المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الخُلع (1) كان مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُلْحَق بِأبْوابِ الطّلاق (2) ، لِمَا - النهاية في شرح الهداية - السغناقي - جـ ٩

[الحسام السغناقي]

فهرس الكتاب

‌باب الخُلع

(1)

كان مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُلْحَق بِأبْوابِ الطّلاق

(2)

، لِمَا أنّه طلاقٌ بِعِوَض بلفظ الخُلع، لكن لمّا كَاَنتْ فيه جِهة المُعاوضة

(3)

خصوصاً في جانب المرأة تباعد عن حُكم الطلاق المُطْلَق، الذي هو إسقاطٌ مَحْضٌ، فَأَوْلَى الطلاق ما هو أقرب شَبهًا به وهو الطلاق بالإيلاء

(4)

، ثم أَوْلى الطّلَاق بالإيلاء الخُلْع؛ لأنّ الخُلْعَ أقربُ شَبَهًا به مِن الظِّهَار

(5)

واللِعَان

(6)

مِن حيث الإباحة، فلذلك قَدّم الخُلع على الظِّهَار.

(1)

الخُلْع لغةً: من النزع والتجريد، تقول خلعت الثوب والرداء والنعل إذا نزعته وجرّدته، وخلع الرجل امرأته، واختلعت منه وخالعته إذا افتدت منه بمالها فطلَّقها وأَبانها مِنْ نَفْسِهِ.

يُنظر: لسان العرب مادة خلع (8/ 76)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 178).

واصطلاحاً: مفارقة المرأة بعوض مأخوذ.

يُنظر: (تحرير ألفاظ التنبيه 260)، (المطلع على ألفاظ المقنع ص 403).

(2)

الطلاق لغةً: التّخليةُ من الوثاق، يقال: أَطْلَقْتُ البعيرَ من عقاله، وطَلَّقْتُهُ، وهو طَالِقٌ وطَلِقٌ بلا قيدٍ.

يُنظر: (المفردات في غريب القرآن ص 523).

واصطلاحاً: حل عقد النكاح أو بعضه.

يُنظر: (المبدع في شرح المقنع 6/ 292)، (المطلع على ألفاظ المقنع ص 405).

(3)

المعاوضة: بضم الميم وفتح الواو من اعتاض، ومنه: أخذ العوض، أي: البدل.

يُنظر: (معجم لغة الفقهاء ص 438)

(4)

الإيلاء لغةً: الحلف، تقول آلى يولي إيلاء إذا حلف على فعل شيء أو تركه.

يُنظر: (المصباح المنير في غريب الشرح الكبير مادة: ألي 1/ 20)، (مختار الصحاح مادة: ألا ص 21).

واصطلاحاً: حلف الزوج القادر على الوطء بالله تعالى أو صفة من صفاته على ترك وطء زوجته في قبلها مدة زائدة على أربعة أشهر. يُنظر: (المطلع على ألفاظ المقنع 416)، (المبدع في شرح المقنع 6/ 431).

(5)

الظهار لغةً: مأخوذ من الظَهْر، يقال ظاهر من امرأته وتظاهر منها، وهو أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي أو نحوه، أي إذا أراد تحريمها. يُنظر:(المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 2/ 388)، (مختار الصحاح مادة: ظهر 197).

واصطلاحاً: هو تشبيه زوجته، أو ما عبر به عنها، أو جزء شائع منها، بعضو يحرم نظره إليه من أعضاء محارمه، نسبًا أو رضاعًا، كأمه وابنته وأخته. يُنظر:(التعريفات للجرجاني 144)

(6)

اللعان لغةً: المباهلة، وهو مصدر لاعن يلاعن مأخوذ من اللعن وهو الطرد و الإبعاد، والملاعنة بين الزوجين أن يقذف الرجل امرأته بالزنا، وسُمّي بذلك لأن كلّ واحد من الزوجين يلعن نفسه.

ينظر: (تهذيب اللغة مادة: لعن 2/ 240)، (مختار الصحاح مادة: لعن 283).

وشرعاً: هي شهادات مؤكدة بالأيمان، مقرونة باللعن، قائمة مقام حد القذف في حقه، ومقام حد الزنا في حقها. (التعريفات للجرجاني 192)

ص: 1

ثم للخُلعِ تفسيرٌ لُغَوِيٌّ، وشَرْعِيٌّ، وشَرْطٌ

(1)

، وحُكمٌ

(2)

، وصِفة

(3)

.

أمّا لغةً: فإنّه يُقال خَالَعَت المَرْأَة زَوْجَها، واخْتَلعت منه إذا افتدت منه بمالها

(4)

، فإذا أجابها الزوج إلى ذلك فطلّقها قِيل خَلَعَها، والاسم الخُلع بالضم، وإنما قِيل ذلك؛ لأنّ كُلاًّ منهما لِبَاسٌ لصاحبه، قال الله تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}

(5)

، فإذا فَعَلا ذلك فكأنهما نَزَعا لِبَاسَهُما.

وأمّا شرعًا فهو عِبارة عن أخذ مالٍ مِن المرأةِ بِإِزَاءِ

(6)

مُلْك النِكاح

(7)

بلفظِ الخُلع.

وأمّا شَرْطُه [فَهُوَ]

(8)

شَرْط الطَّلاق

(9)

.

وأمّا حُكْمُه فوقوع الطَّلاق [الباَئِن]

(10)

(11)

عندنا، وانْفِسَاخُ

(12)

النِّكَاح عِند الشّافعيّ

(13)

(14)

.

(1)

الشرط: ما يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. انظر: السرخسي في أصوله (2/ 303).

(2)

الحكم: هو الأثر المترتب على خطاب الله تعالى، انظر: الإحكام للآمدي (1/ 95).

(3)

الصفة هي: التابع المشتق الذي يقع نعتا للموصوف. انظر: المهذب في علم أصول الفقه المقارن (4/ 1659).

(4)

مختار الصحاح (ص: 95).

(5)

البقرة: 187.

(6)

آزى الشَّيْء إيزاءً ضمه، والازاء: مصب الماء في الحوض.

انظر: الصحاح (6/ 2267)، المعجم الوسيط (1/ 16).

(7)

النكاح لغةً: النِّكاحُ: الوَطْءُ، والعَقْدُ لَهُ، نَكَحَ كَمَنَعَ وضَرَبَ، ونَكَحَتْ وهي ناكِحٌ وناكِحَةُ: ذاتُ زَوْجٍ. (القاموس المحيط ص: 246).

واصطلاحاً: النكاح عقد يفيد ملك المتعة بالأنثى قصدا، أي يفيد حل استمتاع الرجل من امرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي. ينظر:(الدر المختار ص: 177)

(8)

في (أ) و (ب): " فما هو" ويستقيم المعنى بما أثبته والله أعلم. انظر العناية شرح الهداية (4/ 211)، البناية شرح الهداية (5/ 506).

(9)

شرط الطلاق: كَوْنُ الْمُطَلِّقِ عَاقِلًا بَالِغًا وَالْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ أَوْ عِدَّتِهِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ.

انظر: العناية شرح الهداية (3/ 464)، البناية شرح الهداية (5/ 280).

(10)

في (أ) و (ب): [الباين] وغالباً ما يستخدم المؤلف التسهيل بقلب الهمزة ياءً.

(11)

الطلاق البائن: هو الذي لا رجعة فيه إلا بمهر وعقد جديدين، وهو على نوعين: بائن بينونة صغرى، وهو طلاق غير المدخول بها طلقة واحدة أو طلقتين، ومضي عدة المدخول بها بعد واحدة أو طلقتين.

وبائن بينونة كبرى: وهو الذي يكون بعد الطلقة الثالثة، وعندئذ لا يحق لها الرجعة حتى تنكح زوجاً غيره.

ينظر: معجم لغة الفقهاء (ص 101).

(12)

الفسخ لغةً: بمعنى النقض والبطلان والتفرقة. يُنظر: المصباح المنير (2/ 472)، لسان العرب (3/ 45).

والفسخ اصطلاحاً: حل ارتباط العقد، أو هو ارتفاع حكم العقد من الأصل كأن لم يكن، فتستعمل كلمة الفسخ أحياناً بمعنى رفع العقد. يُنظر:(الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 833)، (الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 313).

(13)

الأم للشافعي (5/ 123)

(14)

الإمام الشافعي: هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه نسبة الشافعية كافة، ولد في غزة (بفلسطين)، رحل إلى الإمام مالك وأخذ عنه، قال المبرد: كان الشافعيّ أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراءات، له تصانيف كثيرة، أشهرها كتاب (الأم) في الفقه، و (الرسالة) في الأصول، ولي الْقَضَاء بالجزيرة وأعمالها، وَولي أَيْضًا الْقَضَاء بِمَدِينَة حلب وَبَقِي بهَا سِنِين كَثِيرَة، وقصد مصر سنة 199 فتوفي بها سنة 204 هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 71)، وفيات الأعيان (4/ 163)، سير أعلام النبلاء (10/ 5).

ص: 2

وأمّا صِفَتُه فَيَمين مِن جانب الزّوج ومُعَاوضة مِن جَانِب المرْأة عِندَ أبي حنيفة

(1)

رحمه الله

(2)

-، وأمّا عِندهُما

(3)

فَيَمِين مِن الجَانِبَيْن على ما يَأتي بيان ثمرة الخلاف.

(وَإِذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ) أي اختلفا وتَخَاصَما، مُشْتَق مِن الشِق وهو الجانب

(4)

، وإنما سمّي به لأنّ كل واحد من المُتَشَاقَيْن يأخُذ شِقًّا خِلَافَ شِقِّ صَاحبه، وهذا/ 360 أ/ كالتَخاصُم والتَعَادِي، فإن كل واحد من المُتَخَاصِمَيْن والمُتَعَادِيِيْن يَأْخُذ خَصْمَاً، وهو الجانب وعَدُوّه وهي جانب الوادي خلاف جانب صاحبه.

(وَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) أي ما يَلْزَمَهُمَا مِنْ مَوَاجِب الزَّوْجِيّة.

{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(5)

، أي فلا جُنَاحَ على الرَّجُل فِيما أخَذَ، و] لا

(6)

على المرأة فيما أَعْطَت.

سمّى الله تعالى ما أعطته فِدَاءً مِنْ فَداهُ مِنْ الأَسْرِ [اسْتَنْقَذَه]

(7)

، لَِما أنّ النِسَاءَ عَوَانٌ

(8)

عند الأزواج بالحديث

(9)

، فكانَ المال الذي يُعْطَى في تَخْلِيصِهِنَّ فِدَاءً.

(1)

أبو حنيفة: النعمان بن ثابت بن زوطي، الكوفي، الفارسي، إمام الحنفية، الفقيه المجتهد المحقق، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، ولد ونشأ بالكوفة سنة 80 هـ، وسمع من عطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة وغيرهم، وأخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان، له مناقب كثيرة، ألف في مناقبه ابن حجر الهيثمي كتاب (الخيرات الحسان) وأبي زهرة كتاب (أبو حنيفة)، قال الإمام مالك فيه:(لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته)، وقال الشافعي:(الناس كلهم عيال في الفقه على أبي حنيفة)، له مسند جمعه تلاميذه، و (المخارج) في الفقه رواه عنه أشهر تلاميذه أبو يوسف، توفي ببغداد سنة 150 هـ.

انظر: وفيات الأعيان (5/ 405)، سير أعلام النبلاء (6/ 390)، تاريخ بغداد (15/ 446)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب (2/ 229).

(2)

انظر: النتف في الفتاوى للسغدي (1/ 366).

(3)

أي: عند أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشباني.

(4)

ينظر: مختار الصحاح (ص: 167)

(5)

البقرة: 229.

(6)

سقطت من (أ)

(7)

هكذا في (أ) وفي (ب)، والصواب والله أعلم "إذا استنقذه"، انظر:(العناية شرح الهداية 4/ 211)، (البناية شرح الهداية 5/ 506).

(8)

أَيْ أُسَرَاء، أَوْ كالأُسَراء، (النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 314)

(9)

حديث: «ألَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» ، أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (3/ 459) برقم (1163).

ص: 3

(فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَقَعَ بِالْخُلْعِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ)، وهذا عِندَنَا

(1)

، وفي أَحَدِ قَوْلَي الشّافعيّ رحمه الله: هُوَ فَسْخ

(2)

، وهو مَرْوِيٌ عن ابن عباس

(3)

رضي الله عنهما

(4)

، وقدْ رُوِيَ رُجُوعه إلى قَولِ عَامة الصَّحَابة

(5)

، واسْتَدلَّ الشَّافعيّ رحمه الله بقوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}

(6)

، إلى قَوْلهِ:{فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(7)

، إلى قوله:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ}

(8)

، فلو جَعَلْنا الخُلْعَ طَلاقاً صَارت التَطْلِيقات أرْبعًا في سِيَاقِ هَذِه الآية، ولا يَكُون الطّلَاق أكثرَ مِن ثلاث، ولأن النِّكاح عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ للفَسْخ، حَتّى يُفْسَخ بِخِيَارِ عَدَم الكَفَاءَة، وخِيَار العِتْق

(9)

وخِيَار البُلُوغ عِنْدَكم، فَيَحْتَمِل الفَسْخ بِالتّراضي -أيْضَاً- وذلك بالخُلْع كالبيع

(10)

.

(1)

انظر: النكت للسرخسي وشرح النكت للعتابي (ص: 43)، و الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (2/ 59)، اللباب في شرح الكتاب (3/ 64)

(2)

وهو قول الشافعي في القديم، انظر:(النجم الوهاج في شرح المنهاج 7/ 447)، (المهذب في فقة الإمام الشافعي للشيرازي 2/ 491)، (روضة الطالبين وعمدة المفتين 7/ 375).

(3)

عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أَبُو الْعَبَّاس الْقُرَشِيّ الهاشمي. ابْنُ عم رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حبر الأمة، وترجمان القرآن، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه الأحاديث الصحيحة، له في الصحيحين وغير هما 1660 حديثا، وكف بصره في آخر عمره، فسكن الطائف، وتوفي بها سنة 68 هـ.

انظر: أسد الغابة (3/ 186)، صفة الصفوة (1/ 294).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الطلاق، باب من كان لايرى الخلع طلاقاً (18451)، والبيهقي في السنن الصغرى، كتاب الخلع والطلاق، باب من قال الخلع فسخ أو طلاق (2636).

(5)

يُنظر: المبسوط للسرخسي (6/ 171)، و تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (2/ 268).

(6)

البقرة: 229.

(7)

البقرة: 229.

(8)

البقرة: 230.

(9)

العِتْقُ لغةً: الكَرَمْ، يقال: ما أبْيَنَ العِتْقَ في وجه فلانٍ: يعني الكرم، والعِتْقُ: الحرّيّةُ، وكذلك العَتاقُ بالفتح والعَتاقَةُ. (الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 4/ 1520).

واصطلاحاً: هو تحرير الرقبة وتخليصها من الرق. (المغني لابن قدامة 10/ 291)

(10)

البيع لغةً: من باعَه، يَبِيعهُ بَيعْاً ومَبيعاً، والقِياسُ مَباعاً: إذا باعَه، وإذا اشْتَراه، ضِدٌّ، وهو مَبيعٌ ومَبْيوعٌ، والبِياعَةُ بالكسر: السِّلْعَةُ. (القاموس المحيط ص: 705).

واصطلاحاً: مُبادلةُ المال بالمال لغرض التملك. (المطلع على ألفاظ المقنع ص: 270)

ص: 4

ولنا ما رُوُيَ عَنْ عُمر

(1)

رضي الله عنه وعَليّ وابن مَسْعود

(2)

رضي الله عنهم مَوْقُوفاً عَلَيْهم ومَرْفوعًا إلى رسول الله عليه السلام: «الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ»

(3)

، والمعنى فيه أن النِّكاح لا يَحْتَمل الفَسْخَ بعد تمامه.

ألا تَرى أنّه لا يَنْفَسِخ بالهلاكِ قَبْل التَّسْلِيم، وأنّ المُلك الثَّابِت به ضَروريّ لا يَظْهَر إلاَّ في حَقِّ الاستيفاء، وقد بَيّنا أنّ الفَسْخَ بسبب عدم الكفاءة فسخ قبل التّمام، فكان في معنى الامتناع عن الإتمام، كذلك في خيار العتق والبلوغ.

فأما الخُلع فيكونُ بعدَ تمَام العقد، والنّكاح لا يَحْتمل الفَسْخ بعد تمامه، ولكن يحتمل القطع في الحال، فيجعل لفظ الخلع عبارة عن رفع القيد في الحال.

وأمّا الآية فقد ذكر الله تعالى التطليقة الثالثة بعوض وبغير عوض، فبهذا لا يصير الطلاق أربعًا، وفائدة الاختلاف أنّه لو خالعها بعد التطليقتين عندنا لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، وعنده له أن يتزوجها

(4)

.

(1)

عمر بن الخطّاب بن نفيل القرشي العدوي، ثاني الخلفاء الراشدين، وأول من لقب بأمير المؤمنين، صاحب الفتوحات، يضرب بعدله المثل، سلم قبل الهجرة بخمس سنين، وشهد الوقائع. قال ابن مسعود: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، بويع بالخلافة يوم وفاة أبي بكر (سنة 13 هـ) بعهد منه،

له في كتب الحديث 537 حديثا، قتله أبو لؤلؤة فيروز الفارسيّ (غلام المغيرة بن شعبة) غيلة، بخنجر في خاصرته وهو في صلاة الصبح سنة 23 هـ.

ينظر: أسد الغابة (3/ 642)، الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 484).

(2)

الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، من أكابر الصحابة، فضلا وعقلا، وقربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أهل مكة، ومن السابقين إلى الإسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، نظر إليه عمر يوما وقال: وعاء ملئ علما. وولي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيت مال الكوفة، له 848 حديثا، توفي بالمدينة سنة 32 هـ. ينظر: أسد الغابة (3/ 280)، الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 198).

(3)

أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الطلاق والخلع والإيلاء، برقم (4025)، وأخرجه البيهقي في السنن الصغرى، باب من قال الخلع طلاق بائن برقم (2640) وقال:(وإسناده ضعيف بمرة)(2/ 107)، وأعلّه ابن عدي في الكامل بعباد بن كثير الثقفي وأسند عن البخاري قال: تركوه، وعن النسائي، قال: متروك الحديث، وعن شعبة قال: احذروا حديثه، وسكت عنه الدارقطني ". ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال (5/ 538)، نصب الراية (3/ 243)، الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/ 75).

(4)

أي عند الشافعي، ينظر:(النجم الوهاج في شرح المنهاج 7/ 447)، (الحاوي الكبير 10/ 9).

ص: 5

"وَالْوَاقِعُ بِالْكِنَايَةِ

(1)

بَائِنٌ"، أي سوى الألفاظ الثلاثة، وهي اعتدّي

(2)

، واستبري

(3)

، وأنت واحدة.

"إلَّا أَنْ ذِكْرَ الْمَالِ أَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ"، هذا استثناء من قوله:"حَتَّى صَارَ مِنْ الْكِنَايَاتِ"، على تقدير جواب سؤال يرد على المستثنى منه، بأن يقال: لو كان لفظ الخلع من الكنايات لاحتيج إلى النية كما في سائر الكنايات.

وأجاب عنه بهذا [أوقال]

(4)

: نعم كذلك، إلا أنّ جانب الطلاق يتعين عند قِرَان ما يعيّنه من ألفاظ الكنايات، كالنية، ومذاكرة الطلاق، وفي الخُلع صار قبول المال الذي أعطته بمقابلة فداء نفسها، معينًا لجانب الطلاق، فلم يُحْتَجْ لذلك إلى النية، كما في قوله أنتِ بائن، عند مذاكرة الطلاق لا يحتاج إلى النية.

وذكر في «الذخيرة»

(5)

: فإذا خالع الرجل امرأته ثم قال لم أنو به الطلاق، فإن لم يذكر بدلاً صُدّق ديانة وقضاء، وإن ذكر بدلاً بأن قال لها مثلاً خالعتُك على ألف درهم ثم قال [لم]

(6)

أعني به الطلاق لا يُصدَّق

(7)

.

(1)

الْكِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الْمُكَنَّى عَنْهُ كَالرَّفَثِ وَالْغَائِطِ، وَهِيَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَّيْتُ بِكَذَا عَنْ كَذَا مِنْ بَابِ رَمَى. (المصباح المنير، مادة "كنى" 2/ 542).

والكناية في الاصطلاح: فَهِي كَلَامٌ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِالاِسْتِعْمَال وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا فِي اللُّغَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةَ أَمِ الْمَجَازَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَنَّ الْكِنَايَةَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ بِهِ لِتَوَارُدِ الاِحْتِمَالَاتِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الصَّرِيحِ. (التعريفات للجرجاني ص: 187).

(2)

العدة اصطلاحاً: التربص الذي يلزم المرأة عند زوال النكاح أو شبهته. (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3/ 26)

(3)

الاِسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ. (لسان العرب مادة "برأ"1/ 33)، وَشَرْعًا يُسْتَعْمَل فِي مَعْنَيَيْنِ:

الأْوَّل: فِي الطَّهَارَةِ بِمَعْنَى نَظَافَةِ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الأْذَى. وَالثَّانِي: فِي النَّسَبِ بِمَعْنَى: طَلَبِ بَرَاءَةِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَبَل وَمِنْ مَاءِ الْغَيْرِ، كَمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ. ينظر:(المغني لابن قدامة 1/ 75 - 7/ 552)

(4)

في (أ)(وقال).

(5)

ذخيرة الفتاوى، المشهورة بالذخيرة البرهانية؛ لبرهان الدين، محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازه البخاري المتوفى سنة ستمائة وست عشرة من الهجرة، والذخيرة البرهانية مختصرة من كتابه المحيط البرهاني؛ لابن مازة، وهذه الفتاوى لها نسخ متعددة منها نسخة مصورة بمكتبة المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، تحت الرقم (3867 ف)، عن مكتبة تشتربيتي بدبلن بإيرلندا.

(6)

سقطت من (أ).

(7)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 288).

ص: 6

(وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ

(1)

مِنْ قِبَلِهِ)، يُقال نَشَزَت المرأة على زوجها، فهي نَاشِزَة، إذا اسْتَعْصَت عليه وأبغضته، وعن الزّجّاج

(2)

: النشوز يكون من الزوجين، وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه

(3)

.

{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ}

(4)

، أي استبدال زوجة مكان زوجة، إلى أن قال:{قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}

(5)

.

فإن قلت: النهي ورد في الأفعال الحسية، وهي الأخذ؛ وذلك لأن عرفانه غير متوقف إلى ورود الشرع، وهو الفارق بين الحسّية والشّرعية، ثم هو مؤكّد بتأكيدات وهي قوله {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}

(6)

الآية، ومجرّد النهي في الأفعال الحسّية من غيرِ تأكيد يقتضي عدم مشروعية المنهي عنه، فكيف بالمُؤكّدات.

ثم ذكر جواز الأخذ في هذه الصورة مع الكراهة

(7)

، وهذا الأصل الذي ذكرته يقتضي عدم مشروعية الأخذ من كل وجه، فما وجه التقصّي عن هذا السؤال؟.

(1)

النُّشُوزُ لغةً: نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ اسْتَعْصَتْ عَلَى بَعْلِهَا وَأَبْغَضَتْهُ، وَنَشَزَ بَعْلُهَا عَلَيْهَا ضَرَبَهَا وَجَفَاهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} . ينظر: (مختار الصحاح ص: 311).

وشرعاً: نشوز المرأة هو معصيتها زوجها فيما يجب له عليها من حقوق النكاح. وقيل: كَرَاهَةُ كلِّ واحدٍ مِنْهُمَا صاحبَه، وسوءُ عِشْرته لَهُ. يُنظر:(الكافي في فقه الإمام أحمد 3/ 92)، (النهاية في غريب الحديث والأثر 5/ 56).

(2)

الزجاج هو: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج: عالم بالنحو واللغة، ولد ومات في بغداد، كان في فتوته يخرط الزجاج ومال إلى النحو فعلمه المبرد، واختص بصحبة الوزير عبيد الله ابن سليمان بن وهب، وعلم ولده القاسم الأدب، من كتبه (معاني القرآن) و (الاشتقاق) و (خلق الإنسان) و (الأمالي) في الأدب واللغة، و (فعلت وأفعلت) في تصريف الألفاظ و (المثلث) في اللغة، ولد سنة 241 هـ، وتوفي سنة 311 هـ.

انظر: البداية والنهاية (11/ 148)، وفيات الأعيان (1/ 50)، الأعلام للزركلي (1/ 40).

(3)

ينظر: المغرب في ترتيب المعرب (ص: 464).

(4)

النساء: 20.

(5)

النساء: 20 - 21.

(6)

النساء: 20 - 21.

(7)

المكروه: ضد المندوب. وهو ما مدح تاركه، ولم يذم فاعله، وقيل: ما ترجح تركه على فعله، من غير وعيد فيه، وقيل: ما تركه خير من فعله، ومعانيها واحدة. (شرح مختصر الروضة للطوفي 1/ 382)

ص: 7

قلت: وجهه هو أن هذه الآية - وإن اقتضت عدم المشروعية على ما ذكرت، و [الآية الأخرى]

(1)

ناصّة بحكمها - تقتضي عدم الحرمة

(2)

والكراهة/ 360 ب/ من كلّ وجه، وهي قوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(3)

، وهذه الآية بإطلاقها [تقتضي]

(4)

إباحةَ الأخذ من كلِ وجه، فبرزت من معارضتهما الكراهة، لأن الكراهة مع أصل الجواز موجب مثل هذه المعارضة، ولأنّ المرأة تصرفت في مالها بالدّفع إلى زوجها باختيارها من غير إكراه، فمن أين يثبت عدم مشروعية الأخذ وهذا النهي وإن ورد في الأفعال الحسيّة ولكن هو لمعنى في غيره، وهو زيادة الإيحاش

(5)

، فلا يعدم المشروعية في نفسه، كما في قوله عليه السلام:«لا تتخذوا دوابكم كراسيَّ»

(6)

، وإلى هذا أشار في الكتاب بقوله: وقد ترك في حق الإباحة لمعارض، فيبقى معمولاً في الباقي، وهو الجواز مع الكراهة، كما في سؤر الهرة.

وذكر الإمام المحبوبي

(7)

رحمه الله وعند نفاة القياس

(8)

وهم أصحاب الظواهر

(9)

: لا يجب المال إذا كان النشوز من قبل الزوج، قلّ ذلك أو أكثر، بظاهر قوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا}

(10)

إلى أن قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}

(11)

والاعتداء ظلم، والمال لا يجب بالظلم، ولكنا نستدل بما روينا من الآثار، وتأويل الآية في الحلّ والحرمة لا في منع وجوب المال وتملّكه.

(1)

في (ب): آيةً أخرى.

(2)

الْحَرَامُ، ضِدُّ الْوَاجِبِ، وَهُوَ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ شَرْعًا. (شرح مختصر الروضة للطوفي 1/ 359).

(3)

البقرة: 229.

(4)

سقطت من (ت).

(5)

الإيحاش من الوَحْشةُ، وهي الفَرَقُ مِنَ الخَلْوة. يُقَالُ: أَخذَتْه وَحْشةٌ. وأَرض مَوْحُوشةٌ: كَثِيرَةُ الوَحْشِ. واسْتَوْحَشَ مِنْهُ: لَمْ يَأْنَسْ بِهِ فَكَانَ كالوَحْشيّ. انظر: (لسان العرب 6/ 368).

(6)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، باب الزجر عن اتخاذ الدواب كراسي بوقفها (4/ 142) برقم (2544)، وابن حبان في صحيحه، باب ذكر الزجر عن اتخاذ المرء الدواب كراسي (12/ 437) برقم (5619)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/ 612) برقم (1625)، وكذلك (2/ 109) برقم (2486) وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

(7)

هو جمال الدين أبو الفضل عبيد الله بن إبراهيم بن أحمد بن عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز بن محمد بن جعفر بن هارون بن محمد بن أحمد بن محبوب بن الوليد بن عبادة بن الصامت الانصاري العبادي المحبوبي البخاري الحنفي، انتهت إليه معرفة المذهب، والمعروف بأبي حنيفة الثاني، (ت 630 هـ).

انظر: الجواهر المضية (1/ 336)، سير أعلام النبلاء (22/ 345)، الوافي بالوفيات (19/ 229).

(8)

القياس: رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما. (العدة في أصول الفقه 1/ 174).

(9)

أصحاب الظواهر يقصد بهم الظاهرية، وهم يقولون بأن القياس ليس حجة شرعية على الأحكام، لذلك يطلق عليهم: نفاة القياس. ينظر: (علم أصول الفقه، عبدالوهاب خلاف ص 54).

(10)

البقرة: 229.

(11)

البقرة: 229.

ص: 8

قوله رحمه الله لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا، أي أولاً، وهو إشارة إلى قوله {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(1)

، ولأن اختيار الخلع أمر مكروه، قال النبي عليه السلام في المختلعات:«هن اللعينات هن المنافقات»

(2)

، فأطلقنا الزيادة رجاء أن يصدها عن ذلك إذا كان النشوز منها، وكرهنا الكلّ عند نشوزه، ولعلّه يصدُّه عن ذلك؛ لأنّ النبي عليه السلام قال:«لعن الله كل ذواق مطلاق»

(3)

.

ووجه إطلاق الزيادة إذا كان النشوز من قبلها، أيضاً ما روي أن امرأة ناشزة أُتي بها إلى عمر رضي الله عنه فحبسها في مزبلة

(4)

ثلاثة أيام، ثم دعاها فقال: كيف وجدت مبيتك، فقالت: ما بت ليلة هي أقر لعيني من هذه الليالي، لأني لم أره، فقال عمر: وهل يكون النشوز إلا هكذا، اخلعها ولو بقرطها

(5)

.

(6)

قال قتادة: يعني بجميع ما تملك هي، كذا ذكره الإمام الكشاني

(7)

، والإمام المحبوبي

(1)

البقرة: 229.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطلاق واللعان، باب ماجاء في المختلعات، رقم (1186) وقال عنه:"حديث غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي"(3/ 484)، والنسائي في سننه، باب ما جاء في الخلع برقم (3461)، وعبدالرزاق في مصنفه، باب ما يقال في المختلعة والتي تسأل الطلاق برقم (11891)، وأحمد في مسنده برقم (9357).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، باب من كره الطلاق من غير ريبة، رقم (19193) بلفظ:«إن الله لا يحب كل ذواق من الرجال، ولا كل ذواقة من النساء» .

(4)

الزِّبْل: السِّرْقِينُ، وَهُمَا فَضْلَةُ الْحَيَوَانِ الْخَارِجَةُ مِنَ الدُّبُرِ، وَالْمَزْبَلَةُ مَكَانُ طَرْحِ الزِّبْل وَمَوْضِعُهُ، وَالْجَمْعُ مَزَابِل. وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. ينظر:(تاج العروس تاج العروس، مادة "زبل" 29/ 111)، (لسان العرب، مادة "زبل" 11/ 300).

(5)

القُرْط: مَا عُلق فِي شحمه الْأذن من خَرَز أَو ذهب، وَالْجمع أقراط وقِرَطة وقروط. ينظر:(جمهرة اللغة 2/ 757)، (تهذيب اللغة 9/ 8).

(6)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه (كتاب الطلاق/ باب ما جاء في الخلع/ 1438)، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (كتاب الطلاق/ باب من رخّص أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها/ 18525)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (كتاب الخلع والطلاق/ باب الوجه الذي تحل به الفدية/ 14852).

(7)

مسعود بْن الحسين أبو المعالي الكُشَانيَ السَّمَرْقَنْديّ، نقله الخاقان مِن بُخارى إلى سَمَرْقَنْد للتّدريس بالمدرسة الخاقانيَّة وولّاه خَطَابة سَمَرْقَنْد، فبقي عَلَى ذَلِكَ مدَّة، وتُوُفّي في ربيع الأوّل سنة 520 هـ. يُنْظَر: تاريخ الاسلام (11/ 327).

ص: 9

- رحمهما الله -

(1)

.

ووجه الرواية الأخرى، قوله عليه السلام في امرأة ثابت بن قيس

(2)

إلى آخره، روي أن جميلة بنت سلول

(3)

كانت تحت ثابت بن قيس، فجاءت إلى رسول الله عليه السلام فقالت: لا أعيب على ثابت في دِين ولا خلق، ولكني أخشى الكفر في الإسلام لشدة بغضي إيّاه، فقال عليه السلام:«أتردين عليه حديقته» ، فقالت: نعم وزيادة، فقال:«أما الزيادة فلا»

(4)

، عُلم أن أخذ الزيادة لا يجوز.

فإن قيل: هذا الحديث معارض بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(5)

، ومن شرط قبول خبر الواحد عدم معارضة الكتاب، قلنا: النص إذا خُصّ منه شيء أو عُورض بنص آخر مثله خرج عن كونه قطعيًّا، ثم هذا الحديث إن كان مخالفاً في حق الزيادة لقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(6)

، فهو موافق لقوله تعالى:{فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}

(7)

، فكان هو في الحقيقة معارضة الكتاب للكتاب، لا معارضة خبر الواحد للكتاب، فجاز التمسك به، لأنّه موافق لأحد النصين؛ لأن مقتضى ما تلوناه إشارة إلى قوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}

(8)

شيئان: أحدهما جواز أخذ الزيادة حكمًا أي شرعًا، والثاني إباحة أخذ الزيادة.

فإن قلت: الجواز والإباحة عبارتان عن معبر واحد، [و]

(9)

شيئان لا ينفكان، [فأينما]

(10)

أريد أحدهما أريد معه الآخر، لأنّه لا جواز لشيء بدون الإباحة، ولا إباحة لشيء بدون الجواز فكيف يصح؟.

(1)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/ 150)

(2)

ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي الأنصاري: صحابي، كان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد. وفي الحديث: نعم الرجل ثابت، قتل يوم اليمامة شهيدًا في خلافة أبي بكر سنة 12 هـ. ينظر: أسد الغابة (1/ 275)، الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 511).

(3)

جميلة بنت أَبِي ابْن سلول، أخت عَبْد اللَّهِ رأس المنافقين. وقيل: كانت ابنة عبد الله، وهو وهم، وكانت تحت حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة، فقتل عنها يوم أحد، فتزوجها ثابت بن قيس بن شمّاس، فتبركته ونشزت عليه. ينظر: أسد الغابة (6/ 51).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، رقم (5273).

(5)

البقرة: 229.

(6)

البقرة: 229.

(7)

النساء: 20.

(8)

البقرة: 229.

(9)

في (ب): (أو).

(10)

في (أ)(فأيهما).

ص: 10

قوله: شَيْئَانِ، وكيف يصح [حينئذ]

(1)

؟.

قوله: وَقَدْ تُرِكَ الْعَمَلُ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ فَبَقِيَ مَعْمُولًا فِي الْبَاقِي، معنى الجواز.

قلت: لا، بل هما شيئان مختلفان، ألا ترى أنّ ضد الإباحة الكراهة، وضدّ الجواز الحرمة، فبضدها تتبيّن الأشياء، وأمّا قولك فإنهما شيئان لا ينفكان، قلنا بل هما ينفكان.

ألا ترى أن البيع وقت النداء جائز وليس بمباح

(2)

؛ وذلك لأنّ الإباحة لمّا كانت عبارة عن عدم الكراهة، احتمل أن يكون الشيء جائزاً مع الكراهة، التي هي ضدّ الإباحة، وهذا كثير النظير، فإن جميع صور النهي في الأفعال الشرعية كذلك، كصوم يوم النحر، وغيره، ثم النهي ههنا وهو/ 361 أ/ نهى النبي عليه السلام عن أخذ الزيادة، وَرَدَ لمعنى في غيره، وهو زيادة الإيحاش بأخذ المال، مع إيحاش الفراق، إذْ الحُكم الشّرعي يدور مع الدليل، وهو الفراق ههنا، وإن كان هو مطلوب المرأة في هذه الصورة.

وإنّما قلنا إنّ النهي لم يكن لمعنى في عينه، لأنّ المرأة تصرفت في مالها بالدّفع إلى زوجها باختيارها من غير إكراه، وكان مشروعًا في نفسه، والنهي إذا كان [لمعنى]

(3)

في غيره لا يعدم المشروعية، فلذلك لم يكن حديث النهي عن أخذ الزيادة متعرِّضًا للجواز، فبقي مقتضى قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}

(4)

معمولاً في الجواز، وهو معنى قوله، فبقي معمولاً في الباقي أي في الجواز، والمراد من قوله: لِمُعَارِضٍ هو قوله عليه السلام: «أما الزيادة فلا» .

(وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلاقُ)، صورة المسألة ما إذا قال لامرأته: أنت طالق بألف أو على ألف، وأما إذا قال لها: أنت طالق وعليك ألف درهم، فقبلت، يقع الطلاق، ولا يلزمها المال - عند أبي حنيفة -

(5)

على ما يجيء إن شاء الله، وقد علّقه بقبولها.

فإن قلت: لا يُسلم أنّه علّقه بقبولها، فإنّ قوله: طلقتك على ألف، يحتمل أن يكون معناه على ألف تؤدّينه، فكان معلّقًا بالأداء، ويحتمل أن يكون معناه على ألف تقبلين أداءه، فكان معلّقًا بالقبول، فمن أين ترجح جانب القبول على جانب الأداء ههنا.

(1)

سقطة من (أ).

(2)

المباح: كل فعل مأذون فيه لفاعله، لا ثواب له في فعله، ولا عقاب في تركه. ينظر:(العدة في أصول الفقه 1/ 167).

(3)

في (أ)(بمعنى).

(4)

البقرة: 229.

(5)

ينظر: الاختيار لتعليل المختار (3/ 157)، الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (2/ 60).

ص: 11

قلت: إنّما ترجح تعليق جانب القبول ههنا على جانب الأداء، بدلالة ذكره في مقام المعاوضة، وفي المعاوضات يتعلّق الحكم بالقبول [دون]

(1)

الأداء، [فلو قلنا بتعليقه بالأداء]

(2)

كانت كلمة على للشرط المحض، وهي إنّما كانت لذلك في غير المعاوضات، كما في قوله: أنت طالق على أن تدخلي الدار، كان الدخول شرطًا محضاً على ما يجيء كالقصاص.

فإن القصاص وإن كان هو ليس بمال، جاز أخذ العوض عنه، فكذا هنا، وكان الطلاق بائنًا لما بيّنا وهو الحديث المذكور.

[وقوله:]

(3)

وَلِأَنَّهَا لَا تُسْلِمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا، وإن بطل العوض في الطّلاق كان رجعيًّا

(4)

، ولهذا لا يكتفي لانتقاض هذا الأصل في غير المدخول بها، ولانتقاضه فيما إذا كان لفظ الطلاق في الثالثة، وعن هذين النقيضين احترز في «المبسوط»

(5)

بقوله: وكلّ تطليقة أو تطليقتين بجُعل

(6)

، أبطل الجعل وأمضى فيه الطّلاق، فالطّلاق رجعي إذا كان قد دخل بها

(7)

.

كان العامل في الأوّل لفظ الخلع، وهو كناية

(8)

وبهذا لا يكتفي، بل يجب أن يقال: وهو كناية، ولها دلالة على قطع الوصلة؛ لأنّه مشتق من خلعت الخف، إذا نزعته وأزلت عنك.

وإنّما احتيج إلى هذا التأويل

(9)

، لأن من الكنايات ما هو رجعي، مثل اعتدي، واستبري، وأنت واحدة، بخلاف ما إذا خالع على خلع بعينه، فظهر خمراً

(10)

، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله عليها أن تردّ المهر

(11)

المأخوذ.

(1)

سقطت من (ت).

(2)

كذا في (ب)، في (أ) تكررت جملة (فلو قلنا بتعليقه دون الأداء)، والصحيح ما أثبت.

(3)

في (أ)(وقال).

(4)

الطلاق الرجعي: ما يجوز معه للزوج رد زوجته في عدتها من غير استئناف عقد. انظر: (الموسوعة الفقهية الكويتية 22/ 104).

(5)

كتاب المَبْسُوط لشمس الدين أبو بكر مُحَمَّد بن أبي سهل السَّرَخْسِي، حققه خليل محي الدين الميس، وطبعته دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بلبنان من أصول المذهب الحنفي في الفقه.

(6)

الجعل بالضم الأجر، يقال: جعلت له جعلا، والجعالة بكسر الجيم وبعضهم يحكي التثليث اسم لما يجعل للإنسان على فعل شيء. ينظر:(المصباح المنير 1/ 102)، (الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 4/ 1656).

واصطلاحاً: التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو مجهول بمعين أو مجهول. انظر: (المجموع شرح المهذب 15/ 115).

(7)

المبسوط للسرخسي (6/ 180).

(8)

سبق تعريف الكناية (ص 89).

(9)

التَأْويل: تفسير ما يَؤُولُ إليه الشئ. وقد أولته وتأولته تأولا بمعنى. (الصحاح 4/ 1627)

(10)

الخمرة لغةً: ما أسكر من عصير العنب، وسميت بذلك لأنها تخامر العقل. ينظر:(لسان العرب 4/ 255).

وصطلاحاً: الخمر تطلق على ما يسكر قليله أو كثيره، سواء اتخذ من العنب أو التمر أو الحنطة أو الشعير أو غيرها. ينظر:(المغني لابن قدامة 9/ 159)، المدونة (4/ 523)، كشاف القناع (6/ 117).

(11)

المهر في اللغة: صداق المرأة؛ وهو: ما يدفعه الزوج إلى زوجته بعقد الزواج؛ والجمع مهور ومهورة. ينظر: (المصباح المنير 2/ 582).

وفي الاصطلاح: هو ما وجب بنكاح أو وطء أو تفويت بضع قهرًا. ينظر: (مغني المحتاج 4/ 366).

ص: 12

وعلى قول أبي يوسف

(1)

ومحمد

(2)

-رحمهما الله-

(3)

، قيل مثل ذلك من حلّ وسط، وهذا والصّداق سواء، وبخلاف ما إذا كاتب أو أعتق على خمر، حيث تقع الكتابة

(4)

فاسدة، ومع ذلك لو أدّى عَتُقَ؛ لأنّ فيها معنى تعليق العتق بأداء المسمّى، وعلى العبد

(5)

قيمته؛ لأنّ ملك المولى

(6)

فيه متقوّم، بخلاف ملك الزّوج على المرأة، فإنّه غير متقوّم، ألا ترى أنّ العبد لو غصب

(7)

، يجب القيمة على الغاصب، والمنكوحة لو غصبت، لا يجب على الغاصب شيء، كذا في «المبسوط»

(8)

وجامع التمرتاشي

(9)

.

(1)

يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، أبو يوسف: صاحب الإمام أبي حنيفة، وتلميذه، كان فقيها علامة، من حفاظ الحديث. ولد بالكوفة. وتفقه بالحديث والرواية، روى عنه محمد بن الحسن الشيباني، ويحيى بن معين وغيرهم، ثم لزم أبا حنيفة، فغلب عليه "الرأي" وولي القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد. دُعي "قاضي القضاة"، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه، على مذهب أبي حنيفة، توفي ببغداد سنة 182 هـ.

انظر: تاج التراجم (ص: 315)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 220)، سير أعلام النبلاء (8/ 535).

(2)

محمد بن الحسن بن فرقد، من موالي بني شيبان، أبو عبد الله: إمام بالفقه والأصول، وهو الّذي نشر علم أبي حنيفة. أصله من قرية حرستة، في غوطة دمشق، وولد بواسط. ونشأ بالكوفة، فسمع من أبي حنيفة وغلب عليه مذهبه وعرف به وانتقل إلى بغداد، فولاه الرشيد القضاء بالرقة ثم عزله. ولما خرج الرشيد إلى خراسان صحبه، فمات في الري. قال الشافعيّ:(لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن، لقلت، لفصاحته) ونعته الخطيب البغدادي بإمام أهل الرأي، له كتب كثيرة في الفقه والأصول، منها (المبسوط) في فروع الفقه، و (الزيادات)، و (الجامع الكبير)، و (الجامع الصغير)، توفي سنة 189 هـ.

انظر: تاج التراجم (ص: 237)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 42).

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 85)

(4)

المكاتبة لغةً: من كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة، وهي معاقدة بين العبد وسيده. ينظر: المصباح المنير مادة "كتب"(2/ 525).

واصطلاحاً: المكاتبة تعليق عتق بصفة على معاوضة مخصوصة. ينظر: (فتح الباري 5/ 184)

(5)

العبد هو الرقيق، والرق لغة: مصدر رق العبد يرق، ضد عتق، يقال: استرق فلان مملوكه وأرقه، نقيض أعتقه، والرقيق: المملوك ذكرا كان أو أنثى، والرق في الاصطلاح الفقهي موافق لمعناه لغة، فهو كون الإنسان مملوكا لإنسان آخر. ينظر:(الموسوعة الفقهية الكويتية 23/ 11).

(6)

المولى الحليف، وهو من انضم إليك فعز بعزك وامتنع بمنعتك. (لسان العرب 15/ 408)

(7)

غَصَبَه يَغْصِبُه غَصْباً: أَخَذَه ظُلْماً، كاغْتَصبه، وغَصَبَ فُلاناً على الشَّيءِ: قَهَرَه. تاج العروس (3/ 484).

(8)

المبسوط للسرخسي (6/ 175).

(9)

أحمد بن إسماعيل بن محمد، أبو العباس، ظهير الدين ابن أبي ثابت التمرتاشي، عالم بالحديث، حنفي، كان مفتي خوارزم، نسبته إلى تمرتاش من قراها، صنف (شرح الجامع الصغير)، و (الفرائض) و (التراويح) و (الفتاوى)، توفي سنة 610 هـ. انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 61)، الأعلام للزركلي (1/ 97)، تاج التراجم (ص: 108).

ص: 13

وإنّما قيد قوله بخلاف ما إذا كاتب على خمر بالخمر، فإنّه لو كاتب عبده على ميتة

(1)

أو دم فإنّ الكتابة هناك باطلة، حتّى لو أدّى لا يعتق، ولا تجب القيمة، كذا ذكره الإمام الإسبيجاني

(2)

رحمه الله

(3)

.

فأمّا الإسقاط فنفسه شرف، أي تتشرف المرأة، حيث تعود مالكة على نفسها من كلّ وجه كما كانت، فلذلك لم يجب على الزوج شيء.

بخلاف النكاح، فإنّه يجب عليه المهر

(4)

؛ لأنّ في النكاح استيلاء على محلّ محترم، فيجب المال بمقابلة الاستيلاء، ثم الدّليل أيضاً على أنّ البضع

(5)

عند الدخول في مِلْك الزّوج متقوم، وعند الخروج عنه ليس بمتقوّم، تزوّج المريض وخلع المريضة، فإن المريض إذا تزوّج امرأةً بمهر مثلها، أن ذلك جائز من جميع المال، وخلع المريضة يعتبر من الثلث.

(وما جاز أن يكون مهراً جاز أن يكون بدلاً في الخلع)، وإنّما لم يذكر عكسه حيث لم يقل: وكل ما لا يجوز/ 361 ب/ أن يكون مهراً لا يجوز أن يكون بدلاً في الخلع، فإن ذلك غير مستقيم؛ لأنّ من الأشياء ما هو غير صالح [للمهر، فهو صالح]

(6)

لبدل الخلع، وهذا -أيضاً- ينزع إلى ما ذكرنا من أن البضع متقوم حالة الدخول دون الخروج.

وقد ذكر في «المبسوط» وإن اختلعت منه بما في بطن جاريتها

(7)

، أو على ما في بطون غنمها، فهو جائز، وله ما في بطونها بخلاف الصداق، فإنّه في مثله يجب مهر المثل لها؛ لأنّه ما في البطن ليس بمال متقوم في الحال، ولكن باعتبار المآل هو مال بعد الانفصال، إلا أن أحد العوضين - وهو النكاح في باب النكاح - لا يحتمل التعليق بالشرط، فكذلك العوض الآخر فلا يمكن تصحيح التسمية في الحال؛ لأنّ المسمّى ليس بمال ولا باعتبار المآل، لأنّه في معنى الإضافة

(8)

أو التعليق بالانفصال، فكان لها مهر مثلها، فأمّا الخلع فأحد العوضين، وهو الطّلاق، يحتمل الإضافة والتعليق بالشرط، فكذلك العوض الآخر، فأمكن تصحيح تسمية ما في البطن باعتبار المآل، وهو ما بعد الانفصال، وإذا صحّت التسمية فله المسمّى، وإن لم يكن في بطونها شيء فلا شيء له، لأنّها ما غرته

(9)

، فما في البطن قد يكون مالاً متقومًا، وقد يكون غير ذلك، من ريحٍ أو ولد ميت، والرجوع عليها بما أعطاها بحكم الغرور، وما حدث في بطونها بعد الخلع، فهو للمرأة، لأنّها سمّت الموجود في البطن عند الخلع، فلا يتناول ما يحدث بعد ذلك، بل الحادث نماء ملكها، فيكون لها

(10)

.

(1)

الميتة: هي الحيوان الذي مات حتف أنفه أو قتل على هيئة غير مشروعة. ينظر: المصباح المنير مادة "موت"(2/ 584)، ينظر:(الجوهرة النيرة على مختصر القدوري 2/ 184).

(2)

علي بن محمد بن إسماعيل شيخ الإسلام السمرقندي الإسبيجاني، فقيه حنفي، أستاذ المرغيناني صاحب الهداية، من مؤلفاته (شرح مختصر الطحاوي) و (المبسوط)، ولد سنة 454 هـ، وتوفي سنة 535 هـ.

انظر: تاج التراجم (ص: 212)، هدية العارفين (1/ 697).

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 214)، البحر الرائق شرح كنز الدقائق (8/ 48).

(4)

المهر هو الصداق، وَلَهُ أَسْمَاءُ الصَّدَاقِ وَالصَّدْقَةِ وَالْمَهْرِ وَالنِّحْلَةِ وَالْفَرِيضَةِ وَالْأَجْرِ وَالْعَلَائِقِ وَالْعَقْرِ وَالْحِبَاءِ، واصطلاحاً: هو العوض المسمّى في عقد النكاح أو مايقوم مقامه. (المطلع على ألفاظ المقنع ص: 396)، (كشاف القناع عن متن الإقناع 5/ 128).

(5)

البضع هو الفرج نفسه وقيل هو الجماع. ينظر: (لسان العرب 8/ 14)، (غريب الحديث لابن الجوزي 1/ 74)، (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص 200).

(6)

سقطت من (ت).

(7)

الجارية: هي الامة صغيرة كانت أم كبيرة، البنت الصغيرة التي لم تبلغ. (معجم لغة الفقهاء ص 158)

(8)

الإضافة: هي ضم كلمة إلى أخرى بتنزيل الثانية منزلة التنوين من الأولى، والقصد منها تعريف السابق باللاحق، أو تخصيصه به، أو تخفيفه، نحو: كتاب الأستاذ، وضوء شمعة. ينظر:(أوضح المسالك 3/ 81)، (المعجم الوسيط 1/ 547)، (معجم النحو ص 32).

(9)

الغرر: ما يكون مجهول العاقبة لا يدرى أيكون أم لا. ينظر: (التعريفات ص: 161).

(10)

المبسوط للسرخسي (6/ 188).

ص: 14

لأنّها لم تغره بتسمية المال؛ لأن كلمة ما عامة، بتناول المال وغير المال، فلم تكن غارة بتسمية المال.

وذكر في «المبسوط» وإن اختلعت بما في بيتها من شيء فهو جائز، وكل ما في البيت في تلك السّاعة فهو له، لأنّ بالإشارة إلى المحل تنقطع المنازعة

(1)

بينهما بسبب الجهالة، وإن لم يكن فيه شيء فلا شيء له عليها، لأنّها لم تغر الزوج بتسمية الشيء، فإنه ينطبق على ما لا قيمة له، فلذلك لا يلزمها شيء

(2)

.

بخلاف ما إذا اختلعت على ما في بيتها من متاع، فله ما فيه، وإن لم يكن فيه شيء رجع عليها بالمهر الذي أخذت منه؛ لأنّها غرته بتسمية المتاع، فإنه اسم لما يكون متقوّمًا منتفعًا به، فإذا لم يجد في البيت شيئاً كان مغروراً من جهتها، وللمغرور دفع الضرر عن نفسه بالرجوع على الغارّ، ولا يمكن إثبات الرجوع بقيمة المتاع، لكونه مجهول الجنس والقدر، ولا بقيمة البِضْع، لأنّه عند الخروج من مِلك الزّوج غير متقوّم، فإنّه لا يُمَلّكُها شيئاً، وإنما يسقط حقه عنها، فكان أولى الأشياء ما ساق إليها من الصّدَاق، فإن الضّرر يندفع عنه بالرجوع بذلك، وهذا هو المراد بقوله: فَتَعَيَّنَ إيجَابُ مَا قَامَ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ، أي الذي قام به القائم، أي العقد به، أي بذلك المال وهو الصداق على الزوج.

قوله رحمه الله: وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ [الْمُسَمَّى، أي]

(3)

إيجاب ما سمته المرأة، وهو المال، ولو قالت: خالعني على ما في يدي من دراهم، أو من الدّراهم، فإن كانت في يدها ثلاثة دراهم أو أكثر فله ذلك، وإن لم يكن في يدها شيء، فله ثلاثة دراهم، لأنّها سمت جمع الدراهم، وأدنى الجمع المتفق عليه ثلاثة دراهم، وليس لأقصى الجمع نهاية، فأوجبنا الأدنى، وإن كان في يدها درهمان تؤمر بإتمام ثلاثة دراهم له، لأنّها فيما التزمت ذكرت لفظ الجمع، وفي المثنى معنى الجمع، وليس بجمع مطلق، فإنّ التثنية غير الجمع.

بخلاف الصداق في هذه الصورة، حيث يكون لها مهر المثل، لأنّ الزوج يملك عليها ما هو متقوم، فلها أن لا ترضى بالأدنى، وهنا الزّوج لا يملكها شيئاً متقوّمًا، فيتعيّن الأدنى، وكذا لو قالت على ما في يدي من الدنانير

(4)

والفلوس

(5)

، وكذا جميع الأشياء، كالحيوان، والثياب، وغيرها، لأنّها تثبت دينًا

(6)

في الذمة [بالخلع].

(7)

(1)

والتنازع: المنازعة في الخصومات ونحوها، وهي المجاذبة أيضًا، كما ينازِعُ الفرسُ فارسهَ العنانَ. (العين 1/ 359).

(2)

المبسوط للسرخسي (6/ 186).

(3)

زيادة في (ت).

(4)

الدِّينارُ فارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وأَصْلُه دِنّارٌ، بدَلِيلِ قَوْلِهمْ دَنانِيرُ ودُنَيْنيرٌ. ورَجُلٌ مُدَنَّرٌ: كَثِيرُ الدِّنانِيرِ. (المحكم والمحيط الأعظم 9/ 299).

(5)

الفلوس جمع فلس، وتطلق الفلوس ويراد بها ما ضرب من المعادن من غير الذهب والفضة، وصارت عرفًا في التعامل وثمنًا باصطلاح الناس. ينظر:(المصباح المنير 2/ 481)، (لسان العرب 6/ 165)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (3/ 345).

(6)

دين: جمع الدَّيْن دُيُون، وكلُّ شيءٍ لم يكن حاضراً فهو دَيْنٌ. ينظر:(العين 8/ 72).

(7)

سقطت من (ب).

ص: 15

فإن قيل: ففيما إذا كان في يدها درهمان، وذكرت في كلامها حرف من، وهو للتبعيض، والدرهمان بعض الجمع، فينبغي أن لا يلزمها إلا [ما]

(1)

في يدها، - كما قال في «الجامع الصّغير»

(2)

(3)

- إذا قال: إن كان في يدي من الدّراهم إلا ثلاثة، فعبده حرّ، وفي يده أربعة كان حانثاً

(4)

؛ لأنّ ما وراء الثلاثة من الدراهم، فكذلك ههنا الدرهم الواحد من الدّراهم، فينبغي أن يلزمها درهم واحد فيما إذا لم يكن في يدها شيء عند ذكر الدراهم بكلمة من.

قلنا نعم، حرف من قد يكون للتبعيض، وقد يكون صلة، كما في قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}

(5)

، وقال:// 362 أ// {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}

(6)

ففي كلّ موضع يصحّ الكلام بدون [حرف]

(7)

من كان حرف من فيه للتبعيض، كما في مسألة الجامع.

وفي كل موضع لا يصحّ الكلام بدون حرف من كان حرف من فيه صلة زيدت لتصحيح الكلام، كما في مسألة الخلع، فإنّها لو قالت: اخلعني على ما في يدي دراهم، كان الكلام مختلاً، فحرف من صلة لتصحيح الكلام، ويبقى منها لفظ الجمع، فلهذا يلزمها ثلاثة دراهم.

فإن قيل: هب أن تقدير كلامها كأنها قالت: اخلعني على الدّراهم، [و]

(8)

لو قالت اخلعني على الدّراهم ينبغي أن يلزمها درهم واحد لا ثلاثة دراهم، لأنّ الجمع المعرّف باللام بمنزلة الفرد المعرّف باللام، حتى ينصرف إلى الجنس [فإن تعذّر صرفه إلى الجنس]

(9)

ينصرف إلى الأدنى، وهو الواحد على ما عرف في الجامع

(10)

، قلنا نعم لكن إذا كان جمعًا مجرّدًا عن الإضافة والإشارة كما إذا حلف لا يتزوّج النساء ولا يشتري العبيد.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير، لأبي عبدالله مُحَمَّد بن الحسن الشَّيْبَانِيّ، طبعته دار عالم الكتب، ببيروت، سنة 1406 هـ، ـ ويقع في جزء واحد وله شروحات كثيرة، منها: شرح البزدوي وشرح التُّمُرْتَاشِي.

(3)

ينظر: الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير (ص: 216)، المبسوط للسرخسي (6/ 187)

(4)

الحِنْثُ: الذَّنْبُ العظيم، ويقال: بَلَغَ الغُلام الحِنْثَ أي بَلَغَ مَبْلغاً جَرَى عليه القَلَم في المعصِيةِ والطاعة. والحِنْثُ إذا لم يُبِرَّ بيَمينه، وقد حَنِثَ يَحْنَثُ. ينظر:(العين 3/ 206)

(5)

الحج: 30.

(6)

المؤمنون: 91.

(7)

سقطت من (أ).

(8)

سقطت من (أ).

(9)

سقطت من (ب).

(10)

أي الجامع الصغير للشيباني.

ص: 16

وأما هنا فالجمع غير مجرّد عن الإضافة والإشارة، لاختصاصه بما تحويه يدها؛ وهذا لأنّ الدراهم جمع على الحقيقة فيجب اعتبار معنى الجمعية، إلا أنّه بطل اعتبار معنى الجمعية لإمكان إرادة الجنس متى كان مجردًا عن الإضافة والإشارة، فإذا كان مقيَّدًا بالإضافة وجب أن لا يتعطّل معنى الجمعية كذا في «المبسوط»

(1)

، و «الفوائد الظهيرية»

(2)

، و «جامع الإمام التمرتاشي»

(3)

.

قال الإمام مولانا حميد الدين

(4)

: إذا دخل الألف واللام على الجمع يراد الواحد، مع احتمال كل الجنس إذا كانت إرادة الكلّ ممكنة، كما في قوله: لا أتزوّج النساء، حتّى أنّه لو نوى جميع نساء العالم لا يحنث أبدًا، فأمّا ههنا فلا يحتمل أن يكون كلّ دراهم العالم في يده في هذه الحالة، فلمّا بطل إرادة الجنسيّة بهذا الطّريق لم يصرف إلى الواحد، أمّا لأن إرادة الواحد من صيغة الجمع التي دخل فيها الألف واللام إنّما كان في ضمن إرادة معنى الجنسيّة وقد بطل ذلك لعدم الإمكان فبقيت صيغة الجمع خالية عن حرف الجنس، فصرف إلى الثلاثة لأنّها أقل الجمع الصحيح، وأمّا [لأن]

(5)

كل جنس الدراهم لما لم يكن مراداً، وأمكن الحمل هنا على المعهود، وبدلالة قولها على ما في يدي صرف إلى المعهود وبرعاية صيغة الجمع، فكان المراد هنا الجمع بدلالة ذكره في هذا الموضع في «المبسوط»

(6)

بدون الألف واللام أو يكون الألف واللام لتحسين النظم، كقوله تعالى:{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}

(7)

(8)

، وقوله:{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا}

(9)

.

(1)

المبسوط للسرخسي (6/ 187).

(2)

هو كتاب الفوائد الظهيرية وهو فوائد على الجامع الصغير للحسام الشهيد سماها الفوائد الظهيرية في الفقه، وهو لظهير الدين أبي بكر محمد بن أحمد القاضي الفقيه الأصولي، ومن كتبه أيضا الفتاوى الظهيرية، (ت 619 هـ). ينظر: الجواهر المضية (2/ 20)، كشف الظنون (رقم 1298)، معجم المؤلفين (8/ 303).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (2/ 270)

(4)

هو علي بن محمد بن علي الامام حميد الدين الرامشي البخاري الضرير الحنفي الفقيه، من تآليفه شرح أصول البزدوى، وشرح الجامع الكبير للشيباني في الفروع، وله شرح على "الهداية" جزآن يسمى بـ"الفوائد"، توفي سنة 666 هـ.

انظر: تاج التراجم (ص: 215)، هدية العارفين (1/ 711)، معجم المؤلفين (7/ 176).

(5)

سقطت من (ب).

(6)

المبسوط للسرخسي (6/ 187)

(7)

الجمعة: 5.

(8)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (2/ 270)

(9)

يس: 33.

ص: 17

(فإن اختلعت على عبد لها آبق

(1)

على أنّها بريّئةٌ من ضمانه

(2)

لم تبرأ)، فمعنى قوله: على أنّها بريئة من ضمانه، أي: لا تطالب هي بأن تحصّل العبد وتسلّمه إلى زوجها، أي: إن وجد العبد وحصل تسلّم العبد إليه، وإن لم يحصل فليس عليها شيء وهذا الشرط فاسد، بل يجب عليها تسليم العبد على تقدير الحصول وتسليم قيمته على تقدير عدم الحصول، واشتراط البراءة عنه، أي: عن العوض وهو العبد شرطًا فاسد؛ لأن المرأة إنّما ترفع العوض ليسلم بضعها لها، والزوج إنما يخلعها لسلامة العوض له، فكان شرط البراءة عن العوض شرطًا فاسدًا، ولكن الخلع لا يبطل بالشروط الفاسدة.

فإن قلت: سلّمنا أنّ الخلع لا يبطل بالشّرط الفاسد ولكن ينبغي أن يفسد التسمية هنا، ويرجع الزوج عليها بالمهر الذي أعطاها، لاشتراطها عدم وجوب تسليم العبد، كما يرجع عليها بالمهر في سائر المواضع التي فسدت التسمية، كما إذا اختلعت المرأة منه بدابة واختلعت على أن تُزوّجه امرأةً وتمهرها عنه، فالخلع جائز فعليها ردّ المقبوض.

قلت: الخلع عقد مبناه على التوسع، فلا يمتنع صحته باعتبار الإباق لأنّه لو امتنع [إنما]

(3)

[امتنع]

(4)

باعتبار العجز عن التسليم، والعجز ههنا لا يربو درجة على العجز عن التسليم فيما إذا اختلعت منه على عبد مملوك للغير فهناك جائز وههنا أولى.

وأمّا فيما أوردت من المسألتين إنّما فسدت التسمية ورجع إلى المهر للجهالة المستتمة، فإن اسم الدّابة يتناول الأجناس المختلفة من الحيوان وكذلك الأمهار لأنّه مجهول قدراً ووضعًا، بخلاف ما نحن بصدده.

وإنما لم يصح اشتراط البراءة عن التسليم؛ لأنّ التسمية إذا صحت أوجبت تسليم المسمّى، فاشتراط البراءة عن [الضمان]

(5)

المسمى الواجب تسليمه كان باطلاً ومناقضة.

فإن قيل الخلع كما يوجب تسليم المسمّى فكذلك أوجب تسليم المسمّى بوصف كونه سليمًا، واشتراط البراءة عن/ 362 ب/ وصف السّلامة صحيح، فكذا اشتراط البراءة عن تسليم المسمّى.

قلنا الفرق بينهما ظاهر لأنّ وجوب استحقاق التَّسْلِيمِ [فوق وجوب استحقاق السَّلِيمِ]

(6)

، ألا ترى أنا أجمعنا على أنّه إذا باع ما لا يقدر على تسليمه لا يجوز، ولو باعه بشرط البراءة عن العيب جاز، وذلك لأنّ الإنسان إنما يرغب في تملك الشيء بوجه من الانتفاع به، وذلك لا يكون إلا بالتّسليم وباشتراط البراءة عن التَّسْلِيمِ يفوت هذا المقصود، ولا كذلك اشتراط البراءة عن العيب، فإنّ الأصل هناك باق فيجوز العقد، [هكذا]

(7)

أشار في «الفوائد الظهيرية»

(8)

.

(1)

الآبِق: أَبَق العبد يأبِق: إذا هرب، فهو آبِقٌ. ينظر:(جامع الأصول 5/ 586).

(2)

الضَّمَانُ: الْكَفَالَةُ يُقَالُ ضَمِنَ الْمَالَ مِنْهُ إذَا كَفَلَ لَهُ بِهِ وَضَمَّنَهُ غَيْرَهُ. ينظر: (المغرب ص 285).

(3)

زيادة في ت.

(4)

في ت (تمنّع).

(5)

في ب (ضمان).

(6)

سقطت من ب.

(7)

في (أ) و (ب): هذا، وتستقيم العبارة بما أثبت.

(8)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 224).

ص: 18

وذكر صدر الإسلام أبو اليسر

(1)

أمّا الخلع على عبد آبق جائز، بخلاف بيع الآبق فإنّه فاسد؛ لأنّ النبي عليه السلام نهى عن بيع العبد الآبق

(2)

، والبيع المنهيّ عنه فاسد، وما نَهَى عن الخُلْع على عبد آبق فلا يكون فاسدًا، وإذا صحّ الخُلْع يجب عليها تسليم العبد

(3)

.

وَعَلَى هَذَا النِّكَاحِ، يعني إذا تزوّجها على عبد آبق لم يبرأ الزوج عن ضمانه، فإن قدر عليه يجب على الزّوج تسليم عينه، وإن لم يقدر يجب تسليم قيمته كما هو الحكم كذلك ههنا، لأنّها لمّا طلبت الثلاث بألف فقد طلبت كلّ واحدة بثلث الألف وهذا لأنّ حرف الباء تصحب الأعواض إلى آخره.

فإن قيل: يشكل هذا بالبيع، فإنّ كل ما ذكره ههنا موجود في البيع ومع ذلك لا يجب ثلث الألف بحسب ما يقابله من المبيع، فإن الرجل إذا قال بعت منك هؤلاء العبيد الثلاثة بألف درهم كلّ واحد بثلث الألف، وقيل البيع في واحد بعينه لم يجز ولم يجب ثلث الألف بحياله، وأقرب من هذا ما إذا قال لها أنت طالق ثلاثاً بألف فقبلت الواحدة لم يقع ولم يجب شيء.

قلنا: الطّلاق لا يبطل بالشّرط الفاسد لقبوله التعليق بالشروط والإخطار، ولا كذلك البيع، وبعد ذلك التقريب ظاهر، وأمّا مسألة الطّلاق فإن الزّوج هنا راض بالبينونة

(4)

مقابلاً بثلث الألف لمكان الإيقاع منه، وهناك لم يرض بالبينونة إلا وأن يكون بإزائها ألف ولم يوجد منه بعد الإيجاب ما يدل على الرضاء كذا في «الفوائد الظهيرية»

(5)

.

(وَإِنْ قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) ولو قالت طلّقني واحدة بألف أو على ألف فقال أنت طالق ثلاثاً طلقت بغير شيء، وعندهما طلقت مقابلاً بالطّلاق الأوّل بناء على أنّ المأمور بالواحدة إذا أتى بالنكث

(6)

هل يكون إيتاء بالمأمور به، كذا ذكره الإمام التمرتاشي رحمه الله.

(1)

محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم، أَبو اليسر، صدر الإسلام البزدوي، ولي القضاء بسمرقند، انتهت إليه رئاسة الحنفية في ما وراء النهر، له تصانيف منها (أصول الدين) ويلقب بالقاضي الصدر، ولد سنة 421 هـ وتوفي في بخارى سنة 493 هـ.

(2)

أخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب النهي عن شراء ما في بطون الأنعام وضروعها وضربة الغائص، (2196)، وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه، كتاب البيوع، باب بيع الغرر المجهول، (14375).

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 224).

(4)

قوله: "حال البينونَةِ" البينونة: مصدر بَانَ يَبِينُ بَيْنًا وبينونة: إذا ذهب أو زال، فحال الفراق حال بينونة. ينظر:(المطلع على ألفاظ المقنع ص 404).

(5)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 521).

(6)

نكث: النَّكْثُ: نَقْضُ مَا تَعْقِدُه وتُصْلِحُه مِنْ بَيْعَةٍ وَغَيْرِهَا. ينظر: (لسان العرب 2/ 196).

ص: 19

وَلَهُ أَنَّ كَلِمَةَ [عَلَى]

(1)

لِلشَّرْطِ، ولا يتضح تعليل أبي حنيفة رحمه الله أن على طريق التعليل الذي علّل به في «المبسوط»

(2)

، حيث ادّعى أن كلمة على للشّرط حقيقة، وإنّما قلنا أنه لا يتم تعليله بدون دعوى الحقيقة؛ لأنّ لهما أن يقولا: لما كانت على مستعارًا

(3)

للشرط فلم صارت تلك الاستعارة أولى من استعارتها بمعنى الباء، بل استعارتها بمعنى الباء أولى؛ لأن حقيقتهما للإلزام بالاتفاق والمناسبة بين الإلصاق

(4)

واللزوم

(5)

أكثر من المناسبة بين الإلزام والشرط.

وقال في «المبسوط» : قال أبو حنيفة رحمه الله: حرف على للشرط حقيقة؛ لأنّه حرف الالتزام ولا مقابلة بين الواقع وبين ما التزم، بل بينهما معاقبة، كما يكون بين الشرط والجزاء، فكان معنى الشرط حقيقة والتمسك بالحقيقة واجب حتى يقوم دليل المجاز، والطلاق مما يحتمل التعليق بالشرط، فلا حاجة إلى العدول عن الحقيقة إلى المجاز، وإذا كان محمولاً على الحقيقة والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزءًا فجزأ فإنّما شرطت لوجوب المال عليها إيقاع الثلاث، فإذا لم يوقع لا يجب شيء من المال وبه فارق البيع والإجارة

(6)

؛ لأنّ معنى الشرط هناك تعذّر اعتباره، فإنه لا يحتمل التعليق بالشرط؛ فلذلك جعلنا حرف على فيهما بمعنى حرف الباء

(7)

.

