المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتابُ الشَّهادات ‌ ‌في محاسن الشهادة وفضائلها . إيرادُ كتابِ الشَّهادات بعد كتاب أدبِ - النهاية في شرح الهداية - السغناقي - جـ ١٦

[الحسام السغناقي]

فهرس الكتاب

‌كتابُ الشَّهادات

‌في محاسن الشهادة وفضائلها

.

إيرادُ كتابِ الشَّهادات بعد كتاب أدبِ القاضي؛ بيِّنُ المناسبة؛ إذ القاضي في قضائه يحتاج أولاً إلى شهادة الشهود عند إنكار الخَصم

(1)

.

ثم محاسنُ الشَّهادة كثيرةٌ وفضائلها

(2)

عزيزةٌ، فمنها أنَّ الشَّهادة صفة من صفات الله تعالى الذاتيَّة، قال الله تعالى:{ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}

(3)

.

وقال: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}

(4)

، ولا يشك عاقلٌ في حُسنِ صفات الله تعالى، كالعلم والقدرة.

ومنها أنَّ مبنى الشَّهادة على الصِّدق، والصِّدق حَسَنٌ لمعنىً في عينِه، بحيث لا يقبل النسخَ

(5)

ولا يتبدل حُسنُه في وقتٍ من الأوقات، ولا يُشَكُ في حُسن شيءٍ كان حُسُنهُ لذاته.

إذ الشَّهادةُ ليست هي إلَّا إخبارًا بالصِّدق عند القاضي، فكانت الشَّهادة حَسَنَةٌ لذاتها؛ لحسن الصِّدق لذاته.

فإن قلتَ: كم من خبر صدقٍ هو منهِيُّ عنه، فلو كان الصِّدقُ حسناً لمعنىً في عينِه لَمَا ورد النهي عنه، وذلك كتزكية النَّفس والغيبةِ، قال الله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}

(6)

.

‌في تعريف التزكية والغيبة

.

والتَّزكية: إخبارٌ عن نفسِهِ بما يُجهل هو فيه، وهو منهي عنه، وإن كان صادقاً فيه

(7)

.

وكذلك الغِيبَةُ، قال الله تعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}

(8)

.

والغِيبةُ: إخبارٌ عن رجلٍ حالَ غَيبَتِه بما يَشِينُهُ الذي هو صادقٌ فيه؛ لأنَّه لو كان هو كاذباً فيه كان بُهتاناً وزوراً لا غِيبةً.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 364).

(2)

النَّاسخ يعتمد إمالة الهمزة وتسهيلها.

(3)

سورة يونس: آية 46.

(4)

سورة البروج: آية 9.

(5)

النسخ لغة: مستعمل في معنيين: أحدهما: الإزالة والرفع، يقال:«نسخت الشمس الظل» : أي أزالته ورفعته، والثاني: يستعمل في النقل، يقال:«نسخت الكتاب» ؛ أي: نقلت مثل ذلك المكتوب إلى محل آخر.

ينظر: تهذيب اللغة (7/ 84)، تبيين الحقائق (6/ 249).

واصطلاحاً: هو إبطال الحكم المستفاد من نص سابق بنص لاحق، ورفعه. أو هو بيان انتهاء الحكم الشرعي في حق صاحب الشرع وكان انتهاؤه عند الله تعالى معلوماً إلا أنَّ في علمنا كان استمراره ودوامه، وبالناسخ علمنا انتهاءه، وكان في حقنا تبديلاً وتغييراً. ينظر: معجم مصطلح الأصول لهيثم هلال (ص 336)، التعريفات للجرجاني (ص 215).

(6)

سورة النَّجم: آية 32.

(7)

في «س» : [هو فيه].

(8)

سورة الحجرات: آية 12.

ص: 1

قلتُ: النَّهي في تزكية النَّفس بسببٍ تضَّمَّنَ معنى الإعجاب بيان التفوق على الغير بذلك، وإلَّا فالتَّزكية حسنٌ في نفسها من حيث إنَّها صِدقٌ، والشيء الحسن في ذاته قد يُنهى عنه بسبب ما يَقتَرن به؛ فكان النهي راجعاً بالحقيقة إلى ذلك الشَّيء المقترن به، لا إلى الشَّيء الذي هو حسنٌ في ذاته؛ حتَّى إنَّك لو قلتَ لا تُصَلِّ إلَّا وأنت خاشعٌ.

فالنَّهي وإن كان مضافاً إلى الصَّلاة صورةً؛ لكن هو في الحقيقة راجعٌ إلى ترك الخشوع، فإنَّ الصلاة ليست بمنهيٍّ عنها؛ بل تركُ الخشوع منهيُّ عنه، وكذلك في قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}

(1)

.

وإنَّما نُهينا عن سبِّ ما يَدعون من دون الله بسبب شيء يقترن به، وهو سبٌهم اللهَ تعالى، حتَّى إنَّ تزكية النَّفس إذا لم [تتضمن]

(2)

ما قلنا فهي غيرُ منهيَّة، قال الله تعالى خبراً عن يوسفَ- صلى الله عليه وسلم:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}

(3)

.

وكذلك في الغِيبَة النهي ليس للغيبة نفسها؛ بل لشيء قبيحٍ يقترن بها وهو الإيذاء، حتَّى إنَّ الغِيبَةَ إذا كانت بحال من هو مُنهمك

(4)

في غَيِّه كانت هي لتحذير الغير عنه، فحينئذٍ تجوز، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:«اذكروا الفَاجِرَ بِمَا فِيهِ»

(5)

.

(1)

سورة الأنعام: آية 108.

(2)

في «ج» : [يتضمن].

(3)

سورة يوسف: آية 55.

(4)

الانهمَاك: اللَّجَاجُ في الشيء والتَّمادِي فيه. ينظر: المجموع المغيث (3/ 508).

(5)

الحديث بتمامه: «أَتَرعُونَ عَن ذِكرِ الفَاجِرِ، اذكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحذَرَهُ النَّاسُ» .

أخرجه: الطبراني في المعجم الصغير (1/ 357)، رقم (598)، وفي المعجم الكبير (19/ 418)، رقم (1010)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 354)، رقم (20914)، باب الرجل من أهل الفقه يسأل، وقال:«فهذا حديث يعرف بالجارود بن يزيد النيسابوري، وأنكره عليه أهل العلم بالحديث، وقد سرقه عنه جماعة من الضعفاء فرووه عن بهز بن حكيم، ولم يصح فيه شيء» ، ورواه أيضاً في شعب الإيمان (12/ 164)، رقم (9219)، والخطيب البغدادي في الكفاية (1/ 42)، وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/ 202):«فالحديث كما قال العُقَيلي: ليس له أصل، وقال الفلاس: إنه منكر» ، وقال الشيخ الألباني في الضعيفة (2/ 52)، رقم (583):«موضوع» .

ص: 2

ومنها أنَّ فيها إحياءَ الحقوق الذَّاهبة، وإبداءَ الدعاوى النَّاضِبة

(1)

.

وهو المقصود في الباب، ومحبوب أولي الألباب، وفيه نفعٌ لغيره من النَّاس.

قال النَّبي- صلى الله عليه وسلم: «خَيرُ النَّاسِ مَن ينفَعُ النَّاسَ»

(2)

.

ومنها: أنَّ فيها امتثالَ أمر الله تعالى بقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}

(3)

وانتهاءَ ما نهى الله تعالى بقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

(4)

.

وبناءُ الإسلام على شيئين؛ امتثالُ ما أمر الله به، وانتهاءُ ما نهى الله عنه.

ومنها: استيجابُ الإكرام الثَّابت فيما بين العباد، والإعظام

(5)

القارُّ

(6)

بين أهل البلاد، قال النَّبي- صلى الله عليه وسلم:«أكرموا الشُّهود فإنَّ الله تعالى يحيي الحقوق بهم»

(7)

.

‌في تعريف الشهادة لغة واصطلاحاً

ثم يحتاج هاهنا إلى بيان الشَّهادة لغةً وشرعاً، وسببها، وشرطها، وركنها، وحكمها.

أمَّا اللغةُ: فالشَّهادةُ هي الإخبارُ بصحَّة الشيء عن مشاهدةٍ وعَيان

(8)

.

فمن هذا قالوا إنَّها مشتقَّة من المشاهدة، التي تنبني عن المعاينة، فسُمِّيت بها؛ لأنَّ السَّبب المطلق للأداء المعاينة، فسُمِّي الأداء شهادةً إطلاقاً لاسم السبب على المُسَبَّبِ

(9)

.

وقيل: هي مشتقة من الشُّهود؛ بمعنى الحضور؛ لأنَّ الشَّاهد يحضرُ مجلس القاضي للأداء؛ فسمي الحاضرُ شاهداً، وأداؤه شهادةً

(10)

.

(1)

الناضبة: أي: البعيدة، ومنه قيل للماء إذا ذهب: نضب؛ أي: بعد. وخرق ناضب؛ أي: بعيد. الصحاح للجوهري (1/ 226)، مادة:«نضب» .

(2)

أخرجه: الطبراني في المعجم الأوسط (6/ 58)، رقم (5787)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 108)، بلفظ:«خير الناس أنفعهم للناس» ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 787)، رقم (426).

(3)

سورة المائدة: آية 8.

(4)

سورة البقرة: آية 283.

(5)

في «ج» و «س» : [الإعضام] والصحيح ما أثبته.

(6)

القارُّ: هو اللازم والثابت. العناية شرح الهداية (10/ 197).

(7)

أخرجه: العُقَيلى في الضعفاء (3/ 84)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (5/ 94)، (6/ 138)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 426)، وقال العجلوني في كشف الخفاء:«صرح الصغاني بأنَّه موضوع، وقال ابن حجر: ضعيف؛ بل قال الذهبي منكر» وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة (1/ 200)، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (6/ 438)، رقم (2898):«منكر» .

(8)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 364).

(9)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 364)، الجوهرة النيرة (2/ 224).

(10)

يُنظر: مختار الصحاح (ص 354)، الجوهرة النيرة (2/ 224)، تبيين الحقائق (4/ 207).

ص: 3

وأمَّا في اصطلاح أهل الشَّريعة، فهي: عبارةٌ عن إخبارٍ بصدقٍ مشروطٍ فيه مجلسُ القضاء، [ولفظه]

(1)

الشَّهادةُ

(2)

.

فقولنا: «إخبارٌ بصدقٍ» : جنسٌ يدخل تحته الإقرارُ

(3)

، والدَّعوى

(4)

، والإنكار

(5)

، والشَّهادةُ، فإنَّ كل واحدٍ منها إخبارٌ بصدقٍ؛ إذا كان الأمر على وِفَاقِ ما قالوا؛ فإنَّ الإقرارَ إخبارٌ بما في يده لغيره، والدَّعوى إخبارٌ بما في يد غيره لنفسه، والإنكار إخبارٌ بما في يده لنفسه، [والشَّهادة]

(6)

إخبار بما في يد غيره لغيره.

وقولنا: «مشروطاً فيه مجلس قضاء، [ولفظه]

(7)

الشَّهادة».

فصل لهذه الإخبارات الصادقة عن الشَّهادة.

وأمَّا سببها فنوعان، سببٌ في حق التَّحمُّل، وسبب في حَقِّ الأدَاءِ

(8)

.

‌في بيان سبب الشهادة

. أمَّا في حقِّ التحمُّل فمُعاينة سبب تحمل الشَّهادة، ومشاهدته.

وأمَّا في حقِّ الأداء فطلب المدَّعِي من الشَّاهد أداء الشَّهادة، وخوف فوت حقِّ المدَّعِي، حتَّى إنَّه لو كان عنده شهادةٌ، ولم يَعلَمها المدَّعي، وهو في حال لو لم يشهد لفوَّت حقِّ المدَّعي يلزم عليه أداء الشَّهادة.

‌في بيان شرط الشهادة وركنها وحكمها

وأمَّا شرطُها

(9)

: العقلُ الكاملِ، والضَّبطُ، والولاية

(10)

، والقدرةُ على التَّمييز بين المدِّعِي والمدَّعَى عليه، ولم يذكر الإسلام؛ لأنَّ الكافر؛ أهلٌ للشَّهادة فيما بين الكفَّار

(11)

.

(1)

في «س» ، و «ج»:[لفظة].

(2)

يُنظر: الجوهرة النيرة (2/ 224)، البحر الرائق (4/ 206).

(3)

الإقرار: بالشيء تقرير، هو ضده إنكاره وهو تنكيره؛ أي: تغييره، والتنكر: التغير. طلبة الطلبة (3/ 352).

(4)

الدعوى: اسم من الادعاء وفي الشرع قول يطلب به الإنسان إثبات حق على الغير أو يدفع حق الغير عن نفسه في حضور الحاكم. التعريفات الفقهية (ص 96)

(5)

الإنكار: (ن ك ر) إذا كان على رجل دين فناكره سنين؛ أي: جحده، وهي مفاعلة من الإنكار. طلبة الطلبة (1/ 96)

(6)

في «ج» : [فالشهادة].

(7)

في «س» : [ولفظة].

(8)

يُنظر: بدائع الصنائع (6/ 266)، البناية شرح الهداية (9/ 100)،

(9)

يُنظر: المبسوط (16/ 113)، العناية شرح الهداية (7/ 365)، الجوهرة النيرة (2/ 224).

(10)

الولاية: من الولي، وهو القرب، فهي: قرابة حكمية حاصلة من العتق أو من الموالاة، يقال:«ولى الأمر ولاية» ، بمعنى: قام به بنفسه، وولى عليه ولاية: إذا ملك أمر التصرف فيه. ينظر: المصباح المنير (ص 258)، التعريفات للجرجاني (ص 227)، معجم المصطلحات الفقهية (3/ 501).

(11)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 365).

ص: 4

وأمَّا ركنها؛ فاستعمال لفظةِ أشهدُ على وجه الإخبار، عند القاضي، عند استجماع هذه الشرائط.

فقُيِّدَ بقوله: على وجه الإخبار احترازاً عن استعمال لفظة أشهَدُ على وجه القسم، كما مرَّ في الأيمان.

وأمَّا حُكمُها؛ فوجوبُ الحكم على القاضي بما تقتضيه الشَّهادةُ

(1)

.

وفي المبسوط: «ثم القياس يأبى كون الشَّهادة حجةٌ في الأحكام؛ لأنَّه خبرٌ مُحتَمَلٌ للصدق والكذب، والمحتمل لا يكون حجةً مُلزِمَةً.

ولأنَّ خبر الواحد لا يُوجب العلم، والقضاءُ مُلزم فيستدعي سبباً موجباً للعلم، ألا ترى أنَّ الشَّهادةَ التي هي دون القضاء تستدعي سبباً مُوجِباً للعلم، وهو المعاينةُ، فالقضاء أولى؛ ولكن تركنا ذلك بالنُّصوص التي فيها أمرٌ للحكَّام بالعمل بالشَّهادة، من ذلك قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}

(2)

، وقال:{اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «البيِّنة على المدَّعي»

(4)

.

وفيه معنيان: أحدهما: حاجة النَّاس إلى ذلك؛ لأنَّ المنازعات والخصومات تكثر بين النَّاس، ويتعذَّرُ إقامةُ الحجَّة الموجبة للعلم في كل خصومة، والتَّكليف بحسب الوُسعِ.

والثاني: معنى إكرام الشُّهود؛ حيث جعل الشرعُ شهادتهم حجَّةً لإيجاب القضاء، مع احتمال الكذب إذا ظهر رُجحان جانبِ الصِّدق، وإليه أشار النَّبي-صلى الله عليه وسلم في قوله:«أكرموا الشهود فإنَّ الله تعالى يحيي الحقوق بهم»

(5)

.

ولما خصَّ الله تعالى هذه الأمة بالكرامات، ووصفهم بأنَّهم شهداء على النَّاس في القيامة، فقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}

(6)

.

(1)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 365)، الجوهرة النيرة (2/ 224).

(2)

سورة البقرة: آية 282.

(3)

سورة المائدة: آية 106.

(4)

أخرجه: الترمذي في سننه (3/ 626)، كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، رقم (1341)، وقال:«في إسناده مقال» ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 252)، رقم (21735) باب البينة على المدعي، قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (1/ 291):«إسناده صحيح» ، وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (8/ 279)، رقم (2661).

(5)

سبق تخريجه قريباً، ص (82).

(6)

سورة البقرة: آية 143.

ص: 5

‌في بيان فرضية الشهادة

وقد يجب العمل بما لا يوجِبُ علم اليقين، كالقياس بالأحكام بغالب الرأي في موضع الاجتهاد

(1)

»

(2)

.

«والشَّهادةُ فرضٌ يلزم الشهودَ، ولا يَسِعَهم كتمانُها»

(3)

.

وقوله: «يلزم الشهودَ ولا يَسِعَهُم كتمانُها» ؛ تأكيدٌ لقوله فرضٌ، إذ الفرض يكون بمعنى التقدير، وأُريِد به اللزوم ههنا.

وقوله: «إذا طالبهم المدَّعِي»

(4)

.

بيانُ وقتِ الفرضيَّة

(5)

وسببها؛ لأنَّ المدَّعِي لو لم يطالبهم بأداء الشَّهادة لا يلزمهم الشَّهادةُ، وعند المطالبة يلزمهم، فالتِّكرار والدَّوران دليل السَّببية؛ وهو الأصل.

وإن تخلَّفَ فهو يُعارض لما عُرِفَ، فإن قلت لِمَا لا تضيف السببيَّة، إلى قوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}

(6)

، وقوله:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

(7)

، فإنَّ هذين النَّصَّين، وإن كان نهياً وكان أمراً بضدهما؛ أي: فاشهدوا، فكان أمر فاشهدوا سبباً للفرضيَّة.

قلتُ: كما لا تضيف السَّببيَّة في وجوب الصَّلاة إلى الأوامر الواردة بإقامة الصَّلاة من قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}

(8)

، وقوله:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}

(9)

، بل إلى دُلُوكِ الشَّمس المذكور في قوله:«وكذلك لا يضيف وجوب الصوم» إلى قوله: {فَلْيَصُمْهُ}

(10)

؛ بل إلى شهود الشَّهر المذكور في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

(11)

.

فكذلك هاهنا السَّبب هو المطالبة.

وأمَّا النُّصوص من قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

(12)

وغيره لبيان أنَّ ذلك السببَ موجبٌ لأداء الشَّهادة؛ إذ السبب قد يكون سبباً للاستحباب والندب، والإباحة، كالنيَّة في الوضوء، والعفو عن القَصاص، والاصطياد.

فإنَّ الوُضُوءَ سببٌ لاستحباب النيَّة فيه، والقِصَاصُ سببٌ لكون العفو مندوباً إليه، والحِلُّ عن الإحرام سبب لإباحة الاصطياد.

فإن قلتَ هاهنا شُبهَةٌ أخرى؛ وهي أنَّه [تمسُّك]

(13)

لدعوَى فرضيَّة أداء الشَّهادة بقوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ}

(14)

، وقوله:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

(15)

.

(1)

الاجتهاد: هو في اللغة: بذل الجهد في عمل شاقّ، وفي الاصطلاح هو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسّ من النّفس العجز عن الإتيان بالمزيد عليه. معجم مصطلح الأصول (1/ 10).

(2)

المبسوط (16/ 112).

(3)

الهداية (3/ 116).

(4)

الهداية (3/ 116).

(5)

ينظر: الجوهرة النيرة (2/ 225).

(6)

سورة البقرة: آية 282.

(7)

سورة البقرة: آية 283.

(8)

سورة البقرة: آية 43.

(9)

سورة الإسراء: آية 78.

(10)

سورة البقرة: آية 185.

(11)

سورة البقرة: آية 185.

(12)

سورة البقرة: آية 283.

(13)

في «ج» : [إن تمسَّك].

(14)

سورة البقرة: آية 282.

(15)

سورة البقرة: آية 283.

ص: 6

وفرضيَّةُ أداء الشَّهادة أمرٌ وجوديِّ، فلابدَّ أن يكون مقتضى فرضيَّة الشَّهادة أمراً لا نهياً؛ لأنَّ بالنَّهي تثبت الحرمات التي مبناها على العدم، لا الأمورُ الوجوديَّة، والأمر المستفاد بضدِّ النهي لا يكون في القوة مثل الأوامر الثَّابتة بالعبادة في اقتضاء الفرضيَّة على القول المختار.

حيث قال في المختصر: وعلى هذا القول يُحتَمَلُ أن يكون النهيُ مقتضياً في ضدِّه إثباتَ سُنَّة يكون في القوة كالواجب، ولهذا قلنا: إنَّ المحرِم لما نُهِيَ عن لُبس المَخِيطِ كان من السنَّة لُبس الإزار والرداء، فعُلِم بهذا أنَّ الأمر المستفاد من ضدِّ النَّهي تثبيت السنَّة لا الواجب المطلق، فضلاً عن الفرض.

قلتُ: ذلك في النَّهي الذي لا يفوت الحرمَة الثَّابتة لصيغته عند استعمال ذلك الضِّدِّ؛ وذلك فيما إذا كان [للنَّهي]

(1)

أضداد، كالنَّهي عن لبس المَخِيطِ، فلا يتعيَّن عليه لُبسِ الإزار عينًا فرضاً، ولا لُبس الرداء عينًا فرضاً، وكالنهي عن القيام لا يتعين عليه وجوب القعود عينًا فرضاً، والاضجاع عيناً فرضاً، فإنَّ بكل واحدٍ منها يتحقَّق الانتهاء، ولا يقع في حرمة نهي القيام.

وأمَّا إذا كان النَّهي نهياً له ضدٌّ واحدٌ، يكون هو في اقتضاء افتراض الضِّد كالأمر الثَّابت بعبارته؛ بل يكون النَّهي حينئذٍ/ ناسخاً لإباحة الضِّدِّ؛ وذلك مثلُ قوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}

(2)

، فهو نسخٌ لكون الكتمان مشروعاً.

في وجوب حضور الشاهد إلى مجلس القضاء وامتناعه عن الشهادة. إنَّما كان هذا هكذا ليتحقَّق موجب النهي، فإنَّ الانتهاء عن الكتمان في قوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

(3)

لا يتحقق إلَّا بأداء الشَّهادة، فكان أداءُ الشَّهادة فرضاً قطعاً كفرضيَّة الانتهاء عن الكتمان؛ بل إيجاب الأمر الوجودي بصيغة النَّهي الذي ليس له إلا ضِدُّ واحدٌ أولى من إيجابه بصيغة الأمر، لِمَا مرَّ أنَّ الوجوب المستفادَ من صيغة النَّهي آكدُ من الوجوب المستفاد من صيغة الأمر

(4)

.

«ثم اعلم أنَّ وجوب أداء الشَّهادة على الشَّاهد فيما إذا كان قريباً إلى مجلس القضاء فظاهرٌ.

(1)

في «ج» : [النهي]، والمثبت هو الصواب.

(2)

سورة البقرة: آية 228.

(3)

سورة البقرة: آية 283.

(4)

يُنظر: تبيين الحقائق (4/ 207)، الأنهر (2/ 185).

ص: 7

وأمَّا إذا كان بعيداً، فقد ذكر في الذَّخيرة

(1)

: سُئِلَ نصير

(2)

/ عن الشَّاهد إذا دُعِيَ إلى الشَّهادة، وهو في الرِّستاق

(3)

إن كان بحال لو حضر مجلس الحكم وشهد، يمكنه الرجوع إلى أهله في يومه، يجب عليه الحضور؛ لأنَّه لا ضرر عليه في الحضور، وإن كان لا يُمكِنُه الرجوعُ إلى أهله في يومه؛ لا يجب عليه الحضور، وإن كان الشَّاهد شَخصاً كبيراً لا يقدر على المشي بالأقدام، وليس عنده ما يركب يُكَلَّفُ المشهود له بدابَّةٍ يركب ويحضر، فلا بأس به، وهذا من إكرام الشُّهود»

(4)

.

«عن (أبي سليمان الجرجاني

(5)

(6)

/ رجل أخرج شهوداً إلى ضَيعَةٍ

(7)

قد اشتراها، واستأجر دوابَّ لهم فركبوها وذهبوا لم تُقبَل شهادتهم»

(8)

.

وفيه نظرٌ؛ فإنَّ العادة جرت أنَّ من أخرج الشَّاهدَ إلى الرُّستاق يعطيه دابَّته، خصوصاً إذا لم يكن للشَّاهد دابَّةً، ويرون ذلك حسناً.

«وسُئل الفقيه أبو بكر

(9)

/، عمَّن امتنع عن أداء الشَّهادة؛ لأنَّ القاضي لا يعرفه.

(1)

ذخيرة الفتاوى المشهورة بـ «الذخيرة البرهانية» ، للإمام برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازه البخاري (ت 616 هـ)، اختصرها من كتابه المشهور بالمحيط البرهاني. يُنظر: كشف الظنون (1/ 823).

(2)

نصير بن يحيى، وقيل نصر البلخي، تفقه على أبي سليمان الجوزجاني، روى عنه: أبو عتاب البلخي، مات سنة 268 هـ/. يُنظر: الجواهر المضية (2/ 200).

(3)

الرستاق: فارسيّ معرّب، ألحقوه بِقرطاسٍ، ويقال: رُزداقٌ ورُسداقٌ، والجمع، الرساتيق، وهى السواد، وهي مدينة بفارس من ناحية كرمان، وربما جعل منها.

يُنظر: الصحاح للجوهري (4/ 1481)، معجم البلدان (3/ 43).

(4)

المحيط البرهاني (8/ 292).

(5)

هو داود بن سليمَان، أبو سليمان الجرجاني مولى قريش: سكن بغداد وحدث بِها عن سليمان بن عمْرو النّخعيّ، وعمرو بن جميع، والنّضر ابن إِسمَاعِيل.

يُنظر ترجمته في: تاريخ بغداد (8/ 362).

(6)

في النسختين: [الجرجاني]، وهذا القول منسوب لأبي سليمان الجوزجاني في المحيط البرهاني (8/ 292).

(7)

الضَّيعة: العَقَارُ خلاف المنقول من الأموال. التعريفات الفقهية (1/ 134).

(8)

المحيط البرهاني (8/ 292).

(9)

هو محمد بن أحمد، أبو بكر الإسكاف البلخي، كان إماماً كبيراً، أستاذ أبي جعفر الهندواني، تتلمذ عليه وبه انتفع، وعليه تخرج، توفي سنة 336 هـ، وقيل: 333 هـ، وقيل: 335 هـ.

يُنظر: الجواهر المضية (2/ 239)، الفوائد البهية (263 - 264)، الطبقات السنية رقم (1873).

ص: 8

قال: إن علم أنَّ القاضي لا يقبل شهادته نرجو أن يَسِعَه أن لا يشهد»

(1)

.

«وفي كراهية العيون

(2)

: إذا امتنع الشَّاهد عن الشَّهادة، فإن كان في الصَّكِّ

(3)

جماعةٌ ممَّن تُقبَل شهادتهم سواه، فأجابوه يَسِعُهُ أن يمتنع عن الشَّهادة

(4)

، وإن لم يكن في الصَّكِّ جماعةٌ ممَّن يقبل شهادتهم سواه، أو كانوا؛ لكن ممَّن لا يظهر الحق بشهادتهم، أو كان يظهر؛ لكن شهادة هذا الشَّاهد أسرع قَبُولاً لم يَسِعهُ الامتناع؛ لأنَّه عسى يَضِيع حقُّ المشهود له، لو امتنع عن الشَّهادة»

(5)

.

«وفي شرح [سرقة]

(6)

لشيخ الإسلام: إن كان في حقوق العباد إذا طلب المدَّعِي الشَّاهد ليشهد له فأخَّر من غير عذر ظاهر، ثم أدَّى لا تُقبَل شهادته.

وأشار إلى المعنى، فقال: لما ترك الأداء مع إمكان الأداء، فقد احتمل أنَّه ترك الأداء بعذرٍ، بأن نَسِيَ، أو كان له شُغُلٌ مانعٌ، واحتمل أنَّه ترك الأداء؛ لأنَّه أراد على الأداء أجراً، ولم يُسلِّم له الأجر، فإذا أخذ الأجر بعد ذلك أدَّى، فيتمكَّن في شهادته نوع تهمةٍ، والتُهمة مانِعةُ قَبُول الشَّهادة»

(7)

.

{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

(8)

: لم يقتصر على قوله آثمٌ؛ لزيادة التَّأكيد لما أنَّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ من الإسناد إلى الجملة.

(1)

المحيط البرهاني (8/ 293).

(2)

كتاب العيون، هو كتاب:«عيون المسائل» للفقيه أبي الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي المتوفى: 373 هـ، وقد حققه دكتور: صلاح الدين الناهي، وطبعته مكتبة أسعد ببغداد سنة 1386 هـ.

(3)

الصَكُّ: في اللغة: الضرب الشديد بالشيء العريض، وقيل: الضرب عامة بأي شيء كان، والجمع: صكوك، وأصك، وصكاك. وقيل الكتاب الذي يكتب في المعاملات والأقارير.

ينظر: لسان العرب (10/ 456)، مادة:«صكك» ، المخصص لابن سيده (2/ 64). المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 345)

وفي الاصطلاح: هو الكتاب الذي يكتب فيه المعاملات والأقارير، ووقائع الدعوى. معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية (2/ 375).

(4)

عيون المسائل (1/ 483).

(5)

المحيط البرهاني (8/ 293).

(6)

لم أقف على هذا الاسم في الشروح، والكلام بهذا النص في المحيط البرهاني (8/ 293)، والكلام نقله ابن الشحنة في كتاب لسان الحكام (1/ 240)، قال: «وَفِي شرح شيخ الاسلام/ إِن فِي حُقُوق العباد

».

(7)

المحيط البرهاني (8/ 293).

(8)

سورة البقرة: آية 283.

ص: 9

ألا تراك تقول إذا أردت التَّوكيد هذا ممَّا أبصرَتهُ عيني، ومما سمِعَتهُ أذني؛ ولِأنَّ القلب رئيسُ الأعضاء، والمُضغَةُ التي إن صلُحَت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه.

ولأنَّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، ألا ترى أنَّ أصلَ الحسناتِ والسَّيئات الإيمانُ والكفرُ، وهما من أفعال القلوب، فلما جعل كتمان الشَّهادة من آثام القلوب، كان هو مشهودًا بأنَّ الكتمان من أعظم الذنوب

(1)

.

‌تخيير الشاهد بين الستر والكتمان في الشهادة في الحدود

.

«والشَّهادة في الحدود يُخَيَّرُ فيها الشَّاهدُ، بين السَّتر والإظهار»

(2)

.

فإن قيل: هذا الذي ذكره معارض لإطلاق قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

(3)

، وغيره من النصوص المقتضية لوجوب الشَّهادة، فيما له الشَّهادة، قلنا: هذه الآية محمولةٌ على الشَّهادةِ في حقوق العباد؛ بدليل سياق الآية، وهي آية المُداينَةِ بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}

(4)

إلى أن قال: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ}

(5)

، وقال:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

(6)

.

فكان الحديث المذكور، والدَّليل العقليُ في اقتضاء السَّتر سالمين عن المعارضة، ثم إنَّهما يَدلَّان على التَّخيير، وأفضلية الستر على ما هو المذكور في الكتاب

(7)

.

والمعنى فيه أنَّ الستر والكتمان إنَّما يحرم لخوف فوت حق المدَّعي، المحتاج إلى إحياء حقِّه من الأموال، وذلك في حقوق العباد، وأمَّا الحدودُ فحقُّ الله تعالى، وهو تعالى موصوف بالغنى والكرم، وليس فيه خوفُ فوتِ حقِّه، فجاز لذلك على الشاهد أنْ يختار جانب السَّتر، وكان هو أفضل صيانةً لهتك عرض أخيه المسلم.

إلَّا أنَّه يجب أن يشهد بالمال في السَّرقة، فيقول: أخذ ولا يقول: سرق؛ لأنَّه اجتمع فرضيَّةُ أداء الشَّهادة مع أفضليَّة ترك الأداء، وفي هذا الوجه الذي ذكر عمل بهما، فكان هذا الوجه أولى في الأداء، وأمَّا إذا اختار جانب إقامة حد السَّرقة، فلا يشهد هكذا، بل يشهد أنَّه سَرَقَ.

(1)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 100).

(2)

الهداية (3/ 116).

(3)

سورة البقرة: آية 283.

(4)

سورة البقرة: آية 282.

(5)

سورة البقرة: آية 282.

(6)

سورة البقرة: آية 283.

(7)

يراد بإطلاق هذا اللفظ عند الحنفية أشهر المتون لديهم، وهو مختصر القدروي.

ينظر: كشف الظنون (2/ 1619).

ص: 10

«منها الشَّهادة/ في الزِنا يُعتَبَرُ فيها أربعةٌ من الرِّجال»

(1)

.

ففي اشتراط الأربع يحتمل أن يكون المعنى فيه هو أنَّ الزِّنا فعلٌ يتحقَّق باثنين، وهو ما يندرئ بالشُّبهات، فاشتراط الأربعة لا الخمسة لا الثَّلاثة ليكونا على كل واحدٍ من الزانيين شاهدان، كما في سائر المواضع؛ إلَّا أنَّه اشترط اجتماع الأربعة هاهنا لقَبُول الشَّهادة تحقيقاً لجانب السَّتر.

وذكر في المبسوط: «ولا يشترط عدد الأربعة فيما سوى الزنا، العقوبات وغيرُ العقوبات في ذلك سواءٌ؛ وليس في ذلك معنى سِوَى أنَّ الله تعالى يحب السَّتر على عباده، ولا يرضى بإشاعة الفاحشة، ولذلك شَرَطَ في الزِّنا زيادة العدد في الشُّهود، ولهذا جعل النِّسبَة إلى هذه الفاحشة في الأجانب موجباً للحدِّ، وفي الزوجات موجباً للِّعان، بخلاف سائر الفواحش، ليستر العبادُ بعضُهم على بعضٍ.

وبيان ذلك في حديث ماعزٍ

(2)

رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «هَلَّا سَتَرتَهُ بِثَوبِكَ»

(3)

.

وفي بعض الروايات: «بئس والي اليتيم أنت»

(4)

»

(5)

.

والخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ والدليل أنَّ المراد بالخليفتين أبي بكر وعمر صريحُ رواية الأسرار

(6)

بذكرهما.

(1)

قال في الهداية (3/ 116): «والشهادة على مراتب: منها الشهادة في الزنا يعتبر فيها أربعة من الرجال

».

(2)

ماعز بن مَالِك الأسلمي، معدود فِي المدنيين، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بإسلام قومه، وَهُوَ الَّذِي اعترف على نفسه بالزنا تائباً منيباً، وَكَانَ محصناً فرجم، روى عَنهُ ابنه عَبد اللَّهِ بن ماعز حديثاً واحداً. يُنظر ترجمته في: الاستيعاب (3/ 1345)، أسد الغابة (5/ 6)، الإصابة (5/ 521).

(3)

أخرجه: أحمد في المسند (5/ 214)، رقم (21943)، وأبو داود في سننه (4/ 233)، كتاب الحدود، باب في الستر على أهل الحدود، رقم (4379)، والحاكم في المستدرك (4/ 403) كتاب الحدود، رقم (8080)، و صحح إسناده، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة (7/ 1356)، رقم (3460).

(4)

أخرجه: الحميدي في مسنده (1/ 201)، رقم (89)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 331)، رقم (18067)، وعبد الرزاق في المصنف (7/ 370)، رقم (13519)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 276):«فيه أبي ماجد الحنفي ضعيف» .

(5)

المبسوط (16/ 114).

(6)

هو كتاب الأسرار للإمام أبي زيد الدبوسي، المتوفى سنة 430 هـ.

وهو أبو زيد عبد الله بن عمر بن عيسى الدّبوسيّ- نسبة إلى دبوسة، وهي بليدة بين بخارى وسمرقند- الفقيه، الحنفي، القاضي، العلامة، كان من كبار أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله ممن يضرب به المثل، وهو أوَّل من وضع علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود، وله كتاب:«الأسرار» و «التقويم للأدلة» وغيره من التصانيف والتعاليق، كانت وفاته بمدينة بخارى سنة 430 هـ،/.

يُنظر ترجمته في: وفيات الأعيان (3/ 48)، سير أعلام النبلاء (18/ 521)، الجواهر المضية (1/ 339).

ص: 11

وإنَّما خصَّهما بالذكر؛ لأنَّ تمهيدَ قواعد شرائع الإسلام، وإظهارَ طُرُقِ الأحكام كان أكثر في خلافتهما

(1)

، لورود حديثٍ خاصٍ في حقِّهما بقوله صلى الله عليه وسلم:«اقتَدُوا بِاللَّذَينِ مِن بَعدِي أَبِي بَكرٍ وَعُمَرَ»

(2)

رضي الله عنهما.

«ولأنَّ فيهما شبهَةَ البدليَّة»

(3)

.

ففي مواضع الاحتياط أُلحِقَت الشُّبهَةُ بالحقيقة، كما في مسائل الرِّبا.

ثم حقيقة البدليَّة لا تُعتبر في الحدود، وهي الشَّهادة على الشَّاهد، فكذا شبهتها

(4)

.

وإنَّما قلنا إنَّ في شهادة النِّساء شبهة البدليَّة لا حقيقتها؛ لما أنَّ حقيقة البدليَّة هي التي لا اعتبار للبدل عند إمكان العمل بالأصل، كما في التيمُّم مع الوضوء، والكفارة بالصوم عند إمكان الكفارة بالمال في كفارة اليمين.

وههنا فيما جاز فيه شهادة النِّساء جازت شاهدتهن مع إمكان شهادة الرجال؛ فلا يكون في شهادتهن حقيقة البدليَّة؛ لكن فيهما شبهة البدليَّة صورةً، فإنَّ قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}

(5)

خرج على مشابهة قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}

(6)

، حيث اشترط جواز العمل بالثَّاني من حيث الظَّاهر عند عدم إمكان العمل بالأول في الآيتين جميعاً، فكانتا متماثلتين في اقتضاء البدليَّة من هذا الوجه.

ثمَّ البدليَّةُ في الآيَة الثَّانية حقيقةً، فكان الأول شبهتها لا محالة إذ لا يمكن في شهادتين إجراءُ حقيقة البدليَّةِ لما قلنا في جواز شهادتهن عند إمكان شهادة الرجال في غير الحدود والقصاص

(7)

.

«ومنها الشَّهادةُ ببقيَّةِ الحدود، كحد الشٌّرب، والسَّرقة، يقبل فيها شهادة رجلين، [لقوله]

(8)

تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ}

(9)

»

(10)

.

(1)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 105).

(2)

أخرجه: أحمد في المسند (5/ 385)، رقم (23324)، والترمذي في سننه (5/ 609)، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر و عمر رضي الله عنهما كليهما، رقم (3662)، وقال:«حديث حسن» ، والحاكم في المستدرك (4/ 370)، رقم (7952)، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (7/ 476)، رقم (10755)، وحسنه ابن الملقن في البدر المنير (9/ 578)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 233)، رقم (1233).

(3)

الهداية (3/ 116).

(4)

البناية شرح الهداية (6/ 358).

(5)

سورة البقرة: آية 282.

(6)

سورة المائدة: آية 89.

(7)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 369).

(8)

في «ج» : [كقوله].

(9)

سورة البقرة: آية 282.

(10)

الهداية (3/ 116).

ص: 12

فإن قيل: هذا النصُّ ورد في المداينات لما مرَّ، فكيف يكون حجَّةً في الحدود والقصاص.

قلنا: فيه شيئان: اشتراط عدد الاثنين، والذُّكورة، فلما اختصَّ باب الزِّنا بالأربع من الرجال؛ لقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}

(1)

، لا يلحق به غيره في حق العدد بالقياس لوجوٍه، وهي أنَّ القياس لا يجري في المقادير والأعداد.

والثاني: أنَّ القياس لا يجري في الحدود.

والثالث: عدم مساواة غيره به؛ لما ذكرنا أن مجرد النسبة إلى الزِّنا موجب للعقوبة المقدرة، بخلاف سائر الكبائر، فلا يجري القياس.

فلمَّا انحطَّ درجة غير الزِّنا من الحدود، ولم يكن بُدٌ من إظهار انحطاطه في عدد الشَّهادة، وليس ذلك الاثنين لعدم ورود الشَّرع في الثلاث؛ فتعين عدد الاثنين لذلك.

وأمَّا اشتراطُ الذكورة

(2)

فلحديث الزهري

(3)

المذكور في الكتاب

(4)

.

ولعموم قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}

(5)

لما أنَّ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.

حتَّى إنَّ هذه الآية جُعِلَت حجَّةً في غير المدايَنات من الحقوق، سواءٌ كان مالاً أو غير مال، فجعلت حجَّةً أيضاً في الحدود.

(1)

سورة النساء: آية 15.

(2)

قال في الهداية (3/ 116): «ولا تقبل فيها شهادة النساء

».

(3)

محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري من قريش، أبو بكر المدني، أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام، انتهت إليه رئاسة العلم والفتيا في وقته، فكان نظير ابن المسيب قبله، سكن الشام، هو أول من دوَّن الأحاديث النبوية، ودوَّن معها فقه الصحابة، رأى عشرة من الصحابة، وروى عنه جماعة من الأئمة: منهم مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وكان قد حفظ علم الفقهاء السبعة، مات رحمه الله سنة 124 هـ.

ترجمته في: الطبقات الكبرى (2/ 296)، وفيات الأعيان (4/ 177)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 90)، سير أعلام النبلاء (5/ 326)، الوافي بالوفيات (5/ 17).

(4)

قال في الهداية (3/ 116): «

لحديث الزهري رضي الله عنه: مضت السنة من لدن رسول الله عليه الصلاة والسلام والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص».

أخرجه: عبد الرزاق في المصنف (8/ 33)، رقم (15/ 427)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/ 329)، رقم (20708)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 202)، رقم (21388)، وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (8/ 295)، رقم (2682).

(5)

سورة البقرة: آية 282.

ص: 13

ولأنَّ الحدود من الحقوق التي تثبت مرَّةً بالإقرار، ومرَّةً بالشُّهود بالإجماع، ولا حقوق تثبت شرعاً بالشُّهود التي فوق الاثنين سوى حد الزِّنا؛ فتعيَّنَ ثبوتُ سائر الحقوق بالاثنين من الشهود من سائر الحقوق بقية الحدود، فتعينت شهادة رجلين.

وذكر في المبسوط: «ثم القياس أن يُكتَفَي بشهادة الواحد؛ لأنَّ رُجحان جانب الصِّدق يظهرُ في خبر الواحد بصفة العدالة؛ ولهذا لو كان خبر الواحد العدلِ موجباً للعلم - وكما لا يثبت علم اليقين بخبر الواحد لا يثبت بخبر العدد، ما لم يبلغ حد التواتر- فلا معنى لاشتراط العدد؛ ولكن تركنا ذلك بالنُّصوص التي فيها بيانُ العدد في الشَّهادات المطلَّقة، كقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ}

(1)

.

فإن قيل: في هذه النصوص/ جواز بيان العمل بشهادة العدد، وليس فيها بيان نفي ذلك بدون العدد، قلنا: في هذه النصوص جوازُ بيان العمل بشهادة العدد [قلنا: لا]

(2)

كذلك فالمقادير في الشَّرع إمَّا لمنع الزيادة والنقصان، أو لمنع النقصان دون الزيادة، كأقل مدَّةِ الحيض والسَّفر، أو لمنع الزيادة دون النقصان، كأكثر مدَّة الحيض؛ وهذا التقدير ليس لمنع الزيادة، فلو لم يفد منع النقصان لم يبق لهذا التقدير فائدة، وحاشا أن يكون التقدير المنصوص خالياً عن الفائدة»

(3)

.

وقوله: «لما ذكرنا» إشارة إلى حديث الزهري، وما ذكره من شبهة البدليَّة.

وقوله: «والوصيَّة» ؛ أي: الوصاية؛ لأنَّه في تعداد غير المال.

«ونحو ذلك» كالعتاق، والنسب وتوابعها، كالإعارة، والإجارة، والكفالة، والأجل، وشرط الخيار كذا

(4)

، في مبسوط شيخ الإسلام.

ثم المعنى في اشتراط عدد الاثنين في هذه الحقوق، أمَّا في الأموال فإنَّ المدَّعِي مع الشَّاهد الواحد يكون معارضاً لصاحب اليد؛ لأنَّ صاحب اليد ترجَّحَ على المدَّعِي بيده؛ لأنَّ الأصل أنَّ الأملاك في يد المُلَّاك، فلما شَهِدَ للمدَعِي رجلٌ واحدٌ صارت دعواه مع دعوى صاحب اليد متعارضين؛ لأنَّ اليد دليل الملك، وكذلك شهادة الواحد أيضاً دليل الملك.

ولما انضمَّ إليه شاهدٌ آخرُ؛ ترجَّحَ جانبُ المدَّعِي فحَكَم القاضي له.

فلما كان لا يثبت ترجح جانب المدعي إلا باثنين، تعيَّن ذلك العدد فيه، وكذلك في الدُّيون والنَّسب، لما أنَّ الأصل فراغ الذِّمَمِ، والصِّدق في الخبر؛ فتعادل المدعِي مع المدَّعَى عليه شاهد واحد، فيترجَّح بانضمام شاهد آخر إليه.

(1)

سورة الطلاق: آية 2.

(2)

في «ج» : [لا].

(3)

المبسوط (16/ 112).

(4)

يُنظر: البناية شرح الهداية (7/ 370).

ص: 14

وقوله: «إلا أنَّها قُبِلت في الأموال» : استثناء من قوله: «لأن الأصل فيها» ؛ أي: في شهادة النِّساء عدم القَبُول إذ بالأول؛ أي: بالشَّهادة يحصل العلم بالشَّاهد، وبالضَّبط يبقى العلم وللشَّاهد بأداء الشَّهادة ويحصل العلم للقاضي.

‌أسباب التحمل والأداء في الشهادة

ثمَّ اعلم أنَّ في لفظ الكتاب نوع إخلال، فإنَّه قال:«لوجود ما يبتنى عليه أهليَّة الشَّهادة، وهي: المشاهدة، والضَّبطُ، والأداء»

(1)

، حيث فسَّر أهليَّة الشَّهادة، في هذه الأشياء الثَّلاثة، وهي المشاهدة، والضبط، والأداء، وبهذه الأشياء بعد لا تثبت أهليَّة الشَّهادة؛ بل أهليَّةُ الشَّهادة إنَّما تثبت بالولاية، وهي: الحريَّةُ، والإسلام، والبلوغ.

وهذه الأشياء التي ذكرها في الكتاب، أسباب التحمُّل والأداء عند القاضي، ألا ترى أنَّ هذه الأشياء الثَّلاثة أعني: المشاهدة، والضبط، والأداء حاصلة للعبد، والصبي العاقل، والكافر، ولا شهادة لهم، اللهم إلَّا إذا جعلت هذه الأشياء الثَّلاثة تفسيراً للاسم الموصول المبهم في قوله: «لوجود ما [يُبتَنَى]

(2)

عليه»؛ فحينئذٍ يجب أن يقول: «وهو المشاهدة .. » إلى آخره.

والنُّسخة المصححة بتصحيح شيخي

(3)

رحمه الله كانت: «وهي» .

والصحيح هو ما ذكره في الأسرار حيث قال: ولأن الإنسان إنَّما يصير شاهداً بكونه وليَّاً ولاية مبنية على الحريَّةِ، والإرث والنِّساء في هذا مثل الرجال

(4)

.

والقَبُول يُبتَنَى على العدالة وانتفاء التُّهمة بالكذب، وللنِّساء عدالةٌ مثل الرجال

(5)

.

(1)

الهداية (3/ 117).

(2)

في «س» : [يبنى].

(3)

كلما ذكر السنغاقي هذا في شرح الهداية من لفظة الشيخ؛ فالمراد به حافظ الدين البخاري. المنهل الصافي (5/ 165).

وهو مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن نصر، الإِمَام حَافظ الدّين البُخَارِيّ أَبُو الْفضل كَانَت وِلَادَته في حُدُود سنة 615 هـ ببخارى، تفقه على شمس الأئمة مُحَمَّد بن عبد الستار الكردري، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْأَدَب وَسَائِر الْعُلُوم، قال في الجواهر المضية: كَانَ إِمَامًا، عَالماً، ربانياً، صمدانياً، زاهداً، عابداً، مفتياً، مدرساً، نحريراً، قَاضِياً، محققاً، مدققاً، مُحدثاً، عارفًا بالفقه والأصلين، والتّفسير، سخيًّا، جوادًا، مشفقا على الطَّلبة حجّ، ودخل الشَّام وعاد إلى بلاده، تُوُفّي فِي شعبان. سنة 693 هـ وَدفن بكلاباذ.

ينظر: الجواهر المضية (2/ 122)، تاريخ الإسلام للذهبي (15/ 763).

(4)

يُنظر: البناية شرح الهداية (7/ 370).

(5)

يُنظر: فتح القدير (7/ 371).

ص: 15

ونقصان الضَّبط بزيادة النسيان جوابٌ عن قول الشَّافعي

(1)

بقوله:

«الأصل فيها عدم القَبُول؛ لنقصان العقل، واختلال الضبط» ، فقال:«ذلك النقصان انجبر بضم الأُخرى إليها»

(2)

.

فإن قلتَ: هذا العدد في الجواب منقوضٌ بشهادتهنَّ في النِّكاح؛ فإنَّ اشتراط الشَّهادة في النكاح ليس لخوف النِّسيان، فإنَّ المقصودَ منه حضور من هو أهلٌ للشِّهادة وقت النِّكاح، ولا يتصور النسيان في الحضور بعدما حضر، فكان ينبغي أن ينعقد النِّكاح في شهادة رجلٍ وامرأةٍ واحدةٍ بحصول عدد الاثنين، والأمر عن خوف النسيان.

قلتُ: هذا إشكالٌ ذكره الإمام شمس الأئمة السَّرخسي

(3)

رحمه الله في نكاح المبسوط، ثم قال: «ولكنَّا نقول قد ثبت بالنَّصِّ أنَّ المرأتين شاهدٌ واحدٌ، فكانت المرأة الواحدة نصف شاهد ونصف الشَّاهد لا يثبت شيئاً.

ولهذا لو شهد رجلانِ وامرأةٌ، ثم رجعوا؛ لم تضمَن المرأة شيئاً»

(4)

.

بخلاف ما لو شهد ثلاثة من الرِّجال، أو رجلان وامرأتان؛ فلم يبقى بعد ذلك إلا الشبهة؛ أي: شبهة البدليَّة، وتلك غير مانعة في النِّكاح والأموال.

وهذه الحقوق إشارة إلى ما ذكره بقوله: «مثل النكاح، والطلاق، والوكالة، والوصية»

(5)

.

تثبت مع الشُّبهات، أمَّا النِّكاح والطَّلاق فَظاهرٌ؛ لأنَّهما يثبتان مع الهَزلِ والإكراه، ولا يحتملان التراخي مع خيار الشَّرط بخلاف الأموال، حيث لا يثبت البيع والإجارة والمضاربة وغيرها مع الهزل؛ فلما تثبت هذه الأشياء، أعني: البيع وأمثاله بشهادة النِّساء عند اختلاط الرجال، مع أنَّها لا تثبت بالهزل؛ فلِأَن يثبت بشهادتهن النكاح والطلاق وهما يثبتان بالهزل بالطريق الأولى/

(6)

.

(1)

قال الشافعي/ في الأم (6/ 260): «وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَلَا مُنفَرِدَاتٍ إلَّا فِي مَوضِعَينِ أَن يَشهَدنَ عَلَى مَالٍ لَا غَيرِهِ مَعَ رَجُلٍ أَو يَشهَدنَ عَلَى مَا يَغِيبُ مِن أَمرِ النِّسَاءِ مُنفَرِدَاتٍ» .

(2)

الهداية (3/ 117).

(3)

محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السَّرخسِي، صاحب المبسوط وغيره أحد الفحول الأئمة الكبار أصحاب الفنون، كان إماماً، علامةً، حجةً، متكلماً، فقيهاً، أصوليًّا، مناظراً، ينسب إلى سرخس، بلدة قديمة من بلاد خراسان، أخذ الفقه والأصول عن شمس الأئمة الحلواني، من تصانيفه:«المبسوط» ، و «الأصول» المعروف بأصول السرخسي، و «شرح السير الكبير» في الفقه، توفي سنة 483 هـ.

يُنظر ترجمته في: الجواهر المضية (2/ 28)، تاج التراجم (2/ 44)، الفوائد البهية (ص 158)، الأعلام (6/ 208).

(4)

المبسوط (5/ 33).

(5)

الهداية (3/ 117).

(6)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 327)، البناية شرح الهداية (9/ 108).

ص: 16

وأمَّا الوِكَالة والوصيَّة والأموال؛ فإنَّه يجري فيها كتاب القاضي إلى القاضي، والشَّهادة على الشَّهادة، فبداية ثبوتها مع الشُّبهات، فيثبت بذلك شهادة النِّساء أيضاً، وإن كان فيها شبهة البدليَّة، إذ الشبهة تثبت بالشُّبهة، كحرمة النِّساء تثبت مع أحد وصفَي علَةِ الرِّبا، وقد ذكرناه في الرِّبا.

‌في تخصيص النساء بالشهادة

«وتُقبَل في الولادة، والبَكارة، والعيوب بالنساء في موضع لا يطَّلع عليه الرجال شهادةُ امرأةٍ واحدةٍ»

(1)

.

ثمَّ اعلم أنَّه ذكر ههنا ثلاثة أشياء، ثُمَّ خَصَّ شهادة امرأةٍ واحدةٍ.

وهذا التَّخصيص صحيحٌ في حقِّ البَكارة لا في حق الولادة والعيوب، فإنَّ شهادة رجلٍ واحدٍ تُقبَل أيضاً فيهما؛ لأنَّه ذكر في الإيضاح مطلقاً بقوله: وتُقبَل شهادة رجلٍ واحٍد على الولادة؛ لأنَّه إذا جاز قَبُول شهادة امرأةٍ واحدةٍ فقَبُول شهادة رجلٍ واحدٍ أولى

(2)

.

وكذا ذكر في باب شهادة النِّساء من شهادات المبسوط

(3)

.

وقال: «ولم يذكر في الكتاب أنَّه لو شهد بذلك»

(4)

؛ أي: بالولادة والعيب في موضع لا يطَّلع عليه الرجال رجلٌ واحدٌ.

«بأن قال: فاجأتها فاتفق نظري إليها.

والجواب: أنَّه لا يمتنع قَبُول شهادته إذا كان عَدلاً في مثل هذا الموضع.

ثمَّ الصَّحيح أنَّه لا يشترط العددُ؛ لأنَ شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة، فلمَّا ثبت المشهود به ههنا شهادة امرأةٍ واحدةٍ؛ فبشهادة رجل واحد أولى.

وقد قال بعض مشايخنا: إنَّه قال: وإن قال تعمدتُ النَّظر، تُقبَل شهادته، وفي ذلك كما في الزِّنا»

(5)

.

«وأمَّا الاستهلال

(6)

فإنِّي لا أقبل فيه شهادة النِّساء إلا في الصَّلاة عليه، وأمَّا في الميراث، فلا أقبل في ذلك أقلَّ من رجلين، أو رجل وامرأتين في قول أبي حنيفة رحمه الله.

وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله-: تُقبَل في ذلك شهادة امرأةٍ واحدةٍ حرةٍ مسلمةٍ عدلَةٍ»

(7)

.

(1)

الهداية (3/ 117).

(2)

يُنظر: المبسوط (16/ 144)، بدائع الصنائع (6/ 278).

(3)

يُنظر: المبسوط (16/ 144).

(4)

المبسوط (16/ 144).

(5)

المبسوط (16/ 144).

(6)

الاستهلال: مصدر استهل، واستهل الهلال: ظهر، واستهلال الصبي: أن يرفع صوته بالبكاء عند ولادته، وكل شيء رفع صوته فقد استهل، وبه سمي الهلال هلالاً، لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته، والاهلال بالحج: رفع الصوت بالتلبية.

ينظر: أساس البلاغة للزمخشري (700)، مادة:«هلل» ، طلبة الطلبة للنسفي (ص 88)، معجم لغة الفقهاء (ص 66).

(7)

المبسوط (16/ 144).

ص: 17

قوله

(1)

صلى الله عليه وسلم: «شهادة النساء

»

(2)

إلى أن قال: «والجمع المحلَّى باللام يُراد به الجنس»

(3)

.

فيتناول الأقل، وهذا مما يُحفظ في إبطال الألف واللَّام في معنى الجمعيَّة، وإن كان ذكر الجمع في موضع الإثبات، وكان رداً لقوله: بعض الأحداث أنَّ ما ذكر في أصول الفقه لفخر الإسلام

(4)

وغيره بقوله: «وقد يصير هذا النوع-أي: العام بصيغة الجمع- مجازاً عن الجنس إذا دخله لامُ التَّعريف»

(5)

، هذا إذا كان في موضع النفي.

فأمَّا إذا كان في موضع الإثبات فمعنى الجمعيَّة لا يبطل بدخول الألف واللام؛ لاطراد النظائر

(6)

على ما ادَّعاه طرداً وعكساً

(7)

.

وأمَّا الطَّرد، ففي قوله تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}

(8)

، وقول من قال: لا اشتري العبيد ولا أتزوج النِّساء، وكذلك قولهم: إن تزوجت النِّساء أو اشتريت العبيد؛ لمَا أن موضع الشَّرط موضع النفي؛ لأنَّ الشَّرط إنما يكون في أمر معدوم، وأمَّا عكسه ففي مسألة الخلع

(9)

، والإقرار، والوصيَّة

(10)

في قولها: اخلعني على ما في يدي من الدَّراهم، وقوله لفلان عليَّ من الدَّراهم

(11)

.

(1)

سقط من: «ج» .

(2)

قال في الهداية (3/ 117): «لقوله عليه الصلاة والسلام: «شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه» .

والحديث تقدم تخريجه وذكره من رواية الزهري، ص (96).

(3)

الهداية (3/ 117).

(4)

عَليّ بن مُحَمَّد بن الحُسَين بن عبد الكَرِيم بن مُوسَى بن عِيسَى بن مُجَاهِد، أَبُو الحسن المَعرُوف بفخر الإِسلَام البَزدَوِيّ، الفَقِيه، الإِمَام، الكَبِير، صاحب الطريقة في المذهب، له مصنفات منها:«المبسوط» ، و «كنز الوصول» ، المعروف بأصول البزدوي، و «تفسير القرآن» ، توفي سنة 478 هـ.

يُنظر: ترجمته في: سير أعلام النبلاء (18/ 602)، الجواهر المضية (1/ 327)، تاج التراجم في طبقات الحنفية (2/ 15).

(5)

أصول البزدوي ص (67).

(6)

النظائر: جمعُ النظير، وهو المثلُ والمساوي من المسائل وغيرها، يقال: هذا نظيرُ هذا. التعريفات الفقهية (1/ 229).

(7)

يُنظر: شرح التلويح على التوضيح (1/ 99).

(8)

سورة الأحزاب: آية 52.

(9)

الخلع: هو أن تفتدي المرأة نفسها بمال ليخلعها به، فإذا فعل؛ لزمها المال ووقعت تطليقة بائنة. الاختيار لتعليل المختار (3/ 156).

(10)

الوصية: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت والمملك هو الموصي ولمن له التملك هو الموصى له. ينظر: التعريفات الفقهية (ص 237).

(11)

يُنظر: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/ 128).

ص: 18

وقوله: أوصيت لفلان بالدَّراهم، حيث ينصرف إلى ثلاثة دراهم في هذه [الصور]

(1)

الثلاث؛ لأنَّها أقلُّ جمع عُلم بها أنَّ معنى الجمعيَّة في الجموع إنَّما يبطل بدخول الألف واللام إذا كان في موضع النفي لا في موضع الإثبات، وهذا الذي قاله يتراءى مستقيماً من حيث اتفاق النظائر واستقامتها؛ لكن ما ذكره من الدَّليل في أصول الفقه في بطلان معنى الجمعية بدخول الألف واللام، لا يفرق بين أن يكون في موضع الإثبات أو في موضع النفي، وهذا الذي ذكره في الكتاب بيِّن بأن الحكم في موضع الإثبات أيضاً كذلك

(2)

.

وذكر في المبسوط

(3)

أيضا كما ذكر في الكتاب، وبنى العدد عما استدلوا ببقاء معنى الجمعيَّة في مواضع الإثبات التي ذكروها لو وفقنا الله تعالى بفضله ورحمته بعد إتمام ما نحن فيه على الشرح الكافي لأصول الفقه، لفخر الإسلام إن شاء الله تعالى، وهو الميسر بكل عسير، وعلى كل ما يشاء قدير.

«وهو حُجَّةٌ على الشَّافعي في اشتراط الأربع»

(4)

.

وعلى ابنِ أبي ليلى

(5)

في اشتراط الاثنين، ذكره في المبسوط

(6)

.

وذكر في الإيضاح مالكاً مكان ابن أبي ليلى

(7)

.

(1)

في «ج» : [الصورة].

(2)

يُنظر: المحيط البرهاني (4/ 226)، البحر الرائق (4/ 370).

(3)

يُنظر: المبسوط (16/ 143).

(4)

الهداية (3/ 117).

(5)

هو أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار الأنصاري، الكوفي، الإمام، الحافظ، ولد لست بقين من خلافة عمر رضي الله عنه، من أكابر تابعي التابعين سمع من علي، وعثمان، وأبي بن كعب، وغيرهم، أدرك عشرين ومائة من الصحابة، وروى عنه: ابنه عيسى، وابن ابنه عبد الله بن عيسى، والشعبي، والأعمش، وغيرهم، اتفق على توثيقه وجلالته، كان أصحابه يعظمونه كأنَّه أمير، توفي/ سنة 82 هـ، وقيل: 83 هـ.

يُنظر: الطبقات الكبرى (6/ 166) وما بعدها، وفيات الأعيان (3/ 126)، تهذيب التهذيب (6/ 260) وما بعدها، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 304)، تاريخ بغداد (10/ 197).

(6)

يُنظر: المبسوط (16/ 143).

(7)

يُنظر: بدائع الصنائع (6/ 278)، تبيين الحقائق (4/ 209).

ص: 19

‌قيام النساء مقام الرجال في الشهادة

فالشَّافعيُّ يقول

(1)

: كل امرأتين تقومان مقام رجلِ واحدِ في الشَّهادة كما في المدايَنات؛ ولهذا استدل ابنُ أبي ليلى، إلَّا أنَّه يقول: المعتبر في الشَّهادات شيئان: العدد والذكورة

(2)

.

وقد تعذَّر اعتبارُ أحدهما، وهو الذكورة ههنا، ولم يتعذَّر اعتبار العدد، فيبقى معتبراً كما في سائر الشَّهادات.

وحجَّتُنا في ذلك حديث حذيفة

(3)

رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أَجَازَ شَهَادَةَ القَابِلَة

(4)

ِ»

(5)

على الوِلادة.

وقال: «شَهَادَةُ النِّساء جَائِزَة ٌفِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيهِ الرِّجَالُ»

(6)

.

والنِّساء اسمُ جنس، فيدخل فيه أدنى ما/ يتناول الاسم.

«ولأنَّه إنَّما سقطت الذكورة ليخفف النَّظر؛ لأنَّ نظر الجنس [إلى الجنس]

(7)

أخفُّ»

(8)

.

وذكر في استحسان المبسوط: «وإذا أصاب امرأةً قرحَةٌ

(9)

في موضع لا يحل للرجل أن ينظر إليه، لا ينظر إليه؛ ولكن علمت امرأةٌ دوائها لتداويها؛ لأنَّ نظر الجنس إلى الجنس أخفُّ.

ألا ترى أنَّ المرأةَ تُغسِّل المرأة بعد موتها دون الرجل، وكذلك في امرأة الِعنِّينِ

(10)

تَنظُرُ إليه النِّساء»

(11)

.

(1)

ينظر: الأم (5/ 36)، الحاوي الكبير (11/ 402).

(2)

يُنظر: المبسوط (16/ 143)، تبيين الحقائق (4/ 209).

(3)

هو حذيفة بن اليمان -اليمان: لقب حِسل- بن جابر العبسيّ، أبو عبد الله، صحابي جليل، صاحب الفتوح بالعراق، وصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين، حارب مع الرسول في غزوة الخندق، وأبلى فيها بلاءً حسنًا، وكان كثير الحديث عن الموت، مذكرًا به أصحابه، وكان في السِّلم عابدًا ورعًا، وفي الحرب فارسًا مغوارًا، وهو الذي فتح همدان، والدَّينَور، والريِّ، مات/ بعد مقتل عثمان رضي الله عنه سنة 36 هـ.

ترجمته في: الاستيعاب (1/ 334)، أسد الغابة (1/ 706)، سير أعلام النبلاء (2/ 361)، الإصابة (2/ 39).

(4)

القابلة: هي التي تتلقى الولد عند ولادة المرأة. تحرير ألفاظ التنبيه (1/ 245).

(5)

أخرجه: الدارقطني في سننه (5/ 4116)، رقم (4556)، وقال:«فيه محمد بن عبد الملك لم يسمعه من الأعمش بينهما رجل مجهول» ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 151)، رقم (21047)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (8/ 306)، رقم (2684).

(6)

تقدم ذكره والكلام عليه، وهو من رواية الزهري، ص (98).

(7)

سقطت من النسختين، وهي زيادة من الهدية (3/ 117).

(8)

الهداية (3/ 117).

(9)

القرحة: هي الجرح في البدن من السِّلاح أو البثور. لسان العرب (2/ 755)، مادة:«قرح» .

(10)

العِنِّين: هو: من لا يصل إلى النساء، أو يصل إلى الثيب دون الأبكار، أو هو من لا يقدر على الجماع لمانع منه ككبر سن أو سحر.

ينظر: الدر المختار (1/ 244)، النهر الفائق (2/ 470).

(11)

المبسوط (10/ 156).

ص: 20

«فإن لم تجد امرأةً تداوي تلك القُرحة، ولم يقدروا على امرأة تعلم ذلك، وخافوا أن تهلك أو يصيبها بلاء، أو وجع لا يحتمل؛ فلا بأس بأن يستر منها كل شيء إلا موضع تلك القرحة؛ ثم يداويها رجلٌ، ويغضُّ بصره ما استطاع إلَّا عن ذلك الموضع؛ لأنَّ نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ، فيعتبر فيه تحقُّق الضَّرورة، وذوات المحارم وغيرهن في هذا سواءٌ؛ لأنَّ النَّظر إلى موضع العورة لا يحل بسبب المحرميَّةِ، [فكان]

(1)

المحرم فيه سواء»

(2)

.

«فكذا يسقط اعتبار العدد»

(3)

.

أي: يسقط اعتبار العدد في النِّساء اللاتي ينظرن إلى موضع الولادة والبكارة، حتَّى اكتفي بالواحدة؛ لأنَّ نظر الواحدة أخفُّ من نظر الاثنتين والثلاث، كما أنَّ نظر الجنس أخفُّ من نظر غير الجنس.

فإن قلتَ: في هذا التَّعليل نوع مناقضة؛ لأنَّه لو كان جواز الاكتفاء بنظر الواحدة لخفة نظرها، لما كان نظر اثنتين والثلاث أحوط من نظر الواحدة، كما أنَّ نظر الرجل لم يكن أحوط مع كمال عقله من نظر المرأة لما أن نظر الجنس أخف

(4)

.

قلتُ: ليس فيه مناقضةٌ؛ بل فيه عمل بالدلائل بقدر الإمكان.

بيان ذلك ما ذكره في شهادات المبسوط، وقال: «وحقيقة المعنى أنَّ نظر الرَّجل إلى هذا الموضع غير متعذر ولا ممتنع؛ ولكن نظر الجنس إلى الجنس أخف، فإذا أمكن تحصيلُ المقصود بشهادة النِّساء يسقط اعتبار صفة الذُّكورة لهذا المعنى، وهذا المعنى موجود في العَدَدِ، فإنَّ نظر الواحدة أخفُّ من نظر الجَماعة، فيسقط اعتبار العدد بالمعنى الذي يسقط اعتبار الذكورة؛ ولهذا لا يسقط اعتبار الحريَّةِ فيه؛ لأنَّ نظر المملوكة ليس بأخفِ من نظر الحُرَّة؛ ولهذا لا يسقط أيضاً اعتبار الإسلام فيه؛ لأنَّ نظر الكافرة ليس بأخفِّ من نظر المسلمة؛ فيعتبر من الشرائط ما يمكن اعتباره، ولا يعتبر ما لا يمكن اعتباره على هذا الحرفِ نُسلِّم أنَّه شهادة؛ ولكن يدعى أنَّه سقط اعتبار العدد فيه بالمعنى الذي سقط اعتبار الذكورة.

وفي الحاصل هذا أحد شبههاً من الأصلين من الشَّهادات لمعنى الإلزام، ومن الإخبار؛ لأنَّ صفة الذكورة فيه لا تشترط ثم فوفَّرنا حظَّه على الشُّبهَتَينِ، فقلنا لِشَبَهِهِ بالإخبار يسقط اعتبار العدد فيه شرطاً، ويبقى معتبراً احتياط كما في رواية الإخبار أن الواحد يكفي، والمثنى والثلاث أحوط؛ لزيادة طمأنينة القلب، ولاعتباره بالشَّهادة شرطنا فيه الحريَّة والإسلام ولفظة الشَّهادة؛ وهذا لأنه مختَصٌّ بمجلس القاضي؛ فلهذا يُشترط فيه لفظة الشَّهادة»

(5)

.

(1)

في «ج» : [وكان].

(2)

الهداية (3/ 117).

(3)

الهداية (3/ 117).

(4)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 110).

(5)

المبسوط (16/ 143 - 144).

ص: 21

«ثم حكمها»

(1)

؛ أي: حكم شهادة امرأةٍ واحدةٍ.

«شرحناه في الطلاق»

(2)

؛ أي: في باب ثبوت النَّسب من كتاب الطلاق، وهو قوله: «وإذا تزوَّج الرجل امرأةً فجاءت بولد لستَّة أشهُرٍ فصاعداً، فجحد الزوج الولادة، تثبت الولادة بشهادة امرأةٍ واحدةٍ، وإن قال لامرأته: إذا ولدتي فأنت طالق، فشهدت امرأةٌ على الولادة [لا]

(3)

تُطلَّق عند أبي حنيفة رضي الله عنه

(4)

وقالا: تطلق، وإن كان الزوج قد أقر بالحبل طُلِّقت من غير شهادة عند أبي حنيفة [رحمة الله عليه]

(5)

، يعني تثبت الولادة بقول امرأته، وعندهما يشترط شهادة القابلة»

(6)

.

«وأمَّا حكمُ البَكارة

»

(7)

في النِّساء أصلٌ إلى آخره.

شرح ذلك في استحسان المبسوط، فقال: «وحاصله أنَّ شهادتهُنَّ متى تأيَدت بمؤيِد كانت حُجَّةً، والبَكارة في النِّساء أصلٌ؛ فإذا قلن: إنها بكرٌ؛ تأيدت [شهادتهن]

(8)

بما هو الأصل، [وإن]

(9)

قلن: هي ثيِّبٌ؛ تجردت شهادتهنَّ عن مؤيِّد؛ فلابد من أن يُستَحلَفَ الزوجُ، حتَّى ينضم نكوله إلى شهادتهنَّ، وكذلك لو اشترى جارية على أنَّها بِكرٌ فقبضها، وقال: وجدتها ثيِّباً، فإنَّ النِّساء ينظرن إليها للحاجة إلى فصل الخصومة بينهما؛ فإن قلن: هي بكرٌ، فلا يمين على البائع؛ لأنَّ شهادتهنَّ [قد]

(10)

تأيَّدت بأصل البَكارة، وبمقتضى البيع وهو اللزوم، وإن قلن: هي ثيِّبٌ يُستَحلَفُ البائعُ؛ لتجرد شهادتهنَّ عن مؤيِّد، فإذا انضم نُكولُ البائع إلى شهادتهنَّ؛ رُدَّت عليه»

(11)

.

قوله: «والعيبُ يثبتُ بقولِهِنَّ فيحلف البائعُ»

(12)

.

فإن قلت: في هذا اللفظ مناقضة؛ لأنَّ العيبَ لو ثبت بقولهنَّ لا نُحلِّف البائع؛ بل تُرَدُّ عليه الجارية، فكيف يكون تحليف البائع نتيجة لثبوت العيب في الجارية؛/ بل ثبوت العيب مثبت للرد لا للتَّحليف.

(1)

في الهداية: «ثم حكهما في الولادة» (3/ 117).

(2)

الهداية (3/ 117).

(3)

في «س» : [لم].

(4)

في «ج» : [رح].

(5)

في «س» : [رحمه الله].

(6)

ينظر: بداية المبتدئ (1/ 87).

(7)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 117): «وأما حكم البكارة، فإن شهدن أنها بكر يؤجل في العنين سنة ويفرق بعدها؛ لأنها تأيدت بمؤيد إذ البكارة أصل، وكذا في رد المبيعة إذا اشتراها بشرط البكارة

».

(8)

في «س» : [بشهادتهن].

(9)

في «س» : [فإن].

(10)

في «ج» : [فلا].

(11)

المبسوط (10/ 156 - 157).

(12)

الهداية (3/ 117).

ص: 22

قلتُ: معناه والعيب يثبت بقولهنَّ في حق سماع الدَّعوَى وحق التَّحليف، حتَّى إنَّهُنَّ لو لم يقُلُنَ أنَّها ثيِّبٌ ليس للمشتري؛ ولأنَّه تحليف البائع؛ بل القولُ قولُ البائع بقوله:«إنها بكر» لتمسكه بالأصل، وكان معنى هذا القول؛ أي: العيب يثبت بقولهنَّ في الحال، فيحلف البائع بأنَّه لم يكن بها ذلك العيبُ في الوقت الذي كانت في يدي، إنَّما احتِيج إلى شهادتهنَّ في إثبات العيب بها في الحال في حق التَّحليف، لما ذكر في باب العيوب بقوله:«ومن اشترى عبداً فادَّعى إباقاً، لم يحلَّف البائع حتَّى يقيم المشتري البيِّنة أنَّه أبَقَ عنده»

(1)

؛ أي: عند المشتري، إلى أن قال:«وإنكار البائع في حق التَّحليف إنَّما يعتبر بعد قيام العيب في يد المشتري ومعرفته بالحجة، فإذا أقامها حُلِّف»

(2)

.

«ولا بدَّ في ذلك كلِّه من العدالة»

(3)

.

وفي المبسوط: «والعدالةُ: هي الاستقامة، وليس لكمالها نهايةٌ؛ وإنما يُعتبر منه القدر الممكن، وهو انزجاره عما يعتقده حراماً في دينه»

(4)

.

وذكر في الذَّخيرة: وأحسنُ ما قيل في تفسير العدل ما نُقِلَ عن أبي يوسف رحمه الله أنَّ العدلَ في الشَّهادة أن يكون مجتنباً عن الكبائر، ولا يكون مُصِرِّاً على الصغائر، ويكون صلاحه أكثر من فساده، وصوابه أكثر من خطأه

(5)

.

«التعاطي»

(6)

: التناول.

‌في شهادة أهل الأهواء

والأول أصحُّ، وهو عدم قَبُولِ شهادة الفاسق مطلقاً، سواءٌ كان ذا وجاهةٍ أو لم يكن؛ وذلك؛ لأنَّ قَبُول الشَّهادة في العمل بها إكرام الشَّاهد، كما قال صلى الله عليه وسلم:«أكرموا الشهود فإنَّ الله تعالى يحيي الحقوق بهم»

(7)

.

وفي حق الفَاسق أمرنا بخلاف ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا لَقِيتَ الفَاسِقَ فَالقَهُ بِوَجهٍ مُكفَهِرٍ

(8)

»

(9)

.

(1)

الهداية (3/ 40).

(2)

الهداية (3/ 40).

(3)

الهداية (3/ 117).

(4)

المبسوط (16/ 143).

(5)

ينظر: المحيط البرهاني (9/ 167)، الاختيار لتعليل المختار (2/ 149).

(6)

تمام المسألة في الهداية (3/ 123): «وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، وقال الشافعي/: لا تقبل لأنَّه أغلظ وجوه الفسق. ولنا أنَّه فسق من حيث الاعتقاد، وما أوقعه فيه إلا تديُّنه به، وصار كمن يشرب المثلث أو يأكل متروك التَّسمية عامداً مستبيحاً لذلك، بخلاف الفسق من حيث التعاطي» .

(7)

سبق تخريجه، ص (82).

(8)

مكفهر: أي: شديد العبوسة. البناية شرح الهداية (9/ 112).

(9)

لم أقف على هذا الحديث منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ورد من كلام ابن مسعود رضي الله عنه:«إذا لقيت الفاجر فالقه بوجه مكفهر» ، أخرجه: الطبراني في الكبير (9/ 112)، رقم (8580).

ص: 23

ومن يكون معلناً للفسق، فلا مروءة له شرعاً؛ فلهذا لا يُقبل شهادته، كذا في المبسوط

(1)

.

لأنَّ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}

(2)

مطلق يتناول الفاسق الوجيه

(3)

، والخامل

(4)

، وهذا النَّص هو الموجب لرد شهادة الفاسق.

‌في اشتراط ألفاظ الشهادة

«فلأنَّ النُّصوص نطقت باشتراطها»

(5)

: المرادُ من نطق النصوص باشتراط لفظة الشَّهادة هو [ورود]

(6)

نظمها بلفظ الشَّهادة والإشهاد والاستشهاد، نحو قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}

(7)

، {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

(8)

{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ}

(9)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا علمت مثل الشَّمس فاشهد، وإلَّا فدع»

(10)

.

لا أن يكون اشتراطها صريحاً بتلك اللفظة.

(1)

يُنظر: المبسوط (16/ 131).

(2)

سورة الحجرات: آية 6.

(3)

الوجيه: وهو الذي له وجاهته وقدره بين الناس. البناية شرح الهداية (9/ 338).

(4)

الخَامل: من خمل الرجل خمولًا؛ إذا كان ساقط القدر. البناية شرح الهداية (9/ 338).

(5)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 118): «وأما لفظة الشهادة، فلأن النصوص نطقت باشتراطها إذ الأمر فيها بهذه اللفظة، ولأنَّ فيها زيادة توحيد، فإنَّ قوله: أشهد من ألفاظ اليمين كقوله أشهد بالله، فكان الامتناع عن الكذب بهذه اللفظة أشد» .

(6)

في «س» : [ورد].

(7)

سورة الطلاق: آية 2.

(8)

سورة البقرة: آية 282.

(9)

سورة البقرة: آية 282.

(10)

لم أقف عليه مسنداً بهذا اللفظ، والذي روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يشهد بشهادة، فقال لي:«يَا ابنَ عَبَّاسٍ، لَا تَشهَدُ إِلَّا عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذَا الشَّمسِ» وأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الشمس. أخرجه: الحاكم في المستدرك (4/ 110)، رقم (7045)، وقال:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ، وتعقبه الذهبي فقال:«واهٍ» ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 156)، رقم (21088)، وقال:«لم يرو من وجه يعتمد عليه» ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (6/ 207)، وقال:«عامة ما يرويه لا يتابع عليه في إسناده ولا متنه» ، وقال ابن الملقن في البدر المنير (9/ 618):«الكل ضعفوه» ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1/ 177)، رقم (1238).

ص: 24

وإلى هذا أشار بقوله: «إذ الأمر فيها بهذه اللفظة»

(1)

، فلما جاء الأمر بهذه اللفظة لا يجوز تبديلها بلفظٍ آخر.

فإن قيل: يُشكل على هذا لفظ التَّكبير، فإنَّه جاء في أمر التَّكبير بذلك اللفظ في قوله تعالى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}

(2)

، ومع ذلك أجاز أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله- تبديله بلفظٍ آخر في معناه، نحو قوله:«الله أجل» ، أو:«الله أعظم» .

قلنا: الفرق بينهما ظاهرٌ، [لما]

(3)

أنَّ التَّكبير للتَّعظيم.

وفي قوله: «الله أعظم» صريح التَّعظيم، وكان هو مثله من كل وجه، فيقوم مقامه لعدم التفاوت بينهما

(4)

.

وأمَّا لفظ الشَّهادة فيُبنَى عن المشاهدة لفظاً، ويذكر للقسم استعمالاً، فلما كان كذلك، فالحكم المعلَّق جوازه باللفظ الذي له زيادة وكادة في الأخبار، ولا يكون معلقاً جوازه بلفظ هو دونه؛ ولأنَّ قَبُولَ الشَّهادة في إلزام الحكم على القاضي يثبت بخلاف القياس، على ما ذكرنا في أوائل كتاب الشَّهادات، فيُراعى جميع ما ورد فيه النَّصُّ، ومن الذي ورد هو لفظ الشَّهادة فيراعى هو، وأمَّا لفظ التكبير للتعظيم، فهو موافق للقياس فيما فيه التعظيم، فيؤدِّي حكمه إلى موضع وُجد حكمه؛ فلذلك افترق، ولفظ الشَّهادة في شهادة النِّساء في الولادة وغيرها هو الصَّحيح هذا احتراز عن قول العراقيين؛ فإنهم لا يشترطون فيها لفظة الشَّهادة؛ فإنَّه ذكر الإمام التُّمُرتَاشيُّ

(5)

/ في قوله القابلة في مسألة الولادة، وهل يشترط لفظة الشَّهادة، ففي شرح بكر

(6)

رحمه الله

(7)

، قال مشايخ بلخ

(8)

،

(1)

الهداية (3/ 118).

(2)

سورة المدثر: آية 3.

(3)

في «ج» : [إنما].

(4)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 113).

(5)

هو أحمد بن إسماعيل بن محمد بن آيدغمش، أبو العباس، ظهير الدين ابن أبي ثابت التمرتاشي: عالم بالحديث، حنفي، كان مفتي خوارزم، نسبته إلى تمرتاش -من قراها- صنف:«شرح الجامع الصغير» ، و «الفرائض» ، و «التراويح» ، توفي سنة 611 هـ.

يُنظر: الجواهر المضية (1/ 61)، الفوائد البهية (ص 15)، كشف الظنون (1/ 1221)، الأعلام للزركلي (1/ 97).

(6)

شرح بكر أو مبسوط البكري، للإمام أبي بكر محمد بن حسين المعروف بخواهر زاده البخاري (ت 483 هـ)، مذكور في شراح أدب القاضي لأبي يوسف، ومبسوط محمد، وشرحه يسمى بمبسوط البكري. كشف الظنون (1/ 1223).

وهو الإمام محمد بن الحسين بن محمد، أبو بكر البخاري، المعروف ببكر خواهر زاده، أو خواهر زاده: فقيه، كان شيخ الحنفية فيما وراء النهر، قال السمعاني: كان إماماً، فاضلاً، حنفياً، وله طريقة حسنة مفيدة جمع فيها من كل فن له:«المبسوط» ، و «المختصر» ، و «التجنيس» ، وهو ابن أخت القاضي أبي ثابت محمد بن أحمد البخاري، ولهذا قيل له بالعجمي: خواهر زاده-وتفسيره ابن أخت عالم- مولده ووفاته في بخارى سنة 483 هـ.

ترجمته في: الجواهر المضية (2/ 49)، الأعلام (6/ 100)، معجم المؤلفين (9/ 253).

(7)

سقط من «ج» .

(8)

بلخ: مدينة مشهورة بخراسان ومن أجل مدنها وأشهرها ذكراً وأكثرها خيراً، خضعت بعد موت الإسكندر الكبير للحكم السلجوقي زمناً، ثم خرجت عليه وانضمت إلى فارس، وكانت مركزاً للثقافة اليونانية وسوقاً نشطاً للتجارة، تقع على الشاطئ الجنوبي لنهر جيحون، وهي اليوم من بلاد الأفغان، وينسب إليها عدد كبير من العلماء.

ينظر: مراصد الاطلاع (1/ 217)، التَّعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية لابن كثير (1/ 332).

ص: 25

وبخارى

(1)

: يُشتَرط، وقال العراقيُّون: لا.

واتفقوا على أنَّه يشترط الحريَّة، والعقل، والبلوغ، والإسلام

(2)

.

‌في السؤال عن حال الشهود

قال أبو حنيفة/: «يَقتَصِرُ الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم

»

(3)

.

فإن قيل: أين ذهب قولكم: الظَّاهر يكفي للدفع لا للاستحقاق، وههنا يثبت المدَّعِي الاستحقاق المدَّعَى به بإقامة البيِّنَةِ، فيجب أن لا يكتفى بالظَّاهر.

قلنا: الظاهر هنا قائم مقام الدليل القطعي؛ لما أنَّه لا إمكان للوصول إلى الدَّليل القطعي؛ وذلك لأنَّه لو لم يكتف بظاهر العدالة يحتاج إلى تزكية المزكِّي، وقَبُول قول المزكِّي في التَّعديل أيضاً عملٌ بالظَّاهر، لما أنَّ الظاهر أنَّ المزكي في قوله هو عدلٌ غير كاذبٍ؛ لأنَّ المزكِّي مسلم، والظاهر من حال المسلم أنَّه لا يكذب، ولو لم يكتف بظاهر عدالة الشَّاهد؛ لكونه عملاً بالظَّاهر يجب ألا يكتفى بظاهر عدالة المزكي/ أيضاً؛ لأنَّه عملٌ بالظَّاهر، فحينئذ يحتاج إلى مزكِّي آخرُ في تعرف عدالة المزكِّي الأول، وكذلك في الثَّالث والرابع، وهذا [أمر]

(4)

يؤدِّي إلى التسلسل.

وقوله: «إن الظاهر»

(5)

لا يكفي للاستحقاق

(6)

.

قلنا: قد يكفي له إذا لم ينازعه آخر ألا ترى أن الشَّفيع يستحق الشُّفعة

(7)

بظاهر يده الثابتة على داره إذا لم ينازعه المشتري في ذلك، وههنا أيضاً كذلك

(8)

.

(1)

بخارى: من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلّها، يعبر إليها من آمل الشّطّ، وكانت قاعدة ملك السَّامانية، كانت إحدى مراكز الفكر الإسلامي، ينسب إليها عدد من العلماء منهم إمام أهل الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المعروف بالبخاري، وتقع اليوم في إقليم أوزبكستان.

ينظر: معجم البلدان (1/ 353)، تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية لابن كثير (1/ 299).

(2)

البناية شرح الهداية (9/ 113 - 114).

(3)

تمامها في الهداية (3/ 117): «ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم» .

(4)

في «ج» : [ليس].

(5)

الهداية (3/ 118).

(6)

يُنظر: البداية شرح الهداية (9/ 115).

(7)

الشفعة: لغة: من الشفع الذي هو نقيض الوتر، وقد شفعت الوتر بكذا؛ أي: جعلته زوجاً له، وشفعت الركعة؛ جعلتها ثنتين. ينظر: المصباح المنير (1/ 317)، مادة «شفع» ، طلبة الطلبة (ص 119)، أنيس الفقهاء (ص 100).

واصطلاحاً: هي حق تملك العقار المبيع أو بعضه، ولو جبراً على المشتري بما قام عليه من الثمن والمؤن. مرشد الحيران (ص 16).

(8)

يُنظر: البحر الرائق (4/ 210).

ص: 26

لأنَّ كلامنا فيما إذا لم يطعن المدَّعَى عليه في الشُّهود، ولو طعن فحينئذ يسأل عنهم، كما لو نازع المشتري الشَّفيعَ فيما في يد الشَّفيع، بأنَّه لا مِلك له فيه، إلى هذا أشار في الأسرار.

وقوله: «إلا في الحدود والقَصَاص»

(1)

: استثناء عن قوله: «يقتصر الحاكم عن ظاهر العدالة»

(2)

.

وإن طعن الخَصمُ فيهم يسأل عنه، هذا في غير الحدود والقَصاص؛ فإنَّه قد ذكر أنَّ في الحدود والقصاص لا يتوقف السُّؤال عن الشُّهود إلى الطَّعن؛ لأنَّه تقابل الظَّاهران، يعني كما أنَّ الظاهر في أنَّ الشُّهود لا يكذبون في [شهادتهما]

(3)

، فكذلك الخصم إذا طعن فيهم أنَّه لا يكذب في طعنه، فيحتاج القاضي حينئذ إلى التَّرجيح

(4)

.

«وفيه صَونُ قضائه عن البطلان»

(5)

.

أي: على تقدير ظهور الشُّهود عبيداً، أو كفار؛ يبطل القضاء.

«المستورة»

(6)

اسم الرقعة التي يكتبها القاضي، ويبعثها سراً بيد أمينه إلى المزكي، سُميت بهذا لأنَّها تُستَرُ عن نظر [العوام]

(7)

(8)

.

وذكر في المُغرِبِ

(9)

: حلية الإنسان صفته، وما يُرى منه من لونٍ وغيره، والجمع حِلى بالكسر والضم

(10)

.

«والمُصَلَّى» قيل: المراد به المحلَّة، والظَّاهر أنَّ المراد به مسجد في المحلة.

‌في التزكية في السر والعلن

اعلم أنَّ التَّزكية على نوعين: تزكية السِّر، وتزكية العلانية:

«فصورة تزكية العلانية أن يجمع القاضي بين المُعَدِّل والشَّاهد، فيقول المُعَدِّل للشاهد الذي عدَّله: هذا الذي عدَّلتُ.

وصورة تزكية السِّر أن يبعث القاضي رسولاً إلى المزكِّي، أو يكتب إليه كتاباً فيه أسماء الشُّهود وأنسابهم، وحلاهم، ومحالَّهم، وسوقهم إن كان سوقيَّاً حتَّى يتعرف المزكِّي، فيسأل عن جيرانهم وأصدقائهم، فإذا عرفهم فما عرفه بالعدالة فيكتب تحت اسمه في كتاب القاضي إليه أنَّه عدلٌ جائز الشَّهادة، ومن عرفه بالفسق لا يكون ذلك تحت اسمه؛ بل يسكت احترازاً عن هتكِ السرِّ، أو يقول الله يعلم إلَّا إذا عدَّله غيره، وخاف أنَّه لو لم يصرِّح بذلك يقضي القاضي بشهادته؛ فحينئذٍ يُصَرِّح بذلك، ومن لم يعرفه لا بعدالة ولا بفسق يكتب تحت اسمه في كتاب القاضي مستورٌ، ثم القاضي إن شاء جمع بين تزكية العلانية، وبين تزكية السِّرِّ وإن شاء اكتفى بتزكية السرِّ

(11)

. كذا في فتاوى قاضي خان»

(12)

.

(1)

. فإنَّه يسأل عنهم الشهود، الهداية (3/ 118).

(2)

الهداية (3/ 118).

(3)

في «ج» : [شهادتها].

(4)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 115).

(5)

الهداية (3/ 118).

(6)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 118): «ثم التزكية في السرِّ أنْ يبعث المستورة إلى المعدل فيها النسب، والحِلي، والمصلَّى، ويردها المعدِّل» .

