الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
دراسات جامعية
لمرحلتي
الماجستير والدكتوراة
المنهج التأصيلي
لدراسة التفسير التحليلي
من صريف قلم الدكتور
عرفة بن طنطاوي
الحمدُ لله الذي أنزلَ كتابَه المجيدَ على أحسنِ أسلوب، وبهرَ بحسنِ أساليبِه وبلاغةِ تركيبِه القلوب، نزَّله آياتٍ بيِّناتٍ، وفصَّله سورًا وآياتٍ، ورتَّبَه بحكمتِه البالغةِ أحسنَ ترتيب، نظَمَه أعظمَ نظامٍ بأفصحِ لفظٍ وأبلغِ تركيبٍ، وصلَّى الله على من أُنزل إليه لينذرَ به وذكرى، ونزله على قلبهِ الشَّريفِ فنفى عنه الحرجَ وشرحَ له صدرًا، وعلى آله وصحبِه مهاجرةً ونصرًا
(1)
.
(1)
أسرار ترتيب القرآن، جلال الدين السيوطي (ت: 911 هـ)، تحقيق: عبدالقادر أحمد عطا، ص 37، دار الفضيلة، القاهرة.
•
الفصل الأول •
التفسير والتأويل
المبحث الأول: مفهوم التفسير
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم التفسير لغةً
التفسير في اللغة: اسمٌ، وجمعه؛ تفسيرات، وتفاسير، ويراد به: الشرح والبيان، وتفسير القرآن الكريم: توضيح معانيه، وبيان وجوه البلاغة والإعجاز فيه، وشرح في آياته؛ من أسباب النزول، والعقائد، والأحكام والحكم
(1)
.
فمن تأمل معاني التفسير وجدها مادة تدور حول الكشف، والإيضاح، والبيان للشيء.
وحول توضيح مادته يقول ابن فارس
(2)
: " (فَسَرَ) الفاء، والسين، والراء كلمة واحدة تدلُّ على بيانِ شيءٍ وإيضاحِه"
(3)
.
ويقول ابن منظور
(4)
: " (فسر) الفَسْرُ: البيان، فَسَر الشيءَ يفسِرُه بالكَسر وتَفْسُرُه بالضم فَسْرًا وفَسَّرَهُ: أَبانه. وقوله عز وجل:
(1)
عن قاموس معاني "الجامع". معجم مقاييس اللغة المؤلف: أحمد بن فارس، الناشر: دار الفكر عام النشر: 1399 هـ - 1979 م، الجزء (4)، الصفحة (504)
(2)
هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب الرازي، ولد في قرية كرسفة، منطقة رستاق الزهراء، كان أحد أئمة اللغة الأعلام نزيل همذان، كان من الرحالة في طلب العلم، توفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة للهجرة بالري ودفن بها، يُنظر: سير أعلام النبلاء، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد الذهبي 17/ 103، تحقيق: مجموعة بإشراف شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، (بدون).
(3)
معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس 4/ 402، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399 هـ.
(4)
هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الأفريقي ثم المصري أبو الفضل يعرف بابن منظور، ولد سنة ثلاثين وستمائة، بمصر وقيل في طرابلس، خدم في ديوان الآثار بالقاهرة ثم ولي القضاء في طرابلس ثم رجع إلى مصر ومات فيها سنة إحدى عشرة =
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، ولم يَرِد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في هذه الآية فقط"
(1)
؛ والفَسْرُ: كشف المُغَطّى، والتَّفْسير كَشف المُراد عن اللفظ المُشْكل، والتأْويل: ردّ أَحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهرواسْتَفْسَرْتُه كذا أَي سأَلته أَن يُفَسِّره لي.
والفَسْر: نظر الطبيب إلى الماء، وكذلك التَّفْسِرةُ؛ قال الجوهري: وأَظنه مولَّدًا، وقيل: التَّفْسِرةُ البول الذي يُسْتَدَلُّ به على المرض وينظر فيه الأطباء يستدلون بلونه على علة العليل، وهو اسم كالتَّنْهِيَةِ، وكل شيء يعرف به تفسير الشيء ومعناه، فهو تَفْسِرَتُه
(2)
.
ويقول السيوطي: "إنه مقلوب السَّفر، تقول: أسفَر الصبح، إذا أضاء، وقيل: مأخوذ من التَّفْسِرة؛ وهي اسم لما يَعرف به الطبيبُ المرضَ"
(3)
.
وقد سبق بيان ابن منظور له آنفًا، وأما معنى قول السيوطي (مقلوب) أي: مقلوب الجذر. ومن يرى أنّه مقلوب الجذر عن «السفر» كذلك يقول: سفرت المرأة سفورًا، إذا ألقت خمارها عن وجهها فهي سافرة
(4)
، وتقول: أسفر الصبح إذا أضاء
(5)
.
ومما عُرِّف به كذلك أنه: "الاستبانة، والكشف، والعبارة عن الشيء بلفظ أسهل وأيسر من لفظ الأصل"
(6)
.
ومما سبق يتبين أنّ المعاني اللغوية للتفسير متقاربة المعنى وأن اختلاف تناول اللغويون للأصل الاشتقاقي الذي انبثقت منه لفظة: "تفسير"، هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد،
=وسبعمائة وترك من مختصراته بخطه خمسمائة مجلد، يُنظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني 2/ 107، مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الهند، 1392 هـ - 1972 م، ط 2، تحقيق: محمد عبد المعيد ضان.
(1)
المدخل إلى التفسير الموضوعي (13)؛ د. عبدالستار فتح الله سعيد، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1411 هـ، 1991 م.
(2)
يُنظر: لسان العرب لابن منظور: (5/ 55).
(3)
الإتقان في علوم القرآن (6/ 2261)؛ جلال الدين السيوطي، مركز الدراسات القرآنية، طبعة مجمع الملك فهد، السعودية، ط 1
(4)
البرهان في علوم القرآن 2: 147.
(5)
الإتقان في علوم القرآن 4: 167.
(6)
لسان العرب لابن منظور 11/ 128.
وذلك لتقارب المعنى واتحاد دلالة المادتين، أعني مادة "فسر"، ومادة "سفر" وأن مادتيها تدوران حول الكشف "للمغلق" والمستور، والإيضاح "للمبهم"، والبيان "لما خفي"؛ «فالدلالة فيه واحدة في اللغة، تعني كشف المغلق، وتيسر البيان، والإظهار من الخفي إلى الجلي»
(1)
..
ومن هنا يتبين أنه: يستوي أن يكون التفسير مشتقًا من «الفسر» أو من «السفر» فدلالة المادتين واحدة في النهاية وهي الكشف عن شيء مختبئ
(2)
، وهو في اللغة: اسم، وجمعه؛ تفسيرات، وتفاسير، ويراد به: الشرح والبيان، وتفسير القرآن الكريم: توضيح معانيه، وبيان وجوه البلاغة، والإعجاز فيه، وشرح في آياته؛ من أسباب النزول، والعقائد، والأحكام والحكم
(3)
.
المطلب الثاني: بيان مفهوم التفسير اصطلاحًا
أما معنى التفسير اصطلاحًا، فقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك، ومن أشهرها:
1. تعريف أبي حيان في مقدمة تفسيره بقوله:
"التفسير: وهو: علم يُبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك". ثم شرحه بقوله: "فقولنا: (علم) هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا:(يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن) هذا هو علم القراءات، وقولنا:(ومدلولاتها) أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة، وقولنا:(وأحكامها الإفرادية والتركيبية) هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا:(ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب)
(1)
دراسات قرآنية 2: 15 - 16.
(2)
مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن:225.
(3)
يُنظر: تعريف ومعنى التفسير في معجم المعاني الجامع.
يشمل ما دلالته بالحقيقة وما دلالته بالمجاز، وقولنا:(وتتمات لذلك) هو معرفة النسخ، وسبب النزول، وقصة توضح ما انبهم فى القرآن، ونحو ذلك"
(1)
.
2. وعرّفه الزركشي بقوله:
"علم يعرف به فهم كتاب الله تعالى، المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه"
(2)
.
3. وقد ذكر السيوطي فى إتقانه عدة تعريفات كثيرة للتفسير
، واعتبر في كتابه «التحبير في علم التفسير» تعريف أبى حيان أحسن تعريف
(3)
.
ولعل خير ما يجمع تلك التعاريف كلها، ذلك الذى ذكره الزرقاني فى مناهله، حيث يقول:"والتفسير فى الاصطلاح: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم، من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية"
(4)
.
وهذا التعريف -على الرغم من إيجاز عبارته- تعريف جامع مانع، يناسب المطلوب من الصياغة في مثل هذا المقام.
ثم شرح الزرقاني تعريفه هذا شرحًا وافيًا، ثم بيّن لنا سبب تسمية هذا العلم بذلك الاسم، ووجه اختصاصه بها دون بقية العلوم، فقال: "وسمي علم التفسير لما فيه من الكشف والتبيين، واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم -مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبيين-
(1)
البحر المحيط: 1/ 13، 14 باختصار يسير.
(2)
البرهان: 2/ 104، 105، ط./ دار المعرفة.
(3)
التحبير 36، ط./ دار المنار.
(4)
مناهل العرفان: 2/ 3، ط./ الفنية المتحدة بالقاهرة.
لأنه لجلالة قدره، واحتياجه إلى زيادة الاستعداد، وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه، كان كأنه هو التفسير وحده، دون ما عداه"
(1)
(2)
.
4. ومن أبين ما قيل في تعريفه كذلك:
أنه علم: "استخراج المعاني المحتبسة والمستورة تحت الألفاظ، والكشف عن مدلولاتها ومقاصدها، وفق مجموعة من القواعد والضوابط التي تراعى عند الإجراء"
(3)
.
5. وقيل هو: "العلم الذي يبحث فيه المفسر عن كيفية النّطق بألفاظ القرآن الكريم
، ومدلولات هذه الألفاظ، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب، وغير ذلك كمعرفة النسخ، وسبب النزول، وما به من توضيح المقام كالقصة والمثل"
(4)
.
(1)
المصدر السابق: 2/ 10.
(2)
يُنظر: الموسوعة القرآنية المتخصصة المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين: (1/ 241 - 242)، الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر عام النشر: 1423 هـ.
(3)
أساسيات علم التفسير، إعداد: مركز المعارف للتأليف والتحقيق، الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية، الطبعة الأولى: 2017 م، الصفحة (16)
(4)
موسوعة التفسير قبل عهد التدوين المؤلف: محمد عمر الحاجي الناشر: دار المكتبي، دمشق الطبعة: الأولى، 1427 هـ، 2007 م، الصفحة (161).
المبحث الثاني: مفهوم التأويل
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم التأويل لغًة
التأويل لغة: "مصدر أوّل يؤوّل، وأوّل فعّل -بتشديد أوسطه- ثلاثيه آل يؤول أولا"، قال أهل اللغة: الأوْل الرجوع، وهذا تفسير تقريبي، وأغلب ما تستعمل في الرجوع الذي فيه معنى الصيرورة، ومن أمثلة اللغويين:"طبخ الشراب؛ فآل إلى قدر كذاو كذا". ولذلك وضع بعض النحاة "آل" في الأفعال التي تجيء بمعنى "صار"، وتعمل عملها. و" آل" قريب من معنى "حال"، أي: تحول من حال إلى حال.
والتأويل مأخوذ من هذا، فهو أن يجعل الكلام يؤول إلى معنى لم يكن ظاهرًا منه، فآل الكلام إلى أن حمل على ذلك المعنى بعد أن كان غير ظاهر فيه
(1)
.
ومما قيل في ذلك أنه: "مأخوذ من الأَوْل، وهو الرجوع، قال ابن منظور: الأول: الرجوع، آل الشيء يؤول أوْلاً، ومآلاً: رجع، وقال أبو عبيد: التأويل: (المرجع والمصير) "
(2)
.
وقيل: إن التأويل مأخوذ من الإيالة، وهي السياسة، قال الزبيدي:"آل الملك رعيته يؤول إِيَالاً: ساسهم وأحسن رعايتهم، وآل المال: أصلحه وساسه"
(3)
.
وعلى ذلك: فإن قلنا: إن التأويل مأخوذ من الأول، وهو الرجوع، فلأن فيه إرجاع الآية إلى ما تحتمله من المعاني، وإن قلنا: إنه مأخوذ من الإيالة وهي السياسة، فلأن المؤول يسوس الكلام، ويضعه في معناه اللائق به.
المطلب الثاني: مفهوم التأويل اصطلاحًا
أما التأويل واستعمالاته في الاصطلاح، فإنه يطلق على معان عدة:
من أهمها وأبرزها ما يأتي:
1.
يطلق على التفسير، وهو الإيضاح والتبيين، فيكون التفسير والتأويل بمعنى واحد، وهذا ما جرى عليه ابن جرير الطبري في تفسيره، حينما يقول: القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا، وبقوله: اختلف أهل التأويل فى هذه الآية.
2.
ويطلق على حقيقة الشيء ذاته، ونفس المراد بالكلام، فإذا قيل: غربت الشمس، فتأويل هذا هو نفس غروبها، وهذا، في نظر ابن تيمية رحمه الله
(4)
، هو لغة القرآن التي نزل بها.
3.
ويطلق على صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلي معنى آخر مرجوح، وهو بهذا الإطلاق نوعان: صحيح، وفاسد.
المطلب الثالث: بيان معاني التأويل في القرآن إجمالًا
فالتأويل لفظ مجمل يحتاج إلى تفسير وبيان؛ وله أربعة معان في كتاب الله تعالى على التفصيل التالي:
المعنى الأول: التفسير والمرجع وما يؤول إليه الكلام
؛ يقول الجوهري (ت 393 هـ): التأويل: تفسير ما يَؤُولُ إليه الشيء، أي: تفسيره ومرجعه"
(5)
.
المعنى الثاني: عاقبة الشيء؛ يقال: "آل الأمر إلى كذ
" إذا صار إليه ورجع
(6)
؛ ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، يقول ابن جرير الطبري (ت 310 هـ): يعني: وأحمد مَوْئلا ومغبّة، وأجمل عاقبة"
(7)
.
(1)
يُنظر: رسالة في حقيقة التأويل لعبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي اليماني (المتوفى: 1386 هـ) المحقق: جرير بن العربي أبي مالك الجزائري الناشر: دار اطلس الخضراء للنشر والتوزيع، الرياض الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م-عدد الأجزاء: 1 (1/ 41)، بتصرف واختصار.
(2)
لسان العرب (أول) ط./ دار المعارف.
(3)
تاج العروس للزبيدي (أول) ط./ الكويت.
(4)
كما يقول الدكتور محمد حسين الذهبي فى: التفسير والمفسرون: 1/ 20، طبعة المدني.
(5)
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: (4/ 1627).
(6)
يُنظر: تفسير الطبري: (6/ 205).
(7)
تفسير الطبري، مرجع سابق:(8/ 506).
وبنحو قول الطبري يقول الشوكاني: (ت: 1255 هـ) أحسن تأويلًا: أي أحسن عاقبة من آل إذا رجع وعليه يكون المعنى: أحسن مرجعًا ومآلًا
(1)
.
المعنى الثالث: الحقيقةُ التي يصيرُ إليها الشيء ويرجع
، حقيقة الشيء المخبر عنه؛ ومنه قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 53]، قال ابن زيد:"يوم يأتي حقيقته؛ وقرأ قول الله تعالى: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]، قال: هذا تحقيقها"، يقول:"ما آلت إليه رؤياي التي كنت رأيتها"، أي: تحقيق رؤياي
(2)
.
وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53]، أي: تحقيقه ووقوعُه، أي: يوم القيامة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما
(3)
: والمعني بذلك والذي يعود عليه الضمير: هو يوم القيامة.
المعنى الرابع: العلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل
؛ ومنه قوله تعالى فيما قصه علينا من قصة الخضر مع موسى عليهما السلام: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]
(4)
.
قال الطبري: يقول: بما يؤول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها، فلم تستطع على تَرك المسألة عنها، وعن النكير على فيها صبرًا، والله أعلم
(5)
.
وقال البغوي (ت 317 هـ): تأويل الشيء مآله أي قال له: إني أخبرك لم فعلت ما فعلت
(6)
.
إذًا فالتأويل: "رجوع الشيء إلى مآله"
(7)
. وهي معان متقاربة في لفظها ومعناها.
(1)
فتح القدير للشوكاني: (1/ 824)، تفسير-فتح القدير: الجامع بين فني الرواية والدراية، الشوكاني: محمد بن على بن محمد الشوكاني، دار المعرفة، سنة النشر: 1423 هـ -2004 م، عدد الأجزاء: جزء واحد.
(2)
تفسير الطبري-مرجع سابق: (16/ 271).
(3)
تفسير ابن كثير: (3/ 426)، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير بن زرع القرشي، طبعة: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط 5، 1417 هـ
(4)
ينظر: الصواعق المرسلة: (1/ 177).
(5)
تفسير الطبري - مرجع سابق: (18/ 81). ويُنظر كذلك: موقع مركز سلف للبحوث والدارسات، مقال رقم:(173) بتصرف غير يسير من الباحث.
(6)
تفسير البغوي - مرجع سابق: (10/ 406)
(7)
فتح القدير للشوكاني - مرجع سابق: (1/ 871).
المبحث الثالث: أنواع التأويل
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: بيان النوع الأول وهو التأويل الصحيح الذي يُحمَدُ طَالِبُهُ
هذا التأويل من شأن صاحبه محاولة معرفة مراد الله تعالى دون أن يكون له هوى أو غرض آخر؛ ولذلك فهو يهتم بالقرائن والضوابط والأدلة؛ فإذا حتم ذلك التأويل وكان المعنى لا يستقيم بغير ذلك مال إليه؛ وإلا فهو لا يؤول ما لا يقبل التأويل ولا يقول بالمجاز في المواضع التي لا تحتمل المجاز، ولا يصرف المعنى عن ظاهره إذا كانت الدلائل تشير إلى أن المعنى الظاهر هو المقصود، وإذا كان المؤول يتغلغل وراء الظواهر والألفاظ مستخرجًا منها المعاني الحسان والدقائق الفريدة فهذا وجه مطلوب لا يهتدي إليه إلا من آتاه الله بصيرة ثاقبة وعقلًا لماحًا وطبعًا صحيحًا وفهمًا عاليًا وإدراكًا متميزًا، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن العباس، رضي الله عنهما، وهو حبر الأمة بقوله:"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"
(1)
(2)
.
ومن صوره "البحث عن تفسير الأسماء والصفات ومعرفة معانيها على الوجه الذي تعرفه العرب من كلامها، فنحن نعرف معاني ما أخبرنا الله به من معاني أسمائه وصفاته سبحانه، كما نعلم معاني ما أخبرنا الله به من نعيم القبر وعذابه، وقيام الساعة، والبعث
(1)
قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ فقِّههُ في الدِّين". بهذا اللفظ فقط، ففي صحيحي البخاري 1/ 41 رقم 143، ومسلم 4/ 1927 رقم 2477 أما الحديث بطوله:(اللهمَّ فقِّههُ في الدِّين وعلمه التأويل) فهو في مسند الإمام أحمد 4/ 225 رقم 2397، 5/ 65 رقم 2879، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2589.
(2)
مشكلات التأويل، مقال عن موقع أهل التفسير/ لجمال الدين عبد العزيز، بتاريخ، 8/ 3/ 1430 هـ.
والنشور، والموقف وأهواله، والحساب والجزاء والميزان، والجنة ونعيمها، والنار وأهوالها"
(1)
.
المطلب الثاني: بيان النوع الثاني وهو التأويل الفاسد الذي يُذَمُّ طَالِبُهُ
"التأويل الفاسد بخلاف التأويل الصحيح، إذ يكون فيه لي أعناق النصوص حتى توافق غرض المستدل بها، وهنا يلوح للمستدل معنى ما كان ليلوح له لولا الغرض والهوى، أو قد لا يكون للمستدل غرض أو هوى، ولكنه يخطئ في إدراك المعنى لأمر توهمه ولم تنهض الأدلة أبدًا لإثباته أو تعضيده؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: " أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس"
(2)
(3)
ويكون التأويل الفاسد في كل ما ورد في عقيدة لم يُكَلَّف العبادُ بحقائقها وتفاصيلها، ولكن أُمِروا باعتقادها إجمالًا.
ومن أمثلته: "البحث عن حقيقة ما أخبرنا الله به من الغيوب التي لا يستطيع العباد بعقولهم المجردة إدراك حقيقتها، فالله أخبرنا بنعيم القبر وعذابه في عالم البرزخ، كما أخبرنا بالبعث والنشور، والحشر وأهواله، والجنة وأنهارها وثمارها وأطيارها وحورها، والنار وسمومها وحميمها وغسلينها، ونحن لا ندري حقيقة ما أخبرنا الله عنه، قال تعالى نافيًا علم العباد بحقيقة ما أخبر الله به من نعيم أهل الجنة:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، وفي الحديث القدسي:«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
(4)
.
وصفات الباري غيب لا نعرف حقيقتها، فالكلام عن الصفات فرع عن الكلام عن الذات، وحقيقة الذات غير معروفة لنا، فكذلك صفاته تبارك وتعالى"
(5)
.
(1)
يُنظر: التأويل، خطورته وآثاره، عمر بن سليمان الأشقر العتيبي المتوفى (1433 هـ): الناشر: دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الأولى: 1412 هـ:، (1/ 18 - 20)
(2)
نقل ذلك عنه شيخ الإسلام في القواعد النورانية، (ص: 364)، ومجموع الفتاوى (3/ 63).
(3)
مشكلات التأويل، مرجع سابق، نفس الموضع.
(4)
رواه البخاري (3072) ومسلم (2824) وعنده: (بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ).
(5)
يُنظر: التأويل خطورته وآثاره، مرجع سابق (1/ 18 - 20).
المبحث الرابع: ما يتعلق بالتأويل من جهة:
"ضوابطه وشروطه"، ومن جهة: "حكمه ومعناه
"
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أهم شروط وضوابط التأويل الصحيح عند المتأخرين
أهل التأويل الفاسد لهم في تأويلهم مقصدان إما أنهم يقصدون بتأويلهم إبطال معنى شرعي صحيح، وهذا النوع هو أكثر ما يتطرقون إليه، وإما أنهم يقصدون بتأويلهم إبطال لفظ شرعي صريح، ولذلك وضع أهل العلم شروطًا للتأويل الصحيح، ومن أبرز ما ذكروا في هذا الشأن ما يلي:
1.
أن يكون اللفظ المرادُ تأويله يحتمله المعنى المؤول لغة أو شرعًا؛ فلا يصح على هذا تأويلات الباطنية التي لا مستند لها في اللغة أو الشرع، بل ولا العقل.
2.
أن يكون السياق محتملًا، مثل لفظ (النظر) فهو يَحْتَمل معانيَ في اللغة، ولكنه إذا عدِّي بـ:(إلى) لا يحتمل إلا الرؤية.
3.
أن يقوم الدليل على أن المراد هو المعنى المؤول.
4.
أن يسلم دليل التأويل من معارض أقوى؛ فإذا اختل شرط من الشروط فهو تأويل فاسد.
مثال للتأويل الصحيح: قال الله عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النسيان هنا هو الترك"
(1)
وقد دل على هذا التأويل تصريحًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، وقوله سبحانه:{فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]
(2)
.
(1)
يُنظر الدر المنثور للسيوطي (7/ 431).
(2)
يُنظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص 177، والتوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية للشيخ فخر الدين المحيسي ص 185.
المطلب الثاني: حكم التأويل بمعناه الحادث عند المتأخرين
1.
قد يكون صحيحًا إذا اجتمعت فيه الشروط كما مرَّ.
2.
قد يكون خطأ كتأويلات بعض العلماء الذين أخطأوا في تأويل بعض نصوص الصفات.
3.
قد يكون بدعة كتأويلات الأشاعرة، والمعتزلة.
4.
قد يكون كفرًا كتأويلات الباطنية
(1)
.
"وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد، ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك، وكل تأويل وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول وما خالفه فهو المردود"
(2)
.
(1)
التأويل: مفهومه - معانيه - أمثلة عليه، محمد بن إبراهيم الحمد، عن موقع ملتقى أهل التفسير، بتاريخ، 18/ 10/ 1426 هـ.
(2)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم، المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) المحقق: علي بن محمد الدخيل (1/ 178).
المبحث الخامس: بيان الفَرْق بين التفسير والتأويل
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: بيان اختلاف العلماء في بيان الفَرْق بين التفسير والتأويل، وفي تحديد النسبة بينهما
1.
قال أبو عُبَيدة بن المثنى النحوي
(1)
، وطائفة: هما بمعنًى واحد، وعليه فهُما مترادفان، وهذا هو الشائعُ عند المتقدِّمين من علماء التفسير، كالإمام ابن جرير وغيره
(2)
.
2.
قال الراغب الأصفهاني: التفسيرُ أعمُّ من التأويل، وأكثرُ استعماله في الألْفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجُمَل، وأكثر ما يُستعمَل في الكتب الإلهية، والتفسير يُستعمل فيها وفي غيرها
(3)
، فالتفسير إمَّا أن يُستعمل في غريب الألفاظ كالبَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحَام، أو في تبيين المراد وشرْحه؛ كقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وإمَّا في كلام مضمَّن بقِصَّة لا يمكن تصوُّرُه إلا بمعرفتها؛ نحوَ قوله تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37].
وأمَّا التأويل: فإنَّه يُستعمَل مَرَّةً عامًّا، ومرةً خاصًّا، نحو (الكفر) المستعمَل تارةً في الجحود المطلَق، وتارةً في جحود الباري خاصَّة، و (الإيمان) المستعمل في التصديق المطلَق تارة، وفي تصديق دِين الحقِّ تارة، وإمَّا في لفظ مُشْتَرك بين معانٍ مختلفة، ونحو لفظ (وجد) المستعمل في الجد والوجد والوجود
(4)
.
3.
قول السيوطي في الإتقان: قيل إن التفسير: هو ما وقع مبينا في كتاب الله تعالى، أو معينا عليه في صحيح السنة لأن معناه قد ظهر واتضح. والتأويل: هو ما استنبطه العلماء، ولذا قال بعضهم التفسير هو ما يتعلق بالرواية والتأويل هو ما يتعلق بالدراية "
(5)
.
(1)
أبو عُبَيدة: هو معْمَر بن المثنى النحوي العلامة، يقال: إنَّه وُلِد سنة 110 هـ، توفي سنة 213 هـ، تاريخ بغداد:(13/ 252).
(2)
مجاز القرآن (1/ 86)، تحقيق: سزكين، ط: الخانجي، الإتقان في علوم القرآن:(4/ 167).
(3)
الإتقان في علوم القرآن) 4/ 167 (.
(4)
البرهان (2/ 149)، والتفسير المفسرون (1/ 20).
(5)
يُنظر: الإتقان للسيوطي: (2/ 173 - 174).
4.
وقال قوم: التفسير بيان وضْع اللفظ؛ إما حقيقةً وإما مجازًا، كتفسير (الصراط) بالطريق و (الصيب) بالمطر، والتأويل تفسير باطن اللفظ، مأخوذٌ من الأَوْل، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبارٌ عن حقيقة المراد، والتفسير إخبارٌ عن دليل المراد؛ لأنَّ اللفظ يكشِف عن المراد، والكاشف دليل، مثال ذلك: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، تفسيره: أنَّه من الرَّصْد، يقال: رصدته؛ أي: رقبته، والمرصاد: مِفْعال منه، وتأويله التحذير مِن التهاون بأمر الله والغَفْلة، والاستعداد للعَرْض عليه، وقواطع الأدلَّة تقتضي بيانَ المراد منه على خِلاف وضْع اللفظ في اللغة
(1)
، وعلى هذا فالنِّسبة بينهما التباين.
5.
وقال قوم: التأويل: صرْف الآية إلى معنًى محتمل موافِق لِمَا قبلها وما بعدها، غير مخالف للكتاب والسُّنة من طريق الاستنباط، فقد رُخِّص فيه لأهل العلم، والتفسير: هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنِها وقصتها، فلا يجوز إلا بالسماع بعدَ ثبوته من طريق النقْل
(2)
، وعليه فالنسبة بينهما التباين أيضًا.
6.
وقال قوم: التفسير يتعلق بالرِّواية، والتأويل يتعلَّق بالدِّراية
(3)
، والنسبة بينهما التباين أيضًا
7.
وقال قوم: ما وقع مبيَّنًا في كتاب الله، ومعيَّنًا في صحيح السنة، سُمِّي تفسيرًا؛ لأنَّ معناه قد وضح وظهر، وليس لأحد أن يتعرَّض إليه باجتهاد ولا غيره؛ بل يحمله على المعنى الذي ورَد لا يتعدَّاه، والتأويل: ما استنبطه العلماءُ العاملون لمعانِي الخطاب، الماهرون في آلاتِ العلوم
(4)
.
8.
وقال قوم: التفسير: هو بيان المعاني التي تُستفاد من وضْع العبارة، والتأويل: هو بيانُ المعاني التي تُستفاد بطريق الإشارة، فالنِّسبة بينهما التباين، وهذا هو المشهورُ عندَ المتأخرين، وقد نبَّه إليه الألوسي في مقدِّمة تفسيره
(5)
.
(1)
الإتقان في علوم القرآن (4/ 168)، التفسير والمفسرون (10/ 20).
(2)
مقدمة تفسير البغوي (1/ 46)، البرهان في علوم القرآن (2/ 150)، الإتقان:(4/ 169).
(3)
الإتقان للسيوطي: (4/ 196).
(4)
الإتقان: (4/ 168، 169).
(5)
روح المعاني (1/ 6)، التفسير والمفسرون:(1/ 21).
المطلب الثاني: بيان القول الراجح من أقوال العلماء في بيان معنى التفسير والتأويل
ولعلَّ أظهر الأقوال وأولاها بالقَبول: هو أنَّ التفسير: ما كان راجعًا إلى الرِّواية، والتأويل: ما كان راجعًا إلى الدِّراية؛ وذلك لأنَّ التفسير معناه الكشْف والبيان، والكشْف عن مراد الله تعالى لا يُجْزَم به إلا إذا وردَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعضِ أصحابه الذين شَهِدوا نزولَ الوحي، وعلموا ما أحاط به من حوادثَ ووقائع، وخالطوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم.
وأما التأويل: فملحوظٌ فيه ترجيح أحدِ محتملات اللفظ بالدليل، والترجيح يَعتمِد على الاجتهاد، ويُتوصَّل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لُغة العرب، واستعمالها بحسب السِّياق، ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعاني من كلِّ ذلك
(1)
.
قال أبو نصر القُشَيري
(2)
قال الزَّركشي
(3)
: ويُعتبَر في التفسير الاتباع والسَّماع، وإنما الاستنباط فيما يَتعلَّق بالتأويل.
قال الزَّركشي: وكأنَّ السبب في اصطلاح كثير على التفرِقة بين التفسير والتأويل التمييزُ بين المنقول والمستنبَط؛ ليحمل على الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط، تجويزًا له وازديادًا، وهذا من الفروع في الدِّين
(4)
.
(1)
التفسير والمفسرون: (1/ 22).
(2)
هو: الإمام المفسِّر أبو نصر عبد الرحيم بن شيخ الصوفية أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري النحوي المتكلم، مات سنة 524 هـ، سير أعلام النبلاء:(19/ 424).
(3)
البرهان في علوم القرآن (2/ 165)، دار الكتب العلمية.
(4)
الإتقان في علوم القرآن (3/ 167)، والبرهان (2/ 172)، والتفسير والمفسرون:(1/ 22).
المطلب الثالث: الخلاصة التي توصلت لها الدراسة في مبحث الفرق بين التفسير والتأويل
أولًا: فإنَّ التأويل أعمُّ من التفسير؛ وذلك لأنَّ كلمة التأويل وردت في القرآن الكريم بأكثر من معنى، في حين أنَّ الله تبارك تعالى لم يذكرْ كلمةَ التفسير ومشتقاتها إلا مرَّةً واحدة فقط في القرآن كله في قوله تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].
ثانيًا: إذا ذُكِر أحد اللفظين منفردًا قُصِد به المعنى الشامل للفظين معًا إذا اجتمع اللفظان معًا.
ثالثًا: إذا اجتمع اللفظان معًا "التفسير والتأويل" في شيء يخصُّ القرآن الكريم، كان المراد -والله أعلم - بالتفسير بيانَ المعاني التي تُستفاد من وضْع العبارة، وبالتأويل بيانَ المعاني التي تُستفادُ بطريق الإشارة، والله تعالى أعلم
(1)
.
وبهذا ينتهي الفصل الأول والحمد لله رب العالمين.
(1)
يُنظر: الفرق بين التفسير والتأويل، د. هاني البشبيشي، تاريخ الإضافة: 4/ 4/ 2013 ميلادي - 23/ 5/ 1434 هجري، عن موقع الألوكة، بتصرف يسير.
•
الفصل الثاني •
التعريف بالمنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي
المبحث الأول: التعريف بالمنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي من جهة ألفاظه التي تتكون من خمس كلمات
أ- المنهج
ب- التاصيلي
ج- لدراسة
د- التفسير
(1)
هـ- التحليلي
ولا بد أولًا: من التعرف على مفهوم هذه الكلمات ومدلولاتها في اللغة والاصطلاح، وذلك على النحو التالي:
المطلب الأول: مفهوم ومدلول كلمة المنهج في اللغة والاصطلاح
أ- بيان مفهوم ومدلول كلمة "منهج" في اللغة:
قال الرّاغب في المفردات: "النَّهْجُ: الطريقُ الوَاضِحُ، ونَهَجَ الأمْرُ وأَنْهَجَ: وَضَحَ، ومَنْهَجُ الطَّرِيقِ ومِنْهَاجُهُ، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية [المائدة: 48] "
(2)
.
قال أبو جعفر النحاس في معاني القرآن: والصراط في اللغة المنهاج الواضح
(3)
.
والمنهاج: الطريق الواضح البيِّنُ المستقيم، وقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]؛ أي: ثبتنا على المنهاج الواضح.
(1)
وقد سبق تعريفه في الفصل الأول.
(2)
المفردات للرّاغب الأصفهانيُّ (ص: 825)
(3)
معاني القرآن للنحاس (3/ 359)
وهو كما قال الزبيدي في تاج العروس (ت: 1205 هـ)
(1)
: السراط بالكسر: السبيل الواضح، وبه فسر قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، أي ثبتنا على المنهاج الواضح كما قاله الأزهري.
وكما قال ابن منظور في لسان العرب: الصراط، والسراط، والزراط، الطريق، قال الشاعر:
أَكُرُّ على الحَرورِيِّنَ مُهْري
…
وأَحْمِلُهُمْ على وَضَحِ الصِراطِ
(2)
قال شيخ المفسرين الإمام الطبريّ في تفسير قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية [المائدة: 48]: "وأما (المنهاج)، فإنّ أصله: الطريقُ البيِّنُ الواضح،
…
ثم يُستعمل في كل شيءٍ كان بيِّنًا واضحًا سهلاً"
(3)
.
وختامًا: فإن المنهج والمنهاج في اللغة لفظان مشتقان من النهج، الذي هو الطريق الواضح البيِّنُ.
ويمكننا في ضوء ما سلف أن نعرف المنهج في اللغة تعريفًا جامعًا مانعًا بأنه:
هو الطريق الواضح البين، وهو الصراط المستقيم، وهو السبيل السوي الّذي لا يتيه ولا يضل ولا ينحرف عنه سالكُه، بل يصلُ إلى غايته من ورائه مباشرةً، من غير التواءٍ ولا تعرُّج ولا انحراف ولا انجراف ولا اعوجاج.
ب- مفهوم ومدلول كلمة "منهج" في الاصطلاح
المنهج في الاصطلاح:
هو: الطريقة التي ينهجها الفرد حتى يصل إلى هدف معين
(4)
.
(1)
تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي (19/ 345)، تاج العروس من جواهر القاموس-المؤلف: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 هـ - تحقيق: مجموعة من المحققين-الناشر: دار الهداية. (د. ط)
(2)
لسان العرب لا بن منظور (2/ 430)
(3)
تفسير الطبريّ (10/ 384).
(4)
محاضرات في العلوم التربوية والسلوكية: مجموعة مؤلفين (ص: 92).
أو هو: خطوات منظمة يتبعها الباحث في معالجة الموضوعات التي يقوم بدراستها إلى أن يصل إلى نتيجة معينة
(1)
.
بالنظر إلى التعريفين السابقين، نجد أن التعريف الأول فيه دَوْر، حيث عرف المنهج بما يُنهج، فإذا أردنا شرح التعريف درنا لنعرف (ينهجها) بالمنهج، وهو عيب في التعريف.
والتعريف الثاني اقتصر على منهج البحث العلمي.
لذلك وانطلاقًا من قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، يمكن تعريف المنهج والمنهاج بأنه: الوسيلة والبرنامج الذي يُوصَل من خلال اتباعه إلى هدف ما
(2)
.
ورود كلمة "منهاج " في القرآن الكريم:
قد وردت كلمة المنهج في كتاب الله تعالى مرة واحدة، وذلك في قوله سبحانه:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية [المائدة: 48].
قال الطاهر بن عاشور، رحمه الله، في التحرير والتنوير: وقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية [المائدة: 48]، كالتعليل للنهي، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم، فدعهم وما اعتادوه وتمسكوا بشرعكم، والشرعة والشريعة: الماء الكثير من نهر أو واد، يقال: شريعة الفرات، وسميت الديانة شريعة على التشبيه، لأن فيها شفاء النفوس وطهارتها، والعرب تشبه بالماء وأحواله كثيرًا
(3)
.
وإذا كان الماء وما ينبت من أثره من النبات هو من أس مقومات حياة أبدان البشر، فكذلك جعل الله تعالى الشرعة والمنهاج أس حياة قلوبهم، وبهجة أرواح نفوسهم، وإذا كان الله قد
(1)
مناهج البحث العلمي: عمار بوحوش، و محمد محمود الذنيبات (ص: 13)، الناشر: ديوان المطبوعات الجامعية-مدينة النشر: الجزائر العاصمة: سنة النشر: 2000 م
(2)
يُنظر: الطريق ونظائرها في القرآن الكريم دراسة تفسيرية بيانية (ص: 24 - 25) -إعداد: الدكتور زكريا إبراهيم الزميلي، الأستاذ مازن رشاد الحلو- الجامعة الإسلامية - غزة- كلية أصول الدين-1428 هـ - بحث غير منشور. بتصرف غير يسير من الباحث.
(3)
التحرير والتنوير: ابن عاشور (6/ 223)، بتصرف.
جعل لكل منا شرعة ومنهاجًا، فقد قال سبحانه في موضع آخر من كتابه:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ} الآية [الشورى: 13].
قال الشوكاني، رحمه الله، في فتح القدير: الخطاب في قوله: شرع لكم من الدين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: بيّن وأوضح لكم من الدين ما وصّى به نوحًا من التوحيد ودين الإسلام وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرسل وتوافقت عليها الكتب
(1)
.
ورود كلمة " منهاج " في السنة المطهرة:
وقد وردت لفظة "منهاج" في السنة المطهرة، منها ما ثبت عند أحمد المسند من حديث ينتهي سنده إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيًّا، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ سَكَتَ»
(2)
.
وعرفه شيخنا الفقيه العلامة ابن عثيمين، رحمه الله، بقوله: المنهج هو الطريق البين الواضح الذي يسير عليه المرء في عمله الديني والدنيوي
(3)
.
وفي ختام التعريف الاصطلاحي للمنهج، يمكننا التوصل لتعريف شرعي جامع مانع له أيضًا فنقول:
المنهج شرعًا هو: الطريق الواضح، والسبيل البين، والصراط المستقيم، وهو شرع الله ودينه الذي بينه الله في كتابه، وشرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من العقائد والعبادات والأخلاق
(1)
فتح القدير للشوكاني (1/ 1326).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 273)، والألباني في مشكاة المصابيح (5306) بإسناد حسن.
(3)
يُنظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين: (27/ 340، وما بعدها).
والمعاملات، وأمر عباده أن يتمسكوا ويعتصموا به ويسيروا وفق ما حثهم عليه ورغبهم فيه، وما نهاهم وزجرهم عنه وحذرهم منه، ويكون ذلك بإتمارهم بأمره، وانتهائهم عن نهيه، ويكون ذلك أيضًا خوفًا وطمعًا، رغبًا ورهبًا.
المطلب الثاني: مفهوم ومدلول كلمة التأصيلي في اللغة والاصطلاح
أ- مفهوم ومدلول كلمة "التأصيلي" في اللغة
تَأْصِيلٌ- مصدر: أَصَّلَ: تَأْصِيلُ الشَّيْءِ: جَعْلُهُ ذَا أَصْلٍ ثَابِتٍ. تَأْصِيلُ النَّسَبِ: تَبْيَانُ أَصْلِهِ وَأَصَالَتِهِ
(1)
.
وأَصَّلَ تَأْصِيلًا: أَصَّلَهُ: جعل له أصلًا ثابتًا. أَصَّلَهُ: بين أصله أو أصالته
(2)
. وتأصَّلَ يتأصَّل، تأصُّلاً، فهو مُتأصِّل. تأصَّل الشَّيءُ: مُطاوع أصَّلَ: صار ذا أصل ثابت، ترسَّخ وتعمَّق
(3)
.
والأصل: ما يبنى عليه الشيء، أو ما يتوقف عليه
(4)
، وأصل الشيء أساسه الذي يقوم عليه
(5)
، وهو ما يبتني عليه غيره
(6)
. فأَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَسْتَنِدُ وُجُودُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إلَيْهِ، فَالْأَبُ أَصْلٌ لِلْوَلَدِ، وَالنَّهْرُ أَصْلٌ لِلْجَدْوَلِ وَالْجَمْعُ: أُصُولٌ
(7)
.
وقيل: الأصل أسفل الشيء والذي يعتمد عليه سواء كان ماديًا أو معنويًا
(8)
.
(1)
عجم: الغني-عبدالغني أبو العزم-صدر: 1421 هـ/ 2001 م.
(2)
معجم الرائد -جبران مسعود- صدر: 1384 هـ/ 1965 م
(3)
يُنظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، التأصيل الفقهي، جذر (أصل)، (فقه)
(4)
الصحاح: مادة (أصل).
(5)
المعجم الوسيط: مادة (أصل).
(6)
التعريفات: مادة (أصل).
(7)
المصباح المنير: (1/ 16).
(8)
يُنظر: لسان العرب: (11/ 16)، المصباح المنير:(1/ 16)، القاموس المحيط:(ص 1242) 0
ب- مفهوم ومدلول كلمة "التأصيلي" في الاصطلاح
والتأصيل اصطلاحًا: إرجاع المعارف إلى أصلها؛ الوجود والوحي
(1)
.
والتأصيلُ: هو إرجاعُ القواعد إلى أصول شرعيّة يعتمدُ عليها، وتطمئنُّ النفس إليها.
يقول أبو الحسن المَرْدَاوي الدمشقي (ت: 885 هـ):
وَالْقَاعِدَة: هِيَ الْأَمر الْكُلِّي الَّتِي يَنطبقُ على جزئيّات كَثِيرَة؛ تُفهَمُ أَحْكَامهَا مِنْهَا
(2)
.
وهذا ما سبقه شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ، رحمه الله، إلى تقعيده وتقريره حيث يقول:
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ تُرَدُّ إلَيْهَا الْجُزْئِيَّاتُ؛ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ
(3)
. ثُمَّ يَعْرِفُ الْجُزْئِيَّاتِ كَيْفَ وَقَعَتْ؟، وَإِلَّا: فَيَبْقَى فِي كَذِبٍ وَجَهْلٍ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَجَهْلٍ وَظُلْمٍ فِي الْكُلِّيَّاتِ، فَيَتَوَلَّدُ فَسَادٌ عَظِيمٌ
(4)
.
وقال الزركشي: ". . . . . والحكيم إذا أراد التعليم لا بد أن يجمع بين بيانين: إجمالي تتشوَّف إليه النفس، وتفصيلي تسكن إليه. والحاصل أن من عرف قواعد التفسير انفتح له من المعاني القرآنية ما يجل عن الوصف، وصار بيده آلة يتمكن بها من الاستنباط والفهم مع ملكة ظاهرة تصيره ذا ذوق واختيار في الأقوال المختلفة في التفسير"
(5)
.
وأصول وقواعد التأصيل في دراسة التفسير تحتاج إلى الرجوع للأسس والقواعد الأصلية التي ينبغي الرجوع اليها، وهي القواعد والأصول والضوابط التي يهتدي بها لفهم هذا العلم الجليل، واستنباط معاني القرآن الكريم، وفهم مقاصده ومراميه.
(1)
وهو تعريف: الدكتور طه جابر العلواني، يُنظر: مجلة التأصيل العدد الأول، ص 54.
(2)
التحبير شرح التحرير، للمَرْدَاوي:(1/ 125).
(3)
الأصل أن يُقال: "عن علم"، بدلُا من:"بعلم"، ولعله وقع سهوًا من النساخ، وذلك لدقة ألفاظ شيخ الإسلام، وتحريه المعروف في انتقاء الألفاظ والكلمات. الباحث.
(4)
مجموع الفتاوى، لشيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ-رحمه الله:(19/ 203).
(5)
المنثور في القواعد: (1/ 65).
وهي هنا عبارة عن محاولة تأصيلية لإبراز أسس وقواعد أحد أنواع التفسير، ألا وهو "التفسير التحليلي"، التي ينبغي الرجوع إليها عند دراسته.
المطلب الثالث: مفهوم ومدلول كلمة "دراسة" في اللغة والاصطلاح
أ- مفهوم ومدلول كلمة "دراسة" في اللغة
والدراسة: من دَرَسَ، يَدْرُسُ، دَرَسَ الشيء بمعنى طَحَنَهُ و جَزَّءَهُ، دَرَسَ الحبَ طَحَنَهُ، دَرَسَ الدرس جَزَّءَهُ وَسَهَلَ وَيَسَّرَ تعلمه على أجزاء، فيقال دَرَسَ الكتاب، يدرسه دراسة، بمعنى قراءة وأقبل عليه، ليحفظه ويفهمه
(1)
، قال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].
ومنها:
* دَرَسَ الكتابَ ونحوه، كرّر قراءته ليحفظه ويفهمه، قال تعالى:{وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156]، أي: وما كنا نفهم ما يقولون، وقال تعالى:{إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا} [الأعراف: 169]
(2)
، ودرسوا ما فيه أي: قرأوا ما فيه.
* دَرَّسَ الكتاب ونحوه، قام بتدريسه، أقرأه وأفهمه للطَّلبة، قال تعالى:{وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]
(3)
، أي: تتعلمون.
* وَدَرَسَ الْكِتَابَ يَدْرُسُهُ دَرْسًا وَدِرَاسَةً وَدَارَسَهُ، مِنْ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ عَانَدَهُ حَتَّى انْقَادَ لِحِفْظِهِ.
(1)
مجمع اللغة العربية - المعجم الوسيط: (ج 1، ص 281).
(2)
المعجم: عربي عامة، مادة: درس، بتصرف يسير.
(3)
المرجع السابق نفسه، بتصرف يسير.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، رضي الله عنهما، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: 105]؛ قَالَ: مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا لِكَيْ يَقُولُوا إِنَّكَ دَرَسْتَ أَيْ تَعَلَّمَتْ أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ عُلِّمْتَ.
وَدَرَسْتُ الْكِتَابَ أَدْرُسُهُ دَرْسًا أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَفَّ حِفْظُهُ عَلَيَّ، مِنْ ذَلِكَ؛ قَاْلَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
وَفِي الْحِلْمِ إِدْهَانٌ وَفِي الْعَفْوِ دُرْسَةٌ وَفِي الصِّدْقِ مَنْجَاةٌ مِنَ الشَّرِّ فَاصْدُقِ.
وَالْمُدَارِسُ: الَّذِي قَرَأَ الْكُتُبَ وَدَرَسَهَا
(1)
.
ب- مفهوم ومدلول كلمة "دراسة" في الاصطلاح
الدراسة مأخوذة من الدرس:
* والدَّرْس هو: فترة محددة من الوقت ومنظمة يقصد فيه ممارسة التدريس والتعليم.
* الدَّرْس هو: المقدار من العلم يُدْرَس في وقت ما، جمع دُروس وأَدْراس
(2)
.
* والمدرسة: مكان الدرس والتعليم ويقال: هو من مدرسة فلان: على رأيه ومذهبه
(3)
.
* والتدارُس: على وزن (تفاعُل)، ومن معاني هذا الوزن المشاركة بين اثنين فأكثر، فيكون كلّ منهما فاعلًا في اللفظ مفعولًا في المعنى
(4)
.
* والمدارسة: من المفاعلة: ودارستُ الكُتُبَ وتَدَارَسْتُها، أي: دَارَسْتُها، وأصلُ الدِرَاسةِ الرياضة والتَّعَهُدُ للشيء
(5)
.
(1)
معجم لسان العرب، لابن منظور:"حرف الدال"، معنى كلمة درس.
(2)
المعجم الوسيط: (1/ 28).
(3)
مجمع اللغة العربية - المعجم الوسيط: (1/ 282)
(4)
يُنظر: شذا العرف في فنّ الصرف، الحملاوي:(ص: 34).
(5)
لسان العرب مادة: (درس)، (5/ 422).
والمُفَاعَلَة هنا: تتضمن معني المبادلة والمقابلة والمدارسة بين جانبين، وهي مُفَاعَلَة - يعني من طرفين- أو بين طرفين.
*
وقد خصَّ بعضهم المدارسة بالقراءة والتعهّد
(1)
.
ومن هنا يمكن أن نعرف أن المدارسة أو الدراسة اصطلاحًا هي:
مدراسة العلم ومذاكرته وتدريسه، وتعلمه وتعليمه، وتعهده بتفهمه وتفهيمه، وحفظه وتحفيظه، وترويض النفس على رعايته بكل سبيل ممكن، للقيام بأمره وإصلاح شأنه، واستقطاع وقت خاص لذلك، مع تكراره والمداومة عليه بقدر الاستطاعة.
*
ومدارسة التفسير هنا:
شمولها لجميع ما يتعلق بالقرآن من تعلُّمه وتعليمه، وتفسيره، واستكشاف هداياته ودقائق معانيه، وتزكية النفس به
(2)
.
المطلب الرابع: مفهوم ومدلول كلمة "تحليلي" في اللغة والاصطلاح، وبيان مفهوم التفسير التحليلي
أ- مفهوم كلمة "تحليلي" في اللغة
* التحليل لغةً: حلّل الشيء: أرجعه إلى عناصره أي جزّأه، وحلّل الشيء: درسه وكشف خباياه
(3)
.
* تَحليل: (اسم)
* الجمع: تحليلات و تحاليلُ.
* تَحْليل الجملة: بيان أجزائها ووظيفة كل منها
(4)
.
(1)
يُنظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي:(5/ 408).
(2)
يُنظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، الملا علي القاري، 1/ 287؛ وتحفة الأحوذي، صفي الرحمن المباركفوري، 8/ 216.
(3)
لسان العرب، لابن منظور:(1994).
(4)
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379 هـ/ 1960 م، تعريف ومعنى تحليل في معجم المعاني الجامع.
* قَدَّمَ تَحْلِيلًا جَيِّدًا لِلْمَوْضُوعِ: تَفْسِيرًا وَشَرْحًا لَهُ
(1)
.
* حَلَّلَ العقدة: حلها، و حَلَّلَ الشيء: رجعّه إلى عناصره، يقال: حلل الدم وحلل البول، ويقال حلل نفسية فلان: درسها لكشف خباياها
(2)
.
* (حل): أصل الحل: حل العقدة، ومنه قوله تعالى:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27]، وحللت: نزلت، أصله من حل الأحمال عند النزول، ثم جرد استعماله للنزول، فقيل: حل حلولًا، وأحله غيره، قال عز وجل:{أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد: 31]، {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28]، ويقال: حل الدين: وجب أداؤه
(3)
.
* (حل): الحاء واللام له فروع كثيرة ومسائلُ، وأصلها كلُّها عندي فَتْح الشيء، لا يشذُّ عنه شيء، يقال: حلَلْتُ العُقدةَ أحُلُّها حَلاًّ، ويقول العرب:"يا عاقِدُ اذكُرْ حَلاًّ"، والحلال: ضِدُّ الحرام، وهو من الأصل الذي ذكرناهُ، كأنه من حَلَلْتُ الشيء، إذا أبحْتَه وأوسعته لأمرٍ فيه
(4)
.
ب- مفهوم كلمة "تحليلي" في الاصطلاح
التحليل في الاصطلاح: هو ارجاع الجملة الى عناصرها وبيان أجزائها المكونة لها، ووظيفة كل منها، والتعرف على أنواع العلاقات بين مفرداتها، مع بقاء الكلمات نفسها في الجمل أو الجمل الأخرى
(5)
.
فالتحليلي: "نسبة إلى التحليل، والمراد تفكيك الكلام على الآية لفظةً لفظة، والكلام على ما فيها من معان و إعراب و أحكام و غيرها، ثم الانتقال إلى ما بعدها وهكذا .. ، -وهو- أي أن يعمد المفسر
(1)
معجم: الغني-عبدالغني أبو العزم- صدر: 1421 هـ/ 2001 م
(2)
المعجم الوسيط: (1/ 193).
(3)
يُنظر: المجمل: (1/ 217)؛ والبصائر: (2/ 493).
(4)
مقايس اللغة، لابن فارس:(2/ 20).
(5)
مقدمة لتحليل النص القرآني: (1 - 8)
إلى تفسير الآيات حسب ترتيبها في السورة، ويذكر ما فيها من معاني وأقوال وإعراب وبلاغة وأحكام وغيرها مما يعتني به المفسر"
(1)
.
ج- مفهوم التفسير التحليلي في الاصطلاح
أما التفسير من الناحية اللغوية: فقد مر معنا في الفصل الأول بيان شاف وكاف لتعريف التفسير في اللغة والاصطلاح، وهنا نتعرض للتعريف الاصطلاحي للتفسير التحليلي بعينه.
والتفسير التحليلي:
"هو الذي يتتبع فيه المفسر آيات القرآن-من أوله إلى آخره- يقف عند كل كلمة ولفظة فيفسرها و يقف عند كل آية فيحللها من جميع الوجوه: فيذكر ما يتعلق بالمعاني اللغوية و الجوانب الإعرابية و يبين معاني الجمل و التراكيب و يذكر ما ورد في أسباب النزول و إن وردت آثار و أقوال عن السلف في تفسير الآية ذكرها.
ويعتبر هذا النوع من التفسير السمة البارزة والنوع المهيمن على أغلب التفاسير إلى زماننا، فأشهر التفاسير كلها من هذا النوع، فتفسير ابن جرير و ابن كثير والمحرر الوجيز لابن عطية وجامع الأحكام للقرطبي و أحكام القرآن لابن العربي و غيرها كلها من هذا القبيل، وكل من يؤلف في التفسير فإنه غالبًا ينهج الأسلوب التحليلي"
(2)
.
وبشيء من الإيضاح والتفصيل يُجَلِّى الباحث الأمر فيقول:
(1)
مشكلة المصطلحات في الدراسات القرآنية، التفسير الموضوعي وإخوانه أنموذجًا، د. مساعد الطيار، عن ملتقى أهل للتفسير، بتاريخ: 8/ 5/ 1427 هـ.
(2)
وللاستزادة يُنظر: أقسام التفسير- ناصر عبد الغفور- مقال عن- ملتقى أهل للتفسير، بتاريخ: 13/ 4/ 1439 هـ.
لما علمنا أن التحليل مأخوذ من الحل، وأن الحل من أبرز معانيه كما مر معنا: نقض وتفكيك التعقيد، والمعني في بحثنا هنا: أن المفسر يتعرض لتفسير الآيات بطريقة تحليلية ينقض ويفك بها تعقيد المبهم من معاني الآيات، فيحلل ما فيها من غموض الألفاظ والجمل، ويوضح ويُجَلِّي المطلوب المراد منها.
ويشرح ويحلل، مقسِّمًا للآيات إلى وحدات موضوعية واضحة العناوين شارحًا للمعنى العام للآيات، معتنيًا ببيان اللغويات من الإعراب والنواحي البلاغية من تركيب النظم وبلاغته وأوجه إعجازه، مبينًا لغريبها، معربًا لمشكلها، مبينًا لمجملها، مجليًا لمعانيها، متطرقًا لأسباب نزولها.
مبينًا لأقوال المفسرين في الآية، مرجحًا بينها، متعرضًا للمسائل الفقهية ذاكرًا أهم ما في الآيات من أحكام، مبينًا لأقوال العلماء فيها، بلا إفراط ولا تفريط، متعرضًا للقراءات الواردة في الآيات موجهًا لها ومبينًا أثرها على دلالة المعنى الوارد في الآيات، مهتمًا بالمناسبات الظاهرة بين الآيات والسور، كل ذلك حسب ترتيب الآيات في السورة متسلسلًا مع النظم القرآني والسير معه آية آية، وسورة سورة، حسب الترتيب المصحفي، سواء تناول تفسير جملة من الآيات المتتابعات، أو تناول تفسير سورة كاملة بعينها، أو تناول تفسير القرآن الكريم بأكمله.
المبحث الثاني: علاقة التفسير التحليلي بأنواع التفسير الأخرى
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: علاقة التفسير التحليلي بالتفسير الموضوعي
التفسير التحليلي:
منهج من مناهج أو أسلوب من أساليب علم التفسير إلى جانب التفسير الموضوعي والتفسير الإجمالي والتفسير المقارن؛ فالتفسير التحليلي هو التزام المفسر تسلسل النظم القرآني والسير معه سورة سورة وآية آية، وهو النمط الذي سلكه سائر المفسرين القدامى إلا القليل النادر
(1)
؛ وهذه الطريقة في التفسير لا يستغني عنها الباحث في التفسير الإجمالي أو الموضوعي أو المقارن لأن التفسير التحليلي ينصب على معرفة دلالة الكلمة اللغوية ودلالتها الشرعية، والتعرف على الرابط بين الكلمات في الجملة وبين الجمل في الآية وبين الآيات في السورة، وكذلك التعرف على القراءات وأثرها على دلالة الآية، ووجوه الإعراب ودورها في الأساليب البيانية وإعجاز القرآن الكريم، وغيرها من الوجوه التي تساعد على إخلاء المعنى وتوضيح المراد
(2)
، فهو إذن التفسير الذي يعنى بالدقة والعمق في استعمال العلوم التي يحتاج إليها المفسّر وخصوصا اللغوية والبلاغية
(3)
بحيث يسير المفسر في هذا البيان مع آيات السورة آية آية، شارحًا مفرداتها، وموجهًا إعرابها، وموضحًا معانى جملها، وما تهدف إليه تراكيبها من أسرار وأحكام، ومبينًا أوجه المناسبات بين الآيات والسور، مستعينًا في ذلك بالآيات القرآنية الأخرى ذات الصلة، وبأسباب النزول، وبالأحاديث النبوية، وبما صح
(1)
اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر؛ المؤلف: أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي: (862/ 3)؛ الناشر: إدارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد في المملكة العربية السعودية؛ الطبعة الأولى (1407 هـ/ 1986 م).
(2)
مباحث في التفسير الموضوعي؛ المؤلف: مصطفى مسلم: (ص: 52 - 53)؛ الناشر: دار القلم؛ الطبعة الرابعة (1426 هـ/ 2005 م).
(3)
علوم القرآن الكريم؛ المؤلف: نور الدين محمد عتر الحلبي؛ الناشر: مطبعة الصباح - دمشق؛ الطبعة الأولى (1414 هـ/ 1993 م)؛ الصفحة: 96.
عن الصحابة و التابعين، وبغير ذلك من العلوم التي تعينه على فهم النص القرآني وتوضيحه للقراء، مازجًا ذلك بما يستنبطه عقله، وتمليه عليه نزعته
(1)
.
والتفسير الموضوعي:
منهج من مناهج أو أسلوب من أساليب علم التفسير كالأنواع الأخرى سالفة الذكر آنفًا- كذلك.
وإذا كان التفسير التحليلي يأخذ كل آية أو مجموعة آيات على حدة
(2)
، فيذكر ما يتعلق بها من الناحية اللغوية والعقائدية والفقهية إلى جانب ما يتعلق بها من ناحية مباحث علوم القرآن الأخرى، فإن التفسير الموضوعي هو إفراد الآيات القرآنية التي تعالج موضوعًا واحدًا وهدفًا واحدًا، بالدراسة والتفصيل، بعد ضم بعضها إلى بعض، مهما تنوعت ألفاظها، وتعددت مواطنها - دراسة متكاملة
(3)
.
فالتفسير الموضوعي إذًا يقوم بتناول أحد مواضيع القرآن مستقلة بالبحث والدراسة: كدراسة: اليوم الآخر في القرآن، بر الوالدين في القرآن، الصدق في القرآن، الملائكة في القرآن وغير ذلك من مواضيع القرآن. وللتفسير الموضوعي أنماط ثلاثة: التفسير الموضوعي للكلمة واللفظة القرآنية، وللسورة القرآنية بأكملها، وللموضوع القرآني كذلك.
المطلب الثاني: علاقة التفسير التحليلي بالتفسير الإجمالي والفرق بينهما
التفسير الإجمالي منهج من مناهج تفسير القرآن الكريم؛ أي أنه أسلوب من أساليب التفسير ووسيلة من وسائله ومركبًا من مراكبه، إلى جانب الأساليب الأخرى المعروفة؛ التفسير التحليلي، والتفسير الموضوعي، والتفسير المقارن.
(1)
الموسوعة القرآنية المتخصصة؛ المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين: (ص: 278)؛ الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر؛ عام النشر: 1423 هـ/ 2002 م.
(2)
الرومي مرجع سابق: (862/ 3).
(3)
التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ونماذج منه، لأحمد بن عبد الله الزهراني:(ص: 11)؛ الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
يقوم التفسير الإجمالي على التزام تسلسل النص القرآني - سائرًا مع الآيات حسب ترتيبها في المصحف الشريف - والتعامل مع السورة كوحدات يتناولها المفسر ببيان معانيها إجمالًا مع إبراز مقاصدها ومراميها دون أن يؤدي البيان إلى الخروج عن سياق النص القرآني
(1)
مما يعني أن المفسر لا يدخل في التفاصيل الدقيقة والمباحث المتخصصة، وإنما يهتم ببيان المعنى العام باختصار.
من الآليات التي يتم توظيفها في التفسير الإجمالي والتي تمنع المفسر من الخروج عن السياق: الحفاظ على لفظ أو أكثر في العبارة التي تبين الآية أو مجموعة من الآيات بيانًا إجماليًا.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور أحمد الكومي (ت: 1411 هـ)، رحمه الله:
"إذ ينطق بعبارته التى صاغها من ألفاظه يأتي- بين الفينة والفينة- بلفظ من ألفاظ القرآن، حتى يشعر السامع أنه لم يكن بعيدًا في تعبيره عن سياق القرآن، ولا مجانبًا لمجموع ألفاظه، وحتى يحقق التفسير من جانب آخر، ويكون رابطًا نفسه بنظم القرآن من جانب آخر، ويكون في الموضع الذى يجانب فيه لفظ القرآن آتيًا بلفظ أوضح عند السامعين، وأيسر في الفهم عند المخاطبين"
(2)
.
أما عن طريقة تناول التفسير التحليلي بإيجاز:
فالمفسر يعمد فيها إلى تناول تفسير الآيات بأسلوب تحليلي يبين فيه أسباب نزول الآيات، ويحلل المفردات فيبين ما فيها من غريب، ويعرب مشكلها، ويبرز ما فيها من نواح بلاغية، ويبين مجملها، ويذكر ما فيها من قراءات و يعزوها ويوجهها.
(1)
الرومي مرجع سابق: (862/ 3).
(2)
الموسوعة القرآنية المتخصصة؛ المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين: (ص: 278)؛ الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر؛ عام النشر: 1423 هـ/ 2002 م. ويُنظر: التفسير الإجمالي، الموسوعة الحرة.
وأغلب كتب التفسير على هذا النمط.
وأما طريقة تناول التفسير الإجمالي:
فالمفسر يعمد فيها إلى تناول تفسير الآيات بأسلوب إجمالي مختصر، فيتناول بيان المعنى العام للآيات دون التعرض لتحليل الآيات وبيان ما فيها من أسباب نزول، ولا أوجه إعرابية أو بلاغية، كما أنه لا يتعرض للقراءات الواردة في الآيات، ولكنه يجلي المعنى العام للآيات فحسب، بحيث يقف القارئ على معنى عام للآيات يستطيع معه فهم معانيها، وإدراك مقاصدها ومراميها.
الفرق بين التفسير التحليلي والإجمالي:
وبالتأمل يمكن لنا أن نجمل الفرق بين التفسير التحليلي والتفسير الإجمالي فيما يلي:
1.
التفسير التحليلي يبحث ما اشتملت عليه الألفاظ والمعاني جميعًا.
2.
وأنه يبين كذلك أهم الجوانب الإعرابية التي تبرز وتوضح وتجلي معاني الآيات وما اشتملت عليه.
3.
كما أنه يشتمل على البحث عن الإعجاز والبلاغة ويجلي المناحي البلاغية التي تبرز أوجه إعجاز القرآن وتبين عظم آياته وتزيد الآيات وضوحًا وبيانًا.
4.
كما أنه يُجلي أسباب نزول الآيات ويبين ويوضح المناسبة التي من أجلها سيقت الآيات.
5.
كما أنه يعتني ببيان فقه الآيات واستنباط الأحكام الفقهية منها وما تدل عليه.
وهذا كله لا يوجد في التفسير الإجمالي لأنه تفسير مختصر يشير إلى ما تدل عليه الآيات من المعنى العام باقتضاب واختصار، وقد يُشار إلى بعضه أحيانًا وباختصار شديد للغاية
(1)
.
(1)
يُنظر: المدخل الموسوعي لدراسة التفسير الموضوعي، للدكتور عرفة بن طنطاوي:(ص: 75).
المطلب الثالث: علاقة التفسير التحليلي بالتفسير المقارن
التفسير المقارن منهج من مناهج تفسير القرآن الكريم؛ أي أنه أسلوب من أساليب التفسير ووسيلة من وسائله ومركبًا من مراكبه، إلى جانب الأساليب الأخرى المتعارف عليها عند علماء التفسير: التفسير التحليلي والتفسير الموضوعي والتفسير الإجمالي
(1)
.