فإن قلت: يشكل هذا بالذي استعمل (على) في الطّلاق وأريد به معنى الباء فلو كانت كلمة (على) للشرط حقيقة لكانت هي على تلك الحقيقة في جميع المواضع التي يحتمل تلك الحقيقة، وجميع مواضع الطلاق يحتمل الشرط، ومع ذلك استعملت هي فيه بمعنى الباء، وهو فيما إذا قالت لزوجها: طلقني وفلانة على ألف درهم، فطلّقها وحدها كان عليها حصّتها من المال، بمنزلة ما لو التمست بحرف الباء.

(1)

في (أ): تكرار.

(2)

المبسوط للسرخسي (6/ 174).

(3)

الاستعارة: ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه، مع طرح ذكر المشبه من البين، كقولك: لقيت أسدًا، وأنت تعني به الرجل الشجاع. ينظر:(التعريفات للجرجاني ص 20).

(4)

الإلصاق: تعليق أحد المعنيين على الآخر. ينظر: (التوقيف على مهمات التعاريف ص 60)

(5)

الإلزام: ضربان: إلزام بالتسخير من الله أو بالقهر من الإنسان، وإلزام بالحكم ومنه {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}. ينظر:(المرجع السابق).

(6)

الْإِجَارَةُ: تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ وَفِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ وَهِيَ كِرَاءُ الْأَجِيرِ. ينظر: (المغرب ص 20).

(7)

المبسوط للسرخسي (6/ 174).

ص: 20

قلت: إنما حملت هناك على معنى الباء؛ لأنّه لا غرض لها في طلاق فلانة، ليجعل ذلك كالشرط منها، ولها في اشتراط إيقاع الثلاث غرض صحيح كما قلنا، كذا في «المبسوط»

(1)

، فالمشروط لا يتوزّع على أجزاء الشرط حتّى إذا قال: أنت طالق ثنتين إذا دخلت هذه الدار وهذه الدّار، فدخلت أحديهما، لا تطلق ولو كان متوزّعًا على أجزاء الشرط لوقعت تطليقة واحدة بمقابلة دخول دار واحدة منهما.

بخلاف قوله طلقني ثلاثاً بألف وهي المسألة التي ذكرها في الكتاب قبيل هذه المسألة.

(وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ)، فقوله: لها أنت طالق بألف أو على ألف أو على أن تعطيني ألفاً أو خلعتك على ألف أو بارئتك

(2)

أو طلقتك بألف، يقع على القبول في المجلس، وهذا يمين من جهته، فيصحّ تعليقه وإضافته ولا يصحّ رجوعه ولا يبطل بقيامه عن المجلس، ويتوقّف على البلوغ إليها إذا كانت غائبة لأنّه تعليق الطّلاق بقبولها المال وهو من جهتها مناطة فلا يصحّ تعليقها وإضافتها ويصحّ رجوعها قبل قبول الزّوج ويبطل بقيامها عن المجلس كذا ذكره الإمام التمرتاشي رحمه الله.

وقال في «المبسوط» إن قبلت في ذلك المجلس وقع الطّلاق عليها والمال دين عليها تؤخذ به

(3)

؛ لأن كلام الزوج إيجاب للطلاق بِجُعل، وليس بتعليق بشرط الإعطاء، بمنزلة من يقول لغيره وبعت منك هذا العبد على ألف درهم، أو على أن تعطيني ألف درهم يكون إيجاباً لا تعليقاً، فإذا وجد القبول في المجلس وقع الطّلاق ووجب المال عليها، بخلاف قوله: إن جيتني أو إذا أعطيتني.

فإنه هناك قد صرّح بالتعليق بالشّرط فما لم يوجد الشرط لا يقع الطّلاق والدّليل على الفرق أنه هناك لو كان لها على الزّوج ألف فاتفقا على جعل الألف قصاصاً بما عليه لا يقع الطّلاق، وههنا يصير قصاصاً بالدّين الذي لها عليه، وقد يجوز أن يثبت الحكم بالقبول مع التصريح بالإعطاء قال الله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}

(4)

الآية، وبالقبول يثبت حكم الذمة، فإذا ثبت أن الحكم هنا يتعلّق بقبول المال بشرط القبول منها في المجلس فإن لم يقبل حتى قامت فهو باطل، والطّلاق باين؛ لما قلنا وهو ما ذكر من الحديث والمعنى بقوله، ولأنّها لا تسلم المال إلا لتسلم لها نفسها.

(1)

المبسوط للسرخسي (6/ 174).

(2)

المبارأة: فهي مفاعلة وتقتضي المشاركة في البراءة، وهي في الاصطلاح اسم من أسماء الخلع، والمعنى واحد، وهو بذل المرأة العوض على طلاقها. ينظر:(الموسوعة الفقهية الكويتية 1/ 143)

(3)

المبسوط للسرخسي (6/ 173).

(4)

سورة التوبة (الآية/ 29).

ص: 21

(وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَلْفُ إذَا قَبِلَ) فإِذَا لَمْ يَقْبَلْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، فعُلم بهذا أنّ الخلاف في موضعين:

أحدهما: أن عند قبول المرأة أو العبد المال يقع الطلاق والعتاق مجاناً عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يعتبر بقبولهما، وعندهما يجب على المرأة والعبد المال عند القبول

(1)

.

والثاني: أنهما إذا لم يقبلا المال يقع الطلاق والعتاق أيضاً عند أبي حنيفة رحمه الله، كما عند القبول، وعندهما عند عدم قبول المال لا يقعان، وعلى هذا الخلاف إذا قالت المرأة لزوجها: طلّقني ولك ألف درهم، وكذلك العبد إذا قال لمولاه: أعتقني ولك ألف درهم، هما يقولان: الطّلاق بالمال والعتاق بالمال عقد معاوضة، فالبدل المقرون بهذا اللفظ يكون عوضاً كما في البيع والإجارة

(2)

.

يوضحه أن الواو قد يكون بمعنى الحال، ولا وجه لتصحيح كلامه إلا أن يُحمل على ذلك، فيصير كأنّه قال: أنت طالق في حال ما يجب لي عليك ألف درهم، ولا يكون ذلك إلا بعد قبولها، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: قوله أنت طالق إيقاع

(3)

.

وقال: (وَعَلَيْك أَلْفٌ) درهم، عطف فإن الواو للعطف حقيقة والكلام محمول على حقيقته حتّى يقوم الدّليل على المجاز، وأحد العوضين لا يعطف على الآخر، وكذلك الشرط لا يُعطف على الجزاء، فعرفنا أنّه ابتداء كلام غير متعلّق بما سبق فيبقى إيقاع الطّلاق والعتاق متعرياً عن البدل والشرط.

وقال (وَعَلَيْك أَلْفٌ) دعوى مال عليها ابتداء، وقولها ولك ألف درهم إيجاب صلة مبتدأة له فكان وعدًا منها إيّاه المال، والمواعيد لا يتعلّق بها اللزوم، ولأنّ أكثر ما في الباب أن يكون حرف الواو محتملاً لجميع ما ذكرنا والمال بالشّك لا يجب

(4)

.

بخلاف قوله: أدّ إلي ألفاً وأنت حرّ، لأنّ أوّل كلامه غير مفيد شيئاً إلا بأخذه،/ 363 ب/ فإنّه يصير به تعليقاً للعتق بأداء المال، وههنا أوّل الكلام إن صدر من الزوج بأن قال: أنت طالق وعليك ألف درهم، كان إيقاعاً مقيدًا منه بدون آخره، فلا حاجة إلى أن يحمله على الحال وإن صدر منها فهو التماس صحيح منها على ما ذكرنا فلهذا لا يحمل على واو الحال، كذا ذكره الإمام السرخسي

(5)

(6)

رحمه الله.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 524)، العناية شرح الهداية (4/ 229).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 229).

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 142)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/ 137)

(4)

ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (4/ 230).

(5)

هو محمد بن أحمد بن أبي سهل، أبو بكر السرخسي، شمس الأئمة، قاض، من كبار الأحناف، مجتهد، صاحب المبسوط، أملاه وهو سجين بالجب، كان عالمًا، أصوليًّا، مناظرًا، توفي سنة 483 هـ، سرخس: بفتح السين والراء المهملتين وسكون الخاء المعجمة، بلدة مشهورة بخراسان.

ينظر: معجم البلدان (3/ 208)، تاج التراجم (ص: 234)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 28).

(6)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 181)

ص: 22

لِأَنَّهُمَا لَا يُوجَدَانِ دُونَهُ، أي: لأنّ البيع والإجارة لا يوجدان بدون المال، فكان دليل المجاز هناك قائمًا من حيث أنّهما يستدعيان العِوض لا محالة بخلاف ما نحن فيه.

ألا ترى أن في الإجارة لو قال للخيّاط خُط هذا الثوب ولم يذكر العوض يكون استئجار بأجر المثل، وهنا إذا لم يذكر العوض لا يجب، كذا ذكره شمس الأئمة، وقاضي خان

(1)

(2)

.

(وإِنْ رَدَّتْ الْخِيَارَ فِي الثَّلَاثِ بَطَلَ)، أي ردّت خيار الطّلاق بطل الطلاق ولا يقع.

وذكر في «الجامع الصّغير» لقاضي خان رحمه الله فإن ردّت الطلاق في الأيّام الثلاثة بطل الطّلاق

(3)

، وإذا جازت الطّلاق أو لم ترد حتى مضت مدة الخيار فالطّلاق واقع ويلزمها الألف، والتصرفان وهما إيجاب الزّوج وقبول المرأة، أمّا إيجاب الزوج فإنّه يمين؛ لأنّه ذكر شرط وجزاء معنى، واليمين لا يقبل الفسخ، وأمّا قبول المرأة فإنّه شرط تمام اليمين، وإن يمين الزّوج يتم بقبول المرأة، فأخذ قبولها حكم اليمين في عدم احتمال الانفساخ، والخيار للفسخ بعد الانعقاد، وهذا أن التصرفان لا يحتملان الانفساخ فلذلك لغا ذكر شرط الخيار

(4)

من الجانبين، ولأبي حنيفة رحمه الله أنّ الخلع في جانبها بمنزلة البيع حتّى يصح رجوعها ولا يتوقّف على ما وراء المجلس، وهذان الحكمان بالاتفاق؛ لأنّه ذكر في سائر المواضع من شرح فخر الإسلام

(5)

وشمس الإسلام

(6)

وغيرهما بلفظ: "ألا ترى أنّها لو رجعت صحّ ولو قامت بطل كما في البيع"

(7)

.

(1)

هو حسن بن منصور بن أبي القاسم محمود بن عبد العزيز، فخر الدين، المعروف بقاضي خان الأوزجندي الفرغاني فقيه حنفي، من كبار الحنفية، تفقه على أبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي نصر الصفّاري، وظهير الدين أبي الحسن علي بن عبد العزيز المرغيناني، وغيرهما، من تصانيفه (الفتاوى) و (الأمالي)، و (شرح الزيادات) و (شرح الجامع الصغير)، توفي سنة 592 هـ.

انظر: تاج التراجم (ص: 151)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 383)، سير أعلام النبلاء (21/ 231).

(2)

ينظر: المبسوط للسرخسي (15/ 101)، المحيط البرهاني في الفقه النعماني (4/ 31)

(3)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (2/ 271)، البحر الرائق شرح كنز الدقائق (4/ 92)

(4)

خيار الشرط: أن يشترط أحد المتعاقدين الخيار ثلاثة أيام أو أقل. انظر: (التعريفات للجرجاني 1/ 102).

(5)

علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن مجاهد، أبو الحسن، فخر الإسلام البزدوي، الفقيه بما وراء النهر، فقيه أصولي، من أكابر الحنفية، له تصانيف، منها "المبسوط"، و"كنز الوصول" في أصول الفقه يعرف بأصول البزدوي، توفي يوم الخميس خامس رجب سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، ودفن بسمرقند.

انظر: تاج التراجم (ص: 205)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 372).

(6)

الأوزجندي الملقب شمس الْإِسْلَام مَحْمُود بن عبد الْعَزِيز أَبُو الْقَاسِم الملقب شمس الدّين جد قَاضِي خَان. ينظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 285)

(7)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 231).

ص: 23

فأمّا قولهما: فمن جانبها شرط اليمين، قلنا: نعم قبول المرأة شرط في حق الزوج، فأمّا في نفسه فتمليك مال جعل شرطًا بهذا الوصف، كرجل قال لآخر: إن بعتك هذا العبد بكذا فعبدي هذا الآخر حرّ، أنّه معلّق بالمعاوضة فلم يمنع كونه معاوضة عن أن يكون شرطًا لليمين فكذا هذا.

وإذا كان كذلك ثبت فيه الخيار، ثم لما بطل القبول بالردّ بحكم الخيار، بطل كونه شرطًا؛ لأنّ كونه شرطًا قائم بهذا الوصف وهو أنّه تمليك مال، والعقود ثلاثة أقسام: لازم لا يحتمل الفسخ وهو النكاح، وغير لازم فلا يليق به الخيار كالوكالة، ولازم يحتمل الفسخ وهو البيع والكتابة ونحوهما، والخيار ما شرع إلا في هذا القسم، إلى هذا أشار فخر الإسلام رحمه الله

(1)

.

فإن اختارت في ذلك المجلس فلها ما اختارت وإن لم تقل شيئاً حتى قامت فالطّلاق واقع والخلع ثابت.

قال الفقيه أبو الليث

(2)

رحمه الله: وبه نأخذ، كذا في الفصول للإمام الاستروشني

(3)

(4)

.

وجانب العبد في العتاق مثل جانبها في الطّلاق، يعني يصحّ الخيار من العبد إذا خيّره المولى في الإعتاق على مال، كما يصحّ الخيار في الخلع من جانب المرأة، والجامع بينهما هو أن للمرأة لا يحصل شيء؛ لأنّ البضع ليس له حكم مال عند الخروج، وكذلك مالية العبد يتلف على ملك المولى للإعتاق، وقبول المال جائز في العتاق والطلاق.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ، إلى آخره وهو أنّ إيجاب الطلاق بالمال تعليق الطّلاق بالقبول، ولهذا لا يصحّ الرجوع منه فكان القبول شرطًا، والزوجان إذا اختلفا في وجود الشرط فالقول قول الزوج؛ لأنّ الإقرار

(5)

بالتعليق لا يكون إقراراً بوجود الشرط لأنّ التعليق يمين، فعند وجود الشرط لم يبق يمينًا، فكان وجود الشرط ضدّ اليمين، فكيف يكون الإقرار بالشيء إقراراً بضدّه.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 231).

(2)

نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السَّمَرْقَنْدي، أبو الليث، الملقب بإمام الهدى، علامة، من أئمة الحنفية، من الزهاد المتصوفين، له تصانيف نفيسة، منها:(بستان العارفين) و (تنبيه الغافلين) توفي 373 هـ.

انظر: تاج التراجم (ص: 310)، سير أعلام النبلاء (16/ 322).

(3)

محمد بن محمود الأستروشني، له كتاب "الفصول" في الفتاوى، وقال عبد القادر: الشروشني. والله أعلم. انظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: 279).

(4)

ينظر: عيون المسائل للسمرقندي الحنفي (ص: 115)، المبسوط للسرخسي (6/ 206).

(5)

الْإِقْرَار الِاعْتِرَاف يُقَال أقرّ يقر إِقْرَارا. انظر: (تحرير ألفاظ التنبيه ص 342).

ص: 24

فلما لم يتناول الإقرار باليمين الإقرار بوجود الشرط كان الإنكار بوجود الشرط بمنزلة الإنكار ابتداء، فكان القول قول المنكر كما في سائر الدّعاوى، وأمّا البيع فمعاوضة فلا يتمّ إلا بالإيجاب والقبول جميعًا، ولهذا يملك الرجوع قبل قبول المشتري، فكان الإقرار بالبيع إقراراً بالإيجاب والقبول جميعًا، فإذا أنكر القبول بعد ذلك كان رجوعًا عما أقرّ به فلا يصحّ حتّى لو قال لها: بعتك طلاقك أمس، فلم تقبلي، فقالت: قبلت، كان القول قولها، كما في بيع العروض، وكذا لو قال: لعبده بعتك نفسك أمس بألف فلم يقبل، وقال: العبد قبلت، كان القول قول العبد، ولو قال: أعتقتك أمس على ألف فلم يقبل، وقال العبد: قبلت، كان القول قول المولى وهذا والطلاق سواء.

قوله رحمه الله: لِصِحَّتِهِ بِدُونِهِ، أي لصحّة اليمين بدون الشرط على ما ذكرنا.

(وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ) إلى آخره.

يقال: بارأ شريكه أي أبرأ كل منهما صاحبه.

ومنه قولهم المبارأة كالخلع، وترك الهمزة خطأ كذا في المغرب

(1)

(2)

.

اعلم أن الرجل إذا قال لامرأته: خالعتك، ولم يذكر المال أصلاً، فقالت المرأة: قبلت لا يسقط شيء من المهر، هذا جواب ظاهر الرواية، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده

(3)

رحمه الله في أوّل إقرار «الكافي»

(4)

.

إذا قال: لها خالعتك، فقالت: قبلت، يقع الطّلاق وتقع البراءة للزوج عن المهر، إن كان عليه مهر، وإن لم يكن عليه مهر يجب عليها ردّ ما ساق إليها من المهر؛ لأنّ المال مذكور عرفاً بذكر الخلع، وهكذا ذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي

(5)

رحمه الله

(6)

.

(1)

كتاب المُغْرِب في ترتيب المعرب لإبي الفتح ناصر الدين بن عبد السيد بن علي بن المطرز حقق الْكِتَاب محمود فاخوري وعبدالحميد مختار وطبعته مكتبة أسامة بن زيد في سوريا يقول في مقدمة الْكِتَاب ترجمتُه بكتاب " المُغْرِب في ترتيب المُعْرب" لغرابة تصنيفه ورصانة ترصيفه وإلى الله سبحانه وتعالى أبتهل في أن ينفعني به وأئمةَ الإسلام ويجمعني وإياهم ببركات جمعه في دار السلام.

(2)

ينظر: المغرب في ترتيب المعرب (ص: 38).

(3)

هو محمد بن الحسين بن محمد، أبو بكر البخاري، المعروف ببكر خواهر زاده، أو خواهر زاده: فقيه، كان شيخ الأحناف فيما وراء النهر، مولده ووفاته في بخارى، له (المبسوط) و (المختصر) و (التجنيس) في الفقه، توفي سنة 483 هـ. ينظر: تاج التراجم (ص: 259)، اللباب في تهذيب الأنساب (3/ 20).

(4)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 340)، البناية شرح الهداية (5/ 526).

(5)

علي بن الحسين بن محمد السغدي، أبو الحسن: فقيه حنفي، أصله من السغد (بنواحي سمرقند) سكن بخارى، وولي بها القضاء، وانتهت إليه رياسة الحنفية، ومات في بخارى. من كتبه " النتف " في الفتاوى، و" شرح الجامع الكبير " توفي سنة 461 هـ. ينظر: الأعلام للزركلي (4/ 279).

(6)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 340).

ص: 25

وإذا قال - بالفارسية -: خويشين جريدم أرنو، وقال الزوج: وختم، يقع تطليقة بائنة ولا تردّ ما قبضت من المهر، وإن لم يقبض الزّوج من المهر؛ لأنّ الخلع يوجب البراءة، وإذا خالعها على مهرها فهذا على وجهين، أمّا إن خالعها والمهر مقبوض وذلك ألف درهم مثلاً، والمرأة مدخول بها كان عليها ردّ ما قبضت من المهر أو ردّ مثله، وإن كان غير مقبوض سقط عن الزّوج جميع المهر؛ لأنّه وجب للزوج عليها ألف درهم لأنّه خالعها على مهرها ومهرها ألف، فكان للمرأة على الزّوج مثل ذلك فيلتقيان قصاصاً، ولا يبيع صاحب بشيء من المهر لسبب الطّلاق في الفصلين جميعًا، وإن لم يكن الزوج دخل بها فخالعها والمهر مقبوض. فالقياس أن يرجع الزوج عليها بألف وخمسمائة ألف بدل الخلع وخمسمائة نصف المهر بالطلاق قبل الدخول.

وفي الاستحسان

(1)

يرجع عليها بألف درهم لا غير خمسمائة بدل الخلع وخمسمائة بالطّلاق قبل الدخول.

وإن كان المهر غير مقبوض فالقياس أن يرجع الزوج عليها بخمسمائة.

وفي الاستحسان لا يرجع عليها بشيء ويبرأ عن جميع المهر.

وبيان وجه الاستحسان أنّه أضاف الخلع إلى مهرها ما يجب لها بالنكاح، والواجب لها بالنكاح متى ورد الطّلاق قبل الدخول نصف المهر وذلك خمسمائة، فكأنه خالعها على خمسمائة.

هذا إذا خالعها على جميع مهرها، وإن خالعها على قبض مهرها، فإن خالعها على عشر مهر مثلاً والمهر مقبوض وذلك ألف والمرأة مدخول بها فللزّوج عليها من المهر بأنه بدل الخلع، والباقي سالم لها، وإن كان غير مقبوض سقط عن الزوج عشر المهر بدل الخلع بلا خلاف، ويسقط التسع مائة الباقية بسبب الخلع عند أبي حنيفة رحمه الله

(2)

؛ لأن الخلع عنده يوجب براءة كل واحد منهما صاحبه عن حقوق النكاح، وسمّى ذلك في الخلع أو لم يسمّ.

وعندهما لا يسقط التسع مائة الباقية؛ لأن عندهما لا يسقط بالخلع إلا ما سميا فيه هذا إذا خالعها على جميع مهرها أو على بعض مهرها، وإن بارأها على جميع مهرها أو على بعض مهرها فعند محمد رحمه الله الجواب فيه كالجواب في الخلع لا يسقط إلا ما سميّا فيه، وعندهما الجواب فيه كالجواب في الخلع على قول أبي حنيفة رحمه الله حتّى يرى كلّ واحد منهما عن صاحبه عن جميع حقوق النكاح.

(1)

الاستحسان: في اللغة: هو عد الشيء واعتقاده حسنًا، واصطلاحًا: هو اسمٌ لدليل من الأدلة الأربعة يعارض القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى منه. ينظر: (التعريفات للجرجاني ص 18).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 340).

ص: 26

وأمّا إذا خالعها على مال مسمّى معروف سوى الصداق، فإن كان المرأة مدخولاً بها والمهر مقبوض فإنّها تسلم إلى الزوج بدل الخلع ولا ترجع على الزوج شيء من المهر عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، بناء على الأصل الذي قلنا

(1)

.

وأما إذا كانت المرأة غير مدخول بها والمهر مقبوض، فإنّ الزوج يأخذ منها بدل الخلع، ولا يرجع عليها بنصف المهر بسبب الطلاق قبل الدخول عند أبي حنيفة

(2)

.

وإن لم يكن المهر مقبوضاً، يأخذ الزّوج منها بدل الخلع وهي لا ترجع على زوجها بنصف المهر عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما

(3)

.

وأما إذا بارأها بمال معلوم سوى المهر، فالجواب فيه عند محمد كالجواب في الخلع عنده، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف الجواب فيه كالجواب في الخلع عند أبي حنيفة رحمه الله.

وأما نفقة العدّة ومؤنة السكنى، إن شرط ذلك في الخلع والمبارأة يقع البراءة عنهما للزوج بلا خلاف، وإن لم يشترط ذلك في الخلع والمبارأة لا تقع البراءة بالإجماع أمّا على قولهما فلا يشكل، وأمّا على قول أبي حنيفة رحمه الله فلأنّ عنده الخلع إنما يوجب البراءة عن حقوق قائمة وقت الخلع، ونفقة العدّة تجب شيئاً فشيئاً، والخلع لا يمنع ثبوت حق بعده بسبب يوجد بعده كذا في الذخيرة

(4)

.

وذكر في «المبسوط» وإن اختلعت منه بشيء يسمّى معروف، ولها عليه مهر وقد دخل بها أو لم يدخل بها لزمها، فأسميت له ولا شيء لها ممّا سمّي على الزوج من المهر، في قول أبي يوسف ومحمّد -رحمهما الله- لها أن يرجع عليها بالمهر، إن كان قد دخل بها، وبنصف المهر إن كان لم يدخل بها.

وكذلك لو كانت أخذت المهر ثم خلعها قبل الدخول على شيء مسمّى، فليس للزوج أن يرجع عليها شيء من المهر في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمّد يرجع عليها بنصف المهر، وإن كان العقد بينهما بلفظ المبارأة، فكذلك الجواب في قول أبي حنيفة ومحمّد رحمه الله

(5)

.

يعني عند أبي حنيفة رحمه الله تسقط الحقوق الواجبة بالنكاح، كما هو مذهبه في الخلع، وعند محمد لا يسقط كما هو مذهبه في لفظ الخلع.

وقال أبو يوسف رحمه الله في المبارأة الجواب كما قاله أبو حنيفة رحمه الله

(6)

، والحاصل أن الخلع والمبارأة عند أبي حنيفة رحمه الله يوجبان براءة كل واحد منهما على صاحبه من الحقوق الواجبة بالنكاح إلى آخره كما هو المذكور في الكتاب

(7)

.

(1)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 341)، العناية شرح الهداية (4/ 233).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 342).

(3)

ينظر: المرجع السابق.

(4)

ينظر: المرجع السابق.

(5)

المبسوط للسرخسي (6/ 189).

(6)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 189).

(7)

ينظر: المرجع السابق.

ص: 27

وجه قول محمد رحمه الله أن هذا إطلاق بعوض، فيجب به العوض المسمّى ولا يسقط شيء من الحقوق الواجبة، كما لو كان بلفظ الطّلاق.

والدليل عليه أنّه لو كان لأحدهما على الآخر دين واجب بسبب أو عين في يده لا يسقط شيء من ذلك بالخلع والمبارأة.

فكذلك الحقوق الواجبة بالنكاح، والدّليل عليه أن نفقة عدتها لا تسقط وهي من الحقوق الواجبة بالنكاح فكذلك المهر، وأبو حنيفة رحمه الله يقول المقصود بهذا العقد لا يتم إلا بإسقاط الحقوق الواجبة بالنكاح، فلإتمام المقصود يتعدّى حكم هذا العقد إلى الحقوق الواجبة بالنكاح لكلّ واحد منهما وهذا لأنّ الخلع إنّما يكون عند النشوز، وسبب النشوز الوصلة التي بينهما بسبب قيام انقطاع المنازعة، والنشوز إنما يكون بإسقاط ما وجب باعتبار تلك الوصلة، وفي لفظها ما يدل عليه، فإن المبارأة مشتقّة من البراءة، والخلع من الخلع وهو الانتزاع.

وأمّا سائر الديون فوجوبها ما كان بسبب وصلة النكاح والنشوز والمنازعة لم يتحقق فيه؛ فلذلك لا يسقط، وأمّا نفقة العدّة فهي غير واجبة عند الخلع، وإنما تجب شيئاً فشيئاً والخلع والمبارأة إسقاط لما هو واجب بحكم النكاح في الحال.

وذكر قبيل هذا في «المبسوط» فإن كان الزوج اشترط عليها البراءة من النفقة والسكنى فهو بريء من النفقة؛ لأنّها أسقطت حقّها، ووجوب النفقة لها في العدّة باعتبار حالة الفرقة، حتّى إذا كانت ممّن لا يستحق النفقة عند ذلك لا يستحقّها من بعد فيصح إسقاطها، ولكن في ضمن الخلع تبعًا له، حتى لو أسقطت نفقتها بعد الخلع بإبراء الزوج عنها لا يصح ذلك؛ لأنها مقصودة بالإسقاط، فلا يكون إلا بعد وجوبها، وهي تجب شيئاً فشيئاً بحسب المدة، ولا يصح إبراؤها عن السكنى في الخلع؛ لأن خروجها من بيت الزوج معصية، قالوا: ولو أبرأته عن مؤنة السكنى بأن سكنت بيت نفسها، أو التزمت مؤنة السكنى من مالها، صحّ ذلك مشروطًا في الخلع؛ لأنّه خالص حقها

(1)

.

(وَمَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةً بِمَالِهَا لَمْ يَجُزْ) ذكره الإمام قاضي خان -رحمه

الله-

(2)

(3)

.

(1)

المبسوط للسرخسي (6/ 172).

(2)

حسن بن منصور بن أبي القاسم محمود بن عبد العزيز، فخر الدين، المعروف بقاضي خان الأوزجندي الفرغاني فقيه حنفي، من كبار الحنفية، تفقه على أبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي نصر الصفّاري، وظهير الدين أبي الحسن علي بن عبد العزيز المرغيناني، وغيرهما، من تصانيفه:(الفتاوى) و (الأمالي)، و (شرح الزيادات)، و (شرح الجامع الصغير)، توفي سنة 592 هـ.

انظر: تاج التراجم (ص: 151)، الأعلام للزركلي (2/ 224)، سير أعلام النبلاء (21/ 231).

(3)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/ 146).

ص: 28

وقول محمّد -في الكتاب-: لم يجز، محتمل أن لا يقع الطلاق، والصحيح أنّ الطلاق واقع وعدم الجواز منصرف إلى المال، نصّ عليه في «المنتقى»

(1)

، فقال: لأنّ لسان الأب كلسانها

(2)

.

ولو خلع امرأته الصغيرة على مهرها فقبلت، أو قالت الصغيرة لزوجها: اخلعني على مهري، ففعل، وقع الطلاق بغير بدل.

وكذا الأمة إذا اختلعت من زوجها بغير إذن المولى، إلا أنّ الأمة تؤاخذ بالبدل بعد العتق؛ لأنّها من أهل الالتزام، والمانع حق المولى وقد زال، والصغيرة لا تؤاخذ به أصلاً؛ لأنّها ليست من أهل الالتزام.

بِخِلَافِ النِّكَاحِ، أي أن البضع متقوّم عند الدخول، حتّى أنّ الرجل إذا زوّج ابنه الصغير امرأة بمهر المثل يصحّ؛ لأنّ قابل المتقوّم بالمتقوم لأنّ البضع متقوّم والصداق متقوّم.

قوله رحمه الله: "وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ" متصل بقوله "غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ".

وقوله: "وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ"، يتصل، بقوله:"مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ"، وإذا لم يجز الخُلع لما أنّ ولاية الآباء مقيدة بشرط النظر، ولا نظر في هذا العقد؛ لأنّه قابل متقومٌ وهو مال الصغير، بغير المتقوّم وهو البضع، لما ذكرنا أنّ البضع حالة الخروج غير متقوم هل يقع الطّلاق عن الصغيرة؟ فيه روايتان إذا قبل الأب.

(فَإِنْ قَبِلَتْ) هي إن كانت من أهل القبول بأن كانت تفقه أنّ الخلع شرع سالباً والنكاح شرع جالباً، (وَقَعَ الطَّلَاقُ) بالاتفاق، ولا يلزمها المال وإن لم تقبل هل يقع؟ ذكر شيخ الإسلام جواهر زاده رحمه الله اختلفوا فيه، وذكر أبو اليُسر رحمه الله والصّحيح أنّه يقع

(3)

.

وفي شرح الشهيد رحمه الله فيه روايتان والأصحّ أنّه يقع؛ لأنّ العاقد هو الأب فيعتبر بقوله، فالزّوج علق وقوع الطّلاق بقوله، ولو علّق بشرط آخر، كما إذا علق بدخوله الدار وغيره، فكذا إذا علّق بقبوله، ولهذا المعنى قلنا: أنّه إذا خالع امرأته وهي صغيرة عاقلة وقبلت، يقع الطلاق وإن كان لا يسقط المهر كذلك ههنا

(4)

.

وجه الرواية التي قال لا يقع، هو أنّ الخلع في معنى اليمين، والأيمان لا تجري فيها النيابة

(5)

، ولو انعقد من الأب انعقد بطريق النيابة، إلا أن هذا لا يقوى فإن الأب يوجد منه شرط اليمين لا نفس اليمين، وشرط اليمين يصحّ من كلّ أحد، كذا في شرح صدر الإسلام وقاضي خان والتمرتاشي

(6)

.

(1)

المنتقى، في فروع الحنفية، للحاكم الشهيد أبي الفضل: محمد بن محمد بن أحمد. ينظر: كشف الظنون (2/ 1851).

(2)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (2/ 274)، العناية شرح الهداية (4/ 237).

(3)

ينظر: الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار (ص: 237).

(4)

ينظر: المرجع السابق.

(5)

ينظر: (قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/ 172).

(6)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 353)، العناية شرح الهداية (4/ 239).

ص: 29

فإن خلعها على ألف على أنّه ضامن فالخلع واقع، أي جائز.

فإن قيل: الضمان عبارة عن تحمل ما على الأصيل وبدل الخلع هنا غير واجب على غيره بالإجماع، فكيف يصح الضمان منه؟ قلنا المراد من الضّمان هنا التزام المال لا التحمل بطريق التجوّز، كذا في فوائد الظهيرية

(1)

.

وذكر الإمام قاضي خان ولم يرد بهذا الضّمان الكفالة

(2)

عن الصغيرة؛ لأنّ الزّوج لا يستحق مالاً على الصغيرة، فلا يكون كفالة، لكن تفسير الضمان التزام الألف ابتداء لا بجهة الكفالة

(3)

.

لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى، فوجه الأولوية ظاهر وهو أن للأب ولاية التصرف في مال ولده الصغير بيعًا وشرى وإجارة وإبضاعاً

(4)

وإيداعاً

(5)

، ولا تجوز هذه التصرفات من الأجنبي، ثم اشتراط بدل الخلع على نفسه تصرّف من التصرفات، فلما جاز ذلك من الأجنبي مع أنّه ليس ولاية عامة التصرفات في مال الصغير فلأن يجوز من الأب وله ذلك أولى.

فإن قلت: ما الفرق بين هذا ما إذا أعتق عبده على مال على الأجنبي حيث لا يصحّ، ويعتق العبد مجانًا، وكذا لو تزوّج وشرط المهر على غيره لا يصحّ، وكذا إذا باع شيئاً وشرط الثمن على غير المشتري لا يصحّ، وهنا اشتراط بدل الخلع على الأجنبي أو على الأب جائز؟.

قلت: إنّما جاز ضمان الأجنبي أو الأب ههنا؛ لأن الأجنبي أو الأب في معنى المرأة في باب الخلع، لما أنّ المرأة لا تملك بالخلع شيئاً، بل يسقط ملك الزوج، وجاز أخذ المال منها إذا رضيت بوجوب المال، فكذلك يجوز أخذ المال من الأجنبي إذا رضي بوجوب المال.

بخلاف العتق فإنّ الأجنبي هناك ليس في معنى العبد في حق التزام المال، فإنّ العبد يحصل له الحرية

(6)

والعتق، الذي هو عبارة عن القوة، يقال: عتق الفرخ إذا قوي وطار عن وكره

(7)

، والقوة معنى يثبت فيه بالعتق ولا يحصل للأجنبي شيء، فلم يكن الأجنبي في معنى العبد؛ فلذلك لم يجز أن تثبت القوة في العبد وعوضه مستحق على غيره، وكذلك في البيع والنكاح.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (8/ 60)، العناية شرح الهداية (3/ 356).

(2)

الكفيل: الضامن، والكفالة ضم ذمة إلى ذمة في حق المطالبة، ويقال للمرأة: كفيل أيضاً. ينظر: (المغرب ص: 413).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (2/ 274).

(4)

الإبضاع: هو بعث المال مع من يتجر به تبرعًا، والربح كله لرب المال. ينظر:(المغني لابن قدامة 5/ 24)، (الشرح الكبير على متن المقنع 5/ 143)، (شرح الزركشي على مختصر الخرقي 4/ 132).

(5)

الإيداع هو تسليط الغير على حفظ ماله. (كنز الدقائق ص: 531)

(6)

الحُرِّيةُ: أَلا يكون تَحت رق الْمَخْلُوقَات، وَلَا يجْرِي عَلَيْهِ سُلْطَان المكونات. ينظر:(معجم مقاليد العلوم ص 220).

(7)

وَكْرُ الطَّائِرِ: عُشُّه. ينظر: (لسان العرب 5/ 292).

ص: 30

وحاصله أنّه يجوز اشتراط البدل على الأجنبي في الإسقاطات

(1)

دون الإثباتات

(2)

، غير أن في اشتراط المهر على الغير يبقى النكاح بلا مهر، والنكاح بلا مهر جائز لمهر المثل، وفي اشتراط الثمن على غير المشتري يبقى البيع بلا ثمن، والبيع بلا ثمن فاسد، فلما كان الخلع من باب الإسقاطات كان وجوب المال على الأجنبي بمقابلة الإسقاط، وهو جائز، ألا ترى أنّ رسول الله عليه السلام جوّز قضاء الدّين، وأنّه إسقاط وليس بتمليك؛ لأنّ تمليك من غير مَن عليه الدّين باطل، فلما جاز في قضاء الدّين، جاز في الخلع إلى هذا أشار صدر الإسلام وصاحب «الفوائد» وقاضي خان

(3)

.

اعلم أنّ ههنا مسألة ذكرها صاحب «الذخيرة»

(4)

، وهي أنّ بدل الخلع إذا كان مضافاً إلى الأجنبي إضافة ملك، الإضافة ضمان لا يشترط قبول المرأة، ولا تجعل المرأة عاقدة، صورته: أن يقول أجنبي للزّوج: خالع امرأتك على ألف عليّ أو علي ألف على أني ضامن، أو يقول: خالع امرأتك على عبدي هذا، أو على داري هذه، ففعل فالخلع واقع ولا يحتاج إلى قبول المرأة؛ لأنّ العاقد في هذه الصورة الأجنبي؛ لأن خطاب الخلع جرى منه فلا يشترط قبول المرأة، وذلك لأنّ القبول إنّما يشترط ممّن عليه البدل لا ممّن يقع عليه الطّلاق؛ لأنّ القبول إنما يشترط لوجوب البدل لا لوقوع الطّلاق.

وأمّا إذا قال الأجنبي: اخلع امرأتك على هذا العبد أو على هذه الدّار أو على هذا الألف، فالقبول إلى المرأة؛ لأن خطاب الخلع وإن جرى بين الأجنبي وبين الزّوج.

ولكنّ البدل مرسل.

وفي مثل هذه الصورة يجعل العاقد المرأة؛ لأنّه لم يدخل تحت ولاية الاب، لأنّه ليس من النظر، وإنما يدخل في ولاية الأب ما هو نظر للصغير فيه.

(وَإِنْ شَرَطَ الْأَلْفَ عَلَيْهَا)، أي: شرط الزوج الألف على الصغيرة، وإن كانت من أهل القبول بأن كانت تعقل العقد وتعبّر عن نفسها، كذا ذكره الإمام التمرتاشي رحمه الله

(5)

.

(1)

الإسقاط لغة: الإزالة، واصطلاحا: إزالة الملك أو الحق لا إلى مالك أو مستحق. ينظر: (الموسوعة الفقهية الكويتية 1/ 143).

(2)

الإِثْبَاتُ لُغَةً مَصْدَرُ أَثْبَتَ، بِمَعْنَى اعْتَبَرَ الشَّيْءَ دَائِمًا مُسْتَقِرًّا أَوْ صَحِيحًا، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الإِثْبَاتَ إِقَامَةُ الدَّلِيل الشَّرْعِيِّ أَمَامَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ عَلَى حَقٍّ أَوْ وَاقِعَةٍ مِنَ الْوَقَائِعِ. ينظر:(الموسوعة الفقهية الكويتية 1/ 232).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 96).

(4)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 362).

(5)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 239)

ص: 31

وإن قبله الأب عنها ففيه روايتان: هذا القبول هو في معنى الشرط في رواية يصحّ؛ لأنّ هذا نفع محض، لأنّ الصغيرة تتخلّص عن عهدته بغير مال فصحّ من الأب كقبول الهبة

(1)

.

وفي رواية لا يصح؛ لأنّ هذا القبول بمعنى شرط اليمين، وذلك ممّا لا يحتمل النيابة كذا في «المبسوط»

(2)

لفخر الإسلام

(3)

.

(وَإِنْ ضَمِنَ الْأَبُ الْمَهْرَ) أي في صورة خلع الأب مع الزّوج.

وَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ، أي يلزم الأب خمسمائة.

اسْتِحْسَانًا؛ لأنّ المسألة مصوّرة فيما إذا لم يدخل الزّوج بها، بدليل إيراد أصل هذه المسألة في الكبيرة التي لم يدخل بها، ثم لما كانت الصغيرة غير مدخول بها، وكان المهر ألفاً فأضافت الخلع إلى مهرها، ومهرها ما يجب لها بالنكاح، والواجب لها بالنكاح في الطّلاق قبل الدخول نصف المهر، وذلك خمسمائة، فكأنّه خالعها على خمسمائة صريحًا، وذكرنا قبيل هذا وجه الاستحسان والقياس عن الذخيرة

(4)

.

ففي القياس عليها خمسمائة زائدة تجر زايدة؛ لأن الصفة تتبع المضاف إليه في الإعراب كما في قوله تعالى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ}

(5)

، هكذا قال شيخي

(6)

رحمه الله مراراً والله أعلم

(7)

.

‌باب الظهار

لمّا شَرَعَ في بيان التحريمات الأربع التي ذكرناها في أوّل الإيلاء وذكر منها الطّلاق والإيلاء فبقي الظهار واللعان، بدأ بذكر بيان الظهار، وقدّمه على اللعان؛ لما أنّه أقرب إلى الإباحة من سبب اللعان، فإن سبب اللعان عند إضافته إلى غير منكوحته موجب لحدّ القذف

(8)

فموجب الحدّ معصية محضة بغير شائبة الإباحة.

(1)

من الوهب، وَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ. ينظر:(فتح القدير للكمال ابن الهمام 9/ 19)

(2)

مبسوط فخر الإسلام، لعلي بن محمد البزدوي. المتوفى: سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، في: أحد عشر مجلدًا. ينظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (2/ 1581) ..

(3)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (2/ 274).

(4)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 393).

(5)

سورة يوسف (الآية/ 43).

(6)

إذا قال شيخي فالمراد به محمد بن محمد بن نصر البخاري كما نص على ذلك في المقدمة.

(7)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 529).

(8)

وَالْقَذْفُ لُغَةً الرَّمْيُ بِالشَّيْءِ، وَفِي الشَّرْعِ: رَمْيٌ بِالزِّنَا، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. ينظر:(فتح القدير للكمال ابن الهمام 5/ 316).

ص: 32

اعلم أنّ الظهار لغة: قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، وشرعًا هو عبارة عن تشبيه المنكوحة بالمحرمة على سبيل التأبيد اتفاقاً بنسب أو رضاع أو صهرية

(1)

.

وإنّما قيّدنا بقولنا اتفاقاً احترازاً عن قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر فلانة، وهي أم المزني

(2)

بها أو ابنة المزني بها، فإنّه لا يكون مظاهراً؛ لأن من الفقهاء من يقول: أنّ الحرام لا يحرّم [الحلال]

(3)

، كذا في «شرح الطّحاوي»

(4)

(5)

(6)

.

وركن الظهار [هو]

(7)

قوله لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، أو ما يقوم مقامه في إفادة معناه.

وشرطه من جانب المشبه أن يكون عاقلاً بالغًا مسلمًا، ومن جانب المشبّه بها أن تكون منكوحة، وحكمه حرمة الوطء والدّواعي

(8)

، مع بقاء أصل الملك إلى غاية الكفارة والظهار، كان طلاقاً في الجاهلية، وكان أحدهم إذا أراد أن يطلق امرأته جعلها في التحريم على نفسه كالمواضع التي لا يطّلع عليها من أمه كالظهر والفخذ والبطن والفرج، ثم نظروا فلم يجدوا موضعًا أحسن في الذكر ولا أستر من الظهر مع إصابة المعنى الذي أرادوه، فاستعملوه دون غيره، ثم نزل القرآن بما كانوا يعرفونه.

(1)

لغةً الأصْهارُ: أهل بيت المرأة. ينظر: (الصحاح 2/ 717)، وشرعاً: تطلق على قرابة سببها النكاح. ينظر: (مغني المحتاج 4/ 210)، (البحر الرائق 2/ 339)، شرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/ 156).

(2)

الزِّنَا فِي اللُّغَةِ: الْفُجُورُ. ينظر: (لسان العرب 5/ 47).

وشرعاً: ما يوجب الحد وما لا يوجبه، وهو وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهته. ينظر:(فتح القدير للكمال ابن الهمام (5/ 247).

(3)

سقت من (ب).

(4)

أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزديّ الطحاوي، أبو جعفر، فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، ولد ونشأ في (طحا) من صعيد مصر، وتفقه على مذهب الشافعيّ، ثم تحول حنفيا ورحل إلى الشام سنة 268 هـ فاتصل بأحمد بن طولون، فكان من خاصته، من تصانيفه (شرح معاني الآثار) في الحديث، و (بيان السنّة)، وكتاب (الشفعة)، توفي بالقاهرة سنة 321 هـ.

انظر: وفيات الأعيان (1/ 71)، تاج التراجم (ص: 100)، سير أعلام النبلاء (15/ 27).

(5)

واسم كتابه (شرح مشكل الاثار)، حققه شعيب الأرنؤوط، وطبعته دار الرسالة.

(6)

ينظر: الحجة على أهل المدينة (3/ 371).

(7)

سقطت من (أ).

(8)

أَيْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ مِنْ الْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ. ينظر: (شرح التلويح على التوضيح 2/ 273)

ص: 33

وذكر في «المبسوط» : اعلم أنّ الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فقرّر الشرع أصله ونقل [حكمه]

(1)

إلى تحريم مؤقت بالكفارة من غير أن يكون مزيلاً للملك بيانه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}

(2)

الآية، وسبب نزول الآية قصّة خولة بنت ثعلبة

(3)

، فإنّها قالت: كنت تحت أوس بن الصامت

(4)

، وقد ساء خلقه لكبر سنّه فراجعته في بعض ما أمرني به، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم خرج فجلس في نادي قومه، ثم رجع إليّ فراودني عن نفسي، فقلت: والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يقضي الله ورسوله في ذلك، فوقع عليّ فدفعته بما تدفع به المرأة الشيخ الكبير، وخرجت إلى بعض جيرتي فأخذت ثياباً ولبستها، وأتيت رسول الله عليه السلام، فأخبرته بذلك، فجعل يقول لي: زوجك وابن عمك وقد كبر فأحسني إليه، فجعلت أشكو إلى الله ما أرى من سوء خلقه، فتغشّى رسول الله ما كان يتغشاه عند نزول الوحي، فلما سُرّى عنه قال: أنزل الله فيك وفي زوجك بياناً، وتلا قوله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}

(5)

إلى آخر آيات الظهار، ثم قال لها:«مريه فليعتق رقبة» ، فقلت: لا يجد ذلك يا رسول الله، فقال:«مريه أن يصوم شهرين متتابعين» ، فقلت: هو شيخ كبير لا يطيق الصّوم، فقال:«مريه فليطعم ستين مسكينًا» ، فقلت: ما عنده شيء يا رسول الله فقال: «إنا سنعينه بعرق

(6)

فقلت: وأنا أعينه بعرق أيضاً فقال: «افعلي واستوصي به خيراً»

(7)

(8)

.

(1)

في (أ): حله.

(2)

سورة المجادلة (الآية/ 3).

(3)

خولة بنت ثعلبة. وقيل: خويلة. والأول أكثر. وقيل: خولة بنت حكيم. وقيل: خولة بنت مالك بن ثعلبة بْن أصرم بْن فهر بْن ثعلبة بْن غنم بن عوف. ينظر: أسد الغابة (6/ 91).

(4)

أوس بْن الصامت بْن قيس بْن أصرم بْن فهر بْن ثعلبة بن غنم، وهو قوقل ابن عوف بْن عمرو بْن عوف بْن الخزرج الأنصاري الخزرجي أخو عبادة بْن الصامت. شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ظاهر من امرأته ووطئها قبل أن يكفر، وسكن هو وشداد بْن أوس الأنصاري البيت المقدس، وتوفي بالرملة من أرض فلسطين سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. ينظر: أسد الغابة (1/ 172).

(5)

سورة المجادلة (الآية/ 1).

(6)

العرق: هو مكتل من خوص النخل يسع خمسة عشر صاعا، والصاع أربعة أمداد، فهي ستون مدا. ينظر:(حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المحلي 2/ 91).

(7)

روى القصة أبوداود في سننه، كتاب الطلاق، باب في الظهار، (2214)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب الظهار، باب ذكر وصف الحكم للمظاهر من امرأته وما يلزمه عند ذلك من الكفارة، (4279)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الظهار، باب سبب نزول آية الظهار، (15243)، وروى القصة مختصرة الحاكم في المستدرك على الصحيحين، تفسير سورة المجادلة برقم (3791)، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"(2/ 523).

(8)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 224).

ص: 34

[قوله]

(1)

تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا}

(2)

يحتمل أن يراد يعودون لنقضه [أو]

(3)

لتداركه على حذف المضاف.

وعن ثعلب يعودون لتحليل ما حرموا على حذف المضاف -أيضاً- إلا أنّه نزل القول منزلة المقول فيه، وهو المظاهر منها، كما في قوله:{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}

(4)

كذا في «المغرب»

(5)

المهملة العين.

وقال علمائنا رحمهم الله: المراد من العود هو العزم على الجماع

(6)

، الذي هو إمساك بالمعروف

(7)

.

وقال الشافعي رحمه الله: المراد هو السكوت عن طلاقها عقيب الظهار

(8)

.

وقال داود

(9)

: المراد تكرار الظهار حتّى أن على مذهبه لا يلزمه الكفارة بالظهار مرة حتى يعيده مرة أخرى، وهذا ضعيف؛ لأنّه لو كان المراد هذا لكان يقول: ثم يعيدون ما قالوا، ولكن معنى قوله: يعودون له؛ أي ينقضون ما قالوا، كقول عاد لما صنع أي نقضه، ويقال: عاد في هبته إذا رجع وحروف [الصلات]

(10)

يُقام بعضها مقام بعض.

والشافعي يقول: كما سكت عن طلاقها عقيب الظهار، فقد صار ممسكًا لها فيتقرّر عليه الكفارة

(11)

.

ولكنّا نقول: المراد بقوله: ثم يعودون لما قالوا، أن يأتي بضدّ موجب كلامه وموجب كلامه التحريم لا إزالة الملك، فاستدامة الملك لا يكون ضدّه، بل ضدّه العزم على الجماع الذي هو استحلال، وبمجرّد العزم عندنا لا يتقرّر عليه الكفارة -أيضاً- حتى لو أبانها بعد هذا أو ماتت لا يلزمه الكفارة، ولو عاد ثم بدا له أن لا يطأها سقطت الكفارة، فكأنها تجب عندنا بالعود غير مستقرة ولهذا يسقط بموته [وموتها]

(12)

؛ لأنّ الكفارة تجب بالعزم، والعزم يرد عليه النقض والفسخ ثم الكفّارة تجب بالظهار والعود فإنّ الله تعالى عطف العود على الظهار في بيان سبب الكفّارة، والمعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه.

(1)

في (أ): قال.

(2)

سورة المجادلة (الآية/ 3).

(3)

في (أ): و.

(4)

سورة مريم (الآية/ 80).

(5)

ينظر: المغرب في ترتيب المعرب (ص: 331).

(6)

يطلق الوطء على الجماع الذي هو إيلاج ذكر في فرج، ليصيرا بذلك كالشيء الواحد. فيقال: وطئ زوجته وطأ، أي جامعها. ينظر:(المغرب ص: 489).

(7)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 247)

(8)

ينظر: كفاية النبيه في شرح التنبيه (14/ 276).

(9)

داود بن علي بن خلف الأصفهاني: ولد سنة اثنتين ومائتين ومات سنة سبعين ومائتين وأخذ العلم عن إسحاق ابن راهويه وأبي ثور وكان زاهداً متقللاً. وكان من المتعصبين للشافعي وصنف كتابين في فضائله والثناء عليه وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد، وأصله من أصفهان ومولده بالكوفة، ومنشؤه ببغداد، وقبره بها. ينظر: طبقات الفقهاء (ص: 92).

(10)

في (أ): للصلات.

(11)

ينظر: الحاوي الكبير (10/ 449).

(12)

سقطت من (أ).

ص: 35

وإنّما اعتبر العود مع الظهار -والله أعلم-؛ لأنّ الظهار منكر من القول وزور وهو كبيرة محضة، والكبيرة المحضة لا تصلح سبباً لإيجاب الكفارة، فلما أعاد الظهار في حال بيان السببية، وعلق الكفارة به قرن العود بالظهار ليُخْفِ معنى الحرمة؛ [إذ العود]

(1)

باعتبار العود هو [بعض]

(2)

ما قال، فكان الظهار مع العود سبباً للكفارة، وإنّما جاز أداء الكفارة بعد الظهار قبل العود حقيقة، ولا يجوز تعجيل الحكم قبل تمام السّبب؛ لأنّ الكفارة إنما شرعت إنهاءً للحرمة الثابتة بالظهار، فلا يمكنه أن يوقع الفعل حلالاً إلا بعد إنهاء الحرمة بالكفارة، فجوّز التعجيل [على الفعل ليكون]

(3)

الفعل واقعًا بصفة الحلّ بعد انتهاء الحرمة، ونظير هذا الوضوء فإن سبب وجوبه القيام إلى الصّلاة

(4)

، قال الله تعالى: {[إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ]

(5)

فَاغْسِلُوا}

(6)

معناه إذا قمتم وأنتم محدثون.

لكن القيام إلى الصّلاة لما لم يصح مع الحدث

(7)

جوّز التقديم عليه ليكون القيام إلى الصّلاة في [حال]

(8)

الطّهارة، ويجب على المرأة أن تمنع الزّوج عن الاستمتاع بها حتّى يكفر وللمرأة أن تطالب الزوج بالوطء عند الحاكم وعلى الحاكم أن يجبره حتّى يكفر ويطأ؛ لأنّه أضرّ بها بالامتناع عن الوطء مع قيام الملك وفي وسعه إزالته بالتكفير، ثم هذه الحرمة لا تزول بسبب من أسباب الإباحة ما لم توجد الكفارة، لا بالنكاح ولا بملك اليمين

(9)

، ولا بإصابة الزوج الثاني، حتّى أن المظاهر إذا طلقها طلاقاً باينًا وانقضت عدتها، ثم تزوّجها لا يحلّ له وطؤها حتى يكفّر.

وكذلك لو كانت الزّوجة أمة الغير فظاهر منها ثم اشتراها حتّى بطل النكاح لم يحل له أن يطأها بملك اليمين حتّى يكفّر.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

في (أ): نقص.

(3)

سقطت من (ب).

(4)

الصلاة: في اللغة: الدعاء، وفي الشريعة: عبارة عن أركان مخصوصة، وأذكار معلومة، بشرائط محصورة في أوقات مقدرة، والصلاة أيضًا: طلب التعظيم لجانب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. ينظر: (التعريفات للجرجاني ص: 134)

(5)

سقطت من (ب).

(6)

سورة المائدة (الآية/ 6).

(7)

الحدث هو: الحالة الناقضة للطهارة شرعا. ينظر: (بدائع الصنائع 1/ 68)، (الحاوي الكبير 1/ 94).

(8)

في (أ): حالة.

(9)

ملك اليمين إذا أطلقت يراد بها العبد و الأمة. ينظر: (معجم الفروق اللغوية ص 512).

ص: 36

وكذلك لو كانت حرّة فارتدّت عن الإسلام، ولحقت بدار الحرب

(1)

فسبيت واشتراها.

وكذلك لو طلّقها ثلاثاً فتزوّجت بزوج آخر ثم عادت إليه بالنكاح لا يحلّ له وطؤها حتى يكفر، وإن صحّ النكاح، ولو كفر بعدما أبانها أو طلقها ثلاثاً صحّ التكفير، حتّى لو تزوّجها حلّ له وطؤها؛ لأن صحّة التكفير لا يعتمد قيام الملك، ولو كان الظهار موقتًا إلى وقت، بأن قال: أنت عليّ كظهر أمي يومًا أو شهراً أو سنة، ثم مضى الوقت، يسقط الظهار عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله

(2)

؛ لأنّ الشرع جعل التكفير مزيلاً للظهار المؤبد أو المطلق حتّى تنتهي الحرمة والموقت ينتهي بمضي الوقت.

ويصح تعليق الظهار بالشرط؛ لأنّ الظهار سبب الحرمة فكان نظير الطّلاق، فيصحّ تعليقه بالشّرط كما يصح تعليق الطّلاق بالشّرط.

ولو علّق الظهار بشرط، ثم أبانها، ثم وجد الشرط لم يثبت الظهار؛ لأنّ المعلّق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل، ولو أرسل الظهار بعد البينونة لا يصحّ؛ لأنّ حكم الظهار حرمة موقتة وسببه تشبيه المحللّة بالمحرمة، وكلّ ذلك لا يتصوّر بعد ثبوت البينونة.

وهذا بخلاف ما لو علّق البينونة بالشرط، ثم أبانها، ثم وجد الشرط حيث يقع الطلاق؛ لأن البينونة إذا صحّ تعليقها بالشرط صار تقديره كأنّه علّق الطلاق البائن بالشرط فينزل عند الشرط طلاق بائن، وإيقاع الطلاق على المبانة صحيح.

وإذا ظاهر من امرأته مراراً في مجالس مختلفة أو مجلس واحد فعليه لكلّ ظهار كفارة، هكذا روي عن علي رضي الله عنه

(3)

ولأن الظهار سبب الحرمة، واجتماع أسباب الحرمة في محلّ واحد جائز.

ألا ترى أن صيد الحرم [حرام]

(4)

على المحرم لإحرامه ولكون الصيد في الحرم.

وألا ترى أن الخمر على الصّائم حرام لعينه ولصومه وليمينه إن حلف أن لا يشربها، فلهذا وجب لكلّ ظهار كفارة، إلا أن يكون عنى بالثانية والثالثة الأولى فحينئذٍ لا يلزمه أكثر من كفارة واحدة؛ لأنّ صيغة الإخبار والإنشاء فيه واحد، وهذه الأحكام والعلل كلها منقولة من «المبسوط» و «الإيضاح»

(5)

و «التحفة»

(6)

و «المحيط

(7)

(8)

.

(1)

دار الحرب: هي كل بقعة تكون أحكام الكفر فيها ظاهرة. ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (1/ 349)، الأم للشافعي (1/ 298).

(2)

ينظر: المجموع شرح المهذب (17/ 354)

(3)

الأثر: لم أجده عن علي، وإنما أخرجه أبو يوسف (ت 182 هـ) في الآثار (ص 151) برقم (693) بلفظ:«إِنْ أَرَادَ التَّغْلِيظَ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ ظِهَارَهُ الْأَوَّلَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ الْيَمِينُ» .

(4)

غير موجودة في (أ) و (ب)، ويستقيم المعنى بإثباتها، ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 226)، المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 432).

(5)

كتاب الْإِيضَاحِ في شرح التجريد، لايزال مخطوط في ثلاث مجلدات مؤلفه عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن أميرويه، أبو الفضل الكرماني: فقيه حنفي مولده بكرمان ووفاته بمرو سنة 543 هـ. يُنْظَر: الأَعْلَام للزركلي (3/ 327).

(6)

تحفة الفقهاء لعلاء الدين محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي المتوفى سنة (539 هـ) والكتاب طبعته دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1405 هـ.

(7)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني المؤلف: محمود بن أحمد برهان الدين مازه كتاب في الفقه الحنفي ثم اختصره. وسماه: (الذخيرة)، نشرته: دار إحياء التراث العربي. ينظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (2/ 1619).

(8)

ينظر: المبسوط للسرخسي (9/ 157)، المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 432).

ص: 37

ثُمَّ الْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ، إلى آخره، وقال الشافعي رحمه الله: لا تحرم الدّواعي

(1)

؛ لأنّ التحريم عرف بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}

(2)

والتماس في القرآن كناية عن الجماع، إلا أنّا نقول والتماس حقيقة للمسّ باليد فهو على الحقيقة حتّى يقوم الدّليل على المجاز، كذا في «الأسرار»

(3)

، فتذكّر ههنا في حق حرمة الدّواعي ما ذكرناه في باب الاعتكاف

(4)

فإنّه أوفق دليلاً وأدوم تمشية لأنّه يكثر وجودهما.

فإن قيل: لما كثر وجودهما كانا هما أدعى إلى شرع الزاجر من الظهار فلم نعكس الأمر؟.

قلنا: كما أن أوقات الحيض

(5)

والصّوم أكثر دوراً كذلك أوقات الطهر والإفطار أكثر دوراً فلما كثر أوقات الطهر كان الجماع موجودًا فيها ظاهراً، فيوجب ذلك فتور رغبته في الجماع، فلا يليق فيه إيجاب الزاجر؛ لأنّ إيجاب الزّاجر يمنع وجود الجماع وبفتور الرغبة كان ممتنعًا عنه فلا يحتاج إلى إيجاب الزّاجر.

وهذا اللفظ إشارة إلى قوله: أنت عليّ كظهر أمي، لا يكون إلا ظهاراً؛ لأنّه صريح فيه يعني لو نوى الطّلاق أو الإيلاء أو قال: لم أنو شيئاً، يكون ظهاراً فلا يتمكّن من الإتيان به؛ لأنّ في ذلك يغير موضوع الشّرع وليس إلى العبد ذلك، بل له الامتثال بالمشروع ليس إلا تشبيه المحلّلة بالمحرّمة وحرف التعريف فيهما للعهد أي المحلّلة نكاحاً دون ملك اليمين، والمحرمة تأبيدًا لا توقيتًا، وهذا المعنى في عضو لا يجوز النظر إليه هذا احتراز عن التشبه باليد والرجل والشعر والظفر؛ لأنّه يحلّ النظر والمسّ فلا يكون مظاهراً بالتشبيه بهذا كذا في «المبسوط»

(6)

.

وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ رَأْسُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أي: يكون مظاهراً.

(1)

ينظر: الحاوي الكبير (10/ 452).

(2)

سورة المجادلة (3).

(3)

كتاب الأسرار، في الأصول والفروع، للشيخ العلامة أبي زيد عبيد الله بن عمر الدبوسي، الحنفي، وهو: مجلد كبير. لم يطبع، فيما اعلم. يُنْظَر: كشف الظنون (1/ 81) ..

(4)

الاعتكاف في اللغة: لُزُومُ الشَّيءِ والإقبال عليه، وفي الشرع: لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه. ينظر: (المطلع على ألفاظ المقنع ص 194).

(5)

الحيض: دم يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتاده وأصله من حاض السيل وفاض إذا سال. ينظر: (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي ص 46).

(6)

المبسوط للسرخسي (6/ 225).

ص: 38

يعني كما أنّ في المشبّه بها يشترط أن يكون في لفظه كلّ بدن المشبّه أو ما يعتبر به كلّ بدن [المشبه بها فكذلك يشترط أن يكون في لفظه كل بدن المشبه أو ما يعبر به كل بدن]

(1)

المشبه، لتحقيق الظهار؛ فلذلك صار مظاهراً في قوله: رأسك عليّ كظهر أمي، كما لو قال: أنت عليّ كظهر أمي، ولم يصر مظاهراً في قوله: يدك عليّ أو رجلك عليّ كظهر أمي، كما لم يكن مظاهراً في قوله: أنت عليّ كيد أمي أو كرجل أمي؛ لأنّ التشبيه بالكل أو بما يعتريه عن الكل مشروط في الطرفين في كونه مظاهراً.

وذكر في «المبسوط» ولو قال جنبك أو ظهرك عليّ كظهر أمي لم يكن مظاهراً بمنزلة قوله: يدك أو رجلك؛ لأنّ هذا العضو لا يعبر به عن جميع البدن عادة

(2)

.

وإن لم يكن له نية فليس بشيء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.

وذكر في «المبسوط»

(3)

وإن لم يكن له فيه فليس ذلك بشيء عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول محمّد رحمه الله هو ظهار، ولم يذكر قول أبي يوسف وعنه روايتان: أحديهما كقول محمد؛ لأنّه قال في الأمالي

(4)

: إذا كان هذا في حالة الغضب، وقال نويت به البر لم يصدق في القضاء وهو ظهار

(5)

.

وعنه أنّه قال: إيلاء؛ لما أنّ الأم محرمة عليه بالنصّ قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}

(6)

فكان قوله: أنت عليّ كظهر أمي، بمنزلة قوله: أنت عليّ حرام، وقد بينا في هذا اللفظ إذا لم ينو شيئاً يثبت أقلّ الوجوه وهو الإيلاء، وبنحو هذا يحتج محمّد رحمه الله

(7)

.

ولكنه يقول: هو ظهار لوجود كاف الخطاب في كلامه، فإنّ الظهار يختصّ بهذا الحرف، ومتى كان مراده أكبر بقوله: أنت عندي كأمي، ولا يقول: عليّ، إلا أنّه إذا نوى البر أقمنا حرف على مقام عند لتصحيح نيته، فإذا لم ينو بقي محمولاً على حقيقته فكان ظهاراً.

وأبو حنيفة رحمه الله يقول: كلام العاقل مهما أمكن حمله على وجه يحلّ شرعًا، لا يحمل على ما يحرم شرعًا

(8)

، والظهار منكر من القول وزور، فلا يحمل كلامه عليه إذا أمكن حمله على معنى البر والكرامة، يوضحه أنّها كانت محلّلة له، وهذا الكلام يحتمل معنى البر ويحتمل معنى الظهار، ولكن الحرمة لا تثبت بالشك، كما لا يثبت الطّلاق بالشك، وألحق في رواية «الجامع الصّغير» قوله: مثل أمي، بقوله: كأمي، فعند أبي يوسف رحمه الله هو إيلاء، ليكون الثابت أدنى الحرمتين؛ لأنّ حرمة الإيلاء أدنى من حرمة الظهار لستة أوجه من حيث السّبب ومن حيث الحكم ومن حيث معان أُخَر

(9)

.

(1)

سقطت من (أ).

(2)

المبسوط للسرخسي (6/ 228).

(3)

المبسوط للسرخسي (6/ 227).

(4)

كتاب الأمالي في الفقه، لأبي يُوسُف صاحب أبي حَنِيفَةَ، وهو من كتب النوادر في المذهب الحنفي التي أملاها أبي يُوسُف من مذهب أبي حَنِيفَةَ، بحثت عنه ولم أجد له طبعة، ولعله لا يزال مخطوطاً.

(5)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 228).

(6)

سورة النساء (الآية/ 23).

(7)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 228).

(8)

ينظر: المبسوط للسرخسي (18/ 10).

(9)

ينظر: الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار (ص: 239)، الاختيار لتعليل المختار (3/ 162).

ص: 39

أمّا السّبب فإنّ الظهار منكر من القول وزور، وسبب حرمة الإيلاء اليمين واليمين مباح، وأمّا الحكم فهو الوجه الثاني، فإن كفارة الظهار أغلظ وهو إطعام ستين مسكينًا، وكفارة الإيلاء إطعام عشرة مساكين، والثالث وهو أن الحرمة بالإيلاء تثبت في الحال، وأمّا حرمة الظهار فيثبت في الحال، والرابع هو أن دفع الحرمة الثابتة بالإيلاء ممكن بالوطء، [والوطء]

(1)

هو المقصود وفي الظهار لا يحلّ وطؤها ما لم يكفّر، والخامس هو أنّه إذا ظاهر امرأته ثم طلّقها ثلاثاً ثم تزوّجها بزوج آخر ثم عادت إلى الأوّل تعود بالظهار حتى لا يحلّ وطؤها ما لم يكفر، أما في الإيلاء إذا طلّقها ثلاثاً والمسألة بحالها لا يعود الإيلاء في حق الطلاق، والسّادس [وهو]

(2)

أنّ المظاهر إذا امتنع عن التكفير يجبره القاضي على التكفير بالحبس والضرب، ولا كذلك الإيلاء وعلى ما ذكرنا، فعلم بهذه الوجوه أنّ الإيلاء أخف، فثبت هو في حقه عند انعدام تعيين إحدى الحرمتين، ولكن ذكر الإمام قاضي خان في «الجامع الصّغير» وقال: وإن نوى به التحريم ذكر في بعض النسخ أنّه إيلاء عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف، والأصحّ أنّه ظهار عند الكلّ؛ لأن التحريم المؤكد بالتشبه ظهار، وكذلك ذكر الإمام التمرتاشي أنّه ظهار من غير ذكر خلاف أحدٍ

(3)

.

لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، أي لا غير وهي الطلاق والظهار لتصريحه بالحرمة بخلاف المسألة الأولى فإنّها كانت تحتمل البر والكرامة والوجهان بيناهما وهو قوله لِيَكُونَ الثَّابِتُ أَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ.

وقوله: لِأَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ تَخْتَصُّ بِهِ، ونوى طلاقاً أو إيلاءً أو لم يكن له نية كان ظهاراً، كذا في «المبسوط»

(4)

غير أن عند محمد إذا نوى الطّلاق لا يكون ظهاراً بل يكون طلاقاً.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَكُونَانِ جَمِيعًا

(5)

، أي يقع الطلاق بنيته ويكون مظاهراً بالتصريح بالظهار، ولا يصدّق في القضاء في صرف الكلام عن ظهاره؛ بمنزلة قوله: زينب طالق وله امرأة معروفة بهذا الاسم، فقال: لي امرأة أخرى وإياها عنيت يقع الطلاق على تلك بنيته، وعلى هذا المعروفة بالظاهر، ولكن هذا ضعيف، فإنّ الطلاق إن وقع بقوله: أنت عليّ حرام، كان متكلمًا بلفظ الظهار، بعدما بانت والظهار بعد البينونة لا يصحّ.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

سقطت من (ب).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 5).

(4)

المبسوط للسرخسي (6/ 227).

(5)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 229).

ص: 40

وإن قال: الظهار مع الطّلاق يثبت بقوله: أنت عليّ حرام، قلنا: اللفظ الواحد لا يحتمل معنيين مختلفين كذا في «المبسوط»

(1)

.

وذكر في «الفوائد الظهيرية» جواب أبي يوسف عن هذا فقال جاز أن يصح ظهارًا المبانة على قوله، وكان هذا رواية منه على صحة ظهار المبانة، ولأن هذا الكلام صريح في الظهار، ولهذا لو لم يكن له نية يكون ظهاراً، فلا يصدق في إبطال حكم الظهار، ويصدق في إرادة الطّلاق لاعترافه به أنّه صريح في الظهار، فلا يحتمل غيره؛ لأنّ معنى قوله: أنت عليّ كظهر أميّ، فيكون الحرام تفسيراً للظهار، والشيء لا يتغيّر تفسيره كذا في «مبسوط فخر الإسلام» ولا يكون الظهار إلا من الزوجة حتى لو ظاهر من أمته لم يكن مظاهراً

(2)

.

فإن قلت: الأمة محل للظهار بقاء فيجب أن يكون ابتداء كما لو ظاهر من امرأته وهي أمة.

ثم اشتراها يبقى حكم الظهار وهي أمة.

قلت: كم من شيء ثبت بقاء ولا يثبت ابتداء، كبقاء النكاح في المعتدّة وإن لم يثبت ابتداء.

ثم إنما تثبت حرمة الظهار في الأمة بقاء؛ لأن حرمة الظهار تثبت حين كانت محلاً لها، فيبقى إلى أن يوجد الكفارة فهي بمنزلة الحرمة الثانية بالطّلاق.