(7)

في «ج» : [القوام].

(8)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 379)، البناية شرح الهداية (9/ 116)، البحر الرائق (7/ 64).

(9)

المغرب (1/ 127).

(10)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 379)، البناية شرح الهداية (9/ 116).

(11)

فتاوى قاضي خان (2/ 278).

(12)

هو الحسن بن منصور بن أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الأوزجندي، الفرغاني، المعروف بقاضي خان، فخر الدين، تفقه على أبي أسحق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي نصر الصفاري، و أبي الحسن علي بن عبد العزيز المرغينابي وغيرهما، من مصنفاته:«الفتاوي» ، و «شرح الجامع الصغير» ، و «شرح الزيادات» ، و «شرح أدب القاضي للخصاف» . توفي ليلة النصف من رمضان سنة 592 هـ.

يُنظر ترجمته في: الجواهر المضية (1/ 205)، تاج التراجم (1/ 151)، معجم المؤلفين (3/ 297).

ص: 27

«ويردها المُعَدِّل»

(1)

.

أي: ويرد المستورة المُعَدِّل لتنتفي شبهة تعديل غيره؛ لأنَّه قد يتسمَّى الرجل باسم غيره، فإنَّ الاثنين قد يتفقان في الاسم والنِّسبة

(2)

.

وقال الخصاف

(3)

/: ينبغي أن يكون المُعَدِّل في السِّر غير المُعَدِّل في العلانية

(4)

.

وينبغي للقاضي أن يختار للمسائلة عن الشهود من كان عدلاً؛ ليمكن الاعتماد على قوله، وينبغي أن يكون صاحب خبرة بالنَّاس ولا يكون مُنزوياً، لا يخالط الناس، لا يعرف العدل وغير العدل، وينبغي أن لا يكون طمَّاعاً، ولا فقيراً حتَّى لا يُخدَع بالمال، وأن يكون فقيهاً يعرف أصحاب الجَّرح والتَّعديل

(5)

.

وينبغي للمعدِّل أن يختار السؤال عن الشهود من كان موصوفاً بالأوصاف التي شرطة في المزكي، وإنَّما يسأل جيرانه وأهل سوقه؛ لأنَّهم أعرف بحاله

(6)

.

وإن لم يجد في جيرانه وأهل سوقه من يصلح للتّعديل، يسأل أهل مجلسه، فإن وجد كلهم غير ثقاتٍ [يعتبر]

(7)

في ذلك تواتر الأخبار، وإن كان المُعَدِّل لا يعرف الشُّهود بالعدالة فأخبره رجلان عدلان؛ وَسِعَه أن يُعدِّلهما

(8)

.

لأنَّ خبر العدلين حُجَّة مطلقة، يجوز قطع الحكم به؛ فيجوز للمعدِّل التَّعديلُ به، ألا ترى أنَّه إذا شهد عند رجل عدلان على النَّسب وَسِعَه أن يشهد على النَّسب، فكذا ههنا

(9)

.

قال ابن سماعة

(10)

عن أبي يوسف - رحمهما الله-: أَقَبَلُ في تزكية السِّرِّ المرأة، والعبد، والمحدود في القذف إذا كانوا عُدولاً، ولا أقبل في تزكية العلانية إلا تزكية من أقبل شهادته؛ لأنَّ تزكية السِّرِّ من باب الإخبار والمخبر به أمرٌ دينيٌّ، وقول هؤلاء في الأمور الدينية مقَبُول إذا كانوا عدولاً، ألا ترى أنَّه تُقبَل روايتهم في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب الصَّومُ بقولهم

(11)

.

(1)

الهداية (3/ 118).

(2)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 379)، البناية شرح الهداية (9/ 118).

(3)

أحمد بن عمر بن مهير الشَّيبَاني، أبو بكر المعروف بالخصاف: فرضيّ، حاسب، فقيه، عارف بمذهب أبي حنيفة، كان مقدماً عند الخليفة المهتدي باللَّه، كان ورعاً يأكل من كسب يده، توفي ببغداد. له تصانيف منها «أحكام الأوقاف» ، و «الحيل» ، و «الوصايا» ، و «الشروط» ، و «الرضاع» ، توفي سنة 261 هـ.

ترجمته في: الجواهر المضية (1/ 87)، الوافي بالوفيات (7/ 174)، الأعلام (1/ 185).

(4)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 382)، البناية شرح الهداية (9/ 121).

(5)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 117)، العناية شرح الهداية (7/ 379)، الجوهرة النيرة (2/ 227).

(6)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 98).

(7)

في «س» : [يشترط].

(8)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 117).

(9)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 49).

(10)

محمد بن سماعة بن عبيد الله بن هلال التميمي الفقيه، أبو عبد الله الكُوفي، قاضي بغداد، وصاحب أبي يوسف القاضي، أخذ عنه، وعَن محمد بن الحسن، وبرع في مذهب أبي حنيفة، وصنف التصانيف، وروى أيضاً عَن الليث، والمسيب بن شريك، وغيرهما، قَالَ يَحيَى بن مَعِينٍ: لو كَانَ أهلُ الحديث يصدقون فِي الحديث كما يصدق محمد بن سِمَاعة فِي الرأي لكانوا فيه على نهاية، توفي سنة 240 هـ.

يُنظر ترجمته في: تاريخ الإسلام للذهبي (5/ 918)، سير أعلام النبلاء (9/ 49)، الجواهر المضية (2/ 58).

(11)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 117)، المحيط البرهاني (8/ 98).

ص: 28

وأمَّا تزكية العلانية نظير الشَّهادة من حيث إنَّ القضاء لا يجب إلا بهما، كما لا يجب إلا بالشَّهادة حتَّى شرط في المزكِّي في تزكية العلانية ما هو الشَّرط في الشَّهادة من العدالة، والبلوغ، والحرية، والعقل، والبصر، وألَّا يكون محدوداً في قذف سوى لفظ الشَّهادة، فإنَّه شرط بالإجماع وهؤلاء لا يصلحون للشهادة فلا يصلحون/ لتزكية العلانية، [وعلى هذا تزكية الوالد لولده وتزكية الولد لوالده في السر جائزة؛ لأنَّها من باب الإخبار

(1)

. وكذا في الذَّخيرة.

«تحرُّزاً عن الفتنة»

(2)

(3)

.

وكانت التَّزكية في عهد الصحابة رضي الله عنهم علانية؛ لأنَّ القوم كانوا صُلحاء، والمُعَدِّل كان لا يتوانى عن الجرح؛ لأنَّهم كانوا لا يقابلونه بالأذى لو جرحهم، وفي زماننا تُركَت تزكية العلانية؛ لأنَّها بلاءٌ وفتنةٌ؛ لأنَّ الشُّهود يقابلون الجارح بالأذى

(4)

. كذا في الفوائد الظهيرية

(5)

.

«وهذا أصحُّ»

(6)

.

لأنَّ في زماننا كل من [ينشأ]

(7)

في دار الإسلام كان الظَّاهر من حاله الحريَّة؛ ولهذا لا يسأل القاضي عن إسلامه وحريته؛ إنَّما يسأل عن عدالته

(8)

، كذا ذكره الإمام قاضي خان في الجامع الصغير.

«وفي قول من رأى أن يسأل عن الشُّهود

»

(9)

إلى آخره، قال أبو حنيفة رحمه الله: في قول من رأى أن يسأل عن الشُّهود، وهو أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- لما تقدم قُبيل هذا بقوله:

‌الاختلاف في التزكية

«قال أبو حنيفة [رحمة الله عليه]

(10)

: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم

».

إلى أن قال: «وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله-: لا بد أن يسأل عنهم في السِّرِّ والعلانية»

(11)

.

(1)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 98).

(2)

الهداية (3/ 118).

(3)

سقط من «ج» .

(4)

يُنظر: الجوهرة النيرة (2/ 227).

(5)

الفتاوى الظهيرية، أو فتاوى ظهير الدين؛ لظهير الدين الكبير علي بن عبد العزيز، (ت 506 هـ). الفوائد البهية (ص 122).

(6)

الهداية (3/ 118).

(7)

في «س» : [نشأ].

(8)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 380)، مجمع الأنهر (2/ 189).

(9)

تمامها في الهداية (3/ 118): «

لم يقبل قول الخصم إنه عدل».

(10)

في «س» : [رحمه الله].

(11)

النَصُّ بتمامه في الهداية (3/ 118)، قال:«قال أبو حنيفة/: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا محدوداً في قذف» ، ومثل ذلك مروي عن عمر رضي الله عنه، ولأنَّ الظاهر هو الانزجار عما هو محرَّم في دينه، وبالظَّاهر كفاية إذ لا وصول إلى القطع، إلا في الحدود والقصاص، فإنَّه يسأل عن الشهود؛ لأنَّه يحتال لإسقاطها فيشترط الاستقصاء فيها؛ ولأن الشبهة فيها دارئة، وإن طعن الخصم فيهم سأل عنهم; لأنه تقابل الظَّاهران فيسأل طلبا للترجيح، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا بد أن يسأل عنهم في السِرِّ والعلانية في سائر الحقوق؛ لأنَّ القضاء مبناه على الحجة، وهي شهادة العدول فيتعرف عن العدالة، وفيه صون قضائه عن البطلان».

ص: 29

والدليل على هذا ما ذكره الإمام قاضي خان بعد ذِكر اختلافهم في التَّزكية على هذا الوجه، فقال: «ثم فَرَّع أبو حنيفة- رحمه الله، فقال على قول من يرى المسألة عن الشَّهود؛ فكان هذا نظير مسألة المزارعة، لم يقبل قول الخصم أنَّه عدل معناه قول المدعى عليه.

وعن أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: أنَّه يجوز هذا إذا كان المدَّعَى عليه عدلاً يصلح مزكِّياً، فإن كان فاسقاً، أو مستوراً، أو سكت عن جواب المدَّعِي ولم يجحد، فلما شهدوا عليه قال: هم عُدولٌ لا يصح هذا التَّعليل؛ لأنَّ العدالة في المزكِّي شرط عند الكل، ولم توجد.

وعن محمد أنَّ القاضي يسأل المدَّعَى عليه، شهدوا عليه بحق أم بغير حقِّ، فإن قال بحق فهو إقرارٌ، وإن قال بغير حقِّ: لا يقضي بشيء». كذا في الجامع الصغير لقاضي خان

(1)

.

«وإذا كان رسول القاضي»

(2)

: المزكِّي على ما يُذكر في الكتاب.

[وكان]

(3)

قوله: «الذي يسأل عن الشُّهود»

(4)

، صفة الرسول وتفسيره، والذي يسأل عنه الشُّهود وهو المزكِّي؛ فكان المراد برسول القاضي هو المزكِّي.

‌في اشتراط العدد في الشهادة

«وقال محمد رحمه الله: لا يجوز إلا اثنان»

(5)

؛ أي: في الحكم الذي يثبت بشهادة رجلين، كما في عامة الأحكام، وأمَّا في الحكم الذي يحتاج القاضي إلى أربع من الشًّهود في الحكم يشترط فيه أربعة من المزكِّين أيضاً، كذا ذكره في الذَّخيرة

(6)

.

وكذا أيضاً ذكره في الكتاب بُعَيدَ هذا.

ثم قال في الذَّخيرة: وأجمعوا على أنَّ ما سوى العدد في سائر شرائط الشَّهادة، سوى التَّلفظ بلفظة الشَّهادة من العدالة، والبلوغ عن عقل، والبصر وأن لا يكون محدوداً في قذف، والحريَّة شرطٌ

(7)

.

«وتُشترط الذُّكورة في المزكِّي في الحُدود

»

(8)

.

أي: بالإجماع، وإليه أشار في المختلف

(9)

.

(1)

يُنظر: تبيين الحقائق (4/ 212)، البناية شرح الهداية (9/ 119)، فتح القدير (7/ 381).

(2)

الهداية (3/ 119).

(3)

في «س» : [فكان].

(4)

الهداية (3/ 119).

(5)

الهداية (3/ 119).

(6)

ينظر: فتح القدير (7/ 382).

(7)

المحيط البرهاني (8/ 96).

(8)

. والقصاص. الهداية (3/ 119).

(9)

قال العيني في البناية شرح الهداية (9/ 120): «وذكره في «المختلف والحصر» في كتاب الحدود من باب أبي حنيفة رحمه الله: يشترط الذكورة في المزكي عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، ويشترط أيضاً عند الأئمة الثلاثة فيما لا يثبت بشهادة النساء، وعلى هذا الخلاف الجرح، فعندهما يثبت بواحد، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله».

ص: 30

«واشتراطُ العدد أمرٌ تحكُّمي في الشَّهادة»

(1)

.

أي: أمرٌ تعبُّديٌّ لا تدركه العقول، فكان حكماً ثابتاً بالنَّصِّ بخلاف القياس؛ فلا يتجاوز هذا الحكم من الموضع الذي ورد فيه النَّصُّ باشتراطه إلى غيره.

وقد ذكرنا في المبسوط

(2)

بأنَّ اشتراط العدد في الشَّهادات أمرٌ ثبت بالنَّصِّ بخلاف القياس، لأنَّ رجحان الصِّدق في حق العمل بالعدالة لا بالعدد، كما في رواية حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفي حَقِّ العلم بالتَّواتر، وإذا كان كذلك لا معنى لاشتراط العدد في الشَّهادات؛ لكن تركنا ذلك القياس بالنُّصوص التي فيها بيان العدد.

«فلا يتعدَّاها»

(3)

.

أي: فلا يتعدَّى اشتراط العدد في الشَّهادة إلى التَّزكية.

«يشترط الأربعة في تزكية شهود الزِّنا عند محمد رحمه الله»

(4)

.

لأنَّ التَّزكية عنده في معنى الشَّهادة، وعلى ما ذكر، فلذلك يُشترط الأربعة في مزكِّي شهود الزِّنا، كما يشترط في الشَّهادة فيه، والله أعلم بالصواب.

‌فصل [في أحكام تتعلق بأداء الشهادة]

في هذا الفصل أحكام تتعلق بأداء الشَّهادة، بأنَّ الشَّاهد كيف يشهد عند القاضي.

«أحدهما: ما يثبت بنفسه»

(5)

.

أي: لا يحتاج فيه

[إلى]

(6)

الإشهاد؛ بل يجوز للشَّاهد أن يشهد بدون الإشهاد، بخلاف الشَّهادة على الشَّهادة، «فإذا سمع ذلك»؛ أي: ما كان من الأقوال، «مثل البيع، والإقرار، وحكم الحاكم» .

«أو رآه» ؛ أي: ما كان من الأفعال، مثل الغضب، والقتل.

«وهو الرُّكنُ» ؛ أي: علم ما هو الموجب بنفسه، وهو الركن في تجويز الأداء عند القاضي.

جعل العلم ركناً لأداء الشَّهادة مع أنَّه شرطٌ فيه بدليل «قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

(7)

، جعل كونهم عالمين حالاً للشهود والأحوال شروط.

وكذلك في الحديث حيث جعل صريح الشّرط لقوله: «إِذَا عَلِمتَ مِثلَ الشَّمسِ فَاشهَد»

(8)

؛ وإنَّما جعل هكذا لزيادة تأثيره في توقف صحَّة/ أداء الشَّهادة إلى العلم.

(1)

الهداية (3/ 119).

(2)

المبسوط (16/ 115).

(3)

الهداية (3/ 119).

(4)

الهداية (3/ 119).

(5)

قال في الهداية (3/ 119): «وما يتحمله الشاهد على ضربين: أحدهما: ما يثبت حكمه بنفسه مثل البيع والإقرار والغصب والقتل وحكم الحاكم، فإذا سمع ذلك الشاهد أو رآه وسعه أن يشهد به وإن لم يشهد عليه» .

(6)

في «ج» : [إلا].

(7)

سورة الزخرف: آية 86.

(8)

سبق تخريجه، ص (112).

ص: 31

«ويقول أشهدُ أنَّه باع»

(1)

، وهذا في البيع الصَّريح ظاهر.

وأمَّا إذا كان البيع بطريق التَّعاطي ووقعت الحاجة إلى الشَّهادة، فالشُّهود كيف يشهدون.

قيل: يشهدون على الأخذ والإعطاء، ولا يشهدون على البيع؛ لأنَّ التَّعاطي بيعٌ حُكمِي، وليس ببيعٍ حقيِقيٍّ، وقيل: لو شهدوا على البيع يجوز، كذا في الذَّخيرة

(2)

.

وكذلك في الإقرار: أشهد أنَّ فلاناً أقرَّ بكذا

(3)

.

«ولو فسَّر للقاضي» ما يُقبل؛ فإن قال: إني أشهد بالسَّماع من وراء الحجاب

(4)

.

«النَّغمة»

(5)

: الكلام الخفي، من حدِّ منع، وبلغ، قال: فلان حَسَنُ النَّغمة؛ إذا كان حسن الصوت في القراءة

(6)

.

وعند محمد بن مقاتل

(7)

رحمه الله: إذا سمع الرجل صوت امرأةٍ من وراء الحجاب، وشهد عنده اثنان أنها فلانةٌ بنتُ فلانٍ، لا يجوز أن يشهد عليها؛ أطلق الجواب إطلاقاً

(8)

.

وكان الفقيه أبو الليث

(9)

رحمه الله يقول: إذا أقرَّت المرأة من وراء الحجاب، وشهد عنده اثنان أنَّها فلانةٌ؛ لا يجوز بمن سمع إقرارها أن يشهد على إقرارها، إلَّا إذا رأى شخصها؛ يعني حال ما أقرَّت، فحينئذٍ يجوز له أن يشهد على إقرارها شرط رؤية شخصها لا رؤية وجهها

(10)

. كذا في الذَّخيرة.

(1)

الهداية (3/ 119).

(2)

المحيط البرهاني (8/ 329)، وينظر: البناية شرح الهداية (9/ 123).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 213).

(4)

يُنظر: تبيين الحقائق (4/ 214)، العناية شرح الهداية (7/ 383).

(5)

قال في الهداية (3/ 119): «لأنَّ النَّغمة تشبه النَّغمة; فلم يحصل العلم» .

(6)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 123)، العناية شرح الهداية (7/ 383).

(7)

مُحَمَّد بن مقَاتل الرَّازِيّ قَاضِي الرّيّ من أَصحَاب مُحَمَّد بن الحسن من طبقَة سُلَيمَان بن شُعَيب وَعلي بن معبد روى عَن أبي المُطِيع، من تصانيفه:«المدعي والمدعى عليه» ، توفي سنة 242 هـ.

يُنظر: الجواهر المضية (1/ 58)، معجم المؤلفين (12/ 45).

(8)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 292)،

(9)

الإمام، الفقيه، المحدث، الزاهد، أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، صاحب كتاب «تنبيه الغافلين» ، وله كتاب «الفتاوى» ، الملقب بإمام الهدى: علامة، من أئمة الحنفية، من الزهاد المتصوفين يروي عن: محمد بن الفضل بن أنيف البخاري، روى عنه: أبو بكر محمد بن عبد الرحمن الترمذي، وغيره. وجماعة، توفي سنة 375 هـ.

ترجمته في: سير أعلام النبلاء (12/ 333)، الوافي بالوفيات (27/ 54)، الجواهر المضية (2/ 196)، الأعلام (8/ 27).

(10)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 292)، مجمع الأنهر (2/ 191).

ص: 32

«[فلا بدَّ]

(1)

من الإنابة والتَّحميل ولم يوجد»

(2)

؛ فلا تصحُّ الشَّهادة بدون التَّحميل؛ لأن شاهد الفرع لا علم له بالحقِّ؛ لكنَّه يَنقل شهادة غيره عند محمد رحمه الله

(3)

بطريق التَّوكيل، حتَّى لو رجع الأصول دون الفروع؛ وجب الضَّمان على الأصول في قول محمد.

ولو رجع الأصول والفروع جميعاً غير المشهود عليه إن شاء ضمَّن الأصول، وإن شاء ضمَّن الفروع؛ فلا يصير وكيلاً إلا بأمر.

وعند أبي حنيفة رحمه الله: وإن لم يكن الإشهاد توكيلاً حتَّى لو شهد إنسان على شهادته، ثم منعه عن الأداء لا يصحُّ منعه، وكان لشاهد الفرع أن يشهد على شهادته، ولو رجع الأصول لا يجب الضَّمان عليهم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف - رحمهما الله-، إلَّا أنَّ شهادة الأصول إنَّما تصير حُجَّةً بالنقل إلى مجلس القضاء؛ ولهذا يعتبر عدالة الأصول، فلا يكون لغيره أن يجعل كلامه حجَّة إلا بأمره؛ فلا يشهد على شهادته إلا بشهادةٍ

(4)

.

«وكذا لو سمعه يُشهِدُ الشَّاهد على شهادته، لم يسع للسَّامع أن يشهد»

(5)

؛ لما قلنا إنَّه لا يصح إلا بأمره، وشاهد الأصل لم يَأمر السَّامع بالشَّهادة لصاحب الملك إذا وكَّل إنساناً بالتصرُّف، فسمع غيره؛ لم يصر السَّامعُ وكيلاً، فرق بين هذا وبين ما لو سمع قاضياً يُشهِدُ قوماً على قضائه، كان للسَّامع أن يشهد على قضائه؛ لأنَّ قضاء القاضي حجَّةٌ مُلزَمَةٌ، ومن عاين الحجَّة حلَّ له أن يشهد من غير إشهادٍ، كما لو عاين الإقرار، أو البيع، أو غير ذلك.

فأمَّا الشَّهادة في غير مجلس القضاء غير مُلزَمَةٍ، فكانت إنابة بالنَّقل، ولم يوجب الإنابة في حق السَّامع. كذا ذكره الإمام قاضي خان/

(6)

.

وفي قوله: «إذا سمع شاهداً يشهد بشيء لم يجزه

»

(7)

إلى آخره؛ أي: في غير مجلس القضاء، هكذا وجدت بخط شيخي رحمه الله

(8)

.

وفيما ذكرنا من تعليل قاضي خان بقوله: فأمَّا الشَّهادة في غير مجلس القضاء غير ملزمة، إشارةٌ إليه حتَّى لو سمع شاهداً يشهد عند القاضي بشهادةٍ حلَّ للسَّامع أن يشهد؛ [لأنَّ]

(9)

شهادة الذي شهد عند القاضي مُلزِمَة؛ فصارت بمنزلة إشهاد القاضي قوماً على قضائه كما ذكرنا

(10)

. والله أعلم.

(1)

في «ج» : [ولابد].

(2)

الهداية (3/ 119).

(3)

سقط من «س» ، وفي «ج»:[ر ح].

(4)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 385)، البناية شرح الهداية (9/ 124).

(5)

الهداية (3/ 119).

(6)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 214).

(7)

في الهداية (3/ 119): «فإذا سمع شاهداً يشهد بشيء؛ لم يجز له أن يشهد على شهادته إلا أن يشهد عليها» .

(8)

في «ج» : [ر ح عليه].

(9)

في «س» : [بأنْ].

(10)

يُنظر: مجمع الأنهر (2/ 192).

ص: 33

وقوله: «وقيل: هذا بالاتفاق» ، إشارةً إلى أول المسألة، وهو قوله:

«ولا يحلُّ للشَّاهد إذا رأى خطَّه أن يشهد»

(1)

.

أي: ههنا لا يحلُّ للشَّاهد أن يشهد بالاتفاق.

«وإنَّما الخلاف فيما إذا وجد القاضي شهادةً في ديوانه»

(2)

.

أي: الشُّهود شهدوا فأثبت القاضي هذه الشَّهادة في قِمَطرِهِ

(3)

، ثمَّ جاء المشهود له يطلب الحكم

(4)

.

جعل هذه المسألة في أدب القاضي في المبسوط ثلاثة خصوم، كما هو المذكور في باب السُّنن من أصول الفقه.

أحدها: «أنَّ القاضي إذا وجد في ديوانه صحيفة فيها شهادة شهود لا يحفظ أنَّهم شهدوا عنده بذلك، فعلى قول أبي حنيفة [رحمة الله عليه]

(5)

أن يتفكَّر في ذلك حتَّى يتذكَّر؛ وليس له أن يقضي بذلك إن لم يتذكَّره.

وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله-: إذا وجد ذلك في قِمَطره تحت خاتمه، فعليه أن يقضي [به]

(6)

وإن لم يتذكَّر، وهذا منها نوع رخصة؛ فالقاضي لكثرة أشغاله يعجز عن أن يحفظ كلَّ حادثة؛ ولهذا يكتب.

وإنَّما يحصل المقصود بالكتاب إذا جاز له أن يعتمد على الكتاب عند النِّسيان؛ فإنَّ الآدمي ليس في وِسِعَه التجرُّد عن النِّسيان.

ألا ترى إلى ما ذكر الله تعالى في حق من هو معصوم: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى}

(7)

.

وفي تخصيصه بذلك بيان أنَّ غيره يَنسى، وسُمِّي الإنسان إنساناً لأنَّه ينسى،/ قال الله تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}

(8)

، ولو لم نجز له الاعتماد على كتابه عند نسيانه؛ أدَّى إلى الحرج، والحرج مدفوعٌ، وما كان في قِمَطره تحت خاتمه فالظَاهر أنَّه حقٌّ؛ وإن لم تصل إليه يد مغيرة ولا زائدة فيه، والقاضي مأمور بإتِّباع الظَّاهر.

(1)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 119): «ولا يحل للشَّاهد إذا رأى خطَّه أن يشهد إلا أن يتذكر الشَّهادة؛ لأنَّ الخطُّ يشبه الخطَّ، فلم يحصل العلم، قيل هذا على قول أبي حنيفة/، وعندهما يحل له أن يشهد، وقيل هذا بالاتفاق» .

(2)

الهداية (3/ 119).

(3)

القِمَطر: هو ما تصان فيه الكتب، وجمعه قماطر، وهو لفظ معرب.

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 125)، تحرير ألفاظ التنبيه (1/ 334)، مختار الصحاح (1/ 260)، معجم لغة الفقهاء (1/ 370).

(4)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 387).

(5)

في «ج» : [ر ح عليه].

(6)

سقط من النسختين، وهي زيادة من المبسوط لإتمام المعنى.

(7)

سورة الأعلى: آية 6.

(8)

سورة طه: آية 115.

ص: 34

ومذهب أبي حنيفة رحمه الله هو العزيمة؛ فالمقصود من الكتاب أن يتذكَّر إذا نظر فيه؛ لأنَّ الكتاب للقلب كالمرآة للعين؛ وإنَّما يعتبر المرآة ليحصل الإدراك بالعين؛ وإذا لم يحصل كان وجوده كعدمه، فكذلك التذكَّر بالقلب عند النَّظر فيه؛ فإذا لم يتذكَّر كان وجوده كعدمه، وهذا؛ لأنَّ الكتاب يُزوَّرُ ويُفتَعَلُ به، والخطُّ يشبه الخطَّ، والخاتمُ يشبه الخاتمَ.

وليس للقاضي أن يقضي إلا بعلم، وبوجود الكتاب لا يستفيد العلم مع احتمال التزوير والافتعال به.

والثاني: أنَّ في الشَّاهد إذا وجد شهادته في صكٍّ، وعلم أنَّه خطَّه وهو معروف؛ ولكن لم يتذكَّر الحادثة.

والثالث: إذا سمع الحديث فوجده مكتوباً بخطِّه، ووجد سماعه مكتوباً بخط غيره، وهو خطٌ معروفٌ؛ ولكنَّه لم يتذكَّر في الفصول الثَّلاثة عند أبي حنيفة رحمه الله

(1)

، ليس له أن يعتمد الكتاب، ولهذا قلَّت روايته؛ لأنَّه كان يشترط في روايته الحفظ من حين يسمع إلى أنْ يروي، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نضَّر الله امرأ سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً، فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَّا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَن لَم يَسمَعهَا»

(2)

.

ومحمد/ في الفصول الثَّلاثة أخذ بالرُّخصة؛ للتيسير على الناس.

وقال: يَعتمد خَطُّهُ إذا كان معروفاً، وأبو يوسف/ في مسألة القاضي ورواية الأخبار أخذ بالرُّخصة؛ لأنَّ المكتوب كان في يده.

وفي مسألة الشَّهادة أخذ بالعزيمة، فقال: الصَّكُّ الذي فيه الشَّهادة كان في يد الخَصم، فلا يأمن الشَّاهد التَّغيير والتَّبديل فيه؛ فلا يعتمد خطُّه في الشَّهادة ما لم يتذكَّر الحادثة.

وإن وجد القاضي سجلاً في خريطته؛ ولم يتذكَّر الحادثة، فهو على الخلاف الذي بيَّنا، وإن نسي قضاءه ولم يكن سجَّل؛ فشهد عنده شاهدٌ أنَّك قضيت بكذا لهذا على هذا؛ فإن تذكَّر أمضاه، وإن لم يتذكَّر؛ فلا إشكال أنَّ على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقضي بذلك، وقيل على قول أبي يوسف لا يعتمد ذلك، وعند محمد رحمه الله

(3)

يعتمد ذلك فيَقضِي به، وعلى هذا من سمع غيره حديثاً، ثم نسي ذلك راوي الأثر فسمعه ممن يروي عنه، فعند أبي يوسف رحمه الله ليس له أن يعتمد رواية الغير عنه كما لا يفعل، وذلك شاهد الأصل إذا شهد عنده شاهد الفرع على شهادته، وعن محمد رحمه الله له أن يعتمد ذلك للتيسير من الوجه الذي قرَّرنا.

(1)

سقط من «س» .

(2)

بهذا اللفظ أخرجه: أحمد في المسند (4/ 80)، رقم (16784)، الحاكم في المستدرك (1/ 162)، كتاب العلم، رقم (294)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والدارمي في سننه (1/ 302)، كتاب العلم، باب الاقتداء بالعلماء، رقم (234)، وقال:«إسناده ضعيف؛ ولكن الحديث صحيح» .

(3)

سقط من «س» .

ص: 35

وعلى [هذه]

(1)

المسائل التي اختلف فيها أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في الرواية في الجامع الصغير، وهي ثلاث مسائل سمعها محمد من أبي يوسف، ثم نسي ذلك أبو يوسف رحمه الله، [فكان]

(2)

لا يعتمد رواية محمد رحمه الله

(3)

بناءً على مذهبه في ذلك، ومحمد كان لا يدع الرواية مع ذلك بناءً على مذهبه في ذلك، فحال القاضي كذلك»

(4)

.

وقوله: «أو قضيته»

(5)

؛ أي: وجد حكمه مكتوباً في خريطته

(6)

؛ يحلُّ للقاضي أن يحكم به عندهما؛ وإن لم يتذكَّر الحادثة، بخلاف الشَّهادة في الصَّكِّ على ما ذكرنا.

«في قِمطَرِه»

(7)

؛ أي: خريطته؛ وإنما خَصَّ دليلهما بقوله: لأنَّ ما يكون في قمطرة؛ لأنَّه ذكر أولاً دليل أبي حنيفة رحمه الله

(8)

بقوله؛ «لأنَّ الخطَّ يشبه الخطَّ» .

وقوله: «وعلى هذا»

(9)

إشارةً إلى المذكور قبله، وهو القيلان المذكوران قبله بقوله: «قيل هذا قول أبي حنيفة رحمه الله

(10)

، وقيل هذا بالاتفاق».

«إذا ذكر المجلس الذي كانت فيه الشَّهادة»

(11)

؛ أي: تذكَّر المكان دون الحادثة، [فكان]

(12)

تذكُّر المكان بمنزلة معرفته خطَّه في الشَّهادة دون الحادثة؛ لأن الشَّهادة مشتَقَّة من المشاهدة؛ فالمعنى من الاشتقاق: أن تنتظم الصيغتين معنى واحد بعد اشتراكهما في الحروف الأصول، وهو موجود هاهنا؛ فكان مشتقاً، فصار كالبيع، يعني: أن واحداً إذا أخبره بالبيع لا يسع للسَّامع بالبيع [بالسَّماع]

(13)

؛ بل بالمشاهدة بالبيع، كذا هاهنا؛ وذلك لأنَّ الشَّهادة لا تجوز إلا بعلم، قال الله تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

(14)

، {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}

(15)

؛ لأنَّ الشَّاهد يُعلِم القاضي حقيقة الحال، ويميز الصَّادق من المخبر الكاذب؛ ولا يتحقَّقُ ذلك منه إذا لم يعلم به

(16)

.

(1)

في «ج» : [هذه].

(2)

في «ج» : [وكان].

(3)

سقط من س، وفي «ج»:[ر ح].

(4)

المبسوط (16/ 92 - 93).

(5)

الهداية (3/ 119).

(6)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 387)، البناية شرح الهداية (9/ 125).

والخريطة: وعاء من جلد أو نحوه يشد على ما فيه من صحف ونحوها. معجم لغة الفقهاء (1/ 195).

(7)

الهداية (3/ 120).

(8)

في «ج» : [ر ح].

(9)

قال في الهداية (3/ 119): «إذا تذكر المجلس الذي كان فيه الشهادة أو أخبره قوم ممن يثق به أنا شهدنا نحن وأنت

».

(10)

سقط من «س» ، وفي:«ج» : [ر ح].

(11)

الهداية (3/ 120).

(12)

في «ج» : [وكان].

(13)

في «س» : [بالسمع].

(14)

سورة الزخرف: آية 86.

(15)

سورة يوسف: آية 81.

(16)

يُنظر: المبسوط (16/ 116).

ص: 36

«وإنَّما يستفيد العلم بمعاينة السَّبب، أو بالخبر المتواتر.

فأمَّا بالتَّسامع؛ فلا يستفيد العلم، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

(1)

، وحكم المال أخفُّ من حكم النِّكاح.

فإذا كانت الشَّهادة على المال بالتَّسامع لا تجوز؛ ففي النكاح أولى.

وفي التَّسامع القاضي والشَّاهد سواءٌ، ثم لا يجوز للقاضي أن يقضي بالتَّسامع؛ فكذلك لا يجوز للشاهد/ إلا أنَّا استحسنَّا جواز الشَّهادة على هذه الأشياء الأربعة، وهي: النَّسب، والنِّكاح، والقضاء، والموت؛ لتعامل الناس في ذلك واستحسانهم.

ألا ترى أنَّا نَشهد أنَّ عمر بن الخطاب، وعليَّ ابن أبي طالب؛ فإنَّهما ماتا ولم ندرك شيئاً من ذلك، ونشهد أنَّ فاطمة رضي الله عنها زوجة علي، وأنَّ أسماء امرأة أبي بكر رضي الله عنهم، ونشهد أنَّ شريحاً

(2)

رحمه الله كان قاضياً، ونشهد أنَّهم قد ماتوا ولم ندرك شيئاً من ذلك.

ثم هذه أسباب يقترن بها ما يشتهر، فإنَّ النَّسب يشتهر بالتَّهنئة، والموت بالتَّعزية، والنِّكاحُ بالشُّهود، والوليمة، والقضاء بقراءة المنشور؛ فنزلت الشُّهرة فيها منزلة العَيان في إفادة العلم بخلاف الأموال وغيرها.

يوضِّحه أنَّ هذه الأشياء قلَّما يُعاين سببها حقيقةً، فسبب النَّسب الولادة، ولا تحضرها إلا القابلة؛ وسبب القضاء تقليد السُّلطان ولا يعاين ذلك إلا الخَواصُّ من النَّاس، فلو لم تجز الشَّهادة عليها بالتَّسامع؛ أدَّى إلى الحرج، بخلاف البيوع وغيرها، فإنَّه كلام يسمعه كل [أحدٍ]

(3)

.

وسبب المِلك هو اليد، وهو ما يعاينه كل أحد؛ فلهذا لا تجوز الشَّهادة عليها بالتَّسامع، ثم الأحكام التي تتعلق بهذه الأشياء الأربعة تبقى بعد القضاء قروناً، فلو لم تُجوز الشَّهادة عليها بالتَّسامع؛ لتعطلت الأحكام بانقضاء تلك القرون؛ ولهذا قلنا في الصَّحيح في الجواب: إن الشَّهادة على أصل الوقف بالتَّسامع جائزة؛ ولكن على شرائط الوقف لا تجوز الشَّهادة بالتَّسامع؛ لأنَّ أصل الوقف يشتهر.

(1)

سورة الإسراء: آية 36.

(2)

هو شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية، من أشهر القضاة في صدر الإسلام، عاصر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، ولي القضاء الكوفة في زمن عمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، واستعفي في أيام الحجاج فأعفاه سنة 77 هـ كان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، مات بالكوفة سنة 78 هـ.

يُنظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (5/ 49)، وفيات الأعيان (2/ 460)، الإصابة (3/ 270).

(3)

في «ج» : [واحد].

ص: 37

وأمَّا شرائطه فلا تشتهر، ولابد للشَّاهد من نوع علم ليشهد». كذا في المبسوط

(1)

.

وأمَّا الشَّهادة على الدخول بالشهرة والتَّسامع، ذكر الخصَّاف رحمه الله

(2)

أنَّه يجوز؛ لأنَّ هذا أمر يشتهر، ويتعلق به أحكام مشهورة من النَّسب، والمهر، والعدَّة، وثبوت الإحصان

(3)

بخلاف الزنا، حيث لا يجوز الشَّهادة فيها بالتَّسامع؛ لأنَّ الزِّنا فاحشةٌ، والشَّهادة بالتَّسامع؛ إنما جازت احتيالاً لإحياء حقوق النَّاس، والفاحشة لا يُحتال لإثباتها

(4)

.

وأمَّا الشَّهادة على المهر بالشُّهرة والتَّسامع؛ فقد ذكر في نكاح المنتقى

(5)

أنَّه يجوز، كذا في الذَّخيرة؛ ثم صوَّر تحمل الشَّهادة في هذه الأشياء الأربعة

(6)

.

«أمَّا النَّسب فصورته إذا سمع الرجل من النَّاس أنَّ فلان ابن فلان الفلاني وسع أن يشهد بذلك؛ وإن لم يعاين الولادة على فراشه بالتَّوارث والتَّعامل؛ فإنَّا نشهد أنَّ أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه عنه ابنَ أبي قُحافة، وعمرَ رضي الله عنه ابنَ الخطَّاب، وعثمانَ رضي الله عنه ابن عفَّان، ونحن ما رأينا أبا قحافة، ولا الخطَّاب، ولا عفَّان، ولا أدركناهم.

ولأنَّ سبب النَّسب العلوق منه، وأنَّه لا يمكن الوقوف عليه حقيقة؛ لأنَّه أمر باطنٌ لا يعلمه إلا الله تعالى.

وسبب العلوق وهو الوطء يكون سراً في النَّاس، لا يعرفه إلا الواطئان، والولادة لا يعرفها غير القابلة؛ فتعذَّر الوقوف على حقيقته؛ فلم يُكَلَّف الشَّهود [معرفة]

(7)

حقيقته، واكتفي فيه بالدليل الظَّاهر، وهو الشهرة.

(1)

المبسوط (16/ 149 - 150).

(2)

في «ج» : [ر ح].

(3)

الإحصان: هو أن يكون الرجل عاقلاً بالغاً مسلماً دخل بامرأة بالغة عاقلة حرةٍ مسلمة بنكاح صحيح. التعريفات الفقهية (ص 19).

(4)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 303)، العناية شرح الهداية (7/ 391).

(5)

هو كتاب: «المنتقى في فروع الحنفية» للحاكم الشهيد أبي الفضل محمد بن محمد ابن أحمد المقتول شهيداً سنة 334 هـ، فيه نوادر من المذهب، وقال الحاكم: نظرت في ثلاثمائة جزء مؤلف مثل الأمالي، والنوادر حتى انتقيت كتاب المنتقى. كشف الظنون (2/ 1851).

وللحاكم الشهيد/ مؤلفات منها: «المنتقى» ، و «المستخلص من الجامع في الفروع» ، وكتاب «الكافي في الفروع» ، وهو الذي شرحه الإمام السرخسي في المبسوط.

يُنظر: هدية العارفين (1/ 463)، كشف الظنون (2/ 1851).

(6)

يُنظر: المحيط البرهاني (3/ 162)، لسان الحكام (1/ 241).

(7)

في «س» : [معرفته].

ص: 38

وأمَّا النِّكاح فصورته إذا رأى رجلاً يدخل على امرأة، وسمع من النَّاس أنَّ فلانة زوجة فلان، يسعه أن يشهد أنَّها زوجته، وإن لم يعاين عقد النكاح للتوارث، وكذا في غيره»

(1)

. كذا في الذَّخيرة.

«وقيل في الموت يكتفي بإخبار واحدٍ أو واحدةٍ، فقد فرَّقوا جميعاً بين الموت وبين الأشياء الثَّلاثة، فاكتفوا بخبر الواحد في الموت دون الأشياء الثَّلاثة.

ووجه الفرق أنَّ الموت قد يَتَّفق في موضع لا يكون ثمَّةَ إلا واحد؛ فلو قلنا: إنَّه لا يسع الشَّهادة على الموت بإخباره؛ ضاعت الحقوق المتعلِّقة بالموت، بخلاف هذه الأشياء الثَّلاثة؛ لأنَّ الغالب فيها أن تكون بين الجماعة.

أمَّا النِّكاح؛ فإنَّه لا ينعقد إلا بشهادة الاثنين، وتقليد الإمام القضاء يكون بين الجماعة في الغالب، وكذلك الولادة»

(2)

.

[ثمَّ]

(3)

عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله- تجوز الشَّهادة بخبر الاثنين في النَّسب، والقضاء، والنِّكاح وعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه

(4)

: لا تجوز الشَّهادة ما لم يسمع ذلك من العامَّة، بحيث يقع في قلبه صدقُ الخبر

(5)

.

ثم في الأشياء الثَّلاثة إذا ثبتت الشُّهرة عندهما بخبر عدلين بشرط أن يكون الإخبار بلفظة الشَّهادة. كذا ذكره الخصَّاف وشيخ الإسلام، وبه أخذ الصَّدرُ الشَّهيد برهان الدين جدي

(6)

رحمهم الله؛ لأنَّ لفظة الشَّهادة تُوجب زيادة علم شرعاً لا توجبه لفظةُ الخبر.

وفي فصل الموت لما تثبت الشُّهرة بخبر الواحد بالإجماع؛ لم يشترط فيه لفظة الشَّهادة من الواحد

(7)

. كذا في الذَّخيرة.

(1)

المحيط البرهاني (8/ 301).

(2)

المحيط البرهاني (8/ 302).

(3)

سقط من: «س» .

(4)

في «ج» : [ر ح].

(5)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 103)، العناية شرح الهداية (7/ 390)، البناية شرح الهداية (9/ 127)، مجمع الأنهر (2/ 193).

(6)

هو عمر بن عبد العزيز بن عمر بن مازة، أبو محمد، برهان الأئمة، حسام الدين، المعروف بالصَّدر الشهيد، الإمام ابن الإمام والبحر ابن البحر تفقه على والده، من أكابر الحنفية، من أهل خراسان، له:«الجامع» ، و «الفتاوى الصغرى» ، و «الفتاوى الكبرى» ، و «عمدة المفتي والمستفتي» ، و «الواقعات الحسامية» ، و «شرح أدب القاضي، للخصاف» ، و «شرح الجامع الصغير» ، «ترتيب الجامع الصغير» . قتل بسمرقند ودفن في بخارى سنة 536 هـ.

يُنظر ترجمته في: الجواهر المضية (1/ 391)، الأعلام (5/ 51)، الفوائد البهية (149).

(7)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 303).

ص: 39

وينبغي أن يطلق أداء الشَّهادة، ويقول: أشهد أنَّه ابنه، وأشهد أنَّها امرأته.

وأمَّا لو/ فَسَّر القاضي أنَّه يشهد بالتَّسامع لم تُقبَل شهادته؛ ولكن ذكر في الفصول للإمام الأستروشني

(1)

، وقال: قال رشيد الدين

(2)

: شهدا على النِّكاح فسألهما القاضي هل كنتما حاضرين، فقالا: لا، فإنهم لا تُقبَل شهادتهما؛ لأنَّه يحلُّ لهما الشَّهادة على النكاح بناءً على التَّسامع، أو بناءً على أنَّهما رأياهما يسكنان في موضع

(3)

.

وقيل لا يقبل؛ لأنَّهما لما قالا: لم نعاين العقد؛ تبين للقاضي أنهما يشهدان بناءً على التَّسامع، ولو شهدا وقالا: نشهد لأنَّا سمعنا؛ لا تُقبَل شهادتهما؛ فكذا هذا.

وقال صاحب العُدَّة: لو شهدا عند القاضي وقالا: نشهد أنَّ فلاناً مات، أخبَرَنَا بذلك من نثق به، جازت شهادتهما؛ هو الأصح، والخصَّاف جوَّز ذلك أيضاً

(4)

.

وفيه اختلاف المشايخ.

وقال الإمَام ظهير الدِّين: لو شهدا على النِّكاح والنَّسب، [وفسَّرا]

(5)

، وقال: لأني سمعت ذلك من قومٍ لا يتصور اجتماعهم على الكذب، لا يقبل، وقيل: يقبل

(6)

.

وكذلك إذا قال: دفناه، أو شهدنا جنازته، تُقبَل الشَّهادة؛ لأنَّه لا يُدفن ولا يوضع على الجنازة إلا الميت؛ فكانت شهادةٌ على الموت

(7)

.

وههنا مسألةٌ عجيبةٌ لا رواية لها: أنَّه إذا لم يعاين الموت إلَّا واحد، ولو شهد عند القاضي لا يقضي بشهادته وحده ماذا يصنع، قالوا: يخبره ذلك عدلاً مثله، فإذا سمع منه حلَّ له أن يشهد على موته، فيشهد هو مع ذلك الشَّاهد حتَّى يقضي القاضي بشهادتهما.

(1)

الفصول: لمحمد بن محمود بن حسين، مجد الدين أبو حفص الأستروشني، من المجتهدين، تلميذ صاحب الهداية، والفصول على ثلاثين فصلاً، اختار فيها مسائل القضاء والدَّعاوى، وما يكثر دورها على القضاة، وله كتاب جامع أحكام الصغار، (ت 632 هـ). يُنظر: الفوائد البهية (ص 200)

(2)

هو محمد بن عمر بن عبد الله، أبو بكر، الإمام رشيد الدين المعروف بالصائغ، السنجي، من مؤلفاته:«شرح تكملة القدوري» ، و «الفتاوى الرشيدية» ، مات سنة 598 هـ.

يُنظر: ترجمته في: الجواهر المضية (2/ 103)، معجم المؤلفين (2/ 103).

(3)

يُنظر: فتح القدير (7/ 390).

(4)

يُنظر: فتح القدير (7/ 390)، والعناية شرح الهداية (7/ 391).

(5)

في «ج» : [فسر].

(6)

يُنظر: فتح القدير (7/ 390).

(7)

يُنظر: المبسوط (16/ 154)، المحيط البرهاني (8/ 306).

ص: 40

وذكر رشيد الدِّين رحمه الله

(1)

في فتاواه: لو شهد رجل بالموت، وشهد آخر بالحياة، فالمرأة تأخذ بقول من كان عدلاً منهما، سواءٌ كان العدل أخبر بالموت أو الحياة، ولو كان كل منهما عدلين تأخذ بقول من يخبر بالموت؛ لأنَّه يثبت المعارض [بالحياة]

(2)

.

وذكر فيها أيضاً أنَّه إنَّما تجوز الشَّهادة على الموت بالسَّماع إذا كان الرجل معروفاً مشهوراً، بأنْ كان عالماً، أو من العمال؛ أمَّا إذا كان تاجراً، أو من هو مثله لا يجوز الشَّهادة على الموت إلا المعاينة

(3)

.

‌الشهادة على النسب بطريق التسامع

«وعن أبي يوسف رحمه الله

(4)

آخراً أنَّه يجوز في الولاء؛ لأنَّه بمنزلة النسب، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم

(5)

: «الوَلَاءُ لُحمَةٌ كَلُحمَةِ النَّسَبِ»

(6)

»

(7)

.

«ثمَّ الشَّهادة على النَّسب بطريق التَّسامع، والشُّهرة جائزة؛ فكذلك على الولاء؛ لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم

(8)

قرن بينهما، ألا تَرى أنَّا نشهد أنَّ قُنبراً

(9)

مولى علي، وعكرمة

(10)

مولى ابن عبَّاس رضي الله عنهم، وإنْ لم ندرك ذلك.

(1)

سقط من «ج» .

(2)

سقط من «س» .

(3)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 128).

(4)

في «ج» : [ر ح].

(5)

في «س» : [عليه السلام].

(6)

أخرجه: الدارمي في سننه (4/ 2019)، كتاب الفرائض، باب بيع الولاء، رقم (3202)، وابن حبان في صحيحه (11/ 326)، رقم (4950)، والحاكم في المستدرك (4/ 379)، كتاب الفرائض، رقم (7990)، وقال:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي» ، والطبراني في المعجم الأوسط (2/ 82)، رقم (1318)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 240)، رقم (12755)، قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (1/ 294):«صححه ابن حبان والحاكم وأصله في الصحيحين بغير هذا اللفظ» ، وصححه الألباني في إرواء الغليل (6/ 109)، رقم (1668).

(7)

الهداية (3/ 120).

(8)

في «س» : [عليه السلام].

(9)

قنبر مولى وحاجب أمير المؤمنين علي، استوطن بيهق مدة، وتزوج فيها، وقبره بنيسابور، قالوا: لم يثبت حديثه، وقلما روي.

يُنظر ترجمته في: تاريخ بيهق (1/ 122)، ميزان الاعتدال (3/ 392).

(10)

عكرمة بن عبد الله، أبو عبد الله المدني، مولى عبد الله بن عباس، أصله من أهل البربر من المغرب، تابعي، ثقة، عالم بالتفسير، وكان من أعلم الناس بالتَّفسير والمغازي، طاف البلاد، ولد سنة 25 هـ، وتوفي سنة 105 بالمدينة المنورة.

ترجمته في: وفيات الأعيان (3/ 265)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 342)، الأعلام (4/ 244).

ص: 41

ثُمَّ الحكم [المتعلِّق]

(1)

بالولاء يبقى بعد قرن كالحكم المتعلِّق بالنَّسب، فلو لم تُجوَّز الشَّهادة عليه بالتَّسامع؛ تعطَّلت الأحكام المتعلِّقة بالولاء»

(2)

.

«وَجهُ قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-إنَّ العتق إزالة ملك اليمين بالقول، فلا يجوز الشَّهادة عليه بالتَّسامع كالبيع.

وبيانُه فيما قرَّرنا أنَّ العتق كلامٌ يسمعه النَّاس كالبيع؛ وليس كالولادة، فلا حاجة إلى إقامة التَّسامع فيه مقام البيِّنة؛ ثم لا يقترن سبب الولاء ما يشتهر به؛ فالإنسان يُعتق عبدَه ولا يعلم به غيره؛ فكان هذا دون البيع؛ لأنَّ البيع ينعقد ما لم يعلم به المشتري والعتق نافذ، وإن لم يعلم المُعتق بخلاف ما تقدَّم؛ لأنَّه يقترن بأسبابه ما يشتهر به من الوجه الذي قرَّرنا». كذا في المبسوط

(3)

.

وذكر في أدب القاضي للصَّدر الشَّهيد: وذكر شمسُ الأئمَّة الحلواني

(4)

أنَّ الخلاف ثابتٌ أيضاً في العتق؛ فإنَّ العتق يثبت الولاء، والشَّهادة على الولاء شهادة على العتق؛ لكن صاحب الكتاب لم يذكر.

وذكر الشَّيخ الأمام [شمس الأئمة]

(5)

السرخسي في شرح هذا الكتاب أنَّ الشَّهادة على العتق بالتَّسامع لا تُقبَل بالإجماع؛ إنَّما الخلاف على الشَّهادة بالتَّسامع في الولاء، كما ذكر صاحب الكتاب: -أراد به الخصَّاف-، ثم صاحب الكتاب شَرَطَ لسماع الشَّهادة بالتَّسامع على الولاء عند أبي يوسف شرطاً لم يشترط محمد في المبسوط، فقال: إنَّما يُقبل إذا كان العتق مشهوراً، وللمعتق أبوان أو ثلاثة في الإسلام. محمد رحمه الله

(6)

توسع

(7)

.

(1)

في «ج» : [المعلق].

(2)

المبسوط (16/ 152).

(3)

المبسوط (16/ 152).

(4)

هو عبد العَزِيز بن أَحمد بن نصر بن صَالح الحلوانِي الملقب شمس الأَئِمَّة من أهل بُخَارى، إِمَام أَصحَاب أبي حنيفَة بهَا في، وقته حدث عَن أبي عبد الله غُنجَار البُخَارِيّ، تفقه على القَاضِي أبي عَليّ الحُسَين بن الخضر النَّسَفِيّ، روى عَنهُ أَصحَابه مثل أبي بكر مُحَمَّد بن أَحمد بن أبي سهل السَّرخسِيّ شمس الأَئِمَّة، وَبِه تفقه وَعَلِيهِ تخرج وانتفع، من كتبه «المبسوط» في الفقه، و «النوادر» في الفروع، و «الفتاوى» و «شرح أدب القاضي» لأبي يوسف. توفي في كش ودفن في بخارى سنة 448 هـ. يُنظر ترجمته في: الجواهر المضية (1/ 318)، تاج التراجم (1/ 189)، الأعلام (4/ 13).

(5)

سقط من «ج» .

(6)

في «ج» : [ر ح].

(7)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 130)، البحر الرائق (4/ 216).

ص: 42

ولو أنَّ رجلين ادَّعى كلُّ واحدٍ منهما ولاء رجلٍ ميِّتٍ وأقام بينة أنَّ فلاناً الميِّت كان عبداً له، وأنَّه أعتقه، وأنَّه مولاه ووارثه، لا يعلمون له وارثاً غيره قُضيت بالولاء والميراث بينهما نصفين؛ لأنَّ الولادة [تحتمل]

(1)

الاشتراك، فصار كالأموال فيقضى بينهما نصفين في أصله دون شرائطه

(2)

.

قال الشيخ الإمام ظهير الدِّين المرغيناني

(3)

رحمه الله

(4)

: لابدَّ من بيان الجهة، بأن يشهدوا أنَّه وقفٌ على هذا المسجد، أو المقبرة، أو ما أشبهه حتَّى لو لم يذكروا ذلك في شهادتهم لا تُقبَل شهادتهم

(5)

، كذا في الذَّخيرة.

«ومن كان في يده شيءٌ سِوى العبد والأمة، وسعك أن تشهد أنَّه له»

(6)

.

فصورةُ المسألة: رجلٌ رأى عيناً في يد إنسانٍ؛ ثم رأى ذلك العين في يد آخرَ، والأوَّلُ يدَّعي المِلك؛ وَسِعَه/ أن يشهد بأنَّه للمدِّعي

(7)

.

«لأنَّ اليد أقصى ما يستدل به على المِلك»

(8)

: إذ لا دليل لمعرفة المِلك في حقِّ الشَّاهد سِوى اليد بلا منازع؛ لأنَّ أكثر ما في الباب أن يعاين أسباب المِلك من الشِّراء والهِبة، وما أشبه ذلك؛ لأنَّ الشِّراء إنما يفيده المِلك إذا كان المَبِيعُ مِلكاً للبائع، وإنَّما يعرف كون المبيع ملكاً له بيده بلا منازع

(9)

.

فثبت أن لا دليل على الملك سوى اليد، [فكان]

(10)

للشَّاهد أن يعتمد مثل هذا الدَّليل اعتباراً للظَّاهر عند تعذُّر الوقوف على الحقيقة

(11)

. كذا في الجامع الصغير البرهاني.

وذكر الإمام قاضي خان رحمه الله

(12)

: لأنَّ المِلك لا يُعرف إلَّا باليَد؛ فإنَّ الإنسان وإن عاين البيع وغير ذلك، لا يعلم مِلك المشتري إلَّا بملك البائع؛ وإنَّما يعلم ملك البائع باليد، فلو لم يجز أداء الشَّهادة بحكم اليد؛ ينسدُّ باب الشَّهادة، والشَّهادة حجة بالإجماع

(13)

.

(1)

في «ج» : [مما يحتمل].

(2)

يُنظر: المبسوط (8/ 101).

(3)

هو الإمام أبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبد العزيز الفرغاني، المرغيناني، صاحب كتاب الهداية. الجواهر المضية (1/ 54)

(4)

في «ج» : [ر ح].

(5)

يُنظر: البحر الرائق (4/ 216)، الجوهرة النيرة (2/ 234)، العناية شرح الهداية (7/ 392)، البناية شرح الهداية (9/ 130)، فتح القدير (7/ 393).

(6)

الهداية (3/ 120).

(7)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 130)، درر الحكام (2/ 375)، قرة عيون الأخيار (7/ 516).

(8)

الهداية (3/ 120).

(9)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 130)، تبيين الحقائق (4/ 216).

(10)

في «ج» : [فكان].

(11)

يُنظر: تبيين الحقائق (4/ 216).

(12)

في «ج» : [ر ح].

(13)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 394).

ص: 43

ولا يُشترط انضمامُ التصرُّف إليها؛ لأنَّ يد التَّصرف قد تكون بغير المِلك أيضاً، فنجعل نفس اليدِّ دليلاً إلَّا في العبد والأمة؛ لأنَّ الحرَّ قد يخدم الحرَّ كأنَّه عبده

(1)

.

وأمكن هناك إزالة هذا الاحتمال [بتحكيم]

(2)

الإقرار بالرِّق؛ فلم يسقط اعتبار الاحتمال فيهما حتَّى لو عرف أنَّه رقيقٌ [وَسِعَه]

(3)

أن يشهد لحكم اليدِّ أنَّه مِلكه؛ لأنَّ الرقيق لا يدَّ له على نفسه، ثم كما يحلُّ للشَّاهد أن يشهد بحكم اليد بالمِلك؛ فيحلُّ للقاضي أيضاً القضاءُ به، حتَّى إنَّ القاضي لو عاين يده في حال قضائه؛ حلَّ له أن يقضي، كما يحل للشَّاهد أن يشهد.

‌الإحاطة والتيقن في الشهادة

«وعن أبي يوسف أنَّه يُشترط مع ذلك أن يقع في قلبه أنَّه له»

(4)

.

أسند هذا القول في الفوائد الظهيرية إلى أبي يوسف، ومحمد، وقال:[وعن]

(5)

أبي يوسف، ومحمد: إذا وقع في قلب الرائي أنَّه مِلكه وَسِعَه أن يشهد؛ وهذا لأنَّ الأصل في الشَّهادة الإحاطةُ والتيقُّن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا عَلِمتَ مِثلَ الشَّمسِ فَاشهَد وَإلَّا فَدَع»

(6)

، فعند إعوَاز ذلك يُصار إلى ما يشهد به القلب؛ ولهذا قيل: إذا رأى إنسانٌ دُرَّةً ثمينةً في يد كنَّاسٍ، أو كِتاباً في يدِ جاهلٍ ليس [في]

(7)

آبائه من هو أهل لذلك، لا يَسِعُه أن يشهد له بالمِلك، وبعضهم شرطوا مع هذا أن يراه متصرِّفاً فيه

(8)

.

وكان القاضي الإمام أبو على النسفي

(9)

رحمه الله

(10)

يشترط مع رؤية اليد والتصرُّف أن يقع في قلبه أنَّه مِلكه؛ فإن قيل الشاهد إذا قيد الشَّهادة بما استفاد العلم به من معاينة اليد؛ فالقاضي لا يقبل شهادته، ولو جاز تحمُّل الشَّهادة بالمشاهدة يقبل القّاضي الشَّهادة

(11)

.

(1)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 298)، البناية شرح الهداية (9/ 130).

(2)

في «س» : [بتحكم].

(3)

في «ج» : [وسعك].

(4)

الهداية (3/ 120).

(5)

في «س» : [عن].

(6)

سبق تخريجه، ص (112).

(7)

في «س» : [من].

(8)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 299).

(9)

هو الحسين بن الخليل بن أحمد بن محمد، الإمام، أبو علي النسفي، الفقيه، نزيل سمرقند، تفقه ببخارى على أبي الخطاب محمد بن إبراهيم الكعبي القاضي، وببلخ على الإمام أبي حامد الشجاعي، ورد بغداد حاجاً، سنة 510 هـ، وحدث بها، وتوفي/، في شهر رمضان، سنة 533 هـ.

يُنظر ترجمته في: تاريخ الإسلام للذهبي (11/ 591)، الجواهر المضية (1/ 211)، الطبقات السنية ترجمة رقم (746).

(10)

في «ج» : [ر ح].

(11)

يُنظر: المحط البرهاني (8/ 299).

ص: 44

قلنا: نحن جعلنا العيان سبباً للجواز لا للوجوب، والقاضي يلزمه القضاء [بالمِلك]

(1)

بالشَّهادة، ونحن ما صحَّحنا ذلك؛ ولهذا قلنا: إنَّ الرَّجل إذا كانت في يده دارٌ يتصرَّفُ فيها تصرُّف المُلَّاك بِيعت دارٌ بجنب هذه الدَّار، وصاحب اليد أن يأخذها بالشُّفعَة فالقاضي لا يقضي له، يعني عند إنكار المشتري أن تكون الدَّار مِلك الشفيع؛ لأنَّ العَيان ليس سبباً للوجوب؛ لكنَّه سببٌ للجواز، ويُحتمل أن يكون هذا تفسيراً لإطلاق محمد رحمه الله

(2)

.

يُحتمل أن يكون قوله: «أن يقع في قلبه» : أنَّه له تفسير الإطلاق، وهو قوله: «[وسِعك]

(3)

أن تشهد أنَّه له».

وبه قال بعض مشايخنا، وهو الخصَّاف رحمه الله

(4)

.

ذكره الصَّدرُ الشهيد في أدب القاضي

(5)

.

وفيه أيضاً: [وقال]

(6)

أبو يوسف/: لا يشهد على ذلك حتَّى تقع معرفة ذلك في قلبه

(7)

.

يجوز أن يكون هذا قول الكلِّ، وبه نأخذ.

‌في اشتراط معاينة الملك والمالك في الشهادة بالملك

«ثمَّ إن عاين المالك والمِلك

»

(8)

إلى آخره.

«فالقسمة العقليَّة مذكورةٌ، وهي دليل الانحصار.

«ثم إن عاين المَالك والمِلك» بأن عرف المالك بوجهه، واسمه، ونسبه، وعرف المِلك بحدوده، وحقوقه، ورآه في يده يتصرّف تصرُّف المُلَّاك، ويدَّعي أنَّه له، ووقع في قلبه أنَّه له؛ حلَّ له أن يشهد بالمِلك؛ لأنَّ هذه شهادةٌ عن علمٍ وبصيرةٍ.

وإن لم يعاين المالك والمِلك؛ [ولكن]

(9)

سمع من النَّاس قالوا لفلان بن فلان في قرية كذا ضيعة حدُّها كذا وكذا؛ لا يحل له أن يشهد له بالمِلك؛ لأنَّه مجازف في هذه الشَّهادة.

وإن عاين المالك وعرَفَه معرفةً تامَّة؛ ولكن لم يعاين المِلك بأن سمع من النَّاس أنَّ لهذا الرجل في قرية كذا ضَيعة حدودها هكذا، وهو لم يعرف تلك الضيعة، ولم يعاين يده عليها، لا يحلُّ له أن يشهد له بالملك.

(1)

سقط من «ج» .

(2)

في «ج» : [ر ح].

(3)

في «س» : [وسعه].

(4)

سقط من: «ج» .

(5)

يُنظر: البناية شرح الهداية (9/ 131).

(6)

في «س» : [قول].

(7)

يُنظر: المحيط البرهاني (8/ 307).

(8)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 121): «إن عاين المالك الملك؛ حلَّ له أن يشهد، وكذا إذا عاين الملك بحدوده دون المالك استحساناً؛ لأنَّ النَّسب يثبت بالتَّسامع؛ فيحصل معرفته، وإن لم يعاينها أو عاين المالك دون الملك لا يحل له» .

(9)

زيادة من: «ج» .

ص: 45

وإن عاين المِلك دون المالك بأنْ عاين مِلكاً محدوداً، ينسب ذلك المِلك إلى فلان بن فلانٍ الفلانِيِّ، وهو لم يعاين فلاناً بوجهه، ولا يعرفه بِنَسَبِهِ؛ فالقياس أن لا تحلُّ له الشَّهادة؛ لأنَّ هذه شهادة بالمِلك للمالك؛ ثم الجَهَالة في المشهود به منع حِلُّ الشَّهادة، فالجهالة في المشُّهود له أيضاً، وجب أن تمنع.

وفي الاستحسان تحلُّ؛ لأنَّ المِلك معلومٌ، والنَّسب يَثبت بالشُّهرة والتَّسامع، فكانت هذه/ شهادة بمعلومٍ لمعلومٍ.

يوضِّحُه أنَّ صاحب المِلك ربما يكون امرأةً لا تَبرُزُ، ولا تخرج؛ فلو اعتبرنا تصرُّفَها بنفسها لجواز الشَّهادة بالمِلك؛ لبطل حقُّها؛ فسقط اعتبار التصرُّف واكتفى فيه بالتَّسامع.

فإذا سمع أنَّ هذه الضَّيعة لفلانةٍ وفي يدها، ووقع في قلبه أنَّ الأمر كما سمع؛ حلَّ له أن يشهد بالمِلك لها»

(1)

. كذا في الذَّخيرة، وأدب القاضي للصَّدر الشهيد.

فإن قيل: يلزم على جواب الاستحسان أن يشهد على مِلك المال بالتَّسامع، والشَّهادة على المال بالتَّسامع لا تجوز، قلنا: إنما لا تجوز إذا كانت الشَّهادة في حق المال قصداً.

وأمَّا إذا كانت الشَّهادة بالتَّسامع في حق النَّسب، وفي ضمنه ثبوت المال تجوز اعتباراً للمتضمِّن، وههنا كذلك؛ لأنه يسمع أنَّ هذا المِلك لفلان بن فلان؛ فحصر له العلم له بنسب المالك بالتَّسامع، وثبت ملكه في ضِمنه؛ لأنَّه لا يد لهما كالثِّياب

(2)

.

‌في تعبير العبد والأمة عن أنفسهم

«وإن كانا كبيرين»

(3)

: أراد بالكبيرين أن يكونا يعبِّران عن أنفسهما، سواءٌ كانا صبيَّين عاقلين، أو بالغين، ولم يُرد بهما البالغين لا غير، بدلالة ذكرهما بمقابلة أنَّهما صغيران لا يعبِّران عن أنفسهما.

ولأنَّ الإمام المحبوبي

(4)

رحمه الله صرَّح بما قلتُ، فقال: بخلاف العبد والأمة إذا كانا كبيرين، أو صغيرين يعبِّران عن أنفسهما؛ أي: حينئذٍ لا يكون اليد دليل المِلك عليهما؛ لأنَّهما في أيدي أنفسهما من وجه

(5)

.

(1)

المحيط البرهاني (8/ 300)، ويُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 395).

(2)

يُنظر: فتح القدير (7/ 395).

(3)

المسألة بتمامها في الهداية، قال (3/ 120):«وأمَّا العبد والأمة، فإنْ كان يعرف أنهما رقيقان فكذلك؛ لأنَّ الرقيق لا يكون في يد نفسه، وإنْ كان لا يعرف أنَّهما رقيقان إلا أنهما صغيران لا يعبران عن أنفسهما فكذلك؛ لأنَّه لا يد لهما، وإن كانا كبيرين فذلك مصرف الاستثناء؛ لأنَّ لهما يداً على أنفسهما، فيدفع يد الغير عنهما فانعدم دليل الملك» .

(4)

محمود بن عبيد الله بن ابراهيم المحبوبي، الحنفي، الشهير ببرهان الشريعة، فقيه، من آثاره:«الفتاوى» ، و «الواقعات» ، و «وقاية الرواية في مسائل الهداية» في فروع الفقه الحنفي، توفي في حدود سنة 673 هـ.

يُنظر ترجمته في: تاج التراجم (2/ 101)، معجم المؤلفين (12/ 178).

(5)

يُنظر: فتح القدير (7/ 396).

ص: 46

فإنَّهما من أجل أن يثبت لهما اليد على أنفسهما، وذلك يدفع يد الغير عنهما حكماً، حتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الذي يعقل لو أقرَّ بالرقِّ على نفسه لغيره؛ يجوز إقراره حتَّى يصنع به المقر له ما يصنع بمملوكه

(1)

.

فإن قلت: لو كان الاعتبار لتعبيرهما عن أنفسهما في الحريَّة والرِّقِيَّة؛ لوجب أن تعتبر دعواهما الحرية بعدما كبرا في يد الذي يدَّعي رقِّتيهما.

قلتُ: نعم، الاعتبار للتَّعبير عن أنفسهما؛ لكن إذا كانا في وقت، وهو فيما إذا لم يثبت لأحد عليهما رقيَّة.

وأمَّا إذا ثبتت الرِّقيَّة عليهما للمولى الذي هما في يده؛ فلا يفيد بعد ذلك دعواهما الحريَّة في وقت التَّعبير عن أنفسهما؛ لأنَّه ظهر الرِّقُّ عليهما في حال صغرهما

(2)

.

هذا وأمثاله يأتي في فصل التَّنازع بالأيدي من كتاب الدَّعوى إن شاء الله تعالى.

والفرق ما بيَّناه، وهو قوله:«لأنَّ لهما يداً على أنفسهما، فيدفع يد الغير عنهما»

(3)

بخلاف الثياب، والله أعلم.

* * *

‌باب من تُقبَل شهادته ومن لا تُقبَل

.

لما ذكر تفصيل ما يُسمع فيه من الشَّهادة وما لا يسمع بالنسبة إلى محال الشَّهادة، أدَّت النَّوبة إلى تفصيل من يسمع من الشَّهادة ومن لا يسمع.

وقدَّم ذلك؛ لأن المحال شروط، والشُّرط مقدَّمٌ على المشروط، كالطَّهارة على الصلاة

(4)

.

«ثمَّ أعلم أنَّ الأصل في هذا الباب هو أنَّ الشَّهادة تُرَدُّ بالتُّهمة، وما لا فلا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ»

(5)

.

(1)

يُنظر: المبسوط (18/ 107).

(2)

يُنظر: العناية شرح الهداية (7/ 396)، البناية شرح الهداية (9/ 133).

(3)

الهداية (3/ 121).

(4)

يُنظر: تبيين الحقائق (4/ 217)، فتح القدير (7/ 397).

(5)

الحديث بلفظه عَن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا فِي السُّوقِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصمٍ، وَلَا ظِنِّينٍ» قِيلَ: وَمَا الظِّنِّينُ؟ قَالَ: المُتَّهَمُ فِي دِينِهِ.

أخرجه: عبد الرزاق في المصنف (8/ 320).

وأخرجه الترمذي في سننه (4/ 545)، أبواب الشَّهادات، باب ما جاء فيمن لا تجوز شهادته، رقم (2298)، عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَجلُودٍ حَدًّا وَلَا مَجلُودَةٍ، وَلَا ذِي غِمرٍ لِأَخِيهِ، وَلَا مُجَرَّبِ شَهَادَةٍ، وَلَا القَانِعِ أَهلَ البَيتِ لَهُم وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ» ، وقال:«ولا نعرف معنى هذا الحديث ولا يصح عندي من قبل إسناده» ، وأخرجه بنفس اللفظ الطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 355)، رقم (4866)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي (1/ 258).

ص: 47

ولأنَّ الشَّهادة خبرٌ محتمل للصدق والكذب، فإنَّما يكون حُجَّة إذا ترجَّح جانبُ الصِّدق فيه، وعند ظهور سبب التُّهمة لا يترجَّح جانب الصِّدق، ثم (تمكَّن).

‌التهمة وأنواعها في الشهادة

التُّهمة أنواعٌ، تارةً تكون لمعنى في الشَّاهد وهو الفسق؛ لأنَّه لما لم ينزجر عن ارتكاب محذور دينه مع اعتقاد حرمته، يُتَّهم بأنَّه لا ينزجرُ عن شهادة الزُّور، وقد تبين أنَّ العدالة شرطٌ للعمل بالشَّهادة»

(1)

.

«وقد تكون التُّهمة لمعنى في المشهود له، وهو وصلة خَاصَّة بينه وبين الشَّاهد، تدل على إيثاره على المشهود عليه، وذلك شيء يُعرف بالعادة، كما في قرابة الولاء.

وقد تكون التُّهمة لمعنىً في الشَّاهد، قد لا يقدح في عدالته وولايته وهو العمى؛ فليس للأعمى آلة التمييز حقيقةً، وذلك يُمكن تهمته الغلط في الشَّهادة، فتهمة الغلط وتهمة الكذب سواءٌ.

‌في قبول شهادة الأعمى

وقد تكون تهمة الكذب مع قيام العدالة بدليل شرعي، وهو حق المحدود في القذف بعد التَّوبة، فقد جعل الله عجزه عن الإتيان بأربعة من الشُّهداء دليل كَذِبه بقوله:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}

(2)

»، كذا في المبسوط

(3)

.

«وقال أبو يوسف والشّافعي

(4)

- رحمهما الله-: يجوز إذا كان بصيراً وقت التَّحمل»

(5)

؛ أي: يجوز شهادته فيما يثبت بالتَّسامع، وفيما لا يثبت بالتَّسامع.

وحاصل ذلك أنَّ الاختلاف في شهادة الأعمى في أربعة مواضع:

أحدها: في مطلق الشَّهادة، وفيه خلاف مالك، فإنَّ عنده تُقبَل شهادته، سواءٌ كان ذلك مما يثبت بالتَّسامع أو لا، وسواءٌ كان أعمى وقت التَّحمُّل أم لا، وسواءٌ كان فيما لا يحتاج إلى الإشارة كالمنقول، أو لا يحتاج إليها كالعقار

(6)

.

والثاني: «فيما يجري فيه التَّسامع»

(7)

، حيث تُقبَل فيه شهادة الأعمى عند زُفر

(8)

، وعندنا لا تُقبَل

(9)

.

(1)

يُنظر: المبسوط (16/ 121).

(2)

سورة النور: آية 13.

(3)

المبسوط (16/ 121).

(4)

ينظر: الحاوي الكبير (17/ 47)، نهاية المطلب (18/ 616).

(5)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 121): «قال: ولا تقبل شهادة الأعمى، وقال زفر/ وهو رواية عن أبي حنيفة/: تقبل فيما يجري فيه التسامع؛ لأنَّ الحاجة فيه إلى السماع ولا خلل فيه. وقال أبو يوسف والشافعي

».

(6)

يُنظر: القوانين الفقهية (1/ 203)، التاج والإكليل (8/ 167)، مواهب الجليل (6/ 154)، منح الجليل (8/ 396).

(7)

الهداية (3/ 121).

(8)

زفر بن الهذيل بن قيس العنبري، من تميم، أبو الهذيل الكوفي: فقيه كبير، علامة، من أصحاب الإمام أبي حنيفة، أصله من أصبهان، أقام بالبَصرة وولي قضاءها وتوفي بها، وهو أحد العشرة الذين دوَّنوا الكتب جمع بين العلم والعبادة، وكان من أصحاب الحديث فغلب عليه الرأي، توفي سنة 158 هـ.

يُنظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (8/ 38)، الجواهر المضية (1/ 243)، تاج التراجم (1/ 169)، الأعلام (3/ 45).

(9)

يُنظر: المبسوط (16/ 129)، الهداية شرح البداية (3/ 121)، الاختيار لتعليل المختار (2/ 146)، العناية شرح الهداية (7/ 397).

ص: 48

والثالث: إذا كان بصيراً وقت التَّحمُّل وعَمِيَ وقت الأداء، فعند/ أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله- لا تُقبَل، وعند أبي يوسف والشافعي تُقبَل

(1)

.

والرابع: أنَّه إذا عَمِيَ بعد الأداء في غير الحدود، والقصاص، فعند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-يمتنع القضاء خلافاً لأبي يوسف على ما ذكره في الكتاب. كذا في المبسوط

(2)

.

وذكر في الذَّخيرة بعد ما ذكر عدم قَبُوله شهادة الأعمى في شيء من الحقوق:

«هذا إذا تحمَّل الشَّهادة وهو أعمى، وشهد وهو أعمى.

فأمَّا إذا تحمل الشَّهادة وهو بصير، ثم أدَّى وهو أعمى؛ هل تُقبَل شهادته عند علمائنا.

أجمعوا على أنَّه في المنقول لا تُقبَل؛ لأنَّ الإشارة إلى المنقول شرطٌ لصحة الشَّهادة، ولا يقوم الوصف مقام الشَّهادة عندهم جميعاً ولا غيره لإشارة الأعمى؛ لأنَّه لا يعاين المشهود به؛ فصار وجود الإشارة منه وعدمه بمنزلة، وبدون الإشارة لا تُقبَل الشَّهادة في المنقول.

أمَّا إذا كان المشهود به دَيناً، أو عقاراً اختلفوا فيه.

قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله-: لا تُقبَل هذه الشَّهادة؛ فأبو يوسف رحمه الله جعل العَمَى مانعاً صحَّةَ التَّحمُّل؛ فأمَّا إذا صَحَّ التَّحمُّل من البصير فالاحتراز عن العمى غير ممكن لصاحب الحق، فقام الاسم والنِّسبة حالةَ الأداء مقام الإشارة كما في الميِّت والغائب.

واحتج أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله- بما رُوي عن علي رضي الله عنه أنَّه ردَّ شهادة الأعمى

(3)

، ولم يفصِّل، ولم يستفسر أنَّه تحمَّل وهو بصيرٌ، أو أعمى؛ فدل أنَّ الحكم لا يختلف»

(4)

.

ثم قال بعد خطوط: «وقال مشايخنا: وهذا كله فيما لا تجوز الشَّهادة عليه بالشُّهرة والتَّسامع؛ أمَّا فيما يجوز الشَّهادة بالشُّهرة والتَّسامع شهادة الأعمى مقَبُولةٌ بلا خلاف»

(5)

.

قوله رحمه الله «وقال أبو يوسف والشافعي

(6)

[رحمهما الله]

(7)

: يجوز إذا كان بصيراً وقت التحمل»

(8)

.

(1)

يُنظر: بدائع الصنائع (6/ 266)، تحفة الفقهاء (3/ 362)، البناية شرح الهداية (9/ 134)، الحاوي الكبير (17/ 43).

(2)

يُنظر: المبسوط (16/ 129).

(3)

الأثر: عن الأسود بن قيس: أن أبا بصير شهد عند علي وهو أعمى؛ فرد شهادته.

أخرجه: ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 258)، رقم (21349).

(4)

المحيط البرهاني (8/ 322 - 323).

(5)

المحيط البرهاني (8/ 323).

(6)

ينظر: الحاوي الكبير (17/ 47)، نهاية المطلب (18/ 616).

(7)

سقط من: «س» .

(8)

الهداية (3/ 121).

ص: 49

«ثم بماذا يعرف أنَّه كان بصيراً وقت التحمُّل، فإن قول الشَّاهد في ذلك غير مقبول؛ لأن كونه أعمى مما لا يدخل تحت قضاء القاضي، فلا يقبل في مثل الشَّهادة، وقول المدَّعى كذلك والمدعى عليه منكر للمشهود به أصلاً.

قالوا: ويُتصور هذا فيما إذا جاء وهو بصير ليؤدِّي الشَّهادة، فلم يتفرغ القاضي لسماع شهادته حتى عمي، أو كان القاضي يعرف الوقت الذي عمي [فيه]

(1)

، وتاريخ المدَّعى سابق على ذلك». كذا في المبسوط

(2)

.

كما في الشَّهادة على الميِّت، بأن شهد على الميت في دين لفلان يقبل بالاتفاق إذا ذكرا نسبته.

«فجواب أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله- عن مسألة الموت أنَّ ذلك لا يمكن التحرُّز عنه بجنس الشُّهود؛ لأنَّ المدَّعى وإن استكثر من الشُّهود يحتاج إلى إقامة الاسم والنسبة مقام الإشارة عند موت المشهود عليه، أو غيبته، على أن هناك الإشارة تقع إلى وكيل الغائب ووصي الميت، وهو في ذلك قائم مقامه» . كذا في المبسوط

(3)

.

«ولنا أنَّ الأداء يفتقر إلى التمييز»

(4)

، إلى أن قال:«ولا يميز الأعمى إلا بالنَّغمة»

(5)

.

«وفيه شبهةٌ»

(6)

؛ أي: وفي النَّغمة شبهة على تأويل الصَّوت، كما أنَّ الصوت لو ثبت بتأويل الصحَّة أو النغمة، فكذلك يذكر النغمة بتأويل الصوت.

فإن قلت: صلحت النغمة للتمييز بين شخص وشخص فيما هو أعظم خطراً من الأموال في حق الأعمى، حتى إنَّ الأعمى يباح وطء زوجته وجاريته، ولا يميزهما عن غيرهما إلا بالصَّوت والنغمة، فلأنْ تصلح النغمة بالتمييز في الأموال في الشَّهادة أولى؛ لما أنَّ أمر الفروج أعظم خطراً من الأموال

(7)

.

قلتُ: ففي لفظ الكتاب بقوله: «وفيه شبهة، يمكن التحرُّز عنها بجنس الشُّهود»

(8)

.

ووقع الاحتراز عن مسألة الوطء لما أنَّ الضرورة تتحقق في حق الوطء للأعمى، فإنَّ الأعمى يحتاج إلى قضاء الشهوة، وبقاء النسل كالبصير، ولا ضرورة هنا، فإنَّ في الشُّهود والبصراء كثرة يكتفى بهم عن شهادة الأعمى، ولأنَّ في أصل الوطء هناك يجوز أن يعتمد فيه خبر الواحد، فإنَّه إذا أخبر أنَّ هذه امرأته، وقد زُفَّت إليه حلَّ له وطؤها، وإن لم يكن عاين امرأته، وكذلك إذا وجد امرأةً نائمةً على فراشه ليلاً، فظن أنَّها امرأته حلَّ له وطؤها. كذا في المبسوط

(9)

، والأسرار.

(1)

في «س» : [هو فيه].

(2)

المبسوط (16/ 130).

(3)

المبسوط (16/ 130).

(4)

تمام المسألة في الهداية (3/ 121): «ولنا أن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، ولا يميز الأعمى إلا بالنغمة» .

(5)

الهداية (3/ 121).

(6)

الهداية (3/ 121).

(7)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 398).

(8)

الهداية (3/ 121).

(9)

المبسوط (16/ 130).

ص: 50

«والنسبة لتعريف الغائب دون الحاضر»

(1)

، وهذا حاضر، فلا يجوز أن تقوم النسبة تعريفاً له، فكان في هذا جواب عن قوله: «كما في الشَّهادة على الميت، فصار [كالحدود والقصاص]

(2)

»

(3)

، فإنَّ شهادة الأعمى لا تصح فيهما بالاتفاق.

لأنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات، والصوت والنغمة في حق الأعمى تقام مقام المعاينة في حق البصير، والحدود لا تقام مما يقوم مقام الغير بخلاف الأموال. كذا في المبسوط

(4)

.

فإن قلتَ: ما الفرقُ لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - بين شهادة الأعمى وبين شهادة الشُّهود على الغائب، لأجل كتاب القاضي إلى القاضي، حيث يقبل في الغائب ولا يقبل في الأعمى، مع أنَّ الإشارة لم توجد في كل منهما؟

قلت: إنَّ في الغائب يعرف الشُّهود المدَّعى عليه، ويقولون: لو/ رأيناه عرفناه؛ فلا يكون ذلك شهادة على من لا يعلمون بوجوب الحق عليه، حتى لو قالوا: لا يعرفه اليوم، لا تقبل شهادتهم.

فأمَّا الأعمى لا يشهد على من يعلم بوجوب الحق عليه على الحقيقة، فلا يصح منه أداء الشَّهادة. كذا في الذَّخيرة

(5)

.

«لصَيروُرَتِهَا حُجَّةً عند»

(6)

، أي: عند القضاء.

«فاستدل أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أيضاً بحديث علي رضي الله عنه أنَّه ردَّ شهادة الأعمى، ولم يستفسر أنَّه وقت التَّحمل كان بصيراً أو أعمى؛ ولكن أبو يوسف رحمه الله يقول: يُحتمل أنَّ ذلك كان في الحدِّ، وأنا أقول: في الحدود إذا عمي قبل الأداء، أو بعد الأداء قبل القضاء، فإنَّه لا يُعمل بشهادته، لأنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات» . كذا في المبسوط

(7)

.

«وصار كما إذا خرس»

(8)

.

[فإنَّهم]

(9)

أجمعوا على أنَّ الشَّاهد إذا خرس، أو ذهب عقله، أو ارتدَّ بعد الشَّهادة - والعياذ بالله - قبل القضاء أنَّ القاضي لا يقضي بشهادته.

(1)

الهداية (3/ 121).

(2)

في «س» : [كالقصاص].

(3)

الهداية (3/ 121).

(4)

المبسوط (16/ 130).

(5)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 323).

(6)

تمام المسألة في الهدية (3/ 121): «ولو عمي بعد الأداء يمتنع القضاء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأنَّ قيام أهلية الشَّهادة شرط وقت القضاء لصيرورتها حجة عنده، وقد بطلت، وصار كما إذا خرس، أو جُنَّ، أو فسق، بخلاف ما إذا ماتوا أو غابوا؛ لأن الأهلية بالموت قد انتهت وبالغيبة ما بطلت» .

(7)

المبسوط (16/ 129 - 130).

(8)

الهداية (3/ 121).

(9)

في «س» : [فإنه].

ص: 51

والوجه في ذلك أنَّ المقصود من الشَّهادة القضاءُ، فما يمنع الأداء يمنع القضاء، وهذه الأشياء تمنع الأداء بالإجماع فتمنع القضاء، [والعمى]

(1)

بعد التَّحمُّل يمنع الأداء عندهما [فيمتنع]

(2)

القضاء أيضاً.

وعند أبي يوسف رحمه الله لا يمنع الأداء فلا يمنع القضاء. كذا في الذَّخيرة

(3)

.

وذكر في المبسوط

(4)

: «ولا تجوز شهادة الأخرس؛ لأنَّ أداء الشَّهادة يختص بلفظة الشَّهادة، حتى إذا قال الشَّاهد: أخبر أو أعلم لا يقبل ذلك منه، فلفظة الشَّهادة لا تتحقق من الأخرس، ثم إشارة الأخرس مشتبهة، فإنَّه يُستدل بإشارته على مراده بطريق غير موجب للعلم، فيتمكن في شهادته تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشُّهود» .

‌في قبول شهادة المحدود في قذف من عدمها

«ولأنَّه من تمام الحد»

(5)

؛ [أي:]

(6)

ولأنَّ عدم قبول الشَّهادة، أو لأنَّ ردَّ الشَّهادة من تمام حدِّ القذف

(7)

.

«لكونه مانعاً» ؛ أي: يكون رد الشَّهادة مانعاً له عن القذف، كالحد، «فيبقى بعد التوبة كأصله»؛ أي: فيبقى رد الشَّهادة بعد التوبة كأصل الحد؛ لما أنَّ حدَّ القذف لا يسقط بالتوبة، فكذا تتمته، وهي رد الشَّهادة

(8)

.

وإنَّما قلنا: إنَّ ردَّ شهادة القاذف من تتميم حدِّ القذف؛ لأن الجلد جزاء القذف لا محالة؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فَاجْلِدُوهُمْ} بعد قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ، والفاء للتعقيب في مقام الجزاء، كما في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}

(9)

، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}

(10)

، معطوف على الجلد، والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه، فإذا كان المعطوف عليه حداً كان المعطوف من تمام الحد.

(1)

في «ج» : [الأعمى].

(2)

في «ج» : [فيمنع].

(3)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 323)، العناية شرح الهداية (7/ 399).

(4)

المبسوط (16/ 130).

(5)

تمام المسألة في الهداية (3/ 121): «ولا المحدود في قذف وإن تاب؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]؛ ولأنَّه من تمام الحد؛ لكونه مانعاً، فيبقى بعد التوبة كأصله، بخلاف المحدود في غير القذف؛ لأنَّ الرد للفسق، وقد ارتفع بالتوبة» .

(6)

سقط من «ج» .

(7)

ينظر: فتح القدير (5/ 338).

(8)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 400).

(9)

سورة المائدة: آية 38.

(10)

سورة النور: آية 4.

ص: 52

وأمَّا ما يرد في هذا إن كان واحدةً من الجملتين ههنا قائم بنفسها، فلا يقتضي الاشتراك، فجوابه يذكر بعد هذا في الأسرار.

«وهذا كما قال الشافعي

(1)

رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَتَغرِيبُ عَامٍ»

(2)

: أنَّ تمام حد البكر للعطف؛ ولكن نقول هناك: التغريب لا يصلح أن يكون حداً؛ لما فيه من الإغراء على ارتكاب الفاحشة دون الزجر، وههنا ردُّ الشَّهادة صالحٌ لتتميم الحدِّ؛ لأنَّه مؤلم قلبه، كما أنَّ الجلد يؤلم بدنه، ففيه معنى الزجر.

ثم جريمة القاذف باللسان، ورد شهادته حداً في المحل الذي حصل به الجريمة، وذلك مشروع، كحدِّ السَّرقة، والمقصود من هذا الحد دفع الشَّين عن المقذوف، وذلك في إهدار قوله أظهر منه في إقامة الجلد عليه، فلذلك جعلنا رد الشَّهادة تتميماً للحد»

(3)

.

«ثم حرف النهي في قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} لا يمنع العطف، فقط يعطف النهي عن الأمر، كما تقول لغيرك: اجلس ولا تتكلم»

(4)

.

«وأمَّا قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ليس بعطف؛ بل هو ابتداء بحرف الواو، وقد يكون ذلك لحسن نظم الكلام، لقوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}

(5)

، وقوله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى}

(6)

، وبيان أنَّه ليس بعطف أنَّ قوله تعالى:{فَاجْلِدُوهُمْ} أمرٌ بفعل، وهو خطاب [للأئمة]

(7)

، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ} ، نهي عن فعلٍ، وهو خطاب الأئمة أيضاً، وقوله تعالى:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} إثبات وصف لهم، فكيف تتحقق المشاركة بينه وبين ما تقدم لتكون عطفاً.

والدَّليل عليه أنَّه لو كان هذا عطفاً لكان في هذا الحد أيضاً، فينبغي ألا ترتفع بالتَّوبة كما لا يرتفع الحدُّ، فلا تأثير للتَّوبة في الحد»

(8)

.

«يوضح ما قلنا إن رد الشَّهادة بسبب تتميم الحد، لا بسبب الفسق، هو أنَّ الثَّابت بالنَّص، وهو التوقف في خبر الفاسق، كما قال:{فَتَبَيَّنُوا}

(9)

، والمنصوص عليه ههنا حكمٌ آخرُ، وهو الرَّد دون التوقف، فعرفنا أنَّه ليس بسبب الفسق، بل هو تتميم للحد كما قررنا، ولو كان رد الشَّهادة بسبب الفسق؛ لكان في الآية عطف العلة على الحكم، وذلك لا يحسن في البيان.