والتفسير المقارن هو بيان الآيات القرآنية من خلال إيراد ما ذهب إليه المفسرون في النص المتناول، آية أو وحدة من الآيات المترابطة فيما بينها، ثم إعمال الموازنة بين آرائهم واستعراض استدلالاتهم للنظر فيها، وبناء عليه ينتقد ويرد المفسر القول المرجوح مبينًا تعليله بإيراد الأدلة عليه ثم الاستدلال للراجح بعد بيانه
(2)
.
فالمفسر في التفسير المقارن يبين الآيات القرآنية مستعرضًا لما كتبه المفسرون في آية واحدة أو لعدد من الآيات المترابطة والمتتابعة، ويعقد مقارنة بين أقوالهم، وطريقة تناولهم لها، مرجحًا لما يراه منها راجحًا، وناقضًا لما يرى أنه يستحق النقض، مع بيان ما استدل به ترجيحًا ونقضًا.
بيان أوجه الترابط بين التفسير المقارن والتفسير التحليلي:
ونؤكد على أن طريقة التفسير المقارن أكثر من يتبعها من يشتغل بالتفسير التحليلي، فتجده بعد أن يستعرض الأقوال الواردة في الآية الواحدة يقارن بينها ثم يرجح ما يراه ويتوصل إلى علمه ما يراه راجحًا، والمقارنة بين الآيات بعضها بعضًا ويحتاج لطول صبر، وغزارة علم وسعة اطلاع، وحسن باع بالتفسير وعلومه، بل ولسائر العلوم كذلك، وممن برز في ذلك الطبري في تفسيره والذي حوى ألوانًا أخر من ألوان التفسير، وتفسير الألوسي وحاشية الخفاجي وحاشية زاده على البيضاوي، وغيرهم ممن يذكر أقوال المفسرين في الآية الواحدة أو عدة آيات مترابطة
(1)
الرومي، مرجع سابق:(862/ 3).
(2)
مجلة البيان؛ الصادرة عن المنتدى الإسلامي؛ العدد 64 (ص: 7).
فيستعرضها جميعًا ويوازن بين أقوال المفسرين ويعرض استدلالاتهم ويتأمل في أدلتهم وما ذهبوا إليه ويرجح بعضها على بعض.
وبصورة أخرى:
هو عبارة عن بيان الآيات القرآنية على وجه المقارنة بما كتبه جمع من المفسرين، وكيفيته أن يعمد المفسر إلى جملة من الآيات القرآنية في مكان واحد، أو في موضع واحد، ويستطلع آراء المفسرين سواء أكانت من السلف أو الخلف، وسواء أكان تفسيرًا بالمنقول أو بالمعقول، ويوازن بين الاتجاهات المختلفة، والمشارب المتنوعة فيما سلكه كل منهم في تفسيره. فيرى من كان منهم متأثرا بالخلاف المذهبي، ومن كان منهم قاصدًا تأييد فرقة من الفرق
(1)
.
(1)
يُنظر: المدخل الموسوعي لدراسة التفسير الموضوعي، للدكتور/ عرفة بن طنطاوي:(ص: 75).
المبحث الثالث: مكانة التفسير التحليلي
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: نشأته وتطوره حتى العصر الحاضر
أولًا: لا بد وأن يُعلم: أن مسمى "التفسير التحليلي"، مسمى حادث، ومصطلح معاصر، غير أنه يُعد التفسير الأم الذي يندرج تحته كل أنواع التفسير، وقد تناول المفسرون مصنفاتهم وتواليفهم بطريقة التفسير التحليلي منذ نشأته وحتى وقتنا المعاصر، وهذا مما يدلل على أنه وإن كان مصطلحه معاصر غير أنه هو التفسير الرئيس الذي سار عليه أئمة التفسير وسادة التأويل والتحبير منذ بداية عصر التصنيف في التفسير إلى وقتنا الحاضر، وهذا مما يدلُّ على أنه ليس ببدع من القول - كذلك.
ثانيًا: لا بد أن يُعلم كذلك أن نشأة التفسير التحليلي إنما ترجع لظهور أسلوبه واستعماله في التفسير، ومن هنا ينبغي أن يُقال: أن نشأته كانت متزامنة مع تاريخ ظهوره واستعماله.
ثالثًا: لا بد أن يُعلم: أن ابن ماجه: أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه الربعي القزويني (ت: 237 هـ) صاحب السنن، قد قيل إنه يُعد أول من فسر القرآن وفق الترتيب المصحفي، ولكن تفسيره يُعد من التفاسير المفقودة، ولذا يصبح أول تفسير وصل إلينا كاملًا، وقد فُسِّرَ القرآنُ فيه وفق الترتيب المصحفي، وتناول مصنفه تفسيره بأسلوب"التفسير التحليلي"، هو تفسير الإمام الطبري شيخ المفسرين.
وفي نحو ذلك يقول الدكتور الذهبي، رحمه الله:
ففي أواخر عهد الأمويين بداية عهد العباسيين وضع التفسير لكل آية من القرآن الكريم على حسب ترتيب المصحف وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم: ابن ماجه، وابن جرير الطبري، وغيرهم، ومن بعد هؤلاء اختصرت الأسانيد.
ثم يقول: ولا نستطيع أن نُعيِّن بالضبط المفسر الأول الذي فسر القرآن الكريم آيةً آيةً ودوّنه على التتابع وحسب ترتيب المصحف، لكن كانوا طائفة لا نستطيع التحديد بالضبط من هو أول من دوّنه منهم؟ وهم: ابن جرير الطبري وابن ماجه وابن حبان والحاكم
(1)
.
رابعًا: لا بد أن يُعلم: أنه من الأهمية بمكان دراسة هذا الأسلوب الرئيس من أساليب التفسير والعناية به وإلقاء الضوء عليه ومعرفة نشأته وتطوره حتى العصر الحاضر، ومعرفة أهميته، وبيان أسلوبه وأبرز وأهم مزاياه، وبيان خطوات مدارسته، وطريقة تناوله، من خلال سور القرآن وآياته، ثم ذكر مصادره، وجملة من أهم المصنفات التي صُنِفَت فيه.
خامسًا: لا بد أن يُعلم: أنه لما كان التفسير التحليلي هو التفسير "الأم" و "الرئيس" فإنه يصعب حصر تلك التفاسير لكثرتها.
ولكن سيكتفي الباحث هنا بأمرين:
الأمر الأول: التعريف بأول ما صنف من هذه التفاسير، وبيان مكانته، وبيان مكانة مؤلفه العلمية ومنهجه في التفسير، وبيان عقيدته، ثم ثناء العلماء عليه وعلى مصنفه.
الأمر الثاني: ذكر جملة من أبرز كتب التفسير التي سلك مصنفوها أسلوب "التفسير التحليلي" في مصنفاتهم، وذلك في آخر المطلب الرابع والأخير من هذا المبحث، بإذن الله تعالى.
أول تفسير تحليلي وصلنا كاملًا
وإذا تأملنا في أول تفسير وصلنا كاملًا، تناوله مصنفه بأسلوب "التفسير التحليلي"، نجده تفسير الطّبريّ، وتفسيره هو التفسير الموسوم بـ:"جامع البيان عن تأويل آي القرآن".
(1)
يُنظر: التفسير والمفسرون: (1/ 140، وما بعدها).
والإمام الطّبريّ شيخ المفسرين هو: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطّبريّ (ت: 310 هـ)
(1)
.
وتفسير الطّبريّ: يُعد عند العلماء قديمًا وحديثًا أوثق وأقدم ما دُوّن في التفسير.
وسيلقي الباحث الضوء على المُؤَلَّف والمُؤَلِّف فيما يلي:
أولًا: تفسيره ومكانته
يعتبر تفسير الطبري: أقدم التفاسير وأشهرها، فقد نَوَّه به العلماء قديمًا وحديثًا؛ لما اجتمع فيه من تفسير بالمأثور وحسن الاستنباط وسعة الثقافة والمقدرة على الترجيح، فهو أوّل التفاسير بالاعتبار
(2)
.
وتفسير الطبري: يعُد من أوائل كتب التفسير التي اعتمد عليها جلّ من جاء بعده من المفسرين، فقد حوى تفسيره أغلب الآثار الواردة في التفسير منذ عصر حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري، ولما تميز به تفسيره من كل جوانب التفسير، من حيث تناول تفسير آياته بأحسن طرق التفسير، فيفسر القرآن بالقرآن، ثم بالمأثور من الأحاديث الواردة التي تدل على المعنى المراد من الآيات، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، ثم بلغة العرب، مع عنايته بأسباب النزول والقراءات مع ذكر المسائل الفقهية، واستنباط الأحكام منها، والترجيح بينها، مع سلوكه والتزامه بمعتقد أهل السنة والجماعة.
وفي نحو ذلك يقول الواحدي (ت: 468 هـ)، رحمه الله، في "التَّفْسِير البَسِيْط":
(1)
الطبري هو: محمد بن جرير الطبري: وهو محمد بن جرير بن يزيد كثير الآملي الطبري، ولد بآمل طبرستان سنة أربع وعشرين ومائتين للهجرة (224 هـ) وتوفي سنة عشر وثلاثمائة للهجرة (310 هـ)، يُنظر: الداوودي: الحافظ شمس الدين محمد علي بن أحمد: طبقات المفسرين: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ط 1، 1403 هـ/ 1983 م ج 2 ص 114.
(2)
صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين بيروت ط 6 تشرين الأول 1969 م ص 298.
يعتبر تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها، كما يعتبر المرجع الأول عند المفسِّرين الذين عنوا بالتفسير النقلي، وإن كان في الوقت نفسه يُعتبر مرجعًا غير قليل الأهمية من مراجع التفسير العقلي، نظرًا لما فيه من الاستنباط، وتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، ترجيحًا يعتمد على النظر العقلي، والبحث الحر الدقيق.
ثم يقول رحمه الله:
ولو أننا تتبعنا ما قاله العلماء في تفسير ابن جرير، لوجدنا أن الباحثين في الشرق والغرب قد أجمعوا الحكم على عظيم قيمته، واتفقوا على أنه مرجع لا غِنَى عنه لطالب التفسير.
هذا ونستطيع أن نقول إن تفسير ابن جرير هو التفسير الذي له الأوَّلية بين كتب التفسير، أوَّلية زمنية، وأوَّلية من ناحية الفن والصناعة.
أما أوَّليته الزمنية: فلأنه أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا، وما سبقه من المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شيء منها، اللَّهم إلا ما وصل إلينا منها في ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذي نحن بصدد الحديث عنه.
وأما أوَّليته من ناحية الفن والصناعة: فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به هذا الكتاب من الطريقة البديعة التي سلكها فيه مؤلفه، حتى أخرجه للناس كتابًا له قيمته ومكانته
(1)
.
وتفسير الطبري يقع في ثلاثين جزءًا من الحجم الكبير، وقد طبع طبعته الأولى في المطبعة الأميرية في بولاق بمصر، وبهامشه تفسير النيسابوري سنة 1235 هـ/ 1819 م، وطبع طبعته الثانية بمطبعة دار المعارف بمصر سنة 1374 هـ/ 1954 م، بتحقيق الأستاذ المحقّق محمود محمد شاكر وتعليقه، ومراجعة الأستاذ أحمد محمد شاكر
(2)
.
(1)
التفسير البسيط للواحدي: (1/ 156 - 159) بتصرف يسير.
(2)
دراسات وبحوث في الفكر الاسلامي المعاصر، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ط 1، 1408 هـ/ 1988 م، (1/ 145) بتصرف يسير.
كما طبع بمؤسسة الرسالة طبعته الأولى: عام 1420 هـ/ 2000 م، وهي بتحقيق آل شاكر، كما صدرت له طبعة قشيبة عن دار عالم الكتب، بالرياض، 1434 هـ، بتحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ثم توالت طباعته تباعًا تكرارًا ومرارًا لحاجة المسلمين إليه فسار في مشارق الأرض ومغاربها مسير الشمس والقمر، وقد قدر الله تعالى لتفسير الطبري الانتشار والشهرة وذياع الصيت بين أهل العلم وطلابه، حتى أصبح المرجع الأول والرئيس عند أهل التفسير بالمنقول والمعقول على حدٍ سواء؛ لما تميّز به تفسيره من صحة المنقول وسلامة المعقول، مصحوبا بسلامة الاستنباط وصحة الترجيح ونقده الصائب للآثار، مع سلامة المعتقد، والسير على نهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، والإيمان، والقدر، ومسائل الصحابة، رضي الله عنهم، وغير ذلك.
وقد كان يعتبر مفقودًا من عهد قريب، حتى وجدت في حيازة الأمير حمود بن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد، نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب، طبع عليها الكتاب من زمن بعيد
(1)
.
ثانيًا: منهجه في التفسير
ويعتبر تفسير الطبري أقدم التفاسير وأشهرها، فقد نَوَّه به العلماء قديمًا وحديثًا، لما اجتمع فيه من تفسير بأحسن طرق التفسير وحسن الاستنباط وسعة الثقافة والمقدرة على الترجيح، فهو أولى التفاسير بالاعتبار
(2)
.
وقد حدّد الطبري في مقدمة تفسيره منهجه الذي اعتمده في تأويل آي القرآن، فجمع تفسيره بين الرواية والدراية.
(1)
زهير جولد: المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن الكريم، تعريب على حسن عبد القادر دار العلوم 1944 م ج 1 ص 86.
(2)
صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين بيروت ط 6 تشرين الأول 1969 م ص 298. بتصرف يسير.
ثم شرع بتفصيل منهجه في أصول التفسير مع ذكر الأدلة الشرعية واللغوية، وضرب الأمثلة العملية من القرآن الكريم والسنة وكلام العرب واللغة والشِّعر
(1)
.
ولقد التزم الطبري أحسن طرق التفسير؛ من تفسير القرآن بالقرآن، وتفسيره بالسُّنة المبينة للقرآن والثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُتبع ذلك بما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن التابعين.
وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها، وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب
(2)
.
منهجه في تناول التفسير بالأسلوب التحليلي
وتفسير الطبري ذو منهج خاص، يذكر فيه الآية أو الآيات من القرآن، ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي أثرت عن الصحابة والتابعين في تفسيرها، ثم يورد بعد ذلك رواياتٍ أخرى متفاوتة الدرجة في الثقة والقوة في الآية كلِّها أو بعض أجزائها، بناءً على خلافٍ في القراءة، أو اختلافٍ في التأويل، ثم يعقب كل ذلك بالترجيح بين الروايات، واختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار، ثم ينتقل إلى آية أخرى، فينهج نفس النهج عارضًا ثم ناقدًا ثم مرجحًا؛ وهو إذ ينقد أو يرجح، يرد النقد أو الترجيح إلى مقاييس تاريخية من حال رجال السند في القوة والضعف، أو إلى مقاييس علمية وفنية: من الاحتكام إلى اللغة التي نزل فيها الكتاب، نصوصها وأقوال شعرائها، ومن نقد القراءة وتوثيقها أو تضعيفها، ومن رجوع إلى ما تقرَّر بين العلماء من أصول العقائد،
(1)
محمد الزحيلي: الإمام الطبري: (ص: 120).
(2)
التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور:(1/ 32 - 33).
أو أصول الأحكام أو غيرهما من ضروب المعارف التي أحاط بها ابن جرير، وجمع فيها مادة لم تجتمع لكثير من غيره من كبار علماء عصره
(1)
.
ولذا ترى الطبري يضع قواعد وأصول للتفسير والتأويل، ويحذِّر من تناول التفسير بالرأي المجرد، ويورد من الأدلة الدالة على تحريمه، وهذا هو منهجه الذي سلكه في تفسيره، كما سيأتي ذكر كلامه هذا بطوله حين الكلام عن منهجه في التفسير.
وقد أثار المنهج الذي اعتمده الطبري في تفسيره خلافًا بين العلماء في تصنيفه بين المفسرين بالمأثور أم بالمعقول، وحاول بعضهم التدليل على أنّ تفسير الطبري إنّما هو في الحقيقة جمع بين الاثنين، وأنه لا تناقض بينهما
(2)
.
ثالثًا: زمن تأليفه
وكان الطبري يحدّث نفسه منذ صباه بكتابة هذا التفسير، وقد رُوي أنه كان يستخير الله تعالى قبل أن يشرع في كتابته بثلاثة أعوام
(3)
ثم ظل يمليه مدة سبع سنين من عام (283 هـ) وحتى عام (290 هـ)، ثمَّ قُرئ عليه سنة (306 هـ).
رابعًا: مقصده من تأليفه
ولقد أوضح الطبري أن مقصوده من تفسير القرآن الكريم هو تبيين الوجوه المحتملة للآيات
(4)
، واستقصاء هذه الوجوه فقال
(5)
: "إذ كان الذي قصدنا له في كتابنا هذا البيان عن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها".
(1)
يُنظر: كلمة (الناشر) أ. محمد محمود الحلبي: الطبعة الثالثة، تفسير الطبري:(1/ 4).
(2)
الدريني فتحي: دراسات و بحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ج 1 ص 145.
(3)
ياقوت الحموي: معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) جـ 6، صـ 2453،
(4)
محمد بن جرير الطبري ومنهجه في تفسير القرآن الكريم وكتابة التاريخ، الدكتور عباس توفيق، صـ 62
(5)
تفسير الطبري، تفسير سورة الفاتحة، الآية: 4
وذكر أن تأويل القرآن له ثلاثة أوجه، فقال
(1)
:
إن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة:
أحدها: لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن جميع خلقه، وهو أوقات ما كان من آجال الأمور الحادثة، التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة، مثل: وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى بن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك.
والوجه الثاني: ما خص الله بعلم تأويله نبيه صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته، وهو ما فيه حاجة العباد إلى علم تأويله
(2)
، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تأويله.
والثالث منها: ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه، لا يوصل إلى علم ذلك إلا من قِبَلِهِم.
وكان منهجه في استقصاء الوجوه المحتملة للآيات يعتمد على التفسير بالمأثور بالأساس، ثم القراءات فاهتم بالقراءات القرآنية، وكان له اعتناء بعرض وجوه اللغة، فضلًا عن آرائه الفقهية واجتهاداته التي أودعها في التفسير
(3)
.
(1)
تفسير الطبري جـ 1، فصل: الأخبار عمن كان من قدماء المفسرين محمودًا علمه بالتفسير ومن كان منهم مذموما علمه به، صـ 93، 92.
(2)
هكذا وردت: "وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجة"ـ وتم تعديلها لينتظم المعنى. الباحث.
(3)
عبد الله بن عبد المحسن التركي: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج 1، ص 50: 56، مقدمة التحقيق.
وكان منهجه في التفسير وفق الأصول التالية:
الأصل الأول: اعتماده على التفسير بالمأثور
وهو التفسير بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أقوال الصحابة أو التابعين في تفسير معاني الآيات؛ وقد كان يُنكر بشدة على من يفسر القرآن بمجرد الرأي فحسب، ولكنه يُرجِّح أو يصوب أو يوجِّه قولًا لدليل معتبر لديه.
الأصل الثاني: تحذيره من تفسير القرآن بالرأي المجرد
فيقول: "أن ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلا بنص بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بنصبه الدلالة عليه؛ فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه، بل القائل في ذلك برأيه -وإن أصاب الحق فيه- فمخطئ فيما كان من فعله، بقيله فيه برأيه؛ لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق، وإنما هو إصابة خارص وظان. والقائل في دين الله بالظن، قائل على الله ما لم يعلم. وقد حرم الله جل ثناؤه ذلك في كتابه على عباده، فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فالقائل في تأويل كتاب الله، الذي لا يدرك علمه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعل الله إليه بيانه، قائل بما لا يعلم وإن وافق قيله ذلك في تأويله، ما أراد الله به من معناه؛ لأن القائل فيه بغير علم، قائل على الله ما لا علم له به"
(1)
.
الأصل الثالث: عنايته بالأسانيد
يقف على الأسانيد، فقد اشتمل كتابه على عدد كبير من الأحاديث والآثار المسندة، منها الصحيح ومنها الضعيف، فتراه لا يقبل أي رواية إلا بعد تأمل، وقد أشار جلال الدين السيوطي في (الإتقان) إلى مواضع الأحاديث والآثار الضعيفة في التفسير
(2)
.
الأصل الرابع: عنايته بالقراءات
كانت عناية الطبري بالقراءات بالغة الأهميّة عكست عمق اطّلاعه في هذا الفنّ من العلوم، ولا يخفى ما لاختلاف وجوه القراءات المشهورة من أثر في توجيه معاني آيات القرآن الكريم
(3)
.
(1)
تفسير الطبري جـ 1، فصل: الأخبار في النهي عن تأويل القرآن بالرأي، ص 78، 79.
(2)
لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، الدكتور محمد لطفي الصباغ، ص 275
(3)
الدريني فتحي: دراسات و بحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ج 1 ص 219 - 220.
وعنايته بالقراءات تعني الدقة والتحري لا التوسع والاستفاضة:
ومن ذلك بيان اعتذاره عن نفسه سبب عدم الاستفاضة في مناقشة قراءة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، التي قرأ بها عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بالألف مدًا {مَالِكِ} بألف فيقرؤونها هكذا:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، بينما قرأ الباقون من القراء العشرة بغير ألف قصرًا {مَلِكِ} بغير ألف:{مَلِكِ يوم الدين} .
ويجلي هذا المعنى فيقول رحمه الله:
"وقد استقصينا حكاية الرواية عمن روي عنه في ذلك قراءة في كتاب القراءات، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، والعلة الموجبة صحة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع؛ إذ كان الذي قصدْنا له في كتابنا هذا البيان عن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها"
(1)
.
ومع ذلك فتراه يعتني بالقراءة المتواترة الثابتة، ويرفض القراءات الشاذة ويردها، ويوجه القراءات التي يراها نحويًا وتفسيريًا، مرجحًا لها ليجلي بها معاني مبهمة أو يزيد بها معنى آخر غير المعنى الذي في القراءات الأخرى، وأحيانًا يذكر القراءات الواردة في الآية دون ترجيح بينها.
وما اتُهِمَ به الطبريُ من رد قراءة متواترة فهو أمر مستبعد من مثله كإمام علم، ولاسيما وأن عبارة التواتر ربما لا تجد استعمالًا لها عنده، بقدر ما يستعمل الألفاظ التي تدل على استفاضة القراءة وشيوعها واشتهارها ونحو ذلك؛ فالقراءة المشتهرة عنده لا يمكن له ردها ولا الطعن فيها، إلا إذا ثبت عنده شذوذها.
(1)
تفسير الطبري: (1/ 150).
ومما يشهد لإمامته في القراءات ما ذكره ياقوت الحموي في (مجمع الأدباء) حيث يصف مؤلفًا للطبري في القراءات فيقول: "رأيته في ثماني عشرة مجلدة إلا أنه كان بخطوط كبار، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور، والشواذ، وعلل ذلك، وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور"
(1)
.
وتأمل قول الحموي: "لم يخرج بها عن المشهور" يتبين بجلاء ما ذُكِرُ آنفًا.
ثم لنتأمل كذلك وصف أبي عمرو الداني في (الأرجوزة المنبهة) حيث يقول رحمه الله:
القول في أصحاب الاختيار
وأهل الاختيار للحروف
…
والميز للسقيم والمعروف
جماعة كلهم إمام
…
مقدم أولهم سلام
وهو الذي يعرف بالطويل
…
إمام كل فاضل جليل
أقرأ باختياره الأناما
…
ولم يزل مقدما إماما
فذكر الأئمة إلى أن ختم بالطبري فقال:
والطبري صاحب التفسير
…
له اختيار ليس بالشهير
وهو في جامعه مذكور
…
وعند كل صحبه مشهور
فهؤلاء أهل الاختيار
…
لأحرف القرءان في الأقطار
(2)
(1)
معجم الأدباء: (18/ 45 (.
(2)
الأرجوزة المنبهة: (ص: 159).
الأصل الخامس: عنايته باللغة وعلومها
عنايته باللغة وعلومها: كان يحتكم كثيرًا في تفسيره عند الترجيح والاختيار إلى المعروف من كلام العرب، ويعتمد على أشعارهم، ويرجع إلى مذاهبهم النحوية واللغوية، حيث قال في تفسيره أن من أوجه تأويل القرآن ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن.
وهذا مما أكد عليه في مستهل مقدمة تفسيره حيث يقول:
"وهذا القرآن نزل بلغة العرب، فواجب لمن أراد أن يعلم تأويله أن يكون بأشعارهم عالمًا وللغتهم مدركًا ولأسرار كلامهم متقنًا"
(1)
.
وذلك لأن اللغة من علوم الآلة المعينة على فهم المقصود من كلامه سبحانه؛ ولذا فقد اعتمد الطبري اللغة وعلومها وضروبها من أسس منهجه في تفسير القرآن.
الأصل السادس: عنايته باستيعاب تفسيره لمعاني القرآن
حيث يقول في مقدمة تفسيره:
ونحن في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه مُنشِئُون -إن شاء الله ذلك- كتابًا مستوعِبًا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعًا
…
ومخبرون في كلّ ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحُجّة فيما اتفقت عليه منهُ، واختلافها فيما اختلفت فيه منهُ، ومُبيِّنو عِلَل كلّ مذهب من مذاهبهم، ومُوَضِّحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك
(2)
.
الأصل السابع: عنايته بالأحكام الفقهية
الاهتمام بالأحكام الفقهية: كان الطبري صاحب مذهب فقهي، فكان يتعرض لآيات الأحكام ويناقشها ويعالجها، ثم يختار من الأحكام الفقهية ما يراه الأقوى دليلًا.
(1)
تفسير الطبري: (مج 7/ ج/ 12 ص: 25).
(2)
مقدمة تفسير الطبري، (1/ 7).
وكان مذهبه الفقهي مذهبًا متبَعًا تفقَّه به كثير من أصحابه ومن جاء بعدهم، حفظه في كتبه الفقهية خاصة كتابه "اللطيف"، وقد عد ابن النديم له أصحابًا وتلامذةً في باب جعله خاصًّا بهم في فهرسته، وكان من أشهرهم المعافى بن زكريا بن طرار (390 هـ).
وكتبه كلُّها شاهدة بهذا، خصوصًا ما ألفه في الفقه خاصة مثلَ كتابه اختلاف الفقهاءالمسمى
"اختلاف علماء الأمصار"، وكتاب "لطيف القول في أحكام الشرائع"، وكتاب "بسيط القول"
(1)
.
الأصل الثامن: عمله بالإجماع وأخذه في الاعتبار
لا شك أن الأصول التي لا تجوز مخالفتها ثلاثة، ألا وهي: الكتاب والسنة الثابتة الصحيحة، والإجماع اليقيني، ولا شك كذلك في أن الإجماع اليقيني حجة قطعية.
والإجماع الصريح حجة متى حصل، وهو قطعي الدلالة لكنه بعد عصر الصحابة نادر الوجود، ومنه المعلوم من الدين بالضرورة
(2)
.
وقد قال الله تعالى في ذلك: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
ومن خالفه -أي الإجماع- بعد علمه به، أو قيام الحجة عليه بذلك: فقد استحق الوعيد المذكور في الآية
(3)
.
والإجماع القطعي: هو إجماع السلف المحكي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم؛ لأن الاختلاف كثر بعد عصرهم وانتشر.
(1)
التبصير في معالم الدين: (46) ت. الشبل.
(2)
مجموع الفتاوى (19/ 270). العقيدة الواسطية، التنبيهات السنية:(ص: 325).
(3)
مراتب الإجماع لابن حزم: (ص: 7.)
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: "والإجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ"
(1)
.
وفي نحو ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمدون عليه في العلم والدين، والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشرت الأمة"
(2)
.
ويقرر رحمه الله أيضًا ذلك فيقول: "فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة أصول معصومة"
(3)
.
ولذا إذا قال الصحابي عن شيء أو أي أمر ما: "كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، كان ذلك له حكم المرفوع، ولا يُعد أبدًا حكاية للإجماع، كما أنه لا يُعد دليلًا، لأن الدليل قد تحقق بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أو فعله أو تقريره.
ولذا قال الآمدي رحمه الله: "وإجماع الموجودين في زمن الوحي، ليس بحجة في زمن الوحي، بالإجماع، وإنما يكون حجة بعد النبي صلى الله عليه وسلم "
(4)
.
والإجماع هو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم والسنة النبويّة المطهّرة، لذلك حظي بمنزلة هامّة في تفسيره -الطبري-، فكثيرًا ما يستند إليه ويجعله سلطانًا كبيرا في اختيار الأقوال وترجيحها
(5)
.
فكان الطبري: يقدر له قدره، ويعطيه اعتبارًا كبيرًا فيعمل به ويرتضيه مستند إلى حجيته.
(1)
العُدة في أصول الفقه (4/ 1058).
(2)
مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية:(13/ 157).
(3)
مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية:(20/ 164).
(4)
الإحكام للآمدي: (1/ 109).
(5)
الذهبي محمد حسين: التفسير والمفسرون ج 1 ص 213.
مخالفة الطبري غيره من العلماء في طريقة تناوله للإجماع:
"ومن الناحية الفقهية فالطبري مجتهد لكنه سَلَك طريقةَ خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع، فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلين، وهذه الطريقة تؤخذ عليه لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف"
(1)
.
ولذا قد يحكي الإجماع فيقول مثلًا: أجمع أهل الحجة من أهل التأويل، مع أن المسألة قد تجد فيها قولًا لمخالف معتبر.
وفي نحو ذلك يقول رحمه الله: "وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط، فغير جائز الاعتراض به على الحجة"
(2)
.
فهو لا يعتد بمخالفة رجل أو رجلين في حكاية الإجماع، بل قد يعتبره شذوذًا، وقد وافق الطبري على ذلك بعض الفقهاء كـ "أحمد بن على الرازي الجصاص الحنفي (ت: 370 هـ) " وهو خلاف ما عليه جمهور العلماء.
ولذا تراه رحمه الله يقرر ذلك معتذرًا بأن: "الحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم"
(3)
.
وإن كان الطبري يُعد من أكثر المفسرين حكاية للإجماع، ومع ذلك فقد قل الانتفاع بهذا الإجماع، وذلك لما سبق ذكره من بيان عدم اعتداده بمخالفة الرجل والرجلين.
(1)
يُنظر: القول المفيد على كتاب التوحيد: لابن عثيمين: (1/ 431).
(2)
تفسير الطبري: (16/ 4)
(3)
تفسير الطبري: (9/ 566).
الأصل التاسع: عنايته بعقيدة أهل السنة والجماعة
تعرض الطبري في تفسيره لكثير من مسائل العقيدة، والرد على كل من خالف فيها ما عليه أهل السنة والجماعة.
ومن أمثلة ذلك ما يلي:
1 -
عند تفسير قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، قال: بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه
(1)
.
2 -
عند تفسير قوله تعالى: {جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، قال: وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سماوات.
وكان يذهب في جل مذاهبه إلى ما عليه الجماعة من السلف وطريق أهل العلم المتمسكين بالسنن، شديدًا عليه مخالفتهم، ماضيًا على منهاجهم، لا تأخذه في ذلك ولا في شيء لومة لائم، وكان يذهب إلى مخالفة أهل الاعتزال في جميع ما خالفوا فيه الجماعة من القول بالقدر وخلق القرآن وإبطال رؤية الله في القيامة، وفي قولهم بتخليد أهل الكبائر في النار وإبطال شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قولهم إن استطاعة الإنسان قبل فعله
(2)
.
3 -
عند تفسيره قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، قال: "والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تضافرت عليه الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس
(1)
تفسير الطبري، تفسير سورة المجادلة، الآية 7.
(2)
ياقوت الحموي: معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) جـ 6، صـ 2462
دونها سحاب، فالمؤمنون يرونه والكافرون عنه يومئذ محجوبون"
(1)
، كما قال جلّ ثناؤه:{لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا} [المطففين: 15]
(2)
.
قال: ". . . . معنى ذلك تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(3)
.
ثم يتعقب المعتزلة منكرًا ومشددًا عليهم إنكارهم رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وبيان خطئهم الجلل في تأويل قول الله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، حيث يقول: ". . . ليعلم الناظر في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون -أي المعتزلة- من قولهم إلا إلى ما لبَّس عليهم الشيطان مما يَسْهُل على أهل الحق البيان عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يترددون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة"
(4)
.
الأصل العاشر: موقفه من الإسرائيليات
موقفه من الإسرائيليات: يسوق في تفسيره أخبارًا من القصص الإسرائيلي، وكان يتعقَّبها أحيانًا بالنقد والتمحيص.
وقال محمود محمد شاكر عن ذلك:
ولما رأيت أن كثيرًا من العلماء كان يعيب على الطبري أنه حشد كثيرًا من الرواية عن السالفين الذين قرأوا الكتب وذكروا في معاني القرآن ما ذكروا من الروايات عن أهل الكتابين السابقين - التوراة والإنجيل - أحببت أن أكشف عن طريقة الطبري في الاستدلال بهذه الروايات رواية رواية، وأبين عند كل رواية مقالة الطبري في إسنادها، وأنه إسناد لا تقوم به
(1)
البخاري: كتاب الآذان باب 129، تفسير سورة المائدة باب 8، كتاب التوحيد باب 24، وكذلك مسلم كتاب الإيمان 299 - 300 - 302، وأبو داود السنّة 19.
(2)
تفسير الطبري: مج 5 ج 7 ص 303.
(3)
تفسير الطبري: مج 14 ج 29 ص 194
(4)
تفسير الطبري، (9/ 463).
الحجة في دين الله ولا في تفسير كتابه، وإن استدلاله بها كان يقوم مقام الاستدلال بالشعر القديم
(1)
.
الأصل الحادي عشر: دقته وأمانته العلمية
ومما يدلل على دقته وأمانته العلمية في تفسيره، ما يحتويه تفسيره من الروايات المسندة، فتفسيره فيه:(38397) ثمانية وثلاثون ألفًا وثلاثمائة وسبع وتسعون رواية في التفسير؛ أي: ما يُقارب أربعين ألف رواية، يرويها ابن جرير كلها بأسانيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الصحابة، أو إلى التابعين وأتباعهم.
وهذه خمسة نقولات ننقلها للقرَّاء الكِرام من تفسير الطبري، وسيندهش كلُّ مَنْ يقرؤها من شدة تحرِّيه في ألفاظ الروايات حتى في الكلمة الواحدة؛ بل وفي الحرف الواحد.
قال الطبري، رحمه الله:
1 -
قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، يقول تعالى ذكره: وما اختلفتم أيها الناس فيه من شيء فتنازعتم بينكم، {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، يقول: فإن الله هو الذي يقضي بينكم، ويفصل فيه الحكم كما حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن (هو الزعفراني)، قال: حدثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، قال ابن عمرو في حديثه:"فهو يحكم فيه"، وقال الحارث:"فالله يحكم فيه"
(2)
؛ فتأمَّل كيف ميَّز ابن جرير لفظ شيخيه: محمد بن عمرو والحارث، مع أن المعنى واحدٌ!
2 -
وقال رحمه الله أيضًا: حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، قال: ما وعدوا
(1)
مقدمة محمود شاكر من تفسير الطبري، 1: 16 - 17، وتعليقه في 1: 453 - 454
(2)
تفسير الطبري: (20/ 473).
فيه من خير أو شر، حدثنا أبو كريب، ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله، إلا أن أبا كريب قال في حديثه:"من خير وشر"
(1)
؛
فتأمَّل كيف بيَّن ابن جرير أن شيخه أبا كريب؛ وهو محمد بن العلاء الهمداني قال: "من خير وشر"، أما شيخاه سفيان بن وكيع، ومحمد بن بشار، فقالا:"من خير أو شر"، فبيَّن الفرق في روايتهم في حرف واحد!
3 -
وقال رحمه الله أيضًا: حدثني إسحاق بن شاهين، وإسماعيل بن موسى، قالا: حدثنا خالد بن عبدالله، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلٌ للأعقاب من النار»
(2)
، وقال إسماعيل في حديثه:(ويل للعراقيب من النار)
(3)
(4)
.
4 -
وقال رحمه الله أيضًا: حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدَّثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن (هو البصري) عن قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، قال:"هي فاتحة الكتاب، ثم سُئل عنها، وأنا أسمع، فقرأها حتى أتى على آخرها، فقال: "تُثنى في كل قراءة" أو قال: "في كل صلاة"، الشك من أبي جعفر
(5)
.
أتدرون من هو أبو جعفر الذي شك في كلمة قراءة أو صلاة؟؟
إنه الإمام ابن جرير نفسه، فهو الذي شك في الرواية، هل قال شيخه يعقوب بن إبراهيم: تثنى في كل قراءة أو قال: في كل صلاة؟! فبيَّن ابن جرير تلك الكلمة التي شكَّ فيها، ولم يجرؤ على كتابة الرِّواية بأحد اللفظين دون أن يُبيِّن أنه يشكُّ في كلمة منها!
(1)
تفسير الطبري: (12/ 591).
(2)
رواه البخاري (حديث رقم/ 60)، ورواه مسلم (رقم/ 241).
(3)
صحيح مسلم/ كتاب الطهارة، حديث:(242).
(4)
تفسير الطبري: (8/ 202).
(5)
تفسير الطبري: (1/ 107)
5 -
وقال رحمه الله أيضًا: حدَّثني أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قالا جميعًا: حدَّثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي:"لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء"، وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل، قال:"ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"
(1)
.
قال المناوي في "فيض القدير" في شرح قول ابن عباس:
وأما المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه البشر، فمطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما يشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات، وتُسمَّى بأسمائها على منهج الاستعارة والتمثيل، ولا يُشاركها في تمام حقيقتها
(2)
.
فقول ابن عباس هذا كتبه ابن جرير عن اثنين من مشايخه، هما: أبو كريب، ومحمد بن بشار، وكل شيخ منهما يرويه عن شيخ عن سفيان الثوري عن الأعمش، فمدار الحديث على سليمان الأعمش، فبيَّن ابن جرير لفظ كل شيخ، وهذا التفريق يدل على شدة تحرِّي ابن جرير في رواياته، ولو جمعنا طرق هذه الرواية لرأينا الرواة يروون هذا القول عن ابن عباس بألفاظ مُتقاربة والمعنى واحد، وسأقتصر هنا على ذكر ثلاث طرق لهذه الرواية:
1 -
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا أبو معاوية؛ وهو محمد بن خازم، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال:"ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء"
(3)
.
2 -
قال البيهقي في كتابه "البعث والنشور": أخبرنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص الزاهد، حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن عمر بن بكر بن الحارث الكوفي العبسي،
(1)
تفسير الطبري: (1/ 416)
(2)
تفسير الطبري: (5/ 373)
(3)
تفسير ابن أبي حاتم: (260)
أنبأنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال:"ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء"
(1)
.
3 -
قال أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "صفة الجنة": حدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، ووكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال:"ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء"
(2)
.
واعلم أن ابن جرير رحمه الله كتب تلك الروايات وغيرها حين كان يطلب العلم في دفاتر، ثم حين ألف كتابه التفسير كتبها في مواضعها المناسبة لها على الآيات، وقد ذكر ابن جرير في أكثر من موضع ما يدل على هذا، ومن ذلك قوله: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبدالرزاق الصنعاني، عن الثوري، عن هلال بن خباب، عن سعيد بن جبير في قوله:{مَشِيدٍ (45)} [الحج: 45]، قال:"مُجصَّص" هكذا هو في كتابي: عن سعيد بن جبير
(3)
.
فقد استغرب ابن جرير من هذه الرواية، وبيَّن أنه رآها هكذا في كتابه عن سعيد بن جبير، مع أنها في تفسير عبدالرزاق الصنعاني عن عكرمة؛ وليس عن سعيد بن جبير، ففي تفسير عبدالرزاق الصنعاني: قال عبدالرزاق: أخبرنا الثوري، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، {مَشِيدٍ (45)} ، قال:"المجصّص"
(4)
.
وقد روى ابن جرير هذه الرواية عن عكرمة على الصواب من غير طريق عبدالرزاق، فقال ابن جرير في تفسيره: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عباد بن العوام، عن هلال بن
(1)
البعث والنشور للبيهقي: (332)
(2)
صفة الجنة لأبي نعيم الأصبهاني: (124)
(3)
تفسير الطبري: (16/ 593)
(4)
تفسير عبدالرزاق الصنعاني: (2/ 409) رقم (1941).
خباب، عن عكرمة:{مَشِيدٍ (45)} ، قال:"المجصص"، قال عكرمة:"والجص بالمدينة يُسمَّى المشيد"
(1)
.
فرحم الله الإمام محمد بن جرير الطبري، وجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء، فقد حفظ لنا في كتابه التفسير آلاف الروايات المسندة في تفسير القرآن الكريم من أوَّلِه إلى آخره
(2)
.
الأصل الثاني عشر: علو همته
ونسوق أبرز ما روي في علو همته:
روي عن الخطيب البغدادي أنه قال:
سمعت عليّ بن عبيد الله اللغوي يحكي: أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة
(3)
.
ويُروى أن الطبري لما أراد أن يُملي تفسيره قال لأصحابه:
أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال: تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنّا لله ماتت الهمم، فاختصره في نحو مما اختصر التفسير
(4)
.
خامسًا: ثناء العلماء عليه
لقد تبوَّأ تفسير الإمام الطبري أسمى مكانةٍ؛ حتى لُقب بشيخ المفسرين، وأصبح تفسيره أكثر التفاسير ذيوعًا وانتشارًا.
(1)
تفسير الطبري: (16/ 592)
(2)
دقة الإمام محمد بن جرير الطبري وأمانته العلمية في تفسيره، محمد بن علي بن جميل المطري، عن موقع الألوكة، بتاريخ: 1/ 4/ 1440 هـ.
(3)
سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، الطبقة السابعة عشر، محمد بن جرير، جـ 14، صـ 267: 282
(4)
تاريخ بغداد وذيوله، للخطيب البغدادي، طبعة المكتبة العلمية، جـ 2، صـ 161
ونعرض هنا بعض ثناء العلماء على شيخ المفسرين، والتي من أبرزها ما يلي:
1 - الخطيب البغدادي
ومِن أجمع ما ذُكِرَ في حسن الثناء على الطبري وسعة علمه ما جادت به قريحة الخطيب في "تاريخه"، حيث يقول:
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، كان أحدَ أئمة العلماء، يُحكَمُ بقوله، ويُرجَعُ إلى رأيه؛ لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره؛ فكان حافظًا للكتاب، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسُّنة وطرقها، صحيحِها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في أخبار الأمم وتاريخهم، وله كتاب التفسير لم يُصنَّف مثله، وكتاب سمَّاه تهذيب الآثار لم أرَ سواه في معناه، لكنه لم يُتمَّه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حُفِظت عنه
(1)
.
2 - شيخ الإسلام ابن تيمية:
يَعدُّ شيخُ الإسلام ابن تيمية الإمامَ الطبري من كبار المجتهدين في الإسلام وأواخرهم، وقد ذكر ذلك في مواضع عدة من مصنفاته
(2)
.
وقد أشاد بعقيدته في محض بيانه لقاعدة الاسم والمسمى من مجموع الفتاوى حيث يقول:
". . . كما ذكره أبو جعفر الطبري في الجزء الذي سماه "صريح السنة" ذكر مذهب أهل السنة في القرآن والرؤية، والإيمان والقدر والصحابة وغير ذلك. وذكر أن مسألة اللفظ ليس لأحد من المتقدمين فيها كلام؛ كما قال لم نجد فيها كلامًا عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا
(1)
يُنظر: تاريخ بغداد: (2/ 162)، تاريخ دمشق:(2/ 162)، معجم الأدباء (18/ 90)، وفيات الأعيان:(4/ 191)، تذكرت الحفاظ:(20/ 712).
(2)
يُنظر على سبيل المثال: منهاج السنة النبوية، في نقض كلام الشيعة والقدرية:(2/ 472، 107) و (6/ 53) و (7/ 428، 13، 286).
إلا عمن في كلامه الشفاء والغناء، ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى أبو عبد الله أحمد بن حنبل فإنه كان يقول: اللفظية جهمية. ويقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. وذكر أن القول في الاسم والمسمى من الحماقات المبتدعة التي لا يعرف فيها قول لأحد من الأئمة .... " ا. هـ
(1)
.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: "وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي"
(2)
.
3 - قال الذهبي:
الإمام الجليل المفسر أبو جعفر صاحب التصانيف الباهرة من كبار أئمة الإسلام المعتمدين
(3)
. وقال أيضًا: وله كتاب التفسير، لم يصنف أحد مثله
(4)
.
4 - قال ابن كثير:
بل كان أحد أئمة الإسلام علمًا وعملًا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
(5)
.
5 - قال ابن القيم:
قول الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري الإمام في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ واللغة والنحو والقرآن قال في كتاب صريح السنة ونقل كلامه وعده من جملة السلف الذي يرجع لأقوالهم في مسائل الاعتقاد
(6)
.
6 - قال أبو حامد الإسفراييني:
لو سافر رجل إلى الصِّين حتى يحصل على كتاب تفسير محمَّد بن جرير لم يكن ذلك كثيرًا
(7)
.
(1)
مجموع الفتاوى 6/ 18
(2)
مجموع الفتاوى ج 13 ص 385
(3)
ميزان الاعتدال: (3/ 498).
(4)
سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، الطبقة السابعة عشر، محمد بن جرير، جـ 14، صـ 267: 282
(5)
البداية والنهاية: (11/ 145، 146)
(6)
اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص: 194)
(7)
معجم الأدباء: (18/ 42)
7 - قال ابن خزيمة:
نظرت فيه -تفسير الطبري- من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير
(1)
.
8 - وقد أكد الحافظ بن حجر، رحمه الله
، كلام ابن خزيمة في "لسان الميزان" فقال: أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير ممن كتبه عن الطبري فردّه بعد سنين ثم قال: نظرتُ فيه من أوله إلى آخره؛ فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير
(2)
.
9 - قال أبو محمد الفرغاني:
تم من كتب محمد بن جرير كتاب التفسير؛ الذي لو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب، كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل
(3)
.
10 - قال ابن عطية الأندلسي، رحمه الله:
ثم إنّ محمد بن جرير الطبري، رحمه الله، جمَع على الناس أشتات التفسير، وقرَّب البعيد، وشفَى في الإسناد
(4)
.
11 - قال النووي:
وله كتاب التاريخ المشهور وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله
(5)
. وقال أيضًا حين ترجم له في "تهذيب الأسماء واللغات": أجمعت الأمة على أنه لم يُصنَّف مثل تفسير الطبري
(6)
.
12 - قال السيوطي:
وكتابه -يعني تفسير محمد بن جرير- أجلُّ التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب، والاستنباط فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين.
(1)
الذهبي، مرجع سابق: جـ 14، صـ 267:282.
(2)
لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة، (7/ 25). ط. دار البشائر الإسلامية.
(3)
الذهبي، مرجع سابق: جـ 14، صـ 267:282.
(4)
تفسير ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:(1/ 42).
(5)
تهذيب الأسماء واللغات، لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، الجزء الأول من القسم الأول، دار الكتب العلمية (بيروت)، صـ 78
(6)
النووي: تهذيب الأسماء 1/ 78.
وقال أيضًا: فإن قلت فأي التفاسير ترشد إليه وتأمر الناظر أن يعول عليه؟ قلت: تفسير الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري الذي أجمع العلماء المعتبرون على أنه لم يؤلف في التفسير مثله
(1)
.
13 - ومن المعاصرين العلامة الفقيه عبد الله ابن حميد (ت: 1402 هـ)
.
لئلا أطيلَ بذكر ثنائه من أقوال العلماء -وهو كثير جدًّا- أختم بما قدَّمه بترجمته الشيخ الفقيه عبد الله بن حميد لكتابه (تهذيب الآثار) حيث قال رحمه الله: "
…
فكان من أثر ذلك تأليفُ المؤلَّفات الضخمة العديدة التي حوت على تراث نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، من هؤلاء الجهابذة الأفذاذ الإمام أبو جعفر محمدُ بن جريرٍ الطبريُّ، فقد أجمع المسلمون على إمامته وجلالة قدره وسَعَة علمه، وألف في ذلك المؤلفات الكثيرة النافعة التي أثنى عليها أئمة العلماء، وذكروها ومؤلِّفَها بما هو أهل
…
، والإمام ابن جرير أشهر من أن يُذكَر وأَعرَفُ من أن يُنكَر، (ثم شرع في نبذة يسيرة مختصرة عن حياته، ومما قال فيها):
…
ما زال العلماء في زمانه وبعده يُثْنون عليه ويذكرون فضله وعلمه وزهده وتُقَاه، فقد كان رحمه الله عالمًا بتفسير القرآن، والحلال والحرام، وعالمًا بأخبار الناس وأيامهم، وهو من فضلاء الصالحين المتقين، شهد له أهل العلم بالفضل والتقَى؛ فقد كان إمامًا في التفسير والحديث والجرح والتعديل، وعالمًا بالأحكام وأصولها، وله أقوال واختيارات جيدة انفرد بها "
(2)
.
14 - ومن المعاصرين كذلك الدكتور محمد حسين الذهبي، رحمه الله
، حيث يصف كتابه قائلًا: بأنّه التفسير الذي له الأولويّة بين كتب التفسير، أولويّة زمنيّة و أولويّة من ناحية الفنّ
(1)
الإتقان للسيوطي، النوع الثمانون في طبقات المفسرين:(2/ 476).
(2)
ثناء العلماء على الإمام الطبري- مقال لعلي الشبل-عن موقع الألوكة، بتاريخ: 11/ 1/ 1436 هـ.، ويُنظر: تحبير التحبير في تيسير مبادئ علم التفسير وتعليم المتعلمين طرق ومناهج المفسرين، للدكتور/ عرفة بن طنطاوي:(201 - 207).
والصناعة
(1)
. ثم يقول أيضًا مقررًا مؤكدًا على مكانته وتقدمه: اعتبر الطبري أبا للتفسير كما أعتبر أبا للتاريخ الإسلامي
(2)
.
وختامًا:
فإن تمكن الطبري من التفسير وعلومه، واتقانه في صناعة تفسيره وتقدمه على كل ما صنف في التفسير زمانًا واتقانًا ومنهجًا وطريقة وأسلوبًا وعقيدة، جعله في مقدمة التفاسير التي اعتمد عليها أغلب المفسرين الذين أتوا بعده، حتى لُقِّبَ بشيخ المفسرين، وإمام المفسرين.
المطلب الثاني: أهمية التفسير التحليلي، وبيان أسلوبه وأبرز وأهم مزاياه
أهم مزايا التفسير التحليلي:
أولًا: يُعد التفسير التحليلي من أقدم أساليب التفسير التي سلكها المصنفون قديمًا، كابن جرير الطبري، والرازي، والقرطبي وغيرهم من القدامى، والذي يتتبع فيه المفسر الآيات حسب ترتيبها المصحفي لا النزولي، ويتناول فيه المفسر تفسير آيات متتابعة، ثم يعمد إلى تفسير السورة بأكملها ثم ينتقل إلى تفسير القرآن الكريم كله متبعًا نفس المنهج.
ثانيًا: يعمد فيه المفسر إلى تفسير الآيات الكريمة تفسير تحليليًا، مستخدمًا له أكثر من غيره، مبرهنًا لأهمية اتباعه كمنهج وأسلوب من أهم المناهج والأساليب المتبعة في التفسير.
ثالثًا: يعمد فيه المفسر إلى بيان ما يتعلق بالآيات من معاني الألفاظ، مبينًا لأسباب نزولها، مبرزًا لأوجه البلاغة الواردة فيها، مستعينًا بما ورد فيها من قراءات، وموجهًا لها لإبراز المعاني وزيادة إيضاح مرامي وهدايات الآيات، مبينًا لأهم ما ورد فيها من أحكام.
رابعًا: يُعد منهج التفسير التحليلي من المناهج التي لا يُقيد فيها المفسر باستخدام أسلوب فيه إسهاب وإطناب، أو أسلوب فيه إيجاز واختصار، ما دام المفسر قد اتبع الأسلوب المنهجي
(1)
الذهبي، محمد حسين: التفسير و المفسرون ج 1 ص 209.
(2)
الذهبي، محمد حسين: التفسير و المفسرون دار إحياء التراث العربي لبنان ط 2، 1396 هـ/ 1976 م، ج 1 ص 206
والأسس والقواعد التي اعتمدها أئمة التفسير وسادات التحبير والتأويل في هذا الصدد، على أن يتجنب التطويل الممل، والإيجاز المختصر المخل، ولذا ترى ممن صنف في هذا
المنهج التحليلي مَن أطال فترى تفسيره قد حوى مجلدات كبار طوال، ومنهم مَن توسط فصنف في تفسيره في مجلدات معدودة، ومنهم مَن اختصره في مجلد واحد، وسيأتي معنا بعد قليل بيان لبعض المصنفات في تلك الأقسام جميعًا.
وفي ذلك يقول الدكتور محمد حسين الذهبي، رحمه الله:
ثم إنَّا نجد متقدمى المفسِّرين قد توسَّعوا فى التفسير إلى حد كبير، جعل مَن جاء بعدهم من المفسِّرين لا يلقون عنتًا، ولا يجدون مشقة فى محاولتهم لفهم كتاب الله، وتدوين ما دوَّنوا من كتب فى التفسير، فمنهم مَن أخذ كلام غيره وزاد عليه، ومنهم مَن اختصر، ومنهم مَن علَّق الحواشى وتتبع كلام من سبقه، تارة بالكشف عن المراد، وأخرى بالتفنيد والاعتراض
(1)
.
خامسًا: أغلب من نحى هذا المنحى من المفسرين قد اعتمد أسلوب السابقين كشيخ المفسرين الإمام محمد بن جرير الطبري، كما اعتمد كثير منهم طريقته في استخدام أحسن أساليب التفسير، ألا وهي تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بصحيح السنة، واعتماد أقوال السلف من الصحابة والتابعين، وما دلت عليه لغة العرب.
سادسًا: لا بد للمفسر الذي يتناول التفسير التحليلي على وجه الخصوص أن يتمكن من علوم المفسر عمومًا، ومن تلك العلوم خصوصًا، ألا وهي: معرفة أصول الدين عمومًا، ومعرفة الفقه وأصوله، ومعرفة اللغة وعلومها، ومعرفة علم أسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة علم القراءات، وسائر علوم القرآن كذلك.
(1)
التفسير والمفسرون، للدكتور/ محمد حسين الذهبي، (1/ 110)، مكتبة وهبة، 2000 م.
المطلب الثالث: خطوات مدارسته، وطريقة تناوله، من خلال سور القرآن وآياته
أهم طرق وخطوات التفسير التحليلي:
أولًا: يقوم المفسر في التفسير التحليلي بتقسيم الآيات المزمع تفسيرها إلى وحدات موضوعيّة ذات عناوين واضحة جلية.
ثانيًا: يتناول بيان معاني الآيات إجماليًا مع العناية بالجوانب اللغوية والبلاغية وتجلية معانيها.
ثالثًا: العناية ببيان أسباب النزول والاستعانة بها على تجلية معاني الآيات؛ لأن معرفة أسباب النزول معين على تثبيت معاني الآيات في الذهن وفهمها فهمًا صحيحًا، وذلك أن العلم بالسبب يُورث العلم بالمسبَّب.
وفي ذلك يقول الواحدي: لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها
(1)
.
رابعًا: تفسير الآيات التي يتعرض لها المفسر تفسيرًا تحليليًا بعد أن بيّنها إجماليًا؛ فالمفسر يبين الآيات وما يصل إليه أو يقصد من مراد الله تعالى فى كتابه بأتم بيان يحتمل المعنى، ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، وأن يخدم المقصد تفصيلًا وتفريعًا، مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء
(2)
.
خامسًا: يتعرض المفسر لاستنباط الأحكام الواردة في الآيات، ويبينها ويجليها ويبين الحكمة من ورودها في سياق تلك الآيات.
سادسًا: العناية باجتناب الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات التي طفحت بها بعض كتب التفسير.
سابعًا: يتباين المفسرون في طريقة تناولهم للتفسير التحليلي حسب مناهجهم ومشاربهم، فمن غلب عليه الجانب الفقهي يهتم به اهتمامًا حتى يكاد أن يخرجه عن مسمى التفسير إلى
(1)
أسباب النزول، للواحدي:(ص: 6).
(2)
خالد عبد الرحمن العك، أصول التفسير وقواعده، دار النفائس، 1406 هـ/ 1986 م:(ص: 66).
مسمى الفقه، وقد يكون مع ذلك متعصبًا لمذهبه، ومنهم من يعتني بالجانب اللغوي ويبالغ فيه وكأنك تقرأ كتابًا لسيبويه، ومنهم من يعتني بالجانب البلاغي وكأنك تطالع كتاب بلاغة لا كتاب تفسير، ومنهم من اعتنى بإبراز أقوال السلف وآثارهم، ومنهم من غلب على تفسيره الجانب الوعظي والأسلوب الدعوي،
ومنهم من اعتنى ببيان منهجه العقدي بحيث تطالع من أول وهلة منهجه العقدي بارزًا وواضحًا جليًا، ومنهم من اعتنى بالجوانب التاريخية وزاد فيها وبرز الجانب القصصي على الجانب التفسيري، وهذه هي أهم الجوانب التي ظهرت على أكثر المصنفات في التفسير التحليلي.
المطلب الرابع: ذكر مصادره، وجملة من أهم المصنفات التي صُنِّفَت فيه
أهم المصنفات في التفسير التحليلي:
المصنفات في التفسير التحليلي كثيرة، وهي مختلفة في حجمها كبرًا وصغرًا، ومن الممكن تقسيم أبرزها إلى ثلاث فئات على النحو التالي:
الفئة الأولى: وهي الفئة الأكثر توسعًا، من جهة الحجم مثل:
1.
جامع البيان في تأويل آي القرآن، للإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري (ت: 310 هـ).
2.
مفاتيح الغيب، لمحمد بن عمر بن الحسن الملقب بفخر الدين الرازي (ت: 606 هـ)، وهو مندرج تحت التفسير بالرأي المحمود كذلك.
3.
الجامع لأحكام القرآن، لمحمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي (ت: 671 هـ).
4.
البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (ت: 745 هـ).
5.
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، لبرهان الدين البقاعي، وهو إبراهيم بن عمر بن حسن بن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (ت: 885 هـ)، وهو مندرج تحت التفسير الإشاري كذلك.
6.
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (ت: 1270 هـ)، وبعض أهل العلم ألحقه بالتفسير الإشاري كذلك.
7.
التحرير والتنوير، "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد"، لمحمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور (ت: 1393 هـ).
الفئة الثانية: فئة أقل توسعًا من جهة الحجم من سابقتها، مثل:
1.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية (ت: 510 هـ).
2.
تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير (ت: 774 هـ).
3.
إرشاد العقل السليم لمزايا الكتاب الكريم، لأبي السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (ت: 982 هـ).
4.
محاسن التأويل، لمحمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (ت: 1332 هـ)
الفئة الثالثة: فئة متوسطة الحجم وهي أقل من سابقتها، مثل:
1.
تفسير الكشاف، للزمخشري، أبي القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري المعتزلي (ت: 538 هـ)، وأيضًا هو مصنف ضمن كتب التفسير بالرأي المذموم.
2.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل، لناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (ت: 685 هـ).
3.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل، لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (ت: 710 هـ).
4.
التسهيل لعلوم التنزيل، لمحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي (ت: 741 هـ).
وهذه التفاسير كلها مندرجة تحت التفسير التحليلي، وهي مختلفة المشارب والمدارس والمناهج والاتجاهات والطرائق والعقائد أيضًا، وهي كذلك مختلفة كثرة وقلة، وقد يندرج بعضها تحت أكثر من قسم من أقسام التفسير، وهي كذلك قد يغلب بعضُها بعضًا في بعض الجوانب، وذلك لمسلك مؤلفها وما غلب عليه من العلم، كتفسير القرطبي غلب عليه الجانب الفقهي، وكذلك تفسير البحر المحيط غلب عليه الجانب اللغوي وكأنك تقرأ كتاب نحو مثلًا، وكذلك تفسير الزمخشري غلب عليه الصناعة اللغوية والبلاغية خاصة والتي كان إمامًا بارزًا فيها، كما كان إمامًا في الاعتزال والذي طغى على تفسيره كذلك
(1)
.
وبهذا ينتهي الفصل الثاني والحمد لله رب العالمين.
(1)
المدخل الموسوعي للتفسير الموضوعي، الدكتور عرفة بن طنطاوي مرجع سابق:(ص 63 - 65).
•
الفصل الثالث •
طريقة تناول التفسير التحليلي ودراسته
من خلال سور القرآن وآياته
آيات وصايا لقمان لابنه كما وردت في سورة لقمان
الآيات من 12 إلى 19 أنموذجًا ومثالًا تطبيقيًا
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بالسورة الكريمة، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: اسم السورة وسر تسميتها.
المطلب الثاني: نزولها وعدد آياتها وكلماتها وحروفها.
المطلب الثالث: الجوانب البلاغية في السورة الكريمة.
المطلب الرابع: موضوع السورة الكريمة.
المطلب الخامس: المناسبات في السورة الكريمة.
المبحث الثاني: التعريف بشخصية لقمان الحكيم عليه السلام، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نسبه ونشأته.
المطلب الثاني: التحقيق في أمر نبوته إثباتًا ونفيًا.
المبحث الثالث: المنهج التربوي كما تصوره موعظة لقمان الحكيم، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الجانب العقدي.
المطلب الثاني: الجانب التعبدي.
المطلب الثالث: الجانب الأخلاقي.
المطلب الرابع: طبيعة العلاقة بين هذه الجوانب.
ثم، خاتمة هذا المبحث، وأبرز النتائج، وأهم التوصيات.
المبحث الأول: التعريف بالسورة الكريمة
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: اسم السورة الكريمة وسرّ تسميتها.
المطلب الثاني: نزولها وعدد آياتها وكلماتها وحروفها.
المطلب الثالث: الجوانب البلاغية في السورة الكريمة.
المطلب الرابع: موضوع السورة الكريمة.
المطلب الخامس: المناسبات في السورة الكريمة.
المطلب الأول: اسم السورة الكريمة وسرّ تسميتها
أولاً: اسم السورة الكريمة: (سورة لقمان)
قالَ: إنها سورة لقمان كلٌّ من: عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت 211 هـ)
(1)
، وأبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت 220 هـ)
(2)
، وأَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت 303 هـ)
(3)
، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت 352 هـ)
(4)
، ولا يُعلم أيّ خلاف في تسميتها بسورة لقمان.
ثانيًا: سر تسميتها
(5)
.
(1)
تفسير عبد الرزاق (2/ 105).
(2)
تفسير الثوري (238).
(3)
السنن الكبرى للنسائي (10/ 212).
(4)
تفسير مجاهد (503).
(5)
مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت 1393 هـ) التحرير والتنوير (21/ 137)، الدار التونسية للنشر والتوزيع (1984 م).
ويقول الصابوني (ت: 1443 هـ): «سميت هذه السورة (سورة لقمان) بهذا الاسم لاشتمالها على موعظة لقمان عليه السلام التي تضمنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله وصفاته وذم الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات، وما تضمنته من الوصايا الثمينة»
(1)
.
ويقول شحاتة: «سميت بسورة لقمان لورود موعظة لقمان عليه السلام فيها، وكان من الحكماء الأقدمين»
(2)
.
ويقول الباحث: إن تسمية السورة الكريمة بسورة لقمان جاء تمشيًا مع القاعدة المتبعة عند أئمة التفسير بتسمية السورة بأبرز ما ورد فيها، ذلك مع مراعاة اعتبار الخلاف المشهور عند أئمة التفسير في كون أسماء السور توقيفية أو اجتهادية كلها أو بعضها، أو كون بعضها اجتهاديًّا من الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم أجمعين.
المطلب الثاني: نزولها وعدد آياتها وكلماتها وحروفها
ويندرج تحت هذا المطلب ما يلي:
أولًا: ترتيبها في المصحف الشريف:
سورة لقمان هي السورة الحادية والثلاثون [31] من بين سور المصحف الشريف توسطت بين سورتي الروم والسجدة على الترتيب المصحفي.
ثانيًا: عدد آياتها:
أربع وثلاثون آية [34] في عد أهل الشام، والبصرة، والكوفة
(3)
(4)
، [33] وهي ثلاث وثلاثون
(1)
الصابوني: محمد علي، صفوة التفاسير. دار الصابوني، الطبعة: التاسعة (جـ 3)(ص 486).
(2)
شحاته: عبد الله محمود، أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2 (1981 م).
(3)
وهم من أصحاب القراءات المتواترة، فالمكي ابن كثير، والمدنيان نافع وأبو جعفر، والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي، والشامي ابن عامر، والبصري أبو عمرو ويعقوب، والبغدادي خلف).
(4)
محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير و التنوير، الدار التونسية للنشر والتوزيع، تونس، (جـ 21، 1984، ص 138).
في المكي والمدني
(1)
.
الخلاف في عدد آيات سورة لقمان:
قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «وهي ثلاثون وثلاث آيات في عدد المدنيين والمكي، وأربع في عدد الباقين»
(2)
.
وبنحو قول أبي عمرو الداني قال جمع غفير من أهل العدد
(3)
.
القول الأول: ثلاث وثلاثون آية:
وهذا القول اختاره كذلك جمع من أهل العدد، فمنهم من اختاره كقول منفرد كـ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاس (ت: 338 هـ) في "معاني القرآن"، قَالَ:«آياتها 33 آية»
(4)
، ومنهم من اختاره في عد المكي والمدني جميعًا، ومنهم من اختاره في عد أحدهما
(5)
.
القول الثاني: أربع وثلاثون آية:
وقد اختار هذا القول منفردًا جمع من أهل العدد:
كـ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبيُّ (ت: 427 هـ): في "الكشف والبيان" قال: «أربع وثلاثون آية»
(6)
، كما وافقه على هذا القول جمع من أهل العدد
(7)
.
ومنهم من اختاره وعده عند الكوفي والبصري والشامي كما مر معنا آنفًا.
(1)
أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط (7/ 183)، الألوسي: روح المعاني (3/ 64).
(2)
البيان (206).
(3)
يُنظر: الكشاف (5/ 5)، منار الهدى (302)، فنون الأفنان (278 - 327)، جمال القراء (1/ 211 - 212)، أنوار التنزيل (4/ 212)، القول الوجيز (260)، التحرير والتنوير (21/ 138).
(4)
معاني القرآن (5/ 275).
(5)
يُنظر: البيان (206)، فنون الأفنان (278 - 327)، جمال القراء (1/ 211 - 212)، منار الهدى (302)، القول الوجيز (260)، التحرير والتنوير (21/ 138)
(6)
الكشف والبيان (7/ 309).