ولو طلّقها ثنتين لم تحل به بسبب بعد ذلك ما لم يتزوّج بزوج آخر، فكذلك إذا ثبتت الحرمة بالظهار؛ إذ هذه حرمة مع بقاء الملك، فكانت كالحرمة بسبب الحيض والحائض لا تحلّ له بملك اليمين كما لا تحلّ له بملك النكاح، وكذا إذا أعتقها ثم تزوّجها، ولأن الحلّ في الأمة تابع، والتابع في حكم العدم فلم، يكن هو في التشبيه كاذباً، فلم يوجد ركن الظهار، فلا يكون مظاهراً لعدم ركنه، وإنّما قلنا: أنّ الحلّ فيها تابع بدليل أنّه لو اشترى أمّة فوجدها محرمة عليه برضاع أو صهرية لا يثبت للمشتري ولاية الرد بسبب الحرمة، كذا في «الفوائد الظهيرية»

(3)

؛ لأنّه صادق في التشبيه وقت التصرف؛ لأنّها محرمة قبل إجازتها فلم يوجد ركن الظهار، وهو تشبيه المحلّلة بالمحرمة والظهار ليس بحق هذا جواب سؤال مقدر بأن يقال: أنّ الظهار مبني على الملك، والملك موقوف فينبغي أن يكون الظهار موقوفاً.

قلنا: أن الظهار ليس من حقوق النكاح؛ لأنّ النكاح أمر مشروع، والظهار منكر من القول وزور والمحظور لا يتوقف بتوقف المشروع.

وأمّا إعتاق المشتري من الغاصب فإنّه يتوقف إلى إجازة المالك فإن إجازته بعد.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 230).

(2)

ينظر: المرجع السابق.

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 231)، العناية شرح الهداية (4/ 250).

ص: 41

لِأَنَّهُ، أي الإعتاق، مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ؛ لأن الإعتاق منه للملك، فجاز أن يكون الإعتاق حكم للملك؛ لأن الملك والإعتاق كليهما مشروعًا به بخلاف الإيلاء منهن بأن قال: والله لا أقربكن، فإنّه إذا لم يقربهن حتى مضت أربعة أشهر طلقن جميعًا، وأمّا إذا قرب الكل قبل مضي المدّة يجب عليه كفارة واحدة؛ لأن ذِكْرُ الِاسْمِ أي اسم الله لم يتعدد لأنّه قال والله لا أقربكن مرَّةً واحدة والله أعلم.

‌فصل في الكفارة

لما ذكر حكم الظهار، وهو حرمة الوطء ودواعيه إلى نهايته ذكر في هذا الفصل ما ينهي تلك الحرمة وهو الكفارة.

قوله رحمه الله: (وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ عِتْقُ رَقَبَةٍ)، أي إعتاق رقبة فإن العتق لا ينوب عن الكفارة.

ألا ترى أنّه لو ورث إياه ونوى الكفارة لا يخرج عن عهدتها.

قوله رحمه الله: كَذَا فِي الْإِطْعَامِ، اعلم أن عطف الإطعام على الإعتاق والصيام إنّما يصح في حق لزوم التقديم على المسيس

(1)

، لا في الاستيناف فإن الإطعام في لزوم التقديم على المسيس نظير الإعتاق والصوم لا في حق الاستيناف على ما يجيء، ويجزي في العتق الرقبة الكافرة، وعند بعض المشايخ لا يجوز إعتاق المرتد

(2)

عن الكفّارة؛ لأنّه بالردّة صار حربيًّا، ولهذا حلّ قتله فصرف الكفّارة إلى الحربي لا تجوز، وأمّا المرتدة فيجوز بلا خلاف.

ويجزي الرضيع ولا يجزي الجنين والمريض الذي في حدّ مرض الموت لا يجوز، وإذا كان يرجى ويخاف عليه يجوز كذا في «المحيط»

(3)

.

قوله رحمه الله: إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّاتِ الْمَرْقُوقِة الْمَمْلُوكِة مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فقوله: من كلّ وجه، متعلّق بالمرقوقة دون المملوكة؛ لأنّ الرق الكامل شرط ولهذا لو أعتق المدبّر عن الكفّارة لا تصح.

ولو أعتق المكاتب الذي لم يردّ شيئاً يصح، ويقع عن الكفارة ونحن نقول: المنصوص عليه إعتاق الرقبة، وقد تحقّق ذلك بإعتاق الكافرة، ولا يقال: بين صفة الكفر والإيمان تضاد، فإذا جوّزنا المؤمنة انتفت الكافرة.

(1)

المسيس: اللمس. قال الجوهري: وأصل اللمس باليد، ثم استعير للجماع؛ لأنه مستلزم للمس غالبًا، وكذا استعير للأخذ والضرب والجنون. ينظر:(المطلع على ألفاظ المقنع ص 422).

(2)

المرتد لغة: الراجع يقال: ارتد مرتد: إذا رجع، والمرتد شرعًا: هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر. ينظر: (المطلع على ألفاظ المقنع ص 462).

(3)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 434).

ص: 42

لأنّا نقول [أن]

(1)

جواز المؤمنة عندنا لأنّها رقبة لا لأنّها مؤمنة.

ألا ترى أنا نجوز الكبيرة والصغيرة وبين الصفتين تضاد، وكذا يجوز الذكر والأنثى وبين الصفتين تضاد، ولكن الجواز باسم الرقبة فكان الوصف فيه غير معتبر.

فأمّا حمل المطلق على المقيّد فالعراقيون من مشايخنا يجوّزون ذلك في حادثة واحدة، كما في قوله عليه السلام «في خمس من الإبل السّايمة شاة»

(2)

، مع قوله عليه السلام:«في خمس من الإبل شاة»

(3)

.

ولكن الأصح أنّه لا يجوز حمل المطلق على المقيّد عندنا لا في حادثة ولا في حادثتين، حتّى جوّز أبو حنيفة رحمه الله التيمم

(4)

بجميع أجزاء الأرض عملاً بقوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهوراً»

(5)

، ولم يحمل هذا المطلق على المقيّد وهو قوله عليه السلام:«التراب طهور المسلم»

(6)

.

وهذا لأنّ للمطلق حكمًا وهو الإطلاق في حمله على المقيّد إبطال حكمه، وإليه أشار ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:«أبهموا ما أبهم الله»

(7)

وامتناع وجوب الزكاة في غير السّائمة ليس لحمل المطلق على المقيّد، بل للنصّ الوارد بأن لا زكاة في العوامل

(8)

(9)

واشتراط صفة التتابع عندنا في الصّوم في كفارة اليمين ليس بطريق حمل المطلق على المقيّد، بل بقراءة ابن مسعود

(10)

رضي الله عنه وهي مشهورة، وهو لازم عليهم، فإنّهم لا يشترطون صفة التتابع فيها لحمل المطلق على المقيّد كذا في «المبسوط»

(11)

.

(1)

سقطت من (ب)

(2)

السائمة: كل إبل، أو ماشية، ترسل ترعى، ولا تعلف. (القاموس الفقهي ص 187).

(3)

أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزكاة، باب صدقة الإبل، (1798).

(4)

التيمم: في اللغة مطلق القصد، وفي الشرع: قصد الصعيد الطاهر، واستعماله بصفة مخصوصة؛ لإزالة الحدث. (التعريفات للجرجاني ص: 71)

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، (438)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، (522).

(6)

أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الجنب يتيمم، (332)، وأخرجه النسائي في الصغرى، كتاب الطهارة، باب الصلوات بتيمم، (322)، وأخرجه الترمذي، أبواب الطهارة، باب التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، (124)، كلهم بلفظ:«الصَّعيدُ الطيَّبُ وضوءُ المُسلِمِ» ، قال الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، انظر: سنن الترمذي (1/ 185).

(7)

أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار، كتاب النكاح، باب ما يحرم من نكاح الحرائر وما يحل منه (13808).

(8)

أخرجه ابن زنجويه في الأموال، كتاب الصدقة وأحكامها وسننها، باب اختلاف الناس في عوامل الإبل برقم (1450) عن عمر بن عبدالعزيز، وأيضاً باب السنة في عوامل البقر أنه لا زكاة فيها برقم (1479) عن مجاهد، وأيضاً برقم (1482) عن موسى بن طلحة، وفي معرفة السنن والآثار للبيهقي، كتاب الزكاة، باب ما يسقط الصدقة عن الماشية برقم (8090، 8091)، وأيضاً برقم (8095) عن معاذ بن جبل، ورواه الذهبي في تنقيح التحقيق، باب الزكاة، عن علي رضي الله عنه برقم (298)، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير: "وفيه سوار بن مصعب وهو متروك عن ليث بن سليم وهو ضعيف، ورواه من وجه آخر عنه وفيه الصقر بن حبيب وهو ضعيف

وضعف البيهقي إسناده ورواه موقوفاً وصححه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إلا أنه قال الإبل بدل البقر وإسناده ضعيف أيضًا" (2/ 351).

(9)

العَوَامِل مِنَ البَقَر: جَمْعُ عَامِلَة، وَهِيَ الَّتِي يُستقى عَلَيْهَا وَيُحْرَثُ وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْأَشْغَالِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُطَّردٌ فِي الْإِبِلِ. ينظر:(النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 301).

(10)

عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن: صحابي. من أكابرهم، فضلا وعقلا، وقربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أهل مكة، ومن السابقين إلى الإسلام، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، نظر إليه عمر يومًا وقال: وعاء ملئ علمًا. وولي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيت مال الكوفة، له 848 حديثا، توفي بالمدينة سنة 32 هـ.

ينظر: أسد الغابة ط الفكر (3/ 280)، الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 198).

(11)

المبسوط للسرخسي (7/ 3).

ص: 43

وَقَصْدُهُ في الْإِعْتَاقِ، هذا جواب عن قوله: الْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى عَدُوِّ اللَّهِ تعالى، قلنا: قصد الكفر أن يكون العبد خالصاً للطّاعات نحو الزكاة والحج والجهاد والقضاء والشهادة، ومتمكنًا منها، فالظاهر أن العبد يسلم باعتبار أن مولاه أحسن إليه طلباً [لمرضاة]

(1)

الله تعالى فأعتقه، وهو أيضاً يرعى حق الله تعالى فيطيعه.

ولو أصرّ على المعصية فالمعصية إنّما تحقّقت بسوء اختياره، أي اختيار العبد.

ثمّ مُقارفته المعصية، يقال: قارف فلان الخطيئة

(2)

أي خالطها واكتسبها.

ومنه ما ورد في الحديث: «من قارف ذنباً فارقه عقل لم يعد إليه أبدًا»

(3)

، وإنّما لا يجوز أداء الزكاة إلى الكافر بالحديث، وهو قوله عليه السلام:«خذها من أغنيائهم وردّها في فقرائهم»

(4)

وقد ذكرناه في الزكاة.

فإن قلت: قال الله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}

(5)

نهى أن يطلب التقرب بالخبيث، ولا خبث أشدّ من الكفر.

قلت: لا حجة لك فيه؛ لأنّ الكفر خبث من حيث الاعتقاد، والمصروف إلى الكفارة ليس هو الاعتقاد، إنّما المصروف إلى الكفّارة المالية ومن حيث المالية هو عيب يسير على شرف الزوال كذا في «المبسوط»

(6)

.

(وَلَا تُجْزِئُ الْعَمْيَاءُ) فموصوفها الرقبة لا الأنثى أو الأمة، حتّى لا يجوز العبد الأعمى أيضاً.

والأصل الجامع في تخريج ما يجوز به الإعتاق عن الكفّارة وما لا يجوز هو أنّه متى أعتق رقبة كاملة الرق في ملكه، مقرونًا بنية الكفارة وجنس ما ينبغي من المنافع فيها، قائم بلا بدل، يجوز عن الكفّارة، وإلا فلا يجوز.

(1)

في (ب): لرضى.

(2)

الْخَطِيئَةُ: مِنْ مَعَانِيهَا الذَّنْبُ عَنْ عَمْدٍ. وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ مُطَابِقَةً لِلإِثْمِ. وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْعَمْدِ فَتَكُونُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُخَالِفَةً لِلإِثْمِ، إِذِ الإِثْمُ لَا يَكُونُ إِلاَّ عَنْ عَمْدٍ. ينظر:(لسان العرب 1/ 66).

(3)

ذكره أبو الفضل العراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 889)، وقال:"لم أر له أصلاً".

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا (1496)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (29).

(5)

سورة البقرة (الآية/ 267).

(6)

المبسوط للسرخسي (7/ 4).

ص: 44

وعن هذا قلنا: أنّه إذا أعتق نصف الرقبة، ثم أعتق النصف الآخر قبل أن يجامعها يجوز عن كفارته، وبعدما جامعها لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما

(1)

.

وقولنا مقرونًا بنية الكفارة، فإنّه إذا أعتق عبده ولم ينو عن كفّارته، لا يجوز عن كفارته، وإن نوى عن كفارته بعد الإعتاق لا يجوز أيضاً.

وقولنا: وجنس ما ينبغي من المنافع فيه قائم أنّه إذا أعتق مقطوع اليدين أو ما يماثله لا يجوز، ولو كان مقطوع يد واحدة أو ما يماثله أو مقطوع الأنف أو عنّينًا

(2)

أو خنثى

(3)

أو مجبوباً

(4)

أو كانت أمة رتقاء

(5)

أو لها قرن

(6)

يمنع الجماع يجوز عن كفارته.

وقولنا [بلا بدل]

(7)

، فإنّه إذا أعتق عبده على البدل لا يجوز، كذا في «شرح الطّحاوي»

(8)

.

حتّى يجوز العوراء، وقال الشّافعي رحمه الله: لا يجوز؛ لأنّها ناقصة نقصانًا لا يُرجى زواله فكانت كالعميا

(9)

.

والأصل عنده أنّ كل عيب لا يرجى زواله يكون فاحشًا يمنع جواز التكفير به، وكلّ عيب يُرجى زواله يكون يسيراً لا يمنع جواز التكفير به، كالحمى

(10)

والشجة

(11)

فإنّه إذا صيح عليه يسمع، وقيل -في الرواية التي قال: لا يجوز -: قوله محموله على صمم

(12)

أصلي ولابدّ أن يكون معه الخرس

(13)

فإنّه لم يسمع الكلام ليتكلّم، وهذا لا يجوز، ومراده من الرواية قال يجوز إذا كان الصمّ عارضاً، فلا يكون معه الخرس فيسمع عند المبالغة في رفع الصوت، ويجزئ الخصي ومقطوع الأذنين ومقطوع المذاكير عندنا خلافاً لزفر

(14)

(15)

؛ لأنّ بعد قطع الأذنين الشّاخصتين السّمع باق وإنّما يفوت ما هو زينة وجمال فلا تصير الرقبة مستهلكة كفوت شعر الحاجبين واللحية وفي الخصي ومقطوع المذاكير إنّما يفوت منفعة النسل، وهي زائدة على ما يُطلب من المماليك، ولا يجوز مقطوع إبهام اليدين

(16)

، وكذلك إذا كان من كل يد ثلاث أصابع مقطوعة لم يجز لفوات منفعة البطش

(17)

، وقطع أكثر الاصابع في هذا كجميعها، وإن كان المقطوع من كلّ يد أصبعًا أو أصبعين سوى الإبهام يجزي؛ لأنّ منفعة البطش باقية، كذا في «المبسوط»

(18)

.

(1)

ينظر: الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (2/ 65).

(2)

العنين: هو من لا يقدر على الجماع لمرض أو كبر سن، أو يصل إلى الثيب دون البكر. ينظر:(التعريفات للجرجاني ص: 158).

(3)

الخنثى: في اللغة: من الخنث، وهو اللين، وفي الشريعة: شخص له آلتا الرجال والنساء، أو ليس له شيء منهما أصلًا. ينظر:(التعريفات للجرجاني ص: 101)، (العين 4/ 248)، (دستور العلماء 2/ 65).

(4)

الْجَبُّ: الْقَطْعُ، والْمَجْبُوبُ الْخَصِيُّ الَّذِي اُسْتُؤْصِلَ ذَكَرُهُ وَخُصْيَاهُ وَقَدْ جُبَّ جَبًّا. ينظر:(المغرب ص 74).

(5)

الرتقاء المرأة المنضمة الفرج التي لا يكاد الذكر يجوز فرجها لشدة انضمامه. ينظر: لسان العرب (10/ 114).

(6)

القرناء من النساء التي في فرجها مانع يمنع من سلوك الذكر فيه، إما غدة غليظة أو لحمة مرتتقة أو عظم. ينظر: لسان العرب (13/ 335).

(7)

سقطت من (ب).

(8)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (4/ 275)، العناية شرح الهداية (4/ 260)

(9)

ينظر: الحاوي الكبير (12/ 286).

(10)

والحمى والحمة: عِلّة يستحر بهَا الْجِسْم، من الْحَمِيم. ينظر:(المحكم والمحيط الأعظم 2/ 553).

(11)

الشَّجَّة: الْجرْح يكون فِي الْوَجْه وَالرَّأْس وَلَا يكون فِي غَيرهمَا من الْجِسْم. ينظر: (المحكم والمحيط الأعظم 7/ 174).

(12)

الصَّمَمُ: ذَهابُ السَّمعِ. ينظر: (لسان العرب 12/ 342)، (العين 7/ 91).

(13)

الخرس هُوَ انْعِقَاد اللِّسَان عَن الْكَلَام. ينظر: (جمهرة اللغة 1/ 584).

(14)

هو: زُفر بن الهذيل بن قيس العنبري البصري، قال عنه أبو حنيفة:(إمام من أئمة المسلمين)، ولي قضاء البصرة، وولد سنة عشر ومائة، ومات بها سنة ثمان وخمسين ومائة.

انظر: تاج التراجم (ص: 170)، وفيات الأعيان (2/ 317)، سير أعلام النبلاء (8/ 38).

(15)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 5)

(16)

الْإِبْهَامُ الْأُصْبُعُ الْكُبْرَى الْأُولَى. (طلبة الطلبة ص 164)

(17)

البطشُ: التّناول عند الصَّولة. والأخذ الشديد في كل شيء: بطش به. والله ذو البطشِ الشديد، أي: ذو البأس والأخذ لأعدائه. ينظر: (العين 6/ 240).

(18)

المبسوط للسرخسي (7/ 2).

ص: 45

(وَاَلَّذِي يُجَنُّ

(1)

وَيُفِيقُ يَجْزِيه)، يريد به إذا أعتقه في حال إفاقته.

وروى إبراهيم عن محمد

(2)

: إذا أعتق عبدًا حلال الدّم قد قضى بدمه عن طهارة، ثم عفى عنه لم يجز، كذا في «المحيط»

(3)

.

ولا يجزئ عتق المدبّر

(4)

وأم الولد؛ لأنّ المنصوص عليه الرقبة، وذلك اسم للذّات حقيقة وللذّات المرقوقة عرفاً، وقد دلّ على الرق قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

(5)

فيقتضي قيام الرق مطلقاً وبالاستيلاد

(6)

يتمكن النقصان في الرق حتّى لا يعود إلى [الحال]

(7)

الأولى بحالٍ، ولأنّ قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

(8)

يقتضي إنشاء العتق من كل وجه، وإعتاق أمّ الولد تعجيل لما صار مستحقًّا لها مؤجلاً، فلا يكون إنشاء من كلّ وجه كذا في «المبسوط»

(9)

.

وبهذا يعلم أن الرق ناقص فيهما دون الملك؛ لأن العتق ضد الرق، لا ضد الملك؛ لأن الملك ثابت في الثياب ولا يثبت العتق واتحاد المحل شرط التضاد، فبهذا يعلم أن ثبوت الملك في موضع لا يلزم الرق وإذا كان الرق ناقصاً لا يجوز عن الكفّارة لعدم الإعتاق من كلّ وجه والملك فيها كامل؛ لأنّ المالك ما أزال الرق قصدًا عن أمّ الولد، بل أزال الشرع بسبب الولد فيظهر في حق الرق لأنّ الرق حق الشرع.

(1)

الجنون آفة تنال العقل فتزيله. ينظر: (غريب الحديث للخطابي 2/ 267).

(2)

إِبْرَاهِيم بن رستم أَبُو بكر الْمروزِي أحد الْأَعْلَام تفقه على مُحَمَّد بن الْحسن وروى عَن أبي عصمَة نوح بن أبي مَرْيَم الْمروزِي وَأسد بن عَمْرو البَجلِيّ وهما مِمَّن تفقها على أبي حنيفَة رضي الله عنه تفقه عَلَيْهِ الجم الْغَفِير وَسمع من مَالك وَالثَّوْري وَشعْبَة وَحَمَّاد بن سَلمَة، وَمَات فى الْيَوْم الْعَاشِر وَهُوَ يَوْم الْأَرْبَعَاء لعشر بَقينَ من جمادي الْآخِرَة سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَدفن بِبَاب يعمر رَحمَه الله تَعَالَى. ينظر: تاريخ بغداد وذيوله (6/ 70)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 38).

(3)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 435).

(4)

والمدبر من العبيد والإماء مأخوذ من الدبر؛ لأن السيد أعتقه بعد مماته، والممات دبر الحياة، فقيل مدبر، والفقهاء المتقدمون يقولون: المعتق من دبر أي بعد الموت. ينظر: (غريب الحديث لابن قتيبة 1/ 224 - 225).

(5)

سورة المجادلة (الآية/ 3).

(6)

الاستيلاد: طلب الولد من الأَمَةِ. ينظر: (التعريفات للجرجاني ص 22).

(7)

في (ب): الحالة.

(8)

سورة المجادلة (الآية/ 3).

(9)

المبسوط للسرخسي (7/ 2).

ص: 46

بخلاف الملك فإنّه حق العبد.

وكذلك في التدبير موجب العتق بعد الموت، أمّا في المكاتب الرق كامل ولهذا يرد عند العجز إلى الرق، فلو كان الرق ناقصاً لما صحّ الردّ إلى الرق عند العجز.

فَأَشْبَهَ الْمُدَبَّرَ، أي على مذهبكم، فإنّ عند الشافعي بيع المدبّر وإعتاقه جائز

(1)

، فكان هذا منه استدلالاً بمذهبنا احتجاجاً علينا لا أن يكون هذا مذهبه كذا نقل عن مولانا حميد الدين رحمه الله.

وَلَنَا أَنَّ الرِّقَّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وهو قوله، وَلِهَذَا تَقْبَلُ الْكِتَابَةُ الِانْفِسَاخَ وَلِقَوْلِهِ عليه السلام «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ»

(2)

ولا يتمكن النقصان في رقّه ولا يصير العتق مستحقاً له بسبب الكتابة؛ [لأنّ حكم العتق في الكتابة]

(3)

متعلّق بشرط الأداء، ولو علّق عتقه بشرط آخر لم يثبت به الاستحقاق، فكذلك بهذا الشرط بل أولى؛ لأنّ التعليق بسائر الشروط يمنع الفسخ وبهذا الشرط لا يمنع.

ولو تمكّن نقصان في رقّه لما تصوّر فسخه وإعادته إلى الحالة الأولى؛ لأنّ نقصان الرق ثبوت الحرية من وجه، وكما أنّ ثبوت الحرية من كلّ وجه لا يحتمل الفسخ، فكذلك ثبوتها من وجه، ولأنّ الثابت بالكتابة انفكاك الحجر

(4)

عنه في حق المكاتب، وذلك لا يمكّن نقصاناً في رقّه كالإذن في التجارة إلا أنّ ذاك فكّ الحجر بغير عوض، فلا يكون لازمًا في حق المولى، وهذا فك بعوض فيكون لازمًا، ولكن مع هذا المنافع والمكاسب غير الرقية والتصرّف فيها لازمًا كان أو غير لازم لا يتمكن النقصان في الرق والملك كالإعارة

(5)

مع الإجارة وبسبب اللزوم يمتنع على المولى التصرف فيه، ويلزمه ضمان العُقر

(6)

والأرش

(7)

؛ لأنّ ذلك في حكم المكاسب والمنافع والمكاسب صارت مستحقة له، ولكن بهذا الاستحقاق لا يصير الرقية في حكم المستهلكة وإذا ثبت أنّ العتق لم يصير مستحقاً بهذا السّبب ظهر أنّ إعتاق المولى إيّاه يكون تحريراً مبتدأ من كلّ وجه.

(1)

ينظر: الأم للشافعي (8/ 19).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب العتق، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت، (392)، والبيهقي في السنن الكبرى، باب المكاتب ما بقي عليه درهم (21638)، وأخرجه مالك في الموطأ، كتاب المكاتب، باب القضاء في المكاتب، (1)، وعبدالرزاق في مصنفه، باب عجز المكاتب وغير ذلك (15717)، وابن أبي شيبة في مصنفه، باب في المكاتب عبد ما بقي عليه شيء (30564).

(3)

سقطت من (ب).

(4)

الْحجر فِي الشَّرْع الْمَنْع من التَّصَرُّف لصِغَر أَو سفه أَو جُنُون. ينظر: (المعجم الوسيط 1/ 157).

(5)

الإعارة: تمليك المنافع بغير بعوضٍ. ينظر: (التعريفات للجرجاني ص: 10).

(6)

العُقر: مقدار أجرة الوطء، لو كان الزنا حلالًا، وقيل: مهر مثلها. ينظر: (التعريفات للجرجاني ص: 153)

(7)

الأرش: هو اسمٌ للمال الواجب على ما دون النفس. ينظر: (التعريفات للجرجاني ص: 17)

ص: 47

قوله رحمه الله: لَا تُنَافِيه، أي الرق، فَيَلْزَمُ مِنْ جَانِبِهِ، أي جانب المولى.

وقوله: إلَّا أَنَّهُ بِعِوَضٍ فَيَلْزَمُ مِنْ جَانِبِهِ، جواب إشكال، وهو أن يقال: لو كانت الكتابة لفكّ الحجر بمنزلة الإذن في التجارة ينبغي أن يستبد المولى بالفسخ كما في عزل المأذون، فأجاب عنه، وقال: عقد الكتابة تعريض العبد للإعتاق بعوض، فكان لازمًا كالبيع.

وَلَوْ كَانَ مَانِعًا، أي: لو كان عقد الكتابة مانعًا عن الإعتاق للكفارة وهذا على وجه التّسليم، يعني لو كان مانعًا ينفسخ هو في ضمن الإعتاق، فحينئذ يكون الإعتاق إعتاق قنّ خالٍ عن عقد الكتابة.

إذْ هُوَ يَحْتَمِلُهُ، أي عقد الكتابة يحتمل الفسخ.

إلَّا أَنَّهُ تَسْلَمُ لَهُ، هذا جواب إشكال، بأن يقال: لو كان إعتاقه بجهة التكفير، وانفسخ عقد الكتابة في ضمن الإعتاق بجهة التكفير، كان يجب أن يكون الأولاد والإكساب للمولى كما إذا أعتق عبده المأذون وله إكساب بجهة التكفير.

قلنا: إنّما سلم له الإكساب والأولاد؛ لأنّه عتق وهو مكاتب، لا لأنّه عتق بجهة الكتابة كما لو كاتب أمّ ولده.

ثم مات المولى عتقت بجهة الاستيلاد، وسلّم لها الإكساب والأولاد؛ وهذا لأنّ العتق في المكاتب واحد، والإعتاق من المولى يختلف جهاته ففيما يرجع إلى حق المكاتب جعل هذا ذلك العتق لكونه متحدًا، وفي حقّ المولى يجعل إعتاقاً بجهة الكفارة؛ لأنّه قصد ذلك وهو كالمرأة إذا وهبت الصّداق للزّوج قبل القبض، ثم طلّقها قبل الدخول لا يرجع عليها بشيء، وجعل هبتها في حق الزوج تحصيلاً لمقصود الزّوج عند الطلاق، وفي حقها يجعل تمليكًا بهبة مبتدأة كذا في «المبسوط»

(1)

.

(وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ)، إلى قوله:(جَازَ عَنْهَا)، هذا في حق الشراء أمّا لو دخل ذو رحم محرم

(2)

منه في ملكه بلا صنعة، كما إذا دخل بالميراث، فإنّه لا يجوز بالإجماع، ولو قال: إن دخلت الدّار فأنت حرّ، ونوى العتق وقت دخوله الدّار عن كفارته لا يجوز، إلا إذا نوى عن كفّارته وقت اليمين، كذا في «شرح الطّحاوي»

(3)

.

بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا، أي لا يجوز عن الكفّارة بالاتفاق.

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 7).

(2)

كل شخصين بينهما قرابة لو فرض أحدهما ذكراً والآخر أنثى لم يحل لهما أن يتناكحا، كالآباء والأمهات والإخوة والأخوات. ينظر:(المخصص 1/ 332)، (طلبة الطلبة ص 139)، (الموسوعة الفقهية الكويتية 3/ 82).

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 84).

ص: 48

فإن قيل يجب أن يقع عن الكفارة عندهما وإن كان المعتق معسراً؛ لأنّه يكون حرًا مديونًا عندهما بناء على أنّ الإعتاق لا يتجزأ عندهما

(1)

.

قلنا: إنّما لم يجز لأنّ وجوب هذا الدين بسبب الإعتاق، فلا يكون العتق مجاناً فلا يقع عن الكفّارة.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَصِيبَ صَاحِبِهِ يَنْتَقِصُ عَلَى مِلْكِهِ

(2)

، أي على ملك صاحبه؛ لأنّه لما أعتق النصف يكون نصيب شريكه ناقصاً؛ وذلك لأنّ العتق عنده يتجزى، وإنّما عتق نصيبه في الابتداء ونصف الرقبة ليس برقبة ثم يتمكّن نقصان في الآخر؛ لأنّه يتعذّر استدامة الرق فيه وهذا النقصان في ملك الشريك عين فجزى عن كفارته، فبالضّمان إنّما يملك ما بقي منه، فإذا أعتقه كان هذا في المعنى إعتاق عبيداً لا شيئاً كذا في «المبسوط»

(3)

.

فإن قيل: لم قلتم أنّ ذلك النقصان تمكّن في نصيب شريكه -أعني به السّاكت- بل في نصيبه تمكّن، وهذا لأنّ نصيب السّاكت صار ملكًا للمعتق من وقت الإعتاق؛ لأنّ المضمونات تملك بأداء الضمان بصفة الاستناد إلى زمان وجود سبب الضمان عندنا على ما عرف.

قلنا: الملك في المضمونات يثبت بصفة الاستناد في حقّ الضامن والمضمون له، لا في حق من عداهما على ما عُرف في كتاب الغصب من الزيادات

(4)

(5)

.

وإذا كان كذلك كان النقصان متمكنًا في نصيب السّاكت في حق من عداهما، فلم يجز كذا في الفوائد الظهيرية

(6)

.

والنقصان يتمكّن [على ملكه]

(7)

بسبب الإعتاق بجهة الكفارة، فيجعل كأنّه أعتق أولاً النصف وبعض النصف الآخر، ثم في المرة الثانية أعتق ما بقي [فيجزيه]

(8)

.

وأمّا إذا كان العبد مشتركًا لا يمكن أن يجعل النقصان الحاصل في النصف الباقي مصروفاً إلى الكفّارة؛ لانعدام الملك له في ذلك النصف، فبطل قدر النقصان ولم يقع عن الكفارة، فإذا ضمن قيمة النصف الباقي وأعتقه فقد صرفه إلى الكفارة وهو ناقص، فصار في الحاصل كأنّه أعتق عبدًا إلا قدر النقصان.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 549).

(2)

ينظر: اللباب في شرح الكتاب (3/ 71).

(3)

المبسوط للسرخسي (7/ 7).

(4)

كتاب الزيادات لمُحَمَّد بن الحسن الشَّيْبَانِيّ ولا يزال مخطوطاً وقد جمعه أبي يعقوب يُوسُف بن علي بن مُحَمَّد الجرجاني الحنفي في كتاب (خزانة الأكمل في الفروع) وهو ست مجلدات. ذكر انه محيط بجل مصنفات الأصحاب بدأ بكافي الحاكم ثُمَّ بالجامعين ثُمَّ بالزيادات ثُمَّ بمجرد ابن زياد والمنتقى والكرخي وشَرْح الطَّحَاوِيِّ وعيون المسائل وغير ذلك.

(5)

ينظر: المبسوط للسرخسي (11/ 67).

(6)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (5/ 76).

(7)

سقطت من (ب).

(8)

في (ب): ويجزيه.

ص: 49

وشرط الإعتاق أن يكون قبل المسيس، وإعتاق النصف حصل بعده.

فإنّ قيل: أي إعتاق وجد بعد هذا وإن كان إعتاق رقبة كاملة فهو إعتاق بعد المسيس، فعلى هذا أنّه إذا أعتق رقبة كاملة ينبغي أن لا يجوز عن الكفارة -أيضاً-؛ لأنّه إعتاق بعد المسيس.

قلنا: إنّما يجوز؛ لأنّه إعتاق رقبة كاملة قبل المسيس الثاني، فصار إعتاق نصف العبد كأن لم يكن؛ لأنّ الشرط أن يكون إعتاق كلّ الرقبة موجودًا قبل المسيس، فصار كأنّه صام شهراً، ثم مسّها، ثم صام شهراً لا يجوز الصّوم عن الكفارة بل يجب الاستئناف

(1)

.

فكذلك ههنا وإذا لم يجد المظاهر ما يعتق فكفّارته صوم شهرين.

وفي «المحيط» وإذا لم يملك رقبة ولا ثمن رقبة يصوم شهرين متتابعين، فإن صام شهرين بالأهلة

(2)

جاز، وإن كان كلّ شهر تسعة وعشرين يومًا، وإن صام بغير الأهلة ثم أفطر لتمام تسعة وخمسين يومًا فعليه الاستقبال

(3)

.

ولا يوم الفطر ولا يوم النحر حتّى لو دخل في صومه يوم النّحر وأيّام التشريق

(4)

فعليه استقبال الصّوم؛ لأنّ الصّوم في هذه الأيّام منهيّ فلا يتأدّى [به]

(5)

الواجب في ذمته، وينقطع التتابع بتحلل هذه الأيام.

(فَإِنْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرَيْنِ) إلى آخره، اعلم أنّه إن أكل في صوم الظّهار ناسياً لصومه [لم]

(6)

يضره، وكذلك إن جامع ناسياً غير التي ظاهر منها؛ لأنّ حرمة هذا الفعل عليه لأجل الصّوم، فيختلف بالنسيان والعمد بخلاف ما لو جامع التي ظاهر منها، عند أبي حنيفة ومحمّد -رحمهما الله-، فإنّ حرمة ذلك الفعل ليست لأجل الصّوم

(7)

.

ألا ترى أنّه كان محرمًا قبل الشروع في الصّوم فيستوي النسيان والعمد، كذا في «المبسوط»

(8)

.

(1)

الِاسْتِئْنَاف ابْتِدَاء الشَّيْء. ينظر: (تحرير ألفاظ التنبيه ص 45).

(2)

الهِلالُ: أوَّل ليلةٍ والثانية والثالثة، ثم هو قمرٌ. ينظر:(الصحاح 5/ 1851).

(3)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 436).

(4)

أَيَّام التَّشْرِيق ثَلَاثَة بعد يَوْم النَّحْر سميت بذلك لِأَن النَّاس يشرقون فِيهَا لُحُوم الْأَضَاحِي والهدايا أَي ينشرونها ويقددونها وايام التَّشْرِيق هِيَ الْأَيَّام المعدودات. ينظر: (تحرير ألفاظ التنبيه ص 130).

(5)

سقطت من (أ).

(6)

في (ب): لا.

(7)

ينظر: المبسوط للسرخسي (3/ 84).

(8)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 14).

ص: 50

وإن يكن خالياً عنه ضرورة بالنصّ وإن عجز عن أحدهما وهو القبلة، لم يعجز عن الآخر وهو الإخلاء فيجب عليه تحقيقه لا مكانه.

(وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْهَا بِعُذْرٍ) أي بمرض أو سفر.

بخلاف ما إذا أفطرت المرأة بعذر الحيض في كفارة القتل أو كفّارة الفطر؛ حيث لا يستأنف، وعن هذا احترز بقوله:"وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ عَادَةً".

وذكر في «شرح الطّحاوي» أنّ المرأة إذا صامت عن كفارة الإفطار وكفارة القتل فحاضت في خلال ذلك فإنّها لا تستقبل الصيام، ولكنها تصل أيام القضاء بعد الحيض؛ لأنّها معذورة لا تجد صوم شهرين متتابعين لا حيض فيهما

(1)

.

ولو نفست

(2)

، استقبلت ولو أفطرت يومًا بعد الحيض يستقبل الصيام ولو كانت تصوم عن كفارة اليمين فحاضت في خلال ذلك، فإنّها تستقبل الصيام؛ لأنّها تحل صوم ثلاثة أيام لا حيض فيها، ولو صام شهرين متتابعين ثم قدر على الإعتاق قبل غروب الشمس في آخر ذلك اليوم يجب عليه العتق، ويكون صومه تطوعًا؛ لأنّه قدر على المبدل قبل الفراغ من المقصود بالبدل، فانتقض حكم البدل، كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصّلاة.

والأفضل أن يتم له صوم هذا اليوم ولو لم يتمه وأفطر فلا يجب عليه القضاء عندنا، وقال زفر رحمه الله: يجب عليه القضاء ولو قدر على الإعتاق قبل غروب الشّمس في آخر اليوم جاز صومه عن كفارته.

قوله رحمه الله: (أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ) أي من غير الأعداد المنصوصة مطلقًا.

وأمّا في الأعداد المنصوصة فلا يجوز أداءها قيمة إذا كانت أقلّ قدراً ممّا قدّره الشرع، وإن كانت أكثر من الآخر أو مثله قيمة حتّى لو أدّى نصف صاع

(3)

من تمر جيد يبلغ نصف صاع من حنطة

(4)

لا يجوز، وكذا لو أدّى أقل من نصف [صاع]

(5)

حنطة يبلغ صاعًا من تمر أو شعير لا يجوز.

والأصل أن كل جنس هو منصوص عليه من الطّعام لا يكون بدلاً عن جنس آخر هو منصوص عليه، وإن كان في القيمة أكثر، كذا في «المحيط»

(6)

.

(1)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (5/ 111)، الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (2/ 66)

(2)

النِّفَاسُ: مَصْدَرُ نُفِسَتْ الْمَرْأَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِهَا إذَا وَلَدَتْ فَهِيَ نُفَسَاءُ وَهُنَّ نِفَاسٌ. ينظر: (المغرب ص 472).

(3)

الصاعُ: الذي يُكالُ به، وهو أربعة أمدادٍ، والجمع أَصْوُعٌ. ينظر:(الصحاح 3/ 1247).

(4)

الْحِنْطَةُ وَالْقَمْحُ وَالْبُرُّ وَالطَّعَامُ وَاحِدٌ. ينظر: (المصباح المنير 1/ 154)، العين (3/ 171).

(5)

سقطت من (أ).

(6)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 437).

ص: 51

وهذا لأنّه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه، وإنما الاعتبار له في غير المنصوص عليه.

فإن قلت: يشكل على هذا ما لو كسا عشرة مساكين ثوباً واحدًا في كفارة اليمين جاز عن الطّعام إذا كان قيمة نصيب كل واحد منهم مثل قيمة الطّعام.

قلت: لا يرد علينا ذلك؛ لأنّ المنصوص عليه هنالك في الكسوة ما يحصل به الاكتساء وبعشر الثوب لا يحصل ذلك لكلّ مسكين، فلم يكن المؤدى منصوصاً عليه فيعتبر المعنى فيه، فكان هذا طردًا لا نقضاً.

لأنّا قلنا: إن اعتبار معنى النص في غير موضع النص وهذا في غير موضعه لما قلنا: توضحه أن في إقامة صنف مقام صنف إبطال التقدير المنصوص عليه في كلّ صنف، وكلّ تعليل يتضمن إبطال النصّ فهو باطل، وليس في الكسوة تقدير منصوص عليه، فإقامته مقام الطعام لا يؤدّي إلى إبطال التقدير المنصوص، ولأنّ المقصود بالكسوة غير المقصود بالطّعام فللمغايرة

(1)

يجوز إقامة أحدهما مقام الآخر، والمقصود بأصناف الطّعام واحد فاعتبار عين المؤدّى فيه أولى، كذا في «المبسوط»

(2)

.

قوله رحمه الله: "وَسَهْلِ بْنِ صَخْرٍ"، وهو سهيل بن صخر الليثي

(3)

، كذا أورده الإمام المستغفري

(4)

رحمه الله في معرفة الصّحابة.

وأمّا في «المبسوط» فسلمة بن صخر

(5)

، وذكر في «المغرب» سلمة بن صخر البياضي

(6)

.

(1)

الْمُغَايرَة وَهِي الْمُبَادلَة يُقَال: غايرته بسلعتي إِذا بادلته؛ لِأَنَّهَا بدل من الْقود. ينظر: (الفائق في غريب الحديث 3/ 83).

(2)

المبسوط للسرخسي (7/ 16).

(3)

سهل بْن صخر الليثي. وقيل: سهيل، يعد في أهل المدينة، وسكن البصرة، وهو سهل بْن صخر بْن واقد بْن عصمة بْن أَبِي عوف بْن وهب بْن عبد مناة بن شجع بن عامر بْن ليث بْن بكر بْن عبد مناة بْن كنانة، يجتمع، هو وَأَبُو واقد الليثي في عبد مناة بْن شجع، وكانت له صحبة. ينظر: أسد الغابة (2/ 321).

(4)

جعفر بن محمد بن المعتز بن محمد ابن المستغفر النسفي، أبو العباس: فقيه، له اشتغال بالتأريخ. من رجال الحديث. كان خطيب نسف (من بلاد ما وراء النهر) وتوفي بها. له (الدعوات) في الحديث، و (التمهيد في التجويد)، و (فضائل القرآن)، و (الشمائل والدلائل ومعرفة الصحابة الأوائل)، و (المسلسلات) في الحديث، توفي سنة 432 هـ. ينظر: الأعلام للزركلي (2/ 128).

(5)

سلمة بْن صخر بْن سلمان بْن الصمة بْن حارثة بْن الحارث بْن زيد مناة بْن حبيب بْن عبد حارثة بْن مالك بْن غضب بْن جشم بْن الخزرج، الأنصاري الخزرجي له حلف في بني بياضة، فقيل له: البياضي، ويجتمع وبياضة في عبد حارثة بْن مالك بْن غضب. ينظر: أسد الغابة (2/ 278).

(6)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 447).

ص: 52

"فَيُعْتَبَرُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ" ولكن بينهما فرق من حيث التفريق، وهو أنّه لا يجوز التفريق [ههنا]

(1)

بأن أدّى مَنًّا

(2)

من حنطة إلى مسكين، ومَنًّا آخر إلى آخر فإنّه لا يجوز، وعليه أن يتم على ذلك المسكين، فإن لم يجد استأنف على غيره؛ لأنّ الواجب إطعام ستين مسكينًا فكان العدد معتبراً كالمقدار ومتى فرق لم يوجد الإطعام المعتاد للمساكين.

وأمّا في صدقة الفطر فإنّه إذا فرق أجزأه؛ لأنّ المعتبر ثمة المقدار دون العدد، لأن العدد مسكوت عنه فيجوز، كذا في مبسوط فخر الإسلام وشرح الطّحاوي

(3)

.

لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إذْ الْجِنْسُ مُتَّحِدٌ، [أي]

(4)

من حيث الإطعام وردّ الجوعة؛ لأنّ المقصود من البرّ والتمر والشعير الإطعام، فيجوز تكميل أحدهما بالآخر، وإنّما علّل هنا باتحاد الجنس؛ لأنّه إذا اختلف الجنس لا يجوز تكميل أحدهما بالآخر، حتّى أنّه إذا أطعم خمسة مساكين في كفارة اليمين بطريق الإباحة وكسا خمسة مساكين والكسوة أرخص من الطّعام لم يجزه؛ لما أنّ المقصود بالكسوة غير المقصود بالطّعام.

ألا ترى أنّ الإباحة تجوز في أحدهما دون الآخر ولو جوّزنا النصف من كلّ واحد منهما كان نوعًا رابعًا والمنصوص عليه ثلاثة أنواع لا غير ذكره في أيمان «المبسوط»

(5)

.

وأمّا إذا أعتق نصف رقبة وصام شهراً وأطعم ثلاثين مسكينًا إنّما لا يجوز؛ لأنّ نصف الرقبة ليس برقبة وإكمال الأصل بالبدل غير ممكن، فإنّهما لا يجتمعان فكيف يتحقّق إكمال أحدهما بالآخر.

فإن قيل: يشكل على قوله: "إذْ الْجِنْسُ مُتَّحِدٌ" ما إذا أعتق نصف رقبتين بأن كان بينه وبين شريكه عبدان فأعتق نصيبه منهما لا يجوز عن الكفّارة مع أنّ الجنس متّحد من حيث الإعتاق.

قلنا: إنّما لا يجوز؛ لأن نصف الرقبتين ليس برقبة والشركة في كلّ رقبة تمنع التكفير بها.

بخلاف الأضحيّة

(6)

، فإنّ الرجلين لو ذبحا شاتين بينهما عن أضحيتهما جاز؛ لأنّ الشركة لا تمنع الأضحية كما في البدنة

(7)

، كذا في «المبسوط»

(8)

.

(1)

سقطت من (أ).

(2)

المَنُّ لُغَةٌ فِي المَنَا الَّذِي يُوزَنُ بِهِ، والمَنُّ كَيْلٌ أَو مِيزَانٌ. ينظر: لسان العرب (13/ 418).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 554)، العناية شرح الهداية (4/ 269).

(4)

سقطت من (أ).

(5)

المبسوط للسرخسي (12/ 8).

(6)

الأضحية: اسم لما يذبح في أيام النحر؛ بِنِيَّةِ القربة إلى الله تعالى. ينظر: (التعريفات للجرجاني ص: 29).

(7)

البدنة: هي الناقة، سميت بدنة بالعظم إما لسمنها أو لسنها. ينظر:(غريب الحديث لابن قتيبة 1/ 219).

(8)

المبسوط للسرخسي (7/ 10).

ص: 53

فإن غدّاهم وعشّاهم جاز، والرواية وعشّاهم بالواو ولا بأو، فإنّ التغدية الواحدة من غير التعشية أو التعشية من غير التغدية لا يجوز.

وذكر في «المبسوط» المعتبر في التمكين أكلتان مشبعتان إمّا الغداء والعشاء، وإمّا غداءان أو عشاءان لكل مسكين، فإنّ المعتبر حاجة اليوم وذلك بالغداء والعشاء

(1)

.

وفي المجرّد عن أبي حنيفة رحمه الله إذا غدا ستين وعشا آخرين لا يجوز، ذكره في «المحيط»

(2)

.

(قَلِيلًا كَانَ مَا أَكَلُوا أَوْ كَثِيرًا)، أي: بعدما شبعوا فالمعتبر فيه الشبع لا المقدار، وذكر في «المحيط» ، وإذا غدّاهم وعشّاهم فالمعتبر فيه أكلتان مشبعتان، ولا معتبر فيه لمقدار الطّعام

(3)

.

وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في كفارة اليمين لو قدّم أربعة أرغفة

(4)

أو ثلاثة بين يدي عشرة، وشبعوا أجزاه وإن لم يبلغ ذلك إلا صاعاً أو نصف صاع، وإن كان أحدهم شبعان هل يجوز؟.

اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يجوز؛ لأنّه وجد إطعام العشرة وقد شبعوا، وقال بعضهم: لا يجوز؛ لأنّ المأخوذ عليه إشباع العشرة، وهو ما أشبع العشرة إنّما أشبع التسعة

(5)

.

وقال الشافعي: لا يجوز إلا التمليك

(6)

، وعندنا الإطعام بالكفّارات يتأدّى بالتمكين من الطّعام.

وقال الشافعي رحمه الله: لا يتأدّى إلا بالتمليك من الفقير، وكان حمدان بن سهل

(7)

يقول: لا يتأدّى بالتمليك، وإنّما يتأدّى بالتمكين فقط؛ لظاهر قوله تعالى:{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}

(8)

والإطعام فعل متعد ولازمه طعم يطعم في ذلك الأكل دون الملك، ففي التمليك لا يوجد حقيقة الإطعام.

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 15).

(2)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 437).

(3)

المرجع السابق.

(4)

الرَّغْف، وَهُوَ جمعك الْعَجِين أَو الطين تكتّله بِيَدِك، رغفتُه أرغَفه رَغْفاً، إِذا جمعته، وَمِنْه اشتقاق الرَّغِيف. ينظر:(جمهرة اللغة 2/ 778).

(5)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 437)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 12).

(6)

ينظر: كفاية النبيه في شرح التنبيه (15/ 22).

(7)

حَمْدان بن سهل الفقيه، أبو بكر، من أهل بَلْخ، يروي عن: مكي بن إبراهيم، وأبي الوليد الطيالسي. روى عنه أهل بلده، كان ممن جَمَعَ وصَنَّفَ وحفظ وذاكر وقَمَع المخالفين وذَبَّ عمن انتحل السنن مع الورع الشديد والجهد الجهيد. ينظر: الثقات لابن حبان (8/ 220)، الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة (4/ 23).

(8)

سورة المجادلة (الآية/ 4).

ص: 54

وإنّما يوجد ذلك في التمكين؛ لأنّه لا يتمّ ذلك إلا بأنّ يطعم المسكين والكلام محمول على حقيقته.

والشافعي رحمه الله يقول: الإطعام يذكر للتمليك عرفاً، بقول الرجل لغيره: أطعمتك هذا الطّعام، أي ملكتكه، والمقصود سد خلة المسكين واغناؤه، وذلك يحصل بالتّمليك دون التمكين.

وَفِي الْإِبَاحَةِ ذَلِكَ، أي الإطعام، كَمَا فِي التَّمْلِيكِ، فيتأدّى الواجب بكلّ واحد منهما، أمّا بالتمليك فإن الأكل الذي هو المنصوص عليه جزء ممّا هو المقصود بالتمليك؛ لأنّه إذا ملك منه فإمّا أن يأكل أو يصرف إلى حاجة أخرى، فيقام هذا التّمليك مقام ما هو المنصوص عليه لهذا المعنى، ويتأدّى بالتمكين لمراعاة عين النصّ، والدّليل عليه أنْ شبّهه بطعام الأهل، فقال تعالى:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}

(1)

وذلك يتأدّى بالتّمليك تارة وبالتمكين أخرى، فكذا هذا؛ لأن حكم المشبّه حكم المشبّه به، وهذا في الإباحة من غير خلاف.

قوله رحمه الله: "وَهَذَا"، إشارة إلى قوله: لم يجزه إلا عن يومه، يعني [أنه]

(2)

إذا دفع ستين مرًّة لمسكين واحد في يوم واحد بطريق الإباحة لا يجوز من غير خلاف، فقد قيل: لا يجزيه.

وذكر في «المحيط»

(3)

وهو الصّحيح فوجه ذلك هو أنّ المعتبر يسد الخُلة

(4)

، ولهذا لا يجوز صرفه إلى الغني؛ لأنّه طاعم يملكه وإطعام الطّاعم لا يتحقّق، كما أنّ التمليك من المالك لا يتحقّق، وبعدما استوفى وظيفته في هذا اليوم لا يحصل سدّ خلته بصرف وظيفة أخرى في هذا اليوم إليه، بخلاف كفارة أخرى؛ لأنّ المستوفى في حكم تلك الكفّارة كالمعدوم ولا يمكن أن يجعل مثله في هذه الكفّارة.

وبخلاف الثّوب؛ لأنّ تجدّد الحاجة إليه يختلف أحوال الناس فيه، فلا يمكن تعليق الحكم بعينه لتعذّر الوقوف عليه، فيقام تجدّد الأيام فيه مقام تجدّد الحاجة تيسيراً.

وقد قيل: يجزيه؛ لأنّ التمليك أقيم مقام حقيقة الإطعام والحاجة بطريق التّمليك ليس لها نهاية، فإذا فرّق الدّفعات جاز ذلك في يوم واحد كما يجوز في الأيّام، واستدلّوا على هذا بما ذكر في كتاب الأيمان أنّه لو كسا مسكينًا واحدًا في عشرة أيّام كسوة عشرة مساكين أجزاه؛ لتفرق الفعل وإن انعدم تجدّد الحاجة في كلّ يوم، والدّليل عليه أنّه بعدما أخذ وظيفته في هذا اليوم لو صرف إليه رجل آخر طعام مسكين عن كفارته يجوز، وكذلك إذا صرف إليه ذلك الرّجل طعام مسكين آخر، بخلاف ما إذا دفع بدفعة واحدة؛ لأنّ الواجب عليه تفريق الفعل بالنصّ، فإذا جمع لا يجزيه إلا عن واحد كالحاج إذا رمى الحصيات السّبع دفعة واحدة، كذا في «المبسوط»

(5)

، إلا أنّه يمنع من المسيس قبل.

(1)

سورة المائدة (الآية/ 89).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 438).

(4)

الْخُلَّة بالضَّم: الصَّدَاقة والمَحَبَّة الَّتِي تَخَلَّلَتِ القَلْب فَصَارَتْ خِلَالَهُ: أَيْ فِي بَاطِنِهِ. ينظر: (النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 72)

(5)

المبسوط للسرخسي (7/ 17).

ص: 55

وقال مالك

(1)

رحمه الله: لا يمنع، بل له أن يجامعها قبل التكفير؛ لأنّه ليس في التكفير بالإطعام شرط التقديم على المسيس في النصّ، ولا مدخل للقياس في هذا الباب، ولكنّا نستدلّ بقوله عليه السلام:«استغفر الله ولا تعد حتى تكفر»

(2)

من غير تفصيل، ولأن من الجائز أن يقدر على الإعتاق والصيام فيصير كفارته بذلك.

فحينئذ يكون مسّه قبل التكفير وهو حرام.

وَالْمَنْعُ، أي المنع من المسيس قبل الإطعام.

لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، أي في غير المسيس، وهو توهم القدرة على الإعتاق أو الصيام.

ومثل هذا المنع في المشروع لا يمنع مشروعية ذلك المشروع، كالنهي عن صوم [يوم الفطر أو]

(3)

يوم النحر والصلاة في الأوقات المكروهة؛ لما كان لمعنى الإعراض عن ضيافة الله، ومعنى وقوع الصّلاة في أوقات نسبت إلى الشيطان لم ينف مشروعية الصّوم والصّلاة في أنفسهما، فكذلك ههنا لما كان النهي لمعنى في غير المسيس كان المسيس مشروعًا في نفسه في فصل الإطعام سواء كان قبل الإطعام أو بعده نظراً إلى الإطلاق في النصّ.

(وَإِذَا أَطْعَمَ عَنْ ظِهَارَيْنِ)، أي في امرأة واحدة أو امرأتين ولهما أنّ النية في الجنس الواحد لغو

(4)

وفي الجنس معتبرة إلى آخره.

وطرديتهما

(5)

هي أنّه زاد في الوظيفة ونقص عن المحل، فلا يجزيه إلا بقدر المحل، كما لو أعطى ثلاثين مسكينًا في كفارة واحدة كلّ مسكين صاعًا، وبيان ذلك الواجب عليه في كلّ كفارة إطعام ستين مسكينًا، فمحلّ إطعام الظهارين مائة وعشرون مسكينًا، وقد نقص عن المحلّ وزاد في الواجب؛ لأنّ الواجب لكلّ مسكين نصف صاع، وقد أدّى صاعًا، وحقيقة المعنى فيه أنّ في الجنس الواحد كما لا يعتبر نيته في العدد ونيته عن ظهارين وعن ظهار واحد سواء.

(1)

مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، أبو عبد الله إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه تنسب المالكية، مولده ووفاته في المدينة، سأله المنصور أن يضع كتابا للناس يحملهم على العمل به، فصنف "الموطأ"، روى مالك عن غير واحد من التابعين، وحدث عنه خلق من الأئمة، منهم السفيانان، وشعبة، وابن المبارك، والأوزاعي، وابن مهدي وابن جريح والليث والشافعي والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو شيخه، قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، توفي سنة 179 هـ.

انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (1/ 82)، البداية والنهاية (10/ 174)، وفيات الأعيان (4/ 135)، سير أعلام النبلاء (8/ 48).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب في الظهار، 2 (221)، و أخرجه الترمذي في سننه، أبو الطلاق واللعان، باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، (1199)، وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، (2/ 494).

(3)

سقطة من (ب).

(4)

اللغو: الباطل من الكلام، ومنه اللغو في الأيمان لما لا يعقد عليه القلب. ينظر:(المغرب ص: 425).

(5)

الْعلَّة الطردية: فَهِيَ الْوَصْف الَّذِي اعْتبر فِيهِ دوران الحكم مَعَه وجودا فَقَط عِنْد الْبَعْض ووجودا وعدما عِنْد الْبَعْض من غير نظر إِلَى ثُبُوت أَثَره فِي مَوضِع بِنَصّ أَو إِجْمَاع. ينظر: (دستور العلماء 2/ 265).

ص: 56

بخلاف ما إذا كانتا من جنسين؛ لأنّ نية التعيين معتبرة عند اختلاف الجنس.

فكذلك يعتبر نيته عن الكفارتين ليكون عن كلّ واحد منهما نصف المؤدّى، كذا في «المبسوط»

(1)

.

ولهما أن النية في الجنس الواحد لغو وفي الجنسين معتبرة.

ألا ترى أن قضاء أيّام من رمضان لا تجب فيه نية التعيين، وقضاء رمضان وصوم النذر يفتقر إلى تعيين النية، لاختلاف جنسهما، وإن أعتق عن ظهار وقتل لم يجز عن واحد منهما، ما لو أعتق رقبة كافرة عنهما يقع عن الظهار -كذا ذكره الإمام التمرتاشي-

(2)

.

كان له أن يجعل ذلك عن أيّهما شاء، هذا جواب الاستحسان والقياس أن لا يجوز، وهو قول زفر

(3)

؛ لأنّه خرج الأمر من يده على ما يجيء.

وَلَنَا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَتَلْغُو، أراد به تعميم الجنس بالنيّة.

ألا ترى أنّه إذا عيّن ظهار أحديهما للتكفير صح، ويبطل ظهارها حتّى حلّ له قربانها، كذا في «الفوائد الظهيرية»

(4)

.

لَا يَجْزِيه عَنْ أَحَدِهِمَا فِي الْفَصْلَيْنِ، أي في الجنس المتحد كما في الظهارين، وفي الجنس المختلف كما في قتل وظهار، وحاصله أنّ عند زفر شمول العدم

(5)

.

وعند الشافعي شمول الجواز، وعندنا بالفصل، ففي الجنس الواحد كما إذا أعتق رقبة واحدة عن كفارتي ظهارين يجوز عن أحديهما

(6)

، وكان له أن يصرف إلى أيهما شاء [ولما ذكرنا أنّ نية التعيين في الجنس المتحد لغو، وإذا لغا بقي الإعتاق عن الظهار مطلقاً لا غير، ولو أعتق جاز عن أحدهما ثم له التعيين فكذلك عند النية]

(7)

.

وأمّا إذا أعتق رقبة واحدة عن كفارتي ظهار وقتل لا يجوز عن واحد منهما.

ولنا أنّ نيّة التعيين في الجنس المتحد كما في الظهارين غير معتد، فيلغو، فبقي الإعتاق عن الظهار مطلقاً لا غير.

ولو أطلق جاز عن أحدهما، ثم له التعيين، فكذلك عند لغو النية عنهما جميعًا، وباعتبار اتحاد الجنس يجوز له التعيين عن أحدهما، فيملك التعيين كمدة قضاء أيام من رمضان عليه نية القضاء لا تعيين اليوم بأنّه صوم يوم السّبت أو يوم الأحد.

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 18).

(2)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 85)، المبسوط للسرخسي (3/ 134).

(3)

ينظر: الاختيار لتعليل المختار (3/ 167)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 13).

(4)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 274).

(5)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 274).

(6)

ينظر: المرجع السابق.

(7)

سقطت من (ب).

ص: 57

وفي الجنس المختلف كما في الظهار والقتل مفيد لاختلاف جنسهما، فلما صحّت النية عند اختلاف الجنس لم يعتق الكلّ عن القتل ولا عن الظهار، فلذلك لم يجز.

وحاصله أن عدم الجواز إنما نشأ من صحة تعيين النية، وذلك عند اختلاف الجنس، والجواز إنما نشأ من عدم صحة تعيين النية وذلك عند اتحاد الجنس.

وذكر في «الفوائد الظهيرية» أنّه نوى التوزيع في الجنس الواحد، فيلغو نيّة التوزيع، قياساً على ما قالوا فيمن كان عليه قضاء يومين من رمضان، فنوى من الليل أن يصوم غدًا قضاء عن اليومين، كانت نية التوزيع لغوًا منه، وإذا لغت نية التوزيع صار كأنّه أعتق رقبة عن الظهارين ولم ينو عنهما

(1)

.

ولو كان كذلك جاز، وكان له أن يصرف إلى أيهما شاء هكذا هنا.

بخلاف ما لو كانت الكفارتان من جنسين مختلفين؛ لأنّه نوى التوزيع في الجنس المختلف ونية التوزيع في الجنس المختلف معتبرة.

ألا ترى أن من كان عليه قضاء يوم رمضان وصوم يوم من كفارة اليمين نوى من الليل أن يصوم غدًا عنهما كانت النية معتبرة حتّى لا يصير صائمًا، كذلك ههنا، ثم قال: قال رحمه الله: في هذا الوجه نوع نظر، فإنّه إذا نوى ظهرين من يومين لا يجوز، وإن كان الجنس واحدًا وما الفرق بين هذا وبين ما إذا نوى صومين من يومين؟ يجوز عن أحدهما لاتحاد الجنس.

قال الإمام الزّاهد الصفّار

(2)

: وليس هذا كصلوات الظهر متى كانت عليه، فإنّ نيّة التعيين فيه لازمة لكلّ يوم؛ لأنّ وقت الظهر من اليوم الثاني غير وقت الظهر من اليوم حقيقة وحكمًا أمّا حقيقة فلا ريب

(3)

.

وأمّا حكمًا فلأن الخطاب ما تعلق لوقت يجمعها بل بدلوك

(4)

الشمس والدلوك في اليوم الأول غير الدلوك في اليوم الثاني.

بخلاف قضاء الأوّل الصيام من رمضان، حيث يكفيه أن ينوي قضاء رمضان، ولا يحتاج إلى التعيين أنّه من يوم السبت أو من يوم الأحد؛ لأنّ الخطاب تعلّق بزمان يجمعها فإنّه واحد، وحرمة الشهر ثابتة بصفة الامتداد من أوّله إلى آخره، فلمّا كانت الحرمة واحدة لا يشترط التعيين، حتّى قالوا في قضاء يومين من رمضانين يشترط التعيين، كذا ذكره القاضي الإمام فخر الدين رحمه الله في فتاواه

(5)

.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 275).

(2)

عَليّ بن الْحسن بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الصفار، الإِمَام أَبُو الْقَاسِم ابْن الإِمَام أبي عَليّ الصفار، النَّيْسَابُورِي، الْفَاضِل، البارع، ذُو الْفُنُون، جَاءَ نعية من أسفرائنفى رَمَضَان، سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخمْس مائَة - رَحمَه الله تَعَالَى-. ينظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 359).

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 10)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (1/ 100).

(4)

دلكت الشمس تدلك دلوكا: غربت، وقيل اصفرت ومالت للغروب. ينظر:(لسان العرب 10/ 427).

(5)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 13).

ص: 58

قوله رحمه الله: "وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ"، أي [كفارة]

(1)

الظهار مع [كفارة]

(2)

القتل يختلفان باختلاف السّبب، وهو القتل والظّهار وأمّا بالنظر إلى إعتاق الرقبة فكلاهما جنس واحد، فلمّا اختلف الجنس نظراً إلى السّبب صحّت النية، فكان إعتاق رقبة واحدة للكفارتين، فلكلّ واحدة منهما نصف رقبة فلا يجوز إلى آخر ما ذكرناه.

قوله رحمه الله: "نَظِيرُ الْأَوَّلِ" إشارة إلى الجنس المتّحد.

"وَنَظِيرُ الثَّانِي" إشارة إلى الجنس المختلف والله تعالى أعلم [بالصّواب]

(3)

.

‌باب اللعان

وقد ذكرنا وجه مناسبة الباب فيما تقدّم، فيحتاج ههنا إلى معرفة اللعان لغة وشرعًا ومعرفة وسببه وشرطه وركنه وحكمه وأهلية من يقوم به وصورته.

أما اللغة فإن معناه الطرد، يقال: لعنه لعنًا ولاعنه ملاعنة ولعاناً.

ثم لقب الباب باللعان دون الْغَضَبِ وإن كان فيه الْغَضَبِ -أيضاً-؛ لأن اللعن من جانب الرجل وهو مقدّم وسابق والسبق من أسباب الترجيح.

وأمّا في الشرع فعبارة عمّا يجري بين الزوجين من الشّهادات الأربع واللعن والْغَضَبِ.

وسببه قذف الرجل امرأته قذفاً يوجب الحد في الأجانب، فيجب به اللعان بين الزوجين وشرطه النكاح حتّى لو طلّقها بعد القذف لا يجري اللعان بينهما.

وركنه الشهادات المخصوصة التي تجري بكلمات معروفة بين الزوجين.

وحكمه حرمة الوطء والاستمتاع كما فرغا من اللعان، ولكن لا تقع الفرقة بنفس اللعان حتّى لو طلّقها في هذه الحالة طلاقاً بائنًا يقع، وكذا لو أكذب الرجل نفسه حل الوطء من غير تجديد النكاح، بمنزلة ما لو أسلم أحد الزوجين يجز لم يوطأ ولا يقع الفرقة قبل التفريق.

وأهله هو من كان أهلاً للشهادة عندنا، فلذلك لم يجز اللعان بين زوجين مملوكين أو أحدهما مملوك أو صبي أو مجنون أو محدود في قذف أو كافر.

وصورته هي أنّ المرأة إذا خاصمته إلى القاضي بعد القذف يأمره القاضي باللّعان يقوم الرجل فيشهد أربع شهادات بالله أنّه لمن الصادقين إلى آخره ما ذكره في الكتاب

(4)

كذا في «الجامع الصّغير» لقاضي خان وغيره

(5)

.

اعلم أن موجب قذف الرجل زوجته كان هو الحدّ في الابتداء، كما في الأجنبية ثبت لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}

(6)

الآية.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

سقطت من (ب).

(3)

سقطت من (ب).

(4)

مختصر القدوري (ص: 167).

(5)

ينظر: النتف في الفتاوى للسغدي (1/ 377)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/ 237).

(6)

سورة النور (الآية/ 4).

ص: 59

والدّليل عليه ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنّا جلوساً في المسجد ليلة الجمعة، إذ دخل أنصاري فقال: يا رسول الله أرأيتم الرجل يجد مع امرأته رجلاً، فإن قتل قتلتموه، وإن تكلّم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ، ثم قال: اللهم افتح، فنزلت آية اللعان

(1)

.

وقال عليه السلام لهلال بن أمية

(2)

حين قذف امرأته بشريك بن سحماء

(3)

: «آتِ بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فحد في ظهرك» ، فقالت الصّحابة: الآن يجلد هلال بن أمية فيبطل شهادته في المسلمين

(4)

.

فيثبت أن موجب القذف كان الحدّ، ثم انتسخ

(5)

ذلك اللعان في حق الزوجات واستقر الأمر على أن موجب قذف الزوج اللعان بشرائط، وعلى قول الشافعي رحمه الله: موجبه الحدّ، ولكنّه يتمكن من إسقاط ذلك الحدّ عن نفسه باللعان

(6)

، حتّى قال: لو امتنع الزّوج من اللعان يقام عليه حدّ القذف، وعندنا يحبس حتّى يلتعن، كذا في «المبسوط»

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله عز وجل:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (4745)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، (1492).

(2)

هلال بن أمية بن عَامِر بن قيس بن عبد الأعلم بن عَامِر بن كعب بن واقف- واسمه مالك- بْن امرئ القيس بْن مالك بْن الأوس الأنصاري الواقفي.

شهد بدرًا وأحدًا، وَكَانَ قديم الإسلام، كَانَ يكسر أصنام بني واقف، وكانت معه رايتهم يوم الفتح. وأمه أنيسة بنت هدم، أخت كلثوم بن الهدم الَّذِي نزل عَلَيْهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ المدينة مهاجرا. ينظر: أسد الغابة (4/ 630)

(3)

شريك بْن السحماء وهي أمه، وأبوه عبدة بن معتّب بن الحدّ بن العجلان ابن حارثة بْن ضبيعة البلوي، وقد تكرر باقي النسب، وهو ابن عم معن وعاصم ابني عدي بْن الجد، وهو حليف الأنصار، وهو صاحب اللعان، نسب في ذلك الحديث إِلَى أمه. ينظر: أسد الغابة (2/ 370).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (4747)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، (1496).

(5)

النسخ: في اللغة عبارة عن التبديل والرفع والإزالة، يقال: نَسَخَتِ الشمس الظل: أزالته، وفي الشريعة: هو بيان انتهاء الحكم الشرعي في حق صاحب الشرع، وكان انتهاؤه عند الله تعالى معلومًا إلا أن في علمنا كان استمراره ودوامه، وبالناسخ علمنا انتهاءه، وكان في حقنا تبديلًا وتغييرًا. ينظر:(التعريفات للجرجاني ص: 240)

(6)

ينظر: الحاوي الكبير (11/ 100).

(7)

المبسوط للسرخسي (7/ 39).

ص: 60

روي أن عاصم بن عدي

(1)

الأنصاري خرج يومًا إلى رسول الله عليه السلام فاستقبله هلال ابن أميّة وعويمر، فقال: ما وراءك، قال: شر، وجدت على بطن امرأتي خولة بنت عاصم

(2)

شريك ابن سحماء، فأخبر عاصم رسول الله عليه السلام فكلّم خولة فقالت: لا أدري الغيرة أدركته أم بخلاً على الطعام! وكان شريك نزيلهم، وقال هلال: لقد رأيته على بطنها، فنزلت آية اللعان

(3)

كذا في «الكشاف»

(4)

.

وهما من أهل الشهادة، ذكر في الأسرار: والأهل من هو أهل لأداء سائر الشهادات

(5)

، فعلم بهذا أنّ المراد من أهلية الشّهادة كونه أهلاً لأداء الشهادة، وكذلك قلنا: لا يجري اللعان بين الزّوجين إذا كانا مملوكين أو أحدهما مملوك على ما يأتي.

فإن قلت: يشكل على هذا جريان اللعان بين الزوجين الأعميين أو الفاسقين، ذكره الإمام قاضي خان

(6)

، مع أنّهما لا أداء لهما للشّهادة، قلت: أنّهما من أهل الشهادة.

ألا ترى أنّ القاضي لو قضى بشهادة هؤلاء جاز، ولأن الأعمى من أهل الشهادة، إلا أنّه إنّما لا يقبل شهادته؛ لأنّه لا يميّز المشهود له من المشهود عليه، ولهذا ينعقد النكاح بحضرتهما، كذا في «شرح الطّحاوي» و «جامع الصغير» لقاضي خان

(7)

.

"وَالْمَرْأَةُ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا" حتّى أن المرأة إذا كانت ممّن لا يحدّ قاذفها، بأن تزوّجت بنكاح فاسد ودخل بها، أو كان لها ولد وليس له أب معروف لا يجري اللعان، وإن كانا من أهل الشهادة.

