المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدِّمة الإصدار الثاني للكتاب الحمد لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب، - النبأ العظيم - ت عمرو الشرقاوي

[محمد بن عبد الله دراز]

فهرس الكتاب

‌مقدِّمة الإصدار الثاني للكتاب

الحمد لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب، هدى وذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام على النبي الأوَّاب، مبلِّغ الكتاب، وعلى الآل والأصحاب، صلاة تدوم إلى يوم الحساب، ويكون لنا بها عند الله زلفى وحسن مآب، وبعد:

لقد ترك العلامة د. دراز رضي الله عنه كتبًا متنوِّعة، غير أنَّ أشهرها هو «النبأ» ، وظل الكتاب هو المعرِّف بدراز، ولا تزال الأجيال جيلًا بعد جيل تعرف درازًا من خلال «النبأ» ، وقد يكتفون به، وقد يلجون إلى عبقرية «دراز» من خلاله.

ولا نبالغ لو قلنا: إن الكتاب مفخرة من مفاخر عصرنا في التأليف.

ولنا أن نبحث عن سرِّ تميز الكتاب، وبلوغه هذه المنزلة، ولا شك أن لارتباط الكتاب بالقرآن المجيد المحفوظ، مع إخلاص صاحبه، فيما نحسب، أثرٌ في انتفاع الناس به، وبعد ذلك نقول:

أولًا: إن لشخصية الرجل، وارتباطه الدائم بالقرآن الكريم أثرٌ عظيم في كتابة كتابه، لقد كان الرجل يقرأ (ستة أجزاء من القرآن يوميًّا!)، كان الأليف المألوف، والمحبُّ العطوف، يرشد بمحبته كما يبين بحجته، كان ذا شخصية زاهدة هادئة، وإيمان قوي عميق، عزوفًا عن الدنيا ومباهجها، معرضًا عن المادة ومفاتنها، شاغلًا نفسه بالباقيات الصالحات، فكنت لا تراه إذا اختلى بنفسه إلا ذاكرًا لله، أو تاليًا لكتابه

(1)

.

(1)

حصاد قلم: (13)، فيلسوف القرآن، للشنقيطي:(26).

ص: 11

ولو تأمَّلنا جميع أعمال الرجل العلمية لوجدناها حول القرآن، وفي خدمته، ولو استمعت إلى أحاديثه الإذاعية عن القرآن لوجدتَّ قلبًا نابضًا يتحدث عن القرآن حديث العالم به، المحب له.

ثانيًا: لقد كان للقرآن أثره البالغ في أسلوب الشيخ وكتابته، انظر مثلًا إلى قوله من النبأ: «أرأيت هذه المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل كيف رتبها مرحلة مرحلة، وكيف سار في كل مرحلة منها خطوة خطوة.

فارجع البصر كرة أخرى إلى هذه المرحلة الأخيرة منها، لتنظر كيف استخدم موقعها هذا لتحقيق غرضين مختلفين، وجعلها حلقة اتصال بين مقصدين متنائيين.

فالتقى المقصدان فيها على أمر قد قدر.

ألم تر كيف بدأها بأن قص على المؤمنين مقالة أعدائهم في بعض حقائق الإسلام، وعمد إلى هذه الحقائق التي تماروا فيها، فجعل يمسح غبار الشبهة عن وجهها حتى جلَّاها بيضاء للناظرين»

(1)

.

وهكذا يمضي الشيخ في أسلوب من امتزج القرآن بقلبه وعقله، حتى إنه قد اصطبغ بمفرداته، وأخذ من أنواره ما ظهر في كتابه المسطور.

بل إن ذلك يظهر في كتاباته الأخرى، يقول في رسالة لصديق له: «عزيزي أسعد الله وقتك، وأبعد عني سنتك، والله لقد أرقتني ذكراك في مضجعي، وأذهلتني في دراستي، وابتزَّت منى بضعة من زمن ما كان أحوجني إلى صرفها فيما ينفعني ولا يضرني بإثارة كوامن الصدور وإراقة دماء القلوب، لولا أنه القدر استحكم، والمقدور تحتَّم، والله أحكم الحاكمين.

قُضِيَ الأمر، ونفذ القضاء بهذا التنائي، وحيل بين الجسمين أن يتلاقيا، وبين القلبين أن ينالا حظهما من لذة القرب، ولكن ليت شعري هل من الحكمة

(1)

وهذه سمة عامَّة في لغة الشيخ وتفسيره، انظر: التفسير الإذاعي: (604).

ص: 12

أن يترك القُل إذ لا يدرك الكل؟! وأن تجف الأقلام حيث قيدت الأقدام؟! كلا! والله وإن الشوق لشديد إلى نفثة من نفثات يراعكم هي في الحقيقة بعث من بعوث إنسانيتكم الرحيمة كي تداوي قلبًا صدعه الدهر شطرين، وليس له من دواء إلا بلسم خطابكم الشافي إن شاء الله تعالى، فإن كنتم تحبون أن تحققوا فيكم آمال أخٍ تجافت جنوبه عن المضاجع، وإلا فإني لا أستطيع أن أبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء»

(1)

.

هكذا فليكن الارتباط بالقرآن! وهكذا ظهر «النبأ» .

وكنت قد اعتنيت بالكتاب، وطبع عدة طبعات بحمد الله تعالى، ثم بدا لي أن أجدد النظر فيه بعد ورود عدد من التصويبات من القراء الكرام، فقمت بذلك بحمد الله وتوفيقه

(2)

، عبر الخطوات التالية:

أولًا: قدَّمت للكتاب بمقدِّمات:

الأولى: في التعريف بالشيخِ المؤلِّف، وكنت قد أغفلت ترجمته عمدًا في الإصدار الأول لشهرته، وكثرة من ترجم له، وقمت في هذا الإصدار بتلخيص مقاصد ترجمته، استجابة لعدد من القراء الكرام الذين رغبوا في ذلك.

الثانية: تلخيص مقاصد الكتاب، وعرض حججه من غير تفصيل، ليناسب شريحة أكبر من القراء، وليكون معينًا لهم على فهم الخيط الناظم للكتاب.

الثالثة: بيان موقف الفرق الإسلامية من القرآن العظيم، وذكر بعض الأدلة العقلية على نفي التحريف عن القرآن المجيد، ليعرف المسلم اتفاق الأمة الإسلامية على عظمة هذا الكتاب، ونذكر وجوهًا من عنايتهم بكتاب ربهم الذي أنزله لهدايتهم نورًا ورحمة لقوم يعقلون

(3)

.

(1)

حصاد قلم: (414).

(2)

وقد ساعدني في هذا الأخ الكريم محمود ماهر، وأعانني على مراجعة الكتاب، فشكر الله له، وأشكر أيضًا الأخ الكريم الشيخ د. وليد العاصمي فقد أمدَّني بعدد من التصويبات للإصدار الأول منه، وشكر الله تعالى لكل من أرسل تصويبًا للكتاب، واعتنى بذلك.

(3)

إن الشبهات المتعلقة بالقرآن، تنقسم إلى قسمين رئيسين:

الأول: الشبهات المتعلقة بالمصدرية والتاريخ.

وهذه الشبهات هي التي تتعلق بالقرآن، من حيث مصدرية الكتاب، وتتعلق به من حيث تاريخه، ويدخل فيها الشبهات المتعلقة: بجمع القرآن، والشبهات المتعلقة بالتحريف في النص القرآني من حيث الزيادة أو النقصان، والشبهات المتعلقة بالقراءات القرآنية.

الثاني: الشبهات المتعلقة بالمعاني.

والشبهات المتعلقة بالمعاني تتفرع إلى قسمين هي الأخرى، بحسب القدم والجدة:

أولًا: العقائدية وأثرها في تفسير القرآن الكريم.

ثانيًا: التأويلية المعاصرة.

ص: 13

الرابعة: تلخيص كتاب «مدخل إلى القرآن» للمؤلف، لأنَّه مترابط مع كتابنا، ومكمل لبعض جوانبه، ومتشابه معه في الطرح

(1)

.

الخامسة: أثبتُّ مقدِّمة الشيخ لكتاب: «الظاهرة القرآنية» ، للأستاذ الكبير: مالك بن نبي، وهي متصلة بموضوع الكتاب، وفيها إشارات حسنة ينبغي الوقوف عليها

(2)

.

ثانيًا: قمت بتصحيح الكتاب على أصح نسخه المطبوعة، واعتمدت على نسخة «دار الثقافة» كأصل؛ لأنَّها أقل النسخ من جهة الأخطاء، ولأنَّها خلت من التدخل في النص كما حصل في كثير من نسخ الكتاب.

وصححت بعض النصوص من نسخة «دار القلم» بعناية الشيخ الفاضل: مصطفى فضلية، وهو صاحب اعتناء كبير بكتب الشيخ دراز، وسيرته، ودراساته .. وغير ذلك مما يتصل بالشيخ رحمهما الله.

واعتمدت كذلك على نسخة «دار طيبة» بتصحيح الشيخ: عبد الحميد الدخاخيني، وهي النسخة المتداولة من فترة بين طلبة العلم، وبها يتواصون.

(1)

وهو مع أهميته، مغفولٌ عنه عند عموم طلبة العلم، وهو حريٌّ بالدراسة والنظر، واستخراج آراء الشيخ محمد دراز المتعلقة بالقرآن وعلومه، والتي بثَّها فيه، وأصله إحدى الرسائل التي قدمها الشيخ بالفرنسية للحصول على الدكتوراه، وترجمت للعربية.

ومن الكتب المهمة المكملة لمقصود الكتاب:

1 -

بحثٌ للدكتوراه مقدم من الدكتور محي الدين بن عمار، بعنوان: جهود محمد عبد الله دراز في التفسير الموضوعي .. دراسة وتحليل، وهو متاح على الشبكة.

2 -

التفسير الإذاعي للقرآن الكريم عند العلامة الحكيم محمد عبد الله دراز، د. دعاء محمد رياض، وطبع بمركز إحياء للبحوث والدراسات.

(2)

وقد أشار عليَّ بوضعها شيخنا الدكتور: طه نجا، حفظه الله، ونفعنا به، وجزاه عنِّي خير الجزاء.

ص: 14

ثالثًا: أعدت تخريج أحاديث الكتاب كاملةً، فالتخريج في الكتاب بأكمله لي، وإن لم أنبه على ذلك في بعض المواضع.

رابعًا: شرحت ما يمكن أن يشكِل من كلام الشيخ رحمه الله.

خامسًا: أضفت بهامش الكتاب عبارات توضيحية لمضامين فقرات الكتاب، ولم أتدخَّل في صلب الكتاب بشيء.

وفي ختام هذا التقديم، أود أن أهدي هذا العمل لأول من سمعت منه اسم الشيخ دراز، وتعرفت منه على هذا الكتاب العظيم، لقد تعرفت على الشيخ دراز أول ما تعرفت عبر كتابه «المختار من كنوز السنة» ، ثم على كتابه الذي أشرُف بالتقديم له، والعناية به «النبأ العظيم» من شيخي، والذي هو مني بمقام أبي: أبي عبد الله أحمد بن أحمد العيسوي، حفظه الله، وأتم نعمه عليه وأرضاه.

وأسأل الله أن يتقبله بقبول حسن، وأن ينفع به طلبة العلم وأهله .. وإني لأرجو ألا يبخل عليَّ أحدٌ طالع هفوة في هذا الكتاب - منِّي -، أو شيئًا يحسن إيراده مكان شيء، أن يعجل بإخباري، وإني له لشاكر، ولنصحه - إن شاء الله - لممتثل .. والحمد لله رب العالمين.

وكتبه

عمرو صبحي علي الشرقاوي

[email protected]

ص: 15

‌المقدمة الأولى: التعريف بالمؤلِّف

ص: 17

*‌

‌ مقدمة في أهمية معرفة الأعلام:

قال ابن عبد البر (ت: 463) عن سير التابعين وأئمة المسلمين: «وقد جمع الناس فضائلهم وعنوا بسيرهم وأخبارهم، فمن قرأ فضائلهم وفضائل مالك وفضائل الشافعي وفضائل أبي حنيفة بعد فضائل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وعني بها، ووقف على كريم سيرهم وسعى في الاقتداء بهم، وسلك سبيلهم في علمهم وفي سمتهم وهديهم كان ذلك له عملًا زاكيًا نفعنا الله عز وجل بحبهم جميعهم»

(1)

.

وقال ابن الصلاح (ت: 643): «وقد روينا عن مسلم بن الحجاج صاحب (الصحيح) رضي الله عنه أنه قال: (إن أول ما يجب على مبتغي العلم وطالبه أن يعرف مراتب العلماءَ في العلم، ورجحانَ بعضِهم على بعض، ولأن المعرفة بالخواص آصرةٌ ونسب، وهي يوم القيامة وُصلَة إلى شفاعتهم وسبب، ولأنَّ العالم بالنسبة إلى مقتبس علمه بمنزلة الوالد بل أفضل، فإذا كان جاهلًا به فهو كالجاهل بوالده بل أضل).

ولعمري إن من يسأل من الفقهاء عن المزني والغزالي مثلًا، فلا يهتدي إلى بعد ما بينهما من الزمان والمنزلة؛ لمنسوب من القصور إلى ما يسؤوه، ومن النقص إلى ما يهيضه»

(2)

.

وقال ابن الجوزي (ت: 597): «فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال:

فاتني أن أرى الديارَ بطرفي

فلعلي أرى الديار بسمعي»

(3)

.

وقال النووي (ت: 676): «وهذا من المطلوبات المهمات، والنفائس الجليلات، التي ينبغي للمتفقه والفقيه معرفتها، وتقبح به جهالتها، فإن شيوخه في العلم آباء في الدين، وصلة بينه وبين رب العالمين، وكيف لا يقبح جهل

(1)

جامع بيان العلم وفضله: (2/ 1117).

(2)

طبقات الفقهاء الشافعية: (1/ 75).

(3)

صيد الخاطر: (454).

ص: 19

[الإسناد]

(1)

والوُصلة بينه وبين ربه الكريم الوهاب، مع أنه مأمور بالدعاء لهم، وبرهم، وذكر مآثرهم، والثناء عليهم، وشكرهم»

(2)

.

وقال ابن تيمية (ت: 728): «والكمال لا يحصل إلا بالعلم والقدرة والإرادة التي أصلها المحبة، وحيث كان الإنسان يلتذ بالعلم فلا بد أن تكون هناك محبة لما يلتذ به.

فتارة يكون المعلوم محبوبًا يلتذ بعلمه وذكره، كما يلتذ المؤمنون بمعرفة الله وذكره، بل ويلتذون بذكر الأنبياء والصالحين، ولهذا يقال:(عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة)، بما يحصل في النفوس من الحركة إلى محبة الخير، والرغبة فيه، والفرح به، والسرور واللذة والأمور الكلية تحب النفس معرفتها لما فيها من الإحاطة التي توصلها إلى معرفة المعينات»

(3)

.

(1)

في الأصل: (الإنسان)، وهو خطأ.

(2)

تهذيب الأسماء واللغات: (1/ 17 - 18)، وقال: «اعلم أن لمعرفة أسماء الرجال، وأحوالهم، وأقوالهم، ومراتبهم، فوائد كثيرة، منها: معرفة مناقبهم، وأحوالهم، فيتأدب بآدابهم، ويقتبس المحاسن من آثارهم، ومنها مراتبهم وأعصارهم، فينزلون منازلهم، ولا يقصر بالعالي في الجلالة عن درجته، ولا يرفع غيره عن مرتبته.

ومنها أنهم أئمتنا وأسلافنا، كالوالدين لنا، وأجدى علينا في مصالح آخرتنا التي هي دار قرارنا، وأنصح لنا فيما هو أعود علينا، فيقبح بنا أن نجهلهم وأن نهمل معرفتهم»، تهذيب الأسماء واللغات:(1/ 10 - 11).

(3)

الصفدية: (2/ 269).

ص: 20

(1)

‌مفتاح الشخصية: (مصاحبة الوحي)

يقول أحمد حسن الزيات (ت: 1968): «رجلان يُرْبكان الكاتب إذا حاول أن يكتب عنهما: رجلٌ لا يستطيع أن يجدَ ما يقوله فيه، ورجلٌ لا يستطيع أن يَختصر ما يعرفه عنه»

(1)

.

ولا شك أن العلامة د. محمد دراز (ت: 1377 - 1958) من الضرب الثاني

(2)

.

ويكفينا لمعرفة ضخامة هذه الشخصية أن اسمه قد اقترن بالقرآن، والإنسان يأخذ من أنوار القرآن المجيد بحسب اتصاله به.

لقد كان العلامة د. دراز دائم الاتصال بالوحي قرآنًا وسنة.

أمَّا القرآن المجيد، فيقول عنه صديقه العلامة الكبير الشيخ محمد أبو زهرة (ت: 1974): « .. ثم يذهبُ كلٌّ منَّا إلى مَضْجعِه بعد أن يَؤُمَّنا في صلاةِ العشاء، ولكنه هو يستمرُّ في صَلَواتِه، كان يَتَخفَّفُ من النوم، فكان نومُه قليلًا كنوم الأنبياء، ثم يقومُ الليلَ مُصلِّيًا متهجِّدًا، أو قارئًا للقرآن، وكان رضي الله عنه قد أخذَ نفسَهُ بقراءةِ سُدُسِ القرآنِ في كلِّ يوم، وما كنتَ تراهُ إذا اخْتَلَى بنفسِه إلا مُصَلِّيًا، أو قارئًا للقرآن» .

تلك هي حياة الشيخ: للقرآن، ومع القرآن، ولذلك أبقى الله ذكره، وأدام اتصال الناس جيلًا بعد جيل بكتاباته، ينتفعون بها، ويغترفون منها.

(1)

مجلة الرسالة: (1/ 398 شاملة).

(2)

استفدت عامة هذه الترجمة، ومراجعها من الكتب التالية:

1 -

جهود محمد عبد الله دراز في التفسير الموضوعي، د. محي الدين بن عمار، رسالة دكتوراه، من جامعة الحاج لخضر، الجزائر:(2012).

2 -

النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: (2/ 239 - 256).

ص: 21

وأمًّا السنة، فيقول هو عن نفسه: «أروي (صحيح البخاري)، وجُلَّ (صحيح مُسلم)، مِنْ طَريقِ شُيُوخِنا المصريين قراءةً منهم، وأنا أسمع.

وأمَّا سائر كتب السنة فبالإجازة كتابةً من عالم المغرب السيد محمد عبد الحي الكتاني المحدث المشهور، عند اجتيازه للديار المصرية في طريقه إلى الحج، وبالإجازة والمناولة ومقابلة النسخ والقراءة للبعض والسَّماع للبعض الآخرِ مِنْ أُستاذنا الكبير القارئ المحدثِ الأصولي الفقيه الأديب، الجامع بين أسانيد المشارقة والمغاربة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي نزيل مِصرَ منذ أعوام»

(1)

.

(1)

المختار من كنوز السنة: (19).

ص: 22

(2)

‌النشأة الأولى

ولد الشيخ عام (1894) في قرية (محلة دياي) التابعة لمحافظة (كفر الشيخ)، والتي تقع أقصى شمال (مصر) في (دلتا النيل).

والده هو الشيخ «عبد الله دراز» (ت: 1932)

(1)

، عالمٌ أصوليٌّ، تتلمذ لعدد من أعلام عصره، منهم الشيخ محمد عبده (ت: 1905)، والشيخ سليم البشري (ت: 1917)، والشيخ محمد بخيت المطيعي (ت: 1935)، وقد حقق وشرح «الموافقات» ، لأبي إسحاق الشاطبي (ت: 790)، وأشرف ولده على طباعته

(2)

.

وكان الشيخ عبد الله دراز «يأخذ منزله بآداب التقوى؛ يؤم أهله في صلاتي العشاء والفجر، ويقرأ صحيح البخاري في ليالي رمضان، ويسهر على تثقيف أبنائه، وتعويدهم على سنن الخير صلاة وصيامًا وزكاة وحبًّا للمعروف، وبعدًا عن الدنايا»

(3)

.

وقد أخذ عنه ولده «شغفه بكتاب الله، فأخذ عنه ضرورة التلاوة لستة أجزاء منه كل يوم، وما ترك هذه العبادة يومًا من الأيام، وما كنت تراه إلا قارئًا للقرآن، وقراءة عالم مفكر مثله لهذا الورد اليومي، لابد أن تفتح عليه بما يضيء بصيرته، ويمده بأوفر الزاد الشهي»

(4)

.

حفظ الشيخ القرآن، واستظهر بعض المتون العلمية الذائعة لوقته، ثم التحق بالأزهر الشريف، وكان متقدِّمًا في امتحاناته السنوية، ونال الشهادة العالمية عام (1916)، وعُيِّن مدرسًا بالأزهر؛ لأنه الأول في ترتيب الامتحانات، وتعلم الفرنسية، وأتقنها في ثلاث سنوات

(5)

.

(1)

تنظر ترجمته في تحقيق مشهور آل سلمان للموافقات: (6/ 57 - 67).

(2)

النهضة الإسلامية، محمد رجب البيومي:(2/ 243).

(3)

النهضة الإسلامية، محمد رجب البيومي:(2/ 242).

(4)

النهضة الإسلامية، محمد رجب البيومي:(2/ 255).

(5)

النهضة الإسلامية، محمد رجب البيومي:(2/ 242).

ص: 23

(3)

‌هدهد قومه

(1)

سافر الشيخ إلى فرنسا عام (1936) مع البعثة التي اختيرت للسفر، ومكث هناك أزيد من عشر سنوات وتحصل على درجة الدكتوراة في رسالته الشهيرة:«دستور الأخلاق في القرآن»

(2)

.

يقول الشيخ أبو زهرة (ت: 1974): «ولقد فارقَنا الدكتور محمد عبد الله دراز إلى أوروبا كما فارقَنا غيرُه، وأقامَ في فرنسا ما شاءَ اللهُ أن يُقيم، وكانتْ إقامتُه أكثرَ من إقامةِ غيرِه أمدًا، وكانت أوفرَ إنتاجًا، فقد أقامَ فيها نحوَ اثنتي عشرةَ سنة، نالَ فيها أعلى الدرجاتِ العلميةِ هنالك.

ولقد عادَ بعدَ هذه الرحلةِ الطويلةِ الشاقَّةِ المُجْهِدَة، وتوقَّعنا أن نجدَ تغيُّرًا في مظهرِه أو مَلْبسِه أو عاداتِه، أو تديُّنِه، كما رأيْنا في بعضِ مَنْ ذهبُوا وأقاموا بعضَ إقامتِه، ولكنَّا وَجَدناهُ كما تَرَكَنا خُلُقًا ودينًا وإيمانًا، فأثبتَ بذلك سلامةَ جوهرِه، لأن جيِّدَ المعادنِ تجلوه التجاربُ وتصقلُه الحوادث من غيرِ أن يفنى ويَبلى.

ولقد ازدادَ استمساكًا بدينِه، وتشدُّدًا فيه، فزاد بهاءً ونورًا وجلالًا.

لم تُقطَع صلتي النفسيَّةُ بذلك الأخِ النابِغةِ منذُ تَعَارفنا، وإن غابَ عني أمدًا، التقينا من بعدِ الغياب، وأُنسُ اللقاءِ يقضي على زمانِ الابتعاد، وكأنّه يطويه أو يمحوه».

ويقول ختَنه الدكتور السيد محمد بدوي: «وكنت مع الطلبة العرب في باريس نلتمس في رحاب الأستاذ الجليل ما نحتاج إليه من رعاية في وقت الشدة، وكان هو يجمعنا في منزله في المناسبات الدينية والقومية ليشعرنا بما

(1)

إشارة إلى أن الشيخ لم يتأثر بالغرب في باطلهم، ولم يغتر بهم، بل ثبت ثبات المؤمن، كما ثبت هدهد سليمان عليه السلام وتحسر أنه وجد قومًا آتاهم الله ما آتاهم، لكنهم يعبدون الشمس من دون الله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض!

(2)

محمد عبد الله دراز، دراسات وبحوث، بأقلام تلاميذه ومعاصريه:(14).

ص: 24

افتقدناه من جو عائلي بسبب بعدنا عن الأوطان.

وكنَّا نجد عنده كرم الضيافة العربية، ونستمتع بأحاديثه ومناقشاته في شؤون الدين والعلم والسياسة.

وكان رحمه الله لا يضيق بما نثيره من آراء متطرفة أحيانًا، بل يفندها بروح العالم المستنير، وفي سماحة ورحابة صدر، ولا يزال بنا حتى يقنعنا بوجهة نظره المستندة إلى البرهان العلمي والمنطقي»

(1)

.

ولم تكن رحلته في فرنسا بالرحلة المترفة، بل قاسى الشيخ فيها، وتحمل، يقول صهره د. السيد بدوي عن رسالته «دستور الأخلاق في القرآن الكريم»: «وقد استغرقت كتابة هذه الرسالة ما يقرب من ست سنوات.

ويبدو أن العالم الجليل قد شرع فيها في عام (1941) بعد أن انتهت حملة فرنسا، وعاد إلى باريس بعد سنة أمضاها في (بوردو - بجنوب غرب فرنسا) حين اقتربت الجيوش النازية من العاصمة الفرنسية وأصبح سقوطها وشيكًا، وإذا أضفنا إلى هذه السنوات الست خمس سنوات قبلها أمضاها الأستاذ في التعرف على مناهج العلوم في الغرب وتحضير درجة الليسانس، فإنه يكون قد أمضى ما بين إعداد العدة وتنفيذ مشروعه حوالي أحد عشر عامًا.

ولم تكن هذه بالفترة الطويلة إذا قدرنا ما اكتنفها من سنوات الحرب العصيبة، وما أثارته هذه الحرب من مشكلات مادِّية ونفسية كان الأستاذ يتحمل عبئها، ويحاول إبعادها عن أسرته الكبيرة التي صحبته في غربته.

وأذكر أنه اضطر - أثناء هجوم الحلفاء لتحرير فرنسا - لقضاء أيام طويلة مع أسرته في مخبأٍ تحت الأرض، كان يجمع فيه أوراقه التي يحرص عليها ويشتغل وسط القنابل التي كانت تدوي من حوله، على ضوء شمعة أو مصباح خافت.

وتمت مناقشة الرسالة أمام لجنة مكونة من خمسة من أساتذة السوربون والكوليج دي فرانس في (15 - 12 - 1947)»

(2)

.

(1)

دستور الأخلاق في القرآن: (7).

(2)

دستور الأخلاق في القرآن: (8 - 9).

ص: 25

(4)

‌مشعل النور

كان الشيخ رحمه الله يمثل الأزهر في العديد من المؤتمرات الدولية؛ فمنها كلمته عن السلام والإسلام في مؤتمر الأديان بباريس عام (1939)، ومثَّل المشيخة في مؤتمر الحقوق الدولية في باريس عام (1951)، ببحثه عن الربا، وكانت آخر المؤتمرات التي مثل فيها الأزهر مؤتمر الأديان العالمي في لاهور بباكستان عام (1958)، وكان بحثه الذي قدم حول:«موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها» ، وكانت آخر محاضرة له؛ إذ لبى نداء ربه أثناء انعقاد المؤتمر وقبل أن يلقي كلمته بسكتة قلبية مفاجئة، وذلك في يناير (1958)، وعاد جثمانه إلى مصر، وشيعت جنازته بعد أن صلى عليه في (الجامع الأزهر)، قال عن الشيخ محمود شلتوت (ت: 1963): «لقد مات مشعل النور الذي أطفأ مشاعل الجهل»

(1)

.

(1)

النهضة الإسلامية، محمد رجب البيومي:(2/ 245)، محمد عبد الله دراز، دراسات وبحوث، بأقلام تلاميذه ومعاصريه:(173 - 174)، حصاد قلم:(363).

ص: 26

(5)

‌الُّلباب

«من المهم أن ننبه القارئ غير المتمرس بأعمال دراز إلى أن لُباب فكره يوجد في أربعة كتب وهي (دستور الأخلاق في القرآن)، و (الدين)، و (النبأ العظيم)، و (مدخل إلى القرآن الكريم).

ففي هذه الأعمال سكب دراز روحه وعقله، فهي تُغني غير المتخصص عما سواها، وما عداها من أعمال دراز مجرد توليد وتقريب لما ورد من أفكار كبرى في هذه الكتب الأربعة.

كما أن هذه الكتب - مع (المختارات من كنوز السنة)، و (الميزان بين السنة والبدعة) هي التي وضع دراز عناوينها، أمَّا ما سواها من أعمال فهي جمع لمقالات ومحاضرات متناثرة، وقد وضع جامعوها لها عناوين من تلقاء أنفسهم»

(1)

.

(1)

فيلسوف القرآن، للشنقيطي:(41)، وأنبه أن من الأعمال الجيدة التي صدرت مؤخرًا: جمع التفسير الإذاعي للشيخ رحمه الله، وقد جمعته د. دعاء محمد رياض، ونشر بعنوان: (التفسير الإذاعي للقرآن الكريم عند العلامة الحكيم محمد عبد الله دراز»، وطبع بمركز إحياء للبحوث والدراسات.

ص: 27

‌المقدِّمةُ الثانية

تدعيمُ مقاصدِ كتاب «النَّبأ العَظيم»

ص: 29

المقصود بالقرآن في كلامنا، هو:«كتاب الله، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المحفوظ بين الدفتين، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل، والمتحدَّى بأقصر سورة منه» .

ولقد جاء في القرآن ذاتِه تحديد مصدره، وأنه كلام الله جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وليس لمحمد عليه الصلاة والسلام في القرآن سوى:

(1)

الوعي والحفظ، ثم (2) الحكاية والتبليغ، ثم (3) البيان والتفسير، ثم (4) التطبيق والتنفيذ.

[مجمل الحجج في الكتاب]

ويمكننا أن نقسم الحجج على مصدريَّة القرآن إلى قسمين:

1 -

الحجج الخارجية.

ونعني بها: البحث عن القرآن من خارجه، لا من جوهره.

2 -

الحجج الداخلية.

ونعني بها: البحث عن القرآن في جوهره.

ص: 31

‌القسم الأول: الحجج الخارجية

‌الحجة الأولى: إقرار محمد صلى الله عليه وسلم أن القرآن ليس من عنده

[إقرار محمد صلى الله عليه وسلم أن القرآن ليس من عنده]

لقد أقر النَّبي صلى الله عليه وسلم على نفسه أنَّ القرآن الذي جاء به ليس من كلامه، وإنَّما هو وحي من ربه إليه.

وحجيَّة هذا الإقرار: أنَّ القرآن حجَّ العرب، وعجزوا أمامه، فالمصلحة تقتضي أن ينسب محمد صلى الله عليه وسلم القرآن له، لتروج زعامته، ويرتفع قدره عند هؤلاء القوم، ولم يفعل، وحاشاه أن يفعل!

وإنما لم يفعل؛ لأنَّه صادق أمين، ولم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله.

فإن قال قائل: إنَّه لم يفعل ذلك إلا ليستجلب مزيدًا من الأتباع بنسبة هذا الكلام للرب، ويستدعي لنفسه طاعة وسلطانًا.

فنقول: هذا الكلام فاسد من جهتين:

الجهة الأولى:

أنَّ محمدًا عليه الصلاة والسلام قد صدر عنه الكلام الذي نسبه لنفسه، والكلام الذي نسبه لربه، وأوجب القرآن على الناس طاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل

ص: 32

طاعته من طاعة الله تعالى، فهلَّا جعل كل أقواله من كلام الله كما يقول هذا القائل.

الجهة الثانية:

أنَّ هذا الكلام مبني على افتراض باطل، هو: أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم قد سوَّغ لنفسه أن يصل إلى مقصده، ولو بالكذب والتمويه.

وهذا باطل؛ لأن سيرةَ محمد صلى الله عليه وسلم، وأحوالَه تأبى ذلك.

فإنَّ صفاته وشمائله قبل النبوة وبعدها، تأبى أن يكون كاذبًا، فقد كان أعداؤه قبل أصحابه يشهدون له بالصدق، والأمانة، ولم يقل أحد منهم قط: إنَّه كاذب.

ثم إن في تأخر نزول الوحي عليه في الحوادث المهمة، والتي تتعلق بشأنه الخاص، كحادثة الإفك، والآيات التي تشتمل على عتابه عليه الصلاة والسلام، وتوقفه في تأويل بعض الآيات حتى ينزل الوحي، وسائر أموره العامة = كل ذلك دليل على بطلان أن تكون هذه الشخصية من الشخصيات التي تتوصل إلى مرادها بالكذب والتمويه.

إن صاحب هذا الخلق العظيم وصاحب تلك المواقف المتواضعة بإزاء القرآن، ما كان ينبغي لأحد أن يمتري في صدقه حينما أعلن عن نفسه أنه ليس هو واضع ذلك الكتاب، وأن منزلته منه منزلة المتعلم المستفيد، بل كان يجب أن نسجل من هذا الاعتراف البريء دليلًا آخر على صراحته وتواضعه.

ص: 33

‌الحجة الثانية: في القرآن ما لا يستنبط بالعقل ولا بالتفكير، وفيه ما لا يدرك بالوجدان ولا بالشعور

[في القرآن ما لا يستنبط بالعقل ولا بالتفكير، وفيه ما لا يدرك بالوجدان ولا بالشعور]

قد يقول قائل: إن الفطرة السليمة، والبصيرة النافذة لمحمد صلى الله عليه وسلم هي التي أهَّلته لإنتاج هذا القرآن.

والجواب: إنَّ في القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة التي لا مجال للذكاء والاستنباط فيها.

1 -

الوقائع التاريخية لا مدخل للعقل والذكاء فيها.

من المعلوم أن الوقائع التاريخية لا يمكن وضعها بإعمال الفكر والفراسة، فالعلم بأحوال الأمم السابقة، وما حصل لهم، وبمجمل ما جرى من حوادث في تلك الأزمان، بل وبمفصل ما جرى أيضًا مع ذكر لأرقام دقيقة = كل ذلك لا يمكن أن يكون من ذكاء محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو وحي أوحاه الله إليه.

ولقد كان ملاحدة الجاهلية أصدق تعليلًا لهذه الظاهرة من ملاحدة العصر، إذ قالوا عن هذه الأخبار:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5].

وقد أجاب القرآن عنهم إجابة بليغة، فقال:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].

2 -

الحقائق الدينية الغيبية لا مدخل للعقل فيها.

إن القرآن قد فصل ذكر حدود الإيمان، ووصف الجنة ونعيمها، والنار وعذابها، ووصف عوالم أخرى كالملائكة والجن، بل ذكر بعض الأرقام في ذلك المجال؛ كعدد الملائكة الموكلة بالنار.

ص: 34

أبعد هذا شك أن يكون القرآن قد افتُري من دون الله، إن القرآن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.

3 -

أنباء المستقبل الجازمة ودلالتها على مصدرية القرآن.

لقد جاء القرآن ببيان أن الدين قد كتب الله له البقاء والخلود، وأن هذا القرآن سيعجز العالم أجمع، وتحدى القرآن العرب كلهم بهذا، وثبت عجزهم، فمن أين لمحمد صلى الله عليه وسلم هذا الغيب، ومن أين له الجزم به؟

ومن الغيوب التي أخبر بها، والتي تكفي في صدقه، وصدق ما جاء به، ما أخبر عنه القرآن في قوله:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]، فأي ضمان هذا؟

وليس هذا فحسب، وإنما وقع هذا موقعه، فترك النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ الحراس بعد هذه الآية، وثبتت هذه العصمة له في غير موطن

(1)

.

إنَّه لا بد أن يكون قد استقى هذه الأنباء من مصدر علمي وثيق، واعتمد فيها على اطلاع واسع ودرس دقيق، ولا يمكن أن تكون تلك الأنباء كلها وليدة عقله وثمرة ذكائه وعبقريته.

(1)

انظر: صحيح البخاري: (4136)، والترمذي:(3046).

ص: 35

‌الحجة الثالثة: أمية النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم أخذه عن معلم من البشر، دليل على كون القرآن من عند الله

[أمية النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم أخذه عن معلم من البشر، دليل على كون القرآن من عند الله]

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ممن يرجع بنفسه لكتب العلم، ودوواينه، لأنه باعتراف الخصوم ولد أميًا، وفي القرآن نفسه:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].

وليست القراءة والكتابة قيمة ذاتية، وإنما قيمة القراءة والكتابة قيمة غائيَّة تهدف إلى تحصيل العلم، وهو حاصل لمحمد صلى الله عليه وسلم عندنا - بالوحي.

ومع دلالة الآية السابقة على هذه المسألة، إلا أن مما يؤكد تلك القضية أمور، منها:

1 -

اتخاذه كتابًا للوحي من خاصة صحبه.

2 -

أنه لم يعرف موقع اسمه المكتوب في صلح الحديبية.

3 -

الشهرة المستفيضة بعدم معرفته للكتابة.

وعلى أية حال، فإن من المتفق عليه؛ كونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يمارس القراءة والكتابة قبل بعثته.

ولم يكن له معلم من الأميين من قومه، وهذا لا شبهة فيه لأحد، فإن هؤلاء فقدوا أساس العلم في أنفسهم حتى اشتق لهم من الجهل اسم!

وليس له معلم من غيرهم، ولا يمكن لأحد أن يدعي أن لمحمد معلمًا من البشر.

فأما من ادعى أنه أخذ هذا العلم عن بحيرى الراهب، أو ورقة بن نوفل، فقد ابتعد عن الصواب، وخالف الحق، فإن لقائه بحيرى الراهب أو ورقة بن نوفل لم يكن بمنأى عن الناس، فقد شاهده عمه أبو طالب، وزوجه خديجة، ولم

ص: 36

يكن لقائه بهما إلا يسيرًا، فماذا حدثنا التاريخ عن هذا اللقاء، وما الذي يمكن أن يكون قد تحمَّله في هذه الدقائق؟!

أيكون هذا العلم أجمع؟!

ثم إن خصومه الألدَّاء لم يستخدموا هذا السلاح، ولا شهروه في وجه محمد، وقد كان هذا السلاح أقرب إليهم وأمضى من كل ما لجئوا إليه.

على أن التاريخ قد أخبرنا أن هذين الرجلين، استبشرا بلقيا محمد صلى الله عليه وسلم، وتوقع له أحدهما شأن عظيم، وتمنى الآخر أن يشهد بعثته فيكون من أنصاره!

* دعوى الأخذ عن اليهود والنصارى:

إن من المستحيل أن يكون القرآن قد أخذ عن اليهود والنصارى، ولينظر قائل تلك المقالة إلى حديث القرآن عن أهل الكتاب، وذكره لهم، وكيف يصور القرآن علومهم بأنها الجهالات، وعقائدهم بأنها الخرافات، وأعمالهم بأنها الجرائم والمنكرات.

ولقد كان القرآن بمثابة الأستاذ الذي يصحح لأهل الكتاب من اليهود والنصارى أغلاطهم، وينعي عليهم سوء حالهم.

ويضاف لذلك كله ما كان عليه أهل الكتاب من كتمان للحق، وتحريف للكلم عن مواضعه.

وأما الراسخون في العلم من أهل الكتاب فقد آمنوا بالقرآن.

* دعوى أهل الشرك بأن لمحمد معلمًا من البشر!

لما ضاقت بالمشركين دائرة الجد، ما وسعهم إلا فضاء الهزل، فادعوا أن محمدًا تعلم من غلام في مكة، وقد كان هذا الغلام نصرانيًّا تعرفه الحوانيت والأسواق، أعجمي اللسان مع ذلك؟!

ولنا أن نقول: ما الذي منع قومه - إن كان قولهم الحق - من أن يأخذوا كما أخذ محمد، والغلام بين ظهرانيهم، وبذلك يستريحون من عنائهم بمحمد،

ص: 37

ويداوونه من جنس دائه، بل ما الذي منع الغلام نفسه من أن يتبوأ هذه المنزلة، أو يتولى بنفسه تلك القيادة؟

إن ذلك لا يفسَّر إلا بشيء واحد؛ أنه من تخرصات الجاهليين، إذ لم يجدوا ما يمكن أن يدحض الحجة الساطعة إلا بمثل هذا الهزل من القول.

= ومما سبق نصل إلى أنه لا يوجد للقرآن مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه، ولا عند أحد من البشر، وأن كل من حاول أن يجعل القرآن (عملًا إنسانيًّا) أعياه أمره.

ص: 38

‌الحجة الرابعة: ظاهرة الوحي دليل على أن القرآن من عند الله

[ظاهرة الوحي دليل على أن القرآن من عند الله]

إن ظاهرة الوحي حالة غير اختيارية، وليست من الحالات المرضية التي قد تعرض لبعض الناس؛ لأنَّها مبعث نور لا ظلمة، فهي تمد صاحبها بعلم لا جهالة، بل يجيء معها من العلم والنور ما تخضع له العقول.

فقوة الوحي قوة خارجية، لأنها تتصل بنفس محمد حينًا بعد حين، وهي قوة عالمة، وهي قوة أعلى من قوته، لأنها تحدث آثارًا في بدنه، وهي قوة خيرة معصومة، لا توحي إليه إلا الحق.

فماذا عسى أن تكون تلك القوة إن لم تكن قوة ملك كريم؟! وهذه حجة لمن يؤمن بالغيب.

‌خلاصة الحجج الخارجية

[خلاصة الحجج الخارجية]

قصارى ما صنعناه أننا درسنا الطريق التي جاء منها القرآن؛ فما وجدنا في اعترافات صاحبه، ولا في حياته الخلقية، ولا في وسائله وصلاته العلمية، ولا في سائر الظروف العامة أو الخاصة التي ظهر فيها القرآن إلا شواهد ناطقة بأن هذا القرآن ليس له على ظهر الأرض مَنْ ننسبه إليه مِنْ دون الله.

وتلك كلها دراسات خارجية إنما يسلكها رجل وقف معنا على طرف صالح من هذه الحياة النبوية وملابساتها، وكان مع ذلك سليم الفطرة يتعرف الأشياء بمثالها ويهتدي إليها بأقرب أماراتها.

فمثل هذا سيرضى منا بهذا القدر ويهتدي به.

وأما الذين لا يعلمون عن تلك الحياة النبوية إلا قليلًا - وكثير ما هم - والذين يريدون أن يأخذوا حجة القرآن لنفسه من نفسه، فهؤلاء لا غنى لهم أن

ص: 39

نتقدم بهم خطوة أخرى نبين لهم فيها أن هذا الكتاب الكريم يأبى بطبيعته أن يكون من صنع البشر، وينادي بلسان حاله أنه رسالة القضاء والقدر، حتى إنه لو وجد ملقًى في صحراء لأيقن الناظر فيه أن ليس من هذه الأرض منبعه ومنبته، وإنما كان من أفق السماء مطلعه ومهبطه.

ص: 40

‌القسم الثاني: الحجج الداخلية = البحث في القرآن نفسه

(1)

ولب هذا القسم هو النظر في الإعجاز القرآني، وسنقسم هذه الحجة إلى عدة حجج، وهي:

‌الحجة الأولى: التحدي

[التحدي بالقرآن]

إن القرآن المجيد لم يستطع أحد من وقت نزوله إلى عصرنا أن يعارضه، وإن كبار علماء الأدب والبلاغة لم تزدهم معرفتهم بهذه العلوم إلا خضوعًا للقرآن الكريم، وإيمانًا بقدسيته، ومكانته.

وإن العرب - وهم أرباب الفصاحة والبيان - أعجزهم القرآن أن يأتوا بمثله، بل لم يستطع أحدهم أن يجاريه، ولا أن يطعن في عربيته.

وأي طعن يوجه للقرآن من جهة عربيته من طاعن متأخر عن أبي جهل، وأبي لهب وأضرابهم، فاعلم أنه باطل في ذاته؛ إذ لو كان صحيحًا لما غفل عنه هؤلاء الأعداء، وهم أبصر الناس باللغة، وأحرصهم على الطعن في القرآن.

(1)

ينظر هذا القسم بأمثلته في كتاب: النبأ العظيم لزامًا، فإن هذا العرض ما هو إلا تجريد لما ذكره الشيخ رحمه الله، ولن تتصور هذا حق التصور إلا بمراجعة ما ذكره الشيخ بتمامه من الكتاب.

ص: 41

وقد تحداهم القرآن، وكرر عليهم التحدي في صور شتى:

فدعاهم أن يأتوا بمثله.

ثم أن يأتوا بعشر سور مثله.

ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله.

ثم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله.

وأباح لهم - مع ذلك - أن يستعينوا بمن شاؤوا.

ومع ذلك كله؛ استيأسوا من قدراتهم، واستيقنوا عجزهم، فركبوا متن الحتوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف، ومضت القرون تلو القرون ولم يستطع أحد أن يقف أمام التحدي القائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولا يصح القول: إن العرب انصرفت هممهم عن معارضة القرآن، لأمور:

1 -

لأنَّ الأسباب الباعثة على المعارضة كانت موفورة متضافرة، سيما مع استثارة حميتهم، والدعوة التي تكررت لهذه المعارضة، ولهي أهون عليهم مما قاموا به.

2 -

أن العرب قعدوا حتى عن تجربة المعارضة، ولم يشرع منهم إلا أقلهم عددًا، وأسفههم رأيًا، إذًا: فلقد كانوا في غنى بهذا العلم الضروري عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب.

لقد كان القرآن نفسه مثار عجبهم وإعجابهم، ولقد كانوا يخرون سجدًا لسماعه.

ص: 42

‌الحجة الثانية: جديد لغة القرآن

[جديد لغة القرآن]

لم يخرج القرآن عن لغة العرب، ولا عن سَنَنِها في الكلام، ولكن الجديد في لغة القرآن: أنه في كل شأن يتناوله من شؤون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِوَلًا .. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان.

بل إن لغة القرآن لتختلف عن لغة مبلغ القرآن، وهو الرسول صلوات الله وسلامه عليه، نحن نرى الأسلوب القرآني فنراه ضربًا وحده، ونرى الأسلوب النبوي، فنراه ضربًا وحده لا يجري مع القرآن في ميدان إلا كما تجري محلقات الطير في جو السماء لا تستطيع إليها صعودًا، ثم نرى أساليب الناس فنراها على اختلافها ضربًا واحدًا لا تعلو عن سطح الأرض، فمنها ما يحبو حبوًا، ومنها ما يشتد عدوًا، ونسبة أقواها إلى القرآن كنسبة هذه (السيارات) الأرضية إلى تلك (السيارات) السماوية!

بل يمكن أن يستريب البليغ العالم في لفظة من الألفاظ النبوية، تشتبه عنده بألفاظ الصحابة والتابعين، لكنه لا يستريب البتة في الأسلوب القرآني، فإن له طابعًا لا يلتبس بغيره.

ص: 43

‌الحجة الثالثة: النظام الصوتي، و‌

‌الجمال التركيبي

‌[النظام الصوتي،

والجمال التركيبي]

* النظام الصوتي:

إن للقرآن خاصية في تأليفه الصوتي في شكله وجوهره، إنَّ أول شيء أحسته تلك الأذن العربية في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة والسكون تقسيمًا منوعًا يجدد نشاط السامع لسماعه، ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعًا بالقسط الذي يساعد على ترجيع الصوت به وتهادي النفس به آنًا بعد آن، إلى أن يصل إلى الفاصلة الأخرى فيجد عندها راحته العظمى، وهذا النحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى شيء منه في أشعارها فذهبت فيها إلى حد الإسراف في الاستهواء، ثم إلى حد الإملال في التكرير.

فإنها ما كانت تعهده قط ولا كان يتهيأ لها بتلك السهولة في منثور كلامها سواء منه المرسل والمسجوع؛ بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوب تغض من سلاسة تركيبه، ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلا بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه.

* الجمال التركيبي:

ترى في القرآن كلامًا ليس بالحضري الفاتر، ولا بالبدوي الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها، وقدر فيها الأمر تقديرًا لا يبغي بعضهما على بعض. فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلالتهما، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل، عندها تلتقي أذواقهم، وعليها تأتلف قلوبهم.

ومن هذه الخصوصية والتي قبلها تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني.

ص: 44

‌الحجة الرابعة: الخصائص البيانية للقرآن الكريم

[الخصائص البيانية للقرآن الكريم]

إن الأسلوب القرآني (تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرافها).

وقد تعددت الخصائص البيانية في القرآن الكريم، ومنها:

‌1 - القصد في اللفظ، والوفاء بالمعنى.

فإنك تجد في القرآن بيانًا قد قدر على حاجة النفس أحسن تقدير، يؤدي من كل معنى صورة نقية وافية، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها = لم توجد.

‌2 - الجمع بين خطاب العامة والخاصة.

فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد.

‌3 - إقناع العقل، وإمتاع العاطفة.

في النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها.

وفي القرآن وفاء هاتين الحاجتين على التمام، اقرأ مثلًا قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] وانظر كيف اجتمع الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة.

ص: 45

بل إنَّ الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية، ووضوح المقدمات المسلمة، ودقة التصوير لما يعقب التنازع من (الفساد) الرهيب، فهو برهانيٌّ خَطَابيٌّ عاطفيٌّ معًا.

‌4 - الجمع بين البيان والإجمال.

وهذه عجيبة أخرى تجدها في القرآن ولا تجدها فيما سواه، تقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف، والملاسة والإحكام والخلو من كل غريب عن الغرض ما يتسابق به مغزاها إلى نفسها دون كد خاطر ولا استعادة حديث، كأنك لا تسمع كلامًا ولغات، بل ترى صورًا وحقائق ماثلة، وهكذا يخيل إليك أنك قد أحطت به خُبرًا، ووقفت على معناه محدودًا؛ هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة.

‌5 - الوحدة الموضوعية.

لا يُستراب أن القرآن نزل مفرقًا حسب الوقائع والدواعي، وأن ترتيبه إنما وقع بوحي من الله، ولا شك أن القرآن أكثره يتناول شؤون القول، ويتنقل بين تلك الشؤون من وصف، إلى قصص، إلى تشريع، إلى جدل إلى ضروب شتى .. ومع ذلك، وكون هذا الانفصال الزماني، والاختلاف الذاتي يستتبعان تفكيك الكلام، وتقطيع أوصاله؛ إلا أنا نجد السورة من القرآن كالشيء الواحد لا انفصام بين قطعة وأخرى، ولا بين مفتتح وختام.

إنه لا يجرؤ في قرارة الغيب على وضع هذه الخطة المفصلة المصممة إلا أحد اثنين: جاهل جاهل في حضيض الجهل؛ أو عالم عالم فوق أطوار العقل، لا ثالث.

إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثًا من المعاني حشيت حشوًا، وأوزاعًا من المباني جمعت عفوًا؛ فإذا هي - لو تدبرت - بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شعب وفصول، وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول؛ فلا تزال

ص: 46

تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضامِّ والالتحاق.

كل ذلك بغير تكلفة ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها، وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعه وأثنائه، يريك المنفصل متصلًا، والمختلف مؤتلفًا.

ص: 47

‌المقدمة الثالثة

موقفُ المسلمين من القرآن، وسلامةُ النص القرآني من التحريف

ص: 49

‌تمهيد

نعترف أننا لا نستطيع الوفاء بحق هذا المبحث في هذه المقدمة اليسيرة، لكننا سنحاول أن نضع الحجج الكافية لمن كان له قلب على سلامة النص القرآني مما حصل لغيره من الكتب

(1)

.

[موقف الفرق الإسلامية من القرآن الكريم]

لقد اتفقت كلمة المسلمين جميعًا على أن القرآن كلام الله، وحجة من أعظم حججه على عباده، وأبلغها دلالة، وتقرَّر بينهم «أنه كلية الشريعة، وعمدة

(1)

اعتمدنا في تدوين هذا المبحث بكامله على ثلاثة كتب رئيسة:

1 -

الدليل النقلي، للدكتور أحمد قوشتي:(44 - 104)، ط. فكر.

2 -

الصراع بين الأخباريين والأصوليين داخل المذهب الشيعي والإثني عشري، للدكتور أحمد قوشتي:(55 - 66)، ط. مركز تكوين.

3 -

العقائدية، وتفسير النص القرآني، للدكتور ياسر المطرفي، ط. مركز نماء.

كما اعتمدنا على بعض مصادر الشيعة، وهي:

1 -

محطات في تاريخ القرآن، مرتضى فرج، ط. دار الانتشار العربي، وهو كتاب مهم جدًا، لولا ما فيه من تشيع، وأحكام مسبقة، ومع ذلك فإن طالب العلم يستفيد منه فائدة كبيرة.

2 -

نصوص في علوم القرآن، الأجزاء (3، 4، 9)، تأليف مجموعة من علماء الشيعة.

ويمكن الرجوع لمصادر أخرى، منها:

1 -

دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، د. محسن المطيري، ط. دار البشائر الإسلامية.

2 -

ثبوت القرآن بين أهل السنة والشيعة الإمامية، د. محمد الصياد، دار النور المبين.

3 -

تاريخ القرآن عند الشيعة الاثني عشرية، عبد العزيز الضامر، ط. مركز تكوين.

4 -

تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، منقذ السقار، ط. مركز تكوين.

5 -

موثوقية نقل القرآن، عبد الله رمضان موسى، ط. مكتبة التوعية.

ص: 51

الملة، وينبوعُ الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه»

(1)

، وهذا كله لا يحتاج إلى مزيد تقرير واستدلال؛ لأنَّه معلوم من الدين بالضرورة، وركيزة أساسية من ركائز العقيدة الإسلامية عند كل مقرٍّ بهذا الدين، ومُسلِّمٍ به.

كما أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على أن القرآن نُقِلَ إلينا بتمامه وكماله كلمةً كلمةً، وحرفًا حرفًا، سالمًا من النقصان أو التحريف، ومحفوظًا من عبث العابثين.

وقد حكى أبو محمد بن حزم (ت: 456)، وهو من المتثبتين في نقل الإجماع، ونسبته لأصحابه، الاتفاق على الأمرين السابقين من جميع الفرق المنتمية إلى الإسلام؛ كأهل السُّنَّة، والمعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والزيدية، فكلهم يوجب «الأخذ بما في القرآن، وأنه هو المتلوُّ عندنا نفسه، وإنما خالف في ذلك قوم من غُلاة الروافض، هم كفار بذلك، مشركون عند جميع أهل الإسلام»

(2)

.

فأمَّا اهتمام أهل السنة بالقرآن، وعنايتهم به، من زمان الصحابة رضوان الله عليهم = فمعلوم مشهور، صنفت فيه المصنفات، وقد اهتموا بالقرآن جمعًا، وإقراءً، وتفسيرًا، وعملًا

(3)

.

يقول ابن الوزير (ت: 840): «فأمَّا كتابُ اللهِ تعالى، فإن نظرتَ في إعجازه، في بلاغته وأسلوبه، أو فيما اشتمل عليه من أخبار غيوبه، عرفت

(1)

الموافقات: (3/ 200).

(2)

الإحكام في أصول الأحكام: (1/ 91).

(3)

انظر:

1 -

المدخل إلى التعريف بالمصحف الشريف، د. حازم حيدر.

2 -

العناية بالقرآن الكريم وعلومه من بداية القرن الرابع الهجري إلى عصرنا الحاضر، د. نبيل آل إسماعيل.

3 -

دليل الكتب المطبوعة في الدراسات القرآنية، معهد الإمام الشاطبي.

4 -

القرآن في حياة الصحب والآل، عمرو الشرقاوي.

ص: 52

بالضرورة العادية

(1)

عَجز جميعِ المخلوقين - من الجن والإنس أجمعين - عن الإتيان بمثله، أو سورةٍ من مثلِهِ. وما أوضحَ قولَه تعالى في ذلك:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].

وإن نظرتَ فيما اشتمل عليه، من المنع عن المفاسد، والأمر بالمصالح، والأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، علمتَ بالبرهان - إن كنتَ مِنْ عارفيه -، وبالقرآن - إن كنت مِنْ متدبِّريه - صِدْقَ قولِ من أنزله سبحانه:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212].

وقد جمع سبحانه في هذه الآية الشريفة - لمن تأمَّلها -: بينَ الوجوه الثلاثة المتقدمة، فأشار إلى الأول، وهو العجز عن مثله، بقوله:{وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 211]، وإلى الثاني، وهو جهلُهُم بالغيب الذي فيه، بقوله:{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]، وإلى الثالث، وهو أنَّهُ لا يصدر منهم ما فيه الإرشاد إلى الخير، والمنع عن الشر، بقوله:{وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} [الشعراء: 211]»

(2)

.

وذكر أئمَّة أهل السنة أن أحق ما صُرفت إلى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان لله في العلم به رضا، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى، وأنَّ أجمع ذلك لباغيه، كتاب الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مرية فيه، الفائز بجزيل الذخر وسنى الأجر تاليه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد

(3)

.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) في أهمية الاهتمام بالقرآن، وفهم معانيه: «وأما في (باب فهم القرآن) فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع

(1)

لعل الأفصح: المعتادة.

(2)

العواصم والقواصم: (1/ 203 - 204).

(3)

جامع البيان، للطبري:(1/ 7).

ص: 53

شيئا من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية = قبله، وإلا رده، وإن لم يشهد له بقبول ولا رد = وقفه، وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه.

ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك = فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه.

وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت.

وكذلك تتبع وجوه الإعراب واستخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان.

وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس ونتائج أفكارهم.

كذلك تأويل القرآن على قول من قلد دينه أو مذهبه فهو يتعسف بكل طريق حتى يجعل القرآن تبعًا لمذهبه، وتقوية لقول إمامه.

وكلٌّ محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه في كثير من ذلك أو أكثره.

وكذلك يظن من لم يقدر القرآن حق قدره أنه غير كاف في معرفة التوحيد والأسماء والصفات وما يجب لله وينزه عنه؛ بل الكافي في ذلك عقول الحيارى والمتهوكين الذين كل منهم قد خالف صريح القرآن مخالفة ظاهرة، وهؤلاء أغلظ الناس حجابا عن فهم كتاب الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم»

(1)

، وكلامهم في هذا يطول.

وكذلك، فإنَّ سائر الفرق الإسلامية على هذا الاعتقاد، لقد كان القرآن معظَّمًا كمرجعية عند عموم الطوائف المنتسبة للإسلام، فالقصاب (ت: 360) - والذي ينتسب لاتجاه أهل الحديث - يذكر مقصد تأليفه كتابه «نكت القرآن» ،

(1)

مجموع الفتاوى: (16/ 50 - 51).

ص: 54

فيقول: «هذا كتاب (نكت القرآن) الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام والمبينة عن اختلاف الأنام في أصول الدين وشرائعه .. أودعتها - بعون الله تعالى - كتابي هذا عُدَّة على المخالفين، وحجة على المبتدعين؛ إذ هي بحمد الله شافية كافية»

(1)

.

وكذلك الأمر عند الاتجاه الكلامي، فالمعتزلة - والتي تُعتبر أكثر المذاهب العقائدية اعتمادًا على العقل -، تؤكد هذه المرجعية، فيقول الخياط (ت: 300) فيما يحكيه عنهم: «من أخبار الله عند المعتزلة القرآن، وهو حجتهم على من خالفهم في توحيد، أو عدل، أو وعيد، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر»

(2)

.

ويُقرِّرها القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت: 415) بقوله: «فأمَّا ما يتضمنه القرآن من المعاني والدلالة، والأحكام الشرعية واستقامة جميع ذلك على النور والامتحان وزوال التناقض عند التفريع والاستنباط ووضوح القول في ذلك على الأوقات، حتى إنَّ أهل كل علم يلتجئون إليه في أصول علومهم، ويبنون عليه كتبهم؛ فإنَّ المتكلمين إنَّما بنوا الكلام في التوحيد على ما ذكره تعالى في كتابه، نحو قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] .. وعلى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] إلى غير ذلك؛ واعتمدوا في التوحيد والبعث، والنشور، والإعادة وفي حديث الأجسام وإثبات الأعراض ووجوب النظر والتفكير، على ما ذكره في كتابه ممَّا يطول ذكره .. »

(3)

.

والأمر نفسه عند الاتجاه الشيعي، فالطوسي الإمامي (ت: 460) يذكر أنَّ أحد مقاصد تفسيره: ذكر الاستدلالات العقائدية التي فيها رد على المخالفين، فيقول:«الكلام على المتشابه والجواب عن مطاعن الملحدين، وأنواع المبطلين، كالمجبرة والمشبهة والمجسمة وغيرهم، وذكر ما يختص أصحابنا من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحة مذهبهم في أصول الديانات وفروعها .. »

(4)

.

(1)

نكت القرآن، ابن القصاب:(1/ 77).

(2)

الانتصار، ابن الخياط:(78).

(3)

المغني، القاضي عبد الجبار:(16/ 325).

(4)

تفسير البيان، الطوسي:(3/ 581).

ص: 55

وقد حكى ابن الوزير (ت: 840) في (ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان)

(1)

، عن الشيعة والزيدية والمعتزلة والأشعرية احتواء القرآن الدلائل الكافية.

ونسبه الفخر الرازي (ت: 606) في (الأربعين)

(2)

إلى كل الطوائف ب [عدم القدرة] على الزيادة في تقرير دلائل الاعتقاد على ما ورد في القرآن.

وسأفصِّل في هذا المدخل موقف بعض الفرق الإسلامية من القرآن الكريم، لنؤكِّد على إجماع أهل الإسلام على تلك المرجعية، والتأكيد على عظمة هذا الكتاب، وأن تعظيمه هو الموقف العام لدى الفرق الإسلامية على اختلافها.

وهذا من الأدلة المهمة على عدم تحريف القرآن الكريم، وعدم طروء تحريف في نص القرآن الكريم، وقبول الكافة لهذا النص، وأنه لا يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية على تنازعها، لمن أكبر الحجج على صحة النص المنزل الموجود معنا

(3)

.

* * *

‌أولًا: موقف المعتزلة من حجية القرآن وقطعية ثبوته.

[موقف المعتزلة من حجية القرآن وقطعية ثبوته]

تتابعت أقوال أئمة الاعتزال في بيان حجية القرآن الكريم، وإثبات دلالته على المسائل العقدية، وإمكانية الاحتجاج به، والتعويل عليه، سواء بالتصريح، وإقامة الأدلة والبراهين على ذلك، أو بالرد والتفنيد لأباطيل مَنْ طعن في القرآن، أو أثار الشُّبَه والشكوك حوله.

وقد عدَّ المعتزلة القرآن أحد المصادر التي يستشهد بها على معرفة الحقائق، والوصول إليها، يقول واصل بن عطاء:«الحق يعرف من وجوه أربعة: كتاب ناطق، وخبر مجتمع عليه، وحجة عقل، وإجماع»

(4)

، وحكت عنه زوجته

(1)

ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان: (15 - 16).

(2)

الأربعين: (304).

(3)

انظر في هذا المعنى: المدخل إلى القرآن الكريم، د. دراز:(42).

(4)

فضل الاعتزال: (234).

ص: 56

«أنه كان إذا جنه الليل صف قدميه يصلي، ولوح ودواة موضوعان بجانبه، فإذا مرت آية فيها حجة على مخالف جلس فكتبها، ثم عاد في صلاته»

(1)

.

وقد صنَّف المعتزلة في تفسير القرآن، وكتبوا في إعجازه.

وقد سخر الجاحظ (ت: 255) قلمه السيال وبيانه الرفيع في نصرة مذهب المعتزلة، والرد على مخالفيه، ومن ذلك احتجاجه للقرآن ودفاعه عنه، وقد بلغت جهوده في هذا الصدد درجة دعت الخياط إلى المبالغة في الثناء عليه ومدحه، جازمًا بأنه ليس في المتكلمين أحد نَصَرَ الرسالة واحتجَّ للنبوة مثلما فعل الجاحظ، ولا يُعرف كتاب في الاحتجاج لنَظْمِ القرآن وعجيب تأليفه غير كتابه الموسوم ب «نظم القرآن» ، وقد ذُكر أنه أجهد فيه نفسه، وبلغ أقصى ما يمكن لمثله في الاحتجاج للقرآن والرد على كل طعان

(2)

.

وتتميز أقوال الجاحظ (ت: 255) بخصيصة ينفرد بها عن سائر أصحابه المتكلمين، تتجلى في فصاحته الواضحة، وبلاغته العالية، ولغته الجزلة، التي ترطب كثيرًا من جفاف الأسلوب الكلامي وعباراته المغلقة.

ففي حديثه عن القرآن وحجيته، وعظيم منزلته ومكانته، يصفه بأنه «حجة على الملحد، وتبيان للموحد، وقائم بالحلال المنزل، والحرام المفصل، وفاصل بين الحق والباطل، وحاكم يرجع إليه العالم والجاهل، وإمام تُقام به الفروض والنوافل، وسراج لا يخبو ضياؤه، ومصباح لا يخزن ذكاؤه، وشهاب لا يطفأ نوره، ومعدن لا تنقطع كنوزه»

(3)

، ولا يخفى الفرق بين الأسلوب وبين النهج الكلامي ذي التقسيمات، والتفريعات المتشعبة، والمسالك العقلية الدقيقة التي يستعصي فهمها إلَّا على قلة من المتخصصين.

وإذا انتقلنا إلى الجامعين بين الاعتزال والتشيع بفرعيه الزيدي والاثني عشري، فسوف نجدهم لا يخرجون عن موقف المعتزلة العام في تقرير حجية

(1)

المنية، والأمل:(43 - 44).

(2)

الجاحظ، حياته وآثاره:(321 - 326).

(3)

أمراء البيان: (2/ 348).

ص: 57

القرآن، ومكانته في الاستدلال، والمطالِع لرسائل العدل والتوحيد يلحظ بوضوح تيارًا يتميز بكثرة الاستشهاد بالنص القرآني سواء من ناحية كم الآيات وعددها، أو من ناحية كيفية الاستدلال بها.

ونصل إلى القاضي عبد الجبار (ت: 415) الذي انتهى إليه التراث الاعتزالي عبر مراحله المختلفة فأصَّلَهُ، وأقام منه بناء يتسم بالتناسق الفلسفي، وبلور أصول المذهب، واستفاض في شرحها، والدفاع عنها، وموقفه من حجية القرآن كموقف سائر أصحابه، وإن تميز بنوع من البسط والتفصيل أعانه عليه عصره المتأخر - نسبيًّا- واطلاعه على تراث متقدمي أصحابه، ثم شعوره بكثرة ما وُجِّه إلى الفكر الاعتزالي من تهم تصفه بقلة الاهتمام بالنصوص، وعدم إنزالها منزلة الصدارة في الاستدلال، ومن ثم جاءت كتاباته لنفي هذه التهمة وما شابهها.

وينص القاضي (ت: 415) في أكثر من موضع على أهمية الاستدلال بالقرآن في مسائل العقيدة وسائر العلوم، مبينًا أن «أهل كل علم يلتجئون إليه في أصول علمهم، ويبنون عليه كتبهم، فإن المتكلمين إنما بنوا الكلام في التوحيد على ما ذكره تعالى في كتابه»

(1)

.

ويتفق المعتزلة مع سائر الأمة في القول بقطعية ثبوت النص القرآني جملةً وتفصيلًا، ووصوله إلينا كما أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، سالمًا من أي تحريف بالزيادة أو النقصان، ومن إنصاف أبي الحسن الأشعري (ت: 324) وأمانته العلمية: أنَّه لم يبخس المعتزلة حقهم في هذه المسألة، ولم يحمله ما بينه وبينهم من خصومة ونزاع على أن ينسب إليهم ما لم يقولوه، لا سيما وأن الموضوع يمس جانبًا خطيرًا من جوانب العقيدة، فعندما عرض لحكاية مذهب الرافضة في القرآن، وذكر أن بعضهم زعم وقوع النقص أو الزيادة فيه، عقَّب على إثر ذلك بإيضاح مذهب من تأثر بالمعتزلة من الرافضة، وأنهم يخالفونهم، ويعتقدون أن القرآن «ما نُقص منه، ولا زيد فيه، وأنه على ما أنزل الله تعالى على نبيه لم

(1)

المغني، للقاضي:(16/ 329 - 330).

ص: 58

يُغيَّر، ولم يُبدَّل، ولا زال عما كان عليه»

(1)

.

وأقوال المعتزلة الخلَّص أكثر تفصيلًا، وأوضح دلالة، فالجاحظ يدلي بدلوه في هذه المسألة، ويقطع بصحة النص الذي اجتمع عليه المسلمون سلفًا وخلفًا، والمتمثل في مصحف عثمان رضي الله عنه؛ حيث اتفق على صحته أول الأمة وآخرها، وما كان هذا حاله فهو ظاهر الصواب، واضح البرهان

(2)

.

ويؤكد الحاكم الجشمي (ت: 494) أن سلامة النص القرآني من النقص أو الزيادة أظهر من أن يُتصور الخلاف فيها، وقد صدَّر كتابه «التهذيب في التفسير» بخطبة منبئة عن مذهبه، فالله سبحانه وتعالى «أنزل القرآن، وصانه عن التحريف والزيادة والنقصان، ونسخ به سائر الأديان»

(3)

.

وحذا الزمخشري (ت: 538) حذو سابقيه؛ فعقد مقارنة بين حفظ الله للقرآن، وبين الكتب السماوية السابقة، التي لحقها أنواع من التغيير والتبديل، وأرجع السبب في ذلك إلى تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ القرآن، فكان «حافظه في كل وقت، من كل زيادة ونقصان، وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنه لم يتولَّ حفظها، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار، فاختلفوا فيما بينهم بغيًا، فكان التحريف»

(4)

.

ومن جملة اعتقاد المكلف في القرآن عند القاضي عبد الجبار (ت: 415) أنَّه محروس عن المطاعن لا زيادة فيه ولا نقصان، وهو يحكم بالكفر - في أسلوب جازم، وعبارة قاطعة - على مَنْ ينكر شيئًا منه، سواء أكان سورة أم آية، وينسب حكم التكفير إلى المسلمين جميعًا، «فالأمة مكفِّرة لمن يجحد السورة منه والآية، كما يُكفِّرون مَنْ يجحد تحريم الخمر، والزنا، ووجوب الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان؛ لأنهم يعلمون ذلك بالنقل على سبيل الاضطرار كما يعلمون غيره»

(5)

.

(1)

مقالات الإسلاميين: (1/ 120).

(2)

رسائل الجاحظ: (122).

(3)

التهذيب، الورقة الأولى، عن الحاكم الجشمي، عدنان زرزور:(65)، وقد حُقِّق الكتاب ونُشر.

(4)

الكشاف: (2/ 572).

(5)

شرح الأصول الخمسة: (601 - 607).

ص: 59

وتبدو أهمية هذا النص في تحديده موقف المعتزلة من ثبوت النص القرآني على سبيل القطع واليقين، كما يقدم حجة قوية أمام الاتهامات التي طالتهم، بما نخلص من خلاله إلى أنهم لا يخرجون عن آراء بقية الأمة، وليس بينهم وبين أهل السُّنَّة خلاف يُذكر في هذه المسألة.

* * *

‌ثانيًا: موقف الأشاعرة من حجية القرآن وقطعية ثبوته.

[موقف الأشاعرة من حجية القرآن وقطعية ثبوته]

لا يحتاج الموقف الأشعري إلى مزيد إطالة في عرضه، أو التدليل عليه، فنصوص أئمة المذهب كثيرة ومتنوعة في هذا الصدد، وصلتهم بالدراسات القرآنية على اختلاف أنواعها - وخصوصًا التفسير - صلة بارزة، وواضحة للعِيَان، بدءًا من مؤسس المذهب أبي الحسن الأشعري (ت: 324)، ومرورًا بالباقلاني (ت: 403)، وابن فورك (ت: 406)، إلى أن نصل إلى أساطين المذهب من المتأخرين.

وكثير من أئمة التفسير من المتأخرين على مذهب الأشاعرة في العقيدة، ومصنَّفاتهم محررة جامعة، ومختصرة نافعة.

ويحكي الأشعري (ت: 324) إجماع سلف الأمة على التصديق بالقرآن، والإقرار بكل ما ورد فيه جملة وتفصيلًا، فقد «أجمعوا على التصديق بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله

والإقرار بنص مشكله ومتشابهه، وردِّ كل ما لم يحط به علمًا بتفسيره إلى الله مع الإيمان بنصه»

(1)

، والقول الأمثل والمنهج المختار عنده هو التمسك بكتاب الله وسُنَّة رسوله، وأقوال الصحابة والتابعين، وكتطبيق عملي لهذا المسلك النظري أورد الأشعري في كتابه «الإبانة» - مع صغر حجمه - ما لا يقل عن مائتين وخمسين آية، بحيث لا تكاد صفحة تخلو من ذكر آية أو أكثر، على عكس ما نراه في كتب المتكلمين من المتأخرين، والتي ربما مرت عشرات الصفحات ولا يُذكر فيها نص واحد، بل تقتصر على إيراد الحجج العقلية، وذكر الشبه، والرد عليها.