(7)
الوسيط (3/ 440)، علل الوقوف (2/ 804)، التسهيل (2/ 137)، عمدة القاري (19/ 159)، لباب النقول (184)، إرشاد الساري (7/ 288)، فتح القدير (4/ 307)، إمداد القاري (3/ 207).
مواضع اختلاف العدد في السورة الكريمة:
قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «اختلافها آيتان: {الم} عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} عدها البصري والشامي ولم يعدها الباقون»
(1)
.
وبذلك قال جمع من أهل العدد، منهم:
أبو الفَرَجِ بنِ الجَوْزِيِّ (ت: 597 هـ)
(2)
، عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ)
(3)
، أبو عيد رِضْوانُ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ)
(4)
.
القول الراجح في عد آي السورة الكريمة:
ومن خلال ما مضى بيانه يتبين لنا أن القول الراجح هو القول الثاني، أي: أن عدد آياتها أربع وثلاثون آية شامي وبصري وكوفي وعليه الأكثرون، والله تعالى أعلى وأعلم
(5)
.
رؤوس الآي في السورة الكريمة:
قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «ورؤوس الآي هي:
1.
{الم} [لقمان: 1].
2.
{الْحَكِيمِ} [لقمان: 2].
3.
{لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 3].
4.
{يُوقِنُونَ} [لقمان: 4].
5.
{الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 5].
(1)
البيان (206).
(2)
فنون الأفنان (278 - 327).
(3)
جمال القراء (1/ 211 - 212).
(4)
القول الوجيز (260).
(5)
والقراءات المتواترة كلها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، و يلزم من قرأ بإحداها أن يعرف مواضع رؤوس الآي فيما يقرأ، والله أعلم.
6.
{مُهِينٌ} [لقمان: 6].
7.
{أَلِيمٍ} [لقمان: 7].
8.
{النَّعِيمِ} [لقمان: 8].
9.
{الْحَكِيمُ} [لقمان: 9].
10.
{كَرِيمٍ} [لقمان: 10].
11.
{مُبِينٍ} [لقمان: 11].
12.
{حَمِيدٌ} [لقمان: 12].
13.
{عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
14.
{الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
15.
{تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
16.
{خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
17.
{الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
18.
{فَخُورٍ} [لقمان: 18].
19.
{الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
20.
{مُنِيرٍ} [لقمان: 20].
21.
{السَّعِيرِ} [لقمان: 21].
22.
{الْأُمُورِ} [لقمان: 22].
23.
{الصُّدُورِ} [لقمان: 23].
24.
{غَلِيظٍ} [لقمان: 24].
25.
{لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25].
26.
{الْحَمِيدُ} [لقمان: 26].
27.
{حَكِيمٌ} [لقمان: 27].
28.
{بَصِيرٌ} [لقمان: 28].
29.
{خَبِيرٌ} [لقمان: 29].
30.
{الْكَبِيرُ} [لقمان: 30].
31.
{شَكُورٍ} [لقمان: 31].
32.
{كَفُورٍ} [لقمان: 32].
33.
{الْغَرُورُ} [لقمان: 33].
34.
{خَبِيرٌ} [لقمان: 34]»
(1)
.
قاعدة رؤوس الآي (الفواصل) في السورة الكريمة:
قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ):
(2)
. نحو: «يوقنون، وغليظ، وكريم، والحميد، ومنير»
(3)
.
نظائر سورة لقمان في العدد:
قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «ونظيرتها في البصري والشامي الأحقاف ولا نظير لها في غيرهما»
(4)
، وكذلك هو قول أبي عيد رِضْوان المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ)
(5)
.
ثالثًا: مواضع النسخ في السورة الكريمة
الموضع الأول: قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]
.
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437): «سورة لقمان (مكية). ذكر بعض العلماء أن قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] منسوخٌ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا: ما شاء الله وشئت، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شئت»
(6)
، يريد نسخ الجمع بين الشّكرين بالواو، فيستوي الشكران، ولكن يكون بـ «ثم» فيتقدّم الشّكر لله كالمشيئة»
(7)
.
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ): «سورة لقمان: ليس فيها نسخ، وزعم قوم أن قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل: ما شاء الله وشئت، ولكن قل: ما شاء الله ثم شئت»
(8)
أي: نسخ الجمع بين الشكرين بالواو فيستوي الشكران، ولكن يكون بـ «ثم» فتقدم الشكر لله كالمشيئة، فعلى هذا لا يجوز أن تتلى هذه الآية، وهذا خلف من القول.
وقالوا في قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23] الآية. نسخ معناها بالسيف
(9)
، وليس كما قالوا، وقد تقدم الجواب»
(10)
الآية. [لقمان: 23].
والحقيقة أن شكر الله هو شكر يليق بذاته العلية وذلك بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه
(1)
البيان (206).
(2)
يعني: أن آخر حرف الفاصلة لا يخرج عن حروف هذه الجملة: «نظم در» (في هذه السورة). الباحث.
(3)
القول الوجيز (260).
(4)
البيان (206).
(5)
القول الوجيز (260).
(6)
الألباني، السلسلة الصحيحة (266/ 1) إسناده حسن.
(7)
الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه (379).
(8)
(سبق تخريجه آنفًا.
(9)
أي: بآية السيف، وما يطلق عليه آية السيف هي الآية الخامسة من سورة التوبة وهي قوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]. قال ابن كثير رحمه الله: «وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ آيَةُ السَّيْفِ» انتهى. من تفسير ابن كثير (4/ 99).
(10)
جمال القراء (1/ 348).
سبحانه تعظيمًا وإجلالًا وتكبيرًا، وشكر الوالدين إنما هو شكر يليق بهما كذلك من برهما والإحسان إليهما رحمة بهما وإشفاقًا وتوقيرًا، فشكر الله تعالى مغاير لشكر الوالدين، ولكن جاء الاقتران بينهما بيانًا لعظم حق الوالدين، وقد تكرر ذلك في غير ما موضع من كتاب الله تعالى.
والحق ما قاله السخاوي: وهذا خلف من القول.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23]
.
قَالَ أَبو مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 456 هـ): «سورة لقمان، وجميعها محكم غير آية واحدة وهي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23]»
(1)
.
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): «سورة لقمان نزلت بمكّة وفيها من المنسوخ آية واحدة وهي قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23]، نسخ معناها لا لفظها بآية السّيف والباقي محكم»
(2)
.
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الجَوْزِيِّ (ت: 597 هـ): «باب: ذكر ما ادّعي عليه النّسخ في سورة لقمان قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23]، ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذا منسوخٌ بآية السّيف، وقال بعضهم: نسخ معناها لا لفظها بآية السّيف، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنّها إنّما تضمّنت التّسلية له عن الحزن، وذلك لا ينافي القتال»
(3)
.
رابعًا: ترتيبها بين السور المفتتحة بحروف الهجاء المقطعة:
والسور المفتتحة بحروف الهجاء المقطعة في القرآن الكريم على النحو التالي:
جاءت الحروف المقطعة في فاتحة تسع وعشرين سورة وتسمى فواتح السور، وهي:
1 -
{الم (1)} : البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة.
(1)
الناسخ والمنسوخ لابن حزم (50).
(2)
الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (143).
(3)
نواسخ القرآن (426).
2 -
{المص (1)} : الأعراف.
3 -
{الر (1)} : يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر.
4 -
{المر (1)} : الرعد.
5 -
{كهيعص (1)} : مريم.
6 -
{طه (1)} : طه.
7 -
{طسم (1)} : الشعراء، القصص.
8 -
{طس (1)} : النمل.
9 -
{يس (1)} : يس.
10 -
{ص (1)} : ص.
11 -
{حم (1)} : غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
12 -
{حم (1) عسق (2)} : الشورى.
13 -
{ق (1)} : ق.
14 -
{ن (1)} : القلم.
وجاءت على النحو التالي:
1 -
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 1 - 2].
2 -
3 -
{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} [الأعراف: 1 - 2].
4 -
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} [يونس: 1].
5 -
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1].
6 -
{الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 1 - 2].
7 -
8 -
9 -
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)} [الحجر: 1].
10 -
{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)} [مريم: 1 - 2].
11 -
{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} [طه: 1 - 2].
12 -
{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [الشعراء: 1 - 2].
13 -
{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)} [النمل: 1].
14 -
{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [القصص: 1 - 2].
15 -
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: 1 - 2].
16 -
{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} [الروم: 1 - 2].
17 -
{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)} [لقمان: 1 - 2].
18 -
{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [السجدة: 1 - 2].
19 -
{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} [يس: 1 - 2].
20 -
21 -
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} [غافر: 1 - 2].
22 -
{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} [فصلت: 1 - 2].
23 -
{حم (1) عسق (2)} [الشورى: 1 - 2].
24 -
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [الزخرف: 1 - 2].
25 -
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [الدخان: 1 - 2].
26 -
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} [الجاثية: 1 - 2].
27 -
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} [الأحقاف: 1 - 2].
28 -
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} [ق: 1].
29 -
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم: 1].
وتأتي هذه الأحرف آية، وجزءًا من آية، وآيتين: على مثال النحو التالي:
1 -
مثال الأحرف في آية:
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 1 - 2].
2 -
مثال الأحرف في جزء من آية:
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} [يونس: 1].
3 -
مثال الأحرف في آيتين:
{حم (1) عسق (2)} [الشورى: 1 - 2].
وتصنف الحروف المقطعة على أساس المباني إلى:
* ثلاث سور افتتحت بحرف واحد: ص، ق، ن.
* وعشر سور افتتحت بحرفين: طه، طس، يس، حم.
* واثنتا عشرة سورة افتتحت بثلاثة: أحرف: الم، الر، طسم.
* وسورتان اثنتان افتتحتا بأربعة أحرف: المص، المر.
* وسورتان اثنتان افتتحتا بخمسة أحرف: كهيعص، (حم عسق).
ومن الأحرف المقطعة ما تكرر في فواتح السور فجاء على النحو التالي:
1 -
ما افتتحت به سورة واحدة: المص، المر، كهيعص، طه، طس، يس، ص، (حم عسق)، ق، ن.
2 -
ما افتتحت به سورتان: طسم.
3 -
ما افتتحت به خمس سور: الر.
4 -
ما افتتحت به ست سور: الم، حم
(1)
.
وسورة لقمان هي السابعة عشر (17) من بين السور التسع والعشرين (29) التي افتتحت بحروف الهجاء المقطعة في كتاب الله، افتتحت بقوله سبحانه:{الم (1)} [لقمان: 1].
سبقتها ست عشرة سورة (16)، وتلتها اثنتا عشرة سورة (12)، وهي من المفتتح بثلاثة أحرف، وهي السور الأكثر عددًا بين السور التي افتتحت بهذه الحروف.
(1)
ومنهم من جمع الحروف المقطعة في قوله:
1 -
صراط علي حق نمسكه.
2 -
صح طريقك مع السنة.
3 -
طرقَ سَمْعَكَ النصيحةُ.
4 -
سر حصين قطع كلامه.
5 -
صن سرًّا يقطعك حمله.
6 -
نص حكيم قاطع له سر.
وهذه هي أشهر الكلمات المعروفة والتي ألفت من تلك الحروف.
طريقة قراءة الحروف المقطعة:
لا تُقرأ هذه الحروف كالأسماء مثل باقي الكلمات، بل تُقرأ واحدة واحدة بصورة متقطعة، ومن أجل ذلك سميت بالحروف المقطعة.
فننطق (الم) بهذه الكيفية: (ألفْ لامْ ميمْ)، وننطق (طسم) بهذه الكيفية:(طا سينْ ميمْ)، وهكذا بالنسبة للبقية، مع ملاحظة تسكين الأواخر باستمرار، وفي هذا سر من أسرار وجوب أخذ القرآن بالتلقي والمشافهة.
خامسًا: أقوال العلماء في الحروف المقطعة في بداية السور
ويتبين بالدراسة: أنه من المناسبة بمكان، الكلام عن الحروف المقطعة المفتتح بها أوائل بعض السور بإيجاز، لأن موضوع البحث متعلق بسورة لقمان وهي من السور المفتتحة ببعض تلك الحروف.
وقبل ذكر أقوال العلماء في الأحرف المقطعة لا بد من ذكر بعض الأمور:
الأمر الأول: أنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث صحيح مرفوع في معنى هذه الأحرف
(1)
، ومن ثَمَّ فإن القول في تفسيرها لا سند له من الكتاب أو السنة الصحيحة بالنص.
الأمر الثاني: أن افتتاح الكلام بالأحرف الهجائية المقطعة أسلوب لم يكن معروفًا عند العرب ولم يألفوه من قبل، وإنما كان أسلوبًا جديدًا؛ ولذا فلن نجد لها شاهدًا من كلام العرب فيما أعلم.
الأمر الثالث: أنه إذا لم يكن تفسير هذه الأحرف قد ورد في الكتاب ولا في السنة، وليس له شاهد في لغة العرب؛ فإن الأقوال فيها مَحْضُ تخرصاتٍ، لا يصح أبدًا أن يجزم أحد بمعناها، كما قال الشوكاني رحمه الله تعالى: «اعلم أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازمًا بأن ذلك هو ما أراده الله تعالى فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعًا إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم
(1)
في حدود علم الباحث.
يتكلموا بشيء من ذلك، وإذا سمعه السامع منهم كان معدودًا عنده من الرطانة .. »
(1)
.
ومع هذا فإن من أقوال المفسرين لها ما هو معقول وقريب ولا عيب فيه إلا عدم الدليل، ومنها ما يفقد الدليل مع البعد والغرابة، والشطط والتكلف
(2)
.
وهذه الأمور من الأهمية بمكان، فكان لا بد من التنبيه عليها قبل ذكر أقوال العلماء فيها مقتضبة.
أقوال أهل العلم في الحروف المقطعة:
ولقد اختلف العلماء اختلافًا كبيرًا في الحروف المقطعة التي جاءت في أوائل بعض السور، حيث يرى بعضهم أن علمها عند الله، ويرى بعضهم أن فيها وجهًا من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وذكر بعضهم أنها قَسَمٌ، كما جاء عن الأخفش الأوسط الذي علل كونها قسمًا بقوله: إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها، لأنها مباني كتبه المنزلة، ومبادئ أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام العرب، بها يتعارفون ويذكرون الله تعالى ويوحدونه
(3)
.
ورغم تعدد أقوال المفسرين في تفسير هذه الحروف المفتتح بها أوائل السور؛ إلا أن هناك محلًّا متفقًا عليه بين أهل العلم في هذه الحروف، وهو أن أهل الإسلام أجمعوا على أن لهذه الحروف معنى، وأنها ذُكِرت لحكمة.
(1)
الشوكاني، فتح القدير (1/ 30).
(2)
د/ فهد بن عبد الرحمن الرومي- وجوه التحدي والإعجاز في الحروف المقطعة في أوائل السور مجلة البحوث الإسلامية-العدد الخمسون (من ذي الحجة إلى صفر)، (إصدارها كل ثلاثة أشهر)(1417 - 1418 هـ) - (ص 147 - 148) بتصرف يسير.
(3)
السيوطي: الإتقان (2/ 11).
وللاستزادة، ينظر: البغوي: معالم التنزيل (1/ 44)، ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن (231)، الرازي: مفاتيح الغيب أو (التفسير الكبير)(2/ 7)، البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 13)، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (11/ 166)، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم.
يقرر هذا ويوضحه ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن الله أمرنا بتدبر كتابه وتفهمه دون استثناء، فدخلت الحروف المقطعة في هذا الأمر، قال الله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]، وقال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]، وقال تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون: 68].
الأمر الثاني: أن الله تعالى قد تحدى عباده من الإنس والجن بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات، وقراء الكوفة يعدون الحروف المقطعة آية في كل سورة، و {حم (1) عسق (2)} [الشورى: 1 - 2] آيتان.
فلو أتوا بآيتين مكونتين من حروف مقطعة، ثم أتوا بآية من موضع آخر لأدوا ما تحداهم الله به، فلو لم يكن لها معنى لقالوا: كيف يتحدانا بكلام لا نفهمه؟
(1)
.
الأمر الثالث: أن الله تعالى حكيم، وهذا كلامه، فهو كلام حكيم، نزل من لدن حكيم حميد، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 41 - 42]، فإذا كان هذا القرآن تنزيلًا من حكيم حميد، كيف يوجد في كلامه ما لا معنى له، ولم يُذْكَر لحكمة؟، قال الله تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
قال العلامة السعدي: «وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فالأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي، مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثًا، بل لحكمة لا نعلمها»
(2)
. اهـ.
(1)
ينظر: مفاتيح الغيب (2/ 251).
(2)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص 40)، ط مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ (1421 هـ 2000 م). وينظر: د/ محمد حسن أبو النجا- تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور وسبب اختصاص كل سورة بالحروف التي افتتحت بها (ص 11) وما بعدها بحث غير منشور، موقع الألوكة، (29/ 7/ 1433 هـ -/ 6/ 2012 - م)، بتصرف يسير.
والحروف المقطعة ليست هي موضوع البحث هنا فلا يناسبها الاستطراد والإطالة في البحث كما تبين لنا آنفًا.
وممن أجمل أقوال العلماء في المسألة (الزركشي)، فقال: اختلف الناس في الحروف المقطعة في أوائل السور، وأنها على قولين:
أحدهما: أن هذا علم مستور، وسر محجوب استأثر الله به.
القول الثاني: أن المراد منها معلوم، وذكروا فيه ما يزيد على عشرين وجهًا؛ منها البعيد ومنها القريب
(1)
.
وقد تعددت أقوال المفسرين في تفسير هذه الحروف حتى وصل بها الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى ثلاثين قولًا
(2)
.
ولهذا رُوِي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور»
(3)
.
ورُوِي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي»
(4)
.
وقال الشعبي: «إنها من المتشابه، نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى» .
وقال الفخر الرازي: «وقد أنكر المتكلمون هذا القول وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما
(1)
ينظر: تفصيل هذا والعشرين وجهًا في البرهان (1/ 173 - 177).
(2)
ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (8/ 554)، ط دار المعرفة -بيروت-، بتحقيق: محب الدين الخطيب.
(3)
لم أجد هذا الأثر عن أبي بكر مسندًا، ولكن ذكره أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير (1/ 20)، ط المكتب الإسلامي -بيروت- الثانية (1404 هـ)، والرازي في مفاتيح الغيب (2/ 249)، وأبو حيان في البحر المحيط (1/ 157)، وأبو السعود محمد بن محمد العمادي في إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الحكيم (1/ 21)، ط دار إحياء التراث- بيروت.
(4)
ينظر: مفاتيح الغيب (2/ 249)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 154)، وإرشاد العقل السليم (1/ 21).
لا يفهمه الخلق، لأن الله تعالى أمر بتدبره والاستنباط منه، وذلك لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه»
(1)
.
ومن خلال المدارسة والبحث تبين أن أشهر وأظهر ما ورد في الحروف المقطعة قولان:
الأول: أنها مما استأثر الله تعالى بعلمه.
والثاني: أنها للإعجاز والتحدي، والله أعلم.
سادسًا: عدد كلماتها:
عدد كلمات سورة لقمان:
خمسمائة وثمان وأربعون كلمة (548) وعليه أغلب أهل العدد
(2)
.
سابعًا: عدد حروفها:
عدد حروف سورة لقمان:
ألفان ومائة وعشرة أحرف (2110)، ولا خلاف بين العادين أن حروفها (2110) حرفًا
(3)
.
ثامنًا: ترتيبها في النزول:
هي السورة السابعة والخمسون في ترتيب النزول (57)، نزلت بعد سورة الصافات، وقبل سورة سبأ، وهي من المثاني
(4)
.
(1)
د. صبحى الصالح: مباحث في علوم القرآن (ص 236).
(2)
يُنظر: الكشف والبيان (7/ 309)، البيان (206)، لباب التأويل (3/ 396)، غرائب القرآن (5/ 421)، عمدة القاري (19/ 159)، اللباب (15/ 435)، تفسير الخطيب الشربيني (3/ 179)، منار الهدى (302)، القول الوجيز (260)، مراح لبيد (2/ 235).
(3)
يُنظر: الكشف والبيان (7/ 309)، البيان (206)، لباب التأويل (3/ 396)، غرائب القرآن (5/ 421)، تنوير المقباس (1/ 344)، عمدة القاري (19/ 159)، اللباب (15/ 435)، تفسير الخطيب الشربيني (3/ 179)، منار الهدى (302)، القول الوجيز (260).
(4)
معنى الطوال والمثاني والمفصَّل والمِئِين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أعطيتُ مكان التوراة السبعَ، وأعطيتُ مكان الزبور المِئِين، وأعطيتُ مكان الإنجيل المثاني، وفضِّلت بالمفصَّل» . حديث حسن: رواه الطبراني في الكبير (8003)(8/ 258)، (186)(22/ 75)، (187)(22/ 76)، وفي مسند الشاميين (2734)(4/ 62، 63)، وأحمد (17023)(4/ 107)، والطيالسي في مسنده (1012)(1/ 136)، وصححه الألباني في كل من: صحيح الجامع (1059)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (1457)، وفي السلسلة الصحيحة (148)، من حديث واثلة بن الأسقع الليثي أبي فسيلة- رضي الله عنه،. فهذا الحديث يبيِّن أن هذه الأقسام ليست مستحدثة وأن هذا التقسيم مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ينظر: أسرار ترتيب القرآن للسيوطي (1/ 72).
فأما السبع، فهي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة؛ لأنهم كانوا يعدون الأنفال وبراءة سورة واحدة.
وأما المِئُون: فهي السور التي يقترب عدد آياتها من المائة أو تزيد.
وأما المثاني: فهي ما ولي المِئِين، وقد تسمَّى سور القرآن كلها مثاني؛ ومنه قوله تعالى:{مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، {سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87]. =
بيان لبعض ما ورد في ترتيب نزولها:
قالَ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «نزلت بعد الصافات»
(1)
.
قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بْنِ جُزَيءٍ الكَلْبِيُّ (ت: 741 هـ): «نزلت بعد الصافات»
(2)
.
قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «ونزلت بعد سورة (والصافات)، ونزلت بعدها سورة سبأ»
(3)
.
قالَ مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393 هـ): «وهذه السّورة هي السّابعة والخمسون في تعداد نزول السّور، نزلت بعد سورة الصّافّات وقبل سورة سبأٍ»
(4)
.
= وإنما سمي القرآن كله مثاني؛ لأن الأنباء والقصص تثنى فيه، ويقال: إن المثاني في قوله تعالى: {سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87]؛ هي آيات سورة الحمد، سماها مثاني؛ لأنها تثنى في كل ركعة.
وقال الفراء: «المثاني هي السور التي آيُها أقل من مائة آية؛ لأنها تثنى؛ أي: تكرر أكثر مما تثنى الطوال والمؤون» .
وأما المفصل، فهو لفظ يطلق على السور بَدْءًا من «سورة ق» إلى آخر المصحف.
وقيل: إن أوله سورة الحجرات، وسمي بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، وقيل: لقلة المنسوخ منه؛ ولهذا يسمى المحكم أيضًا، كما روى البخاري عن سعيد بن جبير رحمه الله قال:«إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم» صحيح البخاري (4748)(4/ 1922).
والمفصل ثلاثة أقسام: طوال وأوساط، وقصار.
فطواله: من أول الحجرات إلى سورة البروج.
وأوساطه: من سورة الطارق إلى سورة البينة
وقصاره: من سورة إذا زلزلت إلى آخر القرآن.
ينظر: البرهان للزركشي (1/ 244)، ومناهل العرفان للزرقاني (1/ 243، 244).
وهناك ما يسمى بسور (آل حاميم)، وهي السور التي تبدأ بـ {حم} ، والله أعلم.
(1)
الكشاف (5/ 5).
(2)
التسهيل (2/ 137).
(3)
القول الوجيز (260).
(4)
التحرير والتنوير (21/ 138).
تاسعًا: مكية السورة أو مدنيتها:
وهي سورة مكية.
بيان من نص على أنها مكية:
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200 هـ): «وهي مكّيّةٌ كلّها»
(1)
.
وعلى ذلك عموم أئمة التفسير.
(2)
وحُكي عن بعضهم خلافٌ يسير في ذلك:
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الجَوْزِيِّ (ت: 597 هـ): «وهي مكية في قول الأكثرين وروي عن عطاء أنه قال: هي مكية سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] والتي بعدها، (لقمان: 27، 28)، وروي عن الحسن أنه قال: إلا آية نزلت بالمدينة وهي قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [لقمان: 4]؛ لأن الصلاة والزكاة مدنيتان»
(3)
.
قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «وهي مكّيّة وفيها اختلاف في آيتين قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27]، فذكر السّديّ أنّها نزلت بالمدينة، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، نزلت في رجل من محارب بالمدينة، وقال ابن النّقيب:
(1)
تفسير القرآن العظيم (2/ 669).
(2)
يُنظر: معاني القرآن (5/ 275)، الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (143)، الكشف والبيان (7/ 309)، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه (379)، البيان (206)، الوسيط (3/ 440)، معالم التنزيل (6/ 259)، علل الوقوف (2/ 804)، تفسير القرآن العظيم (6/ 330)، الدر المنثور (11/ 614)، القول الوجيز (260).
(3)
زاد المسير (6/ 314).
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: «هي مكّيّة إلّا ثلاث آيات نزلن بالمدينة» ، وعن الحسن: إلَّا آية واحدة، وهي قوله تعالى:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النّمل: 3، لقمان: 4]؛ لأن الصّلاة والزّكاة مدنيتان»
(1)
.
قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلَّانيُّ (ت: 923 هـ): «مكية، قيل: إلا آية {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [لقمان: 4]؛ لأن وجوبهما بالمدينة لا ينافي شرعيتهما بمكة»
(2)
.
وهذا كلام له وجاهته من القسطلاني.
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ (ت: 1250 هـ): «وهي مكّيّةٌ إلّا ثلاث آياتٍ، وهي قوله:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية، إلى الآيات الثّلاث، قاله ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما فيما أخرجه النّحّاس عنه.
وأخرج ابن الضّريس، وابن مردويه، والبيهقيّ في «الدّلائل» عنه أنّها مكّيّةٌ ولم يستثن، وحكى القرطبيّ عن قتادة أنّها مكّيّةٌ إلّا آيتين»
(3)
.
قالَ مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393 هـ): «وروى البيهقيّ في «دلائل النّبوّة» عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: أنزلت سورة لقمان بمكّة. وهي مكّيّةٌ كلّها عند ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في أشهر قوليه، وعليه إطلاق جمهور المفسّرين»
(4)
.
القول الراجح مكية السورة أو مدنيتها:
وختام هذا الأمر ما ذكره ابن عاشور هو ما تميل إليه النفس، وهو ما عليه جمهور المفسّرين، أنها سورة مكية.
(1)
عمدة القاري (19/ 159).
(2)
إرشاد الساري (7/ 288).
(3)
فتح القدير (4/ 307).
(4)
التحرير والتنوير (21/ 137)
عاشرًا: بيان ما ورد في أسباب نزولها:
(1)
.
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت: 643 هـ): «وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أتاه اليهود فقالوا: يا محمد، بلغنا أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «عنيت الجميع» ، فقالوا: يا محمد، أما تعلم أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، وخلفها موسى فينا، وفي التوراة أنباء كل شيء؟! فقال صلى الله عليه وسلم:«التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله تعالى» . فأنزل الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] إلى آخر الآيات الثلاث، وباقيها مكي»
(2)
.
قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، نزلت في رجل من محارب بالمدينة»
(3)
.
ويرى الباحث: أنه ليس ثَمَّ مانع من تعدد أسباب النزول و النازل واحد.
(1)
التحرير والتنوير (21/ 137 - 138).
(2)
جمال القراء (1/ 15)، ولم يقف الباحث على سند ثابت يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره السخاوي في سبب نزول الآية إلا ما تكرر ذكره من المفسرين في سبب نزولها على نحو ما ذكر السخاوي، ولذا ذكرها الباحث بصيغة التمريض.
(3)
عمدة القاري (19/ 159).
(1)
.
ويقول الزركشي: «ونزول الشيء أكثر من مرة قد يكون تعظيمًا لشأنه وتذكيرًا به عند حدوث سببه خوف نسيانه»
(2)
.
الحادي عشر: بيان ما ورد في نزول آياتها:
* ما ورد في نزول قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]:
قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية.
قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، وذلك أنه كان يخرج تاجرًا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشًا ويقول لهم: إن محمدًا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، فنزلت فيه هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت في شراء القيان والمغنيات.
(1)
وينظر: داود العطار، موجز علوم القرآن (ص 134).
(2)
بدر الدين الزركشي، البرهان (جـ 1)(ص 29).
وفي مثل هذا نزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] إلى آخر الآية. وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله تعالى عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت.
وقال ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنيه ليلًا ونهارًا»
(1)
.
قالَ جَلَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ):
أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، قال: نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية.
وأخرج جويبر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في النضر بن الحارث؛ اشترى قينة وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه، فنزلت»
(2)
.
* ما ورد في نزول قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]:
قَالَ مُقْبِلُ بنُ هَادِي الوَادِعِيُّ (ت: 1423 هـ): «قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] الآية، حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: وحدثني بشر، قال: حدثنا محمد، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»
(3)
.
(1)
أسباب النزول (362 - 363).
(2)
لباب النقول (202).
(3)
البخاري (951) وأخرجه البخاري أيضًا في كتاب التفسير (9/ 363)، وأخرجه الطيالسي (2/ 1).
تنبيه:
قال الحافظ في الفتح
(1)
: «اقتضت رواية شعبة هذه أن هذا السؤال سبب نزول الآية الأخرى التي في لقمان، لكن رواه البخاري ومسلم من طريق أخرى عن الأعمش وهو سليمان المذكور في حديث الباب ففي رواية جرير عنه- فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: «ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان» ، وفي رواية وكيع عنه فقال:«ليس كما تظنون» وفي رواية عيسى بن يونس «إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان؟» وظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة ولذلك نبههم عليها. ويحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم فتلتئم الروايتان»
(2)
. اهـ.
(1)
فتح الباري (1/ 95).
(2)
أسباب النزول (363).
* ما ورد في نزول قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15]:
قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] الآية. نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على ما ذكرناه في سورة العنكبوت»
(1)
.
(2)
.
قَالَ أبو عمرو عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): «مكية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة. وقال عطاء: إلا آيتين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر
(1)
أسباب النزول (363).
(2)
أسباب النزول (363).
إلى المدينة أتته أحبار اليهود فقالوا: يا محمد، بلغنا أنك تقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] تعنينا أم قومك؟ قال: «كُلًّا قد عنيت» . قالوا: وإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء، فقال:«هنّ في عِلم الله قليل» ؛ فأنزل الله جل وعز: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] إلى آخر الآيتين»
(1)
.
قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} الآية.
قال المفسرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله بمكة:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا: يا محمد، بلغنا عنك أنك تقول:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أفتعنينا أم قومك؟ فقال: «كُلًّا قد عنيت» ، قالوا: لست تتلو فيما جاءك أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله سبحانه قليل وقد آتاكم الله تعالى ما إن عملتم به انتفعتم به» ، فقالوا: يا محمد، كيف تزعم هذا وأنت تقول:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] فكيف يجتمع هذا؛ علم قليل وخير كثير؟؛ فأنزل الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية»
(2)
.
قالَ جَلَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ): «قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]، أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فقالوا:
(1)
البيان (206).
(2)
أسباب النزول (363 - 364).
تزعم أنَّا لم نؤت من العلم إلا قليلًا، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا؟ فنزلت:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية.
وأخرج ابن إسحاق عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فلما هاجر إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا: ألم يبلغنا عنك أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، إيانا تريد أم قومك؟ فقال:«كُلًّا عنيت» ، قالوا: فإنك تتلو أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله قليل» ، فأنزل الله:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27]. وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة وابن جرير عن قتادة قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفذ؛ فنزل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 27] الآية»
(1)
.
قَالَ رِضْوانُ بنُ مُحَمَّدٍ المُخَلِّلاتِيُّ (ت: 1311 هـ): «مكية، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: غير ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة؛ وذلك أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتته أحبار اليهود فقالوا: يا محمد، بلغنا آية {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] أفينا أو [عَنَيْتَ] قومَك؟ فقال: «عنيت الجميع» ، فقالوا: يا محمد، أما تعلم أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى فينا ومعنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود:«التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله تعالى» ؛ فأنزل الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 27] .. إلى تمام الآيات الثلاث»
(2)
.
* ما ورد في نزول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]:
(1)
لباب النقول (202 - 203).
(2)
القول الوجيز (260).
قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ): «قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الآية.
نزلت في الحارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن حفصة، من أهل البادية، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الساعة ووقتها، وقال: إن أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فماذا تلد؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد المؤذن قال: أخبرنا محمد بن حمدون ابن الفضل، قال: أخبرنا أحمد بن الحسن الحافظ، قال: أخبرنا حمدان السلمي، قال: حدثنا النضر بن محمد، قال: حدثنا عكرمة، قال: حدثنا إياس بن سلمة، قال: حدثني أبي أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بفرس له يقودها عقوق ومعها مهرة له يتبعها فقال له: من أنت؟ قال: «أنا نبي الله» ، قال: ومن نبي الله؟ قال: «رسول الله» ، قال: متى تقوم الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيب ولا يعلم الغيب إلا الله» ، قال: متى تمطر السماء؟ قال: «غيب ولا يعلم الغيب إلا الله» ، قال: ما في بطن فرسي هذه؟ قال: «غيب ولا يعلم الغيب إلا الله» ، فقال: أرني سيفك فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سيفه فهزه الرجل ثم رده إليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لم تكن لتستطيع الذي أردت» ، قال: وقد كان الرجل قد قال: اذهب إليه فأسأله عن هذه الخصال ثم اضرب عنقه.
أخبرنا أبو عبد الله بن أبي إسحاق قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، قال: أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي سويد، قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم
الساعة إلا الله»
(1)
(2)
.
قالَ جَلَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ): «قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني بما تلد؟ وبلدنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت، فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]»
(3)
.
المطلب الثالث: الجوانب البلاغية في السورة الكريمة
مما يجب تأكيده لدى الباحثين أهمية اللغة في فهم مراد كلام الله تعالىإعرابًا وتصريفًا وبلاغًة -بيانًا وبديعًا ومعانيَ- وأنها تُعد مفتاح فهم الأصلين العظيمين؛ الكتاب والسنة، فهي من أهم وأَجَلِّ الوسائل الموصلة إلى أسرارهما، وفهم دقائقهما.
وفي هذا المبحث محاولة -بإيجاز- بيان أهمية اللغة وبيان مكانتها في هذا الجانب العظيم، ثم التعريج على أهم وأبرز الدلالات البلاغية التي يفهم منها أهم الأوجه الإعجازية التي تدل عليها آيات السورة الكريمة.
وإن مما يدلُّ على أهميةِ اللغة في فهمِ كتاب الله تعالى: حرصُ أولي العلم في العصورِ الأولى المتقدمة على التأليفِ والتصنيف في هذا الجانب العظيم، ألا وهو إعراب القرآن ومعانيه، بل إنَّ بعض هذه المصنفات منها ما يُسمى بـ «معاني القرآن» ؛ ككتاب الفراء، والزجاج، والأخفش، مما يبين ويوضح جليًّا أهميةَ إعراب القرآن في فهم معانيه والدلالة على مقاصده ومراميه، والدليل
(1)
رواه البخاري (7379) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
وينظر: أسباب النزول (364 - 365).
(3)
لباب النقول (203).
على ذلك ما نص عليه الكثير من المشتغلين بعلم التفسير حين عَدُّوا إعراب القرآن علمًا من فروعِ علمِ التفسير.
قال الشاطبي رحمه الله: «وعلى النَّاظرِ في الشريعةِ والمتكلم فيها أصولًا وفروعًا أمران؛ أحدهما: ألا يتكلَّمَ في شيء من ذلك حتى يكون عربيًّا أو كالعربي؛ في كونِه عارفًا باللِّسان العربي، بالغًا فيه مبلغ العرب» .
(1)
.
ولقد أبان عن هذه الأهميةِ أهلُ اللغة أنفسهم:
يقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «وذلك أنهم لا يجدون علمًا من العلومِ الإسلامية فقهها وكلامها
(2)
، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بيِّن لا يُدفع، ومكشوفٌ لا يتقنَّع، ويَرَوْن الكلامَ في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنيًّا على علمِ الإعراب»
(3)
.
وما ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي صحيحٌ؛ وذلك لتوقُّفِ معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتابِ والسنة، وأقوالِ أهلِ العقد والحل من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة: من جهة الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والحذف والإضمار، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة، والتنبيه والإيماء، وغير ذلك مما لا يعرفُ في غيرِ علم العربية
(4)
.
(1)
الاعتصام (جـ 1)(ص 503).
(2)
وهو من أهل الكلام.
(3)
المفصل؛ للزمخشري (ص 3).
(4)
الإحكام في أصول الأحكام (1/ 827).
وقال الحسن البصري رحمه الله: «أهلكتهم العُجْمَةُ؛ يتأولونه على غيرِ تأويله»
(1)
.
(2)
.
وقال أبو حيان في معرضِ ثنائه على سيبويه رحمه الله: «فجدير لمن تاقت نفسُه إلى علمِ التفسير، وترقَّتْ إلى التحريرِ والتحبير، أن يعتكفَ على كتابِ سيبويه؛ فهو في هذا الفنِّ المعوَّل عليه، والمستند في حلِّ المشكلات إليه»
(3)
.
وقال الزركشي رحمه الله: «واعلم أنَّه ليس لغيرِ العالم بحقائقِ اللغة وموضوعاتها تفسير شيء من كلامِ الله، ولا يكفي في حقِّه تعلم اليسير منها؛ فقد يكونُ اللَّفظُ مشتركًا وهو يعلم أحدَ المعنيين والمراد المعنى الآخر»
(4)
.
ولهذا السبب يقول مالك رحمه الله: «لا أُوتَى برجلٍ غير عالم بلغةِ العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالًا»
(5)
.
«ولهذا أيضًا نجد التفاسيرَ مشحونةً بالرِّواياتِ عن سيبويه والأخفش والكسائي والفراء وغيرهم، فالاستظهارُ لبعضِ معاني القرآن الكريم وأسرارِه نابعٌ من الاستعانةِ بأقاويلهم،
(1)
خلق أفعال العباد للبخاري (جـ 1)(ص 130 - 125)، وربيع الأبرار (جـ 1)(ص 321).
(2)
الإيمان (ص 111).
(3)
البحر المحيط (13).
(4)
البرهان في علوم القرآن (1/ 295).
(5)
الإتقان في علوم القرآن (4/ 209).
والتشبث بأهدابِ فسْرهم وتأويلهم؛ كما قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي في المفصَّل»
(1)
.
وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائلِ القرآن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لأن أعرب آيةً أحب إليَّ من أن أحفظَ آية
(2)
.
وذلك لأنَّ فهمَ الإعراب يعينُ على فهمِ المعنى، والقرآن نزل للتدبرِ والعمل. فمن هذا يتبين أهمية الحاجة لبيان أهم الجوانب اللغوية في السورة الكريمة.
وقد عرض الباحث لإعراب السورة كاملة، ولكن حذرًا من خشية التطويل الممل اكتفى ببيان أهم الأوجه البلاغية في السورة الكريمة ولعل ما في الإشارة ما يغني عن العبارة.
وقفات مع أهم الأوجه البلاغية في السورة الكريمة:
تضمنت السورة الكريمة وجوهًا من البلاغة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -
وضع المصدر للمبالغة: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 3].
2 -
الإِشارة بالبعيد: {تِلْكَ آيَاتُ} [لقمان: 2] عن القريب: (هذه) لبيان علو الرتبة ورفعة القدر والشأن.
3 -
الإِطناب بتكرار الضمير واسم الإِشارة: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [لقمان: 4 - 5] لزيادة الثناء عليهم والتكريم لهم، كما أن الجملة تفيد الحصر أي: هم المفلحون لا غيرهم.
4 -
الاستعارة التصريحية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] شبّه حالهم بحال من يشتري سلعة وهو خاسر فيها، واستعار لفظ يشتري لمعنى يستبدل بطريق الاستعارة التصريحية.
(1)
المفصل (ص 3).
(2)
الإشراف في منازل الأشراف (جـ 1)(ص 470 - 469).
5 -
التشبيه المرسل المجمل: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7] ذكرت أداة التشبيه وحذف الشبه فهو تشبيه «مرسل مجمل» .
6 -
أسلوب التهكم: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7] لأن البشارة إنما تكون في الخير، واستعمالها في الشر سخرية وتهكم.
7 -
الالتفات من الغيبة إِلى التكلم: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} [لقمان: 10] بعد قوله: (خلق، وألقى، وَبَثَّ). وكلها بضمير الغائب، ثم التفت فقال:{وَأَنْزَلْنَا} [لقمان: 10] لشأن الرحمن، وتوفيةً لمقام الامتنان، وهذا من المحسنات البديعية.
8 -
إِطلاق المصدر على اسم المفعول مبالغة: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أي: مخلوقة.
9 -
الاستفهام للتوبيخ والتبكيت: {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] «
10 -
وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التوبيخ، وللتسجيل عليهم بغاية الظلم والجهل:{بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11]، وكان الأصل أن يقال: بل هم في ضلالٍ مبين.
11 -
مراعاة الفواصل في الحرف الأخير مثل: {عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6] ويسمى هذا النوع في علم البديع «سجعًا» وأفضله ما تساوت فقره، وكان سليمًا من التكلف، خاليًا من التكرار، وهو كثير في القرآن الكريم في نهاية الآيات الكريمة.
12 -
الطباق بين: {يَشْكُرْ} [لقمان: 12]، و {كَفَرَ} [لقمان: 12].
13 -
صيغة المبالغة: {غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] وكذلك: {لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] و {فَخُورٍ} [لقمان: 18]؛ لأن فعيلًا وفعولًا من صيغ المبالغة ومعناه كثير الحمد وكثير الفخر.
14 -
ذكر الخاص بعد العام: {بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} [لقمان: 14] وذلك لزيادة العناية والاهتمام بالخاص.
15 -
تقديم ما حقه التأخير لإِفادة الحصر مثل: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] و {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ}
[لقمان: 15]، أي: لا إِلى غيري.
16 -
التمثيل: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] مثَّل ذلك لسعة علم الله وإِحاطته بجميع الأشياء صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها فإِنه تعالى يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة.
17 -
التتميم: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] تَمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها وهذا من البديع.
18 -
المقابلة: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان: 17]، ثم قال:{وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] فقابل بين اللفظين.
19 -
الاستعارة التمثيلية: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] شبَّه الرافعين أصواتهم بالحمير، وأصواتهم بالنهيق، ولم يذكر أداة التشبيه بل أخرجه مخرج الاستعارة للمبالغة في الذم، والتنفير عن رفع الصوت.
20 -
الطباق بين قوله: {ظَاهِرَةً} ، {وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] وكذلك بين لفظ: (الحق، والباطل).
21 -
الإِنكار والتوبيخ مع الحذف: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ} [لقمان: 21] أي: أيتبعونهم ولو كان الشيطان الخ.
22 -
المجاز المرسل: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ} [لقمان: 22] أطلق الجزء وأراد الكل ففيه مجاز مرسل.
23 -
التشبيه التمثيلي: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22] شبه من تمسك بالإِسلام بمن أراد أن يرقى إِلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عروة، وحذف أداة التشبيه للمبالغة.
24 -
المقابلة بين: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [لقمان: 22] وبين: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا
يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23] الآية.
25 -
الاستعارة: {عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24] استعار الغلظ للشدة لأنه إِنما يكون للإجرام فاستعير للمعنى.
26 -
مثال آخر لتقديم ما حقه التأخير لإِفادة الحصر: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان: 22] أي: إليه لا إلى غيره.
27 -
صيغ المبالغة في التالي: {صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31]، و:{خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]، و:{عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، و:{سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28]، كما أنَّ فيها توافق الفواصل وهو من المحسنات البديعية ويسمى بالسجع
(1)
.
تنبيه من الأهمية بمكان عن المجاز في القرآن:
أولًا: المقصود من المجاز في اللغة:
هو التجاوز والتعدّي، وجزت الطريق، وجاز الموضع جوازًا ومجازًا: سار فيه وسلكه، وجاوزت الموضع بمعنى جزته، والمجاز والمجازة الموضع
(2)
.
فالمجاز: "مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما توجبه أصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكان الذي وضع به أولا"
(3)
.
(1)
صفوة التفاسير. محمد علي الصابوني، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة: الأولى (1417 هـ- 1997 م)، (ص 449) وما بعدها.
ويُنظر: عناية الإسلام بتربية الأبناء كما بينها سورة لقمان، دراسة تحليلية موضوعية (رسالة ماجستير) للدكتور عرفة بن طنطاوي:(2/ 7 - 57).
(2)
لسان العرب، لابن منظور: مادة: جاز.
(3)
أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني:(ص: 365).
والمجاز في الاصطلاح هو: "اللفظ المستعمَل في غير ما وُضع له أصلًا لعلاقة بينهما مع وجود قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي"
(1)
.
يقول الباحث: وإنما يسمَّى المجاز مجازًا لأنَّه قد تُجُوِّزَ به عن أصل الوضع توسُّعًا في استعماله، فاللفظ قد استعمل في غير الأصل الذي وُضع له، وكان السبب في هذا الاستعمال وجود قرينة صرفته عن المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي.
و"يسمى مجازًا؛ لأن أهل اللغة يجاوزون به عن أصل الوضع توسعًا منهم، كتسمية الرجل الشجاع أسدًا، والبليد حمارًا"
(2)
.
ثانيًا: متى كانت بداية تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز
؟
إن القول بالمجاز الذي هو قسيم الحقيقة قول محدث، وإنما وقع حدوثه بعد القرون المفضلة، وكان منشؤه من جهة المعتزلة ورأسهم إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام البصري:(ت: 231 هـ).
وقيل: "لعل أول من عُرِفَ عنه القولُ بالمجاز هو الجاحظ كما يشير إلى ذلك الشريف الرضى العلوي الموسوي الرافضي (ت: 406 هـ)
(3)
في كتابه: "تلخيص البيان في مجازات القرآن"
(4)
.
(1)
يُنظر: إرشاد الفحول، للشوكاني:) ص: 21).
(2)
البحر المحيط، (2/ 369) بتصرف.
(3)
محمد بن الحسين بن موسى الشريف الرضى، أبو الحسن. شاعر بغداد. رافضي جلد، يُنظر: ميزان الاعتدال ـ للذهبي: ج 3 ص 533. ونقيب العلويين العلامة الشريف الرضي محمد بن الحسين الموسوي الشاعر، يُنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 17 ص 246
(4)
تلخيص البيان في مجازات القرآن، للشريف الرضي: تحقيق محمد عبد الغني حسن 11، ط دار إحياء الكتب العربية القاهرة 1955 م.
وللجمع بين قول الباحث القائل بأن "النظّام" هو منشأ القول بالمجاز وبين قول الشريف الرضي الرافضي القائل بأن "الجاحظ" هو منشأ القول بالمجاز، ذلك بأن الجاحظ تلمذ للنظّام فلعله نقله عنه وبذلك يلتئم قول الشريف الرضي مع قول الباحث.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: "
…
فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز إنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في المائة الثالثة وما علمته موجودًا في المائة الثانية"
(1)
.
ويقول رحمه الله أيضًا: " .... وإنما هذا اصطلاح حادث والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين
…
"
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: وإذا علم أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيمًا شرعيًا ولا عقليًا ولا لغويًا فهو اصطلاح محض وهو اصطلاح حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص وكان منشؤه من جهة المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم من المتكلمين
(3)
.
وكلام ابن القيم، وكلام شيخه - شيخ الإسلام- كأنما خرج من مشكاة واحدة.
ثالثًا: هل في القرآن مجاز
؟
لقد اختلف العلماء هل في القران مجاز؟
وفي مسألة وقوع المجاز في القرآن الكريم خلافٌ مشهور، والأصل أن الكلام باق على حقيقته، ولا يُصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة صارفة، وعليه فإن الأصل في ألفاظ الكتاب والسنة حملها على حقائقها.
(1)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية:(7/ 89).
(2)
الإيمان، لابن تيمية:(ص: 73).
(3)
مختص الصواعق المرسلة، لابن القيم:(2/ 5).
رابعًا: مقاصد القائلين بالمجاز
وأهل المجاز قصدوا به التوصل إلى تأويل نصوص آيات الصفات، خلافًا لما عليه أهل السنة من إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل، ونفي ما نفاه الله تعالى عن نفسه ونفاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اعتقاد ثبوت كمال ضده لله تعالى.
"وبهذا الباطل توصل المعطلون إلى نفي صفات الكمال والجلال الثابتة لله تعالى في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بدعوى أنها مجاز، كقولهم في (استوى): استولى، وقس على ذلك غيره من نفيهم للصفات عن طريق المجاز"
(1)
.
"ولهذا نقول للذين حرفوا آيات الصفات وأحاديثها: ليس عندكم قرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي. فإذا قالوا: اليد بمعنى القوة. قلنا: لماذا؟ قالوا: لأن هناك ما يمنع إرادة المعنى الحقيقي- وهو عندهم -: العقل، ما يمكن أن يكون له يد يلزم أن يكون جسمًا، وأن يكون مماثلا للمخلوقات، وهذا ممتنع. ولذلك صار ارتكاب المجاز ركيزة يرتكز عليها المعطلة ومشوا على هذا"
(2)
.
وأهل السنة على: "التوقف في الألفاظ المجملة التي لم يرد إثباتها ولا نفيها، أما معناها؛ فَيُسْتفصل عنه، فإن أريد به باطل يُنَزَّه الله عنه؛ رُدَّ، وإن أريد به حق لا يمتنع على الله؛ قُبِلَ، مع بيان ما يدلُّ على المعنى الصواب من الألفاظ الشرعية، والدعوة إلى استعماله مكان هذا اللفظ المجمل الحادث"
(3)
.
(1)
مذكرة في أصول الفقه، للشنقيطي:(ص: 69).
(2)
شرح دروس البلاغة، لابن عثيمين:(ص: 108).
(3)
التدمرية: (ص: 65)، مجموع الفتاوى:(5/ 299 و 6/ 36).
خامسًا: المحققون من أئمة أهل السنة على منع القول المجاز
وإن كان القول بوجود المجاز في القرآن محل خلاف عند أهل العلم، إلا أن الصواب هو: ما عليه المحققون من أئمة أهل السنة، وهو أنه:"لا مجاز في القرآن".
وقد بالغ أيضًا في منع المجاز أبو العباس بن تيمية، وتلميذه ابن القيم، بل أوضحَا منعه في اللغة أصلًا، وبه قال أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وأبو علي الفارسي، كما عزاه لهما ابن السبكي في "جمع الجوامع"
(1)
.
كما قال بذلك جمع من علماء العصر المحققين، منهم: العلامة الإمام ابن باز، والعلامة الفقيه ابن عثيمين، والعلامة المحدث الألباني، ويسوق الباحث جملة من أقوال أهل العلم المحققين الذين أصابوا الحق في القول بمنع المجاز، على النحو التالي:
قال ابن القيم رحمه الله: "فصل في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات وهو طاغوت المجاز ".
وقال رحمه الله أيضًا: "
…
وأهل اللغة لم يصرح أحد منهم بأن العرب قسمت لغاتها إلى حقيقة ومجاز ولا قال أحد من العرب قط: هذا اللفظ حقيقة ومجاز، ولا وجد في كلام من نقل لغتهم عنهم مشافهة ولا بواسطة ذلك، ولهذا لا يوجد في كلام الخليل وسيبويه والفراء وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي وأمثالهم، كما لا يوجد ذلك في كلام رجل واحد من الصحابة ولا من التابعين ولا تابع التابعين ولا في كلام أحد من الأئمة الأربعة "
(2)
.
ونلاحظ تشديد ابن القيم في المجاز حتى سماه "طاغوتًا"، وذلك لأنه يُتحاكم إليه ويُعول عليه في تأويل صفات الرب جل في علاه عند المعطلة والمؤولة.
قال الإمام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر الأندلسي القرطبي المالكي (ت: 463 هـ): "وحمل كلام الله تعالى و كلام نبيه على الحقيقة أولى بذوي الدين والحق"، وقال: "ومن حق
(1)
يُنظر: المصادر المثبتة على هامش النصِّ المحقَّق من كتاب "الإشارة": (ص 160).
(2)
مختصر الصواعق المرسلة: (ص: 271).
الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل الى اتباع ما أنزل الينا من ربنا إلا على ذلك وإنما يوجه كلام الله-عز وجل الى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، و لو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، والله عز وجل لم يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين
(1)
.
وقال العلامة الفقيه محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله (ت: 1393 هـ) في "منع جواز المجاز": "وأوضح دليل على منعه في القرآن: إجماع القائلين بالمجاز على أنَّ كلَّ مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقًا في نفس الأمر، فتقول لمن قال: رأيت أسدًا يرمي ليس هو بأسد، وإنما هو رجلٌ شجاع، فيلزم على القول بأنَّ في القرآن مجازًا أنَّ في القرآن ما يجوز نفيه، ولا شكَّ أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن، وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض القرآن قد شوهدت في الخارج صحَّتُه، وأنه ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله تعالى في القرآن العظيم"
(2)
.
وهو من أحسن ما جادت به قريحة العلامة الشنقيطي ذاك البحر الخضم والأصولي، العالم باللغة وضروبها وأفانينها.
قال سماحة شيخنا العلامة الإمام ابن باز رحمه الله (ت: 1420 هـ): الصحيح الذي عليه المحققون أنه ليس في القرآن مجاز على الحد الذي يعرفه أصحاب فن البلاغة. وكل ما فيه فهو حقيقة في محله، ومعنى قول بعض المفسرين أن هذا الحرف زائد يعني من جهة قواعد الإعراب وليس زائدا من جهة المعنى، بل له معناه المعروف عند المتخاطبين باللغة العربية؛ لأن القرآن الكريم نزل بلغتهم كقوله سبحانه:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى: 11] يفيد المبالغة في نفي
(1)
التمهيد: (5/ 16).
(2)
منع جواز المجاز، للشنقيطي (ص 8).
المثل، وهو أبلغ من قولك:(ليس مثله شيء)، وهكذا قوله سبحانه:(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا)[يوسف: 82] فإن المراد بذلك سكان القرية وأصحاب العير، وعادة العرب تطلق القرية على أهلها والعير على أصحابها، وذلك من سعة اللغة العربية وكثرة تصرفها في الكلام، وليس من باب المجاز المعروف في اصطلاح أهل البلاغة ولكن ذلك من مجاز اللغة أي مما يجوز فيها ولا يمتنع، فهو مصدر ميمي كـ "المقام" و "المقال" وهكذا قوله سبحانه:(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)[البقرة: 93] يعني حبه، وأطلق ذلك لأن هذا اللفظ يفيد المعنى عند أهل اللغة المتخاطبين بها، وهو من باب الإيجاز والاختصار لظهور المعنى. والله ولي التوفيق
(1)
.
وهذا تقرير من سماحة الإمام ابن باز رحمه الله بأن المحققين من أهل العلم على أنه: "ليس في القرآن مجاز".
قال شيخنا العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله (ت: 1420 هـ):
…
قد اتفقوا على أن الأصل في الكلام أن يحمل على الحقيقة وأنه لا يجوز الخروج عنها إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة أو لقرينة عقلية أو عرفية أو لفظية كما هو مفصل في محله ومع ذلك فإنك تراهم-أهل التأويل- يخالفون هذا الأصل الذي أصلوه لأتفه الأسباب وأبعد الأمور عن منطق الإنسان المؤمن بكلام الله وحديث نبيه حقًا
(2)
.
قال شيخنا الفقيه العلامة ابن عثيمين رحمه الله (ت: 1421 هـ): الواجب في نصوص الكتاب والسنة إبقاء دلالتها على ظاهرها من غير تغيير لأن الله أنزل القران بلسان عربي مبين والنبي- صلى الله عليه وسلم يتكلم باللسان العربي فوجب إبقاء دلالة كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ما هي عليه في ذلك اللسان ولأن تغييرها عن ظاهرها قول على الله بلا علم وهو حرام
(3)
.
ولعل في هذا الإيجاز بيان كاف وشاف بلا تفريط ولا إجحاف.
(1)
مجلة الدعوة العدد 1016 الاثنين 6 ربيع الأول سنة 1406 هـ، مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز:(4/ 382).
(2)
مختصر العلو للذهبي: (ص: 20 - 21)، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، ط. 14 - 1 هـ.
(3)
شرح لمعة الاعتقاد، لابن عثيمين:(ص: 20).
المطلب الرابع: موضوع السورة الكريمة
وفيه بيان ما يلي:
أولاً: مقصود السورة الكريمة:
(1)
.
فالمتأمل في سورة لقمان يجد أن مقصودها وموضوعها الرئيس الذي تدور حوله هو الحكمة ولذا فقد تكرر لفظ الحكمة فيها على النحو التالي:
أ- وصف الله كتابه بأنه حكيم في صدر السورة، فقال تعالى:{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)} [لقمان: 1 - 2]. وجاء التعبير عن الآيات باسم الإشارة -تلك- للدلالة على ارتفاع مكانتها في بلاغتها ومعناها.
ب- وصف الله سبحانه نفسه بالحكمة وأنه الحكيم تبارك وتعالى، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} [لقمان: 8 - 9]، فهو الحكيم في أقواله وأفعاله وأقداره التي يجريها على العباد وله الحكمة البالغة سبحانه وبحمده.
ج- وصف الله عبدًا من عباده وهبه وآتاه الحكمة فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]. ثم جاء بعد ذلك ذكر وصايا لقمان لابنه، ومن تدبر وتفهم هذه الوصايا تبين له حكمته ورجاحة عقله. وحق للمرء أن يغبط الحكيم على عقله، قال صلى الله عليه وسلم:«لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق و رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»
(2)
.
(1)
ينظر: البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (15/ 140).
(2)
حديث (رقم: 7488) في صحيح الجامع -الألباني- وأصل الحديث رواه البخاري (1409).
«والحكمة لا شك أنها من أَجَلِّ الفوائد التربوية المستنبطة من مقصود السورة الكريمة»
(1)
.
(2)
.
ثانيًا: تقسيم آيات السورة الكريمة موضوعيًّا:
(3)
تتكون آيات السورة الكريمة من ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى:
عبارة عن إحدى عشرة آية (11):
الآيات: من الآية الأولى (1) وحتى نهاية الآية الحادية عشرة (11)، وفيها:
وصف القرآن الكريم: بأنه حكيم، وأنه هدى ورحمة.
وحديث عن المهتدين المحسنين، وموقفهم من هذا القرآن، وما أعد الله تعالى لهم، وحديث عن الضالين المضلين الكافرين، وموقفهم من هذا القرآن، وما أعد الله تعالى لهم.
وحديث عن مظاهر من حكمة الله تعالى، الذي أنزل هذا القرآن، وقدرته وإنعامه، يدلل على أنه الله تعالى وحده. واجب العبادة، وأما غيره. فلا يستحقها.
وفي ذلك: تأكيد لضرورة اتباع كتابه، والتحقق بشروط هذا الاتباع، من: إحسان، وصلاة، وزكاة، ويقين باليوم الآخر.
(1)
بتصرف - بحث غير منشور، نجلاء السبيل، الوقفات التربوية من سورة لقمان (3 - 2 - 2011 م).
(2)
صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني -مرجع سابق- (ص 49) بتصرف.
(3)
النعيمي، سعيد حوى، الأساس في تفسير القرآن، تفسير سورة لقمان (4345/ 8)، (د ت) بتصرف يسير.
المجموعة الثانية:
عبارة عن ثمانِ آيات (8):
الآيات: من الآية الثانية عشرة (12) وحتى نهاية الآية التاسعة عشرة (19)، وفيها:
موعظة لقمان عليه السلام، وذكر وصاياه لابنه، وهي نموذج تربوي متكامل الأركان.
ويلاحظ على هذه القصة:
أ - أنها جاءت في سياق الكلام عن القرآن، ووصفه بالحكمة، وبأنه هدى ورحمة للمحسنين.
ب - أنها إشارة على أنه ليس بدعًا أن ينزل الله هذا القرآن، حيث إن من سنته تعالى أن يختار من يشاء من عباده فيؤتيه الحكمة.
جـ- وإشارة إلى أن من أخذ القرآن الحكيم فإنه يؤتى الحكمة، كما أوتي لقمان عليه السلام.
د - أن إيتاء الحكمة: يقتضي شكرًا؛ ولذلك فعلينا أن نقابل إنعام الله علينا بإنزال القرآن. بالشكر له سبحانه.
هـ- أنها برهان على حكمة القرآن، وحكمة مُنَزِّلِهِ سبحانه حيث يختار لنا الحكمة، كما أن أوامره ونواهيه، وأخباره كلها، هي التي يوصي بها الحكماء.
وإذا تأملنا وصايا لقمان التي جاءت بها هذه المجموعة من الآيات:
فإننا نلاحظ عليها أيضًا ما يلي:
أ - أنها نموذج على الحكمة وأسلوبها
ومن أَجَلِّ صور الحكمة في وصايا لقمان: النهي عن الشرك، الذي من لوازم نبذه وتركه وجحده، تحقيق العبودية لله بتحقيق كمال التوحيد الذي هو حق الله على جميع العبيد. اهـ.
ب - أنها أوامر ونواهٍ تعلم الإحسان
حيث إن إدخال الوصية بالوالدين، والأمر باتباع سبيل المؤمنين بين هذه الأوامر والنواهي
يؤكد هذا المعنى.
كما أنه للعبادة، والعشرة مع الوالدين بالمعروف والإحسان إليهما، والتعامل مع أهل الإيمان، والمراقبة، والأمر بإقام الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحث على الصبر، والتواضع، وترك تصعير الخد، وترك المشي المرح، والقصد في المشي، وغض الصوت في الكلام.
لكل ذلك، وكلها آداب متضمنة للإحسان وهي مظهر من مظاهره، هذا مع ما احتوته وتضمنته من هدايات ودلالات إيمانية وعقدية وأخلاقية واجتماعية.
المجموعة الثالثة:
عبارة عن (15) خمس عشرة آية:
الآيات: من الآية العشرين (20)، وحتى نهاية الآية الرابعة والثلاثين (34).
وهي خاتمة آيات السورة الكريمة وفيها:
بيان لضرورة الاهتداء بكتاب الله تعالى من خلال لفت نظر العباد إلى نعم الله تعالى، التي تقتضي منهم الشكر له سبحانه وأن مظهر هذا الشكر يقتضي الإيمان بكتاب الله تعالى، واتباعه.
وتختم المجموعة -وكذلك السورة الكريمة- بالدعوة إلى تقوى الله تعالى وخشيته، وعدم الاغترار بالدنيا وزينتها، والشيطان وفتنته، وتقرير أن الله وحده سبحانه، هو الذي يعلم مفاتح الغيب.
وهذا يقتضي الإيمان بالله، واللجوء إليه، وإسلام الوجه له، والعمل بشرعه، واتباع هدى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: أبرز موضوعات السورة الكريمة ومجمل ما حوته من الموضوعات:
هو ما يلي
(1)
:
1.
القرآن الكريم هداية ورحمة للمؤمنين.
2.
قصص من ضل عن سبيل الله بغير علم، واتخذ آيات الله هزوًا.
3.
وصف العالم العلوي، والعالم السفلي، وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية الله سبحانه وقدرته.
4.
قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة، وشكره لربه على ذلك، ثم نصائحه لابنه.
5.
بيان عظم شأن التوحيد وخطورة الشرك.
6.
الأمر بالإحسان للوالدين وطاعتهما في المعروف.
7.
النعي على المشركين في ركونهم إلى التقليد إذا دعوا إلى النظر في الكون وعبادة الخلق له سبحانه.
8.
لا نجاة للإنسان إلا بالإخبات لله سبحانه وعمل الصالحات.
9.
تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمان المشركين.
10.
تعجيب رسوله صلى الله عليه وسلم من المشركين بأنهم يقرون بأن الله هو الخالق لكل شيء، ثم هم يعبدون معه غيره ممن هو مخلوق مثلهم.
11.
نِعَم الله ومخلوقاته لا حصر لها.
12.
الأمر بالنظر إلى الكون وعجائبه لنسترشد بذلك إلى وحدانية الخالق لها سبحانه.
13.
توبيخ وتبكيت وتقريع المشركين بأنهم في الشدائد يدعون الله وحده، وفي الرخاء يشركون معه سواه.
14.
الأمر بالخوف من عقاب الله يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود عن والده شيئًا.
15.
مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها
(1)
تفسير المراغي، تفسير سورة لقمان (21/ 1001) بتصرف.
16.
إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات ظاهرها وباطنها
(1)
.
وختامًا: فإن سورة لقمان كما تبين معنا تعالج موضوع العقيدة بالتركيز على أصولها الثلاثة: (الوحدانية، والنبوة، والبعث والنشور).
1 -
فقد ابتدأت الآيات بذكر القرآن الكريم الذي جعله الله تعالى هدى وشفاء ورحمة للمحسنين، وذكرت حال السعداء الذين اهتدوا بالقرآن الكريم وحال الأشقياء الذين أعرضوا عنه، كما بينت قدرة الله العظيمة على خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، من قوله تعالى:{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)} [لقمان: 1 - 3] إلى قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11].
2 -
واشتملت على مواعظ لقمان الحكيم ووصاياه لابنه، وقد ذكره تعالى بأحسن الذكر وهو يوصي ولده ويمنحه أفضل ما يعرف من الحكمة والدعوة للرشاد والتحذير من الشرك، من قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] إلى قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
3 -
وختمت السورة ببيان نعم الله تعالى ودلائل قدرته في الكون محذرة المشركين من ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، مخبرة عن جلال الله وعظمته وكبريائه وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وعلمه بمفاتيح الغيب، من قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 20] إلى قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]
(2)
.
(1)
وينظر: د/ عبد الحي الفرماوي- المفاتيح الدعوية لسور القرآن الكريم -مفاتيح سورة لقمان- بحث غير منشور (ص 11 - 13) بتصرف يسير (موقع هدى الإسلام).
(2)
موقع المصحف الإلكتروني- بتصرف يسير.