(1)

عَاصِم بْن عدي بْن الجد بْن العجلان بْن حارثة بْن ضبيعة بْن حرام بْن جعل بْن عمرو بْن ودم بْن ذبيان بْن هميم ابْن ذهل بْن بلي، البلوي، حليف بني عبيد بْن زيد، من بني عمرو بْن عوف، من الأوس من الأنصار، يكنى أبا عَبْد اللَّهِ، وقيل: أَبُو عمر، وَأَبُو عمرو، وهو أخو معن بْن عدي، وكان سيد بني العجلان، شهد بدرا وأحدا والخندق، والمشاهد كلها، مع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ينظر: أسد الغابة (3/ 10).

(2)

خولة بنت عاصم، امرأة هلال بن أمية التي لاعنها ففرق النبي صلى الله عليه وسلم، بينهما. ينظر: أسد الغابة (6/ 95).

(3)

المبسوط للسرخسي (7/ 39).

(4)

الكشاف عن حقائق التنزيل، للإمام العلامة أبي القاسم، جار الله محمود بن عمر الزمخشري. ينظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (2/ 1475) ..

(5)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 14).

(6)

ينظر: الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (2/ 69).

(7)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 41).

ص: 61

فإن قلت: ما فائدة تخصيص المرأة بكونها ممن يحد قاذفها، وهو الشرط كما هو شرط في جانب المرأة، فكذلك هو شرط -أيضاً- في جانب الرجل، حتّى أن الرجل إذا كان ممّن لا يحدّ قاذفه لا يجري اللعان -أيضاً- وإن كانت هي ممّن يحدّ قاذفها؟.

قلت: إنّما اشترط كونها ممّن يحدّ قاذفها؛ لأنّ اللعان قائم في حقّه مقام حدّ القذف، فلابدّ من إحصانها حتّى يقع موجباً ما هو قائم مقام حدّ القذف، وعند عدم إحصانها لا يقع قذفه إيّاها موجباً شيئاً لا حدّ القذف ولا اللعان، وأمّا قذف الرجل عند عدم إحصان

(1)

الرجل فوجب ما هو الأصل فيه، وهو حدّ القذف، فلم يحل قذفه عند عدم إحصانه عن موجبه، فلذلك لم يشترط كون الرجل ممّن يحدّ قاذفه؛ لأنّ قذفه حينئذٍ لا يخلو عن موجب مّا، لأنّه إن لم يكن موجباً للعان، لكن هو موجب لما هو الأصل للعان وهو حدّ القذف، واللعان خلف عنه بطريق الانتقال في حقّ الزوجين فكان هو في معنى اللعان.

بخلاف جانب المرأة فإنّه حينئذ يمتنع القذف عن إيجاب شيء أصلاً.

"وَالْأَصْلُ أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ" إلى آخره، وإنّما قيد بقوله "عِنْدَنَا"؛ لأنّ عند الشافعي تفسير اللعان على عكس ما قلنا، فإنّ عنده اللعان أيمان مؤكدات بالشهادات

(2)

، فمن كان أهلاً لليمين يكون أهلاً للعان عنده، وعندنا من كان أهلاً للشهادة كان أهلاً للعان، كذا ذكره الإمام قاضي خان رحمه الله

(3)

.

وفي «الإيضاح» : والركن في باب اللعان عندنا شهادات مؤكدات [بالأيمان]

(4)

، مقرونة باللعن، قائمة مقام حدّ القذف في حق الرجل، وفي حقها قائمة مقام حدّ الزنا

(5)

.

وقال الشافعي رحمه الله: الركن أيمان مؤكدات [بالشهادات]

(6)

مقرونة باللعن، شرعت حجة في جانب الزوج، لإثبات الزنا عليها، وفي جانب المرأة حجة دافعة لما أثبته الزوج بأيمانه، قائمة مقام حدّ القذف في حقّه ومقام حدّ الزنا في حقها

(7)

.

(1)

الإحصان: هو أن يكون الرجل عاقلًا بالغًا حرًّا مسلمًا، دخل بامرأة بالغة عاقلة حرة مسلمة، بنكاحٍ صحيح. ينظر:(التعريفات للجرجاني ص: 12).

(2)

ينظر: الأم للشافعي (6/ 247).

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 280).

(4)

سقطت من (ب).

(5)

حد الزاني المحصن الرجم، وغير المحصن الجلد. ينظر:(النتف في الفتاوى للسغدي 2/ 631).

(6)

سقطت من (ب)

(7)

ينظر: كفاية النبيه في شرح التنبيه (14/ 327).

ص: 62

فإن قلت: ما معنى إقامة الشهادة مقام المحدود في الطرفين، وما المناسبة بين الحدّ والشهادة؟.

قلت: لأنّ الحدّ سبب الهلاك والاستشهاد بالله كاذباً مع اللعن على نفسه سبب الهلاك -أيضاً-، وكذلك في حق المرأة بمنزلة حدّ الزنا في زعم الرجل؛ لأنّه مهلك في حقها، لأنها كاذبة في زعم الرجل في شهادتها، إلى هذا أشار فخر الإسلام في مبسوطه.

وقوله: ومقام حدّ الزنا في حقها حتّى لو قذف امرأته مراراً فعليه لعان واحد كالحدّ في حق الأجنبيات.

فإن قلت: يشكل على هذا ما لو قذف أربع نسوة له في كلمة واحدة، أو [في]

(1)

كلام متفرق فعليه أن يلاعن كلّ واحدة منهنّ على حدة، وأمّا لو قذف أجنبيات فإنّه يقام عليه حدّ القذف لهنّ مرة واحدة، فلو كان اللعان قائمًا مقام حدّ القذف في حقه لجرى ذلك مثل جريانه من الاتحاد والتعدد.

قلت: إنّما كان هكذا؛ لأنّ المقصود هناك يحصل بإقامة حدّ واحد، وهو دفع عار الزنا عنهنّ، وههنا لا يحصل المقصود بلعان واحد؛ لأنّه يتعذر الجمع بينهنّ في كلمات اللعان، فقد يكون صادقاً في حق بعضهن دون البعض، والمقصود التفريق بينه وبينهن ولا يحصل ذلك بلعان بعضهنّ، فلهذا يلاعن كلّ واحدة منهنّ على حدة حتّى لو كان محدودًا في قذف كان عليه حدّ واحد لهن؛ لأنّ موجب قذفه لهن الحدّ ههنا، والمقصود يحصل بحد واحد كما في الأجنبيات كذا في «المبسوط»

(2)

.

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}

(3)

وجه التمسّك به أنّ الله تعالى استثنى الأزواج من الشهداء، وهو دليل كونه شهادة توضحه أنّ اللعان يختص بلفظ الشهادة، ولو كان عينًا لكان لا يختصّ بها اعتباراً بعامة الأيمان، ولأنّ الزوج هو البادي باللعان والزّوج مُدّع، وإنّما يبدأ المدّعي بالشّهادة لا باليمين.

فإن قلت: فيه دلائل تدلّ على أنّها يمين.

أحدها: أن الشّهادة لم تشرع حجّة للشّاهد، وكل واحد منهما يشهد لنفسه، واليمين شرعت حجّة للحالف، ولأنّ الشّهادة وضعت للإثبات، واليمين وضعت للنفي، والجمع بين النّفي والإثبات متعذّر، فلابدّ من العمل بأحدهما حقيقة وبالآخر مجازاً، والعمل بحقيقة اليمين أولى؛ لأن لفظ الشّهادة يحتمل معنى اليمين.

بخلاف العكس، ولأنّ هذه الكلمات شرعت مكرّرة، والتكرار مشروع في الأيمان كما في القسامة دون الشّهادة.

قلت: أمّا الأول: فإن شهادة الإنسان لنفسه إنّما لم تشرع حجة بمكان التهمة، لا لأنّه لا يصلح شهادة، ألا ترى أنّ الله تعالى شهد لذاته بالوحدانية، وكان من أصدق الشهادات لانتفاء التهمة والتهمة فيما نحن فيه منفية باليمين.

(1)

سقطت من (أ).

(2)

المبسوط للسرخسي (7/ 49).

(3)

سورة النور (6).

ص: 63

وأمّا الثّاني: فإنّ الجمع بين النفي والإثبات إنّما يمتنع إذا كان بنسبته شيء واحد، فأمّا بالنسبة إلى شيئين فلا.

وههنا الشهادة قامت لإثبات الزنا واليمين لنفي التهمة فلا امتناع.

وأمّا الثالث: فإن تكرر الشهادة [هنا]

(1)

لقيام الشهادات مقام أربعة شهود، فإن الواجب عليه إقامة أربع شهادات من شهود أربعة، وقد عجز عن إقامة شهود أربعة، ولم يعجز عن إقامة شهود أربعة ولم يعجز عن إقامة أربع شهادات، فما عجز عنه سقط وما قدر عليه لزمه كذا في «الفوائد الظهيرية»

(2)

.

ثم قرن الركن في جانبه باللعن، إلى أن قال: وفي جانبها بالغضب، إنّما خصّ الغضب في جانبها في المرة الخامسة؛ لأنهنّ يستعملن اللعن كثيراً على ما ورد به الحديث:«إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير»

(3)

، فسقطت حرمة اللعن عن أعينهنّ، فعساهنّ يجبرن على الأقدام لكثرة جرى اللعن على ألسنتهن وسقوط وقعه عن قلوبهنّ، وأقام الغضب مقام اللعن في حقّهن ليكون رادعًا لهنّ عن الإقدام.

قوله رحمه الله: "كَمَا إذَا نَفَى" يتصل بقوله: "صَارَ قَاذِفًا لَهَا"، أي: كما يجعل نفي النّسب عن أبيه المعروف قذفاً من الأجنبي، فكذلك يجعل نفي الزوج النّسب عن نفسه هما ولدته امرأته قذفاً مرأة من الزّوج.

"وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْوَطْءِ مِنْ شُبْهَةٍ"، أي: لا يعتبر تأويل قوله ذلك على أنّه إنما نفى نسب ذلك المولود عن نفسه باعتبار أنّه موجود عن الوطء بشبهة حتّى لا يكون قذفاً، أي لا يعتبر هذا التأويل في أن لا يكون هذا النفي قذفاً بل نفيه هذا قذف ولا يعتبر هذا التأويل.

ثم ابتدأ ببيان دليل أن لا يعتبر ذلك التأويل بل هو قذف بقوله: "وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّسَبِ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ" إلى آخره، وذكر هذا التعليل في «المبسوط» على وجه السؤال والجواب، فقال: إذا نفاه قبل الإقرار لاعنها؛ لأنّه بعدما تثبت ولادتها يكون هو بنفي الولد قاذفاً لها بالزنا.

فإن قيل، لا كذلك، فقد يكون ولدها من وَطْءٍ بشبهة، [قلنا: الولد من الوطء بشبهة]

(4)

يكون ثابت النسب من إنسان، والذي لا يكون ثابت النسب من أحد يكون من زنا، ولا نسب لهذا الولد إلا منه، فإذا نفاه فقد زعم أنّه لا نسب لولدها هذا، فيكون قاذفاً لها بالزنا

(5)

.

(1)

سقطت من (أ).

(2)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 14).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم (304)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (79).

(4)

سقطت من (أ).

(5)

المبسوط للسرخسي (7/ 58).

ص: 64

قوله رحمه الله: "وَالْفَاسِدُ مُلْحَقٌ بِهِ" فلما ألحق الفاسد بالصّحيح، كان من نفي الفراش الصحيح نفي الفراش الفاسد، فيجب الحدّ.

"فَنَفْيُهُ عَنْ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ قَذْفٌ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُلْحَقُ بِهِ"، أي: قبل ظهور الملحق به بحدّ القاذف إلحاقاً للصّحيح، وأمّا إذا أظهر الملحق به حينئذ لا يحدّ.

وذكر في «المبسوط» لشيخ الإسلام رحمه الله وقال الشافعي: لا يصير قاذفاً لها بنفي الولد ما لم يقل وأنّه ومن الزنا، لجواز أن يكون من الوطء بشبهة

(1)

، وأجمعوا أنّه لو قال لأجنبيّة: ليس هذا الذي ولدته من زوجك، لا يصير قاذفاً، ما لم يقل وأنّه من الزنا، والقياس ما قاله إلا أنا تركناه لضرورة في اللعان؛ لأنّ الزّوج قد يعلم أنّ الولد ليس منه بأن لم يطأها أو عزلها عزلاً بيّنا، ولكن لا يعلم أنّه بزنا أو بوطء عن شبهة فاكتفى بنفي الولد، حتّى ينفي عنه نسب الولد، وهذه الضرورة معدومة في حق الأجنبي.

"وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا لِأَنَّهُ حَقُّهَا"؛ لأن باللعان يدفع عار الزنا عن نفسها.

(فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ)، أي: امتنع الزّوج من اللّعان، (حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ)، وهذا عندنا، [وعند]

(2)

الشافعي يقام عليه حدّ القذف بناء على أن موجب القذف الحدّ

(3)

، وإن كان بين الزّوجين، ولكن الزّوج يتمكّن من إسقاط ذلك الحدّ عن نفسه باللّعان، وعندنا يحبس حتّى يلتعن.

"لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ"؛ أي: لأنّ اللعان حق واجب على الزّوج.

"وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إيفَائِهِ"، هذا احتراز عن المديون المفلّس

(4)

فإنّ الدّين عليه حق مستحق عليه، ولكنّه غير قادر على إيفائه فلذلك لا يحبس.

"فَيُحْبَسُ بِهِ"، أي: بسببه حتّى يأتي بما هو عليه، فإذا كذب نفسه فحينئذ يجب عليه حد القذف.

"لِيَرْتَفِعَ السَّبَبُ"، أي: سبب اللعان وهو التكاذب؛ لأن اللعان إنّما يجب إذا كذّب كلّ واحد منهما فيما يدّعيه الآخر بعد قذف الزّوج امرأته بالزنا.

وأما إذا أكذب نفسه لم يبق التكاذب بل وافق المرأة في أنّها لم تزن، ولا يجري اللعان بعد ذلك.

(1)

ينظر: الأم للشافعي (5/ 139).

(2)

في (ب): وقال.

(3)

ينظر: الحاوي الكبير (11/ 127).

(4)

هو الذي لا مال له، ولا ما يدفع به حاجته، وإنما سمي مفلسًا؛ لأنه لا مال له إلا الفلوس، وهي أدنى أنواع المال. ينظر:(المطلع على ألفاظ المقنع ص 304).

ص: 65

وفي نسخة ليرتفع الشين، وفي نسخة ليرتفع السّبب، وإنّما احتاجوا إلى هذا التغيير على زعم أنّ سبب اللعان لا يرتفع بالإكذاب بل يتقرّر.

ألا ترى أنّه يجب عليه الحدّ بالإكذاب، وهو الأصل في القذف، فقالوا كأنّه أراد بالسّبب الشرط؛ لأنّ التكاذب شرط اللّعان، ولكنّ الوجه ما قلنا لما أنّ اللعان ظاهراً [لذا انضاف]

(1)

إلى قذف الزّوج امرأته بالزنا، فكان سبب اللّعان هو القذف، فإذا أكذب نفسه لم يبق ما قذفه موجباً للعان، فيصحّ أن يقال ليرتفع السّبب.

"لِمَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ"، وهو قوله تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}

(2)

.

(وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا) فصورة ما إذا كان الزّوج كافراً وامرأته [مسلمة]

(3)

مع أن بينهما على هذا الوجه لا يصحّ النكاح، ففي ما إذا كان الزّوجان كافرين، فأسلمت امرأته فقذفها زوجها قبل أن يُعرض عليه الإسلام، فهو ليس من أهل الشهادة عليها، وكذلك العبد إذا كانت تحته حرّة فلا يكون قذفه إياها موجباً للعان، ولكن يكون موجباً حدّ القذف؛ لأن القذف بالزنا لا ينفكّ عن موجب، فإذا خرج من أن يكون موجباً للعان لمعنى في القاذف كان موجباً للحدّ، كذا في «المبسوط»

(4)

.

ولو كانا محدودين في قذف فعليه الحدّ؛ لأنّ امتناع اللعان لمعنى من جهته.

فإن قلت: كما أن امتناع اللعان لمعنى من جهته، وكذلك لمعنى من جهتها -أيضاً-؛ لأنّ المانع من اللعان هو كونه محدودًا في القذف، وهو وصف مشترك بينهما فلم يعرَّض في هذا الوصف جانب الرجل دون المرأة؟.

قلت: إنّما لم يقل بأن امتناع جريان اللعان ههنا لكونها محدودة؛ لأنّ أصل القذف يكون من الرجل، وإنّما يظهر حكم المانع في جانبها بعد قيام الأهليّة في جانب الرجل، فأمّا بدون الأهلية في جانبه فلا معتبر بحالها، كذا في «المبسوط»

(5)

.

وحاصله أنّ المانع من جانبها إنما يكون مانعًا أن لو كان الزّوج أهلاً لموجب القذف، وهو الحدّ واللعان؛ لأنّ عند وجود المانع من جانبها لم تكن هي محصنة، فلا يكون قذفها موجباً للحدّ واللعان، وأمّا إذا كان امتناع اللعان من جانبه -أيضاً- لم يظهر مانعته ما كان مانعًا من جانب المرأة، والقذف في أصله موجب للحدّ فيجب الحدّ.

(1)

في (ب): إنما يضاف.

(2)

سورة النور (الآية/ 6).

(3)

سقطت من (أ).

(4)

المبسوط للسرخسي (7/ 40).

(5)

المبسوط للسرخسي (7/ 41).

ص: 66

فإن قلت: يشكل على هذا ما لو قذف العبد امرأته وهي مملوكة أو مكاتبة، فلا حدّ عليه ولا لعان، وهذه المسألة غير نظير ما إذا كان الزّوجان محدودين في قذف؛ لأنّ المانع للعان كما هو من جانبه، فكذلك من جانبها ثم وجب حدّ القذف في المحدودين، ولم يجب على العبد إذا قذف امرأته وهي أمة.

قلت: فإذا كان كذلك يعتبر الزوجان بالأجنبيين فأينما كان في الأجنبي حدّ القذف هنا -أيضاً- حدّ القذف؛ لامتناع اللعان لعدم أهلية الشّهادة، وأينما كان في الأجنبي لا يجب الحدّ هنا أيضاً لا يجب.

ثم أنّ الأجنبي لو قذف أمة غيره لم يجب حدّ القذف.

فكذلك ههنا لا يجب الحدّ على الزّوج ولكن يعزّر أسواطاً

(1)

، كما في الأجنبي والمحدود في القذف إذا قذف محدودًا في القذف ولكن هو محصن إحصان القذف يجب حدّ القذف فكذلك ههنا.

وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنّه يأتي بلفظ المواجهة، فلابدّ من أن يقول: إني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا، وهي تقول: أنت من الكاذبين فيما رميتني به من الزنا

(2)

.

(وَإِذَا الْتَعَنَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ) بينهما، حتّى لو مات أحدهما بعد الفراغ من اللعان وقبل التفريق توارثا

(3)

؛ لأنّ الفرقة عندنا لا تقع إلا بقضاء القاضي.

"وَقَالَ زُفَرُ-رحمه الله: تَقَعُ بِتَلَاعُنِهِمَا"، وقال الشافعي رحمه الله: تقع الفرقة بنفس لعان الزوج

(4)

، فالشافعي رحمه الله يقول: سبب هذه الفرقة قول من الزوج مختصّ بالنكاح الصّحيح فيتم به، كالطّلاق.

وزفر يستدل بقوله عليه السلام: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا»

(5)

فنفي الاجتماع بعد التلاعن تنصيص على وقوع الفرقة بينهما، ولكنّا نستدلّ بحديث العجلاني

(6)

فإنّه أوقع الثلاث عليها بعد التلاعن، ولم ينكر عليه رسول الله عليه السلام ولو وقعت الفرقة بينهما لأنكر رسول الله عليه السلام[عليه]

(7)

، فإن قيل: قد أنكر عليه بقوله: اذهب فلا سبيل لك عليها.

(1)

السَوْطُ: الذي يُضرَب به، والجمع أسواط وسياط. ينظر:(الصحاح 3/ 1135).

(2)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/ 237).

(3)

الإِرْثُ، بالكسرِ: الميراثُ، والأَصْلُ، والأَمْرُ القديمُ تَوَارثَه الآخِرُ عن الأَوَّلِ، والرَّمادُ، والبَقِيةُ من كلِّ شيء. ينظر: القاموس المحيط (ص: 164).

والإرث اصطلاحاً: انْتِقَالُ مَالِ الْغَيْرِ إِلَى الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ. ينظر: الاختيار لتعليل المختار (5/ 85).

(4)

ينظر: الأم للشافعي (5/ 60).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب في اللعان، (2250)، والدارقطني في سننه، كتاب النكاح، باب المهر، (3706)، وقال ابن حجر في الدراية:"من حديث ابن عمر مرفوعاً بلفظ: المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً، وإسناده لا بأس به"، ينظر: الدراية (2/ 76).

(6)

قصة عويمر العجلاني أخرجها البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث (5259)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها (1492).

(7)

سقطت من (أ).

ص: 67

قلنا: ذلك منصرف إلى طلبه ردّ المهر، فإنّه روى أنّه قال: إن كنت صادقًا فهو [لها]

(1)

بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذباً فابعد اذهب فلا سبيل لك عليها؛ وهذا لأنّ مجرّد اللعان غير موضوع للفرقة، ولا هو منافٍ للنكاح إلا أنّ الفرقة بينهما لقطع المنازعة، بخلاف الطّلاق.

وأمّا قوله عليه السلام: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا» ، فحقيقة هذا اللفظ حال تشاغلهما باللعان كالمتقاتلين والمتضاربين، وزفر رحمه الله يوافقنا أنّ في حال تشاغلهما باللعان لا تقع الفرقة بينهما، كذا في «المبسوط»

(2)

.

(وَهُوَ خَاطِبٌ

(3)

هذه مسألة مبتدأة، أي: هذا الرجل بعد إكذاب نفسه في القذف صار خاطباً من الخطاب، أي يجوز له أن يتزوّجها، كما لغيره يجوز أن يتزوّجها، فعليه الحدّ بإكذابه نفسه على ما يجيء، ولم يبق التلاعن ولا حكمه بعد الإكذاب، فيجتمعان؛ لأنّه إذا أكذب نفسه يقام عليه الحدّ لإقراره على نفسه بالتزام الحدّ، ومن ضرورة إقامة الحدّ عليه بطلان الحدّ عليه، ولا ينفي أصلاً للعان بعد إقامة الحدّ.

وذكر في الإيضاح وقوله: "المتلاعنان لا يجتمعان"، فمعناه ما داما متلاعنين، كقوله لا نكلّم هذا الكافر أبدًا، أي: ما دام كافراً، وإنّما يكونان متلاعنين حقيقة بإقدامهما على اللعان، أو مجازاً باعتبار بقاء حكم اللعان، فإذا ارتفع حكم اللعان لم يتناوله الخبر، وكذلك إذا أكذبت المرأة نفسها بأن أقرّت بالزنا، فقد خرجت من أن تكون أهلاً للعان

(4)

.

وكذلك لو قذفت رجلاً فأقيم عليها الحدّ فعرفنا أن حلّ المناكحة بينهما بعدما بطل حكم اللعان فلا يكون في هذا إثبات الاجتماع بين المتلاعنين.

وإذا أنكر الزّوج القذف، فأقامت المرأة البينة عليه وجب اللعان بينهما؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم، ثم قال ابن أبي ليلى

(5)

: إنكاره بمنزلة إكذاب نفسه فيحدّ

(1)

سقطت من (أ).

(2)

المبسوط للسرخسي (7/ 43).

(3)

خَطَبَ الْمَرْأَةَ إلَى الْقَوْمِ إذَا طَلَبَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ. ينظر: (المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1/ 173).

(4)

ينظر: الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار (ص: 241).

(5)

محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي: قاض، فقيه، من أصحاب الرأي. ولي القضاء والحكم بالكوفة لبني أمية، ثم لبني العباس. واستمر 33 سنة، له أخبار مع الإمام أبي حنيفة وغيره. مات بالكوفة سنة 148 هـ.

انظر: الوافي بالوفيات (3/ 185)، وفيات الأعيان (4/ 179).

ص: 68

-أيضاً-، ولكنا نقول إنكاره بقي للقذف، وإكذابه نفسه تقدير للقذف، فكيف يستقيم إقامة إنكاره مقام إكذابه نفسه فلهذا لا يحدّ.

(وَلَوْ كَانَ الْقَذْفُ بنفي بِوَلَدٍ) إلى آخره.

ولو نفى ولد زوجة محدودة أو كتابية أو مملوكة والزوج حر أو عبد كان نفيه باطلاً، فيلزم الولد إياه؛ لأنّ النّسب قد ثبت بالفراش، فلا ينقطع إلا باللعان، وقد تعذّر إثبات اللعان بينهما بانعدام أهلية الشهادة فيهما أو في أحدهما فيبقى النّسب ثابتًا منه، ولا حدّ على الزوج ولا لعان، هذا الجواب بإطلاقه محمول على ما إذا كان الزّوج حراً مسلمًا حتى يمتنع جريان اللعان بينهما من قبلها، وأمّا إذا كان الزّوج عبدًا والمرأة محدودة فعلى العبد إذا قذف حدّ القذف، كذا في «المبسوط»

(1)

.

قوله رحمه الله: (وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ) هذا زيادة تأكيد لقوله تعالى نفى القاضي نسبه.

"وَصُورَةُ اللِّعَانِ"، أي: صورة اللعان في نفي الولد.

"فَيُوَفِّرُ عَلَيْهِ"، أي: على الزّوج.

"فَيَتَضَمَّنُهُ الْقَضَاءُ بِالتَّفْرِيقِ"، أي: القضاء بالتّفريق يتضمّن نفي الولد.

"وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْقَاضِي يُفَرِّقُ وَيَقُولُ"، أي: القاضي يقول: قد فرقت بينكما أو قطعت نسب هذا الولد عنه، حتّى لو لم يقل ذلك لا ينتفي النّسب عنه، وهذا صحيح؛ لأنّه ليس من ضرورة التفريق باللعان نفي النسب، كما بعد [موت]

(2)

الولد يفرق بينهما باللّعان ولا ينتفي نسبه عنه فلابدّ أن يصرّح القاضي بنفي النّسب رواه بشر

(3)

عن أبي يوسف كذا في «المبسوط»

(4)

.

"لِأَنَّهُ"، أي: لأن نفي الولد، "يَنْفَكُّ عَنْهُ"، أي: عن القضاء بالتفريق؛ لأنّ كلّ واحد منهما ينفكّ عن الآخر وجودًا وعدماً.

ألا ترى أنّه إذا نفى ولد أم الولد يثبت النفي ولا يثبت اللّعان ولا التّفريق، ولو قال لامرأته: يا زانية ولها منه ولد يثبت اللعان، ولا يلزم نفي الولد، وإذا عاد الزّوج وأكذب نفسه، حدّه القاضي هذا إذا لم يطلّقها تطليقة بائنة بعد القذف، فإنّه إذا أكذب نفسه بعد القذف والبينونة لا يجب عليه الحدّ واللّعان.

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 47).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

بشر بن الْوَلِيد بن خَالِد بن الْوَلِيد الْكِنْدِيّ القَاضِي أحد أَعْلَام الْمُسلمين وَأحد الْمَشَاهِير سمع عبد الرَّحْمَن ابْن الغسيل وَمَالك بن أنس وَهُوَ أحد أَصْحَاب أبي يُوسُف خَاصَّة وَعنهُ أَخذ الْفِقْه وَكَانَ جميل الْمَذْهَب حسن الطَّرِيقَة صَالحا دينا عابدا وَاسع الْفِقْه وَكَانَ مُتَقَدما عِنْد أبي يُوسُف وروى عَنهُ كتبه وأماليه. ينظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 166).

(4)

المبسوط للسرخسي (7/ 58).

ص: 69

أمّا اللعان فإنّ المقصود باللعان التفريق بينهما، ولا يتأتى ذلك بعد البينونة، فلا معنى للعان بعد فوات المقصود، ولا حدّ عليه؛ لأنّ قذفه كان موجباً للعان والقذف الواحد لا يوجب الحدّين.

بخلاف ما لو أكذب نفسه بعدما لاعنها؛ لأنّ وجوب اللّعان هناك بأصل القذف، والحدّ بكلمات اللعان فقد نسبها فيها إلى الزنا وانتزع معنى الشهادة منها بإكذابه نفسه، فيكون هذا نظير شهود الزنى إذا رجعوا، وأمّا فيما قلنا فلم توجد كلمات اللّعان فلهذا لا يحدّ وإن أكذب نفسه.

ولو قال: أنت طالق ثلاثاً يا زانية، كان عليه الحدّ؛ لأنّها بانت بالتطليقات الثلاث، وإنّما قذفها بالزنى بعد البينونة، فعليه الحدّ، ولو قال: يا زانية أنت طالق ثلاثاً لم يلزمه حدّ ولا لعان؛ لأنّه قذفها وهي منكوحته، ثم أبانها بالتطليقات، وقد بيّنا أنّه بعدما قذفها إذا أبانها لم يلزمه حدّ ولا لعان، كذا في «المبسوط»

(1)

.

(وَكَذَلِكَ إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا فَحُدَّ بِهِ)، أي: له أن يتزوّجها.

"لِمَا بَيَّنَّا"، وهو قوله:"لِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلِّعَانِ".

(وَكَذَا إذَا زَنَتْ فَحُدَّتْ)، أي: كان له أن يتزوّجها.

فإن قلت: لما جرى اللعان بينهما عُلم أنهما زوجان على صفة الإحصان، والمرأة أو الرجل إذا زنيا بعد إحصانهما يرجمان، فحينئذٍ كان قوله: فحدّت، معناه رجمت فبعد ذلك كيف يبقى محلاً للتزوج؟ قلت: لا بل معنى قوله: حدّت، أي: جُلدت بدليل تصوير التزوّج عليها.

وأمّا صورته فبأن تلاعنا بعد التزوّج قبل الدخول، ثم زنت بعد اللّعان، فكان حدّها الجلد دون الرجم؛ لأنّها ليست بمحصنة؛ لأنّ من شرائط إحصان الرجم هو الدّخول بعد النكاح الصّحيح، ولم يوجد، وفيه خلاف الشافعي رحمه الله، فعند الشّافعي يجب الحدّ واللّعان؛ لأنّ إشارة الأخرس

(2)

كعبارة النّاطق

(3)

.

ولكنا نقول: لابدّ من التصريح بلفظ الزنا، ليكون قذفاً موجباً للحد أو اللّعان، ولا يتأتى هذا التصريح بإشارة الأخرس، فإن إشارته دون عبارة النّاطق بالكتابة؛ ولأنّه لابدّ من لفظ الشّهادة في اللّعان حتّى أنّ النّاطق لو قال: أحلف، مكان قوله: أشهد، لا يكون صحيحًا، وبعض أصحاب الشافعي يرتكبون هذا.

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 49).

(2)

الأخرس من الناس: من كان فيه خرس فانعقد لسانه عن الكلام. ينظر: (معجم لغة الفقهاء ص 50).

(3)

ينظر: الحاوي الكبير (11/ 23)، كفاية النبيه في شرح التنبيه (14/ 352).

ص: 70

ولكنّه مخالف للنصّ، فإذاً ثبت أنّه لابدّ من لفظ الشّهادة، وذلك لا يتحقّق بإشارة الأخرس.

وكذلك إن كانت هي خرساء، ولأن قذف الخرساء لا يوجب الحدّ على الأجنبي، لجواز أنّ تصدّقه لو كانت تنطق، ولا تقدر على إظهار هذا التصديق بإشارتها، وإقامة الحدّ مع الشبهة لا يجوز، كذا في «المبسوط»

(1)

.

"لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِقِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَهُ"، أي: عند القذف فكان هذا ونفيه بعد الولادة سواء، فيتحقّق بالقذف في الصورتين، والقذف لا يصحّ تعليقه بالشرط وبه فارق الوصية

(2)

والميراث حيث يقيسان عليهما.

فإنا نقول: إنّما يصح فيهما الإضافة، فإنّ الوصية والميراث يمكن إثباتهما على سبيل التوقف أو الإضافة إلى ما بعد الانفصال.

بخلاف تعليق القذف؛ لأن القذف ممّا لا يختلف به، فلمّا يتعلّق بالشّرط والتّعليق بالشرط يمنع تحقّق نسبتها إلى الزنا في الحال، ومثله لا يصحّ في القذف؛ لأنّ من لا تكون زانية قبل دخول الدّار لا تصير زانية بدخول الدّار، ولأنّ القذف إخبار عمّا كان قبله، والإخبار لا يصح، أمّا إن كان عن أمر موجود أو معدوم، والزنا لو كان موجودًا منها لا يصحّ تعليقه بالشّرط؛ لأنّ التّعليق إنما يكون في المعدوم.

ولا يقال: أنّ التعليق بأمر كائن يتخير فيكون قاذفاً في الحال، فلم لا يكون ههنا قاذفاً في الحال بهذا الطّريق؟.

قلت: لا يمكن ذلك؛ لأنّ في ذلك سعياً في إيجاب الحدّ مع إلغاء حقيقة الشّرط، والسّعي في الحدود في درئها لا في إيجابها، ولو كان معدومًا لا يصير قذفاً باعتبار وجود الشّرط.

قوله رحمه الله: "وَلَنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ"، هذا جواب عن حرف الشافعي، وذكر في «المبسوط» تنوع مخالفة لهذه الرواية، وقال: وإذا نفى الرجل حبل امرأته، فقال: هو من زنا، فلا لعان بينهما، ولا حدّ قبل الوضع في قول علمائنا

(3)

.

وقال الشّافعي رحمه الله

(4)

: يلاعنها لحديث هلال بن أمية، فإنّه قذف امرأته بنفي الحمل، وقد لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 42).

(2)

الْوَصِيَّة هِيَ من الشَّيْء وصيت أصيه إِذا وصلته، وَسميت وَصِيَّة لِأَنَّهُ وصل مَا كَانَ فِي حَيَاته بِمَا بعده يُقَال وصّى وَأوصى أَيْضًا وَالِاسْم الْوَصِيَّة والوصاة. ينظر:(تحرير ألفاظ التنبيه ص 240 - 241).

(3)

المبسوط للسرخسي (7/ 44).

(4)

ينظر: الحاوي الكبير (11/ 7).

ص: 71

ولأنّ الحُبْلَ

(1)

يُعرف وجوده بالظّاهر، ويتعلّق به أحكام شرعًا، نحو الردّ بالعيب والميراث والوصيّة به وله، فكذلك يثبت حكم اللعان بنفيه، وحجّتنا ما قال في الكتاب: أنّ نفي الحبل ليس بشيء؛ لأنّه لا يدري لعلّة ريح، واللّعان في قذف الزّوج زوجته بمنزلة الحدّ في قذف الأجنبية، فلا يجوز إقامته مقام الشبهة، بخلاف حكم الردّ بالعيب فإنّه يثبت مع الشبهات والإرث والوصية يتوقف على انفصال الولد ولا يتقرّر في الحال.

فأمّا الحديث فمن أصحابنا من يقول: أنّه قذفها بالزنا نصًّا، فإنّه قال: وجدت شريك ابن سحماء على بطنها يزني بها، ثم نفى الحبل بعد ذلك، وعندنا إذا قذفها بالزّنا نصًّا، يلاعنها على أنّ النبي عليه السلام عرف من طريق الوحي أنها حبلى حين قال: إن جاءت به أحيمر على نعت كذا، فهو لهلال وإن جاءت به أسود جعدًا جُماليًّا

(2)

فهو لشريك فجاءت به على النعت المكروه، فقال عليه السلام:«لولا الأيمان التي سبقت لكان لي ولها شأن»

(3)

، ومثل هذا لا يُعرف إلا بطريق الوحي، ولا يتحقّق مثله في زماننا، أو في الحال التي تقبل التهنية يقبل على البناء للمفعول لا الفاعل؛ لأنّه لو قبل الأب التهنئة ثم نفى لا يصحّ نفيه في مدّة النفاس، أي: إذا كان حاضراً أوله أنّه لا معنى للتقدير، فإنّه يقول: إذا لم يكن الولد منه لا يحلّ له أن يسكت عن نفيه بعد الولادة، فيكون سكوته عن النّفي دليل القبول، وكذلك تهنّا بالولد عند الولادة فقبوله التهنئة إقرار منه أنّ الولد منه.

وكذلك شرى ما يحتاج إليه لإصلاح الولد عادة وبعد وجود دليل القبول ليس له أن ينفيه، فكان القياس أن لا يصحّ نعته إلا على فور الولادة، وبه أخذ الشّافعي -رحمه

الله-

(4)

، ولكن استحسن أبو حنيفة رحمه الله فقال: له أن ينفيه بعد [ذلك]

(5)

يوم أو يومين

(6)

.

(1)

الْحُبَل: الْحَمْل. ينظر: (الدر المختار ص: 205)، (المبسوط للشيباني 2/ 316).

(2)

الْجَعْد فِي صفة الرِّجَال يكون مدحا وَيكون ذما فللمدح مَعْنيانِ أَحدهمَا أَن يكون معصوب الْخلق شَدِيد الْأسر وَالثَّانِي أَن يكون شعره جَعدًا غير سبط لِأَن السبوطة أَكْثَرهَا فِي الْعَجم وللمذموم مَعْنيانِ أَحدهمَا الْقصير المتردد وَالْآخر الْبَخِيل. ينظر: (مشارق الأنوار على صحاح الآثار 1/ 158).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، باب ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، (4747).

(4)

ينظر: نهاية المطلب في دراية المذهب (15/ 131).

(5)

سقطت من (أ).

(6)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 52).

ص: 72

وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله سبعة أيام

(1)

؛ لأنّ في هذا المدّة يستعدّ للعقيقة

(2)

. وإنّما يكون للعقيقة بعد سبعة أيام.

ولكن هذا ضعيف فإنّ نصيب المقدار بالرأي لا يكون، ولو كان الزّوج غائباً حين ولدت فحضر بعد مدّة يجعل في حقّه في حكم النفي، كأنها ولدته الآن إلا أنّه روي عن أبي يوسف، قال: إن حضر قبل الفصال

(3)

فله أن ينفيه إلى أربعين ليلة، ولو حضر بعد الفصال، فليس له أن ينفيه؛ لأنه يقضي بنفقته عليه في ماله الذي خلّفه، ولو كان له أن ينفيه بعد الفصال لكان له أن ينفيه بعدما صار شيخًا، وهذا قبيح وهذا كلّه إذا لم يقبل التهنئة، فأمّا إذا هُنئ فسكت، [فليس له أن ينفيه بعد ذلك، إلا أنه روي عن محمد أنه إذا هنئ بولد الأمة فسكت]

(4)

لم يكن قبولاً.

بخلاف ولد المنكوحة؛ لأنّ ولد الأمة غير ثابت النّسب منه، فالحاجة إلى الدّعوة والسّكوت ليس بدعوة وأمّا نسب ولد المنكوحة ثابت منه، فسكوته يكون مسقطًا حقّه في النّفي، كذا في «المبسوط»

(5)

.

وأمّا الذي ذكره في الكتاب في صورة الغائب بقوله: ثم قدم يعتبر المدة التي ذكرناها على الأصلين هو رواية الإيضاح فقال: وعلى هذا الأصل قالوا في الغائب عن امرأته: إذا ولدت ولم يعلم بالولادة حتّى قدم أنّ له النفي عند أبي حنيفة رحمه الله في مقدار ما يقبل فيه التهنئة، وقالا في مقدار مدّة النفاس بعد القدوم؛ لأنّ النّسب لا يلزم إلا بعد العلم به، فصارت حالة القدوم كحالة الولادة والإقرار بالعفة سابق على القذف.

هذا جواب سؤال مقدّر، وهو أن يقال: ينبغي أن يجب عليه الحدّ؛ لأنّه أكذب نفسه بعد القذف؛ لأنّ الإقرار الأوّل بثبوت النسب باق بعد نفي الثاني، فيعتبر قيام الإقرار بعد القذف بابتداء الإقرار، ولو وجد الإقرار بعد النفي يثبت الإكذاب ويجب الحدّ فكذا هنا.

(1)

ينظر: المرجع السابق.

(2)

الْعَقِيقَة أَصله الشّعْر الَّذِي يكون على رَأس الصَّبِي حِين يُولد، وَإِنَّمَا سميت الشَّاة الَّتِي تذبح عَنهُ فِي تِلْكَ الْحَال عقيقة لِأَنَّهُ يحلق عَنهُ ذَلِك الشّعْر عِنْد الذّبْح. ينظر:(غريب الحديث للقاسم بن سلام 2/ 284).

(3)

فَصَلَتْ الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَصْلًا أي: فَطَمَتْهُ، وَالِاسْمُ الْفِصَالُ بِالْكَسْرِ وَهَذَا زَمَانُ فِصَالِهِ كَمَا يُقَالُ زَمَانُ فِطَامِهِ. (المصباح المنير 2/ 474)

(4)

سقطت من (أ).

(5)

المبسوط للسرخسي (7/ 52).

ص: 73

فأجاب عنه وقال: أنّ الإقرار سابق على القذف حقيقة.

وأمّا من حيث الحكم فلا حق، ثم إن كان يجب الحدّ باعتبار الحكم فلا يجب باعتبار الحقيقة، فلا يجب الحدّ إما للشّك في الوجوب الحدّ، وأمّا للسّعي في درء الحدّ عند الشبهة، وإمّا لترجيح جانب الحقيقة على الحكم؛ لأنّ الحقيقة بالعمل بها والله أعلم.

ص: 74

‌باب العنّين

لما ذكر وجوه أحكام الأصحّاء المتعلّقة بالنكاح والطلاق، ذكر في هذا الباب أحكام من به نوع مرض لها تعلّق بالنكاح والطّلاق؛ لأنّ حكم من به العوارض أبدًا يعقب حكم الأصحّاء.

العنّين هو الذي لا يقدر على إتيان النساء؛ من عُنّ إذا حبس في العنة، وهي حضيرة الإبل أو [من]

(1)

عَنّ إذا عرض؛ لأنّه يَعِنّ يمينًا وشمالاً ولا يقصده، وقيل: سُمي العنّين عنّينًا لأنّ ذكره يسترخي فيعنَّ يمينًا وشمالاً ولا يقصد المأتي من المرأة

(2)

.

وجمع العنّين: عنن وفي البصائر

(3)

قل فلان عنين من التعنين ولا تقل بين العُنة كذا في المغرب

(4)

[وغيره]

(5)

.

وذكر الإمام قاضي خان وظهير الدين رحمهم الله العنّين هو الذي لا يصل إلى النساء مع قيام الآلة

(6)

فإن كان يصل إلى الثيب

(7)

دون البكر

(8)

وإلى بعض النساء دون البعض وذلك لمرض به أو لضعف في خلقه أو لكبر سنّه أو سِحر

(9)

فهو عنّين في حق من لا يصل إليها لفوات المقصود في حق من لا يصل إليها

(10)

.

وَقَدَّرْنَاهَا بِالسَّنَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وذلك لأنّ التأجيل لإبلاء العذر والحول حسن في ذلك، قال لبيد

(11)

لابنيه عند وفاته:

فقوما وقولا بالذي قد علمتما

ثم اسم السّلام عليكما ومن

ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر إلى الحول يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

(12)

ولأن العجز عن الوصول قد يكون لغلبة الرطوبة، فإنّه يعالج ذلك في فصل الحر واليبوسة من السنة، وقد يكون لغلبة الحرارة فإنما يعالج له في فصل البرد، وقد يكون لغلبة اليبوسة، وإنّما يعالج له في فصل الرطوبة، فقدرنا الأجل بحول حتّى يعالج نفسه، فيوافقه العلاج في فصل من فصول السنة فيبرأ فإذا مضت السنة ولم يصل إليها علم أن الآفة في أصل الخلقة، ولهذا قالوا يقدّر بسنة شمسية أخذاً بالاحتياط؛ لأنّه ربّما يكون بموافقة العلاج في الأيّام التي يقع التفاوت فيها بين السنة القمرية والشمسية، كذا في «المبسوط»

(13)

.

(1)

زيادة في (ب).

(2)

ينظر: (التعريفات للجرجاني ص: 158).

(3)

كتاب البصائر والذخائر، لأبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس، توفي سنة: 380 هـ. ينظر: كشف الظنون (1/ 246).

(4)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 330).

(5)

سقطت من (أ).

(6)

آلة الرجل: ذكره. ينظر: معجم لغة الفقهاء (ص 37).

(7)

الثيب من النساء: التي تزوجت وفارقت زوجها بأي وجه كان بعد أن مسها. ينظر: العين (8/ 249)، تهذيب اللغة (5/ 111)، لسان العرب (1/ 248).

(8)

البِكْرُ: التي لم تمس من النساء بعد، والْبَكَارَةُ بِالْفَتْحِ عُذْرَةُ الْمَرْأَةِ. ينظر: العين (5/ 364)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 59).

(9)

سحر: السِّحْر: كلُّ ما كان من الشيطان فيه مَعُونة. العين (3/ 135).

(10)

ينظر: كنز الدقائق (ص: 303)، الدر المختار (ص: 244).

(11)

هو لَبِيد بن ربيعة بن مالك، أبو عقيل العامري: أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية، من أهل عالية نجد، أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلّى الله عليه وآله ويعد من الصحابة، ومن المؤلفة قلوبهم، ترك الشعر، وسكن الكوفة، وعاش عمرا طويلا. وهو أحد أصحاب المعلقات. ومطلع معلقته:" عفت الديار محلها فمقامها بمنى، تأبد غولها فرجامها " توفي سنة 41 هـ. ينظر: الأعلام للزركلي (5/ 240)

(12)

ينظر: لباب الآداب للثعالبي (ص: 131).

(13)

المبسوط للسرخسي (5/ 101).

ص: 75

وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا، وذكر الإمام قاضي خان رحمه الله فإذا وجدت زوجها عنّينًا ولم يخاصم زماناً لم يبطل حقها، وكذا لو رفعت الأمر إلى القاضي وأجّله القاضي سنة فلم يخاصم زماناً بعد مضي الأجل؛ لأنّها لا تقدر على الخصومة في كل وقت، ولأنّ ذلك قد يكون للتجربة والامتحان لا للرضاء

(1)

.

وإن وطئها مرة ثم عجز بعد ذلك لا خيار لها؛ لأنّ ما هو المقصود وهو تأكد المهر والإحصان وغير ذلك بالواحد، وما زاد على ذلك فهو مستحق ديانة لا حكمًا، فإن قلن: هي ثيب، يحلّف الزوج بالله لقد أصبتها، لعلّ بكارتها زالت بوجه آخر فيشترط اليمين مع شهادتهن، ليكون حجة، ثم كيف يعرف أنّها بكر أم ثيب؟ قالوا: يدفع في فرجها أصغر بيضة من بيض الدجاج فإن دخل بلا عنف فثيب وإلا فبكر، وقيل: إن أمكنها أن تبول على الجدار فبكر وإلا فثيب.

وقيل: تُكسر البيضة فتُصب في فرجها فإن دخلت فثيب وإلا فبكر

(2)

.

ولو وطئها مرة ثم عجز فلا خيار لها، وقد ذكرناه، وكذلك لو لم يكن له ماء ويجامع ولا ينزل لا يكون لها حق الخصومة، وهل يأثم بترك الوطء مرة، ففي شرح بكر رحمه الله يأثم إذا تركها متعنتًا

(3)

مع القدرة، فأمّا المولى هل يأثم بترك وطء الأمة مع القدرة وحاجتها إلى ذلك؟ قال: ينبغي أن لا يأثم.

ولو وصل العنّين امرأته ثم فارقها، ثم تزوّجها فلم يصل إليها فلها الخصومة، لأنّ هذا النكاح غير الأوّل، ولو فرق بينهما بعدم الوصول، ثم وعدها الوصول، فتزوّجها فعجز، فلا خيار لها؛ لأنّها رضيت.

بخلاف ما لو تزوّجت به أخرى وهي عالمة بحاله لا يكون رضاء منها.

وفي الأصل يكون رضا؛ لأنها رضيت بالمقام معه، وإن علمت بعد النكاح بحاله لا يبطل خيارها بطول مقامها معه؛ لأنّ الحق لا يبطل بالتأخير ما لم يقل: رضيت بالمقام معه.

وفي أدب القاضي سأل الزّوج القاضي أن يؤجله سنة أخرى أو شهراً أو أكثر فإنّه لا ينبغي له أن يفعل ذلك إلا برضاء المرأة، فإن رضيت ثم رجعت فلها ذلك، ويبطل الأجل ويخيّر، كذا ذكره الإمام التمرتاشي رحمه الله

(4)

.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 96)، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 399).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 301)

(3)

العنت: الوقوع في أمرٍ شاقّ. وقد عَنِتَ وأعْنَتَهُ غيره. ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شئ فهاضه: قد أعنته، فهو عَنِتٌ ومُعْنَتٌ. وجاءني فلان مُتَعَنِّتاً، إذا جاء يطلب زَلَّتَكَ. ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (1/ 259).

(4)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 585)، لسان الحكام (ص: 330).

ص: 76

وذكر الإمام قاضي خان وإن كان الزوج عنّينًا، والمرأة رتقاء، لم يكن لها حق الفرقة؛ لوجود المانع من قبلها

(1)

.

(فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ثُمَّ يَمِينُهُ)، فالقاضي لا يريها النساء؛ لأنّه لا فائدة فيها ولكن يحلف الزّوج على ما ادّعى من الوصول إليها.

وإن كانت بكراً وقت النكاح أراءها النساء، فإن قلن: هي بكر، أجّله القاضي سنة، ثم [بعد]

(2)

انقضاء الأجل لو ادّعى جماعها وأنكرت نظر إليها النساء، فالحاصل أن الإراءة للنساء مرّتين مرّة قبل الأجل للتأجيل ومرة بعد الأجل للتنجيز، فإن نَكِلَ

(3)

خيّرت، لِتَأَيُّدِهَا بِالنُّكُولِ، أيّ لتأيّد دعوى المرأة بأنّه لم يجامعها بِنُكُولِ الزّوج عن اليمين.

وذكر في «المبسوط» فإذا خيّرها القاضي فاختارت الزّوج، أو قامت من مجلسها، أو أقامها أعوان القاضي، أو قام القاضي قبل أن يختار شيئاً بطل خيارها؛ لأنّ هذا بمنزلة تخيير الزوج امرأته، وذلك يتوقف بالمجلس فهذا مثله، والتفريق كان لحقها فإذا رضيت بالإسقاط صريحًا أو دلالة بتأخير الاختيار إلى أن قامت أو أقيمت تسقط حقّها، فلا تطالب بعد ذلك بشيء فإن اختارت الفرقة، أمر القاضي الزوج بأن يطلّقها وإن أبى فرّق القاضي بينهما

(4)

.

وفي التأجيل يعتبر السنة القمرية هو الصّحيح، هذا احتراز عمّا اختاره شمس الأئمة السرخسي في «المبسوط»

(5)

، والإمام قاضي خان، والإمام ظهير الدين

(6)

رحمهم الله، فإنّهم اختاروا السنة الشمسية، وجعل في «شرح الطّحاوي» التأجيل بالسنّة القمرية ظاهر الرواية، والتأجيل بالشمسية رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وذكر عن شمس الأئمة الحلواني

(7)

رحمه الله الشّمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يومًا وجزء من مائة وعشرين جزءًا من اليوم.

(1)

ينظر: عيون المسائل للسمرقندي الحنفي (ص: 91)، لسان الحكام (ص: 330).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

النكول: هو الامتناع عن اليمين. مفاتيح العلوم (ص 39).

(4)

المبسوط للسرخسي (5/ 102).

(5)

المبسوط للسرخسي (5/ 101).

(6)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 24).

(7)

عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح، شمس الأئمة الحلواني إمام الحنفية في وقته ببخارى صاحب المبسوط تَفقَّه بِالقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ الحُسَيْن بن الخَضِر النسفِي. وحدَّث عن أبي عبد الله غُنجار وتفقه على جماعة. توفي سنة ثمان، أو تسع وأربعين وأربعمائة بـ"كَشّ" ودفن ببخارى. انظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: 189)، سير أعلام النبلاء (18/ 177)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 318).

ص: 77

والقمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يومًا، كذا وجدت بخطه ثقة، وهكذا ذكر - أيضاً - في إيجاز البيان

(1)

في تفسير قوله تعالى: {وَازْدَادُوا تِسْعًا}

(2)

(3)

.

وذكر في «الذخيرة»

(4)

يؤجّل العنين سنة شمسية لا قمرية، فالسنة الشمسية السنة بالأيّام والسنة القمرية السنة بالأهلّة.

والشمسية تزيد على القمرية بأحد عشر يومًا وشيء، فيجوز أن يوافق طبعه هذه الزيادة فلابدّ من اعتبارها.

وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَرَضِهِ وَمَرَضِهَا، وروي عن أبي يوسف أنّه إذا مرض أحدهما مرضاً لا يستطيع الجماع معه، فإن كان أقلّ من نصف الشهر احتسب عليه، وإن كان أكثر لم يحتسب عليه وجعل له بدل مكانها

(5)

.

وكذلك الغيبة؛ لأنّ شهر رمضان محسوب عليه وهو قادر عليه في الليل ممنوع في النهار والنهار بدون اللّيل يكون نصف الشّهر، فثبت أن نصف الشّهر محسوب عليه، وهذا أصح الروايات عن أبي يوسف.

وإن أحرمت

(6)

بحجة الإسلام لم يحتسب على الزوج بتلك المدة؛ لأنّه لا يقدر على أن يحللها.

ألا ترى أنّها لو كانت محرمة حين خاصمت لم يؤجّله القاضي حين يفرغ من الحج، ولو خاصمت والزّوج مظاهر منها فإن كان يقدر على العتق أجله، وإن كان عاجزًا عن ذلك أمهله شهرين؛ لأنّه ممنوع عن غشيانها

(7)

ما لم يكفّر، فإن ظاهر منها بعد التأجيل لم يلتفت القاضي إلى ذلك، واحتسب عليه بتلك المدّة؛ لأنّه كان متمكّنًا من أن لا يظاهر فيها، كذا في «المبسوط»

(8)

و «الإيضاح»

(9)

.

وإذا كان بالزّوجة عيب فلا خيار للزّوج، فإن الرجل لا يرد امرأته عن عيب، وإن فحش عندنا، ولكنّه بالخيار إن شاء أمسكها وإن شاء طلّقها.

(1)

كتاب: إيجاز البيان عن معاني القرآن، في التفسير، لمؤلفه: محمود بن أبى الحسن بن الحسين النيسابوري أبو القاسم، نجم الدين (المتوفى: نحو 550 هـ) حققه: الدكتور حنيف بن حسن القاسمي، ونشرته: دار الغرب الإسلامي - بيروت.

(2)

سورة الكهف (الآية/ 25).

(3)

ينظر: إيجاز البيان عن معاني القرآن (2/ 517).

(4)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 174).

(5)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 303).

(6)

الإحرام، وأحرم بالحج وبالعُمْرةِ "باشر أسبابَهُما وشروطهما". ينظر: المطلع على ألفاظ المقنع (ص 204).

(7)

الغشيان: الجماع والوطء. ينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 448)، غريب الحديث لإبراهيم الحربي (2/ 658).

(8)

المبسوط للسرخسي (5/ 103).

(9)

ينظر: العناية شرح الهداية (3/ 178).

ص: 78

وعند الشافعي رحمه الله

(1)

يثبت له حق الردّ بعيوب خمسة، كذا في «المبسوط»

(2)

.

فإن قلت: فعند الشافعي له خيار الرد، وعندنا له خيار الطّلاق، فما التّفاوت بينهما؟.

قلت: الفرق بينهما ظاهر، فعندنا بالطّلاق قبل الدخول يجب نصف المسمّى، وعنده بالردّ قبل الدخول لم يجب شيء من المهر، وكذلك يظهر - أيضاً - في حقّ نقصان عدد الطّلاق وعدم نقصانه، وقد ذكرناه في خيارات النكاح.

الجذام: هو تشقق الجلد وتقطّع اللحم وتساقطه والفعل منه جذم كذا في المغرب

(3)

.

والرتق: -بالتحريك- مصدر قولك: امرأة رتقاء لا يستطاع جماعها، لارتتاق ذلك الموضع منها، كذا في «الصحاح»

(4)

، وذكر في التيسير

(5)

في قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}

(6)

الرتق السدّ، ومنه الرتقاء وهي المرأة التي فرجها ملتحم، والفتق الشق وصرفها من باب دخل

(7)

.

وفي «المغرب»

(8)

امرأة رتقاء بيّنة الرتق، إذا لم يكن لها خرق إلا المبال والقرن - بسكون الراء - العقلة عن الأصمعي

(9)

واختصم إلى شريح

(10)

في جارية بها قرن، فقال: أقعدوها، فإن أصاب الأرض فهو عيب، وإن لم يصب الأرض فليس بعيب.

(1)

ينظر: الحاوي الكبير (9/ 338).

(2)

المبسوط للسرخسي (5/ 102).

(3)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 78).

(4)

الصِّحَاح تاج اللغة وصحاح العربية، تأليف إسماعيل بن حماد الجوهري، إمام فى علم اللغة؛ وخطّه يضرب به المثل فى الحسن، حقق كتاب الصِّحَاح أحمد عبد الغفور عطار، وطبعته دار العلم للملايين في لبنان.

(5)

التيسير في التفسير لنجم الدين أبي حفص، عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل أبي حفص نجم الدين النسفي، عالمٌ بالأصول والتفسير والأدب والتاريخ، من فقهاء الحنفية، توفي سنة (537 هـ) بسمرقند، وكتابه التفسير مخطوطاً في مكتبة أحمد الثالث برقم (1756)، ويوجد له نسخة على شكل مايكرو فيلم في جامعة الملك عبدالعزيز. يُنْظَر: الفوائد البهية (ص 150)، تاج التراجم (34 - 35)، معجم المؤلفين (7/ 305 - 306).

(6)

سورة الأنبياء (الآية/ 30).

(7)

ينظر: مدارك التنزيل للنسفي (1/ 77).

(8)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 183).

(9)

أَبُو سَعِيْدٍ عَبْدُ المَلِكِ بنُ قُرَيْبِ الأَصْمَعِيُّ، البَصْرِيُّ، اللُّغَوِيُّ، الأَخْبَارِيُّ، أَحَدُ الأعلَامِ .. قدم بغداد في أيام هارون الرشيد، من تصانيفه الكثيرة: نوادر الاعراب، الاجناس في أصول الفقه، المذكر والمؤنث، كتاب اللغات، وكتاب الخراج، مَاتَ الأَصْمَعِيُّ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمَائَتَيْنِ وقد قارب التسعين. ينظر: تاريخ دمشق (37/ 88)، معجم المؤلفين (6/ 187).

(10)

شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية: من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام. أصله من اليمن. ولي قضاء الكوفة، في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، واستعفى في أيام الحجاج، فأعفاه سنة 77 هـ وكان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، له باع في الأدب والشعر. وعمر طويلا، ومات بالكوفة سنة 78 هـ.

ينظر: وفيات الأعيان (2/ 460)، سير أعلام النبلاء (4/ 100)، الأعلام للزركلي (3/ 161).

ص: 79

والعفلة بالتحريك شيء يخرج من قُبل النساء

(1)

، وحيا الناقة شبيه بالأدرة

(2)

التي للرجل، كذا في «الديوان» و «الصحاح»

(3)

.

وذكر في «المغرب»

(4)

القرن مانع يمنع من سلوك الذكر فيه، إما غدّة غليظة أو لحمة مرتتقة أو عظم، وامرأة قرناء بها ذلك

(5)

.

قلنا: أن فوت الاستيفاء أصلاً بالموت لا يوجب الفسخ حتّى لا يسقط شيء من المهر، وعيب الجنون والجذام فيما هو المقصود دون الموت؛ لأن الاستيفاء ههنا يتأتى ومقصود النسل يحصل به، وهذا بخلاف ما إذا وجدت المرأة زوجها مجبوباً أو عنّنياً؛ لأن هناك لا يثبت لها خيار الفسخ عندنا، وإنّما يثبت لها حق المطالبة بالإمساك بالمعروف، وذلك في أن يوفيها حقّها في الجماع فإذا عجز عن ذلك

(6)

تعيّن التسريح [بالإحسان والتسريح]

(7)

طلاق.

وحاصل ذلك أنّ النكاح ممّا لا يحتمل الفسخ عندنا؛ لأنّ الفسخ هو رفع العقد بعد تمامه بلا خلل في ولاية المحلّ، والنكاح لا يحتمل هذا النّوع من الفسخ.

ألا ترى أنّه لا يحتمل الفسخ بالإقالة

(8)

؛ وذلك لأن ملك النكاح ملك ضروري لا يظهر في حق النقل إلى الغير، ولا في حق الانتقال إلى الْوَرَثَةِ، وإنّما أظهر الشرع في حق الطّلاق للتخليص عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق، وهذا لا يقتضي ظهوره في حق الفسخ بعد تمامه؛ لأنّه لا ضرورة [فيه]

(9)

بخلاف الفسخ لعدم الكفاءة، أو بخيار البلوغ، فإنّه فسخ قبل تمامه لخلل في ولاية المحلّ، فيكون في معنى الامتناع من إتمامه، وكذلك الفسخ بخيار العتق فإنّه امتناع من التزام زيادة الملك، ولأنّ هذه العيوب لا تُخلّ بموجود العقد، وهو الحلّ فلا يثبت خيار الفسخ كالعمى والشلل والزمانة

(10)

، فأمّا الِاسْتِيفَاءَ فثمرة وفوات الثمرة لا يؤثر في عقد النكاح، ومذهبنا مروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما

(11)

.

(1)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (5/ 1769).

(2)

الأُدْرَةُ: نفَخةٌ في الخصية. يقال: رجل آدَرُ بيِّن الأُدْرَةِ. ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (2/ 577).

(3)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (6/ 2180).

(4)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 381).

(5)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 381).

(6)

في (ب) زيادة: [ذلك].

(7)

سقطت من (ب).

(8)

الإقالة في اللغة: الرفع والإزالة، ومن ذلك قولهم: أقال الله عثرته إذا رفعه من سقوطه، ومنه الإقالة في البيع، لأنها رفع العقد. ينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 521).

واصطلاحاً: رفع العقد، وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين. ينظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (6/ 110)، المغني لابن قدامة (4/ 92).

(9)

سقطت من (أ).

(10)

الزمانة بمعنى المرض والآفة، زَمِنَ زَمَانَةً مِنْ حَدِّ عَلِمَ وَجَمْعُ الزَّمِنِ الزَّمْنَى عَلَى وَزْنِ فَعْلَى وَعَلَى هَذَا الْوَزْنِ سَائِرُ أَصْحَابِ الْآفَاتِ كَالْمَرْضَى وَالصَّرْعَى وَالْجَرْحَى وَالْقَتْلَى وَالْأَسْرَى وَالْهَلْكَى وَالصَّعْقَى. ينظر: طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية (ص: 50).

(11)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 305).

ص: 80

وَالْمُسْتَحَقُّ التَّمَكُّنُ وَهُوَ حَاصِلٌ، أي التمكن بالوطء حاصل.

أمّا في المجذومة والمجنونة والبرصاء

(1)

فظاهر.

وأمّا في الرتقاء والقرناء فممكن بالشق والفتق.

وقال محمّد رحمه الله: لها الخيار إذا كان على حال لا يطيق المقام معه؛ لأنّه تعذّر عليها الوصول إلى حقها لمعنى فيه فكان بمنزلة ما لو وجدته مجبوباً أو عنّيناً

(2)

.

ولكنا نقول بهذه العيوب لا يفسد عليها باب استيفاء المقصود، إنّما تقلّ رغبتها فيه وتتأذّى بالصحبة والعشرة معه، وذلك غير مثبت لها الخيار كما لو وجدته سيء الخلق، أو مقطوع اليدين والرجلين، بخلاف الجُب والعِنّة، وكذلك أنه اشترط أحدهما على صاحبة السّلامة من العمى والشلل والزمانة فوجده بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار.

وكذلك لو شرط أحدهما على صاحبه صفة الجمال أو البكارة فوجدها بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار؛ لأنّ فوت زيادة مشروطة بمنزلة العيب في إثبات الخيار، كما في البيع ولهذا يتبيّن أنّه لا معتبر بتمام الرضاء في باب النكاح، فإنّه لو تزوّجها بشرط أنها بكر شابّة جميلة، فوجدها ثيباً عجوزًا شوهاء لها شق مائل وعقل زائل ولعاب سائل، فإنّه لا يثبت له الخيار فقد انعدم الرضاء منه بهذه الصفة، كذا في «المبسوط»

(3)

.

المشروع له النكاح وهو الوطء؛ لأن شرعية النكاح لأجل الوطء، فلذلك ثبت له الخيار في الجُبّ والعُنّة.

فإن قلت: جعل قبل هذا في المسألة التي بيننا وبين الشّافعي استيفاء الوطء من الثمرات على وجه عند فواته لم يوجب الخيار للزّوج في الرتق والقرن وغيرهما

(4)

باعتبار أن استيفاء الوطء من الثمرات، فقال: لأن الاستيفاء من الثمرات، وقال: المقصود منه الحلّ على ما ذكر من «المبسوط»

(5)

، فلم ينال هناك بفوت الثمرة ولم يثبت الخيار للزّوج، وههنا عكس ذلك التعليل وحكمه؛ حيث أثبت الخيار للمرأة في صورة الجُبِّ والعنّة، وجعل استيفاء الوطء من المقصود، فيلزم من هذا أن يكون استيفاء الوطء مقصودًا في النكاح وغير مقصود، ويكون هو مثبتًا الخيار وغير مثبت، فكيف يكون للشيء الواحد وصفان متضادان وحكمان متضادان وهو هو أي من غير تفنين؟.

(1)

البرص: داء معروف، نسأل الله العافية منه ومن كل داء، وهو بياض يقع في الجسد، برص برصا، والأنثى برصاء. ينظر: لسان العرب (7/ 5).

(2)

ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 97).

(3)

المرجع السابق.

(4)

ينظر: الحاوي الكبير (9/ 338).

(5)

المبسوط للسرخسي (5/ 96).

ص: 81

قلت: لا شك أن للتمكّن من الوطء جهة كونه مقصودًا وجهة كونه ثمرة.

أمّا جهة كونه مقصودًا فباعتبار أن بناء شرعية النكاح لأجله، أمّا المقصود من شرعية النكاح هو التوالد والتناسل لحكمة بقاء العالم بما قدر الله تعالى بقاءه، وذلك لا يحصل إلا بالوطء.

وأمّا جهة كونه ثمرة فبالاستدلال بالحكم حيث يصح نكاح الرضيعة والرتقاء والقرناء والعجوز والعقيم

(1)

، فلو كان هذا مقصودًا لما جاز نكاح هؤلاء، كما يجوز استئجار الجحش للحمل والركوب؛ لما أنّ المقصود من الاستئجار الانتفاع، وهو لا يحصل به في الحال، ولما كان كذلك اعتبرنا جانب الثمرة فيما إذا كانت هذه العيوب بالمرأة فلم يثبت الخيار للزّوج بالردّ والفسخ جريًا على الأصل، وهو أنّ النكاح لا يقبل الفسخ، واعتبرنا جانب كونه مقصودًا فيما إذا كان عيب الجبّ والعنّة بالرّجل.

ثم إنّما عيّنا جانب الثمرة فيما إذا كانت العيوب بالمرأة؛ لأنّ الزوج متمكّن من الاستمتاع بغيرها بأن يتزوّج غيرها مع وجودها ومتمكّن من طلاقها، فقلنا: لا يثبت له الخيار؛ لأنّ استيفاء الوطء ثمرة من الثمرات وعيّنا جانب الأصالة، وكون [استيفاء]

(2)

[الوطء]

(3)

مقصودًا فيما إذا كان العيب بالزّوج من الجُبِّ والعُنّة؛ لأن المرأة لا تتمكّن من الاستمتاع بغيره مع كونها في نكاحه، ولا تتمكّن من تطليق نفسها، فقلنا: كان له الخيار فيما إذا وجدت زوجها مجبوباً أو عنّينًا؛ لأنّ الجُبّ والعُنّة يخلان بالمقصود المشروع له النكاح وهو الوطء، والله تعالى أعلم بالصّواب.

‌باب العدّة

اعلم أنّ الأثر يتبع المؤثر أينما كان، والعدّة متعقبةٌ للطلاق وما يماثله من الفراق، خصوصاً ما إذا كان الطّلاق بعد الدخول، فلذلك أورد باب العدّة بعد ذكر وجوه الفراق من الطّلاق والإيلاء والخلع واللّعان وأحكام العنّين.

ذكر في «الصحاح»

(4)

عدّة المرأة أيام أقرائها

(5)

.

وقيل: العدّة عبارة عن التربص

(6)

الذي يلزم المرأة عند زوال النكاح أو شبهته

(7)

.

(1)

العقم والعقم، بالفتح والضم: هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد، امرأة عقيم، بغير هاء، لا تلد. ينظر: لسان العرب (12/ 412)

(2)

في (أ): الاستيفاء.

(3)

سقطت من (أ).

(4)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (2/ 506).

(5)

القرء الوقت، فقد يكون للحيض والطهر. لسان العرب (1/ 130).

(6)

التربص: الانتظار، يقال: تربصت الأمر تربصا انتظرته. ينظر المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 215).

(7)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 26).

ص: 82

فبعد هذا يحتاج إلى معرفة ستة أشياء، وهي: سبب وجوب العدّة وشرطها وركنها ومحظوراتها وحكمها وما تقدّر به مدتها.

أمّا سببها فهو عندنا [نكاح]

(1)

متأكد بالتّسليم أو ما يجري مجراه.

وعند الشّافعي السّبب هو الماء في فرق الحياة

(2)

.

ويبتني على هذا مسألة الخلوة الصحيحة هل هي موجبة للعدّة أم لا؟.

وأمّا شرطها فالفرقة سواء كانت بطلاق أو غيره؛ إذ لو كانت سبباً لما اختلف وجوب العدّة بين الدخول وعدمه، فكان قولنا: عدّة الطلاق إضافة الحكم إلى شرطه، كما في صدقة الفطر.

وأمّا ركنها فحرمات ثابتة إلى أجل ينقضي والكف عن هتكها يجب احترازاً عن الوقوع في الحرمة لا أنّه ركن العدّة.

وقال الشّافعي رحمه الله: الركن هو كفّ المرأة نفسها عن أفعال محظورة عليها

(3)

.

ويبنى على هذا مسألة: أن العدّتين إذا وجبتا من رجلين هل يتداخلان وينقضيان بمضيّ مدّة واحدة أم لا؟

وأمّا محظوراتها في المبانة والمتوفى عنها زوجها فالزينة والتطيّب خصوصاً والخروج عن البيت عمومًا.

وأمّا حكمها فعدم جواز نكاح الغير ونكاح أختها وأربع سواها وما يجري مجراه.

وأمّا ما تقدّر به مدتها أجمعوا على أن التربص مأمور به في العدّة.

ثم اختلفوا فيما ينقضي به التربص، فعندنا التربص ينقضي بثلاث حيض، وعند الشّافعي بثلاثة أطهار

(4)

.

