمردان وغير ذلك ويرى هذا من الجمال الذي يحبه الله فيحبه هو ويلبس المحبة الطبيعية المحرمة بالمحبة الدينية ويجعل ما حرمه الله مما يقرب إليه {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28] "

(3)

.

وبهذه الشبهة أيضاً أسقطوا الأمر والنهي، وأبطلوا الوعد والوعيد قال شيخ الإسلام: «وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين المحظور والمأمور،

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 187 - 189).

(2)

انظر: منهاج السنة (3/ 205)، مدارج السالكين (1/ 256)، شرح العقيدة الطحاوية (ص 258).

(3)

الاستقامة (1/ 425).

ص: 673

وأولياء الله وأعداء الله والأنبياء والمتقين، ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ويجعلون المتقين كالفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويعطلون الأمر والنهي والوعد والوعيد والشرائع»

(1)

.

ومنهم من يتخذ من هذه المقالة ذريعة للوصول إلى مآربه وشهواته، قال شيخ الإسلام:«لكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم، ثم زادهم انغماساً في أهوائهم وشهواتهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المال والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة الله، ومن محبة الله بغض ما يبغضه الله ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال»

(2)

.

وأخبر شيخ الإسلام أن أقل ما يصيب هؤلاء "أنهم يتركون الغيرة لله، والنهي عن المنكر، والبغض في الله، والجهاد في سبيله، وإقامة حدوده"

(3)

.

وقد حكى جمع من العلماء ما وصل له حال هؤلاء القوم، ومن ذلك ما ذكره مرعي الكرمي

(4)

رحمه الله حيث قال: «فقد وقعت مذاكرة في بعض مسائل القدر في بعض المجالس فذكر لي أن بعض دراويش

(5)

متصوفة الفقراء الذين وقعوا في الإباحة والآثام، وطووا بساط الشرع، ورفعوا قواعد الأحكام، وسووا بعقولهم بين الحلال والحرام: كان لا يصوم ولا يصلي منهمكاً على المحرمات كالخمور

(1)

المصدر السابق (2/ 78).

(2)

العبودية (ص: 116).

(3)

الاستقامة (1/ 424).

(4)

هو مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد الكرمي المقدسي الحنبلي، مؤرخ أديب، من كبار الفقهاء، وله مصنفات منها: غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى، وقلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن وغيرها، (ت:1033 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (7/ 203)، معجم المؤلفين (12/ 218).

(5)

الدرويش: مصطلح صوفي يطلق على الفقير الزاهد المتجول المظهر للمسكنة والذل والمشتغل بالموالد ونحوها. انظر: تاج العروس (17/ 202)، المعجم الوسيط (1/ 280)، معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 742).

ص: 674

ونحوها من اللذات، فاعترض عليه في ذلك؟!

فأجاب بما مضمونه: أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن هذا مقدر عليَّ، وأنا لا أقدر على رفع ما قدره الله عليَّ

الخ»

(1)

.

ومن هنا يُدرك كل عاقل خطورة الفساد الذي ينتشر بسبب عقيدة الجبر الفاسدة.

رابعاً: أن من لوازم محبة الله حب ما يحبه عز وجل وبغض ما يبغضه؛ "لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يوالي محبوبه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما نهى عنه"

(2)

، وهذه هي المحبة الحقيقة.

أما من ادعى أنه يحب الله مع محبته لما يبغضه سبحانه، ومحبته لأعدائه عز وجل، فهذه دعوى كاذبه، بل هو للعداوة أقرب منه للمحبة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «والطريق إلى الله إنما هي بأن ترضيه أن تفعل ما يحبه ويرضاه، ليس أن ترضى بكل ما يحدث ويكون؛ فإنه هو لم يأمرك بذلك، ولا رضيه لك ولا أحبه، بل سبحانه يكره ويسخط ويبغض على أعيان أفعال موجودة لا يحصيها إلا هو. وولاية الله موافقته بأن تحب ما يحب، وتبغض ما يبغض، وتكره ما يكره، وتسخط ما يسخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي؛ فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنت عدوه لا وليه، وكان كل ذم نال من رضي

(3)

ما أسخط الله قد نالك، فتدبر هذا، فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من لا يحصيهم إلا الله»

(4)

، وبهذه الحجة أفحم شيخ الإسلام خصمه في هذه المناظرة كما سبق بيانه.

(1)

رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر (ص: 15).

(2)

أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 64).

(3)

في المطبوع من الاستقامة (رضا) وهو خطأ والصواب ما أثبت من مجموع الفتاوى (10/ 712).

(4)

الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 413 - 414).

ص: 675

خامساً: أن دعواهم حب كل موجود والرضا به دعوى باطلة لا يمكن تحققها؛ فإن النفس البشرية قد جبلت وفطرت على محبة ما ينفعها وكره ما يضرها، قال شيخ الإسلام:«ولا يمكن لأحد أن يحب كل موجود، بل يحب ما يلائمه وينفعه ويبغض ما ينافيه ويضره»

(1)

.

وقال رحمه الله: «وهم في ذلك متناقضون؛ إذ لا يتمكنون من الرضا بكل موجود، فإن المنكرات هي أمور مضرة لهم ولغيرهم، ويبقى أحدهم مع طبعة وذوقه وهواه ينكر ما يكره ذوقه دون ما لا يكره ذوقه»

(2)

.

خامساً: أما ما استندوا عليه من تعريف بعض المشايخ للمحبة بأنها (نار في القلب تحرق كل ما سوى مراد المحبوب)، فهذا معنى مجمل يحتمل حقاً وباطلاً، وهم قد فهموه على المعنى الباطل، فحملوا الإرادة هنا على الإرادة الكونية التي تشمل الخير والشر، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن قائل هذه العبارة إنما أراد المعنى الصحيح منها، وهو أنها:"تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب الديني الأمري، الذي يحبه ويرضاه، لا المراد الذي قدره وقضاه، لكن لقلة حظ المتأخرين منهم وغيرهم من العلم: وقعوا فيما وقعوا فيه من الإباحة والحلول والاتحاد، والمعصوم من عصمه الله"

(3)

، وقال شيخ الإسلام رحمه الله:«أما لو قال مؤمن بالله وكتبه ورسله، هذه المقالة، فإنه يقصد الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه، فكأنه قال: تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله. وهذا معنى صحيح؛ فإنّ من تمام الحب لله ألا يحب إلا ما يحبه الله، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة. وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه، فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محباً له، بل محباً لما يبغضه»

(4)

.

(1)

العبودية (ص: 116).

(2)

الاستقامة (1/ 425).

(3)

مدارج السالكين (3/ 16)، وانظر: طريق الهجرتين (ص: 303)، شفاء العليل (ص: 4).

(4)

العبودية (ص: 116 - 117).

ص: 676

سادساً: أن قولهم هذا مخالفٌ للنصوص القطعية التي تفرق بين أهل الإيمان وأهل الكفر والطغيان، وتفرق بين الطاعات وبين المعاصي والمنكرات، قال شيخ الإسلام رحمه الله:«ورأوا أن الله خالق المخلوقات كلها، فهو خالق أفعال العباد، ومريد جميع الكائنات، ولم يميزوا بعد ذلك بين إيمان وكفر، ولا عرفان ولا نكر، ولا حق ولا باطل، ولا مهتد ولا ضال، ولا راشد ولا غوي، ولا نبي ولا متنبئ، ولا ولي لله ولا عدو، ولا مرضي لله ولا مسخوط، ولا محبوب لله ولا ممقوت، ولا بين العدل والظلم، ولا بين البر والعقوق، ولا بين أعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار، ولا بين الأبرار والفجار، حيث شهدوا ما تجتمع فيه الكائنات من القضاء السابق، والمشيئة النافذة، والقدرة الشاملة، والخلق العام؛ فشهدوا المشترك بين المخلوقات، وعموا عن الفارق بينهما، وصاروا ممن يخاطب بقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، وبقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وبقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:21]»

(1)

.

وبهذه الأوجه كلها اتضح فساد وبطلان وتناقض مذهب هؤلاء الجبرية الإباحية الذين ناظرهم شيخ الإسلام، وتبين مخالفة قولهم للنقل والعقل والفطرة التي جبل الله عليها الخلق.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 59 - 60).

ص: 677

الفصل السادس:

مناظرته مع ابن الوكيل الشافعي في نسبته قول المرجئة لأهل السنة والجماعة، ودفاعه عن ذلك.

واشتمل على مبحثين:

المبحث الأول: عرض المناظرة.

المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية الواردة في هذه المناظرة.

ملحق:

مناظرته مع بعض المرجئة في اعتقادهم أن الإيمان شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقص.

ص: 679

‌المبحث الأول: عرض المناظرة:

‌تمهيد:

سبق معنا في المبحث الثالث من الفصل الرابع ذكر مناظرة جرت لشيخ الإسلام مع ابن الوكيل الشافعي في تعلق الصفات، وهل الحب والبغض ونحوها من الصفات وجودية أم عدمية، وكانت تلك المناظرة هي المبحث الثاني من المباحث الثلاثة التي نقلها أحد أصحاب شيخ الإسلام مما جرى بينه وبين ابن المرحل (ابن الوكيل)، وهذه المناظرة التي بين أيدينا هي أول المباحث الثلاثة وأطولها، وعلى أن هذه المناظرة أصلها في الحمد والشكر إلا أن شيخ الإسلام بين فيها جملة من المسائل، وكشف جملة من الحقائق المتعلقة بالأصول والاعتقاد، وهذه المناظرة قد وقعت -كما سبق- في دمشق قبل سنة خمسٍ وتسعين وستمائة من الهجرة.

وهاك نص المناظرة كما نقلها لنا ابن عبد الهادي رحمه الله:

‌نص المناظرة:

قال ابن عبد الهادي رحمه الله: «وقد رأيت بخط بعض أصحابه ما صورته:

تلخيص مبحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، وبين ابن المرحل: كان الكلام في الحمد والشكر، وأن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، والحمد لا يكون إلا باللسان.

ص: 681

فقال ابن المُرحِّل: قد نقل بعض المصنفين -وسماه-

(1)

: أن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد. ومذهب الخوارج: أنه يكون بالاعتقاد والقول والعمل. وبنوا على هذا: أن من ترك الأعمال يكون كافراً؛ لأن الكفر نقيض الشكر، فإذا لم يكن شاكراً كان كافراً.

قال الشيخ تقي الدين: هذا المذهب المحكي عن أهل السنة خطأ والنقل فيه عن أهل السنة خطأ؛ فإن مذهب أهل السنة: أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل. قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13]، وقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبدا شكورا)

(2)

.

قال ابن المرحل: أنا لا أتكلم في الدليل، وأسلم ضعف هذا القول؛ لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة.

قال الشيخ تقي الدين: نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ؛ فإن القول إذا ثبت ضعفه كيف ينسب إلى أهل الحق؟ ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.

قلت: وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سجدة سورة ص: (سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا)

(3)

.

ثم من الذي قال من أئمة السنة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد؟!

(1)

لم أقف عليه، كما لم يصرح الكاتب باسمه.

(2)

رواه البخاري كتاب: (التهجد) باب: (قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترم قدماه)(1130)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2819)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(3)

رواه النسائي في سننه (957)، ومحمد بن الحسن في الآثار (1/ 565)(210)، وعبدالرزاق في مصنفه (5870)، والطبراني في المعجم الكبير (12386)، والأوسط (1008)، والدارقطني في سننه (1516)، كلهم من طريق عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً، وصححه الألباني في المشكاة (1038)، وفي صحيح أبي داود (5/ 154) وصحيح الجامع (3682).

ص: 682

قال ابن المرحل: هذا قد نقل، والنقل لا يمنع لكن يستشكل. ويقال: هذا مذهب مشكل.

قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: النقل نوعان:

أحدهما: أن ينقل ما سمع أو رأى.

والثاني: ما ينقل باجتهاد واستنباط. وقول القائل: مذهب فلان كذا، أو مذهب أهل السنة كذا، قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله، وإن لم يكن فلان قال ذلك. ومثل هذا يدخله الخطأ كثيراً. ألا ترى أن كثيراً من المصنفين يقول: مذهب الشافعي أو غيره كذا، ويكون منصوصه بخلافه؟ وعذرهم في ذلك: أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط، لا من جهة النص؟ وكذلك هذا لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي، والخوارج يكفرون بالمعاصي.

ثم رأى المصنف أن الكفر ضد الشكر، اعتقد أنَّا إذا جعلنا الأعمال شكراً لزم انتفاء الشكر بانتفائها، ومتى انتفى الشكر خلفه الكفر، ولهذا قال: إنهم بنوا على ذلك: التكفير بالذنوب؛ فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر.

قلت: كما أن كثيراً من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة.

قال: وهذا خطأ؛ لأن الكفر نوعان: أحدهما: كفر النعمة. والثاني: الكفر بالله، والكفر الذي هو ضد الشكر: إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله. فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة لا الكفر بالله.

قلت: على أنه لو كان ضد الكفر بالله، فمن ترك الأعمال شاكراً بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله، والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية، كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافراً حتى يترك أصل الإيمان وهو الاعتقاد

(1)

. ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة -التي هي ذات شعب وأجزاء-

(1)

هذه العبارة مشكلة، وقد استدل بها البعض على أن شيخ الإسلام لا يرى كفر تارك العمل =

ص: 683

زوال اسمها كالإنسان إذا قطعت يده أو الشجرة إذا قطع بعض فروعها.

= بالكلية، والواقع أن هذا الكلام ليس هو من كلام شيخ الإسلام رحمه الله، بل هو من كلام حاكي هذه المناظرة الذي كتبها، وذلك أن كاتب هذه المناظرة وناقلها ليس هو الشيخ نفسه، وإنما قام بعض أصحابه بنقلها وتلخيص ما جرى فيها حيث قال:«وقد رأيت بخط بعض أصحابه ما صورته» ، وقد نقل فيها الكاتب ما جرى بين شيخ الإسلام، وبين ابن المرحل فكان ينقل فيها ما قاله الشيخ وما قاله ابن المرحل، وقد يعلق أحياناً بتعليقات من عنده، فيقول "قلت" ثم يذكر تعليقه، وهذه العبارة المذكورة هي من تعليقاته على المناظرة، وليست من نص المناظرة ولا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله، حيث قال في مقدمتها "قلت" فليتأمل هذا.

وقد وقفت على موضع آخر في مجموعة الرسائل (3/ 15) استدل به بعضهم على نسبة هذا القول لشيخ الإسلام جاء فيه: «الإيمان ثلاث درجات:

إيمان السابقين المقربين: وهو ما أتي فيه بالواجبات والمستحبات من فعل وترك.

وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين: وهو ما ترك صاحبه فيه بعض الواجبات، أو فعل فيه بعض المحظورات. ولهذا قال علماء السنة: لا يكفر أحد بذنب، إشارة إلى بدعة الخوارج الذين يكفرون بالذنب.

وإيمان الظالمين لأنفسهم: وهو من أقر بأصل الإيمان وهو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، ولم يفعل المأمورات ويجتنب المحظورات».

وهذا الكلام المنقول من مجموعة الرسائل والمسائل، هو كذلك ليس من كلام شيخ الإسلام رحمه الله-وإنما هو تلخيص لكلام شيخ الإسلام؛ فقد قام أبو الحسن بن عروة رحمه الله كما في مجموعة الرسائل (3/ 2 - 16) باختصار وتلخيص فتوى طويلة لشيخ الإسلام، وهي الموجودة في مجموع الفتاوى (12/ 323 - 502) وقد وقع له في تلخيصه -عفا الله عنه- خطأ ووهم في هذا الموضع، فأخل بالمعنى إخلالاً واضحاً، يخالف نص كلام شيخ الإسلام في فتواه الكاملة في المجموع (12/ 474) وهي ما نصه:

«الإيمان ثلاث درجات:

إيمان السابقين المقربين: وهو ما أتى فيه بالواجبات والمستحبات من فعل وترك.

وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين: وهو ما أتى فيه بالواجبات من فعل وترك.

وإيمان الظالمين: وهو ما يترك فيه بعض الواجبات أو يفعل فيه بعض المحظورات.