(1)

رسالة إلى أهل الثغر: (98)، وأصول الدين، لعبد القاهر:(287).

ص: 60

ويعد الباقلاني (ت: 403) - المنظر الثاني للمذهب - أبرز مَنْ اهتم بهذه القضية من الأشاعرة؛ حيث أولاها عناية خاصة، وركز عليها، علمًا منه بأن دين الإسلام قائم في أساسه على القرآن الكريم، وأن أية محاولة للتشكيك في صحة هذا الكتاب والطعن فيه ليست إلَّا سلمًا للقضاء على الدين، وهدم ثوابته الرئيسية.

وقد خصها بكتابين مفردين، «إعجاز القرآن» ، لإثبات أن القرآن كلام الله، موحًى به من عنده، وأنه حجة من أعظم الحجج، فيه الحكمة، وفصل الخطاب، مجلوة عليك في منظر بهيج، ونظم أنيق، ومعرض رشيق، غير معتاص على الأسماع، ولا متلو على الأفهام، ممتلئ ماء ونضارة، ولطفًا وغضارة، يسري في القلب كما يسري السرور، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم، ويضيء كما يضيء الفجر، ويزخر كما يزخر البحر، وكتابه هذا من الكتب الرائدة في باب إعجاز القرآن، وحظي بإعجاب الكثيرين، ودارت حوله دراسات عدة، ووُصِف بأنه باب في الإعجاز على حدة.

أما الكتاب الثاني، فقد أفرده لإثبات صحة نقل القرآن وقطعية ثبوته، وعنوانه يدل على مضمونه لأول وهلة؛ حيث أسماه «الانتصار لنقل القرآن» وعقد فيه فصولًا مطولة لإثبات صحة المصحف العثماني، والرد على شُبَه الرافضة التي أثاروها حوله، واتهاماتهم للصحابة بالنقص والزيادة فيه، كما تعرض لما دار من خلاف حول الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، والقراءات التي قُرئ بها، وغير ذلك من الموضوعات المختلفة المتعلقة بنقل القرآن، وكيفية جمعه، وطريقة أدائه، منتهيًا إلى أن «جميع القرآن الذي أنزله الله تعالى، وأمر بإثباته، ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته، هو هذا الذي بين اللوحين، الذي حواه مصحف عثمان رضي الله عنه، ولم ينقص منه شيء، ولا زيد فيه شيء، نقله الخلف عن السلف»

(1)

، وقد نقل عنه ابن تيمية (ت: 728)، والزركشي (ت: 794)، والسيوطي (ت: 911)، وغيرهم.

(1)

نكت الانتصار للقرآن: (65، 120، 239، 315).

ص: 61

ولأئمة الأشاعرة نصوص كثيرة في إثبات قطعية النص القرآني، وتكفير مَنْ يُنكر شيئًا منها، ومن ذلك قول الحليمي (ت: 403): «مَنْ أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن، أو نقصانه منه، أو تحريفه، أو تبديله؛ فقد كذَّب الله في خبره، وأجاز الوقوع فيه، وذلك كفر»

(1)

.

* * *

وسائر الفرق الإسلامية على هذا الرأي، فقد عُرف عن الخوارج تعظيمهم البالغ لكتاب الله، ومواظبتهم على قراءته، والتعبد به، وصحيح أنه شابَ هذا التعظيم غلو وسوء فهم أدى بهم إلى ما وصلوا إليه من ابتداع وضلال، لكنه لا يؤثر على تعظيمهم للقرآن، واعتقادهم عدم تحريفه، وقد أشار ابن تيميَّة (ت: 728) إلى أن الخوارج يُعَظِّمون القرآن، ويُوجِبُون اتِّبَاعه

(2)

.

* * *

‌ثالثًا: موقف الرافضة من القرآن الكريم.

[موقف الرافضة من القرآن الكريم]

قبل البدء في بيان هذه المسألة، يحسن بنا أن نعرف أن الاتجاه الشيعي الإمامي ينقسم من حيث المنهج إلى اتجاهين: الاتجاه الأخباري، والاتجاه الأصولي:

فالأخبارية هم: من يعتمد في استنباط الأحكام على الأخبار فقط، كما يعرفهم بذلك شيخ الأخباريين المتأخرين الإسترآبادي

(3)

.

أي: إنَّه اتجاه يعتمد على النقل فقط، ولا يرى للعقل مكانًا واعتبارًا.

والأصوليون هم: «الذين يلجؤون في مقام استنباط الأحكام إلى الأدلة

(1)

المنهاج في شعب الإيمان: (1/ 320).

(2)

التسعينية، ضمن الفتاوى الكبرى:(5/ 152).

(3)

انظر: الفوائد المدنية، الإسترابادي:(47، 48، 91)، ونظرية السنة في الفكر الإمامي، حيدر حب الله:(216)، ومصادر التلقي والاستدلال العقدية عند الإمامية الاثني عشرية، إيمان العلواني:(1/ 44).

ص: 62

الأربعة من الكتاب، والسنة، والإجماع، ودليل العقل»

(1)

.

[الاتجاهين الإخباري، والأصولي]

وقد ظهر التمايز بين هذين الاتجاهين مع بداية دخول علم الكلام على المذهب الشيعي على يد المفيد والطوسي في القرن الرابع، ومن بعدهما الشريف المرتضى والرضي، ومن أقدم النصوص التي تدل على وجود هذا الانقسام، ما قاله المفيد مناقشًا شيخه الصدوق:«الذي ذكره الشيخ أبو جعفر رحمه الله في هذا الباب لا يتحصل، ومعانيه تختلف وتتناقض، والسبب في ذلك أنَّه عمل على ظواهر الأحاديث المختلفة، ولم يكن ممَّن يرى النظر، فيميز بين الحق منها والباطل، ويعمل على ما يوجب الحجة، ومَن عوَّل في مذهبه على الأقاويل المختلفة وتقليد الرواة كانت حاله في الضعف ما وصفناه»

(2)

.

وله كتاب سماه: «مقابس الأنوار في الرد على أهل الأخبار»

(3)

، وهي تسمية صريحة تدل على وجود هذا التيار فيهم من زمن متقدم. ومن أجل ذلك عُرف هذا التيار الأخباري ب (أصحاب الحديث)، والذين منهم الصدوق الذي يصفه تلميذه المفيد - كما سبق - بأنَّه:«على مذهب أصحاب الحديث في العمل بظواهر الألفاظ، والعدول عن طريق الاعتبار»

(4)

.

ويقول المرتضى ناقدًا أصحاب الاتجاه الأخباري: «ودعنا من مصنفات أصحاب الحديث من أصحابنا، فما في أولئك محتج، ولا من يعرف الحجة، ولا كتبهم موضوعة للاحتجاجات»

(5)

.

ومن أصرح النصوص في ذكر هذا التقسيم وأقدمها، نص ابن المطهر الحلي (ت: 726)، حيث يقول: «أمَّا الإمامية؛ فالأخباريون منهم مع أن كثرة

(1)

انظر: الأصوليون والأخباريون فرقة واحدة، لفرج العمران:(18)، ومصادر التلقي والاستدلال العقدية عند الإمامية الاثني عشرية، العلواني:(1/ 41).

(2)

تصحيح اعتقادات الإمامية، المفيد:(49).

(3)

رجال النجاشي، النجاشي:(401).

(4)

تصحيح اعتقادات الإمامية، المفيد:(138).

(5)

رسائل المرتضى: (1/ 26، 27).

ص: 63

الشيعة في قديم الزمان ما كانت إلَّا منهم لم يقولوا في أصول الدين إلَّا على أخبار الآحاد المروية عن الأئمة عليهم السلام، والأصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي رحمه الله وغيره وافقوا على قبول خبر الواحد، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه»

(1)

.

وقد ذكر بعض أهل المقالات هذا التقسيم في المذهب الشيعي: كالشهرستاني (ت: 548)، وكلامه يُعتبر من أقدم النصوص في كتب المقالات التي تذكر أنَّ الأخبارية فرقة قائمة ضمن الكيان الإمامي، يقول عنهم:«وكانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لمَّا اختلفت الروايات عن أئمتهم، وتمادى الزمان اختارت كل فرقة منهم طريقة فصارت الإمامية بعضها معتزلة إمَّا وعيدية، وإما تفضيلية وبعضها أخبارية، إما مشبهة، وإما سلفية، ومن ضل الطريق وتاه لم يبالِ الله به في أي وادٍ هلك»

(2)

.

وذكرها كذلك الإيجي (ت: 756)

(3)

وغيره.

وهذه النصوص تدلُّ على تقدُّم وجود هذه الظاهرة بخلاف من يرى أنَّ وجودها كان متأخرًا على يد الإسترآبادي، (ت: 1036).

وبعد معرفة انقسام الشيعة الاثني عشرية إلى هذين الاتجاهين، فلك أن تعلم أن الشيعة انقسموا حول قضية وقوع التحريف في القرآن إلى اتجاهين أيضًا

(4)

:

الاتجاه الأول: قول جل الأخباريين وعدد من علماء الأصوليين، وهم يرون وقوع التحريف في القرآن الكريم - عياذًا بالله - سواء أكان تحريفًا بالزيادة أو النقصان.

الاتجاه الثاني: قول جماهير الأصوليين، وهم يرون نفي وقوع التحريف، وسلامة القرآن من أي نوع من أنواع الزيادة أو النقصان.

(1)

نهاية الوصول، الحلي:(296).

(2)

الملل والنحل، الشهرستاني:(1/ 165).

(3)

المواقف، الإيجي:(3/ 691).

(4)

انظر أقوالهم في: أصول مذهب الشيعة، للقفاري:(1/ 200)، وما بعدها.

ص: 64

وقد حاول بعض علماء الشيعة نفي هذا الاتهام، ونقل الإجماع على سلامة النص القرآني من وقوع التحريف بالزيادة أو النقص، غير أن هذا ما لا يمكن أن يكون، لا سيما مع وجود الكتب التي تصرح بوجود التحريف.

[ردود بعض علماء الشيعة على مسألة التحريف]

ولكن هذا يثبت شناعة هذا القول مما دفع علماء الشيعة أنفسهم إلى إنكار هذا الأمر، والتشنيع على قائله، وقد قال الشريف المرتضى

(1)

: «إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيرًا ومنقوصًا مع العناية الصادقة والضبط الشديد» .

ثم ذكر أنه لو رام أحد الزيادة أو النقص من كتاب مشهور ككتاب سيبوبه والمزني لعرف ونقل، لأنَّ أهل العناية بهذا الشأن «يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتى لو أن مدخلًا أدخل في كتاب سيبويه بابًا في النحو ليس من الكتاب لعرف وميز، وعلم أنه ملحق، وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني.

ومعلوم أن العناية بالقرآن وضبطه أصدق من العناية بنقل كتاب سيبويه ودواوين الشعراء».

وقد قام سائر علماء المسلمين بالرد عليهم، وتكاد كلمة المعتزلة والأشاعرة تتفق على وسمهم بتلك التهمة.

وقد أَلَّف يحيى بن الحسين، الزيدي المعتزلي، كتابًا اسمه:«الرد على من زعم أن القرآن قد ذهب بعضه» ، ويظهر من عنوانه أنه في الردِّ على الشيعة الإمامية، كما يعطي إشارة إلى تبرئة الزيدية من تلك التهمة، كذلك شنَّ الخياط حملة شديدة على الروافض في كتابه «الانتصار» ، واختصهم بالنصيب الأوفر من

(1)

نقلًا عن أصول مذهب الشيعة: (1/ 293).

ص: 65

هجومه، وكرر في أكثر من موضع أنهم يزعمون أن:«القرآن بدِّل وغُيِّر، وزيد فيه ونقص منه، وحرِّف عن مواضعه»

(1)

.

وفي عهد القاضي عبد الجبار (ت: 415) وصلت صلة التمازج، والتقارب السياسي والفكري، بفعل تراكم المؤثرات المتبادلة بين الاعتزال والتشيع بفرعيه: الزيدي، والاثنى عشري، إلى أقصى تطور لها؛ لكن هذا التواصل لم يحل بين القاضي وبين نقد الموقف الشيعي من القرآن.

وحينما عدَّد مخالفي المعتزلة في القرآن، جعل من بينهم الإمامية الروافض، الذين جوَّزوا وقوع الزيادة والنقصان، وزعموا أنه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أضعاف ما هو موجود بيننا، وقد ألزمهم القاضي متابعةً للجاحظ بصحة المصحف العثماني استنادًا إلى إقرار علي رضي الله عنه به، وعدم إنكاره عليه

(2)

، كما وافق شيخه أبا علي الجبائي في استبعاد أن يكون قائل تلك المقالة مسلمًا؛ لأن الخطأ في الاجتهاد لا يصل بحال إلى هذه الهوة السحيقة من الطعن في القرآن، ونسبة التحريف إليه، فلا بد أن يكون مبتكرها ممن أكل الحقد على الإسلام قلبه فأنشأ هذا المذهب للطعن فيه تحت شعار التشيع، وحب أهل البيت

(3)

.

وأئمة الأشاعرة بدورهم ينسبون القول بالتحريف إلى الرافضة، وإن اختلفوا في انطباق ذلك على المذهب كافة، أو على بعض أفراده فحسب

(4)

.

وسنحاول فيما بقي من هذه المقدمة، تلخيص أوجه التسليم بعدم تحريف النص القرآني، ومبررات الإيمان بسلامته.

(1)

الانتصار: (47، 48، 58، 114)، وغيرها.

(2)

تثبيت دلائل النبوة: (1/ 45، 64، 121).

(3)

المغني: (16/ 162)، وانظر:(16/ 162)(16/ 153)(20/ 38) وشرح الأصول الخمسة: (601، 602)، وتثبيت دلائل النبوة:(1/ 45، 46، 131).

(4)

مقالات الإسلاميين: (1/ 119)، ونكت الانتصار:(426).

ص: 66

‌مبرِّرات الإيمان بسلامة النص القرآني

لقد اتفقت كلمة المسلمين جميعًا على أن القرآن كلام الله، وحجة من أعظم حججه على عباده، وأبلغها دلالة، ومن أكبر الحجج على صحة النص القرآني الموجود بين أيدينا

(1)

:

‌الحجة الأولى: العناية بالقرآن في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الصحابة.

تمثلت العناية القصوى بالقرآن في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم في حفظ القرآن في قلوب الراسخين في العلم من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، وتدوينهم له، وتلاوتهم له آناء الليل وأطراف النهار.

ولما دعت الحاجة - وهي كثرة قتل القراء في موقعة اليمَامَة - كان الجمع الأول للقرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه.

وبعد جمع أبي بكر، بات القرآن الكريم محفوظًا في مصحف أبي بكر بين دفتين، وعدة صحف ومصاحف خاصَّة تجمع سوره وآياته كلها أو بعضها.

فأمَّا مصحف أبي بكر فقد انتقل من أبي بكر لعمر بن الخطاب، ومنه إلى بيت حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها.

(1)

تفصيل هذه الحجج وبراهينها ومصادرها في شرح: «مواقع العلوم في مواقع النجوم» ، للإمام البلقيني، بشرح المعتني بالكتاب، فانظره هناك.

ص: 67

ثم دعت الحاجة إلى جعل هذا المكتوب في مصاحف على صورة تسد باب اختلاف الذين لا يعلمون، فتمَّ جمعه والعناية الفائقة به في عهد عثمان رضي الله عنه.

وبعد ذلك حصلت عمليات تطوير خط المصحف الشريف، وظلت هذه المحاولات، وهذه الحياطة إلى زمان الطِّباعة، وانتِشَار المصاحف عبر الأقطَار الإسلامية، وانتقالها إلى المسلمين جيلًا بعد جيل.

وليس في القرآن بحمد الله خطأ استطاع أن يثبته أحدٌ كائنًا من كان من وقت تدوينه إلى زمان الناس، وما أُثير من شبهات حول الرسم، أو ما ادُّعي أنه مخالف للعربية، تصدى له علماء الإسلام بالبيان، والتمحيص، ومصنفاتهم حاضرة قريبة من طالبِ الحق والهدى.

‌الحجة الثانية: تَلَقِّي القرآن بالمشافهة.

لقد كان القرآن محفوظًا في الصدور كما هو مكتوب في الصحف، وكان الناس ولا يزالون يتلقون هذا القرآن عن أشياخهم، إلى أن يتصل السند بكبار أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الصحابة أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه الحجة مما يعرف تفصيلها من كتب تاريخ القراءات، وبيان جهود العلماء المبذولة في ضبط الأوجه القرآنية التي يقرأ بها القرآن.

فمن الذي يتصور وقوع التحريف في سورة الحمد (الفاتحة)؟ وهي السورة التي تقرأ في محاريب المسلمين كل يوم عدة مرات، وكذلك سائر القرآن كان يُقرأ في محاريب المسلمين مرة بعد مرة، أيتفق كل هؤلاء على التحريف، ولا نجد إنكارًا عليهم، سبحانك هذا بهتان عظيم!

‌الحجة الثالثة: عدم وجود فجوة تاريخية في مسار القرآن.

وهذا بخلاف التوراة التي انقطع سندها بعد موسى عليه السلام بستة قرونٍ على الأقل، وتعددت نسخها، واختلفت فيما بينها، وبخلاف الإنجيل الذي ظل يُتناقل شفهيًّا، وتعرض لكثير من التَّحريف حتى دوِّن متأخرًا بعد أن ناله ما ناله من التَّحريف.

ص: 68

لقد وصل القرآن إلينا، بلغته الأصلية التي كان عليها، فلم يتعرض لما قد تتعرض له الترجمة، من اختلاف، وكونها عرضة للاشتباه في الفهم، ونحو ذلك.

وقد نقل إلينا بالمشافهة، وتداوله عددٌ كبير من الناس، ودون في زمان النَّبي صلى الله عليه وسلم، وجمع بعده في دفتين بعد مدة وجيزة جدًّا، كما سلف، وإنَّ المطلع على المخطوطات الموجودة للمصحف الشريف، والتي هي عتيقة، وترجِع إلى العصور الأولى من نزول القرآن، يعلم كيف أن الله تعالى قد أحاط القرآن بعناية خاصَّة، لئلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه تنزيل من حكيمٍ حميد.

ومع كل العواصف التي عصفت بأمة الإسلام إلا أنَّ أحدًا منهم لم تمتد يده للقرآن ليحرفه، بل ولم يستطع، وأنَّى له ذلك، بل إنهم على اختلافهم وتناحرهم كانوا معظمين للقرآن معتنين بشأنه، كما يعرف من تاريخ كتابة المصحف والعناية به.

وبعد؛ فإنَّ أعظم دليل على عدم تحريف القرآن، هو القرآن ذاته، فقد احتفظ القرآن بكل خصائصه التي كان عليها زمان النبوة، لقد ظل مُؤثرًا في الأمة، ومعجزًا على مر الدهور، لا يزال الناس يأخذون منه، وَيَرِدُونَه فلا تنفد عجائبه، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرد.

ص: 69

‌من أوجه عناية الأمة بالقرآن الكريم

احتفل المسلمون بكتاب الله سبحانه وتعالى احتفالًا لا يدانيه احتفال، واعتنوا به اعتناءً عظيمًا، كان وما يزال محل فخر واعتزاز على الأمم كلها

(1)

.

1 -

فجانب التفسير والعناية به كان مثالًا مشرقًا في هذه الأمة.

وتراجم الذين اعتنوا ببيان كتاب الله سبحانه وتعالى وشرحه - التي اطلعنا عليها والتي بين أيدينا - تزيد على أكثر من ألفي عَلَم اعتنوا بخدمة القرآن الكريم من حيث بيان معانيه وأحكامه، وإلا فأعداد من لم نقف على تراجمهم من المفسرين أعلى من ذلك بكثير، ونتاج الأمة في هذا المجال لاحِب وعظيم.

ومن المصنفات في علم التفسير ما هو مفقود لا نعلم عنه شيئًا، وإنما سمعنا عنه وقرأنا عنه في بطون الكتب، وهناك كتب لم تزل مخطوطة ولم تخرج إلى عالم الطباعة، وهناك كتب قد طبعت.

هذه الأقسام الثلاثة تكوِّن ما يزيد على أكثر من اثني عشر ألف مصنف، وهو رقم تقريبي، وكان لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة محاولة يسيرة في إحصاء ما كتب حول كتاب الله سبحانه وتعالى شرحًا وتفسيرًا من صدر الإسلام إلى عام (1424 هـ)، فخرج هذا الجهد بإحصائية زادت على سبعة آلاف كتاب تناولت بيانَ كلام الله سبحانه وتعالى باللغة العربية فقط

(2)

، فما بالك باللغات

(1)

انظر: مدخل إلى التعريف بالمصحف الشريف، د. حازم حيدر:(31 - 39)، بتصرف.

(2)

وخرج هذا العمل بكتاب مطبوع في ثلاث مجلدات بعنوان: «فِهرست مصنفات تفسير القرآن الكريم» .

ص: 70

الأخرى؟ لغاتِ الشعوب الإسلامية، أو اللغات العالمية الأخرى، ممن تعاطى إيضاح معاني كلام الله أو شرحه.

ومن أهمِّ اتجاهات التفسير العنايةُ بنقل آثار الصحابة والسلف في بيان كلام الله سبحانه وتعالى، والتفاسير التي تجمع أقوال الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من السلف، ممن تصدى لبيان كلام الله كما يقول الحافظ ابن حجر (ت: 852) أربعة:

التفسير الأول: تفسير عَبْد بن حُمَيد الكَشِّي (ت: 249)، وطبعت منه قطعة.

التفسير الثاني: تفسير «جامع البيان» لابن جرير الطبري (ت: 310)، وهو مطبوع متداول.

التفسير الثالث: تفسير القرآن لمحمد بن إبراهيم بن المنذر النَّيسابوري (ت: 318)، وطبعت منه قطعة.

التفسير الرابع: تفسير ابن أبي حاتم الرازي (ت: 327)، وهو مطبوع.

يقول الحافظ ابن حجر (ت: 852): «فهذه التفاسير الأربعة قلَّ أن يَشِذَّ عنها شيء من التفسير المرفوعِ، والموقوفِ على الصحابة، والمقطوعِ عن التابعين»

(1)

.

فلذلك مَنْ جاء بعدهم من العلماء؛ كالسيوطي (ت: 911)، والشيخ الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت: 1182)، وغيرهم ممن اعتنوا بالناحية الأثرية في التفسير، لا يكادون يخرجون عن هذه التفاسير الأربعة، فمادة تصنيفهم وعلومهم التي سردوها في تفاسيرهم التي ألفوها - كالدر المنثور، ومفاتيح الرضوان - لا تخرج في جملتها عن هذه التفاسير الأربعة.

2 -

ومن العلماء من اهتم ببيان أحكام القرآن فاعتنى بشرح هذه الأحكام وتبيينها، سواء وَفق ترتيب القرآن الكريم، وتسلسله، من سورة الفاتحة والبقرة وما تلاهما من سور، أو اعتنى ببيان هذه الأحكام بطريقة موضوعية؛ كالإمام

(1)

العجاب في بيان الأسباب، للحافظ ابن حجر العسقلاني:(1/ 203)، ونقله عن السيوطي في آخر تفسيره ((الدر المنثور)) (15/ 820).

ص: 71

أبي جعفر أحمد بن محمد الطَّحاوي (ت: 321) الذي انبرى لتفسير أحكام القرآن الكريم وَفْق المنهج الموضوعي في التفسير، على غرار مصنفات كتب الفقهاء؛ إذ تناول الآيات التي تتكلم على الطهارة في موضع، والآيات التي تتكلم على الصلاة في موضع، والآيات التي تتكلم على الزكاة في موضع، ثم شرحها وفسرها، بخلاف جمهرة من اعتنى بتفسير آيات الأحكام، إذ كانوا يفسِّرون الآيات وَفق ترتيب سور القرآن الكريم، فيتناولون ما في سورة البقرة من آيات الأحكام، ثم ما في سورة النساء من آيات الأحكام، وغيرهما من السور، التي فيها أحكام فقهية بارزة.

3 -

وهناك تفاسير في تاريخ علم التفسير فيها شيء من اللَّطافة، يَجدُر أن نقف عندها ولو وقفةً يسيرة، من هذه التفاسير:

* تفسير القرآن الكريم لأحد أمراء سِجستان، يسمَّى: خَلَف بن أحمد السَّجِسْتاني، وفاته سنة (399)، هذا الأمير ألَّف تفسيرًا كبيرًا بمشاركة أهل العلم من بلده، وكان يأتي بهم وينفق عليهم، وينقلون أقوال أهل العلم في هذا التفسير من الفقهاء والقرَّاء والنحويين وأهل اللغة وأهل البيان والمعاني، ويسطرونها بإشرافه ومعونته، حتى أكمل هذا التفسير، ويقال: إنه كان يقارب مائة وعشرين مجلدًا

(1)

.

* (أنوار الفجر المنير)، وهو تفسير كبير جدًّا لابن العربي المالكي (ت: 543) رحمه الله غير كتابه: (أحكام القرآن) الموجود بين الأيدي، وغير كتابه الآخر المسمى:(قانون التأويل) المطبوع الذي يُمثِّل رحلة علمية له مع سرد شيء من علوم القرآن الكريم، ويقال: إن هذا التفسير يقع في ثمانين مجلدًا، ويقول الذهبي (ت: 748): «أتى فيه بكل بديع»

(2)

، يعني أتى في هذا التفسير بكل رائق ومستحسن.

(1)

انظر: سير أعلام النبلاء: (17/ 116)، والأعلام، للزركلي:(2/ 309).

(2)

سير أعلام النبلاء: (20/ 199)، وانظر: طبقات المفسرين، للداوودي:(2/ 165).

ص: 72

* ومن التفاسير اللطيفة كتاب لأحد العلماء في القرن الثامن معروف بابن النَّقَّاش الدُّكَّالي (ت: 763)، يقول الحافظ ابن حجر (ت: 852): «التزم فيه ألا ينقل حرفًا عن كتابٍ من تفسير أحدٍ ممن تقدم»

(1)

، وهو اشتراط فيه شيء من الغرابة والندرة.

* ويشابه هذا الكتاب حاشيةٌ من حواشي تفسير البيضاوي، وتفسير البيضاوي (أنوار التنزيل) من أشهر التفاسير وأكثرها سيرورةً في القرن الماضي، وكان لأهل العِلْم أيام الخلافة العثمانية اعتناءٌ عظيم بهذا التفسير، بل قيل: إن من الشروط المهمة لمن أراد أن يتولى منصب مشيخة الإسلام في الدولة العثمانية أن يكون مُلِمًّا ومُطَّلعًا وعارفًا بدقائق تفسير البيضاوي.

فهذا التفسير أقيمت عليه شروح وحواشٍ وتعليقات وتعقيبات تربوا على الثلاثة آلاف حاشية، ومن حواشيه حاشيةٌ لأحد العلماء الدمشقيين، هو: محمد أمين بن عابدين (ت: 1252)، صاحب حاشية (رد المحتار على الدر المختار) في الفقه الحنفي، الذي التزم في حاشيته على البيضاوي: أن لا يذكر شيئًا ذكره المفسرون

(2)

، مثلما اشترط ابن النقاش الدكالي (ت: 763).

* ومن اللطائف أيضًا في هذا الجانب، وهذه النماذج أذكرها لبيان هذه العنايات، وتنوع هذه الجهود في خدمة هذا الكتاب العظيم، تفسيران أيضًا من تفاسير القرآن الكريم كلاهما فسَّر القرآن الكريم بالحروف المهملة؛ بمعنى: أنه ليس فيهما مثلًا حرف (ج)، ولا حرف (خ)، ولا حرف (غ)؛ أي: ليس فيهما حرف منقوط يذكر في أثناء التفسير، إنما فيهما حروف مهملة، مثل حرف الحاء، والعين، والصاد، ونحوها.

وهو أمر فيه غرابة، فأول هذين التفسيرين (سواطع الإلهام) لفيض الله بن مبارك الأكبرابادي، (ت: 1004)، وتفسيره مطبوع، وإن كان الرجل فيه انحرافًا عقديًّا، لكنه نحا في تفسيره هذا المسلك.

(1)

الدرر الكامنة: (5/ 236).

(2)

انظر: حلية البشر، للبيطار:(3/ 1230)، ومعجم المفسرين:(2/ 496).

ص: 73

والتفسير الثاني: لعالم من علماء دمشق المتأخرين وهو: ابن حمزة الدمشقي: محمود بن محمد نَسِيب الحَمْزاوي (ت: 1305)، له كتاب اسمه (در الأسرار) طبع منه مجلد، فسر فيه القرآن بالحروف المهملة، إذ لم يذكر حروفًا منقوطة في تفسيره، ولم يُفد من تفسير الهندي شيئًا

(1)

.

وتاريخ علم التفسير حافل طويل، وقد حاول السيوطي رحمه الله (ت: 911) أن يذكر شيئًا من تاريخ التأليف في هذا الجانب وعناية الأمة به في مقدمة حاشيته على تفسير البيضاوي، التي سماها:«نواهد الأبكار وشوارد الأفكار» ، والتي رصد في مقدمتها تاريخ التأليف في علم التفسير وعناية العلماء به

(2)

.

ثم جاء العالم التركي الحاج خليفة (ت: 1067) - وهو مشهور بين العرب بحاجي خليفة، ومعروف عند الأتراك بكاتب جلبي - وألف كتابًا سماه:«كشف الظنون» ، جمع فيه أسماء الكتب المؤلفة في العلوم الإسلامية والعربية ونبذة عن محتوياتها، وأخذ ما قاله السيوطي (ت: 911) في مقدمة حاشيته على تفسير البيضاوي كاملًا ثم زاد عليه، مع إفادته كذلك من مقدمة تفسير الثعلبي، الذي وصف عددًا من التفاسير وكُتُب غريب القرآن ومُشْكله

(3)

.

4 -

ومن أهل العلم من صنف في بعض علوم القرآن بصورة مفردة؛ كفضائل القرآن، ومنهم من ألف في الناسخ والمنسوخ، ومنهم من ألف في فنون متعددة كثيرة مفرقة.

5 -

ومنهم من تكلم على مباحث علوم القرآن وأنواعه بشكل مجموع ومنحصر في مكان واحد، أمثال الحارث بن أسد المحاسبي (ت: 243) رحمه الله في كتاب سماه: (فَهم القرآن)، ويُشعِر الكتاب مِنْ أول وَهْلة أنه يتكلم على التفسير، أو كيف نفهم القرآن، ولكنه وضعه في أبواب تكلم فيها على أنواع مختلفة من علوم القرآن

(4)

.

(1)

انظر: نموذج من الأعمال الخيرية لمحمد منير آغا: (396).

(2)

انظر: مقدمة نواهد الأبكار: (682 - 693).

(3)

انظر: مقدمة تفسير الثعلبي: (20/ 60)، وكشف الظنون ([(1/ 427) - (2/ 432) - (1475 - 1480)]).

(4)

وهو مطبوع مع كتاب (العقل) للحارث نفسه.

ص: 74

وتلا الحارث المحاسبي جماعة من أهل العلم؛ كابن الجوزي (ت: 597) في (فنون الأفنان)، والسَّخاوي (ت: 643) في (جمال القرَّاء)، والزركشي (ت: 794) في (البرهان في علوم القرآن)، والسيوطي (ت: 911) في عدد من كتبه.

ومن أوسع من كتب في أنواع علوم القرآن بشكل مجموع ومنضبط في مكان واحد، أحد علماء مكة في القرن الثاني عشر، وهو ابن عَقِيلة المكي (ت: 1150)، الذي ألف كتابًا سماه:(الزيادة والإحسان) جمع فيه نحو (154) نوعًا من أنواع علوم القرآن، أصولها في كتاب السيوطي (ت: 911) (الإتقان)، لكنه فرَّع عليها، وعدَّد وزاد وهذَّب ونَقَّح فيها

(1)

.

6 -

ومن علماء هذه الأمة من اهتم بقراءات القرآن الكريم، وضبط أحكامها وقواعدها في كتب مفردة، وهو جانب عظيم من عناية الأمة في هذا المضمار، وعناية أهل العلم في هذا الجانب يصعب حصرها، وتعسر الإحاطة بها، فهناك كتب عظيمة وكثيرة جدًّا في علم القراءة القراءات تجاوز عددها الآلاف.

ومن أجمع هذه الكتب، وأكثرها حشدًا لذكر قراءات القرآن الكريم كتاب (الكامل) لأبي القاسم يوسف بن جُبارة الهُذَليّ (ت: 465)

(2)

حوى القراءات العشر المشهورة، وأضاف إليها أربعين قراءة أخرى من قراءات الصحابة ومَن بعدهم.

ولأحد العلماء من مكة وهو: عبد الكريم بن عبد الصمد الطَّبَري، معروف بكنيته: أبي معشر، كتابٌ يقال له (سَوق العروس)، ضمنه مؤلفه (1550) رواية وطريقًا، وهو مخطوط

(3)

، لكن يَفتقد الجزء الأخير منه، وهو من سورة المطففين إلى آخر الكتاب.

(1)

حقق في خمس رسائل جامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وطبعتها جامعة الشارقة، ومركز تفسير.

(2)

بتحقيق: جمال ابن السيد رفاعي الشايب، مؤسسة سما للنشر والتوزيع.

(3)

انظر: ملحق التراث، جريدة المدينة، العدد (9046)، مقالة لفضيلة الدكتور أيمن سويد بعنوان:(مرة أخرى: جامع أبي معشر ما زال مخطوطًا ولم يحقق).

ص: 75

ولا يُعلم أحد جمع في علم القراءات أكثر من الهُذلي والطبري إلا ما حواه كتاب عيسى بن عبد العزيز الإسكندري، من علماء القرن السابع (ت: 629) الذي سمَّاه: «الجامعُ الأكبر والبحرُ الأزخَر» ، وهو فيما يعلم أكبر كتاب في القراءات، ضمنه (7000) رواية وطريق

(1)

.

ومن مظاهر هذه العناية في هذا الجانب جهود الحافظ ابن الجزري (ت: 833) رحمه الله في علم القراءات، وكأنَّ الله سبحانه وتعالى اصطفاه لضبط هذا العلم، وتأطيره بإطار معين، بحيث أصبح هذا الإطار الذي حدده ابن الجزري (ت: 833) معينًا ثريًّا يغرف منه كل من جاء بعده؛ إذ نظر رحمه الله إلى كتب القراءات التي في تلك الحِقبة؛ أي: في القرنين الثامن والتاسع الهجريين؛ لأنه عاش بين سنة (751) إلى عام (833) ففي هذه الفترة الرحبة من حياته وقف على أهم كتب القراءات في زمنه، فسَبَر ما يقارب (57) كتابًا من كتب القراءات فمخضها، ودقق في أسانيدها، واشترط شرطًا عاليًا - لم يشترطه أحد قبله ممن صنف في علم القراءة - وهو أن يكون كل راوٍ عن الآخر في سند القراءة ثبت لقيُّه له وصحت معاصرته له، فضلًا أن يكون هذا الراوي عدلًا ثقةً فيما يقول ويروي في باب علم القراءات

(2)

.

فهذا شرط لم يلتزمه أحد قبل ابن الجزري (ت: 833) رحمه الله، فجمع كتابًا عظيمًا في القراءات هو كتاب (النشر في القراءات العشر)، الذي ألفه في نحو عشرة أشهر في تركيا في مدينة بورصة سنة (799)

(3)

وغدا هذا المصنَّف أهم كتاب من كتب القراءات، من التاريخ الذي ألفه فيه الإمام ابن الجزري إلى

ص: 76

عصرنا الحاضر، فكل من اعتنى بعلوم القراءات لا بد أن يعود إلى هذا الكتاب وينتفع منه ويستفيد.

7 -

وهناك عنايات وفيرة ومتعددة للأمة في خدمة كتاب الله، فمن أهل العلم من اهتم بلغة القرآن واللهجات التي نزل بها، ومنهم من اعتنى ببيان غريب ألفاظه، أو إعرابه، ومنهم من اعتنى بالشواهد الشعرية الخادمة له، ومنهم من اعتنى بالإعجاز إلى غير ذلك من صور الاهتمام والعناية.

8 -

ومن أهل الخير من اهتم بالعناية بالوقف للقرآن الكريم، وتسبيل ثمرة ما يوقفه من أرض، أو عقار، أو أسهم في شركات يعود ريْع ما تُدرُّه في طرق تعليم القرآن، والنفقة على المتعلمين والقراء.

فهذا غيض من فيض من مظاهر عناية هذه الأمة بالكتاب العزيز واهتمامها به.

ص: 77

‌المقدِّمة الرابعة

مدخل إلى القرآن الكريم

ص: 79

‌الباب الأول: حقائق تاريخية أولية

‌الفصل الأول: حياة الرسول قبل البعثة

[حياة الرسول قبل البعثة]

نشأ النبي صلى الله عليه وسلم يتيمًا في مكة، وتولى جده عبد المطلب رعايته، وبعد فقد جده تولى عمه الملقب بأبي طالب رعايته.

صحب النبي صلى الله عليه وسلم عمه إلى التجارة في الشام، واتصل في تلك الرحلة براهب يدعى (بحيرى)، وببعض العلامات التي رآها بحيرى على محمد صلى الله عليه، استظهر أن شأنًا عظيمًا سيكون له.

وقد شهد في الجاهلية عدة أحداث، منها: حلف الفضول، وترميم الكعبة، وكان يعرف حينها: بالصادق الأمين، وقد استحوذ على محبة كل من عاشره.

وكان يرحل إلى الشام للتجارة، وتزوج بخديجة رضي الله عنها، وكان له منها: عدة أولاد.

وكانت أول مظاهر بعثته صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يرى رؤيا إلا تحققت، ثم مال إلى الخلوة في غار حراء، ثم مر بعد ذلك بأول تجربة له مع الوحي.

عاد إلى بيته بعد مجيء الملك، وهو محموم بحمى باردة، وطلب من خديجة أن تغطيه بغطاء ثقيل يذهب خوفه.

ص: 81

وبعد أن أبدى مخاوفه لخديجة، هدأت روعه، وأخذته لابن عمها ورقة بن نوفل، وهو شيخ كبير له مطالعة كبيرة في علوم الكتب السماوية، وأدرك ورقة أن هذا نبي الزمان، وأخبره: أنه إن أدركه يومه، لينصرنه نصرًا مؤزرًا.

ص: 82

‌الفصل الثاني: كيف جمع نص التنزيل الحكيم؟

[جمع القرآن]

نزل القرآن كأجزاء متفرقة، تتباين أطوالها من سورة كاملة إلى آية واحدة، وأحيانًا إلى جزء من الآية، وكان الناس ينتظرون الوحي بشغف، ويمنون أن يتلقوه فور نزوله.

وكان أعداء القرآن يتلقونه كذلك، لكن تلقيهم كان للبحث عن نقاط الضعف فيه، أو لإشباع حاجتهم الملحة في التذوق الأدبي.

ولم يقتصر القرآن في تلك المرحلة على كونه مجموعة من الآيات تتلى وتقرأ، وإنما كان كتابًا مدونًا بالمداد، فقد كان للوحي كتبته، يكتبونه على أي شيء كان في متناول أيديهم، ولكن العهد النبوي مضى، ولم يكن هناك نسخة تامة من القرآن.

وحتى تتاح الفرصة لسور القرآن لكي يتم بناؤها التدرجي، كان ينبغي الانتظار إلى أن يكتمل الوحي كله لإخراج نسخة تامة، غير أن هذا لم يحل بين المؤمنين وبين المعرفة الشفوية لموضع كل آية جديدة من كل سورة على وجه التحديد، وفي كل مرحلة من مراحل نزول الوحي.

تم جَمع القرآن كوحدة واحدة في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق، ثم أعيد الجمع في عهد عثمان، وقد ظن بعض الشيعة أن عثمان قد بدل في نص القرآن، أو أنه أسقط شيئًا يتعلق بعلي بن أبي طالب، فلو صح ذلك لراجعه حملة القرآن، وما أكثرهم في وقت نشر مصحف عثمان.

وحتى ابن مسعود أقر بصحة مصحف عثمان، مع مخالفته السياسية حينذاك، ويستحيل أن نعلل قبول الكافة لمصحف عثمان بأنه انقياد غير متبصر من جهتهم، وقد عد هذا الدليل أقوى دليل على أن النص القرآني على «أحسن صورة

ص: 83

من الكمال والمطابقة»

(1)

.

ونودُّ التأكيد أن دور عثمان رضي الله عنه تلخص في نشر النص المقروء في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ينسب المصحف له من جهة أنه الآمر بالجمع، لا من جهة أنه قد تدخل في النص.

ولم يقصد عثمان رضي الله عنه أن يلغي اختلاف القراءات، بل إنه قصد:

1 -

إضفاء صفة الشرعية على القراءات المختلفة، التي كانت تدخل في إطار النص المدون، ولها أصل نبوي مجمع عليه، وحمايتها، وفي هذا منعٌ لوقوع أي شجار بين المسلمين بشأنها.

2 -

استبعاد ما لا يتطابق مطلقًا مع النص الأصلي، وقاية للمسلمين من الوقوع في انشقاق خطير فيما بينهم، وحماية للنص ذاته من أي تحريف.

وفي تلك المرحلة بقيت القراءات الشفوية كما هي، ولم يرد أن عثمان ألزم جماعة المسلمين كلها بقراءة بعينها دون أخرى.

وبعد ذلك تم إعدام المصاحف الفردية، لإنقاذ وحدة النص الديني، وتم هذا الفعل باستشارة الناس، واتخذ هذا الإجراء باتفاق جميع الصحابة.

(1)

ذكر المصنف أن هذا كلام «نولدكه» ، المستشرق الألماني الشهير، والذي كتب في تاريخ المصحف.

ونقل المصنف شهادة بعض الغربيين على سلامة النص القرآني، وهما:(لوبلوا)، (و. موير)، وأنه لم يطرأ أي تغيير على القرآن الكريم، وأن الفرق الإسلامية على تنازعها ليس لها إلا قرآن واحد.

ص: 84

‌الفصل الثالث: كيف تم تبليغ المبدأ القرآني إلى العالم؟

إننا نعني بالمبدأ القرآني «الإسلام» ، فقد سار بخطوات منتصرة نحو الشمال والجنوب، ونحو الشرق والغرب، حتى إنه في فترة قصيرة نسبيًا انتشر في نصف العالم المعروف في ذلك الحين.

حين جاء الإسلام تغير كل شيء بين يوم وليلة، ولم يقتصر على الواجهة السياسية والاقتصادية في المدن الكبرى فقط، وإنما تغلغل في الأعماق النفسية لهذه الشعوب جميعًا: فاللغات والأفكار والقانون والآمال والعادات وتصور العالم وفكرة: الله! = كل ذلك قد طرأ عليه تغيير جذريٌّ وسريع

(1)

.

(1)

تحدث الشيخ باقي الفصل، عن الحرب في الإسلام، ودوافعها، وقد تركناه، إذ لا مجال له فيما قصدنا إليه.

ص: 85

‌الباب الثاني: القرآن من خلال مظاهره الثلاثة .. الديني .. والخلقي .. والأدبي

‌الفصل الأول: الحق أو العنصر الديني

إنَّ أوَّل ملامح القوة في الدعوة الإسلامية، تكمن في الصورة التي قدمت بها الحقيقة الدينية في محاولة منها لوضع حد للخلافات التي ثارت بشأنها.

لقد أوضح القرآن العقيدة بصورة لا يملك الإنسان معها أن يحيد عنه، لأنه يقدم الفكرة التي اتفق عليها سائر الرسل.

[النظرية الدينية في القرآن]

إن النظرية الدينية في القرآن تؤسس عبر شطرين:

الشطر الأول: لا شيء في الوجود يستحق العبادة والخضوع سوى الله الواحد القهار.

* ركز القرآن على فكرة مهمة، وهي فكرة العودة إلى الوحدة الأولى، تلك الوحدة التي كانت تجمع الناس، وهي أن الإسلام دعوة عامة لكل الرسل، لا يختلف نبي عن نبي في شأنها.

* أن هذه العقيدة هي عقيدة فطرية، حتى وإن غمرت وحجبت تحت معتقدات أخرى، لقد جاء القرآن ليحذف الشوائب التي علقت بهذه الفطرة الأولى.

الشطر الثاني: الإيمان بالحياة الأخروية.

ص: 86

لقد بنى القرآن الإيمان بهذه الحقيقة على أن الذي أنشأ الإنسان أول مرة، قادر أن يعيده بعد مماته، إن الذي يحول الأرض وهي جافة جرداء إلى أرض خصبة، قادر أن يعيد للإنسان حياته.

إن الإيمان باليوم الآخر، هو قرار رباني ألزم الله تعالى به نفسه، إن الآخرة أحد مستلزمات العدل الإلهي، والحكمة السامية، {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [النحل: 39]، {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22].

وهكذا نرى أن القطبين اللذين تأسست عليهما الديانة الموحدة التي يدعو القرآن إليها، يقومان إما على حقائق سبق الاعتراف بها، أو تنبني على مبادئ واضحة.

إن أي برهان نظري لا يتطلب أكثر من هذه القوة في التدليل والإقناع.

ص: 87

‌الفصل الثاني: الخير أو العنصر الأخلاقي في القرآن

إنَّ النفس الإنسانية لا تتغذى بالحقائق النظرية وحدَها، هناك حاجة إلى القاعدة العملية القادرة على توجيه نشاطه في كل لحظة من حياته.

لقد ركَّز القرآن أن الدين عقيدة وقانون، أي: اعتقاد وطاعة.

وقد غرس الله في داخل كل منا بصيرة أخلاقية غريزية، واعتمد القرآن على غريزة الإنسان في معرفة العدل والظلم، والخير والشر.

ولما كانت الحاجة الطبيعية ليست بنفس القوة والفاعلية عند كل الناس لتلزمهم بالخضوع لقاعدة السلوك، فقد وضع القرآن منهجًا كاملًا في التربية، واعتمد القرآن على أن الأخلاق دعت الرسل إليها، فقد حمل الرسل الأخلاق إلى الناس، وأدانوا النزعة المادية، وحب الدنيا، والفجور، والغش

(1)

.

إن القرآن قد جمع في داخله في النظرية الأخلاقية حكمة الأولين، وأتم بناء الرسل السابقين

(2)

.

(1)

عقد المؤلف مقارنة بين المبادئ الأخلاقية في التوراة والإنجيل والقرآن، فلتنظر:(98).

(2)

عرض المؤلف بعض خصائص النظرية الأخلاقية في الإسلام، ومنها:

* ما يرجع للفضيلة الشخصية، كالنية، وأن الخير المطلق في ابتغاء وجه الله الذي لا بد من استحضاره في القلب عند أداء العمل.

* ما يرجع للفضيلة في العلاقات بين الأفراد، فلقد أنشأ الحضارة الأخلاقية، إنه تقنين حقيقي في الأدب، والذوق الاجتماعي، والتحشم في المظهر.

* ما يرجع للفضائل الجماعية، والفضائل العامة، كحرصه على إرساء الأخوة، وعدم الظلم، وعدم التعامل بالربا، وعتق العبيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

- ما يرجع للفضيلة في المعاملات الدولية وبين الأديان.

ص: 88

‌الفصل الثالث: الجمال أو الجانب الأدبي

إنَّ الشروط الأخلاقية كافية في البرهنة على ربانية هذه الرسالة، وإن النفوس التي تمتلك البصيرة، لا تحتاج لأكثر من توفر العاملين السابقين: تعليم الحقيقة، والدعوة إلى الفضيلة.

لكن عامة الناس يهتمون كثيرًا للشكل الخارجي، بعيدًا عن متانة المحتوى، فالمحسوس لديها يسبق المعقول.

[القرآن، والأدب العربي] ولذلك فقد جاء القرآن نموذجًا لا يبارى في الأدب العربي، إنه المثل الأعلى لما يمكن أن يسمى أدبًا بوجه عام، فلغته تأخذ بالقلوب، وتفحم بالحجة، وتجلب السرور الهادئ لا الصاخب.

1 -

لغة القرآن مادة صوتية، تبعد عن طراوة لغة أهل الحضر، وخشونة لغة أهل البادية، إنها تجمع بين رقة الأولى، وجزالة الثانية.

2 -

إنها ترتيب في مقاطع الكلمات في نظام أكثر تماسكًا من النثر، وأقل نظمًا من الشعر.

3 -

كلماته منتقاة، لا توصف بالغريب إلا نادرًا، تمتاز بالإيجاز العجيب، والنقاء في التعبير.

4 -

إنه أسلوب يجمع بين العقل والعاطفة على رغم ما بينهما من تباعد.

5 -

وهو في وحدة سوره، وترتيبها، وتناسق أجزائها آية وأي آية!

ص: 89

‌الباب الثالث: المصدر الحقيقي للقرآن

‌الفصل الأول: البحث عن مصدر القرآن في الفترة المكية

[القرآن في الفترة المكية]

كانت حياة العرب في مرحلة نزول القرآن حياة (الضلال المبين)، وزمانهم زمن (الجاهلية الأولى)، وفي وسط هذه الجموع من الجهل المفضوح، كانت تتميز صفوة قليلة العدد تعرف في الأثر باسم «الحنفاء» .

وكانت الأنظمة الدينية المعروفة في ذلك الوقت تتمثل في عدة طوائف، منهم: الصابئين، وهم طائفة وثنية، ونحن نرى أن الوثنية التي كانت سائدة في الحجاز لا تقدم لنا تفسيرًا سليمًا عن مصدر القرآن الكريم.

ولو نظرنا للبيئة اليهودية والمسيحية، سنجد أنه من المتعذر أن تكون أصلًا للقرآن، فإنه لم يلتق بعلماء اليهود والنصارى لوقت يسمح له بالأخذ عنهم.

1 -

أما لقاؤه ببحيرى الراهب فهي مقابلة عارضة، وكانت في حضور جميع أفراد القافلة، وأنه كان مسؤولًا لا مستمعًا.

2 -

وأمَّا رحلاته للتجارة للشام، فلا يمكن التعويل عليها، لأمور:

- مشاغله التي كان ذاهبًا لها.

- أنه مع قومه، ورفقائه.

- أن اللغة الأجنبية مثلت حاجزًا مهمًّا.

- أن معارضيه لم يستخدموا هذه الحجة وهي أقرب لهم مما افتروه.

ص: 90

وفي دراسة التاريخ الكنسي في هذا الوقت ما يدفع هذه الفرية من أساسها.

هذا إذن هو المشهد الحي الذي يمتد أمام نظر المشاهد، فحيثما اتجه وجد ضلالًا يحتاج إلى الهداية، وانحرافًا يتطلب التقويم، ولن يجد أبدًا نموذجًا أخلاقيًا ودينيًا يصلح لأن ينقله محمد أو ينبني عليه نظامه الإصلاحي.

* أما الاتصال بالكتب المقدسة؛ فغير ممكن لأمور:

1 -

أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ويكتب، وليس هناك ما يدل على أنه قرأ كتابًا قط

(1)

.

2 -

أن الكتب السماوية في ذلك الوقت لم تكن مكتوبة بالعربية.

* ولا يمكن أن يكون القرآن قد أُخذ عن شعر بعض العرب، كأمية بن الصلت وغيره لأمور:

1 -

قد نفى القرآن أن يكون شعرًا، وبالتأمل في شعر بعض الشعراء سنجد أنهم كانوا يصفون أمورًا كشرب الخمر، وهو ما لا نجد له أثرًا في القرآن.

2 -

أن العرب الذين هم أهل الفصاحة والمعرفة، لم يدع أحدٌ منهم أن القرآن مسروق أو منحول من الشعر الموجود في ذلك العصر أيًّا كان قائله.

* ولا يمكن أن يكون القرآن ثمار التأملات الشخصية للنبي صلى الله عليه وسلم، لأمور:

1 -

أن في القرآن من المعلومات ما لا يخضع لمثل هذه التأملات، كالتاريخ والقصص الموجود في القرآن.

2 -

أن تفاصيل المعلومات المبثوثة في القرآن، كصفات الله المتعددة، وأسمائه الحسنى، والمصير الذي ينتظر الإنسان بعد موته، وغير ذلك من التفاصيل المبثوثة في القرآن، مع عدم تراجعه عن أي حقيقة من تلك الحقائق، كل ذلك لا يمكن أن يبلغه العقل مهما بلغ من الصفاء والقوة.

(1)

أجاب المؤلف عن بعض الشبه الاستشراقية في هذا الموضوع، (149).

ص: 91

‌الفصل الثاني: البحث عن القرآن في الفترة المدنية

[القرآن في الفترة المدنيَّة]

في هذه الفترة حصل اتصال مع طائفة منظمة دينيًّا، وهم اليهود، والسؤال الذي يمكن طرحه، هل يمكن أن يكون القرآن قد أخذ عن هؤلاء اليهود شيئًا؟!

إن الناظر في القرآن يلمح موقفه الشديد من المجتمع اليهودي بصفة عامة، فقد ذكر القرآن عددًا من صفاتهم، ومنها: أنهم لم يحفظوا كتابهم، وكانوا يتعاملون بالربا، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويستبيحون الرشوة والكذب، فلا يمكن القول بأن القرآن مأخوذ عن أحبار اليهود

(1)

.

ولا بد من القول: إنه لم يجسر أي مؤرخ يقدر مسؤوليته أن يزعم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على شخص أو أشخاص تلقى منهم محمد صلى الله عليه وسلم.

إن القرآن يخبرنا عن علماء أهل الكتاب، وأنهم على قسمين:

(1)

تكلم المؤلف بكلام متميز عن ادعاءات بعض المستشرقين حول هذه المسألة، فلتنظر:(168).

وتحدث عن ادعاءات المستشرقين، باختلاف التعاليم المكية عن المدنية في القرآن، وفي سياق الرد، نبه على عدة نقاط منها:

1 -

أن القصص القرآني لم يختلف بين القرآن المكي والمدني.

2 -

أن معرفة العرب بإبراهيم وإسماعيل معرفة قديمة، لوجودهم في جوار الكعبة، بيت الله الذي أمر إبراهيم ببنائه، ثم إن قصة إبراهيم وردت في القرآن المكي كذلك.

3 -

أن عدد الصلوات ظل ثابتًا في مكة والمدينة.

4 -

أن فكرة (الله) والحديث عنه لم يختلف في القرآن المكي عن المدني، وأن فكرة (إله الحرب) في القرآن المدني، لم تكن إلا تنفيذًا لإنذار عام وصريح أعلن عنه، وتكرر ذكره قبل ذلك في مكة.

5 -

أن فكرة النسخ حصلت لأن الحوادث تتطلب حلولًا متنوعة، وأن الله تعالى نصَّ في بعض الآيات على كونها مؤقتة، مثل:{حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، و {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، والنسخ انعكاس لفكرة التدرج، والمسلك التدريجي في التعليم والتشريع ليس عيبًا، وإنما هو أنجح المناهج في تكوين النفس الواعية المستنيرة المشبعة بالحكمة، والأمم المنظمة، والخلق المتين.

ص: 92

1 -

الغالبيةُ العظمى، والتي كانت تكن العداء الكبير للإسلام وأهله، وكان هؤلاء يسعون أشد السعي لإحراج محمد، وكانوا ينكرون النصوص الموجودة في كتبهم إمعانًا في العداوة والبغضاء.

2 -

وكان فريق منهم استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وطابقوا صفاته بما كانوا يعرفونه من صفة النبي الخاتم، وهؤلاء سرعان ما انقادوا للحق، وأتوا إليه مذعنين، كعبد الله بن سلام، وكان من أوسع اليهود علمًا.

وصارت علاقة أمثال عبد الله بن سلام، أو من آمن في تلك المرحلة من أصحاب الديانات الأخرى، كسلمان الفارسي، أو مارية القبطية = كل هؤلاء كانوا يقفون موقف التابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المتبوع.

وأخيرًا، فلا بد من التفريق بين الاقتباس، والاتفاق، فلا شك أن القرآن يتفق مع الكتب السابقة في كثير من المبادئ والتعاليم؛ لأنَّ الكتب خرجت من مشكاة واحدة.

ص: 93

‌خاتمة

لقد بحثنا مسترشدين بالوقائع التاريخية افتراض وجود مصدر بشري لتعاليم القرآن، فتتبعنا مؤسس الإسلام في مراحل حياته المزدوجة: الحياة العادية وحياة الرسالة، في مسقط رأسه أو في موطنه الأخير، في رحلاته وفي اتصالاته، وتعرضنا لقدرته على القراءة ولمدى توفر الوثائق تحت يده.

فجميع سبل البحث التي وقعت تحت أيدينا وناقشناها ثبت ضعفها وعدم قدرتها على تقديم أي احتمال لطريق طبيعي أتاح فرصة الاتصال بالحقائق المقدسة.

ورغم الجهد الذهني الذي نبذله لتضخيم معلوماته السمعية ومعارف بيئته، فإنه يتعذر علينا اعتبارها تفسيرًا كافيًا لهذا البناء الشامخ من العلوم الواسعة والمفصلة التي يقدمها لنا القرآن الكريم في مجال الدين، والتاريخ، والأخلاق، والقانون، والكون.

لقد كان الوحي نقطة تحول في علم الرسول صلى الله عليه وسلم.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمتلك أخلاقًا حسنة في حياته قبل البعثة، شهد بها خصومه، بل كان يُعرف بينهم بالصادق الأمين، ولم يكن هو نفسه يتوقع أن يكلف بدور المرسل من عند الله.

لكن حياته تحولت يوم نزل عليه الوحي، وفي إدراك خصائص الوحي إدراكٌ لمصدره أيضًا.

1 -

لقد كان الوحي ينزل منجمًا ومجزءًا، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصطنع

ص: 95

الوحي، بل كان ينزل عليه بلا معرفة سابقة منه، بل ولا تهيؤ

(1)

!

2 -

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقف من الوحي موقف التعظيم، ويخشى أشد الخشية أن ينسب لله تعالى ما لم يقله، {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15].

3 -

ولم يكن الوحي يعكس شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي أكثر الأوقات لا يذكر عنه شيئًا، وتأمل - مثلًا -: حين مات عمه أبو طالب، وزوجته خديجة، وحزن لذلك حزنًا شديدًا، ومع ذلك لم يشر الوحي إلى ذلك، بل نجد في الوحي آيات اللوم والعتاب له عليه الصلاة والسلام.

4 -

ولا يمكن أن يكون الوحي نابعًا من الإخلاص الشخصي للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه من الأوهام اللا شعورية، وأنه اجترار لمعارف قديمة كانت طي النسيان، وذلك لأمور:

أولًا: لأننا لا نجد في التاريخ ما يمكن أن ينهض ليفسر استقامة الخط الذي اتبعه القرآن، وتفسير خطواته الجازمة الفاصلة.

ثانيًا: لا يوجد أدنى علامة تشير من قريب أو بعيد لخلل عقلي، بل العكس هو الصحيح.

ولأنه لا يمكننا التعرض لتجربة الوحي لنتأكد من صحتها، إلا أنه يمكننا التحقق من صحة الوحي بأمور، منها:

1 -

الاتفاق في جوهر تعاليمه مع ما قرره الأنبياء السابقون، وهذا التطابق يفتح أعين الغافلين على صدقهم، وصحة مبادئهم التي تناولت بالوصف الحقائق العليا من زوايا مختلفة.

2 -

الحقائق العلمية - المتفقة تمام الاتفاق مع المشاهد الحسي، والواقع العلمي - المبثوثة في القرآن

(2)

.

3 -

الأخبار المستقبلية، والتي أخبر القرآن بتحققها، ووقعت كما أخبر.

(1)

كحادثة الإفك.

(2)

من المهم مراجعة هذا الفصل في الكتاب: (187)، وما بعدها، لأنَّ المؤلف ذكر رؤيته لمسألة الإعجاز العلمي، وهي رؤية جديرة بالمطالعة.

قال الدكتور دراز تحت عنوان حقائق علمية: «ولكن القرآن في دعوته إلى الإيمان والفضيلة لا يسوق الدروس من التعاليم الدينية والأحاديث الجارية وحدها؛ وإنما يستخدم في هذا الشأن الحقائق الكونية الدائمة، ويدعو عقولنا إلى تأمل قوانينها الثابتة، لا بغرض دراستها وفَهْمِها في ذاتها فحسب؛ وإنما لأنها تذكِّر بالخالق الحكيم القدير، ونلاحظ أن هذه الحقائق التي يقدمها تتفق تمامًا مع آخر ما توصل إليه العلم الحديث» ، ثم ذكر رحمه الله أمثلة لذلك.

وعلق على ذلك بقوله: «عند اختيارنا للآيات التي استشهدنا بها في هذه الفقرة، حرصنا على تلافي ما يعاب به على الطريقة التوضيحية المعروفة بالتأويل، والتي تتلخص في تفسير آيات القرآن بحيث تتفق نتائج التفسير مع النتائج العلمية المقررة.

ولكن الحماس دفع بعض المفسرين المحدثين إلى المبالغة في استخدام هذه الطريقة التوفيقية لصالح القرآن؛ بحيث أصبحت خطرًا على الإيمان ذاته؛ لأنها إما أن تقلل من الاعتماد على معنى النص باستنطاقه ما لا تحتمله ألفاظه وجمله، وإما أن تعول أكثر مما يجب على آراء العلماء، وحتى على افتراضاتهم المتناقضة، أو التي يصعب التحقق من صحتها.

وبعد أن نستبعد هذه المبالغات عن البحث، نرى أن من مقتضيات الإيمان - التي لا غنى عنها - أن نضاهي الحقائق الفورية التي نجدها في القرآن مع نتائج العلماء المنهجية البطيئة».

ص: 96

إن منهج القرآن الكامل ينهض دليلًا كافيًا على مصدره الرباني، لقد انتشرت الدعوة القرآنية في البداية في الجزيرة العربية بين العرب، ولكن غايتها هي أفراد البشرية أجمعين.

ص: 97

‌المقدمة الخامسة

مقدِّمة كتاب: «الظاهرة القرآنية» ، لمؤلفه الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله

عزيزي السيد بن نبي.

ص: 99

فرغت لتوِّي من قراءة كتابك القيم (الظاهرة القرآنية)، ومما أعطى لموضوعك أهمية كبرى أنه قديم وحديث معًا.

ففي ضوء العلم الحديث، ولجت قضية رئيسية ما فتئت تشغل المفسرين في كل زمن، ولعلي أنا لامستها في دراسات عديدة سابقة، سواء ما كان منها بالعربية أو الفرنسية.

إنَّ الغبطة التي شعرت بها وأنا أقرؤه، لهي من العمق بقدر ما أتاحت لي هذه القراءة أن أدرك من جديد، ذلك الجهد الجاد المستقل والمتجرد، يقود الباحثين عن الحقيقة إلى نتائج متماثلة، بل موحدة على الرغم من المسافة التي يمكن أن تفصل بينهم في المكان والزمان.

وإذا نحينا جانبًا أسلوبك الفني في الكتابة، وطريقتك الرائعة في عرض الأشياء، فإننا نجد طرقنا في الدراسة متشابهة بصورة بارزة.

ليس هذا فحسب، بل من غير النادر أن يحمل تفحصنا للأمر المثل نفسه وأن يشير إلى المعنى ذاته.

إنَّ المسألة هي في البحث عن المصدر الحقيقي للقرآن، وأن نعرف ما إذا كان يمكن أن يكون هذا الكتاب قد استخرج من علم أو إدراك من أرسل به، أو من معرفة بشرية على وجه العموم، أم أنه على العكس من ذلك، هنالك أسباب لا يمكن دفعها تحدونا للاعتقاد بمصدره العلوي الإلهي.

تلك هي المسألة التي جئتَ بدورك تلزم نفسك بالعمل على حلها، بإيجاد الأسس الثابتة والعقلية، للإيمان بالمصدر الإلهي لهذا الكتاب، وتسليط الأضواء عليها.

وإذا كان المفسرون التقليديون، تَوَصُّلًا إلى الهدف نفسه، قد أكدوا بصورة خاصة على الجانب الأدبي من المسألة، فإن هذا الموقف على كل حال يجد تفسيره وما يسوغه في المسلمة الأعم للقرآن.

تلك المسلَّمة التي تميز بها الأسلوب القرآني في جمال لا يضاهى وجلال

ص: 101

مميز، وبالاعتراف الفوري بالعجز عن الإتيان بمثله، وهو الوجه الأقرب منالًا لسائر البلغاء من البدو.

على أنه من الصحيح أيضًا أن هؤلاء المفسرين، وهم ينظرون في محتوى القرآن، قد رأوا في اتساع وعمق المعرفة التي يحملها للإنسانية، دليلًا في ذاته على خصائصه التي تتجاوز طاقة البشر، وأن التعارض بين توجيه بعض الآيات، كآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] مثلًا، والمشاعر الشخصية للرسول صلى الله عليه وسلم، لشهادة لا تُرَدُّ على استقلالية القرآن عن النبي.

فهل يمكن أن يقال إن هذه النتائج المستخلصة من قبل أجدادنا، تجعل كل محاولة لتفسير جديد عديمة الجدوى؟

هل يقال إن واجبنا يتحدد من الآن فصاعدًا، بتدوين هذه النتائج الجاهزة، وبالنظر إليها كأنها الكلمة الأخيرة حول حقيقة الأشياء؟

كلا، ثم كلا.

إذ أنه بقدر ما تتطور معارفنا حول الطبيعة والنفس الإنسانية، وكلما اكتسبنا سببًا جديدًا يحملنا على أن نرى الأشياء من زاوية مختلفة، فإن ذلك يدعونا إلى أن نضع المشكلات حين ندرسها بما يتفق وهذا الجديد من واقع العلم.

والمسألة القرآنية لا ينبغي لها أن تخرج عن هذه القاعدة.

فإذا كان صحيحًا أن القرآن معجزة مستمرة، وإذا كانت علائم صدقه من ناحية أخرى لا تنحصر في عبارته فحسب، بل في عالمي الطبيعة والنفس أيضًا كما يقول القرآن نفسه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

إذا كان الأمر كذلك فإن واجبًا يقع على كل مؤمن متصل بمعطيات العلم.

إنه التقريب بين جانبي روحه: بين معتقده وعلمه، حين يواجه النصوص المنزلة، لا أقول بفرضيات العلماء التي لم تتحقق أو التي لا تقبل التحقيق، ولكن

ص: 102

بالنتائج الثابتة والمستخرجة من تجاربهم، وأن يأخذ من تلك الواجهة ما ينتج عنها من دروس.

وإذا كان في الواقع هنالك حقيقتان، فإنه لا يحق لواحدة منهما أن تنكر الأخرى، بل على العكس من ذلك، عليها أن تؤكدها وتشد من أزرها.

وإذا اتفق لمؤمن متعلم أن ملك موهبة الكتابة فوق هاتين الصفتين من الإيمان والعلم، فإن واجبًا آخر يقع على عاتقه: إنه إخراج ثمار علمه بلغة عصره، كما يفعل نبي يخاطب قومه بلغتهم.

إنني أستطيع أن أؤكد بأنك قمت بكلا الواجبين.

فقد تأملت بنضج، ذلك الاتصال بالعقل والتراث، بالعلم والعقيدة وأفرغت في عرض جميل واضح ومتماسك شرارة ما تفجر من ذلك اللقاء.

فسداد حكمك، وحرارة عقيدتك، وحداثة مصطلحاتك، وجمال أسلوبك؛ هذه كلها ميزات بارزة لا أستطيع أن أفيك ما تستحق من تهنئة عليها، ولكني أرى من الواجب أن أوجه كلمة إلى الشباب المثقف كيما يتفادى التباسًا يمكن أن يقع فيه حول الهدف الحقيقي من هذه الدراسة.

أريد أن أقول لهؤلاء الشباب: إن الأمر لا يعني هنا نشرة لجمع المعلومات وتخزينها في الذاكرة، ولكن نموذجًا حيًّا من نقاش جدلي، فائدته الحيوية الكبرى بما يذكي من الطاقة الروحية لسائر القراء القادرين على التفكير بمنهجية، كما يضع كل منهم بدوره قضية (الحقيقة) ويبحث بوسائله الذاتية عما يتعين عليه اتخاذه في سبيلها.

فإذا استطاعت نشرة من هذا النوع أن تخدم بوصفها علاجًا للتشكك الديني فتلك زيادة في الخير، إنما يبقى الهدف الأساسي قبل كل شيء محاربة اللامبالاة حول مسألة (الحقيقة العلوية).

على كل حال فإن دراسة كهذه، لا تفكر في أن تفرض نفسها على أنها نوع من العقيدة، نقبله بعيون مغمضة وبغير نقاش، فهذا على ما يبدو لي أبعد ما يكون عن فكر المؤلف، فضلًا عن أنه يتنافى مع المبادئ القرآنية التي يدافع عنها.

ص: 103

فالقرآن لم يعلن فحسب بأن الإيمان لا يفرض من الخارج، ولكنه أدان بقوة كل اتباع أعمى يلقي بزمامه إلى سلطة لا تستند إلى العقل، وقد دعا دائمًا باستمرار إلى التأمل الفردي المنسحب من تأثير الوسط الخارجي والأفكار المسبقة، ومن كل فكرة مستقاة بعفوية دون تمحيص.

إن (ديكارت) لم يفعل غير ذلك، حينما رفض أسلوب الهيمنة، مطالبًا بحق العقل، مؤكدًا واجب كل امرئ بألا يأخذ بغير الثابت والبديهي الذي لا مراء فيه.

أكثر من هذا؛ ففي هذا الإطار يبدو لنا المذهب الديكارتي من هذه الناحية، أقل تشددًا وتمسكًا من القرآن فمن المعروف بأية عناية أوضح الفيلسوف الفرنسي تأملاته، وهو يضع تلك القاعدة المنهجية التي لا تقبل غير الأفكار الواضحة والمحددة.

هو لم يشأ بذلك التكلم عن الأمور التي تنظر إلى الإيمان والمثل، ولكن عن الحقائق المجردة التي لا يمكن معرفتها إلا بالضوء الطبيعي وحده.

فإذا كان (ديكارت) قد اضطر إلى مثل هذا التحفظ؛ لأنه يعد الإيمان المسيحي تكتنفه أمور غامضة بوصفه موضوعًا، فمن ذا الذي لا يرى أن هذا التحفظ لا محل له في العقيدة القرآنية؟

مهما يكن من أمر فإنني لا أرى جيدًا السبب الذي يستطيع أن يسوغ التقليل من شأن الفكر الديكارتي. فهناك انطباع بأنك تضعف بطريقة منهجية من شأن هذا الفكر، كما لو أن ديكارت ذلك الوجه الكبير في الفلسفة الحديثة، كان كافرًا أو متشككًا أو رجلًا يعتقد بسذاجة، بكمال الفكر الإنساني واستقلاليته المطلقة تجاه كل تحسس خارجي، مستمد من الطبيعة أو مما هو فوق الطبيعة.

ولهذا أتمنى أن تحمل الطبعات القادمة ما يبدد بعناية هذا الالتباس.

وهناك ملاحظة أخرى صغيرة.

إنها تتعلق بحياة محمد صلى الله عليه وسلم.

يبدو لي أنك أخذًا بتأكيدات بعض المستشرقين، قبلت بدون صعوبة افتراضهم حول مدة اعتكاف النبي قبل نزول الوحي.

ص: 104

فنحن نعلم موضوعهم المفضل في هذا الإطار.

إنه يرتكز على القول إنها فترة احتضان وتخمر للأفكار الدينية التي سبقت وضوح القرآن في الوعي المحمدي.

وبما أن فكرة تهدف لعمل واسع عظيم كالقرآن، لا يمكن التصور بأن تتحدد معالمها بين ليلة وضحاها، ويقتضي لها الوقت الضروري والطبيعي لتحضيرها، فإن هؤلاء الكتاب قد التزموا جانب الافتراض، وافترضوا لهذا الاعتزال مدة تمتد عبر سنين عديدة.

وهكذا تحتم على محمد أن يختفي منذ زواجه في سن الخامسة والعشرين، ليفرغ إلى تأملاته، ولا يعود للظهور إلا وهو يحمل رسالته ذات صباح.

وعلى الرغم من أنك جهدت في تفنيد ورفض فكرة الاعتكاف هذه، فإنك تبدو مع ذلك قد أفسحت المجال لوجود خلفية وسند مادي لها، أعني بذلك انطواء الرسول لمدة خمسة عشر عامًا.