هذه فوائد مجموعة من أسرار القاضي الإمام المدقق أبي زيد الدبوسي رحمه الله

(5)

.

وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، ولم يذكر قوله: أو رجعيًّا في بعض النسخ، فلابدّ من ذكره، ثم لم يذكر الدخول في الطلاق، ولم يقل: إذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول، مع أن عدّة الطلاق لا يجب إلا بعد الدخول بناء على ما هو الأصل في النكاح، وهو الدخول؛ ولأن وجوب العدة من الفرقة في حالة الحياة، وإنّما كان بعد الدخول لا قبله وهو ظاهر فاستغنى بظهوره عن ذكره.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

ينظر: النجم الوهاج في شرح المنهاج (8/ 172).

(3)

ينظر: الحاوي الكبير (11/ 221).

(4)

ينظر: اللباب في الفقه الشافعي (ص: 340)

(5)

عبد الله بن عمربن عيسى، أبو زيد: أول من وضع علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود، كان فقيها باحثا، نسبته إلى دبوسية (بين بخارى وسمرقند) من كتبه " تأسيس النظر" في ما اختلف به الفقهاء أبو حنيفة وصاحباه ومالك الشافعيّ، و " الأسرار "في الأصول والفروع، عند الحنيفة، و " تقويم الأدلة" في الأصول، توفي سنة 430 هـ. ينظر: الأعلام للزركلي (4/ 109)

ص: 83

وذكر في «الإيضاح» والعدة بالحيض أو بما أقيم مقامه من الأشهر لا تجب إلا بالدخول، أو ما يقوم مقامه من الخلوة؛ لقوله تعالى - في غير المدخول بها -:{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}

(1)

، ثم قال: وضرب آخر من الشهور يجب على المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}

(2)

الآية، ويستوي في ذلك الدخول وعدم الدخول؛ لأنّ الله تعالى أوجب بالوفاء مطلقاً، ووقعت الفرقة بينهما بغير طلاق، مثل الفرقة بخيار العتاقة وعدم الكفاءة وخيار البلوغ وملك أحد الزوجين صاحبه، والفرقة في النكاح الفاسد

(3)

.

وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا، أي التفرق عن براءة الرحم يتحقّق في الفرقة بغير طلاق.

قوله رحمه الله: هُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ، دليل على أنّه حقيقة فيها، فكان فيه قطع [توهم]

(4)

أنّه مجاز في واحد منهما؛ لما أنّ الطّريق في المجاز هو أن يكون في المجاز معنى تناسب معنى الحقيقة، وبين الطهر والحيض مضادة لا مناسبة بينهما، فكيف يتحقق المجاز بين الضدين؟! فصار كالصريم يُطلق على الليل والنهار

(5)

.

إمَّا عَمَلًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، أراد به لفظ الإقراء وهو جمع قُرْءٍ بالفتح والضم، كذا في «المغرب»

(6)

، والجمع الصحيح هو الثلاثة.

وذلك إنّما يتحقّق عند الحمل على الحيض لا على الطُهر؛ لما أنّ الطّلاق يوقع في طهر وهو السنة، ثم هو محسوب عن الإقراء عند من يقول بالإطهار، فيكون حينئذٍ مدّة عدّتها قرئين وبعض الثالث فلم يكن ثلاثاً كوامل، وهذا يستقيم في جمع غير مقرون بالعدد، كقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}

(7)

.

فأمّا في جمع مقرون بالعدد فلابدّ من الكوامل، بخلاف ما لو أريد بالإقراء الحيض، فإنّه يكمل ثلاثاً أو لأنّه؛ أي: لأنّ الحيض معرّف لبراءة الرحم، والتعريف لبراءتها إنّما يحصل بالحيض لا بالطهر؛ لما أنّ الحمل طهر ممتد فيجتمعان، فلا يحصل التعريف بأنّها حامل أو حائل فيلتحق بياناته أي يلتحق خبر الواحد بمجمل الكتاب للبيان بذلك الخبر الواحد، لما هو المراد من الكتاب، كما ألحق ما روي عن النبي عليه السلام «مسح على ناصيته»

(8)

بياناً لمجمل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}

(9)

في حق المقدار.

(1)

سورة الأحزاب (الآية/ 49).

(2)

سورة البقرة (الآية/ 234).

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 28)

(4)

في (ب): لوهم.

(5)

لسان العرب (12/ 336).

(6)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 376).

(7)

سورة البقرة (الآية/ 197).

(8)

أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الطهارة، باب ما جاء في المسح على العمامة برقم (100)، وقال:"وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْمَسْحَ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالعِمَامَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُهُمْ النَّاصِيَةَ"، وابن حبان في صحيحه، كتاب الطهارة، باب ذكر الإباحة للمرء أن يمسح على ناصيته وعمامته جميعا في وضوئه، برقم (1342)، وقال الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (1/ 384):"أخرجه مسلم في صحيحه عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن المغيرة ابن شعبة".

(9)

سورة المائدة (الآية/ 6).

ص: 84

فحينئذ كان الحديث مبينًا لحكم الكتاب لا مغيّراً له، وأولى الاحتجاج هو ما احتج به في «الأسرار» ، فقال: فاحتج علماؤنا بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}

(1)

فجعل الله العدّة شهوراً بشرط عدم الحيض، فدلّ أن المحيض أصل في العدّة، والشهور يدل عنها، كما قال الله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}

(2)

فدلّ النقل إلى الصعيد بشرط عدم الماء أن الماء هو الأصل، فعلم به ما طوي بيانه عند ذكر الأصل بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}

(3)

أي: بالماء بهذه الدلالة؛ وذلك لأن حد البدل ما يقوم مقام غيره عند عدمه، فالذي شرط عدمه لإقامته مقامه لابدّ أن يكون أصلاً.

فإن قيل: الأصل إطهار هي قروء ولا وجود لها إلا بالمحيض، فإن الطهر قبل الحيض لا يسمّى قرء، ولا انعدام لهذه القروء إلا بانعدام الحيض، فصار قوله: يئس من المحيض مجازاً عن قوله: يئس من الإطهار، هي قروء فلذلك استقام الإبدال.

قلنا: أنّ الكلام لحقيقته حتّى يقوم الدّليل على مجازه، ودلّ عليه أنّ الله تعالى بدأ، فقال:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}

(4)

وثم نقل إلى البدل فيمن عدمت القروء، ولو كان المراد ما ذكره كان من حق الكلام أن يقال: واللاتي عدمن القروء، وليكون النقل بعدم عين ما شرع أصلاً، فلما جالبته بعبارة أخرى علم أنّها لم يكن إلا لفائدة زائدة بعدم هي بالعبارة الأولى، وليس ذلك إلا ما قلنا، والله أعلم.

وَكَذَا الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ، أي إذا بلغت خمسة عشر سنة ولم تحض بعد، فعدّتها تنقضي بالأشهر أيضاً بآخر الآية وهو قوله تعالى:{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}

(5)

أي: والصّغائر اللائي لم يبلغن، واللائي بلغن بغير الحيض كذلك يعتددن ثلاثة أشهر، كذا في «التيسير»

(6)

.

(وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الْوَفَاةِ) إلى آخره وبين السلف فيها اختلاف في أربعة فصول:

(1)

سورة الطلاق (الآية/ 4).

(2)

سورة المائدة (الآية/ 6).

(3)

سورة المائدة (الآية/ 6).

(4)

سورة البقرة (الآية/ 228).

(5)

سورة الطلاق (الآية/ 4).

(6)

ينظر: مدارك التنزيل للنسفي (3/ 499).

ص: 85

أحدها: أن من السّلف من يقول: لها عدّتان، الطولى وهي الحول، والقصرى وهي أربعة أشهر وعشر، كما قال الله تعالى:{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ}

(1)

، [أي أربعة بعد]

(2)

أشهر وعشر فلا جناح عليكم، ففي هذا بيان أنّ العدة الكاملة هي الحول، وأن الاكتفاء بأربعة أشهر وعشر رخصة لها والحول عزيمة لها، ولكنا نقول هذه الآية منسوخة، وهذا حكم كان في الابتداء أن على الزّوج أن يوصي لها بالنفقة والسكنى إلى الحول، وقد انتسخ ذلك بقوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}

(3)

والدّليل عليه ما روي أن المتوفى عنها زوجها جاءت إلى رسول الله عليه السلام تستأذنه في الاكتحال

(4)

فقال عليه السلام: «كان إحداكن في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها قعدت في شرّ أحلاسها

(5)

في بيتها حولاً، ثم خرجت فرمت كلبة ببعرة أفلا أربعة أشهر وعشراً»

(6)

[قال رمت كلبة ببعرة يريد أن خلوتها/ 377 ب/ في البيت وحبسها نفسها هيّن عليها كالرمية بالبعرة في حسب ما كان من حق الزوج، فكيف لا تصبر هذه المدّة اليسيرة، وهي أربعة أشهر وعشر؟!.

وقال: أفلا أي أفلا أصبر أربعة أشهر وعشر]

(7)

.

والثاني: أن المعتبر عشرة أيّام وعشر ليال من الشهر الخامس عندنا، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص

(8)

رضي الله عنهما يقول: عشر ليال وتسعة أيام حتّى يجوز لها أن تتزوّج في اليوم العاشر؛ لظاهر قوله تعالى: {وَعَشْرًا}

(9)

فإن جمع المؤنث يذكّر وجمع المذكّر يؤنّث فيقال عشرة أيام وعشر ليال، فلمّا قال ههنا: وعشراً؛ عرفنا أنّ المراد الليالي

(10)

.

(1)

سورة البقرة (الآية/ 240).

(2)

سقطت من (ب).

(3)

سورة البقرة (الآية/ 234).

(4)

الاكتحال لغة: مصدر اكتحل. يقال اكتحل: إذا وضع الكحل في عينه. ينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 526).

(5)

الْحِلْسُ كِسَاءٌ يُجْعَلُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ تَحْتَ رَحْلِهِ وَالْجَمْعُ أَحْلَاسٌ مِثْلُ: حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ وَالْحِلْسُ بِسَاطٌ يُبْسَطُ فِي الْبَيْتِ. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 146)

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب الكحل للحادة (5338)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، (1488).

(7)

سقطت من (ب).

(8)

عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن العاص بْن وائل بْن هاشم بْن سَعِيد بْن سهم بْن عَمْرو بْن هصيص بْن كعب بن لؤي القرشي السهمي، يكنى أبا مُحَمَّد، وقيل: أَبُو عَبْد الرَّحْمَن. أُمه ريطة بِنْت منبه بْن الحجاج السهمي. وكان أصغر من أَبِيهِ باثنتي عشرة سنة، أسلم قبل أَبِيهِ، وكان فاضلًا عالمًا قَرَأَ القرآن والكتب المتقدمة، واستأذن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي أن يكتب عَنْهُ، فأذن لَهُ. ينظر: أسد الغابة (3/ 245).

(9)

سورة البقرة، الآية (234).

(10)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 30).

ص: 86

ولكنّا نقول: هو كذلك إلا أن ذكر أحد العددين من الأيّام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الآخر، وقد بيّنا هذا في باب الاعتكاف

(1)

.

والثالث: أنّ المتوفّى عنها زوجها إذا كانت حاملاً فعدّتها أن تضع حملها، وهو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنه وكان علي رضي الله عنه يقول تعتدّ بأبعد الأجلين

(2)

.

[إما]

(3)

بوضع الحمل أو بأربعة أشهر وعشر؛ لأنّ قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ}

(4)

يوجب عليها العدّة بوضع الحمل.

وقال: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}

(5)

يوجب عليها أربعة أشهر وعشراً، فيجمع بينهما احتياطاً وجوابه ما ذكر في الكتاب.

والدّليل المؤيد ما ذكر في الكتاب -أيضاً- حديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية

(6)

، فإنها وضعت ما في بطنها بعد موت الزوج بسبعة أيام فسألت أبا السنابل بن بعكك

(7)

هل لها أن تتزوج؟ فقال: لا حتّى يبلغ الكتاب أجله، فجاءت إلى رسول الله عليه السلام فأخبرته بذلك أي بما قال أبو السنابل، فقال عليه السلام: «كذب أبو السنابل قد بلغ [الكتاب]

(8)

أجله»

(9)

.

والرابع أنّ عدّة الوفاة معتبرة من وقت موت الزوج عندنا، وهو قول ابن مسعود وابن عباس

(10)

.

وكان علي رضي الله عنه[يقول]

(11)

: من حين تعلم حتّى إذا مات الزوج في السفر فأتاها الخبر بعد مضي مدّة العدة فعند علي يلزمها عدة مستأنفة

(12)

؛ لأنّ عليها الحد أدنى عدة الوفاة ولا يمكنها إقامة سنة الحداد

(13)

إلا بعد العلم بموته، ولأنّ هذه العدّة تجب بطريق العبادة فلابدّ من علمها، ولكنّا نقول: العدّة مجرّد مضي المدة، وذلك يتحقّق بدون علمها فهي وعدّة الطلاق سواء، وأكثر ما في الباب أنّها لم تقم سنة الحداد، وذلك لا يمنع انقضاء العدّة كما لو كانت عالمة بموت الزّوج، ولم يقم سنة الحداد ومعنى العبادة في العدّة تبع لا مقصود.

(1)

الاعتكاف: هو في اللغة المقام والاحتباس. وفي الشرع: لبث صائم في مسجد جماعةٍ بنية. ينظر: التعريفات للجرجاني (ص: 31).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 312).

(3)

سقطت من (ب).

(4)

سورة الطلاق، الآية (4).

(5)

سورة البقرة، الآية (228).

(6)

سبيعة بنت الحارث الأسلمية. كانت امرأة سعد بن خولة فتوفي عنها بمكة في حجة الوداع. ينظر: أسد الغابة (6/ 137).

(7)

حبة بْن بعكك، أَبُو السنابل بْن بعكك القرشي العامري، وهو من مسلمة الفتح، وهو الذي تزوج سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها. ينظر: أسد الغابة (1/ 439).

(8)

سقطت من (ب).

(9)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرا، (3991)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، (1484)، كلاهما بلفظ «فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي» .

(10)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 31).

(11)

سقطت من (ب).

(12)

المرجع السابق.

(13)

الحداد والإحداد: امتناع المرأة من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة في أحوال مخصوصة. ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (4/ 337)، المغني لابن قدامة (8/ 154).

ص: 87

ألا ترى أنّها تجب على الكتابية

(1)

تحت المسلم، وهي لا تخاطب بالعبادات، كذا في «المبسوط»

(2)

.

قوله رحمه الله: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ

(3)

، أي لاعنته هكذا روى في رواية أخرى، وذلك أنّهم كانوا إذا اختلفوا في شيء اجتمعوا وقالوا: بهلة الله على الظّالم منّا، وإذا ورثت المطلقة لجانب الإرث ليكون هو بهذا اللفظ متناولاً للتباين الذي فيه الإرث سواء كان ثلاثاً أو دونها، وهو ما إذا طلّق المريض امرأته أي طلاق كان، ثم مات وهي في العدّة فإنّها ترث وهو طلاق الفارّ، وقد مرّ، ومخرجًا لما هو غير داخل فيه وهو ما إذا طلق الصّحيح امرأته طلاقاً بائنًا، ثم مات هو وهي في العدّة لا تنتقل عدّتها إلى أبعد الأجلين لأنّها لا ترث.

وذكر في «المحيط»

(4)

وأمّا إذا كانت مطلقة فمات عنها زوجها، فإن كان الطلاق رجعيًّا انتقلت إلى عدّة الوفاة، وإن كانت مبتوتة

(5)

فإن كانت لا ترث لا ينتقل إلى عدّة الوفاة، وإن كانت ترث فعلى هذا الاختلاف فعدّتها أبعد الأجلين، وتفسير ذلك أنّها تعتدّ أربعة أشهر وعشراً فيها ثلاث حيض، حتّى لو اعتدت أربعة أشهر وعشراً ولم تحض كانت في العدّة ما لم تحض ثلاث حيض، ولو حاضت ثلاث حيض قبل تمام أربعة أشهر وعشر لا تنقضي عدّتها حتى يتم المدة، كذا في «فتاوى قاضي خان»

(6)

(7)

.

لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ انْقَطَعَ قَبْلَ الْمَوْتِ بِالطَّلَاقِ

(8)

، فليس عليها عدّة الوفاة، لما أن سبب وجوب عدّة الوفاة انتهاء النكاح بالموت فإذا لم يوجد لا يلزمها عدّة الوفاة، وهما يقولان: أخذت ميراث الزوجات بالوفاة، فيلزمها عدّة الوفاة كما لو كان طلّقها تطليقة رجعية؛ وهذا لأنّا إنّما أعطيناها الميراث باعتبار أنّ النكاح بمنزلة القائم بينهما حكمًا إلى وقت الموت، أو باعتبار إقامة العدّة مقام أصل النكاح حكمًا؛ إذ لابدّ من قيام السّبب عند الموت لاستحقاق الميراث، والميراث لا يثبت بالشّك، والعدّة تجب بالشك فإذا جعل في حكم الميراث النكاح كالمنتهي بالموت حكمًا ففي حكم العدّة أولى.

(1)

كتابية: أي من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى. ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (7/ 419)، المغني لابن قدامة (1/ 61).

(2)

المبسوط للسرخسي (6/ 32).

(3)

المباهلة: من باهله مباهلة، لعن كل منهما الآخر وابتهل إلى الله: ضرع إليه، وبهله بهلا: لعنه، وباهل بعضهم بعضا: اجتمعوا فتداعوا فاستنزلوا لعنة الله على الظالم منهم. ينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 64).

(4)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 465).

(5)

الْمَبْتُوتَةُ: هِيَ الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا مِنْ الْبَتِّ وَهُوَ الْقَطْعُ. ينظر: طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية (ص: 50)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 35).

(6)

فتاوى قاضي خان: لحسن بن منصور بن أبي القاسم فخر الدين، المعروف بقاضي خان.

(7)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 31).

(8)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 602).

ص: 88

وسبب وجوب العدة بالحيض عليها متقرّر حقيقة، فألزمناها الجمع بينهما.

ولو قُتل على ردته جعل هذا في «المبسوط» من تتمة دليل أبي يوسف، فقال: ألا ترى أنّ المرتد إذا مات أو قتل على ردّته ترثه زوجته المسلمة، وليس عليها عدّة الوفاة؛ لأنّ زوال النكاح كان بردّته لا بموته

(1)

.

فكذلك زوال النكاح هنا كان بالطّلاق البائن لا بالموت وقالا عن مسألة المرتد فقد أشار الكرخي

(2)

في كتابه إلى أنّه يلزمها عدّة الوفاة

(3)

، ولئن سلّمنا فنقول: هناك ما استحقّت الميراث بالوفاة؛ لأنّ عند الموت هي مسلمة، والمسلمة لا ترث الكافر، وذلك يستند استحقاق الميراث إلى وقت الردة، وبذلك السّبب لزمها العدّة بالحيض، فلا يلزمها عدّة الوفاة، وههنا استحقاق الميراث عند الموت لا عند الطّلاق، فعرفنا أنّ النكاح كالقائم بينهما إلى وقت الموت حكمًا.

لِأَنَّ عَوْدَهَا يُبْطِلُ الْإِيَاسَ

(4)

هُوَ الصَّحِيحُ، هذا احتراز عن قول محمّد بن مقاتل الرازي

(5)

، فإنّه كان يقول: هذا إذا لم يحكم بإياسها

(6)

، فأمّا إذا انقطع عنها الدّم زماناً حتّى حكم بإياسها، وكانت ابنة تسعين سنة أو نحو ذلك فرأت الدّم بعد ذلك لم يكن حيضاً.

وكان محمّد بن إبراهيم الميداني

(7)

رحمه الله يقول: إن رأت دمًا سائلاً كما تراه في زمان حيضها فهو حيض، وإن رأت بلة يسيرة لم يكن حيضًا، بل ذلك من نتن الرحم فكان فاسدًا لا يتعلّق به حكم الحيض، كذا في حيض «المبسوط»

(8)

.

(1)

المبسوط للسرخسي (6/ 44).

(2)

عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دَلْهَم، أبو الحسن الكرخي فقيه، انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق. مولده في الكرخ ووفاته ببغداد، له "رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية" و "شرح الجامع الصغير" و "شرح الجامع الكبير"، توفي سنة 340 هـ. ينظر: تاج التراجم (ص: 200)، الأعلام للزركلي (4/ 193)

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 44).

(4)

يُقَالُ يَئِسَتْ الْمَرْأَةُ إذَا عَقِمَتْ فَهِيَ يَائِسٌ. ينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 683).

(5)

مُحَمَّد بن مقَاتل الرَّازِيّ قَاضِي الرّيّ من أَصْحَاب مُحَمَّد بن الْحسن من طبقَة سُلَيْمَان بن شُعَيْب وَعلي بن معبد روى عَن أبي الْمُطِيع قَالَ الذَّهَبِيّ وَحدث عَن وَكِيع وطبقته، مات سنة 248 هـ. انظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 134)، ميزان الاعتدال (4/ 47)، لسان الميزان (5/ 388).

(6)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 317)

(7)

محَمَّد بن إِبْرَاهِيم الضَّرِير الميداني أَبُو بكر قَالَ الذَّهَبِيّ من أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة حدث عَن أبي مُحَمَّد الْمُزنِيّ وَعنهُ مَيْمُون بن عَليّ الْمَيْمُونِيّ وَله مناظرات مَعَ أبي أَحْمد نصر العياضي أخي أبي بكر العياضي. ينظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 6).

(8)

المبسوط للسرخسي (3/ 150).

ص: 89

تَحَرُّزًا عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، فإن قلت: يشكل هذا ببناء البدل على المبدل فيمن صلّى بوضوء ثم سبقهُ الحدث فلم يجد الماء، فإنّه ينتحم ويبني، وكذا إذا عجز عن الركوع والسّجود فإنّه يُومي ويبني.

قلت: أمّا الأول فلا يرد علينا؛ لأنّ الصّلاة بالتيمم ليست ببدل عن الصّلاة بالوضوء، إنّما البدلية في الطّهارة، والأمر هناك كذلك، فإنّه لا يكمل إحدى الطهارتين بالأخرى، وكذلك الصّلاة بالإيماء ليست ببدل عن الصّلاة بالركوع والسجود؛ لأنّ بعض الشيء لا يكون بدلاً عن كلّه، وأمّا العدّة بالشهور فبدل عن العدة بالحيض، وإكمال البدل بالأصل غير ممكن؛ لأنّها للتعرف عن براءة الرحم لا لقضاء حق النكاح.

فإن قلت: على هذا ينبغي أن يكتفى بالحيضة الواحدة كما في استبراء الجارية لما أنّ براءة الرحم يتعرف بالحيضة الواحدة.

وقد ذكر في «الإيضاح» و «التحفة» وغيرهما أنّ عدّة الموطوءة وهي التي وطئت بالنكاح الفاسد أو شبهة الملك أو كانت أمّ ولد فأعتقها مولاها أو مات عنها، فثلاث حيض أو ثلاثة أشهر أو وضع الحمل

(1)

.

قلت: إلحاقاً للشبهة بالحقيقة فإن أحكام العقد الفاسد أبدًا تُؤخذ من حكم الصحيح كما في البيع الفاسد والإجارة الفاسدة، فإنّ البيع الصحيح كما يثبت الملك فكذلك البيع الفاسد يثبت الملك، غير أن ثبوت الملك يتوقف إلى وجود القبض لوهاء في العقد باعتبار فساده، وكذلك يثبت الأجر وهو أجر المثل في الإجارة الفاسدة ولم يثبت المسمّى لوهاء فيه بسبب الفساد، فكذلك ههنا لم يثبت عدّة الوفاة في النكاح الفاسد لوهاء فيه؛ لأنّ عدة الوفاة لزيادة إظهار التأسّف لفوت نعمة النكاح، والنعمة في الصّحيح لا في الفاسد.

فكذلك اختصت بالصّحيح ولكن فيه جهة النكاح، فلذلك ألحق النكاح الفاسد بالأنكحة الصّحيحة في اعتبار مدّة العدّة، إلحاقاً للصّحيح بالفاسد فيما يختصّ به.

وذكر في «الذخيرة»

(2)

عدّة الوفاة لا تجب إلا في النكاح الصّحيح، حتّى أنّ المنكوحة نكاحاً فاسدًا إذا مات عنها زوجها تعتدّ بثلاث حيض.

ثم المنكوحة نكاحاً فاسدًا كالمنكوحة بغير شهود، فإنّه فاسد باتفاق بين علمائنا.

وأمّا نكاح المحارم مع العلم بأنّها حرام فنكاح فاسد عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما.

(1)

ينظر: تحفة الفقهاء (2/ 245)، البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (4/ 139).

(2)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 463).

ص: 90

وفي «الذخيرة»

(1)

رجل تزوّج منكوحة الغير ولا يعلم أنّها منكوحة الغير ودخل بها تجب العدّة، وإن كان يعلم أنّها منكوحة الغير لا تجب العدّة بالدخول [حتى]

(2)

لا يحرم على الزوج وطئها وبه يفتي.

وأمّا الموطوءة بشبهة فهي التي زفّت إلى غير زوجها فوطئها، تجب عليها العدّة وعلى الواطئ المهر على ما يجيء في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى.

وقال الشّافعي رحمه الله: حيضة واحدة

(3)

، فمذهبه مرويّ عن ابن عمر رضي الله عنه

(4)

، ومذهبنا مرويّ عن عمر وعليّ وابن مسعود رضي الله عنهم

(5)

.

ويستوي إن أعتقها أو مات عنها إلا على قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فإنّه كان يقول:"لا تلبسوا علينا سنة نبينا عدّة أمّ الولد إذا مات عنها سيدها أربعة أشهر وعشر"

(6)

، وهذا دليلنا فإنه ألزمها عدّة الحرائر، إلا أنا نوجب الحيض؛ لأنّ هذه العدّة لا تجب إلا باعتبار الدخول وتوهّم اشتغال الرحم، فيتقدّر بالحيض في الحياة والوفاة كالعدّة من نكاح فاسد أو وطءٍ بشبهة.

احتج الشافعي رحمه الله فقال: عدّتها أثر ملك اليمين فيتقدر بحيضة واحدة كالاستبراء، ودليل صحّة اعتباره بالاستبراء أنّها لا تختلف بالحياة والوفاة، وتأثيره أنّ المقصود تبين فراغ الرحم لا غير وذلك يحصل بالقرء الواحد

(7)

.

ولكنّا نقول: هذه عدّة وجبت على حرّة، فلا يكتفى فيها بحيضة كعدة النكاح بلا ولي، فإنّ عدّة النكاح قد تجب على الأمة، وهذه العدّة لا تجب إلا على الحرة، وتأثيره أنّ الحرة كاملة الحال فالوظيفة التي لا تجب إلا على الحرة تجب بصفة الكمال؛ لأنّ المعتبر حال وجوب العدّة لا ما كان قبله وبه يتبين الفرق بينه وبين الاستبراء، فالاستبراء لا يجب عليها.

(1)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 158).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

ينظر: أسنى المطالب في شرح روض الطالب (3/ 409)، تحفة المحتاج في شرح المنهاج (8/ 277).

(4)

عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن: صحابي، من أعز بيوتات قريش في الجاهلية. كان جريئًا جهيرًا. نشأ في الإسلام، وهاجر إلى المدينة مع أيبه، وشهد فتح مكة، ومولده ووفاته فيها، من علماء الصحابة، أفتى الناس في الإسلام ستين سنة، من المكثرين في الحديث، له في كتب الحديث 2630 حديثا، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: مات ابن عمر، وهو مثل عمر في الفضل، توفي سنة 73 هـ. ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 155)، صفة الصفوة (1/ 214)، أسد الغابة (3/ 236).

(5)

ينظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (4/ 147)

(6)

أخرجه أبو داود في سننه كتاب كتاب الطلاق، باب في عدة أم الولد (2308).

(7)

ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 174)

ص: 91

ولكن على المولى أن يستبرئها، قال عليه السلام:«ولا الحُبالى حتّى يستبرئن بحيضة»

(1)

، وهذا خطاب للمولى دون الأمة، فإن قول القائل لا يُضرب فلأن خطاب للضارب دون المضروب.

يوضحه أنّ سبب وجوب الاستبراء حدوث ملك الحلّ بسبب ملك اليمين.

ألا ترى أنّه لو اشتراها من صبي أو امرأة يجب الاستبراء ههنا، سبب وجوب العدّة زوال الفراش، والعدّة التي تجب لزوال الفراش لا يكتفى فيها بحيضة واحدة كذا في «المبسوط»

(2)

، وفيه حكاية، وهي أن شمس الأئمة السرخسي رحمه الله حين أخرج من الحبس كان أمير البلد زوّج أمّهات أولاده من خدّامه الأحرار، فسأل العلماء الحاضرين عن ذلك، فقالوا جميعًا نعم ما فعلت، فقال شمس الأئمة رحمه الله: أخطأت؛ لأن تحت كلّ خادم امرأة حرّة، وكان هذا تزويج الأمة على الحرّة، فقال الأمير: أعتقت هؤلاء، فجدّد العقد، فسأل العلماء من ذلك فقالوا: نعم ما فعلت، فقال: شمس الأئمة أخطأت؛ لأنّ العدة تجب على أمّهات الأولاد بعد الإعتاق، فكان هذا تزويج المعتدة من الغير فلا يجوز، فالله تعالى أنسى جواب مسألة واحدة في موضعين على العلماء ليظهر فقه شمس الأئمة رضي الله عنه على غيره.

فَصَارَ كَالْحَادِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وتفسير الحدوث بعد الموت بأن نصفه لستة أشهر فصاعدًا من يوم الموت عند عامّة المشائخ

(3)

.

وقال بعضهم بأن يأتي لأكثر من سنتين والأوّل أصحّ.

وتفسير قيام الحُبل عند الموت هو أن تلد لأقلّ من ستة أشهر من وقت الموت، كذا في الفوائد الظهيرية.

ولهما إطلاق قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(4)

وهو مطلق، حيث لم يتعرّض أن يكون الحمل من الزّوج أو من غيره، أو يكون الحمل في عدّة الطلاق أو في عدّة الوفاة.

وذكر الإمام التمرتاشي بعد التمسك بقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} وكذا في سائر وجوه الفرق والحرّة والمملوك فيه سواء

(5)

.

وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ، أي فيما إذا مات الصغير عن امرأته وبها حُبل.

(1)

أخرج أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في وطء السبايا، (2157)، وأحمد في مسنده (11596)، والحاكم في المستدرك (2790)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"(2/ 212).

(2)

المبسوط للسرخسي (5/ 174).

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 324).

(4)

سورة الطلاق، الآية (4).

(5)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 31).

ص: 92

وَلَا يَلْزَمُ امْرَأَةُ الْكَبِيرِ إلى آخره، فوجه ورود الشبهة هو أنّه فرق في امرأة الصغير بين الحمل القائم وقت موت الصغير وبين الحمل الحادث بعد موته، حيث جعل انقضاء العدّة في القائم بوضع الحمل وفي الحادث بالأشهر، وجعل في امرأة الكبير في القائم والحادث انقضاء العدّة بوضع الحمل فألحق الحادث بالقائم.

فأجاب عنه، وقال: لما ثبت النسب في امرأة الكبير من الميّت وإن كان الحمل حادثاً بعد الموت جعل كأنّه كالقائم وقت موت الكبير، ولو كان قائمًا وقت الموت في الصغير والكبير كان انقضاء العدّة بوضع الحمل، فكذلك فيما إذا كان قائمًا تقديراً في امرأة الكبير.

وفي «المبسوط» وزعم بعض أصحابنا أن في امرأة الكبير إذا أحدث الحُبل بعد الموت يكون انقضاء العدّة بالوضع، وليس كذلك، بل الجواب في الفصلين واحد، أي في القائم كان انقضاء العدّة بوضع الحمل في الحادث بالأشهر، ومتى كان الحبل حادثاً بعد الموت كان من زنا فلا يتغير به حكم العدّة، وإنّما الفرق في أنّ امرأة الكبير إذا جاءت بالولد لأقلّ من سنتين تنقضي عدتها به؛ لأنّه يستند العلوق إلى ما قبل الموت حتّى يحكم بثبوت النسب من الزوج، فتبين به أنّ الحبل ليس بحادث بعد الموت.

وفي امرأة الصغير لا يستند العُلوق إلى ما قبل الموت، وإنما أسند إلى أقرب الأوقات؛ لأنّ النسب لا يثبت منه، فإذا لم يكن الحبل ظاهراً، وإنّما ظهر بعد موته يجعل هذا أصلاً حادثاً

(1)

.

(وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ)، أي: في وجهي مسألة الصغير، وهما وجه القائم وقت الموت ووجه الحادث بعد الموت.

وحاصله أنّه إن لم يثبت النّسب من الصبي الميّت في الوجهين لكن إذا كان الحُبل قائمًا وقت الموت كان انقضاء العدّة بوضع الحمل عند أبي حنيفة ومحمّد رحمه الله، فإنّهما لا يشترطان لانقضاء العدة بوضع الحمل ثبوت النسب.

وذكر الإمام قاضي خان رحمه الله وكذلك الحامل من الزنا إذا تزوّجت بزوج آخر جاز النكاح في قول أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله

(2)

.

فإن مات عنها زوجها كان عدّتها بوضع الحمل لما قلنا.

وإذا وطئت المعتدة بشبهة فعليها عدّة أخرى وتداخلت العدّتان، وصورة التداخل هي أن العدّتين إذا وجبتا من رجلين فلا يخلو من أنّ الوطء الثاني بعدما رأت المرأة شيئاً من الحيض، أو لم تر أصلاً، فإن كانت لم تر أصلاً، فالحيض الثلاث بعد الوطء الثاني تنوب عن ست حيض فإن كانت ذات حيضة يجب عليها بعد الوطء الثاني ثلاث حيض -أيضاً- والحيضتان تنوبان عن أربع حيض.

(1)

المبسوط للسرخسي (6/ 52).

(2)

ينظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (4/ 155).

ص: 93

والثالثة عن الوطء الثاني خاصة.

وذكر في «الذخيرة»

(1)

وإذا وجبت العدتان من جنس واحد كالمطلقة إذا تزوّجت في عدّتها، فوطئها الثاني وفرق بينهما، [أو]

(2)

من جنسين كالمتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة تداخلت، واعتدّت بما رأته من الحيض والأشهر، هذا إذا وطئها أجنبي

(3)

بشبهة أمّا إذا وطئها الزّوج المطلق بشبهة تداخلت العدّتان بالإجماع.

وذكر في «المبسوط» : وإن كانت العدّتان من واحد بأن وطء معتدته بعد البينونة بالشبهة فلا شك عندنا أنّهما ينقضيان بمدة واحدة، وهو أحد قولي الشافعي، وفي القول الآخر يقول: لا تجب العدة بالسّبب الثاني أصلاً.

وحجته في ذلك أنهما حقان وجبا لمستحقين، فلا يتداخلان كالمهرين؛ ولأنّ العدّة فرض كفّ لزمها في المدّة، فلا يجتمع الكفان في مدّة واحدة، كصومين في يوم واحد وهذا هو الحرف الذي يدور عليه الكلام، فإنّ المعتبر عنده معنى العبادة في العدّة؛ لأنّه كف عن الأزواج والخروج فيكون عبادة كالكفّ عن اقتضاء الشهوات بالصّوم

(4)

.

وحجّتنا في ذلك أنّ العدّة مجرّد أجل، والآجال تنقضي بمدة واحدة في حق الواحد والجماعة كآجال الدّيون.

وبيانه أنّ الله تعالى سمّى العدّة أجلاً، وقال تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(5)

وسمّاه تربصاً والتربص هو الانتظار، والانتظار يكون بسبب الأجل، كالانتظار

في المطالبة بالدّين إلى انقضاء الأجل، من حيث المقصود في الأجل، فإنّ مقصود كلّ واحد من صاحبي العدّة يتم بثلاث حيض، وهو العلم بفراغ رحمها من مائه.

معنى العبادة في العدّة تبع لا مقصود وإنّما ركن العبادة حرمة الخروج والتزوّج.

ألا ترى أنّ الله تعالى ذكر ركن العدّة بعبارة النهي فقال: {وَلَا يَخْرُجْنَ}

(6)

وقال: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ}

(7)

، وموجب النهي التحريم، والحرمات تجتمع، فإنّ الصيد حرام على المحرم في الحرم لحرمة الحرم وحرمة الإحرام.

(1)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 465).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

والأجنبي عن المرأة من لم يكن محرما لها. ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (2/ 112)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 234).

(4)

المبسوط للسرخسي (6/ 41).

(5)

سورة الطلاق (الآية/ 4).

(6)

سورة الطلاق، الآية (1).

(7)

سورة البقرة، الآية (235).

ص: 94

والخمر حرام على الصائم لصومه، ولكونها خمراً، أو ليمينه إذا حلف لا يشربها.

بخلاف ركن الصّوم فإنّه مذكور بعبارة الأمر قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}

(1)

فعرفنا أنّ الركن فيه الفعل، ثم عدّتها تنقضي وإن لم تعلم، وتنقضي وإن لم تكف نفسها عن الخروج، ولا يتحقّق أداء العبادة بدون ركنها؛ ولأن بوطء الثاني قد لزمتها العدّة، والشروع في العدّة لا يتأخّر بعد الوجوب، وهذا لأنّه لو امتنع شروعها فيه إنّما يمتنع للعدّة الأولى، والعدّة الأولى أثر النكاح، وأصل النكاح لا يمنع شروعها في العدّة إذا تقرّر بسببها، كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة فأثرها أولى أن لا يمنع.

وذكر في «الإيضاح» والكلام بيننا وبين الشافعي راجع إلى معرفة ركن العدّة، فإنّ الركن عنده فعل التربص، قال الله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}

(2)

معناه تربصن أنفسهنّ وتكففن

(3)

.

وإنّما سمّاه أجلاً لأنّ الفعل الواجب به يصير معلومًا.

وإذا ثبت أن الفعل هو الواجب فالفعلان لا يتأدّيان معًا.

ونحن نقول: الركن هو حرمة الفعل؛ لأنّ الله تعالى سمّاه أجلاً، والأجل حقيقة مدّة مضروبة لانقضاء شيء كالآجال في باب الديون.

ولنا أنّ المقصود هو التعرّف عن فراغ الرحم وقد حصل بالواحدة

(4)

.

فإن قلت: لو كان المقصود هو تعرف فراغ الرحم لما وجبت ثلاثة أقراء؛ ولأنّ التداخل في العدّتين لو كان جائزًا لكان الأولى أن يتداخل الأقراء في أنفسها، فحينئذ ينبغي أن يكتفي بقروء واحد لما أنّ المقصود وهو علم فراغ الرحم يحصل به.

قلت: لا يلزم من التداخل في العدّتين تداخل أجزاء عدّة واحدة بعضها في بعض.

ألا ترى أنّ الشهور في أجلٍ واحد لا يتداخل والشهور في آجال المختلفة يتداخل، حتّى أنّ رب الدّين لو أجّل ديونه على المديونين بثلاثة أشهر مثلاً من وقت واحد بمضي ثلاثة أشهر كلّ الآجال مرة واحدة.

وكذلك الجلدات في الحدّ الواحد لا يتداخل ويتداخل الحدّان.

وأمّا قوله: لو كان المقصود تعرف براءة الرحم لاكتفى بالواحد.

قلنا: إن الحيضة الواحدة لتعرف فراغ الرحم والثانية لحرمة النكاح فرقاً بينه وبين الاستبراء والثالثة لفضيلة الحرية، فإذا قلنا بالتداخل في إقراء عدّة واحدة يفوت هذا المقصود، إلى هذا أشار في «المبسوط»

(5)

.

(1)

سورة البقرة، الآية (187).

(2)

سورة البقرة، الآية (228).

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 42).

(4)

ينظر: المرجع السابق.

(5)

المبسوط للسرخسي (6/ 42)

ص: 95

ألا ترى ينقضي بدون علمها ومع تركها الكفّ علم أنّ فعل الكف والتربص ليسا بمقصودين.

ألا ترى أنها تجب على من ليس بأهل لوجوب الفعل وهي الصبية والمجنونة، بل المقصود منها ترك الفعل إلى أجل وانعدام الفعل إلى أجل وهذا ممّا يتحقّق بدون العلم.

ألا ترى أنّ الله تعالى سمّاها أجلاً، وسائر الآجال التي ضربت للمنع عن الفعل ينقضي بدون العلم، كذا في «مبسوط فخر الإسلام»

(1)

، نفياً لتهمة المواضعة

(2)

، فهما إن يتواضعا على الطلاق وانقضاء العدّة ليصحّ إقرار المريض لها بالدّين ووصيته لها بشيء أو يتواضعا على انقضاء العدّة بأن يتزوّج أختها أو أربع سواها.

وذكر في «الذخيرة»

(3)

قال محمّد رحمه الله: في الأصل تجب العدّة من وقت الطّلاق واختيار مشايخ بلخ

(4)

على أنّه تجب العدّة من وقت الإقرار عقوبة عليه جزاءً على كتمانه الطّلاق، ولكن لا تجب لها نفقة العدّة، ولا مؤنة السكنى؛ لأنّ ذلك حقّها وقد أقرّت هي بسكوتها.

وينبغي على قول هؤلاء أن لا يحلّ له التزوّج بالأخت وأربع سواها ما لم ينقض العدّة من وقت الإقرار.

وحُكى عن الشيخ الإمام أبي الحسن السغدي رحمه الله أنّه كان يقول: ما ذكر محمّد في الأصل أنّ العدّة تعتبر من وقت الطّلاق محمول على ما إذا كانا متفرقين من الوقت الذي أسند الطّلاق إليه، أمّا إذا كانا مجتمعين فالكذب في كلامهما ظاهر فلا يصدّقان في الإسناد.

قال محمّد رحمه الله: وعلى هذا إذا فارق الرجل امرأته زماناً، ثم قال لها: كنت طلقتك منذ كذا، والمرأة لا تعلم بذلك بصدق وتعتبر عدّتها من ذلك الوقت

(5)

.

(1)

ينظر: الاختيار لتعليل المختار (4/ 92).

(2)

المواضعة: أن يتظاهر أو يتواطأ شخصان على إبرام عقد صوري بينهما إما بقصد التخلص من اعتداء ظالم على بعض الملكية، أو بإظهار مقدار بدل أكثر من البدل الحقيقي ابتغاء الشهرة والسمعة، أو لتغطية اسم الشخص الذي يعمل لمصلحته باطناً، ومن أمثلته: إعلان زيادة في المهر في عقد الزواج بعد الاتفاق سراً على مقدار المهر الحقيقي بقصد الرياء والسمعة والشهرة. ينظر: الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي (4/ 3042).

(3)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 462).

(4)

بلخ مدينة مشهورة بخراسان، وقيل: إن أول من بناها لهراسف الملك لما خرّب صاحبه بخت نصّر بيت المقدس، وقيل: بل الإسكندر بناها، وكانت تسمى الإسكندرية قديما. ينظر: معجم البلدان (1/ 479)

(5)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 462).

ص: 96

أو عزم الواطئ على ترك وطئها بأن أخبر أني تركت وطئها، والإخبار أمر ظاهر فيدار الحكم عليه، أمّا آخر الوطئات فلا يعلم لاحتمال وجود غيره أي غير الوطء الذي وجد.

وذكر في «الخلاصة»

(1)

، والنصاب المتاركة في النكاح الفاسد بعد الدّخول لا يكون إلا بالقول، بقوله: تركتك وما يقوم مقام هذا القول بأن يقول: تركتها وخليت سبيلها، أمّا عدم المجيء فلا؛ لأن استدامة الصحبة معها لا يكون والغيبة ليست لمتاركة؛ لأنّه لو عاد إليها يعود، وأمّا لو أنكر نكاحها فهو ليس بمتاركة.

والنكاح الفاسد لا حكم له قبل الدخول، حتّى لو تزوّج امرأة نكاحاً فاسدًا بأن مسّ أمّها بشهوة ثم تركها له أن يتزوّج الأم.

وقال زفر رحمه الله: من آخر الوطئات، وبه أخذ أبو القاسم الصّفار رحمه الله ذكره في الذخيرة

(2)

.

وَمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، أي غير الوطء وهو الزّوج الثاني، فيحلف كالمُودِع بأن قال المُودِع: هلكت الوديعة

(3)

، أو قال: رددت وأنكر المودع ما قاله، كان القول قول المودع مع اليمين؛ لأنّه أمين والقول قول الأمين مع اليمين فكذلك ههنا.

(وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا) إلى آخره، هذه من المسائل المعروفة التي ذكرها في «التتمة»

(4)

و «الذخيرة»

(5)

وغيرهما، وهي كلّها مبنية على أصل واحد؛ وهو أنّ الدخول في النكاح الأوّل هل يكون دخولاً في النكاح الثاني أم لا، فعند محمّد رحمه الله لا يكون، وعندهما يكون.

(1)

الخلاصة المسمى: خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر، تأليف الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، ت 505 هـ، وهو اختصارٌ وترتيبٌ لمختصر المزني، بالفقه الشافعي، وهو من مطبوعات دار المنهاج.

(2)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 47).

(3)

الوديعة: هي أمانة تركت عند الغير للحفظ قصدًا. ينظر: التعريفات للجرجاني (ص: 251).

(4)

التتمة في الفتاوى؛ لبرهان الدين، محمود بن أحمد بن عبدالعزيز بن عمر بن مازة البخاري المتوفى سنة (616 هـ) والتتمة كتابٌ جمع فيه مصنفه ما وقع إليه من الحوادث والواقعات وضم إليها ما في الكتب من المشكلات وجمع في كل مسألة روايات مختلفة. يُنْظَر: كشف الظنون (1/ 823)، معجم المؤلفين (3/ 796)، الفوائد البهية (ص 336).

(5)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 558).

ص: 97

وصورة المسألة الأولى: إذا تزوّجت المرأة غير كفؤ ودخل بها فرفع الولي إلى القاضي حتّى فرّق بينهما، فألزمه المهر، وألزمها العدّة، ثم تزوّجها هذا الرجل في العدّة بغير الولي، وفرّق القاضي بينهما قبل أن يدخل بها كان لها عليه المهر الثاني كاملاً، وعليها عدّة مستقبلة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله استحساناً

(1)

.

وقال محمّد رحمه الله: لها في العقد الثاني نصف المهر، وعليها بقيّة العدّة وقال زفر

رحمه الله: لها نصف المهر في العقد الثاني ولا شيء من العدّة

(2)

.

والثابت هذه المسألة المذكورة في الكتاب.

واحتج محمّد رحمه الله بظاهر قوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}

(3)

وفي النكاح الثاني الطّلاق حصل قبل المساس؛ لأنّ العقد الثاني غير مبني على الأوّل والدخول في النكاح الأوّل يجعل كالدخول في النكاح الثاني، إلا أنّه يوجب بقيّة العدّة الأولى احتياطاً؛ لأنّ تلك العدّة كانت واجبة بالطلاق قبل الدخول صار النكاح الثاني كالمعدوم.

قوله رحمه الله: وَإِكْمَالُ الْعِدَّةِ الْأُولَى، جواب سؤال يرد على قوله: لِأَنَّ هَذَا طَلَاقٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ، بأن يقال: لما كان هذا طلاقاً قبل المسيس لزم أن لا تجب العدّة في النكاح الثاني أصلاً لا الإكمال ولا الاستئناف، كما قول زفر

(4)

.

فأجاب عنه نعم كذلك، إلا أنّه لما طلّقها ثانياً صار كأن النكاح الثاني لم يوجد، فيجب عليها إكمال العدّة الأولى كما لو لم يتزوّجها ثانياً أصلاً، فظهر حكم الطلاق الأوّل وكان هو بعد الدّخول فتجب عدّته.

كَمَا لَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ، أي منكوحته التي ولدت، منه ثُمَّ أَعْتَقَهَا، فيجب عليها ثلاث حيض، حيضتان من النكاح يجتنب فيهما ما يجتنب المنكوحة من الخروج والبروز والتزين، وحيضة من العتق لا يجتنب فيها؛ لأنّه لما اشتراها فسد النكاح ووجبت العدّة.

ألا ترى أنّه لا يجوز أن يتزوّجها، وإنّما لم يظهر حكم العدة في حقه لمانع وهو ملك اليمين، فإذا زال المانع ظهر حكم العدّة في حقه -أيضاً-، فوجبت حيضتان لفساد النكاح وهما معتبران من الإعتاق -أيضاً- ويلزمها الإحداد.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 28).

(2)

ينظر: المرجع السابق.

(3)

سورة الأحزاب، الآية (49).

(4)

ينظر: المرجع السابق.

ص: 98

وأمّا الثالثة فإنّها تجب من العتق خاصّة فلا يلزمها الإحداد كذا في «الإيضاح»

(1)

.

وَبَقِيَ أَثَرُهُ، وقد بقي أثره، والواو للحال، أي والحال أن أثر الوطء الأوّل باقٍ، وهو العدّة فإذا جدّد النكاح والحال أنّها مقبوضة بالدّخول في النكاح الأوّل فناب ذلك القبض الذي كان قبضها بالدخول مناب القبض المستحق في النكاح الثاني، أي مناب الدخول المستحق في النكاح الثاني، فإذا طلّقها صار كأنه طلّقها بعد الدخول في النكاح الثاني، فيجب عليه مهر كامل، وعليها عدّة مستقبلة بمجرّد النكاح والطّلاق الثاني.

فإن قلت: لو كان مجرّد النكاح الثاني بمنزلة النكاح والدخول لما وقعت البينونة بصريح الطلاق بعد النكاح الثاني، كما لا تقع البينونة فيما إذا وجد الوطء حقيقة بعد النكاح.

قلت: هذا اعتبار فاسد، فإنا ما جعلنا النكاح الثاني مقام النكاح والدّخول من كلّ وجه، بل أقمناه مقام الدخول في حق تكميل المهر، ووجوب استئناف العدّة لا غير، فلم يلزم من إقامة النكاح الثاني مقام الدّخول في هذين الحكمين إقامته مقامه في جميع الأحكام.

ألا ترى أنّ الخلوة قائمة مقام الدّخول في حق تكميل المهر ووجوب العدّة الكاملة، وغير قائمة مقام الدّخول في حق غيرهما، حتّى أن صريح الطّلاق بعد الخلوة يبينها مع أنّ الخلوة قائمة مقام الدخول في حق ذينك الحكمين، فعلم بهذا أنّه لم يلزم من إقامة النكاح الثاني مقام الدّخول في ذينك الحكمين إقامته مقامه في حق صريح الطّلاق يعقب الرجعة

(2)

، وكذلك إن كان النكاح الأول فاسدًا أو كان دخل بها بشبهة، ثم تزوّجها نكاحًا صحيحًا في العدّة، وإن كان النكاح الأوّل صحيحًا والثاني فاسدًا ففرّق بينهما قبل الدخول لا يجب المهر بالاتفاق؛ لأنّ صيرورته قابضاً باعتبار تمكنه من القبض شرعًا، وذلك بالعقد الفاسد لا يكون، ألا ترى أن الخلوة في النكاح الفاسد لا يوجب المهر والعدة فهنا كذلك، العدة الأولى لم تسقط بمجرّد العقد الفاسد، فبقيت معتدة كما كانت ولا مهر لها عليه إذا فرق بينهما قبل الدخول كذا في «المبسوط»

(3)

في باب الأكفاء من النكاح؛ لأن الأولى قد سقطت بالتزوّج فلا يعود لأن السّاقط لا يعود.

(1)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/ 203)، العناية شرح الهداية (4/ 332).

(2)

الرجعة في الطلاق: هي استدامة القائم في العدة، وهو ملك النكاح. ينظر: التعريفات للجرجاني (ص: 109).

(3)

المبسوط للسرخسي (5/ 29).

ص: 99

وجوابه ما قلنا، إشارة إلى قوله: وَإِكْمَالُ الْعِدَّةِ الْأُولَى، وإلى قوله: وَلَهُمَا أَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ فِي يَدِهِ، إلى آخره.

وكذا إذا خرجت الحربية

(1)

إلينا مسلمة، والإسلام ليس بشرط في عدم وجوب العدّة عليها، بل الشّرط هو الخروج على سبيل المزاعمة، أي المغاضبة وعلى نيةِ أن لا تعودَ إلى دار الحرب أبدًا، يقال: راغم فلان قومه إذا نابذهم وخرج عنهم، والدّليل على ما قلنا ما ذكره الإمام التمرتاشي رحمه الله فقال: خرج أحد الزوجين إلينا مسلمًا أو ذميًّا

(2)

أو مستأمنًا

(3)

، ثم أسلم أو صار ذميًا والآخر على حربه، فقد زالت الزوجية، ثم إن كانت المرأة هي الخارجة، فلا عدّة عليها، وقال أبو يوسف ومحمّد -رحمهما الله-: عليها العدّة ولا نفقة لها وإن كان الخارج هو الرجل، فله أن يتزوّج أربعًا سواها وفيهن أختها.

لو وقعت الفرقة بسبب آخر وهو الطّلاق.

بِخِلَافِ مَا إذَا هَاجَرَ وَتَرَكَهَا، أي: جاء الزوج إلى دار الإسلام، وترك امرأته في دار الحرب لا تجب العدّة عليها بالاتفاق؛ لعدم تبليغ خطاب العدّة إليها؛ لأنّها في دار الحرب {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}

(4)

الآية، فالله تعالى أباح نكاح المهاجرة

(5)

مطلقاً، فتقييد ذلك بما بعد انقضاء العدّة يكون زيادة على النص.

إلا أن تكون حاملاً والفرق بين الحامل والحائل

(6)

ظاهر؛ لأنّ الحمل أمنع للنكاح من احتمال الحمل.

(1)

أهل الحرب أو الحربيون: هم غير المسلمين الذين لم يدخلوا في عقد الذمة، ولا يتمتعون بأمان المسلمين ولا عهدهم. ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (2/ 230)، المغني لابن قدامة (6/ 372).

(2)

الذمي نسبة إلى الذمة، أي العهد من الإمام - أو ممن ينوب عنه - بالأمن على نفسه وماله نظير التزامه الجزية ونفوذ أحكام الإسلام. ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (6/ 24)، التعريفات للجرجاني (ص: 107)

(3)

استأمنه: طلب منه الأمان، واستأمن إليه: دخل في أمانه، وفي الاصطلاح: المستأمن: من يدخل إقليم غيره بأمان مسلما كان أم حربيا. ينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 24)، الأم للشافعي (4/ 263)، الحاوي الكبير (13/ 328).

(4)

سورة الممتحنة، الآية (10).

(5)

الهجرة: هي ترك الوطن الذي بين الكفار والانتقال إلى دار الإسلام. ينظر: التعريفات للجرجاني (ص: 256).

(6)

الحائل: هي التي لم تحمل. ينظر: لسان العرب (1/ 597).

ص: 100

ألا ترى أنّ أم الولد يزوّجها مولاها إذا كانت حائلاً، ولا يزوّجها إذا كانت حاملاً، كذا في الفوائد الظهيرية.

والأول أصحّ وهو أن لا يجوز نكاح المهاجرة إذا كانت حاملاً من أهل الحرب، بخلاف الحُبلى من الزنا؛ لأنّ الحُبلى من الزنا لا نسب له وهنا النّسب ثابت من الحربي، وباعتبار ثبوت النّسب المحل مشغول؛ فلهذا لا يصحّ النكاح ما لم يفرغ المحل عن حق الغير، كذا في «المبسوط»

(1)

.

ثم لم يذكر في هذا الباب وجوب العدّة على الصغيرة والكتابية.

وذكر في «الذخيرة»

(2)

إذا طلق الرجل امرأته وهي صغيرة لم تحض وقد دخل بها فعليها أن تعتدّ بثلاثة أشهر، وحكى عن الشيخ أبي بكر محمّد بن الفضل رحمه الله إذا كانت الصغيرة مراهقة وقد دخل بها الزّوج فعدّتها لا تنقضي بالأشهر، بل توقف حالها إلى أن يظهر أنّها قد حَبلت بذلك الوطء أم لا، فإن ظهر كان عدتها بوضع الحمل، وإن لم يظهر فبثلاثة أشهر، ولو حاضت في الأشهر الثلاثة تستأنف العدّة بالحيض.

ثم اختلف مشايخنا في إطلاق إيجاب العدّة على الصغيرة، أكثر مشايخنا لا يطلقون لفظ الوجوب؛ لأنّها غير مخاطبة لكن ينبغي أن يقال:«عرت باندراتسيت» .

وكذلك تجب العدّة على الكتابية إذا كانت تحت مسلم، فيجب عليها ما يجب على المسلمة الحرّة كالحرّة والأمة كالأمة، وإن كانت تحت ذمي فلا عدّة عليها في موت ولا فراق، في قول أبي حنيفة رحمه الله

(3)

.

وقال أبو يوسف ومحمّد رحمه الله: عليها العدّة؛ لأنّ في العدّة حق الزّوج وإن كان فيها حق الشرع والكتابية مخاطبة العباد

(4)

.

ولأبي حنيفة رحمه الله أنّ العدّة لو وجبت على الكتابية إمّا أن تجب لحق الشرع ولا وجه إليه لأنّهم لا يخاطبون بحقوق الشرع، وإمّا أن تجب لحق الزوج ولا وجه إليه -أيضاً- لأنّه لا ينعقد ذلك

(5)

.

بخلاف ما إذا كان الزوج مسلمًا؛ لأنّ هناك العدّة يجب حقاً للشرع، لأنه يعتقد -والله أعلم- لما ذكر نفس وجوب العدّة وكيفية الوجوب وعلى من تجب ذكر في هذا الفصل ما يجب على المعتدات أن بفعلته وما لا يجب.

يقال: بت طلاق المرأة وابته والمبتوتة المرأة وأصلها المبتوت طلاقها، كذا في المغرب

(6)

.

(1)

المبسوط للسرخسي (5/ 58).

(2)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 461).

(3)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 460).

(4)

ينظر: المرجع السابق.

(5)

ينظر: المرجع السابق.

(6)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 33).

ص: 101

ثم لفظ المبتوتة يقع على ثلاث، وهي المختلعة والمطلقة ثلاثاً والمطلقة بتطليقة بائنة، وذكر في «المغرب»

(1)

حداد المرأة ترك زينتها وخضابها

(2)

بعد وفات زوجها؛ لأنّها منعت عن ذلك أو منعت نفسها عنه، وأصل الحدّ المنع وقد أحدّت إحداداً فهي محدّة حدّت تحدّ حداداً من حدّ نصر وضرب والحِداد -أيضاً- ثياب المأتم السود.

قال عليه السلام: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها فإنها تحدّ أربعة أشهر وعشراً»

(3)

كذا ذكر الحديث في «شرح الآثار»

(4)

و «مبسوط فخر الإسلام» .

فعلى هذا التمسك به ظاهر؛ لأنّه أخبر عن إحدادها والخبر آكد من الأمر في اقتضاء الوجوب، لما عرف، وكان الإحداد عليها واجباً وأمّا وجه التمسّك بما ذكر في الكتاب حيث لم يقل: فإنّها تحدّ، فمحتاج إلى التأويل فقد ذكر السؤال والجواب في «الفوائد الظهيرية» فقال: فإن قيل: ما وجه التمسّك بهذه النص في إيجاب الحداد ومقتضى هذا النصّ إحلال الإحداد للمتوفى عنها زوجها؛ لأنّ هذا استثناء من التحريم والاستثناء من التحريم إحلال ولا كلام في الإحلال وإنّما الكلام في الإيجاب؟

(5)

.

قلنا: قوله عليه السلام: «لا يحل» تحريم ترك التزين والتحسّن، وتحريم الترك إيجابه فيكون هذا استثناءًا من الإيجاب، فيكون إيجاباً؛ لأنّ الأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.

ثم قال: وما هو بما فيه ثلج والفؤاد سوى أني سمعت هذا من الشيخ الإمام بدر الدين الورسكي

(6)

رحمه الله، وعلى هذا يمكن أن يقال قوله عليه السلام:«لا يحل» نفي لإحلال الإحداد ونفي إحلال الإحداد نفي الإحداد نفسه، فحينئذ يكون في المستثنى إثبات الإحداد لا محالة فكان تقدير الحديث: لا تحدّ المرأة على ميّت فوق ثلاثة أيام إلا المتوفّى عنها زوجها فإنها تحدّ أربعة أشهر وعشراً، فكان هذا حينئذٍ إخباراً بإحِداد المتوفى عنها زوجها فكان واجباً لما ذكرنا.

(1)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 107).

(2)

الخضاب: ما يخضب به من حناء، وكتم ونحوه. ينظر: لسان العرب (1/ 357).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب إحداد المرأة على غير زوجها، رقم (1280)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل، رقم (1486).

(4)

شَرْح الآثار، لأبي جعفر أحمد بن مُحَمَّد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري، المعروف بالطحاوي (ت 321 هـ) واسم كتابه (شرح مشكل الاثار) حققه شعيب الأرنؤوط، وطبعته دار الرسالة.

(5)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 58)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 190).

(6)

عمر بن عبد الْكَرِيم الورسكي الْعَلامَة بدر الدّين البُخَارِيّ تفقه عَلَيْهِ شمس الْأَئِمَّة الكردري ببخارى مَاتَ ببلخ سنة أَربع وَتِسْعين وَخمْس مائَة تفقه على أبي الْفضل الْكرْمَانِي وَحدث عَنهُ بأمالي القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الأرسابندي. ينظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 392).

ص: 102

فإن قيل: كيف يجب الإحداد والإحداد هو التأسف والتلهّف على فوت النعم، وقد قال الله تعالى:{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}

(1)

فكان الحديث حينئذٍ معارضاً للكتاب فلا يقبل؟.

قلنا: المراد بما في الآية فرح خاص وأسى خاص، وهو الفرح مع الصباح والأسى مع الصباح هكذا روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

(2)

.

ولنا ما روي أن النبي عليه السلام «نهى المعتدة أن تخضب بالحناء»

(3)

روته أم سلمة رضي الله عنها، وهذا عام في كلّ عدّة، ولأنّها معتدة من نكاح صحيح، فكانت كالمتوفّى عنها زوجها وتأثيره أن الحداد إظهار التأسّف على فوت نعمة النكاح، وذلك موجود في المبتوتة كوجوده في المتوفّى عنها زوجها، كذا في «المبسوط»

(4)

.

فإن قلت: اسم المبتوتة يتناول المختلعة وغيرها، فكيف تتأسّف المختلعة وقد افتدت نفسها بالمال برضاها لطلب الخلاص منه؟ وكذلك المبانة، كيف يتأسّف فراقه وقد خفاها زوجها بالإبانة وآثر غيرها عليها وهي تظهر السرور بالتخلّص من مثل هذا الزوج دون التأسّف؟.

قلت: شرعية الحداد أثره لفوت النكاح الصحيح بالسنة لا لاعتبار وفاء الزوج وجفائه.

ألا ترى أنّ الزّوج وإن وفى بها إلى أن فارقها بالممات لا يربوا درجة على الوالدين الذين هما سببا وجودها، وحياتها بعد الوجود، فلم يشرع الحداد عليها بفراقهما بالاتفاق، علم بهذا أنّ الحداد غير دائر بمجرّد فوت من له وفاء، بل هو دائر بفوت نعمة النكاح الذي كان سبباً لصيانتها، فعلم بهذا أن الحداد إنّما وجب تعظيمًا لحظر النكاح لا غير وفي هذا لا يتفاوت المختلعة والمبانة.

فإن قيل: لو كان كذلك لوجب الحداد على الأزواج كما وجب على الزّوجات لما أنّ نعمة النكاح مشتركة بينهما.

قلنا: النكاح أصلح في حق الزوجات لما فيه من صيانتهن؛ لأنّهن لحم على وضم ودرور النفقة عليهنّ لأنّهن ضعائف عن التكسب وعوافر عن التقلب، قال شيخ الإسلام المعروف بجواهر زاده رحمه الله الحداد ما وجب إلا تبعًا للعدّة، والعدّة تجب على الزّوجات، فكذلك الحداد.

(1)

سورة الحديد الآية (23).

(2)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 35).

(3)

أخرجه أبو داوود في سننه، كتاب الطلاق، باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها، (2305)، والنسائي في سننه، كتاب الطلاق، باب الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر، (3537)، والطبراني في المعجم الكبير (1013)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب العدد، باب المعتدة تضطر إلى الكحل (15538).

(4)

المبسوط للسرخسي (6/ 59).

ص: 103

وقال الإمام الزرنكري رحمه الله: الحداد لا يجب على خمس نسوة، المطلقة طلاقاً رجعيًّا؛ لأنّ النكاح لم ينقطع به والمعتدة من نكاح فاسد، لأنّ النكاح الفاسد ليس بنعمة والكتابية والصبية؛ لأنهما لا يخاطبان بحقوق الشرع.

بخلاف العدّة فإنّها عبارة عن مجرد مضي المدة فينويها في حقهما لا يؤدي إلى توجه خطاب الشرع بخلاف الحداد، وأم الولد إذا أعتقت؛ لأنّ زوال الرق نعمة فلا يليق فيه إيجاب التأسف، كذا في «الفوائد الظهيرية»

(1)

.

(وَالْمَعْنَى فِيهِ) أي: إيجاب في ترك الطيب والزينة؛ لأنّها غير مخاطبة بحقوق الشرع، والحداد من حقوق الشرع، ولهذا لو أمر الزوج بترك الحداد لا يحلّ لها ترك الحداد، فلو كان حق العبد لكان هذه الولاية، ولأنّ في قوله عليه السلام:«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر»

(2)

إلى آخره إشارة فيه إلى أنّه حق الله.

لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ، أي: حق المولى، وحق المولى مقدّم على حق الله لحاجته، ولهذا كان للمولى أن يمنع أمته عن أداء النوافل ويمنع عبده عن الجمع لأنها فاتتها نعمة النكاح.

فإن قلت: وجوب الحداد معلول بعلّتين مستقلّتين على ما ذكر في الكتاب، أحديهما إظهار التأسّف لفوت نعمة النكاح، والثانية أن هذه الأشياء دواع إلى الرغبة فيها وهي ممنوعة عن ذلك في العدّة، ثم في حق أم الولد والمعتدة عن نكاح فاسد إن لم يوجد العلة الأولى فقد وجدت العلّة الثانية، وهي تامة بنفسها فإنّهما ممنوعتان عن النكاح حال قيام عدتهما، فكان ينبغي أن يجب الحداد عليهما لوجود العلة الأخيرة فيهما.

قلت: تلك حكمة وليست بعلة لما ذكرنا من دوران وجوب الحداد بفوت نعمة النكاح، والحكم يدور مع العلة لا مع الحكمة لما عرف في مسألة الاستبراء.

وَالْإِبَاحَةُ أَصْلٌ، أي: إباحة الزينة أصل خصوصاً في حق النساء، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}

(3)

.

ولا بأس بالتعريض في الخطبة، أراد بها المتوفّى عنها زوجها لأنّ التعريض لا يجوز للمطلقة؛ لأنّه لا يجوز لها الخروج من منزلها أصلاً، فلا يتمكّن من التعريض لها على وجه لا يخفى على النّاس، فأمّا المتوفّى عنها زوجها يباح لها الخروج نهاراً، فتمكنه التعريض على وجه لا يقف عليه سواها كذا في شرح التأويلات.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 32).

(2)

سبق تخريجه (ص 211).

(3)

سورة الأعراف، الآية (32).

ص: 104

قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}

(1)

.

التعريض أن يذكر شيئاً يدل به على شيء لم يذكره، كما يقول المحتاج إلى المحتاج إليه: جئتك لأسلّم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا: وجئتك بالتسليم تقاضياً والكتابة ذكر الرديف فإرادة المردوف، كقولك فلان: طويل النجاد وكثير الرماد، يعني أنه طويل القامة ومضياف، والتعريض في الخطبة أن يقول: إنك لجميلة ومن غرضي أن أتزوّج، أو اكتفيتم في أنفسكم، أي سترتم في قلوبكم، فلم تذكروه بألسنتكم، لا معرّضين ولا مصرّحين.

والمستدرك بقوله: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ}

(2)

محذوف تقديره علم الله أنكم ستذكرونهن، فاذكرونهن ولكن آية {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} أي: وطئاً؛ لأنّه مما يسرّ إلا أن يقولوا قولاً معروفاً، وهو أن تعرّضوا ولا تصرّحوا والاستثناء يتعلّق بلا تواعدوهن، أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا معروفة كذا في «الكشاف»

(3)

.

(وَلَا يَجُوزُ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْمَبْتُوتَةِ) إلى آخره ولا ينبغي للمطلّقة أن تخرج من المسكن الذي كانت فيه وقت المفارقة أيّ مطلقة كانت.

إلا إذا اضطرّت نحو أن خافت سقوطه أو تقاد على نفسها أو مالها أو أخرجها أهل المنزل، بأن كانت تسكن بكراء

(4)

، وكان زوجها غائباً وأخذها أهل المنزل بالأجرة، فينبغي أن تُعطي الأجر وتسكن، إلا أن لا تقدر على الأجرة، وإن كانت في غير ذلك المنزل زائدة كان عليها أن تعود إليه من غير تأخير.

وكذا لو كان الزّوج معها، كذا ذكره الإمام التمرتاشي رحمه الله.

قِيلَ الْفَاحِشَةُ نَفْسُ الْخُرُوجِ، قاله إبراهيم النخعي

(5)

رحمه الله، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله، فكان معناه إلا أن يكون خروجها فاحشة، كما يقال: لا يسب النبي إلا أن يكون كافراً، ولا يزني إلا أن يكون فاسقاً

(6)

.

(1)

سورة البقرة، الآية (235).

(2)

سورة البقرة، الآية (235).

(3)

تفسير الزمخشري (1/ 284).

(4)

الكراء: الأجرة. ينظر: لسان العرب (4/ 10).

(5)

إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي، من أكابر التابعين صلاحا وصدق رواية وحفظا للحديث، من أهل الكوفة، قال فيه الصلاح الصفدي: فقيه العراق، كان إماما مجتهدا له مذهب، مات مختفيا من الحجاج سنة ست وقيل خمس وتسعين للهجرة، ولما بلغ الشعبيّ موته قال: والله ما ترك بعده مثله.

انظر: وفيات الأعيان (1/ 25)، سير أعلام النبلاء (4/ 520)، الأعلام للزركلي (1/ 80).

(6)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 36).

ص: 105

وقيل: الزنا يعني أن تزني فتخرج لإقامة الحدّ عليها قاله ابن مسعود رضي الله عنه، وبه أخذ أبو يوسف

(1)

.

وقال ابن عباس رضي الله عنه الفاحشة: نشوزها وأن تكون بذيّة اللسان تَبْذُو عَلَى أَحْمَاءِ

(2)

زَوْجِهَا.

وما قاله ابن مسعود أصحّ؛ لأنّ إلا أن غاية والشيء لا يجعل غاية لنفسه وما ذكره إبراهيم محتمل -أيضاً-.