المطلب الخامس: المناسبات في السورة الكريمة
مناسبة السورة بما قبلها (الروم)
(1)
1 -
لمّا أكمل الله تعالى ما أراد من نفي الشك عن القرآن، وإثبات أنه هدى للمتقين، وذلك من أول سورة، بعد الفاتحة، وهي سورة البقرة، واستدل على ذلك فيما تبعها من السور، حتى آخر «براءة» التي هي سورة غزو الروم .. !!
ولمّا أكمل سبحانه كذلك ـ ما أراد من إثبات حكمته تعالى، وذلك من أول سورة «يونس» واستدل على ذلك فيما تبعها من السور إلى أن ختم سورة «الروم» .!!
فقد ابتدأ -من هنا- دورًا جديدًا على وجه أضخم من الأول، إذ وصفه من أول هذه التالية للروم، وهي لقمان، بما وصفه به في التالية لغزو الروم، وهي يونس، وذلك الوصف هو الحكمة، وزاد أنه: هدى، وهداية للمحسنين، فهؤلاء أصحاب النهايات، والمتقون هم أصحاب البدايات.
2 -
أنه تعالى قال فيما قبل: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58]، وقد أشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة.
3 -
أنه تعالى قال في آخر ما قبلها: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم: 58]، وقال هنا:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} [لقمان: 7].
4 -
المؤاخاة بينهما في الافتتاح بـ {الم} [لقمان: 1].
5 -
لما قال تعالى في الروم: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ .. } [الروم: 56]، قال هنا:{هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} [لقمان: 3 - 4]، وهذا: هو عين يقينهم بالآخرة! كما أنهم المحسنون، الموصوفون بما ذكر.
6 -
وأيضًا ففي كلتا السورتين: جملة من الآيات، وابتداء الخلق.
(1)
البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور - مرجع سابق- (15/ 141).
7 -
وذكر في الروم: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} [الروم: 15]، وقد فسر ذلك بالسماع في الجنة، وذكر هنا {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي، وشتان بين هذا وذاك!
(1)
.
8 -
في الروم قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وهنا: يقول تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، وكلاهما: يفيد سهولة البعث.
9 -
في الروم قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33]، وقال هنا:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان: 32]، فقد ذكر سبحانه في كلٍّ من الآيتين قسمًا لم يذكره في الآية الأخرى.
10 -
في الروم ذكر مغلوبية الروم وغلبتهم، المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا. تحاربا عليها، وخرج كل منهما بذلك عن مقتضى الحكمة، حيث أن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية، لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وذكر في هذه السورة ـ بالمقابل ـ قصة عبد مملوك ـ مقدمة على كثير من الأقوال ـ حكيم زاهد في الدنيا، غير مكترث بها، ولا ملتفت إليها، أوصى ابنه بما يأبى المحاربة، ويقتضي الصبر والمسالمة، وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى
(2)
.
مناسبتها بما بعدها (السجدة)
قال السيوطي
(1)
: «أقول: وجه اتصالها بما قبلها أنها شرحت مفاتح الغيب الخمسة التي
(1)
السيوطي هو: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين: إمام حافظ مؤرخ أديب. (849 - 911 هـ) له نحو (600) مصنف، من أشهرها: الإتقان في علوم القرآن، لباب النقول في أسباب النزول، تفسير الجلالين وغيرهم، ينظر: الزركلي، الأعلام (3/ 302). والسيوطي أشعري متأصل في أشعريته وكتبه مشحونة بتأويل صفات الرب جل في علاه، كالإتقان وتفسير الجلالين وغيرها، هذا مع ماله من شطحات في التصوف والغلو في الأولياء وغير ذلك من المخالفات والموقف الصواب من السيوطي وغيره من العلماء، هو التنبيه والتحذير-إن أخطأ-مع التزام أدب الرد والتحذير، وما من أحد من الناس إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم وإجلال أولي العلم لا يعني الأخذ بكل ما يصدر عنهم دون تمحيص وتبين، فالحق يُقبل والباطل يرد على صاحبه كائنًا من كان مع لزوم الأدب وبهذا يُعطى ويُؤتى كل ذي فضل فضله بلا إفراط ولا تفريط.
ومما يجدر الإشارة إليه والتنبيه عليه أنه لا ينبغي أن يُخلط بين إجلال أولي العلم وتوقيرهم وبين قبول كل ما يصدر عنهم حقًّا كان أم باطلًا. فاستفادة طالب العلم المتبصر الحاذق في العقيدة من مصنفات السيوطي لا بأس بها، لما حوته وضمته من علوم شتى نافعة، فهو عالم متبحر في علوم شتى وله مصنفات كثيرة لا يستغني عنها طالب علم، أما في جانب العقيدة فيجب الحذر كل الحذر من أشعريته، فهو مع أشعريته عنده من العلم ما يُنتفع به، ولو هُجرت كتبه وكتب مَن هم مثله لهجر وترك علم جمّ ولهجر ميراث علمي كبير، الأمة في حاجة إليه، والقول الوسط في ذلك أنه يُنتفع بعلمه وعلم أمثاله مع التحذير من الجانب العقدي الذي كانوا عليه. والذي ينبغي التوجيه إليه هو أن يستفاد من كتب هؤلاء العلماء في جانب الفقه والأصول والتفسير وما شابه ذلك، أما في الجانب العقدي فيرجع إلى أئمة أهل السنة والجماعة الذين عُرِفوا باتباع السلف عقيدة ومنهاجًا.
…
ومنهج أهل السنة منهج وسطي لا إفراط فيه ولا تفريط ولا غلو ولا تنطع، وإليك أيها القارئ الكريم كلام بعض أهل العلم وفتاواهم في هذا الجانب.
سؤال وجه إلى الإمام العلامة شيخنا ابن باز رحمه الله بشأن تفسير الجلالين فقال: «تفسير مفيد وفيه بعض الأخطاء في الصفات
…
لكنه مفيد وقلّ كتاب إلَّا وقد يكون فيه بعض الأخطاء». اهـ. (نور على الدرب شريط: 800)
وسئل العلامة شيخنا صالح الفوزان حفظه الله: ما رأيكم في «تفسير الجلالين» ؟ فأجاب: «تفسير الجلالين» تفسير مختصر ألفه الحافظان: الحافظ المحلي والحافظ السيوطي، وكل منهما يلقب بجلال الدين، لذلك سمي بالجلالين، أي: تفسير جلال الدين المحلي، وتفسير جلال الدين السيوطي؛ لأن جلال الدين المحلي توفي قبل إكماله فأكمله السيوطي. وهو تفسير مختصر جدًّا يسهل على طالب العلم أو المبتدئ قراءته أو حفظه، لكن من المعلوم أن كلا المُفسّرين على عقيدة الأشاعرة وهما يؤولان آيات الصفات كما هو مذهب الأشاعرة، ومن هذه الناحية يجب الحذر في الاعتماد على تفسيرهما في آيات الصفات «. اهـ. «المنتقى من الفتاوى» .
وقال شيخنا العلَّامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: «تفسير الجلالين لطالب العلم جيد؛ لأنه في الحقيقة زبدة، وكما تعلم أنه يتمشى في مسألة الصفات على مذهب الأشاعرة، فلا يوثق به بل يرد قوله في ذلك، لكن في غير ذلك جيد جدًّا من حيث=
ذكرت في خاتمة لقمان فقوله هنا: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)}
=سبكه للقرآن، وتنبيهه في كلمات وجيزة على أمور تخفى على من يطالعه من أهل العلم!، فإذا اجتمع الفتوحات الإلهية وهو ما يعرف بحاشية الجمل مع الجلالين كان طيبًا» اهـ، لقاء الباب المفتوح، شريط رقم:(32).
وقال العلَّامة المحدث مقبل الوادعي رحمه الله: «تفسير الجلالين مؤلفه مضطرب مرة يفسر «استوى» بمعنى: استولى ومرة بما جاء عن السلف وفيه من الاعتزال»، نبذة يسيرة من حياة أحد أعلام الجزيرة. لأبي همام البيضاني.
وختامًا إجابة اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية عن سؤال بهذا لصدد:
السؤال:
ما موقع تتبع عورات العلماء من الشرع، بدعوى التحذير من زلاتهم، ولفت نظر الناس إليها؟ مع العلم أن هذا العمل يقوم به طلبة العلم، ويحذرون العوام من الناس، وممن يحذرونهم من علماء أجلاء أحيانًا، كالسيوطي (بدعوى أنه أشعري) وغيره كثير.
الجواب:
«العلماء ليسوا معصومين من الخطأ كما في الحديث: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد» أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، برقم 6805، ولا ينقص ذلك من قدرهم ما دام قصدهم التوصل إلى الحق، ولا تجوز الوقيعة في أعراضهم من أجل ذلك، وبيان الحق والتنبيه على الخطأ واجب، مع احترام العلماء ومعرفة قدرهم. إلا ما كان مبتدعًا أو مخالفًا في العقيدة، فإنه يحذر منه إن كان حيًّا، ومن كتبه التي فيها أخطاء؛ لئلا يتأثر بذلك الجهال، لا سيما إذا كان داعية ضلال؛ لأن هذا من بيان الحق والنصيحة للخلق، وليس الهدف منه النيل من الأشخاص، والعلماء الكبار-مثل السيوطي وغيره- ينبه على أخطائهم، ويستفاد من علمهم، ولهم فضائل تغطي على ما عندهم من أخطاء، لكن الخطأ لا يقبل منهم ولا من غيرهم».
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: بكر أبو زيد (عضو)، عبد العزيز آل الشيخ (عضو)، صالح الفوزان (عضو)، عبد الله بن غديان (عضو)، عبد العزيز بن عبد الله بن باز (الرئيس)، فتاوى اللجنة الدائمة:(12/ 98).
وقد تطرقت بعض الدراسات المعاصرة إلى عقيدته منها رسالة الدكتور سعيد إبراهيم مرعي خليفة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدعوة وأصول الدين، قسم العقيدة، وهي أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه، وهي بعنوان «جلال الدين السيوطي وآراؤه الاعتقادية عرض نقد على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة» ، وقد أشرف عليها الدكتور محمود محمد مزروعة، سنة (1420 هـ). وكذلك رسالة للباحث طلعت جبر المجدلاوي، الجامعة الإسلامية بغزة، كلية أصول الدين، قسم العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة، وهي أطروحة مقدمة لنيل شهادة الماجستير، وهي بعنوان:«مواقف الإمام السيوطي من الإلهيات والنبوات دراسة ونقدًا» ، وأشرف عليها الدكتور جابر زايد السميري (1423 هـ).
ولعل في هذا كفاية، والحمد لله رب العالمين. الباحث.
[السجدة: 5]، شرح لقوله هناك:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، ولذلك عقب هنا بقوله:{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: 6]، وقوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، شرح لقوله:{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34]، قوله:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7]، شرح لقوله:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34]، وقوله:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5]، و {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] شرح لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، وقوله:{أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10] إلى قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11]، شرح لقوله:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]»
(1)
(2)
.
(1)
السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين (ت: 911 هـ) أسرار ترتيب القرآن -دار الفضيلة للنشر والتوزيع- (ص 123).
(2)
يُنظر: عناية الإسلام بتربية الأبناء كما بينها سورة لقمان، دراسة تحليلية موضوعية (رسالة ماجستير) للدكتور عرفة بن طنطاوي:(2/ 66 - 72).
المبحث الثاني: التعريف بشخصية لقمان الحكيم عليه السلام
وإذ يتعرض الباحث للتعريف بشخصية لقمان الحكيم عليه السلام في هذا المبحث، يعرج فيه على أمرين هامين من خلال مطلبين جليلين:
المطلب الأول: نسبه ونشأته.
المطلب الثاني: التحقيق في أمر نبوته إثباتًا ونفيًا.
المطلب الأول: نسبه ونشأته، ويشمل ما يلي:
أولاً: اسمه ونسبه
أ- اسمه: (لقمان)
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلانِيُّ (ت: 923 هـ): «ولقمان اسم أعجمي»
(1)
.
- قال الألوسي (ت: 1270 هـ): «ولقمان اسم أعجمي لا عربي مشتق من اللقم»
(2)
.
- قال الطاهر بن عاشور (ت: 1393 هـ): «ولقمان اسم مادته عربية مشتقة من اللقم، والأظهر أن العرب عربوه بلفظ قريب من لغتهم، ولقمان ممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون لا للعجمة»
(3)
.
- قال أبو حيان (ت: 745 هـ): «وعليه: فإن كان لقمان اسم علم، كان أعجميًّا ومنع من الصرف للعجمة والعلمية، وإن كان عربيًّا منع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ويكون مشتقًا من اللقم»
(4)
.
- قال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «اخْتُلِفَ فِي لُقْمَانَ هَلْ هُوَ عَجَمِيٌّ أَمْ عَرَبِيٌّ؟ مُشْتَقٌّ مِنَ
(1)
إرشاد الساري في شرح أحاديث البخاري (7/ 288).
(2)
روح المعاني (7/ 182).
(3)
التحرير والتنوير (21/ 97).
(4)
البحر المحيط (7/ 182).
اللُّقَمِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَجَمِيٌّ؛ مَنَعَهُ لِلتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَرَبِيٌّ؛ مَنَعَهُ لِلتَّعْرِيفِ وَلِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ»
(1)
.
- قال صافي
(2)
(ت: 1376 هـ): «(لقمان) قيل: هو اسم علم أعجميّ، وقيل: هو عربيّ منع من التنوين للعلميّة وزيادة ألف ونون، والأول أظهر»
(3)
.
يقول الباحث: والذي يظهر أن لقمان: اسم أعجمي لا عربي، فهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وربما كان من مشترك الأسماء في اللغات السامية الأصل، واستخدمه العرب بعد ذلك، واستخدام العرب للاسم، أو رده للمصدر لا يقلبه ولا ينقله من عجمته إلى العربية، بل يبقى على عجمته، والله أعلى وأعلم بالصواب.
ب- نسبه
لقد اختُلف في نسب لقمان خاصة لأبيه وجده على أقوال عديدة، توضحها الدراسة وتبينها مع عزو كل قول لقائله فيما يلي: على النحو التالي:
اسم أبيه:
ورد على ثمانية أقوال.
القول الأول: (بَاعُورَاء)
1 -
قال القرطبي (ت: 671 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَاء بن ناحور بن تارح، وهو آزر أبو إبراهيم، كذا نسبه محمد بن إسحاق، وقال وهب: كان ابن أخت أيوب، وقال مقاتل: ذُكِرَ أنه كان ابن خالة أيوب، وقيل: كان من أولاد آزر»
(4)
.
(1)
فتح القدير (1/ 1142).
(2)
محمود بن عبد الرحيم صافي (ت: 1376 هـ). من أعلام مدينة حمص السورية، وهو مؤلف أول كتاب كامل مفصّل في إعراب القرآن وصرفه وبيانه؛ ويعرف باسم:«الجدول في إعراب القرآن، وصرفه، وبيانه» بعد أن أنفق فيه خلاصة عمره، ويُذكر أنه سلّم الكتاب للناشر، ثم توفي بعدها بساعة واحدة، وطُبع الكتاب بعد وفاته. وينظر: الشاملة.
(3)
الجدول في إعراب القرآن الكريم، محمود بن عبد الرحيم صافي، إعراب سورة لقمان (22/ 77).
(4)
تفسير القرطبي (14/ 259).
2 -
قال البيضاوي (ت: 685 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَاء من أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته»
(1)
.
3 -
قال الخازن (ت: 741 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَاء بن ناحور بن تارخ، وهو آزر، وقيل: كان ابن أخت أيوب، وقيل: كان ابن خالته»
(2)
.
4 -
قال أبو السعود (ت: 982 هـ): «وهو لقمان بن بَاعُورَاء من أولاد آزر ابن أخت أيوب، أو خالته»
(3)
.
5 -
قال الألوسي (1270 هـ): «وهو على ما قيل: ابن بَاعُورَاء قال وهب: وكان ابن أخت أيوب، وقال مقاتل: كان ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر»
(4)
.
القول الثاني: (بَاعُورَا)
1 -
قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَا ابن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر»
(5)
.
2 -
قال النسفي (ت: 710 هـ): «وهو لقمان بن بَاعُورَا، ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام»
(6)
.
3 -
قال أبو حيان (ت: 745 هـ): «هو لقمان بن بَاعُورَا. قال وهب: ابن أخت أيوب عليه السلام وقال مقاتل: ابن خالته. وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش ألف سنة، وأدرك داود عليه
(1)
البيضاوي (4/ 214).
(2)
تفسير الخازن (4/ 213).
(3)
أبو السعود (7/ 71).
(4)
الألوسي (21/ 83).
(5)
تفسير الزمخشري (3/ 231).
(6)
النسفي (2/ 714).
السلام»
(1)
.
4 -
قال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «وَهُوَ لُقْمَانُ بْنُ بَاعُورَا بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَارِخْ، وَهُوَ آزَرُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ»
(2)
.
القول الثالث: (عاعورا)
- قال إسماعيل حقي
(3)
(ت: 1127 هـ): «قال ابن اسحاق صاحب المغازي: هو لقمان بن عاعورا بن تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم الخليل»
(4)
.
القول الرابع: (باعور)
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «هو لقمان بن باعور ابن ناخر بن تارخ وهو آزر أبو إبراهيم عليه الصلاة والسلام»
(5)
.
القول الخامس: (ناعور)
- قال البغوي (ت: 516 هـ): «قال محمد بن إسحاق: هو لقمان بن ناعور ابن تارخ وهو آزر، وقال وهب: كان ابن أخت أيوب، وقال مقاتل: كان ابن خالة أيوب»
(6)
.
القول السادس: (عنقاء)
1 -
قال القرطبي (ت: 671 هـ): «وقيل: هو لقمان بن عنقاء بن سرون، وكان نوبيًّا من أهل
(1)
أبو حيان (7/ 186).
(2)
فتح القدير (4/ 237).
(3)
إسماعيل حقي بن مصطفى البروسوي الإسطنبولي الحنفي الخلوتي، المولى أبو الفداء، متصوف مفسر، تركي مستعرب ولد في آيدوس وسكن القسطنطينية وانتقل إلى بروسة، وكان من أتباع (الطريقة الخلوتية) فنُفِيَ إلى تكفور طاغ، وأوذي، وعاد إلى بروسة فمات فيها، له كتب عربية وتركية منها: روح البيان في تفسير القرآن، الرسالة الخليلية في التصوف، الفروقات، وهو معجم في موضوعات مختلفة، توفي عام (1127 هـ) الموافق لعام (1715 م). يُنظر: الموسوعة الحرة.
(4)
إسماعيل حقي البروسوي، روح البيان في تفسير القرآن (3/ 48).
(5)
عمدة القاري (19/ 111 - 112).
(6)
تفسير البغوي (6/ 278).
أيلة
(1)
، ذكره السهيلي»
(2)
.
2 -
قال ابن كثير (ت: 774 هـ): «هو لقمان بن عنقاء بن سدون»
(3)
.
القول السابع: (عَنْقَا)
- قال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «وَقِيلَ: هُوَ لُقْمَانُ بْنُ عَنْقَا بْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ نُوبِيًّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ»
(4)
.
القول الثامن: (ثاران)
- قال ابن كثير (ت: 774 هـ): «وحكى ابن جرير والقتيبي أنه: لقمان بن ثاران»
(5)
.
ويتلخص من الأقوال سالفة الذكر ما يلي:
1 -
اتفقت المصادر قاطبة على اسم لقمان بناءً على ورود اسمه في القرآن الكريم، وذلك بورود سورة تحمل اسمه، وذكر فيها مرتين في آيتين متتاليتين (12 - 13) من السورة الكريمة.
2 -
اختلفت المصادر في اسم أبيه على ثمانية أقوال:
الأول- باعوراء، وعليه أكثر المصادر.
الثاني- باعورا، ويلي القول الأول كثرة.
الثالث- عاعورا.
الرابع- باعور.
الخامس- ناعور.
(1)
أيلة: مدينة تقع على خليج العقبة (جنوب الأردن)، (والتي عرفت بعد ذلك باسم «أم الرشراش» تحت ولاية الحكم المصري ثم احتلها اليهود الصهاينة في حرب (1956 م)، وبدلوا اسمها إلى إيلات، وبها الآن ميناء إيلات المشهور والمعروف بهذا الاسم) ..... وينظر: الموسوعة الحرة- بتصرف.
(2)
تفسير القرطبي (14/ 259).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 444)، والبداية والنهاية (2/ 29).
(4)
فتح القدير (4/ 237).
(5)
تفسير ابن كثير (2/ 23).
السادس- عنقاء.
السابع- عنقا.
الثامن- ثاران.
3 -
كما اختلفت المصادر في اسم جده على ستة أقوال:
الأول- ناحور، وعليه أكثر المصادر.
الثاني- ناخر.
الثالث- تارخ.
الرابع- مروان.
الخامس- سرون.
السادس- سدون.
4 -
كما اتفقت أغلب المصادر على أن لقمان من ذرية آزر، وآزر هو: أبو إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل: ابن أخت أيوب، وقيل: ابن خالته.
ومما لا مجال للشك فيه، أن في اسمه أبيه تصحيفًا
(1)
بينًا وواضحًا، وذلك للتقارب والتشابه الوارد فيه مع اختلاف وتنوع مصادره، وتباعد العهد بينها زمنيًّا، بل بالتأمل في المصدر الواحد تجد تصحيفًا وتحريفًا جليًّا، وبالرجوع لعدة طبعات للمصدر الواحد يتبين التصحيف جليًّا دون أدنى شك، وبالنظر والتأمل في المصادر الخمسة الأولى المتتالية نجد التشابه والتقارب واضحًا وجليًّا، وبالنظر كذلك في المصدرين السادس والسابع يتضح ما ذكر الباحث وما بينه جليًّا دون أدنى ريب أوشك، لذا فقد جمع أصحاب كل قول ورتب أقوالهم ترتيبًا زمنيًّا بحسب تاريخ الوفاة لصاحب كل مصدر منها، ذلك ليتأمل المتبصر حقيقة ما ذهب إليه الباحث من وجود تصحيفٍ
(1)
التصحيف: «هو تحويل الكلمة عن الهيئة المتعارفة إلى غيرها» انتهى. فتح المغيث (3/ 7). وهذا من أحسن التعاريف وأشملها لجميع الصور التي يذكرها العلماء في التصحيف.
في اسم أبيه، وكذلك ما يبدو في اسم جده من تصحيف، والمتأمل في المصدرين الأول والثاني، وكذلك في المصدر الرابع وما بعده من اسم جده يتضح له ذلك تمامًا.
من فوائد ذكر اسمه ونسبه
وقد يكون في ذكر اسمه ونسبه فوائد من أجلها نفي تلك الدعاوي الباطلة الزائفة التي لا تمت للقمان بصلة أو نسب لا من قريب ولا من بعيد، والتي من أبرزها دعوى أن لقمان هو نبي الله داوود عليه السلام، فيكون من إثر ذلك أن ابن لقمان الذي يعظه هو سليمان بن داوود عليهما السلام، وأغرب منها كذلك دعوى أن لقمان هو سقراط.
وعمومًا- فإن المعنِيَّ بالبحث هو لقمان نفسه وما آتاه الله تعالى من الحكمة، وما يجنيه أهل الإيمان عمومًا والمربون خصوصًا من مواعظه وما حوته من عبر ودروس
تربوية وإيمانية في تصحيح وتوجيه وترسيخ الأسس والمفاهيم العقدية والتعبدية والأخلاقية والاجتماعية والتربوية، على وجه من الكمال والتمام، لم لا، وهذا الكتاب كما وصفه ربنا العظيم:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
ثانيًا: نشأته
وتشمل:
* عمره والزمن الذي عاش فيه.
* موطنه.
* مهنه التي امتهنها.
* أوصافه (صفاته الخِلقية والخُلقية).
عمره والزمن الذي عاش فيه:
- قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «إن لقمان عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعثه، فلما بُعث قطع الفتوى فقيل له عن ذلك فقال: ألا أكتفي إذا كفيت»
(1)
.
- وقال الألوسي (1270 هـ): «وقيل كان قاضيًا في بني إسرائيل، ونقل ذلك عن الواقدي إلا أنه قال: وكان زمانه بين زمان عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقال عكرمة والشعبي: والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه السلام»
(2)
.
- قال البيضاوي (685 هـ): «وعاش حتى أدرك داود عليه الصلاة والسلام وأخذ منه
(3)
العلم وكان يفتي قبل مبعثه»
(4)
.
ومما سلف ذكره يتضح ويتبين ويتأكد أن زمن لقمان كان قبل مبعث داود عليه السلام، ثم عاصره زمن نبوته، ويُستدلُ على ذلك بتوقفه عن الفتوى لما بُعِثَ داودُ عليه السلام بقوله:«ألا أكتفي إذا كفيت» ، وهذا القول عليه الأكثرون كما حكاه عن عكرمة والشعبي، وفيه شبه اتفاق بين المصادر التي طالعها الباحث خلال بحثه، وأن القول بأن زمانه بين زمان عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام قول مرجوح، تفرد به قلة ولا يعول عليه، والله أعلى وأعلم وأَجَلُّ.
(1)
الكشاف (3/ 211)، وكذلك تفسير القرطبي (14/ 59)، وكذلك فتح القدير (1/ 1142)، وكذلك أبو السعود (7/ 71)، وكذلك النسفي (2/ 714).
(2)
تفسير الألوسي (21/ 82 - 83)، وكذلك فتح القدير (1/ 1142)، وكذلك أبو حيان (7/ 186).
(3)
والصواب أن يقال: أخذ عنه العلم، بدلًا من-أخذ منه-ولعله وقع تحريفًا وخطأ. (الباحث).
(4)
البيضاوي (4/ 214).
ثالثًا: موطنه
- قال الطبري (ت: 310 هـ): «قال مجاهد: كان لقمان (عبدًا حبشيًّا)
(1)
غليظ الشفتين مصفح القدمين»
(2)
.
- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ): «وكذلك نقل قتادة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: قلت لجابر بن عبد الله رضي الله عنه: ما انتهى إليكم في شأن لقمان؟ قال: كان قصيرًا أفطس الأنف من (النوبة)»
(3)
.
- قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «رُوي عن سعيد بن المسيب قال: ولقمان الحكيم كان أسود (نوبيًّا) ذا مشافر»
(4)
.
- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ) -أيضًا: «ورُوي كذلك عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من (سودان مصر)»
(5)
.
- وقال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «قال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان الحكيم كان أسود (نوبيًّا) ذا مشافر»
(6)
.
- وقال الطاهر بن عاشور (ت: 1393 هـ): «قيل: هو من بلاد النوبة، وقيل: من
(1)
حبشيًّا: نسبة إلى الحبشة وهي اليوم (إثيوبيا) رسميًّا: جمهورية إثيوبيا الفدرالية الديموقراطية، دولة غير ساحلية تقع في القرن الإفريقي وعاصمتها أديس أبابا (الزهرة الجديدة) وهي ثاني أكبر دول إفريقيا من حيث عدد السكان والعاشرة من حيث المساحة، يحدها من جهة الشرق كل من: جيبوتي والصومال، ومن الشمال دولة إيريتريا، ومن الشمال الغربي السودان، ومن ناحية الغرب جنوب السودان، ومن الجنوب الغربي كينيا، وينظر: الموسوعة الحرة.
(2)
تفسير الطبري (18/ 67).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 443).
(4)
الزمخشري الكشاف (3/ 211).
(5)
تفسير ابن كثير (3/ 443).
(6)
الزمخشري الكشاف (3/ 211)، والقرطبي الجامع لأحكام القرآن (14/ 60)، وابن كثير البداية والنهاية (2/ 124).
(الحبشة)»
(1)
.
- وقال أبو حيان (ت: 745 هـ): «قال الفراء وغيره: كان (حبشيًّا)»
(2)
.
- وقال ابن الجوزي (ت: 597 هـ): «فَأَمَّا صِفَتُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ (عَبْدًا حَبَشِيًّا)» .
- قال السيوطي (ت: 911 هـ): «وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» ، وابن أبي الدنيا في كتاب «المملوكين» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان لقمان (عبدًا حبشيًّا) نجارًا»
(3)
.
- وقال القرطبي (ت: 671 هـ): «وقال خالد الربعي: كان لقمان (عبدًا حبشيًّا) نجارًا»
(4)
.
- وقال القرطبي (ت: 671 هـ) أيضًا: «وكان (نوبيًّا) من أهل أيلة; ذكره السهيلي»
(5)
.
ولعل ابن المسيب يعني بسودان مصر: (النوبة)
(6)
بدليل رواية الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي التي هي
(1)
الطاهر بن عاشور (22/ 149).
(2)
البحر المحيط (7/ 186).
(3)
السيوطي (11/ 625).
(4)
القرطبي: الجامع أحكام القرآن (14/ 16 - 60)، وينظر: أحمد بن حنبل: كتاب الزهد (ص 49).
(5)
القرطبي (56/ 14).
(6)
النوبة: تطلق على الجزء الجنوبي من بلاد مصر، وهي جيل من السودان واحدها نوبيّ، وبلاد النوبة من ذلك الجيل (المعجم الوسيط ص 961).
النوبيون: أهل النوبة، قبائل تسكن منطقة تمتد على ضفتي نهر النيل أقصى شمال السودان وأقصى جنوب مصر.
وينظر: الموسوعة الحرة، نقلًا عن تاريخ بلاد النوبة.
واللغة النوبية: هي لغة نيلية صحراوية تنتمي إلى عائلة اللغات الأفريقية الآسيوية واللغات البربرية التي يتحدثها أهل المغرب وسيوة في مصر ويتحدثها سكان جنوب مصر ومناطق شمال وغرب (شمال دارفور جبال الميدوب) السودان القريبة من مصر، وكان معظم الناطقين بها يسكنون في حوض وادي النيل والممتد من جنوب مصر إلى شمال السودان. وعدد الناطقين بها حوالي (11) مليون نسمة. موزعين بين السودان ومصر، بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر الميلادي، كان النوبيون وكذا الأقباط يكتبون لغتهم بالأبجدية اليونانية القديمة وقام النوبيون بإضافة حروف نوبية خالصة لما استعصى رسمه من حروف منطوقة بالنوبية ولم يجدوا المقابل لها في اليونانية.
وينظر: اللغة النوبية كيف نكتبها؟، محمد مختار خليل كبارة، مركز الدراسات النوبية والتوثيق، القاهرة، 1997 م.
اقرأ باللغة النوبية (Nobîn nog gery)، محمد متولي بدر. معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم.
من رواية الأوزاعي: عن عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب فإنها مفسرة ومبينة لرواية ابن كثير عن ابن المسيب أن لقمان كان من (سودان مصر)، وقوله: ثلاثة من (السودان): بلال، ومهجع مولى عمر، ثم أعقبها ولقمان الحكيم كان أسود (نوبيًّا).
وبذلك يمكن الجمع بين قولي ابن المسيب رحمه الله تعالى: بأنه يعني بسودان مصر (النوبة)، والله أعلى وأعلم وأَجَلُّ.
بما سبق بيانه من أقوال في موطنه يجتمع لدينا عدة روايات تنسبه لأربعة مواطن، وهي:
1 -
الحبشة.
2 -
النوبة.
3 -
سودان مصر.
4 -
السودان
(1)
.
ولقد تعددت الروايات الواردة في ذكر موطنه، وأنه من النوبة، وأنه من (سودان مصر)، وأنه كان (حبشيًّا) وعليه الأكثرون، وأنه من (السودان)، فتعدد هذه الروايات لا إشكال فيه أيضًا، فإن المتأمل في صفات لقمان الخِلقية يجد أنها متناسقة ومتطابقة مع الصفات الخِلقية لسكان هذه البقاع المتجاورة والمتلاصقة من الشمال الشرقي للقارة الإفريقية، والتي تجمع أقصى شمال السودان، وهي منطقة (وادي حلفا) وما جاورها، وأقصى جنوب مصر وهي منطقة (النوبة)، ولعله كان له تنقل بين هذه البقاع، والتي تجمعها طبيعة جغرافية وسكانية واحدة، من جهة اللغة والعادات الاجتماعية والأعراف والنشاط السكاني، والروايات التي تذكر أنه من أيلة مع قلتها وندرتها لا تقاس بنسبته إليها مع نسبته إلى القارة الإفريقية، ولعل عمره الطويل كان له تأثير في انتقاله من مكان إلى مكان ومن مهنة إلى مهنة، والله أعلى وأعلم.
(1)
ويُقال: أن بلاد السودان في كلام القدماء يراد به بلاد جنوب الصحراء الكبرى لا دولة السودان التي اختصت بهذا الاسم دون غيرها، وإنما خصها بهذا الاسم الإنجليز منذ أقل من (120) سنة فقط، والله أعلم.
رابعًا: مهنته
(1)
.
- وقال البغوي (ت: 516 هـ): «وقال سعيد بن المسيب: كان (خياطًا)، وقيل: كان راعي غنم، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة، ألست فلانًا الراعي؟ فبم بلغت ما بلغت؟ قال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني»
(2)
.
- وقال القرطبي (ت: 671 هـ): «كان (يحتطب) لمولاه حزمة حطب، وقال لرجل ينظر إليه إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض»
(3)
.
- وقال ابن الجوزي (ت: 597 هـ): «وَفِي صِنَاعَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ (خَيَّاطًا)، قَالَهُ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
وَالثَّانِي: (رَاعِيًا)، قَالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ.
وَالثَّالِثُ: (نَجَّارًا)، قَالَهُ: خَالِدٌ الرَّبْعِيُّ»
(4)
.
- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ): «أنه كان (قاضيًا). في زمن داود عليه السلام»
(5)
.
- وقال الطبري (ت: 310 هـ): «وقال مجاهد: إنه كان (قاضيًا) على بني إسرائيل»
(6)
.
ومما سبق من الروايات يتبين أنه: عَمِلَ وامتهن مهنًا كثيرة ومتعددة، ومختلفة وهي:
1) نجارًا.
2) نجادًا.
3) خياطًا.
4) راعيًا للغنم.
5) حطابًا لمولاه قبل أن يُعتَق من الرق.
6) قاضيًا على بني إسرائيل.
ولا تعارض في أنه امتهن كل هذه الأشغال والمهن، فبعضها متقارب ويمكن الجمع بينها كالنجاد والخياط، وكذلك يمكن الجمع بين مهنتي الرعي وجمع الحطب، وقد يكون تنقل بين هذه الحرف وتلك المهن، من حرفة إلى حرفة ومن مهنة إلى مهنة، لم لا وقد عُمِّر ألف سنة، فما الذي يمنع من تنقله بين هذه الأشغال وتلك المهن والحرف في هذا العمر الطويل والأمد المديد البعيد، والذي يندر مع طوله وتنقله من مكان إلى آخر- الثبات على مهنة أو صنعة أو حرفة واحدة، ولربما خُتم له بالاشتغال بالقضاء بعد أن امتن الله عليه وآتاه الحكمة وظهرت عليه آثارها، والله أعلى وأعلم بالصواب.
(1)
تفسير الألوسي (21/ 83).
(2)
تفسير البغوي (2/ 215).
(3)
تفسير القرطبي (14/ 215).
(4)
ابن الجوزي (6/ 318).
(5)
ابن كثير البداية والنهاية (2/ 123).
(6)
تفسير الطبري (18/ 67)، وكذلك فتح القدير (1/ 1142)، وينظر: مسند أحمد (3/ 270).
خامسًا: صفاته الخِلقية والخُلقية
أبين أوصافه (صفاته الخِلقية والخُلقية):
صفاته الخِلقية:
أما عن صفاته الخِلقية فقد وردت أقوال متعددة متقاربة، وروايات متشابهة، وردت في جمع من المصادر، ومن أهمها ما يلي:
- قال الطبري (ت: 310 هـ): «حدثني نصر بن عبد الرحمن وابن حميد قالا: حدثنا حكام عن سعيد الزبيدي عن مجاهد قال: كان لقمان عبدًا حبشيًّا غليظ الشفتين، مصفح القدمين قاضيًا على بني إسرائيل»
(1)
.
- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ): «قال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد ابن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر، ذا مشافر»
(2)
.
- وقال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «قال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان الحكيم كان أسود نوبيًّا ذا مشافر»
(3)
.
- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ): «أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال: كان قصيرًا أفطس من النوبة»
(4)
.
- وقال أبو حيان (ت: 745 هـ): «قال ابن عباس، وابن المسيب، ومجاهد: كان نوبيًّا مشقق الرجلين ذا مشافر، وقال الفراء وغيره: كان حبشيًّا مجدوع الأنف ذا مشفر»
(5)
.
- وقالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310 هـ): «وقال مجاهد: كان عبدًا أسود عظيم الشفتين ومشقق القدمين»
(6)
.
- وقال ابن الجوزي: «فَأَمَّا صِفَتُهُ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا.
- وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّب: كَانَ لُقْمَانُ أَسْوَدَ مَنْ سُودَانِ مِصْر.
(1)
تفسير الطبري (18/ 67).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 443).
(3)
الزمخشري الكشاف (3/ 211) وينظر: القرطبي الجامع لأحكام القرآن (14/ 60)، وابن كثير: البداية والنهاية (2/ 124).
(4)
تفسير ابن كثير (3/ 443).
(5)
البحر المحيط (7/ 186).
(6)
جامع البيان (18/ 545 - 549)، وكذلك البغوي (6/ 287).
- وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ مشَقَّقَ الْقَدَمَيْنِ، وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ»
(1)
.
- وقال السيوطي (ت: 911 هـ): «وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» ، وابن أبي الدنيا في كتاب «المملوكين» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدًا حبشيًّا نجارًا»
(2)
.
- وقال القرطبي (ت: 671 هـ): «وقال خالد الربعي: كان لقمان عبدًا حبشيًّا نجارًا» .
ومما سبق ذكره من الروايات السابقة يتضح ويتبين لنا أنَّ من أهم وأبين وأظهر ما وُصِفَ به لقمان الحكيم عليه السلام من الصفات الخِلقية، أنه:
1 -
عبد حبشي أسود.
2 -
قصير القامة.
3 -
أفطس ومجدوع الأنف.
4 -
غليظ وعظيم الشفتين.
5 -
وقد وصف بأنه ذو مشافر وأنه ذو مشفر.
6 -
وأنه مصفح ومشقق القدمين.
ولا يُشَكُ في صحة نسب تلك الصفات الخِلقية إلى لقمان مجتمعة، ومما يؤكد ذلك، أنها متناسقة ومتقاربة ومتجانسة، بل أغلبها وأعمها متطابق تمامًا كما هو الحال بين رواية الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي مع إحدى روايتي ابن كثير، وليس ثَمَّ مانع من اجتماعها في إنسان يمكن وصفه بتلك الصفات الخِلقية مجتمعة.
ومما يزيد الأمر تأكيدًا، الاتفاق على تلك الصفات الخِلقية، مع اختلاف مصادرها وتنوعها وتباعدها زمانيًّا، والله ولي التوفيق، وهو سبحانه أعلم بالصواب.
(1)
ابن الجوزي 6/ 318).
(2)
السيوطي (11/ 625).
ولا شك أن المعني هو الصفات (الخُلُقية) التي بها علو شأن المؤمن وسموه ورقيه لأعالي درجات الكمال البشري، وبها عزه وكرامته عند خالقه ومولاه، كما قال سبحانه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، والتي حبا الله لقمان أحسنها وأكملها وأشملها وأطيبها وأنماها وأزكاها وأعلاها. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
(1)
.
صفاته الخُلقية:
وأما عن أهم صفاته الخُلُقية فإنه: كان عبدًا صالحًا، ومربيًّا حكيمًا، جليل القدر، عظيم النفع، ومن أظهر ما يدل على ذلك ما وهبه الله وحباه من محاسن الصفات، وما أجراه على لسانه وما أنطقه به من الحكمة، وما تكلم به من المواعظ الجليلة في تربية ابنه على منهج متكامل الأركان تام البنيان، شامل لخيري المعاش والمعاد، شامل لبناء المسلم بناءً صحيحًا، عقديًّا وإيمانيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا وتربويًّا.
ولعظم قدر تلك الوصايا التربوية والأبوية الجليلة، خلدها المولى جل في علاه وأصبحت مُسطرة في كتابه المجيد، وأكرم قائلها بإعلاء ذكره في العالمين وشرفه بالذكر في كتابه العزيز بورود سورة في خاتم كتبه على خاتم رسله، ضمن شريعته الغراء الخاتمة، يذكر فيها وتحمل اسمه، لتُصبِح مواعظه الحكيمة والجليلة والبليغة نبراسًا يضيء الطريق للأجيال المؤمنة، ويؤصل لهم معالم الهدى وسبل الرشاد، ويوضح لهم الطريق المستقيم، والسبيل القويم الموصل لرضوان الله في الدنيا، وجنته يوم التناد، إنها سورة كريمة تحمل اسمه، وتتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتلوها أهل الإيمان زُرافات، وَوُحدانًا، يتلونها في صلواتهم وهم في محاريبهم وقوفًا بين يدي ربهم، يتلونها في خلواتهم وجلواتهم، نعم، لقد خلد الله تعالى فيها فصوص حكمه البليغة، ومنهجه الأبوي التربوي الأصيل، والذي يُعدُّ منهاجًا تربويًّا متكاملًا
(1)
رواه مسلم (2564).
شاملًا لكل جوانب العملية التربوية، التي تبين واجب المربي، وتوضح بجلاء تام الأهداف التربوية التي يسعى الأب الشفيق لغرسها في نفس فلذة كبده وثمرة فؤاده، والأسلوب التربوي التعليمي بالحكمة والموعظة الحسنة، مع روعة البيان، وتناسق العبارات والألفاظ، مراعيًا التدرج فيها ببيان وتقديم الأهم فالمهم، كل ذلك بالخطاب الحسن، والتحبب إليه بالأسلوب الجميل (يا بني) وتكراره بين الموعظة والأخرى، لكسر الحواجز النفسية وتهيئتها لتلقي الموعظة وقبولها، ولتجديد عقد وشيجة المحبة، ولبيان أن الدافع لتلك المواعظ هو واجب الأبوة، المصحوب والمقرون بالشفقة، التي تزينها أَجَلُّ معاني الحب والحنو والعطف، وما يحمله الوالد لولده من حب الخير له، والحرص على إيصال معاني الكمال إليه بمنهجه التربوي الكامل والشامل المؤدي لأسباب الرقي في مدارج تحقيق أعلى مراتب العبودية، الموصل إلى رضوان رب العالمين وإلى سعادة الدارين.
ولقد اكتفى الباحث بالثابت من صفات لقمان وهي ما آتاه الله من (الحكمة)، وتعرض لأسلوبه التربوي في موعظته لابنه، الدال على حكمته ورجاحة عقله وسعة علمه ومكنون فهمه وعلو همته وأمانته وصدقه وشفقته في نصحه وغير ذلك مما يدخل ضمنًا ويستنبط إدراكًا وفهمًا من صفاته وكريم أخلاقه المستوحاة من فحوى خطابه ونصحه ووعظه لولده، مكتفيًا بذلك عن كثير مما لم يثبت من الصفات المنسوبة إليه، وكذلك ما سبق ذكره من نسبه وموطنه ومهنته وصفاته الخِلقية، وكونه حرًّا أو عبدًا، كل ذلك لم يثبت ثبوتًا قطعيًّا بل أكثره وأغلبه من أخبار بني إسرائيل، وإن كانت الدراسة تعرضت له بشيء من البيان، ولا طائلة كبيرة من وراء ذكره، إذ لو كان ثَمَّ نفع أو فائدة من ذكره، لبينه الله أوضح بيان كما بين موعظته وجلاها للناظرين وجعلها باقية نافعة للمربين والدعاة وسائر الهداة المصلحين.
وفي نحو ذلك يقول أبو حيان: «وَهَذَا الِاضْطِرَابُ فِي كَوْنِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَفِي جِنْسِهِ، وَفِيمَا كَانَ يُعَانِيهِ، يُوجِبُ أَنْ لَا يُكْتَبَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُنْقَلَ، لَكِنِ الْمُفَسِّرُونَ مُولَعُونَ بِنَقْلِ
الْمُضْطَرِبَاتِ حَشْوًا وَتَكْثِيرًا، وَالصَّوَابُ تَرْكُه»
(1)
.
وموقف أهل السنة من رواية الإسرائيليات معروف ومشتهر على ألسنة العلماء ومبسوط في كتبهم وأكتفي بقول العلامة الشنقيطي:
«ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات في واحدة منها يجب تصديقه وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه، وفي واحدة يجب تكذيبه وهي إذا ما دل القرآن والسنة على كذبه، وفي الثالثة لا يجوز التكذيب ولا التصديق
…
وهي ما إذا لم يثبت في كتابٍ ولا سنَّة صدقه ولا كذبه»
(2)
.
وهو ما يعبر عنه العلماء بتقسيم الإسرائيليات إلى ثلاثة أقسام:
الأول: موافق لشريعتنا.
الثاني: مخالف لشريعتنا.
الثالث: مسكوت عنه.
الأول: ما جاء موافقًا لشريعتنا:
(3)
إذ المعنى: حدِّثوا عنهم بما تعلمون صدقه»
(4)
.
وفي معنى حديث عبد الله بن عمرو سالف الذكر يقول العظيم آبادي:
قال الخطابي: «ليس معناه إباحة الكذب في أخبار بني إسرائيل ورفع الحرج عمن نقل عنهم
(1)
أبو حيان (7/ 186).
(2)
أضواء البيان (4/ 203، 204).
(3)
صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب أحاديث الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل (6/ 572)، برقم (3461) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(4)
الإسرائيليات والموضوعات في التفسير والحديث - د. محمد حسين الذهبي، (ص 49).
الكذب، لكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على معنى البلاغ؛ وإن لم يتحقق صحة ذلك بنقل الإسناد؛ وذلك لأنه أمر قد تعذر في أخبارهم؛ لبعد المسافة وطول المدة ووقوع الفترة بين زماني النبوة. وفيه دليل على أن الحديث لا يجوز عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بنقل الإسناد والتثبت فيه»
(1)
. اهـ.
الثاني: ما جاء مخالفًا لشريعتنا:
(2)
.
- قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته، إلا على سبيل الإنكار والإبطال»
(3)
.
الثالث: ما جاء مسكوتًا عنه في شرعنا:
وأما «ما سكت عنه شرعنا، ولم يكن فيه ما يشهد لصدقه ولا لكذبه، وكان محتملًا، فحكمه أن نتوقف في قبوله فلا نصدقه ولا نكذبه» ، وعلى هذا يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم»
(4)
، أما روايته فجائزة على أنها مجرد حكاية لما عندهم، لأنها تدخل في عموم الإباحة المفهومة من قوله عليه الصلاة والسلام:«حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»
(5)
،
(6)
.
قال الحافظ ابن كثير: هذا «محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا
(1)
العظيم آبادي، عون المعبود (6/ 488) طبعة دار الحديث/ القاهرة.
(2)
الإسرائيليات والموضوعات في التفسير والحديث - د. محمد حسين الذهبي، (ص 49).
(3)
ابن كثير (1/ 7) البداية والنهاية.
(4)
البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة، باب: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا (4/ 4215) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب أحاديث الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل (6/ 572) برقم: 3461) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(6)
الإسرائيليات الذهبي، (ص 49).
ما يُصدِّقها ولا ما يُكذِّبها، فيجوز روايتها للاعتبار»
(1)
،
(2)
.
يقول الحافظ ابن حجر: «لا حرج؛ أي: لا ضيق عليكم في الحديث عنهم؛ لأنه كان قد تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار ....
(3)
.
المطلب الثاني: التحقيق في أمر نبوته إثباتًا ونفيًا
وهل كان لقمان نبيًّا أو عبدًا حكيمًا لم تثبت له نبوّة؟ على قولين:
القول الأول: أن لقمان كان عبدًا حكيمًا ولم يكن نبيًّا
قال ابن كثير (ت: 774 هـ): «اختلف السلف في لقمان عليه السلام: هل كان نبيًّا، أو عبدًا صالحًا من غير نبوة؟ على قولين، الأكثرون على الثاني» .
ثم قال: «ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيًّا»
(4)
.
وقال البيضاوي (ت: 685 هـ): «والجمهورُ على أنَّه حكيمٌ ولم يكن نبيًّا»
(5)
.
وقال البغوي (ت: 516 هـ): «قال تعالى: {الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] يعني: العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور» .
واتفق العلماء على أنه كان حكيمًا، ولم يكن نبيًّا، إلا عكرمة فإنه قال: كان لقمان نبيًّا. وتفرد
(1)
البداية والنهاية لابن كثير (1/ 6 - 7).
(2)
وينظر: رمضان الغنام، مقال بعنوان:(الإسرائيليات والمسألة العقدية) موقع طريق الإسلام، بتارخ 323/ 1/ 1436 هـ.
(3)
فتح الباري (575/ 6) طبعة دار الريان، الطبعة: الأولى. ورقم الحديث (3461) بترقيم الفتح.
(4)
تفسير ابن كثير (6/ 334).
(5)
البيضاوي (4/ 214)، وكذلك النسفي (2/ 714)، وكذلك القسطلاني (إرشاد الساري في شرح أحاديث البخاري)(7/ 288)، وكذلك أبو السعود (7/ 71).
بهذا القول
(1)
.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي (ت: 538 هـ): «وأكثر الأقاويل أنه كان حكيمًا ولم يكن نبيًّا، ونُقِلَ عن ابن عباس-رضي الله عنهما قوله: لقمان لم يكن نبيًّا ولا ملكًا ولكن كان راعيًا أسود، فرزقه الله العتق، ورضي قوله ووصيته، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته»
(2)
.
وقالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310 هـ): «القول في تأويل قوله تعالى: {الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]، يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا لقمان الفقه في الدّين، والعقل، والإصابة في القول.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
بيان ممن قال بذلك:
حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله:{الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]، قال: الفقه والعقل والإصابة في القول من غير نبوّةٍ»
(3)
.
- حدّثنا بشر، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله:{الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]، أي: الفقه في الإسلام. قال قتادة: ولم يكن نبيًّا، ولم يوح إليه.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا يونس، عن مجاهدٍ، في قوله:{الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]، قال: الحكمة: الصّواب.
- حدّثنا ابن المثنّى، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهدٍ، أنّه قال: كان لقمان رجلًا صالحًا، ولم يكن نبيًّا.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، في قوله:{الْحِكْمَةَ}
(1)
تفسير البغوي (6/ 287).
(2)
الزمخشري (5/ 11).
(3)
وبمثله قال الهمذاني بسنده عن مجاهد: وينظر: أيضًا تفسير مجاهد (504).
[لقمان: 12]، قال: القرآن
(1)
.
- قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: الحكمة: الأمانة
(2)
.
(3)
.
وقال الفخر الرازي (ت: 606 هـ): «وَقَوْلُهُ: {الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]:
الحكمة: عِبَارَةٌ عَنْ تَوْفِيقِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، فَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ تَوْفِيقَ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ فَقَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ»
(4)
.
وقال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «وقال سعيد بن المسيب: كان من سودان مصر ذا مشافر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النّبوّة»
(5)
.
وقال ابن قتيبة
(6)
(ت: 276 هـ): «لم يكن نبيًّا في قول أكثر النّاس وكان رجلًا صالحًا»
(7)
.
وقال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هُوَ نَبِيٌّ أَمْ رَجُلٌ صَالِحٌ؟
فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ»
(8)
.
(1)
وتعريف مجاهد للحكمة بأنها القرآن لا يعني ذلك أن لقمان قد أُتيَ القرآن، ولكن نقل ابن جرير تعريف مجاهد للحكمة، يعني به تعريف مجاهد لها على العموم. الباحث.
(2)
جامع البيان (18/ 545 - 549).
(3)
نظم الدرر (15/ 156).
(4)
التفسير الكبير (الفخر الرازي)(ص 128).
(5)
عمدة القاري (19/ 111).
(6)
ابن قتيبة: (ت: 276 هـ) - العلامة الكبير، ذو الفنون أبو محمد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي، أديب فقيه محدث مؤرخ عربي. صاحب التصانيف، له العديد من المصنفات أشهرها عيون الأخبار، وأدب الكاتب وغيرها. نزل بغداد، وصنف وجمع، وبعد صيته، قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة ديِّنًا فاضلًا.
سير أعلام النبلاء. بتصرف (3/ 297 - 298).
(7)
عمدة القاري (19/ 111).
(8)
فتح القدير (1/ 1142).
وقال ابن الجوزي (ت: 597 هـ): «قال تعالى: {الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْفَهْمُ وَالْعَقْلُ، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ.
وَالثَّانِي: النُّبُوَّةُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
القول الأول: أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
وَالقول الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ. هَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُمُ الْوَاحِدِيُّ، وَلَا يُعْرَفُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ عِكْرِمَةُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ»
(1)
.
وقال ابن سعدي (ت: 1376 هـ): «وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، هَلْ كَانَ لُقْمَانُ نَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا صَالِحًا؟ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ»
(2)
.
ويقول رحمه الله في موضع آخر:
وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة أنها العلم بالأحكام، وحكمها ومناسباتها
(3)
.
ويقول رحمه الله تعالى أيضًا:
فقد يكون الإنسان عالماً ولا يكون حكيماً، وأما الحكمة فهي مستلزمة للعلم بل وللعمل؛ ولهذا فُسِّرت الحكمة بالعلم النافع، والعمل الصالح
(4)
.
وقال القرطبي (ت: 671 هـ): «وقال سعيد بن المسيب: أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة؛ وعلى هذا جمهور أهل التأويل أنه كان وليًّا ولم يكن نبيًّا. وقال بنبوته عكرمة والشعبي؛ وعلى هذا تكون الحكمة النبوة.
والصواب أنه كان رجلًا حكيمًا بحكمة الله -تعالى- وهي الصواب في المعتقدات والفقه في
(1)
ابن الجوزي (6/ 318).
(2)
تفسير ابن سعدي (1/ 648).
(3)
تفسير ابن سعدي (1/ 649).
(4)
تفسير ابن سعدي (1/ 648).
الدين والعقل»
(1)
.
وقال القاسمي (ت: 1332 هـ): «على قول الجمهور: أنه حكيم» ، و «على قول: عكرمة أنه نبي»
(2)
.
وقال أبو حيان (ت: 745 هـ): «والأكثرون على أنه لم يكن نبيًّا»
(3)
.
وقال الطاهر بن عاشور (ت: 1393 هـ): «وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَنَّ لُقْمَانَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ حَكِيمًا أَوْ (نَبِيئًا)
(4)
. فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: كَانَ حَكِيمًا صَالِحًا. وَيَظْهَرُ مِنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّتِهِ هَذِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْتَنَّ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ وَلَا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ يُومِئُ إِلَى أَنَّهُ أُلْهِمَ الْحِكْمَةَ وَنَطَقَ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ تَعْلِيمُهُ لِابْنِهِ قَالَ تَعَالَى وَهُوَ يَعِظُهُ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لَا تَبْلِيغَ تَشْرِيعٍ»
(5)
.
وابن عاشور وضع الأمور في نصابها، فبعد أن بَيَّنَ اختلاف السلف في نبوته وذكر رأى الجمهور مرجحًا له، أتى بما يثبت ويؤيد ترجيحه لرأي الجمهور بعدم نبوة لقمان، فقال: لِأَنَّهُ لَمْ يُمْتَنَّ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ وَلَا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وقال: قال تعالى: {وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان: 13] وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ لَا تَبْلِيغَ تَشْرِيعٍ، فيكون بذلك قد أتى بحجة دامغة تدلل على ما ذهب إليه، والحمد لله رب العالمين.
وقال صديق حسن خان القِنَّوجِي: (ت: 1307 هـ)
اختلفوا هل هو نبي أم رجل صالح؟
ذهب أكثر أهل العلم على أنه ليس بنبي، ولم يقل بنبوته إلا عكرمة فقط مع أن الراوي لذلك
(1)
القرطبي (14/ 56).
(2)
القاسمي (13/ 4796).
(3)
أبو حيان (7/ 186).
(4)
نَبِيئًا، بقراءة نافع المدني، وبها يقرأ أهل المغرب العربي.
(5)
الطاهر بن عاشور (22/ 149).
عنه جابر الجعفي وهو ضعيف جدًا
(1)
.
قال شيخنا الفقيه العلامة ابن عثيمين رحمه الله: (ت: 1421 هـ)
الصحيح أنه ليس بنبي، وأن الله تعالى آتاه الحكمة، وهي موافقة الصواب مع العلم. وقولنا مع العلم بالتبيان، وإلا فلا صواب إلا بعلم
(2)
. والصواب أنه ليس من الأنبياء، وإنما هو رجل آتاه الله الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرًا
(3)
.
وقال الشيخُ العلامة عبد الرحمن البراك: (م)
المشهورُ عندَ أهلِ العلمِ أنَّه وليٌّ وعبدٌ صالحٌ، وليسَ في القصَّة ما يدلُّ على النُّبوَّةِ، {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]، والحكمةُ تُطلَقُ على النُّبوَّةِ وعلى ما دونها مِن العلمِ، {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]
(4)
.
وقال مصنفو التفسير الميسر
(5)
:
ولقد أعطينا عبدًا صالحًا من عبادنا (وهو لقمان) الحكمة، وهي الفقه في الدين وسلامة العقل والإصابة في القول
(6)
.
(1)
فتح البيان في مقاصد القرآن، للقنوجي،:(5/ 296).
(2)
لعل الصواب أن يقال: عن علم، لأن الصواب ناشئ عن العلم وليس به، ولعله تصحيف لأنه منقول عن شريط مسجل، أو أنه سبق لسان من شيخنا الفقيه رحمه الله تعالى. الباحث.
(3)
فتاوى: نور على الدرب: شريط رقم: (40)، تصنيف موضوعي: القرآن وعلومه
(4)
فتوى رقم: (4238) عن موقعه الرسمي بتاريخ: 19/ 3/ 1440 هـ
(5)
التفسير الميسر أعده نحبة من العلماء، بإشراف وطباعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية، الطبعة الثانية، مزيدة ومنقحة، 1430 هـ - 2009 م
(6)
التفسير الميسر، تفسير سورة لقمان:(412).
فتاوى بعض المجامع العلمية:
أ- اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية:
سئلت اللجنة: هل لقمان نبي أم رجل من الصالحين؟
فأجابت: لقمان عبد صالح آتاه الله الحكمة وليس نبيًا، قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان: 12]. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
(1)
.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
(2)
.
ب-دار الإفتاء المصرية:
المتفق عليه أن الله آتاه الحكمة وسجل وصيته فى القرآن إشادة بها وتقريرًا لها، وجمهور العلماء على أنه كان وليًا ولم يكن نبيًا، وقال بنبوته عكرمة والشعبي لأنها هى الحكمة التى آتاها الله إياه، ولكن الصواب كما ذكره القرطبي فى تفسيره: أنه رجل حكيم بحكمة الله تعالى
(3)
. ومهما يكن من شئ فلا يضرنا الجهل بذلك، والمهم هو الاقتداء بسيرته والأخذ بحكمته
(4)
.
يقول الباحث:
وبعد بيان القول الأول القاضي (بنفي النبوة عن لقمان)، يجتمع لدينا روايات كثيرة وأقوال عديدة من أقوال أئمة التفسير، وقد نقلوا أقوال المفسرين من التابعين وغيرهم، ومفادها ومختصرها كالتالي:
قال ابن كثير: «عبدًا صالحًا من غير نبوة» ، وقال أيضًا:«لم يكن نبيًّا» (جمهور السلف).
وقال البيضاوي: «ولم يكن نبيًّا» (الجمهور)، ووافقه كل من النسفي، والقسطلاني، وأبو السعود.
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة، السؤال الثالث من الفتوى رقم (18024 (، (2/ 446).
(2)
بكر أبو زيد (عضو) - عبد العزيز آل الشيخ (عضو) - صالح الفوزان (عضو) - عبد الله بن غديان (عضو) -
…
الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
(3)
يُنظر: تفسير القرطبي: (14/ 59).
(4)
يُنظر: مصدر الفتوى: موقع دار الإفتاء المصرية، رقم الفتوى: 9211، عنوان الفتوى: هل لقمان نبى أم ولى، القسم التابعة له: الإيمان بالرسل، اسم المفتي: دار الإفتاء المصرية
قال البغوي: (الحكمة): يعني: العقل .. الخ، ولم يكن نبيًّا:(واتفق العلماء) إلا عكرمة تفرد بهذا القول.
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «عن ابن عباس (لم يكن نبيًّا)، ولا ملكًا» ، (أكثر الأقاويل).
وقالَ الطَّبَرِيُّ: (الحكمة): الفقه في الدّين .. الخ، ورد عن مجاهدٍ قال: رجلًا صالحًا، ولم يكن نبيًّا
و (الحكمة)، ورد عنه فيها عدة أقوال:
* الفقه في الدين الخ .. من غير نبوّةٍ.
* الصواب.
* القرآن.
* الأمانة
(1)
.
وعن قتادة: (الحكمة): الفقه في الإسلام، ولم يكن نبيًّا، ولم يوح إليه.
وقال البقاعي: (الحكمة): العلم المؤيد بالعمل .. الخ.
وقال الفخر الرازي: (الْحِكْمَةَ): توْفِيقُ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ .. الخ.
وقال العَيْنِيُّ: عن ابن المسيب قال: أعطاه الله الحكمة ومنعه النّبوّة.
وقال ابن قتيبة: لم يكن نبيًّا.
وقال الشوكاني: ذَهَبَ (أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ) إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ. - وقال ابن الجوزي: (الحكمة): الْفَهْمُ وَالْعَقْلُ، قَالَهُ:(الْأَكْثَرُونَ).
وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وقال ابن سعدي: وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ.
وقال القرطبي: (الحكمة)، الصواب في المعتقدات .. الخ.
(1)
وينظر: تفسير مجاهد (504)، وكذلك جامع البيان (18/ 545 - 549).
وقال عن ابن المسيب: منعه النبوة، وعلى هذا (جمهور أهل التأويل) أنه كان وليًّا ولم يكن نبيًّا.
وقال القاسمي: «على قول الجمهور: أنه حكيم» .
وقال أبو حيان: لم يكن نبيًّا (الأكثرون).
وقال الطاهر بن عاشور: كَانَ حَكِيمًا صَالِحًا (الْجُمْهُورُ).
وقبل بيان القول الثاني وما ورد فيه من روايات، يجدر التنبيه إلى أن البيان السابق من أئمة التفسير بأن لقمان أوتي الحكمة ومنع النبوة، فيه: إجماع من (الجمهور) نقله أهل التفسير، ونُقِلَ (اتفاقُ أهلِ العلمِ) على ذلك، ويكفي أنه اختيار الحبر (ابن عباس) رضي الله عنهما.
وقال القنوجي: ذَهَبَ (أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ) إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ. إلا عكرمة فقط مع أن الراوي لذلك عنه جابر الجعفي وهو ضعيف جدًا.
قال العلامة ابن عثيمين: الصحيح (أنه ليس بنبي)، وأن الله تعالى آتاه الحكمة.
قال العلامة البراك: المشهورُ عندَ أهلِ العلمِ (أنَّه وليٌّ وعبدٌ صالحٌ)، وليسَ في القصَّة ما يدلُّ على النُّبوَّةِ.
قالت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية: (لقمان عبدٌ صالح آتاه الله الحكمة وليس نبيًا).
* قالت دار الإفتاء المصرية: (وجمهور العلماء) على أنه كان وليًا ولم يكن نبيًا.
ولقد وردت ألفاظ متقاربة جدًّا ومتشابهة وشبه متطابقة ومتوافقة، نبينها مقتضبة ومختصرة جدًّا، ليتضح الإجماع ويتبين للمتأمل بصورة جلية وواضحة أكثر لا تدع للتردد أو للشك مجالًا، على النحو التالي:
* (رأي الجمهور) قال به: ابن كثير، والبيضاوي، والقرطبي، وابن عاشور، والقاسمي.
* (أكثر الأقاويل) قاله: الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي.
* (الأكثرون) قاله: أبو حيان، وابن كثير، وابن الجوزي.
* (اتفق العلماء) قاله: البغوي.
* (قال أهل التأويل) قاله: الطبري.
* (قول أكثر الناس) قاله: ابن قتيبة.
* (أكثر أهل العلم) قاله: الشوكاني، والقنوجي
* (الصحيح) قاله: العثيمين
* (المشهور عندَ أهلِ العلمِ) قاله: البراك
* (وجمهور العلماء) قالته: دار الإفتاء المصرية.
القول الثاني: القول بنبوة لقمان:
- قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310 هـ) -بعد أن رجّح عدم نبوة لقمان-: «وقال آخرون: كان نبيًّا» .
ثم قال: «حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثني أبي، عن إسرائيل، عن جابرٍ، عن عكرمة، قال: كان لقمان نبيًّا»
(1)
.
- وقال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855 هـ): «وعند الحوتي عن عكرمة: كان نبيًّا، وهو قد تفرد بهذا القول»
(2)
.
- وقال الألوسي (1270 هـ): «وقال عكرمة والشعبي: كان نبيًّا والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه السلام ولم يكن نبيًّا»
(3)
.
- وقال ابن كثير (ت: 774 هـ) -بعد أن ساق جملة من الآثار التي تنفي نبوة لقمان- قال
(1)
جامع البيان (18/ 548).
(2)
عمدة القاري (19/ 112).
(3)
تفسير الألوسي (21/ 82 - 83).
(1)
.
- قال الشوكاني (ت: 1250 هـ): «حَكَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِنُبُوَّتِهِ إِلَّا عِكْرِمَةُ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ عَنْهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا»
(2)
.
- وقال البغوي (ت: 516 هـ): «واتفق العلماء على أنه كان حكيمًا، ولم يكن نبيًّا، إلا عكرمة فإنه قال: كان لقمان نبيًّا، وتفرد بهذا القول»
(3)
.
- قال الثعلبي (ت: 427 هـ): «واتفق العلماء على أنه كان حكيمًا ولم يكن نبيًّا إلا عكرمة فإنه قال: كان لقمان نبيًّا، وتفرد بهذا القول»
(4)
.
يوضح الباحث أن القول بنبوة لقمان مداره على قول عكرمة من رواية جابر بن يزيد الجعفي، كما سبق بيانه، ثم يتضح أكثر ببيان الأقوال سالفة الذكر -مختصرة-، وهي خمسة أقوال، وهي شبه متوافقة ومتطابقة، على النحو التالي:
1 -
ابن جرير يقول: عن جابر، عن عكرمة، قال:(كان لقمان نبيًّا).
2 -
وابن كثير يقول: إنما يُنقلُ (كونه نبيًّا) عن عكرمة -إن صح السند إليه-، عن جابر، وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي، وهو ضعيف.
(1)
تفسير ابن كثير (6/ 335).