(1)

ينظر: الحاوي الكبير (13/ 195)، نهاية المطلب (17/ 180)، المجموع (20/ 16).

(2)

أخرجه: البخاري في صحيحه (3/ 171) كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف والسارق والزاني، رقم (2649)، ومسلم في صحيحه (3/ 1324)، كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنى، رقم (1697).

(3)

المبسوط (16/ 127).

(4)

المبسوط (16/ 127).

(5)

سورة آل عمران: آية 7.

(6)

سورة الأعراف: آية 26.

(7)

في «س» : [الأئمة].

(8)

المبسوط (16/ 127).

(9)

سورة الحجرات: آية 6.

ص: 53

ولهذا الأصل قلنا بقبول شهادته قبل إقامة الحد عليه، وإن لم يتب؛ لأنَّه من تمام [حده]

(1)

، [أو أنَّه]

(2)

بعد إقامة الحد، وهو أنَّ [بإقامة]

(3)

الحد يصير محكوماً بكذبه والمتهم بالكذب لا شهادة له، فالمحكوم/ بالكذب أولى». كذا في المبسوط

(4)

.

فإن قلت: هذا الذي ذكرته وإن دلَّ على ردِّ شهادة المحدود في القذف، فعند الخصم دليل على أنَّ شهادته مقبولةٌ عند التوبة.

وذلك لأنَّ قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}

(5)

، استثناء عقيب الجمل المنسوقة، والاستثناء متى يعقب كلمات منسوقاً بعضها على البعض ينصرف إلى جميع ما تقدم، كقول القائل: امرأته طالق، وعبده حرٌ، وعليه حجَّةٌ، إلا أن يدخل الدار فهو [ينصرف]

(6)

إلى جميع ما تقدم

(7)

.

ولأن القذف منه افتراءٌ على عبد من عباد الله تعالى، فلا يكون أعظم من افترائه على الله تعالى، وهو الكفر، وذلك لا يوجب رد الشَّهادة على التأبيد؛ بل إذا تاب وأسلم تقبل شهادته؛ ولأنَّه نسبة الغير إلى الزنا، فلا يكون أقوى من مباشرة فعل الزنا، وذلك لا يوجب رد الشَّهادة على التَّأبيد، فهذا أولى

(8)

.

ولأنَّه إذا تاب قبل إقامة الحد تُقبل شهادته بالاتفاق، ولا جائز أن يكون الموجب لرد الشَّهادة إقامة الحد عليه؛ لوجهين

(9)

.

أحدهما: أنَّ ذلك فعل الغير [به]

(10)

بغير اختياره، وفعل الغير في حقِّه لا يصلح سبباً لرد شهادته، كما في سائر الحدود.

والثَّاني: [أنًّه]

(11)

يطهر بإقامة الحد عليه، قال صلى الله عليه وسلم:«الحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهلِهَا»

(12)

.

(1)

في «س» : [الحد].

(2)

في «ج» : [وأوانه].

(3)

في «ج» : [إقامة].

(4)

المبسوط (16/ 128).

(5)

سورة البقرة: آية 160.

(6)

في «س» : [منصرف].

(7)

ينظر: المبسوط (16/ 125).

(8)

ينظر: المبسوط (16/ 126).

(9)

ينظر: المبسوط (16/ 126).

(10)

في «ج» : [في حق الغير به].

(11)

في «ج» : [أن له].

(12)

لم أقف على حديث مسند بهذا اللفظ، وقريب منه ما أخرجه: الحاكم في المستدرك (1/ 92)، رقم (104)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أدري تبع أنبياً كان أم لا؟ وما أدري ذا القرنين أنبياً كان أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟» ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 251)، رقم (2217).

إلا أن الحديث له شاهد في الصحيحين، عن عبادة بن الصامت، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال:«تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه» .

أخرجه: البخاري في صحيحه (1/ 12)، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، رقم (18)، ومسلم (3/ 1333)، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، رقم (1709).

قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 289): «وأجيب عنه بأنَّه علم ذلك بعد أن كان لا يعلمه، فإمَّا أن يكون أبو هريرة أرسله، وإما أن يكون حديث عبادة متأخراً» .

ص: 54

فما هو الموضوع للتَّطهير لا يصلح أن يكون راداً للشَّهادة

(1)

.

قلتُ: أمَّا الأول، فإن الاستثناء المتعقَب، أو الشَّرط المتعقَب بعد الجُمَل إنَّما ينصرف إلى الكلَّ، أن لو كان الجُمَل معطوفاً بعضها على البعض لثبوت الاشتراك منها بواو العطف [في هذا]

(2)

الواو، أعني الواو في قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، واو النظم لا واو العطف

(3)

.

[فكان]

(4)

منقطعاً عن الأولى، فينصرف الاستثناء إلى ما يليه، لا إلى ما انقطع عنه الكلام.

وذكر في أصول الفقه لشمس الأئمة رحمه الله في فصل عمل القوم في النصوص بوجوه هي فاسدة.

وقال: «ولهذا لو قال: لفلان علي مائة دينار، ولفلان ألف درهم إلا عشرة، يجعل الاستثناء من آخر المالين؛ لأنَّ بالاستثناء لا يخرج الكلام من أن يكون إقراراً، وباعتبار الإقرار كل واحدة من الجملتين تامَّة، فتكون الواو للنَّظم، وينصرف الاستثناء إلى ما يليه خاصة.

وعلى هذا قلنا في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}

(5)

: أنَّ هذا الواو للنَّظم، حتَّى ينصرف الاستثناء إلى سمة الفسق دون ما تقدمه.

والشافعي

(6)

رحمه الله

(7)

يجعل هذا الواو للعطف، والواو الذي في قوله:{وَلَا تَقْبَلُوا} للنظم، حتى يكون الاستثناء منصرفاً [إليها]

(8)

دون الجلد، فلا يسقط الجلد بالتوبة.

والصَّحيح ما قلنا؛ فإن من حيث الصيغة معنى العطف يتحقق في قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا} ، ولا يتحقق في قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ؛ لأنَّ قوله: {فَاجْلِدُوا} {وَلَا تَقْبَلُوا} كل واحد منهما خطاب للأمة، فأمَّا قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ليس بخطاب [الأئمة]

(9)

؛ ولكن إخبارٌ عن وصف القاذفين، فلا يصلح معطوفاً على ما هو خطاب، فجعلناه للنظم»

(10)

.

فإن قيل: قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا} ، وإن كان خطاباً [للأئمة]

(11)

كقوله: {فَاجْلِدُوا} ؛ كان كل واحد منهما جملة تامة بنفسها؛ فلا يعطف الثانية على الأولى على وجه الاشتراك؛ لأنَّ قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ} جملة تامَّة بنفسها.

(1)

ينظر: المبسوط (16/ 126).

(2)

في «س» : [وهذا].

(3)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 218)، حاشية رد المحتار لابن عابدين (7/ 127).

(4)

في «ج» : [وكان].

(5)

سورة النور: آية 5.

(6)

ينظر: الأم للشافعي (7/ 28)، الحاوي الكبير (17/ 24).

(7)

سقط من: «س» .

(8)

في «س» : [إليهما].

(9)

في «س» : [الآية].

(10)

أصول السرخسي (1/ 275).

(11)

في «س» : [الآية].

ص: 55

قلنا: أنَّه تام لإثبات هذا الحكم ابتداءً، فأمَّا جزاءً على معصية، فلا يتم إلا عطفاً على الجلد؛ لأنَّ المعصية ذكرت قبل الجلد، وأنَّه كقولك: إذا دخلت الدار ففاطمة طالق، وسالمٌ حرٌ، كان سالم عطفاً، وهو تام ابتداءً، لكنَّه ناقص يميناً؛ لأنَّه لم يذكر له شرط على حدِّه، كذا في الأسرار.

وأمَّا قوله: فامرأته طالق وعبده حر إلا أنْ يدخل الدار، فالموضع موضع الإنشاء، فكان أول الكلام متوقفاً إلى آخره إذا كان في آخره ما يغيره، فالاستثناء مما [يغير]

(1)

الكلام؛ فلذلك انصرف الاستثناء في الأشياء إلى جميع ما تقدم، بخلاف الإقرار، فإنَّه إظهار أمر ثابت، [فالاستثناء]

(2)

في آخره إنَّما يَعمَلُ في جميع ما تقدم إذا كان الواو للعطف من كل وجه، وليس الواو في قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

(3)

للعطف، فلا يُصرف الاستثناء إلى ما قبله.

وأمَّا الجواب عن الآخر فما ذكر في المبسوط

(4)

بقوله: «وحجتنا فيه قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}

(5)

، والأبد ما لا نهاية له؛ فالتنصيص عليه في بيان رد شهادته دليلٌ على أنَّه يتناول الشَّهادة على التأبيد.

ومعنى قوله تعالى: {لَهُمْ} ؛ أي: للمحدودين في القذف، وبالتوبة لا تخرج من أن يكون محدوداً في قذف».

«ولما ذكرنا من الدليل أنَّ ردَّ الشَّهادة من تمام حدِّه، وأصل الحدِّ لا يسقط بالتوبة، فما هو متمم له لا يسقط أيضاً»

(6)

.

ولهذا خرج الجواب عن الكفر والزنا وغيرهما، فإنَّه إذا أسلم الكافر وتاب الزاني حيث تقبل شهادتهماً؛ لأنَّ النَّص لم يرد في حقهما/ برد الشَّهادة على وجه التَّأبيد، ولا أن يكون الردُّ من تتميم حد الكفر والزنا، حتى لا تقبل وإن تاب، كما في المحدود في القذف.

وذكر في المبسوط

(7)

: «فالصحيح من المذهب عندنا أنَّه إذا [قام]

(8)

أربعة من الشُّهود على صدق مقالته، بعد إقامة الحد عليه تقبل، ويصير هو مقبول الشَّهادة».

(1)

في «ج» : [يغيره].

(2)

في «ج» : [والاستثناء].

(3)

سورة النور، آية:4.

(4)

المبسوط (16/ 126).

(5)

سورة النور، آية:4.

(6)

المبسوط (16/ 126).

(7)

المبسوط (16/ 126).

(8)

في «س» : [أقام].

ص: 56

‌الفرق بين الكافر إذا أسلم والعبد إذا حدَّ ثم أعتق في الشهادة

«ولو حُدَّ الكافرُ في قذف ثم أسلم تُقبَل شهادته

بخلاف العبد إذا حُدَّ، ثم أُعتق»

(1)

، ثم أعتق، قد مرَّ وجه الفرق بينهما مُشبَعاً في [باب]

(2)

حد القذف من كتاب الحدود

(3)

.

«لأنَّه لا شهادة للعبد أصلاً»

(4)

؛ ولهذا لو شهد العبد ورد القاضي شهادته، ثم شهد بعد العتق في تلك الحالة يقبل، بخلاف الفاسق والزوج إذا ردت شهادتهما في حادثة، ثم شهداً فيها بعد التوبة والبينونة لا تقبل

(5)

.

ولو ضُرب الكافر بعض حده ثم أسلم؛ فإنَّه يقبل؛ لأن الضَّرب بعد الإسلام ليس بحدٍ حتى يتبعه تمامه، وهو الرد.

وحاصل الفرق بين العبد والكافر في مسألتنا، لما لم تكن له شهادة وقت إقامة الحد عليه، توقف تتميم ذلك الحد الذي أقيم عليه، وهو رد شهادته إلى وجود صلاحية الشَّهادة له، وهو ما بعد العتق، فأثر ذلك الحد في رد شهادته بعد العتاق.

وأمَّا الكافر فله شهادة فيما بين جنسه من الكفار وقت إقامة الحد عليه، فلاقى الحد محله في [التتميم]

(6)

رد شهادته فيما بين جنسه، فلم يتوقف رد شهادته إلى شيء آخر، حيث أتمَّ حده برد شهادته فيما بين الكفار؛ فلما أسلم كان الإسلام له حياةً حادثةً بعد موته بالكفر، فيترتب عليه حكم المسلمين عليه ابتداء، ومن حُكم المسلمين قَبُول شهادتهم فيقبل شهادته ولذلك.

فإن قلتَ: فعلى ما ذكرت في تعليل مسألة العبد في رد شهادته بعد العتاق، يشكل من زنا من المسلمين في دار الحرب، ثم خرج إلى دار الإسلام، حيث لا يقام عليه حد الزنا، فتوقف حكم المؤثر في حق العبد إلى أن يوجد محله، ولم يتوقف في حق من زنا في دار الحرب، فما الفرق بينهما.

قلتُ: الفرق بينهما من حيث أنَّ الزنا هناك لم يقع موجباً للحد أصلاً، لما أنَّ إقامته إلى الإمام، وولاية الإمام منقطعةٌ عنه، فلو أقيم بعد خروجه إلى دار الإسلام كان إقامة لحد الزنا من غير موجب، إذ غير الموجب لا ينقلب موجباً في الحد؛ فلا يحد.

وأمَّا العبد فلم يكن أهلاً للشهادة، وتمام الحد برد الشَّهادة فيتوقف على ما بعد العتاق؛ لأنَّ ما يوجب أصله يوجب وصفه، [وتتمم]

(7)

الحد من وصفه؛ فيجب [وصفه]

(8)

أيضاً كوجوب أصله.

أو يقول: كانت له شهادة قبل العتق فيما بين المسلمين من وجه، حتى تقبل شهادته بهلال رمضان، وفي الديانات، وقد صارت شهادته هذه مجروحة بإقامة الحد عليه، فلا تقبل شهادته بعد ذلك في جميع المواضع؛ لأنَّها من جنس تلك الشَّهادة.

وذكر في المبسوط بعد ما ذكر من الفرق الذي ذكر في الكتاب، فقال:

(1)

الهداية (3/ 122).

(2)

سقط من: «ج» .

(3)

الهداية (2/ 359).

(4)

الهداية (3/ 122).

(5)

ينظر: بدائع الصنائع (6/ 266).

(6)

في «ج» : [التتمم].

(7)

في «ج» : [وتتمم].

(8)

في «ج» : [وصفه فيجب].

ص: 57

«هذا الفرق على الرواية التي تقول إنَّ خبر المحدود في القذف في الديانات تقبل، وأمَّا على الرواية التي لا تقبل خبره في الديانات، وهي [رواية]

(1)

المنتقى.

فوجه الفرق بينهما أنَّ الكافر بالإسلام استفاد عدالة لم تكن موجودة عند إقامة الحد، وهذه العدالة لم تصر مجروحة بخلاف العبد، فهو بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن موجودة من قبل، وقد صارت عدالته مجروحةً بإقامة الحد عليه؛ فلا تقبل شهادته بحال»

(2)

.

فإن قيل: فعلى [قول]

(3)

ما علَّلتم في حق الكافر الذي حُدَّ في القذف في حال كفره ثم أسلم في قبول شهادته، يجب أن تقبل شهادة من تاب من المحدودين في القذف عند الشافعي

(4)

رحمه الله

(5)

؛ لأنَّه فاسقٌ عند إقامة الحد عليه، والفاسق ليس من أهل الشَّهادة عنده، وإنَّما يستفيد الأهلية بعد ذلك بالتَّوبة، كما إذا أسلم الكافر المحدود في القذف، حيث تقبل شهادته بالإجماع.

قلنا: لا كذلك، فقد قامت الدلالة لنا على أنَّ الفاسق من أهل الشَّهادة.

وهذا الذي ذكرته أقوى دليل لنا في أنَّ المراد من قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}

(6)

بعد التوبة؛ لأن عنده قبل التوبة لا شهادة له، فلا تُتَصَوَّر رُدَّ شهادة من لا شهادة له؛ لأن ذلك مردود بدون الرد.

[قد تبيَّن]

(7)

بهذا أنَّ المراد من قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}

(8)

ردُّ شهادته بعد وجودها بالأهلية، وذلك بعد التوبة. إلى هذا أشار في المبسوط

(9)

.

ثم في [قوله]

(10)

: «بخلاف العبد إذا حُدَّ ثم أُعتق»

(11)

، لا فايدة في ذكر الحد قبل العتاق في حق العبد في حق عدم قبول شهادته، فإنَّه إذا لم تقبل/ شهادته بسبب الحد قبل الإعتاق فأولى أن لا تقبل شهادته فيما إذا حُدَّ بعد العتاق؛ لأنَّه لاقي الحد وقت قبول شهادته فأوجب الرد.

وأمَّا في ذكر حدَِّ الكافر قبل الإسلام فائدة؛ فإنَّه كان تقبل شهادته بعد الإسلام في تلك الصُّورة على ما ذكر

(12)

.

(1)

في «ج» : [لا رواية].

(2)

المبسوط (16/ 128).

(3)

في «س» : [قود].

(4)

ينظر: الأم للشافعي (6/ 225).

(5)

سقط من: «س» .

(6)

سورة النور، آية:4.

(7)

في «ج» : [وتبين].

(8)

سورة النور، آية:4.

(9)

ينظر: المبسوط (16/ 128 - 129).

(10)

في «ج» : [قوله تعالى].

(11)

الهداية (3/ 122).

(12)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 138 - 139).

ص: 58

‌في شهادة الوالد لولده والولد لأبويه

وأمَّا لو قذف الكافر مسلماً، ثم أسلم فَحُدَّ في حال إسلامه، لا تقبل شهادته، ولو حُدَّ بعض الحد في حال كفره، وبعضه في حال إسلامه، ففيه اختلاف الروايتين، وقد ذكرناه في حد القذف

(1)

.

«ولا شهادة الوالد لولده، ولا شهادة الولد لأبويه»

(2)

.

ومالك يخالفنا فيه، فيُجَوِّز شهادة الوالد لولده، وشهادة الولد لوالده في الطرفين جميعاً، بالقياس على شهادة كل واحد منهما على صاحبه؛ وهذا لأنَّ دليل رجحان الصدق في خبره انزجاره عما يعتقد حرمته، ولا فرق في هذا بين الأقارب والأجانب، ولهذا قبلت شهادة الأخ لأخية

(3)

.

ولكنَّا نستدل بالحديث المذكور في الكتاب.

«ورُوى أنَّ الحسن شهد لعلي -رضي الله [عنه]

(4)

- مع قُنبَر عند شريحٍ بدرعٍ له، قال شريح: إيت بشاهدٍ آخر، فقال علي رضي الله عنه مكان الحسن، أو مكان قنبر؛ بل، قال: لا، بل مكان الحسن، قال أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(5)

يقول: «الحسن والحسين هما سيدا شباب أهل الجنة» ؟

(6)

، فقال: قد سمعتُ؛ ولكن إئت بشاهدٍ آخر، فعزله عن القضاء، ثم أعاده عليه، وزاد في رزقه؛ فدل أنَّه كان ظاهراً فيما بينهم أنَّ شهادة الولد لوالده لا تقبل، إلا أنَّه وقع لعلي أنَّهما مخصوصان عن الجملة بتلك الفضيلة التي ذكر بقوله صلى الله عليه وسلم:«أنَّهما سيدا شباب أهل الجنة» ، في انتفاء التهمة عنهما بهذه الفضيلة، ولذلك المعنى جوَّز شهادته لنفسه.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 139)، فتح القدير (7/ 403).

(2)

الهداية (3/ 122).

(3)

قال في تهذيب المدونة (4/ 21): «ولا تجوز شهادة الأبوين أو أحدهما للولد، ولا الولد لهما، ولا أحد الزوجين لصاحبه، ولا الجد لابن ابنه ولا الرجل لجده، ولا تجوز في أحد من هؤلاء شهادة للآخر في حق، أو تزكية، أو في تجريح من شهد عليه، وتجوز شهادة الأخ لأخيه، والرجل لمولاه ولصديقه الملاطف، إلا أنْ يكون في عياله أحد من هؤلاء يمونه، فلا تجوز شهادته له» .

وانظر: المدونة الكبرى (4/ 21)، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص 203)، والتاج والإكليل (6/ 155)، ومنح الجليل (8/ 394).

(4)

في «س» : [عنهما].

(5)

في «س» : [عليه السلام].

(6)

أخرجه: أحمد في المسند (3/ 3/ رقم 11012)، والترمذي في سننه (5/ 656)، كتاب المناقب، باب مناقب الحسن و الحسين عليهما السلام، رقم (3768)، وقال:«حديث حسن صحيح» ، وابن ماجه في سننه (1/ 44)، كتاب الفضائل، باب فضائل علي بن أبي طالب، رقم (118)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 423)، رقم (796)، والحديث مروي بألفاظ وطرق كثيرة، معظمها صحيح.

ص: 59

لولاه لطالبه بسبب الرد من نوع جرح، ولم يطالبه به، وقع عند شريح رحمه الله أنَّ السبب المانع، وهو الولاد قائم في حقه، ولا طريق لمعرفة الصدق والكذب حقيقةً في حق من هو غير معصوم عن الكذب، فيبتنى الحكم على السبب الظَّاهر، وهو كما وقع عند شريحٍ، وإليه رجع علي رضي الله عنه

(1)

.

وأمَّا الاستدلال على قبول شهادته بسبب عدالته فمتروك في حق شهادة المرء العدل لنفسه، أو في ماله، فيه منفعة، حيث لا يظهر هناك رجحان جانب الصدق باعتبار عدالته، لظهور ما يمنعه من ذلك، فكذلك في حق الآباء والأولاد، إما بشبهة البعضية بينهما، أو لمنفعة الشَّاهد بالمشهود به، لكون المنافع بين الآباء والأولاد متَّصلة، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«أنت ومالك لأبيك»

(2)

.

بخلاف الأخوة وسائر القرابات، فقد تكون القرابة هناك سبباً للتحاسد والعداوة، فإنَّ أول ما وقع من التَّحاسد وقع بين الإخوة بيانه في قوله تعالى:{قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}

(3)

، وكما في إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم». وإليه أشار في المبسوط

(4)

والأسرار.

‌في شهادة العبد لسيده

«ولا العبد لسيده»

(5)

، فإن قلت:[ما فائدة]

(6)

تخصيص السَّيد في حق العبد، إذ شهادة العبد لا تُقبل في حق الكل.

في رد شهادة القانع. قلت: ذَكَرَه في هذا المقام على سبيل الاستطراد، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم

(7)

لما عد مواضع التُّهَم التي يرد فيها شهادة الشَّاهد للتهمة، ذكر العبد مع السَّيد، فصار كأنَّه قال: لو قبلت شهادة العبد في موضع من المواضع على سبيل الفرض والتقدير، ولا يقبل في حق سيده للتهمة الثابتة بينهما، كما في سائر مواضع التُّهم

(8)

.

«لا شهادة للقانع

(9)

»

(10)

، قيل: أراد من يكون مع القوم، كالخادم، والتابع، والأجير، ونحوه؛ لأنَّه بمنزلة السائل يطلب معاشه منه. كذا في المغرب

(11)

.

(1)

في «س» : [عنهما].

(2)

أخرجه: أحمد في المسند (2/ 204)، رقم (6902)، وابن ماجه في سننه (2/ 769)، كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، رقم (2291)، وابن حبان في صحيحه (2/ 142)، رقم (410)، قال ابن الملقن في البدر المنير (7/ 665):«إسناده صحيح جليل» ، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/ 211):«قال ابن القطان: إسناده صحيح، وقال المنذري: رجاله ثقات» .

(3)

سورة المائدة: آية 27.

(4)

ينظر: المبسوط (16/ 122).

(5)

الهداية (3/ 122).

(6)

سقط من: «ج» .

(7)

في «س» : [عليه السلام].

(8)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 403)، حاشية ابن عابدين على الدر المختار (7/ 129).

(9)

تقدم ذكره وتخريجه ص (148).

(10)

تمامها: «لا شهادة للقانع بأهل البيت» . الهداية (3/ 122).

(11)

المغرب في ترتيب المغرب (1/ 395).

ص: 60

‌في شهادة الأجير

وذكر في الذَّخيرة

(1)

: شهادة الأجير المشترك مقبولة، وشهادة الأجير الموحد لأستاذه لا تقبل استحساناً، سواء كان أجير مياومة، أو مشاهرة، أو مسانهة

(2)

.

وفي كتاب الديات: تجوز شهادة الأجير لأستاذه، فالمراد الأجير المشترك، وذكر في كتاب كفالة الأصل: لا تجوز شهادة الأجير لأستاذه، فالمراد منه الأجير الخاص، وهو الأجير الوحد.

والقياس: أن تُقبل شهادته أيضاً؛ لأنَّه عدلٌ شهد لغيره من كل وجه؛ لأنَّه ليس له فيما شهد فيه ملك، ولا حق، ولا ملك، ولا شبهة [اشتباه]

(3)

بسبب اتصال المنافع؛ ولهذا أجاز شهادة الأستاذ له، ووضع الزكاة.

فوجه الاستحسان ما أشار إليه محمد رحمه الله

(4)

بقوله: والإجماع المنعقد على قولٍ واحدٍ من السَّلف حُجَّة يُترك به القياس ويخصُّ به الأثر، -أراد به شريحاً- ولنوع من المعنى، وهو أنَّ الأجير الواحد مملوك للأستاذ من وجه/، أعني به منفعةً، ألا ترى أنَّ الأجير الواحد لا يملك أن يؤاجر نفسه من غيره في مدة الإجارة، فصار شهادته [لأستاذه]

(5)

كشهادة المملوك لمالكه، بخلاف الأجير المشترك؛ فإنَّه غير مملوك [لأستاذه]

(6)

منفعة، ألا ترى أنَّ له أن يؤاجر نفسه من غيره في مدة الإجارة، وبخلاف الأستاذ إذا شهد لأجيره؛ لأنَّه ليس بمملوك لأجيره أصلاً، فهذا هو الحرف المعتمد في المسألة

(7)

.

ولو كان أجيراً خاصاً مشاهرة ولم يرد القاضي [شهادته]

(8)

، ولم يظهر عدالته حتى مضى الشهر، ثم عُدِّل، قال: أُبطل شهادته، كمن شهد لامرأته، ثم طلقها قبل أن يُعدل، ولو شهد ولم يكن أجيراً ثم صار أجيراً قبل أن أقضي أبطل شهادته، فإن لم يبطلها حتى بطلت الإجارة ثم أعادها جاز. هكذا ذكر في العيون

(9)

.

(1)

المحيط البرهاني (8/ 319).

(2)

أجير المياومة، أو المشاهرة، أو المسانهة: هو الذي يكري لكلّ شهر، أو سنة، أو يوم مع إبهام المدة، مثل: اكتريت منك هذه الدار كل يوم بكذا، أو كل شهر بكذا، أو كل سنة بكذا، من غير تحديد مدة الكراء، وتسميتها من الشهر اليوم والشهر والسنة.

ينظر: معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء، د/ نزيه حماد (1/ 469).

(3)

في «س» : [شبهة اشتباه].

(4)

سقط من: «ج» .

(5)

في «ج» : [لاستناده].

(6)

في «ج» : [لاستناده].

(7)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 319).

(8)

في «ج» : [شهادة].

(9)

عيون المسائل (1/ 303).

ص: 61

«فيستوجب الأجر بمنافعه»

(1)

؛ أي: فيستوجب الأجير الأجر على المستأجر بمنافع نفسه؛ لأنَّ عمل الأجير كله في مدة الإجارة للمستأجر، فصار الأجير حينئذٍ بالشَّهادة للمستأجر مستوجباً للأجر عليه، فصار الأجير بمنزلة المستأجر على الشَّهادة؛ لأنَّ شهادته عملٌ من أعماله، فجميع أعماله مستحقة للمستأجر في المدة، بدليل عدم جواز إجارة نفسه لغير المستأجر في المدة، وهو معنى قوله:«فيصير كالمستأجر عليها» ؛ أي: على الشَّهادة التحيز والتحول بهم

(2)

.

[آمدن وبرخود بيجيدن] ألا ترى «متحيزة»

(3)

، أي: يد كل واحد من الزَّوجين مجتمعة بنفسها، غير متصرفة في ملك الآخر، غير متعدية إليه، فكانت الزًّوجية نظيرة الأخوة، أو دونها، فإن الزوجية تحتمل القطع والأخوة لا تحتمل، لا نظيرة الولاد؛ [لأن]

(4)

كل واحد من الوالدين والولد يتصرف في مال صاحبه

(5)

.

«كما في الغريم»

(6)

، أي: رب الدين.

‌في شهادة أحد الزوجين للآخر

«ولنا ما روينا بقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا المرأة لزوجها»

(7)

.

«ولأن الانتفاع متصل عادةً»

(8)

، ولهذا لو وطئ جارية امرأته، وقال: ظننت أنَّها تحل لي فإنَّه لا يحد، كما لو وطيء الأب جارية ابنه بخلاف جارية الأخ

(9)

.

وهذا لأنَّ الاتحاد بين الزوجين بالزوجية نفساً ومالاً أكثر مما يكون [بين]

(10)

الولد والوالد في العادة والشَّريعة، فإنَّهما بالزوجية يصيران كشخص واحد في إقامة أسباب المعيشة عرفاً وشرعاً، ويكونان كمصراعي باب، وزوجي نعل.

«[ولهذا]

(11)

: «جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أموراً داخل البيت على فاطمة، وأموراً خارج البيت على علي - رضي الله [عنهما]

(12)

»

(13)

، وبهما تقوم مصالح المعيشة.

(1)

الهداية (3/ 122).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 141)، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (4/ 220).

(3)

قال في الهداية (3/ 122): «ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر» .

(4)

في «س» : [فإن].

(5)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 141).

(6)

الهداية (3/ 122).

(7)

لم يرو مسنداً، وهو من قول شريح، أخرجه: أبو يوسف في كتب الآثار (1/ 162)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/ 531)، وقال ابن حجر في الدراية:«ويقال إن الخصاف أخرجه بإسناده مرفوعاً، وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة من قول شريح» .

(8)

الهداية (3/ 122).

(9)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 141)، العناية شرح الهداية (7/ 406).

(10)

في «ج» : [بين من].

(11)

في «ج» : [وبهذا].

(12)

في «ج» : [عنه].

(13)

أخرجه: ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 10)، رقم (29069)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 104)، وقال البوصيري في إتحاف المهرة (4/ 123):«إسناده مرسل ضعيف، لضعف أبي بكر بن عبد الله» .

ص: 62

فالظَّاهر ميل كل واحد منهما إلى صاحبه، وإيثاره على غيره، كما في الآباء والأولاد؛ بل أظهر، فإنَّ الإنسان قد يعادي والديه ليرضي زوجته، وقد تأخذ المرأة من مال أمها فتدفعه إلى زوجها، والزوج يُعد غنياً بمال الزوجة.

قيل في تأويل قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}

(1)

، أي: بمال خديجة

(2)

رضي الله عنها

(3)

.

والدليل على أن الزَّوجيَّة بمنزلة الولاد حكماً استحقاق الإرث بها من غير حجب بمن هو أقرب.

يوضح ما قلنا أنَّ الزوجيَّة بمنزلة الأصل للولاد، فإنَّ الولاد ينشأ من الزوجية، والحكم الثابت في الفرع يثبت في الأصل، فإن عُدم ذلك المعنى فيه، ألا ترى أنَّ المحرم إذا كسر بيض الصَّيد يلزمه الجزاء، وليس في البيض معنى الصَّيدية، ولكنَّه أصل الصَّيد، فيثبت فيه من الحكم ما يثبت في الصَّيد، إلا أنَّ هذا الأصل إنَّما يلحق بالولاد في حكم يتصور قيام الزوجيَّة عند ثبوت ذلك الحكم دونه ما لا يتصور كالقصاص، فإنَّه يجب بعد القتل، ولا زوجية بعد قتل أحدهما صاحبه، فكان هذا جواباً عما تمسك الشافعي

(4)

بجريان القصاص بينهما». كذا في المبسوط

(5)

والأسرار.

ثم لو شهد أحد الزَّوجين للآخر في حادثة، فردَّ القاضي شهادته، ثم ارتفعت الزوجيَّة، فعاد تلك الشَّهادة في تلك الحادثة لا تقبل شهادته، وكذلك في الفاسق، بخلاف ما إذا شهد العبد في حادثة ورد القاضي شهادته، ثم أعتق وأعاد تلك الشَّهادة قبلت شهادته، وكذلك الصبي والكافر حكمهما كحكم العبد

(6)

.

والفرق أنَّ شهادة أحد الزوجين للآخر شهادة، وكذلك شهادة الفاسق؛ ولكن ردت شهادتهما لتهمة الكذب، والقاضي إذا ردَّ شهادة الشَّاهد صار الشَّاهد مُكَذَّباً من جهة الشرع فيما شهد به، وتكذيب الشَّرع ينزل منزلة التَّكذيب من حيث العيان.

(1)

سورة الضحى: آية 8.

(2)

هي السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى من أكابر قريش، وهي أم المؤمنين، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى، تكبره بخمس عشرة سنة، وكان مولدها سنة ثمان وستين قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت أول من أسلم من النساء والرجال على حد سواء؛ بل إنها أول من تلقى خبر الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولاد النبي صلى الله عليه وسلم كلهم منها، ما عدا إبراهيم بن مارية القبطية، توفيت رضي الله عنها بمكة سنة ثلاث قبل الهجرة.

ينظر: الاستيعاب (4/ 1817)، سير أعلام النبلاء (2/ 109)، الإصابة (8/ 99).

(3)

سقط من: «س» .

(4)

ينظر: المهذب للشيرازي (3/ 447).

(5)

ينظر: المبسوط (16/ 123).

(6)

ينظر: فتح القدير (7/ 406)، درر الحكام (2/ 379).

ص: 63

وأمَّا العبد إذا كان [عدلاً]

(1)

فرد الشَّهادة لا لتهمة الكذب؛ بل لكونه غير أهل الشَّهادة، فلم يكن مكذباً من جهة، وفي الكافر إنْ كان لتهمة الكذب؛ ولكن فيه لعدم الأهلية أيضاً؛ لأنَّه لا ولاية له على المسلم، فأحيل بالردِّ على عدم الأهليَّة لا على تهمة الكذب، وكذلك في الصَّبي. إلى هذا أشار/ في الذَّخيرة

(2)

.

«ولا شهادة المولى لعبده»

(3)

، وكذلك لمكاتبه ومدبره، وأمٍّ ولده.

‌في شهادة المولى لعبده

«لأن شهادته لملكه كشهادته لنفسه باعتبار قيام الملك أو ألحق له في المشهود به، وكذلك شهادة أبو المولى وابنه وامرأته لهؤلاء.

وكذلك شهادة المرأة لزوجها المملوك؛ لأن وصلة الزَّوجية كوصلة الولاد في المنع من قبول الشَّهادة». كذا في المبسوط

(4)

.

«لأنَّ الحال موقوف مُراعى»

(5)

، أي: لأنَّ حال العبد موقوفة بين أن يصير للغرماء بسبب بيعهم في دينهم، أو يبقى للمولى كما كان بسبب قضائه دينه لما قلنا، وهو شهادته لنفسه من كل وجه، أو من وجه، لأنَّه شهادة لنفسه من وجه لاشتراكهما، لأنَّه يصير شاهداً لنفسه في البعض.

وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل، وإذا لم تقبل شهادته لنفسه في نصيبه لا تقبل في شريكه أيضاً في نصيب شريكه

(6)

.

لأن هذه شهادة واحدة، فإذا بطل بعضها بطل كلها، ولو شهد بما ليس في شركتهما تقبل.

وهذا التَّعميم في التفصيل في حق الشريكين شركة عيان ظاهر، وأمَّا شهادة أحد المتفاوضين لصاحبه لا تقبل إلا في الحدود والقصاص والنكاح؛ لأنَّ ما عدا الحدود والقصاص والنكاح مشترك بينهما، [فكان]

(7)

شهادة لنفسه من وجه.

وشهادة الأجير المشترك مقبولة، وشهادة الأجير الوحد لأستاذه لا تقبل استحساناً، سواء كان أجير مياومة، أو مشاهرة، أو مسانهة. وقد ذكرناه هذا كله من الذَّخيرة

(8)

.

‌في رد شهادة المخنث

«ولا تقبل شهادة مُخَنَّث»

(9)

، فتركيب الخنث يدل على لين وتكسر، ومنه المخنث، وتخنث في كلامه. ذكره في المغرب

(10)

.

والمخنث في عرف النَّاس هو الذي يباشر الرديء من الأفعال، أي: أفعال النِّساء من التزين بزينتهن، والتشبه بهن في الفعل والقول، مثل كونه محل اللواطة، والقول مثل تليين كلامه باختياره تشبها بالنِّساء.

(1)

في «ج» : [عدا].

(2)

المحيط البرهاني (8/ 326).

(3)

الهداية (3/ 122).

(4)

المبسوط (16/ 136).

(5)

الهداية (3/ 122).

(6)

قال في الهداية (3/ 122): «ولا شهادة الشَّريك لشَريكه فيما هو من شركتهما» .

(7)

في «ج» : [وكان].

(8)

المحيط البرهاني (8/ 318).

(9)

الهداية (3/ 122).

(10)

المغرب (1/ 154).

ص: 64

إلى هذا أشار الإمام مولانا حميد الدين

(1)

رضي الله عنه

(2)

(3)

.

وذكر في الذَّخيرة: ولا تقبل شهادة المخنث؛ لأن التخنث معصية، قال صلى الله عليه وسلم:«لَعَنَ المؤَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالُمذَكَّرَات ِمِنَ النِّسَاءِ»

(4)

.

هذا إذا كان تخنثه باختياره

(5)

.

«فأمَّا الذي في كلامه لين»

(6)

؛ أي: خلقةً، «وفي أعضائه تكسر» ، ولم يشتهر بشيء من الأفعال الرَّدِية، فهذا عدل مقبول الشَّهادة

(7)

.

«ألا ترى أن هِيتاً

(8)

المخنث كان يدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن- حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم منه كلمة شنيعة [فأمر]

(9)

بإخراجه»

(10)

. كذا في المبسوط

(11)

.

(1)

هو علي بن محمد بن علي، حميد الدين الضَّرير من أهل رامش-بضم الميم-قرية من أعمال بخاري-من علماء الحنفية، كان إماماً، فقيهاً، أصولياً، محدثاً، متقناً، تفقه على شمس الأئمة الكردي، وتفقه عليه جماعة منهم صاحب الكنز حافظ الدين النسفي، انتهت إليه رئاسة العلم بما وراء النهر، له تصانيف، منها:«الفوائد» ، والحاشية على الهداية في الفقه، و «شرح المنظومة النسفية» ، و «شرح الجامع الكبير» ، وغيرها، توفي سنة 666 هـ.

ينظر: الجواهر المضية (1/ 373)، الفوائد البهية ص (12)، الأعلام للزركلي (4/ 333).

(2)

في «س» : [رحمه الله].

(3)

ينظر: البحر الرائق (7/ 85)، رد المحتار لابن عابدين (7/ 139).

(4)

أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير (11/ 261)، رقم (11678)، وفي المعجم الأوسط (2/ 176)، رقم (1631)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 103):«فيه مبارك بن سحيم، وهو متروك» .

(5)

المحيط البرهاني (8/ 314).

(6)

الهداية (3/ 122).

(7)

ينظر: المبسوط (16/ 131)، المحيط البرهاني (8/ 314).

(8)

لم أقف له على ترجمة، ولم يذكر إلا في ألفاظ الحديث فقط.

(9)

في «س» : [أمر].

(10)

أخرجه: مسلم في صحيحه (4/ 1716)، كتاب الآداب، باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب، رقم (2181)، عن عائشة، قالت: كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلن عليكن» ، قالت: فحجبوه.

وأخرجه: ابن حبان في صحيحه (10/ 341)، رقم (4488)، وسماه:«هيتاً» .

(11)

المبسوط (16/ 131).

ص: 65

‌في رد شهادة النائحة والمغنية

«نهى عن الصوتين الأحمقين

(1)

»

(2)

، وصف الصوت بصفة صاحبه؛ أي: صوت النائحة، وصوت المغنية.

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال الحال المرتحل»

(3)

.

اعلم أنَّ التغني لِلَّهو معصية في جميع الأديان.

فقال في الزيادات

(4)

إذا أوصى بما هو معصية عندنا وعند [أهلٍ]

(5)

الكتاب، وذكر منها الوصية للمغنيين والمغنيات، خصوصاً إذا كان الغناء من المرأة، فإنَّ نفس رفع الصوت منها حرامٌ، خصوصاً إذا كان مع الغناء، وعن هذا لم يقيد ههنا بقوله للناس، وقيِّد به فيما ذكر بعد هذا في غناء الرجل

(6)

.

وذكر في الذَّخيرة: ولم يرد بالنَّائحة التي تنوح في مصيبتها، وإنَّما أراد به التي تنوح في مصيبة غيرها، واتخذت ذلك مكسبةً؛ وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم:«لعن الله النائحات»

(7)

؛ ولأنَّها ارتكبت ما لا يحل في الشَّرع، وهو الغناء، والنوح لطمعة في المال، فلا يؤمن أن ترتكب شهادة الزُّور لأجل المال، فذلك أيسر عليه من الغناء والنوح في مدة طويلة

(8)

.

(1)

أخرجه: الترمذي في سننه (3/ 328)، كتاب الجنائز، باب الرخصة في البكاء على الميت، رقم (1005)، وقال:«حديث حسن» ، والحاكم في المستدرك (4/ 43)، رقم (6825)، وحذفه الذَّهبي من التَّلخيص، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 189)، رقم (2157).

(2)

تمامها: «

النائحة، والمغنية». الهداية (3/ 122).

(3)

أخرجه: الترمذي في سننه (5/ 197)، كتاب القراءات، رقم (2948)، وقال:«هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه، وإسناده ليس بالقوي» ، والحاكم في المستدرك (1/ 757)، رقم (2088)، وضعفه الألباني السلسلة الضعيفة (4/ 315)، رقم (1834).

(4)

كتاب الزيادات في الفروع لمحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189 هـ، سماه:(الزيادات)، أي: زيادة على ما أملاه: أبو يوسف، وقيل: إنما سمي به؛ لأنه لما فرغ من تصنيف: «الجامع الكبير» ، تذكر فروعاً، لم يذكرها في «الكبير» ، فصنفه، ثم تذكر فروعاً أخرى، فصنف أخرى، وسماها:«زيادات الزيادات» ، شرحه جماعة منهم: قاضي خان، وسراج الدين الهندي، والبزدوي، وشمس الأئمة الحلواني، وغيرهم واختصره الحاكم الشهيد. ينظر: كشف الظنون (2/ 962).

(5)

مكرر في «س» .

(6)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 408)، البحر الرائق (7/ 88).

(7)

لم أقف على حديث بهذا اللفظ، والذي وقفت عليه، ما روي عن أبى سعيد الخدري، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة.

أخرجه: أحمد في المسند (3/ 65)، رقم (11640) أبو داود (3/ 162)، كتاب الجنائز، باب في النوح، رقم (3130)، وضعف إسناده النووي في خلاصة الأحكام (2/ 1053)، وقال الحافظ ابن حجر في التَّلخيص الحبير (2/ 319)، طرقه كلها ضعيفة، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1/ 1017)، رقم (10161).

(8)

المحيط البرهاني (8/ 315 - 316).

ص: 66

في شهادة مدمن الخمر

يقال: رجل مدمن خمر؛ أي: مداوم شربها. ذكره في الصحاح

(1)

.

ثم [في]

(2)

قوله: «ولا مدمن الشُّرب على اللهو»

(3)

، أطلق الشُّرب على اللهو في حق المشروب ليتناول جميع الأشربة المحرمة، من الخمر والسُكر وغيرهما، فإنَّ الإدمان شرط في الخمر أيضاً في حق سقوط العدالة

(4)

.

وذكر في فتاوى قاضي خان: «ولا تقبل شهادة مدمن الخمر، ولا مدمن السُّكر؛ لأنَّه كبيرة.

ثم قال: وإنَّما شرط الإدمان ليظهر ذلك عند النَّاس، فإنَّ من اتُّهم في شرب الخمر في بيته لا تبطل عدالته، [وإن]

(5)

كانت كبيرة، وإنَّما تبطل إذا ظهر ذلك، أو يخرج سكراناً يسخر منه الصبيان؛ لأنَّ مِثله لا يتحرز عن الكذب»

(6)

.

وفي الذَّخيرة: ولا تجوز شهادة مدمن الخمر، ثم شرط الإدمان ولم يرد [به]

(7)

الإدمان في الشُّرب، وإنَّما أراد به الإدمان في النيَّة، يعني يشرب ومن نيته [أن]

(8)

يشرب بعد ذلك إذا وجد.

ولا يجوز شهادة مدمن السُّكر، وأراد به في سائر الأشربة سوى الخمر، لأنَّ الحرام في سائر الأشربة السكر، فشرط الإدمان على السكر والمحرم في الخمر نفس الشرب، فشرط الإدمان على الشرب.

وكذلك من يجلس مجالس الفجور والشُّرب لا تُقبل شهادته، وإن لم يشرب؛ لأنَّه تشبَّه بهم، ولم يحترز أنْ يظهر عليه ما يظهر عليهم، فلا يحترز/ عن شهادة الزُّور

(9)

.

‌في شهادة من يلعب بالطيور

«ولا من يلعب بالطيور؛ لأنَّه يُورِث الغفلة»

(10)

.

«لأنَّ الظَّاهر أن يكون قلبه مع ذلك في عامة أحواله فيه يقل نظيره في سائر الأمور، ثم هو مصُِّر على نوع لعب.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أنا من الدَّد

(11)

، ولا الدَّد مني»

(12)

.

(1)

الصحاح للجوهري (5/ 2114).

(2)

سقط من «ج» .

(3)

الهداية (3/ 122).

(4)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 221)، البناية شرح الهداية (9/ 145)،

(5)

في «ج» : [وإنما].

(6)

فتاوى قاضي خان (2/ 276).

(7)

سقط من «س» .

(8)

في «س» : [أنه].

(9)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 314).

(10)

الهداية (3/ 122).

(11)

الدَّدُ: اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ. مختار الصحاح (1/ 218).

(12)

أخرجه: البخاري في الأدب المفرد (1/ 421)، باب الغناء واللهو، رقم (785)، وقال البخاري:«يعني ليس الباطل مني بشيء» ، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 343)، رقم (794)، وفي المعجم الأوسط (1/ 132)، رقم (413)، والبيهقي في كتاب الآداب (1/ 258)، رقم (630)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير، (1/ 1015)، رقم (10144).

ص: 67

والغالب أنَّه ينظر إلى العورات في السطوح، وذلك فسقٌ، فأمَّا إذا كان يمسك الحمَام في بيته يستأنس بها، فهو عدل مقبول الشَّهادة؛ لأنَّ إمساك الحمام في البيوت مباحٌ، ألا ترى أنَّ النَّاس يتخذون بروج الحمامات ولم يمنع من ذلك أحد». كذا في المبسوط

(1)

.

ولكن ذكر في الذَّخيرة محالاً إلى كتاب الكفالة لشيخ الإسلام: «إذا كان لا يُطيِّرهن، ولكن يخليهن حتَّى يخرُجن من بيته لا تقبل شهادته، وعلَّل فقال: لأنَّه يأتي بيت حمامته حمامات غيره فتفرَّخ، ثم هو يبيع ذلك ويأكل، ولا يعرف حمامته من [حمامات]

(2)

غيره، فيصير آكلا حراماً، ومرتكباً ما لا يحل»

(3)

.

فعلى هذا التقدير لا تقبل شهادة صاحب الحمام، وإن لم يقف على عورات النِّساء بصعود سطحه.

‌في رد شهادة من يغني للناس

«ولا من يغني للنَّاس»

(4)

، ولا يقال: إنَّ فيه تكرار، فقد ذكر المغنية قبل هذا، لأنَّا نقول: ذلك مخصوصٌ بالمرأة، وهذا عام، ولأنَّ الأول في [التغني]

(5)

مطلقاً، وهذا في [التغني]

(6)

للنَّاس

(7)

.

والأصح فيه من الجواب أن نقول: إنَّما ذكر النَّائحة والمغنِّية هناك مع أن الأصل في النِّساء أن لا يُذكرون في حقِّ الحكم الذي هو مشترك بين الرجال والنِّساء، وهذا كذلك

(8)

.

إلا أنَّه ذكر هناك بورود الحديث بذلك اللفظ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله النائحات، لعن الله المغنيات»

(9)

. [ذكره]

(10)

في الذَّخيرة

(11)

.

فلمَّا ذكر النِّساء في حكم يشترك فيه الرجل والمرأة لصيانة لفظ الحديث، أراد بعد ذلك أن لا يُستفاد حكم الرجال من [حكم]

(12)

النِّساء، فأعاد هاهنا جرياً على الأصل، أو لأنَّه لو اقتصر على الأول لتوهم أنَّ ذلك الحكم مخصوصٌ بالنِّساء؛ لأن ذكر النِّساء على ما عليه الأصل إنَّما يكون في [أحكام هن]

(13)

مخصوصات بها، كما في قوله:«وليس على المرأة أن تنقض ضفائرها»

(14)

، وكأحكام الحيض وغيرها.

(1)

المبسوط (16/ 131).

(2)

في «س» : [حمامة].

(3)

المحيط البرهاني (8/ 315).

(4)

الهداية (3/ 122).

(5)

في «ج» : [التعيين].

(6)

في «ج» : [التعيين].

(7)

ينظر: الجوهرة النيرة (2/ 320).

(8)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 146).

(9)

سبق تخريجه، ص (176).

(10)

في «ج» : [ذكر].

(11)

المحيط البرهاني (8/ 315).

(12)

سقط من «س» .

(13)

في «ج» : [أحكامهن].

(14)

الهداية (1/ 19).

ص: 68

ثم أعلم أنَّه إنَّما قيد بقوله: «للنَّاس» .

«لأنَّه إذا تغنى بحيث لا يسمع غيره؛ ولكن يسمع نفسه لإزالة الوحشة، قُبلت شهادته، فإنَّ التغنِّي لإسماع الغير مكروه عند عامة المشايخ، ومن النَّاس من جوَّز ذلك في العُرس والوليمة، ألا ترى أنَّه لا بأس بضرب الدُّف في العُرس والوليمة، وإن كان فيه نوع لهو، ولكن لم يكن به بأسٌ؛ لأنَّ فيه إظهار النِّكاح وإعلانه، وبه أمر صاحب الشَّرع، قال [النبي]

(1)

صلى الله عليه وسلم «أعلنوا النكاح ولو بالدف»

(2)

(3)

.

ومنهم من قال: إذا كان يتغنَّى ليستفيد به نظم القوافي، ويصير فصيح اللسان لا بأس به

(4)

.

وأمَّا التغنِّي لإسماع نفسه، ودفع الوحشة عن نفسه، هل مكروه؟ فقد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: لا يكره، وبه أخذ شمس الأئمة السَّرخسي/

(5)

.

وإنَّما المكروه على قول هذا القائل ما يكون على سبيل اللهو، وهذا القائل يحتج [بما]

(6)

رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه دخل على أخيه البراء بن مالك، وهو كان يتغنى

(7)

، والبراء بن مالك

(8)

كان من زهاد الصحابة رضي الله عنهم.

(1)

سقط من «س» .

(2)

أخرجه: الترمذي في سننه (3/ 394)، كتاب النكاح، باب إعلان النكاح، رقم (1089)، وقال: حديث غريب حسن، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 473)، رقم (14699)، وقال: عيسى بن ميمون ضعيف، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2/ 409)، رقم (978)، ولفظه: عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدُّفوف» .

(3)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 315)، البناية شرح الهداية (9/ 146 - 147).

(4)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 315)، تبيين الحقائق (4/ 222).

(5)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 315)، البناية شرح الهداية (12/ 88).

(6)

في «س» : [لما].

(7)

أخرجه: الحاكم في المستدرك (3/ 330)، رقم (5272)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح الحافظ ابن حجر إسناده في الإصابة (1/ 236).

(8)

البراء بن مالك بن النضر، النجاري، الخزرجي، وهو أخو أنس بن مالك من صالحي الأنصار ومتقشفيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك» ، شهد أُحَداً وما بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل من المشركين مائة مبارزة سوى من قتل في المعارك، توفي سنة 20 هـ.

ينظر: مشاهير علماء الأمصار (1/ 33)، الإصابة لابن حجر (1/ 412)، سير أعلام النبلاء (1/ 195)، الاستيعاب (1/ 153).

ص: 69

ومن المشايخ من قال: جميع ذلك مكروهٌ، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله

(1)

.

وهذا القائل يحمل حديث البراء بن مالك على أنَّه كان ينشد الأشعار المباحة، التي فيها ذكر الوعظ والحكمة، وهذا لأنَّ اسم الغناء كما ينطلق على الغناء المعروف ينطلق على غيره.

قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يتغن بالقرآن فليس منا»

(2)

، وإنشاد ما هو مباح من الأشعار لا بأس به، وإن كان في الشعر صفة المرأة، إن كانت امرأة بعينها وكانت حية يكره، وإن كانت ميتة، أو كانت امرأةً مرسلة لا يكره». هذا كله في الذَّخيرة

(3)

.

وذكر في المغني: الرجل الصالح إذا تغنَّى بشعر فيه فُحش لا يبطل عدالته

(4)

.

‌في شهادة أصحاب الكبائر

«ولا من يأتي باباً من الكبائر»

(5)

.

«واختلفوا في تفسير الكبيرة، قال بعضهم: هي السبع التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(6)

في الحديث المعروف: وهو: «الإشراك بالله، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وقتل [النفس]

(7)

بغير حق، وبهت المؤمن، والزنا، وشرب الخمر»

(8)

، وهو قول أهل الحجاز وأهل الحديث، وزاد بعضهم على هذه السبع: أكل الربا، وأكل مال اليتيم بغير حق.

وقال بعضهم: ما ثبت حرمته بنص القرآن فهو كبيرة.

وقال بعضهم: ما فيه [حد أو قتل]

(9)

فهو كبيرة.

وقال بعضهم: ما كان حراماً لعينه فهو كبيرة.

وأصح ما قيل فيه هوما نُقل عن الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنَّه قال: ما كان شنيعاً بين المسلمين، وفيه هتكُ حرمة الله تعالى والدين، فهو من جملة الكبائر، وكذلك الإعانة على المعاصي والفجور، والحث/ عليها من جملة الكبائر يوجب سقوط العدالة». كذا في الذَّخيرة

(10)

.

(1)

سقط من «ج» .

(2)

أخرجه: البخاري في صحيحه (9/ 154)، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، رقم (7527).

(3)

المحيط البرهاني (8/ 315).

(4)

ينظر: فتح القدير (7/ 410).

(5)

الهداية (3/ 123).

(6)

في «س» : [عليه السلام].

(7)

في «ج» [نفس].

(8)

أخرجه: البخاري في الصحيح (4/ 10)، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا

}، رقم (2766)، ومسلم في الصحيح (1/ 92)، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم (89). وهذا هو الحديث الذي أشار إليه المصنف، مع الاختلاف بين لفظ الحديث والسبع الذي ذكرها.

(9)

في «س» : [قتل أو حد].

(10)

المحيط البرهاني (8/ 312).

ص: 70

‌في شهادة من يدخل الحمام بغير إزار

وذكر في فتاوى قاضي خان

(1)

: «ولا تقبل شهادة من يدخل الحمام بغير إزارٍ»

(2)

إذا لم يعرف رجوعه عن ذلك.

وذكر الكرخي

(3)

: لا يقبل شهادة من مشى في الطريق بسراويل ليس عليه غيره».

‌في شهادة من يلعب بالشطرنج

«[وأمَّا]

(4)

مجرد اللعب بالشَّطرنج فليس بفسق مانع من الشَّهادة»

(5)

.

وذكر في الذَّخيرة

(6)

: «ولا يقبل شهادة من يلعب بالشطرنج

(7)

، ولكن بشرط انضمام [إحدى]

(8)

المعاني الثَّلاثة إذا قامر عليه، أو شغلته عن الصلاة، أو أكثر الحلف عليه بالكذب والباطل؛ لأن هذه الأشياء الثلاثة من الكبائر».

«ومن يلعب بالنرد

(9)

فهو مردود الشَّهادة على كل حال قال صلى الله عليه وسلم: «مَلعُونٌ مَن لَعِبَ بالنَّردِ»

(10)

، ومن كان ملعوناً كيف يكون عدلاً؛ لأن للاجتهاد فيه مساغاً.

(1)

فتاوى قاضي خان (2/ 277).

(2)

الهداية (3/ 123).

(3)

أبو الحسن الكرخي: أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال البغدادي الكرخي - نسبة إلى كَرخ قرية بنواحي العراق-الفقيه، سمع: إسماعيل بن إسحاق القاضي، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وطائفة، انتهت إليه رئاسة المذهب، وانتشرت تلامذته في البلاد، واشتهرا سمه وبعد صيته، وكان من العلماء العباد، ذات هجد، وزهد تام، ووقع في النفوس، ومن كبار تلامذته: أبو بكر الرازي، عاش ثمانين سنة، توفي سنة 340 هـ.

ينظر: تاريخ بغداد (12/ 74)، سير أعلام النبلاء (15/ 426)، الجواهر المضية (1/ 337)، تاج التراجم (2/ 10).

(4)

في «س» : [فأما].

(5)

الهداية (3/ 123).

(6)

المحيط البرهاني (8/ 316).

(7)

الشطرنج: لفظ معرب، لعبة تلعب على رقعة ذات أربعة وستين مربعاً، تمثل دولتين متحاربتين باثنتين وثلاثين قطعة تمثل الملكين والوزيرين والخيالة والقلاع والفِيَلة والجنود. ينظر: المعجم الوسيط (1/ 482)، معجم لغة الفقهاء (1/ 236).

(8)

في «ج» : [أخرى].

(9)

النرد: لعبة تعتمد على الحظ، ذات صندوق وحجارة وزهرين، تعتمد على الحَظ وينتقل فيها الحجارة حسبما يأتي به الزهران، وتعرف اليوم بالطاولة.

ينظر: المعجم الوسيط (2/ 912)، معجم لغة الفقهاء (1/ 477).

(10)

لم يرو بهذا اللفظ مسنداً، والحديث المعروف: عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» .

أخرجه: البخاري في الأدب المفرد (1/ 720)، باب إثم من لعب بالنرد، رقم (1272)، وأحمد في المسند (19539)، وأبو داود في سننه (4/ 440)، كتاب الأدب، باب في النهى عن اللعب بالنرد، رقم (4940)، والحاكم في المستدرك (1/ 114)، رقم (160)، وقال:«صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لوهمٍ وقع لعبد الله بن سعيد بن أبي هند؛ لسوء حفظه فيه» ، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 1148)، رقم (11475).

ص: 71

قال مالك

(1)

والشافعي

(2)

: يحل اللعب بالشطرنج، وأبو زيد الحكيم

(3)

ونختار قولهما». كذا في الذَّخيرة

(4)

.

‌في شهادة آكل الربا

«وشرط في الأصل أن يكون آكل الربا مشهوراً به»

(5)

.

وعن هذا وقع الفرق بين هذا وبين أكل مال اليتيم.

فقال في الذَّخيرة

(6)

: «وكان ينبغي أنْ تزول العدالة بالأكل مرة كأكل مال اليتيم، لأنَّ كل واحد منهما كبيرة ومع هذا شرط الإدمان في أكل الربا.

واختلف المشايخ في علَّته.

قال: بعضهم إنَّما شرط ذلك؛ لأنَّ الإنسان عسى يُبتلى بذلك، لأنَّ البياعات

(7)

الفاسدة كلها ربا، ولا [يمكن]

(8)

التحرُّز عن جميع الأسباب المفسدة للعقد، [فقد]

(9)

لا يهتدي إلى ذلك، فلو ردت شهادته إذا ابتلي به مرة لا يبقى في الدنيا مقبول الشَّهادة، فلذلك شرط أن يكون مشهوراً بذلك مقيماً عليه.

وقال بعضهم: بأنَّ الربا ليس بحرام محض؛ لأنَّ الربا مفيد للملك عندنا بعد اتصال القبض به، والمِلك مبيح للأكل في غير الخمر، وإن كانت حرمة السبب تمنع الأكل، فلم يكن حراماً محضاً، وكان ناقصاً في كونه كبيرة، فيجب ما ارتكب الشَّاهد في دينه أن يكون ذلك في الحرام مثل حرمة شهادة الزُّور، حتى يستدل به على شهادة الزُّور، وشهادة الزُّور حرامٌ محض؛ لأنَّه كذب، فارتكاب ما لا يكون حراماً محضاً لا يدل عليه».

بخلاف أكل مال اليتيم بغير حق، فإنَّه لم يوجد فيه ما يدل على نقصانه في [كونه]

(10)

كبيرة، فكان هو مثل شهادة الزُّور، فيدل هو عليه.

(1)

ينظر: النوادر والزيادات (8/ 274)، القوانين الفقهية، لابن جزي، ص (278).

(2)

ينظر: الحاوي الكبير (17/ 178)، البيان للعمراني (13/ 287).

(3)

لم أقف له على ترجمة.

(4)

المحيط البرهاني (8/ 316).

(5)

الهداية (3/ 123).

(6)

المحيط البرهاني (8/ 314).

(7)

البِيَاعات: جمع بيعة، وهي: الأشياءُ التي يُتَبايَع بها للتجارة، والابتياع: الاشتراء، والبَيعة: الصَّفقة على إيجابِ البَيع وعلى المُبايَعَةِ والطَّاعة.

ينظر: العين للخليل بن أحمد (2/ 265)، المخصص لابن سيده (3/ 132).

(8)

في «س» : [يمكنه].

(9)

في «ج» : [فقال].

(10)

سقط من «س» .

ص: 72

‌في شهادة من يفعل الأفعال المستحقرة

«ولا من يفعل الأفعال المستحقرة»

(1)

، وفيه نسخ المستحقرة المستخفة المستقبحة، من الاستحقار، والاستخفاف والاستقباح كلها على بناء اسم المفعول المستخفة من التسخيف على بناء اسم الفاعل

(2)

.

وصحح في المغرب هذه في الأخيرة دون غيره، وقال: «سخَّفته نسبته إلى السخف، وهو رقة العقل، من قولهم: ثوب سخيف، إذا كان قليل الغزل.

وعليه ما في المختصر: لا تجوز شهادة من يفعل الأفعال المستخفة، ثم قال: وهكذا بخط شيخنا وتصحيحه.

أمَّا المستخفة -بكسر الخاء- وفتحها ففي كل [منها]

(3)

تَمحُّل»

(4)

.

في شهادة من يأكل في الطريق

«والأكل على الطريق»

(5)

: يعني به: بمرأى الناس.

وذكر في فتاوى قاضي خان

(6)

: «ولا تقبل [شهادة من أكل]

(7)

في السوق بين أيدي النَّاس، لأنَّ ذلك لا يفعل من كان له مروءة».

وذكر في الذَّخيرة

(8)

والمغني: «قد قال بعض مشايخنا إنَّ شهادة الصكاكين لا تقبل؛ لأنَّهم يكتبون هذا ما اشترى فلان بن فلان، وقبض المشتري ما اشترى، وسلم البائع ما باع، وضمن الدرك

(9)

وإن لم يكن شيء من ذلك، فيكون هذا منهم كذباً محضاً، إذ لا فرق بين الكذب بالقول وبين الكذب بالكتابة، والصحيح أنَّه تقبل شهادتهم إذا كان غالب أحوالهم الصلاح

(10)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: «لا تجوز شهادة أصحاب [الخمر]

(11)

»

(12)

، وأراد به: النَّخَّاسين

(13)

.

وإنَّما قال ذلك لكثرة ما يكذبون، ولأيمانهم الفاجرة، فإن عُلِم من واحد منهم أنَّه لا يجري منه الكذب واليمين الفاجرة كان عدلاً فتقبل شهادته.

(1)

الهداية (3/ 123).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 414).

(3)

سقط من «س» .

(4)

ينظر: المغرب في ترتيب المعرب (1/ 20 - 221).

(5)

الهداية (3/ 123).

(6)

فتاوى قاضي خان (2/ 277).

(7)

في «س» : [الشَّهادة من يأكل].

(8)

المحيط البرهاني (8/ 320).

(9)

ضَمان الدَّرَك: هو الضمانُ برد الثمن للمشتري عند استحقاق المبيع بأن يقول: تكفَّلت بما يدركك في هذا المبيع. التعريفات الفقهية (ص 134).

(10)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 150).

(11)

في النسخ: [الحمير]، وكذلك في المبسوط، والمثبت من المصنف لابن أبي شيبة.

(12)

أخرجه: ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 6)، رقم (23186).

(13)

النخاسين: أي: الدَّلالين، جمع نخاس من النَّخس وهو الطعن، ومنه قيل لدلال الدواب نخاس، ينظر: رد المحتار (5/ 475)، مجمع بحار الأنوار (4/ 674).

ص: 73

‌في شهادة أصحاب الصناعات

وقال بعض العلماء: لا تقبل شهادة أهل الصناعات؛ لكثرة خلافهم وكثرة ما يجري من الأيمان الفاجرة بينهم، وعامة العلماء يقولون: المجوز العدالة، وقد وجدت فتقبل [شهادتهم]

(1)

».

‌في شهادة بائع الأكفان

«وقال الخصَّاف رحمه الله شهادة بائع الأكفان لا تقبل.

ومن يشتم ويسب، ومن يجازف في كلامه. قال شمس الأئمة: إنَّما لا تقبل شهادته إذا ابتكر لذلك العمل وترصَّد؛ لأنَّه حينئذ يتمنى الموت والطاعون، فأمَّا إذا كان يبيع الثياب هكذا، وتُشترى منه الأكفان تجوز شهادته»

(2)

.

‌في شهادة البخيل

وشهادة البخيل لا تقبل، ذكره في مناقب أبي حنيفة رحمه الله

(3)

(4)

.

«وحكى عن نصير بن يحي، أنَّه سُئل عمَّن يشتم أهله ومماليكه وأولاده، أتقبل شهادته؟ قال: إذا كان في كل يوم وكل ساعة فلا، وإن كان أحياناً يقبل إن شاء الله»

(5)

.

وفي الجامع الصغير للإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وكذا لا تقبل شهادة من يجازف/ في كلامه

(6)

.

‌في رد شهادة من يظهر سب السلف

حكى أنَّ الفضل بن ربيع

(7)

وزير الخليفة، شهد عند أبي يوسف رحمه الله

(8)

في حادثة فرد شهادته؛ فشكاه إلى الخليفة، قال الخليفة: أيها القاضي إن وزيري رجلٌ ديِّنٌ لا يشهد بالزُّور، فلم رددت شهادته، قال: لأني سمعته يوماً قال للخليفة أنا عبدك، فإن كان صادقاً فلا شهادة للعبد، وإن كان كاذباً فكذلك أيضاً؛ لأنَّه إذا كان لا يبالي في مجلسك من الكذب لا يبالي من الكذب في مجلسي أيضاً، فعذَرَهُ الخليفة في ذلك

(9)

.

«ولا تقبل شهادة من يُظهر سبَّ السلف»

(10)

، المراد من السلف: الصحابة والتابعون وأبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم

(11)

.

(1)

في «ج» : [شهادتهن].

(2)

المحيط البرهاني (8/ 320).

(3)

في «س» : [رضى الله عنه].

(4)

المحيط البرهاني (8/ 320).

(5)

المحيط البرهاني (8/ 320).

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 150)، تبيين الحقائق (4/ 221).

(7)

الفضل بن الربيع بن يونس، أبو العباس: وزير أديب حازم، كان أبوه وزيراً للمنصور العبّاسي، واستحج به المنصور لما ولى أباه الوزارة، فلما آل الأمر إلى الرشيد واستوزر البرامكة كان الفضل من كبار خصومهم، واستخلف الأمين، فأقره في وزارته، فعمل على مقاومة المأمون، ولما ظفر المأمون استتر الفضل سنة 196 هـ، ثم عفا عنه المأمون وأهمله بقية حياته، وتوفي بطوس سنة 208 هـ، وهو من أحفاد أبي فروة كيسان مولى عثمان بن عفان. ينظر: وفيات الأعيان (4/ 37)، سير أعلام النبلاء (10/ 109)، الأعلام (5/ 148).

(8)

سقط من: «ج» .

(9)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 221)، البحر الرائق (7/ 92)، فتح القدير (7/ 415).

(10)

الهداية (3/ 123).

(11)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 223)، البناية شرح الهداية (9/ 150)، العناية شرح الهداية (7/ 415).

ص: 74

وفي الذَّخيرة: قال أبو يوسف: لا أجيز أن يشتم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لو شتم واحداً من الناس لا تجوز شهادته فهاهنا أولى

(1)

.

‌في شهادة أهل الأهواء

«وتقبل شهادة أهل الأهواء»

(2)

: الهوى مَيَلان النَّفس إلى ما يُستلذ به من الشهوات، وإنَّما سُمُّوا به لمتابعتهم النَّفس، ومخالفتهم السنَّة، كالخوارج

(3)

وغيرهم، فإنَّ أصول أهل الأهواء ستة: الجبر

(4)

، والقدر

(5)

،

والرفض

(6)

، والخروج، والتشبيه

(7)

والتَّعطيل

(8)

.

(1)

المحيط البرهاني (8/ 321).

(2)

الهداية (3/ 123).

(3)

الخوارج: هم أول من خرج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حرب صفين، وأصبحوا فرقاً متعددة يجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما، وهم فرق شتى تبلغ العشرين فرقة، ومن مبادئهم التي تجمعهم: تكفير علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وأصحاب الجَمل، والحكمين، ومن رضي بالتحكيم، والخروج على السلطان الجائر، وأنَّ مرتكب الكبيرة كافر.

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 167)، الملل والنحل للشهرستاني (1/ 113)، ومقدمات في الأهواء والافتراق والبدع للدكتور: ناصر العقل (ص: 134).

(4)

الجبر: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى، والجبرية: اثنان: متوسطة، تثبت للعبد كسبًا في الفعل كالأشعرية، وخالصة لا تثبت، كالجهمية.

ينظر: الملل والنحل (1/ 58)، التعريفات للجرجاني (1/ 74).

(5)

القدر: تعلق الإرادة الذاتية بالأشياء في أوقاتها الخاصة، فتعليق كل حال من أحوال الأعيان بزمان وعين وسبب معين عبارة عن القدر، والقدرية: هم الذين يزعمون أن كل عبدٍ خالقٌ لفعله، ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله تعالى.

ينظر: التعريفات للجرجاني (1/ 174)

(6)

الرفض: نسبة إلى الرافضة، اسم فاعل من رَفَضَ الشيء: إذا استبعده، وسمُّوا بذلك؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما، وقال: هما وزيرا جدي، فرفضوه وتركوه، وأصل مذهبهم من عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تلبَّس بالإسلام، فأظهر التشيع لأهل البيت والغلو فيهم؛ ليشغل الناس عن دين الإسلام ويفسده، وهم صنف من أصناف الشيعة، شعارهم النفاق الذي يسمونه:«التقية» .

ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 88، 134)، الفرق بين الفرق (22 - 49)،

(7)

التشبيه: أي: تشبيه الخالق بالمخلوق؛ حيث ظنوا أنَّ إثبات الصفات لله يستلزم التشبيه والتمثيل، وجهلوا أنَّ الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثلاً للمسَمَّيات والموصوفات. ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 10).

(8)

التعطيل: هو إنكار ما يجب لله-تعالى-من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضه، وأول من عرف بالتَّعطيل من هذه الأمة الجعد بن درهم. ينظر: فتح رب البرية ص (14 - 15)، مصطلحات في كتب العقائد ص (9).

ص: 75

ثم كل واحد يصير [اثنتي]

(1)

عشرة فرقة، فتبلغ إلى اثنتين وسبعين فرقة

(2)

.

وذكر في الذَّخيرة: «وشهادة أهل الأهواء مقبولة عندنا، إذا كان هوىً لا يَكفُر به صاحبه، ولا يكون ماجناً

(3)

، ويكون عدلاً في تعاطيه، وهو الصحيح.

واستدل محمد رحمه الله في الكتاب في بيان ذلك، فقال: أرأيت أنَّ أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ساعدوا معاوية على مخالفة علي رضي الله عنه ولو شهدوا بين يدي علي أكان يرد شهادتهم، ولا شك أنَّ مخالفة علي بعد عثمان رضي الله عنهما بدعة وهوى، فكيف الخروج عليه بالمسايفة

(4)

.

لكن لما كان عن تأويل وتدين لم يمنع قبول الشَّهادة، فكذا هذا.

ولأنَّه مسلم عدل في تعاطيه، شهد لغيره من كل وجه، وهو من أهل الشَّهادة فيقبل شهادته، قياساً على غير صاحب الهوى»

(5)

.

«وإنَّما قلنا: إنَّه مسلم؛ لأنَّ الكلام في الهوى لا يكفر به صاحبه؛ وإنَّما قلنا: عدل في تعاطيه؛ لأنَّه لم يرتكب ما هو حرام في دينه، واعتقاده حرمته، مثل حرمة شهادة الزُّور، حتى يستدل به على شهادة الزُّور، وصار كمن شرب المُثَلَّثِ

(6)

، أو يأكل متروك التسمية عامداً مستبيحاً لذلك، معتقداً إباحة ذلك؛ فإنَّه لا يصير به مردود الشَّهادة». كذا في المبسوط

(7)

.

‌في شهادة الخطابية

«إلا الخطَّابيَّة»

(8)

، فهم قوم يُنسبون إلى أبي الخطاب

(9)

، رجل كان بالكوفة

(10)

قتله عيسى بن موسى

(11)

وصلبه بالكنائس؛ لأنَّه كان يزعم أن علي بن أبي طالب الإله الأكبر، وجعفر الصادق

(12)

الإله الأصغر، وكانوا يعتقدون أنَّ من ادَّعي منهم شيئاً على غيره يجب أن يشهد له بقية شيعته

(13)

. كذا في شرح الأقطع

(14)

.

(1)

في «ج» : [اثني]

(2)

العناية شرح الهداية (7/ 415).

(3)

الماجن: هو الفاسق، وهو أنْ لا يبالي بما يقول ويفعل، وتكون أفعاله على نهج أفعال الفساق. التعريفات للجرجاني (ص 173).

(4)

المسايفة: أن يلتقي القوم بأسيافهم ويضرب بعضهم بعضاً بها، يقال: سايفته فسفته أسيفه، إذا غلبته بالضرب بالسيف. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي (1/ 116).

(5)

المحيط البرهاني (8/ 317).

(6)

المُثَلَّث: هو عصير العنب يطبخ قبل أن يغلي ويشتدَّ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثُه. التعريفات الفقهية (1/ 194).

(7)

ينظر: المبسوط (16/ 132).

(8)

الهداية (3/ 123).

(9)

أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ منه ولعنه وأمر أصحابه بالبراءة منه، وشدد القول في ذلك وبالغ في التبري منه واللعن عليه فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه، ولما وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور على خبث دعوته قتله بسبخة الكوفة.

ينظر: الملل والنحل (1/ 180)، فرق الشيعة (1/ 42).

(10)

الكوفة: كانت تسمى أحد العراقين، والآخر البصرة - مدينة أسسها المسلمون عند فتح العراق أسسها سعد بن أبي وقاص سنة 17 للهجرة، ولما تولى الخلافة الإمام علي رضي الله عنه اتخذ الكوفة عاصمة له، فلما قتل دفن بظاهرها في موضع يدعى النجف، تقع الكوفة على نهر الفرات، وعلى مسافة ثمانية كيلو مترا تم مدينة النجف، و 156 كيلو متراً من بغداد.

ينظر: معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (ص 267).

(11)

عيسى بن موسى بن محمد العباسي، أبو موسى أمير، من الولاة القادة، وهو ابن أخي السفاح، ولد ونشأ في الحميمة، وكان من فحول أهله وذوي النجدة والرأي منهم، ولاه عمه الكوفة وسوادها سنة 132 هـ، وجعله ولي عهد المنصور، فاستنزله المنصور عن ولاية عهده سنة 147 هـ وعزله عن الكوفة، وأرضاه بمال وفير، وجعل له ولاية عهد ابنه المهدي، فلما ولي المهدي خلعه سنة 160 هـ بعد تهديد ووعيد، وكان ولي العهد لا يخلع ما لم يخلع نفسه ويشهد الناس عليه، فأقام بالكوفة إلى أن توفي سنة 167 هـ.

ينظر: سير أعلام النبلاء (7/ 434)، الأعلام للزركلي (5/ 109)

(12)

جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط، الهاشمي القرشي، أبو عبد الله، الملقب بالصادق: سادس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية، كان من أجلاء التابعين، وله منزلة رفيعة في العلم، أخذ عنه جماعة، منهم الإمامان أبو حنيفة ومالك، ولقب بالصادق؛ لأنه لم يعرف عنه الكذب قط، مولده سنة 80 هـ، ووفاته سنة 148 هـ بالمدينة.

ينظر: حلية الأولياء (3/ 192)، وفيات الأعيان (1/ 327)، الأعلام (2/ 126).

(13)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 416)، وينظر: تبيين الحقائق (4/ 223).

(14)

شرح الأقطع: هو شرح الإمام أحمد بن محمد بن محمد بن نصر البغدادي المعروف بأبي نصر الأقطع، الحنفي، توفي برامهرمز سنة 474 هـ، وهو شرح على مختصر القدوري في فروع الحنفية، للإمام أحمد بن محمد القدوري، البغدادي، الحنفي، المتوفى سنة 428 هـ، وهو الذي يطلق عليه لفظ الكتاب في المذهب.

ينظر: كشف الظنون (2/ 1631)، هدية العارفين (1/ 80).

ص: 76

وذكر في المغرب الخطَّابيَّة: طائفة من الرافضة، نُسبوا إلى أبي الخطاب محمد بن أبي وهب الأجدع، قال صاحب المقالات

(1)

: وهم كانوا يدينون بشهادة الزُّور لموافقيهم

(2)

.

وفسرها في المبسوط

(3)

كما فُسر في الكتاب، فقال: «هم صنف من الروافض يستجيزون أن [يشهدوا]

(4)

للمدَّعِي إذا حلف عندهم أنَّه محق، ويقولون: المسلم لا يحلف كاذباً، فاعتقاده هذا يمكِّن تهمة الكذب.

فربما أقدم على أداء الشَّهادة بهذا الطريق.

فأمَّا رواية الأخبار من أهل الأهواء، [فقد]

(5)

اختلف فيه مشايخنا، والأصح عندي أنَّه لا تقبل. كذا في المبسوط

(6)

.

‌في شهادة أهل الذمة

«وتقبل شهادة أهل الذِّمة بعضهم على بعض، وإن اختلفت مللهم»

(7)

، قيد شهادة أهل الذَّمة

(8)

بعضهم على بعض، احترازاً عما يأتي بعد هذا بقوله:«ولا تقبل شهادة الحربي على الذِّمى»

(9)

، وقيد بقوله:«وإن اختلفت مللهم» احترازاً عن قول ابن ابي ليلى؛ فإنَّه يقول: إن اتفقت مللهم تقبل شهادة بعضهم على البعض، وإن اختلفت لا تقبل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-:«لا شهادة لأهل ملة لأهل ملة أخرى إلا المسلمين»

(10)

، فشهادتهم مقبولة على أهل الملل [كلها]

(11)

.

(1)

مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1/ 11).

(2)

المغرب (1/ 148).

(3)

المبسوط (16/ 133).

(4)

في «س» : [يشهد].

(5)

سقط من: «ج» .

(6)

المبسوط (16/ 133).

(7)

الهداية (3/ 123).

(8)

أهل الذمة: هم أهل العقد، قال أبو عبيد: الذمة الأمان، فبقوله صلى الله عليه وسلم:«ويسعى بذمتهم» ، ويقال أهل الذمة؛ لأنهم أدوا الجزية فأمنوا على دمائهم، وأموالهم، وهم المعاهدون من أهل الكتاب وَمن جرى مجراهم، والذمي: المعاهد الذي أعطى عهداً يأمن به على ماله، وعرضه، ودينه، أو المواطنون غير المسلمين الذين يحملون جنسية الدولة.

ينظر: مقاييس اللغة (2/ 346)، المعجم الوسيط (1/ 315)، معجم لغة الفقهاء (1/ 95).

(9)

الهداية (3/ 123).

(10)

أخرجه: البيهقي في السنن الكبرى (10/ 163)، رقم (21128)، قال الزيلعي في نصب الراية (4/ 86):«ذكره عبد الحق في أحكامه من جهة الدارقطني، ثم قال: وعمر بن راشد ليس بالقوي، ضعفه أحمد بن حنبل، وأبو زرعة، وابن معين، انتهى. ورواه ابن عدي في الكامل، وأعله بعمر بن راشد، وأسند تضعيفه عن البخاري، وأحمد، والنسائي، وابن معين» .

(11)

في «س» : [كله].

ص: 77

وإنَّا نقول: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}

(1)

، والمراد منه الولاية دون الموالاة، فإنَّه معطوف على قوله:{مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}

(2)

(3)

.

«وقال مالك

(4)

والشافعي

(5)

-رحمهما الله-: لا تقبل؛ لأنَّه فاسق، قال الله تعالى للكافرين:{هُمُ الْفَاسِقُونَ}

(6)

(7)

.

هكذا كان لفظ الكتاب بتصحيح شيخي- رحمه الله؛ لأن الله تعالى قال: [للكافرين: {هُمُ الْفَاسِقُونَ}]

(8)

.

والفسق: عبارة عن الخروج، يقال:[فسقت]

(9)

الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسُمِّي المسلم بذلك لخروجه عن حد الدين تعاطياً، والكافر لخروجه عن حد الدين اعتقاداً، فإذا ثبت أنَّه فاسقٌ وجب التوقٌّف في خبره بالنص»

(10)

.

«صار كالمرتد» ؛ أي: لا تقبل شهادة المرتد لجنسه، وخلاف جنسه وعليهما؛ فكذا الكافر

(11)

.

«ولنا ما روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة النصارى

(12)

بعضهم على/ بعض»

(13)

.

رواه جابر بن عبد الله

(14)

، وأبو موسى

(15)

رضي الله عنهما

(16)

.

(1)

سورة الأنفال: آية 73.

(2)

سورة الأنفال: آية 72.

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 417)، البناية شرح الهداية (9/ 152).

(4)

ينظر: المدونة الكبرى (2/ 94)، النوادر والزيادات (8/ 424).

(5)

ينظر: الأم للشافعي (4/ 221)، الحاوي الكبير (17/ 62).

(6)

سورة النور: آية 4.

(7)

الهداية (3/ 123).

(8)

في «ج» : [للكافرين: (هم الفاسقون)].

(9)

في «ج» : [فسقطت].

(10)

المبسوط (16/ 134).

(11)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 417).

(12)

قال الزيلعي في نصب الراية (4/ 85): «غريب بهذا اللفظ، وهو غير مطابق للحكمين؛ فإن المصنف قال: وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، وإن اختلفت مللهم، ثم استدل بالحديث، ولو قال: أهل الكتاب، عوض: النصارى؛ لكان أولى، وموافقا للحكمين، أعني: اتحاد الملة واختلافها» .

(13)

الهداية (3/ 123).

(14)

جابر: بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن عمرو بن سواد الخزرجي، الأنصاري السلمي، صحابي من المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أهل بيعة الرضوان، وكان آخر من شهد ليلة العقبة الثانية موتاً، روى علما كثيراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جماعة من الصحابة، اختلف في شهوده بدراً، غزا تسعة عشرة غزوة، كانت له في آخر أيامه حلقة بالمسجد النبوي يؤخذ عنه العلم، توفي بالمدينة بعد سنة 70 هـ.

ترجمته في: الاستيعاب (1/ 219)، سير أعلام النبلاء (3/ 189)، أسد الغابة (1/ 492)، الإصابة (1/ 546)، الأعلام (2/ 104).

(15)

أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري، صحابي جليل، وقائد فاتح، أصله من اليمن، رحل إلى مكة، ثم عاد إلى اليمن مرة أخرى يدعو قومه ويرشدهم إلى الإسلام، ومعه معاذ بن جبل، كان رضي الله عنه فقيهًا، عالمًا، بارعًا، في الإفتاء، والقضاء، تقياً، ورعاً، شارك في الحرب ضد الفرس، وقاتل أهل أصبهان، وكان من أبطال موقعة تُستر ضد الفرس، اعتزل الفتنة التي وقعت بين الصحابة، توفي رضي الله عنه في الكوفة سنة 44 هـ.

ترجمته في: الطبقات الكبرى (4/ 78)، معرفة الصحابة (4/ 1749)، الاستيعاب (3/ 1762)، أسد الغابة (3/ 364).

(16)

أخرجه: ابن ماجه في السنن (2/ 794)، كتاب الأحكام، باب شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، رقم (2374)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 165)، رقم (21138)، وقال:«حكمه غير مرفوع» ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 56)، إسناده ضعيف، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (8/ 283)، رقم (2668).

والمروي حديث جابر، أما حديث أبي موسى فلم أقف عليه.

ص: 78

وحجتنا أيضاً في ذلك قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}

(1)

؛ أي: من غير دينكم، وهو بناء على قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}

(2)

.

وما ثبت بضرورة النَّصِّ فهو كالمنصوص، ثمَّ انتسخ ذلك في حق المسلم بانتساخ حكم ولايتهم على المسلمين، فبقي حكم الشَّهادة فيما بينهم على ما ثبت بضرورة النَّص، وليس من ضرورة انتساخ شهادتهم على المسلمين انتساخ شهادة بعضهم على بعض كالولاية

(3)

.

«والفسق من حيث الاعتقاد غير مانع؛ لأنَّه يجتنب ما يعتقده محرم دينه، والكذب محظور الأديان»

(4)

.

فإن قلت: لا نُسَلِّم أنَّهم يجتنبون الكذب؛ بل يباشرونه، فإنَّ الله تعالى أخبر أنَّهم ينكرون الآيات عناداً مع علمهم بأنَّها حق، فكان ذلك كذباً منهم، قال الله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}

(5)

،

(6)

.

قلتُ: كان ذلك في الأحبار الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(7)

، حيث تواطؤا على كتمان نعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونبوته، فلا شهادة لأولئك عندنا.

فأمَّا من سواهم فيعتقدون الكفر؛ لأنَّ عندهم أنَّ الحقَّ ما هم عليه، قال الله تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}

(8)

، وقال تعالى:{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ}

(9)

.

وبهذا التَّحقيق يتبين أنَّ فسقهم فسق اعتقاد، وقد بيَّنا في شهادة أهل الأهواء أن فسق الاعتقاد لا يمكن تهمة الكذب في الشَّهادة

(10)

.

فإن قلت: لو احتج الخصمُ بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}

(11)

، وقد شرط الله تعالى أنْ يكون الشَّاهد مرضياً، والكافر لا يكون مرضياً؛ ولأنَّ شهادته لا تقبل على المسلم، وكل من لا يكون من أهل الشَّهادة على المسلمين لا يكون من أهل الشَّهادة على أحد من العبيد والصبيان؛ بل أولى.

(1)

، (5) سورة المائدة: آية 106.

(2)

في «ج» : [المسلم].

(3)

المبسوط (16/ 134 - 135).

(4)

الهداية (3/ 123).

(5)

سورة النمل: آية 14.

(6)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 224).

(7)

في «س» : [عليه السلام].

(8)

سورة البقرة، آية:78.

(9)

سورة البقرة، آية 146.

(10)

ينظر: المبسوط (16/ 135).

(11)

سورة البقرة، آية:282.

ص: 79

[والعبد]

(1)

المسلم أحسن حالاً من الكافر.

ألا ترى أنَّ خبره في الديانات يُقبل ولا يقبل خبر الكافر.

ولأنَّ [الرِّق]

(2)

من آثار الكفر، فإذا كان أثر الكفر يخرجه من الأهليَّة للشِّهادة فأصل الكفر أولى؛ ولأن لو قبلنا شهادته لأوجبنا على القاضي القضاء بشهادته، [ولا]

(3)

يجوز أن يلزم المسلم شيئاً بقول الكافر

(4)

.

فما جوابنا عن هذا المجموع.

قلت: أمَّا الآية فإن الرضى ثبت في حق الكافر في حق المعاملات بصفة الأمانة؛ لأنَّ الله تعالى وصفهم بذلك، فقال:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}

(5)

(6)

.

وهذه الآية خرجت مخرج الوصف له بالأمانة، وفعل الأمانة يُرضي الله تعالى، وإن لم يكن الكافر يُرضيه لكفره؛ ولما كان مؤتمناً في المعاملات كان مؤتمناً في الشَّهادة؛ لأن الشَّهادة من أداء الأمانات.

وأمَّا العبيد والصبيان؛ فإنَّه لا شهادة لهم لانعدام الأهلية والولاية

(7)

.

«وأمَّا الكافر من أهل الولاية في جنسه فيكون من أهل الشَّهادة كالمسلم، وبيان الوصف في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}

(8)

، والمراد منه الولاية دون الموالاة على ما ذكرنا.

والدَّليل علىه أنَّه تصحُّ الأنكحة فيما بينهم، ولا نكاح إلا بولي في حق الأكثرين، والمسلم إذا خطب إلى كتابي ابنته الصَّغيرة فزوجها منه جاز النكاح.

فإذا ثبتت الأهليَّة للولاية ثبتت الأهليَّة للشهادة؛ لأنَّ في الشَّهادة نوع ولاية، وبهذا يتبيَّن أنَّ الولاية قد تثبت للكافر في جنسه ولا تثبت للعبد، فلم يلزم من عدم أهلية العبد في الشَّهادة عدم أهلية الكافر فيها.

وأمَّا قوله: لو قبلنا شهادته لأوجبنا على القاضي القضاء بقول الكافر، فقلنا: ليس كذلك؛ لأنَّ القاضي إنَّما يلزمه القضاء بتقلده عند قيام الحجَّة، وباعتبار أنَّه التزم أداء أمانة القضاء لا أن يكون الوجوب بقول الكافر؛ بل يلزمه أداء أمانة القضاء لتحملها، كما يلزمه النَّظر للغائب والصغير، لا بإيجاب من قبلهما؛ بل بأمانة [لحملها]

(9)

. إلى هذا كله أشار في المبسوط

(10)

، والأسرار، والإيضاح.

(1)

في «س» : [فالعبد].

(2)

في «س» : [رقه].

(3)

في «ج» : [لا].

(4)

ينظر: المبسوط (16/ 134).

(5)

سورة آل عمران، آية 75.

(6)

المبسوط (16/ 135).

(7)

المبسوط (16/ 135).

(8)

سورة الأنفال: آية 73.

(9)

في «س» : [بحملها].

(10)

ينظر: المبسوط (16/ 135).

ص: 80

«لأنَّهلا ولاية [له]

(1)

»

(2)

؛ أي: لأنَّ الشَّأن أن لا ولاية للذِّمي «بالإضافة إليه» ؛ أي: بالنسبة إلى المسلم، هذا احتراز عن الإضافة إلى الكافر، فإنْ كان للكافر ولاية بالنسبة إلى الكافر الآخر على ما ذكرنا.