ولهذا قال علماء السنة في وصفهم اعتقاد أهل السنة والجماعة: إنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب إشارة إلى بدعة الخوارج المكفرة بمطلق الذنوب». =

ص: 684

قال الصدر ابن المرحل: فإن أصحابك

(1)

قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة

(2)

كما خالفوا الخوارج في جعله كافرا بالله.

قال الشيخ تقي الدين: أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا، فعمن تنقل من أصحابي هذا؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة حيث أطلقته الشريعة.

قال ابن المرحل: إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا، لكن أصحابي

(3)

قد خالفوا الحسن في هذا.

قال الشيخ تقي الدين: - ولا أصحابك خالفوه؛ فإن أصحابك قد تأولوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق -مثل ترك الصلاة وقتال المسلمين

(4)

- على أن المراد به كفر النعمة، فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة، فعلم أنهم موافقو الحسن لا مخالفوه.

ثم عاد ابن المرحل فقال: أنا أنقل هذا عن المصنف، والنقل ما يمنع لكن يستشكل.

قال الشيخ تقي الدين: إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل، أو يُنسب الناقل عنهم إلى تصرُفهِ في النقل، كان نسبة الناقل إلى التصرف

= فظهر بوضوح تصرف ابن عروة في كلام شيخ الإسلام، وإن كان إنما ذكر في مقدمة نقله أنه إنما اختار مواضع منها، ولم يذكر أنه لخص أو اختصر أو تصرف في الألفاظ، ولكن المتأمل في الموضعين يظهر له بوضوح أن ابن عروة مع اختياره لمواضع من الفتوى فإنه تصرف أيضاً في الألفاظ لتلخيصها واختصارها حسب فهمه، فوقع له الخلل في ذلك، والله اعلم.

(1)

يعني: الحنابلة.

(2)

لم أقف على نص مسند عن الحسن البصري رحمه الله في إطلاقه كفر النعمة على مرتكب الكبيرة.

(3)

يعني: الشافعية.

(4)

يعني حديث بريدة الأسلمي عند أحمد (22937) والنسائي (346) وغيرهما: (إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمِ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ) وحديث ابن مسعود عند البخاري (48) ومسلم (116) وغيرهما: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).

ص: 685

أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق، مع أنهم صرحوا في غير موضع: أن الشكر يكون بالقول والعمل والاعتقاد، وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه. ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق: إخراج الأعمال أن تكون شكراً لله، بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال، وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل، وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ (الحمد) و (الشكر) مثل: كتب التفسير، واللغة، وشروح الحديث، يعرفه آحاد الناس، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك.

فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا فقال: الحسن البصري يسمى الفاسق منافقاً، وأصحابك لا يسمونه منافقاً.

قال الشيخ تقي الدين له: بل يسمى منافقاً النفاق الأصغر، لا النفاق الأكبر، والنفاق يطلق على النفاق الأكبر الذي هو إضمار الكفر، وعلى النفاق الأصغر الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات

(1)

.

(1)

لا شك أن أولى ما يُحمل عليه قول الحسن البصري بأن مرتكب الكبيرة منافق، هو النفاق الأصغر دون الأكبر. ولكن قبل أن نفسر مراد الحسن البصري من ذلك، فإن الواجب التثبت فيما نُقل عنه في ذلك، وقد نسب هذا الحكم إليه عدة من المصنفين قديماً وحديثاً، بل وعده بعضهم قولاً مستقلاً في المسألة، وحاول بعضهم تعليله والتدليل عليه، وعده ابن الوزير قولاً مستقلاً قد انقطع وانقرض، بل قد احتج به قوم من الإباضية على تصحيح ما ذهبوا إليه من أن مرتكب الكبيرة منافق، وزعموا بسبب هذه المقالة أنه ليس بينهم وبين أهل السنة خلاف في هذه المسألة، وأنهم تبع في هذا القول للحسن البصري رحمه الله، وليسوا على رأي الخوارج كما يتهمهم خصومهم. انظر: الإباضية بين الفرق الإسلامية (ص:247) والإباضية في موكب التاريخ (1/ 91). وقد حاولت جاهداً أن أقف على أثر مسند إلى الإمام الحسن البصري في ذلك، فلم أجد بعد بحث طويل أثراً مسنداً، ولا نقلاً ثابتاً، فيه النص على أن صاحب الكبيرة منافق، ووجدت أن أول من عزا هذه المقولة إلى الحسن البصري رحمه الله هو القاضي عبد الجبار (415 هـ) في كتابه "المنية والأمل" حيث نقل هذه المقولة من كلام واصل بن عطاء المعتزلي في مناظرة حدثت بينه وبين عمرو بن عبيد، نقلها القاضي عبد الجبار -بغير سند ولا خطام-. ولم أجد أحداً ممن كتب في الفرق والمقالات نسب =

ص: 686

قال له ابن المرحل: ومن أين قلت: إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا؟

قال الشيخ تقي الدين: هذا مشهور عند العلماء، وبذلك فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم:(آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)

(1)

، وقد ذكر ذلك الترمذي وغيره، وحكوه عن العلماء

(2)

، وقال غير واحد من السلف:(كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك)

(3)

، وإذا كان النفاق جنساً تحته نوعان، فالفاسق داخل في أحد نوعيه.

قال ابن المرحل: كيف تجعل النفاق اسم جنس

(4)

، وقد جعلته لفظاً مشتركاً،

= هذا القول إلى الحسن البصري باستثناء ابن حزم الأندلسي (456 هـ) في كتابه الفصل (7/ 128) حيث قال: «وروي عن الحسن البصري وقتادة رضي الله عنهما أن صاحب الكبيرة: منافق» فرواه بصيغة التمريض ولم يبين من الذي روى هذا القول عنهما، وأما عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق (ص:200) فلم ينسب هذا القول إلى الحسن، وإنما نسبه إلى البكرية أتباع بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد، وجعل هذه المقولة من أقواله، والخلاصة: أنني لم أقف على رواية مسندة صحيحة كانت أو ضعيفة تثبت ما اشتهر عن الحسن البصري من الحكم على مرتكب الكبيرة بأنه منافق، إلا نصوص عامة في ذم النفاق والمنافقين، ووصف شيء من حالهم، وبيان أنواع النفاق، مما لم يختص به الحسن البصري حتى يُنسب له دون غيره، والله أعلم.

(1)

رواه البخاري (باب علامة المنافق)(33) ومسلم كتاب الإيمان (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

يريد قول الترمذي رحمه الله-في السنن (4/ 316): «وإنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا روي عن الحسن البصري، شيء من هذا أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق التكذيب» .

(3)

ومن ذلك قول عطاء الذي رواه عبد الرزاق (717) وأبو داود في مسائل أحمد (1357) وغيرهما، قال:«كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق» ، والنصوص عن السلف في معناه كثيرة كما أشار شيخ الإسلام.

(4)

اسم الجنس: قال شيخ الإسلام: «هو الاسم المطلق على الشيء وعلى كل ما أشبهه سواء كان اسم عين أو اسم صفة -جامداً أو مشتقاً- وسواء كان جنساً منطقياً أو فقهياً أو لم يكن» مجموع الفتاوى (3/ 191).

ص: 687

وإذا كان اسم جنس كان متواطئاً، والأسماء المتواطئة غير المشتركة، فكيف تجعله مشتركا متواطئا؟

قال الشيخ تقي الدين: أنا لم أذكر أنه مشترك، وإنما قلت: يطلق على هذا وعلى هذا، والإطلاق أعم، ثم لو قلت: إنه مشترك لكان الكلام صحيحاً؛ فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئين بطريق التواطؤ وبطريق الاشتراك؛ فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر، وإبطان المعصية تارة بطريق الاشتراك، وتارة بطريق التواطؤ؛ كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن عند قوم باعتبار الاشتراك، وعند قوم باعتبار التواطؤ، ولهذا سمي مشككاً

(1)

.

قال ابن المرحل: كيف يكون هذا؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره.

قال له الشيخ تقي الدين: المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر؛ وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما، فقد يطلق عليهما باعتبار ما به تمتاز كل ماهية عن الأخرى؛ فيكون مشتركاً كالاشتراك اللفظي، وقد يكون مطلقاً باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين، فيكون لفظاً متواطئاً.

قلت

(2)

: ثم إنه في اللغة يكون موضوعاً للقدر المشترك ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله، في هذا تارة وفي هذا تارة، فيبقى دالاً بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز، وقد يكون قرينة مثل لام التعريف أو

(1)

سبب تسميته مشككاً؛ أن الناظر فيه يشك فيه هل هو من قبيل المتواطئ، أم من قبيل المشترك. مثال ذلك: اسم الحي فمن نظر إلى أصل الحياة، قال: إنه نوع من المتواطئ؛ إذ الحياة ضد الممات في الأصل. ومن نظر إلى الاختلاف والتباين في حياة المخلوق والخالق، قال: إنه من المشترك، ومن هنا سمي مشككاً. ولهذا يحسن أن يقال عن المشكك: إنه ما اتفق في أصله، واختلف في وصفه. انظر: الفتوى الحموية (ص:524) ومصطلحات في كتب العقائد (ص:222).

(2)

هذا الكلام وما بعده من كلام الناقل للمناظرة وليس من كلام شيخ الإسلام.

ص: 688

الإضافة تكون هي الدالة على ما به الامتياز مثال ذلك: "اسم الجنس" إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ (الدابة) إذا غلب على الفرس قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينها وبين سائر الدواب، فيكون متواطئاً، وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس فيكون مشتركاً بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب، ويصير استعماله في الفرس: تارة بطريق التواطؤ، وتارة بطريق الاشتراك. وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علماً بالغلبة: مثل ابن عمرو والنجم؛ فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو، فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ، وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم ومن بني عمرو، فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي، وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده يصح استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام فيكون بطريق التواطؤ وبالوضع الثاني فيصير بطريق الاشتراك. ولفظ (النفاق) من هذا الباب؛ فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه. وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين، ثم إبطان ما يخالف الدين إما أن يكون كفراً أو فسقاً، فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار، وإن أظهر أنه صادق أو موف أو أمين وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك، فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقاً، فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ.

وعلى هذا؛ فالنفاق اسم جنس تحته نوعان ثم إنه:

1.

قد يراد به النفاق في أصل الدين مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وقوله تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، والمنافق هنا: الكافر.

2.

وقد يراد به النفاق في فروعه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(آية المنافق ثلاث) وقوله:

ص: 689

(أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً)

(1)

، وقول ابن عمر: فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث ثم يخرج فيقول بخلافه: (كنا نعد هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفاقاً)

(2)

.

فإذا أردت به أحد النوعين:

فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد والإضافة، فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئاً، كما إذا قال الرجل: جاء القاضي، وعنى به قاضي بلده لكون اللام للعهد، كما قال سبحانه:{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزَّمل:16] أن اللام هي أوجبت قصر الرسول على موسى لا نفس لفظ (رسول).

وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه، فيصير مشتركاً بين اللفظ العام والمعنى الخاص، فكذلك قوله:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1]، فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد، والمنافق المعهود: هو الكافر.

أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر، وقوله صلى الله عليه وسلم:(ثلاث من كن فيه كان منافقاً) يعني به منافقاً بالمعنى العام، وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن.

فإطلاق لفظ (النفاق) على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق، كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك، وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة، ويكون متواطئاً إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ (منافق) بل لام التعريف.

وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه؛ إما لغلبة الاستعمال، أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع، مثل تعريف الإضافة أو تعريف

(1)

رواه البخاري كتاب الإيمان، باب علامة النفاق (34)، ومسلم، كتاب الإيمان (106).

(2)

رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب ما يكره من ثناء السلطان (7178)، وأحمد في مسنده (5373).

ص: 690

اللام؛ فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال: إن اللفظ مشترك. وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقياً على مواطأته. فلهذا صح أن يقال (النفاق): اسم جنس تحته نوعان. لكون اللفظ في الأصل عاماً متواطئاً، وصح أن يقال: هو مشترك بين النفاق في أصل الدين، وبين مطلق النفاق في الدين؛ لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر»

(1)

.

(1)

مناظرة شيخ الإسلام مع ابن المرحل في الحمد والشكر ضمن مجموع الفتاوى (11/ 135 - 145)، وضمن العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص 111 - 123).

ص: 691

‌المبحث الثاني: دراسة أهم المسائل العقدية:

‌المسألة الأولى: مناقشة مقالة المرجئة التي نسبها ابن المرحل لأهل السنة:

نقل ابن المرحل في هذه المناظرة عن أحد المصنفين أن معتقد أهل السنة أن الشكر إنما يكون بالاعتقاد، وأن القول بأن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل هو مذهب الخوارج.

وظهر اقتناع ابن المرحل بما قرره هذا المصنف من خلال مجادلته عن قول هذا المصنف وإصراره على نسبة هذه المقالة لأهل السنة، وهذه في الحقيقة هي مقالة المرجئة وهي متفرعة عن اعتقادهم أن التكفير لا يكون إلا على الاعتقاد دون عمل الجوارح، وستكون دراسة هذه المسألة من وجهين:

‌الوجه الأول: أصل الشبهة:

تبين من المناظرة أن أصل شبهة ابن المرحل من جهة الاستنباط لا من جهة النص؛ وقد بنى شبهته هنا على مقدمتين ونتيجة

(1)

:

المقدمة الأولى: أن نقيض الشكر الكفر المخرج من الملة.

المقدمة الثانية: أنَّا إذا جعلنا الأعمال من الشكر للزم التكفير بتركها وهذا مذهب الخوارج.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 137)، العقود الدرية (ص: 114).

ص: 692

النتيجة: أن أهل السنة يعتقدون أن الشكر إنما يكون بالاعتقاد، ولا يكون بالأعمال.

وهذا ما عزاه بعض المصنفين لأهل السنة وجادل عنه ابن المرحل في هذه المناظرة.

‌الوجه الثاني: بطلان هذه الشبهة:

وبطلان هذه الشبهة ومقدماتها من وجوه، أهمها ما يلي:

أولاً: أن الشكر ضد كفر النعمة، لا الكفر المخرج عن الملة:

بنى ابن المرحل شبهته على أن الشكر نقيضه الكفر المخرج من الملة، فلو جعلنا الأعمال شكراً؛ لكان تركها كفرا مخرجاً من الملة.

وقد بين شيخ الإسلام خطأه في ذلك؛ فليس كل ما يطلق عليه كفر يكون مخرجاً من الملة؛ فالكفر يتفاوت ويتبعض، وليس هو على درجة واحدة، وهذا أمر تشهد له النصوص الشرعية، وآثار سلف الأمة، فلا يمكن فهم النصوص إلا وفق هذا التقسيم

(1)

.

وقد ثبت في النصوص إطلاق الكفر على أنواع أخرى دون الكفر المخرج من الملة وذلك ككفر النعمة، قال الإمام يحيى بن سلام

(2)

رحمه الله: «وذلك قوله في البقرة: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] ولا تكفروا نعمتي. وقال في النَّمل: {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] يعني أم أكفر النِّعمة. وفي لقمان: {وَمَنْ كَفَرَ} [لقمان:12] يعني كفر النِّعمة. وقال فرعون: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (19/ 188)، مدارج السالكين (1/ 344).

(2)

هو أبو زكريا يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة البصري. نزيل المغرب بإفريقية، وكان ثقة ثبتاً عالماً بالكتاب والسنة والتفسير، مما قيل عنه: أنه ما سمع شيئاً قط إلا حفظه، حتى إنه كان إذا مر بمن يتغنى، يسد أذنيه لئلا يسمعه فيحفظه. ورمي بالإرجاء ولم يثبت عنه، (ت: 200 هـ). انظر: طبقات علماء إفريقية (ص: 37 - 38)، تاريخ الإسلام (5/ 222)، السير (9/ 396).

ص: 693

مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19] يعني الكافرين بنعمتي، إِذ ربيتك صغيراً، وأحسنت إِليك. ونحوه كثير»

(1)

.

وقال النووي في تبويبه على صحيح مسلم: «باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق»

(2)

.