(2)
فتح القدير (1/ 1142).
(3)
البغوي (6/ 287).
(4)
الثعلبي (11/ 37).
3 -
والعيني يقول: (عن عكرمة) كان نبيًّا، وهو قد (تفرد بهذا القول).
4 -
الألوسي يقول: وقال عكرمة والشعبي: كان نبيًّا.
5 -
الشوكاني يقول بعد أن نفى قول السدي والشعبي: وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِنُبُوَّتِهِ إِلَّا عِكْرِمَةُ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ عَنْهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.
ليتضح لنا بذلك وبصورة واضحة جلية أمران جليلان:
الأمر الأول: أن القول بنبوة لقمان مداره على قول عكرمة من رواية جابر بن يزيد الجعفي.
الأمر الثاني: بيان حال جابر الجعفي وهو: (ضَعِيفٌ جِدًّا).
من هنا لزم الأمر بيان أقوال علماء الجرح والتعديل في جابر الجعفي، ليتبين لنا صحة قول أهل التفسير فيما ما سبق بيانه من ضعفه.
أقوال علماء الجرح والتعديل في جابر بن يزيد الجعفي
(1)
:
- قال الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ): «جابر بن يزيد الجعفي (ضعفه الجمهور)، ووصفه الثوري والعجلي وابن سعد (بالتدليس)» . اهـ.
- وقال الحافظ أيضًا: «وقال ابن سعد: وكان (يدلس)، وكان (ضعيفًا) في روايته»
(2)
.
- وقال الحافظ (في التقريب) أيضًا: «ضعيف رافضي»
(3)
.
- وقال ابن حبان (ت: 354 هـ): «كان (سبئيًّا) من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول: إن عليًّا رضي الله عنه يرجع إلى الدنيا» .
(1)
هو: جابر بن يزيد بن الحارث أبو عبد الله الجعفي الكوفي من الخامسة، مات سنة سبع وعشرين ومائة.
ينظر: ترجمته في: الطبقات الكبرى (6/ 345)، والتاريخ الكبير (2/ 210)، والضعفاء والمتروكين (ص 28)، وضعفاء العقيلي (1/ 191)، والجرح والتعديل (2/ 497)، والمجروحين (1/ 208)، والكامل (2/ 113 ـ 120)، وتهذيب الكمال (1/ 430)، وميزان الاعتدال (1/ 379)، والكاشف (1/ 288)، وتهذيب التهذيب (2/ 46)، وتقريب التهذيب (137).
(2)
ابن حجر، تهذيب التهذيب (6/ 37 - 49).
(3)
من الخامسة (ت: 127 هـ) وقيل: (ت: 132 هـ) وينظر: الحافظ ابن حجر العسقلاني، طبقات المدلسين، (ص 53) تحقيق الدكتور/ عاصم بن عبد الله القريوتي، مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن، الطبعة: الأولى (1405 هـ).
- وقال جرير بن عبد الحميد (ت 188 هـ): «لا أستحل أن أحدث عن جابر الجعفي، وقال: هو (كذاب) يؤمن بالرجعة» .
- وقال زائدة: «رافضي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
- وقال محمد بن عثمان الذهبي (ت: 748 هـ) في نظم (أسماء المدلسين):
خذ المدلسين يا ذا الفكر
…
جابر الجعفي ثم الزهري
(2)
.
- وقال محمود المقدسي في نظم (أسماء المدلسين):
والقارئ الأعمش والزهري
…
وابن جريج جابر الجعفي
(3)
.
- وذكره الشيخ حماد الأنصاري (ت: 1418 هـ)، في (التدليس والمدلسون)
(4)
.
- قال الشيخ مقبل بن هادى الوادعي (ت: 1423 هـ): جوابًا عن سؤال وُجِّهَ إليه: السؤال- قالوا: إن الرافضة لا يكتب عنهم ولا كرامة، فكيف بجابر الجعفي، وكان يؤمن بالرجعة؟
الجواب: جابر بن يزيد الجعفي وثقه بعضهم، وهو يعتبر رافضيًّا، وقد كذبه أبو حنيفة فقال: ما رأيت أكذب منه، وكذبه غير أبي حنيفة، فجابر بن يزيد الجعفي ومن جرى مجراه لا يحتاج إليه، وقد ذكر الحافظ الذهبي-رحمه الله تعالى- في «الميزان» في ترجمة أبان بن تغلب ذكر: أن الشيعي إذا كان صدوق اللسان فإنه يؤخذ عنه، وأما الرافضة -الذين يسبون أبا بكر وعمر- قال: فلا يحتاج إليهم، قال: على أنني لا أعرف من هذا النوع أحدًا يحتاج إليه، بل الكذب شعارهم والتقية دثارهم، أو بهذا المعنى.
فالرافضة ليس هناك أحد منهم يُحتَاجُ إليه، حتى قال الأعمش: ما كنا نسميهم إلا الكذابين.
(1)
الضعفاء الكبير للعقيلي (1/ 196)، والمجروحين لابن حبان (1208)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 379).
(2)
ينظر: أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي- طبقات الشافعية الكبرى (5/ 218).
وينظر: القريوتي -مرجع سابق- (ص 69).
(3)
وينظر: القريوتي - مرجع سابق- (ص 70).
(4)
مجلة الجامعة الإسلامية- العدد الرابع سنة (1389 هـ)(ص 49).
وذكر نحو هذا شريك بن عبد الله النخعي، فلعل من روى لجابر يقصد أنه يعتبر بحديثه، فعلى كلٍّ فروايته لا تصلح في الشواهد والمتابعات
(1)
.
وبعد هذا البيان الشافي الكافي، فقد تأكد وتبين جليًّا بحمد الله وتوفيقه صحة قول ابن كثير والشوكاني في تضعيف جابر بن يزيد الجعفي، فلله الحمد أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا.
القول الراجح:
ومما يظهر جليًّا بعد النظر والتأمل في قولي الفريقين (القائلين بنبوته، والمانعين لها):
أن موطن الخلاف في نبوة لقمان إثباتًا ونفيًا، هو أن القائلين بنبوته وهم قلة، قد أولوا الحكمة بالنبوة، والقائلين بأنه: عبدٌ حكيمٌ أُوتي الحكمة ومُنِعَ النبوة وهم الأكثرون، تأولوا الحكمة بمعناها ومفهومها ومدلولها اللغوي والشرعي:
فمفهومها ومدلولها اللغوي هو: وضع الشيء في موضعه.
- قال أبو إسماعيل الهروي (ت: 481 هـ): «الحِكْمَة: اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه»
(2)
.
- وقال ابن القيِّم (ت: 751 هـ): «الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي»
(3)
.
ومفهومها ومدلولها الشرعي: ما تأولوه وبينوه من أقوال: بأن الحكمة هي: الفقه في الدين، والعقل، والأمانة، والقرآن، والعلم المقرون بالعمل الصالح، وغير ذلك.
من هنا كان إلقاء الضوء على كلام أهل التفسير في مفهوم ومدلول الحكمة في ضوء الآية
(1)
الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح، دار الآثار للنشر والتوزيع، صنعاء (طبعة 3، 1425 هـ -2004 م)، إجابة عن أسئلة فضيلة الشيخ أبي الحسن المأربي مصطفى بن إسماعيل السليماني - حفظه الله تعالى- السؤال رقم (48)(ص 53).
(2)
منازل السائرين (ص 78).
(3)
مدارج السالكين (2/ 449).
الكريمة، مع التوسع في إلقاء الضوء على رأي القائلين بنفي ومنع النبوة عن لقمان عليه السلام، من الأهمية بمكان، لأن عليه الأكثرين.
ومن المعلوم أن النبوة موهوبة وليست مكتسبة، ولذا لا تثبت النبوة لأحد بأدلة ظنية الدلالة، بل لا بد من ثبوتها بأدلة قطعية الدلالة، وذلك لعظم شأنها وجليل قدرها، وهذا في حدود البحث الضيق والاطلاع القاصر من تلك الدراسة لم يثبته أحد.
والذي يطمئن إليه القلب، وتميل إليه النفس بعد هذا البحث وذاك البيان، هو القول: بأن لقمان أوتي الحكمة، ومنع النبوة، هو القول الراجح والصحيح، وهو ما عليه جمهور السلف وأكثر أئمة التفسير، وأن القول بنبوة لقمان قول مرجوح، لم يقم عليه دليل قاطع، ولا برهان ساطع.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد وهو أعلى وأعلم بالصواب.
المبحث الثالث: المنهج التربوي كما تصوره موعظة لقمان الحكيم عليه السلام
وإذ نحن بصدد أنموذج لتناول دراسة التفسير التحليلي دراسة "تحليلية موضوعية" لآيات مختارة من القرآن الكريم، ألا وهي الآيات من 12 إلى 19 من سورة لقمان، فيتم هنا تناول تلك الدراسة في هذا المبحث مقسمة ومرتبة ترتيبًا أولويًا من حيث أهميتها وأوليتها وأولويتها من الناحية التعليمية والتربوية في ضوء موعظة لقمان الحكيم لولده ومقسمة على أربعة مطالب على النحو التالي:
المطلب الأول: الجانب العقدي.
المطلب الثاني: الجانب التعبدي.
المطلب الثالث: الجانب الأخلاقي.
المطلب الرابع: طبيعة العلاقة بين هذه الجوانب.
المطلب الأول: الجانب العقدي
ويندرج تحته مباحث عدة على نحو ما يلي:
أولاً: مفهوم العقيدة:
أ- مفهوم العقيدة لغة:
العقيدة في اللغة: من العقد؛ وهو الربط، والإبرام، والإحكام، والتوثق، والشد بقوة، والتماسك، والمراصة، والإثبات؛ ومنه اليقين والجزم. والعقد نقيض الحل، ويقال: عقده يعقده عقدًا، ومنه عقدة اليمين والنكاح. قال الله تعالى:{بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].
والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده.
والعقيدة في الدين: ما يقصد به الاعتقاد دون العمل؛ كعقيدة وجود الله وبعث الرسل. والجمع: عقائد وخلاصة ما عقد الإنسان عليه قلبه جازمًا به؛ فهو عقيدة، سواء كان حقًّا، أم باطلًا
(1)
.
(1)
الوجيز في عقيدة السلف الصالح. لعبد الحميد الأثري (ص 29).
ب- مفهوم العقيدة اصطلاحًا:
والعقيدة في الاصطلاح: هي الأمور التي يجب أن يصدق بها القلب، وتطمئن إليها النفس؛ حتى تكون يقينًا ثابتًا لا يمازجها ريب، ولا يخالطها شك.
أي: الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده، ويجب أن يكون مطابقًا للواقع، لا يقبل شكًّا ولا ظنًّا؛ فإن لم يصل العلم إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة.
وسمي عقيدة: لأن الإنسان يعقد عليه قلبه
(1)
.
ج- تعريف العقيدة الإسلامية:
العقيدة الإسلامية: هي الإيمان الجازم بربوبية الله تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، وأصول الدين، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم التام لله تعالى في الأمر، والحكم، والطاعة، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والعقيدة الإسلامية: إذا أطلقت فهي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الإسلام الذي ارتضاه الله دينًا لعباده، وهي عقيدة القرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان
(2)
.
ولا شك أن الشرك هو أشد الظلم وأعظمه، وأكبر الكبائر، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات على الإطلاق كما وصفه الله تعالى في وصية لقمان بقوله:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
(1)
الوجيز في عقيدة السلف، مرجع سابق (ص 30).
(2)
المرجع السابق نفسه.
ثانيًا: بيان العلة من تقديم لقمان النهي عن الشرك في موعظته لولده:
وفي بدء لقمان موعظته لولده بالنهي عن الشرك قبل الأمر بالتوحيد، علل جليلة من أهمها وأعظمها وأبينها ما يلي:
العلة الأول:
أراد لقمان أن يبين لولده أولًا ثم للمربين وسائر المصلحين ثانيًا أن التوحيد لا يسمى توحيدًا ولا يتحقق إلا باجتناب الشرك أولًا، فنبذ الشرك والتخلي عنه والبراءة منه ومن أهله شرط صحة في قبول جميع الأعمال ومنها وأولها التوحيد الذي هو حق الله على جميع العبيد، كما قال سبحانه:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
(1)
.
العلة الثانية:
أراد لقمان بيان وجوب تقديم التصفية على التربية والتخلية على التحلية، وهذه قاعدة عظيمة من قواعد التربية، فإذا أردنا أن نربي أبناءنا على التوحيد الخالص فلا بد أولًا من تصفية العقائد الشركية والكفرية وأمرهم بنبذها والبراءة منها ومن أهلها، ومن ثَمَّ نأمرهم بتحقيق التوحيد وإخلاص الوجه لله سبحانه، ومن أراد أن يزينهم بزينة الإيمان لا بد أولًا أن يخليهم من نواقضه ويجنبهم إياها ويبغضهم فيها ويداوم على تحذيرهم منها ويزجرهم عنها، ومن أراد أن يحليهم ويجملهم بالفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وجميل الفعال فلا بد أولًا أن
(1)
تفسير ابن كثير (6/ 106).
ينهاهم عن الرذائل ويجنبهم سيئ الفعال ورديء الأخلاق، وهذا ما فعله هذا العبد الحكيم لقمان مع ولده.
ولقمان عليه السلام هنا يوجه المربين والدعاة والمصلحين من بعده إلى خطر الشرك وعظم شأن التوحيد، وأن تصحيح المعتقد مقدم على كل أمر ذي بال في العملية التربوية، سواء كان في الجانب التعبدي، أو الجانب الأخلاقي، أو الجانب الدعوي، أو الجانب الاجتماعي، أو في غير ذلك من الجوانب التربوية والإصلاحية، وأن صلاح هذه الجوانب وإرساء قواعدها التربوية في نفوس الناشئة متوقف على سلامة وصحة المعتقد المتمثل في نبذ الشرك وتحقيق التوحيد كما تبين معنا ذلك آنفًا.
ولذا كان من حكمة لقمان عليه السلام أن بدأ موعظته لابنه بالنهي عن الشرك والتحذير منه قبل الأمر ببقية الفضائل من بر الوالدين وطاعتهما في المعروف ومراقبة الله وخشيته وبقية الفضائل الواردة في موعظته، وهذه هي قاعدة التخلية قبل التحلية، أو التصفية قبل التربية كما مر معنا وإنما تكرر ذلك الأمر لأهميته ومكانته.
قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. فالاستمساك بالعروة الوثقى لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت أولًا، وهو نبذ كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى والبراءة منه ومن أهله.
ثالثًا: بيان معنى الطاغوت:
قال ابن منظور: «الطاغوتُ: ما عُبِدَ من دون الله تعالى، وكلُّ رأْسٍ في الضلالِ طاغوتٌ .. »
(1)
.
وقال الإمام ابن القيم: «والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع»
(2)
.
(1)
لسان العرب (8/ 444).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 50).
وقال شيخنا الفقيه العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: «وأجمع ما قيل في تعريف الطاغوت: هو ما ذكره ابن القيم بأنه: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع»
(1)
.
ويقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «والطاغوت: عام في كل ما عبد من دون الله، فكل ما عُبد من دون الله، ورضي بالعبادة، من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت»
(2)
.
وقال ابن الجوزي: «فأما الطاغوت: فهو اسم مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد»
(3)
.
وقال الألوسي: «والطاغوت: يطلق على كل باطل من معبود وغيره»
(4)
.
وقال الإمام المحقق سليمان بن عبد الله
(5)
، رحمهما الله، في شرحه على «كتاب التوحيد» «الطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد»
(6)
. اهـ.
قال الإمام عبد الله بن عبدالرحمن أبو بطين: «اسم الطاغوت يشمل: كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلالة يدعو إلى الباطل ويحسنه، ويشمل أيضًا: كل ما نصبه الناس بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله، ويشمل أيضًا: الكاهن والساحر وسدنة الأوثان»
(7)
. اهـ.
(1)
القول المفيد (1/ 10).
(2)
الدرر السنية (1/ 161).
(3)
زاد المسير (2/ 125).
(4)
روح المعاني (5/ 55).
(5)
سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (1200 هـ-1233 هـ/ 1818 م).
من آل الشيخ، فقيه سلفي من أهل نجد من حفدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد بالدرعية عام 1200 هـ. كان بارعًا في التفسير والحديث والفقه، وشى به بعض المنافقين إلى إبراهيم باشا بن محمد علي بعد دخوله الدرعية واستيلائه عليها فأحضره إبراهيم، وأظهر بين يديه آلات اللهو والمنكر إغاظة له، ثم أخرجه إلى المقبرة وأمر العساكر أن يطلقوا عليه الرصاص جميعًا فمزقوا جسمه -رحمه الله تعالى- وكان ذلك عام (1233 هـ/ 1818 م). وينظر: - الشاملة.
(6)
تيسير العزيز الحميد (34).
(7)
مجموعة التوحيد (500).
وقال العلامة الفقيه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى: «الطاغوت هو: كل ما خالف حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن ما خالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم، وإليه يرجع الأمر كله وهو الله. قال الله تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]
(1)
. اهـ.
ومن خلاصة ما سلف يتبين أن الشرك بالله هو أعظم الظلم وأن الكافرين كما وسمهم الله بقوله سبحانه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
ومن هنا يتضح لدينا ويتبين لنا أن الكفر هو الظلم والكافر هو الظالم، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والكافر وَضَعَ العبوديةَ في غير موضعها وصَرَفَها للأنداد، فالكفار يؤمنون بالجبت والطاغوت ويكفرون بالله تعالى، والكافر عَبَدَ المخلوق وهجر عبادة الخالق سبحانه.
وفي ضوء ما مضى يتأكد لنا أن من أهم الواجبات المتحتمات، ومن أعظم وأَجَلِّ المهمات؛ أن يعرف العبد معنى الشرك وخطره وأقسامه حتى يتم توحيده، ويسلم له إسلامه، ويصح إيمانه.
فإذا كان الشرك كما وُصِفَ، فإنه من الواجبات المتحتمات ومن أهم المهمات التي يتعين على المسلمين عمومًا والمربين والمصلحين والدعاة خصوصًا التعرف عليه وعلى أقسامه وأضراره ومفاسده وما يترتب على الوقوع والولوج فيه والتلبس به من أحكام ومفاسد ومخاطر وسوء عاقبة في الدارين، ومن ثم توجيه الناشئة وتعليمهم مخاطره ومساوئه وما يترتب على الوقوع فيه من سوء العاقبة وسوء المصير في دار السعير، ثم تنفيرهم منه وتبغيضهم فيه، وأمرهم وحثهم على نبذه وهجرانه وأهله والبراءة منه ومن أهله، فهذه هي التخلية والتصفية، ثم تليها التحلية والتربية على التوحيد الخالص وتوجيه الناشئة وتعليمهم العقيدة الإسلامية الصافية الخالصة الصحيحة الخالية من شوائب الشرك والبدع والمحدثات، وأمرهم بوجوب لزوم
(1)
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (1/ 39).
تحقيق التوحيد قولًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا، وصرف العبادة كلها لله تعالى، ولأن العبادة لا تسمى عبادة ولا تصح إلا مع التوحيد، وذلك حتى يتم توحيدهم، ويسلم لهم إسلامهم، ويصح إيمانهم وانقيادهم وعبوديتهم لله الواحد القهار.
وإن العناية بتعليم عقيدة التوحيد الخالص لعموم الخلق ودعوتهم إليها ولا سيما الناشئة منهم، هو نهج النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين، ومن بَعدهم وعلى نهجهم في كل زمان سار الأئمة الأعلام من العلماء ورثة الأنبياء والسادة المصلحين الحنفاء والمربين النجباء، فكانوا يبتدرون الناس بالدعوة إلى توحيد الله وإفراده سبحانه بالعبودية وترك عبادة ما سواه وإصلاح العقائد، ثم بعد ذلك يعلمونهم ويأمرونهم ببقية شرائع دين الله تعالى.
رابعًا: بيان أن الدعوة إلى التوحيد هو نهج جميع النبيين والمرسلين:
ولقد بَيَّنَ الله في كتابه أن رسالة النبيين والمرسلين جميعًا هي دعوة الخلق إلى توحيده وعبادته وإخلاص العمل له وحده سبحانه ونبذ عبادة ما سواه. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
فجميع النبيين المرسلين عليهم السلام بُعِثوا بهذه المهمة العظيمة والرسالة الجليلة، من لدن نوح عليه السلام وهو أول الرسل وحتى خاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم عليهم السلام أجمعين، ومن محاسن دعوة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام في هذا المضمار، عنايتهم بعقائد أبنائهم تربيةً وتعليمًا وتوجيهًا ودعوةً:
فهذا نوح عليه السلام أول رسل الله لأهل الأرض يهتف في فلذة كبده وثمرة فؤاده محذرًا له
من الكفر وعاقبته ومن الكافرين ومغبة صحبتهم ومعيتهم: {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].
وهذا خليل الرحمن يوصي بنيه، وكذلك من بعده ولده يعقوب عليهما السلام: قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، والخليل عليه السلام تتابعه ذريته من بعده على نهج التوحيد ونبذ الشرك، فهذه وصية يعقوب عليه السلام لبنيه وهو في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة، قال تعالى:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133].
وهذا يوسف الصديق عليه السلام يعلنها مدويةً بين جنبتي السجن، مخاطبًا رفقاء السجن داعيًا إياهم إلى نبذ الشرك وتحقيق التوحيد، معلنًا لهم بذلك نهجه الذي تربى عليه ونهج آبائه النبيين من قبله، قال تعالى:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 38 - 40].
- وهذا خاتم النبيين والمرسلين عليه الصلاة والسلام يبين عظم شأن التوحيد معلنًا بذلك للبشرية قاطبة إلى قيام الساعة أنه لا مساومة في أصل الدين وأساس الملة، وأن سيوف أهل الإسلام وعسكر الإيمان ما سُلت في وجوه جحافل الشرك وعسكر الشيطان فأهريقت دماء، وقطعت أجسام وصارت أشلاءَ، وأزهقت أرواحٌ ويُتِّمَ أطفالٌ، ورُمِّلَتْ نساءٌ، إلا حماية لجناب التوحيد وتحقيقًا لعبودية الواحد الأحد، وإعلاءً ورفعة لكلمة التوحيد التي هي أساس الملة
وأس الدين، فيقول صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله»
(1)
.
ويوجه الأمة لحمل هذه الراية -راية التوحيد-، فيؤهل أصحابه الكرام رضي الله عنهم لحمل هذه الرسالة الخالدة -رسالة التوحيد- وتبليغها للخلق، لتقوم الأمة بهذه المهمة الجسيمة والعظيمة تأسيًا به صلى الله عليه وسلم وبصحبه الكرام من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
* عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ:«إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَاب، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»
(2)
.
ولقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بترسيخ العقيدة في نفوس الناشئة خاصة، فها هو صلوات الله عليه وسلامه يوصي ابن عباس، رضي الله عنهما، فيقول له:«يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف»
(3)
.
(1)
البخاري (25)، ومسلم (22)، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني (1/ 766).
(2)
البخاري (7372)، ومسلم (19/ 29).
(3)
أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (2802 - الرسالة)، وأبو يعلى (2556)، والطبراني (12820)(12989)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (419)، والبيهقي في شعب الإيمان (1074)، والضياء في المختارة (3383) و (3386): من طريق قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: فذكره وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» .
ولا شك أن في ذلك تعليمًا للأمة بأسرها ودعوة للاقتداء به والتأسي بتربيته وتعليمه صلى الله عليه وسلم، والمعني بذلك أولًا هم العلماء والمربون من الدعاة وسائر الهداة المصلحين.
وفي عظيم فضل ومكانة نبذ الشرك وتحقيق التوحيد ما ورد في الحديث القدسي قال الله تبارك وتعالى: «يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة»
(1)
.
وفيما سبق من نصوص التنزيل دلالة واضحة على عظم شأن عقيدة التوحيد والعمل بها والدعوة إليها وتعليمها للناشئة وتربيتهم وتنشئتهم عليها وأنها نهج جميع النبيين المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
ومما لاريب فيه أن البدء بتعليم العقيدة التي هي أساس الملة وأسّ الدين، وغرسها في نفوس الناشئة منذ نعومة أظفارهم من أوجب الواجبات وأهم المهمات المتحتمات كما أسلفنا، وإن تعليم باقي الواجبات يأتي تبعًا لأساس الملة وأصل الدين، كما أنه يجب تقديمها على كل الواجبات كما بدأ لقمان في موعظته وتعليمه ولده.
خامسًا: أن تربية الناشئة على عقيدة التوحيد صمام أمان لهم:
فالاهتمام بتعليم الناشئة عقيدة التوحيد الخالص وتربيتهم على هذا المعتقد وتنشئتهم عليه هو من أعظم وأَجَلِّ أسباب حفظهم من الأفكار المنحرفة والعقائد الدخيلة، وأقرب لقبولها لموافقتها لفطرة الله التي فطرهم وجبلهم وصبغهم عليها، وإذا تربى الناشئة على عقيدة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، كان ذلك من أَجَلِّ وأعظم أسباب حفظهم من أمراض الشهوات وعلل ومزالق الشبهات ومن سبل الانحراف والانجراف
(1)
صحيح الترمذي للألباني (ح 3540)، وفي (السلسلة الصحيحة (127.
بكل صوره، وسلموا من الآفات الشركية والبدعية والفكرية والسلوكية والأخلاقية، لأن أهل السنة والجماعة وسطٌ بين الفرق الغالية والجافية، فكما أن أهل الإسلام فيهم الوسطية بين أهل الملل والشرائع، فكذلك أهل السنة والجماعة بين الفرق والطوائف المنسوبة للإسلام كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: عدولًا خيارًا، ولا شك أن الواقع يشهد لذلك.
سادسًا: بيان أهمية واجب المربين والمعلمين والقائمين على التعليم تجاه هذا الجانب العظيم:
فعلى المربين والدعاة والمصلحين والقائمين على مناهج التعليم في بلاد الإسلام فهم هذا الجانب العظيم فهمًا صحيحًا، وأن يولوه ما يستحق من العناية وما يجب عليهم تجاه الناشئة وتعليمهم عقيدة التوحيد الخالص، ووضع مناهج عقدية متلائمة مع مراحلهم العمرية تدريجيًّا منذ مراحل عمرهم الأولى، وذلك في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي متوافرة وبكثرة ولله الحمد، وذلك قبل أن تصل إلى فطرتهم يد الردى فتغير وتبدل ما جبلوا وما فطروا عليه من معالم التوحيد الخالص.
(1)
.
أول وصايا لقمان لابنه:
بعد هذا البيان يتبين لنا أن لقمان عليه السلام لما ابتدر ابنه بتصحيح المعتقد وتأسيس الملة بهدم الشرك وبيان معالم التوحيد، لم يأت ببدع من القول؛ بل وافق بحكمته التي آتاه الله نهج النبيين والمرسلين عليه الصلاة والسلام وسائر عباد الله المصلحين.
فكان في طليعة موعظته ووصاياه لابنه بأن حذره من الشرك ونهاه عنه، فالنهي عن الشرك
(1)
تحفة المودود (ص 231).
متضمن لتحقيق التوحيد، كما أسلفنا وبينا، قال ربنا تبارك وتعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
والتوحيد هو أول واجب على المكلفين، وبالتالي يكون أول واجب على المربين والدعاة والمصلحين، هو غرس عقيدة التوحيد في نفوس الناشئة وهو أول ما ابتدأ به لقمان مع ولده.
سابعًا: بيان مواعظ لقمان في الجانب العقدي:
الوصية الأولى من وصايا لقمان لابنه في الجانب العقدي (التحذير من الشرك)
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]. وفي ضوء بيان وصية لقمان السابقة نعرج على جوانب مهمة إيضاحًا لتلك الوصية العظيمة:
الجانب الأول: بيان معنى الشرك لغة وشرعًا:
أ- معنى الشرك لغة:
قال ابن فارس: «الشين والراء والكاف أصلان، أحدهما يدلّ على مقارنة وخلافِ انفرادٍ، والآخر يدلّ على امتداد واستقامة. ومادة الشرك لها أصلان:
الأصل الأول: الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، يقال: شاركت فلانًا في الشيء إذا صرت شريكَه، وأشركت فلانًا إذا جعلته شريكًا لك.
وأما الأصل الآخر: فالشرك لَقَمُ الطريق، وهو شراكه أيضًا»
(1)
.
ب- معنى الشرك شرعًا:
(2)
.
(1)
مقاييس اللغة (3/ 265) مادة (شرك (.
(2)
تيسير الكريم الرحمن (2/ 499).
الجانب الثاني: إيضاح مفهوم الشرك الأكبر وبيان حقيقته في كلام علماء الأمة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئًا من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك به»
(1)
. اهـ.
(2)
. اهـ.
فمن سوَّى بين الخالق والمخلوق فيما هو من خصائص الرب فهو مشرك.
(3)
. اهـ.
قال الإمام الصنعاني: «فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له
(1)
الاستقامة (1/ 344).
(2)
الجواب الكافي (ص 152 - 153).
(3)
القول السَّديد في مقاصد التَّوحيد (ص 54).
والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده واللجوء إلى الله والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات، ومن فعل ذلك لمخلوق حي أو ميت أو جماد أو غيره، فهذا شرك في العبادة»
(1)
. اهـ.
وقال العلامة الإمام عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: «فمن صرف لغير الله شيئًا من أنواع العبادة، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلهًا، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فرَّ من تسمية فعله ذلك تألهًا وعبادة وشركًا، ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها.
فالشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمنًا مسبة للرب، وتنقصه وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته توسلًا، وتشفعًا، وتعظيمًا للصالحين، وتوقيرًا لهم ونحو ذلك، فالمشرك مشرك شاء أم أبى»
(2)
. اهـ.
الجانب الثالث: بيان لأول وصايا لقمان في ضوء كلام أهل التفسير:
(3)
. اهـ.
وكأن ابن عاشور يريد أن يؤكد قاعدة التخلية قبل التحلية والتصفية قبل التربية وقد مرَّ بنا ذلك منذ قليل.
ويقول ابن عاشور: «وفَائِدَةُ ذِكْرِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا كَانَ لِتَلَبُّسِ ابْنِهِ بِالْإِشْرَاكِ، وَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ابْنَ لُقْمَانَ كَانَ مُشْرِكًا فَلَمْ يَزَلْ لُقْمَانُ يَعِظُهُ حَتَّى آمَنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْوَعْظَ زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ
(1)
تطهير الاعتقاد (ص 8).
(2)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 298 - 299).
(3)
التحرير والتنوير (22/ 155).
فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]، وَيُعْرَفُ الْمَزْجُورُ عَنْهُ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْمَوْعِظَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الزَّجْرَ هُنَا عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَلَعَلَّ ابْنَ لُقْمَانَ كَانَ يَدِينُ بِدِينِ قَوْمِهِ مِنَ السُّودَانِ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى لُقْمَانَ بِالْحِكْمَةِ وَالتَّوْحِيدِ أَبَى ابْنُهُ مُتَابَعَتَهُ فَأَخَذَ يَعِظُهُ حَتَّى دَانَ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَصْلُ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ عِنْدَ مُقَارَبَةِ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَنْهِيِّ»
(1)
. اهـ.
(2)
. اهـ.
يقول عبد الكريم الخطيب
(3)
: «وقد حذر لقمان ابنه من الشرك، لأنه ليس هناك ذنب أعظم
(1)
التحرير والتنوير (22/ 155).
(2)
ابن سعدي (6/ 1351).
(3)
عبد الكريم محمود يونس الخطيب. باحث معروف، ومفسر، ولد في السابع عشر من مارس (مايو)(1328 هـ)(1910 م)، في قرية «الصوامعة غرب» التابعة لمركز طهطا بمديرية جرجا، محافظة سوهاج من صعيد مصر. تعلّم في كتّاب القرية، فحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالمدرسة الأولية بالقرية، ثم بمدرسة المعلمين بسوهاج في عام (1925 م)، وتخرّج فيها سنة (1928 م)، ليعمل مدرسًا بالمدارس الأولية في منطقته. توفي في صفر سنة (1406 هـ، عام 1985 م).
أهم المراجع:
1 -
إتمام الأعلام، د/ نزار أباظة ومحمد رياض المالح، دار صادر -ط 2 - بيروت، (2003 م).
2 -
تتمة الأعلام للزركلي، محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم (م 1/ 317).
3 -
المستدرك على تتمة الأعلام للزركلي (197: 3).
وأقبح منه، وليس هناك بعده ظلم أشد منه، فالشرك أعظم خطر يتهدد الإنسان ويجعله في مهب الريح عند غضب الله تعالى، والشرك ظلم عظيم، أمّا أنه ظلم فلأن فيه وضع الشيء في غير موضعه، وأما أنه «عظيم» فلما فيه من التسوية بين المنعم الحقيقي الله سبحانه، وبين من لا نعمة له ولا عبادة وهي الأصنام والأوثان»
(1)
. اهـ.
ويتابع ابن عاشور فيقول: «وَجُمْلَةُ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَتَهْوِيلٌ لِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ ظُلْمٌ لِحُقُوقِ الْخَالِقِ
(2)
، وَظُلْمُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ إِذْ يَضَعُ نَفْسَهُ فِي حَضِيضِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَخَسِّ الْجَمَادَاتِ، وَظُلْمٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ إِذْ يَبْعَثُ عَلَى اضْطِهَادِهِمْ وَأَذَاهُمْ، وَظُلْمٌ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ بِقَلْبِهَا وَإِفْسَادِ تَعَلُّقِهَا.
وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ لُقْمَانَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»
(1)
التفسير القرآني (15/ 565) بتصرف.
(2)
يقول الباحث: الصواب: أن يُقال ظلم فيما بين العبد وبين الله تعالى: لأن الظلم إنما يقع من القوي على الضعيف، وهذا النقص والضعف محال في حق من له الكمال المطلق سبحانه، قال تعالى في حق بني إسرائيل:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57].
يقول الألوسي: «ظلم الإنسان للّه تعالى لا يمكن وقوعه البتة» انتهى. روح المعاني (1/ 265).
ويقول ابن عباس-رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا} [البقرة: 57] قال: «نحن أعز من أن نُظلم» انتهى. تفسير ابن أبي حاتم (1/ 116).
ويقول ابن القيم: «فَمَا ظَلَمَ الْعَبْدُ رَبَّهُ، وَلَكِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَمَا ظَلَمَهُ رَبُّهُ، وَلَكِنْ هُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ» انتهى. الجواب الكافي (ص 71).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»
(1)
. اهـ.
قال الشوكاني:» وَمَعْنَى وَهُوَ يَعِظُهُ يُخَاطِبُهُ بِالْمَوَاعِظِ الَّتِي تُرَغِّبُهُ فِي التَّوْحِيدِ وَتَصُدُّهُ عَنِ الشِّرْكِ {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِسْكَانِهَا. وَقَرَأَ حَفْصٌ بِفَتْحِهَا، وَنَهْيُهُ عَنِ الشِّرْكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَجُمْلَةُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَبَدَأَ فِي وَعْظِهِ بِنَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ غَيْرِهِ»
(2)
. اهـ.
(3)
. اهـ
قال الألوسي: «{لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13] قِيلَ: كَانَ ابْنُهُ كَافِرًا وَلِذَا نَهَاهُ عَنِ الشِّرْكِ، فَلَمْ يَزَلْ يَعِظهُ حَتَّى أَسْلَمَ، وَكَذَا قِيلَ فِي امْرَأَتِهِ وَقِيلَ: كَانَ مُسْلِمًا، وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ تَحْذِيرٌ لَهُ عَنْ صُدُورِهِ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وَالظَّاهِر أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ، وَيَقْتَضِيهِ كَلَامُ مسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ» ، وَالْكَلَامُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، أَوِ الِانْتِهَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، وَقِيلَ: هُوَ خَبرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
=ضعف، وله شاهد من حديث أنس عند أبي داود الطيالسي (3/ 579)، وقد حسنه به الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1927).
(1)
التحرير والتنوير (22/ 155)، يُنظر: شرح النووي على مسلم (2/ 207). والحديث أخرجه البخاري في "كتاب الإيمان""باب ظلم دون ظلم" حديث (32)، وأخرجه مسلم حديث (124)، وأخرجه الترمذي في: كتاب التفسير "باب ومن سورة الأنعام" حديث (3067).
(2)
فتح القدير (1/ 1142).
(3)
البحر المحيط (7/ 183).
شَأْنُهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ كَلَامِ لُقْمَانَ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي تَأْكِيدِ الْمَعْنَى، وَكَوْنُ الشِّرْكِ ظُلْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَكَوْنُهُ عَظِيمًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَنْ لَا نِعْمَةَ إِلَّا مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَمَنْ لَا نِعْمَةَ لَهُ»
(1)
. اهـ.
(2)
. اهـ.
(3)
. اهـ.
(4)
. اهـ.
يقول الإمام ابن القيم: «فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله؛ حيث جعل له من خلقه ندًا، وذلك غاية الظلم منه، وإن كان المشرك في الواقع لم يظلم ربه، وإنما ظلم نفسه»
(5)
. اهـ.
- وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك»
(6)
.
(1)
تفسير الألوسي (21/ 85).
(2)
تفسير الماوردي (4/ 334).
(3)
تفسير البيضاوي: (4/ 214).
(4)
ابن عطية (7/ 46).
(5)
ابن قيم الجوزية، الجواب الكافي، مكتبة الرياض الحديثة (1/ 83)(ط 1401 هـ).
(6)
البخاري (6001).
هل كان ابن لقمان كافرًا
؟
والقول بأن ابن لقمان كان كافرًا قال به أكثر أهل التفسير ونقل ابن عاشور أنه قول الجمهور -يعني: جمهور المفسرين- ثم علل ترجيحه بقوله: «وَأَصْلُ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ حِينَ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ عِنْدَ مُقَارَبَةِ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ مُنْتَفٍ عَنِ الْمَنْهِيّ» . اهـ.
وكذلك قيل: في امرأة لقمان بأنها كانت كافرة، فما زال بهما لقمان حتى أسلما، وهذا القول: -أي: في امرأة لقمان- قال به جمع من أهل التفسير، منهم على سبيل المثال لا الحصر، القرطبي والزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي والألوسي وغيرهم، وهذا القول ليس فيه أي إشارة في موعظة لقمان لا من قريب ولا من بعيد، مما يدل على غرابته أيضًا.
يقول القرطبي: «وذكر القشيري أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما»
(1)
.
ويقول الألوسي: «قيل: كان ابنه كافرًا ولذا نهاه عن الشرك، فلم يزل يعظه حتى أسلم، وكذا قيل في امرأته»
(2)
.
ومن القواعد المقررة عند أهل السنة أنه: «من دخل الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين» نص عليها غير واحد من أهل العلم منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: «وليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين، وإن أخطا وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين: لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة»
(3)
.
والاستدلال بكلام شيخ الإسلام على مانحن بصدده لا يتطابق من كل وجه، ولكن من جهة قاعدة:«ومن ثبت إسلامه بيقين: لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك» .
(1)
القرطبي (14/ 59).
(2)
الألوسي (21/ 85).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (12/ 466).
القول الراجح في القول بكفر ابن لقمان
والحقيقة أنه يصعب الجزم بذلك، أي: بـ «القول بأن ابن لقمان كان كافرًا» ، لأن دلالة القول به ظنية مأخوذة من فحوى موعظة لقمان لولده فحسب، وليس ثَمَّ دلالة قطعية تثبت دعوى كفر ابن لقمان حين وعظه تلك الموعظة، والكفر شأنه عظيم، وخطره وخَطبهُ أليم، وسوء عاقبته وخيمة، فلا يثبت إلا بدلالة قطعية الثبوت.
فالتوقف في ذلك أسلم، والقول بأنه لم يكن كافرًا قال به غير واحد من أئمة التفسير وهو أسلم وأحوط وأقرب للصواب، والله أعلم.
وإنما كان تحذير لقمان ولده من الشرك من باب الحرص على بقاء فطرته على التوحيد الخالص الذي جُبِلت وفُطِرت وخُلِقت عليه الخليقةُ، وليس من باب أنه متلبس بالشرك كما قال سبحانه:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
وحتى لا تلوث فطرته النقية السوية بلوثة الشرك ودرن الكفر، فالوصية من باب درهم وقاية خير من قنطار علاج، لا من باب كونه كان كافرًا، ولقمان قرن تحذير ولده من الشرك بعلته المقترنة به وحكمته اللازمة له كما بَيَّنَ ربنا ذلك بقوله سبحانه:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وكذلك فعل في كل وصاياه الواردة في السورة الكريمة، وفي هذا دلالة بينة على حكمة لقمان في وعظه وتعليمه وتربيته لولده.
ولا شك أن ذلك أدعى إلى قبول الولد نصح أبيه ووعظه وتعليمه والاستجابة الذاتية له.
ولا يخفى على كل مُرَبٍّ حكيم، أن التحذير من الشر قبل وقوعه من أنفع وأنجع الأساليب التربوية، إذ التربية بالتحذير من الشرك والأمر باجتنابه والبعد عنه قبل وقوعه أيسر من النهي عنه بعد التلبس به والوقوع والولوج فيه، إذ إنه قد لا يسلم من تلبس بالشرك أن تقتلع جذوره بالكلية، فقد تبقى بعض آثاره ورواسبه عالقة في النفس، وقد يشق عودتها للفطرة الأولى بيضاء نقية كما خلقها الله أول مرة، ولا شك أن الواقع يشهد لذلك.
وما حديث ذات أنواط عنا ببعيد فعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُنَيْنٍ
(1)
-وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ- ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»
(2)
.
قال الشوكاني ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنّ ذلك بمنزلة الشرك الصريح، وأنه بمنزلة طلب آلهةٍ غير الله تعالى
(3)
. والذي يبدو جليًّا لنا أنَّ الصحابة رضي الله عنهم أجمعين إنَّما كان طلبهم بأن يجعل النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذاتَ أنواط كما أن للمشركين ذاتَ أنواط، وهذا يشبه سؤالَ بني إسرائيل لموسى عليه السلام بقولهم:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، لا أنه هو الشرك بذاته؛ ذلك لأنَّ التشابه في وجهٍ أو فردٍ لا يلزم التشابه بينهما من كلِّ وجهٍ وفردٍ، وقد عذرهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر. ا هـ.
والمنتقل من الباطل الذي اعتاده، لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لأن الصحابة
(1)
غزوة حنين، وتسمى: غزوة أوطاس، موضعان بين مكة والطائف، فسميت الغزوة باسم مكانها، زاد المعاد: ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي، مؤسسة الرسالة:(1418 هـ/ 1998 م)، عدد الأجزاء: خمسة أجزاء.
وحنين: هو واد إلى جانب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلًا من جهة عرفات، هذا ما اعتمده الحافظ في الفتح وغيره، رشيد رضا، تفسير المنار (10/ 217).
يقول الباحث: وحنين اليوم لا تعرف بهذا الاسم بل تعرف بالشرائع العليا، وهي منطقة قبيل مكة بقليل، وهي دون المواقيت، وأصبحت عامرة بالسكان والمنشآت.
(2)
أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم:(2180)، وقال:«حسن صحيح» ، وأحمد في مسنده (21390)، وصححه الألباني في جلباب المرأة المسلمة (202).
صححه في رياض الجنة برقم (76).
(3)
الدر النضيد للشوكاني (9).
الذين طلبوا ذلك لم يكن مضى على إسلامهم إلا أيام معدودة لأنهم أسلموا يوم فتح مكة ثم خرج بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة حنين فوقعت تلك الوقعة وهم في طريقهم إلى حنين
(1)
.
مخاطبة لقمان ولده بالحكمة (يا بني):
(2)
.
قال الألوسي: «{يَابَنِي} تصغير إشفاق ومحبة لا تصغير تحقير»
(3)
.
قال البقاعي: «{يَابَنِي} خَاطَبَهُ بأحب ما يُخَاطَب به، مع إظهار الترحم والتحنن والشفقة، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح»
(4)
.
في معنى مخاطبة لقمان ولده بلفظ البنوة [يَا بُنَيَّ]:
لقد افتتح لقمان وصاياه التربوية والإيمانية بكلمة عظيمة تَرِقُّ الأفئدةُ بسماعها، وتَرتاح النُّفوس السوية بندائها، وهي كلمة استِعطافية تتلطِّف بها الأجواء الحوارية بين الأب وفلذة كبده وثمرة فؤاده، فتَلتقِطها أُذُنه صاغيةً لها وتَشق طريقها مسرعة إلى سويداء قَلبِه، فيُحسُّها في خلجات نفسه دفئًا وحنانًا وحبًّا، وراحة وسعادةً وطمأنينةً، فتنعقد بها أواصِر من الأُلفة وروابط من المحبة، وتتصل بها حِبال من المودِّة بين الابن وأبيه، إنها كلمة (يَا بُنَيّ)، والتي تفتح للبر والسمع والانقياد والطاعة والقبول لما يلقى على مسامعه أمرًا حتمي القبول، لازم الانصياع، ومِن التذمر والتسخط والتبرم أمرًا مستبعد الوقوع.
(1)
ينظر: فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد (147).
(2)
ابن كثير (6336).
(3)
الألوسي (21/ 85).
(4)
البقاعي (6/ 162).
وهذا الأسلوب الأبوي غاية في التلطف والتودد، مع ما فيه من بيان لما يحمله قلب الأب من معاني الحنان والمحبة والرحمة والمودة والشفقة لأحب الخلق إلى قلبه، وإنما خاطبه بألطف العبارات، بالاستِعطاف والرحمة والرأفة، وبأرق الألفاظ لتصبح الموعظة والنصيحة والوصية أدعى للقبول، وأجدى للنفع وأوقع في النفس.
وفي ذلك جذب لفؤاد ولده وفلذة كبده وترغيب وحث وتحفيز له على الاستجابة، واستمالة لفتح مسامع قلبه لتلقف ما يلقيه والده من مواعظ ونصائح بنفس راضية مطمئنة، وهي نصيحة صادقة خالصة من حظوظ النفس خالية من كل تهمة مبرأة من كل عيب ومن كل شائبة، لأنها صادرة من أب شفيق رحيم ودود حريص على صلاح ولده، فهي نصيحة خالصة صافية لا غش فيها إذ يعود نفعها أولًا على نور عينيه وفلذة كبده وثمرة فؤاده، ولا شك في تأثير تلك الموعظة في نفس الابن، وأنها وقعت بأسلوب مؤثر وفعال، وأثمرت في نفس ابنه دافعًا ذاتيًا يحمل الابن على الإذعان والانقياد لموعظة أبيه والامتثال لأمره، ولا شك أن ذلك كله راجع بعد توفيق الله لما حباه الله لهذا المربي الحكيم من الحكمة التي زكاه به ومدحه بها في كتابه الكريم، كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12].
يقول ابن رجب الحنبلي: «المواعظ سياط تضرب القلوب فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثير في حال وجوده؛ لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته وضعفه - فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر»
(1)
.
قال البقاعي: «وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ تَوْفِيَةِ حَقِّ الْحَقِّ تَصْحِيحَ الِاعْتِقَادِ وَإِصْلَاحَ الْعَمَلِ، وَكَانَ الْأَوَّلُ أَهَمَّ، قَدَّمَهُ فَقَالَ:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ} [لقمان: 13]، أَيْ:[لَا] تُوقِعِ الشِّرْكَ لَا جَلْيًّا وَلَا خَفِيًّا، زَادَ ذَلِكَ بِإِبْرَازِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ الْمُوجِبِ لِاسْتِحْضَارِ جَمِيعِ صفاتِ الْجَلَالِ، تَحْقِيقًا لِمَزِيدِ
(1)
لطائف المعارف (17).
الْإِشْفَاقِ. فَقَال: بِاللَّهِ، أَيِ: الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ الَّذِي لَا كُفُؤَ لَهُ، ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ:{إِنَّ الشِّرْكَ} [لقمان: 13] أَيْ: بِنَوْعَيْهِ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، أَيْ: فَهُوَ ضِدُّ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَظُلْمهُ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَاتٍ عَدِيدَةٍ جِدًّا، أَظْهَرُهَا أَنَّهُ تَسْوِيَةُ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ نِعْمَةً مِنْهُ أَصْلًا بِالْمَالِكِ الَّذِي لَهُ وُجُوبُ الْوُجُودِ، فَلَا خَيْرَ وَلَا نِعْمَةَ إِلَّا مِنْهُ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِقُرَيْشٍ وَكُلِّ سَامِعٍ عَلَى أَنَّ هَذِهِ وَصِيَّةٌ لَا يُعْدَلُ عَنْهَا، لِأَنَّهَا مِنْ أَبٍ حَكِيمٍ لِابْنٍ مَحْنُوٍّ عَلَيْهِ مَحْبُوبٍ، وَأَنَّ آبَاءَهُمْ لَوْ كَانُوا حُكَمَاءَ مَا فَعَلُوا إِلَّا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا عَلَيْهِ مَدَارُ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَهوَ الْأَمْنُ وَالْهِدَايَةُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ تِلْكَ الْآيَةُ كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»
(1)
.
وقوله سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} الظاهر أنه من كلام لقمان، لأنه حكيم أتى بالموعظة وعللها، شأنها كشأن مواعظه كلها، وأن سياق موعظة لقمان سياق متصل لم ينقطع كما بين ابن عاشور وغيره، والله أعلم.
الجانب الرابع: بيان أنواع الشرك:
والشرك ثلاثة أنواع:
الأول: الشرك الأكبر
وهو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائصه تعالى، وهو ثلاثة أنواع، يتعلق كل نوع بأنواع التوحيد الثلاثة:
1 -
الشرك في الربوبية.
2 -
الشرك في توحيد الأسماء والصفات.
3 -
الشرك في توحيد الألوهية.
(1)
نظم الدرر للبقاعي (6/ 162) بتصرف يسير.، والحديث أحرجه البخاري برقم (4498)، يُنظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/ 372).
قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: «فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد، وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقًا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه»
(1)
.
الثاني: الشرك الأصغر
تعريفه:
(2)
.
وقال الشيخ عبد العزيز السلمان: «هو كلّ وسيلة وذريعة يتطرّق بها إلى الشرك الأكبر»
(3)
.
الثالث: الشرك الخفي
تعريفه:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال عندي؟» قال: قلنا: بلى، قال:«الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل»
(4)
.
والشرك الخفي قد يكون أكبر، كما يكون أصغر كذلك، وذلك حسب البواعث الداعية عليه، و بحسب الاسترسال معه والمضي فيه.
وإن المعني في بحثنا هو الشرك الأكبر لخطره وما يترتب عليه من أحكام وأمور عظام، وهو المقصود من موعظة لقمان لولده؛ لأنه مخرج من الملة، وإنْ كان النهي عامًّا يشمل الشرك بنوعيه الأصغر والأكبر.
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص 43).
(2)
القول السديد (15).
(3)
الكواشف الجلية (321).
(4)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 30)، وابن ماجه في الزهد، باب: الرياء بالسمعة (4204)، والبيهقي في الشعب (5/ 334)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/ 329)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (30).
وإذا أردنا أن نتأمل حقيقة الخطب الجلل المترتب على الشرك الأكبر، فلنتدبر دعاء خليل الرحمن عليه السلام وتضرعه وإلحاحه على ربه أن يباعده ويجافيه عن الشرك هو وبنيه، ولقد بوَّب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد ما يدل على ذلك فقال في الباب الرابع: باب الخوف من الشرك، وذكر هذه الآية، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)} [إبراهيم: 35 - 36].
وإبراهيم عليه السلام خليل الرحمن ومن هو في مكانته ودرجته ورتبته، إنه كان أمة، وكان قدوة لهذه الأمة، وقد جعل الله قدوة للأنام، كما قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)} [النحل: 120]. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
الجانب العقدي الخامس: بيان عواقب الشرك الأكبر وما يترتب عليه من أحكام:
لما كان الشرك الأكبر أظلم الظلم ويترتب على المتلبس به أحكام شرعية عظيمة الخطب، وذلك حفظًا لضرورة الدين، وصيانة لجناب التوحيد، وتحذيرًا للعباد من عواقبه الوخيمة، ولا سيما الناشئة، وما يترتب عليه من شر محض في الدنيا، وخلود أبدي سرمدي في النار يوم التناد، كان بيان أهم تلك الأحكام واجب البيان، ومن أهمها وأبينها وأَجَلِّهَا ما يلي:
1 - الشرك محبط لجميع الأعمال بالكلية
قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} [الزمر: 65].
وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعام: 88].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].
وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17].
والآيات في هذا الشأن أكثر من أن تحصى ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
2 - والكافر متى لَقِيَ ربه مشركًا كافرًا فليس له مطمع ولا أمل في أن تناله المغفرة أبدًا، وهذا مما يدل على خطورة الشرك وخطورة الوقوع فيه والتلبس به:
فمن مات على الشرك فلا يدخل تحت الوعد بالمغفرة المترتب على مشيئة أرحم الراحمين والتي يدخل تحتها أصحاب سائر الكبائر والموبقات والذين ماتوا دون توبة، كما قال جل في علاه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
وكما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
وبمفهوم المخالفة إن لم ينتهوا عن الكفر فلن يغفر لهم ما قد سلف.
وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168 - 169].
3 - أن صاحبه محرم عليه الجنة وهو مخلد في النار:
فالشرك الأكبر يوجب لصاحبه الخلود في النار، خلودًا أبديًّا أي: على وجه التأبيد، ويحرم عليه الجنة ابتداءً وانتهاءً والعياذ بالله، ودلائل التنزيل في الكتاب العزيز والسنة المطهرة على ذلك كثيرة معلومة ومتوافرة، بل هي من الأحكام القطعية الدلالة المعلومة من دين الإسلام بالضرورة، ومن ذلك:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6].
وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»
(1)
.
4 - والشرك يبيح دم المشرك وماله:
وهذا حكم من أحكام الشريعة الثابتة بدلالة الكتاب والسنة مع مراعاة ضوابطه ولوازمه الشرعية، في ضوء أحكام الشريعة الغراء.
يُقال ذلك حتى لا يغتر أحد من السفهاء حدثاء الأسنان سفهاء العقول والأحلام ويتجرأ
(1)
صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات مشركًا دخل النار (1/ 94) (برقم: 93).
على إراقة الدماء وسفكها واستحلالها بنفسه بسوء فهمٍ للنصوص أو محاولة لَيِّ عنقها تبعًا للهوى واتباعًا للشيطان وحزبه، فإن مما عُلِمَ من دين الله بالضرورة أن إقامة الحدود أمر منوط بالسلطان.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»
(1)
.
ولقد اتفق أهل العلم على أن إقامة الحد أمر مختص بالسلطان أو نائبه.
وما عليه أهل السنة: أن إقامة الحدود حق للإمام لا غير، ولا يجوز لأحد كائنًا من كان أن ينازعه فيه.
قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى:«وقسْمة الفيء، وإقامة الحدود؛ إلى الأئمة ماضٍ، ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم»
(2)
. اهـ.
(3)
.
(1)
متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، (1/ 14)(برقم 25)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، (1/ 53)(برقم 20).
(2)
من «أصول السنة» لأحمد بن حنبل رواية عبدوس بن مالك العطار (ص 66)(برقم: 30) وينظره: عند اللالكائي في (2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 160).
(3)
القرطبي (2/ 245، 264).
ويقول ابن رشد: «وأما من يقيم هذا الحد -أي: جلد شارب الخمر- فاتفقوا على أن الإمام يقيمه وكذلك الأمر في سائر الحدود»
(1)
.
ومن حجج هؤلاء عدم وجود محاكم شرعية تقيم الحدود.
وفي ذلك يقول سماحة شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز -رحمه الله تعالى- جوابًا عن سؤال فيمن يُجافي المستأمنين، فذكر أنهم يحالون للمحكمة الشرعية، فسئل عما لو لم تكن هناك محاكم شرعية؟
(2)
. اهـ.
والواقع الأليم الذي تعيشه الأمة الآن خير شاهد على ذلك، فإن فئة من الشباب، حدثاء أسنانُهم سفهاء عقُولُهم، نصبوا أنفسهم ولاة أمر على العباد، ومنحوا أنفسهم صلاحية ومهام السلطان أو صلاحية الإمامة العظمى في المسلمين، فكل جماعة لها قوة وشكيمة في بقعة من الأرض تعطي لنفسها تلك الصلاحيات، وتقيم الحدود على أن لها الولاية الشرعية والإمامة العظمى، وأنها مخولة بإقامة الحدود والتعزيرات، فحصل من جراء ذلك مفاسد عظيمة مشهودة للعيان.
5 - والمشرك تحرم مناكحته:
يقول تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] الآية. ويقول تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. قال ابن كثير: «تحريم من الله تعالى على عباده المؤمنين نكاح المشركات، والاستمرار معهن»
(3)
. اهـ.
(1)
بداية المجتهد (2/ 233).
(2)
نقلًا عن «فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة» (ص 67 - 68).
(3)
ابن كثير (8/ 94).
6 - والمشرك يحرم أكل ذبيحته:
يقول تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] الآية. ويستثنى من ذلك أهل الكتاب، فحرائر نسائهم إن كن عفيفات طاهرات غير محاربات، وذبائحهم، حلال لأهل ملتنا، يقول سبحانه:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] الآية.
7 - من مات مشركًا فإنه لا يرث ولا يورث بل إن ماله يفيء إلى بيت مال المسلمين:
لحديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ»
(1)
.
8 - من مات مشركًا فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يستغفر له ولا يترحم عليه، ولا يقبر في مقابر المسلمين:
قال سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ
(1)
متفق عليه: رواه البخاري في الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم (برقم: 6764)، ومسلم في الفرائض، باب أول الكتاب (برقم: 1614).
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة: 113 - 114].
وقال سبحانه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84].
9 - المشرك يُحرم نعمتي الأمن والاهتداء:
ويقرر هذه الحقيقة قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82]. والظلم هنا هو الشرك كما مرّ معنا في آية لقمان، وبمفهوم المخالفة فالذين خالطوا إيمانهم بشرك ليس لهم الأمن وليسوا بمهتدين.
وقوله سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [آل عمران: 151].
(1)
.
10 - والمشرك المتلبّس بالشرك ظن بربّه ظن السوء:
قال ابن القيم: «فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم
(1)
إغاثة اللهفان (1/ 99).
ظنّوا به ظنّ السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظنّ لوحّدوه حقّ توحيده»
(1)
.
(2)
.
11 - والشرك يفسد العقول، فالمشركون من أفسد الناس عقولاً:
وقد قال الله فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
تأَمّل في نبات الأَرض وانظر
…
إِلى آثار ما صَنع المليكُ
عيونٌ من لُجَينٍ فاتراتٌ
…
على أَحداقها ذهبٌ سَبِيك
على قُضُب الزَّبَرْجَدِ شاهدات
…
بأَنَّ الله ليس له شريكُ»
(3)
. اهـ.
الوصية الثانية من وصايا لقمان لابنه في الجانب العقدي: مراقبة الله تعالى
قال تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]. ويندرج تحتها مباحث؛ منها:
أولًا: مفهوم مراقبة الله تعالى لغة وشرعًا:
أ- مفهوم المراقبة لغة:
مصدر مأخوذ من راقب يراقب مراقبة، وتدل على الانتصاب لمراعاة الشيء. والرقيب: الحافظ. وراقب الله في أمره: أي: خافه
(4)
.
(1)
إغاثة اللهفان (1/ 99).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 101).
(3)
الأبيات لأبي نواس، وينظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (1/ 943).
(4)
ينظر: مقاييس اللغة (مادة: رقب 2/ 47)، ولسان العرب (مادة: رقب 5/ 279 - 280).
ب- مفهوم المراقبة شرعًا:
قال ابن القيم: «المراقبة دوام علم العبد، وتيقّنه باطلاع الحق سبحانه على ظاهره وباطنه»
(1)
.
وقال القاسمي: «المراقبة هي ملاحظة الرقيب، وانصراف الهم إليه»
(2)
.
وقال المحاسبي: «المراقبة دوام علم القلب بعلم الله تعالى في السكون والحركة علمًا لازمًا مقترنًا بصفاء اليقين»
(3)
.
وسئل الحارث المحاسِبي أيضًا عن المراقبة فقال: «علم القلب بقرب الله تعالى»
(4)
.
ثانيًا: بيان لأهم معاني المراقبة الواردة في الآية الكريمة في ضوء كلام أهل التفسير:
قال ابن كثير: «هَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ قَدْ حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى
(5)
عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيم، لِيَمْتَثِلَهَا النَّاسُ
(1)
مدارج السالكين (2/ 67).
(2)
موعظة المؤمنين (451).
(3)
الوصايا (313).
(4)
إحياء علوم الدين للغزالي (4/ 297).
(5)
...... عبارة: (حكى الله) هذه العبارات التي يعبر بها بعض المفسرين أو الفقهاء أو غيرهم كثيرًا، وهي في كلام المتحدثين في دروسهم أكثر منها في مؤلفات المفسرين، لقدرة المؤلف على التصرف واختيار العبارات، بخلاف المتحدث فإنه يضطر في مواقف كثيرة إلى التعبير بعبارة موهمة أو يسبق لسانه أو يعتاد على عبارة قد تكون متضمنةً لأمر غير مشروع أو مشكوك في صحته أو نحو ذلك، وقَلَّ مَن يَسلَمُ مِن ذلك إلا من رحم الله.
رأي ابن عطية الأندلسي:
ولذلك اعتذر ابن عطية في مقدمة تفسيره، وذكر أنه قد يرد في تفسيره بعض العبارات التي اعتاد المفسرون على تكرارها مثل قولهم: حكى الله عن فلان كذا، ونحو هذه العبارة مما هو قريب منها. وخَرَّجها على أن جوازها يرتبط بالقصد منها، وليس المقصود منها نسبة هذه الصفات لله، وإنما نسبتها للآيات القرآنية. وقد ذكرها بقوله:«بابٌ في الألفاظ التي يقتضي الإيجازُ استعمالها في تفسير كتاب الله تعالى» فذكر أن الباعث على استخدامها طلب الإيجاز والاختصار من المؤلف. ثم قال تحت هذا العنوان: «اعلم أَنَّ القصد إلى إِيْجازِ العبارةِ قد يسوقُ المتكلِّمَ في التفسير إلى أَنْ يقولَ: خاطبَ اللهُ بهذه الآيةِ المؤمنين، وشَرَّفَ اللهُ بالذكرِ الرجلَ المؤمنَ من آل فرعونِ، وحكى اللهُ تعالى عن أُمِّ موسى أَنَّها قالت قُصِّيهِ، ووَقَّفَ اللهُ ذريةَ آدم على ربوبيتهِ بقولهِ:{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]، ونحو هذا من إِسنادِ أفعالٍ إلى الله تعالى لم يأتِ إسنادُها بتوقيفٍ من الشَّرعِ. =
وَيَقْتَدُوا بِهَا، فَقَالَ:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، أَيْ: إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الْخَطِيئَةَ لَوْ كَانَتْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ [مِنْ] خَرْدَلٍ.
وَقَوْلُهُ: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] أَيْ: أَحْضَرَهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَجَازَى عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8]. وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّةُ مُحَصَّنَةً مُحَجَّبَةً فِي دَاخِلِ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، أَوْ غَائِبَةٍ ذَاهِبَةٍ
= وقد استعملَ هذه الطريقةَ المفسرونَ والمُحدِّثونَ والفقهاءُ واستعملها أبو المعالي في الإرشادِ، وذكر بعضُ الأصوليينَ أَنَّهُ لا يَجوزُ أَن يُقالَ: حكى اللهُ، ولا مَا جَرى مَجراهُ». ثم قال رحمه الله:«وأَنا أَتَحفَّظُ منهُ في هذا التعليقِ جَهْدِي، لكنيِّ قَدَّمْتُ هذا البابَ لِمَا عَسى أَنْ أَقَعَ فيه نادرًا واعتذارًا عمَّا وَقَعَ فيه المُفسِّرونَ من ذلك» . ينظر: المحرر الوجيز (طبعة قطر)(1/ 63 - 67).
وقال ابن عباد في رسائله الكبرى: «وقد رأيت في مواضع من كتبكم شيئًا أردت أن أنبهكم عليه، وهو أنكم تقولون فيها: حكى الله عن فلان، وحكى عن فلان كذا، وقد يقع مثل هذا في كلام الأئمة، وهذا عندي ليس بصواب من القول؛ لأن كلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفاته تعالى قديمة، فإذا سمعنا الله تعالى يقول كلامًا عن موسى- عليه السلام مثلًا وعن فرعون، أو أمة من الأمم، فلا يقال: حكى عنهم كذا؛ لأن الحكاية تؤذن بتأخرها عن المَحكي، وإنما يقال في مثل هذا: أخبر الله تعالى، أو أنبأ، أو كلام معناه هذا مما لا يفهم من مقتضاه تقدم ولا تأخر» . ينظر: حاشية محقق المحرر الوجيز (طبعة قطر)(1/ 63)
…
وينظر: ملتقى أهل التفسير
…
بتاريخ. 11/ 4/ 1426 هـ.
* يقول الباحث:
والأسلم الذي لا شك فيه- استخدام الألفاظ الصحيحة- كالألفاظ الواردة في القرآن نحو قال الله، وكذلك الألفاظ الواردة بمعنى الإخبار والقصص فيقال: أخبر الله، وأنبأ الله، وقص الله، وذكر الله، ونحو ذلك، أو الألفاظ المستقاة من صفات الرب جل في علاه، وكذلك استخدام ما درج عليه السلف من ألفاظ (أعني: القرون الثلاثة) المزكاة على لسان من أنزل عليه القرآن عليه الصلاة والسلام.
* ويقول الباحث معتذرًا للإمام ابن كثير:
ولعل ابن كثير وجد لنفسه مندوحة وسعة وحجة في استخدام عبارة (حكى الله) ومثلها من الألفاظ، لاستخدام واستعمال مَن سبقه لها، أو على أن باب الإخبار عن الله تعالى أوسع من باب الصفات، وقد أشار إلى هذا المعنى غير واحد من أئمة أهل العلم المعتبرين كشيخ الإسلام ابن تيمية: في مجموع الفتاوى (60/ 142)، وتلميذه الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد (1/ 161).
* وما ذكره الباحث:
عملًا بالأكمل والأحسن والأتم، وسدًّا لذريعة التوسع في هذا الباب، ولا سيما في زمن فشا فيه الجهل، وعمّت فيه البلوى، وانتشرت فيه البدع والمحدثات، وعمّ فيه البعد عن مصادر التلقي المستقاة من مشكاة الوحي، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وهو أعلى وأعلم بالصواب.