إن فرضية غياب كهذا، ليست فحسب مجانبة لا سند لها، بل إنها غير صحيحة على الإطلاق من الوجهة التاريخية.

فالمصادر الوثيقة جدًّا تحدد في الواقع تاريخ هذا الاعتكاف بالضبط بشهر قبل نزول القرآن، كما تحدد بدقة أكثر أن هذا الشهر تخللته عودة إلى منزله مرات عدة كليما يتزود، وقد سبقت هذا الشهر أيضًا رؤى واضحة كان يراها الرسول في منامه ثم ما يلبث أن يجدها حقيقة كفلق الصبح.

لقد حدثت هذه الإرهاصات جميعها في الأربعين من عمره، أي في عام هبوط الوحي.

وإذا ذهبنا بعيدًا، وافترضنا جدلًا أن هذا الشهر من الاعتكاف، قد داوم عليه الرسول في كل عام، منذ زواجه وحتى نزول الوحي؛ يبقى أن نلاحظ بأن أحد عشر من اثني عشر شهرًا من سني حياته في هذه الفترة قد قضاها في محيط اجتماعي، وأمام أعين مواطنيه.

والقرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] إنما

ص: 105

يستخرج بالضبط، حجة من استمرار إقامة الرسول بين قومه فترة واسعة وكافية، ليدرك الناس جميعًا ميزاته واهتماماته، وعجزه الشخصي عن القيام بوضع آيات القرآن.

فماذا كانت أعماله في تلك المرحلة الانتقالية؟

هناك حدث محدد وأكيد على الأقل، ففي نحو الثلاثين من عمره شارك في إعادة بناء الكعبة، ومن المعلوم من ناحية أخرى أنه تحمل بكفاءة ونشاط أعباءه العائلية؛ إذ رزق أكثر أولاده قبل قيامه بالرسالة.

وإذا كنا لا نملك تفاصيل أكبر حول أعماله اليومية قبل البعثة، فمرد ذلك بدون شك، إلى أنه فيما عدا المسلمة البارزة لعظيم أخلاقه، لا نجد في تلك الفترة من الزمن أمرًا منفصلًا عن مألوف وسطه يمكن التحدث عنه.

فسكوت سائر رجال السيرة، عن التفصيلات الإضافية في هذا الخصوص، نقطة نسجلها كما لاحظت بحق، لصالح التراث الإسلامي الذي تحلى دائمًا بأمانة تاريخية متشددة إلى أقصى حد، حين عزف عن كل توسيع أو تقليص، للمعطيات الثابتة التي يجدها في متناوله، سواء كانت هذه المعطيات لصالح قضيته أو في غير صالحها.

بعد هذا كله، أعود لأهنئك مرة أخرى على واسع الجهد، الذي به نجحت في إلقاء ضوء جميل حول المسألة الدينية في عمومها، وحول الفكر القرآني خاصة، كيما تسهم في دعم الأساس العقلاني للإيمان.

فعساك تجد أعظم ثوابك في ذلك النجاح المعنوي الذي يستحقه كتابك، وعسى نداؤك المنطقي والشاعري الذي أطلقته ليلامس أصحاب العقول النيرة، يتسرب إلى عميق نفوسهم فيبعث فيهم من جديد حياة القلب والعقل معًا.

باريس (15) أيلول/ سبتمبر (1946 م)

محمد عبد الله دراز

أستاذ في الأزهر الشريف

ص: 106

بسم الله الرحمن الرحيم

[مقدمة المؤلف للطبعة الثانية]

الجزءُ الأوَّل من كتاب (النبأ العظيم) مولود جديد .. قديم .. جديدٌ في مقطعه ونهايته، قديمٌ في مطلعه وبدايته.

كان مسقط رأسِه في الحرمِ الجامعي، منذ نيف وعشرين عامًا؛ ولكنَّه لم يبرز منه يومئذ إلا عنقه وصدره .. أما أطرافُه فلم تنشأ، وأما خَلقه فلم يكتمل إلا اليوم.

لقد شهدَ طلاب الأمس بداية أمره، حين كان يملى عليهم نجومًا متفرقة، في فترات متلاحقة أو غير متلاحقة، وكانوا كلما اجتمعت منه صفحات معدودة لا تزيد عن عقد وبعض عقد، استعجلوا طبعَها، وجعلوا يستحثُّون همة المؤلف لوضع لاحقتها.

ثم أتت بعد ذلك شؤون

(1)

حالت دون إتمام وضعه، بله إكمال طبعه؛ فبقي

(1)

أمضى المؤلف في خارج القطر المصري اثني عشر عامًا: من غرة ربيع الأول (1355 هـ) إلى سلخ ربيع الثاني (1367 هـ)(مايو 1936 - مارس 1948 م) مبعوثًا من الجامعة الأزهرية إلى الجامعات الأوربية، فدرس هناك بضعة ألسن من لغة أهل الغرب، وألمَّ بمناهج علمائهم في البحث، ووضع هناك باللغة الفرنسية رسالتين جامعيتين: عن القرآن، وعن دستور الأخلاق في القرآن .. ثم أمضى تسعة أعوام أخر بعد عودته إلى مصر مشغولًا بشؤون علمية نيطت به على عجل، من أهمها:

1 -

محاضرات في علم تاريخ الأديان، بكليَّة الآداب بجامعة القاهرة.

2 -

محاضرات في فلسفة الأخلاق، بقسم التخصص بالجامعة الأزهرية.

3 -

تدوين محاضراته هذه وتلك وإخراجها في رسالتين باللغة العربية .. على أنَّ المؤلف ما زال في أثناء هذه المشاغل كلها يعاوده الحنين إلى إكمال هذا الجزء، وما برح في تلك الأثناء يتلقى من أبنائه وزملائه الرسائل تلو الرسائل لمتابعة هذا البحث، ولكنه لم ييسر له تحقيق بعض هذه الأمنية إلا الآن، وسبحان من لا يشغله شأن عن شأن.

ص: 109

القدر الذي طبع منه حبيسًا في دار الطبع، أو مقصورًا على الرعيل الأول من طلاب هذا البحث .. حتى أذن العلي القدير - وكل شيءٍ عنده بمقدار - أن يضيف المؤلف إليه اليوم خليَّات أخر، اكتمل بها قوامه، وأخذَ بها أهبته للخروج من نطاق الثقافة الجامعية، إلى فضاء الثقافة العالمية، لكي يتحدَّث إلى كل عقل واع ناقد، لا يأخذ ما يأخذ إلا على بصيرة وبيِّنة، ولا يذر ما يذر إلا على بصيرة وبيِّنة؛ وإلى كل وجدان تجريبي ذائق، لا يكتفي بالخبر عن المعاينة؛ ولا يستغني بالوزن عن الموازنة.

إنه حديث يبدأ من نقطة البدء ..

فلا يتطلب من قارئه انضواءً تحت راية معينة؛ ولا اعتناقًا لمذهب معين، ولا يفترض فيه تخصصًا في ثقافة معينة؛ ولا حصولًا على مؤهل معين، بل إنه يناشده أن يعود بنفسه صحيفة بيضاء؛ إلا من فطرة سليمة؛ وحاسَّة مرهفة؛ ورغبةٍ صادقة في الوصول إلى الحق في شأن هذا القرآن.

وإنه إذًا لواصل إن شاء الله.

في شعبان سنة (1376 هـ) - (مارس 1957 م)

محمد عبد الله دراز

ص: 110

بسم الله الرحمن الرحيم

[مقدمة المؤلف للطبعة الأولى]

الحمد لله الذي فضلنا بالقرآن على الأمم أجمعين، وآتانا به ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين، أنزله هدايةً عالميَّة دائمة، وجعله للشرائع السماوية خاتِمة، ثم جعل له من نفسه حجَّة على الدهر قائمة.

والصلاة والسلام على من كان خلقُه القرآن، ووصيته القرآن، وميراثه القرآن، القائل:«خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»

(1)

.

اللهم كما أعطيتنا حظًّا من وراثة هذا الذكر الحكيم، فيسرت علينَا حفظه وتذكره، وحبَّبت إلينا تلاوته وتدبره، نسألك أن تجعلنا من خيار وارثيه الذين هم بهدايته مستمسكون، والذين هم على حراسته قائمون، والذين هم تحت رايته يوم القيامة يبعثون، في جندِ إمامنا الأعظم، ورسولِنا الأكرم، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، وأتباعه وأحبابه.

أما بعد:

فهذه بحوثٌ في القرآن الكريم، قدَّمتها بين يدي دروس التفسير لطلبة كلية أصول الدين بالجامع الأزهر المعمورِ، أردتُّ بها أن أنعتَ كتابَ الله بحليته وخصائصه، وأن أرفع النقاب عن جانب من الحقائق المتصلة به، وأن أرسُم الخطة التي ينبغي سلوكها في دراسته.

(1)

رواه البخاري عن عثمان بن عفان: (5027)، ولفظه: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه» ، قال:(وأقرأَ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان، حتى كان الحجَّاج قال: وذاك الذي أقعدَني مقعدِي هذا).

ص: 111

وقد راعيتُ في أكثر هذه البحوث شيئًا من التفصيل والتحليل، وشيئًا من التطبيق والتمثيل، فلم أكتفِ بالإشارة حيث تُمكن العبارة، ولا بالبرهان إذا أمكن العيان، راجيًا بذلك أن تنفتح لها عيون الغافلين؛ فيجدوا نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأن تنشرح بها صدور المؤمنين، فيزدادوا إيمانًا إلى إيمانهم.

ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

في سنة (1352 هـ - 1933 م).

محمد عبد الله دراز

ص: 112

‌البحث الأول: في تحديد معنى القرآن، والفرق بينه وبين الحديث القدسي والنبوي

[معنى القرآن في اللغة]

القرآن في الأصل مصدر على وزن فُعلان بالضم، كالغفران والشكران والتكلان، تقول:(قرأته قرءًا، وقراءةً، وقرآنًا) بمعنى واحد، أي: تلوته تلاوة، وقد جاء استعمال القرآن بهذا المعنى المصدري في قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 17] وما بعدها، أي قراءته.

ثم صار علمًا شخصيًّا

(1)

(2)

لذلك الكتاب الكريم، وهذا هو الاستعمال الأغلب، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].

ويسمى - أيضًا - الكتاب، ومنه قوله تعالى:{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1 - 2].

(1)

يطلق بالاشتراك اللفظيِّ على مجموع الكتاب، وعلى كل قطعة منه، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول: إنه يقرأ القرآن {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [سورة الأعراف: 204].

(2)

علم الشخص هو: «اللفظ الذي يدل على تعيين مسماه تعيينًا مطلقًا» ، فإنك إذا قلت: القرآن، فإن السامع لا يفهم من كلامك إلا الكتاب الكريم، المجموع بين الدفتين، المفتتحِ بسورة الفاتحة، والمختوم بسورة الناس.

ويقابل علم الشخص، (علم الجنس)، وهو:«الاسم الذي لا يدل على فرد بعينه، بل يدل على جنس بأكمله» ، كأسامة لجنس الأسود، وثعالة لجنس الثعالب، ونحو ذلك.

انظر: شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك: (47)، النحو الوافي:(1/ 293). (عمرو)

ص: 113

[سر تسمية القرآن: القرآن، والكتاب]

روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًّا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا

(1)

بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه.

وفي تسميته بهذين الاسمين إشارةٌ إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني: أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، أن تضل إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة.

ولا ثقة لنا بكتابة كاتبٍ حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.

وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيها بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، ولم يصبه ما

(1)

هذا بيانٌ لوجه الصلة فيهما بين المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول إليه، وهو مبني على ما اشتهر من استعمال القراءة في خصوص التلاوة، وهي ضم الألفاظ بعضها إلى بعض في النطق، واستعمال الكتابة في خصوص الرسم، وهو ضم بعضها إلى بعض في الخط، فإذا رجعنا إلى أصلهما الأصيل في اللغة وجدنا مادتي (ك ت ب) و (ق ر أ) تدوران على معنى الجمع والضم مطلقًا.

ويُلمِح هذا الأصل الأول بكون كل واحد من اللقبين ملاحظًا فيه وصف الجمع، إما على معنى اسم الفاعل أو اسم المفعول، فيكون معناه (الجامع) أو (المجموع)، وهذا اللقب لا يعني فقط أن هذا المسمى جامع للسور والآيات، أو أنه مجموع تلك السور والآيات، من حيث هي نصوص مؤلفة على صفحات القلوب، أو من حيث هي نقوش مصفوفة في الصحف والألواح، أو من حيث هي أصواتٌ مرتَّلة منظومةٌ على الألسنة، بل يعني شيئًا أدق من ذلك كله، وهو أن هذا الكلام قد جمع فنون المعاني والحقائق، وأنه قد حشدت فيه كتائب الحكم والأحكام، فإذا قلت: الكتاب أو القرآن، كنت كأنما قلت (الكلام الجامع للعلوم) أو (العلوم المجموعة في كتاب).

وهكذا وصفه الله تعالى إذ أخبر بأنه نزله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: 89] وكذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم» *.

* الحديث: أخرجه الدارمي: (3374)، والترمذي:(2906)، وهو ضعيفٌ.

يقول ابن كثير: «وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه، وقد وهم بعضُهم في رفعه، وهو كلام حسنٌ صحيحٌ» ، فضائل القرآن:(46). (عمرو)

ص: 114

أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السَّند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال تعالى:{وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44]، أي بما طلب إليهم حفظه.

[سرُّ الفرق بين القرآن والكتب السماوية في الحفظ]

والسر في هذه التفرقة أنَّ سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأنَّ هذا القرآن جيء به مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًّا مسدها، ولم يكن شيء منها ليسد مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسر له أسبابه، وهو الحكيم العليم.

[تعريف القرآن بالحدود المنطقية]

ولما كان القرآن بهذا المعنى الأسمى جزئيًّا حقيقيًّا

(1)

كان من المتعذر تحديده بالتعاريف المنطقية ذات الأجناس والفصول والخواص

(2)

.

وذلك شأنُ كلِّ الجزئيات الحقيقية لا يمكن تحديدها بهذا الوجه؛ لأنَّ أجزاء التعاريف المنطقية كليات، والكليُّ لا يطابق الجزئي مفهومًا

(3)

؛ لأنَّه يقبل الانطباق على كل ما يفرض مماثلًا له في ذلك الوصف ذهنًا وإن لم يوجد في الواقع فلا يكون مميزًا له عن جميع ما عداه، فلا يكون حدًّا صحيحًا.

(1)

الجزئي الحقيقي، هو:«المفهوم الذي يمتنع صدقه على أكثر من واحد» . (عمرو)

(2)

مصطلحات منطقية، تندرج تحت ما يسميه المناطقة:«الكليات الخمس» ، وهي:(الجنس - النوع - الفصل - الخاصة - العرض العام)، والجنس، هو:«الكلي الذي يشتمل على كل الماهية المشتركة بين متعدد، مختلف في الحقيقة» ، مثاله: حيوان، فهو: كلي يتناول الإنسان والفرس والغزال، وغيرها، وهي أفراد مختلفة في حقيقتها، لكنها مشتركة في جزء من الماهية، وهي الحيوانية، ولذلك يقال على كل منها (حيوان).

والفصلُ: «كلي يتناول من الماهية الجزء الذي يميز النوع عن سائر الأنواع المشاركة له في الجنس» ، مثاله: ناطق، فهو كلي يتناول جزء ماهية الإنسان، وهذا الجزء يميز النوع الإنساني عن سائر الأنواع.

والخاصَّة: «مفهوم كلي هو من صفات الشيء الخارجة عن ماهيته، والخاصة بها» ، كالضحك، فهو خاص بالإنسان لا يشاركه غيره فيه - هكذا يقول المناطقة -.

انظر: ضوابط المعرفة، لحبنكة:(39 - 41)، ومنطق المظفر:(106 - 114). (عمرو)

(3)

سقطت هذه الجملة من طبعتي (دار القلم)، و (طيبة)، وإنما نبهت على هذا السقط دون غيره، لأهميته.

ص: 115

وإنما يحدَّد الجزئي بالإشارة إليه حاضرًا في الحس، أو معهودًا في الذهن

(1)

.

فإذا أردت تعريف القرآن تعريفًا تحديديًّا فلا سبيل لذلك إلا بأن تشير إليه مكتوبًا في المصحف أو مقروءًا باللسان، فتقول: هو ما بين هاتين الدفتين، أو تقول: هو {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1 - 2]، إلى:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6].

أمَّا ما ذكره العلماء من تعريفه بالأجناس والفصول كما تعرف الحقائق الكلية: فإنما أرادوا به تقريب معناه وتمييزه عن بعض ما عداه مما قد يشاركه في الاسم ولو توهمًا؛ ذلك أن سائر كتب الله تعالى والأحاديث القدسية وبعض الأحاديث النبوية تشارك القرآن في كونها وحيًا إلهيًّا، فربما ظن ظانٌّ أنها تشاركه في اسم القرآن أيضًا، فأرادوا بيان اختصاص الاسم به ببيان صفاته التي امتاز بها عن تلك الأنواع.

[تعريف القرآن]

فقالوا: «القرآن هو كلام الله تعالى، المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته» .

[شرح التعريف]

(فالكلام) جنس شامل لكل كلام، وإضافته إلى (الله) تميِّزه عن كلام من سواه من الإنس والجن والملائكة.

و (المنزَّل) مخرجٌ للكلام الإلهي الذي استأثر الله به في نفسه، أو ألقاه إلى ملائكته ليعملوا به لا لينزلوه على أحد من البشر؛ إذ ليس كل كلامه تعالى منزلًا، بل الذي أنزل منه قليل من كثير {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].

(1)

مقصود الشيخ رحمه الله في هذه الفقرة: أنَّه لا يمكن تعريف القرآن بالتعاريف المنطقية، لأنه جزئي حقيقي، والجزئيات الحقيقة تعرَّف بالإشارة إليها، وأنَّ ما ذكره العلماء من تعاريف للقرآن، فإنما هي تعاريف تقريبية لتمييزه عن الأحاديث القدسية، والأحاديث النبوية. (عمرو)

ص: 116

وتقيَّد المنزَّل بكونه (على محمد) لإخراج ما أُنزل على الأنبياء من قبله، كالتوراة المنزَّلَة على موسى، والإنجيل المنزَّلِ على عيسى، والزبور المنزَّلِ على داود، والصحف المنزَّلة على إبراهيم، عليهم السلام.

وقيد (المتعبد بتلاوته)، أي: المأمور بقراءته في الصلاة وغيرها على وجه العبادة، لإخراج ما لم نؤمر بتلاوته من ذلك، كالقراءات المنقولة إلينا بطريق الآحاد، وكالأحاديث القدسية، وهي المسندة إلى الله عز وجل إن قلنا: إنَّها منزلة من عند الله بألفاظها.

[الفرق بين القرآن والأحاديث النبوية]

أما الأحاديث النبوية فإنها بحسب ما حوته من المعاني تنقسم إلى قسمين:

(قسم توفيقي) استنبطه النبيُّ بفهمه في كلام الله أو بتأمله في حقائق الكون، وهذا القسم ليس كلام الله قطعًا.

و (قسم توقيفي) تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم مضمونه من الوحي فبينه للناس بكلامه.

وهذا القسم وإن كان ما فيه من العلوم منسوبًا إلى معلِّمه وملهمه سبحانه، لكنه - من حيث هو كلام - حري بأن ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن الكلام إنما ينسبُ إلى واضعه وقائلِه الذي ألَّفه على نحو خاص، ولو كان ما فيه من المعنى قد تواردت عليه الخواطر، وتلقاه الآخر عن الأول.

فالحديث النبوي إذًا خارج بقسميه من القيد الأول

(1)

في هذا التعريف.

[الفرق بين القرآن، والأحاديث القدسية]

وكذلك الحديث القدسي إن قلنا: (إنه منزل بمعناه فقط)، وهذا هو أظهر القولين فيه عندنا؛ لأنه لو كان منزلًا بلفظه لكان له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني، إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منزلين من عند الله.

فكان من لوازم ذلك وجوب المحافظة على نصوصه، وعدم جواز روايته بالمعنى إجماعًا: وحرمة مس المحدث لصحيفته، ولا قائل بذلك كلِّه.

وأيضًا: فإنَّ القرآن لما كان مقصودًا منه مع العمل بمضمونه شيء آخر وهو التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته احتيج لإنزال لفظه، والحديث القدسي لم ينزل

(1)

وهو كونُ الكلامِ كلامَ الله.

ص: 117

للتحدي ولا للتعبد بل لمجرد العمل بما فيه، وهذه الفائدة تحصل بإنزال معناه، فالقول بإنزال لفظه قول بشيء لا داعي في النظر إليه، ولا دليل في الشرع عليه، اللهم إلا ما قد يلوح من إسناد الحديث القدسي إلى الله بصيغة (يقول الله تبارك وتعالى كذا)، لكنَّ القرائن التي ذكرناها آنفًا كافية في إفساح المجال لتأويله بأن المقصود نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه، وهذا تأويل شائع في العربية.

فإنك تقول حينما تنثر بيتًا من الشعر: (يقول الشاعر كذا) وتقول حينما تفسر آية من كتاب الله بكلام من عندك: (يقول الله تعالى كذا) وعلى هذه القاعدة حكى الله تعالى عن موسى وفرعون وغيرهما مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم، وأسلوب غير أسلوبهم، ونسب ذلك إليهم

(1)

.

(1)

يتفرع النظر في أصل الكلام المحكي في القرآن إلى ضربين:

الضرب الأول: الكلام المحكي في القرآن عن السابقين، وكان من الممكن أن نقول إنَّ هذه الأخبار المحكية تقع بلفظ القائل، لكن ذلك يمتنع لأمور، منها:

1 -

أنَّ ألسنة الماضين، لم تكن هي العربية، والقرآن إنما حكى أقوالهم باللسان العربي، فلزم من ذلك - ضرورة - ألا يكون هذا هو عين لفظهم.

2 -

أنَّا لو قدَّرنا أن ألسنتهم كانت عربية، ووجدنا ألفاظ (الحكاية لقولهم)، تختلف من سورة لأخرى، فهذا يدل ضرورة أيضًا على أن القرآن إنما ينقل عنهم مضمون كلامهم ومعناه، لا لفظه.

فظهر بذلك أن ما يحكيه الله تعالى من كلام السابقين من غير المتكلمين بالعربية؛ أو من كلام المتكلمين بها، غير أن ألفاظ الحكاية اختلفت = من كلام الله، ولكنها تنسب إليهم باعتبار مضمون الكلام ومعناه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الحروف والأصوات التي سمعها موسى عبرية، والتي ذكرها الله عنه في القرآن عربية، فلو لم يكن الكلام إلَّا مجرد الحروف والأصوات، لم يكن بين الكلام الذي سمعه موسى، والذي ذكره الله أنه سمعه قدر مشترك أصلًا، بل كان يكون الإخبار بأنه سمع هذه الأصوات التي لم يسمعها كذب، وكذلك سائر من حكى الله في القرآن أنه قال من الأمم المتقدمة الذين تكلموا بغير العربية، فإنما تكلموا بلغتهم، وقد حكى الله ذلك باللغة التي أنزل بها القرآن وهي العربية، وكلام الله صدق، فلو كان قولهم: مجرد الحروف والأصوات، والحروف والأصوات التي قالوها ليست مثل هذه، لم تكن الحكاية عنهم مطلقًا، بل كلامهم كان حروفًا، ومعاني، فحكى الله ذلك عنهم بلغة أخرى، والحروف تابعة للمعاني، والمعاني هي المقصود الأعظم، كما يترجم كلام سائر المخلوقين» التسعينية: (2/ 464 - 465).

يبقى النظر - وهو الضرب الثاني - في حال من تكلم بالعربية، ونقل كلامه في القرآن، بقرائن قد توحي بكونه نص كلامهم، ككلام أهل النفاق، هل هو بلفظه ومعناه، أم بمعناه فحسب؟

فنقول: إن هؤلاء القوم من أهل النفاق كان لسانهم عربيًّا، ولم يحك القرآن كلامهم إلا في مواضع بعينها، كما في سورة (المنافقون)، والثابت في كتب الحديث والسيرة أنهم تكلموا بهذه الألفاظ، كما رواه البخاري (4900)، (4901)، ومسلم (2584)، عن جابر بن عبد الله يقول: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا لَلأنصار، وقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما بالُ دعوى الجاهلية؟» قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين، رجلًا من الأنصار، فقال:«دعوها، فإنها منتنة» فسمعها عبد الله بن أبي فقال: قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ. قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال:«دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» .

وانظر: زاد المعاد: (3/ 240)، والمحرر في أسباب النزول:(2/ 1015)، وانظر تفسير الطبري:(22/ 661 - 664)، ففيه مزيد بيان.

فالذي يظهر أن جزء الآية هذا من كلام أهل النفاق لفظًا ومعنى، وليس معنى هذا أن الله لم يتكلم به، بل نقله الله سبحانه وتعالى بلفظه ومعناه، والله أعلم.

فخلاصة الأمر: أن الكلام المحكي في القرآن على ضربين:

1 -

ما حكاه الله تعالى عن غير العرب من الكلام، فإنه محكي بمعناه دون لفظه، وكذلك ما حكاه الله عن العرب، لكن اختلفت حكايته من سورة لأخرى.

2 -

أما ما حكي عن بعض العرب، واحتفت به القرائن - كأن لم يكن إلا في موطن واحد - فالذي يظهر أنه محكيٌّ بلفظه ومعناه، إذ لا معارض لهذا، ولا ينفي كون القرآن من كلام الله تعالى.

وقد استفدت كثيرًا في هذا التحرير، من مباحثة مع شيخنا الدكتور طه نجا - حفظه الله -. (عمرو)

ص: 118

[إيراد على ما سبق] فإن زعمت أنه لو لم يكن في الحديث القدسي شيء آخر مقدس وراء المعنى لصح لنا أن نسمي بعض الحديث النبوي قدسيًّا أيضًا، لوجود هذا المعنى فيه.

فجوابه: أننا لما قطعنا في الحديث القدسي بنزول معناه لورودِ النصِّ الشرعي على نسبته إلى الله، بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:(قال الله تعالى كذا) سميناه قدسيًّا لذلك، بخلاف الأحاديث النبوية فإنها لمَّا لم يرد فيها مثل هذا النصِّ جاز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلمًا بالوحي، وأن يكون مستنبطًا بالاجتهاد والرأي، فسمي الكل نبويًّا وقوفًا بالتسمية عند الحد المقطوع به، ولو كانت لدينا علامة، تميز لنا قسم الوحي لسميناه قدسيًّا كذلك.

ص: 119

على أنَّ هذا الامتياز لا يؤدي إلى نتيجة عملية، فسواء علينا عند العمل بالحديث أن يكون من هذا القسم أو من ذاك؛ إذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تبليغه صادق مأمون، وفي اجتهاده فطنٌ موفَّق، وروحُ القدس يؤيده فلا يقره على خطأ إن أخطأ في أمر من أمور الشريعة، فكان مردُّ الأمر في الحقيقة إلى الوحي في كلتا الحالتين، إما بالتعليم ابتداءً، وإما بالإقرار أو النسخ انتهاءً؛ ولذلك وجب أن نتلقى كل سنته بالقبول {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

ص: 120

‌البحث الثاني: في بيان مصدر القرآن، وإثبات أنه من عند الله بلفظه ومعناه

لقد علم الناس أجمعون علمًا لا يخالطه شك أنَّ هذا الكتاب العزيز جاء على لسان رجل عربي أُمِّيٍ ولد بمكة في القرن السادس الميلادي، اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله .. هذا القدر لا خلاف فيه بين مؤمنٍ وملحد؛ لأنَّ شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها ولا يدانيها شهادته لكتاب غيره، ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض.

أما بعد، فمن أين جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ أمن عند نفسه ومن وحي ضميره، أم من عند معلم؟ ومن هو ذلك المعلم؟

[تعريف القرآن بنفسه، وبالمتكلم به]

نقرأ في هذا الكتاب ذاته أنه ليس من عملِ صاحبه، وإنما هو قول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاعٍ ثمَّ أمين: ذلكم هو جبريل عليه السلام تلقَّاه من لدن حكيم عليم، ثم نزله بلسان عربي مبين على قلب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتلقنه محمد منه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه نصًّا من النصوص، ولم يكن له فيه من عمل بعد ذلك إلا:

(1)

الوعي والحفظ.

ثم (2) الحكاية والتبليغ.

ثم (3) البيان والتفسير.

ثم (4) التطبيق والتنفيذ.

ص: 121

أمَّا ابتكار معانيه وصياغة مبانيه فما هو منهما بسبيل، وليس له من أمرهما شيء، إن هو إلا وحي يوحى.

وهكذا سماه القرآن حيث يقول: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203]، ويقول:{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، وأمثال هذه النصوص كثيرة في شأن إيحاء المعاني.

ثم يقول في شأن الإيحاء اللفظي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]، {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16]، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3]، (واتل - سورة الكهف)، (ورتل - سورة المزمل)

(1)

، فانظر كيف عبَّر بالقراءة والإقراء، والتلاوة والترتيل، وتحريك اللسان، وكون الكلام عربيًّا، وكل أولئك من عوارض الألفاظ لا المعاني البحتة.

[تصريح القرآن بأنه لا صنعة فيه لمحمد ولا لغيره من الخلق]

القرآن إذًا صريح في أنه (لا صنعة فيه لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ولا لأحدٍ من الخلق، وإنما هو منزَّل من عند الله بلفظِه ومعناه).

والعجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الاستدلال على الشطر الأول من هذه المسألة، وهو أنه ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم.

[إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بأن القرآن ليس من عنده من أقوى الأدلة على أن القرآن كلام الله]

في الحق أن هذه القضية لو وَجَدَت قاضيًا يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل، ذلك أنها ليست من جنس (الدعاوى) فتحتاج إلى بينة، وإنما هي من نوع (الإقرار) الذي يؤخذ به صاحبه ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه.

(1)

يعني قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)} [الكهف: 27]، وقوله تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4].

وقد وقع في نسخة دار القلم الآية الأولى من سورة الكهف، ولا دليل فيها على مراد الشيخ رحمه الله. (عمرو)

ص: 122

أيُّ مصلحة للعاقل الذي يدَّعي لنفسه حق الزعامة ويتحدَّى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، نقول: أيُّ مصلحة له في أن ينسب بضاعته لغيره، وينسلخ منها انسلاخًا؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة وفخامة شأن، ولو انتحلها لما وجد من البشر أحدًا يعارضه ويزعمها لنفسه.

الذي نعرفه أن كثيرًا من الأدباء يسطون على آثار غيرهم فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حملُه وغلت قيمتُه وأمنت تهمتُه، حتى أن منهم من ينبش قبور الموتى ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينة من تلك الأثواب المستعارة، أمَّا أن أحدًا ينسب لغيره أنفس آثار عقله وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد.

ولو أنَّنا افترضناه افتراضًا لما عرفنا له تعليلًا معقولًا ولا شبه معقول، اللهم إلا شيئًا واحدًا قد يحيك في صدر الجاهل، وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن في (نسبته القرآن إلى الوحي الإلهي) ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعتِه عليهم ونفاذ أمره فيهم؛ لأن تلك النسبة تجعل لقوله من الحرمة والتعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه.

وهذا قياس فاسد في ذاته، فاسد في أساسه.

[الفساد الذاتي للافتراض السابق]

أمَّا إنه فاسد في ذاته؛ فلأن صاحب هذا القرآن قد صدَرَ عنه الكلام المنسوب إلى نفسِه والكلام المنسوب إلى الله تعالى؛ فلم تكن نسبته ما نسبه إلى نفسه بناقصة من لزوم طاعته شيئًا، ولا نسبة ما نسبه إلى ربه بزائدة فيها شيئًا، بل استوجب على الناس طاعته فيهما على السواء، فكانت حرمتهما في النفوس على سواء، وكانت طاعته من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله، فهلَّا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوَهِمُ.

[معرفة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم دليل على صدقه في قوله: القرآن كلام الله] وأمَّا فساد هذا القياس من أساسه؛ فلأنَّه مبني على افتراض باطل، وهو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب والتمويه، وذلك أمرٌ يأباه علينا

ص: 123

الواقع التاريخي كلَّ الإباء، فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته .. لا يشكُّ في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة والمواربة، وأن سرَّه وعلانيته كانا سواءً في دقة الصدق وصرامة الحق في جليل الشؤون وحقيرها، وأن ذلك كان أخصَّ شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها، كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه

(1)

إلى يومنا هذا {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] وما بعدها.

وكأني بك ها هنا تحب أن أقدم لك من سيرته المطهرة مثلًا واضحَ الدلالة على مبلغ صدقه وأمانته في دعوى الوحي الذي نحن بصدده، وأنه لم يكن ليأتي بشيء من القرآن من تلقاء نفسه، فإليك طرفًا من ذلك:

(1)

[حاجة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الوحي، وتأخرِّه، دليلٌ على كون القرآن من عند الله]

لقد كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالًا ومجالًا، ولكَّنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام ولا يجد في شأنها قرآنًا يقرؤه على الناس.

(1)

اقرأ مثلًا ما كتبه (توماس كارليل) الإنجليزي في كتاب الأبطال، وما كتبه الكونت هنري دي كاستري الفرنسي في خواطره وسوانحه عن الإسلام، ثم اقرأ شهادة قريش التي سجلها أبو سفيان وهو في الجاهلية بين يدي هرقل عظيم الروم لما سألهم هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.

وسألهم: هل يغدر؟ قال: لا *.

* هذا الحديث أخرجه البخاري: (4553)، ومسلم:(1773) عن ابن عباس، وفيه: أن هرقل قال لأبي سفيان: «فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت [أبو سفيان]: لا» ، ثم قال له: وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله».

ص: 124

[حادثة الإفك]

ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضي الله عنها وأبطأَ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس:«إني لا أعلم عنها إلا خيرًا»

(1)

، ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله والكل يقولون: ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر:«يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله»

(2)

.

هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصدِّيق المتثبت الذي لا يتبع الظن ولا يقول ما ليس له به علم، على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنًا براءتها، ومصدرًا الحكم المبرم بشرفها وطهارتها، الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما.

فماذا كان يمنعه - لو أن أمر القرآن إليه - أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضَه، ويذب بها عن عرينه، وينسبها إلى الوحي السماوي لتنقطع ألسنة المتخرصين؟

ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44] وما بعدها.

(2)

[دلالة آيات العتاب على مصدرية القرآن] وأخرى كان يجيئه القولُ فيها على غير ما يحبه ويهواه، فيخطِّئه في الرأي يراه، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه، فإذا تلبث فيه يسيرًا تلقاه القرآن بالتعنيف

(1)

رواه البخاري: (2661)، ومسلم:(2770)، ولفظه:«فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرًا» .

(2)

رواه البخاري: (2661)، ومسلم:(2770).

ص: 125

الشديد، والعتاب القاسي، والنقد المر، حتى في أقل الأشياء خطرًا:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67 - 68]، {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 5] وما بعدها.

أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وُجدانه، معبِّرة عن ندمه ووخز ضميره حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه، أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع؟! ألم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه، واستبقاء لحرمة آرائه؟! بلى، إنَّ هذا القرآن لو كان يفيض عن وجدانه لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئًا من ذلك الوجدان، ولو كان كاتمًا شيئًا لكتم أمثال هذه الآيات، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24].

وتأمَّل آية الأنفال المذكورة، تجد فيها ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد بدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطييب النفوس بها، بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها، فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام - لو كان عن النفس مصدره - يمكن أن يصدر عنها آخره، ولمَّا تمضِ بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟ كلَّا، وإن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضرابًا عن الأول ماحيًا له، ولرجع آخر الفكر وفقًا لما جرى به العمل، فأيُّ داع دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو وتسجيله، على ما فيه من تقريع علني بغير حق، وتنغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها

ص: 126

حلالًا طيبة؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أنَّ - ها هنا - ألبتة شخصيتين منفصلتين، وأن هذا صوت سيد يقول لعبده:(لقد أسأتَ، ولكني عفوت عنك وأذنت لك).

وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي وقع العتاب عليها لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه عليه السلام كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إثمًا اختار أقربهما إلى رحمة أهله، وهداية قومه، وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله، لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحًا، أو جاوزه خطأً ونسيانًا، بل كل ذنبه أنه مجتهدٌ بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير، هبه مجتهدًا أخطأ باختيار خلاف الأفضل .. أليس معذورًا ومأجورًا؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية

(1)

، وإنما نبَّهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية.

هل ترى في ذلك ذنبًا يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟! أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟!

توفي عبد الله بن أُبَيّ كبيرُ المنافقين؛ فكفَّنه النبي في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر رضي الله عنه: أتصلي عليه وقد نهاك ربُّك؟ فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السبعين) وصلى عليه، فأنزل الله تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 80 - 84]، فترك الصلاة عليهم - اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين وانظر ماذا ترى؟

(2)

-

(1)

وما كان اختيار عمر رضي الله عنه في مسألة الأسرى ونحوها إلا مظهرًا من مظاهر الشدة التي كانت أغلب على طبعه.

وإن كادت هذه الشدة لتفتنه عن أمر الله يوم الحديبية كما سيجيء، فكانت موافقته للوحي في تلك المسائل مصادفة للحكم من غير مقدماته الحقيقية التي انفرد بها علام الغيوب.

(2)

رواه البخاري: (4670)، ومسلم:(2400)، ولفظه: عن ابن عمر، قال:«لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيَه قميصه أن يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه؟ فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما خيرني الله فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على سبعين» ، قال: إنَّه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]».

ص: 127

إنها لتمثِّل لك نفس هذا العبد الخاضع وقد اتخذ من القرآن دستورًا يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر

(1)

النص الأول تخييرًا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.

وهكذا كلما درست مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن في هذه المواطن أو غيرها تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن، معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض، بل تصدع بالبيان فرقانًا بين الحق والباطل، وميزانًا للخبيث والطيب، أحبَّ الناسُ أم كرهوا، رضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا؛ إذ لا تزيدها طاعة الطائعين، ولا تنقصها معصية العاصين، فترى بين المقامين ما بينهما، وشتان ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود.

(3)

[توقُّفُ الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان القرآن، ودلالتُه على المصدرية]

ولقد كان يجيئه الأمر أحيانًا بالقول المجمل أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد.

قل لي بربك: أي عاقل توحي إليه نفسه كلامًا لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرًا لا يعقل هو حكمته؟ أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمورٌ لا آمر؟

(1)

نقول: ظاهر النص؛ لأنَّ العطف بأو يحتمل أن يكون التسوية لا التخيير، كما أن صيغة العدد تحتمل أن تكون المبالغة لا التحديد، وكلاهما احتمال قوي، إلا أن معنى التخيير والتحديد آت على أصل الوضع، وعلى مقتضى كرم الطبع، فلم يعدل عنه الرسول الكريم إلا بنص آخر.

ص: 128

نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، فأزعجت الآية الصحابة إزعاجًا شديدًا، وداخلَ قلوبُهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنَّهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها - فقالوا: يا رسول الله، أُنزِلت علينا هذه الآية ولا نطيقها - فقال لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير»

(1)

فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، إلى آخر السورة المذكورة، وهنالك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب، وهو ما كان من النيَّات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار.

الحديث في مسلم وغيره، وأشار إليه البخاري في التفسير مختصرًا

(2)

.

(1)

رواه مسلم: (125)، ولفظه: عن أبي هريرة قال: «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب، فقالوا: أيْ رسولَ الله، كُلفنا من الأعمال ما نُطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزِلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأَها القوم، ذَلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، (قال: نعم)، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، (قال: نعم)، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، (قال: نعم)، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] (قال: نعم)» .

(2)

البخاري: (4545)، (4546).

ص: 129

وموضع الشاهد منه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم ولأزال اشتباههم من فوره؛ لأنَّه لم يكن ليكتم عنهم هذا العلم وهم في أشد الحاجة إليه، ولم يكن ليتركهم في هذا الهلع الذي كاد يخلع قلوبهم وهو بهم رءوف رحيم، ولكنَّه كان مثلهم ينتظر تأويلها.

ولأمر مَا أخر الله عنهم هذا البيان، ولأمر مَا وضع حرف التراخي في قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]

(1)

.

[صلح الحديبية، ودلالته على المصدرية]

واقرأ في صحيح البخاري وسنن أبي داود

(2)

وغيرهما قضية الحديبية، ففيها آية بينة: أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وما بعدها، فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام - وهو العام السادس من الهجرة - أخذوا أسلحتهم حذرًا أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع.

ولما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشًا قد جمعت جموعها على مقربة منهم فلم يثن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة

(3)

، بل زادهم ذاك استبسالًا وصمموا على المضي إلى البيت، فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه، وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، أي:(حرنت الناقة)، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما خلأت

(1)

المقصود بحرف التراخي هنا: (ثمَّ)، فإنه حرف يدل على التراخي، بخلاف الواو مثلًا، فإنه يدل على مطلق الجمع، والفاء يدل على التعقيب والسرعة. (عمرو)

(2)

وهو حديث عظيم أخرجه البخاري: (2731)، وأبي داود:(2765)، فانظره هناك. (عمرو)

(3)

«الأُهْبَة: العُدَّة، وجمعُها أُهَب، وَقد تأهَّب الرجلُ، إِذا أَخذ أُهْبَتَه» ، تهذيب اللغة (6/ 245). (عمرو)

ص: 130

القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»

(1)

.

يعني: أن الله الذي اعتقل الفيل، ومنع أصحابه من دخول مكة محاربين، هو الذي اعتقل هذه الناقة، ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة، وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولامكافئين.

وزَجَر الناقةَ فثارت إلى ناحية أخرى فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير؛ امتثالًا لهذه الإشارة الإلهية التي لا يعلم حكمتها، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلًا:«والذي نفسي بيده لا يسألوني خطَّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ، ولكن قريشًا أبت أن يدخلها في هذا العام لا محاربًا ولا مسالمًا، وأملت عليه شروطًا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يردَّ كل رجل يجيئه من مكة مسلمًا، وألا ترد هي أحدًا يجيئها من المدينة تاركًا لدينه، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا، فلا تسل عما كان لهذا الصلح من الوقع السيئ في نفوس المسلمين، حتى إنَّهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضًا ذهولًا وغمًّا، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة، فأخذوا يتساءلون فيما بينهم، ويراجعونه هو نفسه قائلين: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ وهكذا كاد الجيش يتمرد على أمر قائده ويفلت حبله من يده، أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أو وقف على أسرارها أن يبين لكبار أصحابه حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه عمر:«إني رسول الله، ولستُ أعصيه، وهو ناصري» .

يقول: إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن أنفذ أمر مولاي واثقًا بنصره قريبًا أو بعيدًا، وهكذا ساروا راجعين وهم لا يدرون تأويل هذا

(1)

رواه البخاري: (2731).

ص: 131

الإشكال حتى نزلت سورة الفتح فبينت لهم الحكم الباهرة والبشارات الصادقة، فإذا الذي ظنوه ضيمًا وإجحافًا في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر

(1)

، وأين تدبير البشر من تدبير القدر؛ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 24] وما بعدها.

(4)

[حالته صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي، ودلالتها على مصدرية القرآن]

ولقد كان صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلًا فيحرك به لسانه وشفتيه؛ طلبًا لحفظه، وخشية ضياعه من صدره.

ص: 132

ولم يكن ذلك معروفًا من عادته في تحضير كلامه، لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، إنما كانوا يزوِّرون كلامهم في أنفسهم، فلو كان القرآن منبجسًا من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم، ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته من إنضاج الرأي وتمحيص الفكرة، ولكنه كان يرى نفسه أمام تعليم يفاجئه وقتيًّا ويلم به سريعًا، بحيث لا تجدي الروية شيئًا في اجتلابه لو طلب، ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء، وكان عليه أن يعيد كل ما يلقى إليه حرفيًّا، فكان لا بد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه أن يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية، حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] الآيات من سورة القيامة، وقوله:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

* * * * *

[سيرته صلى الله عليه وسلم العامة، ودلالتها على أن القرآن من عند الله]

هذا طرف من سيرته بإزاء القرآن، وكلها شواهد ناطقة بصدقه في أن القرآن لم يصدر عنه، بل ورد إليه، وأنه لم يفض عن قلبه، بل أفيض عليه، فإذا أنت صعدت بنظرك إلى سيرته العامة لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الأخلاق العظيمة.

وحسبك الآن منها أمثلة يسيرة إذا ما تأملتها صورت لك إنسانًا الطهر ملء ثيابه، والجدُّ حشو إهابه، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه أن يصغي إلى غلو المادحين له، تواضعٌ هو حلية العظماء، وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء، فأنى من مثله الختل

(1)

أو التزوير، أو الغرور أو التغرير؟ حاش لله!

ص: 133

(1)

[تبرؤه من علم الغيب]

جلست جويريات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية، وجعلن يذكرن آباءهن من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين»

(1)

، ومصداقه في كتاب الله تعالى:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50]، {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: 188].

(2)

[ظاهره كباطنه، لا يخون أبدًا]

وكان عبد الله بن أبي السَّرح أحد النفر الذين استثناهم النبي من الأمان يوم الفتح لفرط إيذائهم للمسلمين وصدِّهم عن الإسلام، فلما جاء إلى النبي لم يبايعه إلا بعد أن شفع له عثمان رضي الله عنه ثلاثًا، ثم أقبل على أصحابه فقال:«أما كان فيكم رجلٌ رشيدٌ يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله» ؟ فقالوا: ما ندري ما في نفسك. ألا أومأت إلينا بعينك! فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين»

(2)

.

(1)

رواه البخاري: (4001)، ولفظه: عن الربيع بنت معوذ، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم غداة بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف، يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولي هكذا وقولي ما كنت تقولين» .

(2)

رواه أبو داود: (4359)، ولفظه: عن مصعب بن سعد، عن سعد، قال: لما كان يوم فتح مكة، اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال:«أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففتُ يدي عن بيعته، فيقتله؟» فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال:«إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين» .

ص: 134

(3)

وجيء بصبيٍّ من الأنصار يصلي عليه، فقالت عائشة رضي الله عنها: طوبى لهذا، لم يعمل شرًّا. فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم» ، رواه مسلم وأصحاب السنن

(1)

.

(4)

ولما تُوفِّيَ عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت أم العلاء - امرأة من الأنصار -: (رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله)، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم:(وما يدريكِ أنَّ الله أكرمه)؟! فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ قال:(أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي)، قالت:(فو الله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا). رواه البخاري والإمام أحمد

(2)

، ومصداقه في كتاب الله تعالى:

(1)

قال العلماء: (إن هذا التوقف كان قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة)، * والحديث أخرجه مسلم:(2662)، وأبي داود:(4713)، ولفظه عند مسلم: عن عائشة أم المؤمنين، قالت: دُعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، قال:«أو غير ذلك، يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» .

(2)

رواه البخاري: (1241)، (2687)، وأحمد:(27457)، ولفظ البخاري: أن أمَّ العلاء، امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون، فأنزلناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وما يدريكِ أن الله قد أكرمه؟» فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال:«أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي» قالت: (فو الله لا أزكي أحدا بعده أبدًا).

ص: 135

{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]

(1)

.

أتُراه لو كان حين يتحامى الكذب يتحاماه دهاءً وسياسة، خشية أن يكشف الغيب قريبًا أو بعيدًا عن خلاف ما يقول، ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت وهو لا يخشى من يراجعه فيه، ولا يهاب حكم التاريخ عليه؟ بل منعه الخلق العظيم، وتقدير المسئولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ وأهله {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6] وما بعدها.

[دلالة المجموع أقوى من دلالة الحادثة الواحدة]

واعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين، وأرخيت لها عنان الشكِّ، وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الو احدة والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة، فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك إلا بعد أن تتهم وجدانك وتشك في سلامة عقلك.

فنحن قد نرى الناس يدرسون حياة الشعراء في أشعارِهم فيأخذون عن الشاعر من كلامه صورة كاملة تتمثَّل فيها عقائده وعوائده وأخلاقه ومجرى تفكيره وأسلوب معيشته، ولا يمنعهم زخرفَ الشعر وطلاؤه عن استنباط خيلته، وكشف رغوته عن صريحه؛ ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حُجُب الكتمان فتقرأ بين السطور وتعرف في لحن القول، والإنسان مهما أمعن في تصنعه ومداهنته لا يخلو من فلتات في قوله وفعله تنم على طبعه إذا أحفظ أو أخرج أو احتاج أو ظفر أو خلا بمن يطمئن إليه.

ومَهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ

وإن خالها تخفَى على النَّاس تُعلَمِ

فما ظنُّك بهذه الحياة النبوية التي تعطيك في كل حلقة من حلقاتها مرآة

(1)

قال العلماء: وكان هذا قبل أن يوحى إليه صدر سورة الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].

ص: 136

صافية لنفس صاحبها؛ فتريك باطنه من ظاهره، وتريك الصدق والإخلاص ماثلًا في كل قول من أقواله وكل فعل من أفعاله.

بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته وحسنت فراسته يرى أخلاقه العالية تلوح في محياه ولو لم يتكلم أو يعمل، ومن هنا كان كثير ممن شرح الله صدورهم للإسلام لا يسألونَ رسول الله على ما قالَ برهانًا، فمنهم العشير

(1)

الذي عرفه بعظمة سيرته؛ ومنهم الغريبُ الذي عرفه بسيماه في وجهه.

قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم! «فجئت في النَّاس لأنظرَ إليه، فلما استثبت وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عرفت أنَّ وجهه ليس بوجه كذَّاب» ، رواه الترمذي بسند صحيح

(2)

.

والآنَ، وقد وفيَّنا لك الوعد بعرض هذه النماذج من السيرة النبوية، نعود إلى تقرير ما قصدناه من هذا العرض فنقول: إن صاحب هذا الخلق العظيم وصاحب تلك المواقف المتواضعة بإزاء القرآن، ما كان ينبغي لأحدٍ أن يمتري في صدقه حينما أعلن عن نفسه أنه ليس هو واضع ذلك الكتاب، وأن منزلته منه منزلة المتعلم المستفيد، بل كانَ يجب أن نسجل من هذا الاعتراف البريء دليلًا آخر على صراحته وتواضعه.

[هل يمكن أن يكون القرآن إيحاءً ذاتيًّا من نفس محمد؟]

على أنَّ الأمر أمامنا أوضح من أن يحتاج إلى سماع هذا الاعتراف القولي منه صلى الله عليه وسلم، أو يتوقف على دراسة تلك الناحية الخلقية من تاريخه.

أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من طبيعته شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟

(1)

أي: المعاشر له، الملازم، العارف بخصائصه وشمائله. (عمرو)

(2)

رواه الترمذي: (2485)، وقال حسن صحيح، ولفظه: عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت في الناس لأنظرَ إليه، فلما استَبنتُ وجهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذَّاب وكان أول شيء تكلم به أن قال:«يا أيها الناس، أفشُوا السلام، وأطعموا الطَّعام، وصلُّوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام» .

ص: 137

فلينظر العاقل: هل كان هذا النبيُّ الأميُّ - صلوات الله عليه - أهلًا بمقتضى وسائله العلمية لأن تجيش نفسُه بتلك المعاني القرآنية؟

سيقول الجهلاء من الملحدين: نعم؛ فقد كان له من ذكائه الفطريِّ وبصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق والباطل من الآراء، والحسن والقبيح من الأخلاق، والخير والشر من الأفعال، حتى لو أنَّ شيئًا في السماء تناله الفراسة أو تلهمه الفطرة أو توحي به الفكرة لتناوله محمد بفطرته السليمة، وعقله الكامل وتأمُّلاته الصادقة.

[المعاني النقلية في القرآن لا تستنبط بالعقل، ولا تدرك بالوجدان]

ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفُوا من شمائله، ولكننا نسأل: هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور؟ اللهم كلَّا، ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة التي لا مجال فيه للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعلم.

ماذا يقولون فيما قصه علينا القرآن من أنباء ما قد سبق، وما فصله من تلك الأنباء على وجهه الصحيح كما وقع؟ أيقولون: إن التاريخ يمكن وضعه أيضًا بإعمال الفكر ودقة الفراسة؟ أم يخرجون إلى المكابرة العظمى فيقولون: إن محمدًا قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها قرنًا، فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان، أو أنه ورث كتب الأولين وعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين في علم دقائقها؟! إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا ولا ذاك؛ لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه عليه السلام لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102]، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: 44] وما بعدها، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]، {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49]، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].

ص: 138

[الأخبار الغيبية في القرآن، ودلالتها على أن القرآن من الله]

لا نقول: إن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين؛ فإن هذه النتف اليسيرة قلَّما تعزب عن أحد من أهل البدو أو الحضر؛ لأنَّها مما توارثته الأجيال وسارت به الأمثال، وإنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة والكنوز المدفونة في بطون الكتب، فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين، ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدارسين، وإنك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محررًا في القرآن.

حتى الأرقام .. طبق الأرقام: فترى مثلًا في قصة نوح عليه السلام في القرآن أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة.

وترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية، وفي القرآن أنهم لبثوا في كهفهم {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25]، وهذه السنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية، قاله الزجاج، يعني:«بتكميل الكسر»

(1)

.

فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمَّة أمِّية لا تكتب ولا تحسب.

كفاك بالعلم في الأميِّ معجزةَ

في الجاهليَّة والتأديب في اليتمِ

نعم؛ إنها لعجيبة حقًّا: رجلٌ أمي بين أظهر قوم أميين، يحضر مشاهدهم - في غير الباطل والفجور - ويعيش معيشتهم مشغولًا برزق نفسه وزوجه وأولاده، راعيًا بالأجر، أو تاجرًا بالأجر، لا صلة له بالعلم والعلماء؛ يقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته، وبما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى ما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم

(2)

.

(1)

انظر: تفسير ابن كثير: (5/ 150). (عمرو)

(2)

القماطر: ما تصان به الكتب. (عمرو)

ص: 139

أفي مثل هذا يقول الجاهلون: إنه استوحى عقلَه واستلهم ضميره؟ أيُّ منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العلمي نتيجة طبيعية لتلك الحياة الماضية الأمية؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال الطفري سر آخر يُلتمس خارجًا عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة.

وإن ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراب في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلًا لهذه الظاهرة وأقرب فهمًا لهذا السر من ملاحدة هذا العصر، إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء: إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه، بل قالوا: إنه لا بد أن تكون قد أُمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة، فدرس منها ما لم يكن قد درس، وتعلم ما لم يكن يعلم {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام: 105]، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5].

ولقد صدقوا؛ فإنه درَسَها، ولكن على أستاذه الروح الأمين، واكتتبها، ولكن من صحف مكرمة مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].

ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل، وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها.

[للعقل حد في الإدراك]

فأما سائر العلوم القرآنية فقد يقال: إنها من نوع ما يدرك بالعقل، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة أو بالروية، وهذا كلام قد يلوح حقًّا في بادئ الرأي، ولكنه لا يلبث أن ينهار أمام الاختبار.

ذلك أن العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه، وحد محدود تقف عنده ولا تتجاوزه، فكلُّ شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة، ولم يكن مركوزًا في غريزة النفس، إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول، إما بسرعة كما في الحدْس، وإما ببطء كما في الاستدلال والاستنباط والمقايسة.

ص: 140

وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات لا يمكن أن تناله يد العقل بحال، وإنما سبيله الإلهام، أو النقل عمن جاءه ذلك الإلهام.

فهل ما في القرآن من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل والمقدمات في نظر العقل؟

ذلك ما سيأتيك نبؤه بعد حين، ولكننا نعجل لك الآن بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عن إعادتهما بعد:

(أحدهما) قسم العقائد الدينية.

(والثاني) قسم النبوءات الغيبية.

[الغيب، ودلالته على مصدرية القرآن]

فأمَّا أمر الدين فإن غاية ما يجتنيه العقل من ثمرات بحثه المستقل فيه، بعد معاونة الفطر السليمة له، هو أن يعلم أن فوق هذا العالم إلهًا قاهرًا دبره، وأنه لم يخلقه باطلًا، بل وضعه على مقتضى الحكمة والعدالة، فلا بد أن يعيده كرة أخرى؛ لينال كل عامل جزاء عمله؛ إن خيرًا وإن شرًّا.

هذا هو كل ما يناله العقل الكامل من أمر الدين، ولكن القرآن لا يقف في جانبه عند هذه المرحلة، بل نراه يشرح لنا حدود الإيمان مفصلة، ويصف لنا بدء الخلق ونهايته، ويصف الجنة وأنواع نعيمها، والنار وألوان عذابها، كأنهما رأي عين، حتى إنه ليحصي عدة الأبواب، وعدة الملائكة الموكلة بتلك الأبواب، فعلى أي نظرية عقلية بنيت هذه المعلومات الحسابية، وتلك الأوصاف التحديدية؟ إن ذلك ما لا يوحي به العقل ألبتة، بل هو إما باطل فيكون من وحي الخيال والتخمين، وإما حق فلا ينال إلا بالتعليم والتلقين، لكنه الحق الذي شهدت به الكتب واستيقنه أهلها {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]، {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69]، {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37].

ص: 141

[المستقبل، ودلالته على مصدرية القرآن]

وأما النبوءات الغيبية فهل تعرف كيف يحكم فيها ذو العقل الكامل؟ إنه يتخذ من تجاربه الماضية مصباحًا يكشف على ضوئه بضع خطوات من مجرى الحوادث المقبلة، جاعلًا الشاهد من هذه مقياسًا للغائب من تلك، ثم يصدر فيها حكمه محاطًا بكل تحفظ وحذر، قائلًا:(ذلك ما تقضي به طبيعة الحوادث لو سارت الأمور على طبيعتها ولم يقع ما ليس في الحسبان).

أمَّا أن يبتَّ الحكم بتًّا ويحدده تحديدًا حتى فيما لا تدل عليه مقدمة من المقدمات العلمية، ولا تلوح منه أمارة من الأمارات الظنية العادية، فذلك ما لا يفعله إلا أحد رجلين: إما رجل مجازف لا يبالي أن يقول الناس فيه: صَدَقَ أو كَذَبَ، وذلك هو دأب جهلاء المتنبئين من العرافين والمنجمين، وإما رجل اتخذ عند الله عهدًا فلن يخلف الله عهده، وتلك هي سنة الأنبياء والمرسلين، ولا ثالث لهما إلا رجلًا روى أخباره عن واحد منهما.

فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخبر الجازم بما سيقع بعد عام وما سيقع في أعوام، وما سيكون أبد الدهر، وما لن يكون أبد الدهر؟ ذلك وهو لم يتعاطَ علم المعرفة والتنجيم، ولا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى والتقحم، ولا كانت أخباره كأخبارهم خليطًا من الصدق والكذب، والصواب والخطأ، بل كان مع براءته من علم الغيب وقعوده عن طلبه وتكلفه، يجيئه عفوًا ما تعجز صروف الدهر وتقلباته في الأحقاب المتطاولة أن تنقض حرفًا واحدًا مما ينبئ به {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42] وما بعدها.

[أمثلة من إخبار القرآن بالمستقبل]

ولنسرد لك ها هنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملابساتها التاريخية؛ لترى هل كانت مقدماتها القريبة أو البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحي به الفراسة والألمعية؟ وسنحصر الكلام في ثلاثة أنواع:

1 -

ما يتعلق بمستقبل الإسلام في نفسه، أو في شخص كتابه ورسوله.

2 -

ما يتصل بمستقبل المؤمنين.

ص: 142

3 -

ما يتصل بمستقبل الحِزبَين: حزبِ الله، وحزبِ الشيطان

(1)

.

[ما يتعلق بمستقبل الإسلام]

(مثال النوع الأول) ما جاء في بيان أن هذا الدين قد كتب الله له البقاء والخلود، وأن هذا القرآن قد ضمن الله حفظه وصيانته {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24 - 25]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، أتعلم متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟

إنها آيات مكية من سور مكية، وأنت قد تعرف ما أمر الدعوة المحمدية في مكة، عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآنه، وصدٌّ لغيرهم عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شعب من شعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه.

فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشرة أعوام، شعاعًا ولو ضئيلًا من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم؟ ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربو في نفسه الأمل حتى يصير حكمًا قاطعًا؟ وهبه امتلأ رجاءً بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقينُ في ذلك وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين؟ فكم من مصلحٍ صرخ بصيحات الإصلاح فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح، وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها، وكم من نبيٍّ قتل، وكم من كتاب فُقد أو انتُقص أو بُدل.

(1)

سقط بعض هذه الجملة، وحصل فيها تغيير في نسخة (دار القلم). (عمرو)

ص: 143

وهل كان محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبيًّا يوحى إليه {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86]، ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظًا لديه {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [الإسراء: 86] وما بعدها.

فلابد إذًا من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه، ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علمًا بمجراها ومرساها.

فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن.

سل التاريخ: كم مرَّة تنكر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أممًا منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد، وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كُلًّا أو بعضًا؛ كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعًا راياته، وأعلامه، حافظًا آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية: كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36].

ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول: هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا.

ذلك بأن الله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]، [التوبة: 33]، والله بالغ أمره، ومتم نوره، فظهر وسيبقى ظاهرًا لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله.

ص: 144

[التحدي القرآني، ودلالته على المصدرية]

(ومثال آخر) ما جاء في التحدي بهذا القرآن وتعجيز العالم كله عن الإتيان بمثله {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24].

فانظر هذا النفي المؤكد، بل الحكم المؤبد! هل يستطيع عربي يدري ما يقول أن يصدر هذا الحكم وهو يعلم أن مجال المساجلات بين العرب مفتوح على مصراعيه، وأن الناقد المتأخر متى أعملَ الروية في تعقب قول القائل المتقدم لا يُعييه أن يجد فيه فائتًا ليستدرك؛ أو ناقصًا ليكمل، أو كلامًا ليزداد كمالًا؟ ألم يكن يخشى بهذا التحدي أن يثير حميتهم الأدبية فيهبوا لمنافسته وهم جميع حذرون؟ وماذا عساه يصنع لو أن جماعة من بلغائهم تعاقدوا على أن يضع أحدهم صيغة المعارضة، ثم يتناولها سائرهم بالإصلاح والتهذيب كما كانوا يصنعون في نقد الشعر، فيكمل ثانيهم ما نقصه أولهم، وهكذا، حتى يخرجوا كلامًا إن لم يبزه فلا أقل من أن يساميَه ولو في بعض نواحيه؟ ثم لو طوعت له نفسه أن يصدر هذا الحكم على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة إلى يوم القيامة، بل على الإنس والجن؟ إنَّ هذه مغامرة لا يتقدم إليها رجل يعرف قدر نفسه إلا وهو مالئٌ يديه من تصاريف القضاء، وخبر السماء، وهكذا رماها بين أظهر العالم، فكانت هي القضاء المبرم سُلِّط على العقول والأفواه، فلم يهم بمعارضته إلا باء بالعجز الواضح، والفشل الفاضح، على مر العصور والدهور.

[إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بعصمته من الناس، دليل على مصدرية القرآن]

(ومثال ثالث) تلك الآية التي يضمن الله بها لنبيه حماية شخصه والأمن على حياته حتى يبلِّغَ رسالات ربه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

إن هذا - وأيم الله - ضمان لا يملكه بشر، ولو كان مَلَكًا محجبًا تسير الحفظة من بين يديه ومن خلفه، فكم رأينا ورأى الناس من الملوك والعظماء من اختطفتهم يد الغيلة وهم في مواكبهم تحيط بهم الجنود والأعوان.

ولكن انظر مبلغ ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الوعد الحق: روى الترمذي والحاكم عن عائشة، وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس

ص: 145

بالليل، فلما نزلت هذه الآية ترك الحرس وقال:«يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله»

(1)

.

وحقًّا لقد عصمه الله منهم في مواطن كثيرة كان خطر الموت فيها أقرب إليه من شراك نعله، ولم يكن له فيها عاصم إلا الله وحده.

من ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة، ورواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: (كنَّا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما كنَّا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه

(2)

وقال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أتخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك مني؟ قال: «الله يمنعني منك، ضع السيف» ، فوضعه)

(3)

.

وحسبك أن تعلم أن هذا الأمن كان في الغزوة التي شرعت فيها صلاة الخوف!

ومن أعظم الوقائع تصديقًا لهذا النبأ الحق ذلك الموقف المدهش الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، منفردًا بين الأعداء، وقد انكشف المسلمون وولوا مدبرين، فطفق هو يركض ببغلته إلى جهة العدو، والعباس بن عبد المطلب آخذٌ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع، فأقبل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه

(1)

رواه الترمذي: (3046)، ولفظه: عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال لهم:«(يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله)» .

(2)

اخترط السيف: استله من غمده.

(3)

رواه البخاري: (2910)، ومسلم:(843)، ولفظه: عن جابر بن عبد الله، قال:«غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها قال وتفرَّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلًا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتًا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال قلت: الله، قال: فشام السيف فها هو ذا جالس)، ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

ص: 146

وعلى آله وسلم فلما غشوه لم يفر ولم ينكص، بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه، وجعل يقول:«أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»

(1)

كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فو الله ما نالوا منه نيلًا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده، الحديث رواه الشيخان عن البراء بن عازب، ورواه مسلم عن العباس وسلمة بن الأكوع، ورواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم

(2)

.

وهكذا أمتع الله به أمته فلم يقبضه إليه حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وحتى أنزل عليه قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

(وإليك مثالًا من النوع الثاني)

[ما يتصل بمستقبل المؤمنين]

كان القرآن في مكة يقص على المسلمين من أنباء الرسل ما يثبت فؤادهم، ويعدهم الأمن والنصر الذي كان لمن قبلهم {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171]، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، فلما هاجروا إلى المدينة فرارًا بدينهم من الفتن ظنوا أنهم قد وجدوا مأمنهم في مهاجرهم، ولكنهم ما لبثوا أن هاجمتهم الحروب المسلحة من كل جانب، فانتقلوا من خوف إلى خوف أشد، وأصبحت كل أمنيتهم أن يجيء يوم يضعون فيه أسلحتهم، وفي هذه

(1)

رواه البخاري: (2930)، ومسلم:(1776)، ولفظه: عن أبي إسحاق، قال: جاء رجل إلى البراء، فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول:«أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزل نصرك» ، قال البراء:«كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم» .

(2)

سقط التخريج من طبعة (دار القلم). (عمرو).

ص: 147

الأوقات العصيبة ينبئهم القرآن بما سيكون لهم من الخلافة والملك، علاوة على الأمن والاطمئنان، فما هذا؟ أأحلام وأماني؟ لا، بل وعد مؤكد بالقسم:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55].

روى الحاكم وصححه عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابُه المدينةَ وآوَتْهُمُ الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة. وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا:«أترون أنا نعيش حيث نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت الآية»

(1)

. وروى ابن أبي حاتم عن البراء قال: «نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد»

(2)

.

فانظر كيف جاء تأويلها على أوسع معانيها في عصر الصحابة أنفسهم الذين وقع لهم خطاب المشافهة في قوله: {مِنْكُمْ} فبُدلوا من بعد خوفهم أمنًا لا خوف فيه، واستخلفوا في أقطار الأرض فورثوا مشارقها ومغاربها.

وتأمل قوله في هذه الآية {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقوله في الآية الأخرى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 40] وما بعدها، تجد فيها نبأً آخر عن سر ما يبتلى به المؤمنون أحيانًا من انتقاص أرضهم وتسلط أعدائهم عليهم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].

ص: 148

(مثال آخر) مُنع المسلمون من دخول مكة عام الحديبية، واشترطت عليهم قريش إذا جاءوها في العام المقبل أن يدخلوها عزلًا من كل سلاح إلا السيوف في القُرُب، فهل كان لهم أن يثقوا بوفاء المشركين بعقدهم وقد بلوا منهم نكث العهود وقطع الأرحام وانتهاك شعائر الله؟ أليسوا اليوم يحبسون هديهم أن يبلغ محله؟ فماذا هم صانعون غدًا؟ على أنهم لو صدقوا في تمكين المسلمين من الدخول فكيف يأمن المسلمون جانبهم إذا دخلوا عليهم دارهم مجردين من دروعهم وقوتهم، ألا تكون هذه مكيدة يراد منها استدراجهم إلى الفخ؟ وآية ذلك اشتراط تجردهم من السلاح إلا السيف في القراب، وهو سلاحٌ قد يطمئن به المسلمون إلى أنهم لن ينالوهم بأيديهم ورماحهم، ولكنه لا يأمنون معه أن ينالوهم بسهامهم ونبالهم، في هذه الظروف المريبة يجيئهم الوعد الجازم بالأمور الثلاثة مجتمعة: الدخول، والأمن، وقضاء الشعيرة {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27]، فدخلوها في عمرة القضاء آمنين، ولبثوا فيها ثلاثة أيام حتى أتموا عمرتهم وقضوا مناسكهم .. الحديث أخرجه الشيخان

(1)

.

(ومثالًا ثالثًا): كان المشركون يجادلون المسلمين في مكة قبل الهجرة، يقولون لهم: إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل عليكم، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم؛ فنزلت الآية {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4].

لقد كان الإخبارُ بهذا النصر وبأنه كائن في وقت معين إخبارًا بأمرين كل منهما خارج عن متناول الظنون، ذلك أن دولة الروم كانت قد بلغت من الضعف حدًّا يكفي من دلائله أنها غزيت في عقر دارها وهزمت في بلادها كما قال تعالى:{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} ، فلم يكن أحد يظن أنها تقوم لها بعد ذلك قائمة، فضلًا عن أن يحدد الوقت الذي سيكون لها فيه النصر؛ ولذلك كذب به المشركين

(1)

سبق بتمامه.

ص: 149

وتراهنوا على تكذيبه، على أن القرآن لم يكتف بهذين الوعدين، بل عززهما بثالث، حين يقول:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ} إشارة إلى أن اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس سيقع فيه ها هنا نصر للمسلمين على المشركين، وإذا كان كل واحد من النصرين في حد ذاته مستبعدًا عند الناس أشد الاستبعاد فكيف الظن بوقوعهما مقترنين في يوم؟ لذلك أكده أعظم التأكيد بقوله:{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6].

ولقد صدق الله وعده، فتمَّت للروم الغلبة على الفرس، بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين

(1)

، وكان يومُ نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى، كما رواه الترمذي عن أبي سعيد، ورواه الطبري عن ابن عباس وغيره

(2)

.

[ما يتصل بمستقبل الحِزبَين]

(وهذه أمثلة من النوع الثالث): استعصى أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فانظر ما قاله القرآن في جواب هذا الدعاء:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10] وما بعدها، فماذا جرى؟ أصابهم القحط حتى أكلوا العظام، وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. رواه البخاري عن ابن مسعود.

ثم انظر قوله بعد ذلك: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 15 - 16]

(3)

، تَرَ فيها ثلاث نبوءات أخرى:

(1)

رب قائل يقول: هلا حدَّد القرآن عدد السنين بلفظ أصرح من لفظ البضع المتراوح بين الثلاث والتسع، أليس الله بأعلم بيوم النصر وساعته، بله سنته؟ فنقول: بلى، ولكن الناس في اصطلاحهم الحسابي لا يجرون على طريقة واحدة، فمنهم من يحسب بالشمس، ومنهم من يحسب بالقمر، ومنهم من يكمل الكسور، ومنهم من يلغيها، فكان مقتضى الحكمة التعبير باللفظ الصادق على كل تقدير ليكون أقطع لكل شبهة، وأبعد عن كل جدل ومكابرة، ثم إنه ربما تراخى الأمر بين بشائر النصر ووقائعه الفاصلة فيقع اختلاف الحسابين في تعيين الوقت الذي يضاف إليه النصر والغلبة، ولذا حسن التعبير بلفظ (في بضع) دون أن يقال: بعد بضع.

(2)

رواه الترمذي: (3193)، والطبراني:(21/ 16).