والكفر الذي هو ضد الشكر إنما هو كفر النعمة، لا الكفر المخرج من الملة؛ فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة، لا الكفر بالله

(3)

، وهذا ما تشهد له اللغة، قال الخليل الفراهيدي: «الكُفرُ: نقيض الإيمان

والكُفرُ: نقيض الشكر. كَفَر النعمة، أي: لم يشكرها»

(4)

، فبين أن ضد الشكر كفر النعمة، وقال ابن منظور:«والكفر: جحود النعمة، وهو ضد الشكر»

(5)

وقال أبو علي الفارسي

(6)

: «الكفر: خلاف الشكر، كما أن الذم خلاف الحمد. فالكفر: ستر النعمة وإخفاؤها، والشكر نشرها وإظهارها. وفي التنزيل: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] وفيه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]»

(7)

.

قال ابن القيم رحمه الله: «وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم

(1)

التصاريف لتفسير القرآن (ص: 105).

(2)

صحيح مسلم، كتاب الإيمان (1/ 86).

(3)

قال السعدي في تفسيره (ص: 422): «والشكر: هو اعتراف القلب بنعم الله والثناء على الله بها وصرفها في مرضاة الله تعالى، وكفر النعمة ضد ذلك» .

(4)

العين (5/ 356).

(5)

لسان العرب (5/ 144).

(6)

هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، فيه اعتزال، علت منزلته فِي النحو، وصنف كتباً عجيبة حسنة لم يسبق إِلَى مثلها منها: كتاب الحجة في علل القراءات، وكتاب الايضاح (ت: 377 هـ). انظر: تاريخ العلماء النحويين للتنوخي (ص: 27)، تاريخ بغداد (8/ 217)، السير (16/ 380).

(7)

المخصص (3/ 424).

ص: 694

الإيمان، وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقاً أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقاً جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان؛ فهؤلاء غلوا وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط الذي هو في إذنه كالإسلام في الملل فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم»

(1)

.

ثانياً: إذا ثبت أن ضد الشكر كفر النعمة، لا الكفر المخرج من الملة

(2)

؛ فإن ترك الشكر بالأعمال لا يكون كفراً مخرجاً من الملة، بل غايته أن يكون من كفر النعمة وجحدها، ثم إن عقيدة الخوارج أن من ترك عملاً من الأعمال الواجبة، أو فعل كبيرة؛ فإنه يخرج من الملة، وأهل السنة لا يكفرون بمثل هذا، بل يرون من فعل مثل هذا مؤمناً ناقص الإيمان، إلا في الصلاة خاصة؛ ففيها من الخلاف ما هو معلوم، وإنما وقع الخوارج في ذلك؛ لاعتقادهم أن الإيمان كلٌ لا يتجزأ، فإذا ذهب بعضه ذهب كله. وقابل هذا الضلال المرجئة؛ فوافقوا الخوارج في أن الإيمان كلٌ لا يتجزأ، إلا أنهم أخرجوا أعمال الجوارح من الإيمان وجعلوا الإيمان بالاعتقاد والقول فقط؛ فراراً من قول الخوارج. والحق الذي يعتقده أهل السنة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وأن الإيمان لا ينتفي عن صاحبه بترك بعض الأعمال، كما تقول الخوارج، كما أنه لا يصح الإيمان إلا بعمل، خلافاً لقول المرجئة.

قال شيخ الإسلام: «وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال بعضه زال

(1)

وقد يصل كفر النعمة بصاحبه إلى الكفر المخرج من الملة، وذلك إذا جحد نعمة الله سبحانه بالكلية، ولم ير لله عليه نعمة.

(2)

الصلاة وأحكام تاركها (ص: 58).

ص: 695

جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان)

(1)

. ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلها من الإيمان فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان. وقالت المرجئة والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئاً واحداً لا يتبعض أما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية، أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة، قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءاً منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج»

(2)

.

ثالثاً: أن النصوص قد دلت دلالة واضحة على أن الشكر كما يكون بالقلب واللسان فإنه يكون كذلك بالأعمال، ومنها قول الله سبحانه {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13]، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:(أفلا أحب أن أكون عبدا شكوراً)

(3)

.

رابعاً: أن اعتقاد أهل السنة المبثوث في كتبهم والمعروف عن أئمتهم هو أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل، ومن المعلوم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق: إخراج الأعمال عن أن تكون شكراً لله؛ وقد وضح شيخ الإسلام ذلك ببعض الأمثلة:

المثال الأول: ما نص عليه العلماء خلفاً عن سلف من أن الزكاة شكر نعمة المال.

(1)

رواه أحمد (6/ 338)(3789)، وأبو داود (4/ 59)(4091)، والترمذي (3/ 428)(1998)، وابن ماجه (1/ 22)(59)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه:(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان) وصححه الألباني في المشكاة (5107).

(2)

رواه البخاري كتاب التفسير، باب: ليغفر لك اله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (4837) ومسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2820).

(3)

مجموع الفتاوى (7/ 510).

ص: 696

المثال الثاني: باب سجود الشكر الذي لا يخفى على أحد.

ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة، وآثار سلف الأمة، وشواهد اللغة، وكتب العلماء؛ لاح له دخول الأعمال في الشكر ضرورة

(1)

.

وبهذه الأوجه كلها يتبين أن ما عزاه ذلك المصنف إلى أهل السنة من إخراج الأعمال عن الشكر، ونافح عنه ابن المرحل إنما هي نفس العلة التي أخرج بها المتكلمون الأعمال عن مسمى الإيمان.

كما يتضح: أن مزاعمه كانت بناءً على اجتهاد واستنباط من غير تحقيق، وهذا مثل من ينسب إلى بعض المذاهب أقوالاً؛ لكونهم رأوا أن أصول المذهب تقتضي ذلك القول، فنسبوه إلى المذهب من جهة الاستنباط لا من جهة النص! وما ينقل وينسب إلى الناس من جهة الاجتهاد والاستنباط يدخله الخطأ الكثير، وما نقله هذا المصنف -إن أحسنا الظن به-فإنما هو من هذا الباب؛ فإنه لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي، والخوارج يكفرون بالمعاصي، ادعى أن مذهب أهل السنة هو قول المرجئة والله المستعان

(2)

.

‌المسألة الثانية: الكفر والظلم والنفاق والفسوق نوعان أكبر وأصغر:

اعترض ابن المرحل على تقسيم شيخ الإسلام النفاق وما يجري مجراه من المعاني إلى قسمين، واستنكر الجمع بين اعتبار هذا الاسم من المعاني المشتركة، مع جعله اسم جنس، وأسماء الجنس لا تكون إلا متواطئة.

‌الوجه الأول: أصل الشبهة:

إن أصل الشبهة وسبب النزاع في الألفاظ هو ذكرها مجملة، فمن الخلق من تكلم في مثل هذه الأسماء بالنفي والإثبات من غير تفصيل، فلا بد له أن يقابله آخر بمثل إطلاقه، وبذلك يحصل النزاع في المقصود، قال شيخ الإسلام: «وكثير

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 139).

(2)

انظر: المصدر السابق (11/ 137).

ص: 697

من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة التي يفهم منها هذا معنى يثبته، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه، ثم النفاة يجمعون بين حق وباطل، والمثبتة يجمعون بين حق وباطل»

(1)

.

بينما ورود تلك الألفاظ في الكتاب والسنة مفصلة بأنواعها مفردة ومقيدة، وورودها في كل موضع بحسبه، فالواجب أن يجعل ما أنزله الله من الكتاب والحكمة أصلاً في جميع هذه الأمور، ثم يُرد ما تكلم فيه الناس إلى ذلك، ويبين ما في الألفاظ من إجمال بما يوافق الكتاب والسنة.

‌الوجه الثاني: الجواب عنها:

ونقض شبهة ابن المرحل بما يلي:

أولاً: أن الواجب في الألفاظ التي تعددت مدلولاتها في الكتاب والسنة، التفصيل فيها، وفق ما دلت عليه النصوص؛ سواءً من جهة اجتماعها وافتراقها، وإطلاقها وتقييدها، ومن جهة تخصيصها بنوعٍ دون آخر؛ لقرينة لفظية، أو غلبة استعمال، ونحو ذلك.

ثانياً: أن انقسام الكفر والنفاق ونحوها من الألفاظ إلى قسمين مبناه على أمرين:

1.

أن الكفر والنفاق قابل للتفاوت والزيادة والنقصان؛ كالإيمان سواءً، فليس النفاق والكفر على درجة واحدة، قال شيخ الإسلام: «والنفاق يتبعض والكفر يتبعض ويزيد وينقص كما أن الإيمان يتبعض ويزيد وينقص قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] وقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125] وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ

(1)

مجموع الفتاوى (12/ 552).

ص: 698

لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] وقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة:64]، وقال:{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، وقال:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء:137]»

(1)

.

2.

أن النصوص الشرعية قد تنوعت في إطلاق اسم الكفر، فكثيراً ما تطلق على الأعمال التي لا يكفر صاحبها الكفر المخرج من الملة، وعليه فلا يمكن فهم النصوص إلا وفق هذا التقسيم: أكبر وأصغر، واعتبار الجميع قسماً واحداً مذهب الوعيدية ومخالف للنصوص الشرعية.

قال شيخ الإسلام: «وعلى هذا الأصل فبعض الناس يكون معه شعبة من شعب الكفر ومعه إيمان أيضاً، وعلى هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية كثير من الذنوب كفراً مع أن صاحبها قد يكون معه أكثر من مثقال ذرة من إيمان فلا يخلد في النار. كقوله:(سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)

(2)

، وقوله:(لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)

(3)

، وهذا مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في " الصحيح " من غير وجه؛ فإنه أمر في حجة الوداع أن ينادى به في الناس فقد سمى من يضرب بعضهم رقاب بعض بلا حق كفاراً؛ وسمى هذا الفعل كفراً؛ ومع هذا فقد قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحُجُرات:9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحُجُرات:10]، فبين أن هؤلاء لم يخرجوا من الإيمان بالكلية، ولكن فيهم ما هو كفر وهي هذه الخصلة، كما قال بعض الصحابة:(كفر دون كفر)

(4)

، وكذلك قوله: (من قال لأخيه

(1)

مجموع الفتاوى (19/ 188).

(2)

رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48)، ومسلم، كتاب الإيمان (116).

(3)

رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الإنصات للعلماء (121)، ومسلم، كتاب الإيمان (118).

(4)

رواه الحاكم في مستدركه (2/ 342)(3219) والبيهقي في سننه (8/ 38)(15854)، من تفسير ابن عباس رضي الله عنهما وصححه الألباني في الصحيحة (2552).

ص: 699

يا كافر فقد باء بها أحدهما)

(1)

، فقد سماه أخاه حين القول؛ وقد أخبر أن أحدهما باء بها فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه بل فيه كفر»

(2)

.

ثالثاً: أما اعتراضه على جعل شيخ الإسلام لفظ النفاق مشتركاً، مع كونه اسم جنس متواطئ، فقد بين له شيخ الإسلام أنه لا مشاحة من اعتبار تلك الألفاظ من باب التواطؤ في الألفاظ، أو من باب الاشتراك، وأن القول بأن لفظ النفاق يطلق من باب الاشتراك، لا يمنع كذلك من كونه متواطئاً؛ وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما، فإن إطلاقه عليهما يكون باعتبارين:

1) باعتبار القدر المشترك بينهما: فحينئذ يكون إطلاقه عليهما من باب المتواطئ.

2) باعتبار القدر المميز بينهما: فحينئذ يكون إطلاقه عليهما من باب الاشتراك.

ولفظ النفاق من هذا الباب؛ فإنه يطلق على المعصية والكفر باعتبار القدر المشترك بينهما، وهو المعنى الكلي العام: إظهار شيء وإبطان خلافه، فيكون إطلاقه حينئذ من باب التواطؤ.

ويطلق عليهما باعتبار القدر المميز بينهما، وهو في النفاق الأكبر: إبطان الكفر وإظهار الإيمان. وفي الأصغر: إبطان المعصية وإظهار الطاعة، كأن يبطن الكذب ويظهر الصدق، أو يبطن الخيانة ويظهر الأمانة، فيكون إطلاقه حينئذ من باب الاشتراك لا التواطؤ.

1.

فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب: فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد

(1)

رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (6104)، ومسلم، كتاب الإيمان (60).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 355).

ص: 700

صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار.

2.

وإن أظهر أنه صادق أو موف أو أمين، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك، فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقاً.

فإذا أردت به أحد النوعين، فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية: مثل لام العهد والإضافة، وإما لغلبة الاستعمال

(1)

.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 143).

ص: 701

‌ملحق

•‌

‌ مناظرته مع بعض المرجئة في اعتقادهم أن الإيمان شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقص:

في هذه المناظرة يرد شيخ الإسلام على شبهة عقلية احتج بها أحد المرجئة على عدم تفاضل الإيمان وزيادته ونقصانه، وهي شبهة الاشتراك في المعنى الكلي المطلق للإيمان وعدم تصور التفاضل فيه، فبين له شيخ الإسلام أن المعنى الكلي لا يتصور وجوده إلا في الأذهان، وأما في الواقع فكل شخص له إيمان يخصه، يتفاوت ويتفاضل بين الناس قوة وضعفاً زيدة ونقصًا، وضربه له بعض الأمثلة التي توضح ذلك وتبينه، وقد سبق بيان كثير مما يتعلق بمسألة القدر المشترك ووجه خطأ كثير من الناس فيها، في فصول سابقة فلتراجع.

‌نص المناظرة:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد؛ صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل. فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان. فقلت له: قولك من حيث هو؛ كما تقول: الإنسان من حيث هو إنسان والحيوان من حيث هو حيوان والوجود من حيث هو وجود والسواد من حيث هو سواد وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان والصفات؛ فتثبت لهذه المسميات وجودًا مطلقًا مجردًا عن جميع القيود والصفات وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره،

ص: 702

ويقدر إنسانًا لا موجوًدا ولا معدومًا ويقول: الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج. وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كسائر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن.

فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن؛ بل هو مجرد عن كل قيد. وتقدير إنسان لا يكون موجودًا ولا معدومًا؛ بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان؛ فكل إنسان له إنسانية تخصه وكل مؤمن له إيمان يخصه؛ فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمر وليست هي هي. وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج ويشتركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن. وكذلك إذا قيل: إيمان زيد مثل إيمان عمرو؛ فإيمان كل واحد يخصه. فلو قدر أن الإيمان يتماثل، لكان لكل مؤمن إيمان يخصه وذلك الإيمان مختص معين ليس هو الإيمان من حيث هو هو؛ بل هو إيمان معين وذلك الإيمان يقبل الزيادة. والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانا مطلقًا أو إنسانًا مطلقًا أو وجودًا مطلقًا مجردًا عن جميع الصفات المعينة له ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد؛ إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره»

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 405 - 406).

ص: 703

‌خاتمة البحث

بعد هذا التجوال في ربوع مناظرات شيخ الإسلام، وما حوته من المسائل العقدية المهمة، نقف في ختام هذا البحث مع أهم النتائج والتوصيات التي توصل لها الباحث في بحثه، وتتمثل فيما يلي:

‌أولاً: أهم النتائج:

1.

كثرة الفرق والطوائف المخالفة التي ناظرها شيخ الإسلام ورد عليها، مما يُظْهِر شدة الغربة التي كانت في عصره رحمه الله، ومدى انتشار الباطل وكثرة أهله.

2.

أن مناظرات شيخ الإسلام قد حوت كثيرًا من مهمات المسائل في شتى الجوانب، وأهمها الاعتقاد والأصول.

3.

يتضح للقارئ مدى ما بذله شيخ الإسلام من جهود عظيمة لنصرة الدين وإظهار الحق، ونشره بين الخلق، ومدى ما وهب الله هذا الإمام من علم وشجاعة وذكاء وقوة حجة.

4.

أن المناظرة في اللغة مشتقة من مادة (نظر) ومادة نظر تدور على معنين اثنين وهما: حس البصر ورؤيته، ونظر البصيرة وهو التفكر والتأمل، والأمران يجتمعان في معنى المناظرة، وأما المناظرة اصطلاحاً فهي: المحاورة في الكلام بين جانبين مختلفين في قضية ما إظهاراً للحق والصواب.

5.

أن للمناظرة ثلاثة أركان لا تقوم إلا بها وهي: موضوع تجري حوله المناظرة، وطرفان متناظران يسمى أحدهما:(مانعاً أو مستدلاً) ويسمى الآخر (معللاً أو سائلاً).