فِي أَرْجَاءِ السَّمَاوَاتِ أَوِ الْأَرْضِ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهَا; لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا قَال:{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16] أَيْ: لِطَيْفُ الْعِلْمِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ دَقَّتْ وَلَطُفَتْ وَتَضَاءَلَتْ (خَبِيرٌ) بِدَبِيبِ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ»
(1)
.
وقال الطبري: «وَعَنَى بِقَوْلِهِ: (مِثْقَالَ حَبَّةٍ): زِنَةَ حَبَّةٍ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: إِنَّ الْأَمْرَ إِنْ تَكُ زِنَةُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ عَمِلْتَهُ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أَوْ فِي السَّمَوَاتِ، أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُوَفِّيَكَ جَزَاءَهُ، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
قَوْلِهِ: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] أَيْ: جَبَلٍ. {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] قَالَ: يَعْلَمُهَا اللَّهُ. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16] أَيْ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِهَا، خَبِيرٌ بِمُسْتَقَرِّهَا»
(2)
.
وقال أبو حيان: «{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] يوم القيامة، فيحاسب عليها.
{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} [لقمان: 16](يتوصل علمه إلى كل خفي){خَبِيرٌ} [لقمان: 16]: (عالم بكنهه)»
(3)
.
وقال الرازي: «{يَابُنَيَّ إِنَّهَا} [لقمان: 16]: أي: الحسنة والسيئة إن كانت في الصغر مثل حبة خردل، وتكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على الله.
فَقَوْلُهُ: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} [لقمان: 16] إِشَارَةٌ إِلَى الصِّغَرِ، وَقَوْلُهُ:[لقمان: 16] إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ، وَقَوْلُهُ:{أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ} [لقمان: 16] إِشَارَةٌ إِلَى الْبُعْدِ فَإِنَّهَا أَبْعَدُ الْأَبْعَادِ، وَقَوْلُهُ:{أَوْ فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 16] إِشَارَةٌ إِلَى الظُّلُمَاتِ فَإِنَّ جَوْفَ الْأَرْضِ أَظْلَمُ الْأَمَاكِنِ. وَقَوْلهُ:
(1)
ابن كثير (6/ 338).
(2)
الطبري (20/ 142).
(3)
أبو حيان (7/ 188).
{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: يَعْلَمُهَا اللَّهُ; لِأَنَّ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْعِلْمِ دُونَ حَالِ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءَ، وَيُظْهِرُهُ لِغَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ:{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] أَيْ: يُظْهِرُهَا اللَّهُ لِلإِشْهَادِ. وَقَوْلهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} [لقمان: 16](أَيْ: نَافِذُ الْقُدْرَةِ)، {خَبِيرٌ} [لقمان: 16] أَيْ: عَالِمٌ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ»
(1)
.
وقال ابن عطية: «وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ لُقْمَانَ إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ إِعْلَامَ ابْنِهِ بِقَدْرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى»
(2)
.
وقال ابن سعدي: «{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] الَّتِي هِيَ أَصْغَرُ الْأَشْيَاءِ وَأَحْقَرُهَا، {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] أَيْ: فِي وَسَطِهَا {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 16] فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهِمَا {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] لِسِعَةِ عِلْمِهِ، وَتَمَامِ خِبْرَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16] أَيْ: لَطِيفٌ فِي عِلْمِهِ وَخِبْرَتِهِ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى الْبَوَاطِنِ وَالْأَسْرَارِ، وَخَفَايَا الْقِفَارِ وَالْبِحَارِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَثُّ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ، وَالْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ، مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالتَّرْهِيبُ مِنْ عَمَلِ الْقَبِيحِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ»
(3)
.
وقال ابن الجوزي: «وَفِي قَوْلِهِ: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: يَعْلَمُهَا اللَّهُ، قَالَهُ أَبُو مَالِكٍ.
وَالثَّانِي: يُظْهِرُهَا، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
وَالثَّالِثُ: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِلْجَزَاءِ عَلَيْهَا. (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ) قَالَ الزَّجَّاجُ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِهَا (خَبِيرٌ) بِمَكَانِهَا.
(1)
الفخر الرازي (21/ 130).
(2)
ابن عطية (7/ 21).
(3)
ابن سعدي (6/ 1352).
وَهَذَا مَثَلٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْتِي بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8]»
(1)
.
(2)
.
(3)
.
وقال الرازي: «وَلَمَّا نَهَى لُقْمَانُ ابْنَهُ عَنِ الشِّرْكِ، نَبَّهَهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَخَّرَ
(1)
ابن الجوزي (6/ 322).
(2)
القاسمي (13/ 4801).
(3)
الشوكاني فتح القدير (1/ 1143).
عَنْ مَقْدُورِهِ شَيْءٌ؛ فَقَالَ: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} الآية»
(1)
.
ثالثًا: بيان لأهم الجوانب التربوية المستفادة من الآية الكريمة:
قال تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان: 16].
بعد إلقاء الضوء على بيان أهم ما ورد في الآية السابقة من معان في كلام أهل التفسير نلقي الضوء على أهم الجوانب التربوية المستفادة من الآية الكريمة:
1 -
فإن من جليل وصية لقمان لابنه ووعظه له، أن حثه على مراقبة الله تعالى في سره وجهره، وأعلمه بسعة علمه تعالى واطلاعه على خلقه، وأنه سبحانه قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأن المظلمة والخطيئة مهما بالغ العبد في إخفائها فإن الله تعالى يَعْلَمُهَا، ويُظْهِرُهَا، ويَأْتِي بِهَا يوم القيامة للحساب فيُوَفِّيَه جَزَاءَها.
2 -
وفي الآية الكريمة توجيه للمربين لسلوك مسلك لقمان في تربية الناشئة على مراقبة الله واستحضار سعة علمه واطلاعه على أحوال وأعمال عباده وإن دقت وخفيت على عموم خلقه، يقول الله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].
ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} [آل عمران: 5]، ولأن الله تعالى ما ذكر مواعظ لقمان لابنه في كتابه إلا لتكون نبراسًا يُحتذى، ومثالًا تربويًّا يُتأسى به، ومنهاجًا للتربية الإيمانية الصالحة التي تُحقق الطمأنينة، وتُنال بها سعادةُ الدارين، وهذه الوصايا وتلك القواعد التربوية ليست لولد لقمان فحسب، بل هي مثال وأنموذج تربوي متكامل الأركان تام البنيان موجه لجميع الأجيال المسلمة المتعاقبة على مرّ الأزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
(1)
الرازي (7/ 187).
3 -
وفيها دعوة إلى غرس تعظيم الله وإجلاله سبحانه وخشيته في قلوب الخلق جميًعا ولا سيما في قلوب الناشئة، وبث روح المراقبة له سبحانه سرًّا وجهرًا في تلك النفوس، وهو ما قصده لقمان في موعظته لولده، فبمراقبته تعالى يكون صلاح أمر الدنيا والدين، وبمراقبته تصلح حياة الخلق معه سبحانه ومع عباده، وتصلح ذواتهم، وبمراقبته تكبح النفس جماحها وجماح شهواتها وهواها، وبمراقبته تسارع الأنفس لأداء الأمانات لأهلها والواجبات لمستحقيها.
وبمراقبته يُبرُ الآباءُ، وتُوصلُ الأرحامُ، وتُصانُ الأعراضُ، وتُحقنُ الدماءُ ويستتب الأمن ويتحقق كمال عبودية رب الأرض والسماء.
وإذا فُقِدت المراقبةُ ضل الإنسانُ الطريقَ، و ضل عن سواء الصراط وضيع الأمانة، وإذا فُقِدت المراقبةُ، انتُهكت الحرماتُ، وسُفكت الدماءُ ونُهِبت الأموالُ، وضُيعت فرائضُ اللهِ تعالى وضاعت كذلك سائر حقوق عباده.
قال ابن القيم: «فمن راقب الله تعالى في سره حفظه الله في سره وعلانيته»
(1)
.
وقال مسروق بن الأجدع: «من راقب الله في خطرات قلبه؛ عصمه الله في حركات جوارحه»
(2)
.
وما تغيرت كثير من الأنفس وظهرت الخيانات وعم كثير من الفساد والبليات وحل البلاء في كثير من المجتمعات، إلا يوم أن عُدِمت مراقبةُ الله في نفوس الكثير من الخليقة والبريات.
فالمراقبة إذن من أعظم أسباب الإعانة على هجران المعاصي والمنكرات.
قال ابن الجوزي: «فقلوب الجهال تستشعر البُعْد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكُفَّ عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم
(1)
مدارج السالكين (2/ 96).
(2)
ينظر: صفة الصفوة (4/ 129).
المراقبة، وكفتهم عن الانبساط»
(1)
.
4 -
والتربية على مراقبة الله تعالى واستشعار عظمته والخوف منه سبحانه تعد من أهم مقومات التربية الإيمانية العملية للناشئة، وأسس ودعائم تعبيدهم لربهم وخالقهم سبحانه، ومن أهم أسباب زيادة إيمانهم وتحقيق الطمأنينة في نفوسهم، ومن أهم السبل المعينة على استقامتهم وسلوكهم الصراط المستقيم وثباتهم عليه.
(2)
.
ولذا كان من حكمة لقمان أن سعى لغرس روح المراقبة في نفس ولده وبث مكانة عظمة قدرة الله تعالى وسعة علمه واطلاعه سبحانه على أفعال عباده في مكنون نفس فلذة كبده وثمرة فؤاده، وذلك لأن المراقبة من أفضل الطاعات وأعلاها وأشملها وأزكاها.
قال ابن عطاء: «أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات»
(3)
.
رابعًا: بيان لأهم ثمار المراقبة:
ولمراقبة الله ثمار يانعة وقطوف دانية فمن أبرزها وأجلها:
1 - المراقبة تُحقِّقُ للعبد معية الله وتأييده
.
قال تعالى: {(127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
قال ابن كثير: «أي: معهم بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معية خاصة»
(4)
.
(1)
صيد الخاطر (236).
(2)
الجواب الكافي (70).
(3)
ينظر: إحياء علوم الدين (4/ 397).
(4)
تفسير ابن كثير (753).
2 - والمراقبة تُرَقي العبدَ لدرجة الإحسان
.
والإحسان كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(1)
.
قال ابن منظور: «من راقب الله أحسن عمله»
(2)
.
وقال القصري: «إذا عرف العبد مقام الإحسان، سارع إلى طاعته قدر وُسعِهِ، فهذا حال المحب الذي يعبد الله كأنه يراه»
(3)
.
وقال ابن المبارك لرجل: «راقب الله تعالى» ؛ فسأله عن تفسيرها، فقال:«كن أبدًا كأنك ترى الله تعالى»
(4)
.
3 - والمراقبة تثمر أفضل الأعمال لأن مقامها مقام جليل
.
قال ابن القيم: «والمراقبة تثمر عمارة الوقت، وحفظ الأيام، والحياء، والخشية، والإنابة»
(5)
.
4 - والمراقبة من أسباب حفظ الله لعبده
.
قال ابن القيم أيضًا: «وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته»
(6)
.
وقيل لبعضهم: متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهَلَكة؟ فقال: إذا علم أنَّ عليه رقيبًا
(7)
.
5 - وبالمراقبة يتحقق للعبد رضوان الله قال تعالى: {(6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ}
[الزلزلة: 8].
قال أهل العلم: «ذلك لمن راقب ربه تعالى، وحاسب نفسه وتزود لمعاده»
(8)
.
(1)
البخاري (50)، ومسلم (10).
(2)
لسان العرب (13/ 115).
(3)
ينظر: شعب الإيمان (2/ 371 - 372) بتصرّف.
(4)
ينظر: إحياء علوم الدين (4/ 297).
(5)
مدارج السالكين (2/ 28).
(6)
مدارج السالكين (2/ 66).
(7)
إحياء علوم الدين للغزالي (4/ 396).
(8)
ينظر: إحياء علوم الدين (4/ 398).
تابع المبحث الثالث
المنهج التربوي كما تصوره موعظة لقمان الحكيم عليه السلام
المطلب الثاني: الجانب التعبدي
ويشتمل على الوصايا التالية:
أولًا - الأمر ببر الوالدين.
ثانيًا - الأمر بإقام الصلاة.
ثالثًا - الأمر بلزوم الجماعة واتباع سبيل المؤمنين.
رابعًا - الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك.
أولاً: الأمر ببر الوالدين:
بيان معنى بر الوالدين لغة واصطلاحًا:
البر لغة: البرُّ: الخير والفضل، يقال: بَرَّ الرجلُ، يَبَرُّ بِرًّا، وِزان: عَلِمَ يعلم علمًا، فهو بَرٌّ، وبَارٌّ: أي: صادقٌ أو تقيٌّ، وهو خلاف الفاجر، وجمع البر: أبرار، وجمع البار: بررة، مثل: كافرٌ وكفرةٌ. وبَرِرْتُ والدي، أبَرُّهُ، بِرًّا: أحسنت الطاعة إليه، ورفقت به، وتحرَّيتُ محابّه، وتوقَّيتُ مكارهه
(1)
.
والبِرُّ: ضد العقوق
(2)
.
قال ابن الأثير: «البِرُّ بالكسر الإحسان، ومنه الحديث في بر الوالدين، وهو في حقهما وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق: وهو الإساءة إليهم والتضييع لحقهم»
(3)
.
والبر: اسم جامع للخير وأصله الطاعة
(4)
.
(1)
المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي (1/ 43).
(2)
مختار الصحاح للرازي (ص 19).
(3)
النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 116).
(4)
النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 116).
وبر الوالدين اصطلاحًا هو:
الإحسان إليهما (بالقلب، والقول، والفعل تقربًا لله تعالى)
(1)
.
في ضوء تلك الوصية العظيمة نبين ما يلي:
مفهوم البر:
البر: كلمة جامعة لخيري الدارين، وأما برُّ الوالدين فيُعنى به الإحسان إليهما والتعطف عليهما والتودد لهما والرفق بهما والرعاية لأحوالهما خاصة عن الكبر، وأداء حقوقهما، وطاعتهما في كل معروف وبرٍّ بنفس راضية مطمئنة.
والبر: ضده العقوق وهو الإساءة إليهما والتفريط في حقوقهما الواجبة لهما. ويكون بر الوالدين: بحسن معاشرتهما بالمعروف وإنزالهما منزلتهما اللائقة بهما وبإكرامهما وبإظهار البشر والبشاشة لهما، وخفض الجناح والتذلل لهما تواضعًا ورحمة بهما واعترافًا بفضلهما وتوفية لحقهما وعدم إظهار أدنى التأفف منهما، وبصلتهما وصلة أهل ودهما، والإنفاق عليهما بكرم وسخاء نفس، من غير طمع مرغوب ولا عوض مطلوب.
وبعد وصية لقمان لولده بتأسيس المعتقد بالنهي عن الشرك المتضمن تحقيق التوحيد تأتي آيتا الوصية ببر الوالدين من الله تعالى تعترض ما بقي من وصاياه لولده لتؤكدا الوصية الأولى بالنهي عن الإشراك به سبحانه من جهة، ومن جهة أخرى لتبيِّنا أن الوصية بالوالدين من الله تعالى ابتداءً، فيها دلالة على شرف تلك الوصية وعلو شأنها وجلالة قدرها وعظم مكانتها عند ربنا جل في علاه.
(1)
سعيد بن وهف القحطاني «بر الوالدين مفهوم وفضائل وآداب وأحكام في ضوء الكتاب والسنة» ، مطبعة سفير الرياض، الناشر: مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان، أكتوبر 2012 م.
يقول ابن عطية: «هَاتَانِ الْآيَتَانِ اعْتِرَاضٌ أَثْنَاءَ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ، وَوَجَّهَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّهَا مِنْ مَعْنَى كَلَامِ لُقْمَانَ، وَمِمَّا قَصَدَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الآيَتَيْنِ
(1)
فِي شَأْنِ سَعْدِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه -حَسَبَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدُ- يُضْعِفُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا قالَهُ لُقْمَانُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُشْبَهُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ أَثْنَاءَ المَوْعِظَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُفْسِدٍ لِلْأَوَّلِ مِنْهَا وَلَا لِلْآخَرِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَادَ إِلَى الْمَوْعِظَةِ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ:«وَقَالَ أَيْضًا لُقْمَانُ» ، ثُمَّ اخْتَصَرَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ»
(2)
.
ويقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «هُوَ كَلَامٌ اعْتُرِضَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ؛ تَأْكِيدًا لِمَا في وَصِيَّةِ لُقْمَانَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ»
(3)
.
ويؤكد نفس الأمر أبو السعود فيقول: «{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14]، كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدًا لما فيها من النهي عن الشرك»
(4)
.
(5)
.
ويقول الألوسي أيضًا: «{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] إلخ، كلام مستأنف اعترض
(1)
يعني: آية لقمان هذه {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15]، وآية العنكبوت {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8].
(2)
ابن عطية (7/ 47).
(3)
الزمخشري (5/ 12).
(4)
أبو السعود (7/ 72).
(5)
الشوكاني فتح القدير (1/ 1142).
به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدًا لما فيه من النهي عن الإشراك، فهو من كلام الله تعالى لم يقله سبحانه للقمان»
(1)
.
وهذه الآية مما كثر الإشكال فيه حتى وقع فيها خلاف واسع عند جمع من أئمة التفسير رحمهم الله جميعًا وهل هي من كلام الله تعالى، أم هي من وصايا لقمان لولده؟
القول الراجح في قوله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14]
وبعد التطواف والتأمل والنظر في قرابة عشرين مؤلفًا في التفسير تبين للباحث أن الأقرب أنها من كلام الله تبارك وتعالى، فقد وردت معترضة بين وصايا لقمان لابنه، وعليه الأكثرون، فمن تأمل الوصية بالوالدين هنا يتحقق لديه ويتبين له أنها جاءت معترضة بين ثنايا وصايا ومواعظ لقمان لابنه؛ فقد توسطت النداء بقوله:{يَا بُنَيَّ} جاء قبلها قوله: {يَا بُنَيَّ لا تشرك بالله} [لقمان: 13] وجاء بعدها قوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16]، إلى آخر الآيات - والتي هي من كلام لقمان عليه السلام.
ومما رجح ذلك لدى الباحث أيضًا آية العنكبوت {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8].
فهي وآيتا لقمان نزلتا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد سبق معنا في طيات البحث تعدد النازل والسبب واحد، وقد سبق معنا آنفًا قول كل من: ابن عطية الأندلسي، والزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي، وأبي السعود، والشوكاني، والألوسي.
والختام بقول القرطبي حيث يقول: «وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي شَأْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، كَمَا تَقَدَّمَ فِي (الْعَنْكَبُوتِ)، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ»
(2)
. اهـ. والله أعلم.
وفي بيان المعنى العام لتلك الوصية يقول ابن سعدي: «وَلَمَّا أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِحَقِّهِ، بِتَرْكِ الشِّرْكِ
(1)
الألوسي (21/ 86).
(2)
القرطبي (14/ 60).
الَّذِي مِنْ لَوَازِمِهِ الْقِيَامُ بِالتَّوْحِيدِ، أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} [العنكبوت: 8] أَيْ: عَهِدْنَا إِلَيْهِ، وَجَعَلْنَاهُ وَصِيَّةً عِنْدَهُ، سَنَسْأَلُهُ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا، وَهَلْ حَفِظَهَا أَمْ لَا؟ فَوَصَّيْنَاهُ بِوَالِدَيْهِ وَقُلْنَا لَهُ:{اشْكُرْ لِي} [لقمان: 14] بِالْقِيَامِ بِعُبُودِيَّتِي، وَأَدَاءِ حُقُوقِي، وَأَنْ لَا تَسْتَعِينَ بِنِعَمِي عَلَى مَعْصِيَتِي، {وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالْكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَالْفِعْلِ الْجَمِيلِ، وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا، وَإِكْرَامِهِمَا وَإِجْلَالِهِمَا، وَالْقِيَامِ بِمَؤُونَتِهِمَا وَاجْتِنَابِ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَوَصَّيْنَاهُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنْ {إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14] أَيْ: سَتَرْجِعُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِلَى مَنْ وَصَّاكَ، وَكَلَّفَكَ بِهَذِهِ الْحُقُوقِ، فَيَسْأَلُكَ هَلْ قُمْتَ بِهَا؟ فَيُثِيبُكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، أَمْ ضَيَّعْتَهَا؟ فَيُعَاقِبُكَ الْعِقَابَ الْوَبِيلَ»
(1)
.
فالله تبارك وتعالى يوصي الإنسان بوالديه عمومًا، ترغيبًا له في برّهما والإحسان إليهما، كما قال الماوردي:» {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] يعني: برًّا وتحننًا عليهما»
(2)
.
ويبين له حال أمِّه خصوصًا وقت حملها له، وأنها حملته وهي تعاني من الشدة والضعف والجهد وآلام الحمل وقت تكوينه من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم تكوينه تام الخلقة كامل البنيان.
ويوضح الرازي معنى الوهن فيقول: «يَعْنِي: ضَعْفَ الْحَمْلِ، وَضَعْفَ الطَّلْقِ، وَضَعْفَ النِّفَاسِ، وَقِيلَ: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]، نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، إِلَى آخِرِ النَّشْأَةِ»
(3)
.
وهذا ما يؤكده القرطبي فيقول: «{وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] أَيْ: حَمَلَتْهُ فِي بَطْنِهَا وَهِيَ تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، وَقِيلَ: الْمَرْأَةُ ضَعِيفَةُ الْخِلْقَةِ ثُمَّ يُضْعِفُهَا الْحَمْلُ»
(4)
.
(1)
ابن سعدي (6/ 1350).
(2)
الماوردي (4/ 334).
(3)
الرازي (7/ 187).
(4)
القرطبي (14/ 60).
ويوضح الإمام الطبري معنى الوهن هنا فيقول: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، وَشِدَّةً عَلَى شِدَّةٍ.
ويقول ابْنِ عَبَّاسٍ: شِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَخَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ.
ويقول الضَّحَّاكُ: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]: يَقُولُ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ.
وَكذلك قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ
(1)
.
ويقول قَتَادَةُ: «{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] أَيْ: جَهْدًا عَلَى جَهْدٍ» .
ويقول مُجَاهِدٌ: «{وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] قَالَ: وَهْنُ الْوَلَدِ عَلَى وَهْنِ الْوَالِدَةِ وَضَعْفِهَا»
(2)
.
كل ذلك وهو يتغذى من دمها وتذهب بذلك قوتها مع ما تعانيه من الحمل والوحم وآلام الطلق والوضع والنفاس وغير ذلك، ليكون هذا البيان دافعًا لبرها والإحسان إليها من كل الوجوه جزاء ما عانت وتحملت في حملها ووضعها وإرضاعها وفطامها وسهرها وتعبها وخدمتها آناء الليل وأطراف النهار.
يقول ابن سعدي: «ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فِي الْأُمِّ، فَقَالَ: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] أَيْ: مَشَقَّةً عَلَى مَشَقَّةٍ، فَلَا تَزَالُ تُلَاقِي الْمَشَاقَّ، مِنْ حِينِ يَكُونُ نُطْفَةً، مِنَ الْوَحَمِ، وَالْمَرَضِ، وَالضَّعْفِ، وَالثِّقَلِ، وَتَغَيُّرِ الْحَالِ، ثُمَّ وَجَعِ الْوِلَادَةِ، ذَلِكَ الْوَجَعِ الشَّدِيدِ، ثُمَّ «فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ» وَهُوَ مُلَازِمٌ لِحَضَانَةِ أُمِّهِ وَكَفَالَتِهَا وَرِضَاعِهَا، أَفَمَا يَحْسُنُ بِمَنْ تَحَمَّلَ عَلَى وَلَدِهِ هَذِهِ الشَّدَائِدَ، مَعَ شِدَّةِ الْحُبِّ، أَنْ يُؤَكِّدَ عَلَى وَلَدِهِ، وَيُوصِيَ إِلَيْهِ بِتَمَامِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ؟!»
(3)
.
يقول ابن كثير: «وَإِنَّمَا يَذْكُرُ تَعَالَى تَرْبِيَةَ الْوَالِدَةِ وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، لِيُذَكِّرَ الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}
(1)
ينظر: ابن كثير (6/ 337).
(2)
الطبري (20/ 137 - 138).
(3)
ابن سعدي (6/ 1350).
[الإسراء: 24]؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] أَيْ: فَإِنِّي سَأَجْزِيكَ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ»
(1)
.
ولا شك أن ضعفها ومعاناتها الحمل وآلامه تتتابع وتتزايد كما وضح ذلك الألوسي بقوله: «فَالْمُرَادُ تَضْعُفُ ضَعْفًا مُتَزَايِدًا بِازْدِيَادِ ثِقَلِ الْحَمْلِ إِلَى مُدَّةِ الطَّلْقِ، وَقِيلَ: ضَعْفًا مُتَتَابِعًا وَهُوَ ضَعْفُ الْحَمْلِ، وَضَعْفُ الطَّلْقِ، وَضَعْفُ النِّفَاسِ»
(2)
.
(3)
.
ويوضح الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي فيقول: «والْمَعْنَى: أَنَّهَا تَضْعُفُ ضَعْفًا فَوْقَ ضَعْفٍ، أَيْ: يَتَزَايَدُ ضَعْفُهَا وَيَتَضَاعَفُ»
(4)
.
(5)
.
(1)
ابن كثير (6/ 336).
(2)
الألوسي (21/ 86).
(3)
ابن عاشور (22/ 157 - 158) بتصرف يسير.
(4)
الزمخشري (5/ 12).
(5)
ابن عطية (7/ 47).
ويقول ابن الجوزي: «وَالْمَعْنَى: لَزِمَهَا بِحَمْلِهَا إِيَّاهُ أَنْ تَضْعُفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ»
(1)
.
وقوله سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]: لا شك أن الأم عانت عامين كاملين معاناة شديدة لتتم له الرضاع إحسانًا إليه حال ضعفه يتغذى من لبنها لتتم له القوة ويشتد بذلك عوده ويقوى صلبه، وهي تعاني بذلك الضعف والوهن والجهد أشده، وفي ذلك تذكير للإنسان بعظيم حقها وجليل قدرها.
يقول ابن كثير: «وَقَوْلُهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] أَيْ: تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وَمِنْ هَا هُنَا اسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] «
(2)
.
من هنا يتبين لنا لماذا أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم للسَّائل حق الأم ثلاثًا، و أنها أحقّ النَّاس وأولاهم بحسن الصُّحبة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ النَّاس بحسن صحابتي؟ قال:«أمك» ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «أمك» ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «أمك» ، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: «ثُمَّ أبوك»
(3)
.
ذلك لِمَا ذاقت هذه الأم الشَّفيقة البرّة الرَّفيقة الرحيمة من أنواع الآلام مدة الحمل، وقاست ما قاست من الشَّدائد وقت المخاض والوضع، ثُمَّ أضعفت قوتها بالرَّضاع حولين كاملين، وحملت تارة في البطن، وأخرى على الصَّدر، وثالثة على اليدين، وباتت عند مرض الطِّفل ساهرة، جائعة، حزينة، باكية، متألمة، لا تزال تفتأ تسأل لابنها الشِّفاء والتَّمتُّع بطول العُمُر في
(1)
ابن الجوزي (6/ 319).
(2)
ابن كثير (6/ 337).
(3)
أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب، باب مَنْ أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة (من الفتح). (5524)، كتاب الأدب: باب من أحق الناس بحسن صحابتي.
هناء وصفاء، الشَّيء الذي جعل الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا يُقدِّم عليها أحدًا في البرّ والخير والإحسان، وأكَّد أنَّها أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة على النَّاس جميعًا بما فيهم الأب.
كما أوضح صلى الله عليه وسلم أنَّه ليس هناك أحد أحقّ بالعطف، والحنان، والرَّحمة، والإحسان، من الأب العطوف الرَّحيم، الذي ينفق من نفائس أمواله في تربية ابنه، وإرشاده لِمَا ينفعه في دينه ودنياه، فكان أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة على النَّاس جميعًا بعد الأُم.
وأكَّد تعالى الوصية بهما في حال الكِبر، حين حاجتهما إلى الإكرام والإحسان، وبذل النَّفس والمال في سبيل مصلحتهما، والسَّعي الجاد في كسب رضاهما، ولذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«رغم أنف مَنْ أدرك والديه عند الكِبر أحدهما أو كليهما فلم يدخلاه الجنَّة»
(1)
.
ومعنى الحديث أنَّه ذلّ، وقيل: كره وخزي، والرّغام أصله لصق الأنف بالرّغام، وهو تراب مختلط برمل، والرّغم هو كل ما أصاب الأنف مما يؤذيه.
ويستفاد من هذا الحديث الحثّ على برّ الوالدين وعظيم ثوابه، وأنَّ برّهما عند ضعفهما وكبرهما (خاصة) بالخدمة أو بالنَّفقة أو غيره سبب لدخول الجنَّة، فمَنْ قصَّر في ذلك؛ فاته دخول الجنَّة، (يعني ابتداءً) وأرغم الله أنفه، ويؤيِّد هذا الحديث، قوله تعالى:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء: 23]
(2)
.
قال القرطبي: «وهذا دعاء مؤكد على من قصَّر في بر أبويه، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون معناه: صرعه الله لأنفه فأهلكه، وهذا إنما يكون في حق من لم يقم بما يجب عليه من برهما.
وثانيهما: أن يكون معناه: أذله الله؛ لأن من ألصق أنفه، الذي هو أشرف أعضاء الوجه،
(1)
أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصِّلة، باب رغم أنف مَنْ أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنَّة (برقم: 2551) (4/ 1978).
(2)
بر الوالدين في ضوء السنة النبوية الشريفة (ص 75) د/ سعاد سليمان إدريس الخندقاويّ -عن مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية- الصادرة عن جامعة أم درمان الإسلامية -العدد الخامس عشر (1428 هـ) - بتصرف.
بالتراب، الذي هو موطئ الأقدام وأخس الأشياء، فقد انتهى من الذُّل إلى الغاية القصوى وهذا يصلح أن يدعى به على من فرَّط في متأكدات المندوبات، ويصلح لمن فرط في الواجبات، وهو الظاهر، وتخصيصه عند الكبر بالذكر -وإن كان برهما واجبًا على كل حال- إنما كان ذلك لشدة حاجتهما إليه؛ ولضعفهما عن القيام بكثير من مصالحهما، فيبادر الولد اغتنام فرصة برهما؛ لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك»
(1)
.
وقوله سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]: يأمر الله تعالى بعد ذلك بشكره سبحانه ويقرنه بشكر الوالدين، وفي ذلك توكيد بعد توكيد لبيان مكانة وقدر الوالدين واعترافًا وإقرارًا بحقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلَاثِ آيَاتٍ لَا يُقْبَلُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا:
أَوَّلُهَا: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ.
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، فَمَنْ شَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْكُرْ وَالِدَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُطِعْ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ»
(2)
.
(1)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 518).
(2)
غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، للسفاريني، مؤسسة قرطبة، ط 2، (1414 هـ/ 1993 م)(ص 392).
وفي بيان معنى الشكر يقول القاسمي: «الشُّكْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ:
الأول: خُضُوعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ.
الثاني: حُبُّهُ لَهُ.
الثالث: اعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ.
الرابع: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِهَا.
الخامس: أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ.
هَذِهِ الْخَمْسَةُ هِيَ أَسَاسُ الشُّكْرِ، وَبِنَاؤُهُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ عُدِمَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، اخْتَلَّتْ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشُّكْرِ، وَكُل مَنْ تَكَلَّمَ فِي الشُّكْرِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ إِلَيْهَا يَرْجِعُ وَعَلَيْهَا يَدُورُ. انْتَهَى.
ثُمَّ فَسَّرَ الْوَصِيَّةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ أَيْ: بِأَنْ تَعْرِفَ نِعْمَةَ الْإِحْسَانِ، وَتُقَدِّرَهُ قَدْرَهُ»
(1)
.
(2)
.
ويوضح الماوردي كيفية الشكر هنا فيقول: «وشكر الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبر والصلة»
(3)
.
ويقول سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: «مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ دَعَا لِوَالِدَيْهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَهُمَا»
(4)
.
ويبين القرطبي على ما يكون الشكر فيقول: «وَالْمَعْنَى: قُلْنَا لَهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ.
(1)
القاسمي (13/ 4798).
(2)
الطبري (20/ 138).
(3)
الماوردي (4/ 336).
(4)
القرطبي (14/ 61).
قِيلَ: الشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَلِلْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ»
(1)
.
ويقول ابن الجوزي: «الْمَعْنَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ، أَيْ: وَصَّيْنَاهُ بِشُكْرِنَا وَشُكْرِ وَالِدَيْهِ»
(2)
.
قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] الآية: ولعظم بر الوالدين ولمكانته من الدين أمر الله ببرهما حتى ولو كانا كافرين، بل ولو جاهداك على أن تشرك بالله وبذلا وسعهما في ذلك، فلا يسقط برهما والإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف بل هو باق مع عدم إجابتهما وطاعتهما في المعصية.
(3)
.
ويبين القرطبي فيقول: «وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى صِلَةِ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْمَالِ إِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ، وَإِلَانَةِ الْقَوْلِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِرِفْقٍ وَقَدْ قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ قَدِمَتْ عَلَيْهَا خَالَتُهَا. وَقِيلَ: أُمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . وَرَاغِبَةٌ قِيلَ مَعْنَاهُ: عَنِ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهَا رَاغِبَةٌ فِي الصِّلَةِ، وَمَا كَانَتْ لِتَقْدُمَ عَلَى أَسْمَاءَ لَوْلَا حَاجَتُهَا. وَوَالِدَةُ أَسْمَاءَ هِيَ قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ أَسَدٍ. وَأُمُّ عَائِشَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ هِيَ أُمُّ رُومَانَ قَدِيمَةُ الْإِسْلَامِ»
(4)
.
(1)
المرجع السابق، القرطبي (14/ 61).
(2)
ابن الجوزي (6/ 319).
(3)
ابن كثير (7/ 336).
(4)
القرطبي (14/ 60).
وأصل الحديث في «الصحيحين» : تقول أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة، أفأصلها؟ قال:«نعم: صِلي أمك»
(1)
.
ويوضح ابن سعدي فيقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15] أي: اجتهد والداك {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما، لأن حق الله مقدم على حق كل أحد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولم يقل: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما، بل قال: فلا تطعهما أي: في الشرك، وأما برهما، فاستمر عليه، ولهذا قال:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما»
(2)
.
سبب نزول آية {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15]:
(3)
.
(1)
البخاري (5979)، ومسلم (1003).
(2)
ابن سعدي (6/ 1352).
(3)
الطبري (20/ 139)«وأمه هي: حمنة بنت أبي سفيان بن أمية» .
الأنبياء وبر الوالدين:
إن بر الوالدين من العبادات العظيمة التي حثت ورغبت فيها كل الشرائع السماوية، وهو مع ذلك أمر عظيم يسعى في تحقيقه ويطمع ويرغب فيه كل صاحب فطرة نقية ونفس سوية، كما أنه من أخص أوصاف النبيين عليهم السلام، ومن خصال عباد الله الصالحين، وهو دليل ظاهر على وفاء صاحبه وصدق إيمانه، وهو من محاسن ديننا الحنيف، ذلك لأن فيه اعترافًا بفضل الوالدين والسعي في رد بعض الجميل لهما على إحسانهما، ودليل على كمال الدين ومحاسنه وشموليته، بخلاف قوانين البشر وشريعة الغاب التي لا تعرف للوالدين حقًّا ولا تقر لهم معروفًا ولا تعرف لها فضلًا.
ولقد أثنى الله على بر الأنبياء لوالديهم وبَيَّنَ أنه من أخص أوصافهم، وذكر بعضًا منها في كتابه المجيد لتتأسى بهم البرية، كما قال الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
- فهذا نوح عليه السلام، أول رسل الله لأهل الأرض يدعو ربه قائلًا:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28].
- ولما زجر آزرُ ابنَه إبراهيمَ عليه السلام، وهدده بالرجم وقال له:{أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)} [مريم: 46]، كان جوابه عليه السلام:{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]. وكان من دعائه عليه السلام أيضًا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} [إبراهيم: 41].
- وإسماعيل عليه السلام لما أخبره الخليل إبراهيم برؤياه قائلًا: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] كان الجواب بأدب جم وخلق عظيم: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] ضاربًا بذلك أروع الأمثلة في بر الوالدين تسليمًا وانقيادًا وانصياعًا للأمر واستجابة وإعانة على تنفيذ أمر الله تعالى.
- ويوسف الصديق عليه السلام يبرهن على بره بوالديه بفعله قبل قوله بإجلاله وإكرامه
لوالديه وإنزالهما أكرم المنازل كما قال سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100].
- وكان من دعاء سليمان عليه السلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل: 19].
- وقد مدح الله تعالى يحيى عليه السلام بقوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} [مريم: 14].
- ولما تكلم عيسى بن مريم عليه السلام في المهد أعلن موقفه من بره بأمه وعزمه عليه فقال: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)} [مريم: 32].
وختام الحديث عن بر الوالدين ببيان مكانته من الدين:
أولاً: بر الوالدين من أعظم الحقوق وأَجَلِّهَا:
لقد قرن الله تعالى حق الوالدين مع أعظم الحقوق، وهو حق عبوديته وتوحيده سبحانه، في كتابه الكريم في أربعة مواضع:
الموضع الأول: في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83].
الموضع الثاني: في سورة النساء في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].
الموضع الثالث: في سورة الأنعام في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151].
الموضع الرابع: في سورة الإسراء في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
كما قرن شكر الوالدين مع شكره سبحانه بعد الوصية بهما هنا في سورة لقمان فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14]. فبدأ الله في هذه الآيات بالأمر بتوحيده سبحانه الذي هو أعظم مأمور به، واستحقاقه سبحانه للعبودية، ثم عطف على ذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وفي هذا إظهار لعظم حقهما وبيانًا لفضلهما وقدرهما، كما أن فيه حثًّا على برهما وطاعتهما وامتثال أمريهما.
فما أعظم هذا الشرع الحنيف وأَجَلَّهُ حيث عَظَّم قدر الوالدين ورفع من مكانتهما وبَيَّنَ حقهما وجلَّى فضليهما وألزم برهما وحض على طاعتهما في المعروف.
ثانيًا: بر الوالدين من أسباب دخول الجنة:
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة»
(1)
.
قال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل: «أَحَيٌّ والداك؟» قال الرجل: عندي أمي، قال ابن عمر:«فو الله لو ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلنَّ الجنة ما اجتنبت الكبائر»
(2)
.
ثالثًا: بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله:
عن شُعبة قال: أخبرني الوليد بن عيزار قال: سمعتُ أبا عمر الشَّيبانيّ يقول: أخبرنا صاحب هذه الدَّار، وأومأ بيده إلى دار عبد الله قال: سألتُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله تعالى: قال: «الصَّلاة على وقتها» ، قال: ثُمَّ أي؟ قال: «برّ الوالدين» ، قال: ثُمَّ أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: «حدّثني بهنَّ، ولو استزدته لزادني»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصِّلة: باب رغم أنف مَنْ أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنَّة (برقم: 2551)(4/ 1978).
(2)
الأدب المفرد، للبخاري (برقم: 8)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (1/ 35)، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة (2898).
(3)
أخرجه البخاريّ في كتاب الصَّلاة، باب: فضل الصَّلاة لوقتها (1/ 126) بلفظه، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال (برقم 1270)(1/ 89).
رابعًا: بر الوالدين من أسباب إجابة الدعاء:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أُويسُ بن عامرٍ مع أمدادِ أهل اليمن من مُرَادٍ، ثم مِن قرنٍ، كان به برصٌ، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بها بَرّ لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل»
(1)
.
خامسًا: بر الوالدين مقدّم على الجهاد:
- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال:«أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال:«ففيهما فجاهد»
(2)
.
- عن طلحة بن معاوية السلم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أريد الجهاد في سبيل الله. قال:«أمك حية؟» قلت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الزم رجلها فثم الجنة!»
(3)
.
وَقد تقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أن بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مقدم عَلَى الْجِهَادِ؛ لأِنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهُ فِيهِ غَيْرُهُ. فَقَدْ قَال رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ، وَإِنَّ أَبَوَيَّ مَنَعَانِي. فَقَال:«أَطِعْ أَبَوَيْكَ، فَإِنَّ الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ»
(4)
.
سادسًا: وجوب بر الوالدين وإن كانا مشركين:
فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلُ أمي؟ قال: «نعم صِلِي أمك»
(5)
. وقد مر معنا الحديث بطوله.
فبر الوالدين الكافرين والإحسان إليهما رغَّب فيه الشارع اعترافًا بحقهما ووفاءً لما قدماه.
قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
(1)
رواه مسلم (2542) كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل أويس القرني.
(2)
متفق عليه، أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصِّلة: باب برّ الوالدين وأنَّهما أحقّ به، (برقم: 2549) (4/ 1974).
(3)
صحيح الترغيب للألباني (2483).
(4)
المهذب في فقه الإمام الشافعي (2/ 230). هذا إلا إذا تعين الجهاد وأعلن الإمام النفير (الباحث).
(5)
رواه البخاري (2/ 924)(برقم: 2477)، ومسلم (2/ 696) (برقم: 1003). وَوَالِدَةُ أَسْمَاءَ هِيَ قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ أَسَدٍ. وَأُمُّ عَائِشَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ هِيَ أُمُّ رُومَانَ قَدِيمَةُ الْإِسْلَامِ.
مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
فيجب على الأبناء بر الوالدين والإحسان إليهما وطاعتهما طاعة تامة في المعروف أما إذا أمرا بمعصية فإنه لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»
(1)
.
فلا يمنع كفرهما من برهما والإحسان إليهما تقربًا لله تعالى ورحمة بهما وأداءً لحقهما.
سابعًا: بر الوالدين سبب في رضا الرب سبحانه:
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد»
(2)
.
- وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان فقال:«ارجع عليهما؛ فأضحكهما كما أبكيتهما»
(3)
.
ثامنًا: بر الوالدين من أسباب سعة الرزق والبركة في العمر:
ومن ثمار بر الوالدين البركة في العمر والسعة في الرزق:
- فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرَّه أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَه»
(4)
.
تاسعًا: بر الوالدين لا ينقطع بموتهما:
لبركة برّ الوالدين ومكانته فإنه لا ينقطع بموتهما، وهذا من سعة رحمة الله بعباده ليتم لهم بر والديهم أحياءً وأمواتًا ويداوموا عليه ويلزموه، والله تعالى حثّ الأبناء ورغبهم وأمرهم بالإقرار والاعتراف بحق الوالدين وإحسانهما فأمرهم بالترحم عليهما مذكرًا لهم بتربيتهم والإحسان لهم صغارًا فقال سبحانه:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].
(1)
البخاري (13/ 203)، ومسلم (6/ 15)، وأبو داود (2625)، والنسائي (2 (187)، والطيالسي (109)، وأحمد (1/ 94).
(2)
صحيح الترغيب للألباني (2501).
(3)
صحيح أبي داود للألباني (2528).
(4)
رواه البخاري في كتاب الأدب، في باب: من بسط له في رزقه بصلة الرحم (جـ 5)(5639).
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»
(1)
.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: يا رب، أَنَّى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك»
(2)
.
ومن مشاهد البر بعد موت الوالدين أن يبر الابن أهل ودّ والديه وأن يحسن إليهم ويكرمهم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه»
(3)
.
أسأل الله أن يرزقنا برّ آبائنا وأن يرحمهم كما ربونا صغارًا. والحمد لله رب العالمين.
ثانيًا: الأمر بإقام الصلاة
مكانة الصلاة في الإسلام:
لقد عظَّم الله تعالى شأنَ الصلاة، ورفع قدرها وذِكرَها، وأعلى مكانتَها في شريعتنا الغراء، فهي أعظم وأهم وآكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي من معالم الدين العظمى وشرائعه الكبرى.
وقد شرعها الله على أكمل الهيئات وأتمها وأحسنها، وقد حوت الصلاة أنواعًا من العبادات وصنوفًا من الأذكار، من تلاوة للقرآن، وما تضمنته من حمد وثناء وتمجيد وتسبيح وتنزيه وإخلاص وتقديس وإخبات وإنابة وإجلالٍ للرب تعالى، واستغاثة به جل في علاه، وإفراده سبحانه بالعبادة والاستعانة التي هي أعلى درجات منازل إياك نعبد وإياك نستعين، كما حوت مشاهد عظيمة من الذل والانكسار والإخبات بين يدي جبار السموات والأرض، وتكبير يُنبئ عن طرح كل ما سوى الله من قلب العبد، وتعظيم لله تعالى واستصغار لكل ما دون سبحانه
(1)
رواه مسلم في كتاب الوصية (1631)، والنسائي في كتاب الوصايا - باب فضل الصدقة على الميت (جـ 4)(6478)، وأبو داود في كتاب الوصايا (2880)، والترمذي في كتاب الأحكام (1376).
(2)
الألباني، صحيح الجامع (1617).
(3)
رواه مسلم في كتاب الأدب والصلة: باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما (جـ 16)(6461).
من المخلوقين، مع ما جمعته وحوته من وقوف وانتصاب لا حركة، فيه مذلة لله، وركوع كله خضوع وخشوع لله، وسجود في ذلِ وانكسار بين يدي الله، ودعاء وابتهال وتبتل لله، وهي رأس العبادات البدنية، وهي أول ما يحاسب به العبد من عمله يوم القيامة، وهي حد فاصل بين الإسلام والكفر، كما قال ابن سعدي:«حَثَّهُ (لقمان) عَلَيْهَا، وَخَصَّهَا لِأَنَّهَا أَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ»
(1)
.
ولعظم مكانتها وجليل قدرها فرضها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج في السموات العلى بلا واسطة؛ بخلاف سائر الشرائع السماوية؛ وأنه لم تخل منها شريعة من شرائع الله السماوية.
فدل ذلك على تأكد فرضيتها وعظم مكانتها وجليل قدرها عند الله سبحانه.
والصلوات الخمس مفروضة بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].
وأما السنة: فقد جعَل النبي صلى الله عليه وسلم إقامتها رُكنًا من أركان الإسلام، ودعامة من دعائمه العظام.
- فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»
(2)
.
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على فرضيَّتها ووجوب أدائها في اليوم والليلة خمس مرات، وأنها رُكن من أركان الإسلام، ولَم يخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين، بل ذلك مما عُلِم من دين الله بالضرورة، وهي حدٌّ فاصل بين الإسلام والكفر، ومن جحد فرضيتها فهو كافر مرتد عن دين الله تعالى، يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل ردة، وذلك بإجماع الأمة.
ولعظم شأنها فإنها أول ما يُسأل عنه العبدُ يوم القيامة فعن عبد الله بن قرط رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما يُحاسب به العبدُ يومَ القيامةِ الصلاةُ، فإنْ صلحتْ، صلح سائرُ عمله،
(1)
ابن سعدي (22/ 1352).
(2)
صحيح البخاري (1/ 20)(رقم: 8)، وصحيح مسلم (1/ 45) (رقم: 16).
وإن فسَدَتْ، فَسَدَ سائِرُ عمله»
(1)
.
ولعظم مكانتها من الدين كانت من آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته عند موته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فهي كوصية مودع يقول صلى الله عليه وسلم:«الصلاةَ. الصلاةَ. وما ملكتْ أيمانُكم»
(2)
.
قوله: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} [لقمان: 17]:
والمقصود بإقامة الصلاة: أداؤها خالصة لله، بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومستحبَّاتها، على الوجه المشروع عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي»
(3)
.
قال القاسمي: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} [لقمان: 17]: «أَيْ: بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا، لِتَكْمِيلِ نَفْسِكَ بِعِبَادَةِ رَبِّكَ»
(4)
.
(5)
.
ويقول البقاعي: «وَلَمَّا نَبَّهَهُ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَإِقَامَتِهِ لِلْحِسَابِ، أَمَرَهُ مِمَّا يَدَّخِرُهُ لِذَلِكَ تَوَسُّلًا إِلَيْهِ، وَتَخَضُّعًا لَدَيْهِ، وَهُوَ رَأْسُ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَمَلُ وَيُصَحِّحُ التَّوْحِيدَ وَيُصَدِّقُهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مُكَرِّرًا لِلْمُنَادَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَنْبِيهًا عَلَى فَرْطِ النَّصِيحَةِ لِفَرْطِ الشَّفَقَةِ (أَقِمِ الصَّلاةَ) أَيْ: بِجَمِيعِ حُدُودِهَا وَشُرُوطِهَا وَلَا تَغْفُلْ عَنْهَا، سَعْيًا فِي نَجَاةِ نَفْسِكَ وَتَصْفِيَةِ سِرِّكَ، فَإِنَّ إِقَامَتَهَا -وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ-؛ مَانِعَةٌ مِنَ الْخَلَلِ فِي الْعَمَلِ {إِنَّ
(1)
رواه الطبراني في الأوسط (2/ 240)(برقم: 1859)، وصححه الألباني في الصحيحة (برقم: 1358).
(2)
سنن ابن ماجه (2/ 900)(برقم: 2697)، وأحمد (25944).
(3)
أخرجه البخاري وغيره من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه (213).
(4)
القاسمي (13/ 4801).
(5)
ابن عاشور (22/ 165) بتصرف.
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] «
(1)
.
ويقول البغوي: «{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} يعني: الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها «
(2)
.
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: «إقامة الصلاة: إتمامُ الركوع والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإقبال عليها فيها» .
ويقول قتادة: «إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها» .
ويقول مقاتل بن حيَّان: «إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطُّهور بها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهُّد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا إقامتها»
(3)
.
وينبغي أن يُعلم الأبناءُ عظم جزاء من أحسن الوضوء والصلاة، ترغيبًا لهم في أداء الطهارة والصلاة وإتمامهما على الوجه المشروع، بمثل حديث عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله»
(4)
.
- وبمثل حديث أبي أيوب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من توضأ كما أُمِرَ وصلى كما أُمِرَ غُفِرَ له ما قدم من عمل»
(5)
.
ليصبح هذا الترغيب من الحوافز الدافعة للأبناء على إتمام الطهارة وإحسان الصلاة طاعة لله وطمعًا في ثوابه.
(1)
البقاعي (15/ 174).
(2)
معالم التنزيل للبغوي- الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع (1/ 88).
(3)
تفسير القرآن العظيم (1/ 78) لابن كثير.
(4)
رواه مسلم (1/ طهارة/ 206/ جـ 7)، وأحمد في مسنده (5/ 260) بنحوه، ورواه البيهقي في سننه (2/ 290).
(5)
رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6172).
وقد بَيَّنَ الله سبحانه في كتابه أن فلاحَ المؤمنين متعلق بخشوعهم في صلاتهم، فقال تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1 - 2] ولا شك أن الخشوع روح الصلاة.
يقول ابن القَيِّم: «فمَن فاتَه خشوع الصلاة، لَم يكن من أهل الفلاح، ويستحيل حصولُ الخشوع مع العَجَلة والنقر قطعًا، بل لا يحصل الخشوع قطُّ إلاَّ مع الطمأنينة، وكلَّما زادَ طمأنينة ازدادَ خشوعًا، وكلَّما قلَّ خشوعه، اشتدَّتْ عَجَلته؛ حتى تصيرَ حركة يَدَيه بمنزلة العبث الذي لا يَصحبه خشوع ولا إقبال على العبوديَّة، ولا معرفة حقيقة العبودية.
- والله سبحانه قد قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43].
- وقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [لقمان: 4].
- وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [هود: 114].
- وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103].
- وقال: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} [الحج: 35].
- وفي أخص دعاء إبراهيم عليه السلام قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: 40].
- وقال لموسى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14].
فلن تكاد تجد ذِكْرَ الصلاة في موضع من التنزيل إلاَّ مقرونًا بإقامتها، فالمصلون في الناس قليل، ومُقيم الصلاة منهم أقلُّ القليل!»
(1)
.
هذا وصف المصلين في زمن ابن القيم فكيف به إذا رأى صلاة أهل زماننا إلا من رحم الله؟! {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53].
(1)
الصلاة وأحكام تاركها (ص 140) بتصرف يسير.
يقول الزهري رحمه الله تعالى: «دخلتُ على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه بدمشقَ وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرفُ شيئًا مما أدركتُ على عهدِ رسول الله إلَّا هذه الصلاة، وهذه الصلاةُ قد ضُيِّعت»
(1)
.
وأثر أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يوضح عناية السلف بشأن الصلاة وبإقامتها كما أمر الله تعالى وكما علم رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس لك من صلاتك إلاَّ ما عَقَلت منها»
(2)
.
وإن مما يندرج ضمنًا تحت معنى إقام الصلاة، أن تُؤدَى في أوقاتها كما قال الله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103].
وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238].
(3)
.
ويقول الطبري: «يعني تعالى ذكره بذلك: واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن، وتعاهدوهن والزَمُوهن، وعلى الصلاة الوسطى منهنّ»
(4)
.
وإن مما يندرج ضمنًا تحت معنى إقام الصلاة أيضًا تأديتها في جماعة قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة: 43].
وقوله سبحانه: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: صلوا مع المصلين، ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها
(5)
.
(1)
صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة (530).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 31).
(3)
القرطبي (3/ 208).
(4)
الطبري (5/ 167).
(5)
ابن سعدي (1/ 50).
ولنتأمل جميعًا في عظم الأجر وجزيل الثواب المترتب على المحافظة والمواظبة على صلاة الجماعة:
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق»
(1)
.
- ويقول عليه الصلاة والسلام: «سبعة يُظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلّ إلا ظلُّه» ، وذكر منهم:«ورجلٌ قلبُه معلَّق بالمساجد»
(2)
.
قال النووي: «أي: شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد»
(3)
.
- قال الحافظ في الفتح: «ظاهره أنه من التعليق كأنه شبه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلًا إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجًا عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي: كأنما قلبه في المسجد»
(4)
.
(5)
.
(6)
.
(1)
سنن الترمذي الجامع الصحيح -أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب في فضل التكبيرة الأولى حديث (230)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي حديث (رقم: 24).
(2)
صحيح البخاري: كتاب الأذان (660)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1031).
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 122).
(4)
فتح الباري (2/ 184).
(5)
فيض القدير (4 - 89).
(6)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: (جـ 4)(ص 102).
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: قال: «والّذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثمّ آمر بالصّلاة فيؤذّن لها، ثمّ آمر رجلًا، فيؤمّ النّاس، ثمّ أخالف إلى رجال فأحرّق عليهم بيوتهم، والّذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنّه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء»
(1)
.
ولو لم تكن الجماعة واجبة لما همّ النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريق.
ومن سمع الأذان فلا عذر له في التخلف عن الجماعة.
- فعن ابن أم مكتوم رضي الله عنه قال: جئت رسول الله فقلت: يا رسول الله، أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال:«أتسمع النداء؟» قلت: نعم. قال: «ما أجد لك رخصة»
(2)
.
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر»
(3)
.
وإن من خير ما يختم به بيان حال خير القرون مع صلاة الجماعة:
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما
(1)
صحيح البخاري: كتاب الأذان -أبواب صلاة الجماعة والإمامة- باب: وجوب صلاة الجماعة حديث (626).
(2)
سنن أبي داود -كتاب الصلاة- باب: في التشديد في ترك الجماعة، حديث (470) وقال الألباني:«حسن صحيح» ، ينظر: صحيح سنن أبي داود حديث (رقم: 552).
(3)
المستدرك على الصحيحين للحاكم -ومن كتاب الإمامة- أما حديث عبد الرحمن بن مهدي - حديث (841)، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث (رقم 6300).
يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف»
(1)
.
كيفية تربية الأبناء على أداء الصلاة وأمرهم بها:
إن من أعظم وأجل وسائل تربية الأبناء وتعويدهم على إقام الصلاة وأدائها على الوجه المشروع هو ضرورة وجود القدوة العملية الصالحة المتمثلة في الوالدين وحرصهما على أداء الصلاة في أوقاتها على الوجه المشروع كذلك.
وقد مرّ معنا في طيات البحث أن التربية بالقدوة من أعظم وسائل التربية.
قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
قال ابن سعدي: «أي: حثّ أهلك على الصلاة، وأزعجهم إليها من فرض ونفل.
والأمر بالشيء: أمر بجميع ما لا يتم إلا به، فيكون أمرًا بتعليمهم، ما يصلح الصلاة ويفسدها ويكملها»
(2)
.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ .. } [التحريم: 6].
قال ابن كثير: «أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملًا فتأكلهم النار يوم القيامة»
(3)
.
- ويقول صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه -كتاب المساجد ومواضع الصلاة- باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى - حديث (1081).
(2)
ابن سعدي (ص 517).
(3)
تفسير ابن كثير (5/ 240).
(4)
البخاري (853)، ومسلم (1829).
أثر صلاة النوافل في البيت:
لقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في أداء النوافل في البيت لما يترتب على أدائها فيه من المصالح والمنافع العظيمة، ولا شك أن من أهم تلك المنافع والمصالح مشاهدة الأبناء لتك الصلاة ومحاكاة الآباء ومحاولة تقليدهم، لأنها مرحلة إعداد وتهيئة نفسية وتعويد غير مباشر.
إعدادًا وتمهيدًا لمرحلة الأمر بالصلاة، وفي هذا غرس لمحبة الصلاة في نفوسهم وترغيبهم فيها بالقدوة الحسنة من غير أمر مباشر بها، فإذا ما حان وقت أمرهم بها إذا هم قد تهيأوا لها واستعدوا لأدائها ورغبوا فيها طواعية، ومن ثَمَّ أداؤها على الوجه المشروع والأكمل والأتم عند مرحلة التكليف الشرعي.
وفي مثل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا»
(1)
.
ولا شك أن من أعظم هذا الخير وأنفعه رؤية الأبناء صلاة الآباء ومن ثَمَّ التأسي والاقتداء بهم.
متى يُؤمرُ الصَّبِيُّ بالصلاة:
- يقول صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»
(2)
.
قال الرافعي: «قال الأئمة: يجب على الآباء والأمهات تعليم أولادهم الطهارة والصلاة والشرائع بعد سبع سنين وضربهم على تركها بعد عشر سنين» .
قال الشافعي في المختصر: «وعلى الآباء والأمهات أن يؤدبوا أولادهم ويعلموهم الطهارة والصلاة ويضربوهم على ذلك إذا عقلوا» قال أصحابنا: ويأمره الولي بحضور الصلوات في
(1)
رواه أحمد (13986)، ومسلم (778).
(2)
صححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 266، رقم 247) وينظر: الموسوعة الكويتية (12/ 24).
الجماعة وبالسواك وسائر الوظائف الدينية»
(1)
.
ويؤدب الصبي بالأمر بأداء الفرائض والنهي عن المنكرات بالقول ثم التعنيف ثم بالضرب إن لم تُجْدِ الطرق المذكورة قبله، ولا يضرب الصبي لترك الصلاة إلا إذا بلغ عشر سنين؛ للحديث السابق:«مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع»
(2)
.
(3)
انتهى.
ومما ينبغي لفت النظر إليه أيضًا أن تأديب الصبي لا يكون على ترك الصلاة بالكلية فحسب، وإنما يكون أيضًا على التهاون في إتمام شروط صحتها وأركانها وواجباتها، فقد يصلي ولكن يتهاون في إتمام الطهارة لها، أو يصلي متعمدًا ترك الطهارة بالكلية، أو يتعمد تأخيرها عن وقتها، أو يؤديها بسرعة مخلة لصحتها، أو لا يتم ركوعها أو سجودها، أو يؤديها على أي صفة لا تصح معها الصلاة، فيجب تعليمه وتوجيهه ومتابعته وتشجيعه وترغيبه في الإحسان والإتمام، وتذكيره وتخويفه بما ورد في السنة المطهرة بمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي سِتِّينَ سَنَةً، ومَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ، لَعَلَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ، وَلَا يُتِمُّ السُّجُودَ، وَيُتِمُّ السُّجُودَ، وَلَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ»
(4)
.
- وبمثل حديث أبي قتادة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ:«لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا» ، أَوْ قَالَ:«لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ»
(5)
.
(1)
النووي، المجموع شرح المهذب، كتاب الصلاة (ص 13).
(2)
صححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 266)(رقم: 247) وينظر: الموسوعة الكويتية (12/ 24).
(3)
المغني (1/ 357).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 288)، والأصبهاني في الترغيب والترهيب (برقم: 1895)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 347)، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 81) (برقم: 2535).
(5)
أخرجه أحمد في المسند (37/ 319)(برقم: 22642) واللفظ له، وابن خزيمة (1/ 332) (برقم: 663)، والحاكم (1/ 229)، وابن حبان في صحيحه (برقم: 1888)، والبيهقي، والطبراني (برقم: 2347)، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 345)، وصححه محققو مسند الإمام أحمد (37/ 319).
فإن أصر بعد تكرار الترغيب والتوجيه بالحسنى، أُدّب واستُعمِلَ معه أسلوب الترهيب حتى يصل إلى الضرب بضوابطه الشرعية إلى أن يستجيب ويؤدي الصلاة على الوجه المشروع.
(1)
.
- ويقول معالي الشيخ الفوزان: «الضّرب وسيلة من وسائل التربية، فللمعلِّم أن يضرب، وللمؤدِّب أن يضرب، ولولّي الأمر أن يضرب تأديبًا وتعزيرًا، وللزوج أن يضرب زوجته على النشوز لكن يكون بحدود، لا يكون ضربًا مبرحًا يشقّ الجلْد أو يكسرُ العظم، وإنّما يكون بقدر الحاجة»
(2)
.
قال شيخنا العلامة الفقيه ابن عثيمين رحمه الله: «وكذلك قوله: «اضربوهم عليها لعشر» الأمر للوجوب، لكن يقيد بما إذا كان الضرب نافعًا؛ لأنه أحيانًا تضرب الصبي ولكن ما ينتفع بالضرب، ما يزداد إلا صياحًا وعويلًا ولا يستفيد، ثم إن المراد بالضرب الضرب غير المبرح، الضرب السهل الذي يحصل به الإصلاح ولا يحصل به الضرر»
(3)
.
(4)
.
ويقول سماحة شيخينا الإمام العلامة ابن باز رحمه الله: «والعناية بأهل البيت، لا تغفل عنهم يا عبد الله، عليك أن تجتهد في صلاحهم، وأن تأمر بنيك وبناتك بالصلاة لسبع، وتضربهم عليها لعشر،
(1)
فتاوى السبكي (1/ 379) بتصرف
(2)
إغاثة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (282 - 284) بتصرف.
(3)
لقاءات الباب المفتوح (جـ 95) لابن عثيمين.
(4)
فتاوى نور على الدرب (11/ 386).
ضربًا خفيفًا يعينهم على طاعة الله، ويعودهم أداء الصلاة في وقتها، حتى يستقيموا على دين الله ويعرفوا الحق، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
والخلاصة:
أن أول خطوات تربية الأبناء وتعويدهم على أداء الصلاة، أداء الآباء النوافل والسنن الرواتب في البيت ليطالعها الصغار ويحاكوها، ثم تعليمهم فقه الطهارة والصلاة وما يتعلق بهما من آداب وأحكام شرعية بحسب مداركهم مع أمرهم بها وترغيبهم وتحبيبهم فيها وتدريبهم عليها وذلك في سن سبع سنين، ويكون ذلك بالقدوة من الوالدين أولًا، ثم اصطحاب الأولاد لصلاة الجماعة في المسجد، مع المتابعة والصبر على ذلك، وكذلك حرص الأم على أمر بناتها بالصلاة وتأديتهن لها معها في البيت ليتعودنها ويألفنها، مع الوعظ والنصح والتذكير بأهمية الصلاة ومكانتها وفضلها، وبيان أنها أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وأنه لا يتم دين المسلم إلا بالمحافظة والمواظبة عليها.
ومن الأهمية بمكان أن يعلم الأبناء حكم ترك الصلاة وأن تركها كفر وهذا مما يزيدهم حرصًا عليها ورغبة فيها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال محذرًا ومبينًا لهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقَد كفر»
(2)
.
وبقوله صلى الله عليه وسلم أيضًا: «بين الرجل والكفر -أو الشرك- تركُ الصلاة»
(3)
.
ذلك كله مع إدامة الدعاء لهم اقتداءً وتأسيًا بخليل الرحمن عليه السلام حيث يقول في دعائه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، والله تعالى أعلم.
(1)
مجموع فتاوى ابن باز (6/ 46) بتصرف.
(2)
مسند أحمد (5/ 346) عن بريدة ا، وأخرجه أيضًا الترمذي في الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة (2621)، والنسائي في الصلاة، باب: الحكم في تارك الصلاة (463)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن ترك الصلاة (1079)، وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح غريب» ، وصححه ابن حبان (1454)، والحاكم (11)، وهو في صحيح الترغيب (564).
(3)
صحيح مسلم: كتاب الإيمان (82) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه.
والله تعالى لم يشرع لعباده إلا كل ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم؛ وإنَّ من أهم شرائعه -الصلاة- فهي محققة لمصالح العباد في المعاش والمعاد.
قال العز بن عبد السلام: «التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم»
(1)
.
(2)
.
(3)
.
(1)
انتهى من «قواعد الأحكام» (2/ 73).
(2)
أسرار الصلاة، لابن القيم (ص 55 - 56).
(3)
تنبيه الغافلين للسمرقندي (ص 147).
وفيما يلي بيان لأهم الثمار التي يجنيها العبد من الصلاة:
أولًا: الصلاة حاجز بين العبد والمعاصي
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لا تنفعُ الصلاة إلا مَن أطاعها» ، ثم قرأ عبد الله:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]
(1)
.
(2)
.
ثانيًا: الصلاة من أعظم الخصال المكفرة للذنوب
فهي كَفَّارةٌ للخطايا والذنوب، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه. قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا»
(3)
.
- وعن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة»
(4)
.
- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَل الصلوات الخمس كمَثَل نَهر جارٍ غمر على بابِ أحدكم يغتسل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ» قال: قال الحسن: «وما يبقي ذلك من الدرن»
(5)
.
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (13/ 298).
(2)
بهجة قلوب الأبرار وقُرَّة عيون الأخيار في شرْح جوامع الأخبار (ص 168).
(3)
رواه البخاري (2/ حـ 528)، ورواه مسلم (1/ المساجد/ 462/ حـ 283)، ورواه الترمذي (5/ حـ 2868)، والنسائي (1/ حـ 461)، وأحمد في مسنده (2/ 379).