(3)

رواه البخاري: (4821)، ومسلم:(2798)، ولفظه: عن مسروق، قال:(جاء إلى عبد الله رجل فقال: تركت في المسجد رجلًا يفسر القرآن برأيه يفسر هذه الآية: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان، فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله: من علم علمًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم، إنما كان هذا، أن قريشًا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم، «دعا عليهم بسنين كسني يوسف»، فأصابهم قحط وجهد، حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، وحتى أكلوا العظام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله استغفر الله لمضر، فإنهم قد هلكوا، فقال: «لمضر! إنك لجريء» قال: فدعا الله لهم، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]، قال: فمطروا، فلما أصابتهم الرفاهية، قال: عادوا إلى ما كانوا عليه، قال: فأنزل الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10 - 11]، {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] قال: يعني يوم بدر).

ص: 150

كشف البؤس عنهم، ثم عودتهم إلى مكرهم السيئ، ثم الانتقام منهم بعد ذلك، وقد كان ذلك كله كما بينه الحديث الصحيح المذكور، فإنهم لما جاءوا إلى رسول الله يستسقون وتضرعوا إلى الله:{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12]، سقاهم الله فأخصبوا، ولكنهم سرعان ما عادوا إلى عتوهم واستكبارهم، فبطش الله بهم البطشة الكبرى يوم بدر، حيث قُتل من صناديدهم سبعون، وأُسر سبعون.

وقد تكرر في القرآن المكي إنباؤهم بهذا الانتقام على صور شتى

(1)

:

فتارة يأتي مجملًا، كما في قوله:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد: 31]، وقوله:{فتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 174] وما بعدها.

وتارة يعين نوع العذاب بأنه الهزيمة الحربية كما في قوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]

(2)

. وهذا كما ترى من عجيب الأنباء في مكة، حيث لا مجال لأصل فكرة الحرب والتقاء الجموع، فضلًا عن توقع فرارها وهزيمتها، حتى إن عمر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية جعل يقول: أيُّ جمع هذا؟ قال: فلما

(1)

سقطت هذه الجملة بتمامها من طبعة دار القلم. (عمرو)

(2)

ونحوها ما ورد في سورة المزمل وهي من أوائل ما نزل في مكة {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].

ص: 151

كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولها. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وعَجُزُه في الصحيحين

(1)

.

وتارة ينصُّ على حوادث جزئية محددة منه - وهذا أعجب وأغرب - كما في قوله في شأن الرجل الزنيم

(2)

الذي كان يقول في القرآن: إنه أساطير الأولين {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [ن: 16]، فأصيب بالسيف في أنفه يوم بدر. وكان ذلك علامة له يعيَّر بها ما عاش. رواه الطبري وغيره عن ابن عباس.

ونظير هذه الأنباء في كفار قريش ما ورد في كفار اليهود. انظر كيف يقول فيهم: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] وما بعدها، وقد فعل، ثم يقول:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]. ويقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167].

فيا عجبًا لهذه الآيات! هل كانت مؤلفة من حروف وكلمات؟ أم كانت أغلالًا وضعت في أعناقهم إلى الأبد، وأصفادًا شدت بها أيديهم فلا فكاك؟ ألا تراهم منذ صدرت عليهم هذه الأحكام أشتاتًا في كل واد، أذلاء في كل ناد، لم تقم لهم في عصر من العصور دولة، ولم تجمعهم قط بلدة، وهم اليوم على الرغم من تضخم ثروتهم المالية إلى ما يقرب من نصف الثروة العالمية لا يزالون مشردين ممزقين عاجزين عن أن يقيموا لأنفسهم دويلة كأصغر الدويلات، بل تراهم في بلاد الغرب المسيحية يسامون أنواع الخسف والنكال، ثم تكون عاقبتهم الجلاء عنها مطرودين، وبلاد الإسلام التي هي أرحب أرض الله صدرًا، إنما تقبلهم رعية محكومين لا سادة حاكمين.

(1)

روى البخاري: (4875)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهو في قبة يوم بدر: «اللهم إني أنشدُك عهدَك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تُعبد بعد اليوم» فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك، وهو يثب في الدرع، فخرج وهو يقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]».

وانظر: تفسير ابن أبي حاتم: (18713).

(2)

المشهور أنه هو الوليد بن المغيرة المخزومي الذي نزل فيه {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] الآيات من سورة المدثر.

ص: 152

وهل أتاك آخر أنبائهم؟

[حديث الشيخ عن الأرض المقدَّسة]

لقد زينت الآن لهم أحلامهم أن يتَّخذوا من (الأرض المقدسة) وطنًا قوميًّا تأوي إليه جالياتهم من أقطار الأرض، حتى إذا ما تألف منهم هنالك شعب ملتئم الشمل وطال عليهم الأمد فلم يزعجهم أحد، سعوا إلى رفع هذا العار التاريخي عنهم بإعادة ملكهم القديم في تلك البلاد.

وعلى برق هذا الأمل أخذ أفواج منهم يهاجرون إليها زرافاتٍ ووحدانًا، وينزلون بها خفافًا أو ثقالًا .. فهل استطاعوا أن يتقدموا هذه الخطوة الأولى - أو لعلها الأولى والأخيرة - مستندين إلى قوتهم الذاتية؟ كلَّا. ولكن مستندين إلى (حبل من الناس!!) فماذا تقول؟ قل: صدق الله، ومن أصدق من الله حديثًا.

أما ظنهم الذي يظنون وهو أنهم بمزاحمتهم للسكان في أرضهم وديارهم يمهدون لما يحلمون به من مزاحمتهم بعد في ملكهم وسلطانهم، فذلك ما دونه خرط القتاد، يريدون أن يبدلوا كلام الله، ولا مبدل لكلماته {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53]، {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20].

فانظر إلى عجيب شأن النبوءات القرآنية كيف تقتحم حجب المستقبل قريبًا وبعيدًا، وتتحكم في طبيعة الحوادث توقيتًا وتأييدًا، وكيف يكون الدهر مصداقًا لها فيما قل وكثر، وفيما قرب وبعد؟

بل انظر إلى جملة ما في القرآن من النواحي الإخبارية كيف يتناول بها محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما وراء حسه وعقله من أنباء ما كان وما سيكون وما هو كائن، وكيف أنه كلما حدثنا فيها عن الماضي صدقته شواهد التاريخ، وكلما حدثنا عن المستقبل صدقته الليالي والأيام، وكلما حدثنا عن الله وملائكته وشؤون غيبه صدقته الأنبياء والكتب.

ثم اسأل نفسك بعد ذلك (أتريِنَّ هذا الرجل الأمي جاء بهذا الحديث كله من عند نفسه؟) .. تسمع منها جوابَ البديهة الذي لا تردد فيه (إنه لا بد أن يكون قد استقى هذه الأنباء من مصدر علمي وثيق، واعتمد فيها على اطلاع واسع ودرس دقيق، ولا يمكن أن تكون تلك الأنباء كلها وليدة عقله وثمرة ذكائه

ص: 153

وعبقريته) وإلا فأين هذا الذكيُّ أو العبقريُّ الذي أعطاه الدهر عهدًا بأن يكون عاصمًا لظنونه كلها من الخطأ في كشف وقائع الماضي مهما قدم، وأنباء المستقبل مهما بعد؟

إن الأنبياء أنفسهم - وهم في الطبقةِ العليَا من الذكاء والفطنة بشهادة الكافة - لم يظفرُوا من الدهر بهذا العهد في أقرب الحوادث إليهم، فقد كانوا فيما عدا تبليغ الوحي إذا اجتهدوا رأيهم فيما غاب عن مجلسهم أصابت فراستهم حينًا وأخطأت حينًا.

هذا يعقوب عليه السلام نراه يتَّهم بنيه حين جاءوا على قميصه بدم كذب، ثم يعود فيتهمهم حين قالوا له: إن ابنك سرق، فيقول لهم في كل مرة:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18، 83]، وقد أصاب في الأولى، ولكنه في الثانية اتهمهم وهم برآء.

وهذا موسى عليه السلام نراه يقول للعبد الصالح {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]، ثم ينسى فلا يطيق معه صبرًا ولا يطيع له أمرًا.

وهذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان ربَّما هم الناس أن يضللوه في الأحكام، فيدافع عن المجرم ظنًّا أنه برئ، حتى ينبئه العليم الخبير.

فإن كنت في شكٍّ من ذلك فاقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 105 - 113].

وقد صحَّ في سبب نزولها أنَّ لصًّا عدا ذات ليلة على مشربة لرجل من الأنصَار يقال له رفاعة، فنقب مشربته، وسرق ما فيها من طعام وسلاح، فلما أصبح الأنصاري افتقد متاعه حتى أيقن أنه في بيت بني أبيرق، وكان فيهم منافقون، فبعث ابن أخيه إلى النبي يشكو إليه، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم:(سأنظرُ في ذلك)، فلما سمع بذلك بنو أُبيرق جاءوا إلى النبي فقالوا: يا رسول الله، إنَّ قتادةَ بن النعمان وعمه رفاعة عمدا إلى أهل بيت منَّا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت.

ص: 154

فجاء قتادة فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «يا قتادة، عمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة!» فرجع قتادة إلى عمه فأخبره، فقال عمه: الله المستعان. ثم لم تلبث أن نزلت الآية تبين للنبي خيانة بني أُبيرق، وتأمره بالاستغفار مما قال لقتادة. الحديث رواه الترمذي

(1)

، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم

(2)

.

بل اسمع قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نفسه فيما يرويه أحمد وابن ماجه: «إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم: قال الله، فلن أكذب على الله»

(3)

، وقوله: «إنَّما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بحقِّ مسلم فإنما هي قطعة من النَّار، فليأخذها أو ليتركها)، رواه مالك والشيخان وأصحاب السنن

(4)

.

فمن كان هكذا عاجزًا بنفسه عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين في زمنه وفي بلده، وقد رأى أشخاصهما وسمع أقوالهما، هو بلا شكٍّ أشد عجزًا عن إدراك ما فات، وما هو آت.

تلك هي شقة الغيب تنطفئ عندها مصابيح الفراسة والذكاء، فلا يدنو العقل منها إلا وهو حاطب ليل وخابط عشواء: إن أصابَ الحق مرة أخطأه مرات، وإن

(1)

رواه الترمذي، عن قتادة بن النعمان:(3036).

(2)

المستدرك: (4/ 426).

(3)

رواه أحمد: (1395)، ومسلم:(2361)، ولفظه: عن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل، فقال:«ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقِّحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما أظن يغني ذلك شيئًا» قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:«إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل» .

(4)

رواه البخاري: (7181)، ومسلم:(1713)، ولفظه: عن أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال:«إنما أنا بشر، وإنَّه يأتيني الخصم، فلعلَّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسبُ أنَّه صادق، فأقضي له، فمن قضيتُ له بحق مسلم، فإنَّما هي قطعة من النار، فليحملها أو يذرها» .

ص: 155

أصابه مرات أخطأه عشرات، على أن الذي يصادفه من الصواب لا يمكن الوثوق ببقائه معصومًا من التغيير والتبديل، بل عسى أن تذهب به ريح المصادفة كما جاءت به ريح المصادفة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

* * * * *

[هل أُخذ القرآن عن مُعلِّم؟]

لا مناص إذًا للباحث عن مصدر القرآن من توسيع دائرة بحثه، فإذ لم يظفر بمطلبه عند صاحب القرآن في ناحية عقله وفراسته، وجب أن يلتمسه - وأن يظفر به حتمًا - في ناحية تعليمِه ودراستِه؛ لأنَّ المتكلم بكلام مَا لا يعدو أن يكون قائلًا له أو ناقلًا، ولا ثالث لهما.

نعم. إنَّ صاحب هذا القرآن لم يكن ممن يرجع بنفسه إلى كتب العلم ودواوينه، لأنه باعتراف الخصوم كما ولد أميًّا نشأ أميًّا وعاش أميًّا، فما كان يومًا من الأيام يتلو كتابًا في قرطاس ولا يخطه بيمينه، فلا بد له من معلم يكون قد أوقفه على هذه المعاني لا بطريق الكتابة والتدوين، بل بطريق الإملاء والتلقين. هذا هو حكم المنطق.

ستقول: فمن هو ذلكَ المعلم؟

نقول: هذا هو الشطر الثَّاني من مسألة القرآن.

وأنت إذا تأمَّلت فيما سقناه لك من البراهين على الشطر الأول وجدتَّ بجانب كل منها برهانًا آخر على هذا الشطر الثاني، وعرفت من هو ذلك المعلم؟ غير أننا نحب أن نزيدك به معرفة؛ حتى تقول معنا فيه:(ما هذا بشرًا، إن هذا إلا ملكٌ كريمٌ، مبلِّغٌ عن رب العالمين).

* * * * *

[نشأة محمد صلى الله عليه وسلم بين أمة أمية، اشتق لها اسم من الجهل]

أما أن محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن له معلم من قومه الأميين فذلك ما لا شبهة فيه لأحد، ولا نحسب أحدًا في حاجة إلى الاستدلال عليه بأكثر من اسم (الأمِّية) الذي يشهد عليهم بأنهم كانوا خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون من أمر الدين شيئًا، وكذلك اسم (الجاهلية) الذي كان أخصَّ

ص: 156

الألقاب بعصر العرب قبل الإسلام، فهؤلاء الذين فقدوا أساس هذا العلم في أنفسهم حتى اشتُق لهم من الجهل اسم، كيف يحملون وسام التعليم فيه لغيرهم، بله التعليم لمعلمهم الذي وسمهم بالجهل غير مرة في كتابه، وسرد جهالاتهم في غير سورة من هذا الكتاب، حتى قيل: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام

(1)

.

[لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم معلِّم من غير أمَّته]

وأمَّا أنه لم يكن له معلِّم من غيرهم فحسب الباحث فيه أن نحيله على التاريخ وندعه يقلب صفحات القديم منه والحديث، والإسلامي منه والعالمي، ثم نسأله: هل قرأ فيه سطرًا واحدًا؟ يقول: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لقي قبل إعلان نبوته فلانًا من العلماء فجلس إليه يستمع من حديثه عن علوم الدين، ومن قصصه عن الأولين والآخرين.

ليس علينا نحن أن نقيم برهانًا أكبر من هذا التحدي لإثبات أن ذلك لم يكن، وإنما على الذين يزعمون غير ذلك أن يثبتوا أن ذلك قد كان، فإن كان عندهم علم فليخرجوه لنا إن كانوا صادقين.

[اللقاء بالراهب بحيرى، وبورقة بن نوفل لم يكن سرًّا مستورًا]

لا نقول: إنه عليه السلام لم يلق ولم ير بعينه أحدًا من علماء هذا الشأن لا قبل دعوى النبوة ولا بعدها.

فنحن قد نعرف أنه رأى في طفولته راهبًا اسمه بحيرى في سوق بُصرَى بالشام، وأنه لقى في مكة نفسها عالمًا اسمه ورقة بن نوفل، وكان هذا على إثر مجيء الوحي العلني له وقبل إعلان نبوته بثلاثين شهرًا. كما نعرف أنه لقى بعد إعلان نبوته كثيرًا من علماء اليهود والنصارى في المدينة، ولكننا ندعي دعوى محدودة، نقول: إنه لم يتلقَّ عن أحد من هؤلاء العلماء لا قبل ولا بعد، وإنه قبل نبوته لم يسمع منهم شيئًا من هذه الأحاديث ألبتة.

ص: 157

أما الذين لقوه بعد النبوة فقد سمع منهم وسمعوا منه، ولكنهم كانوا له سائلين وعنه آخذين، وكان هو لهم معلمًا وواعظًا ومنذرًا ومبشرًا.

وأما الذين رآهم قبل، فإنَّ أمر لقائه إياهم لم يكن سرًّا مستورًا، بل كان معه في كل مرة شاهد: فكان عمُّه أبو طالب رفيقًا له حين رأى راهب الشام، وكانت زوجه خديجة رفيقة له حين لقي ورقة، فماذا سمعه هذان الرفيقان من علوم الأستاذين؟ هلَّا حدثنا التاريخ بخبر ما جرى؟ وما له لا يحدثنا هذا الحديث العَجَب الذي جمع في تلك اللحظة القصيرة علوم القرآن وتفاصيل أخباره فيما بين بداية العالم ونهايته!! ولماذا لم يتخذ خصومه من هذه الحجة الواضحة سلاحًا قاطعًا لحجته مع شدة سعيهم في هدم دعواه، والتجائهم لأوهن الشبهات في تكذيبه، وقد كان هذا السلاح أقرب إليهم، وكان وحده أمضى في إبطال أمره من كل ما لجأوا إليه من مهاترة ومكابرة.

إن سكوت التاريخ عن ذلك كله حجة كافية على عدم وجوده؛ لأنه ليس من الهنات الهينات التي يتغاضى عنها الناس الواقفون لهذا الأمر بالمرصاد.

[حديث التاريخ عن لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ببحيرى وورقة]

على أن التاريخ لم يسكت، بل نبَّأنا بما كان من أمر الرجلين: فقد حدثنا عن راهب الشام أنه لما رأى هذا الغلام رأى فيه من سيما النبوة الأخيرة وحليتها في الكتب الماضية ما أنطقه بتبشير عمه قائلًا: إن هذا الغلام سيكون له شأن عظيم.

وحدَّثنا عن ورقة أنه لما سمع ما قصه عليه النبي من صفة الوحي وجد فيها من خصائص الناموس الذي نزل على موسى ما جعله يعترف بنبوته ويتمنى أن يعيش حتى يكون من أنصاره.

فمن عرف للتاريخ حرمته وآمن بوقائعه كما هي، كانت هذه الوقائع حجة لنا عليه، ومن لم يستحِ أن يزيد في التاريخ حرفًا من عنده فيقول: إن محمدًا ضم السماع إلى اللقاء فليتقول ما يشاء، وليعلم أنه سوف يُخرج لنا بهذه الزيادة تاريخًا متناقضًا يكذب أوله آخره، وآخره أوله؛ إذ كيف يعقل أن رجلًا رأى علامات النبوة في امرئ فبشره بها قبل وقوعها، أو آمن بها بعد وقوعها، تطاوعه نفسه أن يقف من صاحب هذه النبوة موقف المرشد المعلم! فأين يذهبون؟!

ص: 158

[هل كان في العلماء يومئذ من يصلح أن تكون له على محمد وقرآنه تلك اليد العلمية؟]

على أننا نعود فنسأل: هل كان في العلماء يومئذ من يصلح أن تكون له على محمد وقرآنه تلك اليد العلمية؟

يقول الملحدون أنفسهم: (إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل)، وهذه كلمة حق في حدود معناها الصحيح

(1)

فنحن نأخذهم باعترافهم وندعوهم إلى استجلاء تلك الصورة التي حفظها القرآن في مرآته الناصعة مثالًا واضحًا لعلماء عصره.

فليقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران؛ وما فيهما من المحاورة لعلماء اليهود والنصارى في العقائد والتواريخ والأحكام، أو ليقرؤوا ما شاءوا من السور المدنية أو المكية التي فيها ذكر أهل الكتاب، ولينظروا بأي لسان يتكلم عنهم القرآن، وكيف يصور لنا علومهم بأنها الجهالات، وعقائدهم بأنها الضلالات والخرافات، وأعمالهم بأنها الجرائم والمنكرات.

[تصحيح القرآن لأغلاط أهل الكتاب في عصره، وبيان جهلهم]

فإن أنت أحببت زيادة البيان فإليك نموذجًا من وصفه وتفنيده لأغلاطهم ومغالطاتهم التاريخية: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65] وما بعدها، {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 140]، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96]

(2)

، {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]

(3)

.

وهذا طرف من وصفه وتفنيده لخرافاتهم الدينية {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]

(4)

، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102]

(5)

، {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}

(1)

وهو أنه يمثلها ولا يتمثلها، وإن شئت فقل: إنه يمثلها أصدق تمثيل، ثم يمثِّل بها أنكى تمثيل.

(2)

وهي جواب عن قولهم: قبلتنا قبل قبلتكم.

(3)

وهي رد لدعواهم أن الإبل كانت محرمة على إبراهيم.

(4)

وهي تكذيب لقولهم: إن الله بعد أن خلق الخلق في ستة أيام، استراح في اليوم السابع.

(5)

وهي تبرئة له من زعمهم أنه لم يكن نبيًّا بل كان ساحرًا يركب الريح.

ص: 159

[التوبة: 30]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64].

[حديث القرآن عن علماء الدين في زمنه]

فانظر كيف صور القرآن عقيدة علماء الدين في زمنه، ولا سيما علماء النصارى، فقد كان طابع الشرك في ديانتهم لا يخفى على أحد، حتى إن الأميين فطنوا له فاتخذوا منه عزاءً لهم في شركهم {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 57 - 58]، بل اتخذوا منه حجة على أن التوحيد الذي دعاهم إليه القرآن بدع في الدين لم يُسبق إليه فقالوا:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص: 7]، يعنون ملة النصرانية. وهذه سلسلة أخرى من جرائمهم يسردها القرآن متواصلة الحلقات:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى أن قال: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} إلى أن قال: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 155 - 161].

فهل ترى في هذا كله صورة أساتذة يتلقى عنهم صاحب القرآن علومه؟ أم بالعكس ترى منه معلمًا يصحح لهم أغلاطهم وينعى عليهم سوء حالهم.

لا ننكر أنه كان في أهل الكتاب قليل من العلماء الراسخين، لكنِ الراسخون في العلم منهم آمنوا بالقرآن وبنبي القرآن صلى الله عليه وسلم:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 13]، فلو كانوا له معلمين لآمنوا بأنفسهم بدل أن يؤمنوا به.

ولنعد مرة أخرى فنسأل: هل كان علم العلماء يومئذ مبذولًا لطالبيه مباحًا لسائليه؟ أم كان حرصهم على هذا العلم أشد من حرصهم على حياتهم، وكانوا يضنون به حتى على أبنائهم استبقاءً لرياستهم، أو طمعًا في منصب النبوة الذي كانوا يستشرفون له في ذلك العصر؟

ص: 160

[كان أهل الكتاب أبخل الناس بعلمهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم]

لنستنطق القرآن الذي رضيه الملحدون حكمًا بيننا وبينهم، فإنه يكفينا مؤونة الجواب عن هذا السؤال، وها هو ذا يقول لنا: إنهم كانوا في سبيل الضنِّ بكتبهم وعلومهم لا يتورعون عن منكر، فكانوا تارة {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]، وتارة {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، وتارة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، وتارة يبترون الكتب فيظهرون بعضها ويخفون بعضها {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91]، وتارة يحاجون بمحفوظهم فإذا قيل لهم:{فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، بُهتوا؛ فلم يجيبوا، وربما جاءوا بها فقرؤوا ما قبل الشاهد وما بعده وستروا بكفهم مكان النص المجادل فيه، كما وقع في قصة الرجم.

انظر صحيح البخاري في تفسير الآية الآنفة

(1)

.

فجاء القرآن يرميهم علنًا باللبس والكتمان {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، بل جاء كاشفًا لما ستروه مبينًا لما كتموه حاكمًا فيما اختلفوا فيه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 51]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]، {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 63] وما بعدها.

(1)

انظر: صحيح البخاري: (6/ 37)، وأورد في الباب عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:(أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم: «كيف تفعلون بمن زنى منكم؟» قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال: «لا تجدون في التوراة الرجم؟» فقالوا: لا نجد فيها شيئًا، فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده، وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آيةُ الرجم، فأمر بهما فرجما قريبًا من حيث موضع الجنائز عند المسجد، فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها الحجارة)، (4556).

ص: 161

انظر إلى هذه الآيات من سورتي النحل والنمل المكيتين كيف جعلت من مقاصد القرآن الأساسية بيان ما اختلف فيه أهل الكتاب، بل جعلته أول تلك المقاصد حيث بدأت به، وثنت بالهدى والرحمة للمؤمنين.

[ردُّ القرآن على شبهة وجود معلم للرسول]

ونعود للمرة الثالثة فنقول لمن يزعم أن محمدًا كان يعلِّمه بشر: قل لنا ما اسم هذا المعلم! ومن ذا الذي رآه وسمعه؟ وماذا سمع منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟ فإن كلمة (البشر) تصف لنا هذا العالم الذين يمشون على الأرض مطمئنين؛ ويراهم الناس غادين ورائحين، فلا تسمع دعواها بدون تحديد وتعيين، بل يكون مثل مدعيها كمثل الذين يخلقون لله شركاء لا وجود لهم إلا في الخيال والوهم. فيقال له كما قيل لهم:{قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33].

بل نقول: هل وُلد هذا النبي في المريخ، أو نشأ في مكان قصي عن العالم، فلم يهبط على قومه إلا بعد أن بلغ أشده واستوى، ثم كانوا بعد ذلك لا يرونه إلا لمامًا؟ ألم يولد في حجورهم؟ ألم يكن يمشي بين أظهرهم يصبحهم ويمسيهم؟ ألم يكونوا يرونه بأعينهم في حله ورحيله؟ {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [المؤمنون: 69].

نعم؛ إن قومه قد طوعت لهم أنفسهم أن يقولوا هذه الكلمة: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، ولكن هل تراهم كانوا في هذه الكلمة جادِّين، وكانوا يشيرون بها إلى بشر حقيقي عرفوا له تلك المنزلة العلمية؟ كلا؛ إنهم ما كان يعنيهم أن يكونوا جادِّين محقِّين، وإنما كان كل همهم أن يدرؤوا عن أنفسهم معرِّة السكوت والإفحام، بأي صورة تتفق لهم من صور الكلام: بالصدق أو بالكذب، بالجِدِّ أو باللعب.

وما أدراك من هو ذلك البشر الذي قالوا: إنَّه يعلِّمُه؟

أتحسِب أنهم اجترأوا أن ينسبوا هذا التعليم لواحد منهم؟ كلَّا؛ فقد رأوا أنفسهم أوضح جهلًا من أن يعلموا رجلًا جاءهم بما لم يعرفوا هم ولا آباؤهم.

ص: 162

أم تحسِب أنهم لمَّا وجدوا أرض مكة مقفرة من علماء الدين والتاريخ في عهد البعثة المحمدية عمدوا إلى رجل من أولئك العلماء في المدينة أو في الشام أو غيرهما فنسبوا ذلك التعليم إليه؟ كلا؛ إن ألسنتهم لم تطاوعهم على النطق بهذه الكلمة أيضًا.

فمن ذا، إمَّا لا .. ؟

لقد وجدوا أنفسهم مضطرين أن يلتمسوا شخصًا يتحقق فيه شرطان:

أحدهما: أن يكون من سكان مكة نفسها لتروج عنهم دعوى أنه يلاقيه ويملي عليه بكرة وأصيلًا.

وثانيهما: أن يكون من غير جلدتهم وملتهم ليمكن أن يقال: إن عنده علم ما لم يعلموا.

وقد التمسوا هذه الأوصاف فوجدوها، أتدري أين وجدوها؟ .. في حداد رومي!!

نعم، وجدوا في مكة غلامًا تعرفه الحوانيت والأسواق، ولا تعرفه تلك العلوم في قليل ولا كثير، غير أنه لم يكن أميًّا ولا وثنيًّا مثلهم، بل كان نصرانيًّا يقرأ ويكتب، فكان من أجل ذلك خليقًا في زعمهم أن يكون أستاذًا لمحمد، وبالتالي أستاذًا لعلماء اليهود والنصارى والعالم أجمعين، ولئن سألتهم هل كان ذلك الغلام فارغًا لدراسة الكتب وتمحيص أصيلها من دخيلها، ورد متشابهها إلى محكمها، وهل كان مزودًا في عقله ولسانه بوسائل الفهم والتفهيم .. لعرفت أنه كان حدادًا منهمكًا في مطرقته وسندانه، وأنه كان عامِّي الفؤاد لا يعلم الكتاب إلا أماني، أعجميَّ اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد ولا أحد من قومه، لكن ذلك كله لم يكن ليحول بينه وبين لقب الأستاذية الذي منحوه إياه على رغم أنف الحاسدين!

هكذا ضاقت بهم دائرة الجد فما وسعهم إلا فضاء الهزل، وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل، فكان مَثَلُهم كمثل من يقول: إن العلم يستقى من الجهل، وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء! وكفى بهذا هزيمة

ص: 163

وفضيحة لقائله {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] وما بعدها.

نعم، إنهم رأوا في هذا الأسلوب من حلاوة الفكاهة والملحة ما يُسيغ مرارة الزور والباطل، ورأوا في هذه الصورة الخياليَّة من التهكم والسخرية ما يشفي صدورهم ويجعلهم يتضاحكون بملء أفواههم، ولكنَّهم ما دروا أن في طيِّ هذه السخرية سخرية بهم، وأنهم قد شهدوا فيها على أنفسهم أنهم أجهل الأمم، وأن كل غريب عنهم - ولو كان غلامًا سوقيًّا - أهل لأن يقال عنه: إن عنده من العلم ما ليس عندهم، فيا له من نطق كان العي في موضعه خيرًا لهم وأستر عليهم، ويا له من سلاح أرادوا أن يجرحوا به خصمهم، فجرحوا به أنفسهم من حيث لا يشعرون.

أما الحقُّ الذي كانوا يخاصمونه فقد والله زادوه بهذا الاتهام قوة إلى قوته، ذلك أنهم حين خرجوا يلتمسون واحدًا من البشر يمكن أن ينسب إليه هذا العلم المحمدي لم يستطيعوا أن يفترضوا له مصدرًا تعليميًّا خارج حدود قريته، بل كان آخر جُهد بذلوه من حيلتهم وآخر سهم رموه من كنانتهم أن جاءوا من بين ظهرانيهم بهذا الغلام الذي عرفت خبره. فيا ليت شعري لو كان هذا الغلام أن يكون مرجعًا علميًّا كما أرادوا أن يصفوه، فما الذي منعهم أن يأخذوا عنه كما أخذ صاحبهم؟ وبذلك كانوا يستريحون من عنائه ويداوونه من جنس دائه، بل ما منع ذلك الغلام أن يبدي للعالم صفحته فينال في التاريخ شرف الأستاذية. أو يتولى بنفسه تلك القيادة العالمية؟ ويا ليت شعري لماذا لم ينسبوا تلك العلوم الغريبة عنهم إلى أهلها الموسومين بها من الربانيين والأحبار في المدينة أو من القسيسين والرهبان في الشام، أولئك الذين قضوا أعمارهم في دراستها وتعليمها؟ أليس ذلك - لو كان ممكنًا أو شبيهًا بالممكن - كان هو أحسن تلفيقًا وأجود سبكًا وأدنى إلى الرواج وأبعد عن الإحالة من نسبتها إلى حداد مكة؟ أم ضاقت بهم الأرض فلم يجدوا أحدًا أمثل منه ولا أعلم بالدين والتاريخ؟ تالله لولا أنهم وجدوا باب التعليم الخارجي أمنع سدًّا من سائر الأبواب وأدخل منها في معنى

ص: 164

المكابرة التي لا تروج لما ضيَّقوا على أنفسهم دائرة الاتهام حتى تورطوا في هذا المحال المكشوف وافتضحوا بهذه المقالة الشوهاء.

هؤلاء قوم محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا أحرص الناس على خصومته، وأدرى الناس بأسفاره ورحلاته، وأحصاهم لحركاته وسكناته، قد عجزوا كما ترى أن يعقدوا صلة علمية بينه وبين أهل العلم في عصره، فما للملحدين اليوم وقد مضى نيف وثلاثة عشر قرنًا انفضت فيها سوق الحوادث، وجفت الأقلام، وطُويت الصحف، لا يزالون يبحثون عن تلك الصلة في قمامات التاريخ، وفي الناحية التي أنف قومه أن ينبشوها؟

ألا فليريحوا أنفسهم من عناء البحث، فقد كفتهم قريش مئونته، وليشتغلوا بغير هذه الناحية التي قضى التاريخ والمنطق على كل محاولة فيها بالفشل. فإن أبوا فليعلموا أن كل شبهة تقام في وجه الحق الواضح سيحيلها الحق حجة لنفسه يضمها إلى حججه وبيناته.

نعود رابعًا وأخيرًا فنقول: لو كانت (نسبة هذه العلوم القرآنية إلى تعليم البشر) من الدعاوى التي تعبر عن فكرة أو شبهة قائمة بنفس صاحبها لوقف عندها الطاعنون ولم يجاوزوها؛ ذلك لأن العقل إذا خُلِّي ونفسه في تعليل تلك المفارقة الكلية بين ماضي الحياة المحمدية وحاضرها - أعني ما قبل النبوة وما بعدها - لم يسعه إلا الحكم بأن هذا العلم الجديد وليد تعليم جديد.

وإذ لا عهد للنَّاس بمعلِّمين في الأرض من غير البشر كان أول ما يخطر بالبال أن هنالك إنسانًا تولى هذا التعليم، فلو وجد الطاعن أدنى تكأة من عوامل واقعية أو ممكنة تجعل له شيئًا من الاقتناع بهذا التعليل فيما بينه وبين نفسه لما رضي به بديلًا ولما عدل عنه إلى تعليل آخر أيًّا كان، لكن هؤلاء الطاعنين ما فتئوا منذ نزل القرآن إلى يومنا هذا حائرين في نسب هذا القرآن، لا يدرون أينسبونه إلى تعليم البشر كما سمعنا آنفًا، أم يرجعون به إلى نفس صاحبه كما سمعنا من قبل، أم يجمعون له بين النسبتين فيقولون لصاحبه: إنه (معلم)(مجنون) كما جاء في سورة [الدخان: 14].

ص: 165

[أنواع المجادلات التي حكاها القرآن عن الطاعنين فيه]

ومن تتبع أنواع المجادلات التي حكاها القرآن عن الطاعنين فيه رأى أن نسبتهم القرآن إلى تعليم البشر كانت هي أقل الكلمات دورانًا على ألسنتهم، وأن أكثرها ورودًا في جدلهم هي نسبته إلى نفس

(1)

صاحبه، على اضطرابهم في تحديد تلك الحال النفسية التي صدر عنها القرآن: أشعر هي، أم جنون، أم أضغاث أحلام ..

فانظر: كم قلَّبوا من وجوه الرأي في هذه المسألة؟ حتى إنهم لم يقفوا عند الحدود التي يمكن افتراضها في كلام رصين كالقرآن، وفي عقل رصين كعقل صاحبه، بل ذهبوا إلى أبعد الأحوال النفسية التي يمكن أن يصدر عنها كلام العقلاء والمجانين .. إنَّ ذلك لمن أوضح الأدلة على أنهم لم يكونوا يشيرون

[قضية الوحي النفسي، والردِّ عليها]

(1)

وهذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم (الوحي النفسي) زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا في تفصيله.

فقد صوروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجلًا ذا خيال واسع وإحساس عميق، فهو إذًا شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيرًا على حواسه حتى يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصًا يكلمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته، فهو إذًا الجنون أو أضغاث الأحلام. على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلًا على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة (الوحي النفسي) حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلة، فقالوا: لعله تلقفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة، فهو إذًا قد علمه بشر.

فأي جديد ترى في هذا كله؟ أليس كله حديثًا معادًا يضاهئون به قول جهال قريش؟ وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة منسوخة بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدًّا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور الجاهلية الأولى {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].

وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله أنه كان صادقًا أمينًا، وأنه كان معذورًا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي؛ لأن أحلامه القوية صورتها له وحيًا إلهيًّا، فما شهد إلا بما علم، وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم حيث يقول:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] فإن كان هذا عذره في تصوير رؤاه وسماعه فما عذره في دعواه أنه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا، بينما هو قد سمعها بزعمهم من قبل؟ فليقولوا إذًا: إنه افتراه، ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل، ولكنهم لا يريدون أن يقولوا هذه الكلمة؛ لأنهم يدَّعون الإنصاف والتعقل، ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون.

ص: 166

بهذا الوجه أو ذاك إلى تهمة محققة لها مثار في الخارج أو في اعتقادهم، وإنما أرادوا أن يدلوا بكل الفروض والتقادير مغمضين على ما فيها من محال وناب ونافر، ليثيروا بها غبارًا من الأوهام في عيون المتطلعين إلى ضوء الحقيقة، وليلقوا بها أشواكًا من الشك في طريق السائرين إلى روض اليقين.

ولقد نعلم أنهم كانوا في قرارة أنفسهم غير مطمئنين إلى رأي صالح يرضونه من بين تلك الآراء، وأنهم كانوا كلَّما وضعوا يدهم على رأي منها وأرادوا أن ينسجوا منه للقرآن ثوبًا وجدوه نابيًا عنه في ذوقهم، غير صالح لأن يكون لبوسًا له، فيفزعون من فورهم إلى تجربة رأي ثان، فإذا هو ليس بأمثل قياسًا مما رفضوه، فيعمدون إلى تجربة ثالثة .. وهكذا دواليك ما يستقرون على حال من القلق. فإن شئت أن تطلع على هذه الصورة المضحكة من البلبلة الجدلية فاقرأ وصفها في القرآن:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]، فهذه الجملة القصيرة تمثل لك بما فيها من توالي حروف الإضراب مقدار ما أصابهم من الحيرة والاضطراب في رأيهم، وتريك من خلالها صورة شاهد الزور إذا شعر بحرج موقفه: كيف يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، وكيف تتفرق به السبل في تصحيح ما يحاوله من محال {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48]، [الفرقان: 9].

* * * * *

[ظاهرة الوحي، ودلالتها على المصدرية]

والآن وقد جاوزنا بك هاتين المرحلتين من البحث، وأرينَاك أنَّه لا يوجد للقرآن مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه ولا عند أحد من البشر، وأنَّ كل من حاول أن يجعل هذا القرآن (عملًا إنسانيًّا) أعياهُ أمره، وأقامَ الحجَّة على فشله باضطرابه ولجاجته، وإحالته ومكابرته: فقد وجب علينا أن ننتقل إلى المرحلة الثالثة لنبحث عن ذلك المصدر في أفق خارج عن هذا الأفق الإنساني جملة؛ وألا نقف بالقرآن حيث وقف به الملحدون قديمًا وحديثًا مذبذبين فيه بين هذين الطرفين يأخذون بأحدهما تارة، وبالثاني تارة، وبهما مجتمعين تارة أخرى، متنقلين هكذا من فاسد إلى فاسد، إلى مركب منهما أشد فسادًا من كليهما. كلَّا،

ص: 167

فإن العقل يقضي علينا أن نبطل ما أبطله البرهان غير مكابرين، وأن نتابعه في سيره حتى نصل إلى الحقِّ المبين.

[نظرة للعلوم الطبيعية، وعلاقتها بالغيب]

أما هؤلاء الملحدون فإنهم ما قعد بهم عن متابعة البحث - زعموا - إلا رعايتهم لحرمة السنن الكونية، ومحافظتهم على الأسباب العادية التي يصدر عنها كلام الناس في معقولهم ومنقولهم؛ فقد أبى عليهم وفاؤُهم لهذه العلوم الطبيعية أن يقتحموا حدودها ويخرجوا إلى التماس شيء لا تناله أعينهم، ولم يجربوا مثاله في أنفسهم، وأنت قد عرفت أن هذا الذي ظنوه وفاءً بطبيعة الأشياء قد انقلب بهم إلى ضده؛ إذ خرقوا في سبيله السياج الطبيعي للعقل الإنساني وللواقع التاريخي، فجمعوا المتناقضات وغيروا معالم التاريخ، وأرهقوا طبائع الأشياء فحملوها ما لا تطيق، فأي عاقل يرضى أن يقف موقفًا كهذا ينصر فيه عادته بإهدار عقله!!

بل الحق أن هناك مانعًا آخر يعوقهم عن متابعة السير معنا، ولكنهم يكتمونه عنا: كَبُر في صدورهم أن يعطوا مقادتهم لإنسان جاءهم من فوق رؤوسهم يزعم أنه رسول الله إليهم، فيأمرهم وينهاهم ويستوجب الطاعة عليهم، ثم هو على ذلك يواجههم بالحقائق المرة، فيحول بينهم وبين ماض هم به مستمسكون، وهوى هم له عابدون {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70].

فلنذرهم قاعدين حيث رضوا لأنفسهم القعود، ولنتابع البحث عن هذا الحق راغبين إلى الله في الهدى إليه، وإنا إن شاء الله لمهتدون.

لا تحسبن أننا في هذه المرحلة الثالثة سنضرب في بيداء تيهاء، أو أننا سيترامى بنا السير إلى شقة بعيدة وسفر غير قاصد. كلَّا، فلن نخرج ببحثنا عن دائرة محدودة نراها مظنة للسر الذي نطلبه، وذلك بدراسة الأحوال المباشرة التي كان يظهرُ فيها القرآن على لسان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.

وكلنا نعرف تلك الظاهرة العجيبة التي كانت تبدو على وجهه الكريم في كل مرة حين ينزَّل عليه القرآن، وكان أمرها لا يخفى على أحد ممن ينظر إليه. فكانوا

ص: 168

يرونه قد احمر وجهه فجأة وأخذته البُرَحاء

(1)

حتى يتفصد

(2)

جبينه عرقًا، وثقل جسمه حتى يكاد يرض فخذه فخذ الجالس إلى جانبه وحتى لو كان راكبًا لبركت به راحلته، وكانوا مع ذلك يسمعون عند وجهه أصواتًا مختلطة تشبه دويَّ النحل، ثم لا يلبث أن تُسرَّى عنه تلك الشدة فإذا هو يتلو قرآنًا جديدًا، وذكرًا محدثًا

(3)

.

فمن شاء أن يبحث عن مصدر هذا القرآن، فها هنا أقرب مظانه، ففيها فليحصر الباحثون بحوثهم، ولينشد طلاب الحق ضالتهم، وأين تلتمس الأسباب الصحيحة لأثر ما إن لم تلتمس حيث يظهر ذلك الأثر، وحيث يدور وجوده وعدمه؟

[تحليل ظاهرة الوحي]

فلننظر الآن في هذه الظاهرة: هل كانت شيئًا متكلفًا مصنوعًا وطريقة تحضيرية يستجمع بها الفكر والروية؟ أم كانت أمرًا لا دخل فيه للاختيار؟ وإذا كانت أمرًا غير اختياري فهل كان لها في داخل النفس منشأ من الأسباب الطبيعية العادية، كباعثة النوم، أو من الأسباب الطبيعية الشاذة، كاختلال القوى العصبية؟ أم كانت انفعالًا بسبب خارجي منفصل عن قوى النفس؟

وإنَّ نظرةً واحدة نلقيها على عناصر هذه الظاهرة لتهدينا إلى أنها لا يمكن أن تكون صناعة وتكلفًا، وبخاصَّة لو تأمَّلت تلك الأصوات المختلطة التي كانت

(1)

البرحاء: «الشدَّة والمشقَّةُ، وهو: شدة الكرب من ثقل الوحي» ، تهذيب اللغة:(5/ 20)، لسان العرب:(2/ 410). (عمرو)

(2)

«تفصد الشيء: سال» ، مقاييس اللغة (4/ 507). (عمرو)

(3)

هذه الأوصاف هي الأوصاف التي كانت تظهر على النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل الوحي عليه، وقد وردت في أحاديث صحيحة، ومنها:

1 -

في حديث الإفك عن عائشة: «حتى أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحَاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدَّر منه مثل الجُمَان من العرق، في اليوم الشَّات، من ثقل القول الذي أنزل عليه» ، رواه البخاري:(4750)، ومسلم:(2770).

2 -

وفي حديث زيد: «فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترضَّ فخذِي، ثم سُرِّي عنه» ، رواه البخاري:(4592).

3 -

وفي حديث عمر بن الخطاب، يقول:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويِّ النَّحل» ، رواه أحمد:(223)، والترمذي:(3173). (عمرو)

ص: 169

تسمع عند الوجه النبوي الشريف. وأيضًا لو كانت صناعة وتكلفًا لكانت طوع يمينه فكان لا يشاء يومًا أن يأتي بقرآن جديد إلا جاء به من هذا الطريق الذي اعتاده في تحضيره.

وقد علمت أنه كثيرًا ما التمسه في أشد أوقات الحاجة إليه، وكان لا يظفر به إلا حين يشاء الله.

فهي إذًا حال غير اختيارية.

[الفرق بين الوحي والنوم]

ثم إننا نرجع البصر كرة أخرى فنرى البعد شاسعًا بينها وبين عارض السبات الطبيعي الذي يعتري المرء في وقت حاجته إلى النوم؛ فإنها كانت تعرُوه قائمًا أو قاعدًا، وسائرًا أو راكبًا، وبكرة أو عشيًّا، وفي أثناء حديثه مع أصحابه أو أعدائه، وكانت تعرُوه فجأة وتزول عنه فجأة، وتنقضي في لحظات يسيرة، لا بالتدريج الذي يعرض للوسنان، وكانت تصاحبها تلك الأصوات الغريبة التي لا تسمع منه ولا من غيره عند النوم. وبالإجمال كانت حالًا تباين حال النائم في أوضاعها وأوقاتها وأشكالها وجملة مظاهرها.

فهي إذًا عارض غير عادي.

[الفرق بين الوحي والنوبات المرضية أو العصبية]

ثم نرى المباينَة التامَّة والمناقضة الكلية بينها وبين تلك الأعراض المرضية والنوبات العصبية التي تصفرُّ فيها الوجوه، وتبرد الأطراف، وتصطكُّ الأسنان، وتتكشف العورات، ويحتجب نور العقل، ويُخيِّم ظلام الجهل؛ لأنَّها كانت كما علمت مبعث نموٍّ في قوة البدن، وإشراقٍ في اللون، وارتفاعٍ في درجة الحرارة، وكانت إلى جانب ذلك مبعثَ نورٍ لا ظلمة، ومصدر علمٍ لا جهالة، بل كان يجيء معها من العلم والنور ما تخضع العقول لحكمته، وتتضاءل الأنوار عند طلعته.

ها نحن أولاء قد كدنا نصل .. فلتقف بنا وقفة يسيرة لنرى مبعث هذا الضوء الذي كان يبدو حينًا ويختفي أحيانًا من حيث لا يد لصاحبه في ظهوره ولا في اختفائه: هل عسى أن يكون منبعثًا من طبيعة هذه النفس المحمدية؟ .. إذًا والله لكان خليقًا أن ينبعث منها أبدًا، ولكان أحق بأن ينبعث منها في حال

ص: 170

اليقظة العادية والروية الفكرية أكثر مما ينبعث منها في تلك اللحظات اليسيرة حينما تغشاها هذه السحابة الرقيقة التي قد تشبه السِّنة أو الإغماء.

فلا بد إذًا أن يكون وراء هذه السحابة مصدر نوراني يمد هذه النفس المحمدية بين آن وآن، فيسمو بها عن أفق شعورها المحدود، ويزودها بما شاء الله من العلوم، ثم يرسلها إلينا محمَّلة بهذه الشحنة العلمية إلى أن يلاقيها مرة أخرى.

وكما آمن الناس بأن نور القمر ليس مستفادًا من ذاته، وإنما هو مستفاد من ضياء الشمس؛ لأنهم رأوا اختلاف نوره تابعًا أبدًا لاختلاف مواقعه منها قربًا وبعدًا، فكذلك فليؤمنوا بأن نور هذا القمر النبوي إنما كان شعاعًا منعكسًا من ضوء تلك الشمس التي يرون آثارها وإن كانوا لا يرونها.

نعم إنهم لم يروها بأعينهم طالعة في رابعة النهار، ولم يسمعوا صوتها بآذانهم جَرْسًا مفهومًا وكلامًا يفقهه الناس؛ ولكنهم كانوا يرون قبسًا منها في الجبين، وكانوا يسمعون حسيسها حول الوجه الكريم، وإن في ذلك لهدًى للمهتدين.

هي إذًا قوة خارجية؛ لأنها لا تتصل بهذه النفس المحمدية إلا حينًا بعد حين، وهي لا محالة قوة عالمة؛ لأنها توحي إليه علمًا.

وهي قوة أعلى من قوته؛ لأنها تحدث في نفسه وفي بدنه تلك الآثار العظيمة {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 5].

وهي قوة خيِّرة معصومة، لأنها لا توحي إلا الحق ولا تأمر إلا بالرَّشَد، فلا جرم أنها لا تكون قوة طائشة شريرة كقوة الجن والشياطين؛ إذ ما للجن وعلم الغيب ولقد {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14]، وما للشيطان وخبر السماء وهي محفوظة من كل شيطان رجيم {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210] وما بعدها.

بل نقول: أليست الأرواح جنودًا مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف؟ أوَ ليس المرء يعرف بقرينه، وشبه الشيء ينجذبُ إليه؟

ص: 171

فكيف تأتلفُ تلك الأرواح الخبيثة وذلك القلب النقي الطهور؟ أم كيف تأتلف تلك القوى الطائشة وهذا العقل الكامل الرصين؟ {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221] وما بعدها.

فماذا عسى أن تكون هذه القوة إن لم تكن قوة ملك كريم؟

ذلك هو مبلغ العلم في وصف هذه القوة الغيبية حسبما يهدي إليه البحث العقلي المستقيم.

وليس بالمؤمن المقتصد حاجة إلى أكثر من هذا القدر في إرضاء شهوته العلمية، ولا في تثبيت عقيدته الدينية، فمن شاء المزيد من وصفها وحليتها فليس سبيله الرجوع إلى دلالات العقول، وإنما سبيله الرجوع إلى النقل الصحيح عن مهبط سرها ومظهر نورها صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو وحده الذي يستطيع أن يتحدث عن صاحب هذا السر حديث شاهد العيان الذي رأى شخصه وسمع صوته، بل حديث التلميذ الذي جلس إلى أستاذه غير مرة.

فأما الذي يؤمن بالغيب فسيؤمن بهذا الحديث عنه وإن لم يره؛ لأنه رأى أثره، ولأنه يؤمن بمن أخبره.

وأما الجاهلون الذين أوتوا قليلًا من علم ظاهر الحياة فظنوا أنهم أحاطوا بكل شيء علمًا فإنهم سيكذبون بكل ما لم يحيطوا بعلمه، وسيقولون لك: لعله اضطراب في أعصاب البصر خيل إليه أنه يرى شيئًا من لا شيء! وأنت فاستعذ بالله من عمى القلوب والعيون، وقل: كلَّا {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]. أو يقولون: لعله اضطراب في قوى الفكر صور له المعاني أشباحًا ماثلة، والأحلام حقائق مجسمة، فابرأ إلى الله من هذا الجنون، وقل: كلَّا {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11].

نعم؛ لقد عجبوا أن يكون إنسانٌ يرى الملائكة عيانًا ويكلمهم جهارًا، بل عجبوا أن يكون في الدنيا خلق لا يرونه بأعينهم، وصوت لا يسمعونه بآذانهم، فقالوا: كيف يرى محمد صلى الله عليه وسلم ما لا نرى، ويسمع ما لا نسمع!

ص: 172

ولَعَمرِي؛ لنحنُ أحقُّ أن نعجب من هذا العجب؛ فإننا نفهم أنه لو ساغ مثله في عصور الجاهلية الأولى ما كان ليسوغ اليوم وقد ملئت الأرض بالآيات العلمية التي تفسر لعقولنا تلك الحقائق الغيبية.

[أدلة معاصرة على إمكان الوحي]

وإنَّ من أقرب هذه الآيات إلى متناول الجمهور آية الهاتف (التليفون).

فقد أصبح الرجلان يكون أحدهما في أقصى المشرق والآخر في أقصى المغرب، ثم يتخاطبان ويتراءيان، من حيث لا يرى الجالسون في مجلس التخاطب شيئًا، ولا يسمعون إلا أزيزًا كدوي النحل الذي في صفة الوحي.

فإن كانوا يريدون آية علمية أوضح من هذه تمثل لهم الوحي تمثيلًا، وتريهم من طريق التجارب - التي لا يؤمنون إلا بها - أن اتِّصال النفس الإنسانية بقوة أعلى منها قد يُحدث فيها ظاهرةً من جنس هذه الظاهرة، وينقش فيها معلومات لم تكن مخزونة في العقل ولا في الحس قبل ذلك، فها قد أراهم الله تلك الآية العجيبة في (أعجوبة التنويم المغناطيسي) فقد أصبح الرجل القوي الإرادة يستطيع أن يتسلط بقوة إرادته على من هو أضعف منه حتى يجعله ينام بأمره نومًا عميقًا لا يشعر فيه بوخز الإبر، وهناك يكون رهين إشارته، وتنمحي إرادته في إرادته: فلو شاء أن يمحو من نفسه رأيًا أو عقيدة لمحاها بكلمة واحدة، بل لو شاء أن يمحو من صدره اسم نفسه

(1)

ويلقنه اسمًا آخر يقنعه بأنه هو اسمه لما وجد منه إلا إيمانًا وتسليمًا، ولأصبح اسمه الحقيقي نسيًا منسيًّا، ولبقي هذا الاسم المصنوع منقوشًا على قلبه ولسانه بعد أن يستيقظ إلى ما شاء الله، فإذا كان فعل هذا الإنسان بالإنسان فما ظنك بمن هو أشد منه قوة؟

فذلك مَثل

(2)

حامل الوحي ومتلقيه عليهما السلام هذا بشر مطواعٌ ذو روح صاف

(1)

حوادث التنويم المغناطيسي وآثارها البدنية والنفسية أكثر من أن تحصى، ولكننا أشرنا بهذا المثال إلى واقعة كان شاهد العيان فيها فاضل من علماء الأزهر (الأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاني) وهو الذي فطن منها إلى هذه العبرة الدينية، ونشرها بمجلة الهداية الإسلامية في شهر ربيع الأول من هذا العام (1352 هـ).

(2)

تأمل هذا التقريب تجد فيه آية أخرى على بطلان دعوى (الوحي النفسي) التي يروجها الملحدون؛ إذ إنه من الأركان الأساسية التي أجمع عليها علماء التنويم أنه إنما يكون بين نفسين مختلفتي الطبائع؛ إحداهما أقوى إرادة من الأخرى، فلا يستطيع امرؤ أن يقوم بهذه التجربة في نفسه إلا إذا فرضنا اجتماع النقيضين أو أن يكون الواحد اثنين.

ص: 173

يقبل انطباع العلوم فيه، وذاك ملك شديد القوى ذو مرَّة، يحمل إليه رسالته ويُقرِؤُها إياه، فلا ينسى إلا ما شاء الله.

بَيْدَ أن بُعدًا شاسعًا بين هذا الوحي النبوي، ووحي الناس بعضه لبعض، فالناس كما عرفت قد يوحون زخرف القول غرورًا، وكثيرًا ما يترك وحيهم في نفس متلقيه أعراضًا عقلية أو بدنية يصعب علاجها.

فأين هذا من الوحي بين رسولين مؤيدين اصطفاهما الله لرسالته: رسول من الملائكة، ورسولٌ من الناس؟ فأما الرسول الملكي فإنه كما علمت لا يوحي إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير، وأما الرسول البشري فإنه لا يزال من بعد كما كان من قبل، ثابتَ الفؤاد كاملَ العقل قويَّ النفس والبدن {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

* * * * *

[خلاصة البحث في الحجج الخارجية الدالة على مصدرية القرآن]

وبعد فإنَّنا في هذا المنهج الذي سلكناه من أول البحث إلى هذا الحد لم نرد أن نعرض للقرآن في جوهره، بل كان قصارى ما صنعناه أننا درسنا الطريق التي جاء منها؛ فما وجدنا في اعترافات صاحبه، ولا في حياته الخلقية، ولا في وسائله وصلاته العلمية، ولا في سائر الظُّروف العامة أو الخاصة التي ظهر فيها القرآن إلا شواهد ناطقة بأن هذا القرآن ليس له على ظهر الأرض أب ننسبه إليه من دون الله.

وتلك كلها دراسات خارجية إنما يسلكها رجل وقف معنا على طرف صالح من هذه الحياة النبوية وملابساتها، وكان مع ذلك سليم الفطرة يتعرف الأشياء بمثالها ويهتدي إليها بأقرب أماراتها. فمثل هذا سيرضى منا بهذا القدر ويهتدي به.

وأما الذين لا يعلمون عن تلك الحياة النبوية إلا قليلًا - وكثير ما هم - والذين يريدون أن يأخذوا حجة القرآن لنفسه من نفسه، فهؤلاء لا غنى لهم أن

ص: 174

نتقدم بهم خطوة أخرى نبين لهم فيها أن هذا الكتاب الكريم يأبى بطبيعته أن يكون من صنع البشر، وينادي بلسان حاله أنه رسالة القضاء والقدر، حتى إنه لو وجد ملقًى في صحراء لأيقن الناظر فيه أن ليس من هذه الأرض منبعه ومنبته، وإنما كان من أفق السماء مطلعه ومهبطه.

ذلك أنَّ قدرة الناس وإن تفاوتت فإلى حدود محدودة لا تتعداها، وقدرة الخالق على الممكنات لا حد لها، فكل كائن يجاوز حدود القدرة العالمية واقع في حدود القدرة الإلهية ألبتَّة، ولا ثالث.

مثال ذلك: أنَّ الرجل قد يصرع الرجل وقد يصرع الرجلين وقد يصرع الآحاد والعشرات، ولكن هل من الناس من يقف في وجه العالم كله فيقهر الأمم أفرادًا وجماعات؟

والله يأتي بالشمس من المشرق، فمن ذا الذي يأتي بها من المغرب؟

وأنت تستطيع أن تطفئ المصباح وأن توقده حين تشاء، ولكن هل يستطيع الناس جميعًا أن يُطلِعوا الشمس قبل وقتها، أو يؤخروها عن ساعتها، أو يطفئوا نورها، أو يأتوا بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا؟

إنهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه، فأنى لهم أن يضاهئوا تلك الكائنات العلوية التي لا تنالها أيديهم ولا قذائفهم، والتي لا يملكون من أمرها سوى النَّظر إليها والإعجابِ بها، والاستفادة منها، والخضوع لها.

فذلك العجز العام عن مضاهاة الخلق، وعن محاكاة الصنعة هو آية كونها ليست من صنع الناس، وذلك هو الطابع الإلهي والمظهر السماوي الذي تمتاز به صنعةُ الخالق عن صنعة المخلوق، وهذا هو المثل الذي نريد أن نطبقه على القرآن الكريم.

غير أن من الناس فريقًا غريقًا في حَمَأة العِنَاد؛ يقولون: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132]، {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}

ص: 175

[الأنعام: 111]، وآخرين لا يجدون طمأنينتهم إلا في اضطراب الشك، يقولون:{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14] وما بعدها، {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7]، فهؤلاء وأولئك لا سبيلَ لنا عليهم، ولا ينفعهم نصحنا إن كان الله يريد أن يغويهم، إذ ليس من شأننا أن نُسمع الصم أو نهدي العمي ولا الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم فإذا هم لا يسمعون، أو يضَعون أكفَّهم على أعينهم فإذا الشمس الطالعة ليست بطالعة {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، وإنما سبيلنا أن ننصب الحجة لجاهلها من طلاب الحق، ونوضح الطريق لسابلها من رواد اليقين.

[إعجاز القرآن]

ها نحن أولاء ندعو كل من يطلب الحق بإنصاف، أن ينظر معنا في القرآن من أي النواحي أحب

(1)

: من ناحيةِ أسلوبه، أو من ناحية علومه، أو من ناحية الأثر الذي أحدثه في العالم وغيَّر به وجه التاريخ، أو من تلك النواحي مجتمعة؛ على أن يكون له الخيرة بعد ذلك أن ينظر إليه في حدود البيئة والعصر الذي ظهر فيه، أو يفترض أنَّه ظهر في أرقى الأوساط والعصور التاريخية. وسواء علينا أيضًا أن ينظر إلى شخصية الداعي الذي جاء به أو يلتمس شخصًا خياليًّا تجمعت فيه مرانات الأدباء، وسلطات الزعماء، ودراسات العلماء بكافة العلوم الإنسانية ثم نسأله: هل يجد فيه إلا قوَّة شاذة تغلب كل مغالب، وتتضاءل دونها قوة كل عالم، وكل زعيم، وكل شاعر وكاتب، ثم تنقضي الأجيال والأحقاب ولا ينقضي ما فيه من عجائب، بل قد تنقضي الدنيا كلها ولما يحط الناس بتأويل كل ما فيه، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53].

(1)

إنَّ المصنف رحمه الله هنا يقول بتعدد ألوان الإعجاز، وهو الصحيح من كلام العلماء، والله أعلم، وإنما الذي ينتظم في كل سورة من سور القرآن، هو إعجاز القرآن من جهة لغته وبيانه. (عمرو)

ص: 176

فلنأخذ الآن - بعون الله وتوفيقه - في دراسة هذه النواحي الثلاثة من الإعجاز القرآني: أعني ناحية الإعجاز اللغوي، وناحية الإعجاز العلمي، وناحية الإعجاز الإصلاحي التهذيبي الاجتماعي.

ولتكن عنايتنا أوفر بناحيته اللغوية؛ لأنَّها هي التي وقع من جهتها التحدي بالقرآن جملة وتفصيلًا في سورة منه، ولذلك نبدأ بها.

ص: 177

‌القرآن معجزة لغوية

[كشف الشبهات حول الإعجاز القرآني]

من كان عنده شيء من الشك في هذه القضية فليأذن لنا أن نستوضحه: فيمَ ذلك الشك؟

هل حدَّثته نفسه بأنه يستطيع أن يأتي بكلام في طبقة البلاغة القرآنية؟ أم هو قد عرف من نفسه القصور عن تلك الرتبة، ولكنَّه لم يعرف عن الناس ما عرف من نفسه؟

أم عَلِم أن الناس جميعًا قد سكتُوا عن معارضَة القرآن، ولكنه لم يعلَم أنَّ سكوتهم عنه كان عجزًا، ولا أنَّ عجزهم جاء من ناحية القرآنِ ذاتِه؟

أم عَلِم أنهم قد عجزوا عنه وأنه هو الذي أعجزهم، ولكنه لم يَعلَم أنَّ أُسلُوبَه كان من أسباب إعجازه؟

أم هو يوقن بأن القرآن الكريم كان وما زال معجزة بيانيَّة لسائر الناس، ولكنَّه لا يوقن بأنه كان معجزًا كذلك لمن جاء به؟

أم هو يؤمن بهذا كله؛ ولكنه لا يدري: ما أسرارُه وما أسبابه؟

هذه وجوه ستة، لكل وجه منها علاجٌ يخصه، وسنعالجها على هذا الترتيب:

[من امتلك ناصية البيان بانت له دلائل الإعجاز]

1 -

فأما إن كان مثَار الشبهة عنده أنه زاول شيئًا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارًا في البيان فوسوس له شيطان الإعجاب بنفسه والجهلِ بالقرآن أنه يستطيع الإتيان بمثل أسلوبه، فذلك ظنٌ لا يظنه بنفسه أحد من الكبار المنتهين، وإنما يعرض - إن عرض - للأغرار الناشئين.

ص: 178

ومثل هذا دواؤه عندنا نُصحٌ نتقدم به إليه أن يطيل النظر في أساليب العرب، وأن يستظهر على فهمها بدراسة طرف من علوم الأدب، حتى تستحكم عنده ملكة النقد البياني، ويستبين له طريق الحكم في مراتب الكلام وطبقاته، ثم ينظر في القرآن بعد ذلك.

وأنا له زعيمٌ بأن كل خطوة يخطوها في هذه السبيل ستزيده معرفة بقدره، وستحل عن نفسه عقدة من عقد الشك في أمره؛ إذ يرى هنالك أنه كلَّما ازداد بصيرة بأسرار اللغة، وإحسانًا في تصريف القول، وامتلاكًا لناصية البيان؛ ازداد بقدر ذلك هضمًا لنفسه، وإنكارًا لقوته، وخضوعًا بكليته أمام أسلوب القرآن، وهذا قد يبدو لك عجيبًا، أن يزداد شعور المرء بعجزه عن الصنعة بقدر ما تتكامل فيها قوته ويتسع بها علمه. ولكن لا عجب، فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه: لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها وثقة بالعجز عنها. ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون.

فإن أبى المغرور إلا إصرارًا على غروره، وكبُر عليه أن يُقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان ليجرب نفسه ويروز

(1)

قوته، وقلنا له: أخرج لنا أحسن ما عندك لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين .. غير أننا نعظُه بواحدة أخرى: ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الروية ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة؛ فإنه إن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه ويواري سوأته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها.

وإن في التاريخ لَعِبَرًا تؤثَر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم؛ بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة بادٍ عَوارُه، باقٍ عارُه وشَنارُه: فمنهم عاقلٌ استحيا أن يُتم

ص: 179

تجربته، فحطم قلمه ومزق صحيفته

(1)

.

ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافاته، فطوى صُحُفَه وأخفاها إلى حين

(2)

.

ومنهم طائش برز بها إلى الناس، فكان سخرية للساخرين ومثلًا للآخرين

(3)

.

(1)

يعزى شيء من ذلك لابن المقفع، ولأبي الطيب، وللمعري، والظن بهؤلاء أنهم كانوا في غنًى بعقولهم وأذواقهم عن الشروع في هذه المحاولة، إلا أن يكون على حد:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].

(2)

من ذلك ما اشتهر عن تلك الكتب التي وضعها زعماء نحلتي (القاديانية) و (البهائية) لتكون دستورًا دينيًّا لهم كالقرآن، وقد لفقوها تلفيقًا ركيكًا من آيات قرآنية وكلمات عامِّية، وبدَّلوا فيها أصول الإسلام وفروعه، وادعوا فيها لأنفسهم النبوة أو الألوهية، ولكن أتباعهم لم يجسروا أن يذيعوا تلك الكتب وشمس العلم طالعة، فأخفوها - كما يخفي السِّنَّور سلحته - إلى أن يجيء وقت يفشو فيه الجهل بالعلوم والآداب، وتستعد فيه النفوس لقبول أمثالها، فلينتظروا آخر الدهر.

(3)

ذلك مثل مسيلمة الدجال، فقد زعم أنه يوحى إليه بكلام مثل القرآن، وما صنع شيئًا إلا أنه كان يعمد إلى آي من القرآن فيسرق أكثر ألفاظها ويبدل بعضًا، كقوله:(إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر) أو يجيء على موازين الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية، ومعانٍ سوقية، كقوله:(والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا)، وهكذا لم يستطع وهو عربيٌّ قح أن يحتفظ بأسلوب نفسه، بل نزل إلى حد الإسفاف، وأتى العبث الذي يأتيه الصبيان في مداعبتهم وتفكههم بقلب الأشعار والأغاني عن وجهها، ولا يخفى أنَّ هذا كله ليس من المعارضة في شيء، بل هو المحاكاةِ والإفساد، وما مثله إلا كمثل من يستبدل بالإنسان تمثالًا لا روح فيه، وهو على ذلك تمثال ليس فيه شيء من جمال الفن، وإنما المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد.

ومن يحاول ذلك في المعاني القرآنية فإنما يحاول محالًا، والتجربة أصدق شاهد.

بل من يحاول أن يجيء بمثل أسلوب القرآن في معاني أخرى لا يتحرى فيها الصدق والحكمة، فقد طمع في غير مطمع، ولذا كان من طرق التحدي للعرب أن طولبوا بعشر سور مثله {مُفْتَرَيَاتٍ} [سورة هود: 13].

هذا؛ والذي نفهمه في أمر مسيلمة هو ما فهمه الأديب الرافعي: أنَّه لم يرد أن يعرض للقرآن من ناحية الصناعة البيانية، إذ كانت هذه الناحية أوضح من أن يلتبس أمرها عليه، أو أن يستطيع تلبيسها على أحد من العرب، وإنما أراد أن يتخذ سبيله إلى استهواء قومه من ناحية أخرى ظنها أهون عليه وأقرب تأثيرًا في نفوسهم، ذلك أنه رأى العرب تُعظِّم الكهَّان في الجاهلية، وكانت عامَّة أساليب الكهان من هذا السجع القلق الذي يزعمون أنه من كلام الجن، كقولهم (يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله (البخاري في المناقب [3653]: إسلام عمر) فكذلك جعل يطبع مثل هذه الأسجاع في محاكاة القرآن؛ ليوهمهم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم كأنما النُّبوة والكهَانة ضرب واحد، على أنه لم يفلح في هذه الحيلة أيضًا، فقد كان كثيرون من أشياعه يعرفونه بالكذب والحماقة، ويقولون: إنه لم يكن في تعاطيه الكهانة حاذقًا، ولا في دعواه النبوَّة صادقًا، وإنما كان اتباعهم إياه كما قال قائلهم:(كذَّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر).

ص: 180

فمن حدَّثته نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستحِ فليصنع ما يشاء.

* * *

[عَجَزَ العرب عن الإتيان بمثل القرآن، وعَجْزُ غيرهم أولى]

2 -

وأما إن كان مدخل الشبهة عنده أنه رأى في الناس من هو أعلى منه كعبًا في هذه الصناعة، فقال في نفسه:(لئن لم أكن أنا من فرسانِ هذا الميدان، ولم يكن لي في معارضة القرآن يَدَان، لعل هذا الأمر يكون يسيرًا على من هو أفصح منِّي لسانًا وأسحر بيانًا) فمثل هذا نقول له: ارجع إلى أهل الذِّكر من أدباء عصرك فاسألهم هل يقدرون أن يأتوا بمثله؟ فإن قالوا لك: (لو نشاء لقلنا مثل هذا) فقل: (هاتوا برهانكم!) وإن قالوا: (لا طاقة لنا به) فقل: أيُّ شيء أكبر من العجز شهادة على الإعجاز؟

ثم ارجع إلى التاريخ فاسأله: ما بال القرون الأولى؟ ينبئك التاريخ أن أحدًا لم يرفع رأسه أمام القرآن في عصر من أعصاره، وأن بضعة النفر الذين أنغضوا رؤوسهم إليه باءوا بالخزي والهوان، وسحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان.

أجل، لقَد سجَّل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتى أدركت هذه اللغة أشدَّها؛ وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها؟ .. وما هذه الجموع المحشودة في الصحراء، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟ إنها أسواق العرب

ص: 181

تعرض فيها أنفَسَ بضائعِهم وأجود صناعاتِهم؛ وما هي إلا بضاعة الكلام، وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها ونقدها، واختيار أحسنها والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشد التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم، وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخافٍ على متأدب.

فما هو إلا أن جاء القرآن .. وإذا الأسواقُ قد انفضت، إلا منه، وإذا الأندية قد صَفِرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يُباريَه أو يجاريَه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة، أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى؛ ذلك على أنه لم يسد عليهم باب المعارضة، بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفرادًا أو جماعات، بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم متنزلًا معهم إلى الأخف فالأخف: فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله

(1)

، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة؛ فقال:{لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وقال:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله:{وَلَنْ تَفْعَلُوا} ثم هدَّدهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألدَّاء، وأُبَاة الضيم الأعزاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم

(1)

انظر كيف تنزَّل معهم في هذه المرتبة من طلب المماثل إلى طلب شيء مما يماثل كأنه يقول: لا أكلفكم بالمماثلة العامة؛ بل حسبكم أن تأتوا بشيء فيه جنس المماثلة ومطلقها، ربما يكون مثلًا على التقريب لا التحديد.

وهذا أقصى ما يمكن من التنزُّل، ولذا كان هو آخر صيغ التحدي نزولًا، فلم يجئ التحدي بلفظ (من مثله) إلا في سورة البقرة المدنية، وسائر المراتب بلفظ (مثله) في السور التي نزلت قبل ذلك بمكة؛ فتأمل هذا الفرق فإنه طريف، واسأل الله أن يوفقنا وإياك لفهم أسرارِ كتابه، والانتفاع بهدايته وآدابه.

ص: 182

يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا

حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان.

ومضى عصر القرآن والتحدي قائمًا ليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابُهم، ولم تنحرف ألسنتُهم، ولم تتغير سليقتُهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسِه، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوائلهم: لفعلوا، ولكنهم ذلَّت أعناقهم له خاضعين، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعِل بأشياعِهِم من قبل.

ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد، كانوا أشدَّ عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز، فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان الإعجاز قائمًا أمامهم من طريقين: وجداني وبرهاني .. ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

* * *

[القول بالصرفة]

3 -

فإن قال لنا: نعم، قد علمتُ أنه لم يأتِ أحد بشيء في معارضة القرآن، ولكن ليس كل ما لم يفعله الناس يكون خارجًا عن حدود قدرتهم، فربما ترك الإنسان فعلًا هو من جنس أفعاله الاختيارية لعدم قيام الأسباب التي من شأنها أن تبعث عليه، أو لأن صارفًا إلهيًّا ثبط همته وصرف إرادته عنه مع توافر الأسباب الداعية إليه، أو لأنَّ عارضًا فجائيًّا عطَّل آلاته وعاق قدرته عن إحداث ذلك الفعل بعد توجه إرادته نحوه، فعلى الفرضين الأولين يكون عدم معارضة القرآن قلة اكتراث بشأنه لا عجزًا عن الإتيان بمثله، وعلى الفرض الأخير يكون تركه عجزًا عنه حقًّا، لكن ليس لمانع فيه من جهة علو طبقته عن مستوى القدرة

ص: 183

البشرية، بل لمانع خارجي هو حماية

(1)

القدرة العليا له، وصيانتها إياه عن معارضة المعارضين، ولو أزيل هذا المانع لجاء الناس بمثله

(2)

.

قلنا له: هذه الفروض كلها لا تنطبق على موضوعنا بحال.

[تضافر الأسباب الباعثة على معارضة القرآن]

أما الأول: فإنَّ الأسباب الباعثة على المعارضة كانت موفورة متضافرة، وأي شيء أقوى في استثارة حمية خصمك من ذلك التقريع البليغ المتكرر الذي توجهه إليه معلنًا فيه عجزه عن مضاهاة عملك؟ إنَّ هذا التحدي كافٍ وحده في إثارة حفيظة الجبان وإشعال همَّته للدفاع عن نفسه بما تبلغه طاقته، فكيف لو كان الذي تتحداه مجبولًا على الأنفة والحميَّة؟ وكيف لو كان العمل الذي تتحداه به هو صناعته التي بها يفاخر، والتي هو فيها المدرب الماهر؟ وكيف لو كنت مع ذلك ترميه بسفاهة الرأي وضلال الطريق؟ وكيف لو كنت تبتغي من وراء هذه الحرب الجدلية هدم عقائده، ومحو عوائده وقطع الصلة بين ماضيه ومستقبله؟

[انشغال أهل الشرك بأمر محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته]

وأما الثاني: فإنَّ هذه الأسباب قد رأيناها آتت بالفعل ثمراتها، وأيقظت همم المعارضين إلى أبعد حدودها، حتى كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن هو شغلهم الشاغل، وهمهم الناصب، فلم يدعوا وسيلة من الوسائل لمقاومته باللطف أو بالعنف إلا استبطنوها وتذرَّعُوا بها: أيخادعونه عن دينه ليلين لهم ويركن قليلًا إلى دينهم

(3)

أم يساومونه بالمال والملك ليكفَّ عن دعوته

(4)

، أم يتواصون

(1)

هذا هو القول بالصَّرفة، الذي اشتهر عن النظَّام من المعتزلة، وهو وإن كان اعترافًا في الجملة بصحة الإعجاز إلا أنه لا يقول به إلا أعجمي أو شبهه ممن لم يذق للبلاغة طعمًا، ولذلك لم يتابعه عليه تلميذه الجاحظ ولا أحد من علماء العربية، وهو يعد خلاف ما عرفه العرب من أنفسهم كما سنبينه.

(2)

انظر في مزيد من الرد على القول بالصرفة، كتاب:(القول بالصرفة)، د. عبد الرحمن الشهري، ط. دار المنهاج. (عمرو)

(3)

جاء رجال من قريش إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقالوا له: يا محمد تعالَ تمسح بآلهتنا، أو ألم بآلهتنا، وندخل معك في دينك، فنزل قوله تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [سورة الإسراء: 73] رواه ابن مردويه بسند جيد *.

* أورده السيوطي في الدر المنثور: (5/ 318)، والإتقان:(1/ 120).

(4)

إيماء إلى القصة الطويلة التي نزل فيها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الآيات من سورة الإسراء: 90 فما فوقها] رواها ابن جرير بسند متصل فيه مبهم، ولها شاهد مرسل صحيح*.

* تفسير الطبري: (15/ 87).

ص: 184

بمقاطعته، وبحبس الزاد عنه وعن عشيرته الأقربين حتى يموتوا جوعًا أو يُسلِمُوه

(1)

، أم يمنعون صوت القرآن أن يخرجَ من دور المسلمين خشية أن يسمعه أحد من أبنائهم

(2)

، أم يلقون فيه الشبهات والمطاعن، أم يتهمون صاحبه

(1)

إيماء إلى خبر الصحيفة الجائرة التي تحالفت فيها قريش وكنانة على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله، رواه الشيخان عن الزهري، وفي شأن هذه المحالفة يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة الفتح وفي حجة الوداع:(منزلنا غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر)، رواه الشيخان *.

* عن أبي هريرة، قال:(قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن بمنى: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر»، وذلك إن قريشًّا وبني كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، حتى يسلِّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بذلك، المحصب)، رواه البخاري:(1590)، ومسلم:(1314).

(2)

لم يطق أشراف قريش أن يستعلن أبو بكر بقراءة القرآن في فناء داره إذ كانت تهوى إليه أفئدة من أبنائهم ونسائهم وعبيدهم يستمعون لقراءته، فخشي المشركون أن يفتتنوا، وكان ابن الدَّغِنَّة قد أجار أبا بكر، فأمروه أن يسترد جواره منه إذا أصر على الإعلان بقراءته، وقد فعل. الحديث رواه البخاري *.

* عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرًا قِبَل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدَّغِنَّة، وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي، قال ابن الدَّغِنَّة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدَّغِنَّة، فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلَا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكَلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فأنفذت قريش جوار ابن الدَّغِنَّة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدَّغِنَّة: مر أبا بكر، فليعبد ربه في داره، فليصل، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، قال ذلك ابن الدَّغِنَّة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة، ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدًا بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكاء، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك، فسله أن يردَّ إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب، أني أُخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله» ، رواه البخاري:(2299)، (3905).

ص: 185

بالسحر والجنون ليصدوا عنه من لا يعرفه من القبائل القادمة في المواسم، أم يمكرون به ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه [سورة الأنفال: 30]، أم يخاطرون بمهجهم وأموالهم وأهليهم في محاربته، أفكان هذا كله تشاغلًا عن القرآن وقلة عناية بشأنه؟! ثم لماذا كل هذا وهو قد دلهم على أن الطريق الوحيد لإسكاته هو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به؟ ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم؟ ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب، وكان القتل والأسر والفقر والذل كل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم عليه، فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز؟!

لا ريب أن هذه الحملات كلَّها لم تكن موجهة إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد كانوا من قبل تعطِفهم عليهم أرحامهم، وتحببهم إليهم مكارم أخلاقهم، كما أنها لم تكن موجهة إلى القرآن في الصدور ولا في داخل البيوت؛ فقد قبلوا منهم أن يعبد كل امرئ ربه في بيته كيف يشاء، إنما كانت مصوَّبة إلى هدف واحد، ومقاومة لخطر واحد، هو إعلان

(1)

هذا القرآن ونشره بين العرب.

ولا يهجسنَّ في روعك أنَّهم ما نقموا من الإعلان بالقرآن إلا أنه دعوة جديدة إلى دين جديد فحسب. كلا، فقد كان في العرب حنفاء من فحول الخطباء

(1)

وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما كان يعرض نفسه على الناس في الموقف: «ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي» ، رواه أبو داود والترمذي، فانظر قوله:«منعوني أن أبلغ» ، ولم يقل:(منعوني أن أتلو) *.

* عن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد يعرض نفسه بالموقف، فقال:«ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي» .

رواه أحمد: (15192)، والترمذي:(2925).

ص: 186

والشعراء؛ كقس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما، وكانت خطبهم وأشعارهم مشحونة بالدعوة إلى ما دعا إليه القرآن من دين الفطرة.

فما بالهم قد أهمَّهم من أمر محمد وقرآنه ما لم يعنهم من أمر غيره؟ ما ذاك إلا أنهم وجدوا له شأنًا آخر لا يشبه شأن الناس، وأنهم أحسوا في قرآنه قوة غلابة وتيَّارًا جارفًا يريد أن يبسط سلطانه حيث يصل صدى صوته، وأنهم لم يجدوا سبيلًا لمقاومته عن طريق المعارضة الكلامية التي هي هِجِّيراهم

(1)

، والتي هي الطريق المباشر الذي تحداهم به، فلا جرم كان الطريق الوحيد عندهم لمقاومته هو الحيلولة بمختلف الوسائل بين هذا القرآن وبين الناس مهما كلفهم ذلك من تضحية، وكذلك فعلوا، وكذلك مضت السنة فيمن بعدهم من أعداء القرآن إلى يومنا هذا.

[شعور العرب بالعجز عن الإتيان بمثله]

وأما الثالث: فإنه لو كان عجزهم عن مضاهاة القرآن لعارضٍ أصابهم حال بينهم وبين شيء في مقدورهم، لما استبان لهم ذلك العجز إلا بعد أن يبسطوا ألسنتهم إليه، ويجربوا قدرتهم عليه؛ لأنه ما كان لامرئ أن يحس بزوال قدرته عن شيء كان يقدر عليه كقدرته على القيام والقعود إلا بعد محاولة وتجربة، ونحن قد علمنا أنَّهم قعدوا عن هذه التجربة، ولم يشرع منهم في هذه المحاولة إلا أقلهم عددًا، وأسفههم رأيًا. فكان ذلك آية على يأسهم الطبيعي من أنفسهم، وعلى شعورهم بأن عجزهم عنه عجز فطريٌ عتيد، كعجزهم عن إزالة الجبال، وعن تناول النجوم من السماء، وأنَّهم كانوا في غنى بهذا العلم الضروري عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب.

على أنهم لو كانوا لم يعرفوا عجزهم عنه بادئ ذي بدء، وإنما أدركهم العجز بعد شعورهم بأنه في مستوى كلامهم، لكان عجبهم إذًا من أنفسهم: كيف عيوا به وهو منهم على طرف الثمام؟ ولجعلوا يتساءلون فيما بينهم أي داء أصابنا فعقد ألسنتنا عن معارضة هذا الكلام الذي هو ككل كلام؟ أو لرجعوا إلى بيانهم

(1)

«والهِجِّيرُ، مثال الفِسِّيقِ: الدأب والعادةُ» ، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية:(2/ 852). (عمرو)

ص: 187

القديم قبل أن يصيبهم العجز فجاءوا بشيء منه في محاذاته، ولكنهم لم يجيئوا فيه بقديم ولا جديد، وكان القرآن نفسه هو مثار عجبهم وإعجابهم، حتى إنهم كانوا يخرون سُجَّدًا لسماعه من قبل أن تمضي مهلة يوازنون فيها بينه وبين كلامهم، بل إن منهم من كان يغلبه هذا الشعور فيفيض على لسانه اعترافًا صحيحًا:(ما هذا بقول بشر).

* * *

[القرآن ولغة العرب]

4 -

فإن قال: قد تبينتُ الآن أنَّ سكوتَ النَّاس عن معارضة القرآن كان عجزًا، وأنَّهم وجدوا في طبيعة القرآن سرًّا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم، ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظانِّ هذ السر؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية: فمن حروفهم رُكِّبَتْ كلماتُه، ومن كلماتهم أُلفت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه، فأي جديد في مفردات القرآن لم تعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديدٍ في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنَّه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟

قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].

وأمَّا بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البنَّاءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامَّة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسُقُفًا موضوعَة، وأبوابًا مشرَعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، وأكنها للناس من الحر والقر، وفي تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء، بحيث يتخللها الضوء

ص: 188

والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء .. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا.

كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضعٍ من أوضاعهم بخارجٍ عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة، ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجُّه أذنك، وتغثى

(1)

منه نفسك، وينفر منه طبعك.

ذلك أن اللغة فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوى والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء، وفيها الجمل الإسمية والفعلية، وفيها النفي والإثبات، وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف، وفيها الابتداء والعطف، وفيها التعريف والتنكير، وفيها التقديم والتأخير، وهلم جرا .. ومن كل هذه المسالك ينفذُ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبِين بوضعٍ منها عن أوضاع اللغة جملة، بل هم في شعابها يتفرقون، وعند حدودها يلتقون.

بيد أنَّه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يجمُل في كلِّ موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذًا لهان الأمر على طالبه، ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا، وفي سمعهم نغمة واحدة. كلَّا، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينًا، ويقصر بك عن غايتك حينًا آخر، ورب كلمة تراها في موضع مَا كالخرزة الضائعة ثم تراها بعينها في موضع آخر، كالدرة اللامعة.

فالشأن إذًا في اختيار هذه الطرق أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض، وأيها أقرب توصيلًا إلى مقصد مقصد؛ ففي الجدال أيها أقوم بالحجة، وأدحض

(1)

من الغثيان، وغثت نفسه، تغثى غثيانًا، وهو:«اضطرابها حتى تكاد تتقيأ» ، المصباح المنير:(2/ 443). (عمرو)

ص: 189

للشبهة، وفي الوصف أيها أدق تمثيلًا للواقع، وفي موطن اللين أيها أخفُّ على الأسماع وأرفق بالطباع، وفي موطن الشدة أيها أشد اطلاعًا على الأفئدة بتلك النار الموقدة، وعلى الجملة أيها أوفى بحاجات البيان وأبقى بطراوته على الزمان.

والأمر في هذا الاختيار عسير غير يسير؛ لأنَّ مجال الاختيار كثير الشُّعَب، مختلف الألوان في صور المفردات والتراكيب، والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الألوان، فضلًا عن الموازنة بينها، فضلًا عن حسن الاختيار فيها، فرب رجلين يهتدي أحدهما إلى ما غَفَل عنه صاحبه، ويغفل كل منهما عما هدي إليه الآخر، ورب وجه واحد يفوتك ها هنا يعدل وجهين تحصلهما هناك، أو بالعكس.

وعن جملة الملاحظات التي يلاحظها القائل في قوله، تتولد صورة خاصَّة مثلها في هذه المركبات المعنوية مثل (المزاج) في تلك المركبات العنصرية المادية، وهذا (المزاج) هو الذي نسميه بالأسلوب أو الطريقة، وعلى حسبه يقع التفاوت في درجات الكلام وفي حظه من الحسن والقبول.

[الجديد في لغة القرآن]

فالجديد في لغة القرآن أنَّه في كل شأن يتناوله من شؤون القول يتخير له أشرفُ المواد، وأمسُّها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعُها للشوارد، وأقبلُها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين، لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِوَلًا .. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان.

هذا مطلبٌ له دليله، وإجمالٌ له تفصيله، وليس من قصدنا أن نعجلك الآن بالبحث في أدلته وتفاصيله، وإنما أردنا أن نزيح عنك هذه الشبهة لتعلم أن ليس كل كلام عربي ككل كلام عربي، وأن هذه الناحية اللغوية جديرة بأن تتفاوت فيها القوى نازلة إلى حد العجز، أو صاعدة إلى حد الإعجاز.

ص: 190

[سبيل إدراك آية القرآن، وبرهان صدقه لمن لا يعرف الفصل بين درجات الكلام]

فإن أحببت أن تعرف للقرآن الكريم سبقه وبلوغه الغاية في هذا المضمار وأنت بعدُ لم تُرزق قوة الفصل بين درجات الكلام فاعلم أنَّه لا سبيل لك إلى القضاء في هذا الشأن عن حس وخبرة، وإنما سبيلك أن تأخذ حكمه مسلمًا عن أهله وتقنع فيه بشهادة العارفين به، وإذًا يكون من حقك علينا أن نقدم لك مثالًا من شهاداتهم، فخذ الآن هذا المثال:

جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما قرأ عليه القرآن كأنَّه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمِّ، إنَّ قومكَ يَرونَ أَنْ يَجمَعُوا لك مالًا، قال: لِمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ، فإنَّك أتيت محمدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قال الوليد: قَدْ عَلِمَت قُريشٌ أَنِّي مِنْ أَكثَرِهَا مَالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر لا برَجَزِه ولا بقصيده ولا بأشعارِ الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنه لمنيرٌ أعلَاه، مشرقٌ أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطِم ما تحته .. الحديث

(1)

رواه الحاكم عن ابن عباس، وقال: صحيح على شرط البخاري

(2)

.

(1)

للحديث بقية، وهي:«أنَّ أبا جهل ألح على الوليد، وقال له: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فقال الوليد: دعني أفكر، فلما فكَّر قال: هذا سحر يأثره عن غيره» ، وفي ذلك نزل قوله تعالى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 11 - 25]، الآيات من سورة المدثر:(11) وما بعدها.

فانظر تصوير القرآن للجهد العنيف الذي بذله الرجل في إصدار حكمه الثاني، حيث يقول: إنه فكر وقدر، {ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر: 21 - 23]، ومعنى هذا كله أنه كان يقاوم فطرته، ويستكرهُ نفسه على مخالفة وجدانه، وأنه كان في حيرة وضيق بما يقول .. وأخيرًا استطاع أن يقول ما قال نزولًا على إرادةِ قومه.

وانظر الفرق بين هذا الحكم المصطنع وبين حكم البديهة العربية في قوله أول مرة: (إنه يعلو وما يُعلى، وأنه يحطم ما تحته).

(2)

عن ابن عباس: «أنَّ الوليد بن المغيرة جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنَّه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاهُ، فقال: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالًا، قال: لم؟ قال: ليعطُوكَه، فإنك أتيت محمدًا لتعرِضَ لما قِبَلَه، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر لها، أو أنك كاره له. قال: وماذا أقول: فوالله ما فيكم رجلٌ أعلمَ بالأشعار مني، ولا أعلمَ برجزه، ولا بقصِيره مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئَا من هذا، ووالله إنَّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنيرٌ أعلاه، [مغدقٌ] أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطِم [ما تحته]. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11]» ، قال الحاكم:«هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه» ، انظر: المستدرك على الصحيحين: (5/ 81)، ط. المنهاج القويم، (2/ 550)، (3872)، ط. العلمية. (عمرو)

ص: 191

نعم، إن كنت لا تفرق بين كلام وكلام فهذه شهادةٌ حسبُك من شهادة، وناهيك أنها شهادة أهل اللغة أنفسهم، بل شهادة الأعداء لعدوهم.

وإذا لم تر الهلال فسلم .. لأناسٍ رأوه بالأبصَار

[سبيل إدراك آية القرآن، وبرهان صدقه لمن يميز بين مراتب الكلام]

وأمَّا إن كنتَ قد أوتيت حظَّك من معرفة فروق الكلام والمَيزِ بين أساليبه فاقرأ ما شئت من خطب العرب وأشعارها، وحكمها وأمثالها، ورسائلها ومحاوراتها، متتبعًا في ذلك عصور الجاهلية والإسلام على اختلاف طبقاتها، ثم افتح صفحة من هذا الكتاب العزيز وانظر ماذا ترى؟

أسلوبٌ عجب، ومنهجٌ من الحديث فذٌّ مبتكر، كأن ما سواه من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بينها على حد قول بعض الأدباء:(وضع مرتجل) لا ترى سابقًا جاء بمثاله، ولا لاحقًا طبع على غِراره، فلو أن آية منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء لدلت على مكانها، واستمازت من بينها، كما يستميز اللحن الحساس بين ضروب الألحان، أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام.

* * *

[علوُّ مرتبة البيان القرآني عن كلِّ بيان]

5 -

سيقول السائل إذا انتهى معنا إلى هذا الموضع: لقد أغلقتُم عنَّا بهذا البيان بابًا من الشك، ولكنكم لم تلبثوا أن فتحتم علينا منه بابًا جديدًا، ألم تقولوا لنا: إن هذه الصناعة البيانية ليست في الناس بدرجة واحدة، وإن القوى تذهب

ص: 192

فيه متفاوتة على مراتب شتى، فما نرى إذًا علينا من حرج أن نعدَّ الإعجاز الذي حدثتمونا عنه أمرًا مشاعًا يجري في أساليب الناس كما يجري في القرآن.

ألا ترون أن كل قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه إليها فطرته ومواهبه؟ وأنَّ اختلاف الناس في هذه الوسائل يتبعه ألبتة اختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم؟ إنكم لتستطيعون أن تحصوا في اللغة العربية صورًا كلاميَّة بعدة الناطقين بها، بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب كما يكتب كاتب آخر على السواء، ولا قائلًا كذلك. بل أنتم لا محالة واجدون عند كل واحد منهاجًا خاصًّا في الأداء؛ فليس البدوي كالحضري، ولا الذكي كالغبي، وليس الطائش كالحليم، ولا المريض كالسليم. وليس الأدنى في هذا الباب يستطيع الصعود إلى الأعلى، ولا الأعلى يستطيع النزول إلى الأدنى.

بل المتشابهان فطرة ومزاجًا، المتساويان تربية وتعليمًا قد يشربان من كأس واحدة ثم لا يتناطقان بالكلام على صورة واحدة؛ فكيف تأمرون الناس أن يجيئوكم بمثل القرآن وهم لا يقدرون أن يجيء بعضهم بمثل كلام بعض؟ وكيف تعدُّون عجزهم عنه آية على قدسيته وأنتم لا تعدون عجز كل امرئ عن الإتيان بأسلوب غيره آية على أن ذلك الأسلوب صنع إلهي محض لا كسب فيه للذي جرى على لسانه؟ أليس هذا القياس يسوغ لنا أن نفترض القرآن كلامًا بشريًّا كسائر كلام البشر، غير أنه اختص أسلوبه بصاحبه كما اختص كل امرئ بأسلوب نفسه؟

وجوابنا لهذا القائل أن نقول له: لسنا نماريك في أن كلام المتكلم إنما هو صورة تمليها عليه فطرته ومواهبه، ولا في أن هذه الفِطَر والمواهب لتفاوتها عند أكثر الناس لا بد أن تترك أثرها من التفاوت في صورة كلامهم، ولا في أن تلك الفطر والمواهب إن تشابهت عند فريق من الناس فأملَت عليهم صورًا متشابهة من القول فإنَّها لا تخرجها في عامَّة الأمر صورة واحدة.

كل هذا نسلِّمه ولا ننكِره، ولكنَّه لا يضرُّنا ولا يوهن شيئًا من حجتنا؛ ذلك أننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية،

ص: 193

كلَّا، ذلك ما لا نطمع فيه، ولا ندعو المعارضين إليه، وإنما نطلب كلامًا أيًّا كان نمطه ومنهاجه، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيًّا كانت فطرته ومزاجه، بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية حاذاه أو قاربه في ذلك المقياس وإن كان على غير صورته الخاصة، فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء، وفيه يتماثلون أو يتقاربون، وذلك غير المعارض والصور المعينة التي لا بد من الاختلاف فيها بين متكلم ومتكلم.

فإن عَسُر عليكَ أن تفهم كيف تجيء المماثلة مع هذا الاختلاف ضربنا لك مثلًا: قومًا يستبقون إلى غاية محدودة، وقد اتخذوا لذلك مجالًا واسعًا لا يزاحم بعضهم فيه بعضًا، ولا يضع أحدهم قدمه على موضع قدم صاحبه، بل جعل كل منهم يذهب في طريقه الخاص به موازيًا لقِرنه في المبدأ والوجهة، ثم يكون منهم المجلِّي والمصلِّي

(1)

، والمقفي والتالي

(2)

، ويكون منهم من لا حظَّ له في الرهان، ويكون منهم المتكافئون المتعادلون، وهكذا تراهم وهم مختلفو المنازل يقع بينهم التماثل كما يقع بينهم التفاضل بنسبة ما قطعه كل منهم من طريقه إلى الغاية المشتركة.

فكذلك المتنافسون في حلبة البيان يعمد كل منهم إلى الغرض من الطريق التي يرضاها، وعلى الوجه الذي يستمليه من نفسه، ثم يقع بينهم التماثل أو التفاضل على قدر ما يوفون من حاجة البيان أو ينقصون منها، وإن اختلفت المذاهب التي انتَحَاها كل منهم.

[أحوال من دعاهم القرآن للتحدِّي]

هب - إذًا - المدعوين لمعارضة القرآن فيهم الأكفاء والأنداد لنبي القرآن في الفطرة والسليقة العربية، أو من هم أكمل منه فيها، أو هبهم جميعًا دونه في تلك المنزلة.

(1)

«يقال للسابق الأول من الخيل المجلِّي، وللثاني المصلِّي» ، لسان العرب:(14/ 467). (عمرو)

(2)

لعلها: (المسلِّي والتالي)، وهو من أسماء السُّبَّق من الخيل، و «أَسمَاء السُّبَّق من الخَيْل: المُجلِّي، والمُصلِّي، والمُسَلِّي، والتَّالي، والْحَظِي، والمُؤمِّل، والمُرتاح، والعاطِف، واللطِيم، والسِّكِّيت»، تهذيب اللغة (15/ 47 - 48). (عمرو)

ص: 194

فأمَّا الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله.

وأمَّا الأنداد فسيجيئون بشيء مثله.

وأمَّا الآخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا ويجيئوا بشيء من مثله

(1)

، وشيء من هذه المراتب الثلاث

(2)

لو تم لكان كافيًا في رد الحجة وإبطال التحدي.

ستقول: بل أختار الواقع، وهو أن العرب على اختلاف مراتبهم في البيان لم يرتفعوا إلى طبقة البلاغة المحمدية، وأزعم أن هذا القصور الذاتي الذي قعد بهم عن مجاراته في عامة كلامه هو الذي قعد بهم عن معارضة قرآنه، وإذًا لا يكون هذا العجز حجة لكم على قدسية الأسلوب القرآني كما لم يكن حجة عندكم على قدسية الأسلوب النبوي.

فنجيب: أما أن محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان هو أفصحُ العرب، وكان له في هذه الفضيلة البيانية المقام الأول بينهم غير مزاحم، فذلك ما لا نماري - بل لا نمتري - فيه نحن ولا أحد ممن يعرف العربية، غير أننا نسأل ما مبلغ هذا التفاوت الذي كان بينهم وبينه؟ أكان مما يتفق مثله في مجاري العادات بين بعض الناس وبعض في حدود القوة البشرية، أم كان أمرًا شاذًّا خارقًا للعادة بالكلية؟

فأمَّا إن كان كما نعهد شبيهًا بما يكون في العادة بين البليغ والأبلغ، وبين الحسن والأحسن، فلا شك أن هذا النحو من العلو إن حال بينهم وبين المجيء بمثل كلامه كله لم يكن ليحول بينهم وبين قطعة واحدة منه، ولئن أعجزهم هذا القدر اليسير أن يحتذوه على التمام لم يكن ليعجزهم أن ينزلوا منه بمكانٍ قريب.

ألا وإننا قد أرخينا لهم العنان في معارضة القرآن بهذا أو ذاك، وأغمضنا لهم فيما يجيئوننا به أن يكون كلًّا أو بعضًا، وكثيرًا أو يسيرًا، ومماثلًا أو قريبًا من المماثل، فكان عجزهم عن ذلك كله سواء.

(1)

لا تنسَ ما قرَّرناه في الفرق بين هذه الطبقة والتي قبلها.

(2)

غير أنَّ المرتبة الأولى مسكوت عنها في القرآن الكريم استقصارًا لهممهم، واكتفاءً بتعجيزهم عما بعدها.

ص: 195

وأما إن قيل: إن التفاوت بينه عليه السلام وبين سائر البلغاء كان إلى حد انقطاع صلتهم به جملة؛ لاختصاصه من بين العرب ومن بين الناس بفطرةٍ شاذَّة لا تنتسب إلى سائر الفطر في قليل ولا كثير إلا كما تنتسب القدرة إلى العجز، أو الإمكان إلى الاستحالة، فلا شك أن القول بذلك هو أخو القول بأن من الإنسان ما ليس بإنسان، أو هو التسليم بأن ما يجيء به هذا الإنسان لا يكون من عمل الإنسان؛ ذلك أنَّ الطبيعة الإنسانية العامة واحدة، والطبائع الشخصية تقع فيها الأشباه والأمثال في الشيء بعد الشيء وفي الواحد بعد الواحد؛ إن لم يكن ذلك في كل عصر ففي عصور متطاولة، وإن لم يكن في كل فنون الكلام ففي بعض فنونه.

وكم

(1)

رأينا من أناس كثيرة تتشابه قلوبهم وعقولهم وألسنتهم فتتوافق خواطرهم وعباراتهم حينًا، وتتقارب أحيانًا، حتى لقد يخيل إليك أنَّ الرُّوح الساري في القولين روحٌ واحد، وأنَّ النفس ها هنا هو النفس هناك، وكذلك رأينا من الأدباء المتأخرين من يكتب بأسلوب ابن المقفع وعبد الحميد، ومن يكتب بأسلوب الهمذاني والخوارزمي، وهلمَّ جرا.

فلو كان أسلوبُ القرآن من عمل صاحبه الإنسان لكان خليقًا أن يجيء بشيء من مثله من كان أشبه بهذا الإنسان مزاجًا، وأقرب إليه هديًا وسمتًا، وألصق به رحمًا، وأكثر عنه أخذًا وتعلمًا، أو لكان جديرًا بأصحابه الذين نزل القرآن بين أظهرهم فقرأوه واستظهروه؛ وتذوقوا معناه وتمثلوه، وترسموا خطواته واغترفوا من مناهله -أن يدنوا أسلوبهم شيئًا من أسلوبه على ما تقضي به غريزة التأسي، وشيمة نقل الطباع من الطباع، ولكن شيئًا من ذلك كله لم يكن، وإنما كان قصارى فضل البليغ فيهم كما هو جهد البليغ فينا أن يظفر بشيء يقتبسه منه في تضاعيف مقالته ليزيدها به علوًّا ونباهة شأن.

(1)

في نسخة (دار الثقافة): وكائن، وهي صحيحة، ومنه:

«وكائن رأينا من غنيٍّ مذمَّم

وصعلوكُ قومٍ مات وهو حميد»

محاضرات الأدباء: (1/ 600)، خزانة الأدب:(3/ 219). (عمرو)

ص: 196

[تفرُّد أسلوب القرآن، ودلالته على المصدرية]

بل نقول: لو كان الأسلوب القرآني صورة لتلك الفطرة المحمدية لوجب على قياس ما أصلته من المقدمات أن ينطبع من هذه الصورة على سائر الكلام المحمدي ما انطبع منها على أسلوب القرآن؛ لأنَّ الفطرة الواحدة لا تكون فطرتين، والنفس الواحدة لا تكون نفسين

(1)

ونحن نرى الأسلوب القرآني فنراه

(1)

هنا موضع سؤال، فكأننا بقائل يقول لنا: إنه ليس بدعًا من الأمر أن يكون للرجل البليغ ضربان من الكلام:

أحدهما: يجيئه على البديهة فيرسله إرسالًا غير معنيٍّ بتهذيبه وتحبيره.

والآخر: يتأتى له بالروية ويحتفل به احتفالًا يجعل بينه وبين الضرب الأول بعدًا شاسعًا يخيَّل للسامع أنه قول شخص آخر مع صدور القولين عن قائل واحد.

فهلا طبقتم هذا المثل على الكلام المحمدي فجعلتم حديثه من الضرب الأول وقرآنه من الضرب الثاني؟

والجواب: أن توزيع هذين الضربين على الحديث والقرآن توزيع لا يتفق والواقع في شيء؛ فقد كان أكثر الوحي القرآني يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شأنٍ لم يسبق له عهد به ولم يتقدم منه تفكير فيه، بل كان يفاجئه من فوره على غير توقع وانتظار؛ جوابًا لسؤال سائل، أو فتيا في حادثة نزلت، أو قصصًا عن أمة مضت، أو ما إلى ذلك، وقليلًا ما كان يجيئه بعد تشوف وتلبث تمكن فيه الروية، كما في مسألة الإفك ومسألة تحويل القبلة، وقد رأينا أسلوبَه في كلتا الحالين، فإذا نسقُه هو نسقُه ونظامُه هو نظامُه.

وكذلك نقول: إنَّ كلامه النبوي كانت تختلف عليه هذه الظروف ويتحد فيها أسلوبه، فقد كان يتكلم أحيانًا بعد تفكير طويل ورويَّة وتشاور مع أصحابه كما رأينا من حديثه في مسألة الإفك، وكما نرى من حديثه بعد التشاور في شؤون الحرب والصلح ونحوها، وأحيانًا بعد تلبُّث يسير؛ انتظارًا للوحي كما في قصة الرجل الذي جاء في الجعرانة سنة ثمان فسأل عن العمرة وهو متضمخ بالطيب وعليه جبة، فنظر إليه النبي ساعة، ثم سكت، حتى جاءه الوحي، فلما سري عنه قال:(أين السائل عن العمرة؟) فجيء به، فقال صلى الله عليه وسلم:«أمَّا الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» رواه الشيخان*.

وأخرى كان يتكلم على البديهة فيما لا يشكل عليه أمره مما سبقت به قضية العقل أو الدين، وهو في كل ذلك يجري كما ترى على نمط واحد لا تستطيع أن تميز في أسلوبه بين ما كان معناه مدبرًا بالرأي وما كان معناه معلمًا بالوحي، ولا بين ما يرسله إرسالًا في حديثه مع أهله وأصحابه وما يحتفل به احتفالًا في الجموع المحشودة والأيام المشهودة.

فتبين بطلان ما اعتمده السائل من تفرقة بين القرآن والحديث على هذا النحو.

بل إننا لو ذهبنا إلى أبعد من ذلك وافترضنا جدلًا صحة هذا التقسيم لما صلح أساسًا يقوم عليه بنيان الشبهة؛ لأنَّ انقسام الكلام إلى المرسل على البديهة والمزور بالروية ما كان ليتفاوت به منهج الكلام - عند العرب الخلَّص - هذا التفاوت البعيد الذي يظن فيه أنه قول قائلين.

وإنما ظهر هذا التفاوت منذ انقرض أهل السليقة العربية ونبتت نابتة المولدين الذين أخذوا هذه اللغة من غير أمهاتهم، فكانت لغتهم التي بها يتكلمون غير اللغة التي بها يكتبون، وهكذا أمكن أن يكون لكل منهم أسلوبان متباينان، ينزل بأحدهما إلى العاميَّة الطبيعيَّة ويصعد بالآخر إلى العربية المكسوبة، أمَّا العربي القحَّ فإنَّه في عامَّة أمره ما كان يزيده التفكير والتقدير والروية إلا استيعابًا لأطراف الحديث واستكمالًا لمقاصده، ولم يكن ذلك ليخرجه عن أسلوبه وطريقته ولغته الخاصة التي يألفها طبعه وتفيض بها سجيته وهي اللغة التي يحتذيها أهل الفن منا بعد محاولة ومعالجة.

ولئن كان فيهم قليل ممن يدير القول على غير سجيته ويتعمَّل له ما ليس من عادته في كلامه، لقد كان هذا التكلف غير مخرج له عن حدود مذهبه جملة، بل كان يترك في غضون حديثه ما ينم عن روحه ومشربه، على أنَّ الكلام بعد تلك المعاناة لم يكن ليزداد فصاحة وحسنًا، بل كان ينزل في هذا الباب بقدر ما يحسب الحاسب أنه يصعد فيه.

ومن هنا كانت العرب تتمادح بالأمر يجيء طبعًا لا تكلفًا، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء ما من المتكلِّفين، بل كان أشدَّ النَّاس كراهية للتكلف في الكلام وغيره، وكان يقول:«هلك المتنطعون» رواه مسلم وأبو داود، والتنطع في الكلام: التعمق فيه والتفاصح.

وانظر ذمَّهُ الرجل الهذلي حين خاصم في دية الجنين فقال: (يا رسول الله كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يطلُّ)، أي: يهدر دمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما هذا من إخوان الكهَّان» ، من أجل سجعه الذي سجع، رواه الشيخان وغيرهما، وفي رواية:«أسجعٌ كسجع الأعراب؟» ، وفي أخرى:«أسجع الجاهلية وكهانتها؟» ، فذم هذا النوع من السجع وهو ما كان كسجع الكهان مصنوعًا غير مطبوع، وكان المعنى فيه تابعًا للفظ، وليس اللفظ تابعًا للمعنى *.

* الأحاديث:

1 -

عن صفوان بن يعلى بن أمية، أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليتني أرى نبي الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالجُعرَانة، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به عليه، معه ناس من أصحابه، فيهم عمر، إذ جاءه رجل عليه جبة صوف، متضمخ بطيب، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمَّخ بطيب؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سكت، فجاءه الوحي، فأشار عمر بيده إلى يعلى بن أمية: تعال، فجاء يعلى، فأدخل رأسه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، يغط ساعة، ثم سرِّيَ عنه، فقال:«أين الذي سألني عن العمرة آنفًا؟» فالتمس الرجل، فجيء به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أمَّا الطيب الذي بك، فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبَّة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك، ما تصنع في حجك» ، رواه البخاري:(4985)، ومسلم:(1180).

2 -

عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطِّعُون» قالها ثلاثًا، رواه مسلم:(2670)، وأبو داود:(4608).

3 -

عن أبي هريرة، قال:(اقتتلت امرأتان من هُذَيل، فرمَت إحداهما الأخرى بحجرٍ، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقِلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شربِ ولا أكلَ، ولا نطقَ ولا استهلَّ، فمثل ذلك يطلَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هذا من إخوان الكهَّان»، من أجل سجعه الذي سجع)، رواه البخاري:(5758)، ومسلم:(1681)، وفي رواية لمسلم:(1682): «أسجع كسجع الأعراب؟» .

ص: 197

ضربًا وحده، ونرى الأسلوب النبوي، فنراه ضربًا وحده لا يجري مع القرآن في

ص: 198

ميدان إلا كما تجري محلقات الطير في جو السماء لا تستطيع إليها صعودًا، ثم نرى أساليب الناس فنراها على اختلافها ضربًا واحدًا لا تعلو عن سطح الأرض، فمنها ما يحبو حبوًا، ومنها ما يشتد عدوًا، ونسبة أقواها إلى القرآن كنسبة هذه (السيارات) الأرضية إلى تلك (السيَّارات) السماوية!

نعم، لقد تقرأ القطعة من الكلام النبوي فتطمع في اقتناصها ومجاراتها كما تطمع في اقتناص الطائر أو مجاراته؛ ولقد تقرأ الكلمة من الحكمة فيشتبه عليك أمرها: أمن كلمات النبوة هي أم من كلمات الصحابة أو التابعين؟ ذلك على ما علمت من امتياز الأسلوب النبوي بمزيد الفصاحة ونقاء الديباجة وإحكام السرد، ولكنه امتياز قد يدق على غير المنتهين في هذا الفن. وقد يقصر الذوق وحده عن إدراكه، فيلجأ إلى النقل يستعينه في تمييز بعض الحديث المرفوع من الحديث الموقوف أو المقطوع

(1)

.

أمَّا الأسلوب القرآني فإنه يحمل طابعًا لا يلتبس معه بغيره، ولا يجعل طامعًا يطمع أن يحوم حول حماه؛ بل يدع الأعناق، تشرئب إليه ثم يردها ناكسة الأذقان على الصدور.

كل من يرى بعينين أو يسمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن في كفتي ميزان، ثم نظر بإحدى عينيه أو استمع بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن، وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوي وأساليب سائر الناس، وكان قد رزق حظًّا مَا من الحاسة البيانية والذوق اللغوي فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة

(1)

ألقاب اصطلح عليها علماء الرواية، يعنون من المرفوع:«ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم» ، والموقوف:«ما نسب إلى الصحابة» ، والمقطوع:«ما نسب إلى التابعين» .

ص: 199

الجلية، وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها، ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليتها .. استدلالًا بصنعة (ليس كمثلها شيء) على صانع {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

* * *

6 -

فإن كان السائل من طلاب الحق كما وصفنا، وانتهى من بحثه إلى حيث أشرنا، فأبصر وسمع، وقايس ووازن، وذاق ووجد، فسوف يتقدم إلينا بكلمته الأخيرة قائلًا: نعم نثلتُ

(1)

كنانة الكلام بين يدي، وعجمتُ

(2)

سهامها فما وجدت كالقرآن أصلب عودًا، ولقد وردت مناهل القول وتذوقت طعومها فما وجدت كالقرآن أعذب موردًا، والآن آمنت أنه كما وصفتموه نسيج وحده، وأنه يعلو وما يُعْلَى، وأنه يحطم ما تحته، غير أنني وقد أدركت من قوة الأسلوب القرآني وحلاوته ما أدركت - لم يزل الذي أحس به من ذلك معنى يتجمجم

(3)

في الصدر لا أحسن تفسيره ولا أملك تعليله، وما زالت النفس بعد هذا وذاك نزاعة إلى درس تلك الخصائص والمزايا التي استأثر القرآن بها عن سائر الكلام، وكان فيها سر إعجازه اللغوي.

فهل من سبيل إلى عرض شيء من ذلك علينا لتطمئن به قلوبنا، ونزداد إيمانًا إلى إيماننا؟

نقول: أما الآن فقد والله طلبت منَّا جسيمًا، وكلَّفتنا مرامًا بعيدًا لمثله انتدب العلماء والأدباء من قبلنا وفي عصرنا، فحفيت من دونه أقلامهم، ولم يزيدوا إلا أن ضربوا له الأمثال، واعترفوا بأن ما خفي عليهم منه أكثر مما فطنوا

ص: 200

له، وأن الذي وصفوه مما أدركوه أقل مما ضاقت به عباراتهم، ولم تقف به إشاراتهم.

ونحن، وقد أفضت إلينا النوبة من بعدهم، هل تحسب أننا سنسلك سبيلًا غير سبيلهم فنزعم أننا في هذه العجالة سنبرز لك سرَّ الإعجاز جملة؟ كلَّا، ولا استقراء ما كشفه الناس من جوانبه، كلَّا، ولا استقصاء ما نحسه نحن من تلك الجوانب.

وإنما نريد أن نصور لك بعض تلك الخصائص التي تلاقينا من كتاب الله كلما سمعناه أو تلوناه وتدبرناه، لعلك واجد في القليل منها ما لا تجده في الكثير مما يعده الناس، فإن زادك الناس من ذلك أنواعًا رجونا أن نزيدك من النوع الواحد إقناعًا وانتفاعًا.

* * * * *

أول ما يفجؤك:

[دراسةٌ في الأسلوب القرآني] أول ما يلاقيك ويستدعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره.

[الجمال الصوتي للقرآن] 1 - دع القارئ المجوِّد يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلًا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلًا بالقرآن على هوى نفسه، ثم انتبذ منه مكانًا قصيًّا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومدَّاتها وغنَّاتها، واتصالاتها وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية، وقد جردت تجريدًا وأرسلت ساذجة في الهواء، فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جرِّد هذا التجريد، وجود هذا التجويد.

ستجد اتساقًا وائتلافًا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر، وستجد شيئًا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر.

ذلك أنَّك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتًا بيتًا، وشطرًا شطرًا، وتسمعُ القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب

ص: 201

مذهبًا متقاربًا، فلا يلبث سمعك أن يمجَّها، وطبعك أن يملها، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد.

بينما أنت من القرآن أبدًا في لحن متنوع متجدد، تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل

(1)

على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعرُوك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.

هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب، فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟

[المقارنة بين القرآن والشعر]

وترى الناس قد يتساءلون: لماذا كانت العرب إذا اختصمت في القرآن قارنت بينه وبين الشعر نفيًا وإثباتًا، ولم تعرض لسائر كلامها من الخطابة وغيرها؟

وأنت، فهل تبينت ها هنا الجواب، وهُدِيت إلى السرِّ الذي فطنت له العرب، ولم يفطن له المستعربون؟

إنَّ أول شيء أحسته تلك الأذن العربية في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة والسكون تقسيمًا منوعًا يجدد نشاط السامع لسماعه، ووزِّعت في تضاعيفه حروف المدِّ والغنَّة توزيعًا بالقسط الذي يساعد على ترجيع الصوت به وتهادي النفس فيه آنًا بعد آن، إلى أن يصل إلى الفاصلة الأخرى فيجد عندها راحته العظمى، وهذا النَّحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى شيء منه في أشعارها فذهبت فيها إلى حد الإسراف في الاستهواء، ثم إلى حد الإملال في التكرير، فإنها ما كانت تعهده قط ولا كان يتهيَّأ لها بتلك السهولة في منثور كلامها سواء منه المرسل والمسجوع؛ بل كان

(1)

هل أنت بحاجة إلى معرفة مسميات هذه الألقاب؟ الحرف المتحرك يتلوه حرف ساكن يقال لهما: (سبب خفيف)، والحرفان المتحركان يتلوهما ساكن (وتد مجموع)، والحرفان المتحركان لا يتلوهما ساكن (سبب ثقيل)، والحرفان المتحركان يتوسطهما ساكن (وتد مفروق)، وثلاثة أحرف متحركة يعقبها ساكن (فاصلة صغيرة)، وأربعة أحرف متحركة يعقبها ساكن (فاصلة كبيرة).

ص: 202

يقع لها في أجود نثرها عيوب تغض من سلاسة تركيبه، ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلا بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه.

لا عجب إذًا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شعر؛ لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئًا منها إلا في الشعر.

ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها، فتقول: ما هو بشعر؛ لأنه - كما قال الوليد

(1)

- ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده، ثم لا عجب أن تجعل مرد هذه الحيرة أخيرًا إلى أنه ضرب من السحر؛ لأنَّه جمع بين طرفي الإطلاق والتقييد في حد وسط، فكان له من النثر جلاله وروعته، ومن الشعر جماله ومتعته.

[الترتيب الصوتي للحروف القرآنية]

2 -

فإذا ما اقتربت بأذنك قليلًا قليلًا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة، فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها؛ هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يهمس ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفَس، وآخر يحتبس عنده النفس، وهلمَّ جرّا.

فترى الجمال اللغوي ماثلًا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة

(2)

لا كركرة

(3)

ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة

(4)

، ولا تناكر ولا تنافر.

وهكذا ترى كلامًا ليس بالحضري الفاتر، ولا بالبدوي الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها، وقدر فيها الأمر تقديرًا لا يبغي بعضهما على بعض، فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلالتهما، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل، عندها تلتقي أذواقهم، وعليها تأتلف قلوبهم.

(1)

تقدمت كلمة الوليد في ذلك.

(2)

من وقف على صفات الحروف ومخارجها ازداد بهذا المعنى علمًا، وإن شئت فارجع إلى ما كتبه الأديب الرافعي عن هذه الناحية في كتابه الموسوم (إعجاز القرآن) فقد أطال نفسه فيها وأجاد.

(3)

«الكَرْكَرة: مِنْ الإدارة والترديد» ، تهذيب اللغة:(9/ 328).

(4)

«لم يعاظل الكلام، أي: لم يحمل بعضه على بعض، ولم يتكلم بالرجيع من القول، ولم يكرر اللفظ والمعنى» ، لسان العرب:(11/ 457).

ص: 203

ومن هذه الخصوصية والتي قبلها تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني، وليس الشأن في هذا الغلاف إلا كشأن الأصداف مما تحويه من اللآلئ النفيسة، فإنه جلت قدرته قد أجرى سنته في نظام هذا العالم أن يغشي جلائل أسراره بأستار لا تخلو من متعة وجمال، ليكون ذلك من عوامل حفظها وبقائها بتنافس المتنافسين فيها وحرصهم عليها.

انظر كيف جعل باعثة الغذاء ورابطة المحبة قوامًا لبقاء الإنسان فردًا وجماعة، فكذلك لما سبقت كلمته أن يصون علينا نفائس العلوم التي أودعها هذا الكتاب الكريم قضت حكمته أن يختار لها صوانًا يحببها إلى الناس بعذُوبته، ويغريهم عليها بطلاوَتِه، ويكون بمنزلة (الحُدَاء) يستحث النفوس على السير إليها، ويهون عليها وعثاء السفر في طلب كمالها، لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل، ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدًا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع، وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سره، وينفذون بها إلى بعيد غوره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

هل عرفت أنَّ نظم القرآن الكريم يجمع إلى الجمال عزة وغرابة؟ وهل عرفت أن هذا الجمال كان قوة إلهية حفظ بها القرآن من الفقد والضياع؟

فاعرف الآن أنَّ هذه الغرابة كانت قوة أخرى قامت بها حجة القرآن في التحدي والإعجاز، واعتصم بها من أيدي المعارضين والمبدلين، وأن ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كف أيديهم عنه، بل كان أجدر أن يغريهم به. ذلك أن الناس -كما يقول الباقلاني -

(1)

: إذا استحسنوا شيئًا اتبعوه، وتنافسوا في محاكاته بباعثِ الجِبلَّة.

وكذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضًا فيما يستجيدونه من الأساليب، وربما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربى عليه، كما صنع

(1)

في كتابه (إعجاز القرآن).

ص: 204

ابن العميد بأسلوب الجاحظ، وكما يصنع الكتاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض.

وما أساليب الناسِ على اختلافِ طرائقها في النثر والشعر إلا مناهل مورودة، ومسالك معبَّدة، تؤخذ بالتعلُّم، وتُرَاضُ الألسِنَة والأقلامُ عليها بالمِرَانة، كسائر الصناعات.

فما الذي منع النَّاس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتِهم وأقلامِهم وهم شرع في استحسان طريقته، وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته؟

ما ذاك إلا أنَّ فيه منعة طبيعية كفَّت ولا تزال تكفُّ أيديهم عنه، ولا ريب أن أول ما تلاقيك هذه المناعة فيما صوَّرناه لك من غريب تأليفه في بنيته، وما اتخذه في رصف حروفه وكلماته، وجمله وآياته، من نظام له سمت وحده، وطابع خاص به، خرج فيه عن هيئة كل نظمٍ تعاطاه الناس أو يتعاطونه.

فلا جرم لم يجدوا له مثالًا يحاذونه به، ولا سبيلًا يسلكونه إلى تذليل منهجه، وآية ذلك أن أحدًا لو حاول أن يدخل عليه شيئًا من كلام الناس من السابقين منهم أو اللاحقين، من الحكماء أو البلغاء أو النبيين والمرسلين، لأفسد بذلك مزاجه في فَمِ كل قارئ ولجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع، وإذًا لنادى الداخل على نفسه بأنه واغلٌ دخيلٌ، ولنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث الحديد {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41].

* * * * *

فإذا أنت لم يلهِكَ جمالُ العطاء عما تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السرِّ المصون، بل فَليتَ القشرة عن لبها، وكشفت الصدفة عن درها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي، تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيك منه ما هو أروع وأبدع.

لا نريد أن نحدثك ها هنا عن معاني القرآن وما حوته من العلوم الخارجة عن متناول البشر، فإنَّ لهذا الحديث موضعًا يجيء - إن شاء الله تعالى - في بحث

ص: 205

(الإعجاز العلمي)

(1)

وحديثنا كما ترى لا يزال في شأن (الإعجاز اللغوي) وإنما اللغة ألفاظ.

بيد أنَّ هذه الألفاظ ينظر فيها تارة من حيث هي أبنية صوتية مادتها الحروف وصورتها الحركات والسكنات من غير نظر إلى دلالتها. وهذه الناحية قد مضى لنا القول فيها آنفًا، وتارة من حيث هي أداة لتصوير المعاني ونقلها من نفس المتكلم إلى نفس المخاطب بها، وهذه هي الناحية التي سنعالجها الآن، ولا شك أنها هي أعظم الناحيتين أثرًا في الإعجاز اللغوي الذي نحن بصدده؛ إذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان؛ أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس وأنغام.

أما النظر في المعاني القرآنية من جهة ما فيها من العلوم العجيبة فتلك خطوة أخرى ونظرة خارجة عن البحث اللغوي جملة؛ إذ الفضيلة البيانية إنما تعتمد دقة التصوير وإجادةِ التعبير عن المعنى كما هو، سواء عندها أن يكون ذلك المعنى من جنس ما تتناوله عقول الناس أو لا يكون، بل سواء عندها أن يكون ذلك المعنى حقيقة أو خيالًا؛ وأن يكون هدى أو ضلالًا

(2)

؛ عكس الفضيلة

(1)

تكلم الشيخ عن الإعجاز العلمي في كتابه: «مدخل إلى القرآن الكريم» ، وخلاصة كلامه، أنَّ الشيخ دراز لا ينكر وجود حقائق علمية في القرآن، ولكنه يتحفظ عن المبالغة فيها والتعويل عليها بشدة إلا لغرض أنها تُذكِّر بالخالق، فنجده يقول:«القرآن في دعوته إلى الإيمان والفضيلة، لا يسوق الدروس من التعاليم الدينية والأحداث الجارية وحدها، وإنما يستخدم في هذا الشأن الحقائق الكونية الدائمة، ويدعو عقولنا إلى تأمل قوانينها الثابتة - لا بغرض دراستها وفهمها في ذاتها فحسب - وإنما لأنَّها تذكر بالخالق الحكيم القدير» ، ثم يقول:«دفع الحماس بعض المفسرين المحدثين إلى المبالغة في استخدام هذه الطريقة التوفيقية لصالح القرآن، بحيث أصبحت خطرًا على الإيمان ذاته؛ لأنها إما أن تقلل من الاعتماد على معنى النص باستنطاقه ما لا تحتمله ألفاظه وجمله، وإما أن تُعوِّل أكثر مما يجب على آراء العلماء وحتى على افتراضاتهم المتناقضة أو التي يصعب التحقق من صحتها، وبعد أن نستبعد هذه المبالغات عن البحث، نرى أن من مقتضيات الإيمان التي لا غنى عنها أن نضاهي الحقائق الفورية التي نجدها في القرآن مع نتائج العلماء المنهجية البطيئة» ، وانظر: منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة والربوبية، لسعود العريفي، ط. مركز تكوين، والإعجاز العلمي إلى أين؟ د. مساعد الطيار، ط. دار ابن الجوزي. (عمرو)

(2)

ولذلك كانت حكايات القرآنِ لأقوالِ المبطلين لا تقصر في بلاغتها عن سائر كلامه؛ لأنَّها تصف ما في أنفسهم على أتمِّ وجه.

ص: 206

العلمية، فإنها عائدةٌ إلى المعنى في نفسه على أي صورةٍ أخرجته، وبأي لغةٍ عبرت عنه.

نعم، قد تتفاوت اللغات في الوفاء بحقِّ المعنى، فيكون التعبيرُ الجيِّد مما يزيد في قيمته العلمية، لكن النظر ها هنا في قيمة البيان لا في قيمة المبين فلا تعجل علينا بتلك النظرة العلمية حتى نفرغ من هذه النظرة اللغوية.

[بيان بعض الخصائص البيانيَّة للقرآنِ الكريم]

والآن فلنبدأ وصفنا لبعض خصائص القرآن البيانية، ولنرتبها على أربع مراتب:

1 -

القرآن في قطعة قطعة

(1)

منه.

(1)

نريد منها ما يؤدي معنًى تامًّا، كالذي يؤدَّى عادة في بضع آيات، وقد يؤدى في آية طويلة، أو سورة قصيرة، وهو الحد الأدنى الذي تنزَّل إليه التحدي أخيرًا إذ قال:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة: 23] ولم يقل بسورة من طواله أو أوساطه، بل أطلق إطلاقًا، فتناول ذلك سور المفصل الذي كان قد نزل أكثره بمكة - قبل أن ينزل هذا التحدي الأخير حتى سورة العصر والكوثر.

وبعض الناس - كذا نقله الألوسي في مقدمة كتابه روح المعاني عن قائلٍ مجهول - يذهب إلى أن التحدي لم يقع بمطلق سورة، بل بسورة (تبلغ مبلغًا يتبين فيه رتب ذوي البلاغة) كأنَّه رأى أن هذه الرتب لا تتبين في مقدار ثلاث آيات مثلًا.

وهذا وإن لم يكن قادحًا في إعجاز القرآن، ولا مبطلًا لحجته «إذ يكفي ثبوت إعجازه، ولو في قدر سورة البقرة، أو سورة يونس، أو سورة هود، أو سورة الإسراء، أو سورة الطور، وهي السور التي ورد فيها ذكر التحدي» ، إلا أننا نحسب أن صاحب هذا القول حين ذهب إليه إنما ظن ظنًّا لم يستيقنه، واستبعد استبعادًا أن تكون هذه السور القصار معجزة في بيانها؛ لأنَّه لم يدرك غرابة في نظمها، فلم يفقه سر هذا الإعجاز فيها، ولكن هلَّا جعل ذلك حجة على قلة بضاعته في هذه الصناعة، ولم يجعل جهله بقيمتها حجة على عدم إعجازها.

فالنَّجم تستصغر الأبصار رؤيته

والذنب للطَّرف لا للنَّجم في الصِّغَر

وهلَّا فكَّر أنَّ العرب الذين قامت الحجة بعجزهم قد استوت قدرتهم أمام طواله وقصاره فلم يعارضوا هذه ولا تلك، فهذا وحده حاسم لشبهته إن كان يكفيه البرهان، فإن أراد العيان قيل له: اعمد إلى واحدة من تلك السور فحصل معانيها في نفسك، ثم جاء لها بكلام من عندك، فسوف ترى أنك بين أمرين: إما ألا تؤديها على وجهها في مثل هذا القدر وبمثل هذا النظم، وإما أن تعيد عين ألفاظها. لا ثالث.

وحينذاك تتبيَّن أنَّ سرَّ الإعجاز في القصير من سور القرآن مثله في الطويل، كما أن سرَّ الإعجاز في خلق النملة مثله في خلق الفيل، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله.

قال ابن عطية رحمه الله: «ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن رتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة، وقد قامت الحجة على العالم بالعرب، لانتهائهم إلى غاية الفصاحة البشرية» اه. عن الإتقان.

نقول: ومن سار على الدرب وصل، فإن لم يدرك كل ما تمنى دله ما علم على ما جهل، والله المستعان.

ص: 207

2 -

القرآن في سورة سورة منه.

3 -

القرآن فيما بين بعض السور وبعض.

4 -

القرآن في جملته.

ص: 208

(1)

«القرآن في قطعة قطعة منه»

[أسلوب القرآن تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها، على تباعد ما بين أطرافها]

لسنا ندري والله ماذا نقول لك في أسلوبٍ معجزٍ في وصفه، كما هو معجز في نفسه؟ غير أننا نقول كلمة هي جملة القول فيه، وهي أنه «تلتقي عنده نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرافها» .

هذه كلمة تحتاج تفسيرًا طويلًا يمتلئ به الصدر ولا ينطلق به اللسان، وكل ما سنحاوله أن نفسِّر لك جانبًا منها بقدر الطاقة، غير أننا قبل أن نحدِّثك في هذا الجانب عن القرآن سنحدثك عن كلام الناس حديثًا يفهمه كل من عالج صنعة البيان بنفسه، لتعرف من وجوه النقص ها هنا وجوه الكمال هناك، ومن أبواب العجز ها هنا أسباب الإعجاز هناك:

(أ - ب)

«القصد في اللفظ» و «الوفاء بحق المعنى»

نهايتان كل من حاول أن يجمع بينهما وقف منهما موقف الزوج بين ضرَّتين لا يستطيع أن يعدل بينهما دون ميل ما إلى إحداهما: فالذي يعمد إلى ادِّخار لفظه وعدم الإنفاق منه إلا على حد الضرورة لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلًا أو كثيرًا، ذلك أنه إما أن يؤدي لك مراده جملة لا تفصيلًا، فيكون سبيله سبيل

ص: 209

من يقول في باب المحاجة: (صدقوا، أو كذبوا) وفي باب الوصف (حسن، أو قبيح) وفي باب الإخبار: (كان أو لم يكن) وفي باب الطلب: (افعل، أو لا تفعل) لا زائد على ذلك.

وإما أن يذهب فيه إلى شيء من التفصيل، ولكنه إذ يأخذه الحذر من الإكثار والإسراف يبذل جهده في ضمِّ أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات التمهيد والتشويق، ووسائل التقرير والتثبيت، وما إلى ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان، حتى يخرجه ثوبًا متقلصًا يقصر عن غايته، أو هيكلًا من العظم لا يكسوه لحم ولا عصب، وربَّ حرف واحد ينقص من الكلام يذهب بمائه ورونقه، ويكسف شمس فصاحته، ورب اختصار يطوي الكلام طيًّا يزهق روحه ويعمي طريقه؛ ويرد إيجازه عِيًّا وإلغازًا.

والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره؛ وإبراز كل دقائقه «بقدر ما يحيط به علمه وما يؤديه إليه إلهامه» لا يجد له بدًّا من أن يمد في نفسه مدًّا؛ لأنَّه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره، ويؤدِّي عن نفسه رسالتها كاملة، فإذا أعطى نفسه حظها من ذلك لا يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلامه، ويبطئ بك في الوصول إلى غايته، فتحس بقوة نشاطك وباعثة إقبالك آخذتين في التضاؤل والاضمحلال.

عامَّة من نعرفهم من الفصحاء - قدامى ومحدثين - يؤتَون من هذا الجانب غالبًا، أعني جانب الإملال والإسراف، لا جانب الإخلال والإجحاف.

وأكثرهم تجمح بهم شهوةُ البيان إلى أبعد من هذا الحد، فمنهم من يذهب إلى التكلف والتفصح باستعمال الغريب من المفردات والتراكيب، فيكلِّفك أن تبدي وتعيد وتقبل وتدبر حتى تهتدي إلى وجه مراده، وهكذا لا يزداد كلامه بالبسط إلا ضيقًا عن الفهم. ومنهم من يُلقي حول المعنى ركامًا من الحشو والفضول ينوء بحِمله، أو يلبسه ثوبًا فضفاضًا من المترادف والمتقارب يتعثر في أذياله، يحسب أنَّه يوفي لك المعنى ويحدده، وفي الحقِّ إنما ينشره ويبدِّده، ولعل أمثل هؤلاء طريقة من لو حذفت شطر كلامه لأغناك عنه ثاني شطريه.

ص: 210

ذلك على أن البلغاء مهما أوجفوا من ركابهم، ومهما أجلبوا بخيلهم ورجِلِهم لا يبلغ الواحد منهم بعمله غاية أمله، وإنما يصل كما قلنا إلى كمالٍ نسبي (بقدر ما يحيط به علمه، وما يؤدِّيه إليه إلهامه في الحال) أمَّا الوفاء بالمعنى حق وفائه بحيث لا يخطئه عنصر منه ولا حلية من حلاه ولا ينضاف إليه عرض غريب عنه يعد رقعة في ثوبه، ولا ينقلب فيه وضع من أوضاعه يغض من حسن تقويمه، وبحيث لا سبيل فيه إلى نقض أو اقتراح جديد؛ فذلك أمر لا يستطيع أن ينتحله رجل اكتوى بنار البيان، فضلًا عن أن ينحله لإنسان غيره.

وآية ذلك أنك تراه حين يتعقب كلام نفسه في الفَيْنَة بعد الفينة يجد فيه زائدًا يمحوه، وناقصًا يثبته؛ ويجد فيه ما يهذب ويبدل، وما يقدم أو يؤخر، حتى يسلك سبيله إلى النفس سويًّا.

ولعله لو رجع إليه سبعين

(1)

مرة لكان له في كل مرة نظرة

(2)

، وكلما كان أنفذ بصرًا وأدق حسًّا، كان أقل من ذلك قناعة وأبعد همًّا؛ إذ يرى وراء جهده غاية هي المثل الأعلى الذي يطمح إليه ولا يطاوعه، والكمال البياني الذي يتعلق به خياله ولا يناله {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14].

هذا حظُّ الكلام البليغ عند قائله، فما ظنُّك بناقديه ومنافسيه؟

هذا؛ وهو إنما يعمد إلى غاية واحدة، فكيف لو عمد معها إلى الغاية الأخرى، وحاول أن يضع هذه الثروة المعنوية في لفظ قاصد؟ وأنَّى يكون له ذلك

ص: 211

وهو سجين هذه الفطرة الإنسانية التي لا تقرب به من أحد طرفي الطريق إلا بمقدار ما تبعد به عن الطرف الآخر؟

ولئن ظفرت بأحد وُفِّق لتقريب تينك الغايتين إلى حد ما في جملة أو جملتين، فتربص به كيف يكون أمره بعد ذلك، وانظر كيف يدركه الكلال والإعياء وفترة الطبع الإنساني فينحلُّ من عقدة كلامه ما كان وثيقًا، ويذبل من زهرته ما كان غضًّا طريًّا، ثم لا يعود إلى قوته إلا في الشيء بعد الشيء، كما تصادف في التراب قطعة من التبر ها هنا وقطعة هنالك، فتقول: هذا نفيس جيد، وهذا أنفس وأجود، وهذا هو واسطة العقد وبيت القصيد.

سل العلماء بنقد الشعر والكلام: (هل رأيتم قصيدة أو رسالة كلها أو جلها معنى ناصعًا، ولفظًا جامعًا، ونظمًا رائعًا؟!)، لقد أجمعت كلمتهم على أن أبرع الشعراء لم يبلغوا مرتبة الإجادة إلا في أبيات محدودة، من قصائد معدودة، وكان لهم من وراء ذلك المتوسط والرديء، والغثِّ والمستكره، وكذلك قالوا في الكتاب والخطباء، والأمر فيهم أبين.

فإن سرَّك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع، فانظر حيث شئت من القرآن الكريم، تجد بيانًا قد قدِّر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير، يؤدي لك من كل معنى صورة نقية وافية:(نقية) لا يشوبها شيء مما هو غريب عنها، (وافية) لا يشذ عنها شيء من عناصرها الأصلية ولواحقها الكمالية، كل ذلك في أوجز لفظ وأنقاه، ففي كل جملة منه جهاز من أجهزة المعنى، وفي كل كلمة منه عضو من أعضائه، وفي كل حرف منه جزء بقدره، وفي أوضاع كلماته من جمله، وأوضاع جمله من آياته سر الحياة الذي ينتظم المعنى بأدائه.

وبالجملة ترى كما يقول الباقلاني: (محاسن متوالية

(1)

، وبدائع تترا).

(1)

أصل الكلمة (تتوالى) هكذا في كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، ولكننا نقلناها بالمعنى، ولم ننقلها قصدًا لإصلاح خطأ مشهور بين المبتدئين، إذ يظنون كلمة (تترا) فعلًا مضارعًا، وإنما هي اسم منصوب أصله وترا، أي متتابعًا، ولا يخفى أن جعل القرينة الأولى فعلًا مضارعًا من شأنه أن يقرر هذا الوهم في نفس الطالب؛ فآثرنا تعديلها على هذا الوجه مع التنبيه على ذلك.

انظر: إعجاز القرآن، للباقلاني:(192).

ص: 212

ضع يدك حيث شئت من المصحف، وعد ما أحصته كفك من الكلمات عدًّا، ثم أحصِ عدتها من أبلغ كلام تختاره خارجًا

(1)

عن الدفتين، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك. ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله؟ وأية كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك؟ فكتاب الله تعالى -كما يقول ابن عطية: (لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم توجد)

(2)

بل هو كما وصفه الله {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 11]

(3)

.

* * * * *

(1)

وكلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن كان - لما أشربه من روح الوحي - أوجز وأفصح كلام تكلم به الناس، لا يبلغ في وجازته واكتنازه وامتلائه بتلك الثروة المعنوية معشار ما تجده من ذلك في القرآن الكريم.

(2)

عن الإتقان.

* وأصله: يقول ابن عطية: «والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولًا كاملًا، ثم تعطى لآخر نظيره فيأخذها بقريحة جامَّة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل، كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد.

ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام»، المحرر الوجيز:(1/ 52). (عمرو)

(3)

وأنت فأنعِم النَّظر في هذه الآية الكريمة تجدها قد جمعت كل ما بسطناه في هذا الفصل بكلمتي (الإحكام) و (التفصيل) وأي إحكام وتفصيل؟ إحكام من (حكيم) متقن لا خلل في صناعته، وتفصيل من (خبير) عالم بدقائق الأمور وتفاصيلها على ما هي عليه.

ص: 213

(ج - د)

«خطاب العامة» و «خطاب الخاصة»

وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عند الناس، فلو أنَّك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغبياء لنزلت بهم إلى مستوًى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب، ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم، فلا غنى لك - إن أردتَّ أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملًا من بيانك - أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى؛ كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال، فأمَّا أن جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك فيراها كل منهم مقدَّرة على مقياس عقله وعلى وفق حاجته فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم، فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].

* * * * *

(هـ - و)

«إقناع العقل» و «إمتاع العاطفة»

وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها، فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان

ص: 214

التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معًا.

فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟

لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوًّا في جانب، وقصورًا في جانب.

(فأمَّا) الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءً لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبوٍّ عن الطباع.

(وأمَّا) الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيًّا أو رشدًا؛ وأن يكون حقيقة أو تخيلًا، فتراهم جادِّين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويُطرِبُون وإن كانوا لا يَطرَبُون {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224] وما بعدها.

وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير، وكل امرئ حين يحس ويشعر فإنَّما هو شاعر صغير، فسل علماء النفس:(هل رأيتم أحدًا تتكافأ فيه قوة التفكير وقوة الوجدان وسائر القوى النفسية على سواء؟ ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فهل ترونها تعمل في النفس دفعة وبنسبة واحدة؟) يجيبوك بلسان واحدة: (كلا، بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال، وكلَّما تسلطت واحدة منهن اضمحلت الأخرى وكاد ينمحي أثرها. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره، وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى هاتين الغايتين قصدًا واحدًا، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معًا، وصدق الله:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4].

فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطِّلبَتين على سواء، وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء؟ وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال.

ص: 215

هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعًا لها حين قال أو كتب: (فإذا) رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية، قلت: هذا ثمرة الفكرة.

(وإذا) رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذتها أو ألمها، قلت: هذا ثمرة العاطفة.

(وإذا) رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه.

وأما أن أسلوبًا واحدًا يتجه اتجاهًا واحدًا ويجمع في يديك هذين الطرفين معًا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقًا وأزهارًا وأثمارًا معًا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.

فمن لك إذًا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟

ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت؛ ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره

(1)

لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟

أوَ لا تراه في معمعة براهينه

(2)

(1)

اقرأ مثلًا سورة القصص وسورة يوسف عليه السلام.

(2)

اقرأ مثلًا قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء: 22] وانظر كيف اجتمع الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة.

بل الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية ووضوح المقدمات المسلمة ودقة التصوير لما يعقب التنازع من (الفساد) الرهيب، فهو برهاني خطابي شعريٌ معًا، هل تجد مثل هذا في كتاب من كتب الحكمة النظرية؟

* قلت (عمرو):

البرهان، والخطابة، والشعر، من أنواع القياس المنطقي، والبرهان: قياس يفيد اليقين، والخطابة تفيد ميل السامع إلى ما يراد منه ويركن إليه، ويقوى ذلك بفصاحة الكلام وعذوبة الألفاظ وطيب النغمة، والشعر يقصد به الترغيب، أو الترهيب، أو التشجيع، أو الحث على العطاء، أو تحريك فرح، أو حزن، أو تقريب بعيد، أو غير ذلك.

انظر: تقريب الوصول إلي علم الأصول: (148 - 149).

ص: 216

وأحكامه

(1)

لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13 - 14].

* * *

(1)

اقرأ مثلًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة البقرة: 178] وانظر الاستدراج إلى الطاعة في افتتاح الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وترقيق العاطفة بين الواترين والموتورين في قوله: {أَخِيهِ} وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} وقوله: {بِإِحْسَانٍ} ، والامتنان في قوله:{تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} والتهديد في ختام الآية. ثم انظر في أي شأن يتكلم؟ أليس في فريضة مفصلة وفي مسألة دموية؟ وتتبع هذا المعنى في سائر آيات الأحكام حتى أحكام الإيلاء والظهار، ففي أي كتاب من كتب التشريع تجد مثل هذا الروح؟ بل في أي لسان تجد هذا المزاج العجيب؟ تالله لو أن أحدًا حاول أن يجمع في بيانه بين هذين الطرفين ففرق همه ووزع أجزاء نفسه، لجاء بالأضداد المتنافرة ولخرج بثوب بيانه رقعًا ممزَّعة.

ص: 217

(ز - ح)

«البيان» و «الإجمال»

وهذه عجيبةٌ أخرى تجدها في القرآن ولا تجدها فيما سواه، ذلك أنَّ الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع لتأويل، وإذا أجملوها ذهبوا إلى الإبهام أو الإلباس، أو إلى اللغو الذي لا يفيد، ولا يكاد يجتمع لهم هذان الطرفان في كلام واحد.

وتقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف، والملاسة والإحكام والخلو من كل غريب عن الغرض ما يتسابق به مغزاها إلى نفسها دون كدِّ خاطر ولا استعادة حديث.

كأنَّك لا تسمع كلامًا ولغات بل ترى صورًا وحقائق ماثلة، وهكذا يخيَّل إليك أنك قد أحطت به خُبرًا ووقفت على معناه محدودًا؛ هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة، وكذلك .. حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة

(1)

وجوهًا عدة كلها

(1)

هذا مثلٌ صغير: اقرأ قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة البقرة: الآية 312]. وانظر هل ترى كلامًا أبين من هذا في عقول الناس، ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة، فإنك لو قلتَ في معناها: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه، ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبتَ.

ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاقٍ خوف النَّفاد، أصبت.

ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر، ولا يحتسب، أصبت.

ولو قلت: إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت.

ولو قلت: يرزقه رزقًا كثيرًا لا يدخل تحت حصر وحساب، أصبت.

فعلى الأوَّل: يكون الكلام تقريرًا لقاعدة الأرزاق في الدنيا، وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقًا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين.

وعلى الثاني: يكون تنبيهًا على سعة خزائنه وبسطة يده جل شأنه.

وعلى الثالث: يكون تلويحًا للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدِّل عسرهم يسرًا وفقرهم غنى من حيث لا يظنون.

وعلى الرابع والخامس: يكون وعدًا للصالحين إمَّا بدخولهم الجنة بغير حساب، وإمَّا بمضاعفة أجورهم أضعافًا كثيرة لا يحصرها العد.

ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العاجب.

ص: 218

صحيح أو محتمل للصحة، كأنما هي فصٌّ من الماس يعطيك كل ضلع منه شعاعًا، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها، فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع. ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى منها أكثر مما رأيت.

وهكذا تجد كتابًا مفتوحًا مع الزمان يأخذ كل منه ما يسر له؛ بل ترى محيطًا مترامي الأطراف لا تحده عقول الأفراد ولا الأجيال.

ألم تر كيف وَسِعَ الفرق الإسلامية على اختلاف منازعها في الأصول والفروع؟ وكيف وسع الآراء العلمية على اختلاف وسائلها في القديم والحديث؟ وهو على ليِّنه للعقول والأفهام صلب متين، لا يتناقض ولا يتبدل، يحتج به كل فريق لرأيه، ويدعيه لنفسه، وهو في سموه فوق الجميع يطل على معاركهم حوله، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء وهؤلاء:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84]

(1)

.

(1)

يقول د. ياسر المطرفي ما ملخصه: «بين الله سبحانه وتعالى طبيعة علاقة الإنسان بالقرآن، وهي علاقة التدبر، يقول الله تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، فهو هنا يبين أن وظيفة تنزيل القرآن على البشر، هو تدبر آياته.

والتدبر مرحلة بعد مرحلة الفهم، وبالتالي فهو مطالب بالفهم أولًا ثم بالتدبر ثانيًا.

لكن هذه الوظيفة وهي التدبر والسعي نحو الوصول إلى هداياته هي وظيفة (ابتلائية)، ففي سبيل الوصول إلى مقصود (الهداية) ثمة مقصود آخر وهو (الابتلاء)، فبعد أن ذكر الله سبحانه تنزيله للقرآن بالحق في قوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 48] = ذكر أنه مع تنزيله لهذا الكتاب لم يشأ أن يجعل الناس أمة واحدة، بل سيختلفون وهذا من الابتلاء لهم، فقال في نفس الآية:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48].

إنَّ وظيفة تأويل النص هي وظيفة (ابتلائية)، وتحدٍ كبير يخوضه القارئ أمام النص، ويزداد هذا التحدي من خلال معرفة تركيبة الإنسان الجدلية، التي يذكرها الله بعد ذكره لبيان القرآن، فيقول:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54].

فإن الله سبحانه مع وصفه القرآن بأنه مفصل ومبين يذكر أنه مع هذا التفصيل فإن من طبيعة الإنسان (وهو القارئ) الجدل، فمع وضوح بيان النص وتفصيله، إلَّا أنَّ قارئه جدلي في طبعه، وهذه الطبيعة ستؤثر دونما شكٍّ في طبيعة تعاطيه مع النص.

بل إنَّ الطبيعة الجدلية ربما قادته للجدل بدون برهان وعلم، ممَّا يعني أن القضية ترجع إلى عامل نفسي هو تكبر الإنسان أحيانًا أمام الحقيقة البينة الواضحة، يقول الله سبحانه في ذلك:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56].

إنَّ التحدي الأكبر أمام النص القرآني ليس من النص ذاته وإنَّما من قارئه.

وكما يقول ابن تيمية: «وكلام الله ورسوله وكلام العلماء مملوءٌ بما يَفْهَمُ الناس منه معنى فاسدًا؛ فكان العيب في فهم الفاهم لا في كلام المتكلم الذي يُخاطب جِنْسَ الناس» ، [تلخيص كتاب الاستغاثة، (2/ 615)].

ولذلك؛ فإنَّ الله سبحانه لَمَّا ذكر معوقات تدبر القرآن حصرهما في أمرين: أحدهما يعود على النص والآخر راجع إلى القارئ.

يقول الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

وفي الآية الأخرى يقول سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

ففي الآية الأولى: أُرجع عائق التدبر إلى طبيعة النص، وهو: وجود الاختلاف فيه، فبرأ النص من وجود الاختلاف الذي يحول دون التدبر.

وفي الآية الثانية: أرجع عائق التدبر إلى طبيعة القارئ، الذي كأنما أقفل قلبه بفعل موانع تمنعه من التدبر.

فالله سبحانه نفى العائق الأول الذي يعود إلى النَّص، وأثبت العائق الثاني الذي يعود إلى قارئه.

إذًا فالقارئ أمام وظيفة (الابتلائية) في فهم النَّص، وفي ظل ذلك يمكن أن نفهم سبب وجود المحكم والمتشابه في القرآن.

فالله سبحانه عندما ذكر اشتمال كتابه على المحكم والمتشابه في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] = بيَّن أن ما يحصل من الإشكال في التعامل مع هذا المحكم والمتشابه هو من هوى القارئ وهو ما عبر عنه ب (الزيغ)، فقال:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7].

ويلاحظ في تعبير القرآن أنَّه عبَّر ب {في قلوبهم زيغ} ، ولم يقل «في عقولهم» إشارة منه إلى أنَّ هوى القارئ هو الذي يتحكم في عقله لينحرف في تأويل النص من اعتماد (المحكم) إلى اعتماد (المتشابه).

إنَّ العقل الذي هو أداة التأمل في النص، لكنَّها أداة عندما تتأثر بالهوى يحصل لها الزيغ والانحراف عن طريق الوصول إلى المعنى الصحيح.

والنزعة (العقائدية) قد تتحول إلى هوى فبينما يحسب القارئ أنَّه يُفسر النصِّ من أجل الوصول إلى هدايته؛ إذا به يُفسره من أجل الوصول إلى نصرة مذهبه ومعتقده.

والرازي يُرجع حكمة وجود المحكم والمتشابه إلى (الهداية)، فهو يذهب إلى عكس ما يتبادر إلى الأذهان من أن وجود المحكم والمتشابه سيؤدي إلى عدم الاهتداء لحقائق النص = فيرى أن التنوع ما بين المحكم والمتشابه سيقود الفرق المختلفة إلى الوصول لهداية الحق؛ فإنَّ التدافع العقائدي حول النص القرآني سيدعو تلك الطوائف في نهاية المطاف إلى التفتيش داخل النص لتؤيد مقولاتها، حتى إذا ما استغرقت فيه قادها النص إلى هداياته، يقول في توضيح هذه الفكرة:«لو كان القرآن كله محكمًا لَمَا كان مطابقًا إلَّا لمذهب واحد، وذلك ممَّا يُنَفِّر أرباب المذاهب المخالفة له، ويُبْعِدُهُم عن النظر فيه، ولذلك اشتمل القرآن على المحكم والمتشابه، فيطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه، فإذا نظروا وبالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرةً للمتشابهات، وبهذا الطريق يتخلص المُبْطِلُ عن باطله، ويصل إلى الحق» .

وهذا الذي يصفه قد يحصل من جهة أخرى، فربما يريد المستدل جمع الأدلة التي تدل على مقولاته العقائدية، فيجد أنَّ النص لا يدل عليها، بل يدل على عكسها، فيقوده ذلك إلى تغيير تلك القناعة واستبدالها بقناعة أخرى يجدها من خلال استقراء النص.

لكنَّنا نذهب إلى أنَّ حكمة تنوع آيات القرآن ما بين المحكم والمتشابه هي من (ابتلائية) الله في التعامل مع النص.

لكن هذا الابتلاء ليس مجردًا عن الأسباب التي تساعد على تجاوزه، بل إنَّ الله سبحانه ضمَّن في داخل النص من التدابير ما يساعد على النجاح في تجاوزه»، انتهى كلامه، وقد أظهر في البحث ما يعين على تجاوز ابتلائية الفهم، والوصول للفهم الحق، فانظره، (العقائدية)، ياسر المطرفي:(695)، وما بعدها.

ص: 219

[مثال على الخصائص البيانية للقرآن]

ها نحن أولاء قد عرضنا لك جانبًا من تلك العجائب البيانية التي لا تنال مثلها أيدي الناس، وها قد أعطيناك في حاشية كل منها نموذجًا صغيرًا، يفتح لك الباب إلى احتذائه في سائر القرآن.

فهل ترى في هذا وفاءً بما وعدناك، وبما عودناك، من التقفية على آثار التفصيل بشيء من التطبيق والتمثيل؟ أم لا تزال بحاجة إلى المزيد من هذه الأمثلة؟!

ص: 221

سنزيدك، وسنوجِّه نظرك بنوع خاص إلى دقة التعبير القرآني ومتانة نظمه، وعجيب تصرفه، حتى يؤدِّي لك المعنى الوافر الثري، في اللفظ القاصد النقي، إذ كانت هذه الخاصَّة الأولى - من الخواصِّ التي ذكرناها - أحوج إلى التوقيف والإرشاد.

ولا تحسبنَّ أننا سنضرب لك الأمثال بتلك الآيات الكريمة التي وقع اختيار الناس عليها وتواصفوا الإعجاب بها، كقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ

} [هود: 44] الآية

(1)

، وقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]

(2)

، وأشباههما.

بل نريد أن نجيئك بمثال من عُرض القرآن في معنى لا يأبَه له الناس ولا يقع اختيارهم على مثله عادة، ليكون دليلًا على ما وراءه.

يقول الله تعالى في ذكر حِجَاج اليهود: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91]، والآيتان بعدها.

هذه قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:

1 -

مقالة ينصح بها الناصح لليهود، إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن.

2 -

إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين.

3 -

الردُّ على هذا الجواب بركنيه، من عدة وجوه.

وأقسمُ لو أنَّ محاميًا بليغًا وكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية، ثم هُدي إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات، ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق.

(1)

اقرأ إن شئت ما كتبه السكاكي عن هذه الآية في كتابه (مفتاح العلوم)[ص: 17] بعد تعريف البلاغة والفصاحة في آخر علم البيان.

(2)

اقرأ ما كتبه عنها المفسرون وما كتبه صاحب (الإتقان) في بحث الإيجاز والإطناب.

ص: 222

قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة؛ ألستم قد آمنتم بالتوراة التي جاء بها موسى لأنَّها أنزلها الله؛ فالقرآن الذي جاء به محمد أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها.

فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 91]، وسرُّ ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته

(1)

، فجعل دعاءهم إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته

(2)

، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد.

ثم انظر كيف طوى ذكر المنزَل عليه فلم يقل: آمنوا بما أنزل الله (على محمد) مع أن هذا جزء متمِّمٌ لوصف القرآن المقصود بالدعوة، أتدري لم ذلك؟ لأنَّه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائدًا، وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسدًا.

أمَّا الأول: فلأنَّ هذه الخصوصية

(3)

لا مدخل لها في الإلزام، فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل

(4)

.

وأمَّا الثاني: فلأنَّ إلقاء هذا الاسم

(5)

على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدي إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح.

ذلك إلى ما في هذا الحذف من الإشارة إلى طابع الإسلام، وهو أنَّه ليس دين تفريق وخصومة، بل هو جامع ما فرَّقه الناس من الأديان، داعٍ إلى الإيمان بالكتب كلها على سواء: بما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرق بين شيء من كتبه، كما لا نفرق بين أحد من رسله.

(1)

أي: {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 91]. (عمرو)

(2)

أي: لأن الله أنزله. (عمرو)

(3)

أي: خصوصية نزوله على (محمد). (عمرو)

(4)

أي: إنزاله من الله سبحانه. (عمرو)

(5)

أي: اسم سيدنا رسول الله (محمد). (عمرو)

ص: 223

كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنَّا بها لأنَّ الله أنزلها علينا، والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.

هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وهذا هو المقصد الأول، وقد زاد في إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة؛ لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.

من البين أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أُنزِل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني، ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يبرزه.

انظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهبًا لهم، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم: فقال: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟

ثم انظر إلى التعبير عن القرآن بلفظ {بِمَا وَرَاءَهُ} فإنَّ لهذه الكلمة وجهًا تعم به غير القرآن ووجهًا تخص به هذا العموم، ذلك أنهم كما كفروا بالقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كفروا بالإنجيل المنزل على عيسى، وكلاهما وراء التوراة، أي جاء بعدها، ولكنهم لم يكفروا بما قبل التوراة من صحف إبراهيم مثلًا، وهكذا تراه قد حدد الجريمة تمام التحديد باستعمال هذا اللفظ الجامع المانع، وهذا هو غاية الإنصاف وتحري الصدق في الاتهام.

جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه.

فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتًا كأنها مسلَّمة ليبني عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب، فيقول: كيف يكون إيمانهم بكتابهم باعثًا على الكفر بما هو حق مثله؟ - لا، بل {هُوَ الْحَقَّ} كله

(1)

- وهل يعارض الحق حتى يكون الإيمان بأحدهما موجبًا للكفر بالآخر؟!

(1)

فإن ما سواه إن خالفه كان شاهدًا على نفسه بالبطلان، وإلا كان صحيحًا أو محتملًا للصحة، فهو إذًا معيار الحق وميزانه.

ص: 224

ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السابقة عليه كالأمر بين كل حق وحق؛ فقد يكون الشيء حقًّا وغيره حقًّا فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين فلا يشهد بعضهما لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدًا و {مُصَدِّقًا} لما بين يديه من الكتب، فأنى يكذب به من يؤمن بها؟!

ثم يستمر في إكمال هذا الوجه قائلًا: ولو أنَّ التحريف أو الضياع الذي نال من هذه الكتب قد ذهب بمعالم الحق فيها جملة لكان لهم بعض العذر في تكذيبهم بالقرآن؛ إذ يحق لهم أن يقولوا: (إن البقية المحفوظة من هذه الكتب في عصرنا ليس بينها وبين القرآن هذا التطابق والتصادق، فليس الإيمان بها موجبًا للإيمان به) .. بل لو أن هذه البقية ليست عندهم ولكنهم كانوا عن دراستها غافلين، لكان لهم مثل ذلك العذر، أما وهذا القرآن مصدق لما هو قائم من الكتاب في زمنهم وبأيديهم ويدرسونه بينهم فبماذا يعتذرون وأنى يذهبون؟! هذا المعنى كله يؤديه لنا القرآن بكلمة {لِمَا مَعَهُمْ} .

فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رُفعت وأخرى وُضعت

(1)

في مكانها عند الحاجة إليها؛ فكانت هذه الكلمة حسمًا لكل عذر، وسدًّا لكل باب من أبواب الهرب؛ بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم تمت في خطوة واحدة، وفي غير ما جَلَبَةٍ ولا طنطنة.

ولما قضى وطرَ النَّفس من هذا الجانب المطويِّ الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجَّحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابًا وتفنيدًا، وبيَّن أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أُشرِبُوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضًا مزمنًا، وأنَّ الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم؛ وساق على

(1)

ذلك أنه كان مقتضى السياق أن يقال: (مصدقًا لما أنزل عليهم) ولكنه لأمر مَا نحى عن كتابهم ذلك اللقب القديم، وألبسه هذا العنوان الجديد، ولو بدلت أحد اللقبين مكان الآخر لما صلح أحدهما في موضع صاحبه، بل لو جئت بلقب آخر فقلت:(مصدقًا لما هو باق في زمنهم) أو (مصدقًا لما عندهم) لما تم الإلزام، وهذا من عجب شأن القرآن؛ لا تبديل لكلماته.

ص: 225

ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها، في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره:{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91].

1 -

تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة؛ إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه؛ وهل الذي يكذب من يُصدقك يبقى مصدِّقًا لك؟!

غير أن هذا المعنى إنما أخذ استنباطًا من أقوالهم، وإلزامًا لهم بمآل مذهبهم، ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم، فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد.

وهكذا كانت كلمة {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} مغلاقًا لما قبلها مفتاحًا لما بعدها، وكانت آخر درجة في سلم الغرض الأول هي أول درجة في سلم الغرض الثاني.

فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام! وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان، تدريجًا له على مدارجها، وتنزيلًا له على قدر حاجتها وفي وقت تلك الحاجة! فما هو إلا أن آنس تطلُّع النفس واستشرافها من تلك الكلمة إلى غاية، إذا هو قد استوى بها إلى تلك الغاية ووقفها عليها تامة كاملة.

2 -

وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلي، وأعرض عن ذكر الكاسب الحقيقي لتلك الجرائم، فلم يقل:(فلم قتل آباؤكم أنبياء الله، واتخذوا العجل، وقالوا سمعنا وعصينا؟)؛ إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة في بادئ الرأي، مثلها كمثل محاجة الذئب للحَمَل في الأسطورة المشهورة

(1)

، فكان يحق لهم في جوابها أن يقولوا:(وما لنا ولآبائنا؟ تلك أمة قد خلت، ولا تزر وازرة وزر أخرى).

ولو زاد مثلًا: (وأنتم مثلهم، قد تشابهت قلوبكم وقلوبهم) لجاء هذا التدارك بعد فوات الوقت، ولتراخى حبل الكلام وفترت قوته.

(1)

التي تزعم أن ذئبًا عدا على حمل صغير بحجة أن أخاه أو أباه كان قد عكر عليه ماء القناة وهو يشرب منذ عام مضى، وهي تمثل عدوان القوي على الضعيف استنادًا لأوهن الأسباب.

ص: 226

فكان اختصار الكلام على ما ترى - بوقفهم بادئ ذي بدء في موقف الاتهام - إسراعًا بتسديد

(1)

سهم الحجة إلى هدفها، وتنبيهًا في الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض، وأنهم سواسية في الجرم، فعلى أيِّهم وضعت يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم؛ لأنهم لا ينفكون عن الاستنان بسنة أسلافهم، أو الرضا عن أفاعيلهم، أو الانطواء على مثل مقاصدهم.

3 -

وانظر كيف زاد هذا المعنى ترشيحًا

(2)

بإخراج الجريمة الأولى وهي جريمة القتل في صيغة الفعل المضارع تصويرًا لها بصورة الأمر الواقع الآن، كأنه بذلك يعرض علينا هؤلاء القوم أنفسهم وأيديهم ملوثة بتلك الدماء الزكية.

4 -

ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح بابًا من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم، وبابًا من الإطماع لأعدائه في نُجحِ تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله.

فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله: {مِنْ قَبْلُ} فقطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبت بها قلب حبيبه صلى الله عليه وسلم إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس. ذلك إلى ما فيها من تنبيه على أصل وضع الكلام وعلى ما صنع به من التجوز المذكور آنفًا في الإسناد وفي الصيغة.

5 -

وانظر كيف جيء بالأفعال في الجرائم التالية على صيغة الماضي بعد أن وطأ لها بهذه الكلمة: {مِنْ قَبْلُ} فاستقام التاريخ على وضعه الطبيعي حين لم تبق هناك حاجة إلى مثل التعبير الأول.

6 -

وانظر إلى الآداب العالية في عرض الجريمة الثانية وهي جريمة الشرك؛ فإنها لما كانت أغلظ من سابقتها وأشد نكرًا في العقول نبه على ذلك ألطف تنبيه بحذف أحد ركنيها، فلم يقل: اتخذتم العجل إلهًا، بل طوى هذا المفعول الثاني استبشاعًا للتصريح به في صحبة الأول، وبيانًا لما بينهما من مفارقة .. وكم في هذا الحذف من تعبير وتهويل!! فربَّ صمت هو أنطق بالحكم، وأنكى في الخصم.

(1)

وهذا هو ما يسمى في المناظرة (بالتقريب) بين الدليل والمطلوب.

(2)

أي: تقوية. (عمرو)

ص: 227

7 -

ثم انظر إلى النواحي التي أوثر فيها الإجمال على التفصيل، إعراضًا عن كل زيادة لا تمس إليها حاجة البيان في الحال، فقد قال: إن القرآن مصدق لما معهم، ولم يبين مدى هذا التصديق: أفي أصول الدين فحسب، أم في الأصول والفروع جميعًا، أم في الأصول وبعض الفروع، وإلى أي حد؟ ذلك أن هذا كلام الملوك لا يتنزل إلا بقدر معلوم. وماذا يعني الداعي إلى أصل الإيمان أن يمتد التطابق بين الأديان إلى فروعها أو لا يمتد؟ فليبحث علماء التشريع!

وقال: إنهم يقتلون أنبياء الله، فمن هم أولئك الأنبياء؟ .. ليبحث علماء التاريخ!

وقال: إنَّ موسى جاءهم بالبينات، فكم هي؟ وما هي؟

وقال: إنه أخذ عليهم ميثاقهم، فعلى أيِّ شيء كان الميثاق؟

إن حكمة البيان القرآني لأجلُّ مِنْ أن تعرض لهذه التفاصيل في مثل هذا الموضع، ولو ذكرت ها هنا لكان مثلها مثل من يسأل: لم ضربت عبدك؟ فيقول: لأنَّه ضرب غلامًا اسمه كذا واسم أبيه كذا وحليته كذا، وولد في عام كذا، ألا ترى أن هذا زائد وكثير

(1)

.

8 -

ولو ذهبنا نتتَّبع سائر ما في هذه القطعة من اللطائف لخرجنا عن حد التمثيل والتنبيه الذي قصدنا إليه.

فلنكتفِ بتوجيه نظرك فيها إلى سر دقيق لا تراه في كلام الناس، ذلك أنَّ المرء إذا أهمه أمر من الدفاع أو الإقناع أو غيرهما بدت على كلامه مَسحة الانفعال بأغراضه، وكان تأثيره بها في نفسك على قدر تأثره هو؛ طبعَا أو تطبعًا،

(1)

ومن هنا عيب على امرئ القيس تفصيله في غير موضع التفصيل، وذلك فيما هو معدود من أجود شعره، قوله:

قِفا نبكِ، من ذِكرى حبيبٍ، ومنزلِ

بسِقطِ اللّوى بينَ الدَّخولِ، فَحَوْمَلِ

فتُوضِحَ فالْمِقراةِ

لم يقنع في وصف المنزل بقوله: (بسقط اللوى) حتى حده بحدود أربعة.

قال الباقلاني: «كأنه يريد بيع المنزل، فيخشى إن أخل بحد منه أن يكون بيعه فاسدًا أو شرطه باطلًا!» ، [إعجاز القرآن:(221)].

ص: 228

فتكاد تحس بما يخالجه من المسرة في ظفره ومن الامتعاض في إخفاقه، بل تراه يكاد يهلك أسفًا لو أعرض الناس عن هداه إذا كان مؤمنًا بقضيته، مخلصًا في دعوته، كما هو شأن الأنبياء عليهم السلام أما هنا فإنك تلمح وراء الكلام قوة أعلى من أن تنفعل بهذه الأغراض، قوة تؤثر ولا تتأثر، تصف لك الحقائق: خيرها وشرها، في عزة من لا ينفعه خير، واقتدار من لا يضره شر.

هذا الطابَع من الكبرياء والعظمة تراه جليًّا من خلال هذا الأسلوب المقتصد في حجاجه أخذًا وردًّا، المقتصد في وصفه مدحًا وقدحًا.

انظر إليه حين يجادل عن القرآن فلا يزيد في وصفه على هذه الكلمة: {هُوَ الْحَقَّ} ، نعم إنها كلمة تملأ النفس، ولكن هل تشبعك أيها الإنسان تلك الكلمة إذا أردت أن تصف حقيقة من الحقائق التي تقتنع بها وتحب أن تقنع بها الناس؟

وانظر إليه بعد أن سَجَّل على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبِّيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة؛ فتراه لا يزيد على أن يقول في الأولى: إن هذا (ظلم) وفي الثانية: (بئسما) صنعتم، أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم، إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فُهمتا على وجههما، ولكن أين الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟ بل أين الإقذاع والتشنيع؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس إذا أُحفظوا بالنيل من مقامهم؟

لله ما أعفَّ هذه الخصومة، وما أعز هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا كلام لا يصدر عن نفس بشر.

[الإيجاز في القرآن] قلنا: إن القرآن الكريم يستثمر دائمًا برفق أقل ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني.

أجل؛ تلك ظاهرة بارزة فيه كله؛ يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز، ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب.

ولذلك نسميه إيجازًا كله

(1)

؛ لأنَّنا نراه في كلا المقامين لا يجاوز سبيل

(1)

لمَّا كان هذا اصطلاحًا جديدًا نخالف به مصطلح القوم لم نرَ بدًّا من إيضاح سبب المخالفة:

قسم علماء البلاغة الكلام إلى (مساو) و (موجز) و (مطنَب)، وعرَّفوا المساواة بأنها أداء المعنى بلفظ على قدره، والإيجاز بأنه أداء المعنى بلفظ ناقص عنه وافٍ به، والإطناب بأنه أداء المعنى بلفظ زائد عنه لفائدة.

وجعلوا المقياس الذي يضبط به هذا التقسيم أمرًا عرفيًّا أو وضعيًّا: فاعتبر (السكاكي) المقدار الذي يتكلم به أوساط الناس في محاوراتهم ومتعارف خطابهم، هو ضابط المساواة، وهو القدر الذي لا يحمد منهم ولا يذم في باب البلاغة، فما نقص عنه مع الوفاء به فهو الإيجاز، وما زاد عنه مع الإفادة فهو الإطناب، والكلام البليغ إنما يقع في هذين الطرفين، هذا محصول كلام (السكاكي).

وقد وافقه الذين جاءوا من بعده على هذا التقسيم، إلا أن بعضهم رأى أن البناء على العرف فيه رد إلى الجهالة، فجعل حد المساواة هو المقدار الذي يؤدي المعاني الأولية بالوضع من غير رعاية للمناسبات الزائدة على أصل المعنى.

وقد فهمنا من وضعهم التقسيم على هذا الأساس، واعتبارهم المساواة بأحد هذين المقياسين المتحدين في المآل، أنهم ظنوا أن العبارة التي تؤدى بها المعاني الأولية في لسان العوام تقع دائمًا بين الإطالة والاختصار.

وهذا ما لا دليل عليه في العرف ولا في الوضع، أمَّا الأول فإن العوام يتكلمون في المعنى الواحد باللفظ المطول تارة وبالمختصر تارة أخرى، وإن لم يتحروا إصابة المحزِّ في كل منها، وأما الثاني فلأن اللفظ الذي وضع في اللغة لتأدية المعنى الأول مختلف، فمنه ما يؤديه بوجه مجمل، ومنه ما يؤديه بلفظ مفصل، وكل من الإجمال والتفصيل يتفاوت في نفسه تفاوتًا كثيرًا، فلا ينضبط منهما قدر يرجع إليه في معرفة الإيجاز والإطناب؛ إذ ما من كلام وجيز إلا ويمكن تأدية معناه الإجمالي بأقل من لفظه أو بما يساويه وإن لم يغنِ غناءه ولم يوفِ وفاءه، حتى المثل الذي عدوه علمًا في الإيجاز وهو قوله تعالى:{فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الآية (179) من سورة البقرة] يمكن تأدية أصل معناه بقولك (انتقم تسلم) أو (اقتص تحيا) أو بالاكتفاء بكلمتين منه (القصاص حياة)، بل فاتحة الكتاب الكريم التي جمعت مقاصد القرآن كلها في سبع آيات يمكن أداء معانيها الأصلية في خمس كلمات:(نحمدك اللهم ونعبدك، ونستعينك ونستهديك) وإن شئت ففي أقل من ذلك.

وكذلك يقال: ما من كلام مطنب إلا ويمكن تأدية معناه الوضعي مفصلًا في لفظ أطول منه، فقوله تعالى:{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [الآية (194) من سورة البقرة] إيجاز، وقد جاء بسطه في قوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [الآية 45 من المائدة] وهذا الكلام على طوله يعد موجزًا إذا قيس إلى قولك في مثل معناه: (من قتل نفسًا قتل بها، ومن فقأ عينًا فقئت عينه، ومن جدع أنفًا جدع أنفه، ومن جدع أذنًا جدعت أذنه، ومن كسر سنًّا كسرت سنه .. وإن شئت زدت: واليد باليد، والأصبع بالأصبع، والآمَّة بالآمَّة والموضِحَة بالموضِحَة وهلمَّ جرا.

وقوله تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [الآية (59) من سورة المائدة] جاء معناه مبسوطًا في قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [الآية (136) من سورة البقرة] وهذا المعنى يؤدى عادة بقولك: آمنا بالله وبالقرآن الذي أنزله الله إلينا، وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى، وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، وبالزبور الذي آتاه الله لداود، وبالصحف التي آتاها الله لإبراهيم ولو شئت عددت الأسباط سبطًا سبطًا، وذكرت سائر من قص الله علينا من النبيين في غير هذا الموضع بل لو شاء الله لقص علينا من أنباء سائر الرسل ما لم يقصه علينا.

والقوم معترفون ضمنًا بوجود هاتين المرتبتين في كلام العوام، إذ قالوا: إن مرتبتي الاختصار المخل والتطويل الممل ليستا من البلاغة في شيء فإذا لم تكونا من كلام البلغاء كانتا البتة من كلام غير البلغاء وإلا فكلام من تكونان؟! وإذًا فلا تصلح المعاني الأولية ولا العبارات العامِّية مقياسًا منضبطًا للوسط المفروض.

هذا وقد نشأ من قياسهم التوسط بالمقدار الذي تؤدى به المعاني الأولية في لسان العوام - بعد تسليم كونه وسطًا - أن جعلوا الفضيلة البيانية في هذا الباب مائلة أبدًا إلى طرف النقص أو طرف الزيادة.

وذلك عكس ما بنيت عليه قاعدة الفضائل من تبوئها مكانًا وسطًا بين الأطراف، ولقد تعجب إذا رأيتهم يرجعون فيدخلون المساواة في كلام الرجل البليغ إذا دعاه إليها داع، كأن يكون كلامه مع العامة ثم تزداد عجبًا إذا رأيتهم يدخلونها في القرآن نفسه، وهو كما علمت خطاب للعامة وللخاصة على السواء، ويمثلونها بقوله تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [الآية (43) من سورة فاطر] على أن في هذه الكلمة إيجازًا بالحذف على اصطلاحهم نفسه، إذ المعنى (لا يحيق ضرر المكر وعاقبته).

لهذا كله رأينا أن نضع التقسيم وضعًا آخر نرد فيه الفضيلة إلى نصابها من الحد الوسط، ونرجع فيه الذم إلى الطرفين، وذلك يجعل المقياس هو المقدار الذي يؤدى به المعنى بأكمله، بأصله وحليته على حسب ما يدعو إليه المقام من إجمال أو تفصيل؛ بغير إجحاف ولا إسراف، هذا القدر الذي من نقص عنه أو زاد عده البلغاء حائدًا عن الجادة بقدر ما نقص أو زاد، هو الميزان الصحيح الذي لك أن تسمي طرفيه بحق تقصيرًا أو تطويلًا، وأن تسميه هو بالمساواة أو القصد أو التوسط أو التقدير أو ما شئت فسمه.

ونحن قد سميناه أيضًا باسم (الإيجاز) مطمئنين إلى صحة هذه التسمية، إذ رأينا حد الإيجاز ينطبق عليه، فما الإيجاز إلا السرعة والتخفيف في بلوغ الحاجة بالقدر الممكن، فالذي يسرع فوق الطاقة لا يبلغك حاجتك فيكون مجحفًا مخلًّا، والذي يبطئ حيث تمكن السرعة لا يكون إلا مسرفًا مملًّا.

ورأينا الناس ما زالوا يتواصون بهذه الوجازة في البيان ويجعلون خير الكلام ما قل ودل، حتى روي عن سيد البلغاء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي:«يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف» * هكذا أحفظه، ولا يحضرني الآن تخريجه، وما سمعنا أحدًا يوصي بهذا الإطناب الذي عده المؤلفون فضيلة ثانية تقابل الإيجاز، وإنما هو إحدى شعبتيه: الاختصار المفهم، أو الإطناب المفخم، ولو سميناه فضيلة ثانية تقابله لخشينا أن تكون هذه المقابلة وحدها رخصة في التحلل من قيوده وتسامحًا في الإكثار الذي جاء ذمه بكل لسان، حتى قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة مساوئكم أخلاقًا الثرثارون المتشدِّقون المتفيهقون» ، رواه أحمد وابن حبان وغيرهما عن أبي ثعلبة* *.

فلا وربك إنما هي فضيلة واحدة تطلب من المتكلم في كل مقام، ويؤخذ بها في سعة التفصيل كما يؤخذ بها في ضيق الإجمال، بل لعلها في مقام التفصيل آكد طلبًا وأصعب منالًا.

فالكلام الطويل إن حوى كل جزء منه فائدة تمس إليها الحاجة في الموضع ولا يسهل أداء تلك الفائدة بأقل منه كان هو عين الإيجاز المطلوب، وإن أمكن أداء الأغراض فيه كاملة بحذف شيء منه أو بإبداله بعبارة أخصر منه كان هو حشوًا أو تطويلًا معيبًا، والكلام القصير إن وفى بالمقاصد الأصلية والتكميلية المناسبة في الحال كان هو التوسط المطلوب، وإلا كان بترًا أو تقصيرًا معيبًا.

وليس الإيجاز قاصرًا على جانب الإجمال كما زعموا حتى بنوا عليه ما بنوا، وحتى أخرجوا منه مثل قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [الآية (164) من سورة البقرة]، وجعلوها من باب الإطناب بحجة أنه يمكن إيجازها بهذه العبارة:(إن في ترجيح وقوع أي ممكن كان لا على وقوعه لآيات للعقلاء)«مفتاح العلوم» ، وأنت فهل عهدت عربيًّا قط بليغًا أو غير بليغ تكلم بهذا التعبير الفلسفي الجاف القلق الذي افترضه (السكاكي) مقياسًا للمساواة في معنى الآية، كلَّا، إنك لو رجعت إلى ما تكلم به الناس في آيات الله الكونية تفصيلًا أو إجمالًا لرأيت كلامًا عربيًّا صحيحًا أطول من هذا أو أقصر، ولرأيت الآية الكريمة هي أوجز كلام وأحكم نظام في بابها من التفصيل، كما أن قوله تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الآية (101) من سورة يونس] هو أوجز كلام في بابه من الإجمال.

قلنا: إن فضيلة الإيجاز بمعناه الصحيح هو الوسط المعتدل، وهو الفضيلة الوحيدة التي تواصى بها البلغاء في كل مقام بحسبه، غير أنه ليس للإنسان ما تمنى، فالمثل الكامل وإن تطاولت إليه أعناق الناس وتفاوتوا في طلبه قربًا وبعدًا، لا يستطيع أحد منهم أن يأتي على غايته، وإنما أتى عليها القرآن الحكيم، فهو المثل الأعلى في حسن الإيجاز، كيف لا وهو حد الإعجاز.

* الحديث الذي ذكره المصنف، لم أجده في كتب الحديث، وهو موجود في الكامل في اللغة والأدب:(1/ 10)، وقد نسبه غير واحد لابن عساكر مرسلًا، بلفظ:«يا جرير إذا قلت فسدد ولا تكلف إذا قضيت حاجتك» ، جمع الجوامع:(1/ 480)، كنز العمال:(3/ 346).

* * «عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحبَّكم إليَّ وأقربكم مني، محاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني، مساوئكم أخلاقًا، الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون» ، رواه أحمد:(17743)، (29/ 279).

ص: 229

القصد، ولا يميل إلى الإسراف ميلًا ما، ونرى أن مراميه في كلا المقامين

ص: 230

لا يمكن تأديتها كاملة العناصر والحلى بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها، فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدةٍ جليلة، وليس فيه حرفٌ إلا جاء لمعنى.

ص: 231

[هل في القرآن زائد؟!]

دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها (مقحَمة) وفي بعض حروفه إنها (زائدة) زيادة معنوية، ودع عنك قول الذي يستخف كلمة (التأكيد) فيرمي بها في كل موطن يظن فيه الزيادة، لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون، ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لا حاجة له به.

أجل، دع عنك هذا وذاك، فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها إنما هو ضرب من الجهل - مستورًا أو مكشوفًا - بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن.

وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسرارِه البيانية على ضوء هذا المصباح، فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإيَّاك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظَّانُّون؛ ولكن قل قولًا سديدًا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف، قل:(الله أعلم بأسرارِ كلامه، ولا علم لنا إلا بتعليمه)، ثم إيَّاك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار قائلًا: أين أنا من فلان وفلان؟ .. كلَّا، فربَّ صغير مفضول قد فطن إلى ما لم يفطن له الكبير الفاضل.

ألا ترى إلى قصة ابن عمر في الأحجية المشهورة

(1)

؟ فجِدَّ في الطلب وقل: رب زدني علمًا، فعسى الله أن يفتح لك بابًا من الفهم تكشف به شيئًا مما عمي على غيرك، والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، ولنضرب لك مثلًا، قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].

[البيان في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]]

(أكثر) أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة، فرارًا من المُحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على

(1)

عن عبد الله بن عمر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟» فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبد الله: فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله، أخبرنا بها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هي النخلة» قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال:«لأن تكون قلتَها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا» ، رواه البخاري:(131).

قال الشيخ دراز: وفي القرآن {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79].

ص: 233

معناها الأصلي من التشبيه؛ إذ رأوا أنَّها حينئذ تكون نافية الشبيه عن مثل الله، فتكون تسليمًا بثبوت المثل له سبحانه، أو على الأقل محتملة لثبوته وانتفائه؛ لأنَّ السالبة - كما يقول علماء المنطق - تصدق بعدم الموضوع.

أو

(1)

لأن النفي - كما يقول علماء النحو - قد يوجه إلى المقيَّد وقيده جميعًا، تقول:(ليس لفلان ولدٌ يعاونه) إذا لم يكن له ولد قط أو كان له ولد ولا يعاونه، وتقول:(ليس محمدٌ أخًا لعلي) إذا كان أخًا لغير علي أو لم يكن أخًا لأحد.

(وقليل منهم) من ذهب إلى أنه لا بأس ببقائها على أصلها؛ إذ رأى أنها لا تؤدي إلى ذلك المحال لا نصًّا ولا احتمالًا؛ لأن نفي مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل أيضًا.

وذلك أنه لو كان هناك مثلٌ لله لكان لهذا المثل مثل قطعًا وهو الإله الحقُّ نفسه، فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلًا لصاحبه، وإذًا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب.

وقصارى هذا التوجيه - لو تأمَّلته - أنه مصحح لا مرجح، أي أنَّه ينفي الضرر عن هذا الحرف، ولكنه لا يثبت فائدته ولا يبين مسيس الحاجة إليه؛ ألست ترى أن مؤدَّى الكلام معه كمؤدَّاه بدونه سواء، وأنه إن كان قد ازداد به شيئًا فإنما ازداد شيئًا من التكلف والدوران وضربًا من التعمية والتعقيد.

وهل سبيله إلا سبيل الذي أراد أن يقول: (هذا فلان) فقال: (هذا ابن أخت خالة فلان)؟ فمآله إذًا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد، ذلك الاسم الذي لا تعرف له مسمى ها هنا؛ فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودًا البتة، وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان.

ولو رجعت إلى نفسك قليلًا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظًا بقوة دلالته، قائمًا بقسطٍ جليلٍ من المعنى المقصود في جملته، وأنَّه لو سقط منها

(1)

هذا الترديد مبني على اختبار مضمون الجملة أو منطوقها؛ فعلى الأول يقع المثل موضوعًا؛ لأنها في قوة قولنا: (مثل ليس له مثل)، وعلى الثاني يبقى في المحمول؛ لأنه واقع في خبر ليس.

ص: 234

لسقطت معه دعامة المعنى، أو لتهدم ركن من أركانه، ونحن نبين لك هذا من طريقين، أحدهما أدق مسلكًا من الآخر.

(الطريق الأول) وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور: أنه لو قيل: (ليس مثله شيء) لكان ذلك نفيًا للمثل المكافئ، وهو المثل التام المماثلة فحسب؛ إذ إن هذا المعنى هو الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه، وإذًا لدبَّ إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام: أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها، وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء، أو للكواكب وقوى الطبيعة، أو للجن والأوثان والكهان، فيكون لهم بالإله الحق شبه ما في قدرته أو علمه، وشرك ما في خلقه أو أمره .. فكان وضع هذا الحرف في الكلام إقصاءً للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها، كأنه قيل: ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلًا لله، فضلًا عن أن يكون مثلًا له على الحقيقة، وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى، على حد قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، نهيًا عن يسير الأذى صريحًا، وعما فوق اليسير بطريق الأحرى.

(الطريق الثاني) وهو أدقهما مسلكًا: أن المقصود الأولي من هذه الجملة وهو نفي الشبيه، وإن كان يكفي لأدائه أن يقال:(ليس كالله شيء) أو (ليس مثله شيء) لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة، بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجته وطريق برهانه العقلي.

ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خُلقه فقلت: (فلان لا يكذب ولا يبخل) أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها.

فإذا زدت فيه كلمة فقلت: (مثل فلان لا يكذب ولا يبخل) لم تكن بذلك مشيرًا إلى شخص آخر يماثله مبرأً من تلك النقائص، بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي، وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقصِ الموهوم.

ص: 235

على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الحكيمة قائلة: (مثله تعالى لا يكون له مثل)، تعني: أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه، فلا جرم جيء فيها بلفظين، كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة؛ ليقوم أحدهما ركنًا في الدعوى، والآخر دعامة لها وبرهانًا.

فالتشبيه المدلول عليه (بالكاف) لمَّا تصوب إليه النفي تأدَّى به أصل التوحيد المطلوب؛ ولفظ (المثل) المصرَّح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب.

واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحدة الصانع، لا نعلم أحدًا من علماء الكلام حام حوله؛ فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العملية، حسبما أرشد إليه قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]

(1)

.

(1)

ونحن نلخص لك هنا وجوه استدلالهم في نسق واحد، لتتبيَّن أنها كلها قائمة على أساس المعنى المستنبط من هذه الآية، وهو أن تعدد الآلهة المستجمعة لشرائط الإلهية يقتضي (إمَّا) عدم وجود شيء من المخلوقات، وذلك هو فسادها في آن الإيجاد، (وإمَّا) وجودها على وجه التفاوت والاختلاف المؤدي إلى فسادها غب الإيجاد.

ذلك أنه (لو) توجهت إرادة الإلهين إلى شيء واحد لتعذَّر عليهما إحداثه، لاستحالة صدور أثر واحد عن مؤثرين.

والقول بصدوره عن قدرة أحدهما مع استوائهما في القدرة وفي توجه القصد ترجيح بلا مرجح.

و (لو) توجهت إرادة أحدهما إلى شيء وإرادة الآخر إلى نقيضه لم يمكن إحداثهما، وإلا لاجتمع النقيضان.

وإحداث أحدهما دون الآخر يلزمه الرجحان المذكور.

و (لو) توجهت إرادة أحدهما إلى بعض الخلق والآخر إلى بعضه، إذًا لذهب كل إله بما خلق، ولكان هنا عالمان مختلفا النظام، فلا يلبث أن يطغى بعضهما على بعض حتى يتماحقا.

وكل أولئك باطل بالمشاهدة، إذ نرى العالم قد وجد غير فاسد واستمر غير فاسد، ونراه بجميع أجزائه وعلى اختلاف عناصره وأوضاعه - علوًّا وسفلًا وخيرًا وشرًّا - يؤدي وظيفة جسم واحد تتعاون أعضاؤه بوظائفها المختلفة على تحصيل غرض واحد.

وهذه الوحدة في نظام الأفعال دليل على وحدة الفاعل المنظم لها جل شأنه.

ص: 236

أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من أساسه، ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار. فكأننا بها تقول لنا: إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها، كلَّا، فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي الناقص، أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية، فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنيْنيَّة؛ لأنَّك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدمًا على كل شيء وإنشاءً لكل شيء:{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى: 11]، وحقَّقت سلطانًا على كل شيء وعلوًّا فوق كل شيء:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى: 12] فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضتَ؛ إذ تجعل كل واحد منهما سابقًا مسبوقًا، ومُنشِئًا مُنشَأً، ومستعليًا مستعلًى عليه، أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما؛ إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقًا ولا مستعليًا، فأنى يكون كل منهما إلهًا، وللإله المثل الأعلى؟!

أرأيت كم أفدنا من هذه (الكاف) وجوهًا من المعاني كلها شاف كاف؟!

فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النَّظم الحكيم حرفًا حرفًا.

[الإعجاز بالحذف!]

(وبعد) فإن سر الإيجاز في القرآن لا يقف عند الحد الذي أشرنا إليه، من اجتناب الحشو والفضول ألبتة، وانتقاء الألفاظ الجامعة المانعة التي هي - بطبيعتها اللغوية - أتم تحديدًا للغرض، وأعظم اتِّساعًا لمعانيه المناسبة، لا، بل إنه كثيرًا ما يسلك في إيجازه سبيلًا أعز وأعجب.

فلقد تراه يعمد - بعد حذف فضول الكلام وزوائده - إلى حذف شيء من أصولِه وأركانِه التي لا يتم الكلام في العادة بدونها، ولا يستقيم المعنى إلا بها، ولقد يتناول بهذا الحذف كلماتٍ وجملًا كثيرة متلاحقة ومتفرقة في القطعة الواحدة، ثم تراه في الوقت نفسه يستثمر تلك البقية الباقية من اللفظ في تأدية المعنى كله بجلاء ووضوح، وفي طلاوة وعذوبة، حتى يخيل إليك من سهولة

ص: 237

مسلك

(1)

المعنى في لفظه أن لفظه أوسع منه قليلًا.

فإذا ما طلبتَ سر ذلك رأيته قد أودع معنى الكلمات أو الجمل المطوية في كلمة هنا وحرف هناك، ثم أدار الأسلوب إدارة عجيبة وأمر عليها جَنْدَرة

(2)

البيان بيد صَنَاع، فأحكم بها خلقه وسواه، ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو مصقول أملس، وإذا هو نير مشرق، لا تشعر النفس بما كان فيه من حذف وطي، ولا بما صار إليه من استغناء واكتفاء، إلا بعد تأمل وفحص دقيق.

لا نكرانَ أنَّ العرب كانت تعرف شيئًا من الحذف في كلامها، وترى ذلك من الفضيلة البيانية متى قامت الدلائل اللائحة على ذلك المحذوف، ولو كان من أجزاء الجملة ومقوماتها. فإذا قيل للعربي: أين أخوك؟ قال: في الدار. وإذا قيل له: من في الدار؟ قال: أخي. ولو قال: أخي في الدار، لعُدَّ ذلك منه ضربًا من اللغو والحشو.

لكن الشأوَ الذي بلغه القرآن في هذا الباب - كغيره من أبواب البلاغة - ليس في متناول الألسنة والأقلام، ولا في متناول الأماني والأحلام.

[مثال على إعجاز الحذف]

خذ لذلك مثلًا قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس: 11].

الآية مسُوقَة في شأن منكري البعث الذين قال لهم النبي: إني رسول الله إليكم، وإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقالوا متهكمين:{اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]،

(1)

هذه كلمة تمثيلية أردنا بها أن نصور هذا الأثر البياني في مثال من الصناعات اليدوية، ذلك أنك ترى الخياط الماهر ينتفع باليسير من البزِّ فيجعل منه حلة حسنة، مقدرة على الجسم تقديرًا، بل إنها لسهولة مسلك الأعضاء فيها تحسبها ضافية، بينما غيره لا يحسن الانتفاع بهذا القدر ولا بأكثر منه، فيخرجه لباسًا ضيقًا حرجًا، ذلك مثل صناعة الإيجاز القرآني بالقياس إلى كلام الناس.

(2)

الجندرة: آلة خشبية تتخذ لصقل الملابس وبسطها، «وجَنْدَرَ الكِتَاب: أَمَرَّ القَلَم على مَا دَرَسَ مِنهُ لِيَتَبيَّنَ»، تاج العروس من جواهر القاموس:(10/ 387). (عمرو)

ص: 238

فلمَّا لم يجبهم الله إلى اقتراحهم وأخَّر عنهم العذاب إلى ساعته المحدودة أطغاهم طول الأمن والدَّعة والعافية الحاضرة حتى نسوا ريب الدهر وأمنوا مكر الله، فجعلوا يستعجلون بالشر استعجالهم بالخير، ويقولون: متى هو؛ وما يحبسه لو كان آتيًا؟!

أراد القرآن أن يقول في جواب هذا الاستعجال: لو كانت سنة الله قد مضت بأن يعجل للناس الشر إذا استعجلوه، كتعجيله لهم الخير إذا استعجلوه، لعجَّله لهؤلاء، ولكنَّه قد جرت سنته التي لا تتبدل بأن يمهل الظالمين ويؤخر حسابهم إلى أجل مسمى، وعلى وفق هذا النظام المسنون سيترك هؤلاء وشأنهم حتى يجيء وقتهم.

هذا هو الوضع الذي يوضع عليه الكلام في ألسنة الناس وفي طبيعة اللغة لتأدية المعنى الإجمالي الذي ترمي إليه الآية، فانظر ماذا جرى .. ؟

1 -

كان الكلام في وضعه العادي مؤلفًا من قضايا ثلاث: اثنتان منها بمثابة المقدمات، والثالثة بمنزلة النتيجة، فاقتصر القرآن على الأولى والأخيرة، أما الوسطى وهي الاستدراك - أو الاستثنائية كما يسميها علماء المنطق - فقد طواها طيًّا.

2 -

وكانت المقدمة الأولى في وضعها الساذج تتألف من أربعة أطراف: تعجيل من الله في الخير وفي الشر، واستعجال من الناس كذلك، ولكن الكلام ها هنا ليس فيه إلا تعجيل واحد من الله، واستعجال واحد من الناس.

3 -

وكانت المقابلة في التشبيه بحسب الظاهر إنما هي بين تعجيل وتعجيل، أو بين استعجال واستعجال، فأدِير الكلامُ في الآية على وجهٍ غريب، وجعلت المشابهة بين تعجيل واستعجال.

وبعد هذا التصرف كله هل ترى كلامًا مبتورًا أو طريقا ملتويًا يتعثر فيه الفهم؟ أم ترى مغزى الآية لائحًا للعامة والخاصة، كالبدر ليس دونه سحاب؟

فارجع إلى طلب شيء من أسرار البيان، وقل: كيف جاء هذا الإشراق مع هذا الاختصار البليغ؟

ص: 239

نقول: (أما الأول) فإنه لم يدع تلك المقدِّمة المطويَّة إلا بعد أن رفع لها علمين من جانبيها يدلَّان على مكانها ويوحيان بها إلى النفس من وراء حجاب؛ فقد أقام عن يمينها كلمة (لو) الامتناعية

(1)

التي صدر بها المقدمة الأولى، دلالة على أنه لا يكون منه هذا التعجيل، وعن يسارها حرف التفريع الذي صدر به النتيجة في قوله:(فنذر) لكي ينم على أن لهذا الفرع أصلًا من جنسه يقال فيه: ولكن شأنه أن يذر الناس؛ فلذلك يذر هؤلاء.

ولما كانت الفاء وحدها ليست نصًّا في المطلوب؛ لأنها كما تكون للتفريع تكون لمجرد العطف - فربما اتصل القارئ عاطفًا بها على جزاء الشرط قبلها، من قبل أن يتبين له فساد المعنى لو عطف - لم يكتف بالفاء، بل عززها بقوتين أخريين، إذ حوَّل صيغة النتيجة من الماضي إلى المضارع، ثم من الغيبة إلى التكلم؛ ليكون هذا الانقطاع اللفظي بينها وبين ما قبلها إيذانًا بانقطاعها عنه معنًى، وإذنًا بالوقوف دونها، حتى لا تقع النفس لحظة ما في أدنى اضطراب أو لبس، ذلك إلى ما في هذا التحويل من الافتنان في الأسلوب تجديدًا لنشاط السامع، ومن إلقاء الرعب في القلوب بصدور نطق الوعيد والاستدراج على لسان الجبروت الملكي نفسه.

(أما الثاني) فإنه لمَّا حذف طرفين من الأطراف الأربعة لم يحذفهما من جنس واحد، بل أبقى من كل زوجين واحدًا هو نظير ما حذفه من صاحبه، لينبه بالمذكور على المحذوف، فكانت كلمة (التعجيل) منبهة على نظيرتها في المشبه به، وكلمة (الاستعجال) منبهة على مقابلتها في المشبه.

(1)

تأتي «(لو) على ثلاثة أضرب: شرطية، ومصدرية، وللتمني.

فالشرطية: قسمان: امتناعية وهي للتعليق في الماضي، وبمعنى إن، وهي للتعليق في المستقبل»، ولو «الامتناعية حرف يدل على تعليق فعل بفعل فيما مضى، فيلزم من تقدير حصول شرطها حصول جوابها، ويلزم كون شرطها محكوما بامتناعه؛ إذ لو قُدر حصوله لكان الجواب كذلك، ولم تكن للتعليق في المعنى، بل للإيجاب، فتخرج عن معناها» ، انظر: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (3/ 1295 - 1297). (عمرو)

ص: 240

(أما الثالث) فإنه نبه به على معنى هو غاية في اللطف، وهو سرُّ الإمهال، وحكمة عدم التعجيل من الله، ذلك بأنه صور هذا التعجيل المفروض بصورة تشبه التماس الطالب وحرصه الشديد على إرضاء شهوته وسد حاجته الملحة التي تبعثه على استعجاله، ولا سيما إذا كان يطلب الخير لنفسه، كأنَّه قيل: إنه تعالى لو عجَّل لهم ذلك لكان مثله بهذا التعجيل كمثل هؤلاء المستعجلين، في استفزاز البواعث إياه، وحاشا لله.

هذا إلى تصرفات عجيبة أخرى:

[لطائف بيانية في آية سورة يونس]

(منها) أن كلمة (لو) بحسب وضعها وطبيعة معناها تتطلب أن يليها فعل ماض، ولكن المطلوب ها هنا ليس هو نفي المضي فحسب، بل بيان أن هذا الفعل خلاف سنة الله التي لن تجد لها تبديلًا، فلو أُدِّي المعنى على هذا الوضع لطال الكلام، ولقيل:(لو كان سنة الله المستمرة في خلقه أن يعجل .. الخ): فانظر كيف اختصر الكلام في لفظٍ واحد بإخراج الفعل في صورة المضارع الدال على التكرُّر والاستمرار، واكتفى بوضع (لو) قرينة على أن ما بعدها ماض في معناه، وهكذا أدى الغرضين جميعًا في رفق ولين.

(ومنها) أنه كان مقتضى التطابق بين الشرط والجواب أن يوضع الجواب عِدْلًا له فيقال: (لعجله)، ولكنه عدل إلى ما هو أفخم وأهول؛ إذ بين أنه لو عجل للناس الشر لعجل لهؤلاء منه نوعًا خاصًّا هم له أهل، وهو العذاب المستأصل الذي تُقضى به آجالهم.

(ومنها) أنه كان مقتضى الظاهر في تقرير النتيجة أن يقال: (فنذرهم) أو (فنذر هؤلاء) ولكنه قال: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} تحصيلًا لغرضين مهمين: أحدهما التنبيه على أن منشأ هذا الاستعجال منهم هو عدم إيمانهم بالبعث، والثاني: التنبيه على أن قاعدة الإمهال من الله قاعدة عامة لهم ولأمثالهم.

(ومنها غير ذلك

).

قل لنا بربك: لو ظفرتَ في كلام البشر بواحدة من هذه التصرفات، ففي

ص: 241

أي أسلوب غير أسلوب القرآن تظفر بهذه المجموعة أو بما يدانيها، في هذا القدر أو في ضعفيه من الألفاظ؟

وإليك مثال آخر في المعنى نفسه:

قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس: 50 - 51].

يقول الله تعالى: نبئوني عن حالكم إن جاءكم العذاب بغتة في ليل أو نهار ماذا أنتم يومئذ صانعون؟ إنكم هنالك بين أمرين: فإما الإصرار على ما أنتم عليه الآن من تكذيب واستعجال؛ وإما الإيمان.

فأيهما تختارون؟ (أتستعجلون) بالعذاب يومئذ كما تستعجلون به اليوم؟ كلَّا، فإنكم مجرمون، وكيف يتشوق المجرم لرؤية العذاب الذي إن جاء فهو لا محالة مُواقعه؟ ثم نبئوني أي نوع منه تستعجلون؟ فإنه ليس نوعًا واحدًا بل هو ألوان وفنون، (أم) أنتم اليوم تكذبون ثم إذا وقع بعد حين آمنتم به؟ ألا إنه لن ينفعكم يومئذ إيمانكم بعد أن ماطلتم وسوَّفتم حتى ضيعتم الفرصة وفاتكم وقت التدارك، بل هنالك يقال لكم تنديمًا وتحسيرًا: آلآن تؤمنون وقد كنتم به تكذبون وتستعجلون!!

هذا هو المعنى في ثوبه الطبيعي.

فانظر كم من كلمة وكم من جملة طويت في صدر الكلام وفي شِقَّيه؟ وكيف أنها حين طويت لم يُترك شيء منها إلا وقد جعل في اللفظ مصباح يكشف عنه ومفتاح يوصل إليه؟ فوضع استفهامين متقابلين في الكلام دل على أن هنالك استفهامًا جامعًا لهما مرددًا بينهما، يقال فيه:

ماذا تصنعون، وأي الطريقين تسلكون؟

والاستفهام عن الصنف المستعجل به من العذاب دل على استفهام تمهيدي قبله عن حصول أصل الاستعجال، وكلمة (المجرمون) دلت على استحالة هذا الشق من الترديد، وكلمة (ثم) العاطفة دلت على المعطوف عليه المطوي بينها وبين الهمزة، ولفظ الظرف (الآن) دل على عامله المقدر، وقس على ذلك سائر

ص: 242

المحذوفات .. حتى إن مَدَّة الاستفهام الداخلة على هذا الظرف قد دلت على طول مدة التسويف الذي منع من قبول إيمانهم؛ لأنهم عُمِّروا ما يتذكر فيه مَنْ تذكَّر.

فمن ذا الذي يستطيع أن يجري في هذا المضمار شَرَفًا أو شرفين ثم لا تضطرب أنفاسُه، ولا تكبو به ركائبُ البيان وأفراسُه؟

اللهم إنَّ من دون ذلك لَشُقَّةً بعيدة وسفرًا غير قاصد، وإنَّ في دون ذلك لحدًّا للإعجاز.

ص: 243

(2)

‌القرآن في سورةٍ سورةٍ منه

(الكَثرَة) و (الوَحدَة):

[التأصيلُ لعلم الوحدة الموضوعيَّة عند المؤلِّف]

هذا الذي حدَّثناك عنه من عظمة الثروة المعنوية في أسلوب القرآن على وجازة لفظِه، يضاف إليه أمر آخر، هو زينة تلك الثروة وجمالها، ذلك هو تناسق أوضاعها، وائتلاف عناصرها، وأخذ بعضها بحجز بعض، حتى إنها لتنتظم منها وحدة محكَمَة لا انفصام لها.

وأنتَ قد تعرف أنَّ الكلام في الشأن الواحد إذا ساء نظمه انحلَّت وحدة معناه، فتفرق من أجزائها ما كان مجتمعًا، وانفصلَ ما كان متصلًا؛ كما تتبدد الصورة الواحدة على المرآة إذا لم يكن سطحها مستويًا، أليس الكلام هو مرآة المعنى؟ فلا بد إذًا لإبراز تلك الوحدة الطبيعية (المعنوية) من إحكام هذه الوحدة الفنية (البيانيَّة)، وذلك بتمام التقريب بين أجزاء البيان والتأليف بين عناصره؛ حتى تتماسك وتتعانق أشدَّ التماسك والتعانق.

وليس ذلك بالأمر الهين كما قد يظنُّه الجاهل بهذه الصناعة؛ بل هو مطلب كبير (يحتاج) مهارة وحذقًا ولطف حسٍّ في اختيار أحسن المواقع لتلك الأجزاء: أيها أحق أن يجعل أصلًا أو تكميلًا، وأيها أحق أن يبدأ به أو يختم أو يتبوأ مكانًا وسطًا؟ (ثم يحتاج) مثل ذلك في اختيار أحسن الطرق لمزجها بالإسناد، أو بالتعليق، أو بالعطف، أو بغيرها، هذا كله بعد التلطف في اختيار تلك

ص: 244

الأجزاء أنفسها، والاطمئنان على صلة كلٍ منها بروح المعنى، وأنها نقيَّة من الحشو، قليلة الاستطراد، وأن أطرافها وأوساطها تستوي في تراميها إلى الغرض، ويستوي هو في استهدافه لها، كما تستوي أبعاد نقط الدائرة بالقياس إلى المركز، ويستوي هو بالقياس إلى كل منها.

تلك حال المعنى الواحد الذي تتصل أجزاؤه فيما بينها اتصالًا طبيعيًّا.

فما ظنُّك بالمعاني المختلفة في جوهرها، المنفصلة بطبيعتها؟ كم من المهارة والحذق، بل كم من الاقتدار السحري يتطلبه التأليف بين أمزجتها الغريبة واتجاهاتها المتشعبة؟ حتى لا يكون الجمع بينها في الحديث كالجمع بين القلم والحذاء والمنشار والماء؛ بل حتى يكون لها مزاج واحد واتجاه واحد، وحتى يكون عن وحداتها الصغرى وحدة جامعة أخرى.

إنَّه من أجل عزَّة هذا المطلب نرى البلغاء وإن أحسنوا وأجادوا إلى حد مَا في غرض غرض، كان منهم الخطأ والإساءة في نظم تلك الأغراض كلًّا أو جلًّا.

(فالشعراء) حينما يجيئون في القصيدة الواحدة بمعان عدة، أكثر ما يجيئون بها أشتاتًا لا يلوي بعضها على بعض، وقليلًا ما يهتدون إلى حسن التخلص من الغرض إلى الغرض، كما في الانتقال من النسيب إلى المدح .. (والكتَّاب) ربما استعانوا على سد تلك الثغرات باستعمال أدوات التنبيه أو الحديث عن النفس؛ كقولهم:(ألا وإنَّ - هذا ولكن - بقي علينا - ولننتقل - نعود - قلنا - وسنقول).

هذا شأن الأغراض المختلفة إذا تناولها الكلام الواحد في المجلس الواحد. فكيف لو قد جيء بها في ظروف مختلفة وأزمان متطاولة؟ ألا تكون الصلة فيها أشد انقطاعًا، والهوة بينها أعظم اتساعًا؟

فإن كنت قد أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه، حيث الموضوع واحد بطبيعته، فهلمَّ إلى النظر في السورة منه حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة، لترى من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز.

ص: 245

ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبيل الإطالة والتزام جانب الإيجاز - بقدر ما يتسع له جمال اللغة - قد جعله هو أكثر الكلام افتنانًا، نعني أكثره تناولًا لشؤون القول وأسرعه تنقلًا بينها

(1)

، من وصف، إلى قصص، إلى تشريع، إلى جدل، إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شؤون وشؤون.

(1)

والأعجبُ أنه مع كونه أكثر الكلام افتنانًا وتنويعًا في الموضوعات، هو أكثره افتنانًا وتلوينًا في الأسلوب في الموضوع الواحد.

فهو لا يستمر طويلًا على نمط واحد من التعبير، كما أنه لا يستمر طويلًا على هدف واحد من المعاني، ألا تراه كما يتنقل في السورة الواحدة من معنى إلى معنى يتنقل في المعنى الواحد بين إنشاء وإخبار، وإظهار وإضمار، واسمية وفعلية، ومضيٍّ وحضور واستقبال، وتكلم وغيبة وخطاب؛ إلى غير ذلك من طرق الأداء، على نحو من السرعة لا عهد لك بمثله ولا بما يقرب منه في كلام غيره قط.

ومع هذه التحولات السريعة المستمرة التي هي مظنة الاختلاج والاضطراب، بل مظنة الكبوة والعثار، في داخل الموضوع أو في الخروج منه، تراه لا يضطرب ولا يتعثر، بل يحتفظ بتلك الطبقة العليا من متانة النظم وجودة السَّبك حتى يصوغ من هذه الأفانين الكثيرة منظرًا مؤتلفًا، فأيُّ امرئ يحسن العربية وينظر في نظم القرآن هذه النظرة ثم لا يرى فيه من أثر القدرة الباهرة سرًّا من أسرار التحدي والإعجاز؟!

وأنت فقد تسمع بعض المبتدئين في تذوق جمال القرآن والبحث عن منابع جماله يتساءلون: ما سرُّ تلك الحال النفسية التي يجدها تالي القرآن وسامعه من طراوة وتجدد في نشاطه مع كل مرحلة منه، حتى لا يعرف الملل مهما أمعن السير فيه؟ فنبئهم أن تلك الظاهرة العجيبة لها في القرآن منابع جمة قد أشير قبل إلى طرف منها (فيما تقدم لنا من الحديث عن خاصة القرآن الصوتية).

وهذه الخاصَّة التي نشير إليها فيها منبع آخر أعمق وأغرز، غير أنه لا يقدرها حق قدرها إلا من نظر في كلام البلغاء ووقف على مبلغ افتنانهم في أساليبهم ومبلغ افتنانهم في أغراضهم، ثم جاء ليتدبر هاتين الناحيتين من نظم القرآن.

فهنالك يرى نفسه أمام نهاية لم يجاوز البلغاء بدايتها، إذ يرى أنَّه لا ينتقل فيه من خطوة إلى خطوة إلا استعرض في الخطوة التالية من مذاهب المعنى وألوان الأسلوب جديدًا إثر جديد، فكيف يعرف الملل سبيلًا إلى قلبه مع دوام هذه النظرة والتجديد؟ كل امرئ يستطيع أن يجرب نفسه حين يطول به الوقوف أمام منظر واحد جميل، هل يجد لديه من هزة الاستحسان في هذا الاستمرار ما يجده لو اعترض سلسلة من المناظر الرائعة قد صنفت فيها ضروب الفوائد والمتع، ثم جعلت تمر به منوعة في أبدع تنسيق وأحسن تقويم؟ اللهم، لا. فذلك كذلك.

ص: 246

[تنجيم القرآن على السنين ودلالته على الإعجاز]

أوَ لست تعلم أن القرآن - في جُلِّ أمره - ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة واحدة، بل كان يتنزل بها آحادًا مفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة، وأن هذا الانفصال الزماني بينها؛ والاختلاف الذاتي بين دواعيها، كان بطبيعته مستتبعًا لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعًا للتواصل والترابط؟

ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام وتقطيع أوصاله إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة؟

خذ بيدك بضعة متون كاملة من الحديث النبوي كان التحديث بها في أوقات مختلفة، وتناولت أغراضًا متباينة؛ أو خذ من كلام من شئت من البلغاء بضعة أحاديث كذلك. وحاول أن تجيء بها سردًا لتجعل منها حديثًا واحدًا، من غير أن تزيد بينها شيئًا أو تنقص شيئًا، ثم انظر: كيف تتناكر معانيها وتتنافر مبانيها في الأسماع والأفهام! وكيف يبدو عليها من الترقيع والتلفيق والمفارقة ما لا يبدو على القول الواحد المسترسل!

‌العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني:

وسببٌ ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكًا ووحدتها تمزيقًا، ذلك هو الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم، وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني، فتعالَ وانظر!.

انظر إلى الإنسان حين يزاول صناعة ما من صناعاته التركيبية، ألا تراه يبدأ عمله دائمًا بتعرف أجزاء المركب ومقوماته، والوقوف على عناصره ومتمماته، قبل أن يبت الحكم في تحديد موقع كل جزء منها؟ هاتان مرحلتان تتنزل الثانية منهما منزلة الصورة من مادتها، فلا جرمَ أن عكس القضية فيهما لا يكون إلا سيرًا

ص: 247

بالعقل البشري في غير سبيله، وإدلاجًا به في مزلة لا قرار للإقدام عليها، ولا هدى للسالك فيها، وهل رأيت أحدًا سلك هذه السبيل المؤتفكة، ثم استقام له الأمر عليها إلى نهايته

(1)

؟

بل انظر إلى الإنسان حين يأخذ في ترتيب أجزاء المركب بعد جمعها، ألا تراه خاضعًا لسنة السير الطبيعي التي يخضع لها كل سائر إلى غرض ما؛ حسي أو عقلي؟ فهو إن قطع سبيله خطوات لم يستطع أن يجتاز أخراها قبل أولاها، وإن صعد فيه درجات لم يستطع أن يؤخر أسفلها عن أعلاها.

تلك حدود رسمتها قوانين الفطرة العامة، فلا يستطيع أحد أن يتخطاها، سواء في صناعاته المادِّية أو المعنوية، فالبنَّاء والحائك والكاتب والشاعر في هذه الحدود سواء.

ونضرب لك مثلًا:

[مثلٌ في آية التنجيم للقرآن، ودلالته على المصدرية]

قدِّر في نفسك أن رجلًا نزل واديًا فسيحًا ليس عليه بنيان قائم، وليس به شيء من مواد البناء وأنقاضه، فما لبث أن أحسَّ برجفة أرضية أو عاصفة سماوية، وإذا قمة الجبل تنصدع قليلًا فتلقي بجانبه صخرًا أو بضعة صخور .. ثم تمضي فترة طويلة أو قصيرة، وإذا هزة ثانية أو ثالثة تلقي إليه شظيات من الحديد والحمم، أو نُثارات من الفضة والذهب .. أترى أن هذا الرجل أو أن أحدًا من

(1)

نقول: هل رأيت عاقلًا تعجل بالقضاء في تحديد الموقع لجزء جزء من صنعته قبل أن يحيط بسائر أجزائها علمًا؟ وهل تراه لو فعل يكون قضاؤه في هذا الترتيب قضاءً مبرمًا؟ ثم هل تراه لو أصر على هذا الترتيب يتم له ما يشتهي لصنعته من نظام محكم؟، كلَّا، إن العاقل لو قام بهذه التجربة في بعض الأجزاء نزولًا على البديهة الحاضرة فإنما يتخذها تعلَّة وقتية، ريثما يبدو له عنصر آخر أحق بهذه الرتبة أو تلك؛ ثم لا يلبث أن يعود إلى الأول ليقصيه عن مكانه قليلًا أو كثيرًا، أو ليفصله عن هذه المجموعة إلى مجموعة أخرى، أو ليجعله كلًّا قائمًا برأسه .. وهكذا لا يزال يقلب وجوه الرأي في نظام تلك المواد، حتى إذا ما فرغ منها جمعًا وتحصيلًا، وانكشفت له جملة وتفصيلًا، فهنالك فقط يستطيع أن يقر كل جزء في مستقره الأخير، وأن يعطي المركب صيغته النهائية، وكل ترتيب تأخذه الآحاد قبل ذلك فإنه لا يجمعها إلا تلفيقًا، ولا يعطيها إلا صورة شوهاء، وكذلك كل نظام أقيم على غير أساس العلم المفصل بأجزاء المنظوم فأحرى به أن يكون مثالًا للضعف والاختلال، وإن بقي اليوم قائمًا لم يلبث أن ينهار غدًا.