ص: 704

6.

أن المناظرات قسمان: محمود ومذموم، فما جاء من النصوص في ذم المناظرة فإنه يحمل على القسم المذموم، وما جاء من حث أو أمر بها فيحمل على المناظرات المحمودة، وضابط ما يُذم من المناظرات ما كان فيه مفسدة راجحة، أو لم تكن فيه مصلحة راجحة، أو كان المُناظِر لا يقوم بواجبها وليس أهلاً لها.

7.

أن شخصية شيخ الإسلام كانت شخصية علمية عظيمة القدر والمنزلة والمكانة، فقد تحلى من الصفات بأعلاها وأرفعها، ومن الأخلاق بأجودها وأكرمها، كإخلاصه وسعة علمه وقوة حفظه وجلده في العلم والتعليم وقوة حجته وزهده وكرمه وحلمه وعفوه وصفحه وصبره ويقينه وشجاعته وتواضعه، وقد شهد له بهذا أئمة عصره وعلماء وقته، وقد نقلت في ثنايا البحث شهادة أكثر من ثلاثين رجلاً ما بين عالم ومصنف ووزير ومؤرخ وموافق ومخالف أنهم لم يروا مثل شيخ الإسلام، فهو فريد عصره وإمام وقته رحمه الله.

8.

امتاز منهج شيخ الإسلام في مناظراته بأمور عديدة منها: وحدة منهجه وطريقته ومسلكه، والتزامه بالأدلة الشرعية من نصوص الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة، وثقته بالله تعالى وبما رزقه من علم وبصيرة وحق، وقوة حجته وحضورها، وتمام العلم والدراية بمذاهب الخصوم، والدقة في النقل، والتحري في نسبة الأقوال للمخالفين، والأمانة العلمية في الطرح، وحرصه في مناظراته على جمع الكلمة واتفاقها، وشجاعته في النطق بالحق، وعدم مهابته لأحد غير الله، وفطنته بمكايد الخصم وسرعة بديهته في معرفة مراده، وعدله مع الخصم المخالف وإنزاله منزلته التي يستحقها، واعتنائه في الرد والتقرير بالأصول والقواعد دون الفروع والجزئيات، وضرب الأمثلة والتطبيقات لما يذكره من قواعد وتقريرات، وتدرجه مع المخالف في بيان الباطل وتقرير الحق، وابتدائه في مناظراته بنقض شبهة الخصم ومعتقده الفاسد قبل تقرير الحق والمعتقد الصحيح، وتنزله مع الخصم ليكون أدعى لقبول الحق، وحرصه على إفهام الخصم والإتيان بالعبارات الواضحة في الحوار معه، وتنوع أساليبه وطرقه

ص: 705

في إبطال مقالة الخصم، واحتجاجه في إبطال مقالة خصومه بما جاء في كتبهم وبأقوال شيوخهم الذين يعظمونهم، وقلبه لدليل الخصم دليلاً عليه، وعدم الجدال والمناظرة في البديهيات والضروريات، والرحمة بالمخالف والإشفاق عليه، والحرص على هدايته، ومراعاته لقاعدة الجدل والمناظرة:(إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل)، وعدم رده الباطل بباطل، ومراعاته عوارض الأهلية - كالجهل والتأوّيل ونحوهما -، واستخدام أسلوب الترغيب والترهيب عند الحاجة إليه، واستخدام أسلوب الردع والزجر عند الحاجة لذلك، وبيانه لشيء من صفاته ومحامده عند الحاجة لذلك، واستعمال المصطلحات الحادثة للحاجة، هذا كله مع حسن القصد والتخلص من حظوظ النفس.

9.

تبين في مناظراته مع النصارى بطلان الشبه التي احتجوا بها على عقيدة الاتحاد وتأليه المسيح عليه السلام، وقرر شيخ الإسلام أن كل ما يذكرونه في الاستدلال على ألوهية المسيح إما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من الخلق وإما أن يكون ممتنعاً في حق كل أحد، وأظهر كثيراً مما عندهم من الشرك والغلو وتعظيم القبور والتماثيل والعكوف عندها وعبادتها من دون الله، ومخالفة هذا لدين إبراهيم الخليل وعيسى المسيح وجميع الأنبياء عليهم السلام.

10.

واتضح في مناظرته مع التتار عدم وجود تأويل سائغ لهم فيما يفعلونه من قتل وإفساد في بلاد الإسلام، وأن العبرة في التفاضل بين الناس هي الإيمان والتقوى وليست الأحساب والأنساب.

11.

وفي مناظرته مع المنجمين كشف شيخ الإسلام فساد صناعتهم بالأدلة العقلية والنقلية والتجارب الحسية، وأنها مبنية على الكذب والأوهام والتناقضات، وما هي في الواقع إلا تخرصات وتكهنات تصيب مرة وتخطئ مرات.

12.

وتبين في مناظرته مع الفلاسفة بطلان تعريفهم للتوحيد وفساده لغة وعقلاً وشرعاً، وأن مرجع توحيدهم إلى تعطيل الله عز وجل، وجحد أسمائه وصفاته وتعطيله

ص: 706

عن نعوته وكماله، وأنهم من أشد الناس وأعظمهم شركاً.

13.

وظهر في مناظراته مع الاتحادية مدى انتشار مذهبهم الباطل في عصر شيخ الإسلام رحمه الله وتنوعهم في ذلك فمنهم من يعتقد الاتحاد المطلق (وحدة الوجود) ومنهم من يعتقد الاتحاد الخاص بالحلاج أو ابن هود أو غيرهم، واتضح عظم ما وصل له القوم من كفر وإلحاد وأنهم قد جمعوا في قولهم بين تعطيل الجهمية وشطحات الصوفية وزندقة وإلحاد الفلاسفة، وظهر مدى ما كان عليه شيخ الإسلام من علم وفقه بمذاهبهم ومعرفة بعقائدهم وضلالتهم، مع وعورة مسلكهم وغموض مصطلحاتهم.

14.

واتضح في مناظراته مع الصوفية وعباد القبور بطلان ما يدعونه من مخاريق وكرامات، وأنها إما أن تكون أحوالاً شيطانية، وإما أن تكون خدعاً بهتانية يغالطون بها الناس، وأن ما وقعوا فيه من دعاء لغير الله واستغاثة بالمخلوقات وإحسان الظن بالأحجار والتبرك بها والاستشفاء بالقبور إنما هو من باب الشرك بالله، وكل ما استندوا إليه وتعلقوا به من شبه لتجويز مثل هذه الأمور فهي لا تخلو إما أن تكون أدلة باطلة، أو دلالات غير صحيحة، وكثيرٌ منها تلبيسات شيطانية.

15.

وتبين في مناظراته مع الرافضة، بطلان عقيدتهم في المهدي الغائب، وفساد أصولهم التي بنوا عليها مذهبهم البدعي، وتناقضهم فيما معتقداتهم، وأعظمها ذلك الإمامة والعصمة.

16.

تبين في مناظرة الواسطية صحة ما دونه شيخ الإسلام فيها من اعتقاد، حيث لم يجد مخالفوه أي مأخذ عقدي عليها، وظهرت صحة دعوى شيخ الإسلام أن كل ما أورده في المتن مستند إما إلى آية محكمة أو سنة ثابتة أو إجماع سلفي، حتى أقر الجميع بصحة هذه العقيدة بعد أن عجزوا عن إثبات أي مخالفة فيها، وتبين في بقية مناظراته مع المتكلمين أصولهم الفاسدة التي بنوا عليها مذهبهم، وقدموها على نصوص الكتاب ونصوص السنة المطهرة.

ص: 707

17.

واتضح في مناظرته مع الجبرية ما وقعوا فيه من خلل في مفهوم المحبة والإرادة مما أدى إلى ضلالهم في باب القضاء والقدر، وقولهم بالجبر وإسقاط الأمر والنهي، وإبطال الوعد والوعيد.

18.

وفي مناظرته مع ابن الوكيل ظهر فساد ما نسبه ابن الوكيل لعقيدة أهل السنة من أن الشكر إنما يكون بالاعتقاد فحسب، وأن قوله لم يبن عن علم وتحقيق، فإن هذه المقالة ما هي إلا مقالة المرجئة.

19.

ظهر أثر منهج شيخ الإسلام في نتائج مناظراته، فقد كانت أكثر محاورات شيخ الإسلام لخصومه تنتهي بظهور الحق بأنصع صوره للموافق والمخالف والرائي والسامع، ولذلك فقد انتهت كثير من مناظراته برجوع خصومه عن مقالتهم وتوبتهم من باطلهم واعترافهم بالحق الذي بينه شيخ الإسلام وقرره، فإن لم يرجع الخصم عن مقالته ويعلن انصياعه للحق وقبوله، فإنه لا يجد محيصاً من الانقطاع أمام شيخ الإسلام، وهذا ظاهر في نتائج أبرز المناظرات:

أ. ففي مناظرته مع بعض النصارى بين له شيخ الإسلام ولمن كان معه اللوازم الفاسدة التي تلزم من مقالتهم واعتقادهم «فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك»

(1)

.

ب. وفي مناظرته مع ثلاثة من رهبان الصعيد انتهت المناظرة باعترافهم وقولهم: «الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه»

(2)

.

ت. وفي مناظرته الأخرى مع أحد معظمي الرهبان، اعترف بعد سماعه حجة شيخ الإسلام، أن ما يقومون به شرك «حتى إن قسيساً كان حاضراً في هذه المسألة، فلما سمعها قال: نعم على هذا التقدير نحن مشركون»

(3)

.

ث. وفي مناظرته مع المنجمين، انتهت باعتراف رئيسهم بما قرره شيخ

(1)

الجواب الصحيح (3/ 329).

(2)

مجموع الفتاوى (1/ 170 - 171)، انظر: الجامع لسيرته (ص:89 - 90)، (ص: 143).

(3)

مجموع الفتاوى (27/ 461).

ص: 708

الإسلام من كذبهم وتخرصهم «فقال رئيسهم: والله إنا نكذب مائة كذبة حتى نصدق في كلمة»

(1)

.

ج. وفي مناظرته مع أحد حذاق الاتحادية، أفحمه شيخ الإسلام بقوة حجته حتى بُهِتَ ولم يجد جوابا فنازع في المسلمات، حتى ضحك منه الشيخ وظهر للناس فساد كلامه

(2)

.

ح. وفي مناظرته مع بعض معظمي الاتحادية والغالين في مشايخهم، بين له شيخ الإسلام حقيقة أقوالهم ومذهبهم «حتى رَجَعَ عن تعظيم هؤلاء، وكَفَر بما يقوله ابن العربي من الكفريات، وقال: ما كُنّا نَعرِف حقيقةَ حالِ هؤلاء، ولا نعرف أن كلامَهم مشتمل على هذا كله!»

(3)

.

خ. وفي مناظرته مع جمع من الرفاعية انتهت المناظرة بتوبة جماعة منهم

(4)

.

د. وفي المناظرة الكبرى للرفاعية عند قصر الإمارة، انتهت المناظرة بظهور شيخ الإسلام عليهم، وطلبهم الصلح والتوبة مما مضى، وإلزام السلطان لهم باتباع الكتاب والسنة وعدم الخروج عنهما

(5)

.

ذ. وفي مناظرته مع أحد مشايخ الرفاعية عندما أراد إظهار قدرته على دخول النار قال له الشيخ: «أنا ما أكلفك ذلك ولكن دعني أضع هذه الطوافة في ذقنك. فجزع ذلك الفقير وأبلس»

(6)

.

ر. وانتهى المجلس الأول من المناظرة الواسطية وقد أظهر الله من قيام الحجة وبيان المحجة: ما أعز الله به السنة والجماعة، وأرغم به أهل

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 172)، الفتاوى الكبرى (1/ 62).

(2)

الصفدية (1/ 296 - 297).

(3)

جامع المسائل (4/ 394).

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 477).

(5)

انظر: المصدر السابق (11/ 474، 475).

(6)

الوافي بالوفيات ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام (371).

ص: 709

البدعة والضلالة

(1)

.

ز. وانتهت مجالس المناظرة الواسطية باعتراف الحاضرين جميعا بصحة ما جاء في العقيدة

(2)

.

س. وفي المناظرة المدنية، تبين للرجل ما كان عليه من باطل واقتنع بما قرره شيخ الإسلام من الحق فـ «أظهر الرجل التوبة وتبين له الحق»

(3)

.

ش. وفي مناظرته مع بعض منكري العلو، تاب الرجل واستغفر الله، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم

(4)

.

فهذه أبرز المناظرات وأشهرها، وهذه نتائجها وثمرتها، وهي تبرز بوضوح عظيم أثر منهج شيخ الإسلام في نتائج المناظرات، وضرورة التزام كل داعية يواجه أهل الباطل ويناظرهم ويخاصمهم ويجادلهم بمثل هذا المنهج العظيم، والمسلك القويم، الذي ينتج أفضل العواقب وأنفعها، وخير الثمار وأينعها.

‌ثانياً: أهم التوصيات:

مع كثرة ما كتب حول شيخ الإسلام رحمه الله إلا أن هناك جوانب في تراثه لا زالت تستحق مزيداً من العناية وتستحق الإفراد بالدراسة، ومن ذلك ما يلي:

-إفراد منهج شيخ الإسلام في المناظرات بدراسة مستقلة.

-جمع تعريفات شيخ الإسلام للمصطلحات العقدية واللغوية والفقهية والحديثية والأصولية في بحث مستقل.

-إفراد كلام شيخ الإسلام في الملوك والأمراء والوزراء والدول والممالك المتعاقبة في بحث مستقل، فله كلام كثير نفيس في عقائدها وأحوالها وسياستها،

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 180).

(2)

انظر: العقود الدرية (ص:212).

(3)

مجموع الفتاوى (6/ 372).

(4)

درء التعارض (6/ 344).

ص: 710

يستحق أن يفرد بمصنف.

-لو أفردت القصائد التي قيلت في مدح شيخ الإسلام والثناء عليه لكانت -لكثرتها وعذوبة ألفاظها وجزالة معانيها- ديواناً مليحاً.

وبهذا تم المقصود من هذا البحث، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 711

‌ثبت المصادر والمراجع

1.

الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، الحسين بن إبراهيم الجورقاني، ت:543 هـ، تحقيق: د. عبد الرحمن الفريوائي، دار الصميعي-الرياض، مؤسسة دار الدعوة التعليمية الخيرية، الهند، الطبعة الرابعة 1422 هـ.

2.

الإبانة الكبرى لابن بطة، عبيد الله بن محمد ابن حمدان العُكْبَري، ت:387 هـ، تحقيق: رضا معطي، وعثمان الأثيوبي، ويوسف الوابل، والوليد بن سيف النصر، وحمد التويجري، دار الراية للنشر والتوزيع- الرياض.

3.

ابن تيمية الفقيه المعذب، عبد الرحمن الشرقاوي، دار الشروق- القاهرة، الطبعة الأولى 1410 هـ.

4.

اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء، أحمد بن علي تقي الدين المقريزي ت:845 هـ، تحقيق: جمال الدين الشيال- محمد حلمي محمد، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، الطبعة الأولى.

5.

آثار البلاد وأخبار العباد، زكريا بن محمد القزويني ت:682 هـ، دار صادر - بيروت.

6.

الآثار، محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

7.

الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء دراسة تحليلية، عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة: السنة الطبعة الثالثة والثلاثون، العدد الحادي عشر بعد المائة، 1421 هـ/2000 م.

8.

أحاديث في ذم الكلام وأهله انتخبها الإمام أبو الفضل المقرئ من رد أبي عبد الرحمن السلمي على أهل الكلام، عبد الرحمن بن أحمد المقرئ

ص: 736

ت:454 هـ، د. ناصر بن عبد الرحمن بن الجديع، دار أطلس للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1417 هـ.

9.

الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين الخطيب، ت:776 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ.

10.

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، محمد بن حبان أبو حاتم البُستي، ت:354 هـ، ترتيب: علاء الدين علي بن بلبان الفارسي ت:739 هـ، تحقيق وتخريج: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

11.

الإحكام في أصول الأحكام، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي ت:456 هـ، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

12.

أحكام الجنائز، محمد ناصر الدين الألباني (ت:1420 هـ)، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة 1406 هـ.

13.

الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، ت 631 هـ، تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي، دار الصميعي - الرياض، الطبعة الأولى، 1424 هـ.