«ولأنَّه يتقول عليه» ؛ أي: ولأن الذِّمي يفتري على المسلم.

«لأنَّه يغيظه قهره إياه» ؛ أي: لأنَّ الشأن هو أنْ يسخط الذِّمي قهر المسلم الذِّمي وملل الكفر

(3)

.

«وإن اختلفت فلا قهر

» إلى آخره، هذا جواب إشكال يَرِدُ على أصل المسألة، وهو قوله: «وتقبل شهادة [أهل الذِّمَّة]

(4)

بعضهم على البعض، وإن اختلفت مللهم»

(5)

.

بأن يقول قائل: فالمعاداة ظاهرة بين اليهود والنصارى، وهم غير محقين في ذلك، قال الله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ}

(6)

/، فيجب أن لا تقبل شهادة أهل ملَّة على ملَّة أخرى، كما هو مذهب ابن أبي ليلى، فأجاب عنه بهذا الذي ذكره في الكتاب

(7)

.

وذكر في المبسوط جواب هذا، وقال: «ثم اليهود يعادون النَّصارى بسبب هم فيه محقُّون، وهو دعواهم الولد لله تعالى، والنصارى يعادون اليهود بسبب هم فيه محقُّون، وهو إنكارهم نبوَّة عيسى صلى الله عليه وسلم والفريقان يعادون المجوس

(8)

بسبب هم فيه محقُّون، وهو إنكارهم التَّوحيد ظاهراً، ودعواهم الاثنين، فشهادة بعضهم على البعض كشهادة المسلمين على الكفار، ولئن كان بعضهم يعادي البعض [بسبب]

(9)

باطل، فلم يصير بعضهم مقهور بعض ليحملهم ذلك على التقول، بخلاف الكفار؛ فقد صاروا مقهورين من جهة المسلمين؛ وذلك يحملهم على التقول عليهم، فلذلك لا تقبل شهادتهم على المسلمين»

(10)

.

(1)

سقط من: «س» .

(2)

تمام المسألة في الهداية (3/ 123): «والفسق من حيث الاعتقاد غير مانع؛ لأنه يجتنب ما يعتقده محرم دينه، والكذب محظور الأديان، بخلاف المرتد؛ لأنه لا ولاية له، وبخلاف شهادة الذمي على المسلم؛ لأنه لا ولاية له بالإضافة إليه» .

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 154).

(4)

سقط من: «ج» .

(5)

الهداية (3/ 123).

(6)

سورة البقرة: آية 113.

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 154).

(8)

المجوس: قوم يعبدون النار، ولهم شبهة كتاب وقد أثبتوا إلهين النور والظلمة، ويستحلون نكاح المحارم، ويتطهرون بأبوال البقر تديناً. ينظر: البرهان في عقائد أهل الأديان (90، 91)، الملل والنحل (1/ 130 - 144).

(9)

سقط من: «س» .

(10)

المبسوط (16/ 136).

ص: 81

‌شهادة الحربي على الذمي

«ولا تُقبل شَهادة الحربي على الذِّمي»

(1)

؛ وإنَّما أراد به المستأمن

(2)

، وإنَّما قيد بهذا لعدم تصور شهادة الكافر الحربي على الذِّمي، لما أن الشَّهادة إنما تكون في مجلس القضاء، ومن شرط القضاء المصرفي دار الإسلام، فلو دخل الحربي دار الإسلام بغير استئمان يؤخذ قهراً فيُسترق؛ فتكون شهادته حينئذ شهادة عبدٍ، فلا تقبل شهادة عبد على أحد، فكيف تقبل على الذِّمي

(3)

.

«لأنَّه من أهل دارنا» ؛ أي: لأن الذِّمي.

«وهو أعلى منه» ؛ أي: الذِّمي أعلى من المستأمن؛ أي: أقرب إلى أهل الإسلام؛ لأنَّه قبل ما هو [خلف] الإسلام وهو الجزية.

ولأن المسلم يُقتل بالذِّمي قصاصاً، ولا يقتل المسلم بالمستأمن

(4)

.

وقوله: «بخلاف الذِّمي» ، متصل بقوله:«وإن كانوا من دارين، كالروم والترك لا تقبل»

(5)

.

«لأن اختلاف الدارين يقطع الولاية»

(6)

؛ أي: شهادة أهل الذِّمَّة بعضهم على بعض مقبولة وإن كانوا من منعات مختلفة؛ لأنَّهم صاروا من أهل دارنا حتى لا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب.

فلما كان كذلك صاروا بمنزلة المسلمين، وشهادة المسلمين مقبولة على أهل الذِّمَّة كلهم، وإن كانوا من منعات مختلفة؛ فكذلك شهادة بعضهم على بعض، لما أنَّ دار الإسلام لا تختلف [باختلاف]

(7)

المنعة، بخلاف المستأمنين؛ حيث لا تقبل شهادة بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دارين، كالروم والترك؛ لأنَّ الولاية فيما بينهم تنقطع باختلاف المنعتين؛ ولهذا لا يجري التوارث؛ بخلاف دار الإسلام، فإنَّها دار حكم، فباختلاف المنعة لا تختلف الدار

(8)

.

فأمَّا دار الحرب، فليست بدار أحكام، فباختلاف المنعة تختلف الدار. إلى هذا أشار في المبسوط في باب الشَّهادة على الشَّهادة

(9)

.

«والرجل يجتنب الكبائر»

(10)

؛ أي: كلها، وقد ذكرنا تفسير الكبائر

(11)

.

(1)

الهداية (3/ 123).

(2)

المستأمن: من الاستئمان وهو طلب الأمان من العدو، هو الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان.

ينظر: تحرير ألفاظ التنبيه (1/ 325)، أنيس الفقهاء (1/ 66).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 225)، درر الحكام (2/ 376)، فتح القدير (7/ 420).

(4)

ينظر: فتح القدير (7/ 420)، لسان الحكام (1/ 246).

(5)

الهداية (3/ 124).

(6)

الهداية (3/ 124).

(7)

في «س» : [باعتبار].

(8)

ينظر: لسان الحكام (1/ 246).

(9)

ينظر: المبسوط (16/ 139).

(10)

الهداية شرح البداية (3/ 124).

(11)

تقدم، ص (182).

ص: 82

«وإن ألمَّ بمعصية» ؛ أي: أذنب بمعصية صغيرة، مشتق من اللَّمم، وهو ما دون الفاحشة من صغار الذنوب

(1)

.

وذكر في الذَّخيرة

(2)

: «والحاصل أن ارتكاب الكبيرة يوجب زوال العدالة، وارتكاب الصغيرة لا يوجب زوال العدالة؛ لأنَّ ارتكاب الكبيرة يدل على شهادة الزُّور؛ لأنَّ حرمة ما ارتكب من الكبيرة كحرمة شهادة الزُّور، فإذا ارتكب كبيرة مع اعتقاده حرمتها يُتهم أنَّه يرتكب شهادة الزُّور أيضاً، قياساً واستدلالاً بها.

فأمَّا ارتكاب الصَّغيرة لا يدل على شهادة الزُّور؛ لأنَّ شهادة الزُّور كبيرة، والإنسان قد يجتنب من الكبائر ولا يجتنب من الصغائر، فارتكاب الصغائر لا يدل على شهادة الزُّور، فلا يوجب زوال العدالة، ولا يكون جرحاً إلا أنْ يُصرَّ [على]

(3)

ذلك؛ لأنَّ الصغيرة تصير كبيرة بالإصرار على ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

أنَّه قال: «لَا صَغِيرَة مَعَ الإِصرَار ولَا كَبِيرَة مَعَ الاستِغفَار»

(5)

.

وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة السَّرخسي رحمه الله أنَّه قال: النَّاس لا يخلون عن ارتكاب الصغائر، ولا يخلون عن إتيان ما هو مأذون به في الشَّرع، فيعتبر في ذلك الغالب، يريد به في حق الصغائر.

فإن كان غالب أحواله أنَّه [إنما]

(6)

يأتي بما هو مأذون به في الشّرع، ويحترز عما لا يحل في الشَّرع من الصغائر، كان جايز الشَّهادة بعد أن يحترز عن كل الكبائر.

وإن كان غالب أحواله أنَّه لا يحترز عن الصغائر، لا يكون جايز الشَّهادة».

«الأقلف» : أي: الذي لم يُختن.

خصاه: نزع خصيتيه يخصيه خصاء على فعال، والمفعول خصي على فعيل، والجمع خصيان، كذا في المُغرِب

(7)

.

(1)

البناية شرح الهداية (9/ 155).

(2)

المحيط البرهاني (8/ 311 - 312).

(3)

سقط من: «ج» .

(4)

في «س» : [عليه السلام].

(5)

أخرجه: القضاعي في مسند الشهاب (2/ 45)، رقم (853)، وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 179):«روي مرفوعاً من وجوه ضعيفة» ، وضعف إسناده السخاوي في المقاصد الحسنة (1/ 726)، وقال الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (10/ 351)، رقم (4810):«منكر» .

(6)

سقط من: «س» .

(7)

المغرب (1/ 147).

ص: 83

‌شهادة الأقلف

وقوله: «وتقبل شهادة الأقلف»

(1)

.

«لأنَّه لا يحل بالعدالة؛ لأنَّ العدالة لا تنعدم بترك الختان، إذا كان ترك الختان بعذر.

قيل: العذر في ذلك الكبر وخوف الهلاك.

ثم لابد من معرفة وقت الختان، ولم يقدر أبو حنيفة رحمه الله فيه تقديراً؛ لأنَّه لم ينزل فيه قرآن، ولم يرد فيه سنَّة، ولم يُنقل فيه إجماع الصحابة رضي الله عنهم والطريق في معرفة المقادير السماء، فلذلك لم يقدر/ فيه تقدير.

والمتأخرون من مشايخنا اختلفوا فيه بعضهم من سبع سنين إلى عشر سنين، وبعضهم قالوا: اليوم السابع من ولادته، أو بعد السَّابع، بعد أن يحتمل الصبي ولا يهلك؛ لما روي أنَّ الحسن والحسين رضي الله عنهما خُتنا اليوم السابع

(2)

، أو بعد اليوم السابع؛ ولكنَّه شاذ

(3)

.

وأمَّا صفته فقد اختلف العلماء فيها، بعضهم قالوا: إنَّه فريضة، وقال علماؤنا: إنَّه سنَّة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

: «الختان للرجال سُنَّة وللنِّساءِ مَكرمة»

(5)

(6)

.

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان النِّساء يُختنَّ في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

(7)

؛ وإنَّما كان ذلك مكرمة؛ لأنَّها تكون أَلَذُّ للرجال عند المواقعة. كذا في الذَّخيرة

(8)

، وأدب القاضي للصدر الشهيد

(9)

.

‌في شهادة الخنثى

«وشهادة الخنثى

(10)

جائزة»

(11)

، وذكر في الخزانة: والخنثى المُشكل لا يشهد مع رجل، ولا مع امرأة، ولو شهد مع رجل وامرأة تقبل

(12)

.

(1)

الهداية (3/ 124).

(2)

عن محمد بن المنكدر، عن جابر، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن الحسن والحسين، وختنهما لسبعة أيام» .

أخرجه: الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 12)، رقم (6708)، وفي المعجم الصغير (2/ 122)، رقم (891)، والبيهقي في شعب الإيمان (11/ 119)، وفي السنن الكبرى (8/ 324)، رقم (18018)، قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/ 494):«إسناده ضعيف» ، وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (4/ 383).

(3)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 321).

(4)

في «س» : [عليه].

(5)

أخرجه: أحمد في المسند (5/ 75)، رقم (20738)، والطبراني في المعجم الكبير (7/ 273)، رقم (7112)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 324)، وضعف إسناده، وضعفه ابن الملقن في البدر المنير (8/ 743)، وضعفه الشيخ الألباني في السِّلسلة الضعيفة، (4/ 407)، رقم (1935).

(6)

المحيط البرهاني (8/ 321).

(7)

في «س» : [عليه السلام].

(8)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 321).

(9)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 226).

(10)

الخنثى: هو من له فرجٌ وذكرٌ، فإن بال من الذّكر؛ فغلامٌ، وإن بال من الفرج فأنثى، وإن بال منهما فالحكم للأسبق، وإن استويا فمشكلٌ، ولا عبرة بالكثرة، فإن بلغ وخرجت له لحيةٌ، أو وصل إلى النّساء، فرجلٌ، وإن ظهر له ثديٌ، أو لبنٌ، أو حاض، أو حبل، أو أمكن وطؤه فامرأةٌ، وإن لم يظهر له علامةٌ أو تعارضت فمشكلٌ. كنز الدقائق للنسفي (1/ 684).

(11)

الهداية (3/ 124).

(12)

ينظر: لسان الحكام (1/ 243).

ص: 84

‌في شهادة العمال

[قوله]

(1)

: «لأنَّ نفس العمل ليس بفسق»

(2)

، إنَّما الفسق هو الظلم؛ فإن العامل إذا كان عدلاً يستحق ثواباً عظيماً على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«سَبعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالى يَومَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»

(3)

، وذكر فيها إماماً مقسطاً، ألا ترى أنَّ الكبراء من الصحابة رضي الله عنهم

(4)

، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم كانوا عمَّالاً، ولو كان نفس الفعل حرجاً وفسقاً لتنزهوا عن ذلك. كذا في الذَّخيرة

(5)

.

وذكر الإمام قاضي خان رحمه الله: أراد به عامل السُّلطان الذي يُعين السُّلطان في أخذ الحقوق الواجبة، كالخراج، وزكاة السوائم ونحوه، أمَّا الذي يُعينه على أخذ الحرام لا تقبل شهادته

(6)

.

ثم قال: وقيل: أراد بالعمَّال الذين يعملون بأيديهم ويؤاجرون أنفسهم؛ لأنَّ من النَّاس من قال: لا تقبل شهادة هؤلاء، وإنَّما أورد هذه المسألة رداً لقول ذلك القائل؛ لأنَّ كسبهم أطيب الكسب على ما جاء في الحديث:«أفضل الناس عند الله تعالى من يأكل من كسب يده»

(7)

، فلا يوجب ذلك حرجاً

(8)

.

وفي الفوائد الظهيرية: وذكر الصدر الشهيد: أنَّ شهادة الرئيس والجاني في السِّكة الذي يأخذ الدراهم، والصرَّاف الذي تُجمع عنده الدِّراهم ويأخذها طوعاً لا تقبل شهادتهم

(9)

.

وذكر البزدوي في باب الضمان من الجامع الصغير: أن من قام بتوزيع هذه النوائب على المسلمين بالقسط والمعادلة كان مأجوراً، وإن كان أصله من الجهة التي [يأخذها]

(10)

باطلاً، فعلى هذا ينبغي أن تقبل شهادة من قام بالتوزيع، ولو كان مجازفاً في كلامه من العمال لا تقبل شهادته، وقد ذكرناه

(11)

.

(1)

سقط من النسخ.

(2)

الهداية (3/ 124).

(3)

أخرجه: البخاري في صحيحه (1/ 133)، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، رقم (660)، ومسلم في صححه (2/ 715)، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء النفقة، رقم (1031).

(4)

في «ج» : [رضوان الله عليهم].

(5)

المحيط البرهاني (8/ 318).

(6)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 226).

(7)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقريب منه ما روي عن رَسُول ِاللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيرًا مِن أَن يَأكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّه ِدَاوُدَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ» .

أخرجه: البخاري في صحيحه (3/ 57)، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمل يده، رقم (2072).

(8)

ينظر: البحر الرائق (7/ 96)، مجمع الأنهر (2/ 202).

(9)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 318)، مجمع الأنهر (2/ 202)، لسان الحكام (1/ 246)، البحر الرائق (7/ 69).

(10)

في «س» : [يأخذ].

(11)

النافع الكبير شرح الجامع الصغير (1/ 379)، وينظر: البحر الرائق (4/ 227).

ص: 85

‌في شهادة الغرماء والأوصياء

«وإذا شهد الرجلان أنَّ أباهما أوصى إلى فلان والوصي يدعي، فهو جايز»

(1)

، ههنا خمس مسائل: الغريمان لهما على الميت دين، والغريمان للميت عليهما دين، والموصي لهما، والموصي إليهما، والوارثات، وشهد كل فريق أنَّ الميت أوصى إلى هذا، وهو يطلب ذلك جازت الشَّهادة استحساناً، وفي القياس لا تقبل، وإن أنكر الوصي ذلك لم يجز؛ قياساً واستحساناً

(2)

.

«وجه القياس أنَّها شهادة للشاهد»

(3)

؛ أي: أن شهادة هذا الشَّاهد شهادة لنفسه، تعود منفعة هذه الشَّهادة إلى نفسه، وهو استحقاق الميراث ونصب من يقوم بإحياء حقوقه، فكانت هذه الشَّهادة شهادة لمتهم، فلا تقبل؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم:«لا شهادة لمتهم»

(4)

.

[وجه القياس]

(5)

على ما لو شهدا أنَّ أباهما وكَّله بقبض ديونه بالكوفة، وادعى الوكيل أو أنكر لم تجز شهادتهما

(6)

.

«وجه الاستحسان»

(7)

: أن هذه الشَّهادة ليست شهادة في الحقيقة حتى لا تقبل بالتهمة؛ لأنَّ الشَّهادة الحقيقيَّة هي التي توجب على القاضي في الحكم ما لم يكن واجباً عليه، وهذه الشَّهادة ليست كذلك؛ فإنَّ القاضي كان يملك نصيب الوصي إذا كان الموت ظاهراً في مال الميت من غير شهادة كي لا يضيع ماله، فعند قيام الشَّهادة أولى؛ لأنَّ من زَعمِ الشُّهود أن هذا الرجل مختار الميت، ومن ينصبه القاضي ليس بمختار الميت؛ ثم لما جاز للقاضي نصب الوصي مع أنَّه ليس بمختار الميت؛ لأن يكون له ذلك إذا كان مختار الميت أولى، بخلاف مسألة الوكالة، فإن ثمَّة ليس للقاضي أن ينصب على الغائب خصماً من غير شهادة؛ فلا يكون له ذلك أيضاً بشهادة الشُّهود [إذا]

(8)

تمكَّنت التهمة فيها.

وقد ذكرنا أنَّ الشَّهادة إذا كانت شهادة على الحقيقة لا تقبل عند التهمة، وهناك كذلك؛ لأنَّ بهذه الشَّهادة يلزم على القاضي ما لم يكن لازماً قبل الشَّهادة، فترد عند التهمة.

فإن قيل: هذا [ينتقض]

(9)

بالوصيَّين، فإنَّه إذا كان للميت وصيان فالقاضي لا يحتاج إلى أن ينصب على الميت وصياً آخر، فإذا لم يكن له ذلك من غير شهادة يجب أن يكون كذلك عند أداء الشَّهادة إذا تمكنت التهمة فيها، ومع ذلك يتمكن القاضي من القضاء بشهادة الوصيين على/ أنَّ الميت أوصى إلى هذا الثالث معنا، لما أنَّ هذه إحدى صور المسائل الخمس.

(1)

الهداية (3/ 124).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 160 - 161).

(3)

الهداية (3/ 124).

(4)

سبق تخريجه، ص (148).

(5)

في «س» : [والقياس].

(6)

ينظر: الجامع الصغير (1/ 390).

(7)

قال في الهداية (3/ 124): «وجه الاستحسان أنَّ للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان طالباً والموت معروف، فيكفي القاضي بهذه الشهادة مؤنة التَّعيين لا أن يثبت بها شيء فصار كالقرعة» .

(8)

في «س» : [إذ].

(9)

في «ج» : [منقض].

ص: 86

قلنا: القاضي وإن كان لا يحتاج إلى نصب الوصي؛ لكن الموصى إليهما متى شهدا بذلك كان من زعمهما أنَّه لا تدبير لنا في هذا المال إلا بالثَّالث، فأشبه من هذا الوجه ما لم يكن ثمَّة وصي، وهناك تقبل الشَّهادة، فكذا هنا

(1)

. إلى هذا أشار الإمام المحبوبي رحمه الله وغيره.

«فصار كالقرعة» : يعني أنَّ القرعة ليست بحجَّة، ومع هذا يجوز استعمالها في تعيين الأنصباء؛ لدفع التهمة عن القاضي، فصلحت القرعة دافعةً لا موجبةً، فكذلك هذه الشَّهادة تدفع عن القاضي مؤنة التَّعيين، لا أن توجب شيئاً على القاضي، وهو لم يكن عليه

(2)

.

«والوصيان إذا أقرَّا أنَّ معهما ثالثاً

»

(3)

إلى آخره، هذا هو جواب الإشكال الذي ذكرناه، وجوابه مفسراً، «فتكون الشَّهادة هي الموجبة» فتردُّ للتهمة، لما قلنا: أنَّه شهادة للشَّاهد نفسه.

«وفي الغريمين للميت عليهما دين تقبل الشَّهادة، وإن لم يكن الموت معروفاً»

(4)

؛ أي: ليس للقاضي نصب الوصي في هذه الصور عند عدم ظهور موت الموصي، وانعدام الشَّهادة، [فكذا]

(5)

بشهادة تمكنت منها التهمة، إلا في الغريمين للميت عليهما دين، فإن شهادتهما تُقبل على الموت والوصية؛ إذ ليس في هذه الشَّهادة تهمة؛ فإنَّ ضررها في ذلك أكثر من نفعها؛ فكانت شهادة على أنفسهما، وشهادة الإنسان على نفسه مقبولة

(6)

.

«ولا يسمع القاضي الشَّهادة على جرح ولا يحكم بذلك»

(7)

، فإن قيل: ما الفائدة في قوله: «ولا يحكم بذلك» ، فإنَّه يستفاد من قوله:«ولا يسمع القاضي الشَّهادة على جرح» .

قلنا: يمكن أن يقال: لا يسمع؛ ولكن يحكم بعلمه، وههنا لا يسمع الجرح المجرد، ولا يحكم بأن الشُّهود فسقه، فلما تصور الانفكاك في الجملة أورده للتَّأكيد.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (10/ 512).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (13/ 524)، البحر الرائق (8/ 536).

(3)

قال في الهداية (3/ 124): «والوصيان إذا أقرا أنَّ معهما ثالثاً يملك القاضي نصب ثالث معهما؛ لعجزهما عن التصرف باعترافهما، بخلاف ما إذا أنكرا ولم يعرف الموت؛ لأنَّه ليس له ولاية نصب الوصي؛ فتكون الشهادة هي الموجبة» .

(4)

الهداية (3/ 124).

(5)

في «س» : [وكذا].

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 162).

(7)

الهداية (3/ 125).

ص: 87

‌في سماع القاضي الشهادة على الجرح

ثم قوله: «ولا يسمع القاضي الشَّهادة على جُرح» ؛ أي: جرح مفرد ومجرد.

والمعنى من الجرح المفرد والمجرد هو أنْ يطعن المدَّعَى عليه الشُّهود بطعن لا يدخل تحت حكم القاضي، كقوله: إنَّهم فسقة.

وأمَّا الجرح الذي هو غير مجرد، فهو أن يكون مقروناً بحق من حقوق الله تعالى، بأن أقام المدعى عليه البيِّنة [أن]

(1)

الشُّهود زنوا، أو شربوا الخمر، كان مقصوده إقامة الحد، وهو مما يدخل تحت الحكم، أو هو أن يكون مقروناً بحق من حقوق العباد، نحو إن قال: صالحت هؤلاء الشُّهود بكذا من المال على أن لا يشهدوا علي بهذه الشَّهادة، ودفعت المال إليهم ولم يفوا لما شرطوا، فإني أطالبهم بما دفعت إليهم، قُبل هذا الجرح؛ لأنَّ فيه إيجاب رد المال، وهو ما يدخل تحت الحكم، حتى لو قال [صالحتهم]

(2)

بكذا من المال على أن لا يشهدوا عليَّ بهذه الشَّهادة؛ ولكن لم أدفع المال إليهم، لا تقبل.

وكذلك لو قال: استأجرهم المدَّعى بكذا من المال على أن يشهدوا له، لا يقبل أيضاً؛ لأنَّه يدعي المال لغيره [لا]

(3)

لنفسه، وليس له ولاية دعوى المال لغيره، [وكان]

(4)

جرحاً مجرداً فلا تقبل

(5)

.

وذكر الخصَّاف رحمه الله

(6)

: أن الشَّهادة على الجرح المجرد مقبولة

(7)

.

ولذلك تأويلان:

أحدهما: أن يقيم البيِّنة على إقرار المدَّعى بذلك؛ لأنَّه ليس فيه إظهار الفاحشة؛ بل هو حكاية إظهار الفاحشة، أو كان شهود الجرح يصلحون للتزكية فيصير ذلك بمنزلة شاهد زكَّاه نفرٌ وجرحه نفرٌ، كان الجرح أولى. إلى هذا أشار الإمام قاضي خان

(8)

.

وبسط هذا فيما ذكر في الذَّخيرة

(9)

[فقال]

(10)

: «اعلم أن المسألة على وجهين:

أمَّا إن أقام البيِّنة على جرح مفرد، وليس فيه إيجاب حق من حقوق العباد، ولا إثبات شيء من حقوق الشَّرع، نحو إن أقام المدَّعَى عليه البيِّنة أنَّ شهود المدَّعى فسقهٌ، أو زناة، أو آكلوا ربا، أو شاربوا خمر، [أو]

(11)

على إقرارهم أنَّ المدَّعى مبطل في هذه الدَّعوى، أو على إقرارهم أنَّهم شهدوا بالزُّور، وفي هذه الوجوه لا تقبل الشَّهادة.

(1)

في «ج» : [لمن].

(2)

في «ج» : [صالحهم].

(3)

في «ج» : [إلا].

(4)

في «ج» : [فكان].

(5)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 228)، رد المحتار (4/ 68).

(6)

سقط من: «ج» .

(7)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 228)، درر الحكام (2/ 382).

(8)

ينظر: فتاوى قاضي خان (2/ 279).

(9)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 108).

(10)

سقط من: «س» .

(11)

في «ج» : [و].

ص: 88

وأمَّا إن أقام على جرح فيه إيجاب حق من حقوق العباد، أو إيجاب حق من حقوق الشَّرع، نحو إن أقام بينة أنَّهم زنوا، أو أنَّهم شربوا الخمر، أو أنَّهم سرقوا مني، أو أنَّهم شركاء في المشهود به، أو أنَّهم صالحوني على كذا من المال على أن لا يشهدوا علي، ودفعت ذلك إليهم، أو أنَّهم عبيد، أو محدودون في قذف، أو على إقرار المدَّعى أنَّه استأجرهم [هو]

(1)

على هذه الشَّهادة، أو على إقرارهم أنَّهم لم يحضروا ذلك المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، قُبلت شهادتهم».

وإنَّما لم تُقبل الشَّهادة على الجرح المفرد عندنا لوجوهٍ ثلاثةٍ:

أحدها: أنَّها قامت على إبطال شهادة المدَّعى ونفيها، والشَّهادة على النفي باطلةٌ لأنَّ؛ الشَّهادة صارت حجَّة شرعاً، بخلاف القياس في الإثبات.

قال صلى الله عليه وسلم: «البيِّنة على المدعى واليمين على من أنكر»

(2)

، جعل الجنس البيِّنة حجة المدَّعى، والمدَّعى مثبت، والشَّرع الوارد يجعلها حجَّة في الإثبات لا يكون وارداً في النَّفي، إمَّا لأنَّ النفي ضد الإثبات، أو لأنَّ النَّفي ثابت بغير دليل، أمَّا الإثبات/ لا بد له من دليل، وهذا بخلاف ما لو أقام بينة أن شهود المدَّعى محدودون في قذف؛ لأنَّ هذه شهادة قامت على إثبات قضاء القاضي، وقضاء القاضي حق الشَّرع، أو حق العباد، وبخلاف ما لو أقام بينة أن شهود المدَّعى عبيد؛ لأنَّه قامت على إثبات حق العبد وهو رق الشُّهود.

والوجه الثاني: وعليه الاعتماد، أنَّ الشَّاهد بالشَّهادة على الجرح المفرد صار فاسقاً؛ لأنَّه ألحق بفاعلها الوعيد الشَّديد في الدنيا والآخرة بنص القرآن؛ لأنَّه أظهر الفاحشة من غير ضرورة، وإظهار الفاحشة حرام بالنَّص، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ}

(3)

.

(1)

سقط من: «س» .

(2)

أخرجه بهذا اللفظ: البيهقي في السنن الكبرى (10/ 252)، رقم (21733)، قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: «حسن رواه البيهقي وغيره

وبعضه في الصحيحين»، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، ص (291).

والحديث في الصحيحين عن ابن عباس: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضى بِاليَمِينِ عَلَى المدَّعَى عَلَيهِ» .

أخرجه: البخاري في صحيحه (3/ 178)، كتاب الشهادات، باب: اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، رقم (2668)، ومسلم في صحيحه (3/ 1336)، كتاب الحدود، باب اليمين على المدعى عليه، رقم (1711).

(3)

سورة النور، آية:19.

ص: 89

ولهذا قال مشايخنا: سبيل المزكِّي إذا عرف الشَّاهد فاسقاً أن لا يصرح بفسقه؛ ولكن يقول: لا أعلم بحاله، ولا أدري أهو عدل أم لا.

فإن قيل: أليس رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

أنَّه قال: «اذكروا الفاجر بما فيه»

(2)

.

قلنا: هو محمول على ما إذا كان ضرره يتعدى إلى غيره، ولا يمكن دفع الضرر عنه إلا بعد الإعلام

(3)

.

فإن قيل: في إظهار الفاحشة هنا ضرورة، وهي ضرورة دفع الخصومة عن المدَّعى، فصار كما لو أقام البيِّنة على جرح يدخل تحت حكم الحاكم، قيل: لا ضرورة؛ لأنَّ الخصومة تندفع بأنْ يقول ذلك للمدعي أو القاضي سراً، أو لا يظهر ذلك في مجلس الحكم، بخلاف ما إذا شهدوا أنَّهم زنوا ووصفوا، أو شربوا الخمر، أو سرقوا مني، لأنَّ في إظهار الفاحشة ضرورة، وهي ضرورة إقامة الحد على الشُّهود، وبخلاف ما إذا شهدوا أنَّهم شركاء في المشهود به؛ لأنَّه ليس فيه إظهار الفاحشة فيثبت المشهود به وصار، الثابت بالبيِّنة كالثابت عياناً

(4)

.

وبخلاف ما إذا شهدوا أنَّهم محدودون في القذف؛ لأنَّه ليس فيه إظهار الفاحشة من جهة الشَّاهد، وإنَّما حكي إظهار الفاحشة من غيره، وهو شهود القذف، أو القاضي، والحاكي لإظهار الفاحشة من غيره لا يكون [مظهراً]

(5)

للفاحشة؛ فلم يصر فاسقاً، فيثبت المشهود به، بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار المدَّعى أنَّهم فسقة، أو ما شاكله؛ لأنَّهم ما شهدوا بإظهار الفاحشة، وإنَّما حكوا إظهار الفاحشة من غيره، وهو المدَّعى فيثبت المشهود به، وبخلاف ما إذا أقام المدَّعَى عليه البيِّنة أني صالحتهم على كذا، ودفعت إليهم حيث قبلتُ البيِّنة، وإن كان فيه إظهار الفاحشة؛ لأن فيه ضرورة ليصل إلى المال

(6)

.

والثالث: أنَّ القاضي إنما يقبل الشَّهادة على ما يدخل تحت إلزامه؛ لأن قبول الشَّهادة للقضاء، والقضاء إلزام، وإلزام الجرح المفرد ليس في وسع القاضي؛ لأن المقضِي عليه وهو الشَّاهد يدفع الجرح المفرد، ثم إذا أقام المدَّعَى عليه بينةً أن الشُّهود محدودون في قذف، فالقاضي يسأل الشُّهود من حدهم؛ لأنَّ إقامة حد القذف انحسر من السلطان، أو من نائبه يبطل شهادته، وإن حصل من واحد من الرعايا لا يبطل شهادته إذا لم يكن بإذن الإمام، فلا بد من السؤال عن ذلك.

(1)

في «س» : [عليه السلام].

(2)

سبق تخريجه، ص (81).

(3)

ينظر: البحر الرائق (7/ 101).

(4)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 108).

(5)

في «س» : [نظيراً].

(6)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 108 - 109).

ص: 90

وقوله: «إلا إذا شهدوا»

(1)

؛ أي: شهود المدَّعَى عليه على إقرار المدَّعى.

«بذلك» ؛ أي: يكون شهودي، أي: المدَّعى أقرَّ بأنَّ شهودي فسقة، حينئذ تقبل شهادة شهود المدَّعَى عليه؛ لأن ذلك يكون في المعنى، بأن المدَّعِى أقرَّ بأنَّه لا حق لي على المدَّعَى عليه، والمرء مؤاخذ بزعمه.

«والاستئجار وإن كان أمراً زايداً»

(2)

، هذا جواب سؤال مقدر بأنْ يقال: إنَّ قول المدعى عليه: إن المدَّعى استأجر الشُّهود ليس بجرح مجرد؛ بل فيه إثبات أمر زايد وهو استئجار المدَّعى وهو إثبات لحق المدَّعى، فيثبت في ضمنه الجرح، قلنا: نعم كذلك؛ إلا أنَّ المدعى عليه ليس بنائب عن المدَّعى في إثبات هذا الحق له؛ بل هو أجنبي عنه فبقي جرحاً مجرداً

(3)

.

فإن قيل: ينبغي أن تقبل شهادة شهود المدعى عليه في هذه الصورة من وجه آخر، وإن كان جرحاً مجرداً، بأنْ يجعل شهود المدَّعَى عليه مزكين لشهود المدَّعى، فشهادة الجارح مقبولة في التَّزكية، وإن كان جرحاً مجرداً، حتى إنَّ شاهدين لو شهدا على العدالة، وشاهدين على الجرح، فالجرح أولى.

قلنا: شهود المدَّعَى عليه [لمَّا]

(4)

شهدوا بأنَّ شهود المدَّعى أُجَراءه في الشَّهادة قائلين بأنَّهم شهود زور، وهو نسبة إلى الفسق، فوجب عليهم التعزير فلم يصيروا معدِّلين، والمعدِّلُ في زماننا يُعلم القاضي في السر بفسق الشُّهود احترازاً عن إشاعة الفاحشة، وتفادياً عن التعادي فيما بينهم. وقد ذكرناه في مسائل التزكية.

«ومن شهد ولم يبرح حتى قال: أوهمت بعض شهادتي، فإن كان عدلاً

»

(5)

؛ أي: [إن]

(6)

كانت عدالته ظاهرةً عند القاضي، وإن لم يكن فسأل عنه فقيل: إنَّه عدل جازت شهادته. كذا في الجامع الصغير البرهاني

(7)

.

(1)

قال في الهداية (3/ 125): «ولا يسمع القاضي الشَّهادة على جرح ولا يحكم بذلك

إلا إذا شهدوا على إقرار المدعي بذلك تقبل».

(2)

قال في الهداية (3/ 125): «ولو أقام المدعى عليه البينة أنَّ المدعي استأجر الشهود لم تقبل؛ لأنه شهادة على جرح مجرد، والاستئجار، وإن كان أمراً زائداً عليه، فلا خصم في إثباته؛ لأنَّ المدعى عليه في ذلك أجنبي عنه» .

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 164).

(4)

في «ج» : [بما].

(5)

الهداية (3/ 125).

(6)

سقط من: «ج» .

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 164).

ص: 91

‌في العدول عن الشهادة والزيادة فيها

«أو بزيادة كانت باطلة»

(1)

؛ أي: كانت الزيادة باطلة، والجملة الفعلية التي هي:«كانت باطلة» ، وقعت صفة للنكرة التي هي «بزيادة» ؛ ولكن الشَّهادة مقبولة، فتقبل إذا تداركه في أوانه، وأوانه ما قبل البراح من مكانه، بخلاف ما إذا قام عن المجلس، ثم عاد، وقال: أوهمت، حيث لا يقبل منه ذلك؛ لجواز أنَّه غرَّه المدَّعى أو المدعى عليه بأطماع حطام الدنيا، وعلى هذا إذا وقع الغلط في بعض الحدود، بأن يذكر الجانب الشَّرقي مكان الجانب الغربي، أو على العكس، أو في بعض النَّسب، بأن يذكر محمد بن أحمد بن عمر مكان محمد بن علي بن عمر مثلاً؛ أي: تقبل شهادته إذا تدارك في مجلسه ولا تقبل إذا تدارك بعد ما قام عن مجلسه

(2)

.

«وهذا إذا كان موضع شبهة»

(3)

؛ أي: اعتبار واتحاد المجلس في عدم التلبيس، واعتبار اختلاف المجلس في وجود التلبيس فيما إذا كان ذلك الموضع موضع شبهة التَّلبيس، بأن يزيد [في]

(4)

قدر المال الذي شهد أو ينقص، إذ الزِّيادة في قدر المال الذي كان شهد قبله بمقدار، ثم زاد عليه يوهم أنَّ ذلك كان بغرور من المدَّعى، والنقص من قدر المال الذي كان شهد قبله بمقدار يوهم أنَّ ذلك كان بغرور من المدعى عليه، فحينئذ [لا تقبل]

(5)

زيادته أو نقصه بعد ما قام عن المجلس؛ لأنَّ ذلك موضع شبهة التلبيس على ما قلنا من توهم غرور المدَّعى أو المدعى عليه.

وأمَّا إذا لم يكن تداركه في شهادته فيما لا يحتمل الغرور من جانب المدَّعى أو المدَّعَى عليه، فلا بأس بأن يتدارك شهادته.

«وإن قام عن المجلس»

(6)

، مثل أنْ يدعي لفظة الشَّهادة وما يجري مجرى ذلك، بأن يترك ذكر اسم المدَّعِى أو المدَّعَى عليه أو يترك [إشارة]

(7)

إلى المدَّعِى أو المدَّعَى عليه

(8)

.

فإن قلت: ففيما فيه يقبل التدارك من الشَّاهد، سواءٌ كان عند اتحاد المجلس أو بعد اختلافه، في أيِّ وقت فرض صورة المسألة قبل القضاء بتلك الشَّهادة التي وقع الغلط فيها أم بعد القضاء.

قلت: أما في حقِّ ترك لفظة الشَّهادة لا يتصوَّر أن يكون بعد القضاء؛ إذ من شرط القضاء أن [يشهد]

(9)

الشَّاهد بلفظ: أشهد، والمشروط لا يتحقق بدون شرطه، ولو وقع القضاء مع ذلك لا يكون [ذلك]

(10)

قضاءً؛ لأن قضائه عند شهادة الشُّهود مبني على شهادتهم، فإذا لم تكن شهادتهم شهادة لا يكون قضاؤه قضاءً أيضاً.

(1)

الهداية (3/ 125).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 166).

(3)

الهداية (3/ 125).

(4)

في «ج» : [فيه].

(5)

سقط من: «ج» .

(6)

الهداية (3/ 125).

(7)

في «س» : [الإشارة].

(8)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 166)، درر الحكام (2/ 383).

(9)

في «ج» : [تشهد].

(10)

سقط من: «ج» .

ص: 92

وأمَّا في موضع شبهة التَّلبيس، وهو موضع الزيادة والنقصان.

ففي الذَّخيرة والجامع الصغير للمحبوبي دليل على أنَّه لا يتفاوت ذلك التَّدارك بعد قضاء القاضي أو قبله.

وقال فيهما: روى الحسن بن زياد

(1)

، عن أبي حنيفة -رحمهما الله- إذا شهد شاهدان لرجل بشهادة، ثم زاد فيها قبل القضاء أو بعده، وقالا: أوهمنا، وهما غير متَّهَمَينٍِ قُبل ذلك منهما.

وروى بشر

(2)

، عن أبي يوسف في رجل شهد عند القاضي بشهادة، ثم يجيء بعد ذلك [بيوم]

(3)

وقال: شككت في كذا وكذا في شهادتي التي شهدت بها، فإن كان القاضي يعرفه بالصَّلاح قَبِل شهادته فيما بقي، وإذا كان لا يعرفه بالصلاح فهذه تهمة، وإن كان القاضي يعرفه بالصَّلاح والدين، فقال: رجعت عن شهادتي في كذا وكذا من هذا المال غلط في ذلك، أو نسيت، فهو مثل قوله: قد شككت

(4)

.

وذكر في المغني، وفي نوادر ابن سماعة: عن محمد، إذا شهد الشُّهود بالدار للمدَّعِي، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم إن الشُّهود قالوا: لا ندري لمن البناء، فإني لا أُضَمِّنُهُم قيمة البناء؛ كأنَّهم قالوا: قد شككنا في شهادتنا.

وإن قالوا: ليس البناء للمدعي ضمنوا قيمة البناء للمشهود عليه. كذا في المغني

(5)

.

(1)

الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي أبو علي، قاض، فقيه، من أصحاب أبي حنيفة، أخذ عنه وسمع منه، وكان عالماً بمذهبه بالرأي، كان أحد الأذكياء البارعين في الرأي، ولي القضاء بعد حفص بن غياث، ثم عزل نفسه، من كتبه:«أدب القاضي» ، و «معاني الإيمان» ، و «النفقات» ، و «الخراج» وغيرها، نسبته إلى بيع اللؤلؤ، وهو من أهل الكوفة، نزل ببغداد، وعلماء الحديث مجمعون على تضعيفه، كان أبوه من موالي الأنصار، توفي سنة 204 هـ.

ينظر: سير أعلام النبلاء (9/ 544)، الوافي بالوفيات (12/ 16)، الجواهر المضية (1/ 190)، الأعلام (2/ 191).

(2)

بشر بن الوليد بن خالد بن الوليد الكندي، القاضي، أحد الأعلام، سمع عبد الرحمن بن حنظلة، ومالك بن أنس، وهو أحد أصحاب أبي يوسف خاصة، وعنه أخذ الفقه، كان متحاملاً على محمد بن الحسن متحرفاً عنه، وكان جميل المذهب حسن الطريقة صالحاً ديناً عابداً واسع الفقه، حمل الناس عنه من الفقه والنَّوادر والمسائل ما لا يمكن جمعها كثرة، وكان متقدماً عند أبي يوسف وروى عنه كتبه وأماليه، توفي سنة 283 هـ.

ينظر: سير أعلام النبلاء (10/ 673)، الجواهر المضية (1/ 166).

(3)

سقط من: «ج» .

(4)

المحيط البرهاني (8/ 443).

(5)

المحيط البرهاني (8/ 444).

ص: 93

[فيعلم]

(1)

بهذا أنَّ الشُّهود في قولهم شككنا لا يختلف الحكم بين أن يكون ذلك قبل القضاء أو بعده، في أنَّه يقبل هذا القول منهم إذا كانوا عُدولاً

(2)

.

وقال الإمام المحبوبي في قوله: «أوهمت بعض شهادتي»

(3)

: لم يبين في الكتاب أنَّه يجوز شهادته فيما شهد، أو فيما بقي.

قال بعضهم: يقضي بجميع ما شهد؛ لأنَّ المشهود له استحق على القاضي القضاء المشهود بشهادته ووجب قضاؤه، فلا يسقط ذلك بقوله:«أوهمت»

(4)

.

وقال: يقضي بما بقي، حتى لو شهد بألف، ثم [قال]

(5)

: غلط بل هو خمسمائة، قضى على المشهود عليه بخمسمائة؛ لأن الحادث بعد الشَّهادة يجعل كالمقرون بأصل الشَّهادة، وإليه مال الإمام شمس الأئمة السرخسي

(6)

.

«وعن أبي حنيفة، وأبي يوسف - رحمهما الله - أنَّه يقبل قوله في غير المجلس»

(7)

؛ أي: في جميع المسائل.

والظاهر ما ذكرناه، وهو أن في قوله:«أوهمت بعض شهادتي» يقبل إذا كان في المجلس ولم يبرح بعد، ولا يقبل في ذلك بعد ما قام عن المجلس في موضع شبهة التلبيس، وأمَّا في غير موضع شبهة التلبيس يُقبل قول الشَّاهد في جميع الأوقات بأن قال: غلطت في ترك لفظ الشَّهادة مثلاً

(8)

. والله أعلم/.

* * *

[باب الاختلاف في الشَّهادة]

(9)

.

لما ذكر مسائل الاتفاق في الشَّهادة ذكر في هذا الباب مسائل الاختلاف فيها؛ لأن الأصل هو الاتفاق، إذ هو نتيجة الأصول والقضايا المتحدة، والأصل فيهما الاتحاد.

ولأنَّ الاختلاف إنَّما ينشأ لعارض الجهل والكذب، وكل منهما عارض، خصوصاً في حق العدول من الشُّهود

(10)

.

«لأنَّ تقدم الدَّعوة في حقوق العباد شرط»

(11)

هذا [احتراز]

(12)

عن حقوق الله تعالى، فإنَّ لقبول الشَّهادة في حقوق الله تعالى تقدم الدعوة ليس بشرط؛ لأنَّ رعاية حقوق الله تعالى واجبة على كل [واحد]

(13)

، فكان كل واحد خصماً في إثباتها، فصار كأنَّ الدَّعوى موجودة فيها

(14)

.

(1)

في «س» : [فعلم].

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 166).

(3)

الهداية (3/ 125).

(4)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 429)،

(5)

سقط من: «ج» .

(6)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 429)، تبيين الحقائق (4/ 228)، رد المحتار (5/ 489).

(7)

الهداية (3/ 125).

(8)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 166).

(9)

سقط من: «ج» .

(10)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 167).

(11)

تمام المسألة في الهداية (3/ 126): «الشهادة إذا وافقت الدَّعوى قبلت، وإن خالفتها لم تقبل؛ لأنَّ تقدم الدَّعوى في حقوق العباد شرط قبول الشهادة، وقد وجدت فيما يوافقها وانعدمت فيما يخالفها» .

(12)

في «ج» : [احترازاً].

(13)

في «س» : [أحد].

(14)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 167)، تبيين الحقائق (4/ 229).

ص: 94

وأمَّا في حقوق العباد فلسماع الشَّهادة تقدم الدَّعوى عند القاضي شرط؛ لأنَّ القاضي إنما نُصِّب لفصل الخصومة، فلابد لفصل الخصومة من الخصومة، وهي الدَّعوى.

وفصله بعد ذلك يفتقر إلى شيئين، وهما الشَّهادة واليمين، فكانت الشَّهادة مستدعية لسبق الدَّعوى من هذا الوجه

(1)

.

«وانعدمت فيما يخالفها» ؛ أي: الدَّعوى فيما يخالفها؛ لأنَّ الشَّهادة لأجل تصديق الدَّعوى، فإذا خالفتها فقد كذبتها، والدَّعوى الكاذبة وجودها كعدمها

(2)

.

ثم إنَّما اعتبرنا صدق الشَّاهد لا صدق المدَّعى حتى أعدمنا دعوى المدَّعى لمخالفة الشَّهادة؛ لأنَّ الأصل في الشُّهود العدول، خصوصاً على قول أبي يوسف ومحمد [رحمهما الله]

(3)

، ولا يشترط عدالة المدَّعى بصحة دعواه رجحنا جانب الشُّهود عملاً بالأصل

(4)

.

وذكر في الذَّخيرة: ثم كما يُشترط الموافقة بين الدَّعوى والشَّهادة، ويشترط الموافقة بين الشَّاهدين أيضاً؛ لأنَّ القضاء إنَّما يجوز بالحجَّة والحجَّة شهادة المثنى، وبدون الحجة [لا]

(5)

يقطع الحكم.

وإذا ثبت أنَّ الموافقة شرط كانت المخالفة مانعة للقبول، فبعد ذلك نقول: إن كانت المخالفة بينهما في اللفظ بدون المخالفة في المعنى تقبل شهادته، وذلك نحو أنْ يشهد أحدهما على الهبة، والآخر على العطية، وهذا لأنَّ نفس اللفظ ليس بمقصود في الشَّهادة؛ بل المقصود ما تضمنه اللفظ، وهو ما صار اللفظ على من عليه، فإذا وجدت الموافقة في ذلك لا تضر المخالفة فيما سواها

(6)

.

فإذا ثبت هذا جئنا إلى مسألة الكتاب: «فإن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين»

(7)

؛ أي: في الدين، أمَّا إذا كان في البيع، أو في الكتابة والدَّعوى من العبد، فلا تقبل في شيء أصلاً بالاتفاق على ما يُذكر.

«ولأبي حنيفة رحمه الله

(8)

: أنَّهما اختلفا لفظاً، وذلك يدل على اختلاف المعنى»

(9)

.

«ألا ترى أنَّ قولك زيد غير قولك زياد، وكذلك نصر وناصر، وكذلك الألف والألفين، وإذا ثبت المغايرة كان على كل واحد من الأمرين شاهد واحد، فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء بخلاف الألف مع الألف وخمسمائة، فإنَّهما اسمان، أحدهما معطوف على الآخر فيحصل الاتفاق بينهما على الألف لفظاً ومعناً.

(1)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 229).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 433)، تبيين الحقائق (4/ 229).

(3)

سقط من: «س» .

(4)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 167).

(5)

سقط من: «س» .

(6)

المحيط البرهاني (8/ 467).

(7)

الهداية (3/ 126).

(8)

في «س» : رضي الله عنه.

(9)

الهداية (3/ 126).

ص: 95

فإن قلت: كما أنَّ الموافقة بين الشَّاهدين شرط صحة القضاء، فكذلك الموافقة بين الدَّعوى والشَّهادة أيضاً شرط صحة القضاء؛ لما [ذكر]

(1)

في الكتاب أن «الشَّهادة إذا [وافقت]

(2)

الدَّعوى قبلت، وإن خالفتها لم تقبل»

(3)

.

ثم لو كان مثل هذا من الألف والألفين بين الدَّعوى والشَّهادة تقبل وتصح الدَّعوى». ذكره في طلاق المبسوط

(4)

.

وقال: لو ادَّعى المدَّعى ألفين وشهد شاهدان بألف، تقبل الشَّهادة بالاتفاق، فما جواب أبي حنيفة رضي الله عنه

(5)

عن هذا؟

قلت: جوابه هو أنَّ الاتفاق في اللفظ بين الدَّعوى والشَّهادة ليس بشرط حسب اتفاقه بين الشَّاهدين، فإنَّ الموافقة بين الشَّاهدين في اللفظ شرط من كل وجه ألا ترى أنَّه قال: لو ادعى الغصب أو القتل وشهد شاهدان بالإقرار به تقبل، ولو شهد أحد الشَّاهدين بالغصب والآخر على الإقرار بالغصب لم تقبل؛ وهذا لأنَّ الشَّهادة تعتمد التلفظ ألا ترى أنَّها لا تقبل ما لم يقل: أَشهَدُ.

والذي يبطل مذهبهما أنَّه لو شهد شاهدان بتطليقة، وشاهدان بثلاث تطليقات، وفرَّق القاضي بينهما قبل الدخول، ثم رجعوا، كان ضمان نصف الطلاق على شاهدي الثلاث دون شاهدي الواحدة ولو اعتبرها، قال: إن الواحدة توجد في الثلاث؛ لكان الضمان عليهم جميعاً.

ولأن مدَّعِي الاثنتين أو الثلاث لا يكون مقرَّاً بالواحد، إذ لو كان مقراً بالواحد لكان مرتداً بالشِّرك بعد ذلك، فينبغي أن (يقتل)

(6)

.

ولا يلزم إذا قال لها زوجها: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت واحدة كان ذلك منها جواباً حتى وقعت واحدة؛ لأنا نقول: إنَّ الزوج لما فوض الثلاث صح منه ذلك، وصار الثلاث في يدها، فصار أبعاضها في يدها ضرورة، كمن ملك عبداً يملك يده ورجله/.

ولا يلزم أنَّ الرَّجل إذا طلق امرأته ألفاً فإن الثلاث تقع؛ لأنا نقول: إنَّ الرجل تكلم بالطلاق عن ملكٍ لا عن أمرٍ، من حيث أنَّه ملك التطليق سُمِّي مالكاً له، فيملك ما يشاء من العدد؛ إلا أنَّه لا يتقيد إلا بقدر المحل. إلى هذا أشار في طلاق المبسوط

(7)

والأسرار.

وأمَّا قولهما: «[أنَّهما]

(8)

اتفقا على الألف، وتفرد أحدهما بالزيادة فيثبت ما اجتمعا عليه دون ما تفرد به أحدهما»

(9)

.

(1)

في «ج» : [ذكرنا].

(2)

في «ج» : [وقعت].

(3)

الهداية (3/ 126).

(4)

ينظر: المبسوط (6/ 148).

(5)

في «س» : [رحمه الله].

(6)

في المبسوط: [تقبل].

(7)

ينظر: المبسوط (6/ 148 - 149).

(8)

في «س» : [لأنهما].

(9)

الهداية (3/ 126).

ص: 96

قلنا: نعم، إذا ثبت الألفان ثبت الألف في ضمنه، فأمَّا إذا لم تثبت الألفان وهو المتضمن لا يثبت ما في ضمنه؛ لأنَّ شرط ثبوت المتضمن موافقة صاحبه؛ فصار كما لو شهد أحدهما أنَّه قال لها: أنت خليَّة

(1)

، وشهد الآخر أنَّه قال لها: أنت بريَّة

(2)

؛ يعني لما كان لفظين متغايرين لما قلنا، اعتبر التغاير، وإن كان موجبهما واحداً

(3)

.

ثمَّ أعلم أنَّ هذا كلَّه فيما إذا لم يدَّع المدَّعى عقداً، فأمَّا إذا كان في دعوى العقد، فهي ثمان مسائل: البيع، والإجارة، والكتابة، والرهن، والعتق على مال، والخلع، والصلح عن دم العمد، والنكاح

(4)

.

أمَّا في البيع إذا شهد أحدهما أنَّه اشترى عبد فلان بألف درهم، وشهد الآخر أنَّه اشترى بألف وخمسمائة، لم تقبل هذه الشَّهادة، سواءٌ كان المدَّعي يدَّعي الشراء بالألف أو بألف وخمسمائة، وسواءٌ وجد الدَّعوى من البائع أو من المشتري؛ لأنَّ دعوى الشِّراء قبل التَّسليم دعوى العقد، والعقد بألف غير العقد بألف وخمسمائة، فإذا لم يتفقا على ثمن لم يثبت أحد العقدين، ويجيء هذا كلَّه مشروحاً في هذا الباب. إلى هذا أشار الإمام قاضي خان/

(5)

.

فإن قلت: على قولهما وهو أنَّهما يقبلان الشَّهادة على الأقل إذا اختلف الشَّاهدان، سواءٌ كان ذلك في الديون أو في الطلقات، يشكل ما ذكره في الذَّخيرة

(6)

.

فقال: لو شهد ثلاثةٌ، شهد أحدهما بتطليقةٍ واحدةٍ، وشهد الآخر بتطليقتين، وشهد الثالث بثلاث تطليقات، وقد دخل بها، فهي طالق ثلاث، [فما]

(7)

وجهه؟

قلت: وجهه أيضاً فيما ذكره فيها، وهو أن الشَّاهد بالثلاث والشَّاهد بالطلقتين اتفقا على الطلقتين، فيقتضي وقوع ما اتفقا عليه، فتقع تطليقتان، بقي الشَّاهد بالثلاث شاهداً بتطليقة أخرى، وقد انضم إلى شهادته شهادة الذي شهد أولاً بتطليقة، فتقع هذه التطليقة أيضاً، فتقع ثلاث تطليقات لهذا، وإن لم يدخل بها تقع تطليقتان؛ لأنَّا لما قضينا بوقوع التَّطليقتين، فقد بانت منه، فلا يتصور وقوع تطليقة أخرى بعد ذلك.

(1)

الخلية: الناقة تُطلق من عِقالها ويُخَلَّى عنها. ويقال للمرأة: أنتِ خَلِيَّةٌ، كناية عن الطلاق. الصحاح للجوهري (6/ 2330).

(2)

البَرِيَّةُ: أصله: بريئة–بالهمز-؛ لأنه صفة من برئ من الشيء براءة، فهو بريء، والأنثى. بريئة. المطلع على ألفاظ المقنع (1/ 408).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 169).

(4)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 170).

(5)

ينظر: فتاوى قاضي خان (2/ 290).

(6)

المحيط البرهاني (8/ 469).

(7)

في «ج» : [فيما].

ص: 97

قوله/: «بل هما جملتان متباينتان»

(1)

؛ أي: كلمتان متباينتان، أحدهما لفظ الألف، والأخرى لفظ الألفين، وكذلك فيما بعده، وهو قوله:«لأن الألف والخمسمائة جملتان عُطفت احديهما على الأخرى»

(2)

، ولم يرد بهما الجملة النحوية، وهي المركبة من فعل وفاعل أو مبتدأ وخبر

(3)

.

«كما إذا اختلف جنس المال» ، بأنْ شهد أحدهما مثلاً على كرِّ حنطة والآخر على كرِّ شعير لا تجوز أصلاً

(4)

.

أمَّا إذا شهد شاهدان على رجل بألف درهم، إلا أنَّ أحدهما قال: أنَّه سود، وقال الآخر: بيض، وللبيض فضل على السود، فإن كان المدَّعى يدَّعي السُّود لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأنَّه ادَّعى أقلَّ المالين، فصار مكذباً الشَّاهد الذي شهد بالبيض، فلا تقبل شهادتهما، إلا أنْ يوفق المدَّعى فيقول: كان لي عليه بيض، إلا أني أبرأته عن صفة الجودة، وعلم به ذلك الشَّاهد ولم يعلم هذا الشَّاهد، فحينئذ تقبل شهادتهما على السُّود.

وإن كان يدعي البيض تقبل شهادتهما على السُّود؛ لأنَّهما اتفقا على الأقل لفظاً ومعنى، وكذلك في جميع المواضع في الجنس الواحد.

وأمَّا إذا اختلف الجنس، كما في الحنطة والشَّعير، فلا تقبل شهادتهما. كذا في الذَّخيرة

(5)

.

«ونظيرة الطلقة والطلقة والنصف» ؛ أي: شهد أحد الشَّاهدين بالطلقة والآخر بالطلقة والنصف، تقبل شهادتهما على الطلقة؛ لاتفاقهما عليها

(6)

.

«بخلاف العشرة وخمسة عشر» ؛ أي: ادَّعى المدَّعى على رجلٍ خمسة عشر درهماً وأقام شاهدين، فشهد أحدهما بعشرة، والآخر بخمسة عشر حيث لا يقضى بشيء في قول أبي حنيفة رحمه الله

(7)

.

فرق بين هذا وبين «ما إذا شهد أحدهما بالألف، وشهد الآخر بالألف وخمسمائة، والمدَّعى يدعي ألفاً وخمسمائة، حيث قُبلت الشَّهادة على الألف»

(8)

.

بالاتفاق؛ لأنَّ عند أبي حنيفة الموافقة من حيث اللفظ شرطٌ بين الشهادتين ولم يوجد؛ لأنَّ خمسة عشر يذكر من غير حرف العطف، فكانت كلمة واحدة وهي غير العشرة فلم يوجد الموافقة، فكان نظير الألف والألفين/ أمَّا ألف وخمسمائة يذكر بحرف عطف فكانتا كلمتين، وقد وجدت الموافقة بكلمة واحدة. كذا ذكره الإمام قاضي خان/

(9)

.

(1)

الهداية (3/ 126).

(2)

الهداية (3/ 126).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 169).

(4)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 169).

(5)

المحيط البرهاني (8/ 469).

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 170).

(7)

سقط من: «س» .

(8)

الهداية (3/ 126).

(9)

ينظر: فتاوى قاضي خان (2/ 212).

ص: 98

وإن «قال المدَّعى: لم يكن إلا [الألف]

(1)

»

(2)

؛ يعني أنَّ المدَّعى إذا كان ادَّعى أقل المالين عند شهادة أحد الشَّاهدين بالألف والآخر بألف وخمسمائة، لا يقضي القاضي بشيء أصلاً؛ لأنَّ المدَّعِى كذَّب الشَّاهد الذي شهد بألف وخمسمائة، وتكذيب الشَّاهد تفسيقٌ، فكان مبطلاً شهادته، فبقي شاهدٌ واحدٌ، فلا يقضي القاضي به لانفراده

(3)

.

فإن قلت: المدَّعى لم يكذب الشَّاهد الذي شهد بألف وخمسمائة في جميع ما شهد؛ بل كذبه في بعضه وهو الخمسمائة، فلم لا يقضي القاضي بالباقي؟ كما في تكذيب المقَرَّ له المقِرَّ في بعض ما أقر، حيث يقضي القاضي على المقِرَّ في بعض ما أقرَّ بما بقي بعد التكذيب.

قلت: الفرق بينهما هو ما ذكرنا أن المدَّعِى كذَّبه في بعض ما شهد به، وتكذيب الشَّاهد تفسيقٌ فشهادة الفاسق لا تقبل، فكان فسقه مبطلاً شهادته، وكذلك في الإقرار كذَّب المقَرَّ له المقِرَّ في بعض ما أقر به، [وهو أيضاً تفسيق له]

(4)

، إلا أن فسق المقر لا يمنع صحة إقراره؛ فلذلك صح إقراره فيما بقي.

«[وكذلك]

(5)

إذا سكت»

(6)

؛ أي: سكت عن قوله لم يكن إلا الألف، وعن ذكر التوفيق؛ أي: لم يقل هذين الوجهين بل ادَّعى الألف لا غير.

والمسألة بحالها حيث شهد أحد الشَّاهدين بألف والآخر خمسمائة، لا يقضي القاضي للمدَّعِي بشيء، كما لو قال: لم يكن لي عليه من الابتداء إلا الألف؛ لأنَّ التكذيب ثابت ظاهراً، فلا تقبل شهادتهما من غير ذكر التوفيق.

وقد ذكرنا فيما قبل أن فيما يحتمل التوفيق الأصح أن يذكر التوفيق صريحاً، ولا يكتفي بالاحتمال.

وذكر الإمام التمرتاشي رحمه الله عند هذا الذي ذكره في السُّكوت جواب الاستحسان.

وأمَّا جواب القياس؛ فإنَّه يقبل؛ لإمكان التوفيق، فكان حاصل أحوال مدَّعِي أقلَّ المالين عند اختلاف الشَّاهدين لا يخلو عن ثلاثة أوجه بقسمة عقلية.

إمَّا أن يكذِّب من شهد له بالزيادة، بأن يقول: لم يكن لي عليه من الابتداء إلا الألف، أو يوفق ما قال كان لي عليه ألف وخمسمائة، إلَّا أنِّي استوفيت منه خمسمائة، أو أبرأته عنها، أو سكت عن ذكر هذين الوجهين؛ بل يدعي الألف لا غير، [وجواب]

(7)

كلها مذكور

(8)

.

(1)

في «س» : [ألف].

(2)

تمامها في الهداية (3/ 126): «وإن قال المدعي لم يكن لي عليه إلا الألف فشهادة الذي شهد بالألف وخمسمائة باطلة؛ لأنَّه كذبه المدعي في المشهود به» .

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 170).

(4)

في «ج» : [وهو أيضاً تفسيق له وهو أيضاً].

(5)

في «س» : [وكذا].

(6)

الهداية (3/ 126).

(7)

في «س» : [فجواب].

(8)

ينظر: المحيط البرهاني (7/ 57)، بدائع الصنائع (6/ 278).

ص: 99

«باتفاقهما عليه»

(1)

؛ أي: على وجوب الألف على المدعى عليه؛ لأنَّهما شهدا بالألف للمدعي على المدعى عليه.

فإن قيل: ينبغي أن لا يقبل؛ لأن أحد الشَّاهدين بقوله: قضاه خمسمائة صار مناقضاً لشهادته أولاً بأن للمدَّعِي على المدَّعَى عليه ألفاً، لأنَّه إذا قضاه خمسمائة لا يكون للمدعي على المدعى عليه ألف؛ بل يكون له خمسمائة لا غير.

قلنا: لا يكون مناقضاً؛ لأنَّ طريق قضاء الدَّين المقاص، فبقضاء الخمسمائة لا يبطل وجوب الألف، لأنَّه إذا قضى المديون خمسمائة يجب للمديون على رب الدين خمسمائة باعتبار القبض؛ لأنَّ هذا الذي قبضه عين والذي كان له على مديونه دين، والعين غير الدين، فلا يقضى به، فكان الألف على المديون باقياً على حاله؛ لكن القبض بطريق التملك يوجب الضمان، فبطل لذلك مطالبته رب الدين مديونه عن الخمسمائة لعدم الفائدة؛ لأنَّه لو طالبه بالخمسمائة يطالبه المديون أيضاً بما قضاه وهو الخمسمائة، فوقعت المقاصة

(2)

فيما وجب على المديون بما وجب على رب الدين في حق تلك الخمسمائة المقضي بها ضرورة، فكان شهادتهما بالألف للمدعي نظراً إلى ابتداء الوجوب صدقاً؛ لأنَّ شاهد القضاء مضمون شهادته أن لا دين إلا خمسمائة؛ لأنَّ من مذهب أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- إن شهد أحد الشَّاهدين بألف والآخر بخمسمائة يقضي القاضي بخمسمائة، لكن لم يوافقه محمد في هذا؛ لأنَّه لم يشهد بالخمسمائة ابتداءً؛ بل اتفق شاهدان بوجوب الألف للمدعي على المدعى عليه، وجوابه ما قلنا، وهو قوله: «لاتفاقهما عليه

»

(3)

إلى آخره.

ولو قال قائل: من جانب أبي يوسف رحمه الله

(4)

أنَّ المشهود له كذَّب أحد شاهديه، والشَّاهد الذي شهد بقضائه الخمسمائة، فإن المدَّعى لما ادَّعى الألف في الحال كان ذلك تكذيباً له، وتكذيب المشهود له الشَّاهد موجب للرد؛ لأنَّ ذلك تفسيق منه إياه.

(1)

الهداية (3/ 126).

(2)

المقاصة: من قصصت الأثر؛ أي تتبّعته، وقاصصته، قصاصاً، ومقاصّة: إذا كان لك عليه دين مثل ما له عليك، فجعلت الدّين في مقابلة الدّين، مأخوذ من اقتصاص الأثر. المصباح المنير (2/ 505).

واصطلاحاً: هي إسقاط دين مطلوب لشخص على غريمه في مقابلة دين مطلوب من ذلك الشخص لغريمه. الموسوعة الفقهية الكويتية (21/ 139).

(3)

تمام المسألة في الهداية (3/ 126): «وإذا شهدا بألف وقال أحدهما قضاه منها خمسمائة قبلت شهادتهما بالألف لاتفاقهما عليه؛ ولم يسمع قوله إنه قضاه؛ لأنه شهادة فرد، إلا أن يشهد معه آخر، وعن أبي يوسف/ أنَّه يقضي بخمسمائة؛ لأنَّ شاهد القضاء مضمون شهادته أن لا دين إلا خمسمائة» .

(4)

سقط من «س» .

ص: 100

قلنا: لم يكذبه فيما شهد له، بل كذبه فيما شهد عليه، وذلك لا يقدح في شهادته

(1)

.

بيانه: أنَّ الشَّاهدين إذا شهدا لإنسان بمال، ثم شهدا عليه بمال لإنسان آخر فكذبهما المشهود عليه الذي هو مشهود له أولاً، يقضي له بما شهدا له، وإن كان هو يفسقهما فيما شهدا عليه؛ لأنَّ هذا تفسيق عن اضطرار، والموجب/ للرد هو التفسيق عن اختيار.

وكذلك لو شهد الشَّاهدان لرجل على رجل بألف درهم ومائة دينار، فكذبهما المشهود له في المائة دينار، تقبل شهادتهما على الألف درهم.

إلى هذا أشار في الجامع الصغير لقاضي خان، والفوائد الظهيرية، والجامع الصغير للإمام المحبوبي

(2)

.

قال الفقيه أبو الليث في شرح الجامع الصغير: لا يحل للشاهد الذي يعلم القضاء أن يشهد على أصل الدَّين؛ لعلمه أن المدَّعى يدَّعي المال بغير حق

(3)

.

قوله: رحمه الله

(4)

: «وفي الجامع الصغير رجلان شهدا على رجل بقرض ألف درهم

»

(5)

إلى آخره.

والتفاوت بين مسألة الجامع الصغير وبين المسألة [التي ذكر قبلها]

(6)

، ففي مسألة الجامع الصغير أنَّ أحد الشَّاهدين شهد ثانياً بقضاء المديون كل ما كان للمشهود له عليه، وفيما قبلها شهد بالقضاء في بعض ما شهد للمشهود له

(7)

.

«قلنا: هذا إكذاب في غير المشهود به الأول، وهو القرض»

(8)

؛ أي: [المشهود به الأول، وهو القرض]

(9)

لم يوجد في حقه التكذيب وهو له، وإنَّما وجد التَّكذيب فيما عليه وهو الشَّهادة بالقضاء، وهو غير المشهود به الأول

(10)

.

وقد ذكرنا أنَّ مثله لا يضر، [فكان]

(11)

هذا التَّكذيب من المدَّعى راجعاً إلى ما شهد عليه، وهو القضاء لا إلى ما شهد له وهو القرض.

وحاصله أنَّ تفسيق المدَّعى الشُّهودَ يوجب الرد، وأمَّا تفسيق المدَّعَى عليه لا يوجب الردَّ؛ لأنَّ من زعم المدعى عليه أن الشُّهود كذبة فيما شهدوا به عليه، لأنَّه لو صدقهم لوجب الحق عليه باعترافه، فحينئذ لا يحتاج إلى الشُّهود، ولو اعتبر تفسيقه رداً للشهادة لما ثبت حكمٌ ما بشهادة الشُّهود.

(1)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 232).

(2)

ينظر: الكفاية شرح الهداية (7/ 379).

(3)

البناية شرح الهداية (9/ 171).

(4)

زيادة من: «س» .

(5)

«

فشهد أحدهما أنه قد قضاها، فالشهادة جائزة على القرض لاتفاقهما عليه» الهداية (3/ 126).

(6)

في «س» : [ذكرها].

(7)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 442).

(8)

الهداية (3/ 126).

(9)

ما بين المعكوفين مكرر في النسختين.

(10)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 172).

(11)

في «ج» : [وكان].

ص: 101

وفيه انسداد باب القضاء بالشَّهادة وهو مفتوح، فعلم بهذا أن بتكذيب المدَّعَى عليه الشُّهود لا يلزم تفسيق الشُّهود، ولما كان كذلك كان تكذيب المدَّعِى الشُّهودَ في القضاء إنما كان في حال كونه مدَّعىً عليه في حق القضاء، فتكذيبهم فيه لا يوجب تفسيقهم؛ لما قلنا إن تكذيب المدَّعَى عليه لا يوجب التفسيق.

فإن قيل: ينبغي أن يكون هذا التكذيب مؤثراً في المدَّعى حتى لا يثبت القرض، وإن لم يكن مؤثراً في حق القضاء.

قلنا: ظهور التَّكذيب في حق القرض بناءً على ظهوره في حق القضاء، وقد قلنا: إنَّه لا يظهر في حق القضاء؛ لما ذكرنا أنَّ قضاء الدين ليس بمشهود به، فلا يظهر في حق القرض.

«وإذا شهد شاهدان أنَّه قتل زيداً يوم النحر بمكة

»

(1)

إلى آخره.

وفي الذَّخيرة

(2)

: «وإذا شهد أحد الشَّاهدين على القتل والآخر على إقرار القاتل بالقتل لا تقبل هذه الشَّهادة؛ لأن القتل فعلٌ، والإقرار قولٌ، والقول غير الفعل فاختلف المشهود به، وكذلك لو اتفقا على القتل واختلفا في المكان أو الزمان لا تقبل الشَّهادة؛ لأنَّ المشهود به قد اختلف، لأنَّ الفعل الثاني غير الفعل الأول حقيقةً وحكماً.

أما حقيقةً فظاهر؛ لأنَّ الأول حركات مَضَتْ، والثاني حركات يحدثها الله تعالى الآن.

وأمَّا حكماً؛ فلأنَّه لا يمكن أن يجعل الثاني إخباراً عن الأول حتى يصير تكراراً للأول وإعادةً له؛ لأنَّ الإخبار عن الفعل بالفعل لا يكون، [فكان]

(3)

الثاني فعلاً آخر غير الفعل الأول حقيقةً وحكماً.

وكذلك كل ما يكون من باب الفعل نحو الشجَّة وغير ذلك، فاختلاف الشُّهود في الإنشاء والإقرار، وفي الزمان أو في المكان يمنع قبول الشَّهادة.

وكذلك إذا اختلف في الآلة التي كان بها القتل، بأن شهد أحدهما أنَّه قتله [بالعصا]

(4)

الكبير، والآخر قتله بيده لا تقبل الشَّهادة؛ لأنَّ المشهود به قد اختلف؛ ولأنَّ القتل يختلف باختلاف الآلة».

وذكر فيها

(5)

، وفي المغني أيضاً: «وكل شهادةٍ على فعل اختلف فيه الشَّاهدان في المكان فإنَّها لا تقبل، إلا في مسألة واحدة ذكرها داوود بن [رشيد]

(6)

عن محمد رحمه الله ذمي شهد عليه شاهدان فشهد أحدهما أنَّه رآه يصلي في مسجد بني زائدة شهراً، وشهد آخر أنَّه رآه يصلي في مسجد بني عامر شهراً، أو شهد أحدهما أني رأيته يصلي بالكوفة سنة، وقال آخر: رأيته يصلي بالشام، فإني أجيز شهادتهما، وأجيز على الإسلام؛ ولكن لا أقتله».

(1)

«

وشهد آخران أنَّه قتله يوم النحر بالكوفة، واجتمعوا عند الحاكم لم يقبل الشهادتين». الهداية (3/ 127).

(2)

المحيط البرهاني (8/ 474).

(3)

في «ج» : [فكان].

(4)

في «ج» : [بالفضاء].

(5)

المحيط البرهاني (8/ 474).

(6)

في الأصل: داوود بن رستم، وهو خطأ، والصواب: داود بن رشيد.

وهو داود بن رشيد أبو الفضل الخوارزمي، الإمام، الحافظ، الثقة، الخوارزمي، ثم البغدادي، مولى بني هاشم، رحال، جوال، صاحب حديث، من أصحاب محمد بن الحسن، من أصحاب حفص بن غياث، أصله خوارزمي سكن بغداد، روى عنه: مسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وروى له البخاري، والنسائي مات سنة 239 هـ.

ينظر: سير أعلام النبلاء (11/ 133)، الجواهر المضية (1/ 237).

ص: 102

لأنَّ الأولى ترجَّحت باتصال القضاء فلا ينتقض بالثانية، نظيره رجل معه ثوبان، أحدهما نجس فتحرى فصلى في أحدهما، ثم وقع تحريه على طهارة الآخر لا يجوز له الصلاة فيه؛ لأنَّ الأول اتصل بحكم الشَّرع فلا ينتقض هو بوقوع التَّحري في الآخر

(1)

.

«وإذا شهدا على رجل أنَّه سرق بقرةً واختلفا في لونها قطع» ، إلى قوله:«وقالا: لا يقطع»

(2)

، هذا الخلاف فيما إذا كان المدَّعى يدَّعي سرقة البقرة فقط، أمَّا/ إذا ادعى سرقة بقرة بيضاء أو سوداء لا تقبل شهادتهما بالإجماع؛ لأنَّه كذَّب أحد الشَّاهدين.

وكذا الخلاف فيما إذا شهدا أنَّه سرق ثوباً، فقال أحدهما: هروي، وقال الآخر: مروي

(3)

، فإن اختلفا في الزمان أو المكان لم تقبل عندهم. كذا ذكره الإمام التمرتاشي رحمه الله

(4)

.

«وقيل: الاختلاف في لونين يتشابهان كالسواد والحمرة»

(5)

.

وأمَّا في لونين لا يتشابهان كالسواد والبياض لا تقبل شهادتهما بالإجماع، كذا ذكره الكرخي.

والأصح أن الكلَّ على خلافٍ. كذا في المبسوط

(6)

والفوائد الظهيرية.

«لأن أمر الحد أهم»

(7)

؛ أي: أمر الحد أعسر في الإثبات من الغصب؛ لأنَّ الحدَّ لا يثبت بالشَّهادة على الشَّهادة، ولا يثبت بشهادة النِّساء

(8)

.

ولا يثبت بأقل من الأربعة في الشُّهود بخلاف الغصب، فلما لم يثبت الغصب بمثل هذه الشَّهادة مع أنَّه أيسر ثبوتاً من الحَدِّ؛ فلأنْ لا يثبت الحد بهذه الشَّهادة أولى.

«وله أنَّ التوفيق ممكن» ، إلى قوله:«واللونان يتشابهان»

(9)

، فإن قيل: هذا احتيال وطلب توفيق لإثبات الحد وهو القطع، والحد يحتال [لدرئه]

(10)

لإثباته.

(1)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 233)، البحر الرائق (7/ 115).

(2)

المسألة بتمامها: «وإذا شهدا على رجل أنَّه سرق بقرة واختلفا في لونها قطع، وإن قال أحدهما: بقرة، وقال: الآخر: ثوراً؛ لم يقطع، وهذا عند أبي حنيفة/، وقالا: لا يقطع في الوجهين جميعاً» .

(3)

ثوب هروي-بالتحريك، ومروي بالسكون-منسوب إلى هراة، ومرو قريتان معروفتان بخراسان. ينظر: المغرب (1/ 503).

(4)

سقط من: «س» .

(5)

الهداية (3/ 127).

(6)

المبسوط (9/ 162).

(7)

قال في الهداية (3/ 127): «لهما أن السَّرقة في السَّوداء غيرها في البيضاء، فلم يتم على كل فعل نصاب الشهادة وصار كالغصب بل أولى؛ لأن أمر الحد أهم وصار كالذكورة والأنوثة» .

(8)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 564).

(9)

تمام المسألة: «وله أنَّ التوفيق ممكن؛ لأنَّ التحمل في الليالي من بعيد واللونان يتشابهان أو يجتمعان في واحد» . الهداية (3/ 127).

(10)

في «ج» : [الدرءه].

ص: 103

قلنا: القطع لا يضاف إلى إثبات الوصف؛ لأنَّهما لم يكلفا نقله، فصار كما إذا اختلف في ثياب السَّارق، وهذا لأنَّهما يكلفان بيان القيمة ليعلم أنَّه هل كان نصاباً، فأمَّا اللون فلا، وإذا لم يكن القطع مضافاً إلى بيان الوصف صار هذا بمنزلة الحقوق التي تثبت مع الشبهات، [فصح]

(1)

الاحتيال فيه لإثبات إحياء الحقوق بقدر الإمكان والتَّوفيق ممكن. كذا ذكره الإمام الكُشَّاني

(2)

رحمه الله.

«واللونان يتشبهان» كالحمرة والصفرة، «أو يجتمعان» بأن كان أحد جانبيها أسود والجانب الآخر أبيض، فإن قيل: لو كانت البقرة على هذين اللونين تسمى تلك البقرة حينئذ بلقاء

(3)

لا سوداء ولا بيضاء، قلنا: نعم، ولكن في حق من يعرف اللونين، أما في حق من لا يعرف إلا أحدهما فهو عنده على ذلك اللون. كذا ذكره في سرقة

(4)

المبسوط

(5)

.

وذكر فيه أيضاً: وأبو حنيفة رحمه الله

(6)

يقول: اختلفا فيما لم يكن يكلفا نقله، والتوفيق ممكن فتقبل الشَّهادة، كما لو اختلف شهود الزِّنا في الزانيين في بيتٍ واحدٍ.

وبيان الوصف أنَّهما لو سكتا عن بيان لون البقرة لم يكلفهما القاضي بيان ذلك، وبهذا يتبين أنَّه ليس من قبلت الشهادة، والاختلاف فيما ليس من صلب الشَّهادة، إذا كان على وجه يمكن التوفيق لا يمنع قبول الشَّهادة، وههنا التوفيق ممكن، بأن كان أحد جانبيها أبيض والآخر أسود»

(7)

.

«وكذا الوقوف على ذلك بالقرب منه»

(8)

؛ أي: الوقوف على صفة الذكورة والأنوثة لا يكون إلا بعد القُرب منها، وعند ذلك لا يشتبه فلا حاجة إلى التوفيق». كذا في المبسوط

(9)

.

وقوله: لأنَّ التَّحمل في الليالي؛ أي: أكثر السرقات تكون في الليالي، فكان التحمل فيها غالباً، بخلاف الغصب؛ «لأنَّ التحمل فيه بالنهار»؛ أي: غالباً، «وكذا الوقوف على ذلك»؛ أي: على وصف الذُّكورة والأنوثة.

(1)

في «ج» : [وصح].

(2)

مسعود بن الحسن بن الحسين بن محمد بن إبراهيم الكشاني، روى عن الشيخ سيف الدين أبي محمد عبد الله بن علي الكندي والخطيب أبي نصر محمد بن الحسن الباهلي وشمس الأئمة السرخسي، روى عنه الإمام الصدر الشهيد حسام الدين مات سنة 520 هـ، له ثلاث وسبعون سنة. ينظر: الجواهر المضية (2/ 168).

(3)

البلقاء: هي التي فيها سواد وبياض. ينظر: طلبة الطلبة (1/ 117)، المعجم الوسيط (1/ 70).

(4)

يعني في كتاب السرقة.

(5)

المبسوط (9/ 163).

(6)

في «س» : رضي الله عنه.

(7)

المبسوط (9/ 163).

(8)

الهداية (3/ 127).

(9)

المبسوط (9/ 163).

ص: 104

«ومن شهد لرجل أنَّه اشترى عبد فلان بألف، وشهد آخر أنَّه اشتراه بألف وخمسمائة فالشَّهادة باطلة»

(1)

؛ لأنَّهما لم يتفقا على عقدٍ واحد؛ لأنَّ الشِّراء بألف غير الشِّراء بألف وخمسمائة، وكذلك البيع والكتابة، وإذا اختلف الشَّاهدان على نحو ما بينا.

وذكر شيخ الإسلام علاء الدين السمرقندي

(2)

رحمه الله في شرح الجامع في [آخر]

(3)

الباب من الإقرار الذي يختلف فيه المنطق

(4)

.

قال السيد الإمام: إذا ادَّعى الشراء فشهد أحدهما بالشراء بألف، والآخر بالشراء بألف وخمسمائة [أنَّه]

(5)

يقبل، ولو اختلف الجنس بأن شهد أحدهما بالشراء بألف درهم، والآخر بالشراء بمائة دينار لا يقبل؛ لأنَّ الشراء الواحد قد يكون بألف ثم يصير بألف وخمسمائة، بأن يشتري بألف ثم يزيد في الثمن خمسمائة، فقد اتفقا على الشراء الواحد، أمَّا الشراء الواحد فلا يكون شراءً بألف درهم ثم يصير شراءً بمائة دينار. كذا في الفوائد الظهيرية

(6)

.

«لأنَّ المقصود» : إثبات السبب، «وهو العقد»

(7)

، فإن قيل: لا؛ بل المقصود الحكم، وهو الملك لا السَّبب، لما أن الأسباب لا تراعى بذاتها بل السبب وسيلة للمقصود، فكيف يكون إثبات سبب مقصوداً؟

قلنا: الحكم مقصود في حق العمل والانتفاع، حتى إذا ثبت الحكم لا يجب السؤال عن سببه، أنَّه بأيِّ سبب ثبت هذا الحكم؛ فإن الشَّهادة بالملك المطلق صحيح لما أنَّ المقصود لمباشر السبب حِل الانتفاع، فبعد ما حصل ذلك لا يبالي أنَّه بأيَِّ سببٍ حصل؛ ولكن لو ثبت الحكم لا يثبت إلا بسبب معين، وقد وقع الاختلاف بين الشَّاهدين في حق ذلك السبب المعين، فكان إثبات ذلك السبب المعين مقصوداً للمدَّعي والشَّاهدين حتى يثبت/ الحكم بناءً عليه، فكانت مقصودية السبب من حيث الأصالة؛ لأنَّ السبب هو الأصل، إذا الحكم في وجوده بناء عليه، فلا شَكَّ في أصالة المبني عليه للبناء.

(1)

الهداية (3/ 127).

(2)

هو أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن علي بن أحمد بن محمد بن إسحاق الإسبيجابي، السمرقندي، المعروف بشيخ الإسلام، من أهل سمرقند، من إسبيجاب-بلدة من ثغور الترك-، سكن سمرقند، وصار المفتي والمقدم بها، ولم يكن أحد بما وراء النهر يحفظ مذهب أبي حنيفة ويعرفه مثله، وظهر له الأصحاب والمختلفة، وعمر العمر الطويل في نشر العلم وتمييزه، له كتب منها:«الفتاوى» ، «شرح مختصر الطحاوي» ، توفي سنة 535 هـ.

ينظر: المنتخب من معجم شيوخ السمعاني (1/ 1249)، ديوان الإسلام (1/ 110)، الأعلام للزركلي (4/ 329).

(3)

في «س» : [آخر من].

(4)

ينظر: الكفاية شرح الهداية (3/ 390 - 391).

(5)

سقط من «س» .

(6)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 234)، البناية شرج الهداية (9/ 176)، درر الحكام (2/ 385).

(7)

الهداية (3/ 127).

ص: 105

وإلى هذا أشار في فصل الكتابة بقوله: «لأنَّ العتق لا يثبت قبل الأداء، فكان المقصود إثبات السبب»

(1)

، فعلم بهذا أنَّ المراد بالأصالة هو تقدم ثبوته على غيره؛ لأنَّ الأصل هو الذي يتقدم وجوده على الفرع.

وقوله: «لما بينا» ، إشارة إلى قوله:«لأنَّ المقصود إثبات السبب» .

«وكذلك الكتابة

»

(2)

إلى آخره.

وفي الجامع الصغير لقاضي خان: والكتابة بمنزلة البيع إن كان الدَّعوى من العبد؛ لأنَّه يدعي العقد، وإن كان الدَّعوى من المولى لا يفيد؛ لأنَّ العقد غير لازم في حق العبد؛ بل هو متمكن من الفسخ [بالتعجيز]

(3)

.

وفي الجامع الصغير لشمس الأئمة رحمه الله بعد ما ذكر حكم اختلاف الشَّاهدين في البيع، فقال: وكذلك كل عقد لا يجب البدل فيه إلا بالتسمية، كالمكاتبة إذا [ادَّعاها]

(4)

العبد وأنكرها المولى، والعتق على مال إذا ادَّعاه العبد وأنكره المولى، والخلع إذا ادَّعته المرأة وأنكره الزوج، فأمَّا إذا ادَّعى ذلك المولى أو الزوج، فقد ثبت العتق والطلاق بإقراره، وإنَّما بقي مجرد دعوى المال، وهو يدعي ألفاً وخمسمائة؛ فيقضي له عند شهادتهما بالألف لاتفاق الشَّاهدين عليه لفظاً ومعنى، ولأنَّ الزوج غير مكذب لمن شهد بالأقل؛ بل هو مدعي لذلك وزيادة عليه.

وإذا كان الدَّعوى من المرأة أو العبد، فالحاجة إلى القضاء بالسبب، وقد اختلف الشَّاهدان فيه، وفي النكاح إذا شهد أحد الشَّاهدين بألف والآخر بألف وخمسمائة فعلى قولهما هو باطل أيضاً؛ لأنَّ الحاجة إلى القضاء بالسبب، سواءٌ كان المدَّعى هو الزوج أو المرأة، والعقد بألف غير العقد بألف وخمسمائة.

وعند أبي حنيفة رحمه الله: إذا كان المدَّعى يدعي النكاح بألف وخمسمائة جازت الشَّهادة على الألف؛ لأنَّ التسمية تنفصل عن أصل العقد في النكاح.

ألا ترى أنَّ النكاح يصحُّ من غير تسمية البدل، وأنَّ البدل يجب فيه من غير ذكر، وقد اتفق الشَّاهدان على أصل العقد فيقضى به مع اختلافهما بالتسمية، ويجعل في القضاء بأصل العقد كأنَّهما لم يذكرا شيئاً من المسمى، ثم [قد]

(5)

وقع الاختلاف بينهما في المال فيقضى بما اتفقا لفظاً ومعنى وهو الأقل إذا ادعى المدَّعى الأكثر كما في دعوى الدين.

ص: 106

وقوله: «[والحاجة]

(1)

ماسَّة إليه»

(2)

؛ أي: إلى إثبات العقد، ليثبت الطلاق والعتاق بناءً عليه

(3)

.

«وإن كان الدَّعوى من الجانب الآخر» بأن قال الزوج: طلقتك على ألف وخمسمائة، والمرأة تدعي الألف، وكذلك مولى العبد وولي القصاص إذا ادَّعيا أكثر المالين

(4)

.

«لأنَّه لا حظ له في الرهن فعريت الشَّهادة عن الدَّعوى»

(5)

؛ أي: لا فايدة للراهن في هذه الدَّعوى، لأنَّه ليس له أن يسترد الرهن قبل قضاء الدين، فلما لم تُفد الدَّعوى فائدتها صارت كأنَّها لا دعوى

(6)

.

وذكر الإمام المحبوبي رحمه الله في هذا، وقال: وفي الرهن إذا كان الراهن هو المدَّعى لم تقبل الشَّهادة؛ لأنَّه أقام البيِّنة على حق غيره، فإن الحَقَّ في الرهن للمرتهن دون الراهن، بدليل أنَّ للمرتهن أن يرد الرهن متى شاء، والراهن ليس له ولاية استرداد الرهن متى شاء، فلا يفيد بينة الراهن على إثبات حق الغير

(7)

.

«وإن كان المدَّعى هو المرتهن فهو بمنزلة دعوى الدين» ؛ أي: يقضي بأقل المالين إجماعاً.

فإن قلت: الرهن لا يثبت إلا بإيجاب وقبول؛ فكان عقداً كسائر العقود، فلما كان كذلك كان اختلاف الشَّاهدين فيه في قدر المال كان بمنزلة اختلافهما في البيع [والشراء]

(8)

في قدر الثمن، وهناك لا تقبل شهادتهما؛ لاستلزام تكذيب المدَّعى أحد الشَّاهدين، فكذلك ههنا؛ لأنَّ عقد الرهن بألف وخمسمائة غير عقد الرهن بألف، فيجب أن لا يقبل دعوى الرهن، [وإن]

(9)

كانت الدَّعوى من المرتهن

(10)

.

قلت: لما كان عقد الرهن غير لازم في حق المرتهن؛ لما ذكرنا أن له ولاية الرد متى شاء جعل عقد الرهن في حقه كعدمه، [فكان]

(11)

الاعتبار لدعوى الدَّين؛ لأنَّ الرهن لا يكون إلا بعد تقدم الدَّين، فتقبل البيِّنة في حق ثبوت الدين كما في سائر الديون، ويثبت الرهن بالألف ضمناً وتبعاً للدين

(12)

. إلى هذا أشار الإمام قاضي خان رحمه الله.

(1)

في «س» : [الحاجة].

(2)

الهداية (3/ 127).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 177).

(4)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 177).

(5)

الهداية (3/ 127).

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 178)، العناية شرح الهداية (7/ 449)، مجمع الأنهر (2/ 208).