(4)
رواه أحمد، والطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2144).
(5)
صحيح مسلم (برقم: 668).
ثالثًا: الصلاة نور للعبد
- عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزانَ، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حُجة لك أو عليك، كلُّ الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتِقُها، أو مُوبقُها»
(1)
.
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «بشِّر المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنورِ التامِّ يوم القيامة»
(2)
.
رابعًا: الصلاة خير ما يتحصن به العبد
- عن جُنْدُب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن صلَّى صلاةَ الصبح، فهو في ذمَّة الله، فلا يطلبنَّكم الله من ذمَّتِه بشيءٍ؛ فإنه مَن يطلبه من ذمته بشيءٍ يُدرِكه، ثم يكبُّه على وجهه في نار جهنم»
(3)
.
خامسًا: من حافظ على الصلاة فجزاؤه الجنة
- عن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي الله عنه قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ الله على الْعِبَادِ فَمَنْ جاء بِهِنَّ لم يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شيئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ؛ كان له عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ»
(4)
.
فإن منافع الصلاة وآثارها الحميدة عظيمة وكثيرة وجليلة وأكثر من أن يحصيها مقال، فبين الباحث أَجَلَّهَا، اختصارًا وخوفًا من الإطالة، ولعل في ذلك كفاية، والحمد لله رب العالمين.
(1)
صحيح مسلم (203/ 1)(برقم: 223).
(2)
سنن ابن ماجه (برقم: 773)، وصححه الألباني.
(3)
رواه مسلم (برقم: 657).
(4)
المسند (جـ 5)(ص 315)(برقم: 22745)، وسنن النسائي (جـ 1 ص 230) (برقم: 461)، وأبو داود (جـ 2 ص 62) (برقم: 1420)، وصححه ابن حبان (جـ 5)(ص 23)(برقم 1732)، والألباني في صحيح الجامع (5554) وغيره.
ثالثًا: الأمر بالإنابة ولزوم الجماعة واتباع سبيل المؤمنين
ويحتوي على ما يلي:
أولًا: تعريف الإنابة.
ثانيًا: بيان أهل التفسير حول آية لقمان.
ثالثًا: وجوب لزوم الجماعة واتباع سبيل المؤمنين.
أولاً: تعريف الإنابة
أ - الإنابة لغة:
تدور مادة: (ن و ب) حول الرجوع.
- يقول ابن فارس: «النون والواو والباء» كلمة واحدة تدل على اعتياد مكان ورجوعٍ إليه»
(1)
.
تقول: أناب فلان إلى الشيء، رجع إليه مرة بعد أخرى، وإلى الله تاب ورجع
(2)
.
وقال الراغب: «الإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل»
(3)
.
وفي التنزيل العزيز: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 31]، أي: راجعين إلى ما أمر به، غير خارجين عن شيء من أمره، وقوله تعالى:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] أي: توبوا إليه وارجعوا.
وقال ابن الأثير: «يقال: أناب ينيب إنابة فهو منيب، إذا أقبل ورجع، وفي حديث الدعاء «وإليك أنبت»
(4)
(5)
.
(1)
مقاييس اللغة (5/ 367).
(2)
المعجم الوسيط (2/ 961).
(3)
المفردات: (نوب)(529).
(4)
البخاري، أبواب التهجد، باب التهجد بالليل، برقم 1120، ويُنظر: الأرقام: 6317، و 7385، و 7442، و 7499، و مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، برقم 2719، وبنحوه برقم:769.
(5)
النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 123).
ب - الإنابة شرعًا:
إخراج القلب من ظلمات الشبهات، وقيل: الإنابة الرجوع من الكل إلى من له الكل، وقيل: الإنابة الرجوع من الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأُنْس.
وقال أبو البقاء الكفوي: «الإنابة: الرجوع عن كل شيء إلى الله تعالى»
(1)
.
ويقول ابن القيم: «الإنابة: الإسراع إلى مرضاة الله، مع الرجوع إليه في كل وقت، وإخلاص العمل له»
(2)
.
(3)
.
قال تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
بعد أن تجلى لنا معنى الإنابة لغة وشرعًا، نتحول إلى بيان أهل التفسير لدلالة الآية الكريمة.
ثانيًا: بيان أهل التفسير حول آية لقمان
يقول الطبري: «وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] يَقُولُ: وَاسْلُكْ طَرِيقَ مَنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَاتَّبَعَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
(1)
الكليات (308).
(2)
مدارج السالكين (1/ 467) بتصرف (21).
(3)
مدارج السالكين (1/ 434 - 435).
- قال قَتَادَةَ: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] أَيْ: مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ.
وَقَوْله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 15] فَإِنَّ إِلَيَّ مَصِيرَكُمْ وَمَعَادَكُمْ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، فَأُخْبِرُكُمْ بِجَمِيعِ مَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَعْمَلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ثُمَّ أُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، الْمُحْسِنُ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ بِإِسَاءَتِهِ»
(1)
.
يقول الإمام البغوي: «{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] أي: دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه»
(2)
.
ويقول أبو حيان:» {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] أَيْ: رَجَعَ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ سَبِيلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم»
(3)
.
ويقول السيوطي: «{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] قَالَ: مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ.
وأخرج ابن المنذر، عن ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] قَالَ: «مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»
(4)
.
ويقول ابن عاشور: «واتباع سبيل من أناب هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله، أي: الراجعين إليه»
(5)
.
ولقد جاءت تلك الوصية بالإنابة بعد تمام ما سبقها من الوصية بنبذ الشرك والوصية بالوالدين وعدم طاعتهما في معصية الله ولا سيما في الشرك لتدلل على أن تلك الوصايا توجب إخلاص العمل لله، وأن الوصية بالإنابة تدلل على إيجاب اتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه الكرام رضي الله عنهم ومنهج من سلك سبيلهم من سائر المنيبين.
(1)
الطبري (20/ 140).
(2)
معالم التنزيل (6/ 288).
(3)
البحر المحيط (7/ 187).
(4)
الدر المنثور (11/ 649).
(5)
التحرير والتنوير (162).
ثالثًا: وجوب لزوم الجماعة واتباع سبيل المؤمنين
وفي قوله تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] دلالة على الأمر بوجوب لزوم جماعة المسلمين وعدم شق عصا الطاعة بالخروج عن تلك الجماعة، ومن ثَمَّ لزوم تربية الأبناء على منهج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] وَالْأُمَّةُ مُنِيبَةٌ إلَى اللَّهِ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِهَا»
(1)
.
(2)
.
وقد رضي الله عن الصحابة وعن الذين اتبعوهم بإحسان.
- ذكر ابن جرير الطبري بأسانيده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]، قال:«الجماعة»
(3)
.
وفي بيان مفهوم الجماعة يقول ابن كثير في تفسيره: «أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه»
(4)
.
وسموا بالطائفة المنصورة:
(1)
مجموع الفتاوى (19/ 177 - 178).
(2)
إعلام الموقعين (4/ 120).
(3)
الطبري (7/ 71).
(4)
ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، دار الفكر، بيروت، (1401 هـ)(3/ 434).
وهو مأخوذ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في أحاديث عدة، منها: ما رواه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرُّهم من خذلهم، أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»
(1)
.
فكل من تمسك بالأصول الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع وسار على نهج السلف الصالح عقيدة ومنهاجًا وشريعة فهو من أهل السنة والجماعة كائنًا من كان.
قال الإمام الشافعي: «من قال بما تقول به جماعة المسلمين؛ فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم، التي أُمِرَ بلزومها»
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع، كان من أهل السنة والجماعة»
(3)
.
ومن أبرز مسميات أهل السنة الصحيحة التي أطلقت عليها:
1 -
أهل السنة والجماعة.
2 -
السلف الصالح.
3 -
الفرقة الناجية.
4 -
أهل الحديث والسنة.
5 -
أهل الأثر.
6 -
الطائفة المنصورة.
(1)
مسلم في صحيحه (3/ 1524)(برقم: 1037).
(2)
الشافعي: أبو عبد الله محمد بن إدريس، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة، (1358 هـ/ 1939 م)(ص 475).
(3)
ابن تيمية، مجموع الفتاوى (3/ 346).
وختامًا:
فإن مما يجب أن تُربَى عليه الأجيالُ المسلمة، وتُنشأ عليه الناشئة، هو منهج أهل السنة والجماعة، واتباع منهج السلف الصالح عقيدة ومنهاجًا، شريعة وأخلاقًا، ولا شك أن الوصية باتباع سبيل المنيبين في قوله تعالى:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] ضمن عموم وصايا لقمان التربوية فيه دلالة على وجوب العناية بهذا المنهج الأصيل ووضعه في أوليات مناهج التربية السديدة للأجيال المسلمة على مرّ العصور والأزمان.
وفي هذا كفاية. والحمد لله رب العالمين.
رابعًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترغيب في الصبر على ذلك
قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
أولاً: مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أ- المعروف في اللغة:
- قال ابن منظور: «المعروف: الجود، وقيل: اسم لما تبذله وتسديه.
- قال الزجاج: المعروف ما يستحسن من الأفعال»
(1)
.
والمعروف مأخوذ من المعرفة، وهي في أصل اللغة العربية: اسم لما يعرفه القلب ويطمئن إليه، وتسكن إليه النفس، قال الله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، والمعروف ضد المنكر، والعرف ضد النكر، والعارِفُ والعَروفُ الصبور، ويطلق المعروف على الوجه لأن الإنسان يعرف به، كما يطلق على الجود وقيل: هو اسم ما تبذله وتسديه
(2)
.
(1)
لسان العرب (جـ 4)(ص 2899 - 2900).
(2)
الجوهري، الصحاح (4/ 1401)، وابن منظور، لسان العرب (9/ 236 - 243)، والفيروز آبادي، القاموس المحيط (3/ 173)، وإبراهيم أنيس ورفاقه، المعجم الوسيط (ص 595).
ب- المعروف في الاصطلاح:
اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات
(1)
.
ج- المنكر لغة:
اسم لما تنكره النفوس وتشمئز منه ولا تعرفه، والمنكر من الأمر: خلاف المعروف.
قال تعالى: {{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]، أي: أقبح الأصوات
(2)
.
المنكر: هو واحد المَناَكِر، وهو النكر، قال تعالى:{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74]، والنَكِير والإنْكارُ: تغيير المنكر، والإنكارُ: الجحود، والتناكرُ: التجاهل
(3)
.
د- والمنكر في الاصطلاح:
كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه
(4)
.
وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة من أَجَلِّ وأعظم وأهم المهمات، وعبادة وطاعة من أفضل الطاعات، وقربى من أعظم وأعز القربات، وبالقيام بها ينال العبد رضا الله، ويتجافى عن شديد سخطه وأليم عقابه سبحانه. اهـ.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين، وتظهر أعلام الشريعة، وتفشو أحكام الإسلام، وبارتفاع سهمه يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور، ويورث القوة والعزة في المؤمنين، ويذل أهل المعاصي والأهواء، وترغم أنوف المنافقين
(5)
.
وبهذه الفريضة تقام الملة والشريعة ويحفظ الدين ويعلو الحق وينتشر العدل ويرفع الجور والظلم بين العباد فتزول كل عوامل الشّرّ والفساد وتثبّت كل معاني الخير والصّلاح في
(1)
ابن منظور، لسان العرب (9/ 240).
(2)
لسان العرب (جـ 6)(من 4539).
(3)
الجوهري، الصحاح (2/ 837)، وابن منظور، لسان العرب (5/ 232 - 234).
(4)
ابن منظور، لسان العرب (5/ 233).
(5)
ينظر: شعاع من المحراب (1/ 57) د/ سليمان بن حمد العودة.
الأمّة، ويبعث الإحساس بمعنى الإخوة والتكامل بين المؤمنين فيُشد ظهر المؤمنين وتقوى عزائمهم وتُرغم أنوف المنافقين وتضعف معنوياتهم ويُمَّكن لهذه الأمة في الأرض وتنتصر على أعدائها ويُدفع عنها العقوبات وتنجو من عذاب الله وينتفع الخلق وتقام الحجة عليهم وتستنزل الرحمة من الله تعالى وتصلح حياة الأمة بجميع جوانبها
(1)
.
أولاً: تربية الأبناء وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن تربية الأبناء لا بد أن تكون كاملة الأركان شاملة كل جوانب التربية، وهذا ما عناه لقمان في موعظته لولده، فبعد أن أسس فيه أعظم الجوانب ألا وهو جانب التوحيد وهو حق الخالق سبحانه وهو أعظم الحقوق، جاءت الوصية بأعظم الحقوق بعد حق الله ألا وهي الوصية بالوالدين، ثم جاءت بعد ذلك الوصية بمراقبة الله حتى يعظم الله في قلبه وتتحقق خشيته والخوف منه سبحانه، ثم تلتها الوصية ببيان سعة علمه سبحانه واطلاعه على خلقه ليكتمل البنيان، وبعد ذلك تهيأ لأن يعبد الله حق عبادته فجاء الأمر بالصلاة، ثم ينتقل لقمان في موعظته لابنه من عبوديته للخالق بإقام الصلاة إلى عبوديته سبحانه مع الخلق، فيوصيه بمخالطتهم ودعوتهم والصبر على ما يناله من أذى بسبب ذلك في ذات الله سبحانه، والسعيِ إلى التأثير في نفوسهم، بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ودعوتهم إلى الله تعالى؛ وتلك الرسالة العظيمة من عزائم الأمور وهي من المهام العظيمة التي أُنيطت بالرسل الكرام عليهم السلام، الذين خالطوا الناس وصبروا على الأذى في ذات الله ومن أجل إبلاغ الحق للخلق، فلم يعكفوا على عبادة ربهم متبتلين في صوامعهم، ولم يعيشوا في عزلة عن مجتمعاتهم، مخلفين وراءهم أعظم مهمة وأَجَلَّ رسالة، فلهم فيهم أسوة حسنة، بلاغًا وصبرًا واحتسابًا.
وبعد أن صلحت نفسه واكتملت بالفضائل تهيأت لأن تصلح غيرها وأن يكون الابن داعيًا
(1)
حكمة الشارع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قُدم لندوة تقوية الإيمان وزيادته (الدورة السابعة) المنعقدة بجامعة الإيمان بتاريخ 6 - 8/ جماد أولى/ 1431 هـ، الموافق 20 - 22/ إبريل/ 2010 م. (ص 28).
إلى الله آمرًا بالمعروف مؤتمرًا به وناهيًا عن المنكر منتهيًا عنه، فجاءت الوصية به.
ويؤكد هذا المعنى الرازي فيقول: «{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] أي: إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك، فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا أنفسهم ويكملوا غيرهم»
(1)
.
ثانيًا: بيان مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدين
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من أوجب فرائض الدين، وشعيرة من أعظم شعائره، ولذا ضمه لقمان ضمن وصاياه الخالدة لولده.
وإن مما حازت به هذه الأمة الخيرية بين الأمم قيامها بهذه الشعيرة العظيمة، ولعظم مكانتها فقد قرنها الله بالإيمان به سبحانه، كما قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
يقول رشيد رضا: «فعلم أنَّ خيرية الأمة وفضلها على غيرها تكون بهذه الأمور: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى»
(2)
.
(3)
.
ويقول ابن كثير: «فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح، كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها، رأى من الناس سرعة، فقرأ هذه الآية:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ثم قال: من سره أن
(1)
الرازي (131).
(2)
تفسير المنار (4/ 47).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (جـ 4)(ص 173).
يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله فيها»
(1)
.
ولما كانت خيرية هذه الأمة منوطة بالقيام بهذا الواجب الشرعي فقد أوجب الله عليهم نشر هذا الخير وبذله للغير ودعوة الناس إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهذا الواجب العظيم على أتم وجه حتى تحافظ الأمة على هذا الفضل الذي حباها الله إياه
(2)
.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه مصالح عظيمة لا تخفى، ومن أَجَلِّهَا، حصول الفلاح لأهل هذه الشعيرة العظيمة، مع كونهم قائمين بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
(3)
.
ثالثًا: بيان مكانة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وعلو شأن أهل هذه الشعيرة
قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
قال ابن سعدي: «وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله، وإرشاد الخلق إلى دينه
…
وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين؛ ولهذا قال تعالى عنهم: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
(1)
تفسير القرآن العظيم (2/ 103).
(2)
حكمة الشارع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -مرجع سابق- (ص 13) بتصرف يسير.
(3)
فتح القدير (1/ 368).
[لقمان: 5] الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب»
(1)
.
ولقد وصف سبحانه أهل النفاق في كتابه بأنهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
فمن اتصف بتلك الصفات شمله وصف النفاق والفسق والعياذ بالله.
بينما وصف سبحانه أهل الإيمان في كتابه بأنهم: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
قال ابن كثير: «أي: سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات»
(2)
.
فمن قام بحق هذه الشعيرة واتصف بتلك الصفات شمله الكريم برحمته.
والجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحدًا.
(3)
.
فلما عظموا أمره وأمر دينه وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، جعلهم الله أهلًا للتمكين في الأرض، فكيف لا يعلو شأنُهم وتعلو منزلتُهم ومكانتُهم وقد قاموا بهذا الواجب العظيم؟! كما قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (142).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 175).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 49).
رابعًا: أخص صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
والقائم بهذه الشعيرة العظيمة لا بد أن يكون:
1. عالمًا بما يأمر به، عالمًا بما ينهى عنه
ولزامًا «على من يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالمًا بما يأمر به وعالمًا بما ينهى عنه»
(1)
.
وفي ذلك يقول ابن سعدي: «{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] وذلك يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به، والعلم بالمنكر لينهى عنه، والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به، من الرفق، والصبر»
(2)
.
ولا شك في أن لقمان قصد هذا المعنى، بدلالة تقديم الوصية بالتوحيد والوصية بالوالدين وغيرها على هذه الشعيرة العظيمة كما هو ظاهر من السياق، والله أعلم.
2. أن يكون مؤتمرًا بما يأمر به، منتهيًا عما ينهى عنه
ولقد ذ م -سبحانه- مَن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وخالف فعلُهُ قولَهُ، وفي نحو ذلك يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2 - 3]. ويقول سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. وقال سبحانه عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: «أي: لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به»
(3)
.
(1)
مختصر منهاج القاصدين (ص 164).
(2)
ابن سعدي (6/ 1353).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (جـ 9)(ص 89).
3. أن يكون الآمر والناهي صبورًا
لأن الأمر والنهي مظنة عاقبته الابتلاء، فجات وصية لقمان الحكيم لولده بالصبر عقب وصيته بالأمر والنهي فقال له:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].
(1)
. ويؤكد نفس المعنى تأخير التواصي بالصبر عن التواصي بالحق في سورة العصر، والله أعلم.
(2)
.
(3)
. كما وصى الله بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10].
ويبيِّن شيخ الإسلام ابن تيمية جملة من الصفات التي يجب أن يتصف بها القائم بهذه الشعيرة وأن يتحقق بها ويصطحبها فيقول: «لا بد من العلم والرفق والصبر، فالعلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده»
(4)
.
(1)
الطبري (20/ 143).
(2)
ابن كثير (6/ 339).
(3)
ابن سعدي (6/ 1353).
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية (جـ 28)(من ص 134 إلى ص 137).
4. ولا بد أن يكون رفيقًا فيما يأمر به رفيقًا فيما ينهى عنه
وفي نحو ذلك جاءت وصيته تعالى لموسى وهارون عليهما السلام فقال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 43 - 44].
هذا مع ما جمع فرعون من صنوف الشرّ كله: من ادعاء الألوهية والربوبية، والعلو في الأرض، والصد عن سبيل الله، والتكبر والتجبر، والفساد والإفساد فيها، وسفك الدماء، وقتل الأبرياء، واستحياء النساء.
وقال الله تعالى أيضًا مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، ثم أوصى صلى الله عليه وسلم أمته بذلك فقال صلى الله عليه وسلم:«إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»
(1)
، ولا شك أن لنا فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة.
ويؤكد سفيان الثوري أيضًا على جملة من خصال القائم بتلك الشعيرة العظيمة فيقول: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى»
(2)
.
ولا ريب أن استعمال تلك الخصال له العواقب الحميدة والآثار الطيبة على الداعي والمدعو والدعوة نفسها على حدٍّ سواء.
ويقول سبحانه ممتنًا على نبيه صلى الله عليه وسلم أيضًا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
هذا كله مع وجوب التحلي بالإخلاص وحسن القصد، ولم يفرد الباحث الكلام عن الإخلاص مع أهميته ومكانته، لأنه شرط صحة في قبول جميع الأعمال.
(1)
مسلم (2539).
(2)
جامع العلوم والحكم (جـ 3)(ص 963). (59)
(1)
.
أعظم مأمور به وأعظم منهي عنه:
وأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْهُ الشِّرْكُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ، والدليل قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]
(2)
.
ويقول سعيد بن جبير: في قوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان: 17]«يعني: التوحيد، {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] يعني: الشرك»
(3)
.
ومما ورد في دعاء عمر بن عبد العزيز عند موته قوله: «اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر، فاغفر لي ما بينهما»
(4)
.
والقيام بهذه الشعيرة العظيمة يترتب عليه فعل الخير العميم، والنفع العظيم للأمة أفرادًا وجماعات، وتتحقق للأمة خيريتها الموعودة، وينال أهلها الفلاح، ويتحقق لهم كمال الإيمان وعلو الدرجات، وإجابة الدعوات، كما يتحقق لها كمال التأسي بالنبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين، الذين قاموا بهذا الواجب العظيم، وتسلم من الوعيد والعقاب المترتب على إهمال هذا الجانب العظيم، وتتربى الأجيال المسلمة على تعظيم الشريعة بالقيام بحق هذه الشعيرة.
(1)
الفوائد (1/ 149).
(2)
وينظر: ثلاثة الأصول (ص 42).
(3)
الدر المنثور للسيوطي (11/ 651).
(4)
ابن الجوزي، سيرة عمر بن عبد العزيز (ص 242).
المطلب الثالث: الجانب الأخلاقي
ويشتمل على:
1 -
التحذير من الكبر والتعالي.
2 -
الأمر بالوقار وترك الخيلاء.
3 -
الأمر بالقصد في المشي تواضعًا.
4 -
الأمر بخفض الصوت والاعتدال في ذلك.
أولاً: بيان مفهوم الأخلاق
أ- مفهوم الأخلاق لغةً:
قال الفيروز آبادي: «الخُلُق: بالضمِّ، وبضمتين: السجية والطَّبع، والمروءة والدين»
(1)
.
ب-مفهوم الأخلاق اصطلاحًا:
- قال الماوردي: «هي غرائز كامنة تظهر بالاختيار، وتقهر بالاضطرار»
(2)
.
ثانيًا: مكانة الأخلاق في الإسلام
لقد عُنيَت شريعة الإسلام بالجانب الأخلاقي وأولته عناية كبرى، ولقد تبوأت الأخلاق مكانة سامية ورفيعة في كتاب الله، وكان حامل مشعل الهداية صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس أخلاقًا، ولقد تمثل أخلاق القرآن، كما أخبرت أمُّ المؤمنين عائشة رض الله عنها أنَّ سعد بن هشام: سألها عن خُلق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فوصفت خُلُقَه بوصف جامع، فقالتْ:«أليس تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: «فإنَّ خلقَ نبيِّ الله كان القُرآن»
(3)
.
قال ابن كثير: «صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سَجِيَّة له وخُلُقًا تطبَّعَهُ، وترك طبعه الجِبِلِّي،
(1)
القاموس المحيط، الفيروز آبادي (ص 793) دار الفكر- بيروت.
(2)
تسهيل النظر وتعجيل الظفر (ص 5).
(3)
أخرجه مسلم (برقم: 746)، وأحمد في المسند (6/ 54، 91، 111، 163، 188، 216)، وأبو داود (برقم: 1342)، وابن ماجه (برقم: 2333)، والنسائي (3/ 199).
فمهما أمرَه القرآن فعله، ومهْما نهاه عنه تركه»
(1)
. وحسبنا في ذلك ثناء ربه عليه في محكم كتابه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
ولقد بلغ من عِظَم مكانة الأخلاق في الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنَّه حصر حقيقة بعثته، والغاية المهمة من رسالته و دعوته، في تقويم الأخلاق وإتمام مكارمها وإكمال محاسنها.
وكأني بمكارم الأخلاق صرحًا شامخ البنيان مكتمل الأركان شيده النبيون والمرسلون عليهم السلام، وَبُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليتم هذا الصرح، فيكتمل بنيانه المرصوص ببعثته صلى الله عليه وسلم.
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة -رض الله عنه-: «إنما بعثت لأتمم مكارم -في رواية: أبي صالح- الأخلاق»
(2)
.
قال المناوي: ««إنما بُعِثت» أي: أُرسلت «لأتمم» أي: لأكمل «الأخلاق» بعد ما كانت ناقصة، وأجمعها بعد ما كانت متفرقة»
(3)
.
ولذلك حرص الإسلام على غرس تلك الأخلاق ومكارمها وفضائلها في نفوس أتباعه، وحثهم على التمسك بها ورغبهم فيها.
ولقد كانت بعثته صلى الله عليه وسلم من أجل تزكية تلك النفوس وتطهيرها وتعليمها، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. وكما قال سبحانه أيضًا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} [البقرة: 151].
(1)
تفسير ابن كثير (جـ 4)(ص 403).
(2)
إنما بعثت لأتمم مكارم (و في رواية صالح) الأخلاق).
قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 75): رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم: 273)، و ابن سعد في الطبقات (1/ 192)، والحاكم (2/ 613)، وأحمد (2/ 318)، و ابن عساكر تاريخ دمشق (6/ 267/ 1) من طريق ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا. وهذا إسناد حسن.
وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي، و ابن عجلان إنما أخرج له مسلم مقرونًا بغيره.
وله شاهد: أخرجه ابن وهب في الجامع (ص 75)، أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم مرفوعًا به.
وهذا مرسل حسن الإسناد، فالحديث صحيح. وقد رواه مالك في الموطأ (8/ 904/ 2) بلاغًا.
وقال ابن عبد البر: هو حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره.
وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي، و ابن عجلان إنما أخرج له مسلم مقرونًا بغيره، و هذا إسناد حسن.
(3)
فيض القدير بشرح الجامع الصغير (2/ 710).
وإن المتأمل في القرآن المجيد والمتدبر لآياته يجد أن العناية بالجانب الأخلاقي ظهر جليًّا واضحًا بين ثنايا آياته، كما يجد قواعد هذا الجانب وأسسه والتوجيه إلى سجاياه ومحامده في كل أوامره ونواهيه وقصصه وأخباره ظاهرة وجلية أيضًا، ومن جملة هذه الأخلاق الفاضلة ما جاء في وصف وصايا لقمان للجانب الأخلاقي لولده وهو يعظه، وهو موضوع بحثنا هنا.
ثالثًا: الجانب الأخلاقي في وصايا لقمان
قال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 18 - 19].
الوصية الأولى من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي
1 - التحذير من الكبر والتعالي
قوله سبحانه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18]، هذه هي الوصية الأولى من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي، فبعد تأسيس الجانب العقدي والجانب التعبدي جاءت الوصية بالجانب الأخلاقي كالحلية لتلك الجوانب جميعًا.
فبعد تلك الوصايا جميعًا يأمر لقمان ابنه بالتواضع وينهاه عن صفة الكبر والتعالي على الناس، فكيف يدعوهم وهو متكبر عليهم، فالكبر مذموم على كل حال ومن كل أحد، فكيف بمن يدعو ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمن يفعل ذلك لا يجد قبولًا لدعوته عند الناس، ولا أثرًا لتعليمه في نفوسهم، ولا ثمرة مرجوة ولا صدى فعالًا لأمره ونهيه، وقد سبق في موعظة لقمان قوله:{إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]؛ لأن هذا الأمر من مهام النبيين
والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فالتعبير بـ (عزم الأمور) فيه معنى التشبه بأولي العزم، ولا شك أن التشبه بالكرام فلاح.
يقول البقاعي في ذلك: «الْمَطْلُوبُ فِي الْأَمْر والنهي اللينُ لا الْفَظَاظَةُ وَالْغِلْظَةُ الْحَامِلَانِ عَلَى النُّفُور»
(1)
.
والكبر كما يقول الغزالي هو: «استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير»
(2)
. ومِن علامات الكِبْر والتعالي على الناس: تصْعِيرُ الخدِّ احتقارًا وتنقصًا لهم.
ويجلي الطبري هذا المعنى فيقول: «وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَمَّنْ كَلَّمْتَهُ تَكَبُّرًا وَاسْتِحْقَارًا لِمَنْ تُكَلِّمُهُ، وَأَصْلُ (الصُّعْرِ) دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا أَوْ رُؤوسِهَا حَتَّى تَلْفِتَ أَعْنَاقَهَا عَنْ رُؤوسِهَا، فَيُشَبَّهُ بِهِ الرَّجُلُ الْمُتَكَبِّرُ عَلَى النَّاسِ
(3)
.
وتصعير الوجه: فيه معنى الصدود والإعراض، كما يقول مجاهد:{وَلَا تُصَعِّرْ} [لقمان: 18] قَالَ: الصُّدُودُ وَالْإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ عَنِ النَّاسِ»
(4)
. ولقمان يعلم ولده أدب التعامل مع الناس فينهاه عن احتقارهم وازدرائهم والإعراض عنهم، لأنه واحد منهم، فمن السفه أن يستخف بهم ويترفع عنهم بالإعراض ولَيِّ العنق تكبرًا وصدودًا.
وجاء في البُخاريِّ: «لا تُصعِّر: الإعراض بالوجه»
(5)
. والإعراض بالوجه ليس من مكارم الأخلاق. فدفعًا لكل المفاسد الأخلاقية من الكبر والتعالي، نهى لقمان ولده عن مخاطبة الناس وهو معرض ويؤكد هذ المعنى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فيقول:«{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] لَا تَكَلَّمْ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ» . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، وَأَبِي الْجَوْزَاءِ، وَسَعِيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِمْ
(6)
.
وقد يكون الإعراض سببه الحقد والضغينة فيحمله على الكبر والتعالي، كما قال مُجَاهِدٌ:«{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] قَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْحِنَةَ، فَيَرَاهُ فَيُعْرِضُ عَنْهُ»
(7)
.
ولا شك أن نهي لقمان ولده عن الإعراض عن الناس، دفعًا للتكبر وحثًّا له على التمسك بمحاسن الأخلاق والتواضع للخلق بالإقبال عليهم بوجه طليق، وجانب لين، ووجه منبسط، وفي هذا المعنى يَقُولُ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] يَقُولُ: لَا تُعْرِضْ عَنِ النَّاسِ، يَقُولُ: أَقْبِلْ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِكَ وَحُسْنِ خُلُقِكَ
(8)
.
(1)
نظم الدرر (15/ 177).
(2)
إحياء علوم الدين (جـ 3)(ص 40).
(3)
الطبري (20/ 144).
(4)
الطبري (20/ 145)
(5)
صحيح البخاري (2: 466).
(6)
ابن كثير (6/ 339).
(7)
الطبري (20/ 145).
(8)
الطبري (20/ 145).
ويؤكد ابن كثير نفس المعنى فيقول أيضًا: «وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] يَقُولُ: لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ، وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَلِنْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ وَجْهَكَ.
وتصعير الوجه عن الناس مع ما فيه من معنى التكبر، هو الحامل والداعي إلى احتقار الناس وازدرائهم، وهذا المعنى يجليه قول ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِه:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] يَقُولُ: لَا تَتَكَبَّرْ فَتَحْقِرَ عِبَادَ اللَّهِ، وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ»
(1)
.
(2)
.
(1)
ابن كثير (6/ 339).
(2)
القرطبي (14/ 66).
ويبين النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مصير المتكبر والمتعالي على الناس فيقول: «لا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ»
(1)
.
ولماذا لا يدخل المتكبر الجنة؟ لانتفاء حقيقة الذل والخضوع والانكسار لله عنه، وهذه هي أعظم وأَجَلُّ مشاهد العبودية الحقة لله تعالى، وفي مثل ذلك يقول ابن تيمية: الكبر ينافي حقيقة العبوديَّة، كما ثبت في «الصَّحيح»: عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «يقول الله: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذَّبته»
(2)
. فالعظمة والكبرياء من خصائص الرُّبوبيَّة، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرِّداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار
(3)
.
الوصية الثانية من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي:
2 - الأمر بالوقار وترك الخيلاء
قوله سبحانه: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18].
قال الراغب: «المشي: الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة»
(4)
.
يعاود لقمان الوصية لولده بالبعد عن صفة أخرى من صفات التكبُّر والخيلاء ألا وهي المشْي في الأرض مرَحًا وخُيَلاءً وإعجابًا بالنفس.
(1)
أخرجه مسلم (1/ 93)(رقم: 91)، وأبو داود (4/ 59) (رقم: 4091)، والترمذي (4/ 360)، (رقم: 1998) وقال: «حسن صحيح» ، وابن ماجه (1/ 22) (رقم: 59)،
وأخرجه أيضًا: البزار (4/ 323)(رقم: 1512)، وأبو يعلى (8/ 476) (رقم: 5065)، والشاشي (2/ 309) (رقم: 889)، وابن حبان (1/ 460) (رقم: 224)، والطبراني (10/ 75) (رقم: 10000)، وابن منده في الإيمان (2/ 611) (رقم: 542).
(2)
مسلم (4759).
(3)
العبودية (99).
(4)
مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني (2/ 377).
والمشي في الأرض مرحًا هو: المشي بشدة وطءٍ على الأرض ولا شك أن هذه الشدة فيها مقصود الكبر، وقد مضى معنا بيان معنى المشي أنه بإرادة. والماشي في الأرض مرحًا هو الماشي في تخايل وتكبر، يطأ الأرض بشدة متعمدًا الكبر وقاصدًا له بإرادته، وذلك ليترفع ببدنه علوًّا واستطالة على الخلق، وغرورًا وإعجابًا بالنفس، وتكبرًا عليهم وازدراءً لهم، ولاريب أن كل ذلك من عمل الشيطان، ولقد حثنا ديننا الحنيف على التواضع وأمرنا بالخضوع لله رب العالمين، لأن هذا الرب العظيم حرّم على عباده الكبر، والتعاظم والتعالي والاستعلاء في الأرض، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ»
(1)
.
والتواضع لعباد الله يكون عبودية لله وتزلفًا وتقربًا لديه سبحانه، ولذلك كان من صفات عباد الرحمن أنهم:{يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
قال الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «هونًا: حال أو صفة للمشي بمعنى: هينين، أو مشيًا هينًا، والهون: الرفق واللين، والمعنى: أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع»
(2)
.
وفي وصف أهل الإيمان أنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
قال ابن كثير: «وقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] أي: جذلًا متكبرًا جبارًا عنيدًا، لا تفعل ذلك يبغضك الله»
(3)
.
قال القرطبي: «{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] أَيْ: مُتَبَخْتِرًا مُتَكَبِّرًا، وَهُوَ النَّشَاطُ وَالْمَشْيُ فَرَحًا فِي غَيْرِ شُغْلٍ وَفِي غَيْرِ حَاجَةٍ. وَأَهْلُ هَذَا الْخُلُقِ مُلَازِمُونَ لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ؛ فَالْمَرِحُ مُخْتَالٌ
(1)
رواه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
(2)
تفسير الكشاف (3/ 283).
(3)
ابن كثير (6/ 339).
فِي مِشْيَتِهِ»
(1)
.
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18]. قال ابن سعدي: «أي: بطرًا، فخرًا بالنعم، ناسيًا المنعم معجبًا بنفسك»
(2)
. ولقمان كأنه أراد أن يلفت نظر ولده إلى أن الأرض التي تمشي عليها من ترابها قد خُلِقْتَ، ومصيرك إليها، فعلامَ يكون المشي مرحًا والتطاول عليها.
(3)
.
ويقول الشوكاني: ويقول الشوكاني: «{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] أَيْ: خُيَلَاءَ وَفَرَحًا، وَالْمَعْنَى النَّهْيُ عَنِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ، وَالْمُخْتَالُ يَمْرَحُ فِي مَشْيِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ»
(4)
.
ومثله قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
(5)
.
لقد تضمنت هذه الآية (آية الإسراء) النهي عن مشية المرح والتكبر، لما اتصف فاعلها
(1)
القرطبي (14/ 66).
(2)
ابن سعدي (6/ 1353).
(3)
نظم الدرر (15/ 177).
(4)
الشوكاني فتح القدير (1/ 1143).
(5)
ابن كثير (6/ 121/ 122).
بالتطاول والتعالي، ودك للأرض تطاولًا واستعلاء على الخلق، وهذه المشية يبغضها الله ويمقت صاحبها؛ لأنها مشية المتجبرين والمتكبرين والمتعالين الذين يحتقرون الناس.
يبين ذلك ويوضحه قول القرطبي: «{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح، وقيل: التكبر في المشي، وقيل: تجاوز الإنسان قدره، وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي، وقيل: هو البطر والأشر، وقيل: هو النشاط، وهذه الأقوال متقاربة»
(1)
وما ذكره القرطبي حول معنى المرح، معانيه متقاربة ومتشابهة، وقد تجتمع كلها في آن واحد، فالمَرِح في مشيه- يمشي في زهو وخيلاء تصحبه حالة من البطر والأشر في قوة ونشاط، قاصدًا بذلك التكبر والتعالي على الناس.
ويقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «لن تجعل فيها خرقًا بدوسك لها وشدة وطأتك بتطاولك، وهو تهكم بالمختال»
(2)
. والمشي مرحًا يندرج تحته كل محرم يؤدي إليه.
وفي ذلك يقول العلامة الشنقيطي: «واستدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18] على منع الرقص وتعاطيه؛ لأن فاعله ممن يمشي مرحًا»
(3)
.
و بنحو من ذلك يقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي أيضًا: «ولا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون بنعالهم أشرًا وبطرًا»
(4)
.
ولا شك أن متعاطي الرقص يفعل ذلك، ولعل كلام الشنقيطي مُستقى من فحوى كلام الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي، وذلك لأمرين:
أولًا: لتقدم الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي زمانًا.
ثانيًا: لتشابه المعنيين إن لم يتفقا على وصف من يتعاطى الرقص.
(1)
القرطبي (10/ 235).
(2)
الكشاف (2/ 641).
(3)
أضواء البيان (3/ 157).
(4)
الكشاف (3/ 283).
ويُختَمُ الكلامُ عن المشي في الأرض مرحًا بنفيسة من نفائس ابن عاشور حيث يقول:
وموقع قوله: (في الأرض) بعد (لا تمش) مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض هو الإيماء إلى أن المشي في مكان يمشي فيه الناس كلهم قويهم وضعيفهم، ففي ذلك موعظة للماشي مرحًا أنه مساوٍ لسائر الناس
(1)
.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18].
إن من كمال تربية لقمان وتمام موعظته أن سعى لتوجيه ولده لخلق التواضع ونبذ أخلاق المتكبرين وصفات المتعالين، من الفخر والخيلاء والإعجاب بالنفس ومدحها وذم الآخرين، وبيان بغض الله لأهلها وذمهم وذم فعالهم، وذلك لصيانته عن هذه الأخلاق الذميمة وتلك الصفات القبيحة، حفظًا لديانته وصيانة لمروءته.
وفي ذلك يقول ابن كثير: «{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: مختال معجب في نفسه، فخور: أي على غيره»
(2)
.
والمختال هو: من يمشي مشية البطر الأشر المتكبر المترفع على الناس عمومًا وعلى أقرانه خصوصًا. والفخور هو: الذي يذكر مناقبه ومآثره ومآثر آبائه وأجداده ومناقبهم ومحامدهم متطاولًا بذلك على سامعيه ومتفاخرًا عليهم تباهيًا بنفسه وتعظيمًا لذاته.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم:«بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ؛ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(3)
.
ويقول مجاهد في ذلك: «{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18] قَالَ: مُتَكَبِّرٍ. وَقَوْلُهُ:
(1)
ابن عاشور (22/ 167).
(2)
ابن كثير (3/ 339).
(3)
رواه البخاري (3297)، ومسلم (2088).
{فَخُورٍ (18)} قَالَ: يُعَدِّدُ مَا أَعْطَى اللَّهَ، وَهُوَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ»
(1)
.
والمختال: هو المتكبر كما سلف وقد يكون اختياله بفعله، وقد يكون أيضًا بقوله وبالعكس.
وفي ذلك يقول ابن سعدي:» إن الله لا يحب كل (مختال) بقوله (فخور) في نفسه وهيئته وتعاظمه»
(2)
.
ولقد حذر لقمان ولده من الكبر وأخلاق المتكبرين، وإنما يصدر هذا من قلب أبٍ شفيق حريص على وقاية فلذة كبده وثمرة فؤاده من غضب الله وأليم عقابه، و يدلل هذا أيضًا على حكمة لقمان، وفي مثل هذا المعنى جاء تحذير النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأمته فيقول:«من تعظّم في نفسه أو اختال في مِشْيته لقي اللهَ وهو عليه غضبان»
(3)
.
- وقال مجاهد في قوله تعالى {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)} [القيامة: 33]«أي: يتبختر»
(4)
.
وقد أجاد من قال:
وَلَا تَمْشِ فَوْق الْأَرْض إِلَّا تَوَاضُعًا
…
فَكَمْ تَحْتهَا قَوْم هُمُو مِنْك أَرْفَع
وَإِنْ كُنْت فِي عِزّ وَحِرْز وَمَنْعَة
…
فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْم هُمُو مِنْك أَمْنَع
(5)
.
وإنما أعقب لقمان تحذيره لولده من الكبر بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18]، مبينًا له سبب نهيه عن الكبر ومحذرًا له من مغبته وسوء عاقبته.
وفي ذلك يقول الشوكاني: «وَجُمْلَةُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ.
وَالْفَخُورُ: هُوَ الَّذِي يَفْتَخِرُ عَلَى النَّاسِ بِمَا لَهُ مِنَ الْمَالِ أَوِ الشَّرَفِ أَوِ الْقُوَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ
(1)
الطبري (20/ 145).
(2)
ابن سعدي (6/ 1353).
(3)
المسند (5995)، والأدب المفرد (549)، وشُعَب الإيمان (8167)، وصححه الحاكم في المستدرك (1/ 60)، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 98): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وبنحوه قال الحافظ المُنْذري في الترغيب والترهيب (4302) في باب الترغيب في التواضع، والترهيب من الكِبْر والعُجب والافتخار، وقد أورد فيه (44) حديثًا، منها هذا الحديث.
(4)
إحياء علوم الدين (جـ 3)(ص 340).
(5)
روضة العقلاء (ص 61).
مِنْهُ التَّحَدُّثُ بِنِعَمِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]»
(1)
.
وقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)} [النحل: 23].
ويوضح الألوسي معنى الفخور فيقول: «والفخور: من الفخر، وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه»
(2)
.
وختامًا:
فإن الكبر من الأمور المعضلات المهلكات وهو داء شديد، ووبال هائل عظيم، وبه هلك من هلك من خواص الأنام فضلًا عن غيرهم من العوام، وهو حاجب لصاحبه عن قبول الحق والوصول لأخلاق المؤمنين الكرام، إذ فيه إباء مانع من التواضع، وقبول الحق والإذعان له.
وأما حقيقة الكبر:
فهي تأتي من باب رؤية النفس والإعجاب بها، والحقد على ذوي النعم وحسدهم على نعم الله عليهم، وكذلك ازدراء الناس وتنقصهم واحتقارهم، ورد الحق وإن كان جليًّا.
وأما أسباب الكبر:
فتدخل على الإنسان غالبًا من باب: العلم وحب الاستعلاء بسبب تحصيله والظهور على الأقران، أو العبادة وحب المدح من أجلها، أو المكانة الاجتماعية وما يتبعها من مال أو جاه أو سلطان أو منصب أو نسب وحسب أو أيّ قوة حسّية أو معنوية، وقد يكون الكبر ناتجًا أيضًا عن الشعور بالنقص.
أضرار الكبر:
وللكبر أضرار على العبد بالغة كما تبين معنا سابقًا، فوجب بيان تلك الأضرار والمساوئ بشيء من التفصيل والإيضاح.
(1)
الشوكاني فتح القدير (1/ 1143).
(2)
الألوسي (11/ 89).
إن الكبر:
1 -
من أعظم أسباب حلول سخط الله ونقمته وغضبه على من تلبس به لأنه منازع للرب أخص صفاته سبحانه.
2 -
يعامل صاحبه يوم القيامة بنقيض قصده فيحشر يوم القيامة أمثال الذر ذليلًا إلى النار.
3 -
من أعظم الأسباب المؤدية إلى ردّ الحق وعدم قبوله.
4 -
من أعظم الأسباب المؤدية إلى وقوع الشحناء والبغضاء بين الناس، وبالتالي هو من أسباب نفور الناس من صاحبه وبغضهم ومعاداتهم له.
وأما معالجة الكبر فتكون:
أولاً: بمعرفة عظمة الخالق سبحانه، وأن الكبرياء من أخص صفاته، وأن الكبرياء والعظمة لا تليق إلا به سبحانه
فالْكِبْرُ وَالْكِبْرِيَاءُ: من الصفات الذاتية الخبرية اللازمة الثابتة بالكتاب والسنة لله تبارك وتعالى وحده دون ما سواه من خلقه
(1)
.
قالَ تعالى: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23].
والكبرياء لا يكون إلا له جل في علاه كما قال سبحانه: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 37].
- عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا
(1)
الصفات الخبرية، هي الصفات الثابتة لله تعالى بالخبر كالوجه واليدين والساق ونحوها، فإن العقل لا سبيل له إلى إثباتها، ومذهب أهل السنة والجماعة في هذه الصفات وغيرها من صفات الرب العظيم جل في علاه، مشهور ومعروف، وهو أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة على الحقيقة، بلا تأويل ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف، ويمرونها كما جاءت مع اعتقاد تنزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين كما أخبر جل في علاه عن نفسه في كتابه بقوله سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ} [الشورى: 11].
فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»
(1)
.
وهذا كافٍ لنزع الكبر من النفس لمن كان له أدنى بصيرة.
قال ابن القيم: «فكلما شمخت نفسُه: ذَكَر عظمة الرب تعالى، وتفرده بذلك، وغضبه الشديد على من نازعه ذلك، فتواضعت إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبه، واطمأن لهيبته، وأخْبت لسلطانه، فهذا غاية التواضع، وهو يستلزم الأول من غير عكس. (أي: يستلزم التواضع لأمر الله ونهيه، وقد يتواضع لأمر الله ونهيه من لم يتواضع لعظمته).
والمتواضع حقيقة: من رزق الأمرين، والله المستعان»
(2)
.
ثانيًا: بتذكر الإنسان أصله وضعفه ومصيره
فمعرفة الإنسان أصل خلقته ومصيره، مما يعينه ويحمله على ترك الكبر، فأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بين ذلك يحمل بين جنبتيه العذرة، وبمثل هذا قَالَ عَلِيٌّ-رضي الله عنه، وَقَالَ بَعْضُهُم:«مَا بَالُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرَهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ بَيْنَ ذَلِكَ وِعَاءٌ لِقَذَرِهِ أَنْ يَفْخَرَ»
(3)
.
يقول الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: «عَجَبًا لابْنِ آدَمَ يَتَكَبَّرُ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ»
(4)
.
ويقول سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه لابنه: «يا بني، إيَّاك والكبر، وليكن فيما تستعين به على تركه: علمك بالذي منه كنت، والذي إليه تصير، وكيف الكبر مع النُّطفة التي منها خُلِقْتَ،
(1)
رواه البخاري (7444)، ومسلم (180).
(2)
الروح (233).
(3)
شعب الإيمان للبيهقي، السابع والخمسون من شعب الإيمان وهو
…
(فصل في التواضع وترك الزهو والصلف والخيلاء)(برقم: 7727).
(4)
التواضع والخمول لابن أبي الدنيا، بَابٌ فِي الْكِبْرِ (203)، وإحياء علوم الدين (3/ 3389).
والرحم التي منها قُذِفْتَ، والغذاء الذي به غُذِّيتَ»
(1)
.
فمن كان هذا منشأه وتلك أطواره وأحواله فمن أين يداخله الكبر والتعالي على الخلق، فلا يليق بالمخلوق الضعيف الفقير من كل وجه وفي كل حال إلى الله الغني الحميد من كل وجه وفي كل حال، إلا الذل والخضوع والتواضع لله ثم لعباده.
ثالثًا: التأمل في عاقبة المتكبرين
ويتأمل مصير المتكبرين وأولهم إبليس، والنمرود بن كنعان، ثم فرعون وهامان وقارون، مرورًا بأبي جهل بن هشام، وأُبي بن خلف، ومن سار على دربهم من سائر المتكبرين والعتاة المتجبرين، وما آلوا إليه وما عوقبوا به في العاجلة، مع ما ينتظرهم من سوء المصير والمآل في الآخرة، ومعرفة بغض الله للمتكبرين، وأن الكبر يوجب لصاحبه النار؛ لأنه منازعة الرب أخص صفاته سبحانه، كما أسلفنا.
أما مصير هؤلاء المتكبرين ومآلهم يوم القيامة فقد أخبرنا الله عنه في مواضع كثيرة من كتابه محذرًا من سلوك مسلكهم وسوء مصيرهم، ومنها قوله تعالى:{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 76].
(1)
العقد الفريد، لابن عبد ربه (2/ 197).
(1)
. اهـ.
وكذلك حذر رسوله صلى الله عليه وسلم أمته من سلوك مسلكهم واتباع سبيلهم، كما ورد في حديث عَمْرو بْن شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:«يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ»
(2)
.
رابعًا: التعرف على هدي وشمائل سيد المتواضعين صلى الله عليه وسلم، والسعي للتخلق بأخلاقه
وكذلك التعرف على صفات سائر المتواضعين من صالح المؤمنين، والتخلق بأخلاقهم، ومعرفة ثواب المتواضعين في العاجل والآجل، والتأسي بفعالهم، وهذا كله مما يعين على التواضع والبعد عن التكبر والتعالي على الناس.
خامسًا: العلم بالله سبحانه وبأمره ونهيه وثوابه وعقابه، له أبلغ الأثر في صلاح حال العبد واستقامته
وكذلك الحرص على التفقه في الدين عمومًا، مع محاسبة النفس، ومجالسة أهل الفضل والعلم والعقل والدين، كل ذلك من العوامل المعينة على نبذ الكبر والإعراض عنه، والتخلق بأخلاق المؤمنين والكملة من عباد الله الصالحين.
(1)
ابن كثير (7/ 158) بتصرف يسير.
(2)
الترمذي (2416)، وأحمد (6390)، وهو في صحيح الأدب المفرد (جـ 1)(219).
الوصية الثالثة من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي
3 - الأمر بالقصد في المشي تواضعًا
قوله سبحانه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19].
تمهيد:
إن نعمة المشي من نعم الله على خلقه، وقد قسم سبحانه هذه النعمة بين خلقه كما قسم بينهم أرزاقهم وجميع آلائه بينهم، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45] كالحيات والزواحف، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور: 45] كسائر البشر، {وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] كالبهائم وغيرها من المخلوقات، وهكذا سبحانه {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور: 45]، ويعطي كل مخلوق ما يناسبه ويهديه إلى ما يلائمه، فهذا خلقه، فسبحانه قد أحسن وأحكم كل شيء خلقه حكمة وعلمًا، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} [النور: 45].
قال القرطبي: «المشي على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره، وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى، والأربع لسائر الحيوان»
(1)
.
فالإنسان خُلِقَ في أحسن تقويم، وقد جعل الله مشيه على رجلين يمشي مشيًا سويًّا، ولم يجعل مشيه على بطنه كالثعابين، ولم يجعل مشيه على أربع كالبهائم وسائر العجماوات، أفبعد هذا التكريم يليق بعاقل أن يتخايل ويتمايل ويتبختر ويتعالى في مشيته ويتكبر على عباده.
وإن كان المشي من نعم الله تعالى على خلقه؛ فهو كذلك آية عظيمة من آياته الكبرى الباهرة التي تدل على قدرته في عظم تدبير شؤون خلقه كل بما يناسبه فسبحانه: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه: 50]. ومن دلائل قدرته سبحانه أنه يحشر الكفار يوم القيامة على وجوههم كما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97].
قال ابن سعدي: «يحشرهم الله على وجوههم ـ خزيًاـ عميًا وبكمًا، لا يبصرون ولا ينطقون»
(2)
انتهى.
ومما يدل على ذلك أيضًا من السنة ما ورد في باب قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى
(1)
تفسير القرطبي (12/ 292).
(2)
ابن سعدي (ص 467).
جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)} [الفرقان: 34].
فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا نبي الله، يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة! قال:«أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» ؟! قال قتادة: بلى وعزة ربنا
(1)
.
(2)
.
والمتتبع لآي الذكر الحكيم والمتأمل في كلمة المشي وما اشتقت منه يجدها ذكرت في نيف وعشرين موضعًا في كتاب الله تعالى، وفي هذا دلالة على العناية بالمشي، لأنه آية من آياته سبحانه الدالة على قدرته وعظمته.
ولقمان هنا يعاود المواعظ التربوية لولده ملازمًا لقاعدة التخلية قبل التحلية، والتصفية قبل التربية، فأراد أن يخلي قلب ابنه ويصفيه من الرذائل أولًا، فنهاه عن الإعراض عن الناس وتصعير خده إليهم تكبرًا، والمشي في الأرض مرحًا مختالًا فخورًا متعاليًا، ثم أراد هنا أن يجمله ويحليه بالفضائل ثانيًا، فأمره بالمشي متواضعًا، ووجهه إلى ما ينبغي أن يكون عليه حال مشيه من التوسط والاعتدال وسلوك مسلك عباد الرحمن.
فحينما يَنْهَى المربي عن الخلق الرذيل الممنوع، فلا بد من تقديم الخلق البديل المشروع، وهذا ما فعله لقمان الحكيم عليه السلام.
(1)
رواه البخاري في صحيحه - في كتاب الرقاق: باب كيف الحشر (برقم: 4760) وهو في كتاب تفسير القرآن، تفسر سورة الفرقان (برقم: 44829) (ص 349) البخاري أيضًا.
(2)
فتح الباري، حديث (رقم: 9750) (ص 390).
وفي هذا يقول أبو حيان: «ولما نهاه عن الخلق الذميم، أمره بالخلق الكريم»
(1)
.
ويبين ابن كثير معنى القصد فيقول: «وقَوْلُه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19]، أَيِ: امْشِ مَشْيًا مُقْتَصِدًا لَيْسَ بِالْبَطِيءِ الْمُتَثَبِّطِ، وَلَا بِالسَّرِيعِ الْمُفْرِطِ، بَلْ عَدْلًا وَسَطًا بَيْنَ بَيْنَ»
(2)
.
ويؤكد الشوكاني نفس المعنى فيقول: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أَيْ: تَوَسَّطْ فِيهِ، وَالْقَصْدُ مَا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالْبُطْءِ، يُقَالُ: قَصَدَ فُلَانٌ فِي مِشْيَتِهِ: إِذَا مَشَى مُسْتَوِيًا لَا يَدِبُّ دَبِيبَ الْمُتَمَاوِتِينَ وَلَا يَثِبُ وُثُوبَ الشَّيَاطِينِ، فَلَا بدَّ أَنْ يُحْمَلَ الْقَصْدُ هُنَا عَلَى مَا جَاوَزَ الْحَدَّ فِي السُّرْعَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ لَا تَخْتَلْ فِي مِشْيَتِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: امْشِ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، كَقَوْلِهِ:{يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] «
(3)
.
فبعد أن علَّم لقمان ابنه خلق التعامل مع الخلق، بانبساط نفسٍ وبشاشة وجهٍ ورحابة صدرٍ وإقبالِ ذاتٍ مصحوبٍ بإصغاءٍ إلى من يحدثه؛ يعقبه بتوجيهه ووعظه وإرشاده لحسن الأدب مع نفسه في مشيه متواضعًا مصطحبًا السكينة والوقار، وهذا من أظهر الأخلاق وأحسنها مع الناس ومع النفس على حدٍّ سواء.
ويقول البغوي: «{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] أَيْ: لِيَكُنْ مَشْيُكَ قَصْدًا لَا تَخَيُّلًا وَلَا إِسْرَاعًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: امْشِ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، كَقَوْلِهِ:{يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] «
(4)
.
ويقول الزَّمَخْشَرِيُّ المعتزلي: «واعدل فيه حتى يكون مشيًا بين مشيين: لا تدب دبيب المتماوتين، وتثب وثيب الشطار»
(5)
.
(1)
أبو حيان (7/ 189).
(2)
ابن كثير (6/ 340).
(3)
فتح القدير (1/ 1143).
(4)
البغوي (6/ 290).
(5)
تفسير الكشاف (3/ 383).
ويقول ابن سعدي: «أي: امش متواضعًا مستكينًا، لا مشي البطر والتكبر، ولا مشي التماوت»
(1)
.
وأما حقيقة التواضع: فتتمثل في الإذعان للحق وعدم رده وقبوله من أي مخلوق كائنًا من كان، وتتمثل في خفض الجناح للمؤمنين تواضعًا لهم، وأداء الحقوق لأهلها بلا امتنان ولا تفضل.
يقول الجنيد بن محمد: «التواضع هو: خفض الجناح ولين الجانب»
(2)
.
وأما حقيقة الكبر: فتتمثل في بطر الحق ورده وعدم قبوله، ورؤية النفس ومحاولة رفعها وإعلائها بالكبر وإنزالها منزلة غير منزلتها، تعظيمًا وإكبارًا وإجلالًا لها، وغمط الناس واستصغارهم وازدرائهم تحقيرًا لهم.
وفي الحديث: «الكبر: بطر الحقِّ وغمط النَّاس»
(3)
.
يقول ابن القيم: «فسَّر النَّبي صلى الله عليه وسلم الكِبْر بضده فقال: «الكِبْر بطر الحق، وغمص الناس»
(4)
.
فبطر الحق: رده، وجحده، والدفع في صدره، كدفع الصائل.
وغمص الناس: احتقارهم، وازدراؤهم، ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها»
(5)
.
وحول الأسباب التي يتحقق بها التواضع يقول الإمام ابن القيم:
التواضع يتولد من العلم بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله، وتعظيمه، ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها، وعيوب عملها وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله
(1)
ابن سعدي (6/ 1353).
(2)
مدارج السالكين (2/ 329).
(3)
مسلم (91) من حديث ابن مسعود ا.
(4)
وكلمة: (غمص) رواية في الحديث، وهي بمعنى غمط، ينظر: مشارق الأنوار (2/ 135).
(5)
مدارج السالكين (2/ 218).
خلق هو (التواضع)، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحدٍ فضلًا، ولا يرى له عند أحدٍ حقًّا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خلُق إنما يعطيه الله تعالى من يحبُّه، ويكرمه، ويقربه
(1)
.
وأخيرًا: لعل هذا يكون هاديًا لكل مسترشد لا يريد علوًا في الأرض ولا فسادًا، كما قال سبحانه:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. قال ابن جُرَيْج: «{لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83]: تعظمًا وتجبرًا، {وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]: عملًا بالمعاصي»
(2)
.
ويُخْتَمُ الكلامُ ببيان بعض هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المشي ليكون نبراسًا يضيء الطريق لكل مسترشد راغبٍ في التأسي به والاقتداء بهديه والاستنان بسنته صلى الله عليه وسلم فـ: «عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ .. »
(3)
.
ومعنى تكفأ يوضحه قول عليٍّ رضي الله عنه حيث يقول: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفُّؤًا كأنما ينحط من صبب» أَي: في موضع مُنْحدر
(4)
.
قال الملا على القاري:
الْمَعْنَى: يَمْشِي مَشْيًا قَوِيًّا سَرِيعًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الصَّبَبُ الْحُدُورُ، وَهُوَ مَا يَنْحَدِرُ مِنَ الْأَرْضِ، يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَشْيًا قَوِيًّا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ رَفْعًا بَائِنًا.
(5)
وروى البغوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَشَى، مَشَى مَشْيًا
(1)
الروح (233).
(2)
تفسير ابن كثير (6/ 258).
(3)
أخرجه مسلم (برقم: 2330).
(4)
البخاري في تاريخه (1/ 7، 8)، والترمذي (3637)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» .
(5)
مرقاة المفاتيح (9/ 3704).
مُجْتَمِعًا، يُعْرَفُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْيِ عَاجِزٍ وَلا كَسْلانَ.
(1)
قال المناوي: ومع سرعة مشيه: كان على غاية من الهَوْن والتأني وعدم العجلة، فكان يمشي على هينته، ويقطع ما يُقطع بالجهد؛ بغير جهد
(2)
.
قال ابن القيم: « ..... وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات، وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة، وهي مشية مذمومة قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مشية مذمومة أيضًا، وهي دالة على خفة عقل صاحبها، ولا سيما إن كان يكثر الالتفات حال مشيه يمينًا وشمالًا، وإما أن يمشي هونًا، وهي مشية عباد الرحمن، كما وصفهم بها في كتابه فقال:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار، من غير تكبر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تُطوى له حتى كان الماشي معه يجهد نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين: أن مشيته لم تكن مشية تماوت ولا مهانة، بل مشية أعدل المشيات»
(3)
.
(1)
شرح السنة للبغوي (12/ 320)، وحسنه الألباني في " الصحيحة "(2140).
(2)
فيض القدير للمناوي (5/ 248).
(3)
زاد المعاد (1/ 160). وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:" مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا؛ وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ".، رواه أحمد (8588)، وهو عند الترمذي برقم (3648)، وإسناده ضعيف، ضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي"، وضعفه في مختصر الشمائل (100)، وضعفه كذلك فى الضعيفة (4213). من طريق رشدين بن سعد.
الوصية الرابعة من وصايا لقمان لابنه في الجانب الأخلاقي
4 - الأمر بخفض الصوت والاعتدال في ذلك
قال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
يعرف ابن عاشور الغض فيقول: «والغض: نقص قوة استعمال الشيء. يقال: غض بصره، إذا خفض نظره فلم يحدق
…
فغض الصوت: جعله دون الجهر»
(1)
.
ويعرفه أبو حيان فيقول: «والغض من الصوت: التنقيص من رفعه وجهارته، والغض: ردّ طموح الشيء، كالصوت والنظر والزمام.
وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت، وتمدح به في الجاهلية»
(2)
.
وإن علو الصوت والصخب ليس من صفات أهل الإيمان، إلا ما كان لعبادة مأمور بها شرعًا كالنداء للصلاة، أو رفع الصوت بالتلبية، أو لمصلحة شرعية راجحة لا تتحقق إلا بذلك، أو لحاجة عارضة لا بد له منها ولا غنى له عنها.
يقول النيسابوري: «قال العلماء: إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف .. ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ.
ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس» ، وكان العباس أجهر الناس صوتًا»
(3)
.
(1)
ابن عاشور (21/ 111).
(2)
أبو حيان (7/ 189).
(3)
تفسير النيسابوري (جـ 7)(ص 38)، وينظر: تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (1/ 558) تأليف: حسين بن محمد بن الحسن الديار بكري المالكي، نزيل مكة، المتوفى بها (966 هـ - 1558 م)، الناشر: دار صادر -بيروت الطبعة: - عدد الأجزا: 2، نوفمبر (2010 م). بتصرف يسير.
وهذا الحديث: رواياته مبسوطة في كتب التفسير والسير والمغازي، ولم أقف له على تخريج له يشفي الغليل إلا قول ابن حجر:«لم أجده» ، الكافي الشاف في تحرير أحاديث الكشاف (155) (رقم: 9، 10) لابن حجر، وينظر:(ص 715) من كتاب تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري، تأليف: جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي (المتوفى: 762 هـ)، تحقيق: عبد الله بن عبد الرحمن السعد، الناشر: دار ابن خزيمة -الرياض- الطبعة الأولى (1414 هـ)، عدد الأجزاء:(4).
* يوضح الباحث ويقول:
لقد وجدت في أغلب الروايات (يوم أحد) بدلًا من (يوم حنين)، ومن المعلوم أن العباس لم يشهد أحدًا أصلًا، لأنه لم يكن قد أسلم بعد، وقد اخُتلِف في زمن إسلامه، والراجح -والله أعلم- أنه عام خيبر في السنة السابعة للهجرة، وإنما كانت غزوة حنين في السنة الثامنة للهجرة، وهذا مما يدلل على وهن هذا الحديث واضطراب رواياته المذكورة في كتب التفسير والسير والمغازي، والله أعلم.
وإن مخاطبة الناس بصوت منخفض ومعتدل يتحقق به المرغوب ويُنالُ به المطلوب، وفي نحو ذلك، يقول أبو حيان:«وغض الصوت أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه»
(1)
.
ومع ذلك فهو يدل على رجاحة العقل والثقة بالنفس مع الدلالة على كمال الأخلاق وحسن الأدب الذي يرقى بصاحبه إلى مدارج أهل الفضل الذين بلغوا الدَّرَجَاتُ الْعُلَا من الكمال البشري، ويجد من الناس الاطمئنان إليه، والإقبال على حديثه، والإنصات إليه، والإصغاء له وتصديقه، والثقة فيما يروي من كلام وأخبار وغير ذلك، ذلك لأن الكلمة الطيبة الهادئة لها مكانتها في النفوس وتُبَلِّغُ صاحبها ما أراد من الخير ما لا تبلغه بعلو الصوت المصحوب بالصخب والرعونة وأذى السامع، هذا مع ما يقع في قلوبهم من محبته وإجلاله وتقديره وتبجيله وقبول ما يدعو إليه.
ولذا رتب لقمان الحكيم مواعظه لولده فجاءت منتظمة كعقد فريد منتظم ومتتابع كحبات من لؤلؤ صافٍ من النضارة والبهاء والصفاء والجمال والكمال والتمام مبتدئًا بالأهم فالمهم، فجاءت تلك الموعظة مناسبة بعد الموعظة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولهذا كان على كل لبيب عاقل ناصح لنفسه أن يربأ بها عن علو الصوت لغير حاجة مرعية يرجو من ورائها أي مصلحة شرعية.
لذا يقول ابن زيد: «لو كان رفع الصوت هو خيرًا ما جعله للحمير»
(2)
.
وقال ابن سعدي: «فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة، لما اختص بذلك الحمار،
(1)
أبو حيان (8/ 187).
(2)
الطبري (جـ 20)(ص 147).
الذي قد علمت خسته وبلادته»
(1)
.