14.

إحياء علوم الدين، محمد بن محمد الغزالي، ت:505 هـ، دار المعرفة - لبنان، بيروت.

15.

إخبار العلماء بأخبار الحكماء، أبو الحسن علي بن يوسف القفطي، ت: 646 هـ، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الطبعة الأولى 1426 هـ - 2005 م.

16.

أخلاق العلماء، أبو بكر محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ، ت:360 هـ، تحقيق: إسماعيل بن محمد الأنصاري، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - السعودية.

17.

آداب البحث والمناظرة، محمد الأمين الشنقيطي، ت:1325 هـ، تحقيق: سعود بن عبد العزيز العريفي، دار عالم الفوائد، مؤسسة سليمان الراجحي الخيرية.

18.

آداب الشافعي ومناقبه، عبد الرحمن بن محمد ابن أبي حاتم الرازي ت:327 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ.

ص: 737

19.

أدب الاملاء والاستملاء (الأمالي)، عبد الكريم بن محمد السمعاني ت:562 هـ، تحقيق: ماكس فايسفايلر، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1401 هـ.

20.

الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل البخاري ت:256 هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية - بيروت، الطبعة الثالثة، 1409 هـ - 1989.

21.

آراء الفلاسفة عند شيخ الإسلام، صالح بن غرم الله الغامدي، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى 1424 هـ.

22.

الأربعين في أصول الدين، محمد بن عمر الرازي، ت:606 هـ، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، مطبعة دار التضامن القاهرة، الطبعة الأولى.

23.

إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني ت:1420 هـ، إشراف: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثانية 1405 هـ - 1985 م.

24.

الاستذكار، يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري ت:463 هـ، تحقيق: سالم محمد عطا - محمد علي معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

25.

الاستقامة، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1403 هـ.

26.

الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد الله القرطبي ت:463 هـ، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

27.

أسد الغابة، علي بن أبي الكرم الجزري ت:630 هـ، دار الفكر - بيروت، 1409 هـ.

28.

الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة المعروف بالموضوعات الكبرى، ملا علي قاري، ت:1014 هـ، تحقيق: محمد الصباغ، دار الأمانة، مؤسسة الرسالة - بيروت.

ص: 738

29.

أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت: 751 هـ، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد: دار الكتاب الجديد - بيروت، الطبعة الرابعة، 1403 م.

30.

الأسماء والصفات للبيهقي، أحمد بن الحسين البيهقي ت:458 هـ، تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م

31.

الإشارات والتبيهات، ابن سينا، تحقيق: د. سليمان دنيا، دار المعارف -مصر.

32.

الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت:852 هـ، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود -علي محمد معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى - 1415 هـ.

33.

أصول التشيع (عرض ودراسة)، السيد هاشم معروف الحسني، دار التعارف للمطبوعات.

34.

أصول الجدل والمناظرة، حمد بن إبراهيم العثمان، دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الثانية 1425 هـ.

35.

أصول الدين، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي، ت 429 هـ، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1423 هـ.

36.

أصول السنة، ومعه رياض الجنة بتخريج أصول السنة، محمد بن عبد الله ابن أبي زَمَنِين المالكي ت:399 هـ، تحقيق: عبد الله بن محمد البخاري، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1415 هـ.

37.

أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، ناصر بن عبد الله القفاري، الطبعة الأولى، 1414 هـ.

38.

أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية، ناصر بن عبد الله القفاري، دار الرضا-مصر، الطبعة الرابعة 1431 هـ.

39.

الاضحوية في المعاد، ابن سينا، تحقيق: حسن عاصي، مؤسسة شمس تبريزي-طهران، الطبعة الأولى 1382 هـ.

ص: 739

40.

الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث، أحمد بن الحسين البيهقي، ت: 458 هـ، تحقيق: أحمد عصام الكاتب، دار الآفاق الجديدة - بيروت، الطبعة الأولى، 1401 هـ.

41.

اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، محمد بن عمر الرازي ت:606 هـ، تحقيق: علي سامي النشار، دار الكتب العلمية - بيروت.

42.

الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، سراجُ الدينِ أبو حفصٍ عمرُ بنُ عليِّ البزَّارُ، ت: 749 هـ، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة: الطبعة الثالثة، 1400 هـ.

43.

الإعلام بآخر أحكام الألباني الإمام، محمد ناصر الدين الألباني ت: 1420 هـ، راجعه: محمد عبد الحكيم القاضي، دار ابن رجب.

44.

الأعلام، خير الدين بن محمود بن فارس الزركلي، ت 1396 هـ، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، 2002 م.

45.

أعيان العصر وأعوان النصر، خليل بن أيبك الصفدي ت 764 هـ، تحقيق: د. علي أبو زيد- د. نبيل أبو عشمة- د. محمد موعد - د. محمود سالم محمد - مازن عبد القادر المبارك، دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان/دمشق، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

46.

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت:751 هـ، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية.

47.

اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت:728 هـ، تحقيق: ناصر عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة، 1419 هـ - 1999 م.

48.

أقسام اللذات، محمد بن عمر فخر الدين الرازي، ضمن كتاب The Teleogical Ethics Of Fakhr al-Din al-Razi (الأخلاق الانفعالية لفخر الدين الرازي) لـ أيمن شهادة، BRAILL LEDEN 2006، يبدأ نص الكتاب من ص:206.

ص: 740

49.

إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال، علاء الدين مغلطاي الحنفي ت:762 هـ، تحقيق: عادل بن محمد - أسامة بن إبراهيم، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1422 هـ.

50.

الأم، محمد بن إدريس الشافعي ت:204 هـ، دار المعرفة - بيروت، بدون طبعة، 1410 هـ/1990 م.

51.

أمثال الحديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، ت:360 هـ، تحقيق: أحمد عبد الفتاح تمام، مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت، الطبعة الأولى، 1409 هـ.

52.

أمثال العرب، المفضل بن محمد الضبي، ت: نحو 168 هـ، تحقيق: إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1403 هـ.

53.

الأمثال، القاسم بن سلاّم الهروي ت:224 هـ، د. عبد المجيد قطامش، دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى، 1400 هـ.

54.

الأمثال، زيد بن عبد الله الهاشمي، ت: بعد 400 هـ، دار سعد الدين، دمشق، الطبعة الأولى، 1423 هـ.

55.

أمراض القلب وشفاؤها، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت: 728 هـ، المطبعة السلفية - القاهرة، الطبعة الثانية، 1399 هـ

56.

إنباء الغمر بأبناء العمر، أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، ت: 852 هـ، المحقق: د حسن حبشي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية -لجنة إحياء التراث الإسلامي، مصر، 1389 هـ، 1969 م.

57.

الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار، يحيى بن أبي الخير العمراني ت:558 هـ، تحقيق: سعود بن عبد العزيز الخلف، أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1419 هـ/1999 م.

58.

إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، إسماعيل بن محمد أمين الباباني البغدادي، ت:1399 هـ، تحقيق: رفعت بيلكه الكليسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.

59.

الإيمان، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت:728 هـ، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، عمان، الأردن، الخامسة، 1416 هـ.

ص: 741

60.

الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي ت:774 هـ، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية.

61.

بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، حمد باقر المجلسي، ت:1111 هـ، مؤسسة الوفاء-بيروت لبنان.

62.

البحر المحيط في أصول الفقه، محمد بن عبد الله الزركشي ت:794 هـ، دار الكتبي، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م.

63.

البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي، ت: 745 هـ، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر - بيروت، الطبعة: 1420 هـ.

64.

البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، ت:774 هـ، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م.

65.

البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي الشوكاني، ت: 1250 هـ، دار المعرفة - بيروت.

66.

البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي، أو: علي بن أبي طالب إمام العارفين، أحمد الغماري، مطبعة السعادة، الأولى، الأولى 1389 هـ.

67.

البرهان في أصول الفقه، عبد الملك بن عبد الله الجويني ت:478 هـ، صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1418 هـ.

68.

البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، ت: 794 هـ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الطبعة الأولى، 1376 هـ - 1957 م، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه.

69.

بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، تحقيق: موسى الدويش، مكتبة العلوم والحكم، السعودية، المدينة المنورة، الطبعة الثالثة، 1415 هـ/1995 م.

70.

بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، أحمد بن يحيى أبو جعفر الضبي ت:599 هـ، دار الكاتب العربي - القاهرة، 1967 م.

ص: 742

71.

بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، ت:911 هـ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية - لبنان / صيدا.

72.

البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى تحقيق: 817 هـ، دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الطبعة الأولى 1421 هـ- 2000 م.

73.

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، مجموعة من المحققين، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الأولى، 1426 هـ.

74.

البيان والتبيين، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني ت:255 هـ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1423 هـ.

75.

تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الزَّبيدي ت: 1205 هـ، مجموعة من المحققين، دار الهداية.

76.

تاريخ ابن الوردي، عمر بن مظفر ابن الوردي، ت:749 هـ، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م.

77.

تاريخ إربل، المبارك بن أحمد الإِربلي ت:637 هـ، تحقيق: سامي بن سيد الصقار، وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد للنشر، العراق، 1980 م.

78.

تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، ت:748 هـ، تحقيق: بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003 م.

79.

تاريخ الخلفاء، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت:911 هـ: تحقيق: حمدي الدمرداش، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأولى: 1425 هـ-2004 م.

80.

تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك)، محمد بن جرير الطبري ت:310 هـ، دار التراث - بيروت، الطبعة الثانية - 1387 هـ.

81.

تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم، أبو المحاسن المفضل بن محمد التنوخي، ت:442 هـ، تحقيق: الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة، الطبعة الثانية 1412 هـ - 1992 م.

ص: 743

82.

التاريخ الكبير المعروف بتاريخ ابن أبي خيثمة، أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة، ت: 279 هـ، تحقيق: صلاح بن فتحي هلال، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر - القاهرة، الطبعة: الطبعة الأولى، 1427 هـ.

83.

التاريخ الكبير، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، ت: 256 هـ، الطبعة: دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد - الدكن.

84.

تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، ت:463 هـ، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي - بيروت، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 م.

85.

تاريخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر، ت:571 هـ، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415 هـ - 1995 م.

86.

تاريخ مختصر الدول، غريغوريوس (يوحنا) ابن هارون أبو الفرج ابن العبري، ت:685 هـ، المحقق: أنطون صالحاني اليسوعي، دار الشرق، بيروت، الطبعة: الثالثة، 1992 م.

87.

تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس، عبد الله بن عبد الرحمن "أبابطين"، ت:1282 هـ، تحقيق: عبد السلام بن برجس العبد الكريم، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1422 هـ.

88.

تأويل مختلف الحديث، عبد الله بن مسلم الدينوري ت:276 هـ، المكتب الاسلامي - مؤسسة الإشراق، الطبعة الثانية- مزيده ومنقحة 1419 هـ.

89.

التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، طاهر بن محمد الأسفراييني ت:471 هـ، تحقيق: كمال يوسف الحوت، عالم الكتب - لبنان، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م.

90.

تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر ت:571 هـ، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة، 1404 هـ.

91.

التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، علي بن سليمان المرداوي ت:885 هـ، تحقيق: د. عبد الرحمن الجبرين - د. عوض القرني - د. أحمد السراح، مكتبة

ص: 744

الرشد - السعودية / الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

92.

التحف الربانية في جواب الأسئلة اللمدانية، يحيى بن محمد بن محمد الملياني الجزائري المالكي ت: 1096 هـ الطبعة: مطبعة السعادة بمصر.

93.

تحفة المريد على جوهرة التوحيد، إبراهيم بن محمد البيجوري، ت:1277 هـ، تحقيق: علي جمعة، دار السلام للطباعة، الطبعة الأولى 1422 هـ 2002 م.

94.

تحفة المريد على جوهرة التوحيد، إبراهيم بن محمد البيجوري، ت:1277 هـ، مطبعة الحلبي، الطبعة الأخيرة 1358 هـ- 1359 هـ.

95.

التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية، فالح بن مهدي آل مهدي ت:1392 هـ، مطابع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة الثالثة، 1413 هـ.

96.

تحقيق القول في مسألة: عيسى كلمة الله والقرآن كلام الله، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت:728 هـ، قسم التحقيق بدار النشر، دار الصحابة للتراث - طنطا (مصر)، الطبعة الأولى 1412 هـ / 1992 م.

97.

التدمرية، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، تحقيق: د. محمد بن عودة السعوي، مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة السادسة، 1421 هـ.

98.

تذكرة الحفاظ، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، ت: 748 هـ، دار الكتب العلمية بيروت-لبنان، الطبعة: الطبعة الأولى، 1419 هـ- 1998 م.

99.

تذكرة الموضوعات، محمد طاهر بن علي الهندي الفَتَّنِي، ت:986 هـ، إدارة الطباعة المنيرية، الطبعة: الأولى، 1343 هـ.

100.

تراجع العلامة الألباني فيما نص عليه تصحيحا وتضعيفا، أبو الحسن الشيخ، دار المعارف بالرياض، اختصره: محمد بو عمر.

101.

ترتيب المدارك وتقريب المسالك، عياض بن موسى اليحصبي، ت:544 هـ، تحقيق: ابن تاويت الطنجي- عبد القادر الصحراوي- محمد بن شريفة- سعيد أحمد أعراب، مطبعة فضالة - المحمديةالمغرب، الطبعة الأولى 1965 م.

102.

التسعينية، أحمد بن عبد الحليم الحراني، ت: 728 هـ، تحقيق: الدكتور محمد بن إبراهيم العجلان، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض - المملكة

ص: 745

العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م

103.

التصاريف لتفسير القرآن مما اشتبهت أسمائه وتصرفت معانيه، يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة التيمي، ت:200 هـ، تحقيق: هند شلبي، الشركة التونسية للتوزيع 1979 م.

104.

التعرف لمذهب أهل التصوف، أبو بكر محمد بن أبي إسحاق الكلاباذي ت:380 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.

105.

التعريفات الفقهية، محمد عميم الإحسان المجددي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م.

106.

التعليق على الرحيق المختوم، محمود بن محمد الملاح، الدار العالمية للنشر والتوزيع، الإسكندرية - جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى، 1431 هـ.

107.

التفسير الحديث، دروزة محمد عزت، دار إحياء الكتب العربية - القاهرة، 1383 هـ.

108.

تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، ت:310 هـ، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي- مركز البحوث بدار هجر، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.

109.

تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد الرازي، ت:327 هـ، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، الطبعة الثالثة - 1419 هـ.

110.

تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي ت:774 هـ، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1420 هـ.

111.

تفسير عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ت:211 هـ، تحقيق: د. محمود محمد عبده، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ.

112.

تقريب التدمرية، محمد بن صالح العثيمين ت:1421 هـ، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الدمام، الطبعة الأولى، 1419 هـ.

ص: 746

113.

تقريب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت:852 هـ، تحقيق: محمد عوامة: دار الرشيد - سوريا، الطبعة الأولى، 1406 - 1986

114.

تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، علي بن العِمران، دار عالم الفوائد - مكة، الطبعة الأولى، 1432 هـ.

115.

تكملة المعاجم العربية، رينهارت بيتر آن دُوزِي ت:1300 هـ، ترجمة: محمَّد سَليم النعَيمي- جمال الخياط، وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، الطبعة الأولى، من 1979 - 2000 م

116.

تلبيس إبليس، عبد الرحمن بن علي الجوزي ت:597 هـ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيرزت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

117.

تلخيص كتاب الاستغاثة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني ت:728 هـ، تحقيق: محمد علي عجال، مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1417 هـ.

118.

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي ت:463 هـ، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي - محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب، 1387 هـ.

119.

تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق: علي بن محمد العمران - محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد - مكة، الطبعة الأولى، شوال 1425 هـ.

120.

التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، محمد بن أحمد العسقلاني ت:377 هـ، تحقيق: محمد زاهد بن الحسن الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث - مصر.

121.

التنجيم والمنجمون وحكم ذلك في الإسلام، عبد المجيد بن سالم المشعبي، أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الطبعة الثانية، 1419 هـ/ 1998 م.

122.

تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت:852 هـ، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1326 هـ

123.

تهذيب السنن، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، المحقق: إسماعيل بن غازي مرحبا، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى 1428 هـ.

ص: 747

124.

تهذيب الكمال في أسماء الرجال، يوسف بن عبد الرحمن المزي ت:742 هـ، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ.

125.

تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي ت:370 هـ، محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م.

126.

التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد، محمد بن إسحاق بن مَنْدَه العبدي ت:395 هـ، تحقيق: د. علي بن محمد الفقيهي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، دار العلوم والحكم، سوريا.

127.

التوصل إلى حقيقة التوسل - المشروع والممنوع، محمد نسيب بن عبد الرزاق الرفاعي، ت:1413 هـ، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1399 هـ - 1979 م.

128.

التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ت:1233 هـ، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1404 هـ/ 1984 م.

129.

التوقيف على مهمات التعاريف، عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي المناوي، ت:1031 هـ، دار عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1410 هـ ـ-1990 م.

130.

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت:1376 هـ، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ -2000 م.

131.

ثلاثة مجالس من أمالي ابن مردويه، أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، ت:410 هـ، تحقيق: الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، دار علوم الحديث، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م.

132.

جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، ت:310 هـ، أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

ص: 748

133.

جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ت:795 هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة - بيروت، السابعة، 1422 هـ.

134.

جامع المسائل - المجموعة الثامنة، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد - مكة، الطبعة الأولى، 1432 هـ.

135.

جامع المسائل لابن تيمية - عزير شمس، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت: 728 هـ، تحقيق: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1422 هـ

136.

الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، ت:671 هـ، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة الثانية، 1384 هـ - 1964 م.

137.

الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد - مكة، الطبعة: الطبعة الثانية، شوال 1422 هـ.

138.

الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث، أحمد بن عبد الكريم الغزي ت:1143 هـ، تحقيق: بكر عبد الله أبو زيد، دار الراية - الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

139.

الجديد في الحكمة، سعيد بن منصور بن كمونة ت: 683 هـ، تحقيق: حميد مرعيد الكبيسي، مطبعة جامعة بغداد، 1403 م، بغداد.

140.

جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، محمد بن فتوح ابن أبي نصر الحميدي، ت:488 هـ، الدار المصرية للتأليف والنشر - القاهرة، 1966 م.

141.

الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن محمد أبي حاتم الرازي ت:327 هـ، طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية - بحيدر آباد الدكن - الهند، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الأولى، 1271 هـ.

142.

جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، نعمان بن محمود بن عبد الله الآلوسي، ت:1317 هـ، مطبعة المدني 1401 هـ - 1981 م.

143.

جمهرة الأمثال، الحسن بن عبد الله العسكري ت: نحو 395 هـ، دار الفكر - بيروت.

ص: 749

144.

جمهرة اللغة، محمد بن الحسن بن دريد الأزدي ت:321 هـ، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الأولى، 1987 م.

145.

جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف، عبد العزيز ين صالح الطويان، مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1419 هـ/1999 م.

146.

جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، شمس الدين بن محمد بن أشرف بن قيصر الأفغاني، ت:1420 هـ، دار الصميعي، الطبعة الأولى، 1416 هـ.

147.

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت: 728 هـ، تحقيق: علي بن حسن - عبد العزيز بن إبراهيم - حمدان بن محمد، دار العاصمة، السعودية، الطبعة: الطبعة الثانية، 1419 هـ / 1999 م.

148.

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت: 728 هـ، تحقيق: علي بن حسن - عبد العزيز بن إبراهيم - حمدان بن محمد، دار الفضيلة- السعودية، الطبعة الثانية، 1431 هـ.

149.

جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي، ت:1362 هـ، تحقيق: لجنة من الجامعيين، مؤسسة المعارف، بيروت.

150.

الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم، أحمد بن حجر الهيتمي، دار جوامع الكلم.

151.

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت:751 هـ، مطبعة المدني، القاهرة

152.

حاشية البجيرمي على شرح المنهج، سليمان بن محمد بن عمر البُجَيْرَمِيّ المصري الشافعي، ت:1221 هـ، مطبعة الحلبي، 1369 هـ - 1950 م.

153.

حاشية السندي على سنن ابن ماجه (كفاية الحاجة)، محمد بن عبد الهادي السندي ت:1138 هـ، دار الجيل - بيروت.

154.

حاشية السندي على سنن النسائي (مطبوع مع السنن)، محمد بن عبد الهادي السندي ت:1138 هـ، مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، الطبعة الثانية،

ص: 750

1406 -

1986 م.

155.

حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، حسن بن محمد بن محمود العطار ت:1250 هـ، دار الكتب العلمية، بدون طبعة وبدون تاريخ.

156.

الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، محمد أحمد الخطيب، دار الأقصى، عمان، الطبعة الأولى، 1406 هـ.

157.

الحسنة والسيئة، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت:728 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

158.

حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين، عبد الرحيم بن صمايل السلمي، دار المعلمة للنشر والتوزيع.

159.

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ت:430 هـ، دار السعادة - بجوار محافظة مصر، 1394 هـ - 1974 م.

160.

خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي ت:1093 هـ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الرابعة، 1418 هـ.

161.

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد أمين بن فضل الله المحبي الدمشقي، ت:1111 هـ، دار صادر - بيروت.

162.

خلق أفعال العباد، محمد بن إسماعيل بن المغيرة ت:256 هـ، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، دار المعارف السعودية - الرياض.

163.

درء تعارض العقل والنقل، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ت 728 هـ، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الثانية، 1411 هـ - 1991 م.

164.

دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية، سعود بن عبد العزيز الخلف، مكتبة أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية، الرابعة، 1425 هـ/2004 م.

165.

الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، تحقيق: محمد عبد المعيد ضان، مجلس دائرة المعارف العثمانية -

ص: 751

حيدر اباد، الطبعة الثانية، 1392 هـ.

166.

دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية، د. عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1424 هـ، الطبعة الثانية 1433 هـ.

167.

دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف، دار الوطن، السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

168.

دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد، تقي الدين الحصني، دار إحياء الكتب العربية 1350 هـ.

169.

دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني ت:728 هـ، تحقيق: د. محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن - دمشق، الطبعة الثانية، 1404 هـ.

170.

دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أحمد بن الحسين البيهقي ت:458 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى - 1405 هـ.

171.

الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، إبراهيم بن علي ابن فرحون اليعمري، ت:799 هـ، تحقيق: د. محمد الأحمدي، دار التراث للطبع والنشر، القاهرة.

172.

ديوان ابن الفارض، عمر بن علي ابن الفارض الحموي، ت:632 هـ، دار صادر-لبنان، بيروت.

173.

ديوان أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، إخراج: محمد ألتونجي، دار الطتاب العربي، الطبعة الأولى 1414 هـ.

174.

ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، ت:808 هـ، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م.

175.

ذم الكلام وأهله، عبد الله بن محمد الهروي ت:481 هـ، تحقيق: عبد الرحمن عبد العزيز الشبل، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

ص: 752

176.

ذيل طبقات الحنابلة، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ت: 795 هـ، تحقيق: د عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة: الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2005 م.

177.

ذيل مرآة الزمان، موسى بن محمد اليونيني ت:726 هـ، بعناية: وزارة التحقيقات الحكمية والأمور الثقافية للحكومة الهندية، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1413 هـ - 1992 م.

178.

رحلة ابن بطوطة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، محمد بن عبد الله ابن بطوطة ت:779 هـ، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 1417 هـ.

179.

الرد المحكم المبين على كتاب القول المبين، عبد الله الغماري، مكتبة القاهرة، الثانية 1374 هـ.

180.

الرد الوافر، محمد بن عبد الله الشهير بابن ناصر الدين، ت: 842 هـ، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة: الطبعة الأولى، 1393 هـ.

181.

الرد على الجهمية والزنادقة، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ت: 241 هـ، تحقيق: صبري بن سلامة شاهين، دار الثبات للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى.

182.

الرد على الجهمية، أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، ت:280 هـ، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر، دار ابن الأثير - الكويت، الطبعة الثانية، 1416 هـ.

183.

الرد على الشاذلي في حزبيه، وما صنفه في آداب الطريق، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت:728 هـ، تحقيق: علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد - مكة، الطبعة الأولى 1429 هـ.

184.

الرد على المنطقيين، أحمد بن عبد الحليم بن ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان.

185.

الرسالة القشيرية، عبد الكريم بن هوازن القشيري ت:465 هـ، تحقيق: عبد الحليم محمود -محمود بن الشريف، دار المعارف، القاهرة.

186.

رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب، علي بن إسماعيل أبي موسى الأشعري ت:324 هـ، تحقيق: عبد الله شاكر الجنيدي، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، 1413 هـ.

ص: 753

187.

رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، مرعي بن يوسف الكرمي، ت:1033 هـ، تحقيق: أسعد محمد المغربي، دار حراء - مكة المكرمة - السعودية، الطبعة الأولى، 1410 هـ.

188.

الروض المعطار في خبر الأقطار، محمد بن عبد الله الحِميرى ت:900 هـ، تحقيق: إحسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة - بيروت - طبع على مطابع دار السراج، الطبعة الثانية، 1980 م.

189.

رؤية الله، علي بن عمر الدارقطني ت:385 هـ، تحقيق: إبراهيم محمد العلي- أحمد فخري الرفاعي، مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن، سنة 1411 هـ.

190.

رياض الصالحين، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ت:676 هـ، تعليق وتحقيق: الدكتور ماهر ياسين الفحل، دار ابن كثير دمشق - بيروت، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.

191.

الزاهر في معاني كلمات الناس، محمد بن القاسم الأنباري ت:328 هـ، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة -بيروت، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

192.

الزهد والورع والعبادة، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت:728 هـ، تحقيق: حماد سلامة - محمد عويضة، مكتبة المنار - الأردن، الطبعة الأولى، 1407 هـ.

193.

الزهد، أبو السَّرِي هَنَّاد بن السَّرِي، ت:243 هـ، تحقيق: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، الطبعة الأولى، 1406 هـ.

194.

الزهد، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت:241 هـ، تحقيق: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1420 هـ.

195.

سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، محمد ناصر الدين الألباني، ت:1420 هـ، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى.

ص: 754

196.

سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، محمد ناصر الدين الألباني، ت:1420 هـ، دار المعارف، السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ / 1992 م.

197.

سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، محمد خليل بن علي بن محمد الحسيني، ت:1206 هـ، دار البشائر الإسلامية، دار ابن حزم، الطبعة الثالثة، 1408 هـ - 1988 م.

198.

السلوك لمعرفة دول الملوك، أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي ت:845 هـ، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.

199.

السنة، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخَلَّال، ت:311 هـ، تحقيق: د. عطية الزهراني، دار الراية - الرياض، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1989 م.

200.

السنة، أبو بكر بن أبي عاصم أحمد بن عمرو الشيباني ت:287 هـ، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الأولى، 1400.

201.

السنة، عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ، ت:290 هـ، تحقيق: د. محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، دار ابن القيم - الدمام، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م.

202.

السنة، محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي، ت:294 هـ، تحقيق: سالم أحمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

203.

سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، ت:273 هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية.

204.

سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ت:275 هـ، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت.

205.

سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي أبو عيسى، ت: 279 هـ، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي - بيروت، سنة النشر: 1998 م.

206.

سنن الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني ت:385 هـ، تحقيق: شعيب الارنؤوط - حسن عبد المنعم شلبي - عبد اللطيف حرز الله - أحمد برهوم، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ.

ص: 755

207.

السنن الصغرى للنسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، ت: 303 هـ، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، الطبعة: الطبعة الثانية، 1406 - 1986 م.

208.

السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، ت:303 هـ، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

209.

سنن سعيد بن منصور، أبو عثمان سعيد بن منصور الجوزجاني، ت:227 هـ، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الدار السلفية - الهند، الطبعة الأولى، 1403 هـ -1982 م.

210.

سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، ت:748 هـ، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ

211.

سيرة ابن إسحاق (كتاب السير والمغازي)، محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، ت:151 هـ، تحقيق: سهيل زكار، دار الفكر - بيروت، الطبعة الأولى 1398 هـ.

212.

السيرة النبوية لابن هشام، عبد الملك بن هشام الحميري ت:213 هـ، تحقيق: مصطفى السقا - إبراهيم الأبياري - عبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1375 هـ - 1955 م

213.

السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل، علي بن عبد الكافي السبكي، ت:756 هـ، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث-مصر.

214.

شذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي بن أحمد العكري الحنبلي، ت 1089 هـ، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير - دمشق/ بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ.

215.

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، هبة الله بن الحسن اللالكائي ت:418 هـ، تحقيق: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة - السعودية، الثامنة، 1423 هـ / 2003 م

216.

شرح الأصبهانية، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق: محمد بن عودة السعوي، مكتبة دار المنهاج - الرياض، الطبعة الأولى، 1430 هـ.

ص: 756

217.

شرح السنة، الحسين بن مسعود الشافعي، ت:516 هـ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط-محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م.

218.

شرح العقيدة الطحاوية، عليّ بن محمد ابن أبي العز الحنفي، ت: 792 هـ، تحقيق: أحمد شاكر، الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية، والأوقاف والدعوة والإرشاد، الطبعة: الأولى 1418 هـ.

219.

شرح العمدة، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت:728 هـ، دار عالم الفوائد، مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية، الطبعة الأولى 1436 هـ.

220.

شرح الكوكب المنير، محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي ابن النجار الفتوحي ت:972 هـ، تحقيق: محمد الزحيلي - نزيه حماد، مكتبة العبيكان، الطبعة الثانية، 1418 هـ.

221.

شرح المعلقات التسع، المنسوب لأبي عمرو الشيباني، تحقيق: عبد المجيد همو، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1422 هـ.

222.

شرح المعلقات السبع، حسين بن أحمد الزَّوْزَني ت:486 هـ، دار احياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1423 هـ.

223.

شرح حديث النزول، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت:728 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، الخامسة، 1397 هـ/1977 م.

224.

شرح ديوان المتنبي، أبو البقاء عبد الله بن الحسين محب الدين العكبري، ت:616 هـ، تحقيق: مصطفى السقا/إبراهيم الأبياري/عبد الحفيظ شلبي، دار المعرفة - بيروت.

225.

شرح عبد الوهاب بن الحسين على الرسالة الولدية، عبد الوهاب بن حسين الآمدي، تحقيق: عبد الحميد العيساوي، دار النور المبين -عمَّان 2014 م.

226.

شرح مختصر الروضة، سليمان بن عبد القوي الصرصري ت:716 هـ، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1407 هـ.

227.

شرف أصحاب الحديث، أحمد بن علي الخطيب البغدادي ت:463 هـ، تحقيق: د. محمد سعيد خطي اوغلي، دار إحياء السنة النبوية - أنقرة.

ص: 757

228.

الشريعة، محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ، ت:360 هـ، تحقيق: د. عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار الوطن - الرياض / السعودية، الطبعة الثانية، 1420 هـ.

229.

شعب الإيمان، أحمد بن الحسين أبو بكر البيهقي، ت:458 هـ، تحقيق: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد - الرياض، الدار السلفية ببومباي بالهند، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2003 م.

230.

الشعر والشعراء، عبد الله بن مسلم الدينوري ت:276 هـ، دار الحديث، القاهرة، 1423 هـ.

231.

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت:751 هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1398 هـ، 1978 م.

232.

الشيعة وأهل البيت، إحسان إلهي ظهير الباكستاني ت:1407 هـ، إدارة ترجمان السنة، لاهور - باكستان.

233.

صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندي، ت:821 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.

234.

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري ت: 393 هـ، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، الرابعة 1407 هـ.

235.

صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422 هـ.

236.

صَحِيحُ التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب، محمد ناصر الدين الألباني، مكتَبة المَعارف لِلنَشْرِ والتوزيْع، الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

237.

صحيح الجامع الصغير وزياداته، محمد ناصر الدين الألباني، ت:1420 هـ، المكتب الإسلامي.

238.

صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت 261 هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

239.