وأمّا المتوفى عنها زوجها فلها أن تخرج بالنهار لحوائجها، ولكنّها لا تثبت في غير منزلها لما روي أن فريعة بنت مالك بن أبي سنان

(3)

أخت أبي سعيد الخدري

(4)

رضي الله عنه جاءت إلى رسول الله عليه السلام بعد وفاة زوجها تستأذنه أن تعتدّ في بني خُدْرَةَ فقال: «امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك»

(5)

، ولم ينكر عليها خروجها للاستفتاء كذا في «المبسوط»

(6)

.

وقال عليه السلام للتي قُتل زوجها -وهي فريعة أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في رواية «مبسوط فخر الإسلام» رحمه الله: لما قُتل زوجها جاءت إلى رسول الله عليه السلام استأذنت أن تعتد في بني خُدْرَةَ لا في بيت زوجها، فأذن لها رسول الله عليه السلام فلما خرجت من عند رسول الله عليه السلام دعاها فقال لها:«أعيدي المسألة» فأعادت فقال لها: «لا حتى يبلغ الكتاب أجله»

(7)

، أي الذي كُتب عليها وهو العدة، يعني لا تخرجي حتّى تنقضي عدتك ولا تجد ما تؤديه، أي فحينئذٍ كان لها أن تخرج كالمسافر إذا وجد الماء بثمن مثله، فإن كان عنده الثمن فليس له أن يتيمم، وإن لم يكن عنده الثمن فله أن يتيمم.

(1)

ينظر: المرجع السابق.

(2)

حمو المرأة وحموها وحمها وحماها، أبو زوجها أو أخو زوجها، وكذلك من كان من قبل الزوج من ذوي قرابته فهم أحماء المرأة، وحماة المرأة أم زوجها، وحكى النووي إجماع أهل اللغة على ذلك. ينظر: طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 41).

(3)

فريعة بنت مالك بن سنان، أخت أبي سعيد الخدري، ويقال لها: الفارعة أيضًا، شهدت بيعة الرضوان، وأمها حبيبة بنت عبد الله بن أبى بن سلول. ينظر: أسد الغابة (6/ 235).

(4)

سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج، وأخو أبي سعيد لأمه هو: قتادة بن النعمان الظفري، أحد البدريين، استشهد أبوه مالك يوم أحد، وشهد أبو سعيد الخندق، وبيعة الرضوان، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فأكثر، وأطاب، وعن: أبي بكر، وعمر، وطائفة، وكان أحد الفقهاء المجتهدين. ينظر: سير أعلام النبلاء (3/ 168).

(5)

رواه النسائي في الصغرى، كتاب الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها حتى تحل (3530)، والترمذي في سننه، أبواب الطلاق واللعان، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، (1204)، وقال: هذا حديث حسن صحيح (2/ 501)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب الطلاق رقم (2832)، وأيضاً برقم (2833)، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد من الوجهين جميعاً ولم يخرجاه"(2/ 226).

(6)

المبسوط للسرخسي (6/ 32).

(7)

التخريج السابق.

ص: 106

(ثُمَّ إنْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَا بُدَّ مِنْ سُتْرَةٍ بَيْنَهُمَا)، يعني إذا لم يكن للزّوج إلا بيت واحد وكذا هذا في الوفاة إذا كان من ورثته من ليس بمحرم لها، كذا في «المبسوط»

(1)

.

(ثُمَّ لَا بَأْسَ) أي بالمساكنة بعد اتحاد السترة والأولى أن يخرج هو ويتركها لأنّ مكثها في منزل الزّوج واجب ومكثه فيه ليس بواجب فيكون انتقال أولى وإذا انتقلت المرأة كان تعيين المواضع ينتقل إليه إلى الزوج.

وفي الوفاة تعيينه إليها لأنّها مستبدة في أمر السكنى فيكون التعيين إليها.

(وإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَجَعَتْ إلَى مِصْرِهَا) أي سواءً كان مقصدها مدّة سفر أو دونها.

أمّا إذا كان إلى مقصدها مدة سفر فظاهر؛ لأن المضي إلى مقصدها يكون سفراً والرجوع لا وأمّا إذا كان دونها فترجع -أيضاً-؛ لأنّها كما رجعت تصير مقيمة وإذا مضت تكون مسافرة ما لم تصل إلى المقصد، فإذا قدرت على الِامْتِنَاعِ من استدامة السفر في العدّة تعيّن عليها ذلك.

وإن كان بينها وبين مقصدها دون مسيرة سفر، وبينها وبين منزلها مسيرة سفر مضت إلى مقصدها ولم ترجع؛ لأنّها إن مضت لا تكون منشئة سفراً ولا سائرة في العدّة مدّة سفر، وإن رجعت كانت منشئة سفراً، فلهذا مضت إلى مقصدها، وإن كان من كل واحدة من الجانبين مسيرة سفر فإن كان في الطلاق أو موت الزوج في موضع لا يقدر على المقام فيه كالمفازة

(2)

توجّهت إلى أي الجانبين جهة شاءت سواء كانت معها محرم أو غير محرم، وينبغي لها أن تختار أقرب الجانبين وهي في هذه المسألة كالتي أسلمت في دار الحرب لها أن تهاجر بغير محرم؛ لأنّها خائفة على نفسها ودينها فهذه في المفازة كذلك.

وله أنّ العدّة أمنع من الخروج من عدم المحرم بالدّليل الذي ذكرتم وفقد المحرم ههنا يمنعها من الخروج بالاتفاق، فلأن يمنعها العدّة من الخروج فإنها ليست في موضع مخوف أولى.

بخلاف ما إذا كانت في المفازة وإن فقد المحرم هناك لا يمنعها من الخروج لأنها ليست في موضع القرار هذا كلّه من «المبسوط»

(3)

والله أعلم.

‌باب ثبوت النسب

لما ذكر أنواع من المعتدات من ذوات الحيض والأشهر والأحمال، ذكر في هذا الباب ما يلزم من اعتداد ذوات الأحمال، وهو ثبوت النّسب فولدت ولد لستة أشهر أي من غير زيادة ولا نقصان؛ لأنّه إذا زاد منها أو نقص لا يثبت النّسب من يوم تزوّجها، والمراد من اليوم الحين والوقت، أي: من حين تزوّجها فقد جاءت به لأقلّ منها، أي من ستّة أشهر من وقت الطّلاق؛ لأنّ الطلاق مشروط والمشروط يتعقب الشّرط، وإن لطف فيكون العلوق

(4)

ثابتًا قبل الطلاق وستة أشهر من وقت التزوج.

(1)

المبسوط للسرخسي (6/ 36).

(2)

المفازة: البرية القفر. لسان العرب (5/ 393).

(3)

المبسوط للسرخسي (6/ 35).

(4)

العلوق: من علق بالشيء علقا وعلقة: نشب فيه، وهو عالق به أي: نشب فيه، وعلقت المرأة بالولد، وكل أنثى تعلق: حبلت، والمصدر العلوق. ينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 425).

ص: 107

وفي «الجامع الصّغير» لقاضي خان رحمه الله: فإن قيل: إذا جاءت بالولد لستة أشهر من وقت التزوّج ينبغي أن لا يثبت النّسب؛ لأنّه كما تزوّج يقع الطّلاق، فهذا نكاح لا يتصوّر فيه الوطء والإعلاق وبدون ذلك لا يثبت النّسب

(1)

.

ألا ترى أن امرأة الصبي لو جاءت بولد لا يثبت النّسب.

قلنا: القياس كذلك وهو قول زفر وقول محمّد الأول

(2)

.

وفي الاستحسان -وهو قول محمد الآخر- يثبت النّسب؛ لأن النسب يحتاط فيه ويمكن إثباته من هذا الزّوج، بأن يجعل كأنّه تزوّجها وهو على بطنها يخالطها، والنّاس يسمعون كلامهما فيكون العلوق حاصلاً بعد تمام النكاح مقارنًا للطّلاق؛ لأنّ الطّلاق لا يقع إلا بعد تمام الشّرط وزوال الفراش حكم الطّلاق فيكون العلوق حاصلاً قبل زوال الفراش ضرورة، فثبت النّسب، وهذا وإن كان نادراً إلا أن النّسب يحتاط فيه فيجب بناؤه على هذا القادر

(3)

.

وحاصله أنّها إذا جاءت به لأقلّ من ستةّ أشهر من حين تزوّجها لا يثبت النّسب؛ لأنّ علوق هذا الولد كان سابقاً على النكاح قبل ثبوت الفراش، فلا يكون فيه وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لا يثبت النّسب -أيضاً-؛ لأنّه حين طلقها حكمنا أنّه لا عدة عليها، لأنّها مطلّقة قبل الدخول والخلوة، ولم ينتقض ببطلان هذا الحكم لاحتمال أنّها علقت من زوج آخر بعد الطّلاق، بخلاف ما إذا جاءت به لستة أشهر من وقت التزوّج فقد جاءت بالولد لأقلّ من ستة أشهر من وقت الطّلاق فيتقيا بقيام الولد في البطن وقت الطّلاق، فبعد ذلك أمّا أن يكون منه أو من غيره، فجعلنا العلوق منه احتياطاً لأمر النّسب؛ إذ لو جعلنا هذا من علوق قبل النكاح من زوج آخر وذلك الزّوج ليس بمعلوم، كان فيه إضاعة الولد، وإبطال النكاح الجائز، والطّلاق الواقع من حيث الظّاهر، وإحالة الولد إلى أبعد الأوقات، وذلك لا يجوز فجعلناه منه.

وذكر فخر الإسلام رحمه الله أنّ هذه المسألة من الخواص، أي من خواص مسائل الجامع [الصغير]

(4)

.

ثم قال المراد من قوله: يَوْمِ تَزَوَّجَهَا، حين تزوّجها وعليه المهر.

وفي القياس وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله ونصف مهر.

أمّا النصف للطلاق قبل الدّخول، وأمّا المهر فبالدخول، وذكره الإمام التمرتاشي رحمه الله، وعن نصير رحمه الله تزوج امرأة وفي حال وطأها فعليه مهران، مهر بالزنى؛ لأنّه يسقط الحلّ حين تزوجها قبل تمامه، ومهر بالنكاح؛ لأن هذا أكثر من الخلوة

(5)

.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (17/ 156).

(2)

ينظر: المرجع السابق.

(3)

ينظر: المرجع السابق.

(4)

سقطت من (أ).

(5)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (2/ 142).

ص: 108

وفي «المنتقى» لا يكون به محصنًا، وفي شرح أبي اليسر رحمه الله-إن تزوّجت فلانة فهي طالق ثلاثاً، فتزوّجها ودخل بها، ينبغي أن لا يجب عليها الحدّ، ويجب المهر، وقالوا: يجب عليهما، قال: قد كنت أفتيت بالوجوب على الحالف، وهو الظّاهر من مذهب أصحابنا من مال إليه لم يكن مخطأً

(1)

.

وفي جمع النسفي: ولو جاءت بولد فإنّه يرثه، وهو منصوص عن أصحابنا، وإن حرمت عليه بالثلاث فلم يبق نكاح ولا عدّة، ولكن لما كان فصلاً مجتهدًا فيه لم ينقطع النّسب.

ويحتمل بعده فلا يصير مراجعًا بالشك.

فإن قيل: ينبغي أن يصير مراجعًا؛ لأنّ الوطء ههنا حلال فأحيل العلوق إلى أقرب الأوقات وهي حالة العدّة، فيثبت به المراجعة.

قلنا: في ذلك يحل أمره على خلاف السنة؛ لأنّه يصير مراجعًا لها بدون الإشهاد بالفعل، فأحيل العلوق إلى ما قبل الطلاق صيانة لحاله، كذا في «مبسوط شيخ الإسلام»

(2)

(3)

.

فإن قيل: أين ذهب قولكم أن العلوق حادث والأصل في الحوادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات فقد وقعتم ههنا في الذي أبيتم؟ قلنا: الجواب ما أسلفناه أنّ الحوادث إنّما تحال على أقرب الأوقات إذا لم يتضمن إبطال حكم ثابت أو ترك العمل بالمقتضي، وهنا يتضمن ترك العمل بالمقتضي؛ لأنّ الطّلاق الرجعي يقتضي البينونة عند انقضاء العدة، وهذا المقتضي يترك على تقدير الرجعة، وهذا كلّه إذا لم يقر بانقضاء العدّة.

أمّا إذا أقرّت بانقضاء العدّة بعد الطّلاق البائن أو الرجعي في هذه يصلح لثلاثة أقراء، والمدّة التي تصلح لذلك عند أبي حنيفة رحمه الله ستون يومًا

(4)

وعندهما تسعة وثلاثون يومًا

(5)

.

فإن ولدت لأقلّ من ستة أشهر من وقت الإقرار يثبت النّسب، لتيقننا ببطلان الإقرار، وكذلك المتوفّى عنها زوجها إذا أقرّت بانقضاء العدّة بعد انقضاء أربعة أشهر وعشر فهو على هذا التّفصيل، وإن لم تُقِرّ يثبت نسبها إلى سنتين؛ لأنّ عدّة الوفاة محتملة بانقضاء أربعة أشهر وبوضع الحمل، وقد ذكرنا أنّ آية الحمل قاضية على آية الأشهر، كذا في «الفوائد الظهيرية»

(6)

.

(1)

ينظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (3/ 162)، مجمع الضمانات (ص: 348).

(2)

هو كتاب المَبْسُوط لمُحَمَّد بن الحسن الشَّيْبَانِيّ رحمه الله، ويطلق عليه الأصل عند الأحناف، وهو مطبع في خمس مجلدات، بتحقيق أبو الوفا الأفغاني، طبعته إدارة القرآن والعلوم الإسلامية في كراتشي.

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 632)، العناية شرح الهداية (4/ 351).

(4)

ينظر: النتف في الفتاوى للسغدي (1/ 334).

(5)

ينظر: المبسوط للسرخسي (3/ 200).

(6)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (3/ 213)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 40).

ص: 109

والظّاهر أنّه منه لانتفاء الزنا منها، فيصير بالوطء مراجعاً.

فإن قلت: ههنا وجه آخر من غير أن يلزم الزنا منها، وهو أن يحمل أمرها على أنّها تزوّجت بعد انقضاء عدّتها زوجًا آخر.

فلو قلت: إن الكلام فيما إذا لم يتزوّج المرأة.

قلت: كما أن الكلام هناك كذلك الكلام في أنّه لم يطأها في العدّة، إذ لو وطئها تثبت الرجعة من غير تقدير هذا التكلّف، فلما كان كذلك كان حمل أمرها على التزوّج بزوج آخر أولى؛ لما فيه من رعاية الأصل الذي قد مرّ آنفاً وهو أن لا تثبت الرجعة بالشّك.

قلت: نعم كذلك إلا أنّ الحكم بإبقاء النكاح الأوّل عند الاحتمال أسهل من الحكم بإنشاء نكاح آخر فيجب القول به إلى هذا أشار فخر الإسلام في مبسوطه.

وإن جاءت به لتمام سنتين من وقت الفرقة لم يثبت، فبهذا يعلم أنّ تمام السنتين ملحق بأكثر السنتين في حق عدم ثبوت النّسب.

ولكن هذه الرواية على هذا التقدير كانت مخالفة لرواية «الإيضاح» و «شرح الطّحاوي» و «شرح الأقطع» ، وللرواية التي تجيء بعد هذا في الكتاب -أيضاً- وهي قوله:(وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ)، فإن فيها ألحقت السنتان بأقلّ السنتين حتّى أثبتوا النّسب إذا جاءت به لتمام السنتين، ولفظ الحديث يؤيد صحّة جواب تلك الروايات على ما يجيء بعد هذا، حيث اشترط فيه لعدم ثبوت النّسب أكثر السنتين.

قوله رحمه الله: (إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ)، أي: عند دعواه يثبت النسب منه وإن كانت جاءت به لأكثر من سنتين ثم هل يحتاج فيه إلى تصديق المرأة أم لا ففيه روايتان.

في رواية لا يحتاج إلى تصديقها، وفي رواية تحتاج كذا في «شرح الطّحاوي»

(1)

.

وإن كانت المبتوتة صغيرة يجامع مثلها، فجاءت بولد لتسعة أشهر، أي: من وقت الطّلاق وهي لم تقر بانقضاء العدّة حتّى ولدت لتسعة أشهر لا يثبت نسبه من الزوج، عند أبي حنيفة ومحمّد -رحمهما الله- وقال أبو يوسف رحمه الله يثبت النّسب إلى سنتين

(2)

.

وأما إذا أقرت بانقضاء العدّة بثلاثة أشهر ثم جاءت بالولد لأقلّ من ستة أشهر من وقت الإقرار يثبت النسب؛ لأنّها أقرت بانقضاء العدة وفي بطنها ولد ثابت النسب، فبطل إقرارها فصار كأنها لم تقر بانقضاء العدّة فيثبت النّسب.

ولهما أن لانقضاء عدّتها جهة متعيّنة وهي الأشهر فبمضيها يحكم الشّرع بالانقضاء.

(1)

ينظر: الجوهرة النيرة على مختصر القدوري (2/ 81).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 126)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 41).

ص: 110

فإن قلت: يشكل على هذا الكبيرة المتوفى عنها زوجها، فإن لانقضاء عدّتها جهة متعينة وهي مضي أربعة أشهر وعشر، ما لم يكن الحُبل فيها ظاهراً، ثم هناك يثبت النّسب إلى سنتين عند علمائنا الثلاثة اتفاقاً، ولا يحكم بالانقضاء بالأشهر هناك لاحتمال الانقضاء بالوضع.

فكذلك ههنا يجب أن يثبت النسب إلى سنتين ولا يعتبر تعيّن الجهة بالأشهر؛ لأنّها إذا كانت مراهقة

(1)

قبله والكلام فيها يحتمل الإعلاق والإحبال كل ساعة أو لا يعتبر تعيّن الجهة بالأشهر في المتوفّى عنها زوجها، كما في الصغيرة وهو قول زفر فما الفرق بينهما؟.

قلت: لا يشكل، بل الفرق بينهما ثابت وهو ما ذكره في الكتاب بعيد هذا، وهو قوله: إلَّا أَنَّا نَقُولُ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا جِهَةٌ أُخْرَى وَهُوَ وَضْعُ الْحَمْلِ، إلى آخره.

فالحاصل أنّ في كل منهما أمضينا الحكم على الأصل ولكن الأصل في الموضعين قد اختلف، فلذلك اختلف الحكم الذي بنى عليه -أيضاً-، وذلك أن الأصل في الكثيرة الأصل، فلذلك لم يعتبر في حقهما تعيّن جهة العدة بالأشهر، والأصل في الصغيرة عدم الإحبال، فلذلك اعتبرنا في حقّهما تعيّن جهة العدّة بالأشهر وذكر في «المبسوط»

(2)

في حق الكبيرة.

ولا يقال: الأصل عدم الحُبل.

لأنّا نقول ذلك في حقّ غير المنكوحة، فأمّا النكاح فلا يُعقد إلا للإحبال، وإن جاءت به لستة أشهر أي من وقت الإقرار.

(وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَلَدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) ذكر هذه المسألة في «المبسوط»

(3)

بقيدين، وهما أن يكون الطّلاق بائنًا، وأن ينكر الزّوج، فقال: ولو أن رجلاً طلّق امرأته ثلاثاً وتطليقة بائنة، ثم جاءت بولد بعد الطّلاق لسنتين أو أقلّ، وشهدت امرأة على الولادة والزّوج ينكر الولادة والحبل، لم يلزمه النّسب في قول أبي حنيفة رحمه الله ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان.

ولكن جعل الإمام قاضي خان رحمه الله في «الجامع الصّغير» حكم الطّلاق الرجعي كحكم البائن في هذه المسألة

(4)

، فقال: هذه ثلاث مسائل:

أحدها: أن امرأة أتت بولد بعد وفاة الزّوج ما بينها وبين سنتين فجحدت الورثة الولادة، لا يثبت النّسب والولادة إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يثبت بشهادة القابلة

(5)

.

(1)

راهق الغلام، فهو مراهق إذا قارب الاحتلام. والمراهق: الغلام الذي قد قارب الحلم، وجارية مراهقة. ينظر: لسان العرب (10/ 130).

(2)

المبسوط للسرخسي (6/ 51).

(3)

المبسوط للسرخسي (6/ 49).

(4)

ينظر: تحفة الفقهاء (2/ 180).

(5)

القابلة هي: المرأة التي تتلقى الولد عند الولادة. ينظر: المغرب في ترتيب المعرب (ص: 495).

ص: 111

والثانية: المطلّقة طلاقاً رجعيًّا إذا لم تقرّ بانقضاء العدّة حتّى جاءت بولد لأقلّ من سنتين أو لأكثر وأنكر الزّوج الولادة.

والثالثة: المبتوتة إذا جاءت بالولد لأقلّ من سنتين وأنكر الزّوج الولادة، لا يُقضى بشهادة القابلة عند أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسائل إلا إذا كان الزّوج أقرّ بالحبل أو كان الحبل ظاهراً، وعندهما يقضي بشهادة القابلة إذا كانت حرّةً عدلة

(1)

.

وأمّا المنكوحة إذا جاءت بولد لستة أشهر من وقت النكاح أو لأكثر، فقال الزّوج: لم تلد به لا يلزمه حدّ ولا لعان؛ لأنّه أنكر الولادة وإنكار الولادة لا يكون قذفاً، فإن شهدت القابلة على الولادة يثبت النّسب من الزّوج عندنا.

وقال الشّافعي رحمه الله: لا تثبت الولادة إلا بشهادة أربع نسوة عدول

(2)

.

وقال مالك وابن أبي ليلى يقبل بشهادة امرأتين

(3)

، وقال زفر لا يثبت بشهادة النساء أصلاً

(4)

.

وكذلك كلّ ما لا يطّلع عليه الرجال فهو على هذا الخلاف، ثم إذا قُبلت بشهادة القابلة عندنا على ولادة المنكوحة، فإن نفاه الزّوج لاعن القاضي بينهما؛ لأنّه نفى ولد المنكوحة.

أجمع أصحابنا على أنّه يُقضى بالنّسب بشهادة القابلة حال قيام النكاح

(5)

، واختلفوا بعد الموت والطّلاق، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يثبت، وقال أبو يوسف ومحمّد -رحمهما الله- يثبت

(6)

؛ لأنّ الفراش قائم بقيام العدّة وتفسير الفراش صيرورتها متعيّنة لماء الزّوج، حتّى أنّ كل ولد يحدث منها يثبت النّسب، وإنّما لا يثبت نسب ولد المعتدة إذا جاءت به لأكثر من سنتين؛ لأنّ الفراش وإن كان قائمًا في العدّة فإن الماء انعدم حكماً لأنّه لا يمكن تقدير الوطء لما فيه من النسبة إلى ارتكاب الحرام، ومع عدم الماء لا يثبت النّسب، ألا ترى أن امرأة الصبي إذا جاءت بولد لا يثبت النّسب منه؛ لعدم الماء وذكر في كتاب الدّعوى: أنّه إذا جاءت به لأكثر من سنتين فادّعاه يثبت النّسب؛ لأنا إنما لا نجعله واطئاً صيانة له عن الحرام، فإذا أقرّ على نفسه بالحرام والفراش المنبت للنّسب قائم فيثبت، كذا وجدت بخط الشيخ رحمه الله محالاً إلى القاضي الغني رحمه الله.

(1)

ينظر: الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير (ص: 234).

(2)

ينظر: النجم الوهاج في شرح المنهاج (6/ 81).

(3)

ينظر: الكافي في فقه أهل المدينة (2/ 907).

(4)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 636).

(5)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 637).

(6)

ينظر: المرجع السابق.

ص: 112

فَيَتَعَيَّنُ بِشَهَادَتِهَا، أي فيثبت بشهادة القابلة تعيّن الولد، فإن قول القابلة كاف في تعيين الولد حال قيام الفراش عندنا، وإن لم يكن كافياً في إلزام النّسب، والنّسب ثابت للفراش كما في حال قيام النكاح، أو إقرار الزّوج بالحبل أو الحبل ظاهر.

ولأبي حنيفة رحمه الله أنّها لما أقرت بالولادة، فقد أقرّت بزوال سبب النّسب، وهو الفراش ثم لو ثبت النّسب بعد ذلك إنّما يثبت بالقضاء، والقضاء لا يكون إلا بحجة كاملة

(1)

.

ولا يلزم على ما قلنا حال قيام النكاح وأمثاله؛ لأنّ هناك يثبت النّسب قبل الولادة بسبب قائم وهو الفراش، إنّما الحاجة إلى تعيين الولد؛ لأنّ الزّوج ينكر ولادة هذا الولد وشهادة القابلة حجة في تعيين الولد، بخلاف ما نحن فيه فإنّ الحاجة فيه إلى إثبات نسب ولد الأجنبية من أجنبي وشهادة المرأة الواحدة لا يكون حجة في ذلك، وهذه الشهادة في المعنى شهادة على النّسب؛ لأنّها تشهد ببقاء الفراش إلى ولادتها بهذا الولد، وشهادة المرأة الواحدة لا تكون حجة في السّبب المثبت للنّسب وهو الفراش.

فالحاصل أنّ شهادة القابلة على الولادة حجّة تامة إذا كان هناك حبل ظاهر، أو فراش قائم، أو إقرار من الزّوج بالحبل؛ لما رُوي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة على الولادة

(2)

؛ ولأنّ النظر إلى العورة

(3)

لا يحلّ ولكن نظر المرأة إلى المرأة أخفّ من نظر الرجل إليها، ولهذا سقط اعتبار الذكورة في هذه الشّهادة، فكذلك نظر الواحد أخفّ من نظر المثنّى فسقط لهذا اعتبار العدد، ثم الأصل أنّ شهادة النساء إنما تكون حجة إذا تأيّدت بمؤيّد، كما في المعاملات إذا تأيّدت شهادتهنّ بشهادة رجل يكون حجّة، والمؤيّد فيما لا يطّلع عليه الرجال الفراش والقائم، أو الحبل الظاهر، أو إقرار الزّوج بالحبل، فإذا تجرّدت شهادتها عن ذلك لم يكن حجة.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 637).

(2)

أخرجه عبدالرزاق في مصنفه، كتاب الشهادات، باب شهادة المرأة في الرضاع والنفاس، برقم (15430، 15431)، والدارقطني في سننه، كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك، باب في المرأة تقتل إذا ارتدت، برقم (4556، 4557، 4558)، وقال:"محمد بن عبد الملك لم يسمعه من الأعمش بينهما رجل مجهول"(5/ 416 - 417)، والبيهقي في السنن الصغرى، كتاب الشهادات، باب عدد الشهود، برقم (3294) وقال:"لم يصح إسناده"(4/ 146)، وكذا في السنن الكبرى، باب ما جاء في عددهن برقم (20542)، وقال:"محمد بن عبدالملك لم يسمعه من الأعمش، بينهما رجل مجهول"(10/ 254).

(3)

ما يحرم كشفه من الجسم سواء من الرجل أو المرأة. ينظر: حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/ 288).

ص: 113

ولا يقال: كيف يقبل شهادة الرجال ههنا ولا يحلّ لهم النظر إلى العورة؟.

لأنّا نقول: إنهم لا يقولون تعمّدنا النظر فإنما وقع ذلك اتفاقاً.

أو دخلت المرأة بين يدي الشهود بيتًا بعدما علموا أنّه ليس فيه غيرها، ثم خرجت مع الولد فيعلمون أنها ولدته، ثم عند الحاجة إلى تحمّل الشهادة يباح النظر للرجال كما في الشهادة على الزنا، والحاجة تتحقّق إذا لم يكن هناك مؤيّد، كذا في «الجامع الصّغير» لشمس الأئمة وقاضي خان

(1)

.

(فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ فِي الْوِلَادَةِ)، إلى آخره، أي أتت بولد قبل تمام سنتين، ومعنى التصديق هو أن يقرّ جميع الورثة فشاركهم بإقرارهم أو أقرّ به جماعة تقطع الحكم بشهادتهم، بأن صدّقها رجلان منهم أو رجل وامرأتان منهم، فوجب الحكم بإثبات نسبه حتّى يشارك المصدّقين والمنكرين، كذا ذكره فخر الإسلام والتمرتاشي -رحمهما الله-

(2)

.

وقال الإمام الإسبيجاني: هذا جواب الاستحسان والقياس أن لا يثبت النّسب؛ لأنّهم أقروا على الميّت، وذكر شمس الأئمة في تعليل المسألة أنّ الورثة قائمون مقام الزّوج، ولو قال الزّوج: أنّها ولدته كان يثبت النّسب منه

(3)

.

وكذلك إذا صدّقها الورثة بعد موته؛ وهذا لأنّ ثبوت النّسب منه باعتبار الفراش، وذلك باق ببقاء العدّة بعد موته والحاجة إلى الشهادة ليظهر له ولادتها، ويتعيّن الولد الذي جاءت به وبتصديق الورثة حصل هذا المقصود فيثبت النّسب منه.

وهذا هو الجواب عن الإشكال الذي يقال فيه أنّه في التصديق يقرّ على نفسه والورثة يقرّون على الميّت بالنّسب، فلا يقبل؛ لأنّا نقول: أن ثبوت النّسب ليس باعتبار تصديقه ولا تصديق الورثة، بل باعتبار الفراش إذا كانوا من أهل الشّهادة بأن كانوا ذكوراً أو ذكوراً وإناثاً وهم عدول، وما ثبت بناء لا يراعى فيه الشّرائط، كالعبد مع المولى والجندي مع السّلطان في حق الإقامة، ووقف المنقول بناءً على وقف العقار، واللعان إنما يجب بالقذف، لا بناء على شهادة القابلة، وهذا جواب إشكال، وهو أن يقال: أن ثبوت اللعان بناءً على شهادة القابلة واللّعان قائم مقام الحدّ، فينبغي أن لا يجب بشهادة امرأة واحدة، فأجاب عنه بقوله: وليس من ضرورة اللّعان نفي الولد، فإنّ اللعان يثبت بدون نفي الولد، بأن يقذفها بالزنا لكن وجب اللّعان ههنا ضمنًا، لنفي الولد الذي ثبت نسبه بقيام الفراش، وشهادة المرأة إنّما كانت لتعيين الولد، لا أن يكون اللّعان مضافاً إلى شهادة امرأة واحدة، ونظير هذا ما إذا ثبت الرمضانية بشهادة الفرد، ثم أفطر إنسان بعد ذلك متعمدًا وجبت الكفارة عليه، والكفارة في الإفطار تجري مجرى الحدّ حيث تندرئ بالشبهات، فلا يجوز إيجابها بشهادة الفرد، لكن وجوب الكفّارة باعتبار ثبوت الرّمضانية، والرّمضانية ممّا تثبت بشهادة الفرد، لا باعتبار شهادة الفرد قصدًا، فكذلك ههنا وجوب اللّعان واستحقاق الميراث باعتبار ثبوت النّسب، لا باعتبار شهادة القابلة قصدًا؛ لأنّ الظاهر شاهد لها وهو عدم الزنا.

(1)

ينظر: الجامع الصغير وشرحه النافع الكبير (ص: 235).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 637).

(3)

ينظر: المرجع السابق.

ص: 114

فإن قيل: كما أنّ الظاهر شاهد لها، فكذلك الظّاهر شاهد له -أيضاً-؛ لأنّ النكاح حادث والأصل في الحوادث أن يحال إلى أقرب الأوقات، أو لأنّ الأصل هو العدم فينبغي أن يكون الزائد على أربعة أشهر معدومًا جريًا على الأصل.

قلنا: النّسب ممّا يحتاط في إثباته، فمتى تعارض الظّاهر أن فيه وجب إثباته.

ألا ترى أنّ النّسب يثبت بالإيماء مع قدرته على النطق، وسائر التصرفات لا يثبت به عند ذلك، وظاهر حالها -أيضاً- يتأيّد بظاهر حاله، من حيث أنّه لا يباشر النكاح بصفة الفساد، فإنّ نكاح الحبلى فاسد وهل تحرم على الزّوج بهذا الكلام، ينبغي أن لا تحرم.

فإن قيل: وجب أن تحرّم؛ لأنّ هذا إقرار منه بتزوّجه إياها وهي حُبلى، وصار هذا كما ادّعى أنّه تزوّجها بغير شهود.

وقلنا الفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أنّ النكاح بغير شهود فاسد لا محالة، ونكاح الحبلى ليس بفاسد لا محالة، لجواز أنّها حبلى من الزنا.

والثاني: أنّه وإن أقرّ بالحرمة إلا أن الشّرع كذبه في ذلك، حيث أثبت النّسب منه والإقرار إذا قابله تكذيب من جهة القاضي يبطل، كذا في «الفوائد الظهيرية»

(1)

.

وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، أي: على الاختلاف المذكور في الأشياء الستّة فيما يُبتنى عليها وهو الطّلاق؛ لأنّ الطّلاق حكم متعلّق بالولادة، وشهادة القابلة حجة في إثبات الولادة، فكذلك فيما يتعلّق بها ضمنًا لها؛ لأنّ شهادتين ضرورته في الولادة لعدم حضور الرجال فلا يظهر في حق الطّلاق؛ لأنّه ينفكّ عنها لما أن الطلاق يوجد بدون الولادة، وكذلك الولادة بدون الطّلاق.

فإن قلت: يشكل على هذا جريان اللّعان بنفي الزّوج نسب ولدها منه عند ثبوت الولادة بشهادة القابلة، ولا يتخلّص عنه بأنّ اللّعان هناك بالقذف بالنفي لا بشهادة القابلة، وإني أقول -أيضاً-: الطّلاق ههنا بالولادة لا بشهادة القابلة.

قلت: الفرق بينهما ثابت، وهو أنّ اللعان هناك إنّما يثبت بقذفه بالنفي قصدًا بعد ثبوت النّسب بالفراش القائم عند شهادة القابلة.

وأمّا ههنا لو قلنا بالطّلاق عند شهادة القابلة كانت شهادة القابلة مثبتة لحكمين معًا من غير تراخ لأحدهما عن الآخر، وهما: الولادة ووقع الطّلاق، فإنّه علّق طلاقها بالولادة وشهادة القابلة، وإن كانت مقبولة في أحدهما -لما ذكرنا- لا يلزم أن تكون مقبولة في الآخر لانعدام ما يوجب القبول فيه، فصارت شهادة القابلة ههنا نظيره قول المرأة: حضت فيما إذا علّق الزّوج طلاقها وطلاق ضرّتها

(2)

بحيضها، وهما حكمان مقترنان فقُبل قولها في أحدهما وهو طلاق نفسها، دون الآخر وهو طلاق ضرّتها، فكذلك ههنا، ويكون -أيضاً- نظيره ما ذكره الإمام قاضي خان رضي الله عنه فقال: وإن جعلت شهادتها حجة في الولادة وضرورة أنّه لا يطّلع عليها الرجال لم تقبل حجة فيما تقبل الفصل في الجملة عن الولادة وإن صار من لوازمها

(3)

.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 360).

(2)

الضرتان: امرأتا الرجل، كل واحدة منهما ضرة لصاحبتها. ينظر: لسان العرب (4/ 486).

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 48).

ص: 115

كمن اشترى لحمًا فجاءه مسلم عدلً وشهد أنّه ذبيحة المجوسي

(1)

قبلت شهادته في حق حرمة الأكل، ولا يثبت تمجس الذّابح في حق الرجوع على البائع بشهادة الواحد.

وإن كان الزّوج قد أقرّ بالحُبل طلقت، يعني إذا أقرّ الزوج بالحبل ثم علّق طلاقها بالولادة، فقالت المرأة: ولدت، وكذّبها الزّوج فإنّ الطّلاق يقع عند أبي حنيفة رحمه الله من غير شهادة القابلة، وعندهما يشترط شهادة القابلة

(2)

.

وكذلك على هذا الخلاف لو كان الحبل ظاهراً ثم علّق الطّلاق.

وقالا: إنّه متعلّق بالولادة فلا يثبت عند المنازعة بغير حجة كما في المسألة الأولى.

ولأبي حنيفة رحمه الله أن هذا طلاق متعلّق بأمر كائن، فيثبت بخبر المرأة من غير حجة، كالحيض بل أولى؛ لأنّ الولد الكائن في الرّحم لا يخلو عن الخروج لا محالة حيًّا أو ميّتًا

(3)

.

وأمّا الحيض فبناء على العادة، أو لأنّه لما أقرّ بالحبل فقد أقر بالولادة؛ لأن الولد لا يبقى في البطن أبدًا، كذا ذكره الإمام الكشاني رحمه الله وغيره

(4)

.

لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِظِلِّ مِغْزَلٍ، أي بقدر ظلّ مغزل حالة الدّوران؛ لأنّ ظلّ المغزل حالة الدّوران أسرع زوالاً من سائر الظّلال، والغرض تقليل المدّة، كذا وجدت بخط شيخي رحمه الله.

ورواية «المبسوط»

(5)

و «الإيضاح» وبعض [نسخ]

(6)

الكتاب ولو بفلكة مغزل، وذكر في «المغرب»

(7)

هذا على حذف المضاف، وقد جاء صريحًا في شرح الإرشاد ولو بدور فلكة مغزل، وهو مثل في الدّوران والغرض تقليل المدة؛ لقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}

(8)

ثم قال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}

(9)

، وهذا التقرير الذي ذكر ههنا في تأويل الآية مخالف لما ذكره في الرضاع من هذا الكتاب؛ لأنّه جعل هناك ثلاثون شهراً مدّة لكل واحد من الحمل والفصال، ثم أظهر المنقص في حق الحمل وههنا جعلها مدّتهما جميعًا، ثم أصاب منها للفصال عامان بقوله:{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}

(10)

، ومن ضرورته يبقى للحمل ستة أشهر وهذا هو التأويل الذي خرّجه ابن عبّاس رضي الله عنهما ذكره في «المبسوط»

(11)

فقال: "رُوي أن رجلاً تزوّج امرأة فولدت ولدًا لستّة أشهر فهمّ عثمان

(12)

رضي الله عنه برجمها، فقال ابن عباس رضي الله عنه أما أنّها لو خاصمتكم بكتاب الله تعالى لخصمتكم قال الله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}

(13)

وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}

(14)

فإذا ذهب للفصال عامان لم يبق للحمل إلا ستة أشهر فدرأ عثمان رضي الله عنه عنها الحدّ وأثبت النّسب من الزّوج"

(15)

.

(1)

الْمَجُوس: قوم كَانُوا يعْبدُونَ الشَّمْس وَالْقَمَر وَالنَّار وَأطلق عَلَيْهِم هَذَا اللقب مُنْذُ الْقرن الثَّالِث للميلاد. ينظر: المعجم الوسيط (2/ 855).

(2)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 45).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (4/ 218).

(4)

ينظر: المبسوط للسرخسي (17/ 160).

(5)

المبسوط للسرخسي (6/ 45).

(6)

سقطت من (أ).

(7)

المغرب في ترتيب المعرب (ص: 128).

(8)

سورة الأحقاف الآية (15).

(9)

سورة لقمان الآية (14).

(10)

سورة لقمان الآية (14).

(11)

المبسوط للسرخسي (6/ 45).

(12)

عثمان بْن عفان بْن أَبِي العاص بْن أمية بْن عَبْد شمس بْن عَبْد مناف الْقُرَشِيّ الأموي. يجتمع هُوَ ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في «عَبْد مناف» ، ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشّرين، ولد بمكة، وأسلم بعد البعثة بقليل، صارت إليه الخلافة بعد وفاة عمر بن الخطاب سنة 23 هـ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم 146 حديثا، لقّب بذي النورين لأنه تزوج بنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية ثم أم كلثوم، قتل في داره رضي الله عنه وهو يقرأ القرآن سنة 35 هـ. ينظر: أسد الغابة (3/ 480)، الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 377).

(13)

سورة الأحقاف الآية (15).

(14)

سورة لقمان الآية (14).

(15)

الأثر أخرجه عبدالرزاق في مصنفه، كتاب الطلاق، باب التي تضع لستة أشهر (13447)، وسعيد بن منصور في سننه، كتاب الطلاق، باب المرأة تلد لستة أشهر (2075).

ص: 116

وهكذا روي عن علي رضي الله عنه

(1)

؛ ولأنّه ثبت بالنص أنّ الولد ينفخ فيه الرّوح بعد انقضاء أربعة أشهر، كما ذكره في حديث ابن مسعود، وبعدما ينفخ فيه الرّوح يتم خلقته بشهرين، فيتحقّق انفصاله بستّة أشهر مستوي الخلق.

والشافعيّ رحمه الله يقدّر الأكثر بأربع سنين؛ لما روي أنّ رجلاً غاب عن امرأته سنتين ثم قدّم وهي حامل، فهمّ عمر رضي الله عنه برجمها، فقال معاذ

(2)

رضي الله عنه: إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، فتركها حتّى ولدت ولدًا قد نبتت ثنيتاه يشبه أباه، فلمّا رآه الرجل قال: ابني ورب الكعبة، فقال عمر: أتعجز النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر، فقد وضعت هذا الولد لأكثر من سنتين، ثم أثبت نسبه من الزّوج

(3)

.

وقيل: أنّ الضحّاك ولدته أمه لأربع سنين وولدته بعدما نبتت ثنيتاه وهو يضحك فسمّي ضحّاكًا

(4)

، وعبد العزيز الماجشوني

(5)

ولدته أمه لأربع سنين، وحجّتنا في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها

(6)

المذكور في الكتاب، ومثل هذا لا يُعرف بالرأي، وإنّما قالته سماعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأنّ الأحكام شيء على العادة الظّاهرة وبقاء الولد في بطن أمّه أكثر من السنتين في غاية الندرة، فلا يجوز بناء الحكم عليه، مع أنّه لا أصل لما يُحكى في هذا الباب، فإنّ الضحّاك وعبد العزيز ما كانا يعرفان ذلك من أنفسهما، وكذلك غيرهما كان لا يعرف ذلك؛ لأن ما في الرحم لا يعلمه إلا الله، ولا حجّة في حديث عمر؛ لأنّه إنما أثبت النّسب بالفراش القائم بينهما في الحال أو بإقرار الزّوج وبه نقول.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (6/ 44).

(2)

مُعَاذُ بْنُ جَبَلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَوْسِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَدِيِّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد العقبة وبدرا وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم. ينظر: معجم الصحابة لابن قانع (3/ 24)، تاريخ دمشق لابن عساكر (58/ 383).

(3)

أخرجه عبدالرزاق في مصنفه، كتاب الطلاق، باب التي تضع لسنتين (13454).

(4)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 45).

(5)

عبد العزيز بن عبد الله بن أبى سلمة الماجشون من فقهاء أهل المدينة ممن كان يحفظ مذاهب الفقهاء بالحرمين ويذب عن أقاويلهم ويفرع على أصولهم مات بالعراق سنة ست وستين ومائة ينظر: مشاهير علماء الأمصار (ص: 224) تاريخ بغداد وذيوله (10/ 435).

(6)

عائشة بنت أبي بكر الصديق، الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين، زوج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأشهر نسائه، لم ينكح بكرا غيرها، وفي الصّحيح عن أبي موسى الأشعريّ- مرفوعا:«فضل عائشة على النّساء كفضل الثّريد على سائر الطّعام» ، أفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالدين والأدب، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، روى عنها عمر بن الخطاب وكثير من الصحابة، ومن التابعين ما لا يحصى، روي عنها 2210 حديثاً، توفيت بالمدينة سنة 57 هـ. ينظر: أسد الغابة (6/ 188)، الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 233).

ص: 117

(وَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا) إلى آخره، يريد به إذا طلّقها بعد الدخول بها، فإنّه لو كان الطّلاق قبل الدخول بها لا يلزمه الولد، إلا أن يجيء به لأقلّ من ستة أشهر منذ فارقها؛ لأنّه في الوجه الأوّل وهو ما إذا جاءت به لأقلّ من ستة أشهر منذ يوم اشتراها فيكون ولد المعتدة فيثبت نسبه من غير دعوة، وفي الوجه الثّاني وهو ما إذا جاءت به لستة أشهر أو أكثر من وقت الشراء لا يلزمه الولد إلا بالدّعوة، لما قلنا أن العلوق حادث والأصل في الحوادث أن تضاف بحدوثها إلى أقرب الأوقات، وفي أقرب أوقاته كانت مملوكته فلا يلزمه بدون الدّعوة، وصار هذا كمسلم تحته كتابية فأسلمت، ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر ولأقلّ من سنتين من وقت الإسلام فنفاه، لاعن القاضي بينهما، ويقطع نسب الولد منه، وإن احتمل علوقه قبل الإسلام، ولكن قبل العلوق حادث والأصل في الحوادث ما قلنا، وكذلك حرّ تحته أمة أعتقها مولاها فجاءت بولدٍ لأكثر من ستّة أشهر ولأقلّ من سنتين من وقت الإعتاق، فنفاه الزّوج لاعن القاضي بينهما، وإن احتمل العلوق قبل الإعتاق.

فإن قيل ما ذكرتم ينتقض بمسائل:

أحدها: ما ذكر في الزيادات رجل قال لامرأتيه -وقد دخل بهما-: أحديكما طالق ثلاثًا، ولم يبيّن حتّى ولدت أحديهما لأكثر من ستّة أشهر من وقت الإيجاب ولأقلّ من سنتين منه، فالإيجاب على إبهامه ولا يتعيّن ضربها للطّلاق.

ومنها: إذا قال لامرأته: إذا حبلت فأنت طالق، فولدت لأقلّ من سنتين من وقت التعليق لا يقع الطّلاق، فكذلك لو كان هذا في تعليق العتاق بالحبل.

ومنها: المطلّقة طلاقاً رجعياً إذا جاءت بالولد لأقلّ من سنتين من وقت الطّلاق لا يصير مراجعاً، ولو كان الحوادث بحال بحدوثها على أقرب الأوقات ليثبت هذه الأحكام، أعني بهذا البيان والطّلاق والعتاق والرجعة.

قلنا: الحوادث بحال حدوثها على أقرب الأوقات، إذا لم يتضمّن إبطال ما كان ثابتًا بالدّليل، أو ترك العمل بالمقتضي، أمّا إذا تضمّن فلا، ومتى عوّلت على ما قلنا، ثم استقرأت ما ذكرنا من المسائل وجدت الأمر على ما عليه عوّلنا، كذا في «الفوائد الظهيرية»

(1)

.

لأنّها لا تحلّ بالشراء؛ لأنّ الأمة تحرم حرمة غليظة بتطليقتين، فلا تحلّ [له]

(2)

بملك اليمين، وإذا لم تحلّ لا تُقضي بالعلوق من أقرب الأوقات، بل من أبعدها حملاً لأمور المسلمين على الصّلاح، وأبعد الأزمان هو ما قبل الطّلاق، فيلزمه الولد إذا جاءت به لأقلّ من سنتين منذ الطّلاق.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (13/ 110).

(2)

سقطت من (أ).

ص: 118

وأمّا إذا كان الطلاق واحداً يحلّ به وطؤها بملك اليمين، فيضاف الولد إلى أقرب الأوقات، فحينئذ كان ولد الأمة فلا يثبت نسبه من غير دعوة.

فإن قيل: وجب أن ينكشف الحرمة بملك اليمين، وإن كانت الحرمة بملك اليمين وإن كانت الحرمة غليظة بالتطليقتين، تمسُّكًا بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}

(1)

الآية.

قلنا: وجب أن لا ينكشف تمسكًا بقوله، فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد، والطلقة الثانية في الإماء بمنزلة الثالثة في الحرائر، والمحرّم أولى بالاعتبار بيانه فيما روي عن عثمان رضي الله عنه أنّه سئل عمّن اشترى أختين فقال: أحلتهما آية وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}

(2)

الآية، وحرمتهما آية، وهي قوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}

(3)

إلا أنّ المحرّم أولى

(4)

.

وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنّه كان يقول: "ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام"

(5)

، كذا ذكره الإمام قاضي خان والإمام الكشاني والإمام ظهير الدين رحمهم الله

(6)

.

فشهدت على الولادة فهي أمّ ولده بالإجماع؛ لأن سبب ثبوت النّسب وقد وجد، وهو الدّعوة وإنّما الحاجة إلى إثبات الولادة وتعيين الولد وشهادة القابلة حجّة في ذلك، هذا إذا ولدت لأقلّ من ستة أشهر من وقت الإقرار.

فإن ولدت لستة أشهر فصاعدًا لا يلزمه، لاحتمال أنّها حبلت بعد مقالة المولى فلم يكن المولى مدّعياً هذا الولد.

بخلاف الأوّل؛ لأنّ ثمة تيقنًا بقيام الولد في البطن وقت القول متيقنًا بالدّعوى، كذا في «الجامع الصّغير» لقاضي خان رحمه الله

(7)

.

(فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَهُوَ ابْنُهُ يَرِثَانِهِ)، فإن قيل: ينبغي أن لا ترث المرأة، لما أنّ هذا النكاح ثابت بطريق الاقتضاء، فيثبت بقدر الضرورة وهي تصحيح النّسب دون استحقاق الإرث.

(1)

سورة المؤمنون الآية (5).

(2)

سورة المؤمنون الآية (5).

(3)

سورة النساء الآية (23).

(4)

أخرجه مالك في الموطأ، كتاب النكاح، باب ما جاء في كراهية إصابة الأختين بملك اليمين والمرأة وابنتها، (34)، وعبدالرزاق في مصنفه، كتاب الطلاق، باب جمع بين ذوات الأرحام في ملك اليمين، (12728، 12732)

(5)

الأثر أخرجه عبدالرزاق في مصنفه، كتاب البيوع، باب طعام الأمراء (14683)، عن عمر وليس ابن عمر بلفظ:"تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا".

(6)

ينظر: المبسوط للسرخسي (10/ 172).

(7)

ينظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 409).

ص: 119

قلنا: النكاح على ما هو الأصل ليس بمتنوّع من نكاح هو سبب لاستحقاق الإرث، ونكاح هو ليس بسبب له، فلمّا ثبت النكاح بطريق الاقتضاء، ثبت ما هو من لوازمه التي لا تنفك عنه شرعًا بطريق الأصالة، بخلاف نكاح الكتابية والأمة؛ لأنّه من العوارض لا من الأصول، فلا يرد نقضاً ولو لم يُعلم أنّها حرّة، فقالت الورثة: أنت أمّ ولد له فلا ميراث لها، ولكن لها مهر مثلها؛ لأنهم أقروا بالدّخول بها ولم يثبت كونها أمّ ولد بقولهم، كذا ذكره الإمام التمرتاشي رحمه الله

(1)

.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 366).

ص: 120

‌باب الولد من أحق به

هذه فصول وأبواب متلاصقة بعضها ببعض، نسبة فإنّه لما ذكر ثبوت النّسب من المنكوحات والمعتدّات، احتاج إلى ذكر ثبوت من يكون عنده ذلك الولد الذي ثبت نسبه من الزّوج، ثم ذكر فصل من لو غاب بالولد من عنده، ثم ذكر نفقة والدة ذلك الولد؛ لأنّها أصله، ثم ذكر ما تحتاج هي إليه من السكنى، وغيرها ثم ذكر أنواع من يجب عليه النّفقة والسكنى من الزّوجات، ثم ذكر نفقة ذلك الولد؛ لأنّها فرعها فذكر الفرع مؤخّر عن ذكر الأصل، ثم لما وقع في ذكر النفقات ذكر من يجب عليه نفقته من ذوي الارحام والمماليك.

اعلم بأنّ الصغار لما بهم من العجز عن النظر لأنفسهم، والقيام بحوائجهم، جعل الشّرع الولاية إلى من هو مشفق عليهم، فجعل حقّ التصرف إلى الإباء لقوة رأيهم مع الشفقة، والتصرّف يستدعي قوة الرأي، وجعل حقّ الحضانة إلى الأمهات لرفقهن في ذلك مع الشفقة وقدرتهنّ على ذلك بلزوم البيوت، والظّاهر أنّ الأم أحيى وأشفق على الولد من الأب فتتحمل من المشقة في ذلك ما لا يتحمله الأب.

وفي تفويض ذلك إليها زيادة منفعة للولد.

والأصل فيه حديث عمرو بن شعيب

(1)

عن أبيه عن جدّه، أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «أنّ ولدي هذا قد كان له بطني وعاءً

» الحديث

(2)

.

ولما خاصم عمر رضي الله عنه أمّ عاصم

(3)

بين يدي أبي بكر رضي الله عنه لينتزع العاصم [386/ أ] منها قال له أبو بكر: ريحها خير له من سمن وعسل عندك يا عمر، فدّعه عندها حتّى يشبّ، وفي رواية فَرِيحُ لفاعها خير له من سمن وعسل عندك

(4)

، كذا في «المبسوط»

(5)

.

(1)

أَبُو إِبْرَاهِيم: عَمْرو بن شُعَيْب بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ الْقرشِي السَّهْمِي العامري. روى عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو كناه عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَعَمْرو بن عَليّ. ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 554)، فتح الباب في الكنى والألقاب (ص: 36)، مختصر تاريخ دمشق (19/ 223).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب من أحق بالولد (2276)، وأخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الطلاق (2830)، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد"(2/ 225).

(3)

جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصارية أخت عاصم بن ثابت، امرأة عمر بن الخطاب، تكنى أم عاصم بابنها عاصم بن عمر بن الخطاب، أسلمت اسمها عاصية فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة. ينظر: أسد الغابة (7/ 53)، مختصر تاريخ دمشق (12/ 120).

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه، كتاب الطلاق، باب الغلام بين الأبوين أيهما أحق به (2/ 139)، ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الطلاق، باب ما قالوا في الرجل يطلق امرأته ولها ولد صغير (19114).

(5)

المبسوط للسرخسي (5/ 207).

ص: 121

الحواء جماعة بيوت من الناس مجتمعة، والجمع الأحوية وهي من الوبر، كذا في «الصحاح»

(1)

.

(وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَيْهِ)، أي: على أخذ الولد يعني إذا أبت، أو لم تطلب إلا أن لا يكون للولد ذو رحم محرم سوى الأم، فحينئذ تجبر الأم على حضانته كيلا يفوت حقّ الولد أصلاً؛ لأنّه [لا]

(2)

شفقة للأجنبية أصلاً، كذا في «مبسوط شيخ الإسلام»

(3)

.

وذكر الإمام التمرتاشي رحمه الله ولا تجبر الأم على الحضانة؛ لأنّها عسى لا تقدر واختيار أبي الليث والهندواني

(4)

تجبر، لأنّ ذلك حق الولد

(5)

.

وإن امتنع الأب عن أخذ الولد بعد استغنائه من الأم تجبر؛ لأنّ نفقته وصيانته عليه فإن لم تكن أمّ، وعدم كونها على وجهين، أمّا أن تكون ميتة أو تزوّجت أجنبيًّا؛ لأنّ هذه الولاية تستفاد من قبل الأمّهات؛ لأنّ حق الحضانة بسبب الأمومة، وهي أم تدلي بأمّ، فهي أولى من أمّ الأب؛ لأنّها تدلي بقرابة الأب وقرابة الأم في الحضانة مقدمة على قرابة الأب، ويستوي إن كانت مسلمة أو كتابية أو مجوسية؛ لأنّ حق الحضانة لها للشّفقة على الولد، ولا يختلف ذلك باختلاف الدّين على ما قيل كل شيء يحبّ ولده حتّى الحُبارى

(6)

.

فإن لم تكن فأم الأب أولى، وإن علت، وعلى قول زفر الأخت من الأب والأم أو من الأم أو الخالة أحقّ من الجدّة أمّ الأب؛ لأنّها تدلي بقرابة الأب ومن سميناه بقرابة الأم واستحقاق الحضانة باعتبار قرابة الأم، ولكنّا نقول هذه أم في نفسها كأم الأم، والأم مقدّمة على غيرها في الحضانة، ثم أصل الشفقة باعتبار الولاد وذلك للجدّات، دون الأخوات والخالات، فلهذا كانت أمّ الأب أحق وفي رواية الخالة أولى من الأخت لأب.

(1)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (6/ 2322).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (4/ 40).

(4)

محمد بن عبد الله بن محمد، أبو جعفر الْهِنْدَوَانِيّ، البلخي، الحنفي. يقال له لكماله في الفقه: أبو حنيفة الصغير. يروي عن محمد بن عقيل، وغيره، وتفقه على أبي بكر بن محمد بن أبي سعيد ذكره صَاحب الْهِدَايَة وأخذ عنه جماعة. ينظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: 264)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 68).

(5)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 177)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 47).

(6)

الْحُبَارَى: طَائِر طَوِيل الْعُنُق رمادي اللَّوْن على شكل الإوزة. المعجم الوسيط (1/ 151).

ص: 122

وقد ذكر في كتاب النكاح ثم بعد الأخت لأمّ الأخت لأب أوفى من الخالة، اعتباراً بقرب القرابة والأخت لأب أقرب؛ لأنّها ولد الأب والخالة ولد الجدّ.

وفي كتاب الطّلاق قال: الخالة أولى من الأخت لأب، اعتباراً بالمدلي به فإن الخالة تدلي بالأمّ، والأخت لأب تدلي بالأب، والأمّ في حق الحضانة مقدّمة على الأب.

فكذلك من يدلي بقرابة الأم، يكون مقدمًا على من يدلي بقرابة الأب.

(وَتُقَدَّمُ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ)، أي: على الأخت لأمّ، وعلى قول زفر رحمه الله هما مستويتان؛ لأنّ ثبوت هذا الحق بقرابة الأم وهما سواء في ذلك، ولكنّا نقول: قرابة الأخت لأب وأمّ من وجهين، والشفقة بالقرابة فذو القرابتين يكون أشفق، فكان بالحضانة أحقّ، ويجوز أن يقع الترجيح بما لا يكون علّة للاستحقاق.

ألا ترى أنّ الأخ لأب وأمّ مقدّم في العصوبة على الأخ لأب؛ بسبب قرابة الأم وقرابة الأم ليست لاستحقاق العصوبة [بها]

(1)

، كذا في «المبسوط»

(2)

و «الجامع الصّغير» لقاضي خان رحمه الله

(3)

.

سقط حقّها لما روينا وهو ما ذكر من قوله عليه السلام: «أنت أحقّ به ما لم تتزوّجي»

(4)

.

يقال: شيء نَزْرٌ، أي: قليل، ويقال: نظر إليه شزراً، وهو نظر المبغض، كذا في «الديوان» ، وكذا كلّ زوج هو ذو رحم محرّم منه، كعمّ الولد إذا تزوّج أمّ الولد فأولاهم تعصيباً، وإذا اجتمع اخوة لأب وأمّ فأفضلهم صلاحاً وورعًا أحق به؛ لأنّ ضمه إلى أقرب العصبات

(5)

لمنفعة الولد، ولهذا قدّم الأقرب وضمه إلى ابنهم صلاحاً أنفع للولد؛ لأنّه يتخلّق بأخلاقه فإن كانوا في ذلك سواء فأكبرهم أحق؛ لقوله عليه السلام:«الكبر الكبر»

(6)

، ولأنّ حق أكبرهم أسبق ثبوتًا، فعند التعارض يترجّح بذلك، كذا في «المبسوط»

(7)

.

غَيْرَ أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تُدْفَعُ إلَى عَصَبَةٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، أي: مع وجود محرم غير العصبة، كالخال [مع ابن العمّ فإنه تدفع إلى الخال]

(8)

، وهذا في رواية [عن محمد]

(9)

(10)

.

(1)

سقطت من (أ).

(2)

المبسوط للسرخسي (5/ 211).

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 370).

(4)

سبق تخريجه (ص 235).

(5)

عصبة الرجل بنوه وقرابته لِأَبِيهِ. المعجم الوسيط (2/ 604).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، رقم (6142) ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب القسامة، رقم (1669).

(7)

المبسوط للسرخسي (5/ 212).

(8)

سقطت من (ب).

(9)

سقطت من (أ).

(10)

ينظر: لسان الحكام (ص: 333).

ص: 123

وذكر الإمام التمرتاشي، فإن لم يكن واحد من العصبة يدفع إلى الأخ لأمّ، عند أبي حنيفة رحمه الله، ثم إلى ذوي الأرحام الأقرب فالأقرب.

وقال محمّد رحمه الله: لا حق لذكر من قبل النّساء، والتدبير للقاضي يدفع إلى ثقة تحضنه حتّى يستغني

(1)

.

وعنه أنّه ثبت لهم الحق ولا حقّ لغير المحرم في حضانة الجارية، ولا للأم التي ليست بمأمونة ولا للعصبة الفاسق على الصّغير.

ووجهه أنّه إذا استغنى يحتاج إلى التأدّب وتعلّم أعمال الرجال، والأب على ذلك أقدر ويحتاج إلى من يتفقه [386/ ب] ويؤدّبه والأب هو الذي يقوى على ذلك، [ولأن]

(2)

صحبة النساء مفسدة للرجال، فإذا ترك عندها ينكسر لسانه، ويميل طبعه إلى طبع النّساء ربما يجيء مخنثاً

(3)

، فلذلك يدفع إلى الأب بعد ذلك، كذا في «المبسوط»

(4)

، اعتباراً للغالب؛ لأنّ الغالب أنّ الصبي إذا بلغ سبع سنين يستغني عن الحضانة والتربية فحينئذ يستنجي

(5)

وحده، قال عليه السلام:«مروا صبيانكم بالصّلاة إذا بلغوا سبعًا»

(6)

، والأمر بالصّلاة لا يكون إلا بعد القدرة على الطّهارة.

(تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ آدَابِ النِّسَاءِ) من الغزل والطّبخ وغسل الثياب، والأم أقدر على ذلك.

وإذا دفعت إلى الأب اختلطت بالرجال، فيقل حياءها والحياء في النساء زينة، فإنّما يبقى ذلك إذا كانت تحت ذيل أمّها، فكانت هي أحق بها حتّى تحيض، فإذا بلغت احتاجت إلى التزويج وولاية التزويج إلى الأب، وصارت عرضةً للفتنة ومطمعًا للرجال وبالرجال من الغيرة ما ليس بالنساء، فيتمكّن الأب من حفظها على وجه لا تتمكّن الأم من ذلك.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 371).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

المخنث لغة: بفتح النون وكسرها من الانخناث، وهو التثني والتكسر وذلك للينه وتكسره، والاسم الخنث، ويقال للمخنث: خناثة وخنيثة. ينظر: المعجم الوسيط (1/ 258)، لسان العرب (2/ 145).

وفي الاصطلاح: من تشبه حركاته حركات النساء خلقا أو تخلقا. ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (7/ 408)

(4)

المبسوط للسرخسي (5/ 208).

(5)

الاستنجاء إزالة ما يخرج من السبيلين، سواء بالغسل أو المسح بالحجارة. ينظر: حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المحلي على المنهاج (1/ 43).

(6)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، رقم (494)، والدارقطني في سننه، كتاب الصلاة، باب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها وحد العورة التي يجب سترها (887)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصلاة، باب عورة الرجل (3233).

ص: 124

وفي نوادر

(1)

هشام عن محمّد رحمه الله إذا بلغت حدّ الشهوة، فالأب أحق بها للمعنى الذي أشرنا إليه، وهو قوة غيرة الرجل، فإنّ الأم ربّما تخدع فتقع في الفتنة ولا تشعر الأمّ بذلك، ويؤمن ذلك على الأب كذا في «المبسوط»

(2)

.

وذكر في غياث المفتي أنّ للأب ولاية أخذ الجارية إذا بلغت حدّ الشهوة

(3)

، قال: والاعتماد على هذه الرواية لفساد الزمان، وإذا بلغت إحدى عشرة سنة فقد بلغت حدّ الشهوة في قولهم، ومن سوى الأم والجدّة أحق بالجارية حتّى تبلغ حدًا تشتهي.

وفي الصغير حتّى يستغني، يعني إذا كانت الجارية عند غير الأم والجدّتين نحو الأخوات والخالات والعمّات، فإنّها تترك عندهنّ - على رواية «الجامع الصّغير»

(4)

- إلى أن تأكل وحدها وتلبس وحدها، ثم تدفع إلى الأب.

وهي والصغير سواء؛ لأنّها وإن كانت تحتاج إلى العلم وآداب النساء، إلا أنّ فيه نوع استخدام للصغيرة، وليس لغير الأمّ والجدّتين ولاية الاستخدام، فتدفع إلى الأب احترازاً عن المعصية، كذا في «الجامع الصّغير» لقاضي خان رحمه الله

(5)

.

وليس لهما قبل العتق حق في الولد والأمة إذا فارقها زوجها، فإنّ الولد لمولى الأمة رقيق، يأخذه المولى وهو [أحقّ]

(6)

به من الأب؛ لأنّ الولد يتبع الأمّ في الملك، والمملوك مالكه أحق به من غيره.

وكذلك إن كان الزوج حرًّا لم يفارق أمّه، فالمولى أولى بالولد لكونه مملوكًا له.

ولكن لا ينبغي أن يفرّق بين الولد الصّغير وبين أمّه؛ لقوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}

(7)

، ولقوله عليه السلام:«من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبّته يوم القيامة»

(8)

، كذا في «المبسوط»

(9)

و «الجامع الصّغير» لقاضي خان.

(1)

مسائل النوادر هي المسائل المروية عن أصحاب المذهب لكن ليست في كتب ظاهر الرواية وإنما قيل لها غير ظاهر الرواية: لأنها لم ترو عن مُحَمَّد بروايات ظاهرة صحيحة ثابتة. يُنْظَر: كشف الظنون (2/ 1282).

(2)

المبسوط للسرخسي (5/ 208).

(3)

ينظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 412).

(4)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 48).

(5)

ينظر: لسان الحكام (ص: 333).

(6)

في (أ): أولى.

(7)

سورة البقرة: 233.

(8)

أخرجه الترمذي في سننه، أبواب السير، باب في كراهية التفريق بين السبي، رقم (1566)، وقال: وهذا حديث حسن غريب (3/ 186)، وأحمد في مسنده (23499)، والطبراني في المعجم الكبير (4080)، والحاكم في المستدرك (2334)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"(2/ 63).

(9)

المبسوط للسرخسي (5/ 213).

ص: 125

والذمية أحقّ بولدها المسلم، بأن كان زوجها مسلمًا، ما لم يعقل الأديان أو يخفّ هذا ظاهر.

وقال يخف انجزم بالعطف على لم يعقل، ولكن كان بخط شيخي رحمه الله أو يخاف معرباً بالرّفع فكان استئنافاً.

وقال الشافعي رحمه الله: لهما الخيار

(1)

.

وذكر في الهادي لقطب الدين النيسابوري

(2)

من أصحاب الشافعي رحمه الله: وإذا بلغ الصبي سن التمييز يخيّر بين الأبوين، ويسلّم إلى من اختاره، فإن رجع استردّ واستوى فيه الذكر والأنثى ولا يخيّر بين غير الوالدين بوجه، وإذا اختار الأب، فلا يمنع من الزّيادة وإذا اختار الأم، فعلى الأب مراعاته وتسليمه إلى المكتب والحرفة

(3)

.

وَلَنَا أَنَّهُ لِقُصُورِ عَقْلِهِ يَخْتَارُ مَنْ عِنْدَهُ الدَّعَةُ، أي الخفض [من]

(4)

الراحة والهاء عوض من الواو، يقول: منه ودع الرجل بالضمّ، كذا في «الصحاح»

(5)

.

وذكر في «المبسوط» يكون في القول بالتخيير بناء الإلزام والحكم على قول الصبي وذلك لا يجوز

(6)

.

فوفق لاختيار الأنظر بدعائه، وذكر صدر الإسلام رحمه الله في الجامع الصغير وقال: خيّره عليه السلام، فقال:«اللهم اهده، فاختار الأم»

(7)

، وكانت دعوته مستجابة، ومثل هذا لا يوجد في غيره، ويحتمل إن كان في الصبي العاقل.

أَوْ يُحْمَلُ [عَلَى]

(8)

مَا إذَا كَانَ بَالِغًا، أي: عاقلاً، على ما ذكر صدر الإسلام أو أراد به حقيقة البلوغ، فإنّه إذا بلغ رشيدًا له أن يتفرّد بالسُّكنى، وله أن يكون بأيهما أراد.

(1)

ينظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (5/ 126)

(2)

مسعود بن محمد بن مسعود النيسابورىّ، أبو المعالي، قطب الدين: فقيه شافعيّ، ولد سنة 505 هـ، تعلم بنيسابور ومرو، ودخل دمشق سنة 540 هـ ثم استقر بها، واتصل بالسلطان صلاح الدين الأيوبي وصنف له (عقيدة) كان السلطان يقرئها أولاده الصغار. وألف كتبا، منها (الهادي) في الفقه، مختصر لم يأت فيه إلا بالقول الّذي عليه الفتوى. وتوفي بدمشق سنة 578 هـ. ينظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (7/ 297).

(3)

ينظر: النجم الوهاج في شرح المنهاج (8/ 295).

(4)

في (ب): و.

(5)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (3/ 1295).

(6)

المبسوط للسرخسي (5/ 208).

(7)

أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطلاق، باب من أحق بالولد (2277)، والترمذي في سننه، أبواب الأحكام، باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا (1357)، والنسائي في الصغرى كتاب الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد (3496)، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح) ينظر: سنن الترمذي (3/ 31).

(8)

سقطت من (أ).

ص: 126

وذكر في «المبسوط» مسائل واقعة بعد هذا فقال: ثم الغلام إذا بلغ رشيدًا فله أن يتفرّد بالسكنى، وليس للأب أن يضمّه إلى نفسه إلا أنّ يكون مفسدًا مخوفاً عليه، فحينئذ له أن يضمّه إلى نفسه اعتباراً لنفسه بما له فإنه [387/ أ] بعدما بلغ رشيدًا لا يبقى للأب يد في ماله، فكذلك في نفسه وإذا بلغ مبذّراً كان للأب ولاية حفظ ماله، فكذلك له أن يضمّه إلى نفسه إمّا لدفع الفتنة أو لدفع العار عن نفسه فإنّه يعيّر بفساد ولده.

فأمّا الجارية إذا كانت بكراً فللأب أن يضمّها إلى نفسه بعد البلوغ؛ لأنّها لم تخبر الرجال فتكون سريعة الانخداع.

وأمّا إذا كانت ثيباً فلها أن تنفرد بالسكنى؛ لأنّها [قد]

(1)

اختبرت الرجال وعرفت كيدهم ومكرهم، فليس للأب أن يضمّها إلى نفسه؛ لأن ولايته قد زالت بالبلوغ وإنّما بقي حق الضم في البكر؛ لأنّها عرضة للفتنة والانخداع وذلك غير موجود في الثيب، والأصل فيه قوله عليه السلام:«الثيب أحق بنفسها من وليها»

(2)

يعني في التفرّد بالسُّكنى.

ولكن هذا إذا كانت مأمونًا عليها، وقد ذكر في كتاب الطّلاق أنّ الثيب إذا كانت مخوفاً على نفسها لا يوثق بها فللأب أن يضمّها إليه لبقاء الخوف

(3)

.

وأمّا البكر فإن لم يكن لها أب ولا جدّ وكان لها أخ أو عمّ فله أن يضمّها إليه -أيضاً-؛ لأنّه مشفق عليها، بمنزلة ولاية التزويج يثبت للأخ والعمّ بعد الأب والجدّ، فإن كان أخوها أو عمّها مفسدًا له يخل بينه وبينها؛ لأن ضمها إليه لدفع الفتنة.