ص: 248

العقلاء يستطيع منذ اللحظات الأولى أن يضع تصميمه على إقامة مدينة جامعة من تلك المواد المتناثرة ومما عساه أن يجيء من أمثالها؟ وأن يبدأ بالعمل في مهمة التخطيط والبنيان؟ فما يدريه لعل هذه الظواهر لا تتكرر أمامه نزلة أخرى، ثم ما يدريه أنها إن عادت كم مرة تعود، وما نوع المادة التي تتساقط معها في كل مرة، وكم عدة القطع في كل مادة من هذه المواد، وكم عدة الأبنية التي يمكن إقامتها منها، وما النظام الهندسي الخاص بكل بناء: سعة وارتفاعًا ونقشًا وزخرفًا، وما ذرع الفضاء الذي ستشغله هذه الأبنية جملة؟ ..

في هذا الجو المملوء غموضًا وإبهامًا لا يجرؤ عاقل أن يغامر بتصميمه في بناء كوخ حقير، فضلًا عن بلد كبير، فضلًا عن أن يهب من فوره لإنفاذ عزمه فيمضي في مهمة البناء منذ وصلت إليه تلك اللبنات الأولى.

ولئن افترضت إنسانًا غامر هذه المغامرة، وأن المقادير سارعت في هواه، وأسعفته بما شاء من مواد البناء الذي تخيله وتمناه، أتراه يعمد إلى مخاطرة أخرى؛ فيتخذ له في البناء أسلوبًا يُراغِم به قانون الطبيعة، بأن يؤلي على نفسه ألا يدع لَبِنة تصل إلى يديه إلا أنزلها - في ساعة وصولها - منزلها الخليق بها حيث كان؟ ذلك على حين أن تلك اللبنات لم تتساقط إليه متجانسة مرتبة على ترتيبها في وضعها المنتظر، بل جعلت تتناثر خفافًا وثقالًا، مختلفًا ألوانها وأحجامها وعناصرها وطاقاتها، فربما وقعت له الزخارف والشرفات، قبل أن تقع له بعض القواعد والسافات

(1)

، وربما وقعت له على التوالي أجزاء ناقصة لتوضع في أماكن متفرقة من أبنية متنائية، أفلا تراه إن ذهب يضع كل جزء ساعة نزوله في موضعه المعين لم يجد مناصًا من أن يبدد أجزاء البناء هنا وهنا على أبعاد غير متساوية ولا متناسبة، فيقارب بينها طورًا ويباعد طورًا، ويعلو بها تارة وينزل تارة أخرى، حتى لقد يبني أعلى البيت قبل أسفله، ويمسك المحمول معلقًا بدون حامله.

فكيف يطيق بشرٌ كائنًا من كان أن يضطلع بهذه المهمة؟ ثم كيف يمضي قدمًا في هذا الأمر إلى نهايته، فلا يعود إلى جزء ما ليزيله عن موضعه الذي أحله

ص: 249

فيه أول مرة، أو ليلتجئ فيه إلى كسر أو نحت أو حشو أو دعامة؟ ثم كيف تكون عاقبة أمره أنه في الوقت الذي يضع فيه آخر لبنة على هذا المنهاج يرفع يده عن مدينة منسقة ليس فيها قصر ولا غرفة ولا لبنة ولا جزء صغير ولا كبير إلا وقد نزل منزله الرصين الذي يرتضيه ذوق الفن، حتى لو تبدل واحد منها مكان غيره لاختل البنيان أو ساء النظام؟ أليس ذلك إن وقع يكون تحديًا للقدرة البشرية جمعاء؟

[تنزيل المثل على القرآن]

ألا فقد وقع مصداق هذا المثل في مسألتنا، إليك البيان:

(أمَّا) الرجل فهو هذا النبيُّ الأمِّي صلوات الله عليه.

(وأمَّا) المدينة الجامعة التي شرع في بنائها منذ وقعت له لبناتها الأولى فذلك الكتاب العزيز الذي أخذ هو منذ وصلت إليه باكورة رسائله يرتب أجزاءه ترتيب الواثق المطمئن إلى أنه سيكون له منها ديوان تام جامع.

(وأمَّا) القصور، والغرفات، واللبنات، فهي أجزاء هذا الديوان: من السور، والنجوم، والآيات.

(وأمَّا) تلك العوامل الفجائية التي جعلت تستنزل من مختلف معادن الجبال ما ركبت منه هذه القصور المشيدة فتلك هي الأحداث الكونية والاجتماعية، والمشاكل الدينية والدنيوية التي كانت تعترض الناس آنًا بعد آن في شؤونهم العامَّة والخاصَّة، فكان يتقدم بها المؤمن منهم مستفتيًا ومسترشدًا، والمكذب مستشكلًا ومجادلًا، وكان على وفق ذلك يتنزل الكلام نجمًا فنجمًا، بمعان تختلف باختلاف تلك المناسبات والبواعث، وبمقادير تتفاوت قلة وكثرة، وعلى طرق تتنوع لينًا وشدة .. ومن هذه النجوم المختلفة المتفرقة صارت تتألف تلك المجاميع المسماة بالسور، لا على أساس التجانس بين أجزاء كل مجموعة منها، بل على أن يأوي إلى الحظيرة الواحدة ما شئت من فصائل الجنس الواحد والأجناس المتخالفة.

(وأمَّا) الطريق العجب الذي اتبع في تأليف تلك الأبنية من أجزائها - وهو السبب الثالث الذي رفع المسألة من حد العسر إلى حدِّ الإحالة - فهو أن ذلك الذي نزل عليه الذكر لم يتربص بترتيب نجومه حتى كملت نزولًا، بل لم يتريث

ص: 250

بتأليف سورة واحدة منه حتى تمت فصولًا، بل كان كلما ألقيت إليه آية أو آيات أمر بوضعها من فوره في مكان مرتب من سورة معينة. على حين أن هذه الآيات والسور لم تتخذ في ورودها التنزيلي سبيلها الذي اتبعته في وضعها الترتيبي؛ فكم من سورة نزلت جميعًا أو أشتاتًا في الفترات بين النجوم من سورة أخرى، وكم من آية في السورة الواحدة تقدمت فيها نزولًا وتأخرت ترتيبًا، وكم من آية على عكس ذلك.

نعم، لقد كان للنجوم القرآنية في تنزيلها وترتيبها ظاهرتان مختلفتان، وسبيلان قلَّما يلتقيان، ولقد خلص لنا من بين اختلافهما أكبر العبر في أمر هذا النظم القرآني.

فلو أنك نظرت إلى هذه النجوم عند تنزيلها، ونظرت إلى ما مهد لها من أسبابها، فرأيت كل نجم رهينًا بنزول حاجة ملمة، أو حدوث سبب عام أو خاص، إذًا لرأيت في كل واحد منها ذكرًا مُحدثًا لوقته، وقولًا مرتجلًا عند باعثته، لم يتقدم للنفس شعور به قبل حدوث سببه. ولرأيت فيه كذلك كلًّا قائمًا بنفسه لا يترسم نظامًا معينًا يجمعه وغيره في نسق واحد.

ولو أنك نظرت إليها في الوقت نفسه فرأيتها وقد أُعدَّ لكل نجم منها ساعة نزوله سياج خاص يأوي إليه سابقًا أو لاحقًا؛ وحدد له مكان معين في داخل ذلك السياج متقدمًا أو متأخرًا

(1)

إذًا لرأيتَ من خلال هذا التوزيع الفوري المحدود أن هنالك خطة تفصيلية شاملة قد رسمت فيها مواقع النجوم كلها من قبل نزولها، بل من قبل أن تخلق أسبابها، بل من قبل أن تبدأ الأطوار الممهدة لحدوث أسبابها، وأن هذه الخطة التي رسمت على أدق الحدود والتفاصيل قد أبرمت بآكد العزم والتصميم: فما من نجم وضع في سورة ما ثم جاوزها إلى غيرها، وما من

(1)

فترى هذا النجم مثلًا يؤمر به عند نزوله أن يوضع في ختام سورة كذا، والنجم الذي بعده يؤمر به أن يجعل في أثناء تلك السورة نفسها على رأس عدد محدود من آيها، وهذا يُجعل صدرًا لسورة تأتي بعد حين، والذي يليه يأخذ جانبًا من سورة مضت منذ حين .. وهلم جرا.

ص: 251

نجم جعل في مكان من السورة آخرًا أو أولًا، ثم وجد عنه أبد الدهر مصرفًا ولا متحوَّلًا.

وهنا تقف موقف الحيرة في أمرك، وتكاد تنكر ما تحت سمعك وبصرك، ثم ترجع إلى نفسك تسائلها عن وجه الجمع بين ما رأيت وما ترى: أليس هذا التنزيل قد سمعته الآن جديدًا وليد يومه، ووحيدًا رهين سببه؛ فما لي أراه ليس جديدًا ولا وحيدًا؟ لكأني به وبالقرآن كله كان ظاهرًا على قلب هذا الرجل قبل ظهوره على لسانه، وكان على هذه الصورة مؤلفًا في صدره قبل أن يؤلفه ببيانه. وإلا فما باله يؤلف هذا التأليف بين آحاد لا تتداعى إلى الاجتماع بطبائعها؟ لماذا لم يذرها كما جاءت فرادى منثورة؟ وهلا إذ أراد جمعها أدخلها كلها في مجموعة واحدة؟ أو هلا قسمها إلى مجاميع متساوية أو متجانسة؟ ترى على أية قاعدة بني توزيعها وتحديد أوضاعها هكذا قبل تمامها أو تمام طائفة منها؟ هل عسى أن تكون هذه الأوضاع كلها جارية على محض المصادفة والاتفاق؟ كلَّا، فقد ظهر في كل وضع منها أنه مقصود إليه بعينه، كما ظهر القصد في كل طائفة أن تنتظم منها وحدة محدودة ذات ترتيب ومقدار بعينه .. أم هل عسى أن تكون هذه الأوضاع - وإن قصدت - ليست وليدة تقدير سابق، وإنما هي تجربة اختبارية أثمرتها فكرة وقتية؟ كلَّا، فإن واضعها حين وضعها قد ضربها ضربة لازب، ثم لم يكر عليها بتبديل ولا تحويل، فعلام إذًا بنى ذلك القصد وهذا التصميم؟

ولن يكون الجواب الذي تسمعه من نفسك لو أصاخت إلى بديهة العقل إلا أن تقول:

إنَّه لا يجرؤ في قرارة الغيب على وضع هذه الخطة المفصلة المصممة إلا أحد اثنين:

جاهل جاهل في حضيض الجهل.

أو عالم عالم فوق أطوار العقل.

لا ثالث.

ص: 252

(فأمَّا) إن كان فرغ من نظام تأليفها وصورة تركيبها من قبل أن يستحكم له العلم بأسباب ذلك ومقاصده وأدباره وعواقبه، وإنما بنى أمره على الظن والتحسس وعلى التخيل والتمني، فذلك امرؤ بلغت به الجرأة على نفسه أن أعلن ملك ما لا يملكه وادعى علم ما ستكشف الأيام عن جهله، وما عليك إلا أن تتربص به قليلًا لترى بطلان أمره وفساد صنعته، فهيهات أن يلد الجهل نظامًا جاريًا، وإحكامًا باقيًا.

(وأمَّا) إن كان قد فصلها على علم وبصر، وأعطى كل جزء منها موقعه بميزان وقدر، فلا ريب أن سيكون نظامها مثال الإتقان وآية الجمال، ولكن واضعها إذًا لا يمكن أن يكون هو هذا الإنسان؛ إلا أن يكون قد استمدها من أفق أعلى من أفق نفسه ومحيط أوسع من محيط علمه؛ إذ أنى للإنسان وهو هذا المحكوم بطبيعة الدهر أن يكون عليها متحكمًا؟ أم كيف يتهيأ له وهو في جهله العتيد بمقدمات عمله أن يكون بنتائجها التفصيلية عالمًا؟ أفيكون بالشيء الواحد جاهلًا وعالمًا معًا؟ أم يكون من وجه واحد حاكمًا ومحكومًا معًا؟

وهل رأيت أو سمعت أن أحدًا من الكتاب أو الشعراء استطاع في مفتتح حياته الأدبية أن يحصي كل ما سيجيء على لسانه من جيد الشعر أو النثر في المناسبات المتنوعة إلى آخر عهده بالدنيا، وأن يضع من أول يوم منهاجًا لديوانه المنتظر، يفصِّله تفصيلًا لا يقنع فيه بتقدير أبوابه وفصوله حتى يقدر لكل باب عدة ما يحويه من خطاب أو قصيد، ويحدد لكل واحد من هذين مكانًا معلومًا لا يستقدم عنه ولا يستأخر، حتى إذا جاء عند داعيته رده إلى مكانه غير متلبث ولا متوقف، ثم ينجح في هذه التجربة نجاحًا مطردًا تنفذ فيه أحكامه وتتحقق به أحلامه، فيستقيم له النسق بين هذه المقطوعات كلها، من غير أن يقدم فيها شيئًا أو يؤخر شيئًا، ومن غير أن يزيد بينها أو ينقص شيئًا.

(لعمري) لئن صح هذا الفرض في أحد من البشر لصح مثله في نبي القرآن صلى الله عليه وسلم ولكن الإنسان هو الإنسان، ومن لم يحط علمًا بما سيعترضه في دهره من بواعث القول وفنونه فهو عن الإحاطة بنصوص هذا القول أبعد، وهو عن الإحاطة بمراتب هذه النصوص أشد بعدًا، بل الإنسان حين تحفزه

ص: 253

باعثة القول وترد إليه سانحته لا يعدو فيها إحدى خطتين: فهو (إما) أن يدعها كما هي سانحة منعزلة، وكذلك يفعل في أمثالها، حتى إذا بلغ الغاية رجع أدراجه فأخذ فيها جمعًا وتفريقًا، وتبويبًا وترتيبًا.

(وإما) أن يأخذ في ضم هذه النصوص ولاءً على وفق ورودها الأول فالأول.

أما الثالثة وهي أن يجعلها هكذا (عزين)، ولا يزال يظاهرها من قريب وبعيد، عن أيمانها وعن شمائلها وفي خلالها، بهذه الطريقة المحددة، وبهذه الطريقة المشتتة المعقدة، على أن يجعل المكان الذي أحل كل سانحة فيه مكانًا مسجلًا لا تحول عنه ولا تزول، ثم يطمع أن يخرج له بتلك الصنعة ديوان كامل التقسيم والتبويب، جيد التنسيق والترتيب، مترابط متماسك في جملته وتفصيله، كلمة كلمة وحرفًا حرفًا، فتلك أمنية لا يظفر المرء منها إلا بعكس ما تمنى.

ها أنت ذا قد عرفت نهج التأليف الإنساني في صنعة البيان وغير البيان، ورأيت بُعْدَ ما بينه وبين نهج التأليف في نجوم القرآن، وعرفت ماذا كان يجب أن يحدث في النظم القرآني من جراء هذا النهج العجيب، في أسباب ثلاثة

(1)

من شأنها ألا يستقيم بها للكلام طبع، ولا يلتئم له معها شمل.

فانظر الآن هل استطاعت هذه الأسباب على تضافرها أن تنال شيئًا من استقامة النظم في السور المؤلفة على هذا النهج؟

أما العرب الذين تحداهم القرآن بسورة منه فلقد علمت لو أنهم وجدوا في نظم سورة منها مطمعًا لطامع، بله مغمزًا لغامز، لكان لهم معه شأن غير شأنهم، وهم هم.

وأما البلغاء من بعدهم فما زلنا نسمعهم يضربون الأمثال في جودة السبك وإحكام السرد بهذا القرآن حين ينتقل من فن إلى فن.

(1)

- عناصر معنوية مختلفة.

- ظروف زمانية منفصلة.

- أوضاع تأليفية عَجلَى ومشتتة.

ص: 254

وأما أنت فأقبل بنفسك على تدبر هذا النظم الكريم لتعرف بأي يد وضع بنيانه؟ وعلى أي عين صنع نظامه؟ حتى كان كما وصفه الله {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28].

[النظم القرآني في سوره، ومجموعه] اعمد إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد وما أكثرها في القرآن، فهي جمهرته - وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين: كيف بُدِئَت؟ وكيف خُتِمَت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطَّئت أولاها لأخراها؟

وأنا لك زعيم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى.

ولسوف تحسب أن السبع الطوال

(1)

من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتى يحدثك التاريخ أنها كلها أو جلها

(2)

قد نزلت نجومًا.

أو لتقولن: إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع؛ كمثل بنيان كان قائمًا على قواعده فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضًا فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصًا يشد بعضه بعضًا كهيئته أول مرة.

أجل، إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجَّمة يحسبها الجاهل أضغاثًا من المعاني حشيت حشوًا، وأوزاعًا من المباني جمعت عفوًا؛ فإذا هي - لو تَدبَّرتَ -

(1)

وإذا كانت هذه السور على طولها وكثرة نجومها لا يبدو عليها انفصال النظم، فما ظنك بما دونها إلى سور المفصل؛ حيث جرى التنجيم حتى في بعض القصار منها، كالضَّحى، واقرأ، والماعون، التي نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين.

(2)

هذا الترديد ناظر إلى اختلاف المفسرين في سورة الأنعام، ومذهب الجمهور أنها نزلت جملة واحدة، وقد روى الطبراني وغيره ذلك عن ابن عباس موقوفًا عليه، وروى عن أبي بن كعب مرفوعًا بسند فيه ضعف على أنه لو صح ما ذهب إليه الجمهور في هذه السورة لكانت من جملة الشواهد على اتحاد طريقة النظم في المنجمات وغيرها؛ لأن نظام الانتقال بين المعاني في سورة الأنعام مثله في السور المتفق على تنجيمها، سواء.

ص: 255

بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شعب وفصول، وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول؛ فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضامِّ والالتحام. كل ذلك بغير تكلفة ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها، وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعه وأثنائه، يريك المنفصل متصلًا، والمختلف مؤتلفًا.

ولماذا نقول: إن هذه المعاني تنتسق في السورة كما تنتسق الحُجُرات في البينان؟ لا، بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائج

(1)

تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب؛ ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضًا خاصًّا، كما يأخذ الجسم قوامًا واحدًا، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد، مع اختلاف وظائفه العضوية.

فيا ليت شعري: إذا كانت كافة الأجزاء والعناصر التي تتألف منها وحدة السور منوطة بأسباب لم تكن كلها واقعة ولا متوقعة، وكان لا بد لتمام هذه الوحدة من وقوع تلك الأسباب كلها في عصر نزول القرآن ليتناولها ببيانه، فما الذي أخضع دورة الفلك لنظام هذه الوحدات وجعل هذه النوازل تتوارد بأسرها في إبان التنزيل؟ لماذا لم يتفق في حادثة واحدة منها أن تخلفت عن عالم الوجود يومئذ لينخرم هذا النظام، فتجيء سورة من السور مبتورة في مفتتحها أو في مختتمها أو فيما بين ذلك؟ أليس مطاوعة تلك الأحداث الكونية ومعاونتها بدقة

ص: 256

دائمًا لنظام هذه الوحدات البيانية، شاهدًا واضحًا على أن هذا القول وذاك الفعل كانا يجيئان من طريق واحدة، وأن الذي صدرت هذه الكلمات عن علمه، هو نفسه الذي صدرت تلك الكائنات عن مشيئته

(1)

؟

بل ليت شعري لو أن هذا الإنسان الغريب الذي جاء القرآن على لسانه كان قد أحصى ما سوف يلده الزمان من مفاجآت الحوادث المستقبلة صغيرة وكبيرة في مدى دهره، ثم قدر ما سوف تتطلبه تلك النوازل من تعاليم الفرقان، فما علمه بالنظام البياني الذي ستوضع عليه صيغة تلك التعاليم؟ ثم ما علمه أي هذه التعاليم سيكون قرينة لهذا الجزء أو ذاك؛ ليتأهَّب لتلك القرائن قبل ورودها فيودع في كل جزء ساعة نزوله عروة لائقة بقرينته المعينة، حتى إذا قدمت استمسكت بعروتها فازدوجت بقرينها ذلك الازدواج المحكم؟ ولماذا حين وردت كل قرينة وجدت من قرينها جارًا لا يجور ولا يجار عليه، ووجدت بجانبه المكان الذي ينتظرها، لا ضيقًا فيزاحمها ويتبرم بها، ولا واسعًا فتنقطع الصلة بينهما، بل وجدته مقدرًا بمقدارها، حتى لا حاجة إلى الاستدراك على الماضي بمحو حرف، ولا بزيادة حرف، ولا بتبديل وضع، وحتى لا مجال هنا لقول:(ليت .. ) ولا (لو إن .. ).

بل كيف عرف كل جزء من هذه الأجزاء أين مجموعته، وأين مستقره بينها في رأس أو صدر أو طرف: من قبل أن تتبين سائر الآحاد والفصائل .. حتى إذا تم توزيع تلك الأجزاء المتفرقة، والأشلاء الممزقة، إذا الستار يرتفع في كل سورة عن دمية حسناء كاملة الأعضاء متناسقة الحلي؟

أيُّ تدبير محكم، وأي تقدير مبرم، وأي علم محيط لا يضل ولا ينسى، ولا يتردد ولا يتمكث؛ كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها، وهداها في إبَّان تشتتها إلى ما قدره لها، حتى صيغ منها ذلك العقد النظيم، وسرى بينها هذا المزاج العجيب؟

(1)

قل كل من عند الله سبحانه، لا معقب لحكمه، ولا مبدل لكلمته.

ص: 257

سبحان الله! هل يمتري عاقل في أن هذا العلم البشري؛ وأن هذا الرأي الأُنُف البدائي

(1)

الذي يقول في الشيء: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لقلت أو فعلت، ولقدَّمت أو أخرت) لم يك أهلًا لأن يتقدم الزمان ويسبق الحوادث بعجيب هذا التدبير؟ أليس ذلك وحده آية بينة على أن هذا النظم القرآني ليس من وضع بشر، وإنما هو صنع العليم الخبير؟ بلى؛ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

[مثال على الوحدة الموضوعية في السور القرآنية = سورة البقرة]

أمَّا إن طلبت شاهدًا من العيان على صحة ما أصلناه في هذا الفصل من نظام الوحدات في السور على كثرة أسباب اختلافها، وأما إن أحببت أن نريك نموذجًا من السور المنجمعة كيف التأمت منها سلسلة واحدة من الفكر تتلاحق فيها الفصول والحلقات، ونسق واحد من البيان تتعانق فيه الجمل والكلمات، فأي شيء أكبر شهادة وأصدق مثالًا من سورة نعرضها عليك هي أطول سور القرآن كافة، وهي أكثرها جمعًا للمعاني المختلفة، وهي أكثرها في التنزيل نجومًا، وهي أبعدها في هذا التنجيم تراخيًا.

تلك هي سورة البقرة التي جمعت بضعًا وثمانين ومائتي آية، وحوت فيما وصل إلينا من أسباب نزولها نيفًا وثمانين نجمًا، وكانت الفترات بين نجومها تسع سنين عددًا

(2)

.

واعلم أنه ليس من همنا الآن أن نكشف لك عن جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء هذه السورة الكريمة بعضها ببعض، فتلك دراسة تفصيلية لها محلها من كتب التفسير.

ذلك ولو نشاء لأريناك في القطعة الواحدة منها أسبابًا ممدودة عن أيمانها

(1)

«أي مستأنفٌ استئنافًا من غير أن يكون سبق به سابق قضاءٍ وتقدير» ، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: (1/ 75).

(2)

ففيها ذكر تحويل القبلة، وذكر صيام رمضان، وذكر أول قتال وقع في الإسلام فنزل بسببه قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [الآية: 217] وكل أولئك كان نزولهن في أوائل السنة الثانية من الهجرة. وفيها تلك الآية الخاتمة التي نزلت في آخر السنة العاشرة من الهجرة، وهي آخر آية نزلت من القرآن بإطلاق:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [الآية: 281]، وفيها ما بين ذلك.

ص: 258

وعن شمائلها تمتُّ بها إلى الجار ذي القربى والجار الجنب، في شبكة من العلائق يحار الناظر إلى خيوطها، مع أيها يتجه؟ ولا يدري أيها هو الذي قُصد بالقصد الأول.

وإنما نريد أن نعرض عليك السورة عرضًا واحدًا نرسم به خط سيرها إلى غايتها، ونبرز به وحدة نظامها المعنوي في جملتها، لكي ترى في ضوء هذا البيان كيف وقعت كل حلقة موقعها من تلك السلسلة العظمى.

* * *

[السياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني]

بيد أننا قبل أن نأخذ فيما قصدنا إليه نحب أن نقول (كلمة) ساق الحديث إليها: وهي أنَّ السياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه، فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية بين جزءٍ جزءٍ منه - وهي تلك الصلات المبثوثة في مثاني الآيات ومطالعها ومقاطعها - إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها على وجه يكون معوانًا له على السير في تلك التفاصيل عن بينة؛ فقديمًا قال الأئمة

(1)

: (إنَّ السورة مهما تعددت قضاياها فهي كلام واحد يتعلق آخره بأوله، وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة. وإنَّه لا غنى لمتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية).

[من الأخطاء الواقعة في دراسة المناسبات بين الآيات]

وبهذا تعرف مبلغ الخطأ الذي يتعرض له الناظرون في المناسبات بين الآيات حين يعكفون على بحث تلك الصلات الجزئية بينها بنظر قريب إلى القضيتين أو القضايا المتجاورة، غاضين أبصارهم عن هذا النظام الكلي الذي وضعت عليه السورة في جملتها، فكم يجلب هذا النظر القاصر لصاحبه من جور

(1)

كأبي بكر النيسابوري، وفخر الدين الرازي، وأبي بكر بن العربي، وبرهان الدين البقاعي، وأبي إسحاق الشاطبي وغيرهم، أما النص المذكور هنا فمستنبط من كلمات للشاطبي في الموافقات، في المسألة الثالثة عشر من الكلام على الأدلة تفصيلًا، وقد عرض فيها سورة (المؤمنون) عرضًا إجماليًّا.

ص: 259

عن القصد، وكم ينأى به عن أروع نواحي الجمال في النظم؛ وهل يكون مثله في ذلك إلا كمثل امرئ عرضت عليه حلة موشية دقيقة الوشي ليتأمل نقوشها فجعل ينظر فيها خيطًا خيطًا ورقعة رقعة، لا يجاوز ببصره موضع كفه، فلما رآها يتجاور فيها الخيط الأبيض والخيط الأسود وخيوط أخر مختلف ألوانها اختلافًا قريبًا أو بعيدًا لم يجد فيها من حسن الجوار بين اللون واللون ما يروقه ويونقه.

ولكنه لو مدَّ بصره أبعد من ذلك إلى طرائف من نقوشها لرأى من حسن التشاكل بين الجملة والجملة، ما لم يره بين الواحد والواحد، ولتبين له من موقع كل لون في مجموعته بإزاء كل لون في المجموعة الأخرى ما لم يتبين له من قبل، حتى إذا ألقى على الحلة كلها نظرة جامعة تنتظم أطرافها وأوساطها بدا له من تناسق أشكالها ودقة صنعتها ما هو أبهى وأبهر، فكذلك ينبغي أن يصنع الناظر في تدبره لنظم السورة من سور القرآن.

[مهمات عن البحث في النسق القرآني]

(وكلمة أخرى) تمسُّ إليها حاجة الباحث في النسق إذا أقبل على تلك المناسبات الموضعية بين أجزاء السورة: وهي أن يعلم أن الصلة بين الجزء والجزء لا تعني اتحادهما أو تماثلهما أو تداخلهما أو ما إلى ذلك من الصلات الجنسية وحسب، كما ظنَّه بعض الباحثين في المناسبات، فجعل فريق منهم يذهب في محاولة هذا النوع من الاتصال مذاهب من التكلف والتعسف، وفريق آخر متى لم يجد هذه الصلة من وجه قريب أسرع إلى القول بأن في الموضع

(1)

اقتضابًا محضًا؛ جريًا على عادة العرب في الاقتضاب.

(1)

بل زعم بعضهم أن الاقتضاب هو الأصل في القرآن كله، نقل السيوطي في الإتقان في بحث المناسبة بين الآيات والسور؛ عن أبي العلاء محمد بن غانم:«أن القرآن إنما وقع على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم» ، وكذلك نقل عن عز الدين بن عبد السلام أنَّ النظر في مناسبة الآي لا يحسُن إلا في القضية التي نزلت على سبب واحد، أمَّا إذا اختلفت الأسباب فالربط بينها ضرب من التكلف؛ لأنَّ القرآن نزل في نيِّفٍ وعشرين سنة في أحكام مختلفة لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض» ا. هـ. وقد خالفهما الأئمة ووهموهما.

ص: 260

ألا إن هذا الرأي بشعبتيه لأوغل في الخطأ من سابقه

(1)

، وإن الأخذ به على علاته في القرآن لغفلة شديدة عن مستوى البلاغة التي تميز بها القرآن عن سائر الكلام.

فلو أن ذاهبًا ذهب يمحو تلك الفوارق الطبيعية بين المعاني المختلفة التي ينتظمها القرآن في سورة منه إذًا لجرده من أولى خصائصه، وهي أنه لا يسترسل في الحديث عن الجنس الواحد استرسالًا يرده إلى الإطالة المملة، كيف وهو الحديث الذي لا يمل؟

ولو أنه - من أجل المحافظة على استقلال هذه المعاني - ذهب يفرقها، ويقطع أرحامها، ويزيل التداعي المعنوي والنظمي من بينها، إذًا لجرده من خاصته الأخرى، وهي أنه لا ينتقل في حديثه انتقالًا طفريًّا يخرجه إلى حد المفارقات الصبيانية التي تجمع شتى الأحاديث على غير نظام، والتي لا تدع نفس السامع تستشرف إلى اختتام كلام وافتتاح كلام، كيف وهو القول الرصين المحكم؟

كلَّا، بل الحديث فيه كما علمت ذو شجون، ولكنه حين يجمع الأجناس المختلفة لا يدعها حتى يبرزها في صورة مؤتلفة، وحتى يجعل من اختلافها نفسه قوامًا لائتلافها، وهذا التأليف بين المختلفات ما زال هو (العقدة) التي يطلب حلها في كل فن وصنعة جميلة، وهو المقياس الدقيق الذي تقاس به مراتب البراعة ودقة الذوق في تلك الفنون والصناعات، فإن تقويم النسق وتعديل المزاج بين الألوان والعناصر الكثيرة أصعب مراسًا وأشد عناءً منه في أجزاء اللون الواحد والعنصر الواحد.

وعلى هذه القاعدة ترى القرآن يعمد تارة إلى الأضداد يجاور بينها، فيخرج بذلك محاسنها ومساويها في أجلى مظاهرها، ويعمد تارة أخرى إلى الأمور المختلفة في أنفسها من غير تضاد فيجعلها تتعاون في أحكامها بسوق بعضها إلى

(1)

وهو تضييق دائرة البحث في المناسبات بالتماسها بين المعاني المتجاورة خاصة، فإذا أضيف إلى ذلك التزام طريق معين في المناسبة وهو أن تكون من قبيل التجانس المعنوي زادت المسألة ضيقًا وحرجًا؛ ولذلك أفضى هذا الرأي بأصحابه إلى أحد الطرفين المذمومين: التكلف أو الخروج.

ص: 261

بعض مساق التنظير أو التفريع، أو الاستشهاد أو الاستنباط، أو التكميل أو الاحتراس، إلى غير ذلك.

وربما جعل اقتران معنيين في الوقوع التاريخي، أو تجاور شيئين في الوضع المكاني، دعامة لاقترانهما في النظم، فيحسبه الجاهل بأسباب النزول وطبيعة المكان خروجًا وما هو بخروج، وإنما هو إجابة لحاجات النفوس التي تتداعى فيها تلك المعاني.

فإن لم يكن بين المعنيين نسب ولا صهر بوجه من هذه الوجوه ونحوها، رأيته يتلطف في الانتقال من أحدهما إلى الآخر إما بحسن التخلص والتمهيد، وإما بإمالة الصيغ التركيبية على وضع

(1)

يتلاقى فيه المتباعدان، ويتصافح به المتناكران.

(1)

ولقد يعرض في هذا الوجه اللغوي أسرارًا دقيقة لو سئل المرء البيان عن وجه الحسن فيها لعجز عن وصفه، بل لو سئل أين موضع الوصل منها لصعب عليه تحديده بقاعدة علمية.

على أنه لو تناسى تلك الألقاب الاصطلاحية والأسئلة الفضولية وخلى نفسه ووجدانها ثم اتصل بهذه المواضع تلاوة أو استماعًا لما شعر بينها بشيء من الخروج أو الانتقال ينبو عنه الذوق أو يتعثر فيه السمع، بل يحس بينها بروح الاتصال وحلاوة الانتقال من قبل أن يهتدي لناحية محدودة أو علة معينة.

ومن طالت مزاولته لأساليب الكلام وتذوقه لطعومه حتى رسخت فيه ملكة التمييز بين الجيد منه والرديء وجد من نفسه أهلية هذا الحكم، إن لم يكن على نحو من الاستدلال المنطقي، فعلى ضرب من الاستحسان الفقهي، ولا سيما إن كان ممن بقيت في عروقهم قطرات من الدم العربي، وفي نفوسهم أثارة من الحاسة العربية، فمن أخطأه وجدان هذا الحسن الإجمالي في موضع ما من القرآن فلا يلومن إلا نفسه، ولا يعجلن بالحكم قبل أن يأخذ أهبته.

وليذكر دائمًا أنه بمقياس ما يجده نحو أسلوب القرآن من استحسان أو توقف إنما يختبر ما في مزاجه اللغوي من صحة أو اعتلال، وما في دراسته اللغوية من نقص أو كمال، وأنه ليس بأذواق القاصرين من المولدين أمثاله تختبر لغة القرآن، كيف وقد درج أهلها الذين سجدوا لبلاغته، وكان فيهم الحكم الذي ترضى حكومته هذا.

ولكم وقف علم التشريح عن إدراك سر الخلق في بعض الأعضاء الباطنة لعدم الاهتداء لوظيفتها، فهل وسع أحدًا من علماء التشريح إلهيين أو طبيعيين أن يحكموا بخلوها عن الحكمة والفائدة؟ كلَّا، فإنهم لما بهرتهم عجائب الصنعة في سائر أجزاء البدن لم يسعهم في القليل الذي جهلوه إلا أن يعترفوا على الجملة بأن له البتة حكمة لم يكشفها العلم، ثم لا يلبث أن يكشفها لمن أعانته همة البحث وأيده التوفيق.

ص: 262

وهذه كلها وجوهٌ حسنة لو نظر إليها بين آحاد المعاني لأغنى بعضها عن بعض في إقامة النسق.

على أن روعة النظم القرآني كما علمت لا تقوم دائمًا على حسن التجاور بين الآحاد، بل ربما تراه قد أتم طائفة من المعاني ثم عاد إلى طائفة أخرى تقابلها، فيكون حسن الموقع في التجاور بين الطائفتين موجبًا لحسن المقابلة بين الأوائل من كل منهما، أو بين الأواخر كذلك لا بين الأول من هذه والآخر من تلك.

وملاك الأمر في ذلك أن تنظر إلى النظام المجموعي الذي وضعت عليه السورة كلها كما وصيناك به من قبل. ونحن ذاكرون لك الآن نموذجًا منه لو وضعته نصب عينيك واحتذيته في سائر السور لكان ذلك نعم الدليل في دراستك.

وبالله التوفيق.

[نظام عقد المعاني في سورة البقرة]

اعلم أنَّ هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من: مقدمة، وأربعة مقاصد، وخاتمة، على هذا الترتيب:

(المقدمة) في التعريف بشأن هذا القرآن

(1)

، وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدًّا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم، وإنما يعرض عنه من لا قلب له، أو من كان في قلبه مرض.

(المقصد الأول) في دعوة الناس كافَّة إلى اعتناق الإسلام.

(المقصد الثاني) في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق.

(المقصد الثالث) في عرض شرائع هذا الدين تفصيلًا.

(المقصد الرابع) ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع ويعصم عن مخالفتها.

(1)

عرفت في رأس البحث الأول أن لفظ القرآن يطلق على كله وعلى بعضه، فالإشارة هنا يصح أن تتوجه إلى القرآن جملة، وأن تتوجه إلى سورة البقرة خاصة، وقد أردنا بقاءها على هذا الاحتمال اقتداءً بالنص الكريم:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]؛ لأن الإشارة فيه على الاحتمال أيضًا.

ص: 263

(الخاتمة) في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد وبيان ما يرجى لهم في آجلِهم وعاجلِهم.

ص: 264

رغبتنا إليك أيها القاريء الكريم حين تدرس معنا تفاصيل هذا النسق أن تستظهر بالمصحف بين يديك لتكون من الموقنين بصحة ما نشير إليه في كل خطوة

(1)

.

‌المقدمة في عشرين آية (1 - 20)

[الأحرف المقطعة]

(1)

بدأت السورة الكريمة بثلاثة أحرف مقطعة لا عهد للعرب بتصدير مثلها في الإنشاء والإنشاد؛ وإنما عهدوها من القراء الكاتبين في بدء تعليمهم التهجي للناشئين (أ. ل. م).

ومهما يكن من أمر المعنى الذي قصد إليه بهذه الأحرف، والسر الذي وضعت هنا من أجله، فإن تقديمها بين يدي الخطاب مع غرابة نظمها وموقعها من شأنه أن يوقظ الأسماع ويوجه القلوب لما يلي هذا الأسلوب الغريب.

[الحديث عن القرآن]

(2)

وألحقت بهذه الأحرف الثلاثة جمل ثلاث:

أما أُولَاهن فإعلان للسامع أن ما سيتلى عليه الآن هو خير كتاب أخرج للناس، وأنه ليس في الوجود ما يصلح أن يسمى كتابًا بالقياس إليه:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2].

وأما الأخريان فيدعمان هذا الحكم بالحجة والبرهان، أليس تفاضل الكتب إنما هو بمقياس ما تحويه من حق لا يشوبه باطل، أو ليس كمال هذا الحق أن يكون نيرًا لا يثير شبهة، أو ليس أكمل الكمال بعد هذا وذاك أن يكون ذلك الحق مما تمس إليه حاجة الناس في إنارة السبيل وإقامة الدليل إذا ما اشتبهت عليهم السبل وتفرقت المسالك، فذلكم القرآن هو جماع هذه الفضائل الثلاث: فهو الحق المحض الذي لا باطل فيه، بل هو الحق اللائح الذي لا شبهة باطل فيه،

(1)

سقطت هذه الجملة من بعض الطبعات، وعوض عنها بذكر الآيات، وقد تركتها كما أرادها المؤلف، فليكن المصحف بيدك، فهو خير لك! (عمرو)

ص: 265

ثم هو بعد ذلك الهدى المبين الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور: {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى} [البقرة: 2].

هكذا كان موقع هذه الجمل الثلاث بعد تلك الأحرف الثلاثة موقع التنويه بالمقصود بعد التنبيه إليه.

وكذلك المربي الصالح (يبدأ) خطابه الجليل الشأن باستنصات الناس واسترعاء أسماعهم (ويثنِّي) باتخاذ الوسائل المشوقة التي تثير فيهم بواعث الإقبال على طلب الاستفادة.

[أثر القرآن]

(3)

أولُ ما تتشوف إليه النفس بعد سماع هذا الوصف البليغ للقرآن وهدايته هو تعرف الأثر الذي سيحدثه في الناس ومقدار إجابتهم لدعوته، فمسَّت الحاجة إلى أن ينساق الحديث لبيان هذه الحقيقة العجيبة، وهي انقسام الناس في شأنه إلى فئات ثلاث: فئة تؤمن به، وأخرى كافرة، وثالثة مترددة حائرة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

فكيف ترى ينتقل من الحديث عن الكتاب إلى الحديث عن الناس؟ أيجعل الحديث عنهم حديثًا مؤتنفًا ائتنافًا بحتًا؟ .. أم يسوقه مساق الاستدراك على ما قبله؟ ..

شيء من ذلك لم يكن، ولكن انظر إليه وقد مزج الحديثين مزجًا عجيبًا يدع أدقَّ الناس فطنة لتصريف وجوه القول لا يفطن لما حدث بينهما من الانتقال، ذلك أنَّه في أول الأمر لم يعرض لذكر الطائفتين الأخيرتين، بل أعرض عنهما، كأن القرآن لم ينزل من أجلهما، ثم عمد إلى الطائفة الأولى فجعل الحديث عنها من تمام الحديث عن هداية القرآن نفسه قائلًا: إنه {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 2 - 3] فكانت هذه (اللام الجارة) هي المعبرة السرِّية التي انزلق عليها الكلام وانصب انصبابًا واحدًا إلى نهاية الحديث عن المؤمنين.

[أصناف الناس]

(4)

ولقد كان قصر الانتفاع بهداية القرآن على هذه الطائفة وحدها بعد وصف القرآن بأنه الحق الواضح الذي لا ريبة فيه - حَرِيًّا في بادئ الرأي أن يعد

ص: 266

من المفارقات التي تثير في نفس السامع أشد العجب، إذ كيف تكون الحقائق القرآنية بهذه المرتبة من الوضوح ثم لا تنفذ إلى قلب كل من يسمعها؟!

ومن جهة أخرى فقد كان موقف هذا النبي الرحيم صلى الله عليه وسلم في جِدِّه البالغ في دعوة أمته، وحرصه الشديد على هدايتهم، مصورًا له في عين من يراه بصورة الطامع في إيمان الناس أجمعين، الظان أن هذه الأمنية ستصبح في متناول يده متى أخذ في أسبابها العادية، كأنه يرى أن ليس بينهم وبين هذه الهداية إلا أن يصل صوت القرآن إلى آذانهم فإذا هم مسلمون، ذلك مع أن القرآن يكاد يحدد الآن مهمته ويقول: إن الذي سينتفع بهداه إنما هم المتقون، فكان هذا التحديد مظنة لأن يبتهل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه قائلًا: سبحانك اللهم، ولمَ لا يهتدي به الناس أجمعون؟!

وجب إذًا أن تقرر الحقيقة بصورة حاسمة لكل طماعية وتردد، مريحة للنفس من طلب ما لا سبيل إليه، وأن تبين مع ذلك الموانع الطبيعية من عموم هداية القرآن بأسلوب ينزه القرآن نفسه عن شائبة القصور، ويرد النقص إلى قابلية القابل لا إلى فاعلية الفاعل، وهل يغض من مهارة الطبيب أن يُعرض المريض عن تناول الدواء منه فيموت بجهله؟ وهل يضير الشمس ألا ينتفع بنورها العُمي أو المتعامون؟ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].

هكذا انتقل الحديث عن المؤمنين الذين سبقت لهم الحسنى، إلى الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب، لا على وجه اقتران الحديثين في القصد من أول الأمر، إذًا لعُطف أحدهما على الآخر، بل على وجه يُبنى فيه بعض الكلام على بعض، إجابة لهذا السؤال الذي نطقت به الحال، وإزالة لذلك التعجب الذي أثاره سابق المقال، وهذا هو ما يسميه علماء البلاغة بالاستئناف البياني.

(5)

وجرى الحديث عن هؤلاء إلى نهايته، فانضمَّ الشكل إلى شكله، وعطفت الطائفة الثالثة على أختها؛ لأنهم في التجافي عن الهدى مشتركون، تتشابه قلوبهم وإن اختلفت ألسنتهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].

ص: 267

[تكملة الحديث عن أصناف الناس]

(6)

وارجع الآن قليلًا إلى نظام الأحاديث عن الطوائف الثلاثة، لترى كيف تقابلت أوضاعها أتمَّ التقابل، فقد اشتمل الحديث في كل طائفة على ثلاثة عناصر مرتبة على هذا النمط: وصف الحقيقة الواقعة، فبيان السبب فيها، فالإخبار عن نتيجتها المنتظرة.

(فحقيقة) الطائفة الأولى أنهم قوم حصلوا فضيلة التقوى بركنيها العلمي والعملي، (سبب ذلك) استمساكهم بالهدى وإمدادهم بالتوفيق من ربهم، و (مآل أمرهم)(الفوز والفلاح).

(وحقيقة) الطائفة الثانية أنهم مجرَّدون من أساس التقوى وهو الإيمان، وأنهم مُصرون على ذلك إصرارًا لا ينفع معه إنذار، (والسبب) عدم انتفاعهم بما وهبهم الله من وسائل العلم، فلهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، (وعاقبة أمرهم) العذاب العظيم.

(وحقيقة) الطائفة الثالثة صفة مركبة من ظاهر خير وباطن سوء، فهم يقولون بألسنتهم: إنهم مؤمنون، وليس في قلوبهم من الإيمان شيء، ولكل من الوصفين (سبب) و (جزاء) أما دعواهم الإيمان (فسببها) قصد المخادعة، و (جزاءُ) الخداع عائد إليهم، وأما إسرارهم الكفر (فسببُه) مرض قلوبهم، و (جزاؤه) زيادة المرض والعذاب الأليم.

وكما بيَّن في الطائفة الثانية أنها بلغت من الإصرار والغباوة مبلغًا لا يجدي معه الإنذار، بيَّن في الطائفة الثالثة أنها بلغت من الغرور والجهالة المركبة مبلغًا لا ينفع فيه نصح الناصحين، فهم المفسدون ويزعمون أنهم المصلحون، وهم السفهاء ويزعمون أنهم الراشدون، ومن لك بشفاء سقيم يعتقد أنه سليم؟

ثم كما ختم الكلام في شأن الطائفة الأولى بأن سجل لهم وصف الهدى والفلاح، ختم الكلام في شأن الطائفتين الأخريين بأن سجل عليهما

(1)

وصف الضلالة والخسران.

(1)

مضى جمهور المفسرين على أن قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] مشار به إلى أقرب الطائفتين في الذكر، وهم المنافقون ولكن المروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أنَّه راجع إلى الكفار مطلقًا، وهذا هو الذي عولنا عليه؛ لأنه أقعد في المعنى وفي النظم؛ أما في المعنى فلأنَّه لا واسطة بين الهدى والضلالة {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، وإذا كانوا كلهم عن الهدى ناكبين، وفي الضلالة مشتركين، فتخصيص الإشارة بالبعض مع إمكان رجوعها إلى الجميع صريحًا تخصيص بغير موجب.

وأما في النظم؛ فلأن تناولها للطائفتين يتم به حسن المقابلة بين الإشارتين في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} [البقرة: 5]، وقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] ثم به يتم جمال الصنعة في تفريق الأقسام ثم جمعها، ثم تفريقها ثم جمعها، فقد رأيته يفرق الطائفتين في أوصافهما الخاصة، ثم يجمعهما في هذا الوصف المشترك، وستراه يعود إلى تفريقهما في ضرب الأمثال، ثم يجمعهما مرة أخرى مع سائر العالم في النداء الآتي:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].

ص: 268

[المثلان في مطلع سورة البقرة]

(7)

على أن هذه الأوصاف التحقيقية للطائفتين لم تكن وحدها لتشفي النفس من العجب في أمرهم، فالعهد بالناس أنهم إنما يختلفون في الأمور الغامضة لا في الحقائق البينة، فاختلاف هؤلاء في شأن القرآن على وضوحه يعد شاذًّا عن العادات الجارية، محتاجًا إلى وصف تمثيلي يقربه من المشاهد المحس، حتى يطمئن القلب إلى إمكانه.

لذلك ضرب الله لكلتا

(1)

الطائفتين مثلًا يناسبها.

(1)

لعلك ترى هنا شيئًا من المخالفة لكلام المفسرين، إذ جعلوا المثلين كليهما راجعين إلى المنافقين خاصة، وجعلناهما موزعين على الطائفتين، نشرًا على ترتيب اللف.

ولكنك إذا رجعت بنفسك إلى أجزاء المثلين سترى معنا أن المثل الأول ينطبق تمام الانطباق على الأوصاف التي ذكرها الله للكافرين، وأن الذي ينطبق على صفات المنافقين إنما هو المثل الثاني وحده، فهؤلاء القوم الذين {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17 - 18]، أليسوا هم أولئك القوم الذين {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]، وهذه الظلمات الثابتة المستقرة التي ليس فيها بصيص من نور وليس فيها تقلب ولا تذبذب، هل ترى فيها تصويرًا لألوان النفاق ووجوهه المختلفة باختلاف الأحوال؟ إنك لا تجد هذه الصورة إلا في المثل الثاني حيث يتعاقب فيه الظلام والنور، والوقوف والمسير.

وكذلك ترى في المثل الثاني قومًا لهم أسماع وأبصار لم يذهب الله بها ولو شاء لذهب، وهذا مناسب لقوله في المنافقين:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] فوصفهم بالمرض ولم يصفهم بالختم الكلي على القلوب والحواس.

نعم، يمكن تقرير كلام المفسرين على وجه صحيح إذا ضممنا إليه ضميمة، ذلك بأن نقول: إن المثل الأول يصور حال المنافقين في بواطنهم، وهو الأمر الذي يشاركون فيه سائر الكفار، والمثل الثاني يصور حالهم في ظواهرهم، وهو الأمر الذي يتقلب عندهم بتقلب الدواعي؛ لأن تقلبهم إنما هو في الظاهر لا الباطن.

غير أن هذه الدعوى أيضًا محل نظر، إذ ما يدرينا، لعل نوع الكفر الذي يبطنه المنافق نوع خاص يتقلب فيه قلبه بالشك والتردد، وأن هذا الاضطراب الذي نشاهده على حركاته الظاهرة في أقواله وأعماله إنما هو صورة الاضطراب النفسي الذي يحس به هو في دخيلته بخلاف النوع الأول، وهو كفر المجاهرين، فهو طبيعة واحدة مصممة، حسبما تشهد به وحدة آثاره.

ص: 269

[المثل المضروب للكافرين]

فضرب مثلًا للمصرين المختوم على قلوبهم بقوم كانوا يسيرون في ظلام الليل فقام فيهم رجل استوقد لهم نارًا يهتدون بضوئها، فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعينهم لهذا الضوء الباهر، بل لأمر مَا سُلبوا نور أبصارهم وتعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجأة.

فذلك مثل النور الذي طلع به محمد

(1)

صلى الله عليه وسلم في تلك الأمة الأمية على فترة

(1)

وهذا أيضًا غير ما ذكره المفسرون فقد جعلوا مستوقد النار مثلًا للمنافق الذي تكلف النطق بكلمة الإسلام خداعًا، فلم ينتفع بها إلا يسيرًا في دنياه، ثم قضى أجله وأفضى إلى عمله، فإذا هو في الظلمات والخسران المبين.

هكذا اعتبروا الضمائر المجموعة في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] إلخ عائدة إلى {الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [البقرة: 17] بمراعاة معناه، بعد أن عادت إلى الضمائر المفردة بمراعاة لفظه.

ونحن لا نزعم بطلان هذا التأويل، ولا ننكر إساغة اللغة له، ولكن الوجه الذي عرضناه ها هنا في شرح المثل يجمع إلى صحته العقلية واللغوية أنه مستنبط من النظم القرآني نفسه، ونحسبه مع ذلك أقرب لأسلوب القرآن وأليق بجزالته، فإن لم يكنه فليكن أحد الوجوه التي يحتملها القرآن.

أما كيف استنبطنا هذا المعنى من النظم فإليك بيانه:

لقد نظرنا إلى المثلين فرأينا الأسلوب فيهما يتجه اتجاهًا متوازيًا؛ إذ وجدنا في صدر كل منهما حديثًا عن شيء مفرد، وفي عجز كل منهما حديثًا عن جماعة.

ثم نظرنا إلى المثل الثاني فرأينا الضمير المجموع فيه ليس راجعًا إلى مرجع الضمير المفرد، بل هو راجع باتفاق المفسرين إلى أمر مفهوم من فحوى الكلام هو القوم الذين نزل عليهم الصيِّب، ومعلومٌ أن هذه التشبيهات المركبة التي ينظر فيها إلى مقابلة المجموع بالمجموع لا يعني فيها بالمقابلة اللفظية الأحادية لأبين ما قبل الكاف وما يليها على الترتيب: بل ربما يكون الاختلاف بينهما كما هنا أمرًا مطلوبًا للبلغاء في وجيز الكلام يقصدون به التنبيه من أول الأمر على ما سيحدثون في التشبيه من طيٍّ وتقديم وتأخير، والتنبيه على أن المشبه به ليس هو مدخول الكاف وحده، وإنما هو قصة متعددة الفصول، هذا المدخول أحد فصولها، ذلك ليبقى السامع محتفظًا بانتباهه وتشوقه إلى تمام الكلام الذي به يظهر له التطابق بين طرفي التشبيه، وبه يمكنه رد كل شيء إلى شبهه، هذا الضرب في أسلوب القرآن كثير، منه قوله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} [البقرة: 171]، وقوله:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ} [يونس: 24]، وقوله:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19].

حينئذ عدنا إلى المثل الأول فقلنا: هل عسى أن يكون هو أيضًا سائرًا على هذا النهج حسبما يرشد إليه تعادل الأسلوبين؟ .. فيكون الضمير المجموع فيه ليس عائدًا إلى (الذي استوقد نارًا) بل إلى القوم الذي استوقدت النار من أجلهم، أليس السامع متى انتهى إلى كلمة (ما حوله) يزداد شعورًا بأن هنالك قومًا مشبَّهًا بهم؟ إذ سرعان ما ينتقل الذهن من المكان إلى السكان .. هذه الخطوة الأولى لم تلبث أن لحقتها الخطوات التالية: وهي أن النور الذي ذهب الله به إذا كان هو نور أولئك القوم، ولم يكن هو ضوء النار التي استوقدها المستوقد فتلك النار إذًا لم تطفأ ولم يذهب ضوءها فما يكون مضرب المثل بهذا الضياء الذي بقي هو وذهب غيره؟ .. ألا يكون هو ضوء الهداية الحقيقية التي أبى الله إلا أن يتمها ولو كره الكافرون.

ثم من يكون مضرب المثل بمستوقد النار؟ .. ألا يكون هو الهادي الأعظم صلوات الله عليه .. فقد استوقد شعلة الهداية الإسلامية، أي عالج إيقادها أمام زوابع من الفتن وأعاصير من المقاومات العنيفة، فلمَّا أوقدها وأضاءت ما حوله رغمت بها أنوف أعداء الحق، الذين أكل الجهل والحسد قلوبهم، فانطمست بصائرهم، وكانوا كلما ازدادت هي تألقًا وإشراقًا، ازدادوا هم ظلمة وانتكاسًا.

عند هذا الحد تمَّت أركان التشبيه، واستقام هذا المعنى الجديد على أنه احتمال يمكن فهم الآية عليه بحسب اللغة والعقل وبحسب معهود القرآن أيضًا في ضربه النور والضياء مثلًا للهدى والإيمان، والظلمة والعمى مثلًا للجهل والكفران، بيد أن اتفاق التفاسير التي بأيدينا على جعل مستوقد النار مثلًا للمنافقين جعلنا نتهيب تأدبًا أن نضربه مثلًا للرسول الأمين من غير شاهد يؤيد ذلك من الكتاب أو السنة .. وما برحت هذه المخالفة التي تحيك في الصدر وتبعد اطمئنان القلب إلى هذا المعنى حتى ظفرنا بشاهده الصريح الصحيح في حديث النبي عن نفسه، حيث يقول صلى الله عليه وسلم:(إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدَّواب التي تقع في النار تقع فيها، فجعل ينزعُهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحُجَزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها)، رواه الشيخان*.

نعم التمثيل به في الحديث من وجه غير الوجه الذي في الآية، ولكن هذا لا يضير، إذ المثل الواحد يضرب لمعان متعددة باعتبارات مختلفة، والذي يعنينا إنما هو وقوع التمثيل به للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو صريح في صدر الحديث كما نرى، فبذلك ازدادت النفس ركونًا إلى صحته.

وبعد فما بنا - علم الله - حب الخلاف ولا شهوة الإغراب، ولكنها أمانة العلم والنصيحة لكتاب الله تعالى حملتنا على أن نقول فيه أحسن ما نعلم، ثم شجعتنا على أن نسجل بالقلم هذا الذي قلناه بالفم، لنعرضه في الطِّرْس على أنظار القارئين، كما عرضناه في الدرس على أسماع الطالبين، لعل هؤلاء واجدون فيه من مواضع النقد والتمحيص ما لم يجده أولئك.

وهذا الباب من أبواب البحث والاستنباط الذي لا يمس أصلًا من أصول الدين ولا يحل حرامًا أو يحرم حلالًا لن يزال مفتوحًا لكل مسلم أعطاه الله فهمًا في كتابه، على شريطة القصد والأناة في سير العقل، ومع الاستضاءة في هذا السير بمصباحين من اللغة والشرع، على الحد الذي وصفنا، والمنهج الذي رسمنا، وبالله التوفيق.

* الحديث رواه البخاري: (6483)، وهو ما ذكره المؤلف، ومسلم:(2284)، ولفظه: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«مثلي كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجَزكم عن النار هلمَّ عن النار .. هلمَّ عن النار، فتغلبوني تقحَّمُون فيها» .

ص: 270

من الرسل، فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا وهناك، لكنه لم يوافق أهواء

ص: 271

المستكبرين الذين ألفوا العيش في ظلام الجاهلية، فلم يرفعوا له رأسًا، بل نكسوا على رؤوسهم ولم يفتحوا له عينًا بل خروا عليه صمًّا وعميانًا:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك ينادون من مكان بعيد} [فصلت: 44].

[المثل المضروب للمنافقين]

وضرب مثلًا للمترددين المخادعين بقوم جادتهم السماء بغيث منهمر في ليلة ذات رعود وبروق، فأمَّا الغيث فلم يلقوا له بالًا، ولم ينالوا منه نيلًا، فلا شربوا منه قطرة، ولا استنبتوا به ثمرة، ولا سقوا به زرعًا ولا ضرعًا.

وأما تلك التقلبات الجوية من الظلمات والرعد والبرق فكانت هي مثار اهتمامهم، ومناط تفكيرهم؛ ولذلك جعلوا يترصدونها: ويدبرون أمورهم على وفقها، لابسين لكل حال لبوسها: سيرًا تارة، ووقوفًا تارة، واختفاءً تارة أخرى.

ذلك مَثلُ القرآن الذي أنزله الله غيثًا تحيا به القلوب، وتنبت به ثمرات الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة؛ ثم ابتلى فيه المؤمنين بالجهاد والصبر وجعل لهم الأيام دولًا بين السِّلم والحرب، وبين الغلب والنصر، فما كان حظ بعض الناس منه إلا أن لبسوا شعاره على جلودهم دون أن يشربوا حبَّه في قلوبهم أو يتذوقوا ما فيه من غذاء الأرواح والعقول، بل أهمتهم أنفسهم وشغلتهم حظوظهم العاجلة؛ فحصروا كل تفكيرهم فيما قد يحيط به من مغانم يمشون إليها، أو مغارم يتقونها، أو مآزق تقفهم منه موقف الروية والانتظار، وهكذا ساروا في التدين به سيرًا متعرجًا متقلبًا مبنيًّا على قاعدة الربح والخسر، والسلامة الدنيوية.

ص: 272

فكانوا إذا رأوا عَرَضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا وبرقت لهم (بروق) الأمل في الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنبًا إلى جنب، وإذا دارت رحى الحرب وانقضت (صواعقها) منذرة بالموت والهزيمة أخذوا حذرهم وفروا من وجه العدو قائلين:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13]، أو رجعوا من بعض الطريق قائلين:{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167]، حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة ولم يتوقعوا من الآلام صاعقة بل اشتبهت عليهم الأمور وتلبد الجو بالغيوم، فهنالك يقفون متربصين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولكن يلزمون شِقةَ الحياد ريثما تنقشعُ سحابة الشك {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141]، {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72 - 73].

ذلك أبدًا دأب المنافقين في كل أمرهم؛ إن توقعوا ربحًا عاجلًا التمسوه في أي صف وجدوه، وإن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التي ينالهم في سبيلها شيء من المكروه، وإذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيدًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

أما الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإنَّ له قبلة واحدة يولي وجهه شطرها، هي قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم.

وليس يبالي حين يُقتل مسلمًا

على أي جنب كان في الله مصرعه

* * * * *

[خلاصة المقدمة] هنا تمت المقدمة بعد أن وصفت القرآن بما هو أهله، ووصفت متبعيه ومخالفيه كلًّا بما يستحقه.

ولا مرية أن وصف هذه الطوائف جميعها راجع في المآل إلى الثناء على القرآن؛ فإن الشيء الذي يكون متبعوه هم أهل الهدى والفلاح، ومخالفوه هم أهل الضلالة والخسر لا يكون إلا حقًّا واضحًا لا ريب فيه.

ص: 273

فما هو ذلك الحق الذي لا يتبعه إلا مهتد مفلح، ولا يعرض عنه إلا ضال خاسر؟ بل ما هو ذلك الحق الذي ضربت له الأمثال بالضياء الباهر والغيث الكثير؟

لا شك أن هذا كله تشويق أي تشويق لسماع الحقائق التي يدعو القرآن الناس إليها، فانظر على أي نحو ساق بيانها.

لقد كان ظاهر السياق يقضي بأن يقال: إن هذه الحقائق هي أن يعبدوا ربهم وحده ويؤمنوا بكتابه ونبيه (الخ) جريًا على أسلوب الغيبة الذي جرى عليه في وصف الكتاب، وفي وصف الناس، ولكنه حوَّل مجرى الحديث من الأخبار والغيبة إلى النداء والمخاطبة قائلًا:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].

أتعرف شيئًا من سر هذا التحويل؟

إنَّ ذلك الوصف الدقيق الذي وصف القرآن به الطوائف الثلاث: (متقين، وكافرين، ومخادعين) قد نقلهم عند السامع من حال إلى حال، فبعد أن كانوا غُيَّبًا في مبدأ الحديث عنهم أصبحوا الآن بعد ذلك الوصف الشافي حاضرين في خيال السامع كأنهم رأي عين، وفي مكان ينادون منه، فاستحقوا أن يوجه الحديث إليهم كما يوجه إلى الحاضرين في الحس والمشاهدة، هذا من الناحية العامة.

وأمَّا من الناحية الأخرى فإن هذه الأمثال البليغة التي ضربت في شأن المعرضين خاصَّة قد أبرزتهم أمام السامع في صورة محزنة تبعث في نفسه أقوى البواعث لنصحهم وتحذيرهم، حتى إنه لا يشفي صدره إلا أن يناديهم أو يسمع من يناديهم: أن افتحوا أعينكم أيها القوم وتعالوا إلى طريق النجاة. وهكذا استعدت النفس أتم استعداد لسماع هذا النداء، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] الآيات إلى آخر المقصد الأول.

* * *

ص: 274

‌المقصد الأول من مقاصد السورة: في خمس آيات (21 - 25)

[المقصد الأول] في هذه الآيات الخمس تسمع نداءً قويًّا موجهًا إلى العالم كله بثلاثة مطالب:

1 -

أن لا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئًا.

2 -

أن آمنوا بكتابه الذي نزله على عبده.

3 -

أن اتقوا أليم عذابه، وابتغوا جزيل ثوابه.

هذه المطالب الثلاثة هي الأركان الثلاثة للعقيدة الإسلامية، تراها قد بُسطت مرتبة على ترتيبها الطبيعي، من المبدأ، إلى الواسطة، إلى الغاية.

وترى كل واحد من الركنين الأولين قد أقيم على أساسٍ من البرهان العقلي القاطع لكل شبهة، أما الركن الثالث فقد جيء به مجردًا عن هذا النوع من البرهان، ولكنَّه نفخ فيه من روح الإلهاب وتحريك الوجدان بالتحذير والتبشير ما يسد في موضعه مسد البرهان.

على أنك إذا أنعمت النظر في هذا الركن وجدته في غنى عن برهان جديد بعد تقرُّر سابقيه، إذ هو منهما بمنزلة النتيجة المنطقية من مقدماتها.

أرأيت لو أن ملكًا عظيم السلطان نافذ الحكم وجه إليك سفيرًا يحمل رسالة منه، وأيقنت أن الذي بيد السفير هو كتاب الملك المختوم بخاتمه، أكان يعوزك برهان جديد لتحقيق ما يحويه الكتاب من عجيب الأنباء والنذر، بعد ما وقَر في نفسك من العلم بأنه كلام مَنْ إذا قال صدق، وإذا وعد أنجز؟!

فكذلك ترى الحديث هنا عن السمعيات جيء به مفرعًا على ما تقرر في أمر النبوات، وبضربٍ من التخلص هو غاية في الحسن والبراعة، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24].

* * * * *

ص: 275

‌عود على بدء: في أربع عشرة آية (26 - 39)

(1)

بدأ الكلام في السورة - كما علمت - بوصف القرآن بما فيه من الهدى إجمالًا

(1)

: فكان من الحق أن يعود إلى وصف طريقة القرآن في هذه الهداية، ليقول: إنها هداية كاملة بالبيان الوافي الشامل لكل شيء، فانظر كيف مهَّد لهذا الانتقال تمهيدًا يتصل من أول السورة إلى هذا الموضع:

أما المقدمة فقد وصف فيها الفرق الثلاث وصفًا شافيًا ضرب للناس أمثالهم، وحقق أن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم.

وأما المقصود فقد بين فيه أن لله وحده المثل الأعلى الذي لا يشاركه فيه شيء من الأنداد، ثم وضع فيه الفيصل بين النبي والمتنبي بتلك المعجزة العالمية التي لا يستطيع أحد من دون الله أن يأتي بمثلها، ثم ذكر مثل النار التي أعدت للكافرين، ومثل الجنة التي وعد المتقون.

فتراه قد تناول في هذه الأمثال ضروبًا شتى من الحقائق؛ علوية وسفلية، مادية ومعنوية .. حتى كانت نهاية الحديث أن عرض ما في الجنة من أنواع المتع واللذائذ الشخصية والجنسية، تلك المعاني التي قد يستحيي المرء من ذكرها، وقد يخالها الجاهل نابية عن سنن الخطاب الإلهي الأعظم، غافلًا عن أنه الحق الذي لا يستحيي من الحق، وأنه الرحيم الذي يتنزل برحمته إلى مستوى العقول البشرية فيبين لهم كل ما يحتاجون إلى بيانه مما يحبون أو يكرهون، ومما يرجون أو يحذرون.

وهكذا انساق الحديث من ذكر هذه النماذج المتفاوتة إلى استنباط القاعدة الكلية منها، ببيان أن هذه هي طريقة القرآن في هدايته، فهو يضرب الأمثال كلها، ويبين الحقائق؛ حلوها ومرها، واضعًا كل شيء في موضعه، مسميًا له باسمه،

(1)

سقطت من طبعة (دار القلم). (عمرو)

ص: 276

لا يبالي أن يتناول في بيانه جلائل الأمور أو محقراتها {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].

حقًّا؛ إن شأنَ هذا الكتاب في تفصيل الحقِّ والباطل والضَّار والنافع شأنُ كتاب الأعمال في تفصيل الحسنات والسيئات، كلاهما لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وكما أن وصف القرآن بالهدى إجمالًا قد جر هناك إلى ذكر انقسام الناس في قبول هدايته، وإلى النَّعي على من أعرض عنه، كذلك وصف طريقته في الهداية قد جرَّ هاهنا إلى مثل هذا التقسيم:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] وإلى النَّعي على الضالين بذكر مساوئهم وتفصيل نقائصهم {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].

وكما أنَّ بيان أوصافهم هناك قد جلاهم أمام السامع في صورة تحرك داعيته لسماع ندائهم بالنصح والتعليم، كذلك بيان أوصافهم هنا قد استفز النفوس إلى سماع مخاطبتهم بالتعجيب والإنكار .. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] الآيات.

[عودة الكلام إلى المقصد الأول]

(2)

وكذلك عادَ الكلام إلى المقصد الأول بأركانِه الثلاثة، ولكن في ثوبٍ جديد:

(أما في الركن الأول) فقد سمعته هناك يأمر بعبادة الله، وتسمعه هنا ينهى عن الكفر بالله.

وهناك ذكرهم بنعمة إيجادهم مجملة، وهنا يذكرهم بها مفصلة متممة، وهناك عرفهم بنعمة تسخير الأرض والسماء لهم، وهنا يعرفهم بذلك في شيء من التفصيل.

(وأما في الركن الثاني) فقد ذكر هناك نبوة هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وهنا يذكر نبوة ذلك النَّبي الأول آدم، لنعلم أن نبينا لم يكن بِدعًا من الرسل، وأن أمر التشريع والنبوات أمر قديم يتصل بنشأة الإنسان.

ص: 277

وقد مهَّد لهذا البيان بذكر تاريخ تلك النشأة العجيبة وما جرى في شأنها من الحديث مع الملائكة، ذلك الحديث الدال على مزيد العناية الإلهية بهذا النوع البشري، إذ اختاره الله لخلافة الأرض وآثره على سائر الخلق بفضيلة العلم، ليكون الامتنان بذلك جاريًا مع الامتنان بالنعم المذكورة في الركن الأول على أحسن نسق، ثم اتصل من هذا التفضيل إلى شرح ما نشأ عنه من حسد إبليس وعداوته القديمة للإنسان الأول ومخادعته إياه بوساوسه، وما انتهى إليه أمر الخادع والمخدوع من ابتلائهما وابتلاء ذريتهما بالتكاليف، وهو - كما ترى - حديث يطلب بعضه بعضًا، ويأخذ بعضه بأعناق بعض.

(وأما في الركن الثالث) فقد رأيته هناك يصف الجنة والنار بما لهما من وصف رائع أو مروع، وتراه هنا يكتفي عن وصفهما بذكر اسمهما وتعيين أهلهما ناظمًا وضع الأجزية مع وضع التكاليف في سلك واحد، ومتخلصًا أحسن تخلص من أحدهما إلى الآخر، بتقرير أن اتباع التكاليف أو عدم اتباعها هو مناط السعادة أو الشقاوة في العقبى.

ولقد ختم الكلام هنا - كما ختمه في المقدمة - بشأن المخالفين؛ تمهيدًا للانتقال مرة أخرى إلى نداء فريق منهم ودعوتهم إلى الإسلام وهو المقصد الثاني.

* * * * *

ص: 278

‌المقصد الثاني من مقاصد السورة: في ثلاثة وعشرين ومائة آية (40 - 162)

[المقصد الثاني] بحسبك أن تعلم أنَّ هذه السورة هي غُرَّة السور المدنية، وأن المدينة كان يسكنها أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وأكثرهم جدالًا في دينهم بما أوتوه من العلم قبلهم.

بحسبك أن تعلم هذا وذاك لتعرف سر تلك العناية الموفورة بهذا الجانب من الدعوة، نعني دعوة بني إسرائيل خاصة بعد دعوة الناس عامة، ولتعلم حكمة ذلك التبسط في الحديث معهم تارة، والحديث عنهم تارة أخرى، بألوان تختلف هجومًا، ودفاعًا، واستمالة، واستطالة، إلى ما بعد نصف السورة.

وسترى حين تنتقل في هذه الأحاديث مرحلة مرحلة ما يملك قلبك من جمال نظامها ودقة تقسيمها.

[بداية الحديثِ عن اليهود]

(بدأ) الكلام معهم بآية فذَّة (40) هي على قلة كلماتها جامعة لأغراض الحديث كله: ففيها يناديهم بأحب أسمائهم وأشرف أنسابهم ويذكرهم بسابق نعمة الله عليهم إجمالًا، ويبني على ذلك دعوتهم إلى الوفاء بعهدهم، ويرغبهم ويرهبهم.

(ثم) رجع إلى هذه الأغراض يفصلها على تدرج وبقدر معلوم فشرح العهد الذي طلب منهم الوفاء به، في ست آيات (41 - 46)، وبين مقدار النعمة التي امتنَّ بها عليهم في آية (47)، ومقدار المخافة التي خوفهم منها في آية أخرى (48).

(ثم) قسم الحديث إلى أربعة أقسام:

(القسم الأول) يذكر فيه سالفةَ اليهود منذ بعث فيهم موسى عليه السلام.

ص: 279

(القسم الثاني) يذكر فيه أحوالُ المعاصرين منهم للبعثة المحمدية.

(القسم الثالث) يذكر فيه أوَّلية المسلمين منذ إبراهيم عليه السلام.

(القسم الرابع) يذكر فيه حاضر المسلمين في وقت البعثة.

‌1 - ذكر سالفة اليهود (49 - 74):

[ذكر تاريخ اليهود]

استهلَّ الخطاب في هذا القسم بثماني آيات يعرف فيها بني إسرائيل بتفاصيل المنن التي امتن بها عليهم مرة بعد مرة، وهي تلك النعم التاريخية القديمة التي اتصل أثرها وسرى نفعها من الأصول إلى الفروع، فجعل يذكِّرهم بأيام الله فيهم؛ يوم أنجاهم من آل فرعون، ويوم أنجاهم من اليم وأغرق أعداءهم فيه، ويوم واعدهم بإنزال الكتاب عليهم، ويوم حقق وعده بإنزاله، ويوم قبل توبتهم عن الردة والشرك بالله، ويوم قبل توبتهم عن التمرد على نبيهم واقتراح العظائم عليه، وإنها لنعم جليلة (سابقة للذنب ولاحقة) تلين بذكراها القلوب، وتحرك الهمم لشكر المنعم وامتثال أمره.