(7)

ينظر: الكفاية شرح الهداية (3/ 391).

(8)

في «س» : [أو الشراء].

(9)

في «ج» : [فإن].

(10)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 178).

(11)

في «ج» : [وكان].

(12)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 178).

ص: 107

«وإن كان بعد مضي المدة والمدَّعى هو الآجر، فهو دعوى الدَّين»

(1)

، والحكم في الدين هو أن يلزم على المدعى عليه ما اتفق عليه الشَّاهدان، ولا يلزم ما اختلفا فيه، وإنَّما قيد بقوله:«والمدَّعى هو الآجر» ؛ لأنَّه لو ادَّعى المستأجر عقد الإجارة بعد انقضاء مدة الإجارة كان ذلك منه اعترافاً بمال الإجارة فيجب عليه ما اعترف/، فلا حاجة فيه حينئذ إلى اتفاق الشَّاهدين أو اختلافهما

(2)

.

وقوله: «فأمَّا النكاح؛ فإنَّه يجوز بألف استحساناً»

(3)

.

وفي الفوائد الظهيرية: وفي النكاح إن كان المدَّعى هو الزوج فالجواب فيه كالجواب في دعوى البيع والشراء؛ لأنَّ الحاجة هنا إلى إثبات العقد؛ لأنَّ ملك النكاح لا يثبت عليهما بدعوى الزوج، فكانت الحاجة إلى إثبات العقد.

وإن كان المدَّعى هو المرأة [فالجواب]

(4)

فيه عند أبي حنيفة رضي الله عنه كالجواب في دعوى الدَّين، وعندهما الجواب فيه كالجواب في دعوى البيع.

وجه قولهما أنَّ الحاجة هنا إلى إثبات العقد لامتناع العقد بإقرار المرأة وحدها، والنكاح بألف غير النكاح بألف وخمسمائة، كالبيع والشراء حذو القذة بالقذة.

ولأبي حنيفة رحمه الله أنَّ التسمية في النكاح كما تصح عند العقد تصح بعده، فإنَّه لو تزوجها ولم يسمِّ لها مهراً ثم سمَّى لها مهراً بعد ذلك صحت التسمية، [والتسمية]

(5)

في الصحة لا تفتقر إلى إنشاء العقد، إنما تفتقر إلى قيام العقد

(6)

.

وقيام العقد تارةً يكون حالة الابتداء، وطوراً يكون حالة البقاء، والبيِّنة على العقد لا تقبل حالة البقاء؛ لأنَّ البقاء ثابت لعدم الدليل المُزِيل، والشَّهادة على ما لا يعرف لعدم الدليل المزيل لم تقبل، كالشَّهادة على النفي، فإذا لم يكن إثبات البقاء بالبيِّنة لا يشترط لقبول البيِّنة على التسمية قبول البيِّنة على بقاء العقد، وابتداء العقد ليس بشرط لصحة التسمية، فلم يكن قبول البيِّنة شرطاً لا ابتداء ولا بقاء لصحة القضاء بالتسمية

(7)

.

وإن كان كذلك كانت البيِّنة القائمة على التَّسمية والبيِّنة القائمة على المنفرد سواءً، بخلاف البيع؛ لأنَّ البيِّنة على التَّسمية، فإذا امتنع القبول في حق العقد امتنع القبول في حقِّ التسمية، بخلاف ما إذا كان المدَّعى هو الزوج؛ لأنَّ الحاجة فيه إلى إثبات ملك النكاح، وأنَّه لا يثبت بإقرار الزوج إنما يثبت متصلاً بابتداء العقد، وقد تعذر إثبات العقد ابتداءً بالبيِّنة؛ لأنَّ العقد بألف غير العقد بألف وخمسمائة، وفيما إذا كانت المرأة هي المدَّعىة ملك النِّكاح يثبت عليها النكاح بإقرارها؛ لأنَّها هي محل لإثبات ملك النكاح

(8)

.

(1)

الهداية (3/ 127).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 178).

(3)

الهداية (3/ 127).

(4)

في «ج» : [والجواب].

(5)

في «س» : [فالتسمية].

(6)

ينظر: المبسوط (5/ 70).

(7)

ينظر: المبسوط (5/ 70).

(8)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 236).

ص: 108

والصدر الإمام الشهيد رحمه الله

(1)

قال في الكتاب: وفي النكاح سواء كان المدَّعى هو الزوج أو المرأة، إذا اختلف الشَّاهدان في قدر المهر والمدَّعى يدعي بالأقل أو بالأكثر، يقضي بالنكاح بأقل المالين عند أبي حنيفة/، وفيه نظر.

والجواب فيه على التَّفصيل الذي ذكرنا في عامة النُّسخ، والوجه ما قلنا.

قوله رحمه الله: «يقضي بالأقل لاتفاقهما عليه»

(2)

، فإن قيل: بل في هذا تكذيب المدَّعى لأحد الشَّاهدين كما في البيع، قلنا: المال ليس بمقصود هاهنا، لما أنَّ النكاح يجوز بدون ذكر المال، ولو لزم التكذيب إنما لزم في البيع، فالتَّكذيب فيه لا يوجب التَّكذيب في الأصل، وهو العقد بخلاف البيع، فإنَّ المال مقصود فيه، فالتَّكذيب [بالمقصود]

(3)

يوجب نفي الحكم لانعدام نصاب الشَّهادة.

«وقيل الخلاف في الفصلين»

(4)

، أي: خلاف أبي حنيفة مع صاحبيه [رحمهما]

(5)

الله في موضعين، وهما ما إذا كان المدَّعى الزوج وما إذا كان المدَّعى المرأة.

وقوله: «هذا أصح»

(6)

، مخالف لما ذكرنا في رواية الفوائد الظهيرية؛ بأن هذه الشَّهادة لا تقبل على قولهما.

وأمَّا الجواب على قول أبي حنيفة رحمه الله

(7)

فعلى التفصيل، إن كان المدَّعى هو الزوج فلا تقبل، وإن كان الدَّعوى من قبل المرأة تقبل، جعل هذا القول أصح فيها، وذكر وجه الأصح فيها وقد ذكرناه

(8)

.

وأمَّا وجه الأصح في رواية الكتاب ما ذكره من دليل في الطرفين [من قوله]

(9)

لهما: «إن هذا اختلاف في العقد» ، إلى أن قال: «ولأبي حنيفة رحمه الله

(10)

أنَّ المال في النكاح تابع والأصل فيه الحل

» إلى آخره، وإليه أشار بقوله:«والوجه ما ذكرناه» ؛ لأنَّ هذا الدَّليل من الطَّرفين لا يفرق بين أن يكون المدَّعى الزوج أو المرأة، والله أعلم.

(1)

زيادة من «س» .

(2)

الهداية (3/ 128).

(3)

في «س» : [في المقصود].

(4)

تمام المسألة في الهداية (3/ 128): «ثم قيل: الاختلاف فيما إذا كانت المرأة هي المدعية، وفيما إذا كان المدعي هو الزوج إجماع على أنَّه لا تقبل؛ لأنَّ مقصودها قد يكون المال ومقصوده ليس إلا العقد، وقيل: الاختلاف في الفصلين» .

(5)

في «س» : [رحمهم].

(6)

الهداية (3/ 128).

(7)

سقط من: «س» .

(8)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 236)، درر الحكام (2/ 387)، مجمع الأنهر (2/ 209).

(9)

سقط من: «ج» .

(10)

سقط من: «س» .

ص: 109

‌فصل

في الشَّهادة على الإرث

.

لما فرغ من بيان أحكام شهادة تتعلق بالأحياء، شرع في هذا الفصل في بيان أحكام شهادة تتعلق بالأموات، إذ الموت بعد الحياة وجوداً، فكذا حكمه ذكراً.

«ولا يكلف البيِّنة أنَّه مات وتركها ميراثًا له»

(1)

، هذا بالإجماع، لكن على اختلاف التخريج، فعند أبي يوسف رحمه الله

(2)

نسب أنَّه لا يقول في الميراث باشتراط الجر والانتقال من المورث إلى الوارث في قبول البيِّنة.

وأمَّا أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله- وإن كانا يشترطان ذكر الجر والانتقال إلى الوارث في الشَّهادة ولم يشترطا ذلك هنا؛ لأنَّ المدَّعى أثبت لمورثه يداً في المدَّعى بما أقام من البيِّنة؛ لأنَّ يد المودع/ والمستعير يد المودع والمعير، فصار كأنَّه أقام البيِّنة أن أباه مات والدار في يده، ولو كان كذلك كانت البيِّنة مقبولة، فكذا هنا. إلى هذا أشار في الفوائد الظهيرية

(3)

.

«وأصله أنَّه متى ثبت ملك المورث» ، أي: مطلق من غير أن يثبت أنَّه كان مالكاً له وقت الموت.

«إن ملك الوارث ملك المورث» ، لكون الوراثة خلافة، ولهذا يرد بالعيب، ويُرد عليه بالعيب، ويصير مغروراً فيما كان المورث مغروراً فيه

(4)

.

«وهما يقولان إن ملك الوارث متجدد في حق العين، حتى يجب عليه الاستبراء في الجارية الموروثة»

(5)

.

فإن قلت: ما جوابهما عن بينة قامت للمدَّعِي بأنَّ هذا العين كان ملكاً لهذا المدَّعى، فإنَّه يقضي للمدَّعِي وإن لم يشهدوا أنَّه للمدعي في الحال.

وكذلك في مسألة هي أشبه لمسألتنا هذه، وهي أنَّ من ادَّعى عيناً في يد إنسانٍ أنَّه اشتراه من فلان الغائب، وأقام البيِّنة على الشراء، ولم يُقم [البيِّنة]

(6)

على ملك البائع، وأنكر ذو اليد ملك البائع، فإنَّه يحتاج إلى إقامة البيِّنة أنَّ الملك لبائعه، [فإذا]

(7)

أقام البيِّنة على ذلك حتى شهد الشُّهود أنَّه كان للبائع يقضي للمشتري، وإن لم ينصوا على أنَّه كان ملكاً للبائع يوم البيع بثبوته اقتضاءً، فيجب أن يكون الحكم هنا كذلك؛ لما أن كل واحد من الإرث والشراء سبب للملك

(8)

.

(1)

تمام المسألة في الهداية (3/ 128): «ومن أقام بينة على دارٍ أنَّها كانت لأبيه أعارها، أو أودعها الذي هي في يده؛ فإنه يأخذها ولا يكلف البينة أنَّه مات وتركها ميراثاً له» .

(2)

سقط من: «س» .

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 181).

(4)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 181)، العناية شرح الهداية (7/ 457).

(5)

الهداية (3/ 128).

(6)

سقط من: «ج» .

(7)

في «س» : [وإذا].

(8)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 274).

ص: 110

قلت: إنَّهما يجيبان عن هذا، ويقولان: إنَّ كون هذا العين ملكاً للميت يوم الموت ثابت باستصحاب الحال دون البيِّنة، والثابت باستصحاب الحال حجة لإبقاء ما هو ثابت لا لإثبات ما هو غير ثابت، كالملك الثابت بظاهر اليد يصلح لإبقاء ما هو ثابت لا لإثبات ما هو غير ثابت، وهو الأخذ بالشفعة إذا أنكر المشتري ملكه، فكذا هاهنا مالكيَّة الوارث لم تكن ثابتة، وإنَّما يثبت للحال

(1)

.

فكان ملكاً متجدداً من وجه حتى يحل لو كانت صدقة، ويجب الاستبراء على الوارث إن كانت جارية.

فبأحد الاعتبارين إن وجب القضاء بهذه البيِّنة، فبالاعتبار الآخر لا يجب بالشَّك، بخلاف ما لو شهدوا أنَّها كانت للمدَّعي وهو حي، إذ ليس في القضاء بتلك الشَّهادة إثبات أمر لم يكن؛ لأن ملك المدَّعى إذا ثبت في الماضي يبقى إلى وقت آخر، واستصحاب الحال حجَّةٌ فيه

(2)

.

أما ههنا فاستصحاب الحال لا يصلح لإثبات المالكيَّة للوارث؛ لأنَّها لم تكن ثابتة من الوجه الذي قلنا، وبخلاف مسألة الشراء؛ لأنَّ ملك المشتري مضاف إلى الشراء الثابت بالبيِّنة لا إلى بقاء ملك البائع في المبيع، وإن كان لابد لإثبات ملك المشتري من بقاء ملك البائع؛ لأن الشراء آخرهما وجوداً، وأنَّه سبب موضوع للملك حتى لا يتحقق من غير إيجاب الملك فيكون مضافاً إلى الشراء، وأنَّه ثابت بالبيِّنة

(3)

.

وأمَّا ههنا ثبوت الملك للوارث مضافاً إلى كون المال مِلكاً للميت وقت الموت، لا إلى الموت الثابت معاينةً؛ لأنَّ الموت ليس سبب موضوع للملك؛ بل هو موضوع لإبطال الحياة؛ ولا لإيجاب الملك، فكم من موت ليس فيه إيجاب الملك لأحد، ومن هذا وقع الفرق في اليمين بين التعليق بالشِّراء وبين التعليق بالموت، حتى لو قال لأمةٍ: إن اشتريتك فأنت حرَّةٌ صح اليمين، ولو قال: إن مات مولاك فأنت حرَّهٌ والحالف وارثه؛ لا يصح اليمين، وبقاء ملك الميت إلى يوم الموت فيما نحن فيه ثابت باستصحاب الحال، وأنَّه لا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتًا إن صلح لإثبات ما كان ثابتاً

(4)

. إلى هذا أشار الإمام المحبوبي رحمه الله في الجامع الصغير.

«فلا بد من النقل»

(5)

؛ أي: لابد أن يقول الشُّهود أنَّه مات وتركها ميراثاً له، وهو تفسير الجر في الشَّهادة في المواريث

(6)

.

(1)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 377).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 377).

(3)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 377، 378).

(4)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 378).

(5)

قال في الهداية (3/ 128): «ويحل للوارث الغني ما كان صدقة على المورث الفقير، فلابد من النقل، إلا أنَّه يكتفي بالشهادة على قيام ملك المورث وقت الموت لثبوت الانتقال ضرورة» .

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 182).

ص: 111

«إلا أنَّه يكتفى بالشَّهادة» ، هذا استثناء عن ما يتصل به، وهو قوله:«فلا بد من النقل» ، يعنى: أنَّ عندهما لابد من النقل والجر، حتى لو شهد الشُّهود أنَّها كانت لأبيه، ولم يجروا الميراث إلى المدَّعى، ولم يقولوا: إن أباه مات وتركها ميراثاً له ولا يعلم له وارثاً غيره، لا يقبل القاضي شهادته.

إلا أنَّ الشَّهادة على قيام ملك المورث وقت الموت على الدار، أو على قيام يد المورث على الدار وقت الموت قائمة مقام قولهم: إنَّها كانت لأبيه وتركها ميراثاً له

(1)

.

والدليل على هذا أيضاً ما ذكره في الذَّخيرة

(2)

والمغني: «وإذا ادَّعى داراً في يد إنسانٍ أنَّها له ورثها عن أبيه، وجاء بشهودٍ شهدوا أنَّها كانت لأبيه إلى أن مات وتركها ميراثاً له لا يعلم له وارثاً غيره، فالقاضي يقبل هذه الشَّهادة ويقضي بالدار للمدَّعي، وهذا ظاهر، وكذلك إذا شهدوا أنَّ أباه مات وترك هذه الدار ميراثاً له، وكذلك إذا شهدوا أنَّها كانت لأبيه يوم الموت، فالقاضي يقبل هذه الشَّهادة ويقضي بالدار للمدَّعي.

وإن لم يشهدوا أنَّه/ تركها ميراثاً له، وكذلك إذا شهدوا أنَّها كانت في يد أبيه إلى أن مات، أو شهدوا أنَّها كانت في يد أبيه يوم الموت، فالقاضي يقبل هذه الشَّهادة ويقضي بالدار للمدَّعي؛ لأن الشَّهادة باليد يوم الموت شهادة بالملك له يوم الموت؛ لأن اليد المجهولة تنقلب يد ملك عند الموت؛ لأنَّ الظَّاهر من حال من حضره الموت أن يسوَّي أسبابه ويبين ما كان عنده من الودائع أو المغصوب، فإذا لم يبين فالظَّاهر أن ما في يده ملكه، فجعلنا اليد عند الموت يد ملك من هذا الوجه.

وروى الحسن بن زياد، وعلي بن يزيد الطبري، -صاحب محمد بن الحسن رحمهم الله: أنَّه لا يقبل الشَّهادة في هذه الصورة؛ لأنَّهم شهدوا بيد عَرَف القاضي زوالها، ولم يشهدوا بالملك للمورث.

ولكن ما ذكر في ظاهر الرِّواية أصح؛ لما ذكرنا أنَّ الأيدي المجهولة عند الموت تنقلب يد ملك، فكانت هذه الشَّهادة بالملك من حيث المعنى، ولو شهدوا أنَّها كانت لأبيه، ولم يجروا الميراث إلى المدَّعى، فالقاضي لا يقبل هذه الشَّهادة في قول أبي حنيفة ومحمد [رحمهما الله]

(3)

، وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولاً ثم رجع أبو يوسف عن هذا القول، وقال: تقبل هذه الشَّهادة ويقضي بالدار للمدعي».

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 459)، حاشية رد المحتار (5/ 496).

(2)

المحيط البرهاني (8/ 377).

(3)

سقط من «س» .

ص: 112

«ولو [شهدوا]

(1)

أنَّها لأبيه لا تقبل الشَّهادة.

ذكر محمد المسألة في كتاب «الدَّعوى» من غير ذكر خلاف.

[وقد]

(2)

اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: لا تقبل هذه الشَّهادة على قول أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- وعلى قول أبي يوسف [رحمة الله عليه]

(3)

تقبل؛ لأنَّهم شهدوا بالملك للميت، والثابت للوارث غير ما كان ثابتاً للمورث.

فأبو يوسف اعتبر جانب الملك، ولا استحالة في جانب الملك، وهما اعتبرا جانب المالكيَّة، فقال: أثبتنا المالكيَّة للميت في الحال، فكانت هذه الشَّهادة بالمستحيل، ومنهم من قال: لا تقبل هذه الشَّهادة بلا خلاف»

(4)

.

«ثم اعلم أنَّ الشَّاهدين إذا شهدا بأنَّ هذا المدَّعى ابن الميت ووارثة لا نعلم له وارثاً آخر، صار المشهود له معلوماً للقاضي فيقضي بشهادتهما، فقد [شرط]

(5)

مع بيان السبب أنَّ يقول: وهو وارثه لا [نعلم]

(6)

له وارثاً سواه.

ولا شك أنَّ قولهما [ووارثه] شرط فيمن يحتمل الحجب والسقوط بحال، فأمَّا فيمن لا يحتمل الحجب والسُّقوط بحال، نحو الأب والأم

والابن والبنت، هل هو شرط؟ فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنَّه لا يشترط»

(7)

.

«وأمَّا قول الشَّاهدين: لا نعلم له وارثاً آخر ليس من صلب الشَّهادة، وإنَّما هو لإسقاط مؤنة اللوم عن القاضي، فإن بدونه القاضي يتلوَّم زماناً»

(8)

.

«وكذا على قيام يده»

(9)

؛ أي: يكتفى بالشَّهادة على قيام يده.

وقوله: «على ما نذكره» ، إشارة إلى ما ذكر بعده بقوله:«لأنَّ الأيدي عند الموت تنقلب يد ملك، والأمانة تصير مضمونة بالتحميل»

(10)

، بأنَّ يموت المودع من غير بيان الوديعة، فإنَّها وديعة لفلان، وذلك لأنَّه لما مات بدون البيان، فقد ترك الحفظ، والمودَع إذا ترك حفظ الوديعة كان متعدياً، والتَّعدي موجب للضمان، ثم لما صار المودَع ضامناً صار المضمون ملكاً له، فثبت أن الشَّهادة على اليد عند الموت شهادة على الملك عند الموت، والملك الثابت عند الموت ينتقل إلى الوارث ضرورةً؛ [ولذلك]

(11)

استغني عن ذكر الجر في الشَّهادة. إلى هذا أشار الإمام قاضي خان وغيره

(12)

.

(1)

في «س» : [شهدا].

(2)

في «ج» : [فقد].

(3)

في «س» : [رحمه الله].

(4)

المحيط البرهاني (8/ 378).

(5)

في «ج» : [شرطت].

(6)

في «ج» : [يعلم].

(7)

المحيط البرهاني (8/ 370).

(8)

المحيط البرهاني (8/ 370).

(9)

الهداية (3/ 128).

(10)

الهداية (3/ 128).

(11)

في «س» : [فلذلك].

(12)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 236)، رد المحتار (7/ 216).

ص: 113

فإن قلت: [مشكل]

(1)

يشكل على قوله هذا: «وهو أنَّ الأيدي عند الموت تنقلب يد ملك» مسائل:

وهي أنَّهم لو شهدوا أن أباه دخل في هذه الدار ومات فيها، أو شهدوا أنَّه كان فيها حتى مات، أو شهدوا أنَّه مات فيها، أو شهدوا أنَّه مات وهو قاعد على هذا البساط، أو نائم على هذا الفراش، أو شهدوا أنَّه مات وهذا الثوب موضوع على رأسه، لا تقبل هذه الشَّهادة حتى لا يستحق الوارث شيئاً من هذه الأشياء [كلها]

(2)

، وإن كانت هذه الأشياء في يد مورثه وقت الموت

(3)

.

قلت: خرج الجواب عن هذه المسائل [كلها]

(4)

مما ذكره بقوله: «بواسطة الضمان» ، وهذه الأشياء ليست بموجبة للضمان، وإن كانت في يده في حال الموت.

وذكر الإمام التمرتاشي [رحمة الله عليه]

(5)

، بعد ذكر هذه المسائل: لم يستحق المدَّعى بهذا شيئاً؛ لأنَّ اليد على المحل لا تثبت بهذه الأشياء، بدليل أنَّه لا يصير غاصباً ولا يصير ذو اليد مقِرَّاً له، فكذا في الشَّهادة، بخلاف الشَّهادة بالركوب والحمل واللبس؛ لأنَّ اليد تثبت بهذه الأشياء، بدليل أنَّه يصير غاصباً بهذه الأشياء

(6)

.

«فصار بمنزلة الشَّهادة على قيام ملكه»

(7)

؛ أي: فصار قول الشُّهود بأنَّها كانت في يده وقت الموت بمنزلة الشَّهادة بأنَّها كانت ملكه وقت الموت.

«وإن/ قالوا لرجل حيٍّ يشهد أنَّها كانت في يد المدَّعى منذ أشهر لم تقبل»

(8)

؛ يعني: إذا كانت الدار في يد رجلٍ فادَّعاها رجلٌ آخر، وليست الدار في يده أنَّها له فشهد الشُّهود على هذا الطريق.

قيد بقوله: «حيٌّ» ؛ لأنَّه لو شهدوا للميت بأنَّها كانت في يده وقت [موته]

(9)

تقبل الشَّهادة بالإجماع، وتكون الدار لوارثه، وقد ذكرناه

(10)

.

وقيد بقوله: «أنَّها كانت في يد المدَّعى» ؛ لأنَّهم لو شهدوا أنَّها كانت له تقبل بالاتفاق. كذا في الجامع الصغير لقاضي خان

(11)

.

وأمَّا قوله: «منذ أشهر» ، فوجوده كعدمه، فإنَّ هذا الخلاف ثابت فيما إذا لم يذكره، فإنَّه ذكر الإمام التُّمرتاشي: شهدوا لحي أنَّ العين كان في يده لم تقبل؛ لأنَّ اليد محتملة يد غصبٍ، أو يد ملك، فإن كانت يد غصبٍ عن ذي اليد لا يجب إعادته، وإن كانت يد ملك يجب؛ فلا يجب بالشك

(12)

.

(1)

زيادة من: «ج» .

(2)

سقط من: «س» .

(3)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 386)، بدائع الصنائع (6/ 275)، فتح القدير (7/ 459).

(4)

زيادة من: «س» .

(5)

في «س» : [رحمه الله].

(6)

ينظر: فتح القدير (7/ 459).

(7)

الهداية (3/ 128).

(8)

الهداية (3/ 128).

(9)

سقط من: «ج» .

(10)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 183).

(11)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 183).

(12)

ينظر: البحر الرائق (7/ 119)، حاشية رد المحتار (7/ 18).

ص: 114

وعن أبي يوسف رحمه الله: تقبل؛ لأنّ اليد حقٌ مقصودٌ كالملك، فالملك متى ثبت يبقى إلى أن يوجد المزيل، فكذا في اليد، [فصار]

(1)

كما لو شهدوا بالآخر من المدَّعى، يعني: أن الشَّاهدين إذا شهدا بأنَّ الدار كانت في يد المدَّعى وأخذها المدَّعَى عليه الذي هو صاحب اليد تقبل شهادتهما، وترد الدار إلى المدَّعى، وكذلك إذا أقرَّ المدَّعَى عليه بأنَّها كانت في يد المدَّعِى، على ما ذكر في الكتاب

(2)

.

«لأنّ َاليد منقضية»

(3)

؛ أي: يد المدَّعى زائلة وليست بقائمة، حتى تحمل على الملك باعتبار الظاهر

(4)

.

«وهي متنوعة إلى ملك، وأمَّانة، وضمان» ، بأنْ كانت يد غصب، فلما تنوعت اليد إلى هذه الأوجه الثلاثة لم يجب الرد؛ لأنَّه لو وجب الرد من وجه لم يجب من وجهين، فلا يجب بالشَّك

(5)

.

«وبخلاف الأخذ» ، فإن الأخذ موجب للرد شرعاً.

«ولأنَّ يد ذي اليد معاين، ويد المدَّعى مشهود به» ، والمعاين راجح؛ لأنَّ المعاينة توجب العلم، والشَّهادة توجب عليه الظَّنَّ، فما كان يوجب العلم أولى

(6)

.

فإن قلت: هذا الذي عليه هو ترجيح جانب المعاينة على جانب الشَّهادة عمل على خلاف العمل في سائر المواضع، فإن في سائر المواضع أينما كان العمل بالبينات أكثر إثباتاً كان تلك البيِّنة أولى بالعمل، حتى قلنا برجحان بينة الخارج على بينة ذي اليد في دعوى الملك المطلق؛ لكون بينة الخارج أكثر إثباتاً، وهو الملك واليد، فلما ترجحت هناك بينة الخارج على البيِّنة واليد، أعني بينة ذي اليد ويده؛ فلأن تترجَّح بينة الخارج هنا على اليد المجردة أولى

(7)

.

قلت: ذاك مُسلَّم فيما لا يتنوع ما أثبتته البيِّنة، والملك المطلق لا يتنوع إلى أمانة وضمان، وعدم وجوب الردَّ هنا إلى المدَّعى باعتبار احتمال اليد هذين النوعين؛ ولكن باعتبار احتمال يد الملك موجب للرد، فلما تعارضت الأيدي على هذه الأوجه أوجب الشَّكَّ في الرد فلم يرد.

وأمَّا في دعوى الملك المطلق خلص ما يوجب الرد، وهو الملك عن التنوع، فعُمل بما هو موضوع البينات، وهو أنَّ ما كان منهما أكثر إثباتاً فهو أولى.

(1)

في «س» : [وصار].

(2)

ينظر: المحيط البرهاني (9/ 143)، بدائع الصنائع (5/ 14).

(3)

الهداية (3/ 128).

(4)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 183)، تبيين الحقائق (4/ 237).

(5)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 237).

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 184).

(7)

ينظر: المحيط البرهاني (9/ 22)، الغرة المنيفة (1/ 184)، البناية شرح الهداية (9/ 327)، العناية شرح الهداية (8/ 175).

ص: 115

«وإن أقرَّ بذلك المدعى عليه»

(1)

؛ يعني: قال المدعى عليه: إن هذه الدار كانت في يد المدَّعى هذا.

«لأن الجهالة في المقَرِّ به لا تعنى صحة الإقرار»

(2)

، بل يجب عليه بيان ما أقر به، حتى لو قال: لفلان علي شيء يصح، ويجب عليه البيان، وكذلك لو شهد الشَّاهدان أن المدَّعَى عليه أقرَّ أنَّها كانت في يد المدَّعِى تقبل شهادتهما

(3)

.

«لأنَّ المشهود به ههنا الإقرار وهو معلوم»

(4)

، وإنَّما الجهالة في المقر به وذلك لا يمنع القضاء، كما لو ادعى عشرة دراهم فشهدوا على إقرار المدعى عليه أنَّ له عليه شيئًا، جازت الشَّهادة، ويأمر بالبيان. كذا في الجامع الصغير لقاضي خان [/ والله أعلم بالصواب]

(5)

(6)

.

[باب الشَّهادة على الشَّهادة]

لما فرغ من بيان أحكام شهادة الأصول، شرع في بيان أحكام شهادة الفروع، وذكر على هذا التَّرتيب؛ لأنَّ الفرع مستدع تقدم الأصل.

«الشَّهادة على الشَّهادة جائزة»

(7)

، وهذا استحسان، والقياس أن لا يجوز؛ لأنَّ الشَّهادة عبادةٌ بدنيَّةٌ لزمت شاهد الأصل، وليست بحق للمشهود له؛ بدليل أنَّه لا تجوز الخصومة فيها، والإجبار عليها، والنيابة لا تجري في [العبادة]

(8)

البدنيَّة؛ إلا أنَّهم تركوا القياس وعملوا بالاستحسان

(9)

.

وفي فتاوى قاضي خان: الشَّهادة على الشَّهادة جائزة في الأقارير والحقوق، وأقضية القضاة وكتبهم، وكل شيء إلا في [الحدود]

(10)

والقصاص

(11)

.

وفي المغني: «الأصل أن كل ما يثبت [بشهادة]

(12)

النِّساء مع الرجال يثبت بالشَّهادة على الشَّهادة؛ لأنَّ الشَّهادة على الشَّهادة [نظير]

(13)

شهادة النِّساء مع الرجال؛ لأنَّ الممكن في الشَّهادة على الشَّهادة تهمتان، تهمة الكذب/ في الأصول، وتهمة الكذب في الفروع، والمتمكن في شهادة النِّساء مع الرجال تهمتان أيضاً، تهمة الكذب بسبب عدم العصمة، وتهمة الضلال والنسيان، فكانتا نظيرتين، إلَّا أنَّ الشَّهادة على الشَّهادة إنَّما تقبل حالة العجز عن الأصول، وشهادة النِّساء مع الرجال تقبل مع القدرة على شهادة الرجال، لأنَّ شهادة الفروع بدلٌ من كل وجه؛ لأن [الفروع]

(14)

لم تعاين بسبب الحق؛ إنما عاينه الأصل.

(1)

الهداية (3/ 128).

(2)

الهداية (3/ 128).

(3)

ينظر: فتح القدير (7/ 460)، بدائع الصنائع (7/ 214).

(4)

الهداية (3/ 128).

(5)

سقط من: «س» .

(6)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 237)، العناية شرح الهداية (7/ 461).

(7)

«

في كل حق لا يسقط بالشبهة». الهداية (3/ 129).

(8)

في «ج» : [العباد].

(9)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 185).

(10)

في: «س» : [الحد].

(11)

فتاوى قاضي خان (2/ 301).

(12)

في: «ج» [شهادة].

(13)

في: «س» : [نظيره].

(14)

في «س» : [الفرع].

ص: 116

فأمَّا شهادة النِّساء نظيرة شهادة الرجال من حيث معاينة سبب الحق، وإنَّما البدليَّة من حيث الصُّورة، فلهذا افترقا»

(1)

.

قوله: «إلا أنَّ فيها شبهة من حيث البدليَّة»

(2)

.

فإن قلت: لو كان فيها معنى البدليَّة لما جاز الجمع بين الأصل والفرع في الشَّهادة؛ لأنَّه لا يجوز الجمع بين البدل والمبدَل؛ ولهذا لا يجوز الجمع بين الوضوء والتيمم، ولا بين غَسل الرجل ومسح الخُفِّ، وههنا يجوز الجمع بين الشَّاهد الأصلي والشَّاهد الفرعي على ما يجيء من رواية الأسرار

(3)

.

وكذلك ذكر في الخلاصة: ولو شهد أحد الشَّاهدين على شهادة نفسه، وشهد الآخر على شهادة رجل آخر تقبل

(4)

. وهكذا أيضاً في فوايد الإمام مولانا حميد [الدين]

(5)

الضرير رحمه الله

(6)

.

وإنَّما لا يجوز ههنا إذا شهد أحد الشَّاهدين على شهادة نفسه، وهو أيضاً شهد مع آخر على شهادة أصل آخر، للتنافي في حقه؛ لأنَّ معنى الأصالة يقتضي مشاهدة الحق، ومعنى الفرعيَّة تقتضي عدم مشاهدة الحق، وهما يتنافيان، مع أن القياس فيه الجواز أيضاً على ما يجيء

(7)

.

قلت: بدليَّة شهادة الفروع بحسب المشهود به، لا بحسب شهادة الأصول، فإنَّ الحاجة إلى علمنا بالحق المشهود به، وأنَّه متى شهد به الأصل لم يبق لنا شبهةٌ في شهادة الأصل؛ لأنَّه عيان، وإنَّما بقيت الشُّبهة في الحق من حيث أنَّهم غير معصومين عن الكذب.

ولم نعتبر هذا لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه؛ وإذا جازت الشَّهادة على الشَّهادة تمكنت على شبهة الحق التي كانت في الأصل شبهة زائدة تخلو عنها شهادة الأصل، فكانت هذه الشبهة الزائدة معتبرة فيما تسقط بالشبهات.

ثم هذه الشبهة في الشَّهادة على الشَّهادة إنما تمكنت باعتبار بدليَّة الفروع في حقِّ المشهود به، حيث لم يعاينوه؛ [لأنَّ]

(8)

الفروع بدل من الأصول.

ألا ترى أنَّ الأصول تتم بالفروع، فلو كانت البدليَّة في أصل الحجَّة لما ظهرت مع الأصل، فعلمنا أنَّ بطلان شهادة الفروع فيما يسقط بالشبهات على أصلنا لمعنى في شهادة الفروع، وهو ثبوت شهادتهم مع شبهة يمكن الاحتراز عنها؛ ولكن هم أصول في أنفسهم، لأنَّهم رجال كالأصول، وصارت شهادتهم من هذا الوجه كشهادة النِّساء فيها شبهة يمكن الاحتراز عنها بالرجال، فتبين أنَّا جعلنا الفروع كالأصول ولم يضر الجمع بينهم. إلى هذا أشار في الأسرار.

(1)

المحيط البرهاني (8/ 392).

(2)

الهداية (3/ 129).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 239)، البناية شرح الهداية (9/ 187)، العناية شرح الهداية (7/ 462).

(4)

ينظر: الجوهرة النيرة (2/ 235).

(5)

سقط من: «ج» .

(6)

سقط من: «س» .

(7)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 238).

(8)

في «س» : [لا أن].

ص: 117

قوله رحمه الله

(1)

: «أو من حيث أنَّ فيها زيادة احتمال الكذب»

(2)

، لأنَّ الاحتمال في موضعين على ما ذكرنا.

«فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، كالحدود والقصاص»

(3)

، وهذا عندنا.

‌الشهادة على الشهادة في الحدود والقصاص

وأمَّا الشافعي [رحمة الله عليه]

(4)

فيجعل الشَّهادة على الشَّهادة حجَّةً في حقوق العباد أجمع، العقوبات وغير العقوبات في ذلك سواءٌ

(5)

.

لأنَّه حجة أصليَّة فيما هو المشهود به، وهو شهادة الأصول، فإثبات ذلك شهادتهم في مجلس القضاء كثبوته بأدائهم لو حضروا بأنفسهم، بخلاف شهادة النِّساء مع الرجال، فشهادة النِّساء حجَّةٌ ضروريَّة؛ لأنَّ النِّساء لا يحضرن محافل الرجال عادةً، فلا يجعل حجَّة إلا فيما يكثر فيه المعاملة، لأنَّ الضَّرورة تتحقق في ذلك.

وفي الحدود التي هي لله تعالى له قولان

(6)

.

وإنا نقول: «الشَّهادة على الشَّهادة جائزة ما خلا القصاص والحدود، وذلك مروي عن إبراهيم رحمه الله، وهذا لأنَّ الشَّهادة على الشَّهادة فيها ضرب شبهة، ينعدم ذلك بجنس الشُّهود، من حيث أنَّ الخبر إذا تداولته [الألسنة]

(7)

يتمكن فيها زيادة ونقصان، فهو بمنزلة شهادة الرجال مع النِّساء تكون حجة فيما ثبت مع الشبهات دون ما يَندَرِئُ بالشُّبهات؛ بل أولى، فإن الشَّهادة على الشَّهادة [

]

(8)

حلف حقيقة، حتى لا يصار إليها إلا عند العجز عن شهادة الأصول، وشهادة النِّساء مع الرجال في صورة الخلف.

قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}

(9)

، وليس بِحَلِفٍ حقيقة حتى يجوز العمل بشهادة رجل و امرأتين مع القُدرة على استشهاد رجلين، عرفنا أنَّ ذلك أقوى من الشَّهادة على الشَّهادة.

(1)

سقط من: «ج» .

(2)

الهداية (3/ 129).

(3)

الهداية (3/ 129).

(4)

سقط من: «س» .

(5)

قال في مختصر المزني (1/ 420): «وتجوز الشهادة على الشهادة بكتاب القاضي في كل حق للآدميين مالاً، أو حداً، أو قصاصاً، وفي كل حد لله قولان: أحدهما: أنه تجوز، والآخر: لا تجوز من قبل درء الحدود بالشبهات» .

وينظر: الإقناع للماوردي (1/ 203)، اللباب في الفقه الشافعي (1/ 411)، الحاوي الكبير (17/ 442)، المهذب (3/ 459).

(6)

أما في حدّ القذف فجائزة، قولاً واحداً، وفي الحدود الأخرى كالزِّنا وشرب المسكر لا تجوز على الأصح. ينظر: الحاوي الكبير (17/ 442)، حلية العلماء (8/ 294)، مغني المحتاج (4/ 453).

(7)

في «ج» : [الأيدي الألسنة].

(8)

في «ج» زيادة: [هذا ينافي قوله: البدليَّة بحسب الشُّهود لا بحسب شهادة الأصول]، وهي ليست في المبسوط.

(9)

سورة البقرة: آية 282.

ص: 118

فإذا لم تكن شهادة النِّساء مع الرجال حجَّة في الحدود والقصاص/ بالشَّهادة على الشَّهادة أولى». كذا في المبسوط

(1)

.

‌في شهادة الشاهدين على شهادة شاهدين آخرين

«وتجوز شهادة شاهدين على شهادة شاهدين»

(2)

إلى آخره.

«اعلم أنَّه لا يجوز على شهادة رجل أو امرأة أقل من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عندنا.

وقال مالك رحمه الله

(3)

: تجوز شهادة الواحد على شهادة الواحد؛ لأنَّ الفرعي قائم مقام الأصلي معبر عنه، بمنزلة رسوله في إيصال شهادته إلى مجلس القاضي، وكأنَّه حضر وشهد بنفسه، واعتبر هذا برواية الإخبار، فإن رواية الواحد عن الواحد مقبولة

(4)

.

ومذهبنا مروي عن علي رضي الله عنه، والمعنى فيه أن شهادة الأصل [غابت]

(5)

عن مجلس القاضي، فلا تثبت عنده إلا بشهادة شاهدين، كإقرار المقر، وهذا لأنَّها شهادة مُلزِمة فيما يجب على القاضي القضاء بشهادة الأصول، والعدد شرط في هذه الشَّهادة إذا كان ممكناً، بخلاف رواية الأخبار.

وإن شهد رجلان على شهادة رجلين جاز عندنا.

وقال الشافعي [رحمة الله عليه]

(6)

: لا يجوز إلا أن يشهد رجلان على شهادة كل واحد منهما، لأنَّ الفرعين يقومان مقام أصل واحد، فلا تتم حجَّةُ القضاء بهما، كالمرأتين لما قامتا مقام رجل واحد لم تتم حجَّةُ القضاء بشهادتهما

(7)

.

والدليل عليه أن أحد الفرعين لو كان أصلياً فشهد على شهادة نفسه وعلى شهادة صاحبه مع غيره لا تتم الحجة بالاتفاق، فكذا إذا شهدا جميعاً على شهادة الأصلين.

وحجتنا في ذلك أنَّهما يشهدان جميعاً على شهادة كل واحد منهما، وكما يثبت قول الواحد في مجلس القاضي بشهادة شاهدين، يثبت قول الجماعة، كالإقرار، وهذا لأنَّ الفرعين عددٌ تامٌ لنصاب الشَّهادة، وهما يشهدان على شهادة الأصل، لا على شهادة الحق، فإذا شهدا على شهادة أحدهما تثبت شهادتهم في مجلس القضاء، كما لو حضر فشهد بنفسه، ثم إذا شهدا على شهادة الآخر تثبت شهادته أيضاً في مجلس القضاء؛ إذ لا فرق بين شهادتهما على شهادته وبين شهادة رجلين آخرين بذلك، بخلاف شهادة المرأتين فذلك ليس بنصاب تام للشهادة، ولكن كل امرأة بمنزلة شطر العلة، والمرأتان شاهدٌ واحدٌ، وبالشَّاهد الواحد لا يتم نصاب الشَّهادة.

(1)

المبسوط (16/ 115).

(2)

الهداية (3/ 129).

(3)

سقط من: «س» .

(4)

ينظر: المدونة الكبرى (4/ 23)، الذخيرة للقرافي (10/ 288).

(5)

في «ج» : [غائب].

(6)

في «س» : [رحمه الله].

(7)

ينظر: نهاية المطلب (19/ 46)، المجموع شرح المهذب (20/ 269)، البيان للعمراني (13/ 370).

ص: 119

وليس هذا كما لو شهد أحدهما على شهادة نفسه، ثم شهد على شهادة صاحبه مع غيره؛ لأنَّ الشَّاهد على شهادة نفسه لا يصلح أن يكون شاهداً لفرع لمعنيين، أحدهما: أن عنده علم المعاينة في هذه الحادثة، فلا يستفيد شيئًا بإشهاد الآخر إياه على شهادته.

والثاني: أنَّ شهادة الفرعي في حكم البدل، ولهذا لا يصار إليه إلا عند العجز عن حضور الأصلي لموته، أو مرضه، أو غيبته، و الشَّخص الواحد في الشَّهادة لا يكون أصلاً وبدلاً في حادثة واحدة.

يوضحه أنَّ شهادة الأصل تُثبت نصف الحق، فلو جوَّزنا مع ذلك شهادته على شهادة الآخر؛ لكان فيه إثبات ثلاثة أرباع الحق بشهادة الواحد، وذلك لا يجوز.

فأمَّا إذا شهدا جميعاً على شهادة الأصليين، فلا يثبت في الحاصل بشهادة كل واحد منهما إلا نصف الحقِّ، وذلك جايز». كذا في المبسوط

(1)

.

«ولنا قول على رضي الله عنه: «لا يجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين»

(2)

، فوجه التمسُّك بهذا هو أنَّ الأثر دلَّ على جواز الشَّهادة على الشَّهادة بالشَّاهدين مطلقاً من غير تقييد بأن يكون بإزاء كل أصل فرعان

(3)

.

ومن قال به كان تقييداً للإطلاق بغير دليل، وذلك لا يجوز.

فإن قيل: ينبغي أن لا يجوز شهادة الفرعين عن أصلين؛ لأنَّ الفرعين [لما]

(4)

شهدا على شهادة أصلٍٍ واحدٍ صار بمنزلة أصل واحد، ثم لو شهدا أيضاً على أصل آخر، صار بمنزلة أحد الأصلين شهد عن نفسه وعن أصل آخر.

قلنا: الفرعيان نصابٌ تامٌ في الشَّهادة، لأنَّه شهادة رجلين، أمَّا الأصل الواحد فهو فردٌ غير متعدِّد في نفسه، فلا يصح أن يقوم مقام نفسه ومقام صاحبه لا تحقيقاً ولا تقديراً.

«لما روِّينا» ، أي: من قول علي رضي الله عنه: «لا تجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين» .

«لأنَّ الفرع كالنائب عنه»

(5)

، لأنَّ للقاضي أن يقضي بشهادة أصل واحدٍ وفرعين عن أصل آخر، ولو كان الفرعي نائباً حقيقة لما جاز الجمع بين الأصل والخلف، كما لا يجوز الجمع بين الوضوء والتيمم

(6)

. هكذا نقل من الفوائد مولانا حميد الدين الضرير- رحمه الله.

(1)

المبسوط (16/ 137 - 138).

(2)

أخرجه: عبد الرزاق في المصنف (8/ 339)، رقم (15450)، قال الزيلعي في نصب الراية (4/ 87):«غريب» .

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 186) العناية شرح الهداية (7/ 464).

(4)

في «ج» : [إنما].

(5)

الهداية (3/ 129).

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 187)، البحر الرائق (7/ 121)، تبيين الحقائق (7/ 121).

ص: 120

وقوله: «على ما مرَّ» ، إشارة أنَّ فيها شبهة [منه إلى]

(1)

الذي ذكره قبل هذا بأوراق في فصل ما يتحمله الشَّاهد، وهو قوله:«وإنَّما تصير موجبة بالنقل إلى مجلس القضاء، فلابد من الإنابة والتحميل»

(2)

.

«ولا بد أن يشهد كما يشهد عند القاضي» ؛ أي: ولا بد أنْ يشهد الأصل عند الفرع عند التَّحميل كما يشهد/ ذلك الأصل عند القاضي بلا تفاوت، بأنْ يقول:«إني أشهد أنَّ فلانا بن فلان أقرَّ عندي بكذا» ، فاشهد أنت على شهادتي، أو معناه: لا بد أن يشهد الأصل عند الفرع عند التَّحميل كما يشهد الفرع عند القاضي.

«وإن لم يقل أشهَدَني على نفسه جاز»

(3)

؛ أي: وإن لم يقل الأصل عند الفرع أشهَدَني المقِرُّ أو المدَّعَى عليه جاز.

«لأن من سمع إقرار غيره حل له الشَّهادة، وإن لم يقل له: اشهد»

(4)

؛ أي: وإن لم يقل المقر للشاهد الأصلي: اشهد على إقراري.

«لأنَّه لا بد من شهادته» ؛ أي: من شهادة الفرع.

‌في ألفاظ شهادة الأداء

«ولها»

(5)

؛ أي: ولشهادة الأداء لفظ أطول من هذا، وهو أن [يقول]

(6)

الفرع بين يدي القاضي: أشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا من المال، وأشهدني على شهادته، فأمرني أنْ أشهد على شهادته، وأنا أشهد على شهادته بذلك الآن، فيحتاج إلى ثمان شينات، وفيما ذكر في الكتاب خمس شينات

(7)

.

وما ذكره في الكتاب اختيار شمس الأئمة الحلواني رحمه الله

(8)

.

وقوله: «وأقصر منه» ، هو أن يقول الفرع عند القاضي: أشهد على شهادة فلان بكذا جاز، وفيه شينان، ولا يحتاج إلى زيادة شيء، وهو اختيار الفقيه أبي الليث، واختيار أستاذه أبي جعفر

(9)

-رحمهما الله- وهكذا [تحكي]

(10)

فتوى شمس الأئمة السرخسـ

(1)

سقط من: «س» .

(2)

الهداية (3/ 119).

(3)

الهداية (3/ 129).

(4)

الهداية (3/ 129).

(5)

قال في الهداية (3/ 129): «ولها لفظ أطول من هذا وأقصر منه، وخير الأمور أوسطها» .

(6)

في «ج» : [يقال].

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 188)، العناية شرح الهداية (7/ 465)، درر الحكام (2/ 389).

(8)

ينظر: فتح القدير (7/ 466)، المحيط البرهاني (8/ 398).

(9)

محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر أبو جعفر الفقيه، البلخي، الهندواني-نسبة إلى محلة ببلخ يقال لها: باب هندوان-، شيخ الحنفية من يضرب به المثل، ويلقب: بأبي حنيفة الصغير، حدث ببلخ وما وراء النهر وأفتى بالمشكلات، وشرح المعضلات، وكشف الغوامض مات ببخارى سنة 362 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (16/ 131)، الجواهر المضية (2/ 68)، شذرات الذهب (3/ 41).

(10)

في «س» : [حكي].

ص: 121

وهكذا ذكر محمد رحمه الله في السير الكبير

(1)

.

وحكى أنَّ فقهاء زمن أبي جعفر كانوا يخالفون أبا جعفر في ذلك، وكانوا يشترطون زيادة [نظر]

(2)

تطويل في أداء الفرع، فأخرج الرواية من السير، فانقادوا له، فلو اعتمد أحد على هذا كان في سعدة من ذلك، وهو أسهل وأيسر. كذا في الذَّخيرة والمغني

(3)

.

«ومن قال»

(4)

، أي: لو قال الأصل: «أشهدني فلان على نفسه» ؛ أي: أشهدني المقِرُّ على إقراره، «لم يشهد السامع على شهادته»؛ أي: لا يحل للسامع أن يشهد على شهادته، «حتى يقول اشهد على شهادتي؛ لأنَّه لابد من التحميل، وهذا ظاهر عند محمد

»

(5)

إلى آخره؛ وذلك لأنَّ الشَّاهد الفرعي لا علم له بالحق؛ لكنه ينقل شهادة غيره عند محمد رحمه الله

(6)

بطريق التوكيل، حتى لو رجع الأصول دون الفروع وجب الضمان على الأصول في قول محمد رحمه الله

(7)

(8)

.

‌في رجوع الأصول والفروع عن الشهادة وضمان من يرجع

ولو رجع الأصول والفروع جميعاً يخير المشهود عليه إن شاء ضمَّن الأصول، وإن شاء ضمَّن الفروع، فلا يصير الوكيل وكيلاً عن الموكل إلا بأمره

(9)

.

وعند أبي حنيفة رحمه الله

(10)

: وإن لم يكن إلَّا شاهد توكيلاً حتى لو أشهد إنساناً على شهادته ثم منعه عن الأداء لا يصح منعه، وكان للشاهد الفرعي أن يشهد على شهادته.

ولو رجع الأصول لا يجب الضمان عليهم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- إلَّا أنَّ شهادة الأصول إنَّما تصير حجَّة بالنقل إلى مجلس القضاء، ولهذا تعتبر عدالة الأصول، فلا يكون لغيره أن يجعل كلامه حُجَّة إلا بأمره، فلا يشهد على شهادته إلا بإشهاده. كذا في الجامع الصغير لقاضي خان

(11)

.

(1)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 398)، البناية شرح الهداية (9/ 188) العناية شرح الهداية (7/ 465)، درر الحكام (2/ 389)، البحر الرائق (7/ 121).

(2)

زيادة من «ج» .

(3)

ينظر: فتح القدير (7/ 466)، البحر الرائق (7/ 121)، رد المحتار (5/ 500).

(4)

الهداية (3/ 129).

(5)

تمامها: «

لأنَّ القضاء عنده بشهادة الفروع والأصول جميعاً حتى اشتركوا في الضمان عند الرجوع». الهداية (3/ 129).

(6)

سقط من: «س» .

(7)

سقط من: «س» .

(8)

ينظر: بدائع الصنائع (6/ 287)، المحيط البرهاني (8/ 574).

(9)

ينظر: المبسوط (17/ 21)، البناية شرح الهداية (9/ 213)، المحيط البرهاني (8/ 575).

(10)

في «س» : رضي الله عنه.

(11)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 214).

ص: 122

وذكر في الفوائد الظهيرية: ومعنى اشتراكهم في الضمان أن المشهود عليه بالخيار إن شاء ضمَّن الأصول، وإن شاء ضمَّن الفروع، وليس معناه أنَّه يقضي بالنصف على الأصول وبالنصف على الفروع؛ بل هذا كالغاصب مع غاصب الغاصب [فللمغصوب]

(1)

منه أن يضمَّن أيهما شاء

(2)

.

ثم ذكر في الذَّخيرة: «فإن ضمن الفروع، فالفروع لا يرجعون على الأصول، كما في باب الغصب، لو ضمَّن المالك الغاصب الثاني لا يرجع به على الغاصب الأول، وإن ضمَّن الأصول لا يرجعون على الفروع أيضاً، بخلاف ما لو ضمَّن المالك الغاصب [الأول]

(3)

، حيث يرجع به على غاصب الغاصب.

وأبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله- قالا: الأصول مسبِّبون للتلف من وجه، [والفروع]

(4)

مباشرون للتَّلف من كل وجه»

(5)

.

«وقد عرف من أصلنا أن المباشر مع المسبِّب إذا اجتمعا وهما متعديان أنَّ الضمان على المباشر»

(6)

.

«فيظهر تحميل ما هو حجة»

(7)

، أي: يظهر بالنقل التَّحميل، لأنَّه لولا التحميل لم يوجد النقل، والنقل إلى مجلس القاضي حجَّة

(8)

.

وذكر في الفوائد الظهيرية: فقولهم في هذا الموضع: «لأنَّ الشَّهادة لا تكون حجَّة إلا في مجلس القاضي، فلا يحصل العلم للفرع بقيام الحق بمجرد شهادة الأصل مزيف؛ لأنَّ الفرع لا يسعه الشَّهادة على الشَّهادة، وإن كان الأصل شهد بالحق عند القاضي في مجلسه فلابد له من طريق آخر، وهو أنَّ الشَّهادة على الشَّهادة لا تجوز إلا بالتَّحميل والتَّوكيل.

ووجه ذلك أن الأصل له منفعة في نقل الفرع شهادته من وجه، وهو أن الشَّهادة حق مستحق على الأصل تجب عليه إقامتها، ويأثم بكتمانها متى وجد الطلب ممن له/ الحق، كما لو كان عليه دين، ومن عليه الدَّين إذا تبرع إنسانٌ بقضائه عنه يجوز، وإن لم يكن بأمره.

فباعتبار هذا لا يُشترط الأمر لصحتها، غير أنَّ فيها مضرة من حيث أنَّها جهة في بطلان ولايته في تنفيذ قوله على المشهود عليه، وإبطال ولايته بدون أمره مضرة في حقه.

فباعتبار هذا يُشترط الأمر، وصار هذا كمن له ولاية في [إنكاح]

(9)

الصغيرة إذا نكحها أجنبي بغير أمره لا يجوز؛ لما فيه من إبطال الولاية عليه»

(10)

.

(1)

في «ج» : [وللمغصوب].

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 189).

(3)

سقط من: «س» .

(4)

في «ج» : [الفروع].

(5)

المحيط البرهاني (8/ 575).

(6)

المحيط البرهاني (8/ 575).

(7)

الهداية (3/ 129).

(8)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 189).

(9)

في «ج» : [نكاح].

(10)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 468)، وانظر: المحيط البرهاني (8/ 396).

ص: 123

‌في شهادة الفروع عند عجز الأصول

«حتى أدير عليها»

(1)

؛ أي: على مدة السَّفر عدة من الأحكام، نحو قصر الصلاة، والفطر في الصَّوم، وامتداد مسح الخف إلى ثلاثة أيام، وعدم وجوب تكبيرات التشريق على قول أبي حنيفة رحمه الله

(2)

، والأضحية، والجمعة، وحرمة خروج المرأة من غير محرَمٍ أو زوج

(3)

.

«والأول أحسن» ؛ أي: تقدير ثلاثة أيام.

«أحسن» ؛ لأنَّ العجز شرعاً يتحقق بها كما في سائر الأحكام التي عددناها أثر فيها السفر [وكان]

(4)

القول به موافقاً لحكم الشرع؛ فكان أحسن

(5)

.

«وبه» ؛ أي: وبالثاني.

وهو ما قاله أبو يوسف رحمه الله: «أنَّه لو كان في مكان لو غدا لأداء الشَّهادة لا يستطيع أن يبيت مع أهله صح الإشهاد»

(6)

.

وذكر في الذَّخيرة

(7)

بعد ذكر قول أبي يوسف رحمه الله

(8)

: «وكثير من المشايخ أخذوا بهذه الرواية، ثم قال: وروي عن محمد رحمه الله أنَّ الشَّهادة على الشَّهادة تجوز كيف ما كان، حتى روي عنه: إذا كان الأصل في زاوية المسجد، فشهد الفرع على شهادته في زاوية أخرى من ذلك المسجد تقبل شهادتهم.

وذكر شمس الأئمة السرخسي، والقاضي الإمام علي السُّغُدي

(9)

في شرح أدب القاضي للخصَّاف رحمهم الله: إذا شهد الفروع على شهادة الأصول، والأصول في المصر يجب أنْ تجوز على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تجوز بناءً، على أنَّ التوكيل بغير رضا الخصم لا تجوز، وعندهما يجوز.

(1)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 129 - 130): «ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن يموت شهود الأصل، أو يغيبوا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا، أو يمرضوا مرضا لا يستطيعون معه حضور مجلس الحاكم؛ لأن جوازها للحاجة، وإنما تمس عند عجز الأصل وبهذه الأشياء يتحقق العجز، وإنما اعتبرنا السفر؛ لأنَّ المعجز بُعد المسافة ومدة السفر بعيدة حكماً حتى أدير عليها عدة من الأحكام، فكذا سبيل هذا الحكم، وعن أبي يوسف/ أنَّه إن كان في مكان لو غدا لأداء الشهادة لا يستطيع أن يبيت في أهله صح الإشهاد إحياء لحقوق الناس، قالوا: الأول أحسن والثاني أرفق وبه أخذ الفقيه أبو الليث» .

(2)

في «س» : [رضى الله عنه].

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 468)، الجوهرة النيرة (1/ 85).

(4)

في «س» : [فكان].

(5)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 468 - 469).

(6)

الهداية (3/ 130).

(7)

المحيط البرهاني (8/ 393).

(8)

سقط من: «ج» .

(9)

علي بن الحسين بن محمد السغدي، القاضي، أبو الحسين، شيخ الإسلام-والسُّغد ناحية كثيرة المياه والأشجار من نواحي سمرقند-سكن بخارى، وكان إماماً، فاضلاً، فقيهاً، مناظراً، ولي القضاء، وتصدر للإفتاء، روى عنه شمس الأئمة السَّرخسي السير الكبير، من تصانيفه:«النتف في الفتاوي» ، و «شرح السير الكبير» ، توفي ببخارى سنة 461 هـ.

ينظر: الفوائد البهية (4/ 279)، الجواهر المضية (1/ 361)، الأعلام (4/ 279)، معجم المؤلفين (7/ 79).

ص: 124

ووجه البناء وهو أنَّ عند أبي حنيفة رحمه الله لما لم يملك المدَّعَى عليه إنابة غيره مناب نفسه للجواب إلا بعذر، فكذا لا يملك الأصل إنابة غيره مناب نفسه في الشَّهادة إلا بعذر، والجامع أن استحقاق الجواب على المدَّعَى عليه كاستحقاق الحضور على الشُّهود، وعندهما: لما ملك المدَّعَى عليه إنابة غيره مناب نفسه في الجواب من غير عذر، فكذا يملك الأصل إقامة الفرع مقام نفسه في أداء الشَّهادة من غير عذر».

‌في تعديل شهود الأصل لشهود الفرع

«فإن عدَّل شهود الأصل»

(1)

بنصب شهود على المفعوليَّة؛ أي: عدَّل الفروع الأصولَ فهو جايز.

وحاصله أنَّ الفرعين إذا شهدا على شهادة أصلين إن كان القاضي يعرف الأصول والفروع بالعدالة قضى بشهادتهم، وإن عرف الأصول بالعدالة ولم يعرف الفروع يسأل عن الفروع، وإن عرف الفروع بالعدالة ولم يعرف الأصول.

ذكر الخصَّاف رحمه الله أن القاضي يسأل الفروع عن أصولهم ولا يقضي قبل السؤال، فإن عدَّلا الأصول ثبتت عدالة الأصول بشهادتهما في ظاهر الرواية

(2)

.

وعن محمد رحمه الله أنَّه لا تثبت عدالة الأصول بتعديل الفروع، والصحيح ظاهر الرواية

(3)

.

وإن قال الفرعان: لا نخبرك، لا يقبل القاضي شهادتهما.

وعن أبي يوسف رحمه الله

(4)

إذا قال الفرعان: لا نخبرك، يسأل غير الفرعين عن الأصول، ولو قال الفرعان: لا نعرف الأصل أعدل أم لا، قال الشيخ أبو الحسن علي السُّغدي: هذا وقول الفروع لا نخبرك سواء.

وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله إذا قالا: [لا]

(5)

نعرفه أعدلٌ أم لا، لا يرد القاضي شهادتهما، ويسأل عن الأصول غيرهما، وهو الصحيح؛ لأن شاهد الأصل بقي مستوراً.

وأمَّا إذا شهد شاهدان عند القاضي بشيء والقاضي يعرف عدالة أحدهما ولا يعرف عدالة الآخر فعدَّله هذا العدل اختلف المشايخ فيه.

قال بعضهم: يصح تعديله، كما لو عدله رجل آخر، وقال بعضهم: لا يصح تعديله، لأنَّه يريد تنفيذ شهادة نفسه بهذا التَّعديل، فكان متهماً، فلا يصح تعديله. كذا في الجامع الصغير لقاضي خان وفتاواه

(6)

.

وقوله: «غاية [الأمر]

(7)

»

(8)

؛ أي: غاية ما يرد فيه من أمر الشبهة أن يقال: ينبغي أن لا يصح تعديله؛ لأنَّه متهم بسبب أنَّ في تعديله منفعة له من حيث تنفيذ القاضي

(9)

.

(1)

الهداية (3/ 130).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 191)، العناية شرح الهداية (7/ 469).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 191).

(4)

سقط من «ج» .

(5)

سقط من «ج» .

(6)

ينظر: فتاوى قاضي خان (2/ 278)، فتح القدير (7/ 469)، البحر الرائق (7/ 122).

(7)

سقط من: «س» .

(8)

الهداية (3/ 130).

(9)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 470)، البحر الرائق (7/ 122).

ص: 125

قوله: «على موجب ما يشهد [به]»

(1)

، قلنا: العدل لا يتهم بمثل ما ذكرت من التُّهمة، فإنَّ مثل هذه التُّهمة بانت في شهادة نفسه، فإنَّه يُحتمل أن يقال في شهادة نفسه: أنَّه إنَّما شهد فيما شهد ليصير هو مقبول القول فيما بين الناس عند تنفيذ القاضي

(2)

.

قوله: «على موجب ما شهد به»

(3)

، وإن لم يكن له شهادة فيه في الحقيقة، ومع ذلك لا يقال مثل هذه التهمة في حق العدل، فإنَّا لو اعتبرنا مثل هذه التُّهم لانسد/ باب الشَّهادة وهو مفتوح [في نفسه]

(4)

، وهذا معنى قوله:«كما لا يتهم في شهادة نفسه»

(5)

.

وقوله: «وأن قوله مقبول في نفسه»

(6)

، وإن [ردت]

(7)

شهادة صاحبه فلا تهمة»

(8)

، أي: لا تهمة في الذي لم ترد شهادته برد الآخر؛ لكنه لم يقبل قوله لعدم نصاب الشَّهادة، لا [لخلل]

(9)

في عدالته.

‌إذا سكت شهود الفرع عن تعديل شهود الأصل

«وإن سكتوا عن تعديلهم» ؛ أي: وإن سكت الفُروع عن تعديل الأصول. «جاز» ؛ أي: جاز نقل شهادة الأصول.

«ونظر القاضي في حالهم»

(10)

؛ أي: يسأل القاضي غير الفروع من المزكِّيين عن حال الأصول بأنَّهم عدول أم لا.

«فإذا لم يعرفوها» ؛ أي: إذا لم يعرف الفروع عدالة الأصول

(11)

.

«وإن أنكر شهود [الأصل]

(12)

الشَّهادة لم تقبل شهادة شهود الفروع»

(13)

.

‌في رد شهادة الفروع بإنكار شهادة الأصول للشهادة

وحاصله أنَّ الفروع إذا رجعوا وحدهم وجب عليهم الضمان، وهذا ظاهرٌ، وإن رجع الأصول وحدهم فلا ضمان عليهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- لأنَّهم مسبِّبون لا مباشرون على ما ذكرنا.

وهذا الذي ذكرنا إذا قال الأصول: كنا أشهدناكما بباطل، وأمَّا إذا قالوا: لم نشهدهم أصلاً فلا ضمان على الأصول بلا خلاف؛ لأنَّه لم يوجد منهم الرجوع لمَّا أنكروا الإشهاد أصلا

(14)

.

وقوله: «للتعارض بين الخبرين»

(15)

؛ أي: بين خبر الفروع وخبر الأصول؛ لأنَّ الأصول ينكرون التَّحميل.

(1)

سقط من: «ج» .

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 470).

(3)

لم أقف عليه في الهداية.

(4)

سقط من: «س» .

(5)

الهداية (3/ 130).

(6)

قال في الهداية (3/ 130): «وأن قوله في حق نفسه» .

(7)

في «ج» : [أدت].

(8)

الهداية (3/ 130).

(9)

في «ج» : [بخلل].

(10)

الهداية (3/ 130).

(11)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 191).

(12)

في «ج» : [الأصول].

(13)

الهداية (3/ 130).

(14)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 576).

(15)

الهداية (3/ 130).

ص: 126

«وهو شرط» ؛ أي: التَّحميل شرط صحة شهادة الفروع

(1)

.

وبإنكار الأصول لا يثبت التَّحميل، فلما لم يوجد الشَّرط وهو التحميل؛ لم يوجد المشروط وهو صحة أداء شهادة الفروع؛ فلا تقبل شهادة الفروع لذلك.

«وإذا شهد رجلان على شهادة رجلين» ؛ أي: الفرعان شهدا عن أصلين.

«وقالا: أخبرانا» ؛ أي: وقال الفرعان: أخبرنا الأصلان «أنَّهما يعرفانها» ؛ أي: أن الأصلين يعرفان تلك المرأة المشهود عليها، «فجاء بامرأة»؛ أي: فجاء المدَّعى بامرأة، «وقالا»؛ أي: الفرعان. «لا ندري أهي هذه أملا»

(2)

؛ أي: لا ندري أن المعَرَّفَةَ بالنسبة فهي هذه الحاضرة أم لا، نظير هذا إذا تحملوا الشَّهادة ببيع محدود بذكر حدودها، وشهدوا على المشتري

(3)

.

«لا بد من آخرين

»

(4)

إلى آخره؛ يعني: إذا أنكر الخصم أن تكون حدود ما في يده ذلك، يحتاج المدَّعى إلى أنْ يأتي بشاهدين آخرين أن «حدود ما في يده ذلك» .

وذكر الإمام التمرتاشي رحمه الله: وصار كرجلٍ ادَّعى محدوداً في يد رجلٍ، وشهد له شهوده أن هذا المحدود المذكور بهذه الحدود ملكه، وفي يد المدَّعَى عليه بغير حق، فقال المدعى عليه: الذي في يدي غير محدود بهذه الحدود التي ذكر الشُّهود، يقال للمدَّعِي: هات شاهدين أن الذي في يده محدود بهذه الحدود

(5)

.

ثم فائدة كون المحدود في يد المشتري حالة الدَّعوى تظهر إذا ادَّعى الشفيع أن فلاناً باع والمحدود في يد المشتري ولي حق الشفعة.

وأمَّا لو كان المدَّعى هو البائع يطالب المشتري بالثمن، فلا حاجة إلى كون المبيع في يد المشتري؛ لأن للبائع ولاية مطالبة الثمن من المشتري، سواءٌ كان في يد البائع أو في يد المشتري.

‌في كتاب القاضي إلى القاضي

وكذلك «كتاب القاضي إلى القاضي»

(6)

، يريد به أنَّ القاضي الكاتب يكتب في كتابه إلى القاضي الآخر شاهدان شهدا عندي أنَّ لفلان بن فلان الفلاني على فلانة بنت فلان الفلانية كذا، فاقضي عليها أنت بذلك، وأحضر المدَّعِى فلانةً في مجلس القاضي المكتوب إليه، ودفع الكتاب إليه، يقول له القاضي: هات شاهدين أنَّ التي أحضرتها تلك الفلانة المذكورة في هذا الكتاب؛ ليمكن الإشارة إليها في القضاء. كذا ذكره الإمام التمرتاشي

(7)

.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 192).

(2)

الهداية (3/ 130).

(3)

ينظر: البحر الرائق (7/ 123).

(4)

«

يشهدان على أنَّ المحدود بها في يد المدعى عليه». الهداية (3/ 130).

(5)

فتح القدير (7/ 472).

(6)

الهداية (3/ 130).

(7)

ينظر: فتح القدير (7/ 473)، البناية شرح الهداية (9/ 193).

ص: 127

«إلا أن القاضي بكمال ديانته»

(1)

، هذا جواب إشكال مقدر، وهو أن يقال: إنَّ القاضي الكاتب بمنزلة الشَّاهد الفرعي، لأنَّه سمع الشَّهادة من الشَّاهدين، ونقل شهادتهما بالكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، فصار كأنَّه حضر بنفسه مجلس القاضي المكتوب إليه.

وهناك يُشترط الاثنان، فكذلك ينبغي أن يُشترط في القاضي الكاتب أن يكون اثنين والجواب

(2)

ما ذكره في الكتاب

(3)

.

[مطلب مهم في التعريف والنسبة]

(4)

«ولو قالوا في هذين البابين»

(5)

؛ أي: باب الشَّهادة على الشَّهادة، وباب كتاب القاضي إلى القاضي.

«حتى ينسبونها إلى فخذها، وهي القبيلة الخاصَّة»

(6)

، وجعل الفخذ من الخاصَّة التي لا خاصة دونها موافق لرواية الصِّحاح، حيث جعل الفخذ آخر القبائل الست، فقال: أولها الشَّعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العِمارة، ثم البطن، ثم الفخذ

(7)

.

وأمَّا على اختيار صاحب الكشَّاف وغيره، كون الفخذ أخص بالنسبة إلى ما فوقها حيث قال في الكشاف في قوله تعالى:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}

(8)

، الشعب: الطبقة الأولى من الطبقات السِّت التي عليها العرب، وهي الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، [والشعب]

(9)

تجمع القبائل، والقبائل/ تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، وسميت الشعب؛ لأنَّ القبائل [تتشعب]

(10)

منها

(11)

.

ثم اعلم أن الشَعب بفتح الشين، والعِمارة بكسر العين، كذا في الديوان

(12)

.

«لأنَّه اسم الجد الأعلى فنزل منزلة الجد الأدنى»

(13)

؛ أي: لأنَّ الفخذ اسم الجد الأعلى في القبيلة الخاصة، فصار بمنزلة الجد الأدنى في النسبة، وهو أبو الأب

(14)

. والله أعلم.

(1)

«

ووفور ولايته ينفرد بالنقل». الهداية (3/ 130).

(2)

قال في الهداية (3/ 130): «إلا أن القاضي لكمال ديانته ووفور ولايته ينفرد بالنقل» .

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 193).

(4)

زيادة من هامش نسخة «ج» .

(5)

«

التميمية، لم يجز حتى ينسبوها». الهداية (3/ 130).

(6)

الهداية (3/ 130).

(7)

الصحاح للجوهري (1/ 155)، مادة «شعب» .

(8)

سورة الحجرات: آية 13.

(9)

سقط من «س» .

(10)

في «س» : [تشعبت].

(11)

الكشاف للزمخشري (4/ 374 - 375).

(12)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 194)، العناية شرح الهداية (7/ 473)، البحر الرائق (7/ 124).

(13)

تتمتها في الهداية (3/ 130): «ثم التعريف وإن كان يتم بذكر الجد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافاً لأبي يوسف/ على ظاهر الروايات، فذكر الفخذ يقوم مقام الجد؛ لأنَّه اسم الجد الأعلى، فنزل منزلة الجد الأدنى، والله أعلم» .

(14)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 474).

ص: 128

‌فصل في أحكام ومسائل تتعلق بشاهد الزور

ذكر شهادة شاهد الزُّور في فصل على حدة؛ لأنَّ لها أحكاما مخصوصة؛ وأخَّرها لأنَّ الأصل هو الصدق

(1)

.

«اعلم أنَّ شاهد الزُّور عندنا هو المقِرُّ على نفسه بذلك، لأنَّه لا يتمكن تهمة الكذب في إقراره على نفسه، فلا طريق لإثبات ذلك بالبيِّنة عليه؛ لأنَّه نفي لشهادته، والبيِّنة حجة [للإثبات]

(2)

دون النفي.

فكذلك من رُدَّت شهادته للتهمة، أو للدفع عن نفسه، أو بالاختلاف في الشَّهادة، أو بتكذيب الذي شهد له، فإنَّه لا يكون شاهد الزُّور فيما ذكر من الحكم، لأني لا أدري أيهما الصَّادق المشهود له أو الشَّاهد، فلعل المشهود له أراد بالشَّاهد العقوبة والتهمة، وقصَّر في دعواه عما يشهد به شاهده.

وكذلك من رُدَّت شهادته للتهمة فلعله صادق في شهادته.

وكذا إذا اختلف الشَّاهدان في الشَّهادة، ولا يعرف الكاذب منهما، فلهذا لا يعذر واحد من هؤلاء الرجال والنِّساء.

وأهل الذِّمة في شهادة الزُّور سواءٌ؛ لقيام الأهليَّة في حقهم جميعاً فيما يتعلق به شهادة الزُّور». كذا في المبسوط

(3)

.

وذكر شيخ الإسلام [رحمة الله عليه]

(4)

: أنَّ شاهد الزُّور الذي يشهد ويُعزَّر أن يقرَّ على نفسه بالكذب متعمداً، فيقول: كذبت فيما شهدت متعمداً، أو شهد بقتل رجل ثم يجيء [هو]

(5)

المشهود بقتله حياً، حتى يثبت كذبه بيقين، فأمَّا إذا قال غلطت، أو اخطأت، أو رُدَّت شهادته لتهمة، أو لمخالفة بين الدَّعوى والشَّهادة لا يعزَّر أصلا

(6)

.

‌في رجوع شاهد الزور عن شهادته

. «وقال الحاكم الإمام أبو محمد الكاتب

(7)

رحمه الله: وهذه المسألة على ثلاثة أوجه: إنْ رجع على سبيل التوبة والندامة لا يعزَّر من غير خلاف، وإن رجع على سبيل الإضرار يعزَّر بالضَّرب من غير خلاف، وإن كان لا يعلم فعلى الاختلاف الذي قلنا.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 196).

(2)

في «س» : [الإثبات].

(3)

المبسوط (16/ 145).

(4)

في «س» : [رحمه الله].

(5)

سقط من: «ج» .

(6)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 457)، تبيين الحقائق (4/ 242).

(7)

عبد الرّحمن بن محمَّد بن محمَّد بن محمَّد بن عُزَيْز بن محمَّد بن يزيد بن محمَّد، أبو سعد، الحاكم، الإمام، الكاتب، النيسابوري، الفقيه الحنفي، ابن دُوْسَت -لقب جدِّه محمَّد بن عزيز-، تفقه على أبي بكر محمد بن الفضل الكماري، كان أحد الأعيان الأئمة بخراسان في العربية سمع الدواوين وحصلها، وصنف التصانيف المفيدة، وأقرأ الناس الأدب والنحو، وكان زاهداً عارفاً ورعاً، وكان أصماً لا يسمع، توفي سنة 431 هـ.

ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 509)، الجواهر المضية (1/ 308)، فوات الوفيات (2/ 297)، الأعلام (3/ 326).

ص: 129

ثم قال: إن هذا الشَّاهد إن تاب فشهد بعد هذا في حادثة، هل تقبل شهادته بعد ذلك؟ فهو على وجهين: إنْ كان فاسقاً تقبل شهادته؛ لأنَّ الذي حمله على الشَّهادة الباطلة فسقه؛ فإذا تاب وظهرت توبته فقد زال فسقه، فتقبل شهادته؛ ولم يبين في الكتاب مدة ظهور التوبة، فعند بعض مشايخنا هي مقدرة بستة أشهر، وعند بعضهم مقدرة بسنة، قالوا: والصحيح أنَّه يفوض [إلى رأي]

(1)

القاضي.

وإن كان مستوراً لا تقبل شهادته أبداً، وكذلك إن كان عدلاً فشهد بزور، ثم تاب على رواية بشر، عن أبي يوسف لا تقبل شهادته أصلا؛ لأنَّه لا يدرى منه الذي حمله على الشَّهادة الباطلة، فكان الحال قبل التَّوبة وبعدها سواءٌ، فلا تقبل أبداً.

وروى الفقيه أبو جعفر، عن أبي يوسف -رحمهما الله- أنَّه تقبل، قالوا: والفتوى على هذا. كذا ذكره الإمام المحبوبي/»

(2)

.

«وسخَّم وجهه»

(3)

، أي: سوَّد، من السِّخام: وهو سواد القدر، وأمَّا بالحاء المهملة من الاسحم الأسود، فقد جاء. كذا في المغرب

(4)

.

وذكر في المغني: وقوله: ولا يسخَّم وجهه، يروى هذا اللفظ بالخاء والحاء جميعاً

(5)

.

‌في عقوبة شاهد الزور

فإن قلت: كيف يتمسكان بفعل «عمر رضي الله عنه أنَّه ضرب شاهد الزُّور أربعين صوتا وسخَّم»

(6)

، وهما لا يقولان بهذين الحكمين.

أمَّا التسخيم فغير مشروع بالإجماع، وأمَّا تبليغ التعزير إلى أربعين فمحمد لا يقول به، وكذا أبو يوسف في قوله الأول. ذكره في المغني

(7)

.

قلت: يُثبتان بهذا ما نفاه أبو حنيفة رحمه الله

(8)

، وهو التعزير بالضَّرب، فعلم بهذا الأثر أنَّ أصل الضرب مشروعٌ، وما زاد على أصل الضرب كان محمولاً على السِّياسة، فجاز أن يشتمل النَّص على حكمين، ثم يقوم دليل النسخ في أحدهما دون الآخر.

(1)

في «ج» : [الحد إلى].

(2)

البناية شرح الهداية (9/ 198).

(3)

قال في الهداية (3/ 131): «لهما ما روي عن عمر رضي الله عنه، أنَّه ضرب شاهد الزور أربعين سوطاً وسخم وجهه» .

(4)

المغرب (1/ 221).

(5)

ينظر: درر الحكام (2/ 391)، تبيين الحقائق (4/ 241)، البحر الرائق (7/ 126).

(6)

الهداية (3/ 131).

والأثر أخرجه: عبد الرزاق في المصنف (8/ 326)، رقم (15392)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/ 526)، رقم (28643)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 141)، رقم (20997)، وقال:«رواياته ضعيفة منقطعة، والموصولة في كل واحدة منها من لا يحتج به» .

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 197).

(8)

في «س» : [رضى الله عنه].

ص: 130

وذكر في المبسوط

(1)

في تعليلهما: «أن شاهد الزُّور يُضرب أربعين صوتاً، ويسخِّم وجهه، ويطاف به، إلَّا أنَّ الدليل قد قام على انتساخ حكم التسخيم للوجه؛ فإن ذلك مُثلَةٌ،: «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

عن المثلة ولو بالكلب العقور»

(3)

.

فبقي حكم التعزير والتَّشهير بأنْ يطاف به، ثُمَّ التشهير لإعلام النَّاس؛ حتى لا يعتمدوا شهادته بعد ذلك، والتعزير لارتكابه كبيرة.

فشهادة الزُّور من أعظم الكبائر، فإنَّها عُدِّلَت بالشِّرك بالله تعالى، قال الله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}

(4)

/، فيه إشارة إلى عِظم حرمة المسلم، حيث جعل الله [تعالى]

(5)

الشَّهادة عليه بالزُّور كالشَّهادة على نفسه بالزُّور، وإذا ثبت أنَّه مرتكب للكبيرة قلنا: يعزر على ذلك»

(6)

.

وله أنَّ شريحاً/ كان يُشَهِّر ولا يضرب

(7)

.

فإن قيل: أليس أنَّ أبا حنيفة رحمه الله لا يرى تقليد التابعين، حتى روي عنه أنَّه قال: لا تقلدهم هم رجال اجتهدوا ونحن رجال [نجتهد]

(8)

.

وقال مشايخنا المتأخرون: إنَّما ذكر أبو حنيفة/ أقاويل التَّابعين في كتبه لبيان أنَّه لم يستبد بهذا القول؛ بل سبقه غيره، وقاله متبعاً لا مخترعاً

(9)

.

قلنا: ذكر في النوادر عن أبي حنيفة: من كان من أئمة التابعين، وأفتى في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وزاحمهم في الفتوى، وسوغوا له الاجتهاد؛ فأنا أقلده، مثل شريح، والحسن

(10)

، ومسروق

(11)

، وعلقمة

(12)

رحمهم الله.

(1)

المبسوط (16/ 145).

(2)

في «س» : [عليه السلام].

(3)

أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير (1/ 97)، رقم (168)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 249):«رواه الطبراني وإسناده منقطع» .

(4)

سورة الحج: آية 30.

(5)

زيادة من: «س» .

(6)

المبسوط (16/ 245).

(7)

ينظر: المبسوط (16/ 145).

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/ 550)، رقم (23044)، وعزاه الزيلعي في نصب الراية (4/ 88) لمحمد بن الحسن في كتاب الآثار.

(8)

في «ج» : [نجتهدوا].

(9)

ينظر: حاشية ابن عابدين (7/ 238).

(10)

الحسن البصري: هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، أبوه يسار كان مولى زيد بن ثابت الأنصاري، وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، تابعي وإمام أهل البصرة وحَبر الأمة في زمنه، وحيثما أُطلق اسم الحسن بلا قيد عُرف أن المراد منه في كتب الشرع والعلم الحسن البصري، كان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم لا يخاف في الحق لومة لائم، توفي/ بالبصرة سنة 110 هـ.

ترجمته في: وفيات الأعيان (2/ 69)، سير أعلام النبلاء (4/ 563)، الوافي بالوفيات (12/ 190)، الأعلام (2/ 226).

(11)

هو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني، ثم الوادعي، أبو عائشة، من أهل اليمن، الإمام، العلم، اتفقوا على جلالته، وتوثيقه، وفضيلته، وإمامته، قدم المدينة في أيام أبي بكر رضي الله عنه، وسكن الكوفة، روى عن: أبي بكر، وعمر، وعائشة، ومعاذ، وابن مسعود رضي الله عنهم، روي عنه: الشعبي، والنخعي، وأبو الضحي وغيرهم، قال الشعبي: ما رأيت أطلب للعلم منه، وكان أعلم بالفتوي من شريح، وشريح أبصر منه بالقضاء، توفي سنة 63 هـ، وقيل: 62 هـ. ينظر: تهذيب الأسماء واللغات (2/ 88)، تهذيب الكمال (27/ 452)، سير أعلام النبلاء (4/ 63).

(12)

هو علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي، أبو شبل، من أهل الكوفة، تابعي، ورد المدائن في صحبة علي، وشهد معه حرب الخوارج بالنهروان، كما شهد معه صفين، روى عن: عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وتفقه به، وهو أحد أصحابه الستة، كان علقمة فقيهاً، إماماً، بارعاً، طيب الصوت بالقرآن، ثبتاً فيما ينقل، صاحب خير وورع، بلغ من علمه أن أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألونه ويستفتونه، توفي رحمه الله سنة 61 هـ.

ينظر: تاريخ بغداد (14/ 240)، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 342)، سير أعلام النبلاء (4/ 53).

ص: 131

وعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى جواب

(1)

.

وعلى ظاهر الرواية قالوا: لم يذكر قوله محتجاً به؛ بل محتجاً بتجويز الصحابة فعله، فإنَّ قضاه وتشهيره كان بمحضر من عمر وعلى رضي الله عنهما؛ فإنَّه كان قاضياً في عصرهما، فما يشتهر من قضاياه كالمروي عنهما، [فكان]

(2)

هذا في الحقيقة احتجاجاً بقولهما، وأبو حنيفة رضي الله عنه يرى تقليد كل من كان من الصحابة. كذا في الجامع الصغير للإمام المحبوبي

(3)

.

«وحديث عمر رضي الله عنه محمول على السياسة، بدلالة التبليغ إلى الأربعين»

(4)

؛ أي: لو كان ذلك بطريق التَّعزير لنقص عن الأربعين، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين»

(5)

.

وكذلك التسخيم، وقد ذكرناه، فتأويله عند شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنَّه قال ذلك بطريق السِّياسة إذا رأى الإمام المصلحة فيه.

وتأويله عند شيخ الإسلام رحمه الله أنَّه لم يرد به حقيقة التَّسويد، إنما أراد به التَّخجيل [بالتفضيح]

(6)

والتَّشهير؛ فإنَّ الخجل يسمى مُسوَداً، قال الله تعالى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا}

(7)

. وكذلك في المغني

(8)

.

وقوله: «وفي الجامع الصغير» ، إلى قوله:«وفائدته» ؛ أي: وفايدة وضع الجامع الصغير بقوله: «شاهدان أقرا أنَّهما شهدا بزور»

(9)

بما ذكره من الفائدة، وهو أن شاهد الزُّور إنما يعرف أن شهادته كانت زوراً أو كذباً بإقراره لا غير، ولا يعرف ذلك بالبيِّنة، ولا بتكذيب المدَّعى، ولا بمخالفة الدَّعوى.

وذكر في المغني: قال صاحب الأقضية: وشاهد الزُّور عندنا المقِرُّ على نفسه بذلك، فيقول كذبت فيما شهدت متعمداً، أو يشهد بقتل رجل، أو بموته فيجيء المشهود بقتله أو موته حياً.

وأمَّا فيما إذا اختلف الشَّاهد في الموطن الذي شهد بالفِعل فيه، أو اختلفا في الفعل نفسه، أو في الإقرار والإنشاء.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 198)، المحيط البرهاني (8/ 10).

(2)

في «ج» : [وكان].

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 198).

(4)

الهداية (3/ 131).

(5)

أخرجه: أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 327)، رقم (18040)، والطبراني في المعجم الكبير (21/ 153)، رقم (197)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (10/ 72)، رقم (4568)

(6)

في «ج» : [والتفضيح].

(7)

سورة النحل: آية 58.

(8)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 457)، رد المحتار (7/ 238).

(9)

الهداية (3/ 131).

ص: 132

قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تعزير عليه، وإنْ كان أحدهما كاذباً لا محالة؛ لأنَّه لا يعرف الصَّادق من الكاذب، ولا تجوز العقوبة مع الاحتمال، والله أعلم بالصواب

(1)

.

* * *

[باب]

(2)

الرجوع عن الشَّهادة

.

تناسب الكتابين ظاهر؛ إذ الرجوع عن الشَّهادة يقتضي سبق الشَّهادة لا محالة، ولهذا الكتاب مناسبة خاصة بشهادة الزُّور؛ إذ الرجوع من الشَّهادة من أسباب شهادة الزُّور

(3)

.

«اعلم أن أداء الشَّهادة للحق مأمور به شرعاً، قال الله تعالى:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}

(4)

، والأمر للوجوب، وقال [تعالى]

(5)

: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

(6)

، واستحقاق الوعيد بترك الواجب، وقال صلى الله عليه وسلم «كاتم الشَّهادة بالحق كشاهد الزُّور»

(7)

[وشهادة]

(8)

الزُّور من الكبائر

(9)

.

وفي حديث سعيد بن المسيب، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم

(10)

قال: «الشَّاهد بالزُّور لا يرفع قدميه من مكانهما حتى تلعنه ملائكة السماوات والأرض»

(11)

.

فيحق على كل مسلم الاجتناب عنها بجهده، والتَّوبة عنها متى وقع فيها خطأ أو عمداً، وذلك بأن يرجع عن الشَّهادة في مجلس القضاء.

(1)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 457).

(2)

في «س» : [كتاب].

(3)

ينظر: حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (4/ 342) ..

(4)

سورة الطلاق: آية 2.

(5)

سقط من: «ج» .

(6)

سورة البقرة: آية 283.

(7)

لم أقف عليه مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وقريب منه من كلام عائشة، ما روي عن أبي سعيد الرقاشي، قال: دخلت على عائشة، فقالت: ما بال أبي الحسن يقتل أصحابه القراء؟ قال: قلت: يا أم المؤمنين إنا وجدنا في القتلى ذا الثدية، قال: فشهقت، أو تنفست، ثم قالت: كاتم الشهادة مع شاهد الزور، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«يقتل هذه العصابة خير أمتي» .

أخرجه: ابن أبي عاصم في كتاب السنة (2/ 599)، رقم (1327)، والطبراني في المعجم الأوسط (7/ 210)، رقم (7295).

(8)

في «ج» : [بشهادة].

(9)

ينظر: المبسوط (16/ 177).

(10)

في «س» : [عليه السلام].

(11)

لم أقف عليه. وقريب منه حديث منكر ذكره الألباني في السلسلة الضعيفة (3/ 417): «إن الطير لتضرب بمناقيرها على الأرض وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة، وما يتكلم شاهد الزور ولا تفارق قدماه على الأرض حتى يقذف به إلى النار» .

ص: 133

ولا يمنعه الاستحياء من النَّاس وخوف اللائمة من إظهار الرجوع في مجلس القضاء، فلأنْ يراقب الله تعالى خير له من أن يراقب الناس، ورجوعه صحيح [مقبول]

(1)

في حقه، وإن كان مردوداً فيما يرجع إلى حق غيره». كذا في المبسوط

(2)

.

‌في ركن الرجوع عن الشهادة، وشرطه، وحكمه

.

ثم اعلم أنَّ للرجوع عن الشَّهادة ركناً، وشرطاً، وحكماً:

أمَّا ركنه: فقول الشَّاهد بعدما شهد: رجعت عما شهدت به، أو يقول: شهدت بزور فيما شهدت.

وأمَّا شرطه: فمجلس القاضي، حتى لا يصح الرجوع في غير مجلس القاضي.

وثمرته تظهر فيما إذا ادَّعى المشهود عليه عند القاضي رجوع الشَّاهد في غير مجلس القاضي، وأنكر الشَّاهد ذلك، فأراد المشهود عليه إثباته بالبيِّنة، أو أراد استحلاف الشَّاهد/ ليس له ذلك.

وإذا أقرَّ الشَّاهد عند القاضي أنَّه رجع عند غيره صح إقراره، وطريق صحته أنْ يجعل هذا رجوعاً مبتدأ من الشَّاهد، لا أنْ يعتبر ذلك الرجوع الذي كان في غير مجلس القاضي.

وأمَّا حكمه: فرجوع الشَّاهد إن كان قبل القضاء يصح في حق نفسه وفي حق غيره، حتى يجب على الشَّاهد التعزير، ولا يقضي القاضي بشهادته على المشهود عليه.

وإن كان بعد القضاء كان أبو حنيفة رحمه الله أولا يقول: يُنظر في حال الراجع إنْ كان حاله عند الرجوع أفضل من حاله وقت الشَّهادة في العدالة صح [الرجوع]

(3)

في حق نفسه، وفي حق غيره، حتى وجب عليه التعزير، وينقض القضاء، ويرد المال على المشهود عليه.