فإذا كان سبباً للفتنة لم يكن له حق ضمها إليه، بل يجعل هو كالمعدوم، فتكون ولاية النظر بعد ذلك للقاضي، ينظر امرأة من المسلمين ثقة [له]

(4)

فيضعها عندها، فإن كانت البكر قد دخلت في السن واجتمع لها رأيها وعقلها، وأخوها وعمّها مَخُوفٌ عليها، فلها أن تنزل حيث شاءت في مكان لا يتخوف عليها؛ لأنّ الضم كان لخوف الفتنة بسبب الانخداع وفرط الشبق

(5)

، وقد زال حين دخلت في السنّ، واجتمع لها عقلها ورأيها

(6)

، والله أعلم.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (1421).

(3)

المبسوط للسرخسي (5/ 212).

(4)

سقطت من (ب).

(5)

شَبِقَ الرَّجُلُ شَبَقًا فَهُوَ شَبِقٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ هَاجَتْ بِهِ شَهْوَةُ النِّكَاحِ. ينظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 303).

(6)

ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 213).

ص: 127

‌فصل

(وَإِذَا أَرَادَتْ الْمُطَلَّقَةُ)، أي: بعد انقضاء العدّة إلا أن تخرج به إلى وطنها، وقد كان الزّوج تزوّجها فيه، وأصل هذا ما ذكر في «الجامع الصّغير» لقاضي خان وغيره.

رجل تزوّج امرأة من أهل الشّام بالشّام، فقدم بها إلى الكوفة، فولدت منه أولادًا، ثم طلّقها ثلاثاً وانقضت عدّتها، فلها أن تخرج بأولادها إلى الشّام من غير رضى الأب، وإن كان تزوّجها بالكوفة وهي من أهل الشّام لم يكن لها أن تخرج بأولادها من الكوفة، وهذه المسألة بناء على ما تقدّم أنّ الأم أحق بالولد الصغير.

قوله: وَلِهَذَا يَصِيرُ الْحَرْبِيُّ بِهِ ذِمِّيًّا، هذا اللفظ بجملته وقع غلطًا، فإنّه ذكر في سير هذا الكتاب، وسير سائر الكتب من السير الكبير، وغيره إذا تزوّج المستأمن ذميّة لا يصير ذمياً لأنّه يمكنه أن يطلّقها فيرجع.

وقد وجدت بخط شيخي رحمه الله ليس في النسخة التي قوبلت مع نسخة المصنف هذه الجملة، بل اتّصل قوله: وَإِنْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ بقوله: فهو منهم، وما ذكر ههنا في بعض النسخ وقع سهوًا وعبّر بعضهم لفظ الحربي بلفظ الحربيّة.

وقال بعضهم الضّمير [في]

(1)

به راجع إلى التزام المقام، لا إلى التزوج ولكن الصحيح ما ألقيتهُ عليك أولاً.

أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، أراد بالكتاب كتاب القدوري

(2)

.

فإنّ قوله: (إلَّا أَنْ تَخْرُجَ بِهِ إلَى وَطَنِهَا)، تخصيص لوطنها بالاستثناء، فكان غيره داخلاً في الخطر، ومن ذلك الغير غير وطنها الذي وجد التزوّج فيه فكان الانتقال إليه محظوراً.

وأمّا إذا كان في عكسه بأن أرادت الانتقال إلى مصر هو مصرها، لكن لم يكن أصل العقد بها لم يكن لها أن تنتقل بأولادها إليها باتفاق الروايات، كذا ذكره الإمام الكشاني رحمه الله ومن جملة ذلك حقّ إمساك الأولاد؛ لأنّ الأولاد من ثمرات النكاح، فيجب مراعاة الثمرات في مكان العقد اعتباراً للثمرات بالأحكام من وجوب التّسليم والتسلّم.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: الْوَطَنُ وَوُجُودُ النِّكَاحِ، ولكن بعد وجود هذين الوصفين وصف آخر شرط فيه -أيضاً-، وهو أن لا تريد الانتقال إلى دار الحرب، فإنّه ليس لها أن ينتقل إلى دار الحرب، وإن كان دار الحرب وطنها وقد وقع التزوّج فيها فإنّه ذكر في «شرح الطّحاوي»

(3)

رحمه الله ولو أرادت أن تنتقل من دار الإسلام إلى دار الحرب فليس لها ذلك، وإن كان أصل النكاح وقع هناك وهي حربية بعد أن يكون زوجها مسلمًا أو ذمياً، وإن كان كلاهما حربيين فلها ذلك.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان أبو الحسين القدوري: فقيه حنفي، ولد ومات في بغداد، انتهت إليه رئاسة الحنفية في العراق، وصنف المختصر المعروف باسمه (القدوري) في فقه الحنفية، وشرح "مختصر" الكرخي، توفي سنة 428 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (1/ 78)، تاج التراجم (ص: 98)، الأعلام للزركلي (1/ 212)

(3)

ينظر: اللباب في شرح الكتاب (3/ 104).

ص: 128

بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ تَفَاوُتٌ، أي بعد.

وَفِي عَكْسِهِ، وهو أن تنتقل بالولد من المصر إلى القرية، فليس لها ذلك، وإن كانت قريبة إلا إذا وقع أصل النكاح هناك فحينئذ لها ذلك، كذا في «شرح الطّحاوي» .

ضَرَرٌ بِالصَّغِيرِ، أي: وإن لم يكن فيه ضرر بالأب؛ لإمكان مطالعته إيّاه بسبب قربه، والله أعلم. [387/ ب]

‌باب النفقة

النفقة اسم بمعنى الإنفاق، وهو عبارة عن الإدرار على الشيء بما هو بقاء ذلك الشيء به، وحقيقته جعله نافعًا في حقّه، أي: هالكاً من نفقت الدابة أي هلكت.

وذكر الزمخشري

(1)

وتركيب الكلمة على الهلاك والذهاب، فإن ما كان فاءه نونًا وعنه فاءً دال على ذلك، كنفذ ونفر، ثم اعلم بأن بقية الغير تجب على الغير بأسباب منها الزوجية، ومنها النّسب، ومنها الملك، فبدأ الباب ببيان نفقة الزوجات، والأصل فيه قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(2)

وقال تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}

(3)

.

وقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}

(4)

معناه: أسكنوهن من حيث سكنتم، وأنفقوا عليهن من وجدكم، وبه قرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال عليه السلام:«أوصيكم بالنساء خيراً، فإنّهن عندكم عوان، اتخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدًا، وأن لا يؤذنّ في بيوتكم لأحدٍ تكرهونه، فإذا فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرّح، وإن لهن عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف»

(5)

، كذا في المبسوط

(6)

والذخيرة

(7)

.

(1)

العلامة، كبير المعتزلة، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، الخوارزمي، النحوي، ولد في زمخشر (من قرى خوارزم) سنة 467 هـ، وسافر إلى مكة فجاور بها زمنا فلقب بجار الله. وتنقل في البلدان، ثم عاد إلى الجرجانية (من قرى خوارزم) فتوفي فيها، أخذ النحو عن أبي مضر، أشهر كتبه (الكشاف) في تفسير القرآن، و (أساس البلاغة) و (المفصل)، توفي سنة 538 هـ. ينظر: وفيات الأعيان (5/ 168)، سير أعلام النبلاء (20/ 151).

(2)

سورة البقرة: 233.

(3)

سورة النساء: 34.

(4)

سورة الطلاق: 6.

(5)

أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (1163)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح"(2/ 458)، وابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب حق المرأة على وزجها (1851).

(6)

المبسوط للسرخسي (5/ 181).

(7)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 519).

ص: 129

قوله رحمه الله: (إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَى مَنْزِلِهِ)، قلت: هذا الشّرط ليس بلازم في ظاهر الرواية، فإنّه [ذكر]

(1)

في «المبسوط» -في ظاهر الرواية- بعد صحة العقد، النفقة واجبة لها، وإن لم تنتقل إلى بيت الزوج

(2)

.

ألا ترى أنّ الزّوج لو لم يطلب انتقالها إلى بيته كان لها أن تطالبه بالنفقة.

وذكر في «الذخيرة» و «الإيضاح»

(3)

إذا تزوّج امرأة كبيرة، فطلبت النفقة وهي في بيت الأب بعد فلها ذلك، إذا لم يطالبها الزّوج بالنقلة؛ لأن النفقة مستحقة لها على الزّوج لما ذكرنا من الدلائل، وكلّ أحد يتمكن من المطالبة بحقه، وهذا لأن النفقة حقّ المرأة، والانتقال حق الزوج، فإذا لم يطالبها بالنقلة فقد ترك حقه، وهذا لا يوجب بطلان حقها، وقال بعض المتأخرين من أئمة بلخ: لا تستحق النفقة إذا لم تزف إلى بيت زوجها، والفتوى على جواب الكتاب، وهو وجوب النفقة وإن لم تزف، فإن كان الزّوج قد طالبها بالنقلة فإن لم تمتنع عن الانتقال إلى بيت زوجها فلها النفقة -أيضاً-.

وأما إذا امتنعت عن الانتقال، إن كان الامتناع بحق، بأن امتنعت لتستوفي مهرها، فلها النفقة.

وأمّا إذا كان الامتناع بغير حق، بأن كان أوفاها المهر، أو كان المهر مؤجلاً، أو وهبته منه، فلا نفقة لها وكلّ من كان محبوساً بحق مقصود لغيره كانت نفقته عليه.

فإن قلت: يشكل على هذا الكلي الرهن

(4)

فإنّه محبوس لحق مقصود للمرتهن، وهو الاستيثاق وأن يكون أحقّ بها من سائر الغرماء ومع هذا كانت نفقته على الراهن.

قلت: في الرهن كما يحصل مقصود المرتهن يحصل مقصود الراهن -أيضاً-، وهو أن يكون موفياً دينه عند الهلاك، ويعتبر في ذلك حالهما، إلى أن قال: وعليه الفتوى هذا الذي ذكره على خلاف ظاهر الرواية، لأنّه ذكر في «المبسوط»

(5)

و «الذخيرة»

(6)

أنّ في ظاهر الرواية المعتبر حال الزّوج في اليسار والعُسرة، قال الله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ

قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}

(7)

وقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}

(8)

الآية، بيّن أن التكليف بحسب الوسع وأنّ النفقة على الرجل بحسب حاله.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

المبسوط للسرخسي (5/ 187).

(3)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 519).

(4)

الرهن: هو في اللغة مطلق الحبس، وفي الشرع: حبس الشيء بحقٍّ يمكن أخذه منه، كالدَّيْن، ويطلق على المرهون. ينظر: التعريفات للجرجاني (ص: 113).

(5)

المبسوط للسرخسي (5/ 182).

(6)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 529).

(7)

سورة البقرة: 236.

(8)

سورة الطلاق: 7.

ص: 130

وذكر الخصّاف

(1)

رحمه الله أنّ المعتبر حالهما جميعًا، إلى أن قال: وإذا كانت موسرة والزوج معسراً [يستوجب]

(2)

عليه فوق ما يستوجب إذا كانت معسرة، ليحصل كفايتها بذلك، وفي ظاهر الرواية تقول: لما زوّجت نفسها من معسر فقد رضيت بنفقة المعسرين، فلا تستوجب على الزّوج إلا بحسب حاله، وإن كانت معسرة والزوج موسر فنفقتها دون نفقة الموسرات، وفوق نفقة المعسرات، ذكر بيان هذا في «الذخيرة»

(3)

فقال: وإذا كان الزوج موسراً مفرط اليسار، نحو أن يأكل الحلواء والحمل المشوي والباجات

(4)

، والمرأة فقيرة كانت تأكل في بيتها خبز الشعير لا يؤخذ الزوج أن يطعمها ما يأكل بنفسه، ولا ما كانت تأكل المرأة في بيت أهلها.

ولكن يطعمها فيما بين ذلك، ويطعمها جيّد البر وباجة أو باجتين، [388/ أ] فهذا هو معنى اعتبار حالهما.

قال مشايخنا: والمستحبّ للزوج إذا كان موسراً والمرأة فقيرة أن يأكل معها ما يأكل بنفسه؛ لأنه مأمور بحسن العشرة معها، وذلك في أن يؤاكلها لتكون نفقته ونفقتها سواء.

قال في الكتاب: وكلّ جواب عرفته في فرض النفقة من اعتبار حال الزوج أو اعتبار حالهما فهو الجواب في الكسوة، إذ المعنى لا يختلف.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ الْوَسَطُ وَهُوَ الْوَاجِبُ، يحق على القاضي اعتبار الكفالة بالمعروف فيما فرض في كلّ وقت وأوانٍ، وكما يفرض لها قدر الكفاية من الطّعام، فكذلك من الإدام؛ لأن الخبز لا يتناول إلا مأذونًا عادة.

وجاء في تأويل قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}

(5)

أنّ أعلى ما يطعم الرجل أهله الخبز واللحم، وأوسط ما يطعم الرجل أهله الخبز والزيت.

وأدنى ما يطعم الرجل أهله الخبز واللّبن، وأمّا الدهن فلأنّه لا يستغني عنه خصوصاً في ديار الحر، فهو من أصول الحوائج كالخبز، كذا في «المبسوط»

(6)

.

(1)

هو: أحْمد بن عَمْرو الشَّيْبَانِيّ الإِمَام أَبُو بكر، فرضيّ حاسب فقيه، له تصانيف منها (أحكام الأوقاف) و (الحيل) و (الوصايا) و (الشروط) و (الرضاع)، توفي ببغداد عام 261 هـ. ينظر: الجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 369).

(2)

في (ب): استوجب.

(3)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 536).

(4)

قولهم: اجعل الباجات باجا واحدا أي ضربا واحدا ولونا واحدا، وهو معرب وأصله بالفارسية باها أي ألوان الأطعمة. ينظر: لسان العرب (2/ 209).

(5)

سورة المائدة: 89.

(6)

المبسوط للسرخسي (5/ 182).

ص: 131

وإن نشزت فلا نفقة لها، وفسّر الخصّاف الناشزة، فقال: الناشزة هي الخارجة من منزل زوجها المانعة نفسها منه

(1)

؛ لأنّها إذا كانت مقيمة مع الزوج في منزلها فالظّاهر أنّ الزوج يقدر على تحصيل المقصود منها، فلا يوجب ذلك بطلان نفقتها.

وكذلك لو كان المنزل ملكًا للمرأة، والزّوج يسكن معها فيه، فمنعته من الدّخول عليها، لم يكن لها نفقة ما دامت على تلك الحالة؛ لأنّها لمّا منعته عن الدّخول عليها فقد حبست نفسها منه، فصارت كأنّها نشزت إلى موضع آخر، إلا أن يكون سألته أن يحوّلها إلى منزله أو يكترئ لها منزلاً آخر يصيّرها فيه، ويقول: إني أحتاج إلى منزلي ومنعته من الدّخول عليها فلها ذلك، وعليه النفقة، لأنّ منفعة الاحتباس ههنا إنّما فاتت لمعنى من جهة الزّوج، فلا يوجب بطلان النفقة، كذا في الذّخيرة

(2)

.

وقيل لشريح رحمه الله: هل للناشزة نفقة؟ قال: نعم، فقيل: كم؟ فقال: جراب من تراب، معناه لا نفقة، لها كذا في «المبسوط»

(3)

.

(وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا)، أي: لا تُوطأ، وقد صرّح في «الذخيرة»

(4)

بأنّ المراد من الاستمتاع الوطء، وكذلك في الكتاب حتّى فرّق بين استمتاع الصّغيرة، وبين استمتاع المريضة الكبيرة على ما يجيء.

وفي «الذخيرة»

(5)

وإن كانت المرأة صغيرة فإن كانت مثلها توطأ وتصلح للجماع فلها النفقة، وإن كانت مثلها لا توطأ ولا تصلح للجماع فلا نفقة لها عندنا، حتّى تصير إلى الحالة التي تطيق الجماع، سواء كانت في بيت الزّوج أو في بيت الأب.

فرق بين نفقة الزوج وبين نفقة المملوك، فإن نفقة المملوكة تجب على المالك، وإن كانت صغيرة لا تصلح للجماع، والفرق هو أنّ نفقة النكاح إنّما تجب بسبب الاحتباس المستحق بعقد النكاح، فإنّما تجب إذا حصل للزّوج منفعة من منافع النكاح على سبيل الخصوص، ومنافع النكاح على الخصوص هي الجماع، والدّواعي إلى الجماع، والصّغيرة التي لا تصلح للجماع ولدواعي الجماع -أيضاً- فكان فوت منفعة الاحتباس لمعنى جاء من [قِبلها]

(6)

.

وأمّا نفقة المملوك تجب لأجل الملك فقط، وذلك لا يختلف بالصّغر والكبر.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 382).

(2)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 526).

(3)

المبسوط للسرخسي (5/ 186).

(4)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 520).

(5)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 22).

(6)

في (ب): جهتها.

ص: 132

فإن قيل: يشكل على تعليل الصّغيرة مسألة الرتقاء والقرناء والمرأة التي أصابها بلاء يمنعه من الجماع، أو المرأة كبيرة على وجه لا يمكن وطؤها، فإن لهنّ النفقة مع أن امتناع الوطء جاء من قبلهنّ.

قلت: أنّ المعتبر في إيجاب النفقة احتباس ينتفع الزّوج انتفاعاً مقصودًا بالنكاح، وهو الجماع أو الدّواعي إلى الجماع، والانتفاع من حيث الدّواعي في هذه المسائل حاصل بأن يجامعهنّ فيما دون الفرج.

وأمّا الصغيرة التي لا تجامع، لا يجامع فيما دون الفرج أيضاً لأنّها لا تكون مشتهاة.

وعلّل في الأقضية في الرتقاء، فقال: لأنّ الرتقاء قد يقدر على جماعها فيما دون الفرج.

وكذلك المريضة، فكان الاحتباس لمنفعة مطلوبة من النكاح فتجب النفقة.

قالوا فعلى قود هذا التعليل إذا كانت الصغيرة مشتهاة ويمكن جماعها فيما دون الفرج تجب النفقة كذا في الذّخيرة

(1)

.

وإن كان الزّوج صغيراً وهي كبيرة فلها النفقة، فذكر حكم العجز عن الطرفين منفردًا، ولم يذكر حكم العجز عن الطّرفين مجتمعًا، بأن كانا صغيرين لا يطيقان الجماع، فلو اعتبر جانب الصغير تجب، كما في الكبيرة ولو اعتبر جانب الصغيرة لا تجب كما لو كانت [388/ ب] صغيرة والزّوج كبير.

فقال في «الذخيرة»

(2)

: ولو كانا صغيرين لا يطيقان الجماع لا نفقة لها؛ لأنّ المنع لمعنى جاء من جهتها، فأكثر ما في الباب أن يجعل المنع من قبله كالمعدوم، فالمنع من قبلها قائم ومع قيام المنع من قبلها لا تستحق النفقة.

وعن هذا قلنا: أن المجبوب إذا تزوّج امرأة صغيرة لا تصلح للجماع لا يفرض لها النفقة، والفتوى على الأوّل، وهو أنّه لا نفقة لها، والمعنى في ذلك أنّ النفقة إنما تجب عوضاً عن الاحتباس في بيت الزّوج، فإذا كان الفوات لمعنى من جهة الزّوج أمكن أن يجعل ذلك الاحتباس باقياً تقديراً، أمّا إذا كان الفوات لا لمعنًى من جهة الزّوج لا يمكن أن يجعل الاحتباس باقياً تقديراً، وبدونه لا يمكن إيجاب النفقة، وهو نظير ما قلنا في الغاصب إذا غصب المُسْتَأجَر من يد المُسْتَأْجِرْ لا يجب الأجر على المُسْتَأجِر، لهذا أنّه فات التمكّن من الانتفاع لا من جهة المستأجر كذا ههنا، وإن حُبس الزّوج وهو يقدر على الأداء أو لا يقدر أو حبس ظلمًا أو هرب كانت لها النّفقة، وكذا إذا حجّت مع محرم أي لا نفقة لها.

وفي «الذخيرة» ولو حجّت المرأة حجة الإسلام، فإن كان قبل أن تسلّم نفسها فلا نفقة لها، ولو كان الزّوج بنى بها، ثم حجّت مع محرم فلها النفقة، في قول أبي يوسف رحمه الله.

(1)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 521).

(2)

ينظر: المرجع السابق.

ص: 133

وقال محمّد رحمه الله لا نفقة لها

(1)

.

ثم على قول أبي يوسف رحمه الله

(2)

عند فرض النفقة يفرض لها نفقة الإقامة دون السّفر، يعني يعتبر ما كانت قيمة للطّعام في الحضر، لا ما كانت قيمة له في السّفر؛ لأنّ هذه الزيادة لحقتها بإزاء منفعة تحصل لها، فلا يكون ذلك على الزّوج، كالمريضة لا تستحق المداواة على الزّوج، وإن مرضت في منزل الزّوج فلها النفقة.

وكذلك لو مرضت في منزلها، إلا أنّها غير مانعة نفسها من الزّوج بغير حق تستحق النفقة، وكذلك الرتقاء والقرناء على ما ذكرنا، كذا في الذخيرة

(3)

.

وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إلَيْهِ، وهو قوله: وإن مرضت في منزل الزّوج وهو عبارة عن تسليم نفسها صحيحة ثم مرضت في منزله.

والمراد بهذا بيان نفقة الخادم، هذا عذره دفع التكرار، يعني لمّا ذكر وجوب نفقة المرأة على الزّوج لماذا أعاد ههنا ثانياً بقوله: وَيُفْرَضُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ، أي: نفقة المرأة؟ فأجاب عنه بهذا.

قوله: نَفَقَةُ خَادِمِهَا، ذكر في الذخيرة

(4)

: هذا إذا كان للمرأة خادم، أمّا إذا لم يكن [للمرأة]

(5)

خادمًا لا تفرض نفقة الخادم على الزّوج -في ظاهر الرواية عن أصحابنا الثلاثة-؛ لأنّ استحقاقها نفقة الخادم باعتبار ملك الخادم، فإذا لم يكن لها خادم كيف تستوجب نفقة الخادم، وهو نظير القاضي إذا لم يكن له خادم لا يستحق كفاية الخادم في بيت المال كذا هذا.

وفي «المبسوط» وعن زفر رحمه الله: أنّه يفرض لخادم واحد؛ لأن على الزّوج أن يقوم بمصالح طعامها وحوائجها، فإذا لم يفعل ذلك أعطاها نفقة خادم، ثم هي تقوم بذلك بنفسها أو تتخذ خادمًا، فأمّا في ظاهر الرواية فاستحقاقها نفقة الخادم باعتبار ملك الخادم، وإذا لم يكن لها خادم لا تستوجب نفقة الخادم، كالغازي إذا كان راجلاً لا يستحق سهم الفارس وإن أظهر غناء الفارس في القتال

(6)

.

وذكر في «الذخيرة»

(7)

: ثمّ اختلف مشايخنا في الخادم، أنّ أي خادم المرأة تستحق النفقة على الزّوج منهم، من قال المملوك لها حتّى لو كانت حرّة أو لم يكن مملوكًا لها لا يستحق.

(1)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 521).

(2)

ينظر: المرجع السابق.

(3)

ينظر: المرجع السابق.

(4)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 536).

(5)

سقطت من (أ).

(6)

المبسوط للسرخسي (5/ 182).

(7)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 536).

ص: 134

ومنهم من قال كلّ من يخدمها حرّة كانت أو مملوكة لها أو لغيرها يستحق.

ثم يفرض لها ما يكفيها بالمعروف، ولكن لا تبلغ نفقة خادمها نفقتها؛ لأنّ الخادم تبع للمرأة فينقص نفقة الخادم عن نفقتها، أي: في حق الإدام لا في حق الخبز، ويقال [لها]

(1)

استديني عليه، أي: اشترى الطّعام على أن يؤدّي الزوج ثمنه.

وفي «الذخيرة» : وذكر الخصّاف رحمه الله أن تفسير الاستدانة على الزّوج هو الشراء بالنسيئة، لتقضي الثمن من مال الزوج

(2)

.

وقال الشافعي رحمه الله: يفرق بينه وبينها إذا طلبت المرأة ذلك

(3)

، كذا في المبسوط

(4)

.

ثمّ التفريق بعجز النفقة عند الشّافعي رحمه الله إنّما هو فسخ لا طلاق، وبه صرّح في المبسوط والهادي

(5)

.

ثم اعلم أنّ ظهور العجز عن النفقة إنّما يكون إذا كان الزّوج حاضراً.

وأمّا إذا غاب الرجل عن امرأته غيبة منقطعة، ولم يخلف نفقة لهذه المرأة، فرفعت المرأة الأمر إلى [389/ أ] القاضي، فكتب القاضي إلى عالم يرى التفريق بالعجز عن النفقة، ففرّق بينهما هل تقع الفرقة؟.

قال شيخ الإسلام أبو الحسن السغدي رحمه الله: نعم [إن]

(6)

تحقّق العجز عن النفقة

(7)

.

قال صاحب الذخيرة

(8)

: ففي هذا الجواب نظر، والصّحيح أنّه لا يصحّ قضاؤه؛ لأنّ العجز [عن الإنفاق]

(9)

لا يعرف حالة الغيبة، لجواز أن يكون قادراً، فيكون [ترك]

(10)

هذا الإنفاق لا العجز عن الإنفاق، فإن رفع هذا القضاء إلى قاض آخر، فأجاز قضاءه فالصّحيح أنّه لا ينفذ؛ لأنّ هذا القضاء ليس في مجتهد فيه، لما ذكرنا أن العجز لم يثبت ذكره في الفصل الثاني من فصول الإمام الاستروشني

(11)

رحمه الله وقاس هو بنفقة العبد والأمة، فإنّها مستحقة عليه بسبب الملك، فإذا تعذّرت عليه أجبره القاضي على إزالة الملك بالبيع فههنا كذلك.

وحجتنا في ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}

(12)

، فهذا تنصيص على أن المعسر منظر، ولو أجّلته في ذلك لم يكن لها أن تطالب بالفرقة.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 539).

(3)

ينظر: الأم للشافعي (5/ 116)

(4)

المبسوط للسرخسي (5/ 190).

(5)

ينظر: المرجع السابق.

(6)

في (ب): إذا.

(7)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 54).

(8)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 537).

(9)

سقطت من (ب).

(10)

سقطت من (أ).

(11)

ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 190).

(12)

سورة البقرة: 280.

ص: 135

فكذلك إذا استحق النظرة شرعًا، إلا أنّ المستحق بالنّص التأخير، فلا يلحق به ما يكون إبطالاً؛ لأنّ ذلك فوق المنصوص.

وفي حق المملوك يكون إبطالاً؛ لأنّه لا يثبت للمملوك على مولاه دين، فأمّا في حق الزّوجة فيكون تأخيراً، وبهذا يتبيّن أنّه غير عاجز عن معروف يليق بحاله، وهو الالتزام في الذمة مع أنّ التسريح

(1)

طلاق.

وعند الشافعي رحمه الله المستحق ههنا الفسخ بسبب العيب

(2)

، حتى إذا فرّق بينهما لم يكن طلاقاً كذا في «المبسوط»

(3)

.

وقوله الْمَالِ وَهُوَ تَابِعٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، للفرق بين هذا وبين ما ذكره من الجُبّ والعُنّة، أي العجز عن النفقة إنّما يكون فيما هو تابع، وهو المال، والعجز عن الوصول إلى المرأة بسبب الجُبّ والعُنّة إنّما يكون فيما هو المقصود وهو التوالد والتناسل، لما أنّ بناء النكاح لأجل هذا المقصود، فلم يلزم من استحقاق الفرقة بالعجز عن اتّصال سبب المقصود لزوم استحقاق الفرقة بالعجز عن اتصال التابع في باب النكاح، بل يثبت لفوت المقصود، ولا يثبت لفوت التّابع لظهور الفرق بينهما.

أَنْ يُمَكِّنَهَا إحَالَةَ الْغَرِيمِ عَلَى الزَّوْجِ، أي وإن لم يرض الزوج.

وفي «التحفة» وفائدة الأمر بالاستدانة أن لصاحب الدّين أن يأخذ دينه من الزّوج، كما له أن يأخذ من المستدينة، وما قضى به تقدير لنفقة لم يجب، لما أنّ النفقة تجب شيئاً فشيئاً فيعتبر حالة في كلّ وقت، وكما لا يستأنف القضاء بنفقة المعسر بعد اليسار، فكذلك لا يستديم ذلك القضاء، وقد كان القضاء عليه بنفقة المعسر بعذر العسرة، فإذا زال العُسر بطل ذلك، كمن شرع في صوم الكفّارة للعسرة، ثم أيسر كان عليه التكفير بالمال، كذا في «المبسوط»

(4)

.

وطالبته بذلك فلا شيء لها، وعلى قول الشافعي رحمه الله يقضي لها بما لم تستوف من النفقات الماضية

(5)

، وأصل المسألة أن النفقة لا تصير دينًا إلا بقضاء القاضي، أو التراض عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يصير دينًا؛ لأنّ وجوبها بالعقد فلا يحتاج إلى القضاء أو الرضاء في صيرورتها دينًا بعد العقد كالمهر؛ لأنّ النفقة صلة.

(1)

التَّسْرِيحُ في الطّلاق، نحو قوله تعالى:{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة/ 229]، وقوله:{وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب/ 49]، مستعار من تَسْرِيحِ الإبل.

(2)

ينظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (7/ 212).

(3)

المبسوط للسرخسي (5/ 191).

(4)

المبسوط للسرخسي (5/ 186).

(5)

ينظر: الحاوي الكبير (6/ 452).

ص: 136

ولا يقال: لو كانت النفقة صلةً لما وجبت على المكاتب؛ لأنّا نقول: صلة من وجه، وما هذا سبيله يجب على المكاتب كالخراج

(1)

، كذا في «مبسوط شيخ الإسلام»

(2)

.

ثم إنّما قلنا: أنّه صلة لأنّه لو كان عوضاً لا يصح، أمّا إن كان عوضاً عن البضع أو عن الاستمتاع والقيام عليها لجاز أن يكون عوضاً عن البضع؛ لأنّ المهر عوضه بالاتفاق فلو قلنا: بأنّ النفقة عوض عنه -أيضاً- يلزم العوضان بمقابلة معوّض واحد، ولا نظير له في الشّرع، ولجاز أن يكون عن الاستمتاع والقيام عليها؛ لأنّ ذلك تصرّف منه في ملكه.

فلا يوجب عليه -أيضاً-، فلما انتفى كونه عوضاً ثبت أنّه صلة، إلى هذا أشار في «المبسوط»

(3)

.

وذكر في «الذخيرة»

(4)

أن النفقة عوض من وجه، صلة من وجه؛ لأنّ النفقة بإزاء الاحتباس.

وفي الاحتباس إن كان الزوج من حيث الاستمتاع وقضاء الشّهوة منها وإصلاح أمر المعيشة، ففيه حقّ الشّرع من حيث تحصيل الولد وصيانة كلّ واحد منهما عن الزّنا فمن حيث أن الاحتباس حقّ الزّوج إن أمكن جعل النفقة عوضاً عنه فمن حيث أنّه حق الشّرع وإقامة الشرع مستحق على كلّ إنسان لا يصلح [389/ ب] أن يكون عوضاً عنه، فكانت عوضاً من وجه صلة من وجه، فمن حيث أنّها صلة لا تصير دينًا من غير قضاء ولا رضاء، كنفقة الأقارب، ومن حيث أنّها عوض تصير دينًا إذا وجد القضاء أو التراضي، عملاً بالدّليلين بقدر الإمكان، وإن مات الزّوج بعدما قضى عليه بالنّفقة ومضى شهور سقطت النّفقة، هذا إذا فرض لها القاضي النّفقة، ولم يأمرها بالاستدانة.

فأمّا إذا أمرها بالاستدانة على الزّوج فاستدانت، ثم مات أحدهما لا يبطل ذلك هكذا ذكر الحاكم الشهيد

(5)

رحمه الله في المختصر

(6)

.

(1)

الخراج لغة، من خرج يخرج خروجاً أي برز والاسم الخراج، وأصله ما يخرج من الأرض. والجمع أخراج، وأخاريج، وأخرجة، ويطلق الخراج على الغلة الحاصلة من الشيء كغلة الدار، والدابة. ينظر: لسان العرب (2/ 249)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 166).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 393).

(3)

المبسوط للسرخسي (5/ 184).

(4)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 538).

(5)

محمد بن محمد بن أحمد بن عبدالله بن عبد المجيد بن إسماعيل، أبو الفضل، الحاكم، الشهيد، كان بمرو، وهو شيخ الحنفية في زمانه، ولي قضاء بخارى، من مصنفاته:"المختصر الكافي" و"المستخلص من الْجَامِع فِي الْفُرُوع"، و"الْمُنْتَقى فِي الْفُرُوع"، قتل ساجداً سنة 334 هـ. ينظر: تاج التراجم (ص: 273)، هدية العارفين (2/ 37).

(6)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 539).

ص: 137

وذكر الخصّاف رحمه الله أنّه يبطل أيضاً

(1)

، والصحيح ما ذكر في المختصر؛ لأن استدانتها بأمر القاضي، وللقاضي ولاية عليهما بمنزلة استدانة الزّوج بنفسه، ولو أنّ الزوج استدان بنفسه لا يسقط ذلك الدّين بموت أحدهما، كذا ههنا، وكذلك في الطّلاق يعني أنّ الدّيون المستدانة هل تسقط بالطّلاق؟ فهو على الروايتين، في رواية لا تسقط وهو الصّحيح، كذا في «الذخيرة»

(2)

.

وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْهِبَةِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

فإن قيل: الهبة قبل القبض غير متأكدة، والنّفقة مؤكّدة بعد القضاء، فينبغي أن لا تسقط هنا وإن سقط هناك!.

قلنا: ما يكون منافياً كان منافياً للتأكّد، كالمحرمية تنافي النكاح الصّادر من الأب، والنكاح الصّادر من غير الأب مع أنّ النكاح الصّادر من الأب أقوى.

أو نقول: فبعد القضاء الصّلة باق فيها غير زائل؛ لأنّ المعنى من الصلة هو أن يجب المال على رجل بمقابلة ما ليس بمال، فقلنا بالسقوط لبقاء معنى الصّلة.

والدّليل على هذا ما ذكره في «الإيضاح»

(3)

بقوله: لأنّها وإن صارت دينًا عليه ولكن معنى الصلة لم تبطل عنه، والصّلات تبطل بالموت قبل القبض؛ لأنّه عوض عنده، فصار كسائر الديون.

وجوابه قد بيّناه وهو قوله: وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ الْمِلْكِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْعِوَضَانِ عَنْ مُعَوَّضٍ وَاحِدٍ، فلا تكون النفقة عوضاً عن البضع.

(وَإِنْ أَسْلَفَهَا) أي عجّل لها نفقة السنة، (ثُمَّ مَاتَ) أو ماتت المرأة قبل مضيّ المدة لم يرجع عليها ولا في تركتها في قولهما

(4)

.

وقال محمّد رحمه الله: يرفع عنها بحصة ما مضى ويجب ردّ الباقي إن كان قائمًا، وقيمة الباقي إن كان مستهلكًا، وجه قوله: أنّها أخذت ذلك من مال الزّوج لمقصود، ولم يحصل ذلك المقصود له، فكان له أن يستردّها منها، كما لو عجّل لها نفقة ليتزوّجها، فماتت قبل أن يتزوّجها، كذا في «الذخيرة»

(5)

.

فَصَارَ فِي حُكْمِ الْحَالِ، يعني إذا أخذت النفقة الواجبة في الحال لا يستردّ بالموت، فكذا لا يستردّ ما إذا عجّل لها نفقة الشهر دين عليه يباع فيها، إلا أن يفديه المولى فلمّا بيع ثم اجتمع عليه النفقة مرة أخرى يباع العبد ثانياً، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وليس في شيء من ديون العبد ما يباع فيه مرّة بعد أخرى إلا النّفقة؛ وهذا لأنّ النفقة يتجدّد وجوبها بمضيّ الزمان فذاك في حكم دين حادث

(6)

.

(1)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 539).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 539).

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 394).

(4)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 394).

(5)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 539).

(6)

المبسوط للسرخسي (5/ 198).

ص: 138

ولا كذلك سائر الديون كذا في «الذخيرة»

(1)

.

فلو مات العبد سقطت، لا يؤاخذ المولى بشيء؛ لأنّ المحل الاستيفاء قد فات.

وإن قتل العبد كانت النفقة في قيمته.

قال الشيخ أبو الحسن القدوري رحمه الله

(2)

: هذا ليس بصحيح، وإنّما الصحيح أن يسقط؛ لأنّ النفقة تسقط بالموت، لأنّها في معنى الصّلة، والصّلات تبطل بالموت قبل القبض، والقيمة إنما تقام مقام الرقية في رقيق لم يسقط بالموت، لا في دين يسقط بالموت.

وأمّا المدبّر إذا تزوّج بإذن المولى والنفقة تتعلّق بكسبه وكذا نفقة امرأة المكاتب، وهذا الذي ذكرنا إذا تزوّج العبد أو المدبّر أو المكاتب بإذن المولى، فأمّا إذا تزوّجوا بغير إذن المولى فلا نفقة عليهم ولا مهر؛ لأنّ وجوب المهر والنفقة يعتمد صحّة العقد، ونكاح هؤلاء بغير إذن المولى لا يصحّ، كذا في «الذخيرة»

(3)

.

(فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِعَدَمِ الِاحْتِبَاسِ، فإن قيل: المولى إنّما أزال ذلك لحق له شرعًا، فلماذا لا يجعل هذا كالحرّة إذا حبست نفسها لصداقها؟.

قلنا: أنّ الحرة إذا حبست نفسها لصداقها فالتّفويت إنّما جاء من الزّوج حين امتنع من إيفاء ما لزمه.

فأمّا ههنا فالتّفويت ليس من قبل الزوج.

والتبوئة غير لازمة، جواب سؤال بأن يقال: لما بوّءها مرة يجب [390/ أ] عليه أن يمضي على ذلك، وكان ينبغي أن لا يكون له نقضها بالاستخدام بعد ذلك.

فأجاب عنه بهذا، والمدبّرة وأمّ الولد في هذا كالأمة، ولم يذكر المكاتبة لما أنّ المكاتبة إذا تزوّجت بإذن المولى فهي كالحرّة، فلا يحتاج إلى التبوئة لاستحقاق النفقة؛ لأن منافعها على حكم ملكها لصيرورتها أخصّ بنفسها ومنافعها بعقد الكتابة ولهذا لم يبق للمولى ولاية الاستخدام فكانت كالحرة كذا في «الذخيرة»

(4)

والله أعلم.

‌فصل

وقد أوجبها الله تعالى مقرونة بالنّفقة قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}

(5)

وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: "أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وُجدكم"؛ ولأنّها محتاجة إلى السكنى لحاجتها إلى النفقة، فإن أسكنها في منزل ليس معها أحد، فشكت إلى القاضي أنّ الزّوج يضربها ويؤذيها، وسألت من القاضي أن يأمره بأن يسكنها بين قوم صالحين، فإن علم القاضي أن الأمر كما قالت المرأة زجره عن ذلك، ومنعه من التعدّي عليها، وإن ذكروا أنّه لا يؤدبها تركها في جوار من يوثق به أو كانوا يميلون إليه، أمره أن يسكنها بين قوم صالحين، ويسأل عنهم وبنى الأمر على خبرهم، كذا في نكاح «الذخيرة»

(6)

.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 395).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 524).

(3)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 524).

(4)

ينظر: المرجع السابق (3/ 556).

(5)

سورة الطلاق: 6.

(6)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 519).

ص: 139

(وَهُوَ الصَّحِيحُ) احتراز عن قول محمّد بن مقاتل الرازي

(1)

؛ فإنّه يقول: لا يمنع المحرم من الزّيارة في كلّ شهر، كذا في النفقات البرهانية؛ لأنّ لها أن تأخذ من مال الزّوج حقّها من غير رضاه.

فإن قيل: يشكل على هذا ما لو أحضر صاحب الدّين غريمًا أو مودعًا للغائب، وهما معترفان بأن هذا المدّعى له على الغائب لا يأمر القاضي بقضاء دينه من الوديعة من الدّين، وإن كانا معترفين بالدّين وبمال الغائب، قلنا: لأنّ القاضي إنّما يأمر في حقّ الغائب [بما]

(2)

هو نظر له وفي الأمر باتفاق المرأة نظر له بإبقاء ملكه وليس في قضاء الدّين إبقاء ملكه بل فيه قضاء عليه بقول الغير إلى هذا أشار في «المبسوط»

(3)

.

[قوله]

(4)

: لاسيّما وهو مركّب من "لا" و"سيّ"، والسيّ الميل، أصله سوي قلبت واوه ياء وأدغمت، و"ما" يحتمل أن تكون زائدة، كقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}

(5)

، فعلى هذا يكون الاسم الذي يجيء بعده مجروراً، ويجوز أن تكون موصولة، فكان ما بعده مرفوعًا، على أنّ المرفوع خبر مبتدأ محذوف، وهو هو فعلى هذا رُوي قول امروء القيس:(ولاسيّما يومًا بداره جلجل)، بالجرّ والرفع ويروى بالنّصب على وجه الاستثناء، وهو حرف استثناء بمعنى ألا مع زيادة معنى، فإنّ إلا لإخراج المستثنى عن حكم ثبت لغيره، كالمجيء الثابت لغير زيد في جاءني القوم إلا زيدًا، ولاسيّما لإخراج المستثنى عن حكم ثابت لغيره، ولكن بإثبات ما هو الأفضل له، يقول: أكرمني القوم لاسيّما زيدًا، والمعنى أكرمني زيد كإكرامهم بل إكرامه أبلغ من إكرامهم، كذا في الإقليد، وههنا -أيضاً- معناه على وجه الاستثناء، أي: إقرار صاحب اليد مقبول في حق نفسه، لاسيّما إقرار صاحب اليد ههنا، فإن قبول إقراره لأجل الغائب كقبول إقرار صاحب اليد في سائر المواضع، بل ههنا أبلغ فإن الحق كما يثبت بالإقرار في سائر المواضع كذلك يثبت بالبيّنة -أيضاً-، وههنا لا يثبت بالبينة، وأحرى أن يثبت هذا الحق بالإقرار ولا يلزم إهدار إثبات الحق أصلاً.

لَوْ أَنْكَرَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، أي الزوجية والوديعة، لا يقبل بينة المرأة فيه، فإنّه ذكر في «المبسوط»: وإن أحضرت المرأة غريمًا للزّوج أو مودعًا وجحد المديون أو المودع الزّوجية بينهما، أو المال في يده، لم يقبل القاضي بينتها على شيء من ذلك

(6)

.

(1)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 553).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

المبسوط للسرخسي (5/ 197).

(4)

سقطت من (أ).

(5)

سورة آل عمران: 159.

(6)

المبسوط للسرخسي (11/ 43).

ص: 140

أمّا على الدّين والوديعة؛ فلأنّها تثبت الملك للغائب حتّى إذا ثبت ملكه يترتّب عليه حقها فيه، وهي ليست بخصم في إثبات الملك للزّوج في أمواله، وأمّا إذا جحد الزوجية فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: أولاً يقبل بينتها على ذلك؛ لأنّها تدعي حقها فيما في يده من المال بسبب، فكان خصمًا في إثبات ذلك السّبب، كمن ادّعى عينًا في يد إنسان أنه له اشتراه من فلان الغائب، ثم رجع فقال: لا يقبل بينتها على ذلك، وهو قول أبي يوسف ومحمّد -رحمهما الله-؛ لأنّها تثبت النكاح على الغائب والمودع والمديون ليس بخصم [390/ ب] عن الغائب في إثبات النكاح عليه بالبيّنة، والاشتغال من القاضي بالنظر يكون بعد العلم بالزّوجية، فإذا لم يكن ذلك معلومًا له لا يشتغل بسماع البيّنة من غير خصم.

وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ كِسْوَةً مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا، أي: أو كانت ثياباً من جنس كسوتها.

ثم في كلّ موضع كان للقاضي أن يقضي لها بالنفقة في مال الزّوج فلها أن تأخذ من مال الزّوج ما يكفيها بالمعروف بغير قضاء لحديث هند امرأة أبي سفيان

(1)

(2)

.

أما عند أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يباع على الحاضر

(3)

، لما أن البيع عليه إنّما يكون على طريق الحجر، والحجر عند أبي حنيفة رحمه الله على الحرّ العاقل البالغ لا يصحّ.

ويأخذ منها كفيلاً، فقال في «الذخيرة»

(4)

: وإذا كان الزّوج غائباً وله مال حاضر في بيته، وطلبت من القاضي أن يفرض لها النفقة، فإن كانّ القاضي يعلم بالنكاح بينهما فرض لها النفقة في ذلك المال؛ لأنّ هذا إيفاء لحق المرأة وليس بقضاء على الزوج بالنّفقة؛ لأنّ النفقة واجبة على الزّوج بحكم الزوجيّة قبل قضاء القاضي، والقاضي عرف قيام الزوجية ههنا إنّما الحاجة إلى الإيفاء، والإيفاء لا يمتنع بسبب الغيبة، ألا ترى أن من أقرّ بدين ثم غاب وله مال حاضر من جنس الدّين فطلب صاحب الدّين من القاضي الإيفاء أجابه القاضي إلى ذلك، فهنا كذلك، ولكن ينبغي للقاضي أن ينظر للغائب وذلك في أن يحلفها أنّه لم يعطها النفقة، لجواز أن يكون أعطاها النّفقة قبل أن تغيب وهي تلبّس على القاضي لتأخذ ثانياً فإذا حلفت أعطاها النفقة وأخذ منها كفيلاً هكذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرحه وكذا في أدب القاضي للخصّاف أنّ القاضي إذا استوثق منها بكفيل فحسن وإن لم يأخذ كان جائزًا

(5)

.

(1)

حديث «خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف» أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم، رقم (2211).

(2)

أبو سفيان هو: صخر بْن حرب بْن أمية بْن عبد شمس بْن عبد مناف بْن قصي بْن كلاب بن مرة ابن كعب بْن لؤي، أَبُو سفيان القرشي الأموي، رأس قريش، وقائدهم يوم أحد، ويوم الخندق، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة الفتح، وشهد حنينًا والطائف، مع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كان من دهاة العرب، ومن أهل الرأي والشرف فيهم، وتزوّج النّبي صلى الله عليه وسلم ابنته أم حبيبة قبل أن يسلم توفي بالمدينة سنة 31 هـ. انظر: أسد الغابة (2/ 392)، الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 333)، سير أعلام النبلاء (2/ 106).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 684).

(4)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 530).

(5)

ينظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (4/ 214).

ص: 141

قال الصدر الشهيد

(1)

رحمه الله: والصّحيح ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله، ولا يقضي بنفقة في مال غائب إلا لهؤلاء، وهم زوجة الغائب وولده الصغار ووالده، أمّا غيرهم من المحارم كالأخوة والأخوات والأعمام فنفقتهم إنما تجب بالقضاء؛ لأنّه مجتهد، فيه فإن عند الشافعي رحمه الله لا تجب النفقة على غير الوالدين والمولودين

(2)

، ذكره في «المبسوط»

(3)

.

وفي هذه المسألة أقاويل مرجوع عنها، ولم يذكرها ومن تلك الأقاويل ما ذكرنا من قوله: إذا جحد المديون أو المودع الزّوجية بينهما أو المال في يده، فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: أولاً يقبل بينتها على الزوجية، ثم رجع فقال: لا يقبل بينتها، ومنها ما إذا لم يكن للزّوج الغائب مال حاضر، فطلبت المرأة من القاضي أن يسمع بينتها على النكاح ليفرض النفقة على الغائب، ويأمرها بالاستدانة لم يجبها إلى شيء من ذلك؛ لأنّ هذا قضاء على الغائب، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر وهو قولهما رحمه الله وأمّا قول أبي حنيفة رحمه الله الأوّل، وهو قول زفر رحمه الله يجيبها إلى ذلك، وإن كان للغائب دين ووديعة والمُودع والمديون كل واحد منهما مقر بالوديعة والدّين والنكاح، فللقاضي أن يأمر بالإنفاق، أولاً من الوديعة؛ لأنّ القاضي نصب ناظراً، ونظر الغائب في البداية من الوديعة؛ لأنّ الوديعة تحتمل الهلاك بخلاف الدّين، هذا كلّه من «الذخيرة»

(4)

والله أعلم

(5)

.

‌فصل

قال الشافعي رحمه الله: لا نفقة للمبتوتة

(6)

، وهي التي طلّقها الزّوج ثلاثاً أو طلّقها بعوض حتّى وقع الطّلاق بائنًا عندهم، إلا إذا كانت حاملاً، وعلى قول ابن أبي ليلى لا نفقة للمبتوتة في العدّة أي على أي وصف كانت.

قوله: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}

(7)

، فإن قيل: فمن أين يُعلم أن هذه الآية في حق المطلقات، قلنا عُلم ذلك بآخر الآية وهو قوله تعالى:{حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(8)

والنفقة في غير المطلّقات غَيْرُ مُغَيَّاةٍ

(9)

بوضع الحمل.

(1)

عمر بن عبد العزيز بن عمر بن مازة، أبو محمد، برهان الأئمة، حسام الدين، المعروف بالصدر الشهيد، من أكابر الحنفية، له:(الفتاوى الصغرى)، و (الفتاوى الكبرى)، توفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة. يُنْظَر: تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: 218)، والأعلام للزركلي (5/ 51).

(2)

ينظر: الحاوي الكبير (3/ 360)

(3)

المبسوط للسرخسي (5/ 223).

(4)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 576).

(5)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 403).

(6)

ينظر: المجموع شرح المهذب (16/ 263).

(7)

سورة الطلاق: 6.

(8)

سورة الطلاق: 6.

(9)

مُغَيَّاةٍ: من الغاية، والمقصود أنه لا معنى حينئذ لجعل غاية إيجاب الإنفاق عليها الوضع. ينظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام (4/ 407).

ص: 142

وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا، فإن قيل لو وجبت النفقة في الحامل لم يبق لتخصيص الحامل في النصّ فائدة، حيث قال:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} .

قلنا: لذكر الشرط والتخصيص فائدة سوى النفي، وهي أنّه إنّما خصّ الحامل بالذكر؛ لأنّ الحامل إنّما تستحقّ النّفقة بقدر ثلاثة أقراء، فيقع [391/ أ] الإشكال أن الحامل تستحق بذلك القدر أو الزيادة إلى تمام مدّة الحمل وإن طالت، فأزال الأشكال وقال: لها النفقة في جميع مدّة الحمل {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} كذا في «مبسوط شيخ الإسلام» رحمه الله.

فإنّه قال: لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا بقول امرأة، وفي التأويلات المراد بقوله: كتاب ربّنا قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}

(1)

إلى قوله: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}

(2)

ولو لم يكن في التلاوة ذكر الإنفاق لكنّا نفهم أنّه هكذا؛ لأنّه ذكر من وجدكم، والوجد هو السعة والغنى.

وذلك يرجع إلى ما يملك به أمّا الإسكان فإنّه قد يملك إسكانها في غير ملكه، حيث يسكن هو، ولا يملك الإنفاق عليها من غير ملك، وهذا كما في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في كفّارة اليمين:{ثلاثة أيّام متتابعات} لو لم تكن التّلاوة لفهم التّتابع؛ لأنّ الصّيام هنا يدل عن العتاق وكلّ صوم هذا شأنه فهو متابع كما في كفّارة القتل والظهار.

وذكر في «الإيضاح» قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لها النفقة والسكنى»

(3)

، وذكر فخر الإسلام في أصول الفقه، وقال عيسى بن أبان

(4)

: أراد بالكتاب والسنّة القياس وردّها -أيضاً- أسامة ابن زيد

(5)

، وهو زوج فاطمة التي روت بأنّه لا نفقة ولا سكنى، فإن أسامة رضي الله عنه كان إذا سمع هذا الحديث رماها بكلّ شيء في يده

(6)

، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:«تلك امرأة فتنت العالم» أي: بروايتها هذا الحديث ذكره في «المبسوط»

(7)

.

(1)

سورة الطلاق: 6.

(2)

سورة الطلاق: 6.

(3)

أخرجه عبدالرزاق في مصنفه، كتاب الطلاق، باب عدة الحبلى ونفقتها (12027)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الرضاع، باب ذكر عدم إيجاب السكنى والنفقة للمطلقة (4250).

(4)

هو عيسى بن أبان فقيه العراق وتلميذ محمد بن الحسن وقاضي البصرة، له تصانيف وذكاء مفرط توفي سنة 221 هـ. ينظر: الجواهر المضية (1/ 401)، سير أعلام النبلاء (10/ 440)، تاريخ بغداد (11/ 157).

(5)

أسامة بن زيد بن حارثة، من كنانة عوف، أبو محمد: صحابي جليل. ولد بمكة، ونشأ على الإسلام (لأن أباه كان من أول الناس إسلاما) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا جما وينظر إليه نظره إلى سبطيه الحسن والحسين. وهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمّره رسول الله، قبل أن يبلغ العشرين من عمره، فكان مظفرا موفقا. ولما توفي رسول الله رحل أسامة إلى وادي القرى فسكنه، ثم انتقل إلى دمشق في أيام معاوية، فسكن، المزة، وعاد بعد إلى المدينة فأقام إلى أن مات بالجرف، في آخر خلافة معاوية. له في كتب الحديث 128 حديثا، توفي سنة 54 هـ. ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 202)، أسد الغابة (1/ 79).

(6)

حديث لا نفقة ولا سكنى أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها (1480).

(7)

الأثر ذكره السرخسي في المبسوط (5/ 201)، ولم أجده عن عائشة ولكنه يروى عن غيرها بغير هذا اللفظ وقد ورد في سنن أبي داود، كتاب الطلاق، باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس (2296)، وعبدالرزاق في مصنفه، كتاب الطلاق، باب الكفيل في نفقة المرأة (12037)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب العدد، باب ما جاء في قول الله عز وجل:(إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)(15493)، كلهم عن سعيد بن المسيب.

ص: 143

قوله: (وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ الرِّدَّةِ وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا)، قيد بقوله من قبل المرأة احترازاً عن فرقة صادرة من قبل الرجل، فإن تلك الفرقة توجب النفقة، إذا كانت بعد الدّخول، سواء كانت بمباح كالطّلاق أو بمعصية كتقبيله ابنتها بشهوة، وقيّد بقوله: بمعصية، احترازاً عمّا إذا صدرت من قبل المرأة، وهي ليست بمعصية نحو ما إذا اختارت نفسها بالعتاق أو بعدم الكفاءة، وهي مدخول بها، فلها النفقة، وقيّد بقوله: فلا نفقة لها، من غير تعرّض للسّكنى، فإنّ السكنى واجبة لها بأيّ فرقة كانت؛ لأنّ القرار في البيت مستحقّ عليها فلا يسقط ذلك بمعصيتها، فأمّا النّفقة فواجبة لها، فسقط ذلك بمجيء الفرقة من قبلها بمعصية، إلى هذا أشار في «المبسوط»

(1)

.

وذكر في النفقات البرهانية وإن جامعها ابن الزوج مكرهة تقع الفرقة ولا تسقط النفقة

(2)

.

وذكر في «مبسوط شيخ الإسلام» رحمه الله: وإنّما تسقط نفقة المرتدة إذا أخرجت للحبس من بيت العدّة وأمّا إذا اعتدت ولم تخرج من بيت الزّوج للحبس تحت النّفقة وكذا ذكر في «المبسوط» ، وقال: أمّا إذا ارتدت في العدّة سقطت نفقتها لا لعين الردّة ولكن لأنّها تحبس فلا يكون في بيت زوجها والمحبوسة بحق عليها لا يستوجب النّفقة في حال قيام النكاح فكذلك لا تستوجب النفقة في العدّة

(3)

.

وإن طلّقها ثلاثاً ثم ارتدت [والعياذ بالله]

(4)

سقطت نفقتها وإذا تابت عن ردتها وأسلمت تعود النّفقة.

فإن قلت: يشكل على هذا مسألتان أحديهما أن المنكوحة إذا ارتدّت -[والعياذ بالله]

(5)

- حتّى وقعت الفرقة وسقطت النّفقة، ثم أسلمت لا تعود النّفقة، والثانية أن المعتدة إذا ارتدّت -[والعياذ بالله]

(6)

- ولحقت بدار الحرب، ثم رجعت وأسلمت بعد ذلك، أو سبيت فأعتقت فلا نفقة لها.

قلت: أمّا المنكوحة لما ارتدّت وقعت الفرقة لمعنى مضاف إليها، وهو معصية فسقطت النّفقة أصلاً؛ لما ذكر في أصل المسألة فلا يعود بعد ذلك.

وأمّا المعتدّة لما ارتدّت فلم تسقط النّفقة بمجرّد الارتداد على ما ذكرت من [رواية]

(7)

المبسوطين

(8)

، أن نفقة المرتدة إنّما تسقط للحبس لا لنفس الارتداد، وإذا طلّقها وهي غير مرتدّة فسبب وجوب العدّة قد تقرّر لكن [يمتنع]

(9)

الوجوب في بعض المدة بعارض، وقد زال ذلك، فيزول المنع كما في النشوز، التي ارتدت ولحقت بدار الحرب فإنّما لا تعود النّفقة؛ لأنّها لما ارتدّت، ولحقت بدار الحرب مرتدة فقد سقطت العدّة حكمًا؛ لانقطاع [391/ ب] العصمة [بيننا]

(10)

بتباين الدارين، فكان بمنزلة ما لو سقطت العدّة بمضي العدّة، فلا تعود بعد السقوط، وإن جاءت مسلمة لتأكد السقوط، وهذا الذي ذكرنا كلّه في الطّلاق البائن والطلقات الثلاثة، وأمّا المعتدة بالطّلاق الرجعي إذا وطئها ابن الزّوج أو قبّلها بشهوة وهي مطاوعة، أو ارتدت فحبست أو لم تحبس فلا نفقة لها؛ لأنّ في الطلاق الرجعي ما وقعت الفرقة بالطّلاق، فكان وقوع الفرقة بسبب وُجد منها، وهو معصية فيوجب ذلك سقوط النفقة.

(1)

المبسوط للسرخسي (6/ 62).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 556).

(3)

المبسوط للسرخسي (5/ 205).

(4)

سقطت من (ب).

(5)

سقطت من (ب).

(6)

سقطت من (ب).

(7)

سقطت من (أ).

(8)

المبسوط للسرخسي (5/ 205).

(9)

في (ب): امتنع.

(10)

سقطت من (ب).

ص: 144

بخلاف الطّلاق البائن، والمعتدة إذا خرجت من بيت العدّة تسقط نفقتها، وهذا عندنا ما دامت على النشوز، فإذا عادت إلى بيت الزّوج كانت لها النفقة والسكنى، كما في حال قيام النكاح، كذا في الذّخيرة

(1)

.

وذكر في «شرح الطّحاوي»

(2)

، ثم الأصل بعد هذا أن كلّ امرأة كانت لها النفقة يوم طلقت، ثم صارت إلى حال لا نفقة لها، فلها أن تعود بأخذ النفقة، وكلّ امرأة لا نفقة لها يوم طلقت فليس لها نفقة أبدًا.

بيانه أن الرجل إذا طلّق امرأته وهي أمة طلاق بائنًا وقد كان المولى بوّءها بيتًا مع الزّوج، ثم أخرجها المولى لخدمته سقطت النفقة، ولو أراد المولى أن يعيدها إلى الزّوج، ويأخذ منه النفقة كان له ذلك، ولو لم يكن في تبوئة الزوج يوم طلّق الزوجة، فأراد المولى أن يبوّءها مع الزّوج في العدّة لتجب النفقة، فإنّ النفقة لا تجب.

وكذلك إذا ارتدت المرأة ووقعت الفرقة بالردّة فلا نفقة لها.

ثم إذا أسلمت فلا تعود النّفقة، وبمثله لو طلّقها وهي مسلمة فارتدّت في العدّة، ثم أسلمت فإنّ النفقة تعود إلا إذا لحقت بدار الحرب -على ما ذكرنا-، ولو قبّلت ابن زوجها في العدّة فإنّ النفقة لا تسقط وكذلك السُّكنى.

بخلاف ما لو ارتدت في العدّة.

ولو أن المرأة إذا كانت ناشزة وقت الطّلاق فإن لها أن تعود إلى دار الزوج، وتأخذ النفقة، وهذا يشكل على هذا الأصل الذي ذكرنا؛ لأنّ هذه المرأة لم يكن لها يوم طلقت، ثم تعود النفقة إلا أنّ العذر فيه أن يقال: أنّ النفقة كانت واجبة لها إلا أنّها منعت نفسها عن حق واجب، فلها أن تعود وتأخذ النفقة، ولو أنّ المرأة تطاولت بها العدّة فلها النفقة والسكنى إلى أن يدخل حدّ الإياس

(3)

والله أعلم بالصّواب.

‌فصل

(وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ)، أي: لا يشارك الأب أحد في حق وجوب النفقة للأولاد الصغار، أي: لا تجب نفقة الأولاد الصغار على الأب وعلى الآخر معه، بل على الأب خاصة، وهذا بخلاف نفقة سائر ذوي الأرحام، فإن نفقتهم على ورّاثهم مشتركين بحسب ميراثهم -على ما يجيء-، وهذا الذي ذكره وهو عدم مشاركة أحد للأب في حق نفقة الأولاد الصغار وجواب ظاهر الرواية.

(1)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 561).

(2)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (4/ 18).

(3)

الإياس بمعنى انقطاع الحيض بسبب الكبر. ينظر: المغني لابن قدامة (1/ 263)، حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المحلي على المنهاج (4/ 44).

ص: 145

وقد روي عن أبي حنيفة أنّ النفقة على الأب والأم أثلاثاً بحسب ميراثهما من الولد، فأمّا ظاهر الرواية فكما لا يشارك الأب في مؤنة الرضاع أحد، فكذلك في النّفقة، وأمّا إذا مات الأب والولد الصغير أم وجد أب الأب فنفقته عليهما، على قدر ميراثهما أثلاثاً، بخلاف الأب في ظاهر الرواية كذا في «المبسوط»

(1)

.

ولأنّ اللام في قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ}

(2)

للاختصاص، فصار الولد كالعبد ونفقة العبد تجب على المولى، لا يشاركه غير المولى فكذا هنا.

وذكر في النفقات البرهانية: إنّما تستحق النّفقة على الوالد لا غير لكون الولد منه، وغيره لا يشاركه في هذا المعنى، فلا يشاركه في النفقة عليه غيره:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}

(3)

، فوجه التمسّك بهذه الآية في وجوب نفقة الأولاد على الأب، هو أنّ الله تعالى أوجب نفقة المرضعات على المولود له، وهو الأب في هذه الآية، فوجوب نفقتهن عليه بسبب إرضاع الولد، لما أنّ الحكم المرتّب على اللفظ المشتق دليل على أن مأخذ الاشتقاق علة لذلك الحكم، كما في الزّاني والسّارق، فلمّا وجبت نفقتهن عليه بسبب إرضاع الولد، كان إيجاب نفقة الولد عليه أولى، ولكن الوجه الأظهر في وجوب نفقة الولد على الوالد ما تمسّك به في «المبسوط» ، فقال: ويجبر الرجل على نفقة أولاده الصّغار، لقوله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

(4)

والنفقة بعد الفطام بمنزلة [مؤنة]

(5)

الرضاع قبل ذلك؛ إذ هما لا يتفاوتان من حيث النفقة، فقد أوجب الله تعالى مؤنة الرضاع في هذه الآية على الأب، فمؤنة الرضاع قبل الفطام مثل مؤنة النّفقة بعد الفطام، ولأنّ الولد جزء من الأب فيكون نفقته عليه كنفقته على نفسه

(6)

.

ونفقة الصغير واجبة على أبيه، وإن كان خالفه في دينه بأن أسلم الابن بنفسه والأب كافراً، وعلى العكس لما أنّ إسلام الصبي العاقل وارتداده صحيح فلإطلاق ما تلونا، وهو قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ}

(7)

.

أَمَّا إذَا كَانَ فَالْأَصْلُ أَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فرق بين هذا وبين نفقة الزّوجات، فإن المرأة وإن كانت موسرة فنفقتها على الزّوج، بخلاف الصبي إذا كان له مال فنفقته في ماله لا على الأب.

(1)

المبسوط للسرخسي (5/ 209).

(2)

سورة البقرة الآية (233).

(3)

سورة البقرة الآية (233).

(4)

سورة الطلاق: 6.

(5)

سقطت من (أ).

(6)

المبسوط للسرخسي (5/ 222).

(7)

سورة البقرة: 233.

ص: 146

والفرق هو أنّ نفقة الزوجات إنما تجب بإزاء التمكن من الاستمتاع، فكان على طريق المعادلة، والبدل يجب وإن كان من يستحقه غنيًّا، فأمّا نفقة الولد فلا تجب بإزاء التمكّن من الاستمتاع، وإنّما تجب لأجل الحاجة، فلا تجب بدون الحاجة كنفقة المحارم.

ثم قوله في الكتاب: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَالٌ، عام لأنّه نكرة في موضع النفي فيتناول جميع الأموال من جنس النفقة أو من غير جنسها أو دوراً وعقاراً أو غير ذلك.

بخلاف ما ذكرنا في نفقة الزّوجة في مال الغائب، فلذلك قال في «الذخيرة»

(1)

: فإن كان للصّغير عقار أو ثياب واحتيج إلى ذلك للنّفقة كان للأب أن يبيع ذلك كلّه، وينفق عليه؛ لأنه غني بهذه الأشياء، ونفقة الصبي تكون في ماله إذا كان غنيًّا، ثم الوالد إذا لم يكن له مال فأبى أن يكتسب وينفق على أولاده، يجبر على ذلك، ويحبس بخلاف سائر الدّيون، فإن الوالد وإن علا لا يحبس بديون الأولاد، وفي هذا الدّين يحبس.

والفرق وهو أن الامتناع عن الإنفاق ههنا إتلاف النفس، والأب يستوجب العقوبة عند قصده إتلاف الولد، كما لو عدا على ابنه بالسّيف كان للابن أن يقتله.

بخلاف سائر الديون فإن كان الأب عاجزًا عن الكسب لما به من الزّمانة، أو كان مقعدًا يتكفف النّاس وينفق عليهم، هكذا ذكر في نفقات الخصّاف رحمه الله، ومن المتأخرين

(2)

من قال: تكون نفقة الأولاد في هذه الصّورة في بيت المال؛ لأنّه إذا كان بهذه الصفة تكون نفقته في بيت المال، فكذا نفقة أولاده، وقال: الصّحيح الذي به قوة العمل إلا أنّه لا يحسن العمل، فنفقته على الاب؛ لأنّه إذا كان لا يحسن العمل فالنّاس لا يأمرونه العمل، فصار هو كالعاجز عن الكسب.

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله

(3)

: الرجل الصحيح قد لا يقدر على الكسب لحرفة، أو لكونه من أهل البيوتات فيكون عاجزاً عن الكسب.

فإذا كان هكذا كانت نفقته على الأب، وهكذا قالوا في طالب العلم إذا كان لا يهتدي إلى الكسب، لا تسقط نفقته عن الأب بمنزلة الزمن والأنثى، هذا كلّه من «الذّخيرة»

(4)

.

‌فصل

وعلى الرجل أن ينفق على أبويه وأجداده وفي «المبسوط» : ويجبر الرجل الموسر على نفقة أبيه وأمّه، إذا كانا محتاجين؛ لقوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}

(5)

نهى عن التأفيف لمعنى الأذى، ومعنى الأذى في منع النّفقة عند حاجتهما أكثر، ولهذا يلزمه نفقتهما وإن كانا قادرين على الكسب؛ لأن معنى الأذى في الكدّ والتّعب أكثر منه في التأفيف قال عليه السلام:«إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده لمن كسبه فكلوا من كسب أولادكم»

(6)

(7)

.

(1)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 566).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 569).

(3)

ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/ 64).

(4)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 573).

(5)

سورة الإسراء: 23.

(6)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده (3528)، وأخرجه الترمذي في سننه، أبواب الأحكام، باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده (1358)، وقال:"هذا حديث حسن"(3/ 32)، والنسائي في الصغرى، كتاب البيوع، باب الحث على الكسب (4449)، وابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب الحث على الكسب (2137)، والحاكم في المستدرك (2294)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"(2/ 52).

(7)

المبسوط للسرخسي (5/ 222).

ص: 147

وَشُرِطَ الْفَقْرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَا مَالٍ، فَإِيجَابُ نَفَقَتِهِ فِي مَالِهِ، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح أدب القاضي للخصاف أن الأب إذا كان كسوباً [والابن أيضاً كسوباً]

(1)

يجبر الابن على الكسب والنّفقة على الأب.

وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله

(2)

في شرح أدب القاضي للخصّاف: أنّه لا يجبر الابن على نفقة الأب إذا كان الأب قادرًا على الكسب، واعتبره بذي الرحم المحرم، فإنّه لا يستحق النفقة في كسب قريبه ولا على قريبه الموسر إذا كان هو كسوباً؛ وهذا لأنّ استحقاق النفقة على الأقارب عند الفقر والحاجة، فإذا كان قادراً على الكسب [كان غنياً باعتبار الكسب]

(3)

، فلا ضرورة إلى إيجاب النفقة على الغير، ثم على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يحتاج إلى الفرق بين [392/ ب] نفقة الولد وبين نفقة الوالد، فإنّ الولد إذا كان بالغًا وهو قادر على الكسب لا يجب على الأب نفقته، والفرق [هو]

(4)

أن استحقاق نفقة الأقارب باعتبار الحاجة، وللأب زيادة فضيلة على الولد في الاستحقاق باعتبار الحاجة، أيّ حاجة كانت ضروريّة أو غير ضروريّة، ألا ترى أنّ الاب يستحق استيلاد جارية الولد، والولد لا يستحق استيلاد جارية الأب، ثم لو شرط ههنا عجز الأب عن الكسب لاستحقاق النّفقة على الابن، كما شرط في حق الأب لوقعت المساواة بينهما في الاستحقاق بسبب الحاجة، وهذا ممّا لا سبيل إليه.

فالحاصل أن في نفقة الوالدين يعتبر الفقر لا غير، على ما هو ظاهر الرواية إلا على قول شمس الأئمة الحلواني رحمه الله كذا في «الذخيرة»

(5)

.

لِأَنَّ النَّفَقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِرْثِ بِالنَّصِّ، وهو قوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(6)

والإرث لا يجري بين المسلم والكافر، فلا تجب نفقة الكافر؛ لأنّ النفقة بناء على الإرث.

وأمّا العتق فمبني على القرابة المحرّمة للقطع، وهي ذو الرحم المحرّم بالحديث، وهو قوله:«من ملك ذا رحم محرم يعتق عليه»

(7)

.

والمعنى هو أنّ القطيعة في ملك اليمين أعلى، أي: أقطع للرحم فكان لإزالته طريقان عند الملك اتحاد الملة، وعدم اتحاد الملّة لإزالة قطع الرحم الأدنى طريق واحد وهو القرابة مع اتحاد الملة، إظهاراً لانحطاط رتبته عن الأعلى.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 578).

(3)

سقطت من (ب).

(4)

سقطت من (ب).

(5)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 578)

(6)

سورة البقرة: 233.

(7)

سبق تخريجه.

ص: 148

(وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ أَبَوَيْهِ أَحَدٌ)، أي: أحد من الأخوة والأخوات والأعمام وغيرهم.