وعلو الصوت غالبًا ما يكون عند الخصومات، فالصوت المرتفع هنا من غير حاجة حجته داحضة واهية ومرفوضة، فالصخب وعلو الصوت لا يثبتان حقًا، والحجج الواضحات لا يثبتها صوت مرتفع فليس كل من علا صوته محقًّا، فالحق حق في نفسه، فالمحق من يثبت حقه بالحجة الدامغة والبرهان الساطع والدليل الواضح، وكذلك خفض الصوت لا يضيع حقًّا، ونفوس البشر بجبلتها تميل إلى الصوت المعتدل في هدوئه واتزانه وانضباطه، مع أن رفع صوت المتكلم فيه دلالة على عدم إجلال وتقدير المُخَاطَب، فكيف إذا كان علو الصوت مقرونًا بكلام خارج عن مدارج الأدب، أو عند مخاصمة لا يُتمسكُ فيها بمكارم الأخلاق ومحامد الصفات، أو في بيت من بيوت الله تعالى لا تُرَاعَى حرمتُهُ ولا مكانتُهُ، أو بحضور من لهم مكانة سامية كالوالدين أو أهل العلم والفضل ومن في نحو مكانتهم، أو عند النوازل والمصائب التي يجب فيها التصبر وعدم التسخط على أقدار الله في خلقه؟! فلا شك في كون الخطب أعظمَ وأَجَلَّ.
يقول القرطبي: «في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة، بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية»
(2)
.
(3)
.
والظاهر أن الأمر بِغَضِّ الصوت يشمل كل صوت؛ لأن الأصل فيه أن يُحمَل على العموم ما لم يأتِ مخصص يخصصه، ولا شك أن هذا أجمع وأشمل، فهو أكمل في الأدب وأعم في
(1)
تفسير السعدي (جـ 1)(ص 648).
(2)
تفسير القرطبي (جـ 14)(ص 72).
(3)
الألوسي (21/ 91).
حصول تمام الأخلاق وكمالها التي سعى لقمان لغرسها في فؤاد فلذة كبده وثمرة فؤاده.
وكذلك إن كان علو الصوت من النساء كان الأمر أعظم.
وفي ذلك يقول الحطاب الرُّعيني المالكي في مواهب الجليل: «رفع الصوت في حق النساء مكروه مع الاستغناء عنه لما فيه من الفتنة وترك الحياء، وإنما تُسْمِعُ المرأة نفسها»
(1)
.
ويبين ابن جماعة الكناني آداب الكلام والمتكلِّم فيقول: «ولا يسرد الكلام سردًا، بل يرتله، ويرتبه، ويتمهل فيه؛ ليفكر فيه هو وسامعه» .
وما ذكره ابن جماعة آنفًا مما يعين على خفض الصوت وإفهام السامع إذ يمتنع على من تأدب بتلك الآداب في المخاطبة والمحادثة أن يعلو صوته على محدثيه وسامعيه؛ لأن مادة الغضب قد تصاغرت وذهبت وانحدرت أمام تلك الأخلاق الفاضلة السامية والآداب الكريمة العالية.
وقال ابن جماعة أيضًا: «ألَّا يرفع صوته زائدًا على قدر الحاجة، ولا يخفضه خفضًا لا يحصل معه كمال الفائدة» .
(2)
.
ويؤيده كلام ابن كثير حيث يقول: «وَقَوْلُهُ: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أَيْ: لَا تُبَالِغْ فِي
(1)
مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، تأليف: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (المتوفى:(954 هـ). الناشر: دار الفكر- الطبعة: الثالثة (1412 هـ - 1992 م) عدد الأجزاء: (6)، (جـ 3)(ص 325).
(2)
تَذْكِرَةُ السَّامِعِ والمُتَكَلِّم في أَدَب العَالِم والمُتَعَلِّم (ص 64) وما بعدها.
تأليف: بدر الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة الكناني، المتوفى سنة (733 هـ) - عدد الأجزاء:(1)، مكتبة مشكاة الإسلامية، وينظر: أيضًا: مع المعلمين (جـ 1)(ص 89).
الْكَلَامِ، وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]»
(1)
.
(2)
. ولذا يصف الله عذابهم في النار فيقول سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)} [هود: 106].
من حكمة لقمان تعليل الأمر والنهي:
ومن حكمة لقمان الإتيان بالعلة بعد الموعظة، وهذا أدعى لحصول الاقتناع بها ولقبولها والانقياد لها، فلما أمره باجتناب الشرك أتى بعلته الموجبة لاجتنابه فقال:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]، وكذلك جاء عقب الوصية بالوالدين التعليل ببيان السبب الموجب لبرهما ولا سيما الأم، فقال:{ .. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ .. } [لقمان: 14]، ثم جاء بعده الأمر بشكره سبحانه وشكرهما، وبعد أن جاء الأمر باتباع سبيل المؤمنين جاء بيان العلة والسبب في قوله:{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 15] من الخير والشر صغيرًا كان أم كبيرًا، ولما نهاه عن الكبر قائلًا:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] علل سبب التحذير منه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18]، وهنا لما أمره بغض الصوت وخفضه {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] علل الأمر بقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]، ولا شك أن لقمان سلك مسك الحكمة في التربية والموعظة باستخدام أسلوب وتوجيه تربوي مثيل، أتى فيه بعلل قوية، وحجج دامغات، وبراهين ساطعات
(1)
ابن كثير (6/ 340).
(2)
البغوي (6/ 290).
واضحات وأسلوب مقنع مخاطبًا للعقل، يرغبه في التجاوب وامتثال الأمر، واستَخدَمَ أسلوب الإقناع، الذي يعد من أرقى أساليب التربية وأنفعها وأكثرها تأثيرًا في النفس، وبه تُجنى الثمار المرجوة من جراء تلك المواعظ، وتتحقق الغايات والأهداف التربوية التي يأمل المربي أن يجد أثرها فيمن يعلمه ويعظه ويربيه.
فما أحوج المربين اليوم لسلوك هذا المسلك الحكيم الرشيد، واستخدام هذا الأسلوب التربوي السديد.
(1)
.
(2)
.
ولا شك أن التوسط في رفع الصوت وخفضه هو المعني، ليتحقق المقصود من إسماع المُخَاطَب، ففي رفعه إيذاء للسامع، وفي خفضه عن الحد المعقول والمطلوب فيه نوع تكلف من المُتَكلِّم وعدم إسماع وإفهام للمُخَاطَب.
وفي ذلك يقول البقاعي: «ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكرًا كما كان خفضه دونها تماوتًا أو دلالًا وتكبرًا، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا، فأفهم أن الطرفين مذمومان»
(3)
.
(1)
فتح القدير (1/ 1143).
(2)
ابن عاشور (22/ 169).
(3)
نظم الدرر للبقاعي (جـ 6/ ص 352).
ورفع الصوت مع ما فيه من الرعونة والأذى للسامع، فهو منكر تنفر منه النفوس السوية والفطرة والطباع السليمة.
ويبين القرطبي الضرر المترتب على التكلف في رفع الصوت عن حده ممثلًا ومستشهدًا بأثر عمر رضي الله عنه، فيقول: و «قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أي انقص منه، أي: لا تتكلف رفع الصوت، وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي. والمراد بذلك كله التواضع، وقد قال عمر لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته: لقد خشيت أن ينشق مريطاؤك، والمؤذن هو أبو محذورة
(1)
سمرة بن معير الجمحي.
(والمريطاء) بميم مضمومة، ثم راء مفتوحة، ثم ياء مثناة من تحت ساكنة، ثم طاء مهملة بالمد والقصر:(ما بين السرة إلى العانة)»
(2)
.
ويؤيده أبو حيان فيقول: «ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن»
(3)
.
وبنحو قولهما يقول الشوكاني: «{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أَيِ: انْقُصْ مِنْهُ وَاخْفِضْهُ وَلَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَهُ، فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْحَاجَةِ يُؤْذِي السَّامِعَ»
(4)
.
(1)
أبو محذورة: سمرة، وقيل: أوس بن معير الجمحي، أبو محذورة: المؤذن، أمه من خزاعة، اشتهر بلقبه، واختلفوا في اسمه واسم أبيه. أسلم بعد حنين، وكان الأذان قبله دعوة للناس إلى الصلاة، على غير قاعدة.
وسمع في الجعرانة صوتًا غير منسجم يقلده هزؤًا به، واستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ودعاه إلى الإسلام فأسلم، قال: وألقى عليَّ التأذين هو بنفسه فقال: «قل: الله أكبر الله أكبر» .
ولمّا تعلّم الأذان جعله مؤذنه الخاص وطلب أن يكون مؤذن مكة، فكان، وظل الأذان في بنيه وبني أخيه مدة، ورويت عنه أحاديث، توفي سنة (59 هـ).
ينظر ترجمته في: الاستيعاب (2/ 62)، والإصابة (3/ 397)، والأعلام للزركلي (2/ 31).
(2)
تفسير القرطبي (جـ 14)(ص 71) بتصرف يسير، (3/ 121)، وينظر: المجموع شرح المهذب، للنووي، باب: الأذان، كتاب الصلاة.
(3)
أبو حيان (7/ 189).
(4)
الشوكاني فتح القدير (1/ 1143).
ومما سبق يتبين أن مفهوم غض الصوت عند أئمة التفسير هو: خفضه وانقاصه وتقليله عن الحد الزائد عما يألفه أهل الطباع السليمة والفطر السوية، وعدم الجهر به والتكلف في رفعه عن المألوف، ولا يرُفع إلا عند الحاجة وبالقدر الذي لا يؤذي السامعَ ولا يُنَفِّرُ الجليسَ، ولا يَخرُجُ عن مجلسه ومحيطه الذي هو فيه. وأن خفض الصوت دلالة على أدب صاحبه وحسن خلقه مع من يخاطبه. وحول هذا المعنى يقول ابن سعدي:«{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] أدبًا مع الناس ومع الله»
(1)
.
وهذا ما عناه لقمان وقصده في موعظته لولده، أراد له التحلي بتمام الأدب مع الله تعالى أولًا ثم بمكارم الأخلاق مع عباده ثانيًا، ليختم له مواعظه بتلك الحلية التي يتزين بها في تعامله مع الناس، وإن حقيقة التأدب مع المخلوق إنما هو تأدب مع الخالق سبحانه.
وهذا هو خلق النبي صلى الله عليه وسلم: فعن عبد الله الجدلي قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «لم يكن فاحشًا، ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح»
(2)
.
قال المباركفوري: «قوله: (ولا صخابًا) أي: صيّاحًا»
(3)
.
(4)
.
(1)
ابن سعدي (6/ 1353).
(2)
أخرجه الترمذي (2016)، وصححه الألباني في الشمائل (298).
(3)
تحفة الأحوذي (جـ 5)(ص 268).
(4)
الدر المنثور (جـ 8)(ص 274).
قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] عن الضحاك: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ} قال: إن أقبح الأصوات {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
(1)
.
- قال ابن كثير: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19].
قالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَيْ: غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبَّهُ بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي هَذَا بِالْحَمِيرِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»
(2)
.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[أَنَّهُ] قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا»
(3)
.
(4)
.
(1)
الطبري (20: 147).
(2)
البخاري (2622) كتاب الهبة، وينظر: ابن كثير (6/ 340).
(3)
وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ سِوَى ابْنِ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِهِ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ:«بِاللَّيْلِ» ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ابن كثير (6/ 340).
وهو في الصحيحين، البخاري (3303)، ومسلم (2729) من رواية أبي هريرة ا.
(4)
القرطبي (14/ 67) بتصرف.
وقول القرطبي آنفًا مبني على اعتماده واستدلاله على أن قوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] من كلام الله تعالى ابتداءً وليس من قول لقمان، وهذا محل نظر وتأمل، لأن كلام لقمان متصل، ويؤيد ذلك قول كل من الشوكاني وابن عاشور إن قوله:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19] تعليل علل به الأمر بالغض من صوته، فالأمر بغض الصوت من كلام لقمان، وتعليله بالأمر بالغض بقوله:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} من كلام لقمان أيضًا، ويؤيد ذلك أيضًا ما ذهب إليه أبو حيان بقوله:«والظاهر أن قوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} من كلام لقمان لابنه، تنفيرًا له عن رفع الصوت، ومماثلة الحمير في ذلك»
(1)
. وكذلك هو قول الألوسي
(2)
. وكذلك هو قول القاسمي، كما سيأتي
(3)
.
يقول الباحث: ولم يرد استنباط واضح يبين ويدلل على ما ذهب إليه القرطبي وغيره من أئمة التفسير، إلَّا لو ثبت في سبب نزول الآية ما قرره القرطبي وغيره بسند صريح، أو حديث ثابت صحيح. وإن معرفة سبب نزول آيةٍ ما متوقف على نقل صحيح لسبب نزولها، ولا يجوز أي قول فيه إلا برواية وتصريح بسماع ممن شاهد وعاين التنزيل ووقف على أسبابه، ألا وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا مجال فيه لاجتهاد، وحكمه حكم المرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لأن مثله لا يُقالُ فيه بالرأي، وكذلك إن رويت أسباب النزول عمن تلقوا عن الصحابة رضي الله عنهم وهم أئمة التابعين، كطاوس بن كيسان اليماني، وسَعِيْدِ بْنِ جبير، ومُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ المَكِّيُّ، وعِكْرِمَةَ القُرَشِيِّ مولى ابن عباس، وأَبِي العَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ، ومُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ المَدَنِيِّ، وعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح القرشي المكي، والضَّحَّاك بْن مُزَاحِم، وغيرهم ممن أخذوا التفسير عن الصحابة الكرام ي، والذين انتشروا في الأمصار يعلمون الناس آي التنزيل وتأويل القرآن الحكيم.
(1)
البحر المحيط (7/ 189).
(2)
الألوسي (15/ 446).
(3)
القاسمي (13/ 4802).
وفي هذا الصدد يقول الواحدي: «ولا يحل القول فِي أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقف عَلَى الأسباب، وبحث عن العلم وجدَّ فِي الطِّلب.
وَقَد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العِثار فِي هذا العِلْم بالنار»
(1)
.
ويقول الشيخ مُقبلُ بنُ هادي الوادِعيُّ: «فالعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول على صحة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابي؛ فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا له حكم الرفع»
(2)
انتهى.
قال ابن عاشور: «ورفع الصوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة، لأن صوت الحمير أنكر الأصوات»
(3)
.
(4)
.
ومما سبق يتبين أن علو الصوت لغير حاجة مع ما فيه من الضرر والأذى، فيه تشبه بصوت الحمير الذي فيه من النكارة والغاية في القبح والشر وأنه أبغض الأصوات وأوحشها، وهذا أسلوب غاية في التنفير والزجر لكل من تسول له نفسه في أن يعلو صوته ويؤذي سامعيه ومُخَاطَبيه، وهذا ما أراده لقمان لينزجر ولده وتتأفف نفسه الأبية بأن يكون فيها شبه من أخس المخلوقات وأوضعها.
(1)
أسباب النزول (5 - 6).
(2)
الصحيح المسند في أسباب النزول (15).
(3)
ابن عاشور (22/ 169).
(4)
القاسمي (13/ 4802).
فرفع الصوت وعلوه فيما لا طائلة من ورائه لأنه يشبه نهيق الحمير التي لا تفعل ذلك إلا إذا رأت الشياطين، فلا يليق بإنسان قد أكرمه الله بالعقل وخلقه في أحسن تقويم، وسواه وعدله، وفي أي صورة ما شاء ركبه، وجعل له عينين، ولسانًا وشفتين، ودله على الطريق القويم، وهداه إلى صراطه المستقيم، فأنعم عليه بنعمة الإسلام وأكرمه وزينه بزينة الإيمان، أن ينزل لدرجة العجماوات التي لا تعقل، فيتشبه بأبلدها وأدناها وأخسها، ألا وهو الحمار الذي لا يعقل شيئًا ولا يهتدي سبيلًا، وإنما كان الزجر على علو الصوت في تشبيهه بصوت الحمار ليتبين عظم نكارة صوته وقبحه وشناعة فعله حتى أصبح من أشبه الخلق بأبلد المخلوقات حسًّا وأدناهم وأحطهم وأخسهم منزلة، ألا وهو الحمار، والحمار في نفسه لا يلام على علو صوته ونهيقه بقوة وشدة ونكارة، إنما اللوم والتوبيخ على من تشبه به من بني آدم فخرج عن جبلته وفطرته وأبى لنفسه أن ينزلها مكانتها ويصون لها كرامتها، فتشبه بمن لا يليق بمثله أن يتشبه بمثله.
فعلى هذا المنهج الذي ربَّى لقمان عليه ولده يجب على المربين أن يربوا الناشئة ويلزموهم هذه الخلال الصالحة الحميدة، والخصال الطيبة الرشيدة، وأن يحثوهم على التمسك بمكارم الأخلاق وجليل الصفات التي حثَّ عليها ديننا الحنيف وشريعتنا الغراء التي أمرت بالفضائل ورغبت فيها، ونهت عن الرذائل وزجرت عنها.
ومن أهمها: التواضع وخفض الجناح للمؤمنين، والإقبال على الناس بوجه طلق بشوش، والإنصات لمن يخاطبهم ويحدثهم، وعدم الإعراض عنهم تعاليًا وتكبرًا، والمشي في الأرض بأدب المتواضعين متشبهين بعباد الرحمن في مشيهم على الأرض هونًا تواضعًا لله غير متكبرين على عباده سبحانه، ومخاطبة الناس بأدب جمّ وخلق كريم مصحوب بصوت منخفض يتحقق معه المطلوب ويُنالُ به المرغوب، مع تجنب علو الصوت لما فيه من الأذى والرعونة مع ما يسببه من وقوع البغضاء في قلوب الناس، علاوة على ما فيه من التشبه بأوضع المخلوقات
وأخس الكائنات وأبلد الحيوانات.
وبالانتهاء من بيان الجانب الأخلاقي في ضوء وصايا لقمان يكتمل المنهج التربوي المتكامل الذي قدمه لقمان لابنه وهو يعظه تلك الموعظة البليغة التي أصبحت نورًا يتلألأ وريحانة تهتز، ليضيء بهذه الموعظة الطريق للمربين والقائمين على مناهج التربية والتعليم والدعوة والإصلاح والتوجيه والإرشاد على مرّ الأجيال والأزمان وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا شك أن هذا من محض فضل الله على هذا العبد الكريم على ربه، الذي آتاه الحكمة وعلمه مما يشاء كما قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة: 269].
المطلب الرابع: طبيعة العلاقة بين الجوانب الثلاثة
(العقدي والتعبدي والأخلاقي)
تمهيد
فقه الأولويات في منهج لقمان التربوي
إن من أهم مهام المربي مراعاة فقه الأولويات في منهجه التربوي. وإذا تغيب فقه حسن الاهتمام بترتيب الأولويات عند المربي كانت نتائج عمله غير مرضية وربما كانت لها نتائج عكسية. وإن من حكمة لقمان أنه راعى فقه حسن الاهتمام بترتيب الأولويات في منهجه التربوي، حيث ابتدأه أولًا بالجانب العقدي الذي هو أصل العلاقة مع الخالق سبحانه، ويمثل القاعدة الأساسية الأولى للعملية التربوية الإيمانية الاعتقادية المتكاملة، وبصلاح العقيدة يصلح شأن العبادات والأخلاق والمعاملات وكافة جوانب التربية.
وفي ذلك يقول البقاعي: «ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الاعتقاد وإصلاح العمل، وكان الأول أهم، قدمه فقال: لا تشرك أي: [لا] توقع الشرك لا جليًّا ولا خفيًّا»
(1)
.
ثم إنه ثنَّى بالجانب التعبدي الذي به صلاح شأن العبد مع نفسه، وثلث بالجانب الأخلاقي الذي يمثل صلاح شأن العبد في تعامله مع الناس كافة.
طبيعة العلاقة بين هذه الجوانب
يقوم بنيان الدين وصرحه المتين على العقيدة أولًا التي هي بمثابة حجر الأساس في بناء صرح هذا الدين العظيم، وعلى هذا الأساس المتين تقوم أركان بنيان العملية التربوية بجميع جوانبها التعبدية والأخلاقية والسلوكية.
وإذا هيمنت تلك العقيدة على نفس المؤمن وسكنت فؤاده، سمت نفسه، وتوجهت نحو الخير وتحلت بكل فضيلة، وتخلت عن كل رذيلة، وأثمرت كل خلق حميد.
ذلك لأن تلك العقيدة بينها وبين جوانب وأركان العملية التربوية صلة وثيقة، لأن العقيدة هي الدافع الذاتي الذي يدفع المؤمن ويقوده نحو الفضائل كلها، وأن رسوخ العقيدة في قلبه يحثه ويؤزه على الخير أزًّا، فيؤدي الفرائض التعبدية بنفس راضية مصحوبة بانشراح صدره وطمأنينة نفسه، ويدفعه لاكتساب مكارم الأخلاق، وإلى حسن معاملة الخلق بالمعروف، وإن في التخلي عن تلك العقيدة أيضًا الدافع الذاتي لهدم الجانب التعبدي والأخلاقي معًا، لأن هذه الجوانب فقدت قاعدة الأساس التي تقوم وترتكز عليها، ألا وهي قاعدة العقيدة الصحيحة والإيمان الراسخ، ولذا كانت أول وصايا لقمان في موعظته لولده بترسيخ العقيدة والنهي عن الشرك المتضمن تحقيق التوحيد؛ لأنه هو الأساس الذي يحمل فوق هامته العالية جميع الجوانب التعبدية والأخلاقية، فإذا انهدم الأساس سقط ما كان يحمله فوق هامته.
(1)
نظم الدرر للبقاعي (15/ 162).
ولعظم شأن العقيدة فإنها تؤثر في جميع جوانب العملية التربوية إيجابًا وسلبًا وذلك لمكانة هذه العقيدة من الدين.
(1)
.
الارتباط الوثيق بين الجانب الأخلاقي والجانب التعبدي
إن ارتباط الجانب الأخلاقي بالجانب التعبدي في كتاب الله ارتباط وثيق والرابط بينهما هو ذلك الرباط الوثيق والأساس المكين المتمثل في عقيدة الإسلام الصحيحة والصافية.
وإن المتأمل في العلاقة بين العبادات والأخلاق يجد بينها رباطًا وثيقًا، ويظهر ذلك جليًّا في مقاصدها وأهدافها وغاياتها، فالمتأمل فيها يجد أن جميع تلك الجوانب تعبدية كانت أم أخلاقية إنما هي وسائل لتحقيق غايات عظيمة ومقاصد وأهداف جليلة، من أَجَلِّهَا تحقيق العبودية وامتثال مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات.
ومن تلك العبادات أركان الإسلام الأربعة:
الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج؛ يجدها كلها وسائل لتحقيق غايات عظيمة، وهي من الأمثلة الحية الشاهدة على الترابط بين العبادة والأخلاق في شريعة الله تبارك وتعالى.
أولاً: فريضة الصلاة وعلاقتها بالجانب العقدي والأخلاقي:
فالصلاة صلة بين المخلوق الفقير والخالق الغني، وصلاة الجماعة صلة بين المسلم وإخوانه المؤمنين، وفي إقامتها والمواظبة على أدائها تواصل بين الأجيال المؤمنة على مرّ العصور والأزمان، وفي جميع الأمصار وإن تباعدت الأبدان فرابط العبودية لرب واحد وروح معاني الأخوة الإيمانية تجمع أهل الإيمان، ولها تواصل وامتداد عبر الزمان والمكان،
(1)
الفوائد (195، 196).
والتواصل الروحي بين أهل الإيمان في كل عصر ومصر. وهي من أعظم العبادات في الإسلام وأحد أركانه العظام، وهي وسيلة عظيمة، من أعظم غاياتها ومقاصدها أن ينتهي الإنسان عن الفحشاء والمنكر، فإذا لم ينته المصلي عن مقصود الصلاة فقد قصرت به تلك الوسيلة العظيمة عن بلوغ مقصودها وغاياتها ألا وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
(1)
انتهى.
(2)
.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «نَفْسُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْمَعَاصِي، وَنَفْسُ تَرْكِ الْمَعَاصِي يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَالصَّلَاةُ
(1)
ابن سعدي (632).
(2)
ابن عاشور (20/ 178 - 179).
تَضَمَّنَتْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَهْيُهَا عَنِ الذُّنُوبِ، والثَّانِي: تَضَمُّنُهَا ذِكْرُ اللَّهِ»
(1)
انتهى.
(2)
.
(3)
.
- ويقول ابن تيمية: قَوْلُهُ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]«بَيَانٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ»
(4)
.
(5)
انتهى.
وعلى هذا فإن كان الإنسان مُقْتَصِدًا في العبادة لكنه حسن الخلق مع الناس، خَيْرٌ له مِنْ أن
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 753).
(2)
ابن كثير (6/ 280 - 282).
(3)
نظم الدرر (15/ 174).
(4)
انتهى من مجموع الفتاوى (20/ 192 - 193).
(5)
المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان (3/ 53، 54)، وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة (26/ 86).
يكون قَانِتًا عابدًا مسيئًا لعباد الله.
- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ -يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا- غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ قَالَ:«هِيَ فِي النَّارِ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ -يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا- وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ قَالَ:«هِيَ فِي الْجَنَّةِ»
(1)
.
«بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ» أي: بقطع منه جمع ثور بالمثلثة وهو قطعة من الأقط ذكره الجوهري
(2)
.
وفي ذلك ومثله يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «لَا تَنْفَعُ الصَّلَاةُ إِلَّا مَنْ أَطَاعَهَا» ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]
(3)
.
فَإن الصلاة الصحيحة أثمرت الكف والانتهاء عن رذائل الأخلاق ومنكراتها، والصلاة ثمرة من ثمار صحة المعتقد، لأن العقيدة هي الدافع لأداء الصلاة، وأنه لا صلاة تامة إلا بأخلاق حميدة، ولهذا تصبح مكارم الأخلاق ثمرة من ثمار العقيدة، وهذا كله يدل على التلازم بين جوانب التربية جميعًا، عقيدة وعبادة وأخلاقًا سلوكًا.
فإذا لم يكن ثَمَّ عقيدة صحيحة تدفع لأداء العبادة على الوجه المشروع وتحث عليها وتُقَوِّمُ بها الأخلاق وتُصلح ما اختل منها وما أعتل، فلا عبادة ومن ثَمَّ فلا أخلاق، وهذا مما يؤيد ويعاضد من أوجه الترابط والتواثق والتلازم بين تلك الجوانب جميعًا.
وقد مرَّ معنا كثيرًا في طيات البحث الكلام عن مكارم الأخلاق، وأنها غاية من أعظم الغايات التي بُعث النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لتحسينها وإتمامها وإكمالها.
وحينما يعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن المقصد من مبعثه وبيان الغاية منه بأداة تفيد الحصر وهي كلمة
(1)
رواه أحمد في المسند (2/ 440)، وصححه المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 321)، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: 190).
(2)
وينظر: مرقاة المصابيح شرح مشكاة المصابيح، للهروي، كتاب الآداب: كتاب الشفقة والرحمة على الخلق (ص 3127).
(3)
مصنف ابن أبي شيبة (13/ 298).
«إنما» ، ذلك ليثبت للبشرية قاطبة أن الشريعة السمحة التي بعث بها إنما شرعت لإصلاح هذا الجانب العظيم ولإكماله وإتمامه وتحسينه.
ثانيًا: فريضة الصيام وعلاقتها بالعقيدة والأخلاق وكذلك الشأن في فرضية الصيام ومشروعيته:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].
والصيام من أعظم الوسائل لتحقيق التقوى التي بها جماع الخير كله- وهي الجامع لأمر الاستجابة لله بفعل المأمور وترك المحذور، والصيام الذي يثمر التقوى يقيم سياجًا قويًّا وحصنًا منيعًا بين المؤمن و بين محارم الله تبارك تعالى.
يقول ابن كثير: «لِمَا فِيهِ مِنْ زَكَاةِ النَّفْسِ وَطَهَارَتِهَا وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ»
(1)
.
والصِّيام سرٌّ خفي بين العبد وربِّه لا يطَّلع عليه إلا هو سبحانه.
ومن حقائق الصوم ترك ما جبلت عليه النفوس وألفته الطباع من حظوظ النَّفس ومشتهياتها لله تعالى، مع قدرة العبد على ذلك.
وهذا دليل على تمام صدق العبد و كمال إخلاصه لله تعالى، وذلك لعلمه باطلاع ربه عليه ومراقبته له في خلواته وجلواته، فأطاع الله تعالى واستجاب لداعي الإيمان رغبة فيما عند الله من جزيل الثواب، ورهبة فيما عنده من أليم العقاب، ذلك لأن الصِّيام من العبادات الَّتي تسمو بنفس المسلم إلى مرتبة الإيمان ثم ترتقي به إلى درجة الإحسان التي هي أعلى مراتب الدين.
يقول ابن عاشور: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]: «بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع»
(2)
.
(1)
ابن كثير (1/ 497).
(2)
ابن عاشور (2/ 157).
والصيام يقوي إرادة المؤمن ويقرب قلبه من بارئه سبحانه، ويقوي صلته بربه جل في علاه، ويشحذ من عزيمته ويحث على التراحم والود وحسن الصلة بين الصائم وإخوانه المؤمنين، كل ذلك لما له من آثار طيِّبة تربوية وإيمانية وأخلاقية وسلوكية على الفرد المسلم والجماعة المسلمة على حدٍّ سواء مع ما فيه من الترغيب في مجاهدة النفس وكبح لجماحها عن شهواتها، وتزكية لها من أدرانها، وتصفية لها وتنقية لما علق بها من شوائب، مع ما يرغب فيه من الحثّ على اكتساب الفضائل، واجتناب الغوائل والرذائل، ولذا كان من ثمار الصيام وأثره على النفس ما يجده المؤمن من رقة في قلبه وصلاحٍ في نفسه وتهذيبٍ لسمعه وبصره ومنطقه ولفظه وفعله، وتربية نفسه على مراقبة الله وخشيته في علانيته وسره، والمداومة على محاسبة نفسه، وتهذيبٍ لجميع جوارحه، لم لا؟ فالصَّوم مدرسة لتهذيب الأخلاق وتقوية لإرادة المؤمن وتهيئته للتضحية والبذل والسخاء والعطاء لله تعالى، وهو من أعظم أسباب انشراح الصدور، وطمأنينة القلوب، وهدوء النفوس.
ويقول رشيد رضا: «هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا»
(1)
.
يقول ابن القيم: «المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تركِّز به ما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكِّر بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتُحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يفيدها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها، وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وَجُنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين. وهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها؛ إيثارًا لمحبة الله ومرضاته. وله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحمايتها من التخليط الجالب لها المواد الفاسدة،
(1)
تفسير المنار (2/ 117).
التي إذا استولت عليها أفسدتها»
(1)
.
ويقول الشوكاني: «قيل: تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة، لأنها تكسر الشهوة وتضعف دواعي المعاصي»
(2)
.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جُنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه»
(3)
.
«والصِّيام جُنَّة» : أي: (وقاية) يتوقَّى العبد به الآثام ويستتر به من النَّار، فإن العبد إذا كفَّ نفسه عن الذنوب والآثام والشَّهوات المحرمة في الدُّنيا كان ذلك سترًا له من نار جهنم في الآخرة. ففي الصومِ وقايةٌ من المأثم، لأنه يُعوِّد المسلم على خلق العفة والطهارة والمراقبة والخشية، ويحجبه عن هواجس النفس وثورات الشهوات المحرمة المستعرة، وهو أيضًا وقايةٌ لها من كل داء.
ويقول الألوسي: «أي: كي تحذروا المعاصي، فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها، أو يكسرها. فقد أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر
(1)
زاد المعاد (1/ 211).
(2)
الشوكاني فتح القدير (1/ 117).
(3)
صحيح البخاري (2/ 673)(برقم: 1805)، وصحيح مسلم (2/ 806) (برقم: 1151).
وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»
(1)
.
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الغاية العظمى التي يجنيها المؤمن من الصيام هي الخلق الحسن، الذي هو أعظم ثمار الصيام الصحيح، فمن لم يصم صومًا صحيحًا فمن أين يجني تلك الثمار؟ وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»
(2)
.
والصوم يقوّم النفس ويصلحها ويهذبها وينقيها من الشوائب والأخلاقيات الرديئة وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].
قال البغوي: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]: «يعني بالصوم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات»
(3)
.
فالصوم يكسو النفس المؤمنة لباس التقوى، ويتميز الصوم من بين سائر العبادات بأن فيه قمعًا لغرائز الصائم عن الاسترسال في شهواتها، التي هي أصل البلاء على النفس والبدن والروح على حدٍّ سواء، ففيه فطامٌ لها عن ملذاتها ومحبوباتها ومشتهياتها ومألوفاتها، والصوم مؤدب ومهذب وكابح تربوي وإيماني وأخلاقي لتلك الشهوات، لأنه يصرف وساوس الشَّيطان وكيده وتدبيره عن العبد، وهو مهذب لتلك النفس وحاد لسلطانها.
وإن في التقرُّب إلى الله بترك الحلال الطيب المباح حال الصَّيام خير معين للعبد على ترك الخبيث الحرام في غير الصيام، وهذا من دلائل أوجه التلازم بين جوانب التربية قاطبة في هذا
(1)
الألوسي (2/ 183)، والحديث أخرجه البخاري (3/ 412)، ومسلم (4/ 128) والنسائي (1/ 312 ـ 313) والترمذي (1/ 201)، وكذا الدارمي (2/ 132)، وابن الجارود (672)، والبيهقي (7/ 77)، وأحمد (1/ 424، 425، 432)، وابن أبي شيبة (2/ 1/ 7).
(2)
البخاري (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
البغوي (1/ 196).
الجانب العظيم.
ثالثًا: فريضة الزكاة وعلاقتها بالعقيدة والأخلاق:
مقاصد الزكاة وعلاقتها بالأخلاق والعقيدة:
وإن الله تعالى لا يشرع لعباده إلا ما فيه صلاح شأنهم كله في معاشهم ومعادهم، وما فيه تحقيق للغايات والمقاصد الحسنة التي تتحقق معها مصالحهم الدينية والدنيوية، ومن هذه الوسائل العظيمة الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام العظام.
ومن الثمار الطيبة التي تُجنَى من جراء إيتاء الزكاة جملة من الروابط الأخلاقية التي تدل على التلازم بينها وبين تلك الشعيرة العظيمة، والتي من أبرزها ما يلي:
1 - تزكية النفس وتطهيرها من داء الشح والبخل:
إن حب المال غريزة تحمل الإنسان على حب المال وكنزه وإمساكه عن الإنفاق والبذل، فأوجب الشرع المطهر أداء الزكاة تطهيرًا للنفس، وإزالة حب المال منها ببذله تقربًا وطاعة لله تعالى.
وإنما شرعت الزكاة وفرضت تزكية لتلك النفس وتربية لها على التخلق بخلق الجود والكرم وترك الشح والبخل؛ لأن النفس جبلت على الشح والبخل ومحبة المال وكنزه وإمساكه إلا من رحم الله، فتتعود بإيتاء الزكاة الأخلاق الطيبة من الكرم والجود وسخاء النفس وسماحتها، وتتريض على أداء الأمانات لأهلها وإيصال الحقوق لأصحابها، وهذه غايات حميدة وأخلاق كريمة ومقاصد جليلة أرادها الشارع الحكيم تربية للمؤمن وتزكية لنفسه وتنقية لها من البطر وتطهيرًا لها من دنس الأثرَة والأنانية وحب الذات واستئثارها بالمال وسد أبواب الشيطان عليها الذي يأمرها بالشح والبخل خوفًا من الفقر والعيلة، وإذا تطهرت النفس من أدرانها صلحت وخرجت من وصف الشح والبخل إلى وصف الجود والكرم والإحسان.
2 - الزكاة مطهرة للعبد من الذنوب وتزكية له ولماله:
قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].
(1)
.
ويقول ابن سعدي: «وفيها أن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها؛ لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها»
(2)
.
والمسلم إذا تطهر من شح نفسه وبخلها، وألف إنفاق المال وبذله لله، وإيصاله لمستحقيه، قوي قلبه وزكت نفسه، وارتقى من وحل البخل والشح، وسلك مسلك المفلحين كما قال ربنا:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن: 15 - 16].
والشحُّ من كسب النفس الأمارة بالسوء؛ ولذا نُسِبَ إليها كما قال ربنا: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16].
3 - الزكاة تربية للمؤمن على التراحم وَخُلُقِ شعور الجسد الواحد ومبدأ التكافل الاجتماعي:
إن روابط الأخوة الإيمانية والألفة والمحبة ثمرة من ثمار أداء الزكاة ودفعها لمستحقيها؛ لأن النفوس مجبولة على محبة ومودة من يحسن إليها، وبذلك التكافل الاجتماعي يعيش المسلم في مجتمع أخوي يسوده الحب والود والوئام.
و بذلك تشيع روح المحبة والترابط بين أفراد المجتمع وتذوب الفوارق الاجتماعية، ويصبح أفراد المجتمع المسلم كالجسد الواحد، وهذه الأخلاق الحميدة من مقاصد الشريعة في الزكاة.
(1)
الطبري (14/ 454).
(2)
ابن سعدي (3/ 239).
4 - تطهير المجتمع من الآفات الاجتماعية الحسية والمعنوية:
ولا شك أن أداء الزكاة لمستحقيها فيه وأد وحسم لمادة الحقد والحسد والكراهية والضغينة والبغضاء، واقتلاع جذور تلك الأمراض من النفوس وإبعاد لها، وفي أدائها أيضًا الحد من الجريمة ومن أسباب التعدي على أموال الأغنياء بالسرقة، والنهب وغير ذلك، والحد أيضًا من سفك الدماء وجريمة القتل التي تنجم غالبًا عن السطو على أموال ذوي اليسار من الناس بسبب التطلع لما في أيديهم والطمع فيه.
ومما سبق يتبين العلاقة بين الزكاة وبين الأخلاق وتقويمها، ومع هذا فإنها عبادة وركن من أركان الإسلام يؤديها المسلم طواعية لله تعالى معتقدًا فرضيتها متعبدًا لله بوجوب أدائها لمستحقيها.
رابعًا: فريضة الحج وعلاقتها بالعقيدة والأخلاق:
العلاقة بين جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق في شعيرة الحج:
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، يقول الله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. ويقول سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
إن من أهم مقاصد الشريعة العظيمة في الحج، تربية النفس على الأخلاق العالية بكل معانيها وصورها، ففيه-الحج- معاني التربية على خلق إخلاص العمل لله تعالى وتجريده سبحانه بالقصد دون ما سواه من المخلوقين، وكذلك خلق التجرد في الاتباع وتجنب الابتداع في الدين، وتجريد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقصد العظيم، وفيه معاني التربية على خلق التقوى والمراقبة له سبحانه وحده لا شريك له، وفيه معاني التربية على مكارم الأخلاق وجميل الصفات مع الناس، وترويضها على محاسن الطباع، والترقي بها في مدارج أهل التقى والصلاح، والحج فيه معاني
التربية على الترفع عن الشهوات المباحة لتتروض النفس على الترفع عن الشهوات المحرمة، وفيه معاني التربية على حسن التعامل مع الناس وتحمل الأذى منهم، والصبر على ذلك كله ابتغاء مرضات الله تعالى.
1 - الأخلاق مع الله تعالى:
قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
قال ابن سعدي: «بإخلاصهما لله تعالى»
(1)
.
وهذا الخلق -أعني: الإخلاص- متعلق بتعلق القلب بالله وتجريد العمل له سبحانه، وهذا من أعلى مقامات الأخلاق في التعامل مع الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم يحج متواضعًا لله ويدعوه أن يجنبه الرياء. فعن أنس رضي الله عنه قال: حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَحْلِ قَطِيفَةٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّهَا لِي بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، ثم قال:«اللَّهُمَّ حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ»
(2)
. ومن هذا الحديث نستنبط خلقين كريمين متلازمين مع عبادة الحج ألا وهما: خلق التواضع لله، وخلق إخلاص العمل له تعالى.
2 - الأخلاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم
-:
أخرج الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في «صحيحه» من حديث جابر رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول:«لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»
(3)
. ولا شك أن هذا الحديث أصل في الاتباع، وهذا الجانب الخلقي العظيم هو من أَجَلِّ أخلاق المؤمن مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في تعظيم شريعته، واتباع سنته، والتمسك بطريقته بلزوم الاتباع واجتناب الابتداع.
(1)
ابن سعدي (1/ 146).
(2)
صحيح لغيره (122) صحيح الترغيب والترهيب، الألباني.
(3)
رواه مسلم في صحيحه (برقم: 1297).
يقول أبو إسحاق الرقي: «علامة محبة الله: إيثار طاعته، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
ويقول ابن أبي العز: «والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع»
(2)
.
3 - الأخلاق مع الناس:
ومن الأخلاق المتلازمة مع فريضة الحج، الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك حسب القدرة والطاقة، وحسن الخلق مع الناس والتعامل معهم بإحسان؛ ويَتمثل ذلك ويَتأكد أكثر في مشاهد الزحام الشديد في المناسك ومشاعر الحج وما ينبغي أن يكون ملازمًا للمسلم من خلق التراحم والإيثار والشفقة والحلم وانضباط للنفس وكبح لجماحها عن كل شرّ مع كتم الغيظ والعفو عن المسيء من الناس وترك المراء والجدال بالباطل، والتباعد والتجافي عن سيئ الأخلاق ورديئها، والصبر على الأذى في ذات الله، مع تحمل المشاق والصعاب في إتمام النسك على الوجه المشروع دون إيذاء لأحد، وخدمة الحجيج ولا سيما الضعفاء وذوي الحاجة منهم، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وطيب الكلام، والدفع بالتي هي أحسن، مع بذل المعروف عمومًا لكل أحد، مع كمال وتمام حبس الجوارح وكفها عن كل مكروه، ولا سيما جارحتي اللسان والبصر خاصة مع كثرة الاختلاط الذي يحتاج للصبر عن معصية الله، ولا سيما وقت التزاحم والتدافع واجتماع الحجيج.
وهذه الآداب الشرعية وغيرها، هي جملة من الأخلاق الحميدة المقصودة في الشرع من هذه الشعيرة العظيمة، والتي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن في حجه.
- والإحسان للعباد من بِرِّ الحج، لما ثبت من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قال: «إيمانٌ بالله» ، قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله» ، قيل:
(1)
مدارج السالكين (2/ 487).
(2)
شرح الطحاوية (37)، وينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 170).
ثم ماذا؟ قال: «حج مبرورٌ»
(1)
.
وفي معنى الحج المبرور يقول القرطبي: «فقيل: الذي لا يخالطه شيء من المأثم، وقيل: المتقبَّل، وقيل: الذي لا رياء فيه ولا سُمْعَة»
(2)
.
ويقول البغوي: «الحج المبرور قيل: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم، والبيع المبرور: الذي لا خيانة فيه ولا شبهة»
(3)
.
والبر عمومًا: هو حُسن الخُلق.
و
البر في الحج يُطلق على معانٍ عدة:
- منها: الإحسان إلى عموم الناس
- ومنها: فعل الطاعات وسائر القربات
- ومنها: ألا يأتي فيه معصيةَ اللهِ تعالى، ولا يعقبه بمعصية.
ولا شك أن ترك المأثم من أَجَلِّ الأخلاق وأرفعها؛ لأن الحج فيه تربية للنفس على تهذيب الأخلاق وتعويدها وترويضها على تحمل الأذى والمكاره وبذل الندى والمعروف والإحسان إلى الخلق مع الصبر على ذلك كله ابتغاء رضوان الله تعالى، وتعلم الشجاعة ونزع الضعف والكسل والدعة والإحجام عن أداء الواجبات من تلك النفس، وتنمية أخلاق الصابرين فيها، وغرس خلق الإيثار والبذل والكرم والجود والعطاء والسخاء وحب الخير للغير؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
(4)
.
(1)
البخاري (1422).
(2)
المفهم (11/ 15).
(3)
شرح السنة (7/ 6).
(4)
البخاري (1521)، ومسلم (1350) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ.
والخلاصة:
أن العبادات عمومًا لها دور بارز في إصلاح النفس وتوجيهها إلى مكارم الأخلاق، وتزكيتها من كل شائبة، وقد سبق معنا بيان ذلك، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وذلك لِمَا تجدده من معاني الإيمان؛ لأنها تجدد الصلة بالله في أوقات متفرقة ومتجددة يوميًّا في طرفي النهار ووسطه وآخره، والزكاة في طياتها معاني تزكية النفس من البخل والشح والأنانية وحب الذات، مع ما تجلبه للعبد من تطهير لماله ونماء له بإخلاف الله عليه، وما يجعل سبحانه من البركة للعبد في ماله ونفسه، وكذلك الصيام فرضه الله تزكية لعباده وتربية لهم على الخشية والمراقبة والكف عن الشهوات لتتحقق لهم مرتبة التقوى، وكذلك شعيرة الحج وما يترتب عليها من تحصيل المراتب العالية من جليل وجميل الصفات، وتحقيق معاني الأخوة الإيمانية، وما يترتب من جراء ذلك من تزكية للنفس وتربية لها على البذل والتضحية في ذات الله وابتغاء مرضاته، فالعبادات في الإسلام عمومًا بينها وبين تزكية النفس وتربيتها على مكارم الأخلاق ترابط وتلازم لا ينفكان أبدًا، ولذا عقد ابن القيم في «مدارج السالكين» فصلًا بعنوان:(الدين كله خلق)، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين
(1)
.
فالعقيدة الصحيحة تدفع المؤمن لأداء العبادات على الوجه المطلوب تقربًا لله تعالى، والعبادة الصحيحة هي التي تترك أثرًا وانطباعًا على سلوك المؤمن وأخلاقه، وهذا تلازم وترابط لا ينفك أبدًا بين تلك الجوانب جميعًا.
وأخيرًا:
فهذا بيان لتأكيد التلازم والترابط بين تلك الجوانب جميعًا مصحوبًا بأمثلة من كتاب الله تعالى.
وإن المتأمل في كتاب الله خاصة في القرآن المكي يجد ذلك واضحًا جليًّا، وأشير فقط لمواضع من كتاب الله ليتأمل من أراد الاستزادة.
(1)
مدارج السالكين (2/ 307).
المثال الأول:
يتبين في الآية السابقة من سورة البقرة -وهي مدنية- التلازم والترابط بين جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق، ففي الآية الكريمة نرى تلازمًا وترابطًا بين جملة من الأخلاق وهي إنفاق المال على حبه وإيتائه لمستحقيه، وبين جملة من العبادات المحضة كالصلاة والزكاة، والوفاء بالعهد والصبر وهما من مكارم الأخلاق، وجعل كل ما سبق من العبادات والأخلاق الحسنة والأخلاق الكريمة من علامات الإيمان وخصاله الدالة عليه.
المثال الثاني:
صدر سورة المؤمنون -وهي مكية- الآيات من 1 إلى 9، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} [المؤمنون: 1 - 9].
فالمتأمل في تلك الآيات يجد الترابط والتلازم بين الإيمان والعبادة والأخلاق، فالآيات افتتحت بالصلاة وختمت بها مع ما تضمنته بين الافتتاح والخاتمة من وصف الإيمان وفلاح أهله وبيان لبعض العبادات كالزكاة، ثم بيان لجملة من أخلاق أهل الإيمان، وفي ذلك برهان ساطع على التلازم والترابط بين تلك الجوانب جميعًا.
المثال الثالث:
يجد المتأمل تلازمًا بين تلك الجوانب جميعًا، فجاء التلازم بين فريضتي الصلاة والزكاة والإيمان في ثلاث آيات متتابعات ثم تلتها عقب ذلك جملة من مكارم الأخلاق، ثم ختم الأمر بالمحافظة على الصلاة، ولا ريب أن في ذلك أوضح الدلالات على التلازم والترابط بين تلك الجوانب جميعًا.
المثال الرابع:
في سورة الفرقان -وهي مكية- في محض الكلام عن صفات عباد الرحمن، الآيات: من 63 إلى 68، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا
يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 63 - 68].
يجد المتأمل هذا التلازم جليًّا للعيان، ففي الآية الأولى ذكر أخص صفتين من صفات عباد الرحمن، وهما صفتا التواضع وحسن مخاطبة الجاهلين، وهذا في الجانب الأخلاقي، ثم ثنى بوصف تهجدهم في الليل، وهذا في الجانب التعبدي، ثم ثلث بوصف شفقتهم وخوفهم من عذاب الله، وهذا جانب إيماني عقدي، فجمع بين الإيمان والإقرار باليوم الآخر والخوف من عذاب الله، وكلاهما جانب عقدي، ثم بتتابع الآيات يتجلى الأمر كذلك جليًّا ليؤكد الترابط والتلازم بين تلك الجوانب جميعًا.
المثال الخامس والأخير:
ففي مطلع الآيات ورد الأمر بنبذ الشرك، وهو أمر عقدي، وتعقبه بالأمر ببر الوالدين وهو أمر خلقي، ثم الأمر باتباع سبيل المؤمنين وهو أمر تعبدي، ثم تلاه بيان سعة علم الله واطلاعه على خلقه وهو أمر عقدي، ثم تلاه الأمر بإقام الصلاة وهو أمر تعبدي، ثم تلاه الأمر بشعيرة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك وهو أمر تعبدي، ثم الأمر بالتواضع والنهي عن التكبر، ثم الأمر بخفض الصوت وهذا كله في الجانب الخلقي، ويتبين مما سلف وضوح الترابط والتلازم بين تلك الجوانب جميعًا.
ومثال ذلك من السنة حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ»
(1)
.
فجمع الحديث بين تلك الجوانب جميعًا.
ومما لا شك فيه أن من أشد المعضلات التي تعاني منها المجتمعات المسلمة اليوم أن في جنبات بعض أبنائها المنتسبين لهذا الدين العظيم، وجود انفصام بين العلم والعمل، وبين العبادة وبين تحقيق جَني ثمارِها اليانعة وآثارها الطيبة المرجو قطافها من أثر تلك العبادة والتي من أعظمها وأَجَلِّها الجانب الخلقي، حيث أصبحت تأدية العبادة عند البعض أشبه بعبادات شكلية ظاهرة، مع أن البواطن لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، لكن هذه العبادات لها آثار حميدة وغايات طيبة يجب أن تتجلى وتظهر على صاحبها في حركاته وسكناته، ومن أهمها وأَجَلِّهَا حسن الخلق.
إذًا فهناك خلل وانفصام واضح وكبير بين أداء تلك الشعائر التعبدية، وبين السعي الحثيث لتحقيق غاياتها ومقاصدها وأهدافها.
ولعل السبب الرئيس لهذا السلوك البعد والتخلي عن منهج التربية الإيمانية المتكاملة التي يتجلى فيها جانب الترابط والتلازم والتعاضد بين جوانب التربية جميعًا، عقيدة وعبادة وسلوكًا وأخلاقًا، فلو أن المؤمن استقام على أمر الله تعالى ولم يخالف قوُلُه فِعلَهُ، وحقق الغايات
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان: باب أمور الإيمان (1/ 11)(رقم: 9)، ومسلم، كتاب الإيمان: باب شعب الإيمان (1/ 63)(رقم: 35)، واللفظ لمسلم.
والمقاصد التي من أجلها شُرعت تلك العبادات؛ لأصلح الله أحوال البلاد والعباد، وتم بذلك درء الكثير من الآفات والأضرار الاجتماعية الناجمة عن الانفصام بين العقيدة والعبادة والسلوك الأخلاقي العملي، والتي أفسدت على كثير من الناس أحوالهم ونكدت عليهم صفو حياتهم ومعيشتهم.
وفي مثل ذلك يقول ربنا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].
فالإسلام بنيان مرصوص تام كامل لا يتجزأ، تراه مترابطًا في كل جوانبه «العقدية والتعبدية والأخلاقية» .
وفي نحو هذا الصدد يقول أبو حامد الغزالي: «الأخلاق السيئة هي السموم القاتلة، والمهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة»
(1)
.
ولهذا كانت موعظة لقمان الحكيم لابنه منهاجًا تربويًّا متكامل الأركان تام البنيان شمل جميع جوانب التربية الإيمانية عقيدة وعبادة وأخلاقًا.
وختامًا:
فما أحوج الأب والمربي والداعي وكل من تصدر للتربية والتعليم والدعوة والإصلاح والتوجيه والإرشاد أن يتأمل تلك الوصايا الجامعة النافعة والصادرة من مرب حكيم، لتربية الأجيال تربية صالحة في ضوء هذا المنهج التربوي المتكامل الأركان التام البنيان.
(1)
إحياء علوم الدين (3/ 49).
خاتمة هذا المبحث الهام
وفيها:
1 - أبرز النتائج
.
2 -
أهم التوصيات.
1 -
أبرز النتائج
لقد دعا الله عباده لتدبر كتابه ليهتدوا بهداياته، فقال سبحانه في وصف كتابه:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]، ومن تدبر وتأمل كتابَ الله تيقن أنه كتاب هداية، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور، قال سبحانه:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
فالقرآن كتاب هداية يَسْتَقي منه العبادُ سبلَ الهدى والرشاد، ويهتدون به لأقوم الطرق والشرائع وأعدلها، وأوضح السبل وأسداها وأصوبها، وهي سبل النبيين والمرسلين عليهم السلام، فمن اهتدى بهداية القرآن؛ كان من أكمل الناس وأقومهم سبيلًا، وأهداهم وأحسنهم طريقًا، وأعدلهم حكمًا، وأصوبهم وأرشدهم رأيًا في جميع شأنه كله.
والمسلمون في أَمَسِّ الحاجة للعودة لهذا المنهل العذب الذي يجب عليهم أن ينهلوا من معينه الصافي مصادر التربية والتوجيه والإصلاح في كل زمان ومكان، ولا سيما في زمن تشعبت بهم فيه السبل وكثرت فيه موارد التربية وتنوعت فيه مصادر التلقي، والله من رحمته بعباده لم يتركهم سدى ولم يدعهم هملًا ولا حيارى تائهين، بل دلهم على ما فيه عزهم وصلاحهم وفلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فإن أخذوا بهدايات كتاب ربهم فقد اهتدوا للتي هي أقوم، وسلكوا بهداياته سبل السلام، وأخرجهم به ربهم من الظلمات إلى النور بإذنه وهداهم إلى صراطه المستقيم، صراط الله العزيز الحميد.
وإن أقوم طرق التربية الإيمانية المتكاملة هي التي تُسْتَقَى من هذا الكتاب المبارك، ومما ورد من تلك المناهج في كتاب الله تعالى، منهج لقمان التربوي المتكامل في ضوء موعظته ووصاياه لابنه، وقد مرّ معنا بيان هذا المنهج الحكيم الذي حاز تزكية الرب تبارك وتعالى وثناءه على المربي الحكيم، ومنهجه القويم، وخلد ذكره في كتابه ليكون عبرة لكل معتبر، ومنهجًا أصيلًا وموردًا عذبًا زلالًا لكل وارد ظمآن، ليرتوي من معين هذا المنهج المبارك، وسبيلًا رشيدًا لكل حيران يبحث عن سبيل النجاة وسلوك طريق الهدى الرشاد.
والباحث بعد أن نهل من هذا المورد العذب الزلال توصل بحمد الله لنتائج جمة يبرز أهمها فيما يلي:
أولاً: عظم شأن التوحيد:
وأنه أول واجب على العبيد، ولذا بدأ لقمان بالأمر بنبذ الشرك المتضمن تحقيق التوحيد الذي هو أعظم حق من حقوق الله في رقاب جميع العبيد، فيجب العناية بهذا الجانب لعظم شأنه ولما يترتب عليه من حسن العاقبة في العاجل والآجل.
ثانيًا: مكانة بر الوالدين من الدين:
إن مجيء الوصية بحق الوالدين في غير ما موضع من كتاب الله مقترنة بأعظم الحقوق وأَجَلِّهَا ألا وهو حق الله في توحيده وإفراده بالعبودية، فيه دلالة قاطعة على عظم حقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما، ثم الوصية بالأم خاصة فيه إشارة ودلالة على مكانتها وفضلها وعظيم قدرها وحقها ووجوب برها والعناية بها عناية خاصة، وإن برّ الوالدين من أوجب الواجبات المتحتمات في جميع الأحوال والأوقات.
ثالثًا: وجوب برِّ الوالدين ولو كانا مشركين:
إن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة، وطاعة سائر المخلوقين طاعة مقيدة بالمعروف -ومنها طاعة الوالدين- لا تكون كذلك إلا في المعروف، أما إنْ أمرا بالشرك وما دونه من
المعاصي فلا سمع لهما هنا ولا طاعة، هذا مع وجوب برهما وشكرهما بعد شكر الله تعالى والإحسان إليهما من كل الوجوه ولو كانا كافرين.
رابعًا: وجوب اتباع سبيل المؤمنين:
بيان عظم شأن الوصية بلزوم الجماعة المسلمة، ووجوب اتباع سبيل المؤمنين المنيبين، ولزوم طريق السلف عقيدة وشريعة وأخلاقًا ومنهاجًا، وعدم شق عصا الطاعة بالخروج عن الجماعة المسلمة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
خامسًا: وجوب تعظيم الله تعالى:
وجوب تعظيم الله وإجلاله، لعظمته وسعة علمه واطلاعه على خلقه وإحاطة علمه وقدرته بجميع مخلوقاته. وهذا لا يتأتى لأحد إلا إذا صلح قلبه وأصبح ممتلئًا بمحبة الله وخشيته ومداومة مراقبته وذكره، والخوف منه ومن قربان محارمه، وغشيان معاصيه، والقرب مما يسخطه ويمقته سبحانه، وهذه أَجَلُّ علامات يقظة القلب وعلامات تعظيم الله وإجلاله سبحانه جل في علاه.
سادسًا: بيان مكانة الصلاة من الدين:
إن الصلاة من أعظم أركان الدين بعد الشهادتين، وأنها من أعظم وأَجَلِّ وسائل التربية الإيمانية العملية، ومن أهم وسائل الثبات على الحق ذلك لما لها من عظيم الأثر في تقويم الأخلاق وتحقيق الخشية لله وإدامة المراقبة له سبحانه.
سابعًا: وجوب الدعوة إلى الله وتحمل المشاق في سبيلها:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة من أهم وسائل الإصلاح للفرد والجماعة، وهي بمثابة الحصن الحصين والدرع الواقي للمجتمع المسلم، وأن القيام بهذه الشعيرة من أوجب الواجبات وأهم المهمات، وأن تركها له أسوأ العواقب الوخيمة، وبسبب إهمالها تحل النكبات وتتنزل العقوبات، وأن القائم بهذه الشعيرة لا بد له من مواجهة المجتمع فلا بد له من الصبر
على إبلاغ الحق، والصبر على الأذى الذي قد يقع له من بعض الخلق.
ثامنًا: ذم الكبر ووجوب الحذر منه:
الكبر من الصفات الذميمة والخصال الذميمة التي يجب أن يترفع عنها المؤمن، وهي من أعظم أسباب حلول سخط الله ونقمته ومقته وغضبه على المتلبس بها، وصاحبها متوعد بأشد العقوبة في الآخرة، لأنه منازع الرب العظيم أخص صفاته، هذا مع ما يقع من بغض العباد له، والنفور منه ومن معاشرته ومخالطته.
تاسعًا: وجوب تواضع العبد لله:
التواضع من أخص صفات المؤمنين، ومن هدي عباد الله المخبتين، ودلهم، وسمتهم. والتواضع يدلل على رجاحة العقل وحسن الخلق والاعتزاز بالدين، فيجب على المؤمن الحرص على التخلق بهذا الخلق العظيم، تواضعًا وتذللًا لله وإخباتًا وإنابة إليه.
عاشرًا: ذم علو الصوت لغير حاجة:
التأدب مع الناس مطلب شرعي عزيز المنال، وإن خفض الصوت مع المُخَاطَب دلالة على حسن الأدب معه، مع ما يزين صاحبه بالسكينة والوقار، وإن علو الصوت يوقع بصاحبه المذمة والتشبه بأخس المخلوقات، فالترفع عنه واجب من أهم الواجبات.
2 - أهم التوصيات
يوصي الباحث بما يلي:
أولاً: بالاعتصام بحبل الله المتين، والتمسك بكتاب الله المبين، والأخذ بهداياته، وكذلك بالتمسك بالسنة المطهرة، فهي مفسرة لمجمل القرآن، ومبينة وموضحة لهداياته، وفهم هذين الأصلين العظيمين- الكتاب والسنة- بفهم السلف الصالح.
ثانيًا: بالاستفادة من وصايا لقمان خصوصًا لأنها من النماذج التربوية الفريدة والمتكاملة، ولا سيما في مناهج إعداد المعلمين والدعاة، ومناهج الدراسات الشرعية، وسائر المؤسسات
التعليمية والدعوية والتربوية والإصلاحية، ومن ثَمَّ تصبح من المقررات الدراسية في محافل التعليم النظامية والرسمية، والغاية من ذلك هو إخراج جيل مسلم صالح مرتبط بهدايات القرآن، مستضيء بنوره، مهيأ للاستخلاف في الأرض.
ثالثًا: بالعناية بالتربية الكاملة وإصلاح مناهج التربية والتعليم في جميع مراحلها وروافدها، وتأسيسها على ضوء مبادئ الدين الحنيف، وأصول الشريعة الغراء، من جميع جوانبها -عقيدة وشريعة ومنهاجًا- عبادة وسلوكًا وأخلاقًا- والعناية بالناشئة والأخذ بنواصيهم نحو سبل الرشاد، ودلالتهم على الخير وحثهم على التمسك بالفضائل والترفع عن الرذائل ومهاوي الردى.
رابعًا: بالعناية بدور روافد التربية- البيت، والمدرسة، والمسجد، والإعلام- ووجوب أداء كل منها ما يجب عليه تجاه الناشئة على أتم الوجوه وأكملها وأحسنها، كما يوصي بضرورة الترابط بين واجبات تلك الروافد مجتمعة، وعدم التناقض بينها ليخرج للأمة جيل صالح متزن متكامل الشخصية صحيح البناء، ليس لديه انفصام في فهم الدين والعمل به.
خامسًا: كما يوصي كذلك بضرورة وجود القدوة الصالحة ذات المقومات التربوية المتكاملة والمتمثلة في المربي الصالح، من الآباء والمربين والدعاة والمعلمين وسائر المصلحين، والعناية البالغة بهذا الجانب المهم لما لها من عظيم الأثر في نفوس الناشئة.
وأخيرًا:
فإن الباحث قد بذل ما في وسعه لإكمال هذا البحث وإتمامه، على وجه يرجو به حسنه وكماله، لتبرأ به الذمة، راجيًا نفعه لعموم الأمة، ولم يألُ في ذلك جهدًا، وبذل له من عمره زمنًا ووقتًا، فلم يبخل ببذل وقت نفيس، ولا التضحية بزمن غالٍ عزيز، والكمال لدى عموم البشر مطلب بعيد المنال، شبيه بالمحال، لأن الإنسان محل للخطأ والنسيان. والبحث ما يزال يحتاج لتنقيب، ولجهد كل باحث لبيب، فلعل الله ييسر له من يزيد الحق وضوحًا، ويكون بذلك للأمة أمينًا نصوحًا، ويقرب تلك المعاني، لطالب الحق، من كل قاصٍ أو دان.
ولعل في هذا كفاية لمن أراد الانطلاق والبداية لتحقيق تلك الغاية.
ولقد صَدَقَ القاضي الفاضل عبد الرَّحيم بن عليّ البيسانيّ لما قال: «إنِّي رأيتُ أنَّه لا يكتُبُ إنسانٌ كتابًا في يومِه؛ إلَّا قالَ في غَدِهِ: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسنَ، ولو زِيدَ كذا لكان يُستَحسَنُ، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضلَ، ولو تُرِكَ هذا لكان أجملَ. هذا مِنْ أعظَمِ العِبَرِ، وهو دليلٌ علَى استيلاءِ النَّقصِ علَى جُملةِ البَشَرِ»
(1)
.
ومسك الختام بكلام نفيس لإمام ناصح ليس عنده تدليس.
فهذه كلمات معبرات وحروف مؤثرات، انطلقت من قلب وعقل عالم إمام وحبر همام، كان وما يزال قدوة للأنام، على مرّ الدهور والأعوام؛ ألا وهو ابن القيم -رحمه الله تعالى- حيث يقول:«فيا أيها الناظر فيه، لك غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، ولك صفوه وعليه كدره وهذه بضاعته المزجاة تعرض عليك وبنات أفكاره تُزفّ إليك، فإن صادفت كفئًا كريمًا، لم تعدم منه إمساكًا بمعروف، أو تسريحًا بإحسان، وإن كان غيره، فالله المستعان، وعليه التكلان، وقد رضي من مهرها بدعوة خالصة إن وافقت قبولًا وإحسانًا، وبرد جميل إن كان حظها احتقارًا، واستهجانًا، والمنصف يهب خطأ المخطئ لإصابته، وسيئاته لحسناته؛ فهذه سنة الله في عباده جزاءً وثوابًا، ومن ذا الذي يكون قوله كله سديدًا وعمله كله صوابًا؟ وهل ذلك إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ونطقه وحي يوحى؟ فما صح عنه فهو نقل مُصَدَّقٌ عن قائل معصوم، وما جاء عن غيره فثبوت الأمرين فيه معدوم، فإن صح النقل لم يكن القائل معصومًا، وإن لم يصح لم يكن وصوله إليه معلومًا»
(2)
.
ولعل فيما مضى معتبرًا لأهل البحث والنظر، والباحث لا يزعم أنه أتى بجديد، ولكن-حسبه- قول ربنا:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37].
(1)
كان الأُستاذ أحمد فريد الرِّفاعي (ت 1376 هـ) هو الَّذي شهَّر هذه الكلمةَ؛ حيث وضعها أوَّلَ كلِّ جزء من أجزاء مُعجم الأدباء، لياقوت الحمويّ، وغيره من الكُتب، وتداولَها النَّاس عنه منسوبةً إلى العماد الأصفهانيّ!! والصَّواب نسبتُها للقاضي الفاضل، بعثَ بها إلى العماد؛ كما في أوَّل شرح الإحياء، للزَّبيديّ (1/ 3)، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام، لقطب الدِّين محمد بن أحمد النهر والي الحنفيّ (ت 988 هـ)
نقلًا عن كتاب: «إعلام العابد في حكم تكرار الجماعة في المسجد الواحد» ، للشيخ/ مشهور بن حسن بن سلمان:(ص 7) دار المنار- الخرج (ط 2).
(2)
تضمين من آخر مقدمة ابن القيم لكتابه: روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص 28).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أملاه
الفقير إلى عفو ربه الباري
الباحث
أبو عبد الرحمن عرفة بن طنطاوي
arafatantawy@hotmil.com