وإنْ كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند الشَّهادة في العدالة، أو دونه يجب عليه التعزير؛ ولكن لا ينقض القضاء، ولا يجب الضمان على الشَّاهد، وهو قول أستاذه حماد -رحمهما الله.

ثم رجع عن هذا وقال: لا يصح رجوعه في حق غيره على كل حال حتى لا ينقض القضاء، ولا يرد المشهود به على المشهود عليه، وهو قول أبي يوسف ومحمد [رحمهما الله]

(4)

(5)

. كذا في المغني

(6)

.

قوله رحمه الله: «سقطت»

(7)

؛ أي: سقطت الشَّهادة عن الإلزام على القاضي بالحكم؛ لأنَّ بالشَّهادة يجب القضاء على القاضي.

(1)

في «س» : [مقبوض].

(2)

المبسوط (16/ 177).

(3)

في «س» : [رجوعه].

(4)

سقط من: «س» .

(5)

المحيط البرهاني (8/ 539).

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 201)، تبيين الحقائق (4/ 243)، حاشية رد المحتار (7/ 240)، مجمع الأنهر (3/ 298).

(7)

تمام المسألة: «إذا رجع الشًّهود عن شهادتهم قبل الحكم بها سقطت» . الهداية (3/ 132).

ص: 134

[فإذا رجع]

(1)

الشُّهود عن شهادتهم سقطت الشَّهادة عن إلزام القضاء بخلاف ما بعد القضاء، فإن جانب الصِّدق قد تأكد بقضاء القاضي في حق المقضي له فيه بتيقن جانب الكذب في الرجوع

(2)

.

وقوله: «لأن آخر كلامهم يناقض أوله؛ فلا ينقض الحكم بالمتناقض»

(3)

؛ لأنَّ القاضي كما لا يقضي بالكلام المتناقض؛ [فكذلك]

(4)

لا ينقض ما قضاه بالكلام المتناقض؛ ولأنَّه لو اعتبر رجوعه في إبطال القضاء أدى إبطاله إلى ما لا يتناهى؛ لأنَّه يأتي بعد ذلك فيرجع عن هذا الرجوع، فيجب إعادة القضاء الأول. كذا في المبسوط

(5)

.

«لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان»

(6)

، وهو الإتلاف؛ لأنَّهم لما رجعوا بعد قضاء القاضي، فقد أقروا على أنفسهم بالإتلاف.

وهذا لأنَّ القاضي بمنزلة الملجأ من جهتين، فإنَّ بعد ظهور عدالتهم يحق عليه القضاء شرعاً، فكان سبب القضاء شهادة الشُّهود، والتسبب إذا كان تَعَدِّيَا بمنزلة المباشرة في إيجاب ضمان المال

(7)

.

‌في شرط أن يكون الرجوع بحضرة الحاكم

«ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم»

(8)

.

فإن قيل: ينبغي أن لا يكون الرجوع مختصًا بمجلس القضاء؛ لأنَّ الرجوع من الشَّاهد إقرارٌ بضمان مال المشهود عليه على نفسه بسبب الإتلاف بالشَّهادة الكاذبة على ما ذكر، والإقرار بالضمان لا يختص بمجلس القضاء.

قلنا: ما كان شرطاً في الابتداء يكون شرطاً في البقاء، كالبيع، فإنَّ وجوده شرط لصحة البيع؛ فكذا بقاؤه شرط لصحة الفسخ؛ فكذلك الشَّهادة في مجلس القضاء شرطٌ لصحة الشَّهادة، فكذا يجب أن يكون مجلس القضاء شرطاً لفسخ الشَّهادة، وهو الرجوع عن الشَّهادة، ولا يلزم على هذا إحضار رأس مال السَّلم، فإنَّه ليس بشرط في فسخ السلم، مع أنَّه مشروط في ابتداء عقد السلم؛ لأنا نقول اشتراط وجود رأس مال السلم في مجلس عقد السلم لا لعقد السلم؛ بل يفسد السلم بعد الصحة إذا افترقا لا عن قبضٍ، احترازاً عن الكالئ بالكالئ، وذلك المعنى لا يوجد في الفسخ، [فلذلك]

(9)

لم يحتج إلى إحضار رأس المال وقت الفسخ؛ لانعدام ذلك المعنى، وهو عقد النسيئة بالنسيئة.

(1)

في «ج» : [قال: أرجع].

(2)

ينظر: المبسوط (16/ 179).

(3)

الهداية (3/ 132).

(4)

في «س» : [فلذلك].

(5)

ينظر: المبسوط (16/ 176).

(6)

الهداية (3/ 132).

(7)

ينظر: المبسوط (16/ 179).

(8)

الهداية (3/ 132).

(9)

في «ج» : [فكذلك].

ص: 135

«لأنَّه أدَّعى رجوعاً باطلاً»

(1)

؛ لأنَّ الرجوع في غير مجلس القضاء باطلٌ، والاستحلاف وسماع البيِّنة إنما يكون بعد صحة الدَّعوى، والدَّعوى باطل؛ فلذلك لم يكن له الاستحلاف وإقامة البيِّنة.

‌في الرجوع في الشهادة على القتل

«وقال الشافعي رحمه الله: لا يضمنان؛ لأنَّه لا عبرة بالتسبيب عند وجود المباشرة»

(2)

.

فإن قلت: فكيف انعكس مذهبه هنا بمذهبه في الشَّهادة بالقتل، ثم بالرجوع.

وكذلك انعكس مذهبنا أيضاً بالمذكور هناك، فإنَّه إذا شهد شاهدان على رجل بالقتل عمداً، فقُتل بشهادتهما، ثم رجع، فعندنا عليهما الديَّةُ في مالهما.

وعند الشافعي رحمه الله

(3)

: عليهما القصاص

(4)

، حيث جعل المسبب هناك كالمباشر، ولم نجعله نحن كالمباشر هناك، ثم جعلنا المسبب هنا كالمباشر، ولم يجعل الشافعي [هنا]

(5)

كالمباشر.

قلت: اختلاف الحكم لاختلاف الدَّليل بسبب اختلاف المحل.

والأصل أنْ لا يجعل المسبب كالمباشر في صورة من الصور لاختلافهما في وصف التَّعدي؛ لأنَّه لاشك أنَّ التعدي الصَّادر من المباشر فوق التَّعدي الصادر من المسبب؛ لأنَّ المباشرة عمل بدون الواسطة، والتسبيب بالواسطة.

ألا ترى أنَّ المباشرة إذا تجردت عن التعدِّي الزائد صلحت أيضاً؛ لإيجاب الضمان/ بالإجماع، فإنَّه إذا رمى الصَّيد في ملكه فأصاب إنسانًا، أو مالاً فأتلفه يجب الضمان، بخلاف ما إذا حفر بئرًا في ملكه، وما ذاك إلا باعتبار قوة وصف المباشرة، وضعف وصف التَّسبيب، إلا إذا دعت الضرورة إلى إقامة المسبب مقام المباشر، [فحينئذ يقام هو مقام المباشر]

(6)

.

وقولنا ههنا كذلك؛ لأنَّه: «لما تعذَّر إيجاب الضمان على المباشر هنا؛ وهو القاضي»

(7)

والمدَّعى لما ذكر، وظهر أنَّ المسبب وهو الشَّاهد متعدٍ في شهادته، أوجبنا على المسبب جبر النُّقصان ما للمدعى عليه، كما إذا حفر البئر في قارعة الطريق ووقع فيها آدمي يجب الضمان على الحافر؛ لتعذَّر إضافة الضمان إلى المباشر.

وأمَّا في باب الشَّهادة بالقتل؛ فلم يوجب القصاص على المسبب، وهو الشَّاهد الذي رجع عن شهادته، لما أنَّ المساواة مشروطة في القَصاص، حتى إذا لم [يمكن]

(8)

المساواة في موضع لا يجب القَصاص، وإن كانت الجناية عمدًا ولا مساواة بين المسبب والمباشر لما ذكرنا، وإنَّما جعلنا الشَّاهد مسببًا لا مباشرًا وهو ظاهر؛ لأنَّ المباشر هو الولي، وهو طائع مختار في هذه [المباشرة]

(9)

.

(1)

الهداية (3/ 132).

(2)

الهداية (3/ 132).

(3)

سقط من: «س» .

(4)

ينظر: البيان للعمراني (11/ 356)، المجموع شرح المهذب (18/ 391).

(5)

سقط من: «س» .

(6)

مكرر في «ج» .

(7)

الهداية (3/ 132).

(8)

في «س» : [يكن].

(9)

في «ج» : [المباشر].

ص: 136

عرفنا أنَّ الشَّاهد غير مباشر لا حقيقةً ولا حكمًا، والقصاص جزاء قتل العمد مباشرة، أما حقيقة كما إذا قتله باختياره، أو حكما كما في المكرَه؛ لأن المكرَه فاسد الاختيار، والمكرِه صحيح الاختيار، والفاسد بمقابلة الصحيح بمنزلة المعدوم، فصار المكرَه بمنزلة الآلة للمكرِه، فانتقل فعله إلى المكره، وليس الشَّاهد هنا كذلك؛ لأنَّ المباشر [المتحلل]

(1)

وهو الولي صحيح الاختيار [وكامله]

(2)

، فلم ينتقل فعله إلى الشَّاهد، فبقي الشَّاهد مسببًا فلم يستحق جزاء المباشرة، [إذ]

(3)

المساواة مطلوبة في القصاص.

وأمَّا الشافعي

(4)

رحمه الله

(5)

وإنَّما أقام المسبب مقام المباشر في القصاص، لحديثٍ خاصٍ ورد فيه وهو حديث علي رضي الله عنه حيث قال لشاهدي السَّرقة حين رجعا:«ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما»

(6)

(7)

.

ولأنَّ أمر الدِّماء أشدُّ صيانة من أمر الأموال، فلم يلزم من إقامة المسبب مقام المباشر في أمر الدم بسبب زيادة صيانته إقامة المسبب مقام المباشر في حق الأموال.

وإنا نقول: أمَّا حديث علي رضي الله عنه فكان ذلك على سبيل التَّهديد، لأنَّه صح من مذهب علي أنَّ اليدين لا تقطعان بيدٍ واحدةٍ.

وقد يهدد الإمام بما لا يحقُّقُّ له، قال عمر رضي الله عنه:«ولو تقدمت في المتعة لرجمت»

(8)

، والمتعة لا توجب الرجم بالاتفاق.

وأمَّا الجواب عن الثاني: فإنَّ المسبب يقام مقام المباشر في الأموال إذا تعذَّر إيجاب الضمان على المباشر، كما في حفر البئر على قارعة الطريق، وهنا كذلك، فيضاف على المسبب، وقد ذكرناه. وإلى هذا أشار في المبسوط في باب رجوع الشُّهود من كتاب الديات

(9)

، وفي كتاب الرجوع عن الشهادات

(10)

.

(1)

في «ج» : [التحلل].

(2)

سقط من: «ج» .

(3)

في «ج» : [إذا].

(4)

ينظر: الحاوي الكبير (17/ 257)، البيان للعمراني (13/ 394).

(5)

سقط من: «س» .

(6)

أخرجه: البخاري في الصحيح معلقاً (9/ 8) كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل، هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم، والدارقطني (4/ 240)، رقم (3394)، وعبد الرزاق في المصنف (10/ 88)، رقم (18460)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 251)، رقم (21724)، وصححه إسناده.

(7)

ينظر: المبسوط (9/ 169).

(8)

أخرجه: مالك في الموطأ (2/ 542)، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، رقم (42).

(9)

ينظر: المبسوط (26/ 181).

(10)

ينظر: المبسوط (16/ 178).

ص: 137

قوله رحمه الله

(1)

: «لأنَّه كالمُلجَأ إلى القضاء»

(2)

.

ولم يقل أنَّه ملجأ؛ لأنَّه لو صار مُلجَأً حقيقة بشهادة الشُّهود على الحكم؛ لوجب القصاص على الشَّاهدين في الشَّهادة بالقتل العمد إذا ظهر [كذبهم]

(3)

، كما في المكره، كما هو مذهب الشافعي

(4)

رحمه الله

(5)

، وليس كذلك.

[وذلك]

(6)

لأن الملجأ حقيقة هو من يخاف العقوبة الدنياوية، والقاضي ههنا إنما يخاف العقوبة في الآخرة، ولا يصير به ملجأً، لأن كل [واحد]

(7)

يقيم الطاعة خوفاً من العقوبة على تركها في الآخرة لا يصير به مكرهاً

(8)

.

«ولكن لم يجب الضَّمان على القاضي ههنا لأنَّه غير متعدٍ في القضاء؛ بل هو مباشر [لما]

(9)

هو فرض عليه ظاهر فتعيَّن الشُّهود لإيجاب الضمان [عليهم]

(10)

». كذا في المبسوط

(11)

.

‌في ضمان الشهود إذا رجعوا

[وإنَّما]

(12)

يضمنان»؛ أي: الشَّاهدان يضمنان «إذا قبض المدَّعى المال دينا كان أو عيناً» .

«لأن الإتلاف به»

(13)

؛ أي: إتلاف مال المدَّعَى عليه إنَّما يتحقق بقبض المدَّعِى ماله، وفي ذلك لا يتفاوت الحكم بين العين والدَّين، هذا الذي ذكره هو اختيار شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله.

وأمَّا شيخ الإسلام رحمه الله فقد فرَّق بين العين والدَّين، فقال:«إن كان المشهود به عيناً فللمشهود عليه أن يُضَمِّن الشَّاهد بعد الرجوع، قبض المشهود له العين من المشهود عليه أو لم يقبضه بعد، وإن كان المشهود به ديناً فليس للمشهود عليه أن يُضَمِّن الشَّاهدين للحال، وإنَّما يضمنهما إذا استوفى المشهود له ذلك من المشهود عليه»

(14)

.

«والفرق بينهما على ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله هو أن ما يجب على الشَّاهد من الضمان عند الرجوع ضمان إتلاف، وضمان الإتلاف مقيد/ بالمثل، فمتى كان المشهود به عينا فالشَّاهدان أزالاه عن ملكه بشهادتهما عند اتصال القضاء بها.

ألا ترى أنَّ تصرف المشهود عليه فيه بعد ذلك لا ينفذ، فلو أزلنا العين عن ملكها بأخذ الضمان منهما لا تنتفي المماثلة، أمَّا إذا كان المشهود به ديناً فالشَّاهدان ما أزلا عينا عن ملكه؛ بل [أوجبا]

(15)

عليه دينا بغير حق، فلو استوفينا الضمان من [الشُّهود]

(16)

قبل أن يستوفي [المشهود]

(17)

له ذلك من المشهود عليه تنتفي به المماثلة؛ لأنَّ المستوفى عين، والعين خير من الدين، وينظر إلى قيمة المشهود به يوم القضاء؛ لأن وجوب الضَّمان عليهما بالإتلاف والإتلاف حصل بالقضاء، فتعتبر القيمة يوم القضاء». كذا في الذَّخيرة

(18)

.

(1)

سقط من: «ج» .

(2)

الهداية (3/ 132).

(3)

في «ج» : [بكذبهم].

(4)

ينظر: نهاية المطلب (16/ 122).

(5)

سقط من: «س» .

(6)

زيادة من: «س» .

(7)

في «س» : [أحد].

(8)

ينظر: المبسوط (26/ 181).

(9)

في «ج» : [شرطا].

(10)

في «س» : [عليه].

(11)

المبسوط (16/ 179).

(12)

في «س» : [وإنما هما].

(13)

الهداية (3/ 132).

(14)

المحيط البرهاني (8/ 540).

(15)

في «ج» : [أوجبنا].

(16)

في «ج» : [المشهود].

(17)

في «ج» : [الشهود].

(18)

المحيط البرهاني (8/ 540).

ص: 138

وذكر في المبسوط

(1)

: «ولو شهدا على مال فقضى به القاضي فقبضه أو لم يقبضه، ثم رجع ضمن المال إذا أخذه المقضي له من المقضي عليه، وقبل الأخذ لا يضمنهما المقضي عليه شيئاً؛ لأنَّ تحقُّق النقصان عند تسليم المال إلى المقضي له، فأمَّا [ما]

(2)

بقيت يده على ماله، فلا يتحقق الخسران في حقه؛ لأنَّ الضمان تعذَّر بالمثل، وهما أتلفا عليه ديناً حين ألزماه ذلك بشهادتهما، فلو ضَمَّنَهما قبل الأداء كان قد استوفى منهما عيناً بمقابلة الدين، ولا مماثلة بين العين والدين.

وفي الأعيان إن ثبت الملك للمقضي له بقضاء القاضي؛ ولكن المقضي عليه يزعم أنَّ ذلك باطلٌ؛ لأنَّ المال في يده ملكه، فلا يكون له أن يُضَمِّن الشَّاهدين شيئاً ما لم يخرج المال من يده بقضاء القاضي.

وكذلك هذا في العقار، فإن بالشَّهادة الباطلة يضمن العقار كالمنقول؛ لأنَّ فيها إتلاف الملك واليد على [المقضي]

(3)

عليه، والعقار يُضمن بمثل هذا السبب، فإن إتلاف الملك يتحقق فيها، بخلاف الغصب على قول من يقول العقار لا يُضمن بالغصب».

والأصل أنَّ المعتبر في هذا [بقاء]

(4)

من بقي لا رجوع من رجع، لأنَّه لو اعتبر رجوع من رجع كان الضمان واجباً على الراجع مع بقاء الحق عند وجود مبقيه، وهو الشَّاهدان بأن شهد ثلاثةٌ ورجع واحدٌ، فلا يجوز أن يجب ضمان الإتلاف على أحد مع أنَّه لم يتلف مال غيره بفعله.

فإن قيل: لو كان ثبوت الحق بشاهدين، فرجع واحدٌ ينبغي أن يضمن الراجع كل الحق؛ لأن الذي بقي فرد، فلا يصلح لإثبات شيء من الحق ابتداء، ولا يصلح لذلك لإبقاء شيء من الحق.

قلنا: هذا معارض بمثله، بأنَّ الباقي كما هو فردٌ والراجع أيضاً فرد، والإتلاف إنَّما يكون في الشَّهادة بحسب الإثبات، والراجع كما لا يصلح لإثبات كل الحق بشهادته لا يصلح أيضا لإتلاف كل الحق برجوعه.

وأمَّا قوله: فالباقي لا يثبت شيء من الحق بشهادته، فلا يبقى نصف الحق ببقائه.

قلنا: كم من شيء يصلح سبباً للبقاء بقدره، وإن كان لا يصلح للابتداء في شيء، كما في قدر النصاب، فإن بعضهم لا يصلح ابتداء لشيء من وجوب الزكاة، ويصلح [مبقيا]

(5)

لبعض وجوب الزكاة بقدره.

وذكر في الذَّخيرة

(6)

: «يجب أن تعلم أن العبرة في باب الرجوع عن الشهادات في حق بقاء الحق، ووجوب الضمان لبقاء من بقي لا لرجوع من رجع.

(1)

المبسوط (16/ 187).

(2)

سقط من: «ج» .

(3)

في «س» : [مقضى].

(4)

في «ج» : [إبقاء].

(5)

في «ج» : [منفياً].

(6)

المحيط البرهاني (8/ 542).

ص: 139

حتى إنَّه إذا شهد ثلاثة نفرٍ على رجلٍ بدين ألف درهم مثلاً، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجع اثنان منهم، ضمنا نصف المال، ولو رجع واحدٌ منهم فلا ضمان على الراجع؛ وهذا لأن وجوب الحق في الحقيقة بشهادة الشَّاهدين؛ لأنَّ ما زاد على الشَّاهدين في هذه الحقوق فضلٌ في حق القضاء، إلَّا أن الشُّهود إذا كانوا أكثر من الاثنين يضاف القضاء ووجوب الحق إلى الكل لضرورة المزاحمة لاستواء حالهم، فإذا رجع واحد منهم زالت المزاحمة لزوال الاستواء، فظهر أنَّ القضاء كان مضافاً إلى شهادة المثنى.

إذا ثبت هذا فنقول: إذا شهد بالحق ثلاثةٌ ورجع واحدٌ منهم، فقد [بقي]

(1)

من تقوم بشهادته جميع الحق، فلا يضمن الراجع شيئاً، فإذا رجع اثنان منهم فقد بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، [وكان الحق]

(2)

التالف بشهادة الراجعين نصف الحق، فيجب ضمان ذلك النِّصف عليهما لاستوائهما في ذلك».

«وهذا لأنَّ الاستحقاق باق بالحجة»

(3)

؛ أي: استحقاق المشهود به للمدعي باق بالحجة، وهى بقاء شهادة الشَّاهدين.

«المتلف متى استحق سقط الضمان» ؛ أي: عن [ضمان]

(4)

المتلف.

«فأولى أن [يمتنع]

(5)

»

(6)

؛ أي: الضمان؛ لأنَّ المنع أسهل من الدفع

(7)

.

صورته إذا أتلف إنسانٌ مال زيد مثلاً فقضى القاضي لزيد على المتلف بالضمان، ثم استحق ذلك العين المتلف عمرو، وأخذ الضمان من المتلِف، سقط الضمان الثابت على المتلف بقضاء/ القاضي لزيد.

وهاهنا أيضاً الحق ثابت للمدَّعي ببقاء [شهادة]

(8)

الشَّاهدين ورجوع الراجع، وإن كان موجباً للضمان عليه فبقاء حق المدَّعى ببقاء شاهديه مانعاً للضمان بالطَّريق الأولى فلا يضمن.

وهذا معنى ما ذكره في المبسوط بقوله: «وقد بقي على الشَّهادة حجة تامة فلا يضمن الراجع شيئاً؛ لأنَّ الراجع وإن زعم أنَّه متلف بشهادته عليه؛ فما أتلفه يستحق عليه بشهادة غيره؛ واستحقاق ذلك عليه بالحجة يمنعه من الرجوع عليه بالضمان؛ كمن غصب مال إنسان، أو أتلفه، ثم استحق ذلك المال بالبيِّنة، فلا ضمان للمتلِف عليه على المتلف إذا لم يضمنه المستحق شيئاً»

(9)

.

(1)

مكرر في: «س» .

(2)

في «س» : [فكان التالف].

(3)

الهداية (3/ 132).

(4)

سقط من: «س» .

(5)

في «ج» : [يمنع].

(6)

الهداية (3/ 133).

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 204).

(8)

سقط من: «ج» .

(9)

المبسوط (16/ 187).

ص: 140

«وإن رجع آخر، ضمن الراجعان نصف المال»

(1)

.

فإن قيل: ينبغي ألا يجب الضَّمان على الراجع الأول أصلاً؛ لأنَّ المعتبر هو بقاء من بقي؛ وبعد رجوع الأول كان نصاب الشَّهادة موجودًا؛ وهو شهادة الشَّاهدين؛ حتى أنَّه كان لا يضمن برجوعه بنفسه حين رجع

(2)

.

ثم لو ضمن الأول برجوع الثاني كان رجوع الثاني مؤثرًا في ضمان الأول، ولا يؤاخذ أحد بجناية غيره، قال الله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}

(3)

.

قلنا: رجوع الأول كان مؤثراً في ضمانه حين رجع؛ لكن لم يظهر وجوب الضَّمان عليه لبقاء حق المدَّعى على حاله بدليله، وهو بقاء الشَّاهدين، فلما رجع واحدٌ من ذلك الشَّاهدين الباقيين الآن ظهر أنَّهما أتلفا نصف الحق على المدَّعَى عليه، فأضيف ضمان الحق إلى الراجعين [جميعا]

(4)

، لأنَّ أحدهما ليس بأولى من الآخر في حق إيجاب الضمان، فكان الضمان عليهما.

وذكر في شرح الأقطع: وهذا كما يلزم الضمان جميع الشُّهود إذا رجعوا وهم ثلاثة، ولا يقول واحد منهم: لو رجعت وحدي لم يلزمني الضمان؛ لأني كنت ثالثهم فيجب أن لا يلزمني الضَّمان عند رجوع غيري؛ بل يجب الضمان على الكل، فكذا هنا.

«ولهذا لا تُقبل شهادتهن إلا بانضمام رجل»

(5)

.

«ألا ترى أنَّ الحجَّة لا تتم ما لم يشهد معهن رجل، فكان الثابت بشهادته نصف المال وبشهادتهن نصف المال.

يوضحه أنَّ الرجل متعين في هذه الشَّهادة للقيام بنصف الحجة، ولهذا لا تتم الحجة إلا بوجوده، فلا يتغير هذا الحكم بكثرة النِّساء، وإذا ثبت نصف الحكم [بشهادته]

(6)

ضمن ذلك عند الرجوع، والنصف الآخر ثبت بشهادة النِّساء فعليهن ضمانه عند الرجوع.

وأبو حنيفة رحمه الله

(7)

يقول: «كل امرأتين في الشَّهادة يقومان مقام الرجل الواحد»

(8)

، فعشر نسوة بخمسة من الرجال، وهذه المسألة بمنزلة ما لو شهد ستة من الرجال ثم رجعوا، فيكون الضَّمان عليهم أسداساً.

ودليل صحة هذا الكلام أنَّ حكم الشَّهادة كحكم الميراث، وفي الميراث عند كثرة البنات مع الابن يُجعل كل اثنتين كابن واحدٍ، ولم يجعل هناك حالة الاختلاط كحالة انفراد البنات، فعند الانفراد لا يزاد لهن على الثلثين، ثم عند الاختلاط يجعل كل ابنتين كابن، فكذلك في الشَّهادة، وهذا لأنَّ النقصان عن أدنى العدد في الشَّهادة يمنع القضاء.

(1)

الهداية (3/ 133).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 485).

(3)

سورة الأنعام: آية 164.

(4)

سقط من: «س» .

(5)

الهداية (3/ 133).

(6)

في «ج» : [شهادة].

(7)

في «س» : [رضى الله عنه].

(8)

الهداية (3/ 133).

ص: 141

فأمَّا الزيادة على النِّصاب فمعتبرة في أنَّ القضاء يكون بشهادة الكل، فبكثرة النِّساء عند وجود الرجل يزداد النصاب، ويكون القضاء بشهادة الكل على أن كل امرأتين كرجل واحد، فعند الرجوع كذلك يقضي بالضمان». كذا في المبسوط

(1)

.

«عليهن نصف الحق على القولين»

(2)

؛ أي: بالاتفاق لما قلنا، وهو قوله:«والأصل أنَّ المعتبر في هذا بقاء من بقي»

(3)

، وهذا لأنَّه لما بقي نصف الحق ببقاء الرجل كان التَّالف نصفًا [لرجوع]

(4)

النِّسوة العشرة، ثم كل واحدة منهن ليست بأولى من الآخر في التَّضمين، فيضمن كلهن.

وذكر في المبسوط

(5)

: «ولو رجع ثماني نسوة لم يكن عليهن شيء؛ لأنَّه قد بقي على الشَّهادة من يثبت الاستحقاق بشهادته، وهو رجلٌ وامرأتان، فإن رجعت امرأةٌ بعد ذلك كان عليها وعلى الثماني ربع المال؛ لأنَّ الحجَّة إنَّما بقيت في ثلاثة أرباع الحق، فيجب الضَّمان بقدر من عدمت الحجة، وليس البعض بأولى من البعض في وجوب ذلك عليه؛ فلهذا ضَمِن التسعُ ربع المال عليهن بالسَّوية، [فإن]

(6)

رجعت العاشرة فعليها وعلى التسع نصف المال.

أمَّا عندهما فظاهرٌ، لأنَّ الثابت بشهادتهن نصف المال، وعند أبي حنيفة [رحمة الله عليه]

(7)

لأنَّه بقي على الشَّهادة من يثبت نصف المال بشهادته، بمنزلة ما لو شهد ستة من الرجال ثم رجع خمسة، فالضمان عليهما دون المرأة؛ لأنَّ الواحدة ليست [بشاهدة]

(8)

.

وذلك لأنَّ المرأتين [كشاهدٍ]

(9)

واحدٍ، والمرأة الواحدة شطر العلة في كونها شاهدة، وشطر العلة لا يثبت شيء من الحكم، فكان/ القضاء بشهادة رجلين دون المرأة، فكذلك لا تضمن عند الرجوع شيئاً».

وأمَّا لو شهد رجلان وامرأتان ثم رجعوا، فالضمان أثلاثاً؛ لأنَّ المرأتين قامتا مقام رجل واحدٍ، فكأنَّه شهد ثلاثة بالمال ثم رجعوا.

«ولو شهد رجل وثلاث نسوة، ثم رجع رجل وامرأة ضمن الرجل نصف المال؛ لأنَّ الحجَّة بقيت في نصف المال، فقد بقيت امرأتان على الشَّهادة.

ثم هذا النصف عند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- على الرجل خاصة، لما بينا أنَّ عندهما نصف المال متعين في أنَّه ثابت بشهادة الرجل، ونصفه ثابت بشهادة النِّساء، وقد بقي من النِّساء على الشَّهادة من يثبت نصف المال بشهادته، فعرفنا أن الحجَّة انعدمت في النصف الذي هو ثابت بشهادة الرجل خاصة، فيكون الضَّمان عليه دون المرأة، وينتفى في قياسي قول أبي حنيفة رحمه الله أن يكون النصف أثلاثاً على الرجل والمرأة؛ لأنَّ القضاء ههنا بشهادة الكل؛ [وكل]

(10)

امرأة منهن إذا ضممتها إلى أخرى كانتا شاهداً؛ فلا يكون محالاً به على شهادة البعض دون البعض؛ وقد بقيت الحجة في نصف الحق؛ فيجب ضمان نصف الحق على الراجعين أثلاثًا؛ لأنَّ الثابت بشهادة الرجل ضعف ما ثبت بشهادة المرأة.

(1)

المبسوط (16/ 187).

(2)

الهداية (3/ 133).

(3)

الهداية (3/ 132).

(4)

في «س» : [برجوع].

(5)

المبسوط (16/ 188).

(6)

في «س» : [وإن].

(7)

في «س» : [رحمه الله].

(8)

في «ج» : [بشهادة].

(9)

في «س» : [شاهد].

(10)

في «س» : [فكل].

ص: 142

ولو رجعوا جميعا كان على الرجل النِّصف وعلى النسوة النصف في قول أبي يوسف ومحمد [رحمهما الله]

(1)

.

وفي قول أبي حنيفة رحمه الله: على الرجل خُمسَا المال، وعلى النسوة ثلاثة أخماسه كما ذكرنا». كذا في المبسوط

(2)

.

«وحاصله أنَّ النسوة وإن كثرن فعندهما أُقمن مقام رجل واحد حالة الاختلاط والانفراد جميعاً، ثم في شهادة رجل وثلاث نسوة كان نصف المال ثابتاً بشهادة النسوة، والنصف ثابتاً بشهادة الرجل، ثم إذا بقي امرأتان على الشَّهادة عند رجوع رجل وامرأة، فقد بقي منهن من يقوم بشهادته نصف المال فعرفنا أن الحجَّة قد تطلب في حق النصف الثابت بشهادة الرجل خاصة، فكان ضمان ذلك عليه.

وعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله

(3)

: يجب أن يكون ضمان ذلك النصف على الرجل والمرأة الراجعة أثلاثا؛ لأنَّ عنده كل اثنتين من النِّساء حالة الاختلاط يقيما مقام رجل واحدٍ، فكان كل امرأة قائمة مقام نصف رجل، فإذا كانت المرأة أثلاثاً والرجل واحداً صار كأنَّه شهد رجلان ونصف رجل، ثم رجع رجل ونصف رجل؛ ولهذا [قال]

(4)

أبو حنيفة رحمه الله: إذا رجعوا جملة في هذه الصورة كان الضمان على الرجل والنسوة أخماساً». كذا في الذَّخيرة

(5)

.

‌في ضمان الشهود إذا رجعوا عن الشهادة في النكاح

«وكذا إذا شهدا بأقل من مهر مثلها»

(6)

؛ أي: لا ضمان عليهما، وهذا عندنا.

وقال الشافعي رحمه الله: يضمنان لها ما زاد على ما شهدا إلى تمام مهر مثلها

(7)

.

وأصل المسألة ما إذا شهد شاهدان بالتَّطليقات الثلاث بعد الدخول، ثم رجع بعد القضاء بالفرقة لم يضمنا شيئاً عندنا

(8)

.

وعند الشافعي رحمه الله يضمنان للزوج مهر المثل

(9)

.

وكذلك إن قتل امرأةً رجلٌ لم يضمن القاتل شيئاً من المهر عندنا، وعند الشافعي رحمه الله

(10)

: يضمن مهر المثل

(11)

.

وكذلك لو ارتدت المرأة بعد الدخول لم تغرم للزوج شيئاً عندنا، وعند الشافعي رحمه الله

(12)

: للزوج مهر المثل عليها إن ارتدت

(13)

؛ لأن البُضع متقوم، بدليل أنَّه متقوم عند دخوله في ملك الزوج، فيتقوم عند خروجه من ملكه أيضاً؛ لأنَّه إنما يخرج من ملكه غير ما دخل في ملكه، [ومن]

(14)

ضرورة التقوُّم في إحدى الحالتين التقوم في الحالة الأخرى، كملك اليمين؛ فإنَّه يتقوم عند ثبوته ابتداءً ويتقوم أيضاً عند الإزالة بطريق الإبطال وهو العتق، حتى يضمن شهود العتق القيمة إذا رجعوا.

(1)

سقط من «س» .

(2)

المبسوط (16/ 188).

(3)

في «س» : رضي الله عنه.

(4)

مكرر في «س» .

(5)

المحيط البرهاني (8/ 542).

(6)

الهداية (3/ 133).

(7)

ينظر: البيان للعمراني (13/ 404)، روضة الطالبين (11/ 301)، أسنى المطالب (4/ 383).

(8)

ينظر: فتح القدير (7/ 488).

(9)

ينظر: البيان للعمراني (13/ 404)، روضة الطالبين (11/ 301)، أسنى المطالب (4/ 383).

(10)

سقط من: «س» .

(11)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 208).

(12)

سقط من: «س» .

(13)

ينظر: فتح العزيز شرح الوجيز (9/ 587)، نهاية المطلب (12/ 372).

(14)

في «س» : [فمن].

ص: 143

وإذا ثبت التَّقوُّم قلنا: المتقوم مضمون بالإتلاف مالًا أو غير مال، كالنفس، وحجتنا في ذلك أن البُضع غير مضمون بالمال عند الإتلاف؛ لأنَّ ضمان الإتلاف يتقدر بالمثل، ولا مماثلة بين البُضع والمال صورةً ومعنى، فأمَّا عند دخوله في ملك الزوج المتقوم هو المملوك دون الملك الوارد عليه، وكان تقومه لإظهار خطر ذلك المحل، حتى يكون مضموناً عند الابتذال ولا تملك مجانًا [فإنما]

(1)

يملك المرء مجانًا لا يعظم خطره عنده، وذلك محل له خطر، مثل النفوس؛ لأنَّ النَّسل يحصل به، وهذا المعنى لا يحصل في طرف الإزالة، فإنَّها لا يتملك على الزوج شيئًا؛ ولكن يبطل ملك الزوج عنها، ألا ترى أن ما هو مشروط لمعنى الحظر عند التملك، كالشُّهود والولي لا يشترط شيء منه عند الإزالة، وأن الأب لو زوج ابنه الصغير بماله يصح ذلك، ولو خلع ابنته الصغيرة بمالها من زوجها لم يصح ذلك.

وهذا بخلاف ملك اليمين فهو ملك مال، والمال مِثلٌ للمال صورة/ ومعنى، فعند الإتلاف يضمن بالمال.

فأمَّا تقوم النفس بالدِّية عند الإتلاف فللصيانة عن الهدر، وإظهار خطر المحل، وهذا لا يوجد في ملك القصاص، فالعفو مندوب إليه، فيكون إهداره حسنًا بهذا الطريق؛ لأن القصاص حياة حكمًا، وفي العفو حياة حقيقة، فلا يمكن إيجاب الضمان على المتلف هنا لمعنى الصيانة، فلذلك لم يضمن شهود العفو عن القصاص إذا رجعوا عندنا، خلافًا للشافعي رحمه الله

(2)

. كذا في المبسوط

(3)

.

«لأنَّ منافع البُضع غير متقومة»

(4)

؛ لأنّ َالتقوم يتحقق عند [الإحراز]

(5)

، والإحراز لا يمكن في الإعراب، وكذلك سائر المنافع لا تضمن بالإتلاف، على ما يجيء في الغصب إن شاء الله تعالى.

وذكر في شرح الطحاوي

(6)

: [أن رجلاً]

(7)

لو ادَّعى أنَّه استأجر الدار من هذا الرجل بعشرةٍ، وأجر مثلها مائة، والمؤاجر ينكر ذلك، فشهد بذلك شاهدان ثم رجعا، فلا ضمان عليهما؛ لأنَّهما أتلفا المنفعة عليه، ومتلف المنفعة لا ضمان عليه

(8)

.

(1)

في «س» : [فإن ما].

(2)

سقط من: «س» .

(3)

المبسوط (16/ 188).

(4)

الهداية (3/ 133).

(5)

في «ج» : [أحراز].

(6)

الطحاوي: هو الإمام أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزديّ الطحاوي، أبو جعفر، الفقيه الحنفي، انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، ولد ونشأ في (طحا) من صعيد مصر، وتفقه على مذهب الشافعيّ، ثم تحول حنفياً، ورحل إلى الشام سنة 268 هـ، فاتصل بأحمد بن طولون، فكان من خاصته، له: شرح معاني الآثار، وشرح مشكل الآثار، وأحكام القرآن، ومختصر في الفقه الحنفي، توفي بالقاهرة سنة 321 هـ.

ينظر: الجواهر المضية (1/ 102)، سير أعلام النبلاء (15/ 27)، الأعلام للزركلي (1/ 206).

(7)

سقط من «س» .

(8)

شرح مختصر الطحاوي للجصاص (8/ 165).

ص: 144

فإن قلت: ينبغي أن يضمن الشَّاهدان للمرأة ما زاد على ما شهدا إلى تمام مهر مثلها في هذه الصورة، وهي ما إذا شهدا عليها بالنكاح بأقل من مهر مثلها؛ لأنَّهما أتلفا الزيادة على المسمى من منافع بضعها بغير عوض من حيث الحكم، وإتلاف منافع البُضع حقيقةً بغير عوض يوجب الضمان، كما قالوا في المجنون إذا أكره امرأةً وزنى بها، فإنَّه يجب مهر المثل، فكذا الإتلاف من حيث الحكم ينبغي أن يوجب الضمان؛ إظهارًا لخطر البُضع، كما في المال يجب إلى تمام القيمة.

قلت: القياس يقتضي أن لا يضمن منافع البُضع بالإتلاف الحقيقي أيضاً؛ لأنَّ القياس هو أن لا يُضَمَّن ما ليس بمال بالمال، وإنَّما وجب المال في فصل المجنون بالإتلاف الحقيقي شرعاً بخلاف القياس تعظيمًا لأمر البُضع، والنَّصُّ الوارد في الإتلاف الحقيقي بخلاف القياس لا يكون واردًا في الإتلاف الحكمي؛ لأنَّ الإتلاف الحكمي دون الإتلاف الحقيقي، فرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، بخلاف ضمان المال عند الإتلاف؛ فإنَّ ذلك موافق للقياس؛ لكونه إتلاف الأعيان لا المنافع. إلى هذا أشار في الذَّخيرة

(1)

.

وقوله: «لأنَّه اتلاف بعوض لما أن البُضع متقوم حال الدخول في الملك»

(2)

.

يعني: لو اتلف مال الزوج في مقدار مهر مثل المرأة، فقد عوضاه منافع بضع المرأة بمقابله ذلك المال، فلا يضمنان، كما لو شهدا بشراء شيء بمثل قيمته ثم رجعا

(3)

.

«فإن قيل: منافع البُضع كيف تصلح عوضاً عن المهر وأن المرأة غير مال، ومنافع البُضع ليست [بعين]

(4)

مال، بدليل أنَّه يثبت الحيوان دينًا في الذِّمَّة بدلاً عنها.

قلنا: منافع البُضع حالة الدخول في الملك أعطى لها حكم المال شرعًا؛ بدليل أنَّ الشرع جوَّز للأب أن يزوج ابنه الصغير امرأةً بمهر مثلها من مال الصغير، والوالد لا يملك إزالة ملك الصغير إلا بعوض يعدله، ألا تَرى أنَّه لو خالع ابنته الصغيرة بمالها لم يجز، وإن كان المسمى مثل مهر مثلها، فلما جوَّز الشرع للأب النكاح لابنه الصغير بماله علمنا أن منافع البُضع اعتبرت مالًا عند الدخول في الملك فصلحت عوضًا. كذا في الذَّخيرة

(5)

.

«وإن كان بأقل من القيمة ضمنا النقصان؛ لأنَّهما أتلفا هذا الجزء بلا عوض»

(6)

.

(1)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 544).

(2)

الهداية (3/ 133).

(3)

البناية شرح الهداية (9/ 207).

(4)

في «ج» : [بغير].

(5)

المحيط البرهاني (8/ 543).

(6)

الهداية (3/ 133).

ص: 145

«هذا إذا شهدا بالبيع ولم يشهدا بنقد الثمن، فأمَّا إذا شهدا بالبيع ونقد الثمن ثم رجعا عن شهادتهما، فهذا على وجهين:

الأول: أن يشهدا على البيع وإيفاء الثمن بشهادة واحدةٍ، بأن شهدا أنَّه باع هذه الدار منه بألف درهم وأوفاه الثمن، وفي هذا الوجه القاضي يقضي عليهما بقيمة المبيع للبائع، ولا يقضي بالثمن.

والثاني: أن يشهدا على البيع وإيفاء الثَّمن بشهادتين مختلفتين، بأنْ شهدا على البيع أولا، ثم [شهدا]

(1)

أنَّ المشتري أوفاه الثَّمن، وفي هذا الوجه القاضي يقضي عليهما بالثمن للبائع.

والفرق بينهما أنَّهما إذا شهدا بالبيع وإيفاء الثمن بشهادة واحدة فالمقضي به المبيع دون الثمن؛ لأنَّه لا يمكن للقاضي القضاء بإيجاب الثمن؛ لأنَّه لا يقارن القَضاء بالثمن ما يوجب سقوطه، وهو القضاء بالإيفاء.

ولهذا قلنا: لو شهد شاهدان على رجل أنَّه باع عبده من هذا الرجل وأقاله، بأن شهدا على البيع والإقالة بشهادة واحدة، فالقاضي لا يقضي بالبيع؛ لأنَّه قارن القضاء بالبيع ما يوجب انفساخه، وهو القضاء بالإقالة، كذا ههنا؛ فلذلك ضمنا قيمة المبيع عند الرجوع دون الثمن؛ لأن المبيع هو المقضي به، وزال المبيع بلا عوض فيضمنان.

وأمَّا إذا شهدا بالبيع وإيفاء الثمن بشهادتين مختلفتين [فالثمن]

(2)

يقضى به؛ لأنَّ القضاء/ بالثمن ممكن؛ لأنَّه لم يقارن القضاء بالثمن ما يوجب سقوطه؛ لأنَّ حال ما شهدا بالبيع لم يشهدا بالإيفاء وإنَّما شهدا بالإيفاء بعد ذلك وإذا صار الثمن مقضياً به فإذا رجعا عن شهادتهما ضمنا الثمن [ولم]

(3)

يضمنا قيمة المبيع، وإن صار المبيع مقضياً به في هذه الحالة مع الثمن؛ لأن إزالة المبيع حصلت بعوض، فلا يضمنان قيمة المبيع ويضمنان الثمن؛ لأنَّ الثمن مقضي به». كذا في الذَّخيرة

(4)

.

«ولا فرق بين أن يكون البيع باتا أو فيه خيار البائع؛ لأن السبب هو السابق»

(5)

هذا كله جواب لسؤال مقدر.

ذلك السؤال والجواب في المبسوط

(6)

، وقال: «إذا شهد شاهدان على الرجل أنَّه باع عبده هذا بألف درهم وهو يساوي بألفين على أنَّ البائع بالخيار ثلاثة أيام فقضى القاضي بذلك، ثُم مضت الثلاث فوجب البيع، ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا فضل ما بين القيمة والثمن لأنَّهما [أتلفاه]

(7)

بشهادتهما بغير عوض.

(1)

سقط من: «س» .

(2)

في «ج» : [والثمن].

(3)

في «ج» : [لم].

(4)

المحيط البرهاني (8/ 561 - 562).

(5)

الهداية (3/ 133).

(6)

المبسوط (16/ 193).

(7)

سقط من: «ج» .

ص: 146

ثم قال: فإن قيل لا كذلك في البيع بشرط الخيار للبائع لا يزيل ملكه عن المبيع، وقد كان متمكناً من دفع الضَّرر عن نفسه بفسخ البيع في المدة، فإنَّه إذا لم يفعل كان راضياً بهذا البيع، فينبغي أن لا يضمن الشَّاهدان شيئاً.

قلنا: زوال الملك وإن كان يتأخر إلى سقوط الخيار، فالسبب هو البيع المشهود به؛ ولهذا استحق المشتري بزوائده [فكان]

(1)

الإتلاف حاصلاً بشاهدتهم، فالبائع كان منكراً لأصل البيع فمع إنكاره لا يمكن أن يتصرف بحكم الخيار؛ لأنَّه إذا تصرف بحكم الخيار يصير مقراً بالبيع ويتبين للناس كذبه والعاقل يتحرَّز عن ذلك بجهده، فلهذا لا يعتبر تمكنه من الفسخ في إسقاط الضمان عن الشُّهود، فلو أوجب البيع في الثلاث لم يضمن له الشَّاهدان شيئا؛ لأنَّه صار مقراً بالبيع مزيلاً ملكه باختياره، فلا يكون الشَّاهد متلفاً عليه بشهادته، وكذلك لو كان شرط الخيار للمشتري وهو منكر [للشراء]

(2)

في قيمة العبد نقصان عن الثَّمن، فإن سكت المشتري حتى مضت المدة ضمن المشهود له النقصان عند الرجوع، وإن اختار البيع قبل الثلاث لم يضمنا له شيئاً لما بينا في جانب البائع».

لأنَّهما أكدا ضماناً على شرف السقوط لجواز أن تجيء الفرقة من جهتها بأن ارتدت -والعياذ بالله- أو طاوعت ابن زوجها فيسقط المهر أصلاً [وعلى]

(3)

المؤكد ما على الموجب.

ألا ترى أن محرماً لو أخذ صيداً في الحرم فجاء رجل فذبحه في يده فإنَّه يجب الجزاء على المحرم ويرجع بذلك على القاتل؛ لأنَّه أكد الجزاء عليه وكان على شرف السقوط بأن يخلي سبيله كذلك ههنا. كذا في شرح الطحاوي

(4)

.

«ولأنَّ الفرقة قبل الدخول في معنى الفسخ»

(5)

؛ وإنَّما قال في معنى الفسخ، ولم يقل هو فسخ؛ لأنَّ النكاح بعد اللزوم لا يقبل الفسخ.

لكن لما عاد كل المبدل وهو البُضع إلى المرأة كما كان صار بمنزلة فسخ البيع قبل القبض

(6)

.

وفي كل موضع إذا تم الفسخ بِجُعلٍ كأنَّ العقد لم [يجر]

(7)

بين المتعاقدين لعود ما كان لهما إلى ملكهما [كملاً]، فعلى هذا التَّقدير كان وجوب نصف المهر على الزوج ابتداء؛ لكون العقد بسبب الفسخ كأن لم يكن، وذلك الوجوب على الزَّوج كان بسبب شهادة الشَّاهدين، فعند الرجوع يضمنان للزوج ما اتلفا عليه في وجوب نصف المهر.

(1)

في «ج» : [وكان].

(2)

في «ج» : [للشري].

(3)

مكرر في «س» .

(4)

ينظر: فتح القدير (7/ 490)، العناية شرح الهداية (7/ 490).

(5)

الهداية (3/ 134).

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 208)، العناية شرح الهداية (7/ 490).

(7)

سقط من: «س» .

ص: 147

وقوله: «كما مر في النكاح» ؛ أي: في باب المهر.

‌إذا شهد الشهود على العتق ثم رجعوا ضمنوا القيمة

«وإن شهدا على أنَّه أعتق عبده» وقضى القاضي به «ثم رجعا؛ ضمنا قيمته»

(1)

العبد.

«لأنَّهما اتلفا عليه ملكاً هو مالٌ متقوَّم فيضمنان موسرين كانا أو معسرين؛ لأنَّ هذا ضمان اتلاف الملك؛ وأنَّه لا يختلف باليسار والإعسار ولا يمتنع وجوب الضَّمان عليهما بثبوت الولاء للمولى؛ لأن الولاء ليس بمال متقوم؛ بل هو كالنسب، فلا يكون عوضاً عما أتلف عليه من ملك المال ولو شهدا عليه أنَّه دبره فقضى القاضي بذلك ثم رجعا ضمنا ما نقصه التدبير؛ لأنَّهما أوجبا حق العتق للعبد وبذلك يتبعض ملك المالية للمولى فيضمنان ذلك النقصان، وقد بينا مقدار نقصان التَّدبير في العتاق»

(2)

.

وأمَّا شهود الكتابة عند الرجوع يضمنون قيمة العبد بخلاف شهود التدبير، فإنَّهم يضمنون النُّقصان عند الرجوع دون قيمة العبد.

«والفرق بينهما أن الشَّاهدين في الكتابة حالا بين المولى وبين مالية العبد بشهادتهما عليه، فكانا بمنزلة الغاصبين فيضمنان قيمته بخلاف التَّدبير، فإنَّهما ما حالا بين المولي وبين مدبره؛ لكن انتقض بالتَّدبير مالية العبد فيضمنان النقصان، ثم الشَّاهدان يتبعان المكاتب بالكتابة على نجومها؛ لأنَّهما قاما مقام المولي في ذلك حين ضمنا قيمته/ ولا يُعتَقُ المكاتب حتى يؤدي ما عليه؛ لأنَّه قبل رجوع الشَّاهدين ما كان يعتق إلا بعد أداء جميع الألف إلى المولى؛ فكذلك حاله مع الشَّاهدين بعدما ضمن القيمة فإذا أداه عتق والولاء للذي كاتبه؛ لأن الشَّاهدين قاما مقام المولى في القبض بدل الكتابة منه فأداؤه إليهما كأدائه إلى المولى وإن عجز ورد في الرِّق كان لمولاه؛ لأنَّ رقبته لم تصر مملوكة للشاهدين، فالمكاتب ليس بمحل النقل من ملك إلى ملك فرجوعهما غير صحيح في حقه ويرد المولى ما أخذ من الشُّهود عليهم؛ لأنَّ الحيلولة قد زالت بعجز المكاتب، فهو نظير غاصب المدبر إذا ضمن القيمة بعد ما أبق، ثم رجع فيكون مردوداً على مولاه ويرد المولي على الغاصب ما أخذ منه» . كذا في المبسوط

(3)

والمغني.

ولو كان مكان العبد أمة فشهدا شاهدان على إقرار المولى أنَّها ولدت منه، والمولى ينكر فقضى القاضي بذلك ثم رجع [فهذا]

(4)

على وجهين:

إما أن يكون معها ولد أو لم يكن، أما إذا لم يكن معها ولد فإنَّهما يضمنان للمولى نقصان قيمتها فتقوم أمة قِنَّا

(5)

، وتقوَّم أم ولد أن لو جاز بيعها فيضمنان النقصان

(6)

.

(1)

الهداية (3/ 134).

(2)

المبسوط (17/ 9).

(3)

المبسوط (17/ 10).

(4)

في «س» : [فهو].

(5)

القِنُّ: هو العبد المملوك هو وأبوه، قال الأصمعي: القنّ الذي كان أبوه مملوكاً لمواليه فإذا لم يكن كذلك فهو عبدٌ مملَّك. التعريفات الفقهية (1/ 177).

(6)

ينظر: بدائع الصنائع (6/ 284)، فتح القدير (7/ 492).

ص: 148

وفيه تفريعات كثيرة مذكورة في شرح الطحاوي

(1)

.

‌إذا شهد الشهود بقصاص ثم رجعوا بعد القتل ضمنوا الدية

فإن قيل: ففي مسألة الكتاب ينبغي أن لا يكون الولاء للمولى لأنَّه ينكر العتق قلنا بقضاء القاضي بالحجة صار مكذباً شرعاً؛ لأنَّ القاضي لما قضى بالعتق من المولى تبعه الولاء

(2)

.

وقوله: «والمكره يمنع»

(3)

بنصب الراء على صيغة اسم المفعول؛ لأن الشَّاهد بمنزلة المكره والولي بمنزلة المكره، يعني: لما كان المكره يمنع كان الإكراه أقل إفضاءً إلى القتل، فكان قاصراً في الإفضاء ثم المكره مع ذلك يقتل قصاصاً مع قصوره في الإفضاء إلى القتل فأولى أن يقتل الشَّاهد قصاصا لكمال الشَّهادة في الإفضاء إلى القتل؛ لأنَّ ولي المقتول يعان في الاستيفاء [فكانت]

(4)

أكثر إفضاءً إلى القتل.

«ولنا أن القتل مباشرة لم يوجد»

(5)

فانتصاب مباشرة على التمييز، وكذا «تسبيباً» وإنَّما ألحق التسبيب بالمباشرة في حق القتل؛ لأن عند الشافعي/ المسبب بمنزلة المباشر في وجوب القصاص

(6)

.

وذكر في الأسرار: ومن مشايخنا من قال [به]

(7)

في تعليل المسألة بأنَّ الشُّهود مسببون إلا أنَّه ضعيف؛ لأنَّ المذهب عنده أن المسبب والمباشر واحد ألا ترى أنَّه يلزمه الكفارة؛ لأنَّ حافر البير بمنزلة القاتل بسوط صغير؛ لأن الحفر لا يعد للقتل وصفاً كالضرب بسوط صغير مرة أو مرتين.

فأمَّا الشَّهادة فطريق مسلوك لأخذ ما يثبت بالشَّهادة، فكان كالضرب بما يقصد به القتل؛ ولكنا نقول لما ثبت من مذهبنا أنَّ الولي لا يقتل، وقد باشر القتل مختاراً لا بإلزام الشُّهود؛ فإنَّه إن شاء عفا ثم لم يلزمه القَصاص للشبهة فالشُّهود الذين يصيرون بالشَّهادة متلفين حكما أولى؛ لأنَّ الضمان بالقتل الذي باشره الولي لا بالقضاء وحده.

وفي المبسوط: «وحجتنا في ذلك أن الشَّاهد مسبب [للقتل]

(8)

والمسبب لا يوجب القصاص كحفر البئر، وهذا لأنَّه يعتبر في القصاص المساواة ولا مساواة بين التَّسبيب والمباشرة، وبيان [الوصف]

(9)

أنَّ المباشر هو الولي، وهو طائع مختار في هذه المباشرة؛ فعرفنا أن الشَّاهد غير مباشر حقيقةً ولا حكماً ولا معنى لما ذكره في الإلجاء؛ لأن القاضي إنما يخاف العقوبة في الآخرة ولا يصير ملجئاً، فكل أحد يقيم الطاعة خوفاً من العقوبة على تركها في الآخرة ولا يصير به مكرهاً.

(1)

ينظر: شرح مختصر الطحاوي (8/ 173).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 209)، العناية شرح الهداية (7/ 491).

(3)

تمام المسألة في الهداية (3/ 134): «وإن شهدوا بقصاص، ثم رجعوا بعد القتل ضمنوا الدية، ولا يقتص منهم، وقال الشافعي/: يقتص منهم لوجود القتل منهم تسبيباً فأشبه المكره بل أولى؛ لأن الولي يعان والمكره يمنع» .

(4)

في «و» : [وكان].

(5)

الهداية (3/ 134).

(6)

ينظر: الحاوي الكبير (13/ 371)، نهاية المطلب (17/ 237)، الوسيط (6/ 259)، فتح العزيز (11/ 242).

(7)

سقط من: «ج» .

(8)

في «س» : [بالقتل].

(9)

في «ج» : [الوصفين].

ص: 149

ثم لما لم يجب القود عليهما عندنا كان عليهما الدية إن رجعا، وعلى أحدهما نصف الدية إن رجع؛ لأنَّ كل واحد منهما مسبب لإتلاف نصف النفس؛ فإن رجع الولي معهما أو جاء المشهود بقتله حيا فلولي المقتول الخيار بين أن يضن الشَّاهدين الدية وبين أنْ يضمن القاتل لأنَّ القاتل متلف للنفس حقيقة والشُّهود متلفون لها حكماً والإتلاف الحكمي في حكم الضمان كالإتلاف الحقيقي، فكان له أن يضمن أيهما شاء؛ فإن ضمن الولي الدية لم يرجع على الشَّاهدين بشيء لأنَّه ضمن بفعل باشره لنفسه باختياره.

وإن ضمن الشَّاهدين لم يرجعا على الولي أيضاً في قول أبي حنيفة رحمه الله

(1)

.

وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يثبت لهما حق الرجوع على الولي بما ضمنا؛ لأنَّهما ضمنا بشهادتهما، وقد كان عاملين فيه للولي فيرجعان عليه بما يلحقهما من الضمان كما لو شهدا بالقتل الخطأ، أو بالمال فقضى القاضي واستوفى المشهود له، ثم رجعوا جميعاً وضمن المشهود/ عليه الشَّاهدين كان لهما أن [يرجا]

(2)

على المشهود له.

ولا يقال هناك قد ملكاً المقبوض بالضمان وهنا لم يملكا؛ لأنَّ القصاص لا يملك بالضَّمان والمشهود به هو القصاص؛ لأنا نقول أنَّهما إن لم يملكا، فقد قاما مقام من ضمنهما في الرجوع على القاتل بمنزلة من غصب مدبراً فغصبه آخر منه، ثم ضمن المالك الغاصب الأول؛ فإنَّه يرجع بالضمان على الثاني، وإن لم يملك المدبر بالضمان؛ ولكنه قام مقام من ضمنه، وهذا لأنَّ القصاص مما يمَلَّك في الجملة حتى ملكه ولى القصاص وله بدل متقوَّم محتمل للتملُّك فيكون السبب معتبراً على أن يعمل في بدله عند تعذَّر إعماله في الأصل كاليمين على مس السَّماء ينعقد في إيجاب الكفارة الذي هو خلف عن البر لما كان الأصل وهو البر متوهم الوجود في الجملة، وعلى هذا غاصب المدبر فإن المدبر متقوم مملوك في الجملة فينعقد السَّبب للغاصب الأول فيه على أن يعمل في بدله حتى رجع للضمان على الغاصب الثاني.

وكذلك شهود الكتابة إذا رجعوا وضمنوا [للمولى]

(3)

القيمة كان لهم أن يرجعوا على المكاتب ببدل الكتابة ولم يملكوا رقبة [المكاتب]

(4)

ولكن لما كان المكاتب مملوكاً انعقد السبب في حقهم على أن يكون عاملاً في بدله، وهو بدل الكتابة فيملكون بدل الكتابة بذلك وإن لم يملكوا رقبة المكاتب [فهذا]

(5)

مثله.

(1)

في «س» : [رضى الله عنه].

(2)

في «ج» : [يرجوا].

(3)

في «س» : [الولي].

(4)

في «ج» : [الكتابة].

(5)

في «س» : [وهذا].

ص: 150

وأبو حنيفة رحمه الله

(1)

يقول الشُّهود ضمنوا لإتلافهم المشهود عليه حكما والمتلف لا يرجع بما يضمن بسببه على غيره كالولي؛ وهذا لأنَّهم لم يكونوا متلفين ما كانوا ضامنين مع المباشر للإتلاف؛ لأنَّ مجرد السبب سقط اعتباره في مقابلة المباشرة»

(2)

.

«ألا ترى أنَّه لو دفع إنسانا في بئر حفرها غيره في الطريق كان الضمان على الدافع دون الحافر، وهنا لما ضمن الشُّهود عرفنا أنَّهم جناة متلفون للنفس حكماً؛ وإن كان تمام ذلك الإتلاف عند استيفاء الولي، فإن استيفاء الولي بمنزلة شرط مقدر لجنايتهما ومن ضمن [لجنايته]

(3)

عن النفس لا يرجع على غيره، وأمَّا في الخطأ، فإنما يرجع لأنَّه ملك المقبوض، وهو الدية وقد أتلفه المستوفي تصرفه إلى حاجته، وهذا سبب آخر موجب للضمان عليه للشاهد وكذلك الشَّاهدان بالمال»

(4)

.

وقوله: «فإنَّه ينعقد السبب موجباً الملك له على أن يعمل في بدله قلنا هذا أن لو كان الأصل توهم الملك بالضمان وليس في القصاص توهم الملك بالضمان بحال، فلا ينعقد السبب [باعتبار]

(5)

الخلف كيمين الغموس.

ثم لو كان القصاص ملكاً لهما لم يضمنه المتلف عليهما كما إذا شهدا على الولي بالعفو أو [قتل]

(6)

من عليه القصاص إنسان آخر، فليس لمن له القصاص قبله الضمان وانعقاد السَّبب لا يكون أقوى من ثبوت الملك حقيقة، وبه فارق مسألة غصب المدبر والكتابة؛ فإنَّ هناك لو كان مالكاً حقيقة كان يضمنه المتلف عليه، فكذلك إذا جعل كالمالك حكماً باعتبار انعقاد السَّبب، فيكون له أن يرجع بالبدل لذلك. كذا في المبسوط

(7)

.

وإنَّما طولنا الكلام هنا لاحتياج أصول الفقه في هذه المسألة إلى هذا.

«بخلاف المكره لأنَّه يؤثر حياته» ؛ أي: يرجِّح المكره حياة نفسه على حياة الذي أُكره هو على قتله ظاهراً [فكان]

(8)

الإكراه بهذا الطريق أكثر إفضاءً إلى القتل من قتل الولي المشهود عليه بوجوب القصاص عليه إذ العفو مندوب فيختار العفو ظاهراً؛ لأنَّه لا ضرر فيه مع تضمن الثَّواب، فلم يلزم من شرع القَصاص في الإكراه الذي هو أكثر إفضاءً إلى القتل شرع القصاص في التي هي أقل إفضاءً إلى القتل.

(1)

في «س» : [رضى الله عنه].

(2)

الكلام بتمامه ونصه في المبسوط (26/ 181 - 182).

(3)

في «س» : [بجنايته].

(4)

المبسوط (26/ 183).

(5)

مكرر في «ج» .

(6)

في «ج» : [قيل].

(7)

المبسوط (26/ 183)، وقد نقل منه المصنف/ الصفحات الثلاث المتقدمة.

(8)

في «ج» : [وكان].

ص: 151

«ولأنَّ الفعل الاختياري مما يقطع النِّسبة»

(1)

؛ أي: القتل الصادر من الولي باختياره الصحيح من غير إجبار مما يقطع نسبة القتل إلى الشُّهود، فكان القتل مقصوراً على الولي، فلم يكن الشَّاهد قاتلاً؛ لأن تحلل فعل فاعل مختار تقطع النِّسبة إلى الأول كمن حل قيد عبد إنسان فأبق العبد؛ لا ضمان على الحال لما قلنا بخلاف المكره؛ فإن له اختياراً فاسداً وللمكره اختيار صحيح، والفاسد بمقابلة الصَّحيح بمنزلة المعدوم، فصار المكره بمنزلة الآلة للمكره؛ فلذلك انتقل فعل المكره إلى المكره.

‌في رجوع شهود الأصل وإنكار شهادة الفروع على شهادتهم

«ولو رجع شهود الأصل وقالوا لم نشهد شهود الفرع على شهادتنا، فلا ضمان عليهم»

(2)

؛ أي: فلا ضمان على شهود الأصل بالإجماع إذا كان رجوعهم بهذا التفسير.

«وأمَّا لو قالوا أشهدناهم وغلطنا»

(3)

في إشهادنا فعند محمد/ عليهم الضَّمان في هذه الصورة

(4)

.

«لأنَّهم أنكروا السبب»

(5)

أي لأنَّ شهود الأصل انكروا سبب إتلاف مال المدعى عليه/ «وهو الإشهاد» على شهادتهما، «ولا يبطل القضاء لأنَّه خبر محتمل»

(6)

؛ أي: لأنَّ إنكارهم الإشهاد خبر مُتَميِّل بين الصِّدق والكذب؛ فلا يبطل قضاء القاضي كما لو شهد [شاهدا]

(7)

الأصل به بأنفسهما وقال القاضي بشهادتهما ثم رجعا

(8)

.

«وإن قالوا أشهدناهم وغلطنا ضمنوا»

(9)

.

«وكذلك لو قالوا أشهدناهم على شهادتنا؛ [ولكنا]

(10)

رجعنا عن ذلك فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يضمن الأصول.

وعند محمد رحمه الله

(11)

يضمنون المال؛ لأنَّ الفرعين قاما مقام الأصلين في نقل شهادتهما إلى مجلس القاضي.

فأمَّا القضاء فيحصل بشهادة الأصلين فلهذا تعتبر عدالتهما فصار كأنَّهما حضرا بأنفسهما وشهدا ثم رجعا، فيلزمهما الضمان وهما قالا: الموجود من الأصلين شهادة في غير مجلس القضاء، والشَّهادة في غير مجلس القضاء لا يكون سبباً لإتلاف شيء، فلا يلزمهما الضمان وإن رجعا عن ذلك؛ لأن الشَّهادة تختص بمجلس القضاء كالرجوع، وقد بينا أن الرجوع في غير مجلس القضاء لا يوجب الضَّمان على الشُّهود؛ فكذلك الشَّهادة في غير مجلس القضاء ولا نقول إنَّ الفروع نائبون عن الأصول في نقل شهادتهم إلى مجلس القضاء فإنَّهم بعد الاشهاد لو منعوهم عن أداء الشَّهادة كان عليهم الأداء إذا طلب المدَّعى ولو كانوا نائبين عن الأصول لما كان لهم ذلك إذا منعهم الأصول عن الأداء؛ ولكنهم يشهدون على ما تحملوا وهو إشهاد الأصول إياهم على شهادتهم، ولو شهدوا على الحق نفسه ما كانوا نائبين فيه عن أحد؛ فكذلك إذا شهدوا على شهادة الأصول والجهتان متغايرتان، فإن إحديهما إشهاد، والثانية أداء للشَّهادة عند مجلس القاضي، فلا يجمع بينهم في التضمين؛ أي: لا يقال بأن الأصلين يضمنان نصف مال المدعى عليه والفرعين يضمنان نصف ماله؛ بل المدعى عليه يخير في تضمين أيِّ الفريقين [شاء]

(12)

؛ لأنَّه لا تجانس بين شهادتي الفريقين؛ لأنَّ شهادة الأصول قد كانت على أصل الحق وشهادة الفروع على شهادة الأصول، ولا مجانسة بينهما ليجعل الكل في حكم شهادة واحدة، فيكون الضمان عليهم جميعاً؛ بل يجعل كل فريق كالمنفرد والمشهود عليه يُضَمِّنُ أي الفريقين شاء كالغاصب مع غاصب الغاصب للمغصوب منه أن يضمن أيهما شاء». هذا كله من المبسوط

(13)

.

(1)

الهداية (3/ 134).

(2)

الهداية (3/ 134).

(3)

الهداية (3/ 134).

(4)

ينظر: البداية (1/ 159)، الهداية (3/ 134) تبيين الحقائق (4/ 251)، الجوهرة النيرة (2/ 239).

(5)

الهداية (3/ 134).

(6)

الهداية (3/ 134).

(7)

في «ج» : [شاهد].

(8)

ينظر: المبسوط (17/ 21).

(9)

الهداية (3/ 134).

(10)

في «ج» : [ولكن].

(11)

سقط من: «ج» .

(12)

في «ج» : [يشاء].

(13)

المبسوط (17/ 21).

ص: 152

فإن قلت: ألحق محمد/ بالغاصب وغاصب الغاصب في [تخيير]

(1)

تضمين المالك على ما ذكرت من المبسوط

(2)

.

ثم المالك هناك لو ضَمَّنَ الغاصب؛ فإنَّ الغاصب يرجع بذلك الضمان على الغاصب الثاني، ولو ضمن الغاصب الثاني؛ فإنَّه لا يرجع به على الغاصب الأول وهاهنا كل واحد من الفريقين لا يرجع به على الآخر عند الضمان فما وجه الفرق بينهما

(3)

.

قلت: كل واحد من فريقي الشُّهود الأصول والشُّهود الفروع مؤاخذ بفعله، فإذا ضمنه المشهود عليه لا يرجع به على الآخر.

فقال في الذَّخيرة: «فإنْ ضمن الفروع، فالفروع لا يرجعون به على الأصول كما في الغصب ولو ضمن المالك الغاصب الثاني لا يرجع به على الغاصب الأول، وإن ضمن الأصول لا يرجعون به على الفروع أيضاً بخلاف ما لو ضمن المالك الغاصب حيث يرجع به على غاصب الغاصب»

(4)

.

«وإنَّما كان هكذا ههنا؛ لأنَّ سبب التَّلف نقل شهادة الأصول إلى مجلس القضاء، ونقل شهادة الأصول ثبت لهما؛ فإنَّه لولا إشهاد الأصول لما تمكن الفروع من النقل، ولولا نقل الفُروع لم يثبت النقل»

(5)

.

[فكان]

(6)

فعل كل واحد من الأصول والفروع في حق المشهود عليه سببُ ضمانٍ على سبيل المباشرة، أمَّا في حق الفروع فظاهر؛ لأنَّهم نقلوا شهادة الأصول عند القاضي على وجه لو لم يعمل القاضي بشهادتهم يأثم.

«وكذلك الأصول مباشرون من حيث الحكم؛ لأنَّ أداء الفروع منقول إلى الأصول؛ لأنَّ الفروع مضطرون من جهة الأصول إلى الأداء بعد الإشهاد فإنَّهم لو امتنعوا من الأداء أثموا

(7)

.

ألا ترى أنَّ قضاء القاضي اعتبر منقولاً إلى الشَّاهد؛ لأنَّه مضطر إلى القضاء من جهته حتى لو امتنع عن القضاء به يأثم كذا هاهنا»

(8)

.

فلما كان كل واحد من الفريقين مباشراً في حقه كان كل واحد منهما مؤاخذاً بفعله على سبيل الانفراد، فلا يرجع أحدهما بالضَّمان على الآخر؛ لأن كل واحد منهما مستبد بفعله.

وأشار إلى هذا أيضاً ما ذكرنا من رواية المبسوط

(9)

بقوله: بل يجعل كل فريق كالمنفرد، بخلاف غاصب الغاصب.

(1)

في «س» : [تخير].

(2)

ينظر: المبسوط (17/ 21).

(3)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 575).

(4)

المحيط البرهاني (8/ 575).

(5)

المحيط البرهاني (8/ 575).

(6)

في «ج» : [وكان].

(7)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 252).

(8)

المحيط البرهاني (8/ 575).

(9)

ينظر: المبسوط (17/ 21).

ص: 153

‌المزكون إذا رجعوا عن التزكية ضمنوا

«وإن رجع المزكون عن التزكية ضمنوا

»

(1)

إلى آخره.

وفي المبسوط: «وإذا شهد الشُّهود على رجل بالزنا وزكاها المزكون/ وزعموا أنَّهم أحرار مسلمون فرجمه الإمام، ثم تبين أنَّهم عبيد أو مجوس، فإن ثبت المزكون على التزكية وزعموا أنَّهم أحرار، فلا ضمان عليهم ولا على الشُّهود؛ أما على الشُّهود؛ فلأنَّه لم يتبين كذبهم ولم تقبل شهادتهم إذ لا شهادة على المسلمين للعبيد والكفار، وأمَّا على المزكين؛ فلأنَّهم اعتمدوا على ما سمعوا من إسلامهم وحريتهم، وإنَّما زكوهم بقول الناس، فلم يتبين كذبهم فيما أخبروا به القاضي من قول النَّاس أحرار مسلمون، وأمَّا إذا رجعوا عن التَّزكية، وقالوا تعمدنا فعليهم ضمان الدية في قول أبي حنيفة رحمه الله

(2)

.

وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا ضمان على المزكين؛ ولكن الدية في بيت المال في الوجهين؛ لأنَّ المزكين ما أثبتوا سبب الإتلاف فسبب الإتلاف الزنا وما تعرضوا؛ وإنَّما أثنوا على الشُّهود خيراً [فكانوا]

(3)

في المعنى كشهود الإحصان.

وأبو حنيفة/ يقول: المزكُّون جعلوا ما ليس بموجب موجباً فكانوا بمنزلة من أثبت سبب الإتلاف.

وبيان ذلك أنَّ الشَّهادة لا توجب شيئاً بدون تزكية وسبب الإتلاف الشَّهادة؛ وإنَّما كانت الشَّهادة موجبة بالتَّزكية، فكانت التزكية علة العلة، وهي بمنزلة العلة في إضافة الحكم إليها بخلاف شهود الإحصان، فإنَّ الشَّهادة على الزنا بدون الإحصان موجبة للعقوبة وشهود الإحصان ما جعلوا ما ليس بموجب موجباً، وأمَّا الشَّهادة فلا توجب شيئاً بدون التزكية، فمن هذا الوجه يقع الفرق بينهما؛ ولهذا يشترط الذكورة في المزكين كشهود الزنا.

ويثبت الإحصان بشهادة النِّساء مع الرجال.

فإن قال المزكون: هم عدول، فلا شيء عليهم بالاتفاق؛ لأنَّهم صادقون في ذلك، والعبد قد يكون عدلاً؛ فلهذا لا يضمن المزكون». كذا في كتاب الحدود من المبسوط

(4)

.

«فصارت» ؛ أي: فصارت التزكية «في معنى علة العلة»

(5)

من حيث التأثير؛ وذلك لأنَّ العلة مؤثرة في إثبات الحكم، وكذلك علة العلة مؤثرة أيضاً في إعمال العلة إذ الشَّهادة لا تصير واجبة العمل إلا بالتزكية بخلاف شهود الإحصان، فإنَّ ذلك ليس بمؤثر في إثبات الزنا، فإن شهود الإحصان بشهادتهم على إحصانه أثبتوا للزاني خصال حميدة بقولهم: إنَّه مسلم حر تزوج امرأة بنكاح صحيح، وقد أوفى حقها شرعاً بالدُّخول، وكان ثبوت الخصال الحميدة في حقه مانعاً عن الزنا ومثبت ما يوجب المنع عن الشيء لا يكون كمثبت من يوجب وجود ذلك الشَّيء إذ هما على طرفي نقيض إذ الزنا أمر مذموم وهذه الخصال أمور محمودة، فلا يناط المذموم بالمحمود، فأي شيء هو يوجب الزنا، فهو يوجب الجلد أو الرجم، وهذه الأوصاف مانعة عن الزنا؛ فكيف يكون مثبتها مثبتا للزِّنا، فلما لم يوجب الزنا لم يوجب الرجم أيضاً؛ لأنَّ [نصَّ]

(6)

ذلك حكم الزنا عند وجود الإحصان

(7)

.

(1)

الهداية (3/ 134).

(2)

في «س» : رضي الله عنه.

(3)

في «س» : [وكانوا].

(4)

المبسوط (9/ 60).

(5)

الهداية (3/ 134).

(6)

سقط من: «س» .

(7)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 252، 253).

ص: 154

«فالضمان على شهود اليمين»

(1)

أي: ضمان قيمة العبد أو ضمان نصف المهر فيما إذا كانت اليمين في الطلاق قبل الدخول؛ لأنَّ وضع المسألة فيهما لا غير على ما هو المذكور في الكتاب.

وقوله: «خاصة» احتراز عن قول زفر: فإن عنده الضمان على شهود اليمين والشرط جميعاً، فقال:

«لأنَّ تلف المال حصل بشهادة الفريقين جميعاً؛ ولكنا نقول شهود اليمين أثبتوا بشهادتهم العلة الموجبة للعتق، وهي قوله: أنت حر وشهود الدخول إنما أثبتوا شرط العتق؛ فالشَّرط لا يعارض العلة في إحالة الحكم عليه؛ فالحكم يضاف إلى علته حقيقية؛ لأنَّه واجب بها شرعاً وإلى الشرط مجازاً؛ لأنَّه موجود عند الشَّرط [لا به]

(2)

والمجاز لا يعارض الحقيقة؛ بل متى كانت العلة صالحة لإضافة الحكم إليها لا يضاف شيء إلى الشَّرط، وهو نظير حافر البئر مع الملقي؛ فإنَّ الضَّمان على الملقي دون الحافر، وعلى القاتل دون المُمسك لهذا المعنى». كذا في المبسوط

(3)

.

«ولو رجع شهود الشرط وحدهم»

(4)

اختلف المشايخ فيه.

وذكر في المبسوط

(5)

: «ولم يذكر ههنا أنَّ اليمين لو كانت ثابته بإقرار المولى وشهد شاهدان بالشرط ثم رجعا، ظن بعض مشايخنا أنَّهما يضمنان في هذا الفصل، وقالوا: إن العلة لا تصلح لإضافة الحكم إليها ههنا، فإنَّها ليست تتعدى، فيكون الحكم مضافاً إلى الشَّرط على أنَّ الشَّرط يجعل خلفاً عن العلة ههنا باعتبار أنَّ الحكم يضاف إليه وجوداً عنده وشبه هذا بحفر البئر، وهو غلط؛ بل الصَّحيح من المذهب أنَّ شهود الشرط لا يضمنون بحال، نص عليه في الزيادات.

وهذا لأنَّ قوله: أنت حر مباشرة الإتلاف/ للمالية وعند وجود مباشرة الإتلاف الحكم يضاف إليه دون الشَّرط وسواء كان بطريق التَّعدي أو لا يكون بطريق التَّعدي بخلاف مسألة الحفر، فالعلة هناك ثِقَلُ الماشي، وذلك ليس من مباشرة الإتلاف في شيء؛ فلهذا يجعل الإتلاف مضافاً إلى الشَّرط وهو إزالة المسألة بحفر البئر التي في الطريق». والله أعلم.

* * *

(1)

الهداية (3/ 135).

(2)

في «ج» : [لأنه].

(3)

المبسوط (17/ 11).

(4)

الهداية (3/ 135).

(5)

المبسوط 17/ 11).

ص: 155

‌كتاب الوكالة

[كتاب الوكالة]

(1)

.

«لمَّا فرغ من بيان أحكام الشهادات بأنواعها، وما يتبعها من الرجوع عنها شرع في بيان أحكام الوكالة؛ إمَّا لمناسبة أنَّ كل واحد من الشهادة، والوكالة صفة من صفات الله تعالى لقوله تعالى:{ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}

(2)

.

وقوله: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}

(3)

.

وإما لأنَّ كلاً منهما إيصال النفع إلى الغير بالإعانة في إحياء حقِّه.

وإما لأنَّ كلاً منهما يصلح سبباً لاكتساب الثَّواب، والصيانة عن العقاب في المعاملات»

(4)

.

‌في محاسن الوكالة وفضائلها

«ثم محاسن شرعية الوكالة ظاهرةٌ إذ فيها قضاء حوائج المحتاجين إلى مباشرة أفعال لا يقدرون عليها بأنفسهم؛ فإن الله تعالى خلق الخلائق على هممٍ شتَّى، وطبائع مختلفة، وأقوياء وضعفاء، وليس كل أحد يرضى أن يباشر الأعمال بنفسه، ولا كل أحد يهتدي إلى المعاملات فمسَّت الحاجة إلى شرعية الوكالة.

فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم -باشر بعض الأمور بنفسه [تعظيماً]

(5)

لسُنَّة التواضع وفوَّض بعضها إلى غيره ترفيهاً لأصحاب المروءات حتى باشر تضحية بعض البُعران بنفسه، وفوَّض الباقي إلى علِّي رضي الله عنه

(6)

.

وفي قبول الوكالة بيان كفاية الأمور، وفي التَّوكيل اعتماد على من وكَّله في كل الأوقات، والدهور، وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}

(7)

.

‌في تعريف الوكالة لغة وشرعاً

ثم نحتاج ها هنا إلى معرفة ثمانية أشياء: تفسير الوكالة لغةً وشرعاً، ودليل جوازها، وسببها، وركنها، وشرطها، وصفتها وحكمها»

(8)

.

أما تفسيرها لغةً: فالوَكالة والوِكالة اسم للتوكيل من قولك وكَّلتك بأمر كذا توكيلاً [والتوكل]

(9)

إظهار العجز، والاعتماد على غيرك، والاسم التكلان.

(1)

طمس في «ج» .

(2)

سورة يونس، آية 46.

(3)

سورة آل عمران، آية 173.

(4)

ينظر: فتح القدير (8/ 3).

(5)

في «س» : [تعليماً].

(6)

جزء من حديث جابر بن عبد الله المشهور في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: «

ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت».

أخرجه: مسلم في الصحيح (2/ 886)، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218).

(7)

سورة المزمل، آية 9.

(8)

فتح القدير (8/ 3).

(9)

في «ج» : [التوكيل].

ص: 156

وقيل أيضاً: وكَّله بالبيع فتوكل به؛ أي: قبل الوكالة، واتكلت على فلان في أمري إذا اعتمدته وأصله اوتكلت، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدل منها التاء فأدغمت في تاء الافتعال ثم بُنيت على هذا الإدغام أسماءٌ من المثال إن لم يكن فيها تلك العلة توهماً أنَّ التاء أصلية كالتكلة، والتكلان، والتهمة، والتجاه، والتراث.

وأما الوكيل فهو القائم بما فُوِّض إليه، والجمع الوكلاء كأنَّه فعيل بمعنى مفعول؛ لأنَّه موكول إليه الأمر؛ أي: مفوض إليه كذا. في الصحاح

(1)

، والمُغرِب

(2)

.

وأما شرعًا: فإن التَّوكيل عبارةٌ عن إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوم

(3)

، حتى إنَّ التَّصرف إذا لم يكن معلومًا يثبت به أدنى تصرفات الوكيل وهو الحفظ.

وذكر في المبسوط: «وقد قال علماؤنا فيمن قال لآخر: وكَّلتك بما لي أنه يملك بهذا اللفظ الحفظ فقط»

(4)

.

‌أدلة مشروعية الوكالة

وأما دليل جوازها فثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول؛ أمَّا الكتاب فقوله تعالى:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}

(5)

، وهذا كان توكيلًا ولم يلحقه النكير

(6)

.

وأما السنة فما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم -أنه وكَّل حكيم

(7)

بن ِحِزام

(8)

بشراء الأضحية، وبه وكل عروة

(9)

البارقي

(10)

.

(1)

الصحاح للجوهري، مادة:«وكل» (5/ 1845).

(2)

المغرب (1/ 494).

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 499)، البناية شرح الهداية (9/ 216).

(4)

المبسوط (19/ 2).

(5)

سورة الكهف: 19.

(6)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 499)، البناية شرح الهداية (9/ 216).

(7)

حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، أبو خالد، صحابيّ، قرشي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين مولده بمكة، شهد حرب الفجار، وكان صديقاً للنّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، عمر طويلاً، قيل 120 سنة. وكان من سادات قريش في الجاهلية والإسلام، عالماً بالنسب، أسلم يوم الفتح، توفي سنة 54 هـ. ينظر: الاستيعاب (1/ 362)، سير أعلام النبلاء (7/ 170)، الإصابة (2/ 97).

(8)

الحديث عن حكيم بن حزام: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار، وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له أن يبارك له في تجارته» .

أخرجه: أبو داود في سننه (3/ 265)، كتاب البيوع، باب في المضارب يخالف، رقم (3388)، والترمذي في سننه (3/ 558)، كتاب البيوع، رقم (1257)، وقال: «

لا نعرفه إلا من هذا الوجه و حبيب بن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم بن حزام»، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود، رقم (215).

(9)

عروة بن الجعد، ويقال: ابن أبى الجعد البارقي، استعمله عمر على قضاء الكوفة، وكان فيمن حضر فتوح الشام ونزلها، ثم سيّره عثمان إلى الكوفة، وحديثه عند أهلها، روى عنه قيس بن أبى حازم، والشعبي، والسبيعي، وآخرون، توفي سنة 73 هـ.

ينظر: تهذيب الأسماء واللغات (1/ 331)، الوافي بالوفيات (19/ 360)، الإصابة (4/ 404).

(10)

الحديث عن عورة البارقي، أنه:«أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً يشتري به أضحية، أو شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه كان لو اشترى تراباً ربح فيه» .

أخرجه: أبو داود في سننه (3/ 256)، كتاب البيوع، باب في المضارب يخالف، رقم (3384)، والترمذي في سننه (3/ 551)، كتاب البيوع، رقم (1258)، وابن ماجه في سننه (2/ 803)، كتاب الصدقات، باب الأمين يتجر فيه فيربح، رقم (2402)، قال ابن الملقن في البدر المنير (6/ 453):«حسن المنذري إسناده والنووي، فهو حديث صحيح» .

ص: 157

ولما سأل رجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم شيئًا أعطاه هدبةً

(1)

من ثوبه، قال:«إيت وكيلي بخيبر ليعطيك ما سألتني بهذه العلامة»

(2)

.

وانعقد الإجماع على جوازها

(3)

، وكذلك المعقول يدل عليه؛ لأنَّ [للناس]

(4)

إلى هذا العقد حاجة، فقد يعجز الإنسان عن حفظ ماله عند خروجه للسفر، وقد يعجز عن التَّصرف في ماله إمَّا لقلة هدايته، أو لكثرة انشغاله، أو لكثرة ماله فيحتاج إلى تفويض التَّصرف إلى الغير بطريق الوكالة، فاقتضى هذا المعنى جوازها

(5)

.

‌سبب الوكلة وركنها

وأما سببها فما هو السبب في سائر المعاملات، وهو تعلق البقاء المقدور بتعاطيها؛ لأنها من المعاملات، وقد ذكرناه في أول البيوع

(6)

.

وأما ركنها: فالألفاظ التي تثبت بها الوكالة من قوله: وكلتك ببيع هذا العبد أو شرائه، واقترن به قبول المخاطب.

«وروى بشر، عن أبي يوسف رحمه الله

(7)

إذا قال الرجل لغيره: أحببت أن تبيع عبدي هذا، أو قال: هويت، أو قال: رضيت، [أو قال: شئت]

(8)

أو قال: أردت، أو قال: وافقني، فهذا كله توكيل، وأمر بالبيع

(9)

.

وإذا قال لا أنهاك عن طلاق امرأتي لا يكون هذا أمراً، وتوكيلاً حتى/ لو طلَّق لا يقع، وكذلك لو قال لعبده لا أنهاك عن التجارة لا يصير مأذوناً.

(1)

الهدبة: هي ما يترك في طرف الثوب غير منسوج. النظم المستعذب (2/ 177).

(2)

لم أقف على حديث بهذا اللفظ، والذ وقفت عليه: عن أبي نعيم وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، أنه سمعه يحدث قال: أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، وقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر فقال: «إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإن ابتغى منك آية، فضع يدك على ترقوته» .

أخرجه: أبو داود في سننه (3/ 350)، كتاب الأقضية، باب في الوكالة، رقم (3634)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 80)، رقم (11764)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع (1/ 42)، رقم (288).

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (19/ 2)، تحفة الفقهاء (3/ 227)، العناية شرح الهداية (7/ 499)، بداية المجتهد (2/ 301)، الذخيرة (8/ 5)، البيان للعمراني (6/ 393)، المجموع شرح المهذب (14/ 92)، مغني المحتاج (3/ 231)، المغني لابن قدامة (5/ 63)، شرح الزركشي على مختصر الخرقي (4/ 139).

(4)

في «ج» : [الناس].

(5)

ينظر: المبسوط (19/ 2).

(6)

ينظر: العناية شرح الهداية (6/ 247).

(7)

سقط من: «س» .

(8)

سقط من: «ج» .

(9)

فتح القدير (8/ 4).

ص: 158

قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: الجواب في الوكالة كذلك، أما في الإذن يجب أن يصير العبد مأذوناً في قول علمائنا؛ لأنَّ العبد بسكوت المولى يكون مأذوناً، وهذا فوق السُّكوت». كذا في الذخيرة

(1)

.

«وذكر الإمام المحبوبي لو قال: أنت وكيلي في كل شيءٍ، كان وكيلاً بالحفظ

(2)

.

إلا إذا زاد فقال: أنت وكيلي في كل شيء جائز صنعك، فعند محمد رحمه الله يصير وكيلًا في البياعات، والإيجارات، والهبات، والطلاق، والعتاق، وعند أبي حنيفة رحمه الله

(3)

وكيل في المعاوضات

(4)

دون غيرها»

(5)

.

وقد قال بعض مشايخنا: إذا قال لامرأته: [تو وكيل مني مرخه خواهي كن]، فقالت: طلقت نفسي لا يقع الطلاق عليها إذا لم يرد الزوج الطلاق، ولم يكن في حال مذاكرة الطلاق.

‌شرط الوكالة وصفتها وحكمها

وأما شرطها فهو ما ذكر في الكتاب في قوله: «ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل يملك التصرف، ويلزمه الإحكام

»

(6)

إلى آخره على ما يجيء مشروحًا بأتمِّ مما ذكر فيه.

وأما صفتها؛ فإنَّها من العقود الجائزة غير اللازمة حتى مَلَك كل واحد من الموكل، والوكيل العزل بدون رضا صاحبه

(7)

، على ما يجيء مشروحاً.

وأما حكمها فجواز مباشرة الوكيل فيما فوض إليه، وثبوت حكم مباشرته للموكِّل

(8)

.

قوله رحمه الله «كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره»

(9)

.

ولا يرد على هذا صحة توكيل المسلمُ الذميَّ بشراء الخمر وبيعها؛ لأن ذلك عكس وليس بطرد، فلا يرد نقضًا بأنه لم يقل كل عقد لم يجز له أن يعقده بنفسه لا يجوز أن يوكل به [غيره]

(10)

، وإنما يجيء ذلك بعد هذا بأوراق في قوله:«ومن شرط الوكالة أن يكون الموكِّل ممن يملك التصرف»

(11)

.

(1)

فتح القدير لابن الهمام (7/ 500).

(2)

فتح القدير (5/ 700)، المحيط البرهاني (6/ 12)، تبيين الحقائق (4/ 254).

(3)

في «س» : رضي الله عنه.

(4)

المعاوضات: لغة: جمع معاوضة، من العوض، أو البدل الذي يبذل في مقابلة غيره. واعتاض منه وتعوض منه: أخذ العوض. ينظر: القاموس المحيط (1/ 836)، المصباح المنير (2/ 523).

واصطلاحاً: المبادلة بين عوضين. ينظر: معجم المصطلحات المالية والاقتصادية (1/ 427)، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية (3/ 311).

(5)

فتح القدير (7/ 500)، تبيين الحقائق (3/ 359).

(6)

قال في الهداية: (وتلزمه الأحكام)(3/ 137).

(7)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 500)، البناية شرح الهداية (9/ 216).

(8)

ينظر: فتح القدير لابن الهمام (7/ 501).

(9)

الهداية (3/ 136).

(10)

سقط من: «س» .