الصَّحيِحُ من أحاديث السّيرة النبوية، محمد بن حمد الصوياني، مدار الوطن للنشر، الطبعة الأولى، 1432 هـ - 2011 م.

ص: 758

240.

صحيح وضعيف سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، ت:1420 هـ،

241.

الصفدية، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت: 728 هـ، المحقق: محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية، مصر الطبعة: الطبعة الثانية، 1406 هـ.

242.

الصلاة وأحكام تاركها، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت:751 هـ، مكتبة الثقافة بالمدينة المنورة.

243.

الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت 751 هـ، تحقيق: علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة - الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

244.

الضعفاء الكبير، محمد بن عمرو العقيلي ت:322 هـ، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار المكتبة العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1404 هـ.

245.

الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، محمد بن عبد الرحمن السخاوي ت:902 هـ، منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت.

246.

ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار القلم دمشق-بيروت، الطبعة الأولى 1395 هـ.

247.

الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق، سليمان بن سحمان النجدي، ت:1349 هـ، تحقيق: عبد السلام بن برجس، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، السعودية، الرياض، الطبعة الخامسة، 1414 هـ - 1992 م.

248.

طبقات الحنابلة، محمد بن محمد ابن أبي يعلى الفراء ت:526 هـ، محمد حامد الفقي، دار المعرفة - بيروت.

249.

الطبقات السنية في تراجم الحنفية، تقي الدين بن عبد القادر الغزّيّ الحنفيّ، ت:1005 هـ، المحقق: عبد الفتاح الحلو، دارالرفاعي.

250.

طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين بن تقي الدين السبكي، ت 771 هـ، تحقيق: د. محمود الطناحي ود. عبد الفتاح الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1413 هـ.

251.

طبقات الصوفية، محمد بن الحسين النيسابوريت:412 هـ، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ 1998 م

ص: 759

252.

الطبقات الكبرى، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي، ت: 230 هـ، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت، الطبعة: الطبعة الأولى، 1968 م.

253.

الطبقات الكبرى، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي، ت: 230 هـ، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الطبعة الأولى، 1410 هـ.

254.

طبقات المعتزلة، أحمد بن يحيى المهدي ت:840 هـ، تحقيق: سُوسَنّة دِيفَلْد - فِلْزَر، دار مكتبة الحياة - بيروت، 1380 هـ.

255.

طبقات المفسرين العشرين، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي ت:911 هـ، تحقيق: علي محمد عمر، مكتبة وهبة - القاهرة، الطبعة الأولى، 1396 هـ.

256.

طبقات علماء إفريقية، وكتاب طبقات علماء تونس، محمد بن أحمد بن تميم التميمي المغربي الإفريقي، ت:333 هـ، دار الكتاب اللبناني، بيروت - لبنان.

257.

طريق الهجرتين وباب السعادتين، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت:751 هـ، دار السلفية، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 1394 هـ.

258.

ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، ت:1420 هـ، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثالثة - 1413 هـ - 1993 م.

259.

العبر في خبر من غبر، محمد بن أحمد الذهبي ت:748 هـ، تحقيق: محمد بسيوني، دار الكتب العلمية - بيروت.

260.

العبودية، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، تحقيق: حمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة السابعة المجددة 1426 هـ.

261.

العرش، محمد بن أحمد الذهبي ت:748 هـ، تحقيق: محمد بن خليفة بن علي التميمي، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الطبعة الثانية، 1424 هـ.

262.

عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، محمود بن أحمد الحنفى ت:855 هـ، حققه ووضع حواشيه: محمد محمد أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مركز تحقيق

ص: 760

التراث، 1407 هـ - 1987 م.

263.

العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، محمد بن أحمد بن عبد الهادي ت: 744 هـ، المحقق: محمد حامد الفقي، دار الكاتب العربي - بيروت.

264.

عقيدة السلف أصحاب الحديث، إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، تحقيق: ناصر الجديع، دار العاصمة - الرياض، الطبعة الثانية 1419 هـ.

265.

عقيدة الصوفية وحدة الوجود الخفية، أحمد بن عبد العزيز القصير، مكتبة الرشد-الرياض، الطبعة الأولى 1424 هـ.

266.

العقيدة الطحاوية، أبو جعفر أحمد بن الطحاوي ت: 321 هـ، شرح وتعليق: محمد ناصر الدين الألباني،: المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة: الطبعة الثانية، 1414 هـ.

267.

عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، حمود بن عبد الله التويجري ت:1413 هـ، دار اللواء للنشر والتوزيع، الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1409 هـ.

268.

العلو للعلي الغفار في إيضاح صحيح الأخبار وسقيمها، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت:748 هـ، تحقيق: أشرف بن عبد المقصود، مكتبة أضواء السلف - الرياض، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1995 م.

269.

عيون الأنباء في طبقات الأطباء، أحمد بن القاسم بن خليفة ابن أبي أصيبعة، ت:668 هـ، تحقيق: الدكتور نزار رضا، دار مكتبة الحياة - بيروت.

270.

غاية الأماني في الرد على النبهاني، محمود شكري الألوسي، ت:1342 هـ، تحقيق: أبو عبد الله الداني بن منير آل زهوي، مكتبة الرشد، السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1422 هـ- 2001 م.

271.

غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، محمد ناصر الدين الألباني ت:1420 هـ، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثالثة - 1405 هـ.

272.

غريب الحديث، إبراهيم بن إسحاق الحربي أبو إسحاق ت: 285، تحقيق: د. سليمان إبراهيم محمد العايد، جامعة أم القرى - مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1405.

ص: 761

273.

غريب الحديث، القاسم بن سلاّم الهروي ت:224 هـ، تحقيق: د. محمد عبد المعيد خان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد- الدكن، الطبعة الأولى 1384 هـ.

274.

غريب الحديث، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت:276 هـ، تحقيق: د. عبد الله الجبوري، مطبعة العاني - بغداد، الطبعة الأولى، 1397 هـ.

275.

غلاة الشيعة الباطنية في الشام، د. يوسف درويش غوانمه، جمعية عمال المطابع التعاونية- عمان الاردن، الطبعة الأولى 1401 هـ.

276.

الفائق في غريب الحديث والأثر، محمود بن عمرو بن الزمخشري ت:538 هـ، تحقيق: علي محمد البجاوي - محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة - لبنان، الطبعة الثانية.

277.

الفتاوى الكبرى، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م.

278.

فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، إخراج: محب الدين الخطيب، دار المعرفة - بيروت، 1379 م.

279.

الفتوحات المكية، محمد بن علي بن عربي، تحقيق: عثمان يحيى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية 1405 هـ.

280.

فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب المعروف بحاشية الجمل، سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري، المعروف بالجمل، ت:1204 هـ، دار الفكر.

281.

الفتوى الحموية الكبرى، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت:728 هـ، تحقيق: د. حمد بن عبد المحسن التويجري، دار الصميعي - الرياض، الطبعة الثانية 1425 هـ.

282.

الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، عبد القاهر بن طاهر البغدادي ت:429 هـ، دار الآفاق الجديدة - بيروت، الطبعة الثانية، 1977 م.

283.

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت:728 هـ، حققه وخرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة دار البيان،

ص: 762

دمشق، 1405 هـ - 1985 م.

284.

الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري، ت: نحو 395 هـ، حققه: محمد إبراهيم سليم، دار العلم القاهرة - مصر.

285.

الفصل في الملل والأهواء والنحل، علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي، ت:456 هـ، مكتبة الخانجي - القاهرة.

286.

فصوص الحكم، محمد بن علي ابن عربي، ت:638 هـ، تعليق: أبو العلاء العفيفي، دار الكتاب العربي - بيروت.

287.

فضائح الباطنية، محمد بن محمد الغزالي الطوسي ت:505 هـ، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية - الكويت.

288.

فضائل الصحابة، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ت:241 هـ، تحقيق: د. وصي الله محمد عباس، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م.

289.

الفقيه والمتفقه، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، ت:463 هـ، تحقيق: عادل بن يوسف الغرازي، دار ابن الجوزي - السعودية، الطبعة الثانية، 1421 هـ.

290.

الفهرست، محمد بن إسحاق ابن النديم ت:438 هـ، تحقيق: إبراهيم رمضان، دار المعرفة بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1417 هـ.

291.

فوات الوفيات، صلاح الدين محمد بن شاكر، ت: 764 هـ، المحقق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت، الطبعة: الأولى 1974 م.

292.

الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة، مرعي بن يوسف الكرمى الحنبلى ت:1033 هـ، تحقيق: د. محمد بن لطفي الصباغ، دار الوراق - الرياض، الطبعة الثالثة، 1419 هـ - 1998 م.

293.

الفوائد في اختصار المقاصد، عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي، ت:660 هـ، تحقيق: إياد خالد الطباع، دار الفكر المعاصر، دار الفكر - دمشق، الطبعة الأولى، 1416 هـ.

ص: 763

294.

الفوائد، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت:751 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الثانية، 1393 هـ.

295.

فيض الوهاب في بيان أهل الحق ممن ضل عن الصواب، عبد ربه بن سليمان (القليوبي)، دار القومية 1383 هـ.

296.

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ت:728 هـ، تحقيق: ربيع بن هادي المدخلي، مكتبة الفرقان - عجمان، الطبعة الأولى (لمكتبة الفرقان) 1422 هـ.

297.

قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت:728 هـ، تحقيق: سليمان بن صالح الغصن، دار العاصمة - الرياض، الطبعة الثانية 1418 هـ / 1997 م

298.

القاموس المحيط، أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ت:817 هـ، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان، الثامنة، 1426 هـ - 2005 م.

299.

القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ت:817 هـ، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف: محمد نعيم العرقسُوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الثامنة، 1426 هـ - 2005 م.

300.

القانون في الطب، الحسين بن عبد الله بن سينا ت:428 هـ، المحقق: محمد أمين الضناوي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.

301.

قصة الحضارة، ويليام جيمس ديورَانت، ت:1981 م، تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين، دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1408 هـ - 1988 م.

302.

القضاء والقدر، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت:458 هـ، تحقيق: محمد بن عبد الله آل عامر، مكتبة العبيكان - الرياض، السعودية، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م.

303.

قطعة من تفسير عبد بن حميد، عبد الحميد بن حميد الكَسّي ويقال الكشي، ت 249 هـ، تحقيق: مخلف بنيه العرف. دار ابن حزم. الطبعة الأولى 1425 هـ.

304.

قواعد العقائد، محمد بن محمد الغزالي ت:505 هـ، تحقيق: موسى محمد علي، عالم الكتب - لبنان، الطبعة الثانية، 1405 هـ.

ص: 764

305.

الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، 329 هـ، تحقيق: قسم أحياء التراث، مركز دار الحديث.

306.

الكافية في الجدل، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق: خليل المنصور، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى: 1420 هـ

307.

الكامل في اللغة والأدب، محمد بن يزيد المبرد ت:285 هـ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي - القاهرة، الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م.

308.

كتاب الأمثال في الحديث النبوي، عبد الله بن محمد ابن حيان الأنصاري المعروف بأبِي الشيخ الأصبهاني، ت:369 هـ، تحقيق: د. عبد العلي عبد الحميد حامد، الدار السلفية - بومباي - الهند، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1987 م.

309.

كتاب التعريفات، علي بن محمد الشريف الجرجاني، ت:816 هـ، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت -لبنان، الطبعة الأولى 1403 هـ -1983 م.

310.

كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري ت:311 هـ، تحقيق: عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، مكتبة الرشد - السعودية - الرياض، الخامسة، 1414 هـ.

311.

كتاب السنة (ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة بقلم: محمد ناصر الدين الألباني)، أبو بكر بن أبي عاصم أحمد بن عمرو الشيباني ت:287 هـ، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1400 هـ/ 1980 م.

312.

كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ت:170 هـ، تحقيق: د مهدي المخزومي- د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.

313.

كتب الإمام الغزالي الثابت منها والمتحول للدكتور مشهد العلاف كتاب على الشبكة العنكبوتية، غير مطبوع، http://cutt.us/7 Bsh 7.

314.

الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، محمود بن عمرو الزمخشري تحقيق: 538 هـ، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الطبعة الثالثة - 1407 هـ.

315.

كشف الأستار عن زوائد البزار، علي بن أبي بكر الهيثمي ت:807 هـ، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ.

ص: 765

316.

الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث، إبراهيم بن محمد بن خليل الطرابلسي (سبط ابن العجمي) ت:841 هـ، تحقيق: صبحي السامرائي، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية - بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ.

317.

كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، إسماعيل بن محمد العجلوني ت:1162 هـ، مكتبة القدسي-القاهرة، 1351 هـ.

318.

كشف الخفاء ومزيل الإلباس، إسماعيل بن محمد العجلوني ت:1162 هـ، المكتبة العصرية، تحقيق: عبد الحميد بن أحمد بن يوسف بن هنداوي، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م

319.

الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة - لابن رشد الحفيد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت الطبعة الأولى 1998 م.

320.

الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ت:427 هـ، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1422، هـ.

321.

الكفاية في علم الرواية، أحمد بن علي الخطيب البغدادي ت:463 هـ، أبو عبدالله السورقي - إبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية - المدينة المنورة.

322.

الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبو البقاء أيوب بن موسى الكفوي الحنفي، ت:1094 هـ، تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري، مؤسسة الرسالة - بيروت.

323.

اللباب في علوم الكتاب، أبو حفص سراج الدين عمر بن علي الحنبلي، ت:775 هـ، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود - علي محمد معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الطبعة الأولى، 1419 هـ.

324.

لسان العرب، محمد بن مكرم ابن منظور الأنصاري، ت:711 هـ، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة - 1414 هـ.

325.

لسان الميزان، أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، ت:852 هـ، دائرة المعرف النظامية - الهند، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1390 هـ /1971 م.

ص: 766

326.

اللمع، لأبي نصر السراج الطوسي، تحقيق: عبد الحليم محمود- طه عبد الباقي سرور، مطبعة السعادة 1380 هـ ..

327.

لمعة الاعتقاد، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، ت:620 هـ، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1420 هـ.

328.

الماترودية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، شمس السلفي الأفغاني، مكتبة الصديق، الطائف، الطبعة الثانية، 1419 هـ.

329.

متن القصيدة النونية، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت 751 هـ، مكتبة ابن تيمية - القاهرة الطبعة الطبعة الثانية، 1417 هـ.

330.

مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي رحمه الله، أحمد بن محمد الأمين الشنقيطي، ت:1434 هـ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.

331.

المجالسة وجواهر العلم، أحمد بن مروان الدينوري ت:333 هـ، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان، جمعية التربية الإسلامية (البحرين - أم الحصم)، دار ابن حزم (بيروت - لبنان)، 1419 هـ.

332.

المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، محمد بن حبان البُستي ت:354 هـ، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي - حلب، الطبعة الأولى، 1396 هـ.

333.

مجلسان من الأمالي أحدهما في صفات الله، أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، ت:410 هـ، تحقيق: محمد بن زياد التُّكْله، دار البشائر الإسلامية - ضمن المجموعة التاسعة من لقاء العشر الأواخر (105)، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م.

334.

مجمع الآداب في معجم الألقاب، عبد الرزاق بن أحمد ابن الفوطي، ت:723 هـ، تحقيق: محمد الكاظم، مؤسسة الطباعة والنشر- وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران، الطبعة الأولى، 1416 هـ.

ص: 767

335.

مجمع الأمثال، أحمد بن محمد النيسابوري، ت:518 هـ، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، دار المعرفة - بيروت، لبنان.

336.

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي ت:807 هـ، تحقيق: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ.

337.

مجموع الفتاوى، أحمد بن عبد الحليم بن عبدالسلام ابن تيمية ت 728 هـ، جمع: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416 هـ/1995 م.

338.

مجموعة الرسائل والمسائل، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، ت:728 هـ، تحقيق: السيد محمد رشيد رضا - محمد الأنور أحمد البلتاجي، مكتبة وهبة - القاهرة، الطبعة الثانية 1412 هـ - 1992 م.

339.

مجموعة رسائل الإمام الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، ت:505 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ، 1994 م.

340.