وقبل أن ينتقل من تذكيرهم بتلك النعم الجليلة المطمعة للشاكرين في المزيد، إلى تذكيرهم بجرائمهم وما حاق بهم من ضروب النكال الموجبة للامتثال والاعتبار جعل بين الحديثين برزخًا مزج فيه ذكر بعض النِّعم بذكر ما قابلوها به، بعد أن أعد النفس للسير على هذا البرزخ بالتفاتة يسيرة، فيها رمز الإعراض وعدم الرضا، فبين أنَّه تعالى متَّعهم فوق هذا كله متاعًا حسنًا؛ إذ ظلل عليهم الغمام، ورزقهم من الطعام والشراب رزقًا هنيئًا من حيث لا يحتسبون، ومن حيث لا كَدَّ ولا نصب، فظلموا أنفسهم وبطروا تلك النعمة وحرفوا كلمة الشكر بتبديلها هزوًا ولعبًا، واقترحوا بدل ذلك الرزق الناعم عيشة الكدح والعناء، فألزمهم الله ما التزموا، وضرب عليهم الذلة والمسكنة.

[مخالفات اليهود، وعقوباتهم]

وهنا محض الحديث لذكر المخالفات والعقوبات، فذكر أنَّهم باءوا بغضب من الله؛ لأنهم كفروا بآيات الله وقتلوا النبيين، (غير أنَّه استثنى المؤمنين منهم من هذا الغضب) وتمردوا على أوامر التوراة جملة حتى أُرغموا عليها، ثم تولوا عنها بعد ذلك حتى صاروا جديرين بأن ينزل بهم ما نزل بأهل السبت لولا

ص: 280

فضل الله عليهم؛ وأنهم تباطأوا في تنفيذ أمر نبيهم، وبلغ بهم الجهل بمقام نبوته أن ظنوا في بعض تبليغه عن ربه أنه هازل فيه غير جاد ..

حلقة الاتصال بين القسمين الأول والثاني (74):

وأراد القرآن أن يصل حاضرهم بماضيهم فانظر كيف وضع بينهما حلقة الاتصال في هذه الآية التي ختم بها القسم الأول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] فقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74] كلمة حددت مبدأ تاريخ القسوة ولم تحدد نهايته، كأنها بذلك وضعت عليه طابع الاستمرار وتركته يتخطى العصور والأجيال في خيال السامع، حتى يظن أن الحديث قد أشرف به على العصر الحاضر، ثم لم يلبث هذا الظن أن ازداد قوة، بصيغة الجملة الاسمية في قوله:{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة: 74] دون أن يقول: فكانت كالحجارة.

ثم انظر كيف كان انتهاؤه إلى وصف قلوبهم بهذا الوصف توطئةً لتغيير الأسلوب فيهم، فإن من يبلغ قلبه هذا الحد من القسوة التي لا لين فيها يصبح استمرار الخطاب معه نابيًا عن الحكمة، ويصير جديرًا بصرف الخطاب عنه إلى غيره ممن له قلب سليم، وهكذا سينتقل الكلام من الحديث معهم في شأن سلفهم إلى الحديث معنا في شأنهم أنفسهم.

‌2 - ذكر اليهود المعاصرين للبعثة (75 - 121):

افتتح الكلام في هذا القسم بجملة طريفة ليست على سنن ما قبلها وما بعدها من السرد الإخباري، جملة استفهامية يكتنفها حرفان عجيبان:(أحدهما) يعيد إلى الذاكرة كل ما مضى من وقائع القسم الأول، (والآخر) يفتح الباب لكل ما يأتي من حوادث هذا القسم، وتقع هي بين التاريخين القديم والحديث موقع العبرة المستنبطة والنتيجة المقرَّرة، بين أسباب مضت وأسباب تأتي:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75]؟!

فهذه الفاء تقول لنا: أبعدَ كل ما قصصناه يطمع طامع في إيمان هؤلاء القوم وهم الوارثون لذلك التاريخ الملوث؟ وهذه الواو تقول هذا {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63].

ص: 281

ويعود السرد الإخباري إلى مجراه التفصيلي، فيقص علينا من مساوئ أوصاف الحاضرين منهم ومنكرات أفاعيلهم وأقاويلِهم زهاء عشرين سببًا لا تُبقي مطمعًا لطامع في إيمانهم، سواء منها ما كان مختصًّا بهم، وما كان يشاركهم فيه غيرهم من أسلافهم، أو من النصارى أو الوثنيين.

ثم لا يدع زعمًا من مزاعمهم إلا قفى

(1)

عليه بما يليق به من الرد والتفنيد.

(وقد بدأ هذا الوصف) بتقسيمهم إلى فريقين: علماء يحرفون كلام الله ويتواصون بكتمان ما عندهم من العلم لئلا يكون حجة عليهم. وجهلاء أميين هم أسارى الأماني والأوهام، وضحايا التضليل والتلبيس الذي يأتيه علماؤهم، فمن ذا الذي يطمع في صلاح أمة جاهلها مضلل مخدوع يأخذ باسم الدين ما ليس بدين، وعالمها مضلل خادع يكتب الكتاب بيده ويقول هذا من عند الله.

(وثَنَّى) ببيان منشأ اجترائهم على كل موبقة، ألا وهو غرورهم بزعمهم أن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودة. ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوسع هذا الزعم دحضًا وإبطالًا، وأن يتدرج معهم في هذه المجادلة على درجات المنطق السليم والبحث المستقيم فيبدأ بمطالبتهم البرهان على ما زعموا. ثم ينقضه ببيان مخالفته لقانون العدل الإلهي الذي لا يعرف شيئًا من الظلم ولا المحاباة لأحد، بل الخلق أمامه سواء: كل امرئ رهين بعمله، ومن يعمل سوءًا أو حسنًا يجزَ به. ثم يعارضه بقلب القضية عليهم مبينًا لهم أنهم من أولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم: ألم يؤخذ عليكم الميثاق بتقوى الله والإحسان إلى الناس فتوليتم؟ ألم يؤخذ عليكم الميثاق بترك الإثم والعدوان فاعتديتم؟ ثم آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض، وحكمتم أهواءكم في الشرائع فكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم.

[من جرائم اليهود]

(ثم أتبع ذلك سائر هناتهم) فذكر:

1 -

تصامهم عن سماع الحق بدعوى أن قلوبهم مقفلة.

ص: 282

2 -

كفرهم بالكتاب الجديد لأنه أنزل على غيرهم، بعد أن كانت أعناقهم مشرئبة إليه ينتظرون ظهوره على يد نبي ينصرهم على المشركين.

3 -

دعواهم القيام بواجبهم وهو الإيمان بما أنزل عليهم وكفى، مع أنهم كافرون حتى بما أنزل عليهم، وتلك شنشنتهم منذ عبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم.

4 -

زعمهم أن لهم الدار الآخرة خالصة، ثم مناقضتهم أنفسهم في ذلك بكراهتهم الموت وشدة حرصهم على الحياة.

5 -

عداوتهم لجبريل؛ لأنَّه أنزل الكتاب على غيرهم، مع أنه إنما أنزل بعلم الله.

6 -

تكرر نبذهم للعهود.

7 -

اشتغالهم بكتب السحر وترك كتب الله وراء ظهورهم.

8 -

ليهم ألسنتهم في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بكلمة

(1)

تنطوي على الاستهزاء به والطعن في دينه وإن كان ظاهرها التعظيم له، أو يراد منها إحراجه بكثرة الأسئلة والمقترحات كما سئل موسى من قبل (وقد سيق هذا في قالب تحذير المؤمنين من أن يقولوا تلك الكلمة).

9 -

حقدهم وأثرتهم هم وسائر المخالفين من أهل الكتاب والمشركين وكراهيتهم أن ينزل الوحي على غيرهم، مع أن لله أن يختص بنبوته من يشاء، وله أن ينسخ شريعة ويأتي بشريعة أخرى مثلها أو خير منها.

(1)

هي قول (راعنا) وهي كلمة ظاهرها الأدب، ولكنها في العربية لها معان أخرى حمقاء، وفي العبرانية كلمة شتم قريبة منها؛ فإن لفظ (رع) عند اليهود معناه شقي شرير، ولفظ (راع) معناه الشر والشقاوة فإذا أضيف إلى ضمير المتكلمين صار بلسانهم (راعينو) ومعناه في الخطاب أنت ضرنا وشقوتنا .. ولعلهم والله أعلم كانوا يلوون ألسنتهم في النطق بها ليقربوها من الصيغة العربية سترًا لنيتهم واكتفاءً بالرمز المفهوم فيما بينهم. فأمر الله المؤمنين أن يخاطبوا الرسول صلى الله عليه وسلم بقول (انظرنا) حتى لا يجد المنافقون سبيلًا إلى التلاعب بلفظ ذي وجهين، أو أيضًا فإن (راعنا) كلمة يقولها السائل المستقصي يطلب بها إصغاء المسؤول إليه حتى يفرغ هو من أسئلته، وتلك عادة اليهود عند إكثارهم من السؤال، فأمر الله المؤمنين أن يحافظوا على حسن الاستماع حتى لا يحتاجوا إلى السؤال، وأن يقولوا (انظرنا) وهي كلمة يقولها المتعلم إذا أراد التثبت مما يقال له لا الزيادة عليه.

ص: 283

10 -

رغبة كثير منهم في أن يردُّوا المؤمنين كفارًا.

11 -

زعم كلٌّ من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة غيرهم. أماني يتمنونها بغير برهان.

12 -

طعن كلتا الطائفتين في أختها بقول اليهود: ليست النصارى على شيء، وقول النصارى: ليست اليهود على شيء، وطعن المشركين في كلتيهما.

13 -

اشتراك الطوائف الثلاث في السعي لإخلاء المساجد من ذكر الله.

14 -

اشتراكهم في الجهل بالله ونسبتهم الولد إليه.

15 -

اشتراكهم في التوقف عن الإيمان بالرسل عليهم السلام حتى يكلمهم الله بغير واسطة أو ينزل عليهم آية ملجئة.

(ثم ختم هذه الهنات) بأدعاها إلى اليأس من إيمانهم، وهو أنهم يطمعون في تحويل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه إلى اتباع أهوائهم، فكيف يطمع هو في استتباعهم إلى هداه؟ كلَّا ولكن حسبه أن الراسخين في العلم منهم وهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته يؤمنون بهذا الهدى الذي جاء به والكافرون هم الخاسرون.

‌3 - ذكر قدامى المسلمين من لدن إبراهيم (122 - 134):

شأن المصلح الحكيم في دعوته شأن الزارع، يبدأ بالأرض فيقتلع أشواكها وينقيها من حشائشها الضارة قبل أن يلقي فيها البذور الصالحة أو يغرس فيها الأشجار النافعة، وكذلك الداعي الحكيم يبدأ بالنفوس فيلويها عن الباطل والفساد ثم يوجهها إلى طريق الحق والهدى.

فهذان دوران يقوم في أحدهما بالتطهير والتخلية، وفي الثاني بالتكميل والتحلية، وأنت قد رأيت الكلام في دعوة بني إسرائيل قد مضى إلى هذا الحد في بيان عوج الطريق الذي يسلكونه، ورأيته قد أوسع البيان في ذلك حتى أتى على نهاية الدور الأول: أليس من الحقِّ إذًا أن يبدأ الدور الثاني فيبين الطريق السوي الذي يجب أن يسلكوه؟

ثم رأيت كيف اختتم البيان السابق بذكر هدى الله والعلم الذي علمه لنبيه وذكر الفريق الذي يرجى إيمانهم به من أهل الكتاب، وهم الذي يتلون الكتاب

ص: 284

حق تلاوته، أليس هذا الاختتام نفسه مطلعًا تشرف النفس منه على هذا الافتتاح؟

ثم رأيت الحديث في الدور الأول منقسمًا إلى قسمين: قسم يتحدث فيه عن ماضي اليهود، وقسم يتحدث فيه عن حاضرهم. ألا يكون من حسن التقابل أن يقسم الحديث الثاني إلى القسمين. عن ماضي المسلمين وعن حاضرهم؟

ذلك هو ما تراه فيما يلي:

بل سترى ما هو أتم مقابلة ومشاكلة، فسيجري الكلام في القسم الأول هنا على سنن الخطاب مع بني إسرائيل، والكلام في القسم الثاني على سنن التحدث عنهم، كما جرى هنالك في القسمين سواء.

وأكبر من هذا كله أنك ترى الآيتين الكريمتين اللتين صدر بهما أول الحديث هناك قد صدر بهما أول الحديث هنا؛ ليدعوهم إلى اعتناق الحق بمثل ما دعاهم به إلى اجتناب الباطل، وليتقرر في نفس السامع من أول الأمر أن الحديث سيعود كما بدأ، ولكن في طريق يقابل ذلك الطريق، وبمعنى جديد هو عدل لذلك المعنى القديم {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) ? وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 122 - 124].

وهكذا أنشأ يدعو بني إسرائيل إلى طريق السلف الصالح، لا بأسلوب الأمر والتحريض الذي جرب من قبل فلم ينجع فيهم، بل بأسلوب قصصي جذاب يعرض فيه ذلك التاريخ المجيد لإبراهيم عليه السلام وأبنائه وأحفاده في العصور الذهبية التي لا يختلف أحد من أهل الكتاب ولا المشركين في تعظيمها ومحبتها ومحبة الانتساب إليها، مكررًا على لسانهم جميعًا تلك الكلمة العذبة التي تركها إبراهيم باقية في عقبه، فتوارثها أبناؤه وأحفاده يوصي كل منهم بها بنيه، كلمة (الإسلام لله رب العالمين).

وتراه في أثناء عرضه لتاريخ إبراهيم عليه السلام وإمامته للناس لا ينسى أن يحكي كلماته التي دعا بها ربه أن يجعل من ذريته إمامًا للناس كما جعله هو.

ص: 285

ثم تراه حين يروي قيام إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء البيت المعظم الذي جعله الله حرمًا آمنًا ومثابة للناس وقبلة لصلاتهم، لا ينسى أن يحكي تضرعهما إلى الله أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة وأن يبعث فيهم رسولًا منهم يعلمهم ويزكيهم.

ممهدًا بهذا وذاك لتقرير تلك الصلة التاريخية المتينة التي تربط هذا النبي وأمته بذينك النبيين الجليلين؛ لا صلة النبوة النسبية فحسب، بل صلة المبدأ ورابطة الوحدة الدينية أيضًا، فهم من ذريتهما، ووجودهم تحقيق لقبول دعوتهما، وملتهم ملتهما؛ وقبلتهم قبلتهما، ومثابتهم في حجهم مثابتهما.

ومقررًا في الوقت نفسه انقطاع مثل هذه النسبة المشرفة عن اليهود الذين ينتسبون بالبنوة لإبراهيم ويعقوب، وهم عن ملتهما منحرفون ولوصيتهما مخالفون. فماذا يغني النسب عن الأدب؟ ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141].

‌4 - ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة (135 - 162):

واتصل ذكر الخلف بذكر السلف، وخرج الكلام من التلويح إلى التصريح، فأقبل يقرر -في جلاء- صلة هذه الأمة المسلمة بتلك الأمة الصالحة في أصول ملتها، وفي أهم فروعها، ويقص علينا ما يحاوله سفهاء الأحلام من بني إسرائيل وغيرهم لحرمان المسلمين من تلك الصلة، وذلك بدعوتهم المسلمين إلى اتباع ملتهم تارة، وبالطعن في قبلتهم تارة أخرى، ويكر على كلتا المحاولتين بالهدم والاستئصال.

وقد رأيت الحديث الآنف كيف امتزج فيه ذكر ملة إبراهيم بذكر قبلته فانظر كيف كان ذلك تأسيسًا قويًّا لما يبنى عليه هنا من ذكر ملة المسلمين وذكر قبلتهم.

قال في شأن الملة إن أهل الكتاب يدعونكم - بعد هذا البيان - أن تكونوا هودًا أو نصارى، فقولوا لهم: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفًا، وعرفوهم جلية الأمر في هذه الملة الحنيفية، وأنها إيمان بالله وإيمان بكل ما أنزل على النبيين لا نفرق بين أحد منهم، هذه عقيدتنا بيضاء ناصعة، فأي ركنيها تنقمون منا؟ وفي أيها

ص: 286

تخاصموننا؟ أفي الله وهو ربنا وربكم، أم في إبراهيم وبنيه، وهم ما كانوا هودًا أو نصارى {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141].

وكان هذا الترديد وحده كافيًا لإفحامهم وإغلاق الباب في وجوههم من هذه الناحية؛ إذ تبين أن أصول هذه الملة أمنع من أن نقبل الجدال في شيء منها.

فانتقل عنها وشيكًا إلى إبطال محاولتهم الأخرى في مسألة (الكعبة المعظمة) التي عليها يدور العمل بشعيرتين، هما أعظم شعائر الإسلام وأظهرها (الصلاة والحج)، والتي قد تقرر ما لها من الأصل الأصيل في الدين باتخاذ إبراهيم وإسماعيل إياها مثابة ومصلى.

ولكن هذا لم يكن كافيًا لإسكات المجادلين الذين اتخذوا من تحول المسلمين إليها وتركهم القبلة التي كانوا عليها مطعنًا على النبوة فتنوا به بعض ضعفاء المؤمنين، فمست الحاجة إلى مزيد بسط في شأنها تتقرر به الحجة وتدحض به الشبهة، ولذلك تراه يوجه إليها أكبر الشطرين من عنايته:

فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بادئ ذي بدء أن يجيب المتسائلين عن حكمة هذا التحويل جواب عزة وإباء، يرد الأمر فيه إلى من لا يسأل عما يفعل، قائلًا لهم: إن الجهات كلها سواء، يوجهنا الله منها إلى ما يشاء، وهو الذي يهدي إلى الصراط المستقيم.

ثم أخذ يأمر النبي صلى الله عليه وسلم تارة، والمؤمنين تارة، ويأمرهما معًا تارة أخرى، في أسلوب مؤكد مفصل أن يثبتوا على هذه القبلة حيث هم، وفي كل مكان يقيمون فيه حضرًا، وفي كل مكان يخرجون منه سفرًا.

وطفق ينثر في تضاعيف هذه الأوامر المؤكدة ما شاء من تعريف بأسرار التشريع القديم والجديد، فيقول: إن تشريع تلك القبلة الوقتية ما كان إلا اختبارًا لإيمان المهاجرين؛ ليتبين من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينقلب على عقبيه، وأما تشريع هذه القبلة الباقية فإنه ينطوي على الحكم البالغة والمقاصد الجليلة، فهي

ص: 287

القبلة الوسطى التي تليق بكم أيتها الأمة الوسطى، وهي القبلة التي ترضاها يا أيها النبي والتي طالما قلبت وجهك في السماء مستشرفًا إلى الوحي بها، وهي القبلة التي يعلم أهل الكتاب أنها الحق من ربهم، وإن كان يكتمون ذلك حسدًا وعنادًا، وهي القبلة التي يشهد الله بأنها الحق من عنده، وأخيرًا هي القبلة التي لا يبقى لأحد من المنصفين حجة عليكم. أما الظالمون فلن ينقطع جدالهم في شأنها ما بقيت عداوتهم لكم، ولكن لا تخشوهم، بل وطنوا أنفسكم على التضحية في سبيل الله، واصبروا ولا تحزنوا على من سيقتل منكم في هذه السبيل؛ فإن الموت فيها هو الحياة الباقية.

ثم أومأ إلى أن الجدال في هذه القبلة ليس صدًّا عن الشعائر التي في داخل المسجد الحرام فحسب، بل هو كذلك صد عما حوله من الشعائر:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله} [البقرة: 158].

ثم أكد أمر هاتين الشعيرتين على نحو ما أكد أمر القبلة بالتعريض بأهل الكتاب الذين يعلمون أصلهما في تاريخ إبراهيم، ولكنهم يكتمون ما أنزله الله من البينات وهم يعلمون.

أرأيت هذه المراحل الأربع التي سلكها القرآن في دعوة بني إسرائيل كيف رتبها مرحلة مرحلة، وكيف سار في كل مرحلة منها خطوة خطوة.

فارجع البصر كرة أخرى إلى هذه المرحلة الأخيرة منها، لتنظر كيف استخدم موقعها هذا لتحقيق غرضين مختلفين، وجعلها حلقة اتصال بين مقصدين مُتنائِيين، فهي في جملتها مناجاة من الله للنبي والمؤمنين في خاصَّة شأنهم وفيما يعنيهم من أمر دينهم، ولكنه جعل لهذه النجوى طرفين، لوَّن كل طرف منها بلون المقصد الذي يتصل به، فالتقى المقصدان فيها على أمر قد قدر.

ألم تر كيف بدأها بأن قص على المؤمنين مقالة أعدائهم في بعض حقائق الإسلام، وعمد إلى هذه الحقائق التي تماروا فيها، فجعل يمسح غبار الشبهة عن وجهها حتى جلاها بيضاء للناظرين، فكانت هذه البداية كما ترى نهاية لتلك المعارك الطويلة التي حورب فيها الباطل في كل ميدان.

ص: 288

ثم رأيت كيف ساق الحديث فجعل يثبت أقدام المؤمنين على تلك الحقائق النظرية والعملية، ويحرضهم على الاستمساك بها في غير ما آية

أفلا تكون هذه النهاية بداية لمقصد جديد بعدها يراد به هداية المؤمنين إلى تعاليم الإسلام مفصلة.

بلى .. إن ذلك هو ما توحي به سياقة هذه النجوى المتواصلة، التي مدت في خطاب المؤمنين مدًّا، وحولت مجرى الحديث معهم رويدًا رويدًا، حتى صار كل من ألقى سمعه إليها مليًّا، يسمع في طيها نداءً خفيًّا: أن قد فرغنا اليوم من الأعداء جهادًا، وأقبلنا على الأولياء تعليمًا وإرشادًا، وأن قد طوينا كتاب الفجار، وجئنا نفتتح كتاب الأبرار، وأن هذه الصفحة الأخيرة من دعوة بني إسرائيل لم تك إلا طليعة من كتائب الحق، تنبئ أن سيتلوها جيشه الجرار، أو شعاعة من فجر الهدى سيتحول الزمان بها من سواد الليل إلى بياض النهار، ألا ترى الميدان قد أصبح خاليًا من تلك الأشباح الإسرائيلية التي كانت تتراءى لك في ظلام الباطل تهاجمها وتهاجمك. هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟

أو لا ترى هذه الأشعة الأولى من شمس الشريعة الإسلامية قد انبعثت يسوق بعضها بعضًا.

أصولٌ جامعة نظرية، تتبعها طائفة من فروعها الكبرى العملية

ألم يأنِ لسائر الفروع أن تجيء من خلفها حتى تبلغ الشمس ضحاها.

هكذا تفتحت الآذان لسماع شرائع الإسلام مفصلة، فلو أنها أقبلت علينا الآن عدًّا وسردًا ما حسبنا الحديث عنها حديثًا مقتضبًا.

لكن القرآن، وقد وضع على أدق الموازين البيانية وأرفقها بحاجات النفوس، لم يشأ أن يهجم على المقصود مكتفيًا بهذا التمهيد بل أراد أن يقدم بين يديه شقة تستجم النفس فيها من ذلك السفر البعيد .. وتأخذ أهبتها لرحلة أخرى إلى ذلك المقصد الجديد .. فانظر فيما يلي:

ص: 289

المدخل إلى المقصد الثالث: في خمس عشرة آية (163 - 177):

نيف وعشر من الآيات الكريمة، هي بمثابة الدهليز بين الباب والدار يقطعها السائر في خطوات ثلاث:(الخطوة الأولى) تقرير وحدة الخالق المعبود. (الخطوة الثانية) تقرير وحدة الآمر المطاع. (الخطوة الثالثة) فهرس إجمالي للأوامر والطاعات المطلوبة.

(الخطوة الأولى) تقرير وحدة الخالق المعبود:

[تقرير وحدة الخالق المعبود]

لقد جاءت هذه الخطوة في أشد أوقات الحاجة إليها بين سابقها ولاحقها، فإن ما مضى من تعظيم أمر الكعبة والمقام والصفا المروة كان من شأنه أن يلقي في روع الحديث العهد بالإسلام معنى من معاني الوثنية الأولى في تعظيم الأحجار والمواد، ولا سيما وهذه الأماكن المقدسة كانت يومئذ مباءة للأصنام والأنصاب من حولها ومن فوقها؛ فوجب ألا يترك هذا التعظيم دون تحديد وتقييد، وألا نترك هذه الخلجات النفسية دون دفع وإبعاد، حتى لا يبقى شك في أن قيام المصلين عند مقام إبراهيم وتوجيه وجوههم نحو الكعبة، وتمسح الطائفين بأركانها، وطواف الحجاج والمعتمرين بين الصفا والمروة، كل أولئك لا يقصد به الإسلام توجيه القلوب إلى هذه الأحجار والآثار؛ تزلفًا بعبادتها أو رجاء لرحمتها أو طلبًا لشفاعتها، وإنما يقصد تعظيم الإله الحق وامتثال أمره بعبادته في مواطن رحمته ومظان بركته التي تنزلت فيها على عباده الصالحين من قبل، ثم تجديد ذكرى أولئك الصالحين في النفوس، وتمكين محبتهم في القلوب، باقتفاء آثارهم، والتأسي بحركاتهم وسكناتهم، حتى يتصل حاضر الأمة بماضيها، وحتى تنتظم منها أمة واحدة تدور حول محور واحد، وتتجه إلى مقصد واحد هو أعلى المقاصد وأسماها {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 163] أتدرون من هو

؟ إنه ليس الكعبة وليس الصفا والمروة، ليس إبراهيم ولا مقام إبراهيم، ولكنه {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] الذي وسع كل شيء رحمة ونعمة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

{لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] والذي بيده القوة

ص: 290

كلها والبأس كله: لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].

هذا من جانب المقصد الذي وقع الفراغ منه.

وأما من جانب المقصد الذي أقبلنا عليه فإن هذه الخطوة كانت أساسًا وتقدمة لا بد منها قبل الشروع في تفصيل الأحكام العملية، لتكون توجيهًا للأنظار إلى الناحية التي ينبغي أن يتلقى منها الخطاب في شأن تلك الأحكام. ذلك أن المرء إذا عرف له سيدًا واحدًا وأسلم وجهه إليه وجب ألا يصدر إلا عن أمره ولا يأخذ التشريع إلا من يده. ومن كانت له أرباب متفرقون، وتنازعت فيه شركاء متشاكسون تقاضاه كل واحد منهم نصيبه من طاعته، وكثرت عليه مصادر الأمر المطاع. فأمر للآباء والعشيرة، وأمر للعرف والعوائد الموروثة والمستحدثة، وأمر للسادة والكبراء، وأمر للشياطين والأهواء .. ولذلك عززها بالخطوة الثانية.

(الخطوة الثانية) تقرير وحدة الآمر المطاع:

[تقرير وحدة الآمر المطاع]

وهي ركن عقيدة التوحيد في الإسلام، فكما أن من أصل التوحيد ألا تتخذ في عبادتك إلهًا من دون الرحمن الذي بيده الخلق والرزق والضر والنفع، كذلك من أصل التوحيد ألا تجعل لغيره حكمًا في سائر تصرفاتك، بل تعتقد أن لا حكم إلا له، وأن بيده وحده الأمر والنهي والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ومن استحل حرامه أو حرم حلاله فقد كفر. وكما أنه لا يليق أن يكون هو الخالق ويعبد غيره، والرازق ويشكر غيره، لا يليق أن يكون هو الحاكم ويطاع غيره.

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].

ولقد سلك في تقرير هذه الوحدة التشريعية نحوًا من مسلكه في تقرير وحدة الإلهية.

[طريقة القرآن في تقرير الوحدة التشريعيَّة]

(فبدأها) بأن تعرف إلى الناس بنعمة الله الشاملة ورحمته الكاملة في سهولة الشريعة وملاءمتها للفطرة، إذ إنه في سعة الاختيار لم يحرم عليهم من الطعام إلا

ص: 291

[الوحدة الشرعية]

أربعة أشياء كلها رجس خبيث، وأحل لهم ما وراء ذلك أن ينتفعوا بسائر ما في الأرض من الحلال الطيب، وفي ضيق الاضطرار جعل المحظورات كلها تنقلب مباحات مرفوعًا عنها الحرج {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]، وناهيك بهذا الأسلوب تليينًا للقلوب وحملًا لها على الخضوع لأمر هذا الرب الرؤوف بعباده. أفمن يحل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث أحق أن يطاع، أم من {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].

(ثم ختمها) بتعريفهم مبلغ غضبه وانتقامه ممن يكتم أمره ونهيه ويبدلهما بغير ما أمر ونهى ويأخذ على ذلك الرشا والسحت {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174].

والناظر في منهج هذا التقرير إذا تأمل في وجه اختيار حديث المطاعم والمكاسب من بين ضروب الحلال والحرام يرى من لطائف موقعه هنا ما يعرف به أنه هو العروة الوثقى التي شد بها وثاق البيان، وسدت بها الفروج بين خطواته السابقة واللاحقة.

فهو من الوجهة العملية أحد تلك الفروع التي سينتقل إليها الحديث عما قريب، فذكره ها هنا يعد إشعارًا بقرب الشروع في المقصد الجديد، ثم هو من الجهة الاعتقادية يتصل اتصالًا تاريخيًّا وثيقًا بعقيدة التوحيد التي هو بصددها، ذلك أن أهل الجاهلية من وثنيين وكتابيين لما اتبعوا خطوات الشيطان فأزلهم عن توحيد المعبود حتى اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله لم يطل عليهم الأمد حتى فتح لهم باب التشريك في التشريع بعد التشريك في العبادة. فجعلوا يحرمون من الحرث والأنعام حلالها، ويحلون حرامها، بل جعلوا عند ذبح أنعامهم يهلون بها لغير الله - يهتفون بأسماء آلهتهم - ويستحلون طعمتها بذلك، فجمعوا فيها بين مفاسد ثلاث: المعصية، والبدعة، والشرك الأكبر.

ص: 292

(و) كأن باب التحريم والتحليل في المطاعم والمكاسب كان هو أول باب فتح في الجاهلية للتشريع بغير إذن الله، ولذلك كان هو أول باب سده القرآن بعد الشرك الأكبر. فترى النهي عنه والنص عليه وبيان الحق فيه تاليًا لذكر العقائد حتى في السور المكية كسورة الأنعام

(1)

، والأعراف، ويونس، والنحل، وغيرها.

ومما زاد موقعه هنا حسنًا أن مجيئه في سياق ذكر التوحيد وقع عدلًا لمجيء حكم القبلة في سياق ذكر ملة إبراهيم، فكلاهما فرع عظيم يتصل بأصل عظيم. ألا ترى كيف ختم الكلام في شأنه بمثل ما ختم به هناك من وعيد المعاندين {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 174]؟ أو لا ترى كيف أن الإسلام جعل مسألتي القبلة والذبائح كليهما من الشعائر التي يتميز بها المسلم من غيره. كما يتميز بالشهادة والصلاة: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله»

(2)

.

على أن بدعة التحريم بالرأي في هذا الباب لم تقتصر على الفئة الخارجة عن الملة، بل إن بعض المسلمين في عصر النبوة كادت تصيبهم عدوى الأمم قبلهم، إذ هموا أن يترهبوا، ويحرموا على أنفسهم الطيبات من الطعام وغيره، لا تحريمًا لما أحل الله منها، بل زهادة فيها وحملًا للنفس على الصبر عنها بضرب من النذر أو اليمين أو العزيمة المصممة، فردَّ عليهم القرآن هذا الابتداع وأغلق بابه إغلاقًا، حتى لا يكون مدرجة لما وراءه، ونبههم إلى أن من قضية توحيدهم لله أن ينزلوا على حكمه فيما أحل لهم؛ قيامًا فيه بشريعة الشكر، كما

(1)

اقرأ في سورة الأنعام سبعًا وعشرين آية أولها قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الآيات [136 - 153]، وفي سورة الأعراف قوله:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الآيتين: 31، 32]، وقوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الآية: 169] وفي سورة يونس قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [الآيتين 59، 60] وفي سورة النحل قوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [الآية: 95]، وقوله:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [الآيتين: 115، 116].

(2)

عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» ، رواه البخاري:(391).

ص: 293

نزلوا على حكمه فيما حرم عليهم قيامًا فيه بشريعة الصبر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].

فانظر كيف كان خطاب الناس عامة بهذا الأصل ولواحقه توطئة لخطاب المؤمنين خاصة به وبما سيتلوه من الأحكام، كما أن خطاب الناس عامة بأركان الإسلام في صدر السورة كان توطئة لما تلاه من خطاب بني إسرائيل خاصة بدعوتهم إلى الدخول فيه قلبًا وقالبًا، هل ترى أحسن من هذا النسق المتقابل المتعادل؟

والآن؛ وقد أخذت النفس أهبتها لتلقي سائر الأوامر والنواهي انظر كيف خطا إليها الخطوة الثالثة والأخيرة.

(الخطوة الأخيرة) إجمال الشرائع الدينية:

[إجمال الشرائع الدينية]

وترى فيها عجائب من صنعة النسق:

1 -

انظر إلى حسن التخلص في ربطه بين المقصد القديم، والمقصد الجديد على وجه؛ به يتصلان لفظًا، وبه ينفصلان حكمًا .. فهو في جمعها لفظًا كأنه يضع إحدى قدميك عند آخر الماضي، وثانيتهما عند أول المستقبل. ولكنه في تفريقها حكمًا بأداتي النفي والاستدراك كأنما يحول قدميك جميعًا إلى الأمام:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ} [البقرة: 177].

يقول: إن مسألة تعيين الأماكن والجهات في مظاهر العبادات - تلك المسألة التي شغلت بال المخالفين والمؤالفين نقدًا وردًّا - ليست هي كل ما يطلب الاشتغال به من أمر البر، بل هي شعبة واحدة من جملة الشعب التي تشتمل عليها خصلة واحدة من جملة خصاله، وإنما البر كلمة جامعة لخصال الخير كلها؛ نظرية وعملية، في معاملة المخلوق، وعبادة الخالق، وتزكية الأخلاق، فبتلك الخصال جميعها فلينشغل المؤمنون الصادقون.

2 -

ثم انظر إليه حين أقدم على تفصيل تلك الخصال كيف أنه لم يقبل عليها دفعة واحدة، بل أخذ يتدرج إليها في رفق ولين، فتقدم بكلمة فوق الإجمال ودون التفصيل هي بمثابة فهرس لقواعد الإيمان ولشرائع الإسلام {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177].

ص: 294

3 -

وانظر إلى سرد قواعد الإيمان هنا كيف عدل بها عن ترتيبها المطبوع الذي راعاه في صدر السورة غير مرة، فتراه هنا يجمع بين الطرفين (الإيمان بالله واليوم الآخر) وختم بالواسطة (الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين)؛ ذلك لأنَّ من هذه الوسائط تعرف الأحكام الشرعية، وعن يدها تؤخذ، فأخرها لتتصل بها تلك الأحكام؛ حتى لا يحول بين الأصل وفرعه حائل؛ ولذلك راعى ترتيب أركان هذه الواسطة فيما بينها. فصدر بالملائكة وهم حملة الوحي، وثنى بالكتاب وهو الوحي المحمول، وثلث بالنبيين وهم مهبط الوحي. ومن هنا اتصل ببيان تلك الشرائع التي وصلت إلينا عن طريق النبوة.

* * * * *

ص: 295

‌المقصد الثالث من مقاصد السورة: في ست ومائة آية (178 - 283)

[بسط شرائع الإسلام]

بعد إرساء الأساس، تكون إقامة البنيان؛ وبعد الاطمئنان على سلامة الخارج، يجيء دور البناء والإنشاء في الداخل ..

نعم، لقد تم (إصلاح العقيدة) التي هي روح الدين وجوهره؛ فليبدأ (تفصيل الشريعة) التي هي مظهر الدين وهيكله .. لقد أزيلت شبهة المعاندين، وأقيمت الحجة عليهم فلم يبق إلا إنارة السبيل للسالكين، وإيضاح المحجة بين يديهم .. كانت العناية من قبل، موجهة إلى بيان (حقائق الإيمان) فلتتوجه الآن، إلى بسط (شرائع الإسلام).

وأنت فقد رأيت كيف مهدت السورة لهذا التحول، إذ وضعت برزخًا يربط أطراف الحديث، ويلتقي فيه سباقها وسياقها .. ولو أنك تلفتَّ الآن التفاتة يسيرة إلى جانبك، لرأيت أدنى هذا البرزخ إليك تلك الآية الجامعة (آية البر) التي انتظمت أصول الدعوة بشطريها: النظري، والعملي؛ ولرأيت أدنى هذين الشطرين إليك، هو هذا الشطر العملي.

فاعلم الآن، أن هذا الشطر العملي، الذي لمحناه من قبل مطويًّا في فهرس موجز، سنراه فيما يلي، مبسوطًا في بيان مفصل.

ففي نيف ومائة آية، سنرى فنًّا جديدًا من المعاني، مهمته رسم نظام العمل للمؤمنين، وتفصيل الواجب والحرام والحلال لهم في شتى مناحي الحياة: في شأن الفرد، وفي شأن الأسرة، وفي شأن الأمة .. بيانًا مؤتنفًا تارة، وجوابًا عن سؤال تارة أخرى، متناولًا في جملته عشرات من شعب الأحكام.

هذه الحكمة العامة في تأخير إقامة البنيان، ريثما أرسيت قواعده، وفي تأجيل الفروع حتى أحكمت أصولها، ستبدو من ورائها حكم جزئية، وأسرار دقيقة، لمن أقبل على هذه الفروع، ينظر إلى تلاصق لبناتها في بنيتها، وتناسق

ص: 296

حباتها في قلادتها، ثم رجع ينظر في وجه التقابل بين ذلك الإجمال السابق، وهذا التفصيل اللاحق ..

فلنأخذ في استعراض الحلقات الرئيسة لهذه السلسلة الجديدة:

لقد ختمت آية البر كما رأيت، بخصلة من خصال البر، ميزت في إعرابها تمييزًا، فكان ذلك تنويهًا بشأنها أي تنويه .. تلك هي خلة الصبر، التي شعبتها الآية المذكورة إلى ثلاث شعب: الصبر في البأساء، والصبر في الضراء، والصبر حين البأس .. فهل تعلم أنه الآن وقد بدأ دور التفصيل، ستكون هذه الخصلة بشعبها الثلاث، أول ما تُعنَى السورة بنشره من تلك الخصال، وأنها ستنشرها نشرًا مرتبًا ترتيبًا تصاعديًّا على عكس ترتيب الطي: الصبر حين البأس، ثم الصبر في الضراء، ثم الصبر في البأساء .. وهل تعلم أن هذا النظام التصاعدي نفسه سيتبع في سائر الخصال: الوفاء بالعهود والعقود.

ثم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والبذل والتضحية في سبيل الله؟ .. إليك البيان مفصلًا:

*‌

‌ الصبر حين البأس (178 - 182):

لا تحسبنه هنا صبرًا على الجروح والقروح في الحرب، فذلك معنى سلبي استسلامي؛ ولا تحسبنه صبرًا في البطش والفتك بالأعداء، فذلك جهد عملي إيجابي حقًّا، ولكن مرده إلى قوة العضل والعصب، لا إلى قوة الخلق والأدب (ليس الشديد بالصرعة، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)

(1)

.. هكذا سيختار الله لنا من مثل الصبر أمثلها، ومن موازينه أوزنها في معايير القيم، ذلك هو ضبط النفس حين البأس، كفًّا لها عن الاندفاع وراء باعثة الانتقام، وردعًا لها عن الإسراف في القتل، ووقوفًا بها عند حد التماثل والتكافؤ العادل (القصاص: 178 - 179).

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» ، رواه البخاري:(6114)، ومسلم:(2609).

ص: 297

وإذ كان تداعي المعاني يسوقنا من الحديث عن القتلى إلى الحديث عمن هم بشرف الموت، ناسب تتميم الكلام ببيان ما يجب على المحتضر من الوصية لأقاربه برًّا بهم (الوصية: 180 - 182).

*‌

‌ الصبر في الضراء:

وكذلك سيختار الله لنا من أبواب الصبر في الضراء أعلاها: ليس الصبر على الأمراض والآلام بإطلاق، ولكنه الصبر على الظمأ والمخمصة في طاعة الله (الصوم: 183 - 187) .. ، وينساق الحديث من الصوم المؤقت عن بعض الحلال، إلى الصوم الدائم عن السحت والحرام (188).

*‌

‌ الصبر في البأساء:

وعلى هذا النمط نفسه، سنرى الصبر في البأساء هنا ليس هو ذلك الصبر الاضطراري على الفقر والأزمات المالية والجوائح السماوية، ولكنَّه الصبر الاختياري على التضحية بالأموال؟ إنفاقًا لها في سبيل الله، والمثال الذي يختاره التنزيل الحكيم هنا مثال مزدوج

(1)

، ينتظم الصبر في البأساء والضراء جميعًا؛ إذ يجمع بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال (الحج إلى بيت الله:(189 - 203).

ولا تنسَ ها هنا أن تنظر إلى المعبرة اللطيفة التي انتقل بها الحديث من الصوم إلى الحج .. تلك هي مسألة الأهلة التي جعلها الله مواقيت للصوم وللحج جميعًا (189).

ولنقف بك ها هنا وقفة يسيرة، نشير فيها إلى شأن عجيب من شؤون النسق القرآني في هذا الموضع:

ذلك أنه حين بدأ بذكر الحج، لم تتصل به أحكامه ولاءً، بل فصل بين الشروع في الحديث عنه وحكمه

(2)

بست آيات في أحكام الجهاد بالنفس والمال

(1)

بل إن شئت قلت: إنه مثلث الألوان؛ لأنه سيدخل في ثناياه الصبر حين البأس في مجاهدة أعداء الله (190 - 195).

(2)

في نسخة: (بل فصل بين اسمه وحكمه بست آيات). (عمرو)

ص: 298

في قتال الأعداء (190 - 195) .. فاصلة يحسبها الجاهل رقعة غريبة في ثوب المعنى الجديد .. ولكن الذي يعرف تاريخ الإسلام وأسباب نزول القرآن، يعرف ما لهذه الفاصلة من شرف الموقع وإصابة المحزِّ، لا لمجرد الاقتران الزماني بين تشريع الحج وبين غزوة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة؛ ولكن لأنَّ أداء المناسك في ذلك العام كان عزمًا لم ينفذ، وأملًا لم يتحقق، إذ أحصر المسلمون يومئذ عن البيت، وهموا أن يبطشوا بأعدائهم الذين صدوهم عنه؛ ولولا أن الله نهاهم عن البدء بالعدوان وأمرهم ألا يقاتلوا في المسجد الحرام إلا من قاتلهم فيه، فانصرفوا راجعين، مستسلمين لأمر الله، منتظرين تحقيق وعد الله .. فكذلك فلينصرف القارئ أو المستمع ها هنا وهو متعطش لإتمام حديث الحج على أن يعود إليه بعد فاصل، كما انصرف المسلمون إذ ذاك عن مكة وهم إليها متعطشون، على أن يعودوا إليها من عام قابل .. هكذا كانت هذه الآيات الفاصلة تذكارًا خالدًا لتلك الأحداث الأولى .. وهكذا كان القرآن الحكيم مرآة صافية نطالع فيها صور الحقائق من كل لون نقتبسها طورًا من تصريح تعبيره، وطورًا من نهجه وأسلوبه في تعجيل البيان أو تأخيره، ثم كانت هذه الآيات الفاصلة في الوقت نفسه درسًا عمليًّا في صبر المتعلم على أستاذه، لا يعجله بالسؤال عن أمر في أثناء حديثه؛ ولكن يتلبث قليلًا حتى يحدث له منه ذكرًا في ساعته الموقوتة .. وهكذا لن يطول بنا الانتظار حتى نرى أحكام الحج والعمرة تجيء في إثر ذلك على شوق وظمأ، فتشبع وتروي بالبيان الشافي الوافي (196 - 203)، وبتمام هذا البيان تتم الحلقة الأولى من الأحكام؛ أعني فريضة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.

‌استجمامة (204 - 214):

وشاءت حكمة الله وتلطفه بنا في تربية نفوسنا على طاعة أمره، ألا يصعد بنا إلى الحلقة الثانية من فورنا هذا، ولكن بعد استرواحة فيها شيء من الموعظة العامة، يثبِّت بها القلوب على ما مضى، ويوطئ لها السبيل إلى ما بقي .. وكان من حسن الموقع لهذه الموعظة العامة، أنها اتصلت بالموعظة الخاصة التي ختم

ص: 299

بها حديث الحج، والتي قسمت الناس من حيث آمالهم ومطامحهم إلى فريقين: فريق يطلب خير الدنيا ولا يفكر في أمر الآخرة، وفريق لا تنسيه دنياه مصالح أخراه (200 - 202) فجاءت الموعظة العامة تقسم الناس من حيث ما فيهم من خلق الأثرة أو الإيثار إلى فئتين: فئة لا تبالي أن تضحي في سبيل أهوائها بحياة العباد، وعمران البلاد، وفئة على العكس من ذلك لا تضن أن تضحي بنفسها في سبيل مرضاة الله (204 - 207).

وتخلص الآيات الحكيمة من هذا التقسيم، إلى توجيه النصح للمؤمنين بأن يخلصوا نفوسهم من شوائب الهوى، ويستسلموا بكليتهم لأوامر الله، دون تفريق بين بعضها وبعض؛ محذِّرة إياهم من الزلل عنها بعد أن هدوا إليها ووقفوا عليها، معزِّية لهم عما قد يصيبهم من البأساء والضراء في سبيل إقامتها، ضاربة لهم المثل في ذلك بسنة السلف الصالح من الأمم السابقة (208 - 214).

هنا تمت الاسترواحة بالموعظة العامة.

(و) ستكون الحلقة التالية في تفصيل الخصلة الثانية من الخصال العملية التي أُجملت في آية البر، وهي الوفاء بالعهود والعقود؛ وستختار من بين هذه العقود أحقها بالعناية والرعاية: عقدة الزواج وما يدور حول محورها من شؤون الأسرة. أليست الأسرة هي المجال الأول للتدريب على حسن العشرة، وعلى التنزه من رذيلة الأنانية والأثرة؟ ثم أليست الأمور متى استقامت في هذا المجتمع الصغير، استقامت بالتدريج في المجتمع الكبير، ثم في المجتمع الأكبر؟

‌تفصيل الشؤون الأسرية المتشابكة: (الآيات من 215 إلى 237):

ترى كيف سيكون الانتقال إلى هذه الحلقة الثانية؟ هل يصعد القرآن بنا توًّا إلى تفصيل هذه الشؤون المنزلية المشتبكة المتشعبة؟ كلَّا إنَّ هذا البيان التربوي الحكيم لن يهجم بنا عليها دفعة، ولكنه سيتلطف في الوصول بنا إليها على معراج من الأسئلة والأجوبة، تتصل أوائلها بالأحكام الماضية: الإنفاق والجهاد (215 - 218) وتتصل أواخرها

(1)

بالأحكام التالية: مخالطة اليتامى، وشرائط

(1)

ارجع البصر كرتين إلى هذا النظام الهندسي في البيان .. ثم سل نفسك هل كان في الإمكان أن يأتلف عقد نظامه لو لم تقع الأحداث التي اتخذت منها مادته، أو لو وقع بعضها وتخلف بعضها، أو لو وقعت كلها ولم تنبعث في روع القوم باعثة السؤال عن أحكامها .. ؟ لقد كان القدر يسير إذًا في ركاب هذا التنظيم، فأثار مادة حوادثه، وبعث حاجات النفوس إلى طلب بيانها .. ولم يبق إلا أن تقول معي: آمنت أن الذي بيده تصريف الزمان، هو هو الذي بيده تنزيل القرآن .. ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.

ص: 300

المصاهرة، وموانع المباشرة (220 - 222) .. وهكذا نصل في رفق ولين، دون اقتضاب ولا ابتسار إلى صميم الحلقة الثانية (223 - 237) حيث نتلقى في شأن الحياة الزوجية دستورًا حكيمًا مؤلفًا من شطرين؛ وشطره الأول يعالج شؤون الأسرة في أثناء اتصالها (223 - 232)، وشطره الأخير يعالج شؤونها في حال انحلالها وانفصالها (233 - 237).

فخذ هذه الحلقة الجديدة من السورة الكريمة، وتعرف أسباب نزولها، وانظر كيف كانت كل قضية منها فتيا في حادثة معينة منفصلة عن أخواتها؛ ثم عد لتنظر في أسلوبها البياني جملة؛ وحاول أن ترى عليه مسحة انفصال أو انتقال، أو أن تحس فيه أثرًا لصنعة لصق، أو تكلف لحام .. واعلم منذ الآن أنك ستحاول عبثًا؛ فإنك لن تجد أمامك إلا سبيكة واحدة يطرد فيها عرق واحد، ويجري فيها ماء واحد، على رغم أنها جمعت من معادن شتى ..

تأمَّل أول كل شيء في خط سير المعاني:

انظر كيف استهل الحديث بإرساء الأساس، وذلك بتقرير حق العشرة والمخالطة الزوجية (223) ثم انظر كيف تلاه النهي عن إدخال اليمين في أمثال هذه الحقوق المقدسة، سواء بالحلف على منع البر عن مستحقه، أو على قطع ما أمر الله به أن يوصل (224 - 225) وكيف عقبه بحكم فرع من فروع هذا المبدأ متصل بالعلاقة الزوجية، وهو حكم من حلف على الامتناع عن زوجته (226 - 227) وكيف اتصل من هنا بأحكام الطلاق وما يتبع الطلاق من حقوق وواجبات (228).

فإذا أعجبك هذا التسلسل المعنوي، وهذا التدرج المنطقي، في شؤون كانت متفرقة، ارتجلتها الحوادث ارتجالًا، فتعالَ معي لأضع يدك في هذه القطعة

ص: 301

على حرف واحد تلمس فيه مبلغ الإحكام في التأليف بين هذه المتفرقات، حتى صارت شأنًا واحدًا ذا نسق واحد:

ذلك هو موضع النقلة من فتيا الإيلاء إلى فتيا الطلاق: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] ألا ترى كيف أدير الأسلوب في حكم الإيلاء على وجه معين، يطل القارئ منه على أفق متلبد ينذر باحتمال الفراق؛ فلما جاء بعده الحديث عن أحكام الفراق لم يكن غريبًا، بل وجد مكانه مهيَّأً له من قبل؛ كأن خاتمة حكم الإيلاء كانت بمثابة عروة مفتوحة، تستشرف إلى عروة أخرى تشتبك معها؛ فلما جاءت فتيا الطلاق في إبانها كانت هي تلك العروة المنتظرة، وما هو إلا أن التقت العروتان حتى اعتنقتا وكانت منهما حلقة مفرغة لا يُدرى أين طرفاها، وهكذا أصبح الحديثان حديثًا واحدًا.

ترى من علم محمدًا - لو كان القرآن من عنده - أنه سوف يستفتى يومًا ما في تلك التفاصيل الدقيقة لأحكام الطلاق؟ ومن علَّمه أنه سيجد لهذا السؤال جوابًا، وأن هذا الجواب سيوضع في نسق مع حكم الإيلاء، وأنه ينبغي لاستقامة النسق كله أن يساق حكم الإيلاء الذي وقع الاستفتاء فيه الآن، على وجه يجعل آخر شقيه هو أدناهما إلى حديث الطلاق الذي سوف يسأل عنه بعد حين؛ لكي ينضمَّ الشكل إلى شكله متى جاء وقت بيانه؟

هيهات أن يحوم علم البشر حول هذا الأفق الأعلى؛ فإنما ذلك شأن عالم الغيب والشهادة، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

وتمضي السورة في هذا النمط الجديد، مفصلة آثار الطلاق وتوابعه كلها: عدة، ورجعة، وخلعًا، ورضاعًا، واسترضاعًا، وخطبة، وصداقًا، ومتعة .. إلى تمام هذه الحلقة الثانية (237).

(و) هنالك تبدأ الحلقة الثالثة {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [238 - 274].

فلننظر: كيف تمت النُّقلة بين هاتين الحلقتين؟

ص: 302

إننا بمقدار ما رأينا من التلبُّث والتمكث، والاستجمام والتنفس بين الحلقة الأولى والثانية، سنرى على عكس ذلك بين الحلقة الثانية والثالثة، نقلة شبه خاطفة بل لفتة جد مباغتة، قد يحسبها الناظر اقتضابًا؛ وما هي باقتضاب إلا في حكم النظر السطحي .. أما من تابع معنا سير قافلة المعاني منذ بدايتها، وقطع معنا ثلثي الطريق الذي رسمته آية البر: من الوفاء بالعهود، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، فإنه لا ريب سوف يستشرف معنا إلى ثلثه الباقي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وبذل المال على حبه في سبيل الله، وسوف يرى أن هذه الحلقة الثالثة قد جاءت هنا في رتبتها وفي موضعها المقدر لها، وفق ترتيبها في الآية الجامعة.

سيقول قائل: نعم، لقد جاءت في موضعها ورتبتها، ولكن الانتقال إليها قد تم دون إعداد نفسي، ولا تمهيد بياني.

نقول: بل كان هذا الإعداد والتمهيد، في الآية الكريمة التي ختمت بها الحلقة السابقة:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237] فهذه لو تدبرت معبرة ذهبية وضعت في وقت الحاجة إليها بعد أن استطال الحديث في تفصيل الحقوق والواجبات المنزلية؛ معبرة جيء بها لتنقلنا من ضوضاء المحاسبة والمخاصمة، إلى سكون المسامحة والمكارمة؛ فكانت معراجًا وسطًا صعد بنا إلى أفق أعلى، تمهيدًا للعروج بنا فيما يلي إلى الأفق الأعلى .. ألا تسمع إلى هذه الكلمات:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237](لا تنسوا .. الفضل .. بينكم).

إنَّ كل حرف في هذه الكلمات ينادي بأنها كلمات حبيب مودع، كان قد أقام بيننا فترة ما، ليفصل في شؤوننا؛ ثم أخذ الآن يطوي صحيفة أحكامه، ليتحول بنا عنها إلى ما هو أهم منها؛ فقال لنا وهو يطويها: دعوا المشادة في هذه الشؤون الجزئية الصغرى، سووها فيما بينكم بقانون البر والفضل، الذي هو أسمى من قانون الحق والعدل؛ وحولوا أبصاركم معي إلى الشؤون الكلية الكبرى، التي هي أحق بأن يتوفر عليها العزم والقصد، وأحرى أن يشتغل بها

ص: 303

العقل والقلب .. نعم، نعم. لقد كفاكم هذا حديثًا عن حقوق الزوج والولد، فاستمعوا الآن إلى الحديث عن حقوق الله والوطن:

حافظوا على الصلاة .. أنفقوا في سبيل الله .. جاهدوا في سبيل الله .. (وبعد) فهل حديث الصلاة هنا يعتبر مقصدًا أصليًّا مستقلًّا، أم هو جزء من مقصد آخر.

لكي نحسن الجواب عن هذا السؤال، يجمل بنا أن نرجع البصر كرة أخرى، لننظر في جملة الخصال التي جمعت في آية البر، والتي فصلت في الآيات من بعدها إلى قرب آخر السورة، ولنقارن بين حظوظها من عناية الذكر الحكيم، فماذا نرى؟

نرى التنويه بفضيلتي الإنفاق والجهاد في سبيل الله، لا يزال يعاد ويردد في مطالع الحديث ومقاطعه، في إجماله وفي تفصيله، ترديدًا ينادي بأنه هو المقصود الأهم، والهدف الأعظم، من التشريع في هذه السورة .. فلو أننا، في ضوء هذا الأسلوب، تمثلنا تلك البيئة وأحداثها، وتمثَّلنَا القوم وهم تتلى عليهم شرائع هذه السورة وأحكامها، لتمثلنا معسكرًا ثابتًا للجهاد المزدوج؛ المالي والبدني، ولتمثلنا على رأس هذا المعسكر قائدًا يقظًا حريصًا، لا يعزب عنه شأن من شؤون جنوده؛ خاصها وعامها، ولا يفتأ يلقي عليهم أوامره وإرشاداته في مختلف تلك الشؤون كلما فرغ من إفتائهم في نوازلهم العارضة الوقتية، رجع بالحديث إلى مجراه العتيد، في شأن مهمتهم الرئيسة ..

ضع هذه اللوحة الجندية أمام عينيك .. فلن يكون عندك عجب أن ترى الحديث في شأن الجهاد يبرز الآن على إثر تلك الشؤون؛ ذلك أن بساطه كان أبدًا منشورًا، وأن داعيته كانت دائمًا قائمة؛ فإذا عاد ذكره بعد أن زال ما حوله من الشواغل الوقتية، فإنما يجيء على أصله وسجيته؛ فلا يسأل عن علته ..

ماذا نقول؟ .. شأن الجهاد!! أليس الحديث سيفتتح الآن بشأن الصلاة، وعدة الوفاة، لا بشأن الجهاد؟

ص: 304

بل نقول، ونحن نعني ما نقول: إن الحديث يعود الآن إلى شأن الجهاد، وإن الخطاب هنا بالصلاة وغيرها يتوجه إلى المجاهدين من حيث هم مجاهدون، ليحل المشاكل التي يثيرها موقف الجهاد نفسه، قبل أن يوجه إليهم الأمر الصريح بالقتال ..

فأول هذه المشاكل مشكلة الصلاة في الحرب: ألا يكون الجهاد رخصة في إسقاط هذا الواجب أو في تأجيله؟

يجيبنا الكتاب العزيز: لا رخصة في ترك الصلاة ولا في تأجيلها، لا في سلم ولا في حرب، ولا في أمن ولا في خوف:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وإنما الرخصة عند الخوف في شيء واحد: في صفات الصلاة وهيأتها: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239].

والصلاة كما نعلم قوَّة معنوية على العدو، وعدة من عدد النصر

(1)

، لا جرم كان من الحكمة أن تزود بها أرواح المجاهدين، قبل أن يؤمروا بالقتال أمرًا صريحًا، والصلاة في الوقت نفسه طهرة للنفس من مساوئ الأخلاق، تنقيها من دنس الشح والحرص على حطام الدنيا

(2)

، لا جرم كان من الحكمة كذلك جعلها دعامة للوصية الآنفة، التي أمرتنا بالتسامح والتكارم في المعاملات .. هكذا كان وضع حديث الصلاة مزدوج الفائدة: دواءً وغذاءً معًا، ينظر إلى الأمام وإلى الوراء جميعًا، بل قل: إنه مثلث الفائدة؛ لأنه في نظره إلى الخلف لا ينظر إلى الآية الآنفة وحدها، بل ينظر كذلك إلى الآية الجامعة، ليفصل إجمالها في هذا الجانب

(3)

..

(1)

هكذا قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].

(2)

وهكذا قال الله في وصف الإنسان: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 21 - 22].

(3)

إذا فهمت حسن هذا التلطف، في الانتقال من المعنى القديم إلى المعنى الجديد، وأدركت جمال هذه الأوضاع الهندسية، التي تناسقت بها المعاني السابقة واللاحقة، فقد زالت عنك شبهة الاقتضاب هنا في الانتقال إلى حديث الصلاة .. غير أننا إذا قسنا هذه النقلة إلى النقلة السابقة بين الحلقتين؛ الأولى والثانية، ألسنا نرى هذا التمهيد قصيرًا وهذا التحول سريعًا؟ أليست النفس في سيرها هنا تدركها رجة خفيفة لهذا التحول السريع الذي تفرضه عليها حركة قائدها؟ ألا فاعلم، علمك الله، أن هذه سرعة مقصودة، وأن من الخير لنا أن نحس بهذه الرجة الخفيفة من أثر ذلك التحول السريع؛ فإن لذلك مغزى عميقًا في تربية النفوس المؤمنة .. إن هذه النقلة تصور لنا ما يجب أن يكون عليه المؤمن، إذا سمع نداء الواجب الروحي وهو منهمك في معركة الحياة، فكأننا بهذا الأسلوب الحكيم ينادينا: إنه ليس شأن المؤمن أن يحتاج إلى كبير معالجة للتسامي بروحه فوق مشاغل الأهل والولد، وإنما شأنه أن ينتشل نفسه من غمرتها انتشالًا فوريًّا، ليسرع إلى تلبية ذلك النداء الأقدس، قائلًا للدنيا كلها:(دعيني أتعبد لربي) *. نعم هذا شأن المؤمنين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16].

* عن عطاء، قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أمَّه كما قال الأول: زر غبًّا تزدد حبًّا، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسكتت ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال:(يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي)، قلت: والله إنِّي لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى وكان جالسًا، فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟! قال:«أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد نزلت علي الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164]، الآية كلها» ، صحيح ابن حبان:(7/ 722)، وصحح إسناده حسين أسد في تحقيق موارد الظمآن:(2/ 241).

ص: 305

والجنديُّ في الحرب تشغله على الأقل مخافتان: مخافة على نفسه وعلى المجاهدين معه من أخطار الموت أو الهزيمة، ومخافة على أهله من الضياع والعيلة لو قتل .. لذلك انساق البيان الكريم يطرد عن قلبه كلتا المخافتين، أمَّا أهله فقد وصى الله للزوجة، إذا مات زوجها، بأن تُمتَّع حولًا

(1)

كاملًا في بيته، وكذلك مطلقته سيتقرر لها حق في المتعة لا يُنسى، فليقر عينًا من هذه الناحية (240 - 242).

(1)

للمفسرين في هذه الآية قولان مشهوران: أحدهما: أنها وصية مندوبة لا واجبة.

الثاني: أنها كانت واجبة في صدر الإسلام ثم نسخت بالآية السابقة (234) التي توجب تربص أربعة أشهر وعشرًا لا أكثر .. وواضح أن كلا القولين مبني على أن آية الحول يسري حكمها على الأزواج عامة .. ولكن السياق الحكيم أوحى إلينا هذا المعنى الجديد: وهو أن تربص الحول الكامل كان خصوصية فضلت بها زوجات المجاهدين على زوجات القاعدين، والله أعلم.

ص: 306

وأما خوف الموت فليعلم أن الذي يطلب الموت قد توهب له الحياة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} (243).

(و) أما خوف الهزيمة، فإن النصر بيد الله {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249] وتلك سنة الله في المرسلين (246 - 253).

هكذا أُبعدت المخاوف كلها عن قلوب المجاهدين، بعد أن زوِّدت أرواحهم بزاد التقوى، وهكذا أصبحوا على استعداد نفسي كامل، لتلقي الأوامر العليا، فليصدر إليهم الأمر صريحًا بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم (244 - 245)

(1)

.

ولتفصل لهم العبر التاريخية، التي تثبت أقدامهم حين البأس، والتي تزيدهم أملًا في النصر (246 - 253).

والجهاد كما قلنا جهادان: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وليس الجهاد بالمال وقفًا على شؤون الحرب، بل هو بذله في كل ما يرفه عن الأمة، ويقوي شوكة الدولة، ويحمي حمى الملة.

(1)

من الطرائف البيانية في أسلوب القرآن هنا أن النتيجة فيه تقع من المقدمات موقع المركز من الدائرة، لا موقع الطرف من الخط كما هو شأن الأسلوب التعليمي المشهور، ألا ترى هذا الأمر بالقتال في سبيل الله (244) قد أحيط من جانبيه كليهما بدعائمه وبواعثه، إجمالًا قبل، وتفصيلًا بعد؟ .. على أن هذا المنهج الطريف لا يخص هذا الموضع من القرآن، فإنك ستجد شواهده مبثوثة في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز .. تدبَّر قوله تعالى في سورة المائدة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فإن كمال الدين الإسلامي باشتماله ماديًّا وروحيًّا على كل النظم الكفيلة بإصلاح الفرد، والأسرة، والجماعة، والدولة، والإنسانية العامة، لم يذكر من دلائله قبل إلا طرف يسير، أما بقية البرهان فقد نثرت حباته على أثر ذلك إلى تمام الآية العاشرة من السورة المذكورة.

وانظر قوله تعالى في سورة النحل: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] فقد جاء وسطًا بين دلائل الوحدانية في التدبير، ودلائل الوحدانية في الإنعام والإحسان .. وتأمل قوله في السورة نفسها:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فقد جاء بعد تبيين أصول العقيدة، وقبل تبيين أصول الفضيلة العملية، ومن جملة السابق واللاحق، يتألف البرهان على صدق هذه القضية، وهي أن الكتاب تبيان لكل شيء.

ص: 307

ولقد أخذ الجهاد بالنفس حظه من الدعوة في آية قصيرة (244) ثم في آيات كثيرة (246 - 253)، وأخذ الجهاد بالمال بعض حظه في آية قصيرة (255) فمن العدل أن يأخذ تمام حظه في آيات كثيرة كذلك.

وهكذا نرى الدعوة إليه تأخذ الآن قسطها؛ مطبوعًا بطابع الشدة تارة (254 - 260). (254 - 260)

(1)

وطابع اللين تارة (261) وطابع التعليم المفصل لآداب البذل تارة أخرى (262 - 274).

الآيات من (275 - 283):

ثم ينساق الحديث من فضيلة التضحية والإيثار، التي هي أسمى الفضائل الاجتماعية، إلى رذيلة الجشع والاستئثار، التي هي في الطرف المقابل، أحط أنواع المعاملات البشرية (أعني رذيلة الربا، التي تستغل فيها حاجة الضعيف، ويتقاضى فيها المحسن ثمن المعروف الذي يبذله)(275 - 279).

وكان هذا الاقتران بينهما في البيان إبرازًا لمدى الافتراق بين قيمتهما في حكم الضمائر الحية.

وبين هذين الطرفين المتباعدين، يقيم القرآن ميزان القسط في الحد الأوسط، جاعلًا لصاحب الحق سلطانًا في المطالبة برأس ماله كله لا ينتقص منه شيء {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. غير أنه يحذرنا من سوء استعمال هذا الحق بإزاء المعسرين؛ فيأمرنا أن نتخذ فيهم إحدى الحسنيين: إما الانتظار إلى الميسرة، وإما التنازل لهم نهائيًّا عن الدين، وهذه أكرم وأفضل {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (280 - 281).

ولما كان الطابع البارز في هذا التشريع القرآني، وهو طابع القناعة والسماحة، قد يوحي إلى النفوس شيئًا من التهاون في أمر المال، وربما مال بها

(1)

ففي هذه الآيات السبع تحذير شديد للبخلاء من يوم لا يبذل فيه فداء، ولا يغني فيه خليل عن خليله، ولا تنفع فيه شفاعة الشافعين؛ ثم تأكيد لهذا المعنى يمحو كل شبهة يتعلق بها من يعتمد على الشفعاء، ونفي كل سلطان ونفوذ لغير الله، ورفع كل ريبة عن حقيقة يوم الدين .. وذلك كله ليكون البذل عن إيمان وعقيدة سليمة، لا رياء ولا زلفى لأحد، ولكن ابتغاءً لوجه الله الواحد الأحد.

ص: 308

إلى التفريط في حفظه وتثميره، جاءت آيتا الدَّين والرِّهان

(1)

(282 - 283) تدفعان عن نفوسنا هذا التوهم، وتصوغان للمؤمنين دستورًا هو أدق الدساتير المدنية، في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل، تمهيدًا لإنفاقها في أحسن الوجوه .. فمن لم يجد سبيلًا إلى التوثق بوثيقة ما، ولم يبق أمامه إلا أن يَكِلَ عميله إلى ذمته وأمانته {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].

وهكذا ختم الشطر العملي من السورة، بهذه القاعدة المثلى، التي هي أساس كل معاملة شريفة، أعني قاعدة الصدق والأمانة، جعلنا الله من أهل الصدق والأمانة .. آمين.

(1)

وآية الدين هي أطول آية في القرآن.

ص: 309

‌المقصد الرابع من مقاصد السورة: في آية واحدة (284).

في الآية السابقة، انتهت مهمة الأحكام التفصيلية، عند الحد الذي أراد الله بيانه في هذه السورة؛ وبها ختم الشطر الثاني من الحقيقة الدينية، وهو شطرها العملي؛ بعد أن أرسى شطرها الاعتقادي في الآي (122) وما بعدها.

وهكذا تناول البيان حتى الآن:

1 -

حقائق الإيمان.

2 -

شرائع الإسلام.

هل بقي في بنيان الدين شيء فوق هذه الأركان؟

نعم؛ لقد بقيت ذروته العليا، وحليته الكبرى .. بعد الإيمان .. والإسلام .. بقي الإحسان؛ وهو كما فسره صاحب الرسالة -صلوات الله وسلامه عليه- أن تراقب الله في كل شأنك، وأن تستشعر مشاهدته لك في سرك وإعلانك، وأن تستعد لمحاسبته لك، حتى على ذات صدرك، ودخيلة نفسك .. مطلب عزيز لا يطيق الوفاء به كل مؤمن، ولا كل مسلم؛ وإنما يحوم حول حماه صفوة الصفوة من المتقين .. وكأنه لعزة هذا المطلب ونفاسته صان الله درَّته اليتيمة في هذه الآية الواحدة، التي تَوَّج بها هامَة السورة:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284].

* * * * *

‌الخاتمة: في آيتين اثنتين (285 - 286):

والآن وقد تناول البيان أركان الدين كلها، وألمَّ بعناصره جميعها: الإيمان، والإسلام، والإحسان؛ لم يبق بعد تمام الحديث إلا طي صحيفته، وإعلان ختامه؟

ص: 310

فهل تعرف كيف طويت صحيفة هذه السورة، وكيف أعلن ختامها؟

لنعد بذاكرتنا إلى الآيات الخمس التي افتتحت بها سورة البقرة؛ لنرى كيف تتجاوب تلك المقدمة مع هذه الخاتمة؛ ثم كيف يتعانق الطرفان هكذا ليلتحم من قوسيهما سور محكم يحيط بهذه السورة، فإذا هي سورة حقًّا، أي بنية محبوكة مسورة ..

ألم يكن مطلع السورة وعدًا كريمًا لمن سيؤمن بها ويطيع أمرها بأنهم أهل الهدى وأهل الفلاح؟

ألسنا نترقب الآن صدى هذا الوعد؟ بلى؛ إننا ننتظر الآن أن تحدثنا السورة: هل آمن بها أحد، وهل اتبع هداها أحد، ثم ننتظر منها إن كان ذلك قد وقع، أن تحدثنا عن جزاء من استمع واتبع ..

وهكذا سيكون مقطع السورة:

1 -

بلاغًا عن نجاح دعوتها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ}

{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285].

2 -

وفاءً بوعدها لكل نفس بذلت وسعها في اتباعها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].

3 -

فتحًا لباب الأمل على مصراعيه أمام هؤلاء المهتدين، فليبسطوا إذًا أكفهم مبتهلين:(ربنا .. ربنا .. ربنا)

{أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].

* * * * *

تلك هي سورة البقرة .. أرأيت وحدتها في كثرتها؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها من غير ملاط يمسكها، وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها؟ أرأيت كيف انتظم من رأسها وصدرها وأحشائها وأطرافها، لا أقول أحسن دمية، بل أجمل صورة حية، كل ذرة في خليتها، وكل خلية في عضوها، وكل عضو في جهازه، وكل جهاز في جسمه، ينادي بأنه قد أخذ مكانه المقسوم، وفقًا لخط جامع مرسوم، رسمه مربي النفوس ومزكِّيها،

ص: 311

ومنور العقول وهاديها، ومرشد الأرواح وحاديها .. فتالله لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها، لكان جمع أشتاتها على هذه الصورة معجزة، فكيف وكل نجم منها - كسائر النجوم في سائر السور - كان يوضع في رتبته من فور نزوله، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارًا لحلوله؛ وهكذا كان ما لم ينزل منها معروف الرتبة محدد الموقع قبل أن ينزل؟ ثم كيف وقد اختصت من بين السور المنجمة بأنها حددت مواقع نجومها لا قبل نزولها بعام أو بعض عام، بل بتسعة أعوام؟

لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب تربيته معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونيَّة (معجزات) ومعجزات، لعمري إنه في ترتيب آيه على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات!

* * * * *

ص: 312