(11)

الهداية (3/ 137).

ص: 159

فإن قيل: يرد في طرده نقض، وهو أن الذمي يملك بيع الخمر بنفسه، ولا يجوز له أن يوكل المسلم ببيعها.

قلنا: الذمي ها هنا يملك بيع الخمر بنفسه، ويملك توكيل غيره ببيعها أيضاً حتى إنه لو وكل ذمياً آخر ببيعها يجوز؛ وإنما لم يجز توكيل المسلم هنا لمعنى في المسلم، وهو أنه مأمور بالاجتناب عنها.

وفي جواز التَّوكيل ببيعها اقترابها والحُرمة إذا جاءت من قبل المحل لا تكون مانعة لعبارة التصرف بلفظ الكل.

حتى إن قائلاً لو قال: كل من تزوج امرأة بنكاح صحيح حل له وطئها لا يرد عليه الحائضة والمُحرِمَةُ؛ لأنَّا نقول هناك جائز أيضاً إلا أنَّ المنع من الوطء جاء من قبل المرأة لمعنى عارض حتى إذا انعدم هذا المعنى ظهر الِحلُّ الذي ثبت بالنكاح الصحيح

(1)

.

فإن قيل يشكل هذا الاستقراض؛ فإنه لو استقرض بنفسه يجوز، ولو وكَّل غيره بالاستقراض لا يجوز؛ بل الاستقراض يقع على المستقرض الذي هو الوكيل لا على الموكل.

قلنا: قد ذكر في الذخيرة: لو أخرج الوكيل كلامه في الاستقراض مخرج الرسالة، بأن قال: إن فلاناً يستقرض منك عشرة ففعل المُقرِض تكون الدراهم للآمر حتى لا يكون للوكيل أن يمنع ذلك منه، ولو أخرج الكلام مخرج الوكالة بأن قال للمقرض أقرضني عشرة دراهم كانت العشرة للوكيل؛ وله أن يمنعها من الآمر؛ لأنَّ التَّوكيل بالاستقراض باطل بخلاف الرسالة

(2)

؛ فإنَّ الرسالة موضوعةٌ لنقل العبارة؛ فإن الرسول مُعبِّر، والعبارة ملك المرسل؛ فقد أمره بالتصرف في ملكه باعتبار العبارة؛ فيصح فيما هو حقه

(3)

.

وأما الوكالة فغير موضوعة لنقل عبارة الموكل؛ فإن العبارة للوكيل، ولهذا كان حقوق العقد له، فلا يمكننا تصحيح هذا الأمر باعتبار العبارة؛ لأنَّ الوكيل غير ناقل للعبارة، ولا نقول بأنَّ التَّوكيل بالبيع من حيث أنه أمر بنقل عبارة الموكل التي هي ملك الموكل؛ لأن العبارة للوكيل في جميع الصور؛ وإنما صَحَّ؛ لأن محل البيع ملك الموكل، فقد أمر الوكيل بإزالة المبيع عن ملكه فصح التَّوكيل بالبيع باعتبار إزالة المبيع عن ملك الموكل.

وأما في فصل الاستقراض فالعبارة للوكيل، والمحل الذي أمره في التصرف فيه ملك الغير، فإنَّ الدراهم التي يستقرضها الوكيل ملك المقرض، والأمر بالتصرف في ملك الغير باطل

(4)

.

(1)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 254)، فتح القدير (7/ 501)، حاشية رد المحتار (5/ 511).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 217).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 255).

(4)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 502)، البناية شرح الهداية (9/ 232)، البحر الرائق (7/ 143).

ص: 160

ولا نقول بأن التَّوكيل بالشراء صحيح من حيث أنَّه يتملك المشتري؛ لأن المشتري ملك الغير؛ وإنما صح؛ لأنه أمر بإيجاب الثمن في زمة الموكل وزمته ملكه، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه بالاستقراض، لأنَّ البدل في باب القرض إنما يجب دينًا في ذمة المستقرض بالقبض لا يعقد القرض؛ فلابد من تصحيح الأمر أولاً حتى يستقيم الأمر بإيجاب المثل في ذمته والأمر بالقبض لم يصح؛ لأنَّه ملك الغير، ولما تعزر تصحيح هذه الوكالة باعتبار جانب التملك وباعتبار جانب العبارة، بطل.

ثم ذكر/ في الذخيرة في ذكر شرط الوكالة: فمن جملة شروط الوكالة أن يكون التَّوكيل حاصلاً بما يملكه الموكل حتى إذا حصل بما لا يملكه الموكل كان باطلاً؛ لأن التَّوكيل إثبات ولاية تصرف، وإثبات الولاية ممن لا ولاية له باطل

(1)

.

ثم قال: وهذا قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- أما على قول أبي حنيفة رحمه الله

(2)

شرط صحة التَّوكيل كون التَّوكيل حاصلاً بما يملكه الوكيل، فأمَّا كون الموكل مالكاً له فليس بشرط لا محالة حتى أن المسلم إذا وكَّل الذِّمي ببيع الخمر، وشرائه جائز عنده

(3)

.

قلت: فعلى هذه الرواية يجوز أن يحمل إطلاق ما ذكر في الرواية بقوله: «كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوُكِّل به غيره»

(4)

على قول أبي يوسف ومحمد خلافاً لأبي حنيفة رحمهم الله كما حمل إطلاق قوله: «والمعاني الموجبة للغسل إنزال المَنِّي على وجه الدفق، والشهوة

»

(5)

على قول أبي يوسف على ما ذكرنا.

«لأنَّ الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض الأحوال»

(6)

بأن كان مريضاً، أو شيخاً، فانياً، أو رجلاً ذا وجاهةٍ لا يتولى الأمور بنفسه.

فإن قيل التَّوكيل صحيح عند عدم هذه العوارض، فإن الرجل الصحيح الذي هو يباشر أموره بنفسه، لو وكَّل غيره صح، فلو كانت صحة الوكالة بسبب هذه المعاني لانحصرت فيها.

قلنا: حكمة الحُكمِ تُراعَى في الجنس لا في الأفراد كالسفر مع المشقة، وهذا من قبيل ذلك

(7)

.

«وبالتزويج عمر بن أم سلمة

(8)

»

(9)

؛ أي: وكَّله تزويج أمه أم سلمة من النبي صلى الله عليه وسلم

(10)

.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 226).

(2)

في «س» : رضي الله عنه.

(3)

ينظر: المبسوط (19/ 5)، حاشية رد المحتار (7/ 272).

(4)

بداية المبتدي (1/ 159).

(5)

بداية المبتدي (1/ 19).

(6)

الهداية (3/ 136).

(7)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 503)، البناية شرح الهداية (9/ 217).

(8)

عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسود بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمه أم سلمة المخزومية أم المؤمنين، يكنى أبا حفص، ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة، حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث، وروى عنه سعيد بن المسيب، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وعروة بن الزبير، شهد مع علي رضي الله عنه الجمل، واستعمله علي رضي الله عنه على فارس والبحرين، وتوفي بالمدينة في خلافة عبد الملك بن مروان سنة 83 هـ.

ينظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 1160)، أسد الغابة (4/ 169).

(9)

الهداية (3/ 136).

(10)

أخرجه: النسائي في سننه (6/ 81) أحمد في المسند (6/ 313)، رقم (26711)، كتاب النكاح، باب إنكاح الابن أمه، رقم (3254)، والحاكم في المستدرك (4/ 18)، رقم (6759)، وقال: صحيح، ووافقه الذهبي، وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (6/ 251)، رقم (1846).

قال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (4/ 318): «وفي هذا الحديث نظرٌ، لأنَّ عمر كان له من العمر يوم تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، وكيف يقال له: زوِّج؟! وهذا لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوَّجها في سنة أربع، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعمر تسع سنين، فعلى هذا يحمل قولها لعمر: قم فزوِّج؛ أن يكون على وجه المداعبة للصغير.

ولو صحَّ أن يكون الصغير قد زوَّجها؛ فلأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتقر نكاحُه إلى وليٍّ، قال أبو الوفاء ابن عقيلٍ: ظاهر كلام أحمد أنَّه يجوز أن يتزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير وليٍّ لأنَّه مقطوعٌ بكفاءته».

ص: 161

‌في جواز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق

«وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق»

(1)

؛ أي: في جميعها.

وذكر في الصحاح وسائر الناس؛ أي: جميعهم وسار الشيء: لغةً في سائره

(2)

؛ أي: جميعه لما قدمنا، وهو قوله:«لأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه»

(3)

وما ذكره من حديث التوكيل.

«وقد صَحَّ أن عليًا وكَّل عقيلًا رضي الله عنهما»

(4)

؛ أي: في الخصومات.

«وإنما كان يختار عقيلًا

(5)

؛ لأنَّه كان ذكيِّا حاضر الجواب، حتى حُكِي أن عليًا رضي الله عنه استقبله يوماً، ومعه عنز له، فقال علِّي على سبيل الدعابة: أحد الثلاثة أحمق، فقال عقيلٌ: أما أنا وعنزي فعاقلان، فلما كَبُر عقيل، وأسنَّ، وكَّلَ عبد الله بن جعفر الطيَّار

(6)

؛ إمَّا لأنه وقَّره لكبر سنه، أو لأنه انتقص ذهنه، فوكَّل عبد الله بن جعفر، وكان شابًا ذكيًا». كذا في المبسوط

(7)

.

(1)

الهداية (3/ 136).

(2)

الصحاح للجوهري (2/ 692).

(3)

الهداية (3/ 136).

(4)

الهداية (3/ 136).

والأثر عن علي عن عبد الله بن جعفر قال: «كان على بن أبى طالب رضي الله عنه يكره الخصومة فكان إذا كانت له خصومة وكل فيها عقيل بن أبى طالب فلما كبر عقيل وكلني» .

أخرجه: البيهقي في السنن الكبرى (6/ 81)، رقم (11769).

(5)

عقيل بن أبي طالب الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو يزيد، وأبو عيسى، أخو على وجعفر وطالب لأبيهم، كان طالب أسن من عقيل بعشر سنين، وعقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وجعفر أسن من على بعشر سنين، حضر بدرًا مع المشركين مكرهًا، وأسر يومئذ ففداه عمه العباس، هاجر سنة ثمان، وشهد غزوة مؤتة، وكان من أنسب قريش وأعلمهم بآبائها وأيامها، وكان سريع الجواب المُسْكِت للخصم، توفي في خلافة معاوية، وقد كف بصره، ودُفن بالبقيع.

ينظر: تهذيب الأسماء واللغات (1/ 337)، سير أعلام النبلاء (3/ 99).

(6)

عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي، أبو جعفر أول مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة، وقدم مع أبيه المدينة، وحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه، كان عبد الله ابن جعفر كريماً، جواداً، ظريفاً، خليقاً، عفيفاً، سخياً يسمى بحر الجود، ويقال: إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه، وتوفي بالمدينة سنة ثمانين، وهو ابن تسعين سنة.

ينظر: الاستيعاب (3/ 881)، سير أعلام النبلاء (3/ 456).

(7)

المبسوط (19/ 3).

ص: 162

«وكذا بإيفائها، واستيفائها»

(1)

؛ أي: بإيفاء الحقوق واستيفائها.

«إلا في الحدود، والقصاص»

(2)

.

‌في بطلان التوكيل باستيفاء الحقوق

«فإن التَّوكيل باستيفاء الحدود باطل بالاتفاق؛ لأنَّ الوكيل قائم مقام الموكل، والحدود تندرئ بالشبهات، فلا يستوفى بما تقوم مقام الغير لما في ذلك من [ضرب] شبهة ألا ترى أنها لا تستوفي بكتاب القاضي إلى القاضي، والشهادة على الشهادة، وشهادة النساء مع الرجال، وكذلك التَّوكيل باستيفاء القصاص لا يجوز، ولا يستوفى في حال غيبة الُموكِل عندنا.

وعند الشافعي

(3)

/ [لا]

(4)

يستوفيه الوكيل؛ لأنَّه محض حق العباد ومبنى حقوق العباد على الحفظ، والصيانة عليهم، فكان لصاحب القصاص أن لا يحضره بنفسه ويوكل باستيفائه دفعًا للضرر عن نفسه كسائر حقوقه؛ ولكنا نقول هذه عقوبة تندرئ بالشُبُهات، فلا يستوفي لما يقوم مقام الغير كالحدود، ولهذا لا يستوفي بكتاب القاضي إلى القاضي، وشهادة النساء مع الرجال، وكذلك التَّوكيل باستيفاء القصاص يوضحه أنَّه لو استوفى في حال غيبة المُوكِل كان استيفاء مع شبهة العفو لجواز أنْ يكون الموكل قد عفا بنفسه والوكيل لا يشعر به؛ ولهذا إذا كان الموكل حاضرًا يجوز للوكيل أنْ يستوفي؛ لأنه لا يتمكن فيه شبهة العفو، وقد يحتاج الموكل إلى ذلك إما لقلة هدايته في الاستيفاء، أو لأنَّ قلبه لا يحتمل ذلك فيجوز التَّوكيل بالاستيفاء عند حضرته استحساناً». كما في المبسوط

(5)

.

«

للندب الشرعي»

(6)

؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}

(7)

.

«بخلاف غيبة الشاهد

» يعني يستوفي الحدود، والقصاص عند غيبة الشاهد؛ لأنَّ الشبهة في حقه الرجوع والظَّاهر في حق الشاهد عدم الرجوع إذ الصدق هو الأصل خصوصاً في حق العدول

(8)

.

«وبخلاف حالة الحضر»

(9)

؛ أي: حضرة الموكل، أي: يجوز للوكيل أن يستوفي القصاص حال حضرة الموكل

(10)

.

(1)

الهداية (3/ 136).

(2)

الهداية (3/ 136).

(3)

ينظر: التهذيب في الفقه الشافعي، للبغوي (4/ 210).

(4)

سقط من: «س» .

(5)

المبسوط (19/ 9).

(6)

تمامها في الهداية (3/ 136): «وشبهة العفو ثابتة حال غيبة الموكل؛ بل هو الظاهر للندب الشرعي» .

(7)

سورة البقرة، آية 237.

(8)

ينظر: العناية شرح الهداية (7/ 505)، البناية شرح الهداية (9/ 221).

(9)

الهداية (3/ 136).

(10)

ينظر: فتح القدير لابن الهمام (7/ 504).

ص: 163

«لانتفاء هذه الشبهة»

(1)

: وهي شبهة العفو.

«وليس كل أحد يحسن الاستيفاء» فهذا جواب إشكال، وهو أن يقال لمَّا حضر الموكل لم يحتج إلى التَّوكيل باستيفاء القصاص؛ بل يستوفيه [بنفسه]

(2)

لما أن في التَّوكيل شبهة البدليَّة واستيفاء القصاص مما لا تجري فيه الإبدال، فأجاب عنه بهذا.

وهو ما ذكرنا من رواية المبسوط في قوله: «وقد يحتاج الموكل/ إلى ذلك إما لقلة هدايته في الاستيفاء

» إلى آخره

(3)

.

«وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة رحمه الله»

(4)

؛ أي: التَّوكيل بإقامة البيِّنة قول أبي حنيفة لا قول أبي يوسف، فإن عند أبي يوسف رحمه الله

(5)

كما لا يجوز التَّوكيل باستيفاء الحدود، والقصاص بالإجماع؛ فكذلك لا يجوز التَّوكيل بإثبات الحدود، والقصاص أيضاً

(6)

.

وإنما قلنا: إن معنى قوله: «هو الذي ذكرناه قول أبي حنيفة» ؛ هذا لأنَّه لما قال: «وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق»

(7)

؛ أي: في كلها دخلت فيها حقوق الحدود، والقصاص أيضاً؛ لأنهما من الحقوق، ثم استثنى من تلك الحقوق استيفاء الحدود، والقصاص بقوله:

«إلا في الحدود، والقصاص فإن الوكالة لا تصح باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس»

(8)

تعيَّن ما قلنا إن عند أبي حنيفة رحمه الله

(9)

يجوز التَّوكيل بإثبات الحدود والقصاص بإقامة البينة.

والدَّليل على هذا أيضاً ما ذكره في وكالة المبسوط في باب ما لا تجوز فيه الوكالة، فقال:

«وإذا وكَّل الرجل وكيلاً بطلب قصاص في نفس أو فيما دون النفس لا تجوز، وإن وكَّله لإقامة البينة على ذلك جاز التَّوكيل في قول أبي حنيفة، ومحمد -رحمهما الله- إلا أن عند أبي حنيفة رحمه الله

(10)

عند مرض الخصم، أو غيبته، وعند محمد رحمه الله على كل حال، وعلى قول أبي يوسف/ لا يجوز التَّوكيل بذلك.

وَجهُ قوله: إن الوكيل يقوم مقام الموكل في دعوى القصاص، فالقصاص لا يثبت بما يقوم مقام الغير كما لا يثبت بالشهادة على الشهادة، وشهادة النساء مع الرجال؛ وهذا لأنَّ هذه عقوبة تندرئ بالشبهات، وفيما يقوم مقام الغير ضرب شبهة، وفي العادة إنما يوكِّل ليحتال الوكيل لإثباته، وإنما يحتال لإسقاط القصاص لا لإثباته، ألا ترى أن التَّوكيل باستيفاء القصاص لا يجوز باعتبار أنه يندرئ بالشبهات فكذلك بإثباته.

(1)

الهداية (3/ 136).

(2)

سقط من: «ج» .

(3)

المبسوط (19/ 4).

(4)

الهداية (3/ 136).

(5)

سقط من: «س» .

(6)

ينظر: بدية المبتدي (1/ 159)، الهداية (3/ 136)، بدائع الصنائع (6/ 21)، الاختيار لتعليل المختار (2/ 157)، العناية شرح الهداية (7/ 505)، البناية شرح الهداية (9/ 221).

(7)

الهداية (3/ 136).

(8)

الهداية (3/ 136).

(9)

سقط من: «س» .

(10)

في «س» : [رضى الله عنه].

ص: 164

وقد ذكر في بعض المواضع قول محمد كقول أبي يوسف وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه وكَّل بما يملك مباشرته بنفسه، فإذا وقع الغلط أمكن التدارك والتلافي، فصح التَّوكيل كما في الأموال بخلاف استيفاء القصاص؛ فإنه إذا وقع [الغلط فيه]

(1)

لا يمكن التدارك والتلافي.

فأما إثبات القصاص كإثبات سائر الحقوق من حيث [إنه]

(2)

إذا وقع الغلط فيه أمكن التدارك، وعلى هذا الخلاف إذا وكل المطلوب بالقصاص وكيلاً بالخصومة في دفع ما يطالب به، وكلام أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل أظهر؛ لأنَّ دفع القصاص جائز بما يقوم مقام الغير ألا ترى أن الشهادة [على الشهادة]

(3)

وشهادة النساء مع الرجال في العفو صحيحة؛ ولكن هذا الوكيل لو أقرَّ في مجلس القضاء بوجوب القصاص على موكله لم يصح إقراره استحساناً.

وفي القياس يصح؛ لأنه قام مقام الموكل بعد صحة التَّوكيل، ألا ترى أن في سائر الحقوق جعل إقراره كإقرار الموكل فكذلك في القصاص.

وفي الاستحسان يقول: إقرار الوكيل قائم مقام إقرار الموكل، والقصاص لا يستوفى بحجة قائمة مقام غيرها يوضحه أن حَملَنا التَّوكيل على الجواب؛ لأن جواب الخصم من الخصومة؛ ولكن هذا نوع من المجاز، فأما في الحقيقة فالإقرار ضد الخصومة، والمجاز، وإن اعتبر لقيام الدليل فالحقيقة تبقى شبهة، وفي الحقيقة الإقرار ضد الخصومة فيصير ذلك شبهة فيما تندريء بالشبهات دون ما يثبت مع الشبهات، وكذلك الخلاف في التَّوكيل بإثبات حد القذف، أو دفعه من جهة القاذف فأما التَّوكيل بإثبات المال في السَّرقة دون طلب الحد فمقبول بالاتفاق؛ لأن المقصود إثبات المال، والمال يثبت مع الشبهات، ألا ترى أن بالشَّهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال يثبت المال، فأما التَّوكيل بإثبات الحدِّ فهو على الخلاف الذي بيَّنا». هذا كله من المبسوط

(4)

.

«غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه»

(5)

، أي: على موكله بأن أقرَّ الوكيل فقال: نعم قتل موكلي ذلك المقتول الذي وقع الدعوى فيه.

(1)

في «س» : [فيه الغلط].

(2)

سقط من: «س» .

(3)

سقط من: «ج» .

(4)

المبسوط (19/ 107)، وانظر النقل المتقدم من المبسوط.

(5)

المسألة بتمامها قال في الهداية (3/ 136): «

ولأبي حنيفة/ أن الخصومة شرط محض لأن الوجوب مضاف إلى الجناية والظهور إلى الشهادة فيجري فيه التَّوكيل كما في سائر الحقوق، وعلى هذا الخلاف التَّوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد والقصاص، وكلام أبي حنيفة/ فيه أظهر؛ لأنَّ الشبهة لا تمنع الدفع، غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه لما فيه من شبهة عدم الأمر به».

ص: 165

هذا جواب سؤال مقدر بأن يقال: ينبغي أن يجوز إقرار الوكيل على موكله في التَّوكيل ممن عليه القصاص كما في الأموال حيث يجوز إقرار الوكيل على موكله فيها.

وجوابه ما ذكرنا من جواب الاستحسان من المبسوط

(1)

.

«وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز التَّوكيل بالخصومة إلا برضا الخصم»

(2)

سواء كان الوكيل وكيل المدَّعِي، أو وكيل المدَّعَى عليه إلا من عذر، والعذر مرض أو سفر، ويستوي عنده الموكل إذا كان رجلاً، أو امرأة بكراً كانت، أو ثيباً.

وفي قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- تُقبَل الوكالة من الرجال والنساء في جميع الأحوال، وكان أبو يوسف يقول أولاً: تقبل من النساء ولا تقبل من الرجال، ثم رجع عن ذلك/ وقال: يُقبَل من الرجال والنساء جميعاً

(3)

.

وقال ابن أبي ليلى رحمه الله -تقبل من البكر، ولا تقبل من الثيب، ولا من الرجل.

وأجمعوا في الشهادة على الشهادة أنها إنما تقبل إذا كان الأصيل مريضاً لا يستطيع الحضور إلى مجلس القاضي، أو يكون غائباً غيبة سفرٍ، أو يكون ميتًا. كذا في شرح الطحاوي

(4)

.

‌في التوكيل بالخصومة، وفي جواز توكيل النساء

وذكر في فتاوى قاضي خان بعد ما ذكر قول أبي حنيفة: «وقال محمد، والشافعي

(5)

، وأبو يوسف [رحمهم الله]

(6)

آخراً: يجوز التَّوكيل بالخصومة، ويستوي فيه الوضيع، والشريف، والرجل، والمرأة، وبه أخذ أبو القاسم الصفَّار

(7)

.

وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله الصحيح عندي أنَّ القاضي إذا علم بالمدَّعِي التعنت في إباء التَّوكيل يقبل التَّوكيل، ولا يلتفت إليه، وإن علم من الموكل القصد إلى الإضرار بالمدعي ليشتغل الوكيل بالحِيَل، والأباطيل، والتلبيس لا يقبل منه التوكيل»

(8)

.

«ويجوز للمرأة المخدَّرة أن توكِّل؛ وهي التي لم تخالط الرجال بكراً كانت، أو ثيباً. كذا ذكر أبو بكر الرازي

(9)

رحمه الله وعليه الفتوى.

(1)

ينظر: النقل المتقدم من المبسوط.

(2)

الهداية (3/ 137).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 223).

(4)

ينظر: شرح مختصر الطحاوي للجصاص (8/ 126).

(5)

ينظر: التهذيب للبغوي (4/ 212)، الحاوي الكبير (6/ 509).

(6)

سقط من: «ج» .

(7)

أبو القاسم الصفار البلخي، نقل عن الفقيه أبو جعفر الهندواني فى طبقة الكرخي، تفقه عليه جماعة: منهم أحمد بن الحسين المروزي والصفار، مات سنة 336 هـ.

ينظر: الجواهر المضية (2/ 263).

(8)

فتاوى قاضي خان (3/ 3).

(9)

هو الإمام أبو بكر أحمد بن علي الجصاص، الرازي، إمام الحنفية في عصره أخذه عن أبي سهل الزجاج، وتفقه على أبي الحسن الكرخي، وبه انتفع واستقر التدريس له ببغداد، وانتهت الرحلة إليه ورئاسة الحنفية، وسئل ولاية القضاء فامتنع، وكان على طريق من تقدمه في الزهد والورع، وله تصانيف منها: أحكام القرآن، و شرح مختصر الكرخي، و شرح مختصر الطحاوي، وغيرها، مات سنة 370 هـ.

ينظر: الجواهر المضية (1/ 84)، سير أعلام النبلاء (16/ 340).

ص: 166

وإذا علم القاضي أن الموكل عاجز عن البيعة في الخصومة بنفسه يقبل منه التوكيل»

(1)

.

وفي فتاوى العتَّابي

(2)

: التَّوكيل بغير رضا الخصم لا يجوز؛ معناه لا يجبر خصمه على قبول الوكالة، وعندهما يجبر، وهو المختار، والشَّريف، وغيره سواء

(3)

.

«ولا خلاف في الجواز إنما الاختلاف في اللزوم»

(4)

يعني: هل ترتد الوكالة برد الخصم، أم لا؟

عنده [ترتد]

(5)

وعندهما لا [ترتد]

(6)

(7)

.

فعلى هذا التأويل كان المراد من قوله في أول المسألة؛ «قال أبو حنيفة رحمه الله

(8)

لا يجوز التَّوكيل بالخصومة إلا برضا الخصم»، أي: لا يلزم ذكر الجواز، وأراد اللزوم؛ لأنَّ الجواز من لوازم اللزوم، فيجوز ذكر اللازم وإرادة الملزوم كما في قوله الزكاة واجبة؛ أي: فريضة؛ لكن الوجوب يلازم الفريضة، فأريد بالوجوب الفرض، فكذا هنا.

«لهما [أن]

(9)

التَّوكيل تصرف في خالص حقه»

(10)

هاهنا مضمر؛ أي: التَّوكيل من الموكل تصرف لاستدعاء الضَّمير في حقِّه إياه.

«وإنَّما قلنا: التَّوكيل من الموكل تصرف في خالص حقه فيكون صحيحاً بغير رضا الخصم كالتوكيل بالقبض، والإيفاء، والتقاضي، وذلك لأنَّه وكَّله بالجواب، أو بالخصومة والخصومة من خالص حق الموكل، وكذلك الجواب؛ لأنه إنما يوكله بجواب هو إنكار، والإنكار خالص حق الموكل؛ لأنَّه يدفع به الخصم عن نفسه فعرفنا أنه إنما وكَّله بما هو من خالص حقه.

وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: هو بهذا التَّوكيل قصد الإضرار بخصمه فيما هو مستحق عليه، فلا يملكه إلا برضاه كالحوالة.

ومعنى هذا الكلام أنَّ الحضور، والجواب مستحق عليه بدليل أن القاضي يقطعه عن اشغاله، ويحضره ليجيب خصمه، والنَّاس يتفاوتون في هذا الجواب فرُبَّ إنكار هو أشد دفعاً للمدعي من إنكار، والظَّاهر أنَّ الموكل إنَّما يطلب من الوكيل ذلك الأشد؛ فإنَّ الناس إنما يقصدون بهذا التَّوكيل أن يشتغل الوكيل بالحيل والأباطيل؛ ليدفع حق الخصم عن الموكل، وفيه إضرار بالخصم، وأكثر ما في الباب أن يكون توكيله بما هو من خالص حقه.

(1)

حاشية رد المحتار (7/ 281).

(2)

هو كتاب الفتاوى المعروف بجامع جوامع الفقه، لأحمد بن محمد بن عمر العتابي البخاري، أبو نصر، أو أبو القاسم زين الدين، عالم بالفقه والتفسير، حنفي، من أهل بخارى ولد وتوفى بها، من كتبه «جوامع الفقه» ، والتفسير، وشرح الجامع الكبير، وشرح الجامع الصغير، و (شرح الزيادات للشيباني، توفي سنة 586 هـ.

ينظر: الجواهر المضية (1/ 103)، الفوائد البهية، ص (63)، الأعلام (1/ 216)، كشف الظنون (1/ 567).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 223)،

(4)

الهداية (3/ 137).

(5)

في «س» : [ترد].

(6)

في «س» : [ترد].

(7)

ينظر: الجوهرة النيرة (1/ 298)، البناية شرح الهداية (9/ 223).

(8)

سقط من: «س» .

(9)

سقط من: «س» .

(10)

الهداية (3/ 137).

ص: 167

ولكن لمَّا كان يتصل به ضرر بالغير من الوجه الذي قلنا لا يملك بدون رضاه؛ كمن استأجر دابة لركوبه، أو ثوب للبسه لا يملك أن يؤاجره من غيره؛ وإن كان يتصرف في ملكه وهو المنفعة؛ ولكن يتصل به ضرر بملك الغير [وهو العين]

(1)

؛ لأن النَّاس يتفاوتون في اللبس، والركوب.

وكذلك أحد الشَّريكين في العبد إذا كاتب كان للآخر أن يفسخ، وإن حصل تصرف المكاتب في ملكه؛ لأنَّ ضرره يتصل بالشَّريك، وهذا بخلاف التَّوكيل بالقبض والإيفاء؛ فإنَّ الحق معلوم بصفته، فلا يتصل بهذا التَّوكيل ضرر بالآخر»

(2)

.

قوله رحمه الله

(3)

: «ولهذا يستحضره»

(4)

، أي: للمدعي ولاية أن يحضر المدعى عليه إلى مجلس القاضي، فلو لم يكن جواب المدعي واجب على المدعى عليه لما ملك المدعي الإحضار.

‌في توكيل المريض

إذا [كاتب]

(5)

أحدهما يُخيَّر الآخر إن شاء أمضي الكتابة، وإن شاء فسخ بخلاف المريض، والمسافر متصل بقوله: «إلا أن يكون الموكل مريضا

لأن الجواب غير مستحق عليهما هنالك»

(6)

، أي: لعجز المسافر بالغيبة، وعجز المريض بالمرض.

«ثم المريض إذا كان لا يستطيع أن يمشي على قدميه؛ ولكن يستطيع أن يمشي على ظهر دابته، أو ظهر إنسان، فإن ازداد مرضه؛ صح التوكيل.

وإن كان لا يزداد اختلفوا فيه، قال بعضهم: هو على الخلاف أيضاً، [وقال بعضهم له]

(7)

أن يوكل، وهو الصحيح». كذا في فتاوى قاضي خان

(8)

.

‌في توكيل المسافر

«ثم كما يلزم التَّوكيل عنده من المسافر يلزم إذا أراد السفر»

(9)

، والمراد من اللزوم هاهنا صحة التوكيل، وجوازه بدون رضا الخصم.

وذكر في فتاوى قاضي خان: «وكما يجوز للمسافر في أدنى مدة/ السفر أن يوكل بغير رضا الخصم؛ يجوز لمن أراد أن يخرج إلى سفر لكن لا يصدَّق أنه يريد السفر، ولكن القاضي ينظر إلى زيِّه، وعُدة سفره، أو يسأل عمَّن يريد أن يخرج معه؛ فيسأل عن رفقائه كما في فسخ الإجارة»

(10)

.

(1)

سقط من: «ج» .

(2)

المبسوط (19/ 7 - 8).

(3)

سقط من: «ج» .

(4)

الهداية (3/ 137).

(5)

في «س» : [كاتبه].

(6)

الهداية (3/ 137).

(7)

في «ج» : [أنه].

(8)

فتاوى قاضي خان (3/ 3).

(9)

«

لتحقق الضرورة». الهداية (3/ 137).

(10)

فتاوى قاضي خان (3/ 3).

ص: 168

‌في جواز توكيل المرأة المخدرة

«ولو كانت المرأة مخدرة، ولم تجر عادتها بالبروز»

(1)

.

وذكر الإمام البزدوي: المخدَّرة هي التي لا يراها غير المحارم من الرجال، أما التي جلست على المنصة فرآها الأجانب لا تكون مخدرة؛ فلو وكَّلت بالخصومة فوجب عليها اليمين، وهي لا تُعرف بالخروج، ومخالطة الرجال في الحوائج يبعث الحاكم إليها ثلاثة من العدول يستحلفها أحدهم، ويشهد الآخران على حلفها

(2)

.

والمسألة في باب الأعداء في المنتقي، وإنما يفعل هكذا لأنَّ النيابة لا تجري في الأيمان.

وذكر في الباب الثلاثين، وهو باب الأعداء من أدب القاضي للصدر الشهيد:

«إذا كان المستعدى عليه مريضاً، أو [امرأة]

(3)

مخَّدرة؛ وهي التي لم يعهد لها الخروج إلا عند الضرورة، لا يأمر بإحضارهما

(4)

.

«أما المريض؛ فلأنه معذور قال الله تعالى: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}

(5)

.

وأما المخدرة؛ فلأنه لا فائدة في إحضارها؛ لأن الحياء يمنعها من التكلم وربما يصير ذلك سبباً لفوات حقها

(6)

.

فبعد هذا لا يخلو إما أن يكون القاضي مأذوناً بالاستحلاف، أو لم يكن.

فإن كان يبعث إليها، أو إلى المريض خليفة، فيفصل الخصومة هنالك؛ لأن مجلس الخليفة كمجلسه

(7)

.

وإن لم يكن لا يستحلف؛ ولكن يبعث إليها أميناً من أمنائه، ويبعث مع الأمين رجلين أمينين أيضاً ممن يعرفان المرأة والمريض؛ لأن المقصود من هذا أن ينقلا كلام المرأة إلى القاضي إقراراً كان أو إنكاراً [وشهدا]

(8)

على ذلك، وإنَّما يمكنهما الشهادة إذا كانا يعرفان المرأة والمريض، فإذا أتى الأمين مع الشَّاهدين إلى المرأة إن أقرَّت بدعوى المدَّعِي شهد شاهدان على ذلك، وقال الأمين لها، أو للمريض وكِّل وكيلاً يحضر مع خصمك مجلس الحكم.

فإذا فعل ذلك حضر الشاهدان فشهد عليه عند القاضي بما أقر بمحضر من وكيله، وإن جحد الدعوى أمره الأمين أن [يوكل]

(9)

وكيلاً يحضر مع خصمه؛ ليقيم عليه البينة، والشَّاهدان اللذان ذهبا مع الأمين ينقلان إنكار الخصم كما ينقلان إقراره.

فإذا توجه اليمين عليها، أو على المريض عرض الأمين اليمين.

(1)

الهداية (3/ 137).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 225).

(3)

سقط من: «ج» .

(4)

ينظر: فتح القدير (7/ 509)، البناية شرح الهداية (9/ 225)، حاشية رد المحتار لابن عابدين (7/ 282).

(5)

سورة النور، آية 61.

(6)

ينظر: المحيط البرهاني (8/ 41).

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 225).

(8)

في «ج» : [وشهدانا].

(9)

في «ج» : [يتوكل].

ص: 169

فإذا عرض اليمين فأبى أن يحلف عرض، عليه ثلاث مرات، فإذا نكل عن اليمين أمره أيضاً أنْ يوكل وكيلاً يحضر مع خصمه مجلس الحكم، ويحضر الشاهدان فيشهدان عند القاضي بمحضر من وكيله بنكوله عن اليمين.

فإذا شهدا بذلك عند القاضي بمحضر من المدعي، والوكيل حكم القاضي عليه بالدعوى بنكوله عن اليمين، وألزمه ذلك»

(1)

.

قال الشيخ الإمام -شمس الأئمة- السرخسي: هذا اختيار صاحب الكتاب، فإنَّه لا يشترط للقضاء بالنكول أن يكون على فور النكول، فأمَّا غيره من المشايخ يقولون يشترط للقضاء بالنكول أن يكون على أثر النكول، فلا يمكن للقاضي أن يقضي بذلك النكول، فكيف يصنع على قولهم؟.

اختلفوا، قال بعضهم الأمين يحكم عليها بالنكول، ثم ينقل الشاهدان ذلك إلى مجلس القاضي مع وكيلها فالقاضي يمضي ذلك؛ فيكون هذا إمضاءً لذلك الحكم.

وقال بعضهم: فإن القاضي يقول للمدعي: أتريد حَكَماً يحكم بينكما بذلك ثمَّة، فإذا رضي بذلك يبعث أميناً إلى الخصم الآخر فيخبره بالحكم فإذا رضي بحكم الحكم بينها وحكم الحكم بين الخصمين بمنزلة حكم القاضي المولى فإذا حكم الحكم بينهما؛ فإن كان شيئاً لا اختلاف فيه بين الفقهاء نفذ، إن كان فيه اختلاف يتوقف على إمضاء القاضي، فإذا أمضى القاضي ذلك نفذ

(2)

.

والقضاء بالنكول مختلف بين الفقهاء، فيتوقف النفاذ إلى إمضاء القاضي فإذا أمضى القاضي المولي ذلك الحكم نفذ على الكل.

‌من الأعذار التي توجب التوكيل بغير رضا الخصم

وذكر في الذخيرة: ومن الأعذار التي توجب [لزوم]

(3)

التَّوكيل بغير رضا الخصم عند أبي حنيفة رحمه الله الحيض في المرأة إذا كان القاضي يقضي في المسجد، وهذه المسألة على وجهين:

إن كانت الحائض طالبة، قُبِل منها التَّوكيل بغير رضا الخصم، [وإن]

(4)

كانت مطلوبة أو أخرها الطالب حتى يخرج القاضي من المسجد لا يقبل منها التَّوكيل من غير رضا الطالب.

وإنْ كان الموكل محبوساً فهو على وجهين:

إن كان محبوساً في سجن هذا القاضي الذي [رفعت]

(5)

الخصومة إليه لا يقبل التَّوكيل من غير رضا الخصم؛ لأن القاضي يخرجه من السجن حتى يخاصم ثم يعيده إلى السجن.

وإن كان محبوساً في سجن الوالي، ولا يمكنه الوالي من الخروج لأجل الخصومة يقبل [منه]

(6)

التوكيل، ويلزم

(7)

.

(1)

شرح أدب القاضي للخصاف (2/ 318 - 320).

(2)

ينظر: فتح القدير (7/ 510)، حاشية ابن عابدين رد المحتار (7/ 282).

(3)

في «س» : [اللزوم].

(4)

في «ج» : [فإن].

(5)

في «ج» : [رجعت].

(6)

في «ج» : [منهما].

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 225).

ص: 170

‌من شروط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف

«ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف»

(1)

[أي ممن يملك ذلك التصرف]

(2)

الذي وكل الوكيل به، وقد ذكرنا في أوائل كتاب الوكالة من رواية الذخيرة، أنَّ هذا القيد وقع على قول أبي يوسف، ومحمد [رحمهما الله]

(3)

.

«وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فمن شرط الوكالة كون التَّوكيل حاصلا ًبما يملكه الوكيل؛ فأمَّا كون الموكل مالكاً لذلك التصرف الذي وكَّل الوكيل به فليس بشرط.

فإن قلت يشكُل على ما ذكره في الكتاب ما ذكره في الذخيرة بقوله: وإذا قال الرجل لغيره خذ عبدي هذا [وبعه]

(4)

بعبد، أوقال اشتري لي به عبداً؛ صح التَّوكيل بهذا، وإن لم تصح مباشرة الموكل في مثل هذا التصرف فإنَّ من قال لغيره: بعتك هذا العبد بعبد، أو قال: اشتريت منك هذا العبد عبداً لا يجوز.

قلت: إنما جاز ذلك في التوكيل، ولم يجز في مباشرة نفسه لوجود المعنى الفارق بينهما هو أن الجهالة إنما تمنع عن الجواز لإفضائها إلى المنازعة.

وأمَّا إذا لم [تؤد]

(5)

إليها، فلا تمنع كما في بيع قفيز من صُبرة طعام، أو شرائه.

ثم جهالة الوصف في التَّوكيل لا يُفضِي إلى المنازعة؛ لأنَّ التَّوكيل ليس بأمر لازم، ولا كذلك المباشرة؛ لأنها لازمة فتفضي إلى المنازعة، فالمانع من الصحة المنازعة لا نفس الجهالة»

(6)

.

ثم إذا صح التَّوكيل [ينظر]

(7)

بعد ذلك إن كان قد وكَّله بالشراء، فاشترى بغير عينه، لا يجوز كما لو اشترى الموكل بنفسه، وإن اشترى عبداً بعينه إن كان قيمة العبد المشترى مثل قيمة هذا العبد، أو أقل مقدار ما يتغابن الناس فيه يجوز، وإن كان مقدار لا يتغابن الناس فيه لا يجوز، وكذلك في جانب الوكالة بالبيع. كذا ذكره في الفصل العاشر من وكالة الذخيرة.

وقوله: «وتلزمه الأحكام»

(8)

قيل: هذا احتراز عن الوكيل؛ فإنَّ الوكيل مما لا يثبت له حكم تصرفه، وهو الملك؛ فإن الوكيل بالشراء لا يملك المشترى، والوكيل بالبيع لا يملك الثمن؛ فلذلك لا يصح [توكيل]

(9)

غيره.

(1)

الهداية (3/ 137).

(2)

مكرر في «ج» .

(3)

سقط من «س» .

(4)

في «ج» : [أو بعه].

(5)

في «ج» : [ترد].

(6)

ينظر: فتح القدير (8/ 11).

(7)

في «ج» : [ننظر].

(8)

تمام المسألة في الهداية (3/ 137): «ومن شرط الوكالة أنْ يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام» .

(9)

في «س» : [توكيل الوكيل].

ص: 171

وقيل: هو احتراز عن الصبي المحجور، والعبد المحجور، فإنهما لو اشتريا شيئاً لا يملكانه فلذلك لم يصح توكيلهما

(1)

.

«لأن الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل فلا بد أن يكون الموكل مالكاً [ليملكه]

(2)

من غيره»

(3)

فإن قيل يشكل على هذا الوكيل، فإنَّه يملك التصرف، ومع ذلك أنَّه لو وكل غيره لا يصح.

‌من شروط صحة الوكالة أن يكون الوكيل ممن يعقل العقد ويقصده

قلنا: إنا نقول من شرط صحة التَّوكيل أن يكون الموكل مالكاً للتصرف، ولا يلزم من هذا أن كل من يملك التصرف يصح توكيله؛ بل لا يصح لفقدان شرط آخر [سواه]

(4)

كما نقول من شرط وجوب الحج كون من وجب عليه مالكاً للزاد، والراحلة، ولا يلزم من هذا أن يجب الحج على كل من يملك الزاد، والراحلة؛ بل لا يجب لفقد شرط آخر، وهو أمن الطريق؛ فكذلك ها هنا يجب أن يكون الموكل مالكاً للتصرف؛ أي: على طريق الاستبداد من غير أن يستفاد جواز تصرفه من آخر، وإنَّما ترك هذا؛ لأن الأصل هو الاستبداد.

«ويشترط أن يكون الوكيل ممن يعقل العقد»

(5)

.

وذكر في مأذون الذخيرة معنى قول محمد رحمه الله إذا كان الصبي يعقد البيع، والشراء أن يعرف أن الشراء جالب والبيع سالب، ويعرف الغبن

(6)

اليسير من الغبن الفاحش لا نفس العبارة

(7)

.

«ويقصده» ؛ أي: لا يهزل في البيع والشراء.

«وإذا أوكل الحر البالغ، أو المأذون مثلهما جاز»

(8)

هذا غير منحصر على المثلية في صفة الحرية، والرقبة؛ بل يجوز للموكل أن يوكل من فوقه كتوكيل العبد المأذون الحر، أو من دون كتوكيل الحر العبد المأذون

(9)

؛ لأن التعليل بقوله: «لأن الموكل مالكاً للتصرف، والوكيل من أهل العبارة»

(10)

، يشمل الأوجه الثلاثة من المثلية، والفوقية والدونية

(11)

.

(1)

ينظر: فتح القدير (7/ 512)، الجوهرة النيرة (1/ 199)، البناية شرح الهداية (9/ 226).

(2)

في «ج» : [لتملكه].

(3)

الهداية (3/ 137).

(4)

في «ج» : [سواء].

(5)

الهداية (3/ 137).

(6)

الغَبنُ في اللغة: الغبن بالتسكين في البيع، والغَبَنُ بالتحريك في الرأي. يقال غبنته في البيع بالفتح، أي: خدعته، وقد غُبِنَ فهو مَغبونٌ، وغَبِنَ رأيه بالكسر إذا نقصه فهو غَبينٌ؛ أي: ضعيف الرأي، وفيه غبانة. الصحاح للجوهري (6/ 2172)، مادة:«غبن» .

وعند الفقهاء هو نوعان اليسير والفاحش فاليسير ما يتغابن الناس في العادة، لا يتحرزون عنه. والفاحش هو ما لا يتغابن الناس فيه عادة وعرفوه (ما يخرج عن تقويم المقومين).

ينظر: معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لفة الفقهاء (ص 342).

(7)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 254)، الجوهرة النيرة (1/ 299)، حاشية رد المحتار (7/ 273).

(8)

الهداية (3/ 137).

(9)

ينظر: الجوهرة النيرة (1/ 299).

(10)

الهداية (3/ 137).

(11)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 227).

ص: 172

«وإن [وكَّل]

(1)

صبياً محجوراً

إلى قوله: ولا تتعلق بهما الحقوق»

(2)

فكان في هذا إشارة إلى أنه لو كان الوكيل صبِّياً مأذوناً، أو عبداً مأذوناً تتعلق الحقوق بهما لا بموكلهما

(3)

.

‌في توكيل الحر البالغ أو المأذون مثلهما

لكن ذلك ليس بمطلق؛ [بل]

(4)

فيه تفصيل ذكره في الذخيرة، فقال: وإن كان الوكيل صبيِّاً مأذوناً في التجارة؛ فإن كان وكيلاً بالبيع بثمن حال، أو بثمن مؤجل [فباع]

(5)

؛ جاز بيعه، ولزمه العهدة، وأمَّا إذا كان وكيلاً بالشِّراء إن كان وكيلاً بالشراء بثمن مؤجل لا يلزمه العهدة قياساً، واستحساناً؛ بل تكون العهدة على الآمر حتى إن البائع يطالب الآمر بالثمن دون الصبي، وذلك لأنَّ ما يلزمه من العهدة ضمان كفالة، وليس بضمان ثمن؛ لأنَّ ضمان الثمن مما يفيد الملك للضامن في المشترى، وهذا لا يفيد الملك للضامن في المشترى؛ إنما هذا يلتزم مالاً في ذمته استوجب مثل ذلك على موكله، وهذا هو معنى الكفالة، والصبي المأذون يلزمه ضمان الثمن ولا يلزمه ضمان الكفالة

(6)

.

‌في توكيل الصبي والعبد

وأمَّا إذا وكله بالشِّراء بالثمن الحال، فالقياس أن لا يلزمه العهدة، وفي الاستحسان يلزمه؛ لأن ما/ يلزمه ضمان ثمن؛ لأن ضمان الثمن ما يفيد الملك في المشترى وها هنا الصبي بما يلتزم من الضمان يملك المشترى من حيث الحكم فإنه يحبسه بالثمن حتى يستوفى من الموكل كما لو اشترى لنفسه ثم باع منه، والصبي المأذون من أهل أن يلتزم ضمان الثمن بخلاف ما إذا كان الثمن مؤجلاً؛ لأنه بما يضمن من [الثمن]

(7)

لا يملك المشترى لا من حيث الحقيقة، ولا من حيث الحكم؛ لأنه لا يملك حبسه بذلك، وكان ضمان كفالة من حيث المعنى. والجواب في العبد إذا توكل [ببيع] ٍ

(8)

، أو شراء على التفصيل الذي ذكرنا في الصبي

(9)

.

ثم اعلم أن الصبي المحجور، والعبد المحجور، وإن لم تتعلق بهما الحقوق في الوكالة فلقبضهما الثمن، وتسلمهما اعتبار؛ لأنه ذكر في الكتاب بعد هذا في فصل الشِّراء في التَّوكيل بعقد السلم، فقال:«والمستحق بالعقد قبض العاقد، وهو الوكيل فيصح قبضه، وإن كان لا يتعلق به الحقوق كالصبي، والعبد المحجور عليه»

(10)

؛ يعني: إذا كان الوكيل صبيِّاً محجوراً، أو عبداً محجوراً يعتبر قبضه؛ لكونه عاقداً، وإن كان لا يتعلق به الحقوق

(11)

.

(1)

في «ج» : [كل].

(2)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 137): «وإن وكَّلا صبياً محجوراً يعقل البيع والشراء أو عبداً محجوراً؛ جاز، ولا يتعلق بهما الحقوق ويتعلق بموكلهما» .

(3)

ينظر: الجوهرة النيرة (2/ 288).

(4)

سقط من: «ج» .

(5)

سقط من: «ج» .

(6)

ينظر: فتح القدير (7/ 514)، تبيين الحقائق (4/ 256)، العناية شرح الهداية (7/ 514).

(7)

في «ج» : [المشترى].

(8)

في «ج» : [بيع].

(9)

ينظر: فتح القدير (7/ 514)، تبيين الحقائق (4/ 256).

(10)

الهداية (3/ 140).

(11)

ينظر: فتح القدير (7/ 515).

ص: 173

ثم ذكر الإمام قاضي خان في الجامع الصغير الفرق بين الصبي المحجور والعبد المحجور في حق لزوم العهدة بعد البلوغ، والحرية، فقال:

ثم الصبي وإن بلغ لا يلزمه تلك العهدة، والعبد إذا عتق يلزمه تلك العهدة؛ لأنَّ المانع من لزوم العهدة في حق العبد حق المولى لا حق العبد؛ لأنَّه من أهل الالتزام، وحق المولى زال بالعتق أمَّا المانع في حق الصبي حقه، وحقه لا يزول بالبلوغ

(1)

.

هكذا أيضا ذكر في المبسوط، فقال: «والعبد بمنزلة الصبي إلا أنه إذا كان محجوراً عليه يلزمه العهدة بعد العتق؛ لأن قول العبد [ملزم]

(2)

في حق نفسه؛ لكونه مخاطباً؛ وإنما لا يكون ملزماً في حق المولى، وقد سقط حقه بالعتق، فأما قول الصبي المحجور عليه فليس بملزم في حق نفسه، ولهذا لا يلزمه العهدة بعد البلوغ»

(3)

.

ثم قال: «وإن كان المأمور مرتداً؛ جاز بيعه لأنه من أهل عبارة معتبرة؛ ولكن يتوقف حكم العهدة عند أبي حنيفة رحمه الله

(4)

فإن أسلم كانت العهدة عليه، وإلا فالعهدة على الآمر، وعندهما العهدة عليه على كل حال، وهو نظير اختلافهم في تصرفات المرتد لنفسه بيعاً وشراءً»

(5)

.

ثم نظير عدم تعلق الحقوق بهما؛ بل بتعلق الحقوق بموكلهما ما [ذكره]

(6)

الإمام قاضي خان بقوله: وقلنا بلزوم العهدة على الموكل كما في الرسول والقاضي وأمينه كما إذا عثر على [عيب]

(7)

والجامع بينهما عدم الرضا.

‌في تعلق الحقوق بالوكيل والموكل

«والعقد الذي يعقده الوكلاء»

(8)

؛ أي: جنس العقد، وقوله:«فحقوقه تتعلق بالوكيل دون الموكل»

(9)

.

وعن هذا ذكر في الإيضاح: أنَّ للوكيل أن يوكل في الحقوق التي يوجبها العقد عليه وله من شاء، وإن وكَّل الموكل لم يجز؛ لأنَّ الوكيل أصل في الحقوق فملك التفويض إلى الغير

(10)

.

«وصار كالرسول» بأنَّ قال رجل لآخر: كن رسولي في بيع عبدي لا يرجع حقوق العقد إلى الرسول.

«ولنا أنَّ الوكيل هو العاقد حقيقة

»

(11)

إلى آخره.

«وذلك لأنَّ العاقد لغيره في الشراء كالعاقد لنفسه؛ لأن مباشرة العقد بالولاية الأصلية الثابتة له إلا أنَّه كان لا ينفذ تصرفه بهذه الولاية في محل هو مملوك للغير إلا برضا المالك به، فالتَّوكيل لتنفيذ حكم التصرف في المحل لا لإثبات الولاية [له]

(12)

.

(1)

ينظر: الجوهرة النيرة (1/ 299).

(2)

في «ج» : [يلزم].

(3)

المبسوط (19/ 45).

(4)

في «س» : رضي الله عنه.

(5)

المبسوط (19/ 45).

(6)

في «ج» : [ذكر].

(7)

في «ج» : [عير].

(8)

الهداية (3/ 137).

(9)

الهداية (3/ 137).

(10)

ينظر: مجمع الأنهر (2/ 226).

(11)

الهداية (3/ 137).

(12)

سقط من: «ج» .

ص: 174

وإذا كان تصرفه بالولاية الأصليَّة كان عقده لنفسه ولغيره سواء فيما هو من حقوقه، والدَّليل عليه أنَّه مستغنٍ عن إضافة العقد إلى الموكل؛ فإنَّ الوكيل بشراء شيء بعينه لو لم يضف العقد إلى الموكل يقع للموكل بخلاف النكاح؛ حتى إذا أضافه إلى نفسه كان العقد له دون الموكل، فعرفنا أنه [معبر]

(1)

عنه يوضحه أنَّ الوكيل بالنكاح ليس له قبض المعقود عليه، والوكيل بالشراء إليه قبض السِّلعة.

وحقيقة الفرق أن كل عقد يجوز أن ينتقل موجبه من شخص إلى شخص، فالوكيل فيه كالعاقد لنفسه، وكل عقد لا يجوز أن ينتقل موجبه من شخص إلى شخص فالوكيل فيه يكون معبِّراً، فموجب النكاح ملك البضع، وهو لا يحتمل النقل وموجب الشِّراء ملك الرقبة، وهو يحتمل النقل، فيجعل كأنَّ الوكيل تملكه بالشراء، ثم ملكه من الموكل هذا على طريقة الإمام الكَرخِي رحمه الله حيث يقول بأنَّ الملك وقع للوكيل أولاً؛ فأما على طريقة أبي طاهر الدبَّاس

(2)

رحمه الله الملك يقع للموكل، ولكن بعقد الوكيل على سبيل الخلافة عنه، وملك النكاح لا يحتمل مثل هذه الخلافة، وأما ملك المال فيحتمل، ألا ترى أنَّ بعقد العبد الملك يقع لمولاه، وبعقد المورث يقع لوارثه بعد موته؛ فلهذا كان الوكيل فيه بمنزلة العاقد لنفسه فيما هو من حقوق العقد»

(3)

.

وذكر في التتمة بعد ما ذكر هذا الاختلاف على هذا الوجه.

[وقال]

(4)

-شمس الأئمة- السرخسي- رحمه الله: قول/ أبي طاهر أصح

(5)

؛ ولهذا لو كان المشترى منكوحة الوكيل، أو قريبه لا يفسد النكاح، ولا يعتق عليه

(6)

، في باب الوكالة بالسلم.

وذكر الصَّدر الشَّهيد أن القاضي الإمام أبا زيد -رحمهما الله- خالفاهما، وقال: الوكيل نائب في حق الحكم أصيل في حق الحقوق؛ فإنَّ الحقوق تثبت له، ثم تنتقل إلى الموكل من قبله، فوافق أبا الحسن في حق الحقوق، ووافق أبا طاهر في حق الحكم، وهذا حسن

(7)

.

(1)

في «ج» : [معتبر].

(2)

أبو طاهر الدَّباس: هو محمد بن محمد بن سفيان، الفقيه، الحنفي، إمام الحنفية بما وراء النهر، قال ابن النجار:«إمام أهل الرأي بالعراق» ، درس الفقه على القاضي أبي خازم، وهو من أقران أبي الحسن الكرخي، تخرج به جماعة من الأئمة، ولي القضاء بالشام وخرج منها إلى مكة وجاور وتوفي فيها، نقل عنه السيوطي في أول الأشباه والنظائر أنه رد جميع مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة، وأنه كان ضريرًا.

ينظر: الجواهر المضة (2/ 116)، الوافي بالوفيات (1/ 137).

(3)

المبسوط (19/ 34).

(4)

في «س» : [وقال: قال].

(5)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 17).

(6)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 17).

(7)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 18)، البناية شرح الهداية (9/ 230).

ص: 175

وهكذا ذكر أيضاً في الإيضاح قول القاضي الإمام أبي زيد.

وقال فيه أيضاً قبل هذا: فالتَّوكيل بالعقود ينقسم إلى قسمين:

منهما ما لها حقوق تقبل [الفصل]

(1)

عن الحكم كالنكاح، والخلع، والصُّلح عن دم العمد، والعتق على مال، والكتابة، والصلح على إنكار.

فنقول: حكم العقد يقع للموكل، فأمَّا الحقوق في التصرفات التي يقبل الحكم الفصل [فيها]

(2)

عن العقد، فيقع للوكيل فيكون الوكيل أصيلاً في حق الحقوق دون الحكم.

قوله رحمه الله

(3)

: «والملك [يثبت]

(4)

للموكل خلافة عنه» جواب سؤال مقدَّر، وهو أن يقال لمَّا ثبت الملك للموكل ينبغي أنْ [تكون تثبت] الحقوق أيضاً راجعة إلى الموكل؛ لأنَّ الحقوق تابعة للمك فأجاب عنه بهذا، وقال: نعم الملك يثبت للموكل ابتداءً؛ لكن تثبت له خلافة عن الوكيل لا أصالة، فكان الوكيل أصيلاً في حقوق العقد؛ فلذلك تضاف الحقوق إلى الوكيل، وحاصله أنَّ الوكيل خلف عن الموكل في حق استفادة التصرف، والموكل خلف عن الوكيل في حق الملك

(5)

.

«كالعبد يتَّهب»

(6)

؛ أي: يقبل الهبة يثبت الملك للمولى ابتداءً.

وذكر في المبسوط: «فإن مولاه يقوم مقامه في المِلك بذلك السَّبب»

(7)

.

وقوله: «هو الصحيح» احتراز عن قول أبي الحسن الكرخي؛ فإن عنده يثبت الملك للوكيل بالشراء أولاً، ثم ينتقل إلى الموكل. كذا في التتمة في مسألة العين تفصيل نذكره

(8)

.

وهو ما ذكره في باب الوكالة بالبيع، والشراء بقوله:«وإذا اشترى الوكيل، ثم اطلع على عيب فله أن يرده بالعيب ما دام المبيع في يده، فإن سلمه إلى الموكل لم يرده إلا بإذنه»

(9)

.

«لأن الوكيل فيها سفير»

(10)

، والسفير: هو الذي يحكي قول الغير، ومن حكى حكاية الغير لا يلزم عليه حكم قول الغير كما إذا حكى قذف الغير لا يكون قاذفاً.

«فصار كالرسول»

(11)

؛ أي: فصار الوكيل في النكاح، وأمثاله كالرسول في باب البيع

(12)

.

«وهذا لأنَّ الحكم فيها»

(13)

؛ أي: في هذه العقود، وهي النكاح، وأمثاله.

(1)

في «ج» : [الفضل].

(2)

سقط من: «س» .

(3)

زيادة من: «س» .

(4)

سقط من: «س» .

(5)

ينظر: درر الحكام (2/ 283).

(6)

الهداية (3/ 138).

(7)

المبسوط (5/ 72).

(8)

فتح القدير (8/ 17).

(9)

الهداية (3/ 139).

(10)

الهداية (3/ 138).

(11)

الهداية (3/ 138).

(12)

ينظر: فتح القدير (8/ 18).

(13)

الهداية (3/ 138).

ص: 176

«لا تقبل الفصل عن السبب»

(1)

حتى لم يدخل فيها خيار الشرط؛ لأنَّ الخيار يدخل على الحكم فيوجب تراخيه عن السبب، وهذه العقود لا تحتمل تراخي الحكم؛ لأنَّ الأسباب في هذه العقود للإسقاط لا للإثبات

(2)

والإسقاطات غير قابلة لتراخي الحكم بخيار الشرط وغيره؛ فلما لم تكن هذه العقود للإثبات؛ لم يجز فيها القول بثبوت الملك للوكيل، ثم بثبوته للموكل- كما هو تخريج الكرخي في الوكيل بالشِّراء- بل يثبت الملك لمن باشر السبب نيابة ابتداءً وهو الموكل.

«لأنه إسقاط»

(3)

؛ أي: لأنَّ السبب في هذه العقود إسقاط بيان، هذا ما نقل عن العلَّامة مولانا شمس [الأئمة الكردري]

(4)

رحمه الله أنَّ محل النكاح الأنثى من بنات آدم ليست من المحرمات، وهن في الأصل [خلقن]

(5)

حرائر، والحرية تستدعي الخلوص، وانتفاء ورود الملك على من اتصف بها؛ إلا أنَّ الشارع أثبت نوع ملك على الحرة بالنكاح تحقيقاً لمعنى النسل؛ فكان في النكاح إسقاط لمعنى المالكية الذي كان ثابت للحرة بطريق الأصالة

(6)

.

ولكن لا يتحقق هذا الملك عليها إلا بالإيجاب، والقبول فبالنظر إلى هذا كان من قبيل [الإثبات]

(7)

كما في البيع إلا أنَّا رجحنا جانب الأصالة، فقلنا بأنه من الإسقاطات، والسَّاقط متلاشٍ، فلا يجوز أن يسقط في حق الوكيل، ثم يسقط ثانياً في حق الموكل بالانتقال؛ لأنَّ الساقط لا يعود إلا بسبب جديد، ولم يوجد [فكان]

(8)

حكم النكاح ثابتاً لمن أضيف إليه ابتداءً، وهو الموكل بخلاف البيع؛ فإن المحل فيه خلق مباحاً، وقابلاً [للتمليك]

(9)

بطريق الأصالة، وذلك الحكم مما يقبل الانتقال من شخص إلى شخص، فيصح أن يقال فيه بالانتقال، [أو أن]

(10)

يصدر [السبب]

(11)

من إنسان بطريق الأصالة، ويثبت حكمه إلى غيره بطريق الخلافة كالعبد يتهب أو يشتري بإذن المولى

(12)

.

(1)

الهداية (3/ 138).

(2)

ينظر: فتح القدير (8/ 19).

(3)

الهداية (3/ 138).

(4)

في «س» : [الدين الكودري].

وهو: أبو الوحدة محمد بن عبد الستار بن محمد العمادي، الكردري، الحنفي، العلامة، فقيه المشرق شمس الأئمة، قرأ بخوارزم على برهان الدين ناصر بن عبد السيد المطرزي، وتفقه بسمرقند على شيخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني وسمع منه، وبرع في المذهب وأصوله، وتفقه عليه خلق، ورحلوا إليه إلى بخارى، ولد سنة 559 هـ، وتوفي ببخارى، في محرم، 642 هـ.

ينظر: الجواهر المضية (2/ 82)، سير أعلام النبلاء (23/ 113)، الوافي بالوفيات (3/ 209).

(5)

في «ج» : [خلقت].

(6)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 19).

(7)

في «س» : [الاثباتات].

(8)

في «ج» : [وكان].

(9)

في «س» : [للتمليك].

(10)

في «ج» : [وأن].

(11)

سقط من: «س» .

(12)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 257).

ص: 177

وقوله: «فلا يُتَصوَّر صدوره من شخص»

(1)

؛ أي: صدور السبب بطريق الأصالة

(2)

.

«من شخص وثبوت حكمه لغيره»

(3)

؛ وإنما قيدنا بقولنا بطريق الأصالة؛ لأنَّ [الوكيلٍ]

(4)

في النكاح يصدر السبب من شخص، ويثبت الحكم لغيره، وذلك متصور، فلا يستقيم -حينئذٍ- قوله مطلقاً:«فلا يتصور صدوره من شخص وثبوت حكمه لغيره» ؛ وإنَّما لا يتصور/ صدور السَّبب في النكاح إذا كان [صدور السبب]

(5)

منفيِّ الوكيل على وجه الأصالة، بأن أضاف إلى نفسه، -فحينئذٍ- لا يثبت حكم النكاح لموكله بخلاف الوكيل بالشراء؛ فإن فيه يثبت الملك لموكله وإن أضاف الوكيل الشراء إلى نفسه.

«والضرب الثاني من أخواته»

(6)

؛ أي: من أخوات الضرب الثاني؛ «لأن الحكم فيها يثبت بالقبض» .

‌في جعل الوكيل أصيلاً

«وأنه» ، أي: وأن القبض، «يلاقي محلاً مملوكاً للغير فلا يجعل أصيلاً»

(7)

، أي: قبض الموهوب له يلاقي ملك الواهب؛ فلا يجعل الوكيل أصيلاً.

[وتفسير]

(8)

هذا ما ذكره في الإيضاح، فقال: لو [وكَّل]

(9)

وكيلاً بأن يهب عبده لفلان، أو يتصدق به عليه، أو يعيره إياه، أو يودعه، أو يرهنه فقبض الوكيل، وفعل ما مر به؛ فهو جائز على الموكل، وليس للوكيل المطالبة برد شيء من ذلك إلى يده [ولا أنْ يقبض]

(10)

الوديعة، والعارية، [والرهن، والقرض]

(11)

ممن عليه

(12)

.

لأن أحكام هذه العقود إنَّما تثبت بالقبض؛ فلا يجوز أن يكون الوكيل فيه أصيلاً؛ لأنَّه أجنبي عن المحل الذي يلاقيه القبض فكان سفيراً، أو معبراً عن المالك

(13)

.

(1)

الهداية (3/ 138).

(2)

البناية شرح الهداية (9/ 231).

(3)

الهداية (3/ 138).

(4)

في «ج» : [التوكيل].

(5)

في «ش» : [صدورا لسبب].

(6)

تمام المسألة في الهداية (3/ 138): «والضرب الثاني من أخواته العتق على مال والكتابة والصلح على الإنكار، فأمَّا الصلح الذي هو جار مجرى البيع فهو من الضرب الأول، والوكيل بالهبة والتصدق والإعارة والإيداع والرهن والإقراض سفير أيضاً؛ لأنَّ الحكم فيما يثبت بالقبض، وأنَّه يلاقي محلاً مملوكاً للغير؛ فلا يجعل أصيلاً» .

(7)

الهداية (3/ 138).

(8)

في «س» : [ويفسر].

(9)

في «ج» : [كان].

(10)

في «ج» : [ولأن القبض].

(11)

في «س» : [ولا الرهن ولا القبض].

(12)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 20)، فتح القدير (8/ 20).

(13)

البناية شرح الهداية (9/ 232).

ص: 178

فأمَّا التصرفات التي تقوم بالقول، ولا يتوقف عن القبض، فالوكيل يجب أن يكون أصيلاً؛ لأنَّه أصل في التكلم، وكلامه مملوك له إلا أنَّا فصلنا بين الحكم والحقوق، فأظهرنا قضية الولاية الأصليَّة فيما يرجع إلى الحقوق [في هذه]

(1)

المواضع العقود، وإن كانت تقوم باللفظ؛ لكن الحكم لا يتأتّى إلا بالقبض، والقبض تصرف في المحل، ولا ملك له فيه، فلا يمكن أن يجعل أصلاً بوجه [ما]

(2)

.

ولو كانت هذه الوكالة من الملتمس لذلك نحو أن وكَّل بالاستعارة، أو الارتهان، أو الاستيهاب فالحكم، والحقوق كلها تتعلق بالموكل

(3)

.

«وكذلك الشركة»

(4)

؛ أي: الوكيل فيهما يضيف العقد إلى الموكل لا إلى نفسه إلا أنَّ التَّوكيل بالاستقراض باطل

(5)

، وقد ذكرنا وجهه في أوائل ما نحن فيه من كتاب الوكالة.

«بخلاف الرسالة فيه»

(6)

، أي: تصح الرسالة في الاستقراض.

وذكر في الإيضاح: فالتَّوكيل بالاستقراض لا يصح، ولا يثبت الملك فيما استقرض للآمر إذا بلغ على سبيل الرسالة، فيقول: أرسلني إليك فلان، ويستقرض منك -فحينئذٍ- يثبت الملك للمستقرض

(7)

.

«فإن دفعه إليه جاز»

(8)

، أي: فإن دفع المشتري الثمن إلى الموكل جاز؛ فإن قلت: ما الفرق بين هذا، وبين الوكيل ببيع الصَّرف، فإن هناك لو قبض الموكل بدل الصَّرف لا يجوز.

قلت: لأنَّ جواز بيع الصَّرف معلق بالقبض، [فكان]

(9)

القبض في الصَّرف بمنزلة الإيجاب، والقبول

(10)

.

ولو ثبت للوكيل حق القبول، وقبض الموكل لا يجوز قبوله، فكذا إذا ثبت له حق القبض، وقبض الموكل لا يجوز.

وأما قبض [المشتري]

(11)

ثمن السلعة فليس بمنزلة الإيجاب، والقبول لما أن نفس ثمن المقبوض حق الوكيل، وقد وصل إليه، فيجوز.

إلى هذا أشار في أنواع الفصل العاشر من الذخيرة.

ووجدت بخط شيخي رحمه الله: أنَّ المُشتِري من الوصي إذا دفع الثمن إلى الصبي، فللوصي أن يرجع على المشتري

(12)

.

(1)

في «س» : [وفي].

(2)

سقط من: «س» .

(3)

البناية شرح الهداية (9/ 232).

(4)

تمام المسألة في الهداية (3/ 138): «

وكذا إذا كان الوكيل من جانب الملتمس، وكذا الشركة والمضاربة، إلا أن التَّوكيل بالاستقراض باطل حتى لا يثبت الملك للموكل بخلاف الرسالة فيه».

(5)

ينظر: البحر الرائق (7/ 152).

(6)

الهداية (3/ 138).

(7)

العناية شرح الهداية (8/ 24).

(8)

الهداية (3/ 138).

(9)

في «ج» : [وكان].

(10)

تبين الحقائق (4/ 258).

(11)

سقط من: «س» .

(12)

البناية شرح الهداية (9/ 232).

ص: 179

‌في وقوع المقاصة بين المشتري والموكل

ذكره في مختلف [الروايات]

(1)

في [ركن الشافع]

(2)

، ولو كان له عليهما دين، أي:«ولو كان للمشتري على الموكل» والوكيل دين «تقع المقاصة» بدين الموكل دون دين الوكيل حتى لا يرجع الموكل على الوكيل بشيء من الثمن.

وإنَّما كان هكذا؛ لأن المقاصة إبراء بعوض فيعتبر بالإبراء بغير عوض، ولو أبرأ المشتري عن [بالثمن]

(3)

بغير عوض، وخرج الكلامان معاً فالمشتري يبرأ ببراءة الآمر، ولا يبرء ببراءة المأمور حتى لا يرجع الأمر على المأمور بشيء؛ فكذلك ها هنا

(4)

.

ولأنَّا لو جعلناه قصاصاً بدين الوكيل احتجنا إلى قضاء آخر؛ فإن الوكيل يقضي للموكل ولو جعلناه قصاصاً بدين الموكل لا نحتاج إلى قضاء آخر، فجعلناه قصاصاً بدين الموكل قصراً للمسافة، ولأنَّا إذا جعلناه قصاصاً بدين الموكل، فقد أثبتنا حكماً مجمعاً عليه؛ فإن الموكل يملك إسقاط الثمن عن المشتري بالإجماع، ولو جعلناه قصاصاً بدين الوكيل، فقد أثبتنا حكماً مختلفاً فيه، فكان ما قلناه أولى. كذا ذكره شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده/

(5)

.

ثم ما ذكره شيخ الإسلام يصير حيلة في موضعين:

أحدهما: إذا كان لرجل على رجل دين، فلا يؤديه فيتوكل الدائن عن الغير في شراء عين من مديونه فإذا اشترى تقع المقاصة بين دين [الوكيل]

(6)

على البائع، وبين دين وجب للبائع على الوكيل، ثم الوكيل يأخذ الثمن من موكله.

والثاني: أن يوكل رب الدين غيره بالشِّراء من المديون فتقع المقاصة بين دين الموكل، وبين ما وجب على الوكيل

(7)

. كذا في الذخيرة، والتتمة.

«وبدين الوكيل/ إذا كان وحده»

(8)

؛ أي: تقع المقاصة بدين الوكيل إذا لم يكن فيه دين الموكل إن كان يقع المقاصة عند أبي حنيفة، ومحمد -رحمهما الله- لما أنه يملك الإبراء عنه عندهما يعني:[أكرجه] دين المشتري بدين الوكيل مقاصة في [شود وقتي كه] شهادتين وكيل [بود] بسبب أنَّك وكيل من إبراء مشتري [را مالك أست نزد إيشان؛ ولكن وقتي كه المشتري رابر موكل وبروكيل ديل] يؤدِّي دين مشتري [بادين موكل مقاصه شود] وبدين وكيل [ني]، وبدين الوكيل لما ذكرنا من المعاني الثلاثة.

(1)

في «س» : [الرواية].

(2)

هكذا في «ج» ، وفي «س»:[زكوة الشافعي].

(3)

سقط من: «س» .

(4)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 25)، البناية شرح الهداية (9/ 233).

(5)

ينظر: فتح القدير (8/ 25).

(6)

في «ج» : [التوكيل].

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 234).

(8)

الهداية (3/ 138).

ص: 180

«لكنه يضمنه للموكل في الفصلين»

(1)

، أي: يضمن الوكيل الثمن للموكل في فصل الإبراء [والمقاصة]

(2)

.

فإن قلت: ينبغي أن لا يجوز من الوكيل بالبيع مثل هذا البيع الذي يوجب مقاصة المبيع بدين الموكل؛ لأنَّه خالف الموكل إذ الموكل إنما وكله ببيع يصل إليه ثمنه، وها هنا لا يصل، والوكيل إذا خالف فيما وكل به لا ينفذ على الموكل كما إذا خالف في جنس ما وكل به، أو في قدره بأن وكله ببيع بمائة، وقد باعه بأقل منهما قلت: إن لم يصل إليه الثمن بعد البيع، وقد وصل إليه قبل البيع، ويصير الثمن قصاصاً بدين الآمر عندهم جميعاً. كذا في الذخيرة

(3)

.

ثم وجه التعليل من الطرفين في صحة إبراء الوكيل بالبيع المشتري من الثمن ما ذكره في المبسوط.

وقال: «[قال:]

(4)

أبو يوسف رحمه الله لا يجوز إبراءه استحساناً؛ لأنَّ الثمن في ذمة المشتري ملك الموكل؛ فإنه بدل ملكه فإنما يملك البدل بملك الأصل، وإبراء الوكيل تصرف في ملك الغير على خلاف ما أمر به، فلا ينفذ كما لو قبض الثمن، ثم وهبه للمشتري، ودليل الخلاف أنَّه يصير ضامناً عندهما.

وأما حجة أبي حنيفة، ومحمد -رحمهما الله- أن الإبراء إسقاط لحق القبض والقبض خالص حق الوكيل، ألا ترى أنَّ الموكل لا يمنعه من ذلك، ولو أراد أن يقبض بنفسه؛ لم يكن له ذلك؛ فكان هو في الإبراء عن القبض مسقطاً حق نفسه فيصح منه؛ إلا أن بقبضه يتعين ملك الآمر في المقبوض، وإذا انسدَّ عليه هذا الباب بإبرائه صار ضامناً له بمنزلة الراهن بعتق المرهون ينفذ إعتاقه لمصادفته ملكه؛ ولكن يضمن للمرتهن لانسداد باب الاستيفاء من مالية العبد عليه بهذا الإعتاق». كذا ذكره في باب الوكالة بالقيام على قبض الغلة، والبيع من المبسوط

(5)

، والله أعلم.

* * *

[باب الوكالة بالبيع والشراء]

[فصل في الشراء]

(6)

لما شرع في ذكر [أبواب]

(7)

[الوكالة]

(8)

قدم ما هو أكثر وقوعاً، وأمسَّ حاجة في الوكالة، وهو الوكالة في البيع، والشراء، ثم قدَّم فصل الشراء على فصل البيع؛ لأن الشراء [ينبنى]

(9)

عن إثبات الملك، والبيع عن إزالته، فالإزالة إنما تكون بعد الإثبات فنحتاج ها هنا إلى تعريف الجنس، والنوع فقيل: الجنس: هو ما يدخل تحته أنواع متغايرة، والنوع اسم لأحد ما يدخل تحت [اسم]

(10)

فوقه.

(1)

الهداية (3/ 138).

(2)

في «ج» : [أو للمقاصة].

(3)

ينظر: فتح القدير (8/ 26).

(4)

في «ج» : [قال].

(5)

المبسوط (19/ 35).

(6)

بياض في «ج» ، وينظر: الهداية (3/ 138).

(7)

مكرر في «ج» .

(8)

في «س» : [الوكالات].

(9)

في «ج» : [يبنى].

(10)

في «ج» : [الاسم أنه].

ص: 181

وذكر في الفوايد الظهيرية مُحالاً إلى أهل المنطق: الجنس: اسم دال على كثيرين مختلفين بالنوع، والنوع اسم دال على كثيرين مختلفين بالشخص

(1)

.

‌الجهالة الواقعة في التوكيل بالبيع والشراء

«ومن وكَّل رجلاً بشراء شيء»

(2)

، أي: شيء غير معين؛ لأنَّ في المعين لا يحتاج إلى تسمية الجنس، والصفة

(3)

.

قوله رحمه الله: «من تسمية جنسه» كالجارية، والعبد، «وصفته» ، أي: نوعه كالتركي، والحبشي على ما يجيء في الكتاب.

«وحاصل هذا أن الجهالة لا [تخلو]

(4)

؛ إما إن كانت في المعقود عليه، وهو المبيع، والمشترى، أو في المعقود به وهو الثمن؛ فالجهالة في المعقود عليه لا [تخلو]

(5)

من ثلاثة أوجه:

جهالة فاحشة: وهي ما كانت في الجنس مثل [التوكيل]

(6)

بشراء الثوب والدابة والرقيق؛ فلا يصح سواء سمى الثمن، أو لم يسم؛ لأنَّ اسم الرقيق يتناول الذكر، والأنثى وهما من بني آدم جنسان مختلفان حتى لو اشترى شخصاً على أنه غلام فإذا هو جارية كان البيع باطلاً، وكذلك اسم الدابة يقع على ما يدِب في وجه الأرض دليله قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(7)

.

وجهالة يسيرة: وهي ما كانت في النوع المحض كالتوكيل بشراء شاة، أو بقر أو فرس، أو ثوب يهودي، أو جارية تركية، أو هندية، وهو صحيح بين الثمن أو لم يبين.

وجهالة متوسطة: بين منزلة الجنس، والنوع كالتوكيل بشراء عبد، أو جارية، أو دار، أو لؤلؤة؛ فهذه الأشياء ملحقة بالجنس من وجه؛ لأن اختلاف العبيد، والجواري أكثر من اختلاف سائر الأنواع عادة، وعادة الناس في ذلك مختلفة؛ فإذا لم يسم الثمن، أو الصفة/ ألحق بمجهول الجنس، وإذا سمي الثمن، أو الصفة بأن قال: تركي، أو هندي أُلحِق بمجهول النوع.

وهذا لأنَّ العبيد جنس واحد باعتبار منفعة العمل أجناس مختلفة باعتبار منفعة الجمال، فإنَّ منفعة الجمال مطلوبة من بني آدم، ولهذا تجعل رؤية الوجه من بني آدم كرؤية الكل في إسقاط خيار الرؤية، وفى هذه المنفعة يختلف التركي، والهندي اختلافاً فاحشاً، فكان جنساً واحداً من وجه دون وجه فألحقناه بالجنس الواحد عند بيان الثمن، أو الصفة، [وبالجنس]

(8)

المختلف إذا لم يتبين أحدهما عملاً بالشبهين.

(1)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 259)، فتح القدير (8/ 27).

(2)

«

فلا بد من تسمية جنسه، وصفته، أو جنسه ومبلغ ثمنه»، الهداية (3/ 138).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 235).

(4)

في «ج» : [تخ].

(5)

في «ج» : [تخانه].

(6)

في «ج» : [الوكيل].

(7)

سورة هود: آية 6.

(8)

في «س» : [أو بالجنس].

ص: 182

وأما جهالة جنس المعقود به لا تمنع صحة التَّوكيل حتى إن من وكَّل ببيع عين من [غير]

(1)

أعيان ماله جاز، وإن لم يتبين الثمن، فكان له أن يبيع بأي ثمن شاء عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأنَّ المقصود به اكتساب المالية والأجناس كلها في المالية سواء فمن هذا [الوجه]

(2)

يتحد الجنس ولا يختلف.

‌في وقوع الجهالة اليسيرة في الوكالة

وأما المعقود عليه؛ فالمالية كما هي مقصودة، فمرافق أخر أيضاً مقصودة كاللبس، والركوب، وباعتبارها يختلف الجنس؛ فلم تجز الوكالة عند اختلاف الجنس لذلك؛ ولهذا قلنا: إنه لا يشترط بيان الجنس ولا بيان النَّوع في المضاربة إذ المقصود بها اكتساب المالية، والأنواع، والأجناس سواء في اعتبار المالية. كذا ذكره [الإمام]

(3)

المرغيناني، والمحبوبي [رحمهما الله]

(4)

»

(5)

.

«والأصل أن الجهالة اليسيرة تتحمل في الوكالة كجهالة الوصف استحساناً»

(6)

.

وإنما قيد بقوله: «استحساناً» ؛ لأن القياس أن لا يتحمل الوكالة الجهالة.

وإن قلت: وذكر في المبسوط: «وإن سمى الجنس [والنوع]

(7)

، ولم يبين الصفة؛ جازت الوكالة سواء سمى الثمن، أو لم يسم، وهذا استحسان، وفي القياس لا يجوز ما لم تتبين الصفة.

وجه القياس أن التَّوكيل بالبيع والشراء معتبر بنفس البيع والشراء، فلا يجوز إلا ببيان وصف المعقود عليه.

ألا ترى أنَّا نجعل الوكيل كالمشتري لنفسه، ثم البائع من الموكل.

وكان بشر المريسي

(8)

يأخذ بالقياس إلى أن نزل به ضيف، فدفع دراهم إلى إنسان ليأتي بالرؤوس المشوية؛ فجعل يصفها له؛ فعجز عن إعلامه بالصفة، فقال: اصنع ما بدا لك، فذهب الرجل، واشترى الرؤوس وحملها إلى عياله، وعاد إلى بشر بعد ما أكلها مع عياله، فقال له: أين ما قلت لك؟، قال: قلت لي اصنع ما بدا لك، وقد بدا لي ما فعلت، فرجع عن قوله وأخذ بالاستحسان.

(1)

سقط من: «س» .

(2)

سقط من: «س» .

(3)

سقط من: «ج» .

(4)

سقط من: «س» .

(5)

نقله ابن عابدين بتمامه عن المؤلف في حاشية رد المحتار (7/ 296 - 297).

(6)

الهداية (3/ 139).

(7)

سقط من: «س» .

(8)

بشر المريسي: هو بشر بن غياث بن أبي كريمة أبو عبد الرحمن، مولى زيد بن الخطاب، كان من أعيان أصحاب الرأي أخذ عن أبي يوسف، وبرع في الفقه، ونظر في الفلسفة، وجرد القول بخلق القرآن وناظر عليه ودعا إليه، وكان رأس الجهمية أخذ عن الجهم بن صفوان، كان بشر مرجئاً وإليه تنسب الطائفة المريسية، وكان يقول: إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر ولكنه علامة للكفر، وكان لا يعرف النحو ويلحن لحنا فاحشاً، قال الذهبي: مبتدع ضال، من آثاره: التوحيد، الإرجاء، الرد على الخوارج، المعرفة، والوعيد، توفي سنة 218 هـ.

ينظر: وفيات الأعيان (1/ 277)، ميزان الاعتدال (1/ 322)، معجم المؤلفين (3/ 46).

ص: 183

ووجه الاستحسان ما رُوِى عن النبي صلى الله عليه وسلم -أنه دفع ديناراً إلى حكيم بن حزام وأمره بأن يشتري له شاة للأضحية، ولم يبين صفتها»

(1)

.

«ثم إن كان اللفظ يجمع أجناساً»

(2)

كالدابة، والثوب، أو ما هو في بعض الأجناس كالدار، والرقيق على ما يجيء [الكتاب]

(3)

المولد [خانة زاد].

وذكر في المُغرِب: المولدة التي ولدت ببلاد الإسلام

(4)

.

السطة مع الوسط كالعدة، والوعد، والعظة، والوعظ، وفي أن التاء عوضت في آخرها عن الواو الساقطة من أولها في المصدر، والفعل من حد ضرب

(5)

. [دربيان شدنى].

‌بطلان الوكالة بالجهالة الفاحشة

«ومن قال لآخر اشتر لي ثوباً، أو دابةً، أو داراً، فالوكالة باطلة»

(6)

؛ أي: وإن بيَّن الثمن، وقد ذكرناه، ولما بطلت الوكالة كان الشراء واقعاً على الوكيل، وبه صرَّح في نسخ الجامع الصغير [فقال]

(7)

: رجل أمر رجلاً أن يشتري له ثوباً أو دابةً، فاشترى فهو مشترٍ لنفسه، والوكالة باطلة

(8)

.

«وكذا الدار» ، أي: لا يصح التَّوكيل بشراء الدار مطلقاً.

وذكر الإمام قاضي خان رحمه الله في الجامع الصغير، والدار أيضاً بين الجنس والنوع؛ لأنَّها تختلف بقلة المرافق وكثرتها؛ فإن بيَّن الثمن تلحق بجهالة النوع، وإن لم يبين تلحق بجهالة الجنس.

‌في انعقاد الوكالة بالأوصاف التي تزيل الجهالة

وعلى قول المتأخرين يشترط بيان المحلة؛ لأنَّها تختلف باختلاف المحال، وبما سمى من الثمن يوجد الدار في كل محلة، وكذا لو قال اشتر لي حنطة [ولا]

(9)

يصح ما لم [تتبين]

(10)

عدد القُفران، أو الثمن؛ لأنَّ هذا الاسم يتناول القليل والكثير

(11)

.

«وإن سمى ثمن الدار، ووصف جنس الدار، والثوب؛ جاز»

(12)

. معناه ونوعه.

وتقييده بذكر نوع الدار مخالف لرواية المبسوط، فقال فيه:«وإن وكَّله بأن يشتري له دارًا، ولم يسم ثمنًا لم يجز ذلك على الآمر» ، ثم قال:«وإن سمَّى الثمن؛ جاز؛ لأن تسمية الثمن تصير معلومةً عادةً، وإن بقيت جهالة فهي يسيرة مستدركة والمتأخرون من مشايخنا يقولون في ديارنا لا تجوز إلا ببيان المحلة»

(13)

.

(1)

المبسوط (19/ 38 - 39). والحديث سبق تخريجه، ص (324).

(2)

الهداية (3/ 139).

(3)

سقط من «س» .

(4)

المغرب (1/ 61).

(5)

ينظر: فتح القدير (8/ 30).

(6)

الهداية (3/ 139).

(7)

في «س» : [وقال].

(8)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 237)، فتح القدير (8/ 30).

(9)

في «س» : [لا].

(10)

في «س» : [يبين].

(11)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 259).

(12)

الهداية (3/ 139).

(13)

المبسوط (19/ 41 - 42).

ص: 184

«وكذا إذا سمى نوع الدابة بأن قال: حمار»

(1)

.

«أي: [صح]

(2)

[التوكيل]

(3)

بشراء الحمار، وإن لم يسم الثمن؛ لأن الجنس صار معلوماً بالتسمية، وإنما بقيت الجهالة في الوصف فتصح الوكالة/ بدون تسمية الثَّمن.

فإن قيل: لا كذلك فالحمير أنواع منها ما يصلح لركوب العظماء، ومنها ما لا يصلح إلا للحمل عليه.

قلنا: هذا اختلاف الوصف مع أن ذلك يصير معلوماً بمعرفة حال الموكل

(4)

حتى قالوا: إن القاضي إذا أمر إنسانًا أن يشتري له حماراً ينصرف إلى ما يركب مثله حتى لو اشتراه مقطوع الذَنَب، أو الأُذُنَين لا يجوز عليه بخلاف إذا أمره الفَالَيرِيُّ بذلك». كذلك ذكر في المبسوط

(5)

، وصرح فيه بأنَّ التَّوكيل بشراء الحمار بدون ذكر الثمن جائز

(6)

.

«وجه الاستحسان أن العرف أملك»

(7)

، أي: أقوى، «وهو على ما ذكرناه» .

‌في التوكيل بشراء الحنطة

«أي العُرف في شراء الطعام إنَّما يقع على الحنطة، ودقيقها وبائع الطعام في الناس يبيع الحنطة ودقيقها دون من يبيع الفواكه، فصار التقييد الثابت بالعرف كالثابت بالنص. كذا في المبسوط

(8)

.

وقوله: «وقيل، وإن كثرت الدراهم فعلى الحنطة

»

(9)

(10)

إلى آخره ليس بقول مخالف للأول؛ بل هو داخل في الأول، وإليه أشار في المبسوط

(11)

، والذخيرة

(12)

.

فقال في المبسوط بعد ما ذكر ما قلنا: «ثم إن قلَّ الدراهم، فله أن يشتري بها خبزاً، وإن كثرت فليس له أن يشتري بها الخبز؛ لأنَّ ادخاره غير ممكن؛ وإنما يمكن الادخار في الحنطة»

(13)

.

(1)

الهداية (3/ 139).

(2)

في «س» : [ويصح].

(3)

مكرر في «س» .

(4)

من قول المصنف قوله رحمه الله: «من تسمية جنسه .... » إلى هذا الموضع نقله ابن عابدين في حاشية رد المحتار (7/ 296 - 299).

(5)

المبسوط (19/ 40).

(6)

المبسوط (19/ 40)، وينظر: فتح القدير (8/ 32).

(7)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 139): «ومن دفع إلى آخر دراهم، وقال اشتر لي بها طعاماً فهو على الحنطة ودقيقها استحساناً، والقياس أنْ يكون على كل مطعوم اعتباراً للحقيقة كما في اليمين على الأكل إذ الطعام اسم لما يطعم وجه الاستحسان أنَّ العرف أملك

».

(8)

المبسوط (19/ 41).

(9)

الهداية (3/ 139).

(10)

الهداية (3/ 139).

(11)

ينظر: المبسوط (19/ 41).

(12)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 32)، فتح القدير (8/ 33).

(13)

المبسوط (19/ 41).

ص: 185

وذكر في الذَّخيرة: وإذا وكَّل رجلاً بأن يشتري له طعاماً، ودفع إليه الدراهم صح التَّوكيل استحساناً، وينصرف التَّوكيل إلى الحنطة، ودقيقها، وخبزها، وتحكم الدراهم في تعيين واحد منها إن كانت الدَّراهم قليلة بحيث لا يشتري بها في العُرف إلا الخبز، فالتوكيل ينصرف إلى الخبز

إلى آخره

(1)

.