المحرر في الحديث، محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي، ت:744 هـ، المحقق: د. يوسف عبد الرحمن المرعشلي- محمد سليم إبراهيم سمارة- جمال حمدي الذهبي، دار المعرفة - لبنان / بيروت، الطبعة الثالثة، 1421 هـ - 2000 م.

341.

المحصول، محمد بن عمر بن فخر الدين الرازي، ت: 606 هـ، دراسة وتحقيق: طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الطبعة الثالثة، 1418 هـ.

342.

المحنة على إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، عبد الغني المقدسي، 600 هـ، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1425 هـ.

343.

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت:751 هـ، تحقيق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة - مصر، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م.

344.

مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، محمد بن علي البعليّ، ت:778 هـ، تحقيق: عبد المجيد سليم - محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية.

345.

المخصص، علي بن إسماعيل بن سيده المرسي، ت:458 هـ، تحقيق: خليل إبراهم جفال، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الأولى،

ص: 768

1417 هـ، ـ 1996 م.

346.

المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال، بكر بن عبد الله أبو زيد، دار عالم الفوائد-مكة، الطبعة الثالثة 1432 هـ.

347.

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة، 1416 هـ - 1996 م.

348.

مرآة العقول في شرح أخبار الرسول، محمد باقر المجلسي، ت:1111 هـ، إخراج: السيد هاشم الرسولي، دار الكتب الإسلامية-طهران.

349.

المراسيل، سليمان بن الأشعث السِّجِسْتاني ت:275 هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

350.

المراسيل، عبد الرحمن بن محمد الرازي ت:327 هـ، تحقيق: شكر الله نعمة الله قوجاني، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأولى، 1397 هـ.

351.

مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي ت:739 هـ، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

352.

مسألة حدوث العالم، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، يوسف بن محمد مروان بن سليمان الأزبكي، دار البشائر الإسلامية - بيروت، الطبعة الأولى، 1433 هـ - 2012 م.

353.

مسألة في الكنائس، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ت:728 هـ، تحقيق: علي بن عبدالعزيز الشبل، مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة الأولى 1416 هـ.

354.

مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري، ت:749 هـ، المجمع الثقافي-أبو ظبي، الطبعة الأولى 1423 هـ.

355.

مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث السِّجِسْتاني، ت: 275 هـ، تحقيق: أبي معاذ طارق بن عوض الله، مكتبة ابن تيمية-مصر، الطبعة: الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.

356.

مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ت:275 هـ، تحقيق: أبي معاذ طارق بن عوض الله، مكتبة ابن تيمية، مصر، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.

357.

مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب، مرعي بن يوسف الكرمي، ت:1033 هـ، تحقيق: الدكتور نجم عبد الرحمن خلف، مكتبة

ص: 769

الرشد للنشر والتوزيع، السعودية - الرياض، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990 م.

358.

المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري، ت:405 هـ، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1411 - 1990 م.

359.

المستصفى، محمد بن محمد الغزالي ت:505 هـ، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1413 هـ.

360.

مسند أبي يعلى، أبو يعلى أحمد بن علي التميمي الموصلي، ت:307 هـ، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث - دمشق، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م.

361.

مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت: 241 هـ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي،: مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

362.

مسند البزار المنشور باسم البحر الزخار، أبو بكر أحمد بن عمرو البزار، ت: 292 هـ، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله-عادل بن سعد - صبري عبد الخالق الشافعي، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، الطبعة: الطبعة الأولى.

363.

مسند الدارمي (سنن الدارمي)، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت:255 هـ تحقيق: حسين سليم أسد الداراني دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية الطبعة الأولى، 1412 هـ.

364.

مسند الموطأ، رواية عبد الرحمن بن عبد الله الجوهري ت:381 هـ، تحقيق: لطفي بن محمد الصغير - طه بن علي بُو سريح، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997 م.

365.

مشاهير علماء نجد وغيرهم، عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 1392 هـ.

366.

مشكاة المصابيح، محمد بن عبد الله التبريزي ت:741 هـ، تخريج: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثالثة، 1985.

ص: 770

367.

مصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإيمان والإسلام، عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ت:1293 هـ، تحقيق: عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد، وزارة الشؤن الإسلامية والأوقاف والدعوة والأرشاد، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م.

368.

مصطلحات في كتب العقائد، محمد بن إبراهيم بن أحمد الحمد، دار بن خزيمة، الطبعة الأولى.

369.

المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة، ت:235 هـ، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى، 1409 هـ.

370.

المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني ت:211 هـ، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي- الهند، يطلب من: المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ.

371.

المصنوع في معرفة الحديث الموضوع (الموضوعات الصغرى)، ملا علي قاري ت:1014 هـ، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثانية، 1398 هـ.

372.

مظاهر الشرك في الديانة النصرانية، محمد بن عبد الله السحيم، جامعة الملك سعود 1430 هـ.

373.

المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، محمد بن محمد حسن شُرَّاب، دار القلم، الدار الشامية - دمشق- بيروت، الطبعة الأولى - 1411 هـ

374.

معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري أبو إسحاق الزجاج ت:311 هـ، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ.

375.

معاني القرآن، يحيى بن زياد الفراء ت:207 هـ، تحقيق: أحمد يوسف النجاتي - محمد علي النجار - عبد الفتاح إسماعيل الشلبي، دار المصرية للتأليف والترجمة - مصر، الطبعة الأولى.

376.

معجم اصطلاحات الصوفية، عبد الرزاق الكشاني، ت:730 هـ، تحقيق: عبد العال شاهين، دار المنار، الطبعة الأولى 1413 هـ.

ص: 771

377.

معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)، ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، ت:626 هـ، تحقيق: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م.

378.

معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي، المستشرق زامباور د. زكي محمد حسن-حسن أحمد محمود، دار الرائد العربي-بيروت، 1940 م-1980 م.

379.

المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني، ت: 360 هـ، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد - عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين - القاهرة.

380.

معجم البلدان، ياقوت بن عبد الله الحموي ت:626 هـ، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، 1995 م.

381.

معجم الشيوخ الكبير للذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت:748 هـ، تحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة، مكتبة الصديق، الطائف، السعودية، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

382.

معجم الصحابة، عبد الله بن محمد البغوي ت:317 هـ، محمد الأمين بن محمد الجكني، مكتبة دار البيان - الكويت، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

383.

المعجم الصوفي، الدكتورة سعاد الحكيم، دار ندرة-بيروت، الطبعة الأولى 1401 هـ.

384.

المعجم الفلسفي (بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية)، الدكتور جميل صليبا ت:1976 م، لشركة العالمية للكتاب - بيروت، 1414 هـ - 1994 م.

385.

المعجم الكبير، سليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني، ت:360 هـ، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، دار النشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة، الطبعة الثانية.

386.

معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد ت:1424 هـ، بمساعدة فريق عمل، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1429 هـ - 2008 م.

387.

المعجم المختص بالمحدثين، محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، ت:748 هـ، تحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة، مكتبة الصديق، الطائف،

ص: 772

الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م.

388.

معجم المطبوعات العربية والمعربة، يوسف بن إليان بن موسى سركيس، ت:1351 هـ، مطبعة سركيس، مصر، 1346 هـ - 1928 م.

389.

معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، عاتق بن غيث بن زوير الحربي ت:1431 هـ، دار مكة للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1402 هـ.

390.

معجم المناهي اللفظية وفوائد في الألفاظ، بكر بن عبد الله أبو زيد، ت: 1429 هـ، دار العاصمة للنشر والتوزيع - الرياض، الطبعة: الطبعة الثالثة، 1417 هـ -1996 م.

391.

معجم المؤلفين، عمر بن رضا ابن عبد الغني كحالة ت: 1408 هـ، مكتبة المثنى - بيروت، دار إحياء التراث العربي بيروت.

392.

المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، تحقيق:(إبراهيم مصطفى / أحمد الزيات / حامد عبد القادر / محمد النجار)، دار الدعوة

393.

معجم لغة الفقهاء، محمد رواس قلعجي - حامد صادق قنيبي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م

394.

معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، تحقيق: 395 هـ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر 1399 هـ.

395.

معرفة الصحابة، أحمد بن عبد الله الأصبهاني ت:430 هـ، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، دار الوطن للنشر، الرياض، الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998 م

396.

معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، محمد بن أحمد الذهبي ت:748 هـ، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1417 هـ.

397.

المغني لابن قدامة، موفق الدين عبد الله بن أحمد ابن قدامة المقدسي، ت:620 هـ، مكتبة القاهرة، تاريخ النشر: 1388 هـ - 1968 م.

398.

مفاتيح الغيب = التفسير الكبير، محمد بن عمر فخر الدين الرازي ت:606 هـ، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الثالثة - 1420 هـ.

ص: 773

399.

مفتاح العلوم، يوسف بن أبي بكر الخوارزمي، ت:626 هـ، اعتنى به: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1987 م

400.

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت:751 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت.

401.

المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، ت:502 هـ، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم الدار الشامية - دمشق بيروت، الطبعة الأولى - 1412 هـ.

402.

المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي ت:902 هـ، تحقيق: محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م

403.

مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، علي بن إسماعيل أبي موسى الأشعري ت:324 هـ، تصحيح: هلموت ريتر، دار فرانز شتايز، بمدينة فيسبادن (ألمانيا)، الطبعة الثالثة، 1400 هـ - 1980 م.

404.

مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، علي بن إسماعيل أبي موسى الأشعري ت:324 هـ، تحقيق: نعيم زرزور، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى، 1426 هـ.

405.

الملل والنحل، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، ت:548 هـ، مؤسسة الحلبي.

406.

المنار المنيف في الصحيح والضعيف، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت:751 هـ، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الأولى، 1390 هـ/1970 م.

407.

مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل، جمع وتعليق: د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، مطابع أضواء المنتدى، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م.

408.

مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره، الدكتور السيد الجميلي، دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ.

409.

مناظرة ابن تيمية لطائفة الرفاعية، إخراج: عبد الرحمن دمشقية، دار طيبة- الرياض، الطبعة الثانية 1413 هـ.

ص: 774

410.

مناقب الإمام أحمد، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، ت: 597 هـ، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر الطبعة: الطبعة الثانية، 1409 هـ.

411.

مناقب الإمام الشافعي، أحمد بن الحسين البيهقي ت:458 هـ، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار التراث، مصر، الطبعة الأولى، 1390 هـ.

412.

المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، ت:597 هـ، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 1992 م.

413.

المنثور من الحكايات والسؤالات، محمد بن طاهر ابن القيسراني، ت:507 هـ، تحقيق: جمال عزون، مكتبة دار المنهاج، الطبعة الأولى، 1430 هـ.

414.

منظومة طاش كبرى زاده ضمن مجموع المتون الكبير، مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1378 هـ-1958 م.

415.

منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس، عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ت:1293 هـ، تحقيق: دار الهداية للطبع والنشر والترجمة.

416.

منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م.

417.

منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد، عثمان علي حسن، دار إشبيليا-الرياض، الطبعة الأولى 1420 هـ.

418.

المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، يوسف بن تغري بردي الظاهري الحنفي، ت:874 هـ، تحقيق: د. محمد محمد أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

419.

المنية والأمل، القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المعتزلي ت:415 هـ، تحقيق: الدكتور سامي النشار - الدكتور عصام الدين محمد، دار المطبوعات الجامعية - الإسكندرية، 1972 م.

ص: 775

420.

المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي، ت:845 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

421.

موسوعة أقوال أبي الحسن الدارقطني في رجال الحديث وعلله، د. محمد مهدي المسلمي - أشرف منصور عبد الرحمن - عصام عبد الهادي محمود - أحمد عبد الرزاق عيد - أيمن إبراهيم الزاملي - محمود محمد خليل، عالم الكتب للنشر والتوزيع - بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2001 م.

422.

موسوعة أقوال الإمام أحمد بن حنبل في رجال الحديث وعلله، جمع وترتيب: السيد أبو المعاطي النوري - أحمد عبد الرزاق عيد - محمود محمد خليل، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1417 هـ.

423.

الموسوعة الحرة ويكيبيديا، https://ar.wikipedia.org

424.

موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد بن علي الفاروقي الحنفي، ت: بعد 1158 هـ، تحقيق: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية: د. عبد الله الخالدي، الترجمة الأجنبية: د. جورج زيناني، مكتبة لبنان ناشرون - بيروت، الطبعة الأولى - 1996 م.

425.

موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب، جيرار جهامي، مكتبة لبنان ناشرون - بيروت، الطبعة: الطبعة الأولى/ 1998 م.

426.

موقف ابن تيمية من الأشاعرة، عبد الرحمن بن صالح بن صالح المحمود، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة: الأولى، 1415 هـ / 1995 م.

427.

موقف ابن تيمية من الصوفية، محمد عبد الرحمن العريفي، مكتبة دار المنهاج- الرياض، الطبعة الأولى 1430 هـ.

428.

موقف الإمام ابن تيمية من التصوف والصوفية د. أحمد البناني، دار العلم للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1406 هـ.

429.

ميزان الاعتدال في نقد الرجال، محمد بن أحمد الذهبي ت:748 هـ، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1382 هـ - 1963 م.

430.

ميزان الحكمة، محمد الريشهري، درا الحديث، الطبعة الأولى 1422 هـ.

ص: 776

431.

نبذة عن آخر حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، إبراهيم بن أحمد الفياني، تحقيق: محب الدين الخطيب، المكتب الإسلامي لإحياء التراث - القاهرة، الطبعة الأولى 1425 هـ.

432.

النبوات، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، تحقيق: عبد العزيز بن صالح الطويان، أضواء السلف، السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ/2000 م.

433.

النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، يوسف بن تغري بردي الظاهري الحنفي، ت:874 هـ، تحقيق: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر.

434.

النخبة البهية في الأحاديث المكذوبة على خير البرية، محمد الأمير الكبير المالكي، ت:1228 هـ، المحقق: زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة: الأولى، 1409 هـ - 1988 م.

435.

نظرية العقد "العقود"، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الحنبلي، ت:728 هـ، تحقيق: محمد حامد الفقي - محمد ناصر الدين الألباني، مطبعة السنة المحمدية، الطبعة الأولى، 1386 هـ، 1949 م.

436.

نفائس الأصول في شرح المحصول، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، ت 684 هـ، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة: الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1995 م.

437.

نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري ت:1041 هـ، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر- بيروت - لبنان ص. ب 10، طبعة جديدة 1997.

438.

نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد، أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، ت:280 هـ، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، تحقيق: رشيد بن حسن الألمعي، الطبعة الأولى 1418 هـ.

439.

النكت على كتاب ابن الصلاح، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت:852 هـ، ربيع بن هادي المدخلي، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة

ص: 777

المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1404 هـ/1984 م.

440.

نهاية الأرب في فنون الأدب، أحمد بن عبد الوهاب شهاب الدين النويري ت:733 هـ، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423 هـ

441.

نهاية الإقدام في علم الكلام، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ت:548 هـ، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى /1425 هـ

442.

النهاية في غريب الحديث والأثر، المبارك بن محمد الجزري ت:606 هـ، تحقيق: طاهر الزاوى - محمود الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 هـ.

443.

النور السافر عن أخبار القرن العاشر، محي الدين عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العَيْدَرُوس، ت:1038 هـ، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ.

444.

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت:751 هـ، تحقيق: محمد أحمد الحاج، دار القلم- دار الشامية، جدة - السعودية، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م.

445.

هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل بن محمد أمين الباباني، ت:1399 هـ، دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان.

446.

الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية، محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي ت:1407 هـ، الطبعة الثانية.

447.

هذه هي الصوفية، عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب العلمية، الطبعة الرابعة 1984 م.

448.

الوابل الصيب من الكلم الطيب، ابن قيم الجوزية (ت: 751 هـ)، ت: سيد إبراهيم، دار الحديث - القاهرة، ط:3، 1999 م.

449.

الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي، تحقيق: أحمد الأرناؤوط، وتركي مصطفى، دار إحياء التراث - بيروت، 1420 هـ.

450.

الوجود الحق والخطاب الصدق، عبدالغني النابلسي، تحقيق: بكري علاء الدين، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، 1995 م.

ص: 778

451.

الوصية الكبرى، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية، مكتبة الصديق - الطائف، الطبعة: الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م.

ص: 779