ثم [قال:]

(2)

قال: القدُّوري

(3)

رحمه الله

(4)

: إذا [كان]

(5)

الرجل قد اتخذ وليمةً يعلم أنَّ مراده من التَّوكيل الخبز، وإن كثرت الدراهم فإذا اشترى الخبز في هذه الصورة يجوز على الآمر

(6)

.

ثم ما ذكره من انصراف اسم الطعام إلى الحنطة

(7)

، ودقيقها في الشراء عرف أهل الكوفة، فإنَّ سوق الحنطة، ودقيقها سوق الطعام، فأمَّا في عرف أهل غير الكوفة التَّوكيل ينصرف إلى شراء كل مطعوم

(8)

.

وبعض مشايخ ما وراء النهر قالوا: الطعام في عرف ديارنا ما يمكن أكله من غير إدام كاللحم المطبوخ، والمشوي ونحوه فينصرف التَّوكيل إلىه دون الحنطة والدقيق والخبز، قال الصدر الشهيد/: وعليه الفتوى. كذا في الذخيرة

(9)

.

فإن سلَّمه إلى الموكل لم يرده إلا بإذنه، وهذا لأنَّ الوكيل بالشراء في حق الحقوق أصيل كأنه عقد بنفسه، وفي حق [الملك]

(10)

ثابت ورسول على أصح الأقوال، وشبه النيابة لا يطلق له الرد من غير استطلاع رأي الموكل فعلمنا بشبه الأصالة قبل الدفع إلى الموكل ليمكننا العمل بالشبهين؛ لأنَّ لو عملنا بشبه النيابة قبل التسليم إلى الموكل، وفيه إزالة ملك الموكل لا غير يلزمنا العمل بشبه النيابة بعد التسليم إلى الموكل، وفيه إزالة ملك الموكل، ويده فحينئذٍ يتعطل العمل بالشبهين، فلذلك عملنا على الوجه الذي قلنا؛ ليمكننا العمل بالشبهين.

(1)

ينظر: فتح القدير (8/ 33).

(2)

سقط من: «س» .

(3)

القدوري: هو أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان أبو الحسين، الفقيه، الحنفي، انتهت إليه رئاسة الحنفية في العراق، وكان حسن العبارة في النظر، وسمع الحديث، صنف المختصر المعروف باسمه مختصر القدوري، توفي سنة 428 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (1/ 79)، سير أعلام النبلاء (17/ 574)، الوافي بالوفيات (7/ 209).

(4)

سقط من: «س» .

(5)

في «ج» : [كان].

(6)

فتح القدير (8/ 33).

(7)

قال في الهداية (3/ 139): «قيل إن كثرت الدراهم فعلى الحنطة، وإن قلت فعلى الخبز، وإن كان فيما بين ذلك فعلى الدقيق» .

(8)

البناية شرح الهداية (9/ 239).

(9)

ينظر: فتح القدير (8/ 33).

(10)

في «س» : [المملك].

ص: 186

فلو رضي الوكيل بالعيب، وأبرأ البائع عن العيب؛ صح الإبراء.

وهذا الجواب ظاهر على قول أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-؛ لأنَّ الرد بالعيب من حقوق العقد، والوكيل أصيل في حق الحقوق؛ ألا ترى أنَّ الوكيل بالبيع يملك [إبراء]

(1)

المشتري عن الثمن عندهما، فالوكيل بالشِّراء لا يملك [إبراء]

(2)

البائع عن العيب أيضاً، وأما على قول أبي يوسف، فقد اختلف المشايخ عامتهم على أنَّه يصح إبراء الوكيل البائع عن العيب، وفرقوا بين هذا وبين إبراء الوكيل بالبيع [المشترى]

(3)

عن الثمن عند أبي يوسف رحمه الله فإنَّ ذلك ليس بصحيح عنده.

والفرق أن الوكيل بالشراء، والبيع أصيل من وجه فاعتبرنا جهة الأصالة في حقوق لا تضر بالموكل نحو المطالبة بتسليم المبيع والثمن، وما أشبه ذلك، واعتبرنا جهة النيابة في حقوق تضر بالمالك، والإبراء عن الثمن يضر بالمالك؛ لأن قبل هذا كان الثمن في ذمة المشتري، وبعد الإبراء لا يصير الثمن في ذمة الوكيل، وربما يكون المشتري (أملاء) أما الإبراء عن العيب لا يضر بالموكل؛ لأنه لا يثبت في حق الموكل بعد الإبراء إلا ما كان ثابتاً قبل الإبراء، فإن قيل الإبراء للموكل خيار أن يرضى بالعيب، وأن لا يرضى، ويلزم الوكيل، وهذا الخيار باقٍ بعد الإبراء عن العيب فنزل في حق هذا منزلة المالك؛ وإنما كان للموكل هذا الخيار بعد رضى الوكيل بالعيب؛ لأن الثابت في حق الحقوق عقدان تقديراً فرضى الوكيل بالعيب يوجب بطلان حق الرد في عقده أما لا يوجب بطلان/ الرد في عقد الموكل. كذا في الذخيرة.

«

لأنه عقد يملكه بنفسه فيملك التَّوكيل به»

(4)

فتذكر ها هنا ورود مسألة التَّوكيل بالاستقراض شبهة حيث يملك الموكل الاستقراض بنفسه، ولا يملك التَّوكيل به وقد ذكرناه.

وكذلك ورود مسألة الوكالة من جانب المسلم إليه شبهة أيضاً، فإنَّ المسلم إليه لو باشر بنفسه لقبول المسلم فيه في ذمته يجوز، ولو وكل غيره به لا يجوز على ما نذكر.

«على ما مرَّ»

(5)

؛ أي: في أول كتاب الوكالة.

(1)

في «س» : [الإبراء].

(2)

في «س» : [الإبراء].

(3)

في «ج» : [والمشترى].

(4)

قال في الهداية (3/ 140): «ويجوز التَّوكيل بعقد الصَّرف والسلم؛ لأنه عقد يملكه

».

(5)

الهداية (3/ 140).

ص: 187

‌في التوكيل بعقد الصرف والسلم

«ومراده التَّوكيل بالإسلام دون قبول السلم»

(1)

؛ أي: يصبح توكيل رب السَّلم غيره بأن يعقد عقد السلم من جهة المسلم إليه، ولفظ الإسلام إنَّما يستعمل من جانب رب السلم، يقال: أسلم في كذا؛ أي: اشتري شيئاً بالسلم

(2)

.

«لأن ذلك لا يجوز» ؛ أي: لأن التَّوكيل بقبول المُسلَّم فيه من جانب المسلم إليه لا يجوز؛ لأنه لو صح التَّوكيل بذلك يجب أن يبيع الوكيل طعاماً في ذمة نفسه على أن يكون الثمن لموكله، وهو المسلَّم إليه وذلك لا يجوز؛ لأنَّ من باع ملك نفسه في الأعيان على أن يكون الثمن لغيره لا يجوز، فكذلك في الديون

(3)

.

وذكر في المبسوط في باب الوكالة بالسلم من كتاب البيوع: «وإذا وكله أن يأخذ له دراهم في طعامٍ مسمىً فأخذها الوكيل ثم دفعها للموكل فالطعام على الوكيل، وللوكيل على الموكل دراهم قرض؛ لأنَّ أصل التَّوكيل باطل؛ فإنَّ المسلم إليه أمره ببيع الطعام»

(4)

.

«في ذمته» ؛ أي: في ذمة الوكيل.

«لو أمره أن يبيع عين ماله على أن يكون الثمن للآمر كان باطلاً؛ فكذلك إذا أمره أن يبيع طعاماً في ذمته، وهذا لأنه إنَّما يعتبر أمره فيما لا يملك المأمور بدون المفاليس فالتوكيل به باطل كَالتَّكَدِّي

(5)

.

فالحاصل أن التَّوكيل من المسلم إليه بقبول عقد السَلَم باطل، والتوكيل من رب السلم بإعطاء الدراهم في طعام السلم جائز، وإذا بطل التَّوكيل كان الوكيل عاقداً لنفسه فيجب الطعام في ذمته، ورأس المال مملوك له؛ فإذا سلَّمه إلى الآمر على وجه التَّمليك منه كان قرضاً له عليه»

(6)

.

فإن قلت: فقد يجوز التَّوكيل بشيءٍ يجب في ذمة الوكيل، كما في التَّوكيل بالشراء، فإنَّ الوكيل هو المطالب بالثمن هناك؛ فلِمَ لا يجوز هنا توكيل مسلم إليه غيره بقبول السلم على أن يطالب الوكيل بتسليم المسلم فيه كما في هناك، والجامع بينهما معنى الدينية؛ فإن المسلم فيه دين في ذمة المسلم إليه كالثمن؛ فإنه دين في ذمة المشتري

(7)

.

قلت: جمع بينهما معنى الدينية؛ ولكن بين الدينين فرق، فإنَّ المسلم فيه دين له حكم المبيع حتى لم يجز الاستبدال به، وليس للثمن حكم المبيع؛ فلم يلزم من جواز التَّوكيل بقبول الثمن الذي هو جارٍ مجرى التبَع في البياعات جواز التَّوكيل بقبول المبيع الذي هو الأصل من كل وجه

(8)

.

أو نقول ما قاله في الذخيرة حيث قال فيها: إن التَّوكيل بقول السلم توكيل بما لا يملك الموكل بنفسه بقضية الأصل؛ لأنَّ قبول السلم بيع ما ليس عنده، وبيع ما ليس عند الإنسان مما لا يملكه بنفسه؛ [فكان]

(9)

القياس أنَّ لا يجوز لو قبل الموكل بنفسه كما في بيع العين إذا باع ما لا يملك؛ لكن عرفنا ذلك بالنص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في السَّلم، والرخصة وردت في بيع ما ليس عنده لا في الآمر ببيع ما ليس عنده بخلاف التَّوكيل بالشِّراء حيث يصح، وإن لم يكن الثمن في ملكه؛ لأن الشراء بما ليس عند الإنسان جائز على موافقة القياس، فكان الآمر به جائزًا على موافقة القياس أيضاً. ذكره في أنواع الفصل الثاني والعشرين من بيوع الذخيرة

(10)

.

(1)

الهداية (3/ 140).

(2)

فتح القدير (8/ 35).

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 35)، البناية شرح الهداية (8/ 36)، فتح القدير (8/ 36).

(4)

المبسوط (12/ 209).

(5)

التكدِّي: أي الشحاذة. رد المحتار (4/ 331).

(6)

المبسوط (12/ 209).

(7)

ينظر: فتح القدير (8/ 36).

(8)

ينظر: فتح القدير (8/ 36).

(9)

في «ج» : [وكان].

(10)

ينظر: المحيط البرهاني (7/ 122).

ص: 188

«فإن فارق الوكيل صاحبه قبل القبض؛ بطل العقد»

(1)

هذا إذا كان الموكل غائبًا عن مجلس العقد، وأمَّا إذا كان حاضراً في مجلس العقد يصير كأن الموكل صارف بنفسه، فلا يعتبر مفارقة الوكيل كذا ذكره الإمام خواهر زاده/

(2)

.

«فيصح قبضه» ؛ أي: قبض الوكيل بدل الصرف؛ لأنَّه عاقد، وإن كان لا يتعلق به الحقوق كالصبي

(3)

.

وكلمة: «إن»

(4)

: للوصل، وهذا الدَّفع سؤال يرد [على]

(5)

أصل الوكالة في البياعات؛ فإنَّ الصَّبي المحجور، والعبد المحجور إذا توكلا من آخر يصح، ولا يرجع عليهما حقوق العقد من التَّسليم والتسلم؛ بل يرجع على موكلهما

(6)

.

وقد مرَّ قبيل هذا الباب بقوله: «وإن وكل صبيًّا

» إلى أن قال: «

ولا يتعلق بهما الحقوق»

(7)

؛ فكيف تعلق ها هنا بالصبي المحجور، والعبد المحجور التسليم والتسلم في بدل الصرف، وهما وكيلان فيه؛ حتى بطل بيع الصَّرف بمفارقتهما قبل قبض بدل الصَّرف دون/ مفارقة موكلهما.

والجواب عنه أن قبض الصبي المحجور، والعبد المحجور صحيح، وإن كان لا يلزمهما هذا، [فذكر ههنا]

(8)

شرط جواز بيع الصَّرف الذي هو القبض بالصحة لا باللزوم

(9)

.

وذكر في وكالة المبسوط في باب الوكالة في الصرف، والسلم: «وفي حكم التقابض المعتبر بقاء المتعاقدين في المجلس، وغيبة الموكل لا تضر، وهذا غير مشكل فيما إذا كان الوكيل ممن يتعلق به حقوق العقد؛ لأنَّه بمنزلة العاقد بنفسه، وكذلك إن كان ممن لا يتعلق به حقوق العقد؛ لأنَّ قبضه وتسليمه صحيح؛ وإن كان لا يتوجه عليه المطالبة؛ ففي حكم صحة التقابض هو بمنزلة وكيل يتعلق [به]

(10)

حقوق العقد»

(11)

.

(1)

الهداية (3/ 140).

(2)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 262)، فتح القدير (8/ 36)، حاشية رد المحتار (7/ 305).

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 36).

(4)

في قوله في الهداية (3/ 140): «وهو الوكيل فيصح قبضه، وإن كان لا يتعلق به الحقوق كالصبي والعبد المحجور عليه» .

(5)

في «ج» : [وعلى].

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 241).

(7)

قال في الهداية (3/ 137): «وإن وكَّلا صبياً محجوراً يعقل البيع والشراء، أو عبداً محجوراً؛ جاز ولا يتعلق بهما الحقوق ويتعلق بموكلهما» .

(8)

في «ج» : [وها هنا].

(9)

البناية شرح الهداية (9/ 241).

(10)

مكرر في «ج» .

(11)

المبسوط (19/ 66).

ص: 189

«بخلاف الرسولين»

(1)

حيث لا يصح قبضهما؛ [فكأن]

(2)

هذا يتعلق بقوله: «فيصح قبضه» ، ثم المعنيَّ من الرسولين هو الرسول في باب الصرف، والرسول في باب السلم، لا أن يكون معناه الرسول من الجانبين في الصرف، والرسول من الجانبين في السلم؛ أي: من جانب رب السلم، ومن جانب المسلم إليه؛ لأنه كما لا تجوز الوكالة من جانب المسلم إليه؛ فكذلك لا تجوز الرسالة من جانب المسلم إليه

(3)

.

‌إذا دفع الوكيل من ماله فله الرجوع على الموكل

«فلم يصح»

(4)

؛ أي: فلم يصح العقد بقبض الرسولين.

«انعقدت بينهما»

(5)

؛ أي بين الوكيل، والموكل.

«مبادلة» ؛ أي: بيع.

«ولهذا إذا اختلفا في الثمن يتحالفان» ، والتحالف من خصائص المبادلة.

«فيرجع عليه» ؛ أي: فيرجع الوكيل على الموكل بالثمن.

«لمَّا كانت إليه» أي: إلى الوكيل.

«فيكون راضيًا» ؛ أي فيكون الموكل راضياً بدفع الوكيل من مال نفسه، فإذا دفع الوكيل من مال نفسه بسبب؛ أمر الموكل إياه بالشِّراء كان الموكل راضيًا أيضاً برجوع الوكيل عليه بما أدَّى.

«يصير الموكل قابضا بيده» ؛ أي: بيد الوكيل.

«وله»

(6)

؛ أي: وللوكيل أن يحبس المبيع من الموكل حتى يستوفي الثمن سواء كان الوكيل دفع الثمن إلى البائع، أو لم يدفع. كذا في المبسوط

(7)

.

وذكر في الذخيرة: ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب أن الوكيل إذا لم ينقد الثمن وسامحه البائع، وسلَّم المبيع إليه هل له حق الحبس عن الموكل إلى أن يستوفي الدراهم منه.

حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله

(8)

أن له ذلك، وأنه صحيح؛ لأنَّ حق الحبس للوكيل في موضع بقدر الدراهم ليس لأجل ما نقد؛ بل لأجل بيع حكمي انعقد بين الوكيل، وبين الموكل؛ وهذا المعنى لا يختلف بين ما بعد نقد الوكيل الثمن، وبين ما قبل نقده ذلك

(9)

.

(1)

في نسخة الهداية المطبوعة (3/ 140): «بخلاف الرسول» ، وقال في العناية شرح الهداية (8/ 37):«ووقع في بعض النسخ بخلاف الرسولين» .

(2)

في «ج» : [وكان].

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 37)، البناية شرح الهداية (9/ 241)، فتح القدير (8/ 37).

(4)

قال في الهداية: «

وإن كان لا يتعلق به الحقوق كالصبي والعبد المحجور عليه، بخلاف الرسول؛ لأنَّ الرسالة في العقد لا في القبض، وينتقل كلامه إلى المرسل فصار قبض الرسول قبض غير العاقد فلم يصح».

(5)

قال في الهداية (3/ 140): «وإذا دفع الوكيل بالشِّراء الثمن من ماله وقبض المبيع، فله أن يرجع به على الموكل؛ لأنه انعقدت بينهما مبادلة حكمية

».

(6)

قال في الهداية: «وله أن يحبسه حتى يستوفي الثمن، لما بينا أنَّه بمنزلة البائع من الموكل

».

(7)

ينظر: المبسوط (19/ 2).

(8)

سقط من: «س» .

(9)

تبيين الحقائق (4/ 261)، فتح القدير (8/ 39).

ص: 190

«وقال زُفَر: ليس له ذلك لأن الموكل صار قابضاً بيده» ، أي: بيد الوكيل.

«أي: صار الموكل قابضاً بقبض الوكيل، بدليل أن هلاكه في يد الوكيل هلاكه في يد الموكل فكأنه [قبضه]

(1)

حقيقة، ثم دفعه إلى الوكيل؛ وهذا لأنَّ المقبوض أمانة [في يد الوكيل]

(2)

والثمن دين على صاحبه، وليس للأمين أن يحبس الأمانة بدينه على صاحبها»

(3)

.

«ولنا أنَّ الموكل ملك المشترى بعقد باشره الوكيل ببدل استوجبه الوكيل عليه؛ فكان له أن يحبس العين به كالبائع مع المشتري؛ وهذا لأنَّ الوكيل مع الموكل بمنزلة البائع مع المشتري؛ أما لأنَّ الموكل يتلقى الملك من الوكيل بعوض، أو بعقد الوكيل بعوض؛ ولهذا لو اختلف الوكيل، والموكل في الثمن تحالفا، ولو وجد به الموكل عيبًا رده على الوكيل»

(4)

.

قوله رحمه الله

(5)

: «بأن الموكل صار قابضًا» بقبض الوكيل، ففيه طريقان:

«أحدهما: أن قبض الوكيل متردد يجوز أن يكون لتتميم مقصود الموكل، ويجوز أن يكون لإحياء حق نفسه؛ وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بجنسه، فكان الأمر فيه موقوفًا في الابتداء إن لم يحبسه عنه عرفنا أنَّه كان عاملاً له، وإن حبسه عنه عرفنا أنه كان عاملًا [لنفسه]

(6)

، [وأن]

(7)

الموكل [لم]

(8)

يصر قابضاً يقبضه.

والثاني: أن هذا قبض لا يمكن التَّحرز عنه؛ لأنَّ الوكيل لا يتوسل إلى الحبس ما لم يقبض، ولا يمكنه أن يقبض على وجه لا يصير الموكل به قابضاً، وما لا يمكن التَّحرز عنه فهو عفو، فلا يسقط به حقه في الحبس؛ لأنَّ سقوط حقه باعتبار رضاه بتسليمه، ولا يتحقق منه الرضا فيما لا طريق له إلى التَّحرز عنه، فإذا [حبسه]

(9)

الوكيل؛ فهلك في يده فعلى قول زُفَر هو غاصب فعليه ضمان مثله.

وفي قول أبي يوسف رحمه الله[يملك]

(10)

هلاك المرهون مضمونًا بأقل من قيمته، ومن الثمن، وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله [يملك]

(11)

هلاك المبيع مضمونًا بالثمن قل أو كثر»

(12)

.

«فأبو يوسف يقول: ما صار مضموناً عليه بالحبس بحقه بعد أن لا يكون مضموناً؛ فيكون في معنى المرهون بخلاف المبيع؛ فإنَّه مضمون بنفس العقد حبسه البائع أو لم يحبسه؛ يوضحه أنه يحبسه ليستوفي ما أدى عنه من الثمن، والحبس للاستيفاء حكم الرهن/؛ ولأنَّ بهلاكه لا ينفسخ أصل البيع بخلاف المبيع إذا هلك في يد البائع فسقوط الثمن هناك لانفساخ البيع، وهما يقولان الوكيل مع الموكل كالبائع مع المشتري بدليل ما بينا من جريان التحالف، والرد [بالعيب]

(13)

فكما أن المبيع إذا هلك في يد البائع يسقط الثمن قلَّ أو كثر فكذلك ها هنا ولا نقول العقد لا ينفسخ ها هنا بل انفسخ فيما بين الوكيل والموكل، وإن لم ينفسخ في حق البائع ومثله لا [يمتنع]

(14)

كما لو وجد الموكل بالمشترى عيبًا فرده، ورضي به الوكيل فإنه يلزم الوكيل، وينفسخ العقد فيما بينه، وبين الموكل.

(1)

في «س» : [قبض].

(2)

مكرر في «ج» .

(3)

المبسوط (12/ 204).

(4)

المبسوط (12/ 204).

(5)

زيادة من: «س» .

(6)

في «ج» : [بنفسه].

(7)

في «ج» : [أن].

(8)

في «ج» : [وإن لم].

(9)

في «ج» : [حبس].

(10)

في «ج» : [يهلك].

(11)

في «ج» : [يهلك].

(12)

المبسوط (12/ 205).

(13)

في «ج» : [بالبيع بالعيب].

(14)

في «ج» : [يمنع].

ص: 191

والدليل على أن هذا ليس نظير الرهن أن هذا الحبس يثبت في النصف الشائع فيما يحتمل القسمة والحبس بحكم الرهن لا يثبت في الجزء الشائع فيما يحتمل القسمة؛ إنما يثبت ذلك بحكم البيع فعرفنا أنَّه كالمبيع». كذا في باب الوكالة في السلم من بيوع المبسوط

(1)

.

وذكر في باب الوكالة بالبيع والشراء من وكالة المبسوط: «أن العبد المشترى إذا مات في يد الوكيل قبل [أن]

(2)

يمنعه من الآمر مات من مال الآمر؛ لأنَّ الوكيل في القبض عامل للآمر فيصير الآمر بقبض الوكيل قابضاً حُكماً ما لم يمنعه منه فإذا هلك هلك من مال الآمر وللوكيل أن يرجع عليه بالثمن بخلاف ما إذا منعه؛ لأنه صار مسترداً ليده، أو لأنَّ بالمنع يتبين أنَّه كان في القبض عاملاً لنفسه لا للآمر»

(3)

.

قلنا: هذا إشارة إلى كون الموكل قابضاً بقبض الوكيل.

وقوله: «فإن حبسه فهلك كان مضموناً ضمان الرهن عند أبي يوسف، وضمان المبيع عند محمد، وضمان الغصب عند زُفَر رحمهم الله»

(4)

.

فصورة ظهور هذه الاختلافات ما إذا كان الثمن خمسةَ عشَر مثلاً، وقيمة المبيع عشرة يرجع الوكيل [بخمسة]

(5)

على الموكل عند من يقول بضمان الرهن، ولا يرجع أحدهما على الآخر عند من يقول بضمان الغصب، أو المبيع، ولو كان الثمن عشرة، وقيمة المبيع خمسة عشر يرجع الموكل على الوكيل بخمسة عند من يقول بضمان الغصب، ويسقط الثمن كله، ولا يجب شيء عند من يقول بضمان المبيع

(6)

.

فإن قلت لما ثبتت المبادلة الحكمية بين الوكيل، والموكل على أصلنا فمن أين وقع الفرق بين الوكيل ها هنا، وبين المشتري في حق الشَّفيع حتى أنَّ الأجل الثابت في حق الوكيل ها هنا يثبت في حق الموكل، والأجل الثابت في حق المشتري لا يثبت في حق الشفيع مع أنَّ حقيقة المشتري انتقلت إلى الشَّفيع حكما عند ثبوت الشفعة للشفيع على ما يجيء في الشفعة -إن شاء الله تعالى- فكأنَّ المشتري في الشفعة مع الوكيل بالشراء ها هنا متوازنين.

قلت: ذكر ذلك الفرق في وكالة المبسوط فقال: «والبائع إذا أخَّر المال عن المشتري لم يكن للمشتري أن يأخذ من الآمر بمنزلة ما لو اشترى بثمن مؤجل لم يرجع على الآمر قبل حلول الأجل، وهذا لأنَّ الوكيل إنما يستوجب على الآمر مثل ما وجب للبائع عليه بصفته، وهذا بخلاف الشَّفيع مع المشتري؛ فإن الأجل الثابت في حق المشتري لا يثبت في حق الشفيع؛ لأنَّ الشفيع إنما يتملك المبيع بعقد جديد سوى عقد المشتري فالأجل المذكور في عقد لا يثبت في عقد آخر وها هنا الموكل إنما يتملك بذلك العقد الذي باشره الوكيل، والأجل ثابت في حق الوكيل بحكم ذلك العقد فيثبت في حق الموكل أيضاً»

(7)

.

(1)

المبسوط (12/ 205).

(2)

سقط من «ج» .

(3)

المبسوط (19/ 60).

(4)

الهداية (3/ 140).

(5)

في «ج» : [خمسة].

(6)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 244).

(7)

المبسوط (19/ 60).

ص: 192

فإن قلت: لو كان مباشرة الوكيل ها هنا بمنزلة مباشرة الموكل لوجب أن يكون إبراء البائع الوكيل عن الثمن بمنزلة إبراء الموكل حتى لا يرجع الوكيل على الموكل عند إبراء البائع بمنزلة إبراء الطالب الكفيل؛ بل يرجع الوكيل ها هنا على الموكل وإن أبرأه البائع.

قلت: «إن إبراء الوكيل إنَّما لم يمنعه عن الرجوع إلى الموكل؛ لأنَّ ثبوت حق الرجوع له بالشِّراء لا بالأداء بخلاف الكفيل إذا أُبرئ لا يرجع على الأصيل؛ لأن ثبوت حق الرجوع له بالأداء، أو بتملكه ما في ذمته، وذلك بالإبراء لا يحصل» . كذا في وكالة المبسوط

(1)

.

«لأنه منع بغير حق»

(2)

، أي:[على]

(3)

أصل مذهب زُفَر.

«أنه مضمون بالحبس للاستيفاء بعد أن لم يكن»

(4)

؛ أي: بعد أن لم يكن مضموناً قبل الحبس.

وإنما ذكر هذا للفرق بين هذا، وبين المبيع في يد البائع كما هو قولهما: فإن المبيع في يد البائع مضمون ابتداءً قبل الحبس، وبعده بسبب البيع لا بسبب الحبس [وها هنا]

(5)

مضمون بعد الحبس لا قبله؛ فكان هذا نظير الرهن لا نظير المبيع

(6)

.

«ردَّه الموكل» ؛ أي: إلى الوكيل، ورضى الوكيل به؛ فإنه يصير للوكيل.

«من لحم يباع منه عشرة أرطال بدرهم»

(7)

، أي: إذا كانت عشرة [الأرطال]

(8)

من ذلك اللحم يساوي قيمته درهماً إنما قُيِّد به؛ لأنه إذا كانت/ عشرة الأرطال منه لا تساوي درهماً نفذ الكل على الوكيل بالإجماع. كذا في الذخيرة

(9)

.

«لزم الموكل منه عشرة بنصف درهم عند أبي حنيفة رحمه الله

(10)

»

(11)

.

«فإن قيل: ينبغي أن لا يلزم الآمر عشرة بنصف درهم على قوله؛ لأنَّ هذه العشرة تثبت ضمناً للعشرين لا قصداً، وهو قد وكَّله بشراء عشرة قصداً، ومثل هذا لا يجوز على قول أبي حنيفة رحمه الله كما إذا قال لرجل: طلق امرأتي واحدةً، فطلقها ثلاثاً، لا يقع واحدة لثبوتها في ضمن الثلاث، والمتضمن [لم يثبت]

(12)

لعدم التَّوكيل به، فلا يثبت ما في ضمنه أيضاً تبعاً له

(13)

.

(1)

المبسوط (19/ 61).

(2)

الهداية (3/ 140).

(3)

سقط من «ج» .

(4)

قال في الهداية (3/ 140): «

لهما أنه بمنزلة البائع منه، فكان حبسه لاستيفاء الثمن فيسقط بهلاكه؛ ولأبي يوسف أنَّه مضمون بالحبس للاستيفاء بعد أن لم يكن».

(5)

في «س» : [هنا].

(6)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 41).

(7)

تمام المسألة في الهداية (3/ 140): «وإذا وكله بشراء عشرة أرطال لحم بدرهم فاشترى عشرين رطلاً بدرهم من لحم يباع منه عشرة أرطال بدرهم لزم الموكل منه عشرة بنصف درهم عند أبي حنيفة، وقالا: يلزمه العشرون بدرهم» .

(8)

في «ج» : [الأبطال].

(9)

ينظر: الجوهرة النيرة (1/ 308)، البناية شرح الهداية (9/ 245)،

(10)

في «س» : [رضى الله عنه].

(11)

الهداية (3/ 140).

(12)

سقط من «ج» .

(13)

ينظر: الجوهرة النيرة (1/ 308).

ص: 193

قلنا: ذاك مسلم [في]

(1)

الطلاق؛ لأنَّ المتضمن لم يثبت [أصلاً]

(2)

من الموكل لعدم توكيله به، ولا من الوكيل لعدم شرطه؛ لأنَّ المرأة مرأة الموكل لا مرأة الوكيل.

وأما ها هنا إذا لم يثبت الشِّراء من الموكل يثبت من الوكيل؛ لأن الشراء إذا وجد نفاذاً لا يتوقف؛ بل ينفذ على الوكيل كما في سائر الصور التي خالف الوكيل بالشراء فلما ثبت المتضمن، وهو العشرون ثبت ما في ضمنه وهو العشرة إلا أنَّ الوكيل خالف الموكل حيث اشترى [العشرة]

(3)

بنصف درهم، فهو مخالف إلى خير، فلا تكون مخالفة فينفذ على الموكل؛ ولأنَّ الثمن يتوزع على أجزاء المبيع فحينئذ ٍكان الكل مقصوداً، فلا يتحقق الضمن في الشِّراء»

(4)

. كذا نقل من الإمام المحقق مولانا حميد الدين/

(5)

.

«وذكر في بعض النسخ»

(6)

، أي: في بعض نسخ القدُّوري.

«ومحمد لم يذكر الخلاف في الأصل» ، أي: في وكالة المبسوط لآخر باب الوكالة بالبيع والشراء منه، فقال فيه: «لزم الآمر عشرة منها بنصف درهم، والباقي للمأمور؛ لأنَّه أمره بشراء قدر مسمى، فما زاد على ذلك القدر لم يتناوله أمره؛ فكان مشترياً لنفسه، وفي القدر الذي تناوله أمره [قد]

(7)

حصل مقصوده، وزاده منفعة بالشراء بأقل مما سمى له؛ فكان مشترياً للآمر»

(8)

.

‌في شراء الموكل شيئاً بأقل مما وكل به

«فينفذ شرائها عليه»

(9)

، أي: شراء الزيادة على الوكيل وشراء العشرة على الموكل.

«فإن قلت: ما الفرق بين هذا، وبين ما ذكره في الذخيرة، والتتمة محالاً إلى المنتقى: وهو أنه إذا أمره أن يشتري له ثوباً هروياً بعشرة، فاشترى له هرويين بعشرة كل واحدٍ منهما يساوي عشرة.

قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز البيع في واحد منهما حصل مقصود الآمر وزاده فيه خيراً، حيث اشترى له ما أمره بأن يشتري بعشرة اشترى له بخمسة، ومع ذلك لا ينفذ ما اشتراه على الآمر في شيءٍ منهما، فكيف نفذ ها هنا بشراء العشرة على الموكل؟.

(1)

في «ج» : [من].

(2)

في «ج» : [أصلا لا].

(3)

في «ج» : [عشرة].

(4)

ينظر: فتح القدير (8/ 43).

(5)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 43).

(6)

الهداية (3/ 140).

(7)

في «ج» : [وقد].

(8)

المبسوط (19/ 65).

(9)

قال في الهداية (3/ 141): «ولأبي حنيفة أنَّه أمره بشراء عشرة أرطال، ولم يأمره بشراء الزيادة فينفذ شراؤها عليه وشراء العشرة على الموكل بخلاف ما استشهد به

».

ص: 194

قلت: يحتمل أنَّ الفرق إنَّما نشأ من حيث أنَّ اللحم من ذوات الأمثال.

كذا اختاره صاحب المحيط

(1)

رحمه الله لما أنه من الموزونات.

والأصل في المكيلات والموزونات أن يكون من ذوات الأمثال، وفي ذوات الأمثال لا تتفاوت القيمة إذا كانت من جنس واحد، وصفة واحدة، وكلامنا فيه؛ لأن الكلام فيما إذا كان ذلك اللحم من لحم يباع عشرة أرطال منه [بدرهم]

(2)

ولما كان كذلك كان للوكيل أن يجعل للموكل أيَّ عشرة شاء بخلاف الثوب، فإنَّه من ذوات القيم والثوبان، وإن كانا متساويين في القيمة؛ لكن ذلك إنما يعرف بالحزر، والظن، وذلك لا يعين حق الموكل فيثبت حقه مجهولاً، فلا ينفذ على الآمر لذلك»

(3)

.

«وإلى هذا أشار في التعليل في التتمة، فقال: لأني لا أدري أيهما أعطيه بحصته من العشرة، لأن القيمة لا تعرف إلا بالحزر، والظن»

(4)

.

‌إذا وكل الموكِّل الموكَل بشراء شيء فليس له أن يشتريه بنفسه

«ولو وكله بشراء شيءٍ بعينه؛ فليس له أن يشتريه لنفسه» سواء نوى عند العقد الشراء لنفسه، أو صرح بالشراء لنفسه بأن قال: اشهدوا أني قد اشتريت لنفسي؛ إلا إذا خالف في الثمن لا إلى خير، أو خالف إلى جنس آخر غير الذي سماه الموكل هذا إذا كان الموكل غائباً؛ فإن كان حاضراً، أو صرح الوكيل بالشراء لنفسه يصير مشترياً لنفسه. كذا في التتمة»

(5)

.

ووضع المسألة في العبد في الذخيرة، ثم قال: وإنما كان كذلك؛ لأنَّ العبد إذا كان بعينه فشراؤه داخل تحت الوكالة من كل وجه؛ فمتى أتى به على موافقة الآمر وقع الشراء لموكله نوى أو لم ينو

(6)

.

وهذا بخلاف ما لو كان الموكل حاضراً؛ فأشهد أنه اشترى لنفسه؛ فإنه يكون مشترياً لنفسه؛ لأنه عزل نفسه بمقتضى الإقدام على الشراء لنفسه؛ وله عزل نفسه حال حضرة الموكل ولا كذلك حال غيبة الموكل، ولو اشتراه الوكيل بأكثر من الثمن الأول أو بجنس آخر؛ فإنَّه يصير مشترياً لنفسه،؛ لأنَّ هذا الشراء غير داخل تحت الوكالة، وما لم يدخل تحت الوكالة فالحال فيه بعد الوكالة كالحال قبلها [فأمَّا]

(7)

الشراء بمثل الثمن المأمور به داخل تحت الوكالة، وما يفعله الوكيل على/ موافقة الآمر، فإنه يقع لموكله نوى أو لم ينو حتى يفيد التَّوكيل فائدته

(8)

.

(1)

صاحب: «المحيط البرهاني» ، هو محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازه البخاري، المرغيناني، برهان الدين: من أكابر فقهاء الحنفية، عدّه ابن كَمَال باشا من المجتهدين في المسائل، وهو من بيت علم عظيم في بلاده، ولد بمرغينان من بلاد ما وراء النهر، وتوفي ببخارى، من كتبه «ذخيرة الفتاوى» ، و «المحيط البرهاني» ، و «تتمة الفتاوي» ، و «الواقعات» ، و «الطريقة البرهانية» ، توفي سنة 616 هـ.

ينظر: الفوائد البهية (205)، الأعلام (7/ 161).

(2)

في «ج» : [قدر درهم].

(3)

ينظر: فتح القدير (8/ 43)، وينظر: العناية شرح الهداية (8/ 43).

(4)

ينظر: فتح القدير (8/ 43).

(5)

ينظر: فتح القدير (8/ 44).

(6)

ينظر: فتح القدير (8/ 44 - 45).

(7)

في «ج» : [وأما].

(8)

ينظر: الجوهرة النيرة (1/ 308).

ص: 195

قوله رحمه الله: «فلو كان الثمن مسمى فاشترى بخلاف جنسه» ؛ أي: في هذه الصورة، وهي ما إذا وكله بشراء شيء بعينه.

فإن قلت ما الفرق بين هذا، وبين الوكيل بنكاح امرأة بعينها؛ إنه إذا أنكحها من نفسه بمثل المهر المأمور به يصح، فيقع النكاح على الوكيل لا على الموكل، مع أنه لم يخالف فيما أمر به من المهر.

قلت: الفرق فيه هو أنَّ النكاح الذي أتى به الوكيل غير داخل تحت الوكالة؛ لأنَّ الداخل تحت الوكالة نكاح مضاف إلى الموكل؛ فإنَّ الوكيل بالنكاح يضيف النكاح إلى موكله فيقول: تزوجتك لفلان، فإذا قال: تزوجتك لم يأت بالنكاح المأمور به؛ فنفذ على الوكيل

(1)

.

فأما الداخل تحت التَّوكيل بشراء شيء بعينه شراءً مطلقاً بمثل الثمن المأمور به لا الشراء المضاف إلى الموكل، وقد أتي بذلك والوكيل إذا أتى بما دخل تحت الوكالة؛ فإنه يقع لموكله، فإن كان قد وكَّل الوكيل رجل آخر بشراء هذا الشيء المعين أيضاً فاشتراه الوكيل للثاني، فهو للموكل الأول دون الموكل الثاني؛ لأنَّ الوكيل بشراء شيء بعينه لا يملك الشِّراء لنفسه بمثل الثمن المأمور به، فلا يمكن لغيره بالطريق الأولى؛ لأنَّه يتصرف على نفسه بولاية أصلية، وعلى غيره بولاية عارضة، والولاية الأصلية أقوى من [العارضة]

(2)

. كذا في الذَّخيرة.

«ولا يملك على ما قيل» ، أي: ولا يملك الوكيل عزل نفسه عند غيبة الموكل ولا يخرج عن الوكالة بعزله نفسه من غير علم الموكل

(3)

. كذا في الذخيرة.

«ولو اشترى الثاني بحضرة الوكيل الأول نفذ على الموكل الأول؛ لأنه حضره رأيه فلم يكن مخالفاً»

(4)

.

«فإن [قلت]

(5)

ما الفرق بين الوكيل بالبيع، والشِّراء [والنكاح]

(6)

والخلع والكتابة إذا وكَّل غيره ففعل الثاني بحضرة الأول، أو فعل أجنبي ذلك فبلغ الوكيل فأجاز ذلك يجوز، وبين الوكيل بالطلاق والعتاق، فإنه لو وكل الوكيل رجلاً [آخر]

(7)

فطلق، أو أعتق الثاني لا يقع، وإن كان بحضرة الوكيل الأول والرواية في التتمة، والذخيرة

(8)

.

قلت: قد رأيت وجه الفرق في بعض الحواشي بأنَّ الطلاق والعتاق يتعلقان بالشُّروط، فكان أمر الموكل للأول جعل شرطاً لوقوع الطلاق والعتاق بعبارته، فلا يتأدَّى ذلك الشرط بعبارة الآخر بخلاف البيع ونحوه، فإنَّه من الإثباتات فلا يحتمل التَّعليق بالشَّرط؛ فلم يكن البيع معلقاً بعبارته؛ بل المراد منه وجود البيع ونحوه بعلمه، وفي بيع وكيلة بحضرته يوجد ذلك فيصح؛ إلا أن هذا التعليل ينتقض بمسألتين:

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 45)، فتح القدير (8/ 49).

(2)

في «س» : [العارضية].

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (10/ 498)، فتح القدير (10/ 497).

(4)

الهداية (3/ 141).

(5)

في «ج» : [قيل].

(6)

في «ج» : [أو النكاح].

(7)

سقط من «س» .

(8)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 46)، فتح القدير (8/ 46).

ص: 196

أحديهما ما [ذكره]

(1)

في المبسوط في باب توكيل الزوج بالطلاق من كتاب الوكالة بقوله: «ولو وكله بطلاقها فأبى أن يقبل ثم طلقها لم يقع، فقال: لأن الوكالة ارتدت برده؛ فكأنها ارتدت برجوع الموكل عنها»

(2)

.

فلو كان التَّوكيل بالطلاق بمنزلة التعليق [بعبارته]

(3)

لما صَحَّ الرد منه.

والثانية: هي صحة عزل الوكيل بالطلاق والعتاق، فإن الرجل إذا وكَّل رجلاً بطلاق امرأته، أو بإعتاق عبده على مال، أو على غير مال فللموكل أن يعزله. ذكره في وكالة المبسوط أيضاً

(4)

.

وذكر في وكالة التتمة، ولو قال لامرأته طلقي ضرتك، فلها أن يعزلها، فلو كان هذا بمنزلة التعليق بعبارة الوكيل بالطلاق، والعتاق لما صح عزله

(5)

.

والصحيح من الفرق ما ذكره في الذخيرة، فقال: إن الوكيل بالطلاق والعتاق رسول؛ لأنَّ العمل بحقيقة الوكالة متعذر؛ لأن التَّوكيل لتفويض الرأي إلى الوكيل وجعله بمنزلة المالك وتفويض الرأي إلى الوكيل إنَّما يتحقق فيما يحتاج فيه إلى الرأي، والطلاق المفرد، والعتاق المفرد لا يحتاج فيهما إلى الرأي فيتعذر العمل بما تقتضيه حقيقة الوكالة فجعلناها مجازاً عن الرسالة؛ لأنَّ الوكالة تتضمن معنى الرسالة، والرسول ينقل عبارة المرسل فصار المأمور مأموراً بنقل عبارة الآمر لا بشيء آخر وتوكيل الآخر، [والإجازة]

(6)

ليس من النقل في شيء فلذلك لم يملك التَّوكيل فأمَّا في البيع، والنكاح، وغيرهما العمل بحقيقة الوكالة ممكن؛ لأنَّ البيع ونحوه مما يحتاج فيه إلى الرأي، فاعتبر المأمور وكيلاً والوكيل بمنزلة المالك من حيث إن الرأي مفوضٌ إليه، والمالك كان يملك مباشرة البيع بنفسه، ويملك الإجازة [فكذا]

(7)

الوكيل

(8)

.

قوله: «لأنه حضره رأيه فلم يكن مخالفاً»

(9)

.

«وذلك لأنَّه إذا كان حاضراً يصير كأنه هو المباشر للعقد؛ ألا ترى أنَّ الأب إذا زوَّج ابنته البالغة بشهادة رجل واحد [بحضرتها جاز]

(10)

فيجعل كأنها هي التي باشرت العقد، فكان الأب مع ذلك الرجل شاهدين». كذا في المبسوط

(11)

.

(1)

في «ج» : [ذكر].

(2)

المبسوط (19/ 127).

(3)

في «ج» : [بعبارة].

(4)

ينظر: المبسوط (19/ 13).

(5)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 243)، فتح القدير (8/ 46).

(6)

في «س» : [أو الإجازة].

(7)

في «ج» : [فكذلك].

(8)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 46)، فتح القدير (8/ 46 - 47)

(9)

الهداية (3/ 141).

(10)

سقط من «ج» .

(11)

المبسوط (19/ 32).

ص: 197

وتجيء مسألة [توكيل الوكيل]

(1)

بعد هذا إن أضاف العقد/ إلى دراهم الآمر كان للآمر فوضع المسألة في المبسوط في الدنانير، ثم قال: فإن قيل الشراء لا يتعلق بتلك الدنانير فشراء الوكيل بها وبغيرها سواء»

(2)

.

لأنَّ الدَّراهم والدَّنانير لا يتعينان في العقود، والفسوخ.

«قلنا: لا نقول يتعلق الشراء بتلك الدنانير، وإنما تتقيد الوكالة بها، والوكالة تتقيد بالمال المضاف إليه ألا ترى أنه لو هلك قبل الشراء به بطلت الوكالة، وإذا تعلقت الوكالة بتلك الدنانير لم يكن الشراء بغيرها من موجبات الوكالة على أن الشراء قد يتعلق بالدنانير المضاف إليها نوع تعلق، ألا ترى أن من اشترى بالدنانير المغصوبة، ونقدها لم يطب له الفضل بخلاف ما إذا اشترى بغيرها ونقدها»

(3)

.

«دون النقد من ماله» ، أي: دون [الإعطاء]

(4)

من مال الموكل.

«لأن فيه تفصيلاً»

(5)

؛ أي: لأن في النقد تفصيلاً بعد أن يشتريه بدراهم مطلقة إن نقد من دراهم الموكل كان الشراء للموكل، وإن نقد من دراهم الوكيل كان الشراء للوكيل

(6)

.

‌في التوكيل بشراء عبد بغير عينه

«وخلافاً» ، أي: فيما إذا تصادقا على أنه لم تحضره النية وقت الشراء؛ أنه يشتريه للموكل، أو للوكيل فعلى قول محمد رحمه الله

(7)

العقد للوكيل، وعلى قول أبو يوسف رحمه الله

(8)

يحكم النقد على ما يجيء

(9)

.

«وهذا بالإجماع» ، أي: لو أضاف العقد إلى دراهم الموكل يقع العقد للموكل بالإجماع

(10)

.

«وهو مطلق» ؛ أي: قوله: «أو يشتريه بمال الموكل» مطلق غير مقيد بأنَّه في حالة الشراء أضاف العقد إلى دراهم الآمر، أو لم يضف فيُحمل ذلك المطلق على هذا المقيد، وهو أنه أراد بقوله:«أو يشتريه بمال الموكل» إضافة العقد إلى دراهم الموكل بهذه الدلالة، وهي دلالة الإجماع؛ فإنَّ في فصل الإضافة إلى دراهم الموكل إجماعاً على أن الشِّراء يقع للموكل، [فأمَّا]

(11)

في النقد من مال الموكل خلاف، وفي الإضافة إلى دراهم الوكيل يكون للوكيل بالإجماع

(12)

.

(1)

في «ج» : [التوكيل].

(2)

المبسوط (19/ 63).

(3)

المبسوط (19/ 63).

(4)

في «ج» : [بيع عطاء].

(5)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 141): «وإن وكله بشراء عبد بغير عينه: فاشترى عبداً فهو للوكيل إلا أنْ يقول نويت الشراء للموكل أو يشتريه بمال الموكل، قال: هذه المسألة على وجوه: إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر كان للآمر وهو المراد عندي بقوله أو يشتريه بمال الموكل دون النقد من ماله؛ لأن فيه تفصيلاً وخلافاً، وهذا بالإجماع وهو مطلق» .

(6)

ينظر: تبيين الحقائق (4/ 164)، فتح القدير (8/ 47)، مجمع الأنهر (2/ 232).

(7)

سقط من «س» .

(8)

في «ج» : [رحمهما الله].

(9)

ينظر: فتح القدير (8/ 47).

(10)

ينظر: فتح القدير (8/ 47).

(11)

في «ج» : [وأما].

(12)

ينظر: الجوهرة النيرة (1/ 309).

ص: 198

وذكر في الذَّخيرة: الوكيل بشراء شيء بغير عينه إذا اشترى ما وكل به بمثل الثمن الذي هو داخل في الوكالة، ثم ادعى بعد ذلك أنه اشتري لنفسه، أو لموكله فإنْ لم يكن الثمن مدفوعاً إليه يصدق، وإن كان الثمن مدفوعاً إليه، فإن أضاف الشراء إليه، ونقد منه؛ فالشِّراء للموكل، ولا يصدق الوكيل في قوله: اشتريت لنفسي إلا أن يصدقه الموكل، وإن أضاف الشراء إليه، ونقد من غيره، فكذلك الجواب.

وللوكيل أن يحبس المنقود لنفسه استحساناً، وإن أضاف الشراء إلى غيره والنقد منه؛ فالشراء يقع للوكيل من حيث الظَّاهر حتى لا يصدق الوكيل في أنه اشتراه للموكل.

وإذا نقد مال الموكل يصير ضامناً إلا أن يصدقه الموكل فيما قال.

وإن اشترى بدراهم مطلقة؛ فهو على وجهين إن اشترى حالاً يحكم النقد إن نقد من دراهم الموكل؛ فالشراء للموكل، وإن نقد من مال نفسه فالشراء له، وإن لم ينقد يرجع في البيان إلى الوكيل، ويعتبر بيانه، وإن اشترى مؤجلاً فالشراء يكون للوكيل حتى لو ادعى الشراء بعد ذلك للموكل لا يصدق إلا أن يصدقه الموكل

(1)

.

وذكر -شمس الأئمة- الحلواني رحمه الله: مسألة الوكيل بالسلم وجعلها على وجوه؛ إن أضاف الوكيل النقد إلى دراهم الآمر فالعقد للآمر، وإن نواه لنفسه، وإن أضاف العقد إلى دراهم نفسه؛ فالعقد له، وإن نواه للآمر، وإن عقد العقد بعشرة مطلقة، فإن تصادقا أنه نواه للآمر؛ فهو للآمر، وإن نقد دراهم نفسه بعد ذلك وإن تصادقا أنه نواه لنفسه؛ فهو له وإن نقد دراهم الآمر بعد ذلك

(2)

.

وإن اختلفا في النية

(3)

فادعى الوكيل أنه نواه لنفسه، وادعى الموكل أنه نواه له فإنه ينظر، إن نقد دراهم الموكل يقع العقد للموكل، وإن نقد دراهم نفسه يقع العقد له.

وإن تصادقا على أنه لم تحضره النية

(4)

، فعلى قول محمد رحمه الله العقد للوكيل، وعلى قول «أبي يوسف رحمه الله يحكم النقد»

(5)

.

وقوله: «حملاً لحاله على ما تحل له شرعاً» متصل بقوله: «إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر كان للآمر

»

(6)

، يعني: أنه إذا أضاف العقد إلى دراهم الآمر ينبغي أن يقع للآمر؛ لأنَّه لو لم يقع للآمر كان واقعاً للوكيل، فلو وقع العقد للوكيل عند إضافة العقد إلى دراهم الآمر كان الوكيل غاصباً لدراهم الآمر، وهو لا يحل شرعاً

(7)

.

(1)

ينظر: البحر الرائق (7/ 160).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني (7/ 123)،

(3)

قال في الهداية (3/ 141): «وإن تكاذبا في النية؛ يحكم النقد بالإجماع؛ لأنَّه دلالة ظاهرة على ما ذكرنا» .

(4)

قال في الهداية (3/ 141): «وإن توافقا على أنه لم تحضره النية قال محمد/: هو للعاقد؛ لأنَّ الأصل أن كل أحد يعمل لنفسه إلا إذا ثبت جعله لغيره ولم يثبت. وعند أبي يوسف/: يحكم النقد» .

(5)

الهداية (3/ 141).

(6)

الهداية (3/ 141).

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 248)، حاشية رد المحتار (7/ 314).

ص: 199

«أو يفعله عادةً»

(1)

معطوف على قوله: «يحل له» ، يعني: أنَّ العادة جرت بأن الشِّراء إذا كان مضافاً إلى دراهم معينة أن يقع الشراء لصاحب الدراهم؛ لأن المشتري إذا [اشترى]

(2)

لموكله يشتريه مطلقاً من غير إضافة إلى دراهم نفسه، وهنا لما أضاف العقد إلى الدراهم يقع العقد لصاحب الدراهم حملاً لآمره على وفق العادة

(3)

.

وحاصله أنَّه إذا أضاف العقد إلى دراهم الآمر/ يكون للآمر، فلو قلنا بأن الشراء واقع للوكيل فيه كان حملاً لأمر الوكيل على ما لا يحل شرعاً، وهو الغصب، وذلك لا يجوز.

وكذلك لو أضاف العقد إلى دراهم نفسه يكون له، لأنَّا لو قلنا بأن الشراء واقعُ للموكل كان حملاً لأمره على خلاف العادة، وهو أيضاً لا يصح؛ لأن الأصل هو وفاق العادة؛ فلهذه الضرورة جعلنا الشراء لصاحب الدراهم.

حين وقعت الإضافة إلى الدراهم

(4)

يحتمل الوجهين، أي: يحتمل أن يقع الشراء للآمر، أو يقع للوكيل.

«وفيما قلنا حمل حاله على الصلاح»

(5)

، وهو أن لا يصير الوكيل غاصباً دراهم الموكل.

‌في التوكيل بالإسلام على الطعام

«والتوكيل بالإسلام في الطعام على هذه الوجوه»

(6)

؛ أي: وفاقاً، وخلافاً، وإنما ذكر هذا؛ مع أنَّ حكم التَّوكيل بالإسلام يستفاد من بيان حكم التَّوكيل بشراء العبد نفياً لقول بعض مشايخنا؛ فإنهم قالوا في مسألة الشراء: إذا تصادقا أنه لم تحضره النية فالعقد للوكيل إجماعاً، ولا يحكم النقد، وإنما الخلاف [بين]

(7)

أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- في مسألة التَّوكيل بالإسلام، وهذا القائل فرَّق بين مسألة الشراء، وبين مسألة السَلَم على قول أبي يوسف، والفرق أنَّ للنقد أثراً في تنفيذ السَّلم؛ فإنه إذا لم ينقد رأس المال يبطل السَلَم، فإذا جهل من نقد العقد عليه وجبت استبانة ذلك بالنَّقد، وأما ليس للنقد أثر في تنفيذ الشراء حتى يستبان من نفَّذ عليه الشراء بالنقد، فاعتبرنا العقد وافقا للعاقد عملاً بقضية الأصل

(8)

. كذا في الذخيرة.

(1)

في قوله في الهداية (3/ 141): «وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان لنفسه حملاً لحاله على ما يحل له شرعاً أو يفعله عادة إذ الشراء لنفسه بإضافة العقد إلى دراهم غيره مستنكر شرعاً وعرفا» .

(2)

في «ج» : [اشتمل].

(3)

ينظر: فتح القدير (8/ 48).

(4)

في قوله في الهداية (3/ 141): «وإن أضافه إلى دراهم مطلقة، فإن نواها للآمر فهو للآمر، وإن نواها لنفسه فلنفسه

».

(5)

الهداية (3/ 141).

(6)

الهداية (3/ 141).

(7)

في «ج» : [أن].

(8)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 51)، فتح القدير (8/ 51).

ص: 200

«وفرَّق أبو يوسف بين هذا، وبين المأمور بالحج عن الغير إذا أطلق النية عند الإحرام؛ فإنه يكون عاقداً لنفسه؛ لأنَّ الحج عبادة، والعبادات لا تتأدَّى إلا بالنية [وكان]

(1)

مأموراً بأنْ ينوي الحج عن المحجوج عنه، ولم يفعل فصار مخالفاً بترك ما هو الشرط.

أما في المعاملات، فالنية ليست بشرط، فلا يصير بترك النية عن الآمر مخالفاً فيبقى حكم عقده موقوفاً على النقد». كذا في باب الوكالة بالسلم من بيوع المبسوط

(2)

.

‌في اختلاف الأمر والمأمور في شراء العبد قبل الدفع وبعده

.

«لأن في الوجه الأول»

(3)

، وهو ما إذا لم يكن الثمن منقوداً إلى [الوكيل]

(4)

.

«أخبر عما لا يملك استئنافه» ؛ أي: استئناف العقد؛ لأن العبد ميت والكلام فيه، والعبد الميت ليس بمحل لعقد الشراء، ولما لم يملك الوكيل استئناف الشراء فيه كان قول الوكيل بأنِّي قد فعلت، ومات عندي لإرادة الرجوع على الموكل بالثمن، وهو ينكر، فكان القول قول الموكل، وعن هذا وقع في بعض النسخ

(5)

.

«لا يملك استئنافه، وهو بهذا يريد الرجوع بالثمن» على الآمر، [وهذا]

(6)

ظاهر.

وفى بعض النسخ: «لا يملك استئنافه، وهو الرجوع بالثمن»

(7)

، فوجهه، أي: لا يملك الوكيل استئناف سبب الرجوع بالثمن، وهو العقد بعد موت العبد، وإنما قال:«وهو الرجوع» ، ولم يقل، وهو العقد؛ لأن مقصود الوكيل من ذكر العقد الرجوع بالثمن على الآمر لا العقد لأجل الآمر فترك الواسطة، وهي العقد، وصرح بالمقصود، وهو الرجوع، فكان ذكراً للمسبب، وإرادة للسبب، وجاز هذا؛ لأن الرجوع بالثمن على الآمر مختص بالشِّراء لأجل الآمر؛ لأنَّه يملك استئناف الشراء؛ لأن العبد حي والحي محل الشِّراء فيملك أن يشتريه في الحال لأجل الآمر.

فإن قيل الشِّراء لا يتوقف بخلاف البيع، ولما وقع شراؤه أولًا للوكيل حين اشترى كيف يقع بعد ذلك للموكل، قلنا: تملك استئناف الشراء دائر مع التَّصوُّر، فيتصور أنْ يتفاسخ الوكيل الشِّراء مع بائعه، ثم يشتريه لأجل الموكل

(8)

.

(1)

في «س» : [فكان].

(2)

المبسوط (12/ 213).

(3)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 141 - 142): «ومن أمر رجلاً بشراء عبد بألف فقال: قد فعلت ومات عندي، وقال الآمر: اشتريته لنفسك فالقول قول الآمر، فإن كان دفع إليه الألف فالقول قول المأمور» ؛ لأنَّ في الوجه الأول أخبر عما لا يملك استئنافه

».

(4)

في «ج» : [توكيل].

(5)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 51)، فتح القدير (8/ 51).

(6)

في «ج» : [وهو].

(7)

الهداية (3/ 142).

(8)

ينظر: فتح القدير (8/ 52).

ص: 201

«[فيقبل]

(1)

قوله

»

(2)

، أي: قوله اشتريت لك بتلك الألف عبداً، ومات عندي «تبعاً لذلك»؛ أي: تبعاً «لخروج الوكيل عن عهدة الأمانة» التي هي الألف المنقودة.

«ولا ثمن في يده ها هنا» ؛ أي: فيما إذا كان العبد حيًا، والثمن غير منقود إلى الوكيل، فلم يوجد المتبوع، [وهو]

(3)

كون الوكيل أمينًا في حق الألف المنقودة، فلا يوجد التبع، وهو قبول قوله بطريق التبعية:«لخروج الوكيل عن عهدة الأمانة» ؛ فلذلك لا يُقبل قوله: ها هنا: «بخلاف ما إذا كان الثمن منقوداً» إلى الوكيل؛ لأنَّه أخبر عما يملك استئنافه في الحال ولا تهمة فيه.

فإن قيل: الولي إذا أقر بتزويج الصَّغيرة لا يقبل عند أبي حنيفة [رحمة الله]

(4)

مع أنَّه يملك استئناف النكاح في الحال، قلنا: قوله: «يملك استئنافه» وقع على قولهما

(5)

.

وقوله: «لا تهمة فيه» ، «وقع على قول أبي حنيفة رحمه الله فكان في هذه المسألة اتفاق الجواب مع اختلاف التخريج، فلمَّا لم يكن قوله يملك استئنافه على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يرد الاشكال على قوله، أو نقول: لو كان في تزويج/ الصغيرة إخباره عند حضور شاهدين يُقبل قوله عنده أيضاً، فكان ذلك عبارة عن إنشاء النكاح ابتداءً، فلا يرد الإشكال لما أنَّه إنما لا يقبل هناك قراره بتزويج الصغيرة عند عدم الشاهدين؛ لأنَّه لا يتصور إنشاء شرعاً لعدم الشهود؛ فكان لا يملك استئنافه، فاطَّرد الجواب عنده في المسألتين»

(6)

.

«في حال غيبته» قُيِّد به؛ لأنه تمَّلك شراءه لنفسه حال حضرة الموكل، وإن كانت وكالته بشراء شيء بعينه لما مر عن قريب.

وقوله: «على ما ذكرنا لأبي حنيفة رحمه الله

(7)

» إشارة إلى قوله: «لأنه موضع تهمة

»

(8)

إلى آخره.

وهذه المسألة في باب الوكالة بالبيع، والشِّراء من كتاب بيوع الجامع الصغير

(9)

.

وذكر الإمام قاضي خان- رحمه الله تفريعاتها مضبوطة، فقال: وهذه المسألة على وجهين: أما إن [كان]

(10)

وكَّله بشراء عبد بعينه، أو بغير عينه وكل ذلك على وجهين، إما إن كان الثمن منقوداً، أو لم يكن، وكل ذلك على وجهين، أمَّا إن كان العبد قائماً، أو هالكاً، فإن كان الثمن منقوداً، فالقول قول الوكيل في جميع الوجوه؛ لأنه يدعي خروج نفسه عن عهدة الأمانة

(11)

.

(1)

في «س» : [فقبل].

(2)

الهداية (3/ 142).

(3)

سقط من «ج» .

(4)

في «س» : [رضى الله عنه].

(5)

ينظر: فتح القدير (8/ 54).

(6)

ينظر: فتح القدير (8/ 54).

(7)

سقط من: «س» .

(8)

تمام قول أبي حنيفة في الهداية (3/ 142): «وعن أبي حنيفة/: القول للأمر؛ لأنه موضع تهمة بأنْ اشتراه لنفسه، فإذا رأى الصفقة خاسرة ألزمها الآمر، بخلاف ما إذا كان الثَّمن منقوداً؛ لأنه أمين فيه فيقبل قوله تبعاً لذلك ولا ثمن في يده هاهنا

».

(9)

ينظر: فتح القدير (8/ 33).

(10)

سقط من: «س» .

(11)

درر الحكام (2/ 286).

ص: 202

‌في اختلاف الأمر والمأمور في بيع العبد وإنكار الأمر بالبيع

«فإن فلاناً يأخذه

»

(1)

، أي: لذلك الفلان ولاية الأخذ من المشتري إن ادعى الآمر إياه بالشراء؛ لأنَّ قوله السابق: «إقرار منه بالوكالة عنه فلا ينفعه الإنكار اللاحق»

(2)

.

فإن قيل قوله: «بعني هذا العبد لفلان» . يحتمل أن يكون معناه لشفاعة فلان كما قال محمد رحمه الله في كتاب الشفعة: ولو أن أجنبياً طلب من الشفيع تسليم شفعة هذه الدار، فقال الشفيع سلمتها [لك بطلت]

(3)

الشفعة استحساناً كأنه قال: سلمت هذه الشفعة لأجلك قلنا: اللام للتمليك، ولهذا لو قال الشفيع ذلك غير مسبوق بسؤال التسليم لا يصح التسليم

(4)

.

ويتضح ما قلنا بما قدمنا ذكره في كتاب الأيمان إذا قال: «إن بعت ثوباً لك» ؛ وإنما حمل على الإسقاط فيما ذكر لكونه مسبوقاً بسؤال الإسقاط وما نحن فيه ليس كذلك. كذا في الفوائد الظهيرية في كتاب البيوع منها.

«إلا أن يسلمه المشتري له

»

(5)

، هذا رُوِي بروايتين -بكسر الراء- على صيغة اسم الفاعل، -وبفتح الراء- بصيغة اسم المفعول فعلى الكسر يكون المشتري فاعلاً.

وقوله: «[له]

(6)

»؛ أي: لأجله، ويكون المفعول الثاني محذوفاً

(7)

.

«وهو إليه» ، أي إلا أنْ يسلم الفضولي العبد الذي اشتراه لأجل فلان إليه، وعلى الفتح يكون المشتري له مفعولاً ثانياً بدون حرف الجر، وهو فلان، والفاعل مضمر؛ أي: إلا أنْ يسلم الفضولي العبد إلى المشترى له، وهو فلان، وهذا الاستثناء من قوله:«لم يكن له» ؛ أي: لم يكن لفلان إلا في صورة التَّسليم إليه، وإنَّما ذكر صورة التسليم إليه؛ لأن فلاناً لو قال: أجزت بعد قوله: لم آمره به لم يعتبر ذلك؛ بل يكون العبد للمشتري.

كذا ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله في [شرح] الجامع الصغير، ثم قال: لأنَّ الإجازة تلحق الموقوف دون الجائز، وهذا عقد جائز نافذ على المشتري

(8)

.

(1)

تمام المسألة في الهداية (3/ 142): «ومن قال لآخر بعني هذا العبد لفلان فباعه، ثم أنكر أنْ يكون فلان أمره، ثم جاء فلان وقال: أنا أمرته بذلك، فإن فلاناً يأخذه

».

(2)

الهداية (3/ 142).

(3)

في «س» : [لكن تطلق].

(4)

ينظر: فتح القدير (8/ 55)، البحر الرائق (7/ 162).

(5)

قال في الهداية (3/ 142): «فإن قال فلان: لم آمره، لم يكن له؛ لأن الإقرار يرتد برده، إلا أن يسلمه المشترى له فيكون بيعاً عنه وعليه العهدة

».

(6)

سقط من «ج» .

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 253)، فتح القدير (8/ 55).

(8)

ينظر: فتح القدير (8/ 55)، البحر الرائق (7/ 162).

ص: 203

«

وعليه العهدة»: [أي]

(1)

، وعلى فلان الآمر تقديراً عهدة الأخذ بتسليم الثمن

(2)

.

وقوله: «لأنه صار مشترياً بالتعاطي

» دال على هذا، وهو أنَّ الضمير في:«وعليه» راجع إلى فلان، وكذلك ما ذكره شمس الأئمة نص فيه أيضاً حيث قال:

وكانت العهدة عليه، ثم قال: يعني أنَّ فلاناً بمنزلة المشتري للعبد منه ابتداءً، فتكون عهدة الأخذ على المشتري، وهكذا [ذكره]

(3)

الإمام قاضي خان أيضاً.

«

وهو المعتبر في الباب»

(4)

؛ أي: التراضي بمبادلة مالٍ بمال، وهو المعتبر في باب البيع لقوله تعالى:{أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}

(5)

، وهذا موجود في بيع التعاطي فكان بيعاً صحيحاً، وإن لم يتلفظا بلفظ البيع والشِّراء.

‌من أمر موكله بشراء عبدين ولم يسمهما واشترى أحدهما جاز ذلك

«فاشترى أحدهما جاز»

(6)

، أي: اشترى أحدهما بمثل القيمة، أو فيما يتغابن الناس فيه بأن كان غبناً يسيراً.

قوله: «لأنه توكيل بالشراء» قُيِّد به احترازاً عن التَّوكيل بالبيع، فإن ذلك يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله

(7)

بالغبن الفاحش، وأما في التَّوكيل بالشراء؛ فلا يحتمل الغبن الفاحش بالإجماع.

«وهذا كله بالإجماع» وبهذا يحترز عما ذكرنا من التَّوكيل بالبيع على ما ذكرنا، ويحترز أيضاً من التَّوكيل بشراء العبدين بأعيانهما، وقد سمى له ثمنهما، واشترى أحدهما بأزيد من النصف لم يلزم ذلك الشَّراء الآمر عند أبي حنيفة/

(8)

، قَلَّتِ الزيادة أو كثرت، وهي المسألة الثانية بخلاف هذه المسألة؛ فإنه إذا اشترى أحدهما بأزيد من قيمته بشيء يسير بحيث يتغابن الناس في مثله يلزم الآمر بالإجماع، وإن اشتري بأكثر لم يلزم الآمر سواء كانت تلك الزيادة/ قليلة أو كثيرة عند أبي حنيفة/.

وذكر شيخ الاسلام رحمه الله

(9)

أن بعض مشايخنا قالوا: ليس في المسألة خلاف في الحقيقة؛ فإن قول أبي حنيفة رحمه الله

(10)

محمول على ما إذا كانت الزيادة كثيرة بحيث لا يتغابن الناس في مثلها، فأمَّا إذا كانت الزيادة قليلة بحيث يتغابن الناس في مثلها يجوز عندهم جميعاً؛ لأنَّه لا تسمية في حق هذا الواحد، فهو كما لو وكله بشراء عبد له ولم يسم ثمناً فاشتراه بأكثر من قيمته بما يتغابن الناس في مثله جاز، كذا هنا.

(1)

سقط من «س» .

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 253)، فتح القدير (8/ 55).

(3)

في «س» : [ذكر].

(4)

الهداية (3/ 142).

(5)

سورة النساء، آية 29.

(6)

قال في الهداية (3/ 142): «ومن أمر رجلاً أن يشتري له عبدين بأعيانهما ولم يسم له ثمناً فاشترى له أحدهما جاز» .

(7)

في «س» : [رضى الله عنه].

(8)

ينظر: فتح القدير (8/ 56).

(9)

سقط من «ج» .

(10)

سقط من «س» .

ص: 204

قال شيخ الاسلام: والظاهر أنَّ المسألة على الاختلاف؛ فإنه أطلق الجواب على قول أبي حنيفة/، وفصَّل الجواب على قولهما

(1)

.

«

إلا أن يشتري الباقي ببقية الألف قبل أن يختصما استحساناً»

(2)

: وإنما قُيِّد بالاستحسان، لأنَّ جواب القياس هو أن لا يلزم الآمر إذا اشترى أحدهما بأزيد من خمسمائة، وإن قلَّت الزيادة، واشترى الباقي بما بقي من الألف قبل أن يختصما لما أن الخلاف قد ثبت.

وجه الاستحسان أن الموكل صَّرَّح بتحصيل العبدين بالألف، والتنصيف ثابت بدلالة كلامه لما مرَّ، فإذا اشترى الباقي بما بقي من المال فقد جاء أوان الصريح وأمكن العمل به مع إمكان العمل بالصريح لا معنى للعمل بالدلالة. كذا ذكر الإمام المحبوبي/.

قوله: «

وما ثبت الانقسام إلا دلالة، والصريح يفوقهما»

(3)

، يعني تعارض حكم الدلالة مع حكم الصريح ها هنا؛ لأنه لمَّا قابل الألف بهما، وقيمتهما سواء كان توكيلاً بأنْ يشتريا كل واحد منهما بخمسمائة من غير زيادة دلالة؛ ولكن لم ينص على [تلك]

(4)

التَّسوية صريحاً، وقد صرح بتحصيل العبدين بهذه الألف.

ثم لو نظرنا إلى حكم الدلالة ينبغي أن لا يلزم العبد المشتري بأكثر من خمسمائة عدا الموكل، وإن اشترى الباقي قبل الاختصام، لأنَّه خالف الآمر، وترك حكم دلالة كلامه.

ولو نظرنا إلى صريح كلامه، وهو تحصيل هذين العبدين بالألف ينبغي أن يلزم الآمر كلاهما؛ لأنه عمل بموجب صريح كلامه حيث [حصل]

(5)

هذين العبدين بتلك الألف فرجحنا العمل بالصَّريح؛ لأنَّ الصريح إبداء راجح على الدلالة، ومن له على آخر ألف، فأمره أن يشتري بها هذا العبد إلى أن قال:«وهذا عند أبي حنيفة/»

(6)

.

«وقال أبو يوسف، ومحمد -رحمهما الله- هو لازم للآمر

»، وأصل هذا أن التَّوكيل بالشراء إذا أضيف إلى دين على الوكيل، فإنْ كان البائع متعيناً، أو المبيع معيناً بتعين البائع بتعيينه صح بالإجماع، وإن لم يكن كذلك فهو على الخلاف

(7)

.

وجه قولهما: إنَّ ما لا يتعين بالتعيين إذا كان عيناً لا يتعين بالتعيين إذا كان ديناً بدليل أنَّه لو اشترى بالدين الذي له عليه ثم تصادق أن لا دين عليه كان الشراء جائزاً، وإذا لم يتعين صارت الإضافة، والإطلاق سواء، ولو أطلق يجوز، فكذا إذا قيَّد كما لو قال له: تصدق بمالي عليك على المساكين، فإنه يجوز، وكذلك لو اجَّر حمَّاماً بأجرة معلومة، وأمر المستأجر بالمرمَّة من الأجرة، أو أجَّر دابته، وأمر المستأجر بأن يشتري له بالأجرة عبداً يسوق الدابة، وينفق على الدابة، وصار هذا كما لو كان البائع أو المبيع متعيناً

(8)

.

(1)

ينظر: فتح القدير (8/ 57).

(2)

ينظر: فتح القدير (8/ 57).

(3)

الهداية (3/ 142).

(4)

في «ج» : [ملك].

(5)

سقط من «س» .

(6)

الهداية (3/ 143).

(7)

ينظر: النافع الكبير (1/ 409).

(8)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 256)، البحر الرائق (4/ 267).

ص: 205

ولأبي حنيفة/ أنَّ هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين، وهذا لا يملك تمليك الدين من غير من عليه الدين بنفسه، فكذلك لا يملك الآمر به، وهذا بخلاف ما لو عيَّن البائع، أو المبيع؛ لأنَّ البائع ينتصب وكيلاً من الآمر بقبض الدين؛ لأنَّه معلوم فيكون مأموراً بتمليك العين فيصير البائع قابضاً لصاحب الدين أولاً، ثم يصير قابضاً لنفسه، ومتى أبهم المبيع، أو البائع يكون البائع مجهولاً، والمجهول لا يصلح وكيلاً

(1)

، كما لو قال: ادفع ما لي عليك من الدين إلى من شئت، وهذا بخلاف ما لو قال: أطعم عني عشرة مساكين، أو قال أدِّ زكاة مالي، فإنَّه يجوز، والفقير ينتصب وكيلاً، وإنْ كان مجهولاً؛ لأنَّه إنَّما ينتصب وكيلاً عن الله -تعالى- في قبض حقه والله -تعالى-علمه محيط بكل شيء فيكون الفقير الذي يقبضه معلوماً لله تعالى.

وأما مسألة الحمَّام، ونحوها، فإن قيل ذاك قولهما: ولئن [كان]

(2)

قول الكل فإنما جاز باعتبار الضرورة؛ لأنَّ المستأجر لا يجد الآجر في كل وقت فجعلنا الحمَّام قائماً مقام الآجر في القبض

(3)

.

وأما مسألة التصادق في الشَّراء بأن لا دين له عليه قلنا: إنَّ الدراهم، والدنانير لا يتعينان في الشراء عيناً، أو ديناً، ولكن تتعين في الوكالات فلما لم تتعين في الشراء لم يبطل الشراء ببطلان الدين. كذا ذكره الإمام الميرغناني، وقاضي خان/ والمحبوبي رحمهم الله

(4)

.

‌من كان له على رجل ألف وأمره أن يشتري بها عبداً بعينه جاز

قوله رحمه الله

(5)

: «

وعلى هذا الخلاف إذا أمره أن يسلم ما عليه، أو يصرف ما عليه

(6)

»؛ أي: يعقد عقد السلم، أو يعقد عقد الصَّرف من غير تعيين المسلم إليه، ومن يعقد به عقد الصَّرف، بأن قال: أسلم ما لي عليك في كذا كان على الاختلاف.

أما لو قال: أسلم ما لي عليك إلى فلان في كذا صحَّ بالإجماع، وإنَّما خصهما نفياً لوهم من يهم بأنَّه لا يجوز التَّوكيل فيهما [لاشتراط]

(7)

القبض في المجلس

(8)

.

(1)

ينظر: فتح القدير (8/ 62).

(2)

سقط من «س» .

(3)

ينظر: فتح القدير (8/ 62)، حاشية رد المحتار (5/ 519).

(4)

ينظر: فتح القدير (8/ 63).

(5)

سقط من «س» .

(6)

المسألة بتمامها في الهداية (3/ 143): «

وإن أمره أن يشتري بها عبداً بغير عينه فاشتراه، فمات في يده قبل أن يقبضه الآمر مات من مال المشتري، وإن قبضه الآمر؛ فهو له- وهذا عند أبي حنيفة/ -وقالا: هو لازم للآمر إذا قبضه المأمور، وعلى هذا

».

(7)

في «س» : [باشتراط].

(8)

ينظر: مجمع الأنهر (2/ 320).

ص: 206

«ولأبي حنيفة رحمه الله أنها تتعين في الوكالات ألا تري أنَّه لو قيد الوكالة بالعين منها

» إلى آخره؛ أي: الدَّراهم، والدنانير يتعينان في الوكالات.

«لكن هذا على قول بعض المشايخ بعد التسليم إلى الوكيل، وأما قبل التسليم إليه فلا يتعين في الوكالات أيضاً بالإجماع؛ لأنَّه ذكره في الذخيرة، وقال:

قال محمد رحمه الله في الزيادات: رجل قال لغيره اشتري لي بهذه الألف الدرهم جارية وأراه الدراهم فلم يسلمها إلى الوكيل حتى سرقت الدراهم، ثم اشترى الوكيل [جاريةً]

(1)

بألف درهم لزم الموكل.

ثم قال: والأصل أنَّ الدراهم والدنانير لا يتعينان في الوكالات قبل التسليم بلا خلاف؛ لأنَّ الوكالات وسيلة إلى الشراء فيعتبر بنفس الشراء، والدَّراهم، والدنانير لا يتعينان في الشراء قبل التسليم؛ فكذا فيما هو وسيلة إلى الشراء.

وأما بعد التسليم إلى الوكيل هل يتعين؟ اختلف المشايخ فيه:

بعضهم قالوا يتعين حتى تبطل الوكالة بهلاكها لما ذكرنا أنَّ الوكالة وسيلة إلى الشراء فيعتبر بنفس الشراء، والدراهم والدنانير يتعينان في الشراء بعد التسليم؛ فكذا فيما هو وسيلة إلى الشراء؛ ولأنَّ يد الوكيل يد أمانة، والدراهم، والدنانير يتعينان في الأمانات وعامتهم على أنها لا تتعين.

وفائدة النقد، والتسليم على قول عامة المشايخ شيئان:

أحدهما: يُوقَّت بقاء الوكالة ببقاء الدراهم المنقودة؛ فإن العُرف الظاهر فيما بين الناس أنَّ الموكل إذا دفع الدراهم إلى الوكيل يريد شراءه حال قيام الدراهم في يد الوكيل.

والثاني: قطع رجوع الوكيل [على]

(2)

الموكل فيما وجب للوكيل على الموكل، ولهذا؛ لأن شراء الوكيل يوجب دينين ديناً للبائع على الوكيل، وديناً للوكيل على الموكل»

(3)

.

قلت: فلما كان كذلك أنهما لا يسلمان دعوى أبي حنيفة/ [بأن]

(4)

الدراهم، والدنانير يتعينان في الوكالات.

والدليل على هذا ما ذكره في الذخير ة أيضاً في تعليلهما في هذه المسألة، فقال: هما يقولان بأن الدَّراهم والدنانير لا يتعينان في الوكالات كما لا يتعينان في الأشرية، ألا ترى أن من وكَّل رجلاً أن يشتري له بهذه الألف عبداً، أو جارية، وهلك الألف في يد الموكل لا تبطل الوكالة ولو تعلقت الوكالة بعينها لبطلت كما لو قال اشترِ لي بهذه الحنطة، أو بهذه العروض عبداً لي فهلك العرض، أو هلكت الحنطة في يد الموكل، فإذا لم تتعين الدراهم، والدَّنانير في الوكالات لغت الإضافة إليها، وعند عدم الإضافة الجواب كما قلنا فهاهنا كذلك.

(1)

سقط من «س» .

(2)

في «س» : [عن].

(3)

ينظر: فتح القدير (8/ 59)، وقد نقل النص بتمامه وعزاه للمصنف، وينظر: العناية شرح الهداية (8/ 60)، فقد نقل الكلام مختصراً.

(4)

في «ج» : [فإن].

ص: 207

وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول أمره بتمليك الدين من غير من عليه، وتمليك الدين من غير من عليه لا يصح فالآمر به لا يصح أيضاً بخلاف [ما]

(1)

إذا عيَّن البائع إلى آخره، ثم استهلك.

إنما قيد بالاستهلاك دون الهلاك؛ لأنَّ بطلان الوكالة مخصوص بالاستهلاك دون الهلاك

(2)

.

والدليل على هذا ما ذكره الإمام قاضي خان/ في السَّلم من بيوع فتاواه فقال: «رجل دفع إلى رجل عشرة دراهم ليشتري بها ثوباً قد سماه، فأنفق الوكيل على نفسه دراهم الموكل، واشترى ثوباً للآمر بدراهم نفسه؛ فإنَّ الثوب للمشتري لا للآمر؛ لأن الوكالة تقيدت بتلك الدراهم فبطلت الوكالة بهلاكها.

ولو اشترى ثوباً للآمر، ونقد [هذا]

(3)

الثمن من مال نفسه، وأمسك دراهم الآمر كان الثوب للآمر، وتطيب له دراهم الموكل استحساناً كالوارث»

(4)

.

فإن أبرأ [الدائن المديون]

(5)

بعد التَّوكيل بشراء العبد بذلك الدين بطلت الوكالة.

فإن قيل ينبغي أن لا تبطل الوكالة؛ لأنَّ الوكالة لما لم تصح مضافةً إلى هذه الدراهم بسبب أنه تمليك الدين من غير من عليه الدين بقيت الوكالة مطلقة.

قلنا: الوكالة ما صدرت مطلقة؛ بل مقيَّدة بهذه الدراهم؛ لأنَّ الولاية إنما تستفاد من الآمر، والآمر قيد الوكالة بهذه الدِّراهم التي هي دين [ثم]

(6)

تبطل الوكالة أصلًا ببطلان الدين كما إذا اشترى بدين على غير المشتري بأنْ كان لزيد على عمرو دين/ مثلاً فاشترى زيدًا من آخر بذلك الدين الذي له على عمرو لا يجوز فكان تقديره كما إذا اشترى المشتري شيئًا بدين على غير نفسه

(7)

.

ووضع هذا في المبسوط في السلم فقال: «يوضحه أنه يقيم الوكيل مقام نفسه فيما يأمره به من التَّصَُّرف، وهو بنفسه لو أسلم الدين الذي له على زيد إلى عمرو في طعام لا يجوز [وكذلك]

(8)

إذا وكل المديون بأنْ يفعل ذلك، وبه يظهر الفرق بين الدين، والعين». ذكره في باب الوكالة في السلم من بيوع المبسوط

(9)

.

«

أو يكون أمراً بصرف ما لا يملكه إلا بالقبض قبله»

(10)

، أي: قبل القبض، أي: لا يملكه قبل القبض، والمراد من الصَّرف الدفع لا بيع الصرف؛ أي: توكيل المديون [بشراء]

(11)

شيء لرب الدين بالدين الذي في ذمة الوكيل كان أمراً من رب الدين للمديون فيما لا يملكه رب الدين، فكان باطلاً؛ لأن أمر الإنسان لغيره فيما لا يملكه الموكل باطل لما مرَّ

(12)

.

(1)

سقط من «ج» .

(2)

ينظر: فتح القدير (8/ 59).

(3)

سقط من «س» .

(4)

فتاوى قاضي خان (2/ 62).

(5)

في «ج» : [الدين].

(6)

في «ج» : [لم].

(7)

ينظر: فتح القدير (8/ 61).

(8)

في «س» : [فكذلك].

(9)

المبسوط (12/ 211).

(10)

الهداية (3/ 143).

(11)

في «ج» : [يشترى].

(12)

ينظر: فتح القدير (8/ 61).

ص: 208

وإنَّما قلنا ذلك، لأنَّ ربَّ الدين لا يملك الدين حقيقة قبل القبض؛ لأن الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها، فكان ما أدى المديون إلى البائع، أو إلى رب الدين ملك المديون، ورب الدين لا يملك ما في ذمة المديون قبل القبض حقيقة، فكان أمر رب الدين للمديون بالدفع إلى البائع أمراً فيما لا يملكه فكان باطلاً.

وفي المبسوط: «ولأبي حنيفة رحمه الله أنَّ رب الدين أمره بصرف الدين إلى من يختاره المديون بنفسه، وذلك باطل كما لو قال: ادفع ما لي عليك من الدين إلى من شئت، أو ألقه في البحر كان باطلاً، وبه فارق العين، فإنه لو قال ادفع ما لي في يدك إلى من شئت، أو ألقه في البحر كان صحيحاً، ووجه الفرق بينهما أن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه، وهو في تصرفه في ملك نفسه بالدفع إلى الغير لا يحتاج إلى إذن الآمر [فكان]

(1)

وجود أمره كعدمه.

فأما في العين فتصرفه في ملك الغير ولا يملك ذلك إلا بإذن من له الحق، وهذا بخلاف ما إذا عين المسلم إليه، أو البائع، وكان أمره معتبراً في ذلك الرجل بالقبض له أولاً، ثم لنفسه أمَّا ها هنا لا يمكن اعتبار أمره في توكيل [القابض]

(2)

بقبضه؛ لأنَّه توكيل المجهول، وذلك باطل»

(3)

.

‌في التوكيل بشراء جارية بخمسمائة والخلاف في ذلك

«وإن كانت قيمتها خمسمائة فللمخالفة»

(4)

؛ لأنها مخالفة إلى شرط فتلزم التوكيل.

وقوله: «وإن كانت قيمتها ألفاً فمعناه أنهما يتخالفان» هذا لدفع شبهة ذكرها في بعض شروح الجامع الصغير، وهي: فإن قيل فلما كانت الجارية تساوي ألفاً ينبغي أن تلزم الآمر، سواء قال الوكيل اشتريتها بألف، أو بأقل منها لأنه [لما]

(5)

اشتراها بألف فقد وافق أمر الآمر؛ لأنَّ الكلام فيما إذا أمر الآمر بأن يشتري له بالألف جارية، وكذلك إن اشتراها بخمسمائة ينبغي أن تلزم على الآمر أيضاً؛ لأنه خلاف إلى خير، وهو لا يكون مخالفة؛ فإن من وكَّل وكيلاً بأن يشتري له جارية بألف درهم، فاشترى له جارية تساوي ألف درهم، وخمسمائة درهم يلزم الآمر.

قلنا: المراد بقوله: القول قول الآمر إنَّما يتحالفان إذا كانت تساوي ألفاً فإذا حلف كانت الجارية للمأمور؛ لأنَّ الوكيل بالشِّراء مع الموكل نزل منزلة البائع مع المشتري فصار كأنه اشترى لنفسه، ثم باعه من الآمر، والاختلاف في الثمن بين البائع، والمشتري يوجب التحالف، وإذا تحالفا يفسخ البيع التقديري الذي جرى بين الوكيل، والآمر، فتبقى الجارية للمأمور. كذا في الجامع الصغير لقاضي خان وصدر الإسلام وغيرهما

(6)

.

(1)

في «ج» : [وكان].

(2)

في «ج» : [التقابض].

(3)

المبسوط (12/ 211).

(4)

الهداية (3/ 143).

(5)

سقط من «ج» .

(6)

ينظر: فتح القدير (8/ 64، 65).

ص: 209

قيل: لا يخالف ها هنا، وهو قول الفقيه أبي جعفر رحمه الله لأنه ارتفع الخلاف بتصديق البائع.

فيجعل تصادقهما؛ أي: تصادق البائع، والوكيل بمنزلة إنشاء العقد ولو أنشأ العقد كانت الجارية للآمر. فكذا [ها هنا]

(1)

.

«وقيل يتحالفان» ، «وهو قول الإمام أبي منصور/»

(2)

.

«وقد ذكر معظم يمين التحالف، وهو يمين البائع

»

(3)

، أي: المأمور؛ لأنه بائع تقديراً في حق الموكل، وإنَّما قلنا: إن يمينه معظم يمين في التحالف؛ لأن البائع، وهو المأمور هنا مدعي، ولا يمين على مدعي إلا في صورة التَّحالف، وأما المشتري، وهو الموكل هنا فمنكر فعلى المنكر اليمين على كل حال فلما كان يمين المأمور، وهو المختص في التحالف كان يمينه أعظم اليمينين، ثم لمَّا وجب اليمين على المأمور وهو المدعي كان واجباً على المشتري المنكر، وهو الآمر أولاً، وهو معنى التخالف.

وذكر فخر الإسلام في الجامع [الصغير]

(4)

: ولو أنَّ المراد هو التحالف للزمت الجارية الآمر؛ لأن الآمر إذا حلف صار الشراء بخمسمائة، والجارية تساوي ألفاً، فإنها/ تلزم الآمر، فثبت بهذا أنه أراد بقوله، وتلزم الجارية المأمور أنهما يتحالفان، فإذا تحالفا نقض ملك الآمر، ولزمت الجارية المأمور والبائع بعد استيفاء الثمن أجنبي عنهما

(5)

.

هذا جواب عن تعليل القول الأول بقوله: «ارتفع الخلاف بتصديق البائع إذ هو حاضر» ، فقال: البائع أجنبي، فلا يعتبر تصديقه أما بعد استيفاء الثمن فهو أجنبي عن الآمر، والمأمور؛ لأنه لم يبق له معهما شغل، وأما قبل استيفاء الثمن، فهو أجنبي عن الموكل فلا يصدق على الموكل.

«وهو أظهر» ، أي قول الإمام أبي منصور

(6)

، وهو القول بالتحالف أظهر، ولكن جعل الإمام قاضي خان في الجامع الصغير قول الفقيه أبي جعفر أصح

(7)

.

(1)

سقط من «ج» .

(2)

الهداية (3/ 144).

(3)

الهداية (3/ 144).

(4)

سقط من «س» .

(5)

النافع الكبير شرح الجامع الصغير (1/ 407).

(6)

هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي، الفقيه الحنفي، من كبار العلماء، تخرج بأبي نصر العياضي، كان يقال له إمام الهدى، له: كتاب التَّوحيد، وكتاب المقالات، وكتاب رد أهل الأدلة للكعبي، وكتاب بيان أوهام المعتزلة، وكتاب تأويلات القرآن، وله كتب شتى مات سنة 333 هـ.

ينظر: الجواهر المضية (2/ 130)، الأعلام للزركلي (7/ 19).

(7)

ينظر: العناية شرح الهداية (8/ 65)، فتح القدير (8/ 65)، مجمع الأنهر (2/ 235).

ص: 210

وذكر الإمام المحبوبي في الجامع الصغير بعد هذا، فقال: هذا إذا تصادقا على الثمن عند التوكيل، وإن اختلفا فقال الوكيل: أمرتني بالشراء بألف، وقال الموكل: لا بل بخمسمائة، فالقول قول الآمر مع يمينه، ويلزم العبد المشتري دون الآمر؛ لأن الأمر يستفاد من جهته، وكان القول قوله؛ فإن أقام البينة، فالبينة بينة الوكيل لما فيها من زيادة الإثبات

(1)

. والله أعلم [بالصواب]

(2)

.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (9/ 260)، فتح القدير (8/ 65).

(2)

سقط من «س» .

ص: 211