وأمّا الأولاد فإنّهم يشتركون في إنفاق والديهم.

وَهِيَ، أي النفقة.

عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالسَّوِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، احتراز عن رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله

(1)

، أنّ النفقة بين الذكور والإناث أثلاثاً للذكر مثل حظ الأنثيين، على قياس الميراث وعلى قياس نفقة ذوي الأرحام، وجه الرواية الأخرى أن استحقاق الأبوين باعتبار التأويل وحق الملك لهما في مال الولد، كما قال عليه السلام:«أنت ومالك لأبيك»

(2)

، وفي هذا الذكور والإناث سواء، ولهذا يثبت لهما هذا الاستحقاق مع اختلاف الملة، وإن انعدم التوارث بسبب اختلاف الملة.

فإن كان الولد معسراً وهما معسران -أيضاً- فليس عليه نفقتهما؛ لأنهما لما استويا في الحال لم يكن أحدهما بإيجاب نفقته على صاحبه بأولى من الآخر، إلا أنّه روي عن أبي يوسف رحمه الله قال: إذا كان الأب زمِنًا وكسب الابن لا يفضل عن نفقته، فعليه أن يضم الأب إلى نفسه؛ لأنّه لو لم يفعل ضاع الأب، ولو فعل لا يخشى الهلاك على الولد، فالإنسان لا يهلك على نصف بطنه، كذا في «المبسوط»

(3)

.

(وَالنَّفَقَةُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ) أي واجبة، وفي «المبسوط» ويجبر على نفقة كل ذي رحم محرّم منه الصغار والنساء وأهل الزمانة من الرجال إذا كانوا ذوي حاجة عندنا.

وقال الشافعي رحمه الله: لا تجب النفقة على غير الوالدين والمولودين، وقال ابن أبي ليلى: تجب النفقة على كل وارث محرمًا كان أو غير محرم، واستدلّ بظاهر قوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(4)

.

ولكنّ بيّنا أن في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: {وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك} والشّافعي يبني على أصله، فإن عنده استحقاق الصّلة باعتبار الولادة، دون القرابة حتّى لا يعتق أحد على أحد أنّ الوالدان والمولودين عنده، وجعل قرابة الأخوة في ذلك كقرابة بني الأعمام، فكذلك في حق استحقاق النفقة، وفيما بين الآباء والأولاد الاستحقاق بعلّة الحرية، دون القرابة وحمل قوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(5)

على نفي المضارّة دون النّفقة وكذلك مرويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولكنّا نستدل بقول عمر وزيد

(6)

رضي الله عنهما، فإنّهما قالا: وعلى الوارث مثل ذلك من النفقة، ثم نفي المضارّة لا يختص به الوارث، بل يجب ذلك على غير الوارث، كما يجب على الوارث على أنّ الكناية في قوله تعالى: ذلك يكون عن الأبعد، وإذا أريد به الأقرب يقال: هذا فلمّا قال ذلك عرفنا أنّه ينصرف إلى قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(7)

، والمعنى فيه أن القرابة القريبة يُفترض وصلها ويحرم قطعها، قال عليه السلام:«ثلاث معلّقات بالعرش النعمة والأمانة والرحم، تقول النعمة: كفرت ولم أشكر، وتقول الأمانة: خونت ولم أود، وتقول الرحم: قطعت ولم أوصل»

(8)

، وقد جعل الله قطيعة الرحم من الملاعن بقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ}

(9)

ومنع النفقة مع يسار المنفق، وصدق حاجة المنفق عليه يؤدي إلى قطيعة الرحم، ولهذا اختصّ به ذو الرّحم المحرم؛ لأنّ القرابة إذا بعدت لا يفرض وصلها ولهذا لا تثبت المحرمية بها

(10)

.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 222).

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده (2291)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب النفقات، باب نفقة الأبوين (15749) وقال:"هذا منقطع وقد روي موصولا من أوجه أخر ولا يثبت مثلها"(7/ 789).

(3)

المبسوط للسرخسي (5/ 222).

(4)

سورة البقرة: 233.

(5)

سورة البقرة: 233.

(6)

زيد بْن ثابت بْن الضّحّاك بْن زَيْد بْن لوذان بْن عَمْرو بْن عَبْد بْن عوف بْن غنم بْن مَالِك بْن النجار الأنصاري الخزرجي ثم النجاري. أمه النوار بنت مالك بْن معاوية بْن عدي بْن عامر بْن غنم بْن عدي بْن النجار، كنيته: أَبُو سَعِيد، وقيل: أَبُو عَبْد الرَّحْمَن، وقيل: أَبُو خارجة. وكان عمره لِمَا قدم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المدينة إحدى عشرة سنة، وكان يَوْم بعاث ابن ست سنين، وفيها قتل أبوه، واستصغره رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْم بدر، فرده، وشهد أحدًا، وقيل: لم يشهدها، وَإِنما شهد الخندق أول مشاهده، وكان زيد يكتب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الوحي وغيره، وتوفي سنة 45 هـ. ينظر: أسد الغابة (2/ 126).

(7)

سورة البقرة: 233.

(8)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، باب صلة الرحم (7564).

(9)

سورة النساء: 52.

(10)

المبسوط للسرخسي (5/ 223).

ص: 149

ويجب ذلك على قدر الميراث؛ لأنّ الله تعالى أوجب النفقة باسم الوارث، فيجب التقدير به.

ولهذا قلنا: أنّ الرجل إذا أوصى لورثة بني فلان وله بنون وبنات كانت الوصية لهم على قدر الميراث.

ولو أوصى لولد فلان كان الذكر والأنثى فيه على السّواء، فعلى هذا تخرّج جنس هذه المسائل كذا في «الذخيرة»

(1)

.

ثم معنى قوله: (َيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى قدر الْمِيرَاثِ) هو أنّه إذا ثبت الميراث فيما بين ذوي الرحم المحرّم ولم يتجاوز الميراث منهم إلى غير ذي الرحم المحرم، كانت النفقة على قدر الميراث كما ذكر.

وأمّا إذا تجاوز الميراث عنهم إلى غيرهم، كان وجوب النفقة على ذي الرّحم المحرّم، الذي لم يرث على غير ذي الرحم المحرم الذي هو وارث.

بيان ذلك فيما ذكره من «المبسوط» ، فقال: وإن كان للولد خال موسر وابن عمّ [موسر]

(2)

فالنّفقة على الخال دون ابن العم، [وإن كان الميراث لابن العمّ]

(3)

؛ لأنّ النّفقة على ذي الرحم المحرم، وابن العم ليس بمحرم فلا نفقة عليه، والخال محرم فيكون النّفقة عليه إذا كان موسراً

(4)

.

قلت: ومن هذا يُعلم أنّ صفة ذي الرّحم المحرّم أعرق وأرسخ في وجوب النفقة من صفة الوراثة الثابتتين في قوله: (وعلى الوارث ذي الرّحم المحرم) في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه.

فإن قيل: هذه النفقة مبنيّة على الميراث بالنصّ، فعلى هذا كان ينبغي أن يجب النفقة على ابن العم لوجود الإرث، ولا يجب على الخال لعدم الإرث.

قلنا: نفقة ذوي الأرحام واجبة لتحقيق الصّلة، وتحقيق صلة قرابة ابن العم ليس بواجب بدليل جواز المناكحة في حقّه، بخلاف الخال فإنّ صلته واجبة والنّفقة منها، فيجب عليه.

وأمّا بيان ترتيب وجوب قدر النّفقة على قدر الميراث في ذوي الرّحم المحرّم في جميع الروايات ما ذكره في «المبسوط» ، فقال: وإذا كان الرجل زمنًا معسراً، وله ابن معسر صغير، أو كبير زمن، وللرجل ثلاثة أخوة متفرّقون أهل يسار، فنفقة الرجل تكون على أخيه لأب وأمّ، وعلى أخيه لأمّ أسداساً -بحسب ميراثهما-، فأمّا نفقة الأولاد فعلى الأخ من الأب والأمّ خاصّة؛ لأنّ ميراث الولد عند عدم الأب له خاصة، فإنّه عمّ لأب وأمّ، فلا يرث معه العمّ لأب ولا العمّ لأمّ.

والحاصل أن من يكون محتاجاً يجعل في حكم المعدوم، فتكون النّفقة بعده على من يكون وارثاً بحسب الميراث، فإذا كان الولد ابنةً كانت نفقة الأب والابنة على الأخ من الأب والأم خاصة، أمّا نفقة الابنة فلمّا بينا، وأمّا نفقة الأب؛ فلأنّ الوارث ههنا الأخ لأب وأم خاصة؛ لأن الأخ لأب وأم يرث مع الابنة، والأخ لأمّ لا يرث مع البنت، فلا حاجة إلى أن تجعل البنت كالمعدومة، ولكن يعتبر صفة الوراثة مع بقائها، بخلاف الابن فإنّه لا يرث معه أحد من الأخوة، فلابدّ من أن تجعل كالمعدوم، وإذا جعل كذلك فميراث الابن يكون بين الأخ لأب وأمّ والأخ لأمّ أسداساً فالنّفقة عليهما بحسب ذلك

(5)

.

(1)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 584).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

سقطت من (ب).

(4)

المبسوط للسرخسي (5/ 227).

(5)

المبسوط للسرخسي (5/ 227).

ص: 150

وذكر في «الذخيرة»

(1)

: فالحاصل أنّ هذه النفقة لا تجب إلا على ذي رحم محرّم، وهو أهل للإرث سواء كان وارثاً في هذه الحالة أو لم يكن، وعند الاستواء في المحرميّة وأهليّة الإرث، يترجّح من كان وارثاً حقيقة في هذه الحالة، حتّى أنّه إذا كان له عم وخال فالنّفقة على العم، لأنّهما استويا في المحرميّة، ويرجح العمّ في هذه الحالة على الخال بكونه وارثاً حقيقة، وكذلك إذا كان له عمّ [وعمة]

(2)

وخالة، فالنّفقة على العم الموسر لا غير لما بيّنا، ولو كان العم معسراً فالنّفقة على العمّة والخالة أثلاثاً على قدر ميراثهما، ويجعل العمّ كالميّت.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ، أي: بين نفقة الولد الصّغير وبين نفقة الولد الكبير أكبر من حيث تجب نفقة الولد الصّغير بجملتها على الأب لا يشاركه فيها أحد.

وأمّا نفقة الولد الكبير [الزَمِنْ]

(3)

فثلثاها على الأب لا كلّها، والثلث على الأم كما في الإرث، وهو أن الأب لمّا [393/ ب] كانت ولايته كاملة على الصّغير صار الصّغير بمنزلة نفسه، وغير الأب لا يشارك الأب في النّفقة على نفسه، فكذا في النّفقة على الصّغير، فأمّا البالغ فليس للأب عليه ولاية ليصير في معنى نفسه، فاعتبر بسائر المحارم، فيكون نفقته باعتبار ميراثه، وميراثه يكون بينهما أثلاثاً.

فكذا النّفقة أخماساً على قدر الميراث، ثلاثة الأخماس لأخت لأب وأمّ، والخمس لأخت لأم، والخمس لأخت لأب.

فكذا النّفقة على هذا التّفصيل، غير أنّ المعتبر أهليّة الإرث قيّد به؛ لأنّه لو لم يكن أهلاً للإرث بأن كان مخالفاً لدينه لا تجب النّفقة، إلا إحرازه قيّد به؛ لأنّه لا يعتبر الإحراز في هذا الباب، كما في الخال مع ابن العمّ على ما ذكرنا، فإنّ الخال لا يحرز الميراث مع وجود ابن العم، ومع ذلك كانت النّفقة على الخال.

وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ، أي اعتبار الإرث.

وذكر في «مبسوط شيخ الإسلام»

(4)

: وإنّما قلنا: أن سبب استحقاق النفقة المحرمية، وقيام سبب الإرث بينهما، لا جريان الميراث بينهما حالة النّفقة؛ لأنّه لا يتصوّر جريان الميراث حالة القضاء بالنّفقة؛ لأنّ القضاء بالنّفقة حال حياة القريب والتّوارث لا يجري حالة الحياة، وقد وجد في المحرميّة قيام سبب الإرث.

(1)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 584).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

في (ب): إذا كان زَمِنَاً.

(4)

ينظر: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/ 501).

ص: 151

ألا ترى أنّ ابن العم لو مات قبل الخال كان الميراث للخال، فسبب الإرث قائم والأهليّة باقية؛ لأنّهما مسلمان، ولكن جريان الإرث عدم، وهو ليس بشرط، والفتوى على الأوّل، وهو أن اليسار مقدّر بالنّصاب، نصاب حرمان الصّدقة، وهو أن يملك ما فضل عن حاجته ما يبلغ مائتي درهم فصاعدًا، وهو الصّحيح؛ وهذا لأنّه لم يشترط لوجوب صدقة الفطر غنى موجب للزكاة، وإنّما يشترط غنى محرّم للصدقة، فكذا في حق إيجاب النّفقة؛ لأنّ النفقة أشبه بصدقة الفطر منه بالزّكاة؛ لأن في صدقة الفطر معنى المؤنة، ومعنى الصّدقة، فإذا لم يشترط لصدقة الفطر غنى موجب للزكاة، وهي صدقة من وجه ومؤنة من وجه، فلأن لا يشترط لوجوب النفقة غنًى موجب للزكاة وأنّها مؤنة من كلّ وجه كان أولى، كذا في «الذخيرة»

(1)

.

(قُضِيَ فِيهِ بِنَفَقَةِ أَبَوَيْهِ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ، وهو قوله:(وَلَا يَقْضِي بِنَفَقَةٍ فِي مَالِ غَائِبٍ إلَّا لِهَؤُلَاءِ)، إلى قوله:(وَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةً لَهُمْ).

(وَإِنْ بَاعَ الْعَقَارَ لَمْ يَجُزْ)، ولا يجوز للأب بيع عقار الولد، عند أبي حنيفة رحمه الله إلا إذا كان الولد صغيراً.

وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ، أي في العروض والعقار جميعًا.

وَهُوَ الْقِيَاسُ، فوجه القياس في ذلك هو أن ولاية الأب تنقطع ببلوغ الصبي رشيدًا، إلا فيما يتبعه تحصينًا لولده الغائب، فإنّ الابن إذا بلغ وهو غائب فللأب ووصيّ الأب بيع عروضه تحصينًا على الغائب، [وههنا]

(2)

هو لا يبيع تحصينًا على الغائب، وإنّما يبيع لنفسه وليست له هذه الولاية.

ألا ترى أنّ استحقاق الأمّ النّفقة كاستحقاق الأب، ثم الأم لا تبيع عروض الولد في نفقتها، فكذلك للأب ولكن استحسن أبو حنيفة

(3)

رحمه الله فقال: ولاية الأب وإن زالت بالبلوغ، ولكن نفى أثرها ولهذا صحّ منه الاستيلاد في جارية الابن، فلبقاء أثر ولايته كان له أن يبيع العروض؛ لأنّ بيع العروض من الحفظ، فإنّ العين يُخشى عليها الهلاك، وحفظ الثمن أيسر، وولاية الحفظ تثبت لمن يثبت له ولاية التصرف، كالوصي في حق الوارث الكبير له ولاية الحفظ وبيع العروض.

فكذلك للأب ذلك، وبعد البيع الثمن من جنس حقّه، فله أن يأخذ منه مقدار النفقة، فأمّا بيع العقار فليس من الحفظ؛ لأنّه محصن بنفسه، فلا يملك ذلك إلا بمطلق الولاية وهو عند صغر الولد أو جنونه، وإذا باع عند ذلك [أخذ]

(4)

من الثمن نفقته؛ لأنّه من جنس حقّه.

(1)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 584).

(2)

في (ب): ومن ههنا.

(3)

ينظر: المبسوط للسرخسي (5/ 226).

(4)

سقطت من (ب).

ص: 152

بخلاف الأم وسائر الأقارب، فإنّه لم يكن لهم ولاية حفظ المال فلهذا لم يجز منهم بيع العروض، كذا في «المبسوط»

(1)

و «الذخيرة»

(2)

.

ثم ذكر في «الذخيرة»

(3)

فقال: ثم ذكر ههنا أن الأب يملك بيع منقول ابنه الكبير الغائب والأمّ لا تملك، وذكر في الأقضية جواز بيع الأبوين، وهكذا ذكر القدوري في شرحه، فإنّه أضاف البيع إليهما.

فأمّا أن يكون في المسألة روايتان، وفي رواية الأقضية والقدوري

(4)

تملك الأمّ البيع كالأب؛ لأنّ معنى الولادة يجمعها، وهما في استحقاق النفقة على السّواء، وأين كانت المسألة على الاتفاق بأنّ الأمّ لا تملك، فتأويل ما ذكر في الأقضية والقدوري أنّ الأب هو الذي يبيع، لكن لمنفعتها فأضاف البيع إليهما من حيث أن منفعة البيع بعده إليهما، وهو الظّاهر بأن الأم لا تملك، ولكن بعدما باع الأب فالثمن يصرف إليهما في نفقتهما.

قوله رحمه الله: (إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي في الِاسْتِدَانَةِ) استثناء من قوله: (فَمَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ)، أي: في إذن القاضي بالاستدانة، أي لا يسقط نفقة من دين الاستدانة وإن كانت الاستدانة في نفقة ذوي الأرحام، قلت: كما ذكر الفرق هنا بين نفقة الزوجة وبين نفقة ذوي الأرحام، حيث لا تسقط نفقة الزوجة فيما مضى بعد قضاء القاضي بها، وتسقط نفقة ذوي الأرحام، كذلك ذكر الفرق بينهما في «الذخيرة»

(5)

من وجه آخر في موضعين:

أحدهما: هو أنّ القاضي إذا فرض للمرأة عشرة دراهم نفقة شهر، فمضى الشهر وقد بقي من العشرة شيء، حيث يفرض لها القاضي عشرة أخرى، ولو كان مثل هذا في الأقارب بأن بقي شيء من الدّراهم، ومضت المدة لا يقضي أخرى، والفرق أن نفقة الأقارب إنّما تستحق باعتبار الحاجة، وما بقي شيء من الدّراهم لا يحتاج إلى الأخرى، أمّا نفقة المرأة إنما تستحق عوضاً عن الاحتباس في بيت الزّوج من وجه، والقاضي إنّما جعل هذا المال عوضاً عن احتباس مقدّر، وقد انقضى ذلك فجاء احتباس آخر لم تأخذ بإزائه عوضاً فيقضي لها بأخرى.

والثاني: وهو أنّ القاضي إذا فرض للمرأة الكسوة والنّفقة لوقت مقدّر، فهلكت الكسوة أو النّفقة أو سرقت أو خرقت الكسوة أو أكلت النفقة قبل الوقت، ليس عليه أن يكسوها وينفق عليها أخرى.

(1)

المبسوط للسرخسي (5/ 226).

(2)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 574).

(3)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 574).

(4)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 424).

(5)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 535).

ص: 153

وأمّا إذا فرض الكسوة أو النفقة للأقارب، فضاعت من أيديهم قبل مضي الوقت، فإنّ القاضي يفرض لهم مرّة أخرى.

والفرق ما ذكرنا هو أن الأقارب إنّما تستحق النفقة باعتبار الحاجة، ولهذا لا تستحق مع الغنى، ومتى ضاعت الكسوة والنّفقة قبل الوقت فقد تجددت الحاجة.

وأمّا المرأة فلا تستحق باعتبار الحاجة، ولهذا تستحق المرأة النّفقة والكسوة مع الغنى، وإنّما تستحق على وجه الكفاية عوضاً عن احتباسها في بيت الزّوج، وبالضياع قبل مضي المدّة لا يتبين أنّها لم تكن كافية في تلك المدّة، ولم يبين أنه لم يكن عوضاً [والله أعلم]

(1)

.

‌فصل

ظاهر مذهب أصحابنا رحمه الله أنّ الإنسان لا يجبر على الإنفاق على ملكه سوى الرقيق، الحيوانات وغير الحيوانات في ذلك على السّواء، غير أن في الحيوانات فَيُفْتَى فيما بينه وبين الله تعالى بالإنفاق، وفي غير الحيوانات كالدّور والعقار لا، فَيُفْتَى به إلا أنّه إذا كان فيه تضييع المال يكون مكروهًا

(2)

.

بخلاف نفقة الزّوجة، والفرق بين نفقة الرقيق وبين نفقة الزّوجة من وجهين:

أحدهما: أنّ الرقيق وإن كان صغيراً تجب النفقة على المولى، والزّوجة إن كانت صغيرة، ولا تُشتهى لا تجب النفقة على الزّوج.

والثاني: أنّ المولى إذا أبى الإنفاق على الرقيق يجبر على البيع، فالزوج إذا عجز عن الإنفاق على المرأة لا يفرق بينهما.

أمّا الفرق الأوّل فقد ذكرناه.

وأمّا الفرق الثاني فهو أنّ المولى إذا أجبر على البيع دفعًا للظلم عن المملوك يزول ملكه إلى خلف، وهو الثمن ولو لم يجبر بفوت حق المملوك في النّفقة لا إلى خلف؛ لأنّ نفقة المملوك لا تصير دينًا على المولى بحال من الأحوال، فكان الجبر على البيع أقلّ ضررًا، أمّا في باب النكاح لو أُمر الزّوج بالتفريق دفعًا للظلم عن المرأة بفوت ملك الزّوج بغير خلف، ولو لم يجبر بفوت حق المرأة في الحال إلى خلف؛ [لأنّ]

(3)

نفقة الزّوجة تصير دينًا بقضاء القاضي، وكان ما يلحق الزّوج من الضرر أكثر، فكان أولى بالدّفع، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجبر، وهو قول الشافعي رحمه الله، وقاساه على الرقيق، وإنّا نفرّق بينهما وهو أنّ إجبار القاضي المولى على الإنفاق على مملوكه نوع قضاء، والقضاء لابدّ له [من مقضي له]

(4)

، وهو من أهل الاستحقاق وهذا يوجد في الرقيق؛ لأنّ [394/ ب] الرقيق من أهل أن يستحقّ حقوقاً على المولى وعلى غيره في الجملة.

(1)

سقطت من (أ).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 427).

(3)

في (ب): فإن.

(4)

سقطت من (ب).

ص: 154

ألا ترى أن بالكتابة يستحق حقوقاً على المولى، وإن كان مملوكًا، فأمّا غير الرقيق فلا يستحق حقوقاً على المولى، فلا يصحّ أن يكون مقضيًّا له، فانعدم شرط القضاء فينعدم القضاء، هذا كلّه من «الذخيرة»

(1)

.

وذكر في التجنيس: رجل له عبد لا ينفق عليه، هل للعبد أن يأكل من مال مولاه؟ فهو على وجهين: أمّا إن كان قادراً على الكسب أم لا، ففي الوجه الأوّل ليس له ذلك.

وفي الوجه الثاني: له ذلك إذا أعتق عبدًا صغيراً أو أمة لا تجب النفقة على المعتق؛ لأنّه ليس بذي رحم محرّم منه، وإن كان عصبة، فصار كابن العمّ.

وأمّا في الدّابة فذكر الخصاف رحمه الله

(2)

: الفرق بين ما إذا كانت الدّابة كلّها مملوكة لرجل فإنّه لا يجبره القاضي على الإنفاق، ولو كانت مشتركة يقول القاضي للآبي إما أن تبيع نصيبك أو تنفق عليه، رعاية لجانب الشريك؛ وهذا لأنّ الشريك من أهل الاستحقاق وإن لم تكن الدّابة من أهل ذلك، والله أعلم.

كتاب العتاق

ذكر العتاق بعد الطّلاق؛ لأنهما مبنيان على الإسقاط والسّراية واللزوم، حتّى صحّ التعليق وصار إعتاق البعض كإعتاق الكلّ، إمّا إفساداً في الملك أو تحقيقاً للعتق، ولم يقبل الفسخ بعد الثبوت، كالطّلاق إلا أنّه قدم الطّلاق على العتاق، مع أنّه غير مندوب إليه، والعتاق مندوب إليه بمقابلة ذكر النكاح على ما ذكرنا.

ثم له محاسن كثيرة أو هو عبارة عن إثبات القوة الشرعية بإزالة الضعف الشرعي في بني آدم، وحسن هذا لا يشكل على عاقل، ومن أراد أن يعلم حسنه فليعتبر بإزالة الضعف الحقيقي وإثبات القوة الحقيقية؛ ولأنّه بالإعتاق صار كأنّه أحياه لما أنّ الرق من آثار الكفر، والكفر موت حكميّ، فكان إزالته إحياء حكميًا، والإحياء محمود، ولأنّ العبد بسبب الرق كان ملحقاً بالجمادات حتّى عرض في المعرض، وبالإعتاق أخذ صفة الآدمية حتّى صار أهلاً للشهادة والولاية والتصرف في الأموال، ولأنّ الإعتاق يصير وسيلة إلى قضاء حق الوالدين، فإنّ الولد لا يقدر على قضاء حق الوالدين إلا أن يصنع بهما مثل صنيعهما به من التربية والإنفاق، ولا يقدر على ذلك إلا بحصول العتق له.

ثم يحتاج بعد ذلك إلى معرفة خمسة أشياء؛ معرفة تفسير العتق لغة وشرعًا وسببه وشرطه وركنه وحكمه وصفته.

أمّا تفسيره لغة: فعبارة عن القوة، يقال: عتق الفرخ إذا قوي وطار عن وكره، وسمّى القديم عتيقاً لقوة سبقه، والكعبة البيت العتيق لقدمها؛ لأنّه أوّل بيت وضع للنّاس، أو لقوتها؛ لأنّها لم يستولي عليها جبار.

(1)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 589).

(2)

ينظر: البناية شرح الهداية (5/ 713).

ص: 155

وأمّا تفسيره شرعًا: فهو عبارة عن قوّة حكمية يصير بها أهلاً للقضاء والشهادة والولايات.

وأمّا سببه فنوعان في الواجبات ما شغل ذمّته بوجوب الإعتاق من النذور والكفارات، وفي غير الواجبات هو ملك القريب وغيره، والنشاط الدّاعي إليه في نفسه من طلب الثّواب أو طلب رضاء غيره.

وأمّا شرطه: فأن يكون المُعتق حرًّا بالغًا عاقلاً مالكًا ملك اليمين.

وأمّا ركنه: فهو ما يثبت به العتق وهو نوعان صريح وكناية.

وأمّا حكمه: الخاص فهو زوال الرق والملك عن المحلّ.

وأمّا صفته: فإنّه مندوب إليه لكنّه ليس بعبادة حتى صحّ من الكافر.

وذكر في «فتاوى قاضي خان» رحمه الله أسباب العتق كثيرة منها الإعتاق.

ومنها دعوى النسب

(1)

.

ومنها الاستيلاد، ومنها ملك القريب، ومنها العبد المسلم إذا زالت يد الكافر عنه، بأن اشترى الحربي في دارنا عبدًا مسلمًا، فدخل به في دار الحرب يعتق، في قول أبي حنيفة رحمه الله

(2)

.

ومنها إذا أقرّ بحرية عبد إنسان ثم ملكه، والإعتاق على وجوه: مرسل، ومعلّق، ومضاف إلى ما بعد الموت، وكل ذلك يتنوّع إلى نوعين ببدل وبغير بدل.

وألفاظ العتق ضربان صريح وكناية.

[قوله]

(3)

: الْإِعْتَاقُ تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، ثم الدليل على أنّه مندوب إليه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، أمّا الكتاب فقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}

(4)

إلى قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ

(18)}

(5)

جعل فك الرقبة من خصال أصحاب اليمين، ومن نظر في نظم هذا الكلام حق النّظر علم علوّ مرتبة الإعتاق، حيث ذكر مجملاً أولاً على وجه لا يعرف أحد كنهه، بقوله:{وَمَا أَدْرَاكَ}

(6)

، ثم ذكر مفصلاً ثانياً بقوله:{فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}

(7)

على وجه البيان لذلك المجمل.

وأمّا السنة فهي ما ذكر في الكتاب، حيث جعله سبب النجاة من النّار التي هي معدّة للكافرين، بقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ

(131)}

(8)

والمناسبة فيه هي أن المعتق لما رفع بالإعتاق عنه أثر الكفر في الدنيا، رفع الله عنه عقوبة أهل الكفر في الآخرة، وهي النّار، ولمّا ذكر في الحديث مقابلة العضو بالعضو في حق النجاة عن النّار استحسنوا للرجل أن يعتق العبد، وللمرأة أن تعتق الأمة؛ ليتحقق مقابلة الأعضاء بالأعضاء وفي حديث براء ابن عازب

(9)

رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم «لئن أوجزت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، فك الرقبة وأعتق النسمة» فقال: أليسا واحدًا يا رسول الله، فقال:«لا عتق النسمة أن يعتقها، وفكّ الرقبة أن تعين في ثمنها»

(10)

.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (6/ 4).

(2)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (4/ 57).

(3)

سقطت من (أ).

(4)

سورة البلد: 12 - 13.

(5)

سورة البلد: 18.

(6)

سورة البلد: 12.

(7)

سورة البلد: 13.

(8)

سورة آل عمران: 131.

(9)

البراء بن عازب بن الحارث الخزرجي، أبو عمارة: قائد صح أبي من أصحاب الفتوح، أسلم صغيرا وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، أولها غزوة الخندق، ولما ولي عثمان الخلافة جعله أميرا على الري (بفارس) سنة 24 هـ، عاش إلى أيام مصعب ابن الزبير فسكن الكوفة واعتزل الأعمال. وتوفي في زمنه. روى له البخاري ومسلم 305 حديثاً، توفي سنة 71 هـ. ينظر: أسد الغابة (1/ 205)، الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 411).

(10)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب فضل من يصل ذي الرحم الظالم (69)، وأحمد في مسنده (18647)، وابن حبان في صحيحه، كتاب البر والإحسان، باب ما جاء في الطاعات وثوابها (374)، والدارقطني في سننه، كتاب الزكاة، باب الحث على إخراج الصدقة وبيان قسمتها (2055)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب العتق، باب فضل إعتاق النسمة وفك الرقبة (21313)، والحاكم في المستدرك، كتاب المكاتب (2861) وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"(2/ 236).

ص: 156

وأمّا الإجماع فظاهر.

وأمّا المعقول فإنّه تمكين المكلّف من العبادة أجمع، والتأمل في آيات الآفاق والأنفس، فكان مندوباً إليه إلى هذا أشار في «المبسوط»

(1)

و «المنشور»

(2)

وغيرهما.

وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الْبَالِغُ: أَعْتَقْت وَأَنَا صَبِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، يستدل بهذه المسألة على أن الصبا منافية للإعتاق، فإنّه لما اشتد الإعتاق إلى تلك الحالة صحّ لإسناده إلى حالة منافية للإعتاق، فكان القول قوله؛ لأنّه منكر للإعتاق والقول قول المنكر.

قوله (وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ مُعْتَقٌ أَوْ عَتِيقٌ) إلى آخره، ذكر في «المبسوط»: ثم الألفاظ التي يحصل بها العتق نوعان: صريح وكناية، فالصّريح لفظ العتق، والحرية والولاء ويستوي إن ذكرَ هذه الألفاظ بصيغة الخبر أو الوصف أو النداء

(3)

.

أمّا صيغة الخبر فأن يقول: قد أعتقتك أو حررتك، وأما صيغة الوصف فأن يقول: أنت حر أو أنت عتيق، والمنادي قوله: يا حرّ يا عتيق.

وكذلك لو قال لعبده: هذا مولاي إلى آخره.

وممّا يلحق بالصريح ههنا قوله لمملوكه وهبت نفسك منك، أو بعت نفسك [منك]

(4)

، فإنّه يعتق به، وإن لم ينو؛ لأن موجب هذا اللفظ إزالة ملك، إلا أنّه أوجبه لإنسان آخر يكون مزيلاً لملكه إليه، فيتوقف على قبوله، وإذا أوجبه للعبد يكون مزيلاً بطريق الإسقاط لا إليه، فلا يحتاج إلى قبوله ولا يرتد برده.

وذكر في «الإيضاح» و «الذخيرة»

(5)

وغيرهما: فالصّريح ما وضع له، والوضع يغني عن النيّة وذلك لفظان، الحرية والعتق، وهما لفظان موضوعان لا يشترط فيهما النية؛ لأن النية إنما تعتبر فيما إذا كان مراد المتكلّم مشتبهًا.

قوله: وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ، أراد به قوله في مسألة يا ابني إلا أنّه إذا كان يوصف إلى آخره، ثم أحال هناك -أيضاً- إلى هنا، بقوله: عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وكذلك عكسه، بأن ناداه بقوله: يا حرّ وقد لقبه آزاد.

بِخِلَافِ قَوْلِهِ: طَلَّقْتُك، أي: في قوله أطلقتك، يثبت العتق ولا يثبت في طلقتك، وإن كانا سواء في اللغة؛ لأنّ قوله طلقتك صار صريحًا في الطّلاق عن النكاح، فلا يثبت به العتق على ما يأتي بيانه، وأمّا أطلقتك فلم يستعمل فيه، ثم بينه وبين قوله: خليت سبيلك مناسبته، فجرى مجراه؛ لأن للمولى على المكاتب سبيلاً، من حيث المطالبة ببدل الكتابة، حتّى إذا انتفى ذلك بالبراءة عنه عتق، كذا في «المبسوط»

(6)

.

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 60).

(2)

المنشور في فروع الحنفية، لناصر الدين أبي القاسم محمد بن يوسف السمرقندي، توفي 556 هـ، لم يطبع فيما أعلم. ينظر: تاج التراجم لابن قُطْلُوْبَغَا الحنفي (ص 338)، كشف الظنون (2/ 1861).

(3)

المبسوط للسرخسي (7/ 62).

(4)

سقطت من (أ).

(5)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (3/ 209).

(6)

المبسوط للسرخسي (8/ 33).

ص: 157

(هَذَا ابْنِي وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ عَتَقَ) قبل قوله: وثبت على ذلك، خرج اتفاقاً، ولهذا لم يذكر هذا اللفظ في «المبسوط» .

وقيل: ذكر في شرح بندار الرازي في شرح القدوري

(1)

أنّه شرط حتى لا يعتق بدونه.

ورأيت بخطّ شيخي رحمه الله: وفي شرح القدوري لأبي الفضل رحمه الله

(2)

أراد بقوله: (وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ) أنّه لم يدّع به الكرامة والشفقة، حتّى لو ادّعى ذلك تصدّق، وبخطّه -أيضاً- شرط الثبات لثبوت النّسب، لا لثبوت العتق؛ إذ الرجوع عن العتق لا يصحّ، وعن النّسب يصحّ، نصّ عليه في أصول الفقه لفخر الإسلام، في آخر باب الحقيقة والمجاز، وإن كان له نسب معروف لا يثبت نسبه منه ويعتق.

وهذا بخلاف قوله: لامرأته هذه بنتي، وهي [395/ ب] معروفة النّسب من الغير، فإنّه لا تقع الفرقة بينهما؛ لأنّ هناك صار مكذّبًا في حقّ النّسب شرعًا.

ولو أكذب نفسه بأن قال: غلطت لا تقع الفرقة، وإن لم يكن لها نسب معروف، فكذلك إذا صار مكذّبًا شرعًا، وههنا لو أكذب المولى نفسه في حق من لا نسب له، كان العتق ثابتًا، فكذلك إذا صار مكذّبًا في النّسب شرعًا، كذا في «المبسوط»

(3)

.

(وَلَوْ قَالَ يَا مَوْلَايَ عَتَقَ) أي: بدون النيّة، وقال زفر رحمه الله

(4)

لا يعتق إلا بالنيّة، وإنّا نقول: الكلام محمول على حقيقته ما أمكن، وحقيقة قوله يا مولاي لا يكون إلا بولاء له عليه، والمعتّق متعيّن لذلك، فهذا وقوله: يا حرّ يا عتيق سواء.

بخلاف قوله: يا سيّدي ويا مالكي؛ لأنّه ليس فيه ذكر ما يختصّ بإعتاقه إيّاه.

قوله: (بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ)، وهو قوله: يا مالكي ويا سيّدي، أي لا يثبت العتق بهما، ويثبت بقوله: يا مولاي؛ لأنّ في قوله: يا مولاي، يثبت صفة في العبد من جانب المنادي، وهو إثبات ولاء له عليه.

وذلك لا يكون إلا بسابقة العتق، وهو ولاء العتاقة فيثبت العتق؛ لأنّه ممّا يمكن إثباته في الحال من جانب المنادي.

أمّا قوله يا مالكي يا سيّدي لا يثبت بهذين اللفظين صفة في العبد من جهة المنادي؛ لأنّه لو ثبت بهما الحرية لا يكون العبد سيَّدًا أو مالكاً لمولاه، فلما لم يثبت صفة السيادة والمالكية في العبد من جانب المنادي بهذين اللّفظين، لم يثبت العتق بهما، فحينئذ يحمل على الإكرام واللّطف، ولا يقال: لِمَ لَمْ يحمل قوله: يا مولاي على مولى الموالاة، حتّى لا يعتق، واللّفظ يحتمله، [كما يحتمل]

(5)

ولاء العتاقة؛ لأنّا نقول: لم يجر عقد ولاء الموالاة بينهما، وهو عقد لا يقوم بأحد الطّرفين، بل يقوم بهما فلم يمكن حمله عليه.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 437).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 437).

(3)

المبسوط للسرخسي (7/ 66).

(4)

النهر الفائق شرح كنز الدقائق (3/ 10).

(5)

سقطت من (ب).

ص: 158

وأمّا ولاء العتاقة فالمولى يتفرّد بإثباته؛ لأنّه يثبت بالإعتاق، والإعتاق ممّا يتفرّد به المولى، ولو قال: يا ابني أو يا أخي لم يعتق؛ لأن النداء لإعلام المنادي بالاستحضار.

فإن قيل: لِمَ لَمْ يحمل على المجاز، وهو الحرية كما في قوله هذا ابني، قلنا: لو لم يُحمل هناك قوله هذا ابني يلغو كلامه أصلاً، وأمّا قوله: يا ابني، لو لم يحمل على الحرية لا يلغو كلامه، بل يحمل على معنى مقصود في النداء، وهو استحضار المنادى، مع أنّ في النداء لا يراعى المعنى، ولا يلتفت إليه، ولكن إنّما يثبت الحرية بقوله: يا حرّ، مع وجود هذا الأصل، وهو أنّ في النداء لا يعتبر المعنى، بل المراد منه استحضار المنادي لا غير؛ لما أنّ لفظ الحريّة لما كان من صريح ألفاظ العتق قام اللفظ الصّريح مقام معناه، وصار كأنّه أثبت ذلك المعنى فيه أولاً، ثم استحضره [بالبدء]

(1)

بالنداء.

بخلاف لفظ الابن، فإنّه ليس بصريح فيه، وحاصل الفرق بين قوله: يا حرّ، وبين قوله: يا ابني، أن النداء إذا كان يوصف إن أمكن إثبات ذلك الوصف في المنادي من جانب المنادى في الحال، كما في قوله: يا حرّ، يثبت الاستحضار بلفظ النداء والحرية بذكره بالوصف.

وإن لم يمكن إثبات ذلك الوصف في المنادى من جانب المنادى في الحال، كما في يا ابني، حمل على الاستحضار لا غير، ويلغي إرادة حقيقة ذلك الوصف، بل يحمل ذلك على معنى الإكرام، إلى هذا أشار في «المبسوط»

(2)

.

وقال: بخلاف قوله: يا ابني، فإنّه نداء بوصف لا يملك إيجابه، فينظر إلى مقصوده فيه، وهو الإكرام دون التحقيق.

وقالا: لا يعتق، وهو قول أبي حنيفة الأوّل رحمه الله

(3)

، أصل هذه المسألة: هو أنّ المجاز خلف عن التكلّم سواء كان معناه الحقيقي متصورًّا فيه أو لم يكن، وعندهما المجاز خلف عن حكم ذلك، يعني ينبغي أن يكون اللفظ موجباً حقيقته، ثم تعذّر العمل تحقيقه لمعنى حينئذ يصار إلى المجاز.

فإن قيل: على هذا ينبغي أن لا يصحّ قولهم: هذا أشد للإنسان الشجاع؛ لما أنّ تحقق الهيكل المخصوص في حق الإنسان محال، ومع ذلك أطبقوا على جوازه.

قلنا: ليس ذلك من نظير مسألتنا؛ وذلك لأنّ قوله: هذا أشد ليس بمستعار بجملته، بل قوله: أشد مستعار، [وقوله]

(4)

هذا مستعار له.

وأمّا ههنا هذا ابني بجملته مستعار في حق إثبات الحرية، فلم يكن ذلك نظيراً لقولنا: هذا ابني لهم أنّه كلام محال، وبيان الاستحالة ظاهر، فإنّ قوله: هذا ابني أي مخلوق من مائي، وابن خمسين سنة يستحيل [396/ أ] أن يكون محذوفاً من ماء ابن عشرين سنة، وفيه فارق معروف النّسب، فإن كلامه مُحتملا هناك لجواز أن يكون مخلوقاً من مائه بالزنا، أو يكون مخلوقاً من مائه بالشبهة وقد اشتهر نسبه من الغير.

(1)

سقطت من (أ).

(2)

المبسوط للسرخسي (4/ 138).

(3)

النهر الفائق شرح كنز الدقائق (3/ 7).

(4)

في (أ): وقال.

ص: 159

ألا ترى أنّ أم الغلام لو كانت في ملكه هناك تصير أم ولد له وههنا لا تصير أمّ ولد له إلا أنّ أبا حنيفة

(1)

رحمه الله يقول: أن صريحه محال، كما قالا، فلا يثبت، ومجازه مستقيم فيثبت؛ لأنّ الكلام متى لم يثبت حقيقته وله مجاز يمكن إثباته يثبت مجازه؛ لأنّ الكلام ضربان حقيقة ومجاز، فلا يلغى ما أمكن، وإنّما قلنا أن مجازه مستقيم ههنا؛ لأنّ مجازه في أن يجعل كناية عن قوله: عتق علي من [حين]

(2)

ملكته، وهذا مستقيم، وإنّما قلنا: أنّه يحتمل هذه الكناية؛ لأنّ الولاد مع الملك سبب العتق على المالك لا محالة، فإذا لم يحتمل المحلّ المضاف هذا السّبب، وهو العبد، صار السّبب كناية عن حكمه إذا احتمل المحل حكمه، لأن لا يلغو، فإن العرب تكني عن الشيء بسببه، فيجعل الولاد كناية عن حكمه، وهو العتق في الملك، فيصير قوله هذا ابني، [وقوله:]

(3)

أنّه عتق علي من حين ملكته سواء، ويلغوا صريح البنوّة والولاد وحقيقته؛ لأن الكلام متى صار مجازاً عن غيره بطلت حقيقته.

ألا ترى أن من مات وترك مكاتباً فأعتقه الوارث كان إبراء للكناية، لا إعتاقاً من قبله، حتّى الولاء يكون للميّت، وإنّما قلنا: أنّه لا يكون إعتاقاً؛ لأنّه لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم، والمكاتب غير قابل للنقل من ملكه إلى ملك، فكان مبقي على ملك المورث، وإذا كان كذلك فالإعتاق متّى صحّ أوجب الإبراء، فإذا لم يصحّ لأنّ المحلّ لا يحتمله من قبله، لما ذكرنا صار الإعتاق مجازاً عن الإبراء الذي هو حكمه.

وألا ترى أنّه إذا اشترى حرة بألف درهم كان نكاحاً، وكذلك الهبة؛ لأن المحلّ لا يحتمل الشراء حقيقة، ومن حكم الشراء ملك المتعة في المحلات للمشتري، فيصير كناية عن حكمه وهو تمليك المتعة، فيصير قوله: اشتريت، وقوله: تزوّجت بمنزلة، وههنا -أيضاً- لما كانت البنوة سبباً للعتق من حين ملكه، كان قوله: هذا ابني، مجازاً عن حكمه ومعناه، وهو قوله: عتق عليّ من حين ملكته؛ لأنّ البنوّة سبب لهذا، وكون السّبب مجازاً عن حكمه صحيح، كما في إعتاق الوارث المكاتب على ما ذكرنا، إلا أنّهما يقولان: المجاز خلف عن الحقيقة [في الحكم]

(4)

ففي كل موضع يكون الأصل متصوراً يمكن جعل المجاز خلفاً عنه، كما في مسألة المكاتب، وفي كل موضع لا يكون الأصل متصوّرًا لا يمكن جعل المجاز خلفاً عنه، وههنا لا يصوّر للأصل بخلاف معروف النّسب، فإن هناك الأصل متصوّر، فيجوز إثبات المجاز خلفاً عنه، ولكن أبو حنيفة

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 67)

(2)

في (ب): حيث.

(3)

في (أ): وقال

(4)

سقطت من (ب).

ص: 160

-رحمه الله

(1)

يقول: المجاز خلف عن الحقيقة في التكلّم لا في الحكم؛ لأنّه تصرّف من المتكلّم في إقامة كلام مقام كلام، والمقصود تصحيح الكلام، فلا يعتبر في تصحيح المجاز تصوّر الحكم لإثبات الخلافة.

ألا ترى أنّه لو قال لحرة: اشتريتك بكذا، كان نكاحاً صحيحًا، على ما ذكرنا، والحرة ليست بمحلّ لأصل حكم البيع، وهو ملك الرقبة، ولهذا المعنى قلنا: أن أمّ الغلام لو كانت في ملكه لا يعتق؛ لأنّ اللفظ لو صار مجازًا لغيره سقط اعتبار حقيقته، وهذا مجاز عن الإقرار بحريّته، فكأنّه قال: عتق علي من حين ملكته، وليس بهذا اللفظ موجب في الأمّ، فلذلك لا يصير أم ولد له، كذا في «المبسوط»

(2)

، و «الأسرار» .

بخلاف ما استشهد به على بناء المفعول؛ لأنّه لم يذكر الفاعل، ولم يقل ما استشهدوا وهو قوله: أعتقتك قبل أن أخلق؛ لأنّه لا وجه له في المجاز فتعيّن الإلغاء، وذكر في «الأسرار»: بيان هذا بقوله: ولا يلزم قولهم إذا قال: أعتقتك قبل أن أخلق، فإن صريحه مستحيل، وماله حكم في ملكه لو ثبت، فإن الإعتاق قبل الخلق إعتاق قبل الملك، ولو أعتقه قبل أن يملكه، ثم ملكه لم يلزمه عتق، فإذا لم يكن من حكمه عتق لو تحقق في ملكه لم يمكن أن يجعل كناية عن عتق في ملكه، فيلزمه حكم الكلام بقدر ما يمكن تصحيحه، حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَتَيْنِ بلفظ التثنية لا بلفظ الجمع، هكذا كان مقيدًا بقيد شيخي رحمه الله وهذا الذي ذكره في الكتاب صحيح

(3)

.

ولكن ذكر في «المبسوط»

(4)

و «الأسرار» جواب هذه المسألة، وهو أوجه، حيث ألحق هذه المسألة فيهما بقوله: أعتقتك قبل أن أخلق، فإن قوله: قطعت يديك لا موجب له في هذه الصورة؛ لأن الجرح لا موجب له بعد البر، وإذا لم يبق له أثر [396/ ب] فلا يمكن تصحيح كلامه بأن يجعل كناية عن موجبه، فلهذا كان لغوًا، وحاصله أنّ السّبب إنّما يكون مجازًا عن حكمه إذا كان له حكم، فأمّا إذا لم يكن له حكم فيلغوا، كما في قوله: أعتقتك قبل أن أخلق، على ما ذكرنا، وههنا -أيضاً- لما أخرجهما صحيحتين كان بمنزلة جرح لحقه برء على وجه لم يبق له أثر، فلا يتعلّق به حكم من الأحكام، فلا يكون كناية عن الإقرار بالأرش؛ إذ لو ثبت حقيقته لم يكن فيه أرش، فكيف يكون في مجازه أرش؟! أمّا الحرية فلا يختلف ذاتًا وحكمًا فأمكن جعله مجازاً عنه.

(1)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 67).

(2)

المبسوط للسرخسي (7/ 67).

(3)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 441)، والبناية شرح الهداية (6/ 17).

(4)

المبسوط للسرخسي (7/ 67).

ص: 161

فإن قيل الحرية الثابتة في قوله: هَذَا ابْنِي، وهو أكبر سناً منه غير الحرية الثّابتة بحقيقة البنوّة -أيضاً-، كما في أرش اليد على ما ذكر؛ وذلك لأنّ الحريّة الثّابتة بحقيقة البنوّة موجبة للإرث وحرمة المصاهرة وغيرهما من الأحكام، والحريّة الثّابتة بقوله: هذا ابني وهو أكبر سنًّا، لا يثبت شيئاً من ذلك، فلما كانتا غيرهن كانت مسألتنا هذه عين مسألة الأرش.

قلنا: الحرية لا تتفاوت ذاتًا وهو زوال الرّق، ولا تتفاوت حكمًا أصليًّا وهو صلاحيته للقضاء والشهادة والولايات كلّها، فكانت الحريتان سواء وما ذكرته من الثمرات فلا يبالى [به]

(1)

، ولو قال هذا أخي لا يعتق في ظاهر الرواية، وفي مجموع النوازل لو قال لغلامه: هذا عمّي، أو قال: هذا خالي، أو قال لأمته: هذه عمتي أو هذه خالتي، يعتق، ولو قال: هذا أخي أو هذه أختي لا يعتق؛ لأنّ الأخ اسم مشترك على ما يأتي بيانه.

بخلاف اسم العم والخال، كذا في الذّخيرة

(2)

.

قوله: وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا بَيَّنَّاهُ، أمّا وجه رواية أنّه يعتق، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة -رحمهما الله- فما ذكر بقوله؛ وهذا لأنّ البنوّة في المملوك سبب الحرية إلى آخره.

وكذلك ههنا الأخوّة في الملك موجب للعتق، فيجعل هذا اللفظ كناية عن موجبه، وأمّا وجه رواية أنّه لا يعتق، فهو قوله في مسألة الحدّ؛ لأنّ هذا الكلام لا موجب له في الملك إلا بواسطة، وهو الأب وكذلك ههنا الأخوة لا تكون إلا بواسطة الأب أو الأم؛ لأنّها عبارة عن مجاورة في صلب أو رحم، وهذه الواسطة غير مذكورة، ولا موجب لهذه الكلمة بدون هذه الواسطة، كذا في «المبسوط»

(3)

.

وذكر فيه أيضاً أن اختلاف الروايتين

(4)

في الأخ إنّما كان إذا ذكره مطلقاً، بأن قال: هذا أخي، فأمّا إذا ذكره مقيّدًا، فقال: هذا أخي لأبي أو لأمّي يعتق من غير تردّد، لما أن مطلق الأخوة مشترك، قد يراد بها الأخوة في الدّين، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}

(5)

.

وقد يراد بها الاتحاد في القبيلة قال الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}

(6)

، وقد يراد بها الأخوة في النّسب، والمشترك لا يكون حجّة بدون البيان.

(1)

في (أ): له.

(2)

المحيط البرهاني في الفقه النعماني (4/ 12).

(3)

المبسوط للسرخسي (7/ 68).

(4)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 443).

(5)

سورة الحجرات: 10.

(6)

سورة الأعراف: 65، وأيضاً سورة هود:50.

ص: 162

فإن قيل: البنوّة -أيضاً- تختلف بين رضاعه ونسب فكيف يثبت العتق بإطلاق قوله: هذا ابني؟.

قلنا: لأنّ البنوّة من الرضاع مجاز، والمجاز لا يعارض الحقيقة.

وَقِيلَ هُوَ بِالْإِجْمَاعِ، أي لا يعتق؛ لأن المشار إليه إذا لم يكن من جنس المسمّى، فالعبرة للمسمّى كما لو باع فصًّا على أنّه ياقوت، فإذا هو زجاج فالبيع باطل، والذكور والإناث من بني آدم جنسان مختلفان، فإذا لم يكن المشار إليه من جنس المسمّى تعلّق الحكم بالمسمّى، وهو معدوم ولا يمكن تصحيح الكلام إيجاباً ولا إقراراً في المعدوم، فلا يمكن أن تجعل البنت مجازاً عن الابن بوجه.

ألا ترى أنّه لا يعتق وإن احتمل أن يكون ولده بأن كان يولد مثله لمثله، كذا في «المبسوط»

(1)

و «الأسرار» .

وكذا ملك النكاح في حكم ملك العين حتى كان التأبيد من شرطه، ولو كان النكاح في حكم ملك المتعة لكان التأقيت من شرطه، كما في الإجارة، أمّا الأحكام يثبت بسبب سابق إلى آخره أخرج هذا جواباً عمّا يقول له: أن الإعتاق إثبات القوّة، ولهذا يثبت به الأحكام مثل الأهليّة والولاية والشّهادة، فأنى يشبه الطّلاق الذي هو إسقاط محض، وقال: بأنّ الإعتاق إسقاط -أيضاً- بدليل صحّة التعليق فيهما، ولا يرد على ثبوت تلك الأحكام؛ لأنّها ثابتة بالآدمية غير أن الإعتاق أزال المانع فاستوى الإعتاق والطّلاق، وأنا نقول عن جوابه هذا: فقولك الأحكام تثبت [397/ أ] لكونه آدميًّا فليس كذلك، فإنّ العبد آدمي ولا مالكية فيه، بل علّة ثبوت هذه الأحكام كونه حرًّا.

وأمّا صحة التعليق؛ فلأنّ الإعتاق إثبات القوة في العبد بواسطة إبطال ملكه، ومن حيث الإبطال يتعلّق بالشرط، إلى هذا أشار في تعليقات الإمام البرغري

(2)

.

إلَّا أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ مَانِعٌ وَبِالطَّلَاقِ يَرْتَفِعُ الْمَانِعُ فَتَظْهَرُ الْقُوَّةُ، أي: تظهر القوة الكامنة فيها لا أن تثبت فيها القوة بالطّلاق ابتداء؛ لأن الطّلاق من أطلقت البعير عن القيد إذا حللته، وهو عبارة عن رفع المانع عن الانطلاق، لا إثبات قوة الانطلاق، وكذلك المعنى في النكاح؛ لأنّ عين المرأة بالنكاح لا تملك، بل هي حرّة مالكة أمر نفسها، ولكن احتبست على الزوج عن حكم المالكية شرعًا؛ فكان الزّوج مانعًا والطّلاق شرع لرفع هذا المانع وأمّا العتاق.

فمعناه لغة إثبات قوة يقدر بها على الانطلاق من عتق الطير إذا قوي وطار عن الوكر، والعبد مملوك نفسه لغيره، فلا قدرة له حكمًا على الانطلاق، وبالعتق يثبت له القدرة الحكمية، واعتبر هذا في الحسيات فإن رفع القيد يخالف معناه معنى قوّة الفرح أو الطفل حتّى يقدر على الذّهاب، ولا مشابهة بين إثبات القوة، وبين إزالة المانع، ونحن نسلّم أن المشابهة في المعنى طريق الاستعارة، ولكن لا في كل وصف، بل في الوصف الخاص لكلّ واحد منهما، والوصف الخاصّ لكلّ واحد منهما ما بيّنا.

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 67).

(2)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 444).

ص: 163

ألا ترى أنّه لا يستعار الأسد للجبان، والحمار للزكي، وبينهما مشابهة في أوصاف؛ لأنّ كل واحد منهما حيوان موجود، ولكن لما انعدمت المشابهة في الوصف الخاص لم يجز الاستعادة، فهذا مثله لا لما ذكره الخصم فأمّا إذا استعمل لفظ التحرير في الطّلاق فليس ذلك عندنا للمشابهة معنى، [بل]

(1)

لسلوك طريق السببيّة فيهما، فإن ملك الرقبة يكون سبباً لملك المتعة، وملك المتعة لا يكون سبباً لملك الرقبة، وما يزيل ملك الرقبة يكون سبباً لزوال ملك المتعة، فيصلح أنه يجعل كناية عنه، فأمّا ما يزيل ملك المتعة فلا يكون سبباً لإزالة ملك الرقبة، فلا يصلح كناية عنه، ولهذا قلنا في [طرف]

(2)

الاستجلاب: [أن ما]

(3)

وضع لاستجلاب ملك المتعة، وهو لفظ النكاح والتزويج لا يثبت [به]

(4)

ملك الرقبة، وما وضع لاستجلاب ملك الرقبة وهو لفظ الهبة والبيع، يصلح لإيجاب ملك المتعة وهو النكاح.

فإن قيل: ليس ملك النكاح في حكم ملك العين فيكون رفعه في حكم رفع ملك اليمين أيضاً.

قلنا: نعم، ولكنّه في الحقيقة ليس بملك يمين، فإنّها حرّة مالكة نفسها، فلم يكن ما يرفع ذلك الملك في معنى ما يرفع ملك الرقبة من كلّ وجه.

فإن قيل: الآدمي خلق مالكًا لنفسه بحيث ينطلق حيث شاء، وملك اليمين يمتنع ذلك كما في النكاح.

قلنا: لا كذلك، بل الآدمي حيوان كالبهيمة، وبكونه حيواناً لا يملك نفسه ولا غيره، بل بصفة الحرية يملك، وهذه الصفة تزول بالرّق فتزول المالكية، وهي علّة ملك الانطلاق شرعًا، وبالتحرير [تثبت]

(5)

المالكية وصفة المالكيّة لا تزول بالنكاح، بل النكاح يمنع استعمال العلّة مع وجودها، وهذا كما سقط القوة بالمرضى فيداوى، فيقوى على المشي، والموثق يرفع وثاقه فيقدر على المشي، فلا يكون بين رفع الوثاق وبين المداواة تشاكل، إلى هذا أشار في «المبسوط»

(6)

و «الأسرار» .

وإذا قال لعبده: أنت مثل الحر لم يعتق.

ولو قال: لامرأة حرة أنت حرّة مثل هذه، أراد بقوله: هذه أمته، فإنّ أمته تعتق، ولو قال: لم أرد العتاق لم يصدق في القضاء؛ لأنّه وصفها بالحريّة حيث شبه الحرة بها.

ولو قال لامرأة حرة: أنت مثل هذه الأمة، أراد بهذه الأمة أمته لا تعتق؛ لأنّه قد بيّن أن هذه أمته، كذا ذكر المصنف رحمه الله في التجنيس

(7)

.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

سقطت من (أ).

(3)

سقطت من (أ).

(4)

سقطت من (أ).

(5)

سقطت من (أ).

(6)

المبسوط للسرخسي (7/ 64).

(7)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (4/ 8).

ص: 164

(وَلَوْ قَالَ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ لَا يُعْتَقُ) لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِحَذْفِ حَرْفِهِ، أي كرأس حرّ فصار كقوله: مثل الحر، أي: لا يعتق بدون النيّة؛ لأنّه إثبات الحريّة فيه أي في الرأس، فصار كقوله: رأسك حرّ، والرأس يعبّر به عن جميع البدن فيعتق، فالحاصل أنّ الكنايات على ثلاثة أوجه.

منها: ما يقع به العتق نوى أو لم ينوِ، كقول المولى لعبده: تصدّقت نفسك عليك [أو ملكتك نفسك عليك]

(1)

، أو وهبت نفسك منك، أو أوصيت نفسك لك، أو بعت منك نفسك، فهذه الألفاظ كناية؛ لأنّ الملك لو تصوّر للعبد ثبوته على الحقيقة يعتق، فإذا [397/ ب] تعذّر إثبات الملك بسبب التضادّ جعل كناية عن العتق، إلا أنّه يعتق من غير النيّة؛ لأنّ النيّة إنما يحتاج إليها بالكنايات إذا كان اللفظ يحتمل معناً في مختلفة احتمالاً على السّواء، ولا يمكن الجمع بين الكلّ فيحتاج إلى النيّة لتعيين واحد من الجملة، وهنا هذه الكنايات لا تحتمل معاني مختلفة، وإنّما تحتمل الكناية عن العتق لا غير، فاستغنت عن النيّة [للتعيين]

(2)

، ومنها: يقع إذا نوى ولا يقع إذا لم ينوِ، كقوله: لا ملك لي عليك، ولا رق لي عليك، وخرجت عن ملكي، ولا سبيل لي عليك؛ لأنّه يجوز أنّه باعه فصار ملك الغير، فلا يكون له عليه ملك ولا سبيل، ومنها: ما لا يقع نوى أو لم ينوِ، كالطّلاق وكنايات الطّلاق، نحو قوله: قد بنت مني، أو لأمته [قد]

(3)

بنت مني، أو حرمت عليّ، أو أنت خلية، وما يجري مجراها، كذا ذكره الإمام الولوالجي

(4)

رحمه الله

(5)

.

وذكر هو -أيضاً- عبد في يدي رجل قيل: له أعتقت هذا العبد، فأومئ برأسه أي نعم، لا يعتق، فرق بين العتق والنّسب، فإنّ الصبي إذا كان في يدي رجل قيل له: هذا ابنك فأومئ برأسه، أي نعم، يثبت نسبه، والفرق أنّ العتق تعلّق ثبوته بالعبارة، والإشارة لا تقوم مقام العبارة عند القدرة على العبارة، وأمّا النّسب فلا يتعلّق ثبوته بالعبارة، فإنّ مجرّد الفراش الصّحيح كاف لثبوته، فجاز أن يثبت بالإيماء والله أعلم.

(1)

سقطت من (ب).

(2)

سقطت من (ب).

(3)

سقطت من (أ).

(4)

هو: عبدالرشيد بن أبي حَنِيفَةَ نعمان بن عبدالرزاق بن عبدالله الولوالجي، ظهير الدين أبو الفتح، فقيه حنفي، قال أبو المظفر السمعاني: لقيته، وسمعت منه، وكان إمامًا، فقيهًا فاضلًا، حنفي المذهب، حسن السيرة، تفقه ببلخ على أبي بكر القزاز مُحَمَّد بن علي، وعلي بن الحسن البرهان البلخي. من تصانيفه:"الفتاوى الولوالجية"، وكتب "الآمالي" عن جماعة من الشيوخ.

يُنْظَر: الجواهر المضية (2/ 417)، الفَوَائِد البهية (ص 94، 122)، معجم المؤلفين (5/ 220).

(5)

ينظر: المبسوط للسرخسي (7/ 63) البناية شرح الهداية (6/ 26).

ص: 165

‌فصل

لما ذكر العتق الحاصل من الإعتاق الاختياري الذي هو الأصل.

ذكر في هذا الفصل عامة مسائل العتق الذي يحصل من غير اختيار المالك كإرث قريبه وخروج عبد الحربي إلينا مسلمًا وولد الأمة من مولاها.

قوله: (وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم

(1)

، رواه عمر وعبد الله بن مسعود وعائشة رضي الله عنهم.

وَاللَّفْظُ بِعُمُومِهِ يَنْتَظِمُ كُلَّ قَرَابَةٍ، أي: لفظ ذا رحم محرم عام فهو بعمومه يتناول كلّ قريب.

وقال: فهو حرّ راجع إليه فكان كل قريب وهو ذو رحم محرم من المالك كان حرًا عملاً بعمومه.

فإن قيل: الضّمير في مثل هذا راجع إلى كلمة (من) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»

(2)

، وقول الإمام: من دخل هذا الحصن أوله فله كذا من النفل فلم لا يرجع إلى من ههنا أيضاً كما هناك.

قلنا: يأتي ذلك وقوعه جزاء، وحريّة المالك لا تصلح جزاء؛ لأنّ حريته ثابتة قبل هذا حتّى صار أهلاً للملك، وحريّة المالك تستفاد من قوله ملك فكان لفظ هو راجعًا إلى المملوك لترتّب عليه جزاء الحرية، ثم عند أصحاب فمنهم داود الأصفهاني

(3)

: إذا ملك قريبه لا يعتق بدون الإعتاق، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه»

(4)

، ففيه تنصيص على أنّه يستحق عليها إعتاقه ولو عتق بنفس الشراء لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم:«فيعتقه» معنى؛ ولأنّ القرابة لو أوجبت رفع الملك لمنعت وقوعه، كما في ملك النكاح، فلما لم يمنع ثبوت الملك لم يمنع البقاء بالطّريق الأولى، وحجّتنا فيه قوله تعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)}

(5)

فقد نفى البنّوة بينه وبين أحد من الخلق بإثبات العبودية، فذلك تنصيص على المنافات بينهما، والمتنافيان لا يجتمعان، فإذا كانت البنوّة متقرّرة انتفت العبودية، ومراده صلى الله عليه وسلم من قوله:«فيعتقه» بذلك الشراء، لا بسبب آخر كما يقال: أطعمه فأشبعه، وسقاه فأرواه، وضربه فأوجعه، وَكَتَبَهُ فَقَرْمَطَ، وَإِنَّمَا أَثْبَتِنَا لَهُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً؛ لأن انتفاء العبودية لا يتحقّق إلا به فإذا لم يملكه لا يعتق.

(1)

يريد حديث: (وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ)، وسبق تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه من حديث طويل، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (1780).

(3)

ينظر: البناية شرح الهداية (6/ 26).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد (1510).

(5)

سورة مريم: 92 - 93.

ص: 166

بخلاف ملك النكاح؛ لأنّه لا فائدة في إثبات ملك النكاح له على ابنته، ثم إزالته؛ لأنّها تعود إلى ما كانت عليه ولأنّ هذا العتق صلة ومجازاة، فلا يتحقّق إلا بعد الملك

(1)

.

وأمّا انتفاء ملك النكاح فلحرمة المحل وهي موجودة قبل العقد، كذا في «المبسوط»

(2)

.

كل قرابة مؤيدة بالياء المنقوطة من تحتها باثنتين.

وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِهِ، أي: في غير الولاد.

فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ، أي بالقياس؛ لأن الحكم في الأصل ثابت مع منافاة القياس، فلا يجري في مثله [398/ أ] القياس أو الاستدلال، أي: امتنع دلالة النصّ -أيضاً-؛ لأنّ قرابة الأخوة أدنى مرتبة من قرابة الولاد، ويشترط في الدلالة مساواة الفرع الأصل من كل وجه.

وَلَمْ يَمْتَنِعُ فِيهِ، أي في الولاد يعني أنّ المكاتب إذا اشترى أباه يكون مكاتباً مثله.

وأمّا إذا اشترى أخاه فهو لا يتكاتب عليه علم أنّ قرابة غير الولاد أدنى من الولاد، فلذلك لا يلحق غير الولاد بالولاد.

ولنا ما روينا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من ملك ذا رحم محرم»

(3)

، وما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني وجدت أخي يباع في السوق فاشتريته وأنا أريد أن أعتقه فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أعتقه الله تعالى»

(4)

كذا في «المبسوط»

(5)

.

وَهَذَا هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْأَصْلِ، أي في الذي أجمعنا بأنّه يعتق قرابة عند الملك وهو قرابة الولاد.

قوله: وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ، فإن قلت: لو قال قائل من جانب الشافعي رحمه الله بارك الله فيما عنده، فإنّ وجوب نفقة غير الولاد مذهبكم، لا مذهبي فلم يلزمني ما ألزمتموني به؟.

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 70).

(2)

المبسوط للسرخسي (7/ 70).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب العتاق، باب فيمن ملك ذا رَحِمٍ محرم، (3949) وأخرجه ابن ماجه كتاب العتق، باب منْ مَلَكَ ذا رَحِمٍ محرم فهو حُر (2524)، والترمذي في سننه، كتاب الأحكام، باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم (1365)، كلهم من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة، وقال الترمذي:"هذا حديث لا نعرفه مسندا إلا من حديث حماد بن سلمة وقد روى بعضهم هذا الحديث، عن قتادة، عن الحسن، عن عمر شيئا من هذا"(3/ 638).

(4)

أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب المكاتب (4227)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب العتق، باب من يعتق بالملك (21421)، وضعّفه الدارقني والبيهقي، يُنظر: سنن الدارقطني (5/ 229)، السنن الكبرى للبيهقي (10/ 490).

(5)

المبسوط للسرخسي (7/ 70).

ص: 167

قلت: بل يلزمك؛ لأنّه لما ثبت وجوب نفقة ذي الرحم المحرم بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(1)

لم يعتبر إنكار منكر بعد ذلك، لما أنّ الثّابت بالدّليل يجعل كأنّه ثابت إجماعاً.

فإن قلت: لاشكّ أن عتق القريب عند الملك للصّلة له، وصلة جميع القرابات غير لازم بالإجماع، حتّى لو ملك ابن عمّه لا يعتق، فوجب علينا تفصيل القرابات، وهي ثلاثة: قرابة قريبة، وهي قرابة الولاد، وقرابة معتدة، وهي قرابة بني الأعمام، وقرابة متوسطة، وهي قرابة الأخوة والعمومة، فلابدّ أن يرد المتوسطة إلى أشبههما منه وهي تشبه قرابة بني الأعمام؛ لأنّ قرابتهم قرابة جواز في الرحم، وقرابة الولاد بالبعض، والأحكام تدلّ عليه فإنّ القصاص يجري بينهم في الطّرفين، وتحجب عن الإرث بالأولى، ويقبل شهادة كلّ واحد منهما لصاحبه، ويحل وضع الزكاة فيه، ولا يتكاتب على المكاتب إذا ملك محارمه غير الولاد، ولا يعتق عليه إذا قال: أنّه أخي، كما لا يعتق إذا قال: أنّه ابن عمي، ويحلّ لكلّ واحد منهما حليله صاحبه، ولا يستوجب كلّ واحد النّفقة على صاحبه عند اختلاف الدّينين، وهذه أحكام ثمانية، مع المعنى الذي هو تاسعها يدل على أنّ المتوسّطة بالبعيدة أشبه، فمع وجود المعنى الجامع بينهما من هذه الوجوه كيف ينفكّان فيما تنازعا فيه؟.

قلت: هذا في الحقيقة ترجيح بكثرة الأشياء والتّرجيح بها فاسد؛ لأن الأصول شواهد، وقد عرف أنّ الترجيح بزيادة عدد الشّهود في الخصومات فاسد، وفي الأحكام التّرجيح بكثرة العلل فاسد، فكذلك الترجيح بكثرة الأشياء فاسد، كذا ذكره شمس الأئمة رحمه الله في فصل الفاسد من الترجيح من أصول الفقه.

وذكر في «الأسرار» فساد كلّ واحد منها في الترجيح بطريق التفصيل والتعيين، ومن أراد معرفة ذلك فعليه بمطالعة «الأسرار»؛ ولأنّ قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب:«ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه» أجرى الحكم عاماً في كلّ ذي رحم محرم منه، فكان التّعليل بالولاد ردًّا للمنصوص، فكان تعليله مردودًا؛ لما أنّ التعليل يجب أن يكون موافقًا للنصوص لا مخالفًا لها، والتّعليل -وإن كثر شواهده- فهو غير مقبول في معرض النصّ، ولأنّ حرمة المناكحة لما ثبت بهذه القرابة لمعنى الصيانة عن ذل الاستفراش والاستخدام قهراً، وكذلك يثبت حرمة الجمع بين الأختين نكاحاً صيانة للقرابة عن القطيعة بسبب المنافرة التي يكون بين الضراير علمنا أن هذه القرابة واجب وصلها، كقرابة الولاد ومعنى قطيعة الرحم في استدامة ملك اليمين أكثر، ولا شك أنّ للملك تأثيراً في استحقاق الصلّة، فثبت بهذا التّقرير أن علة العتق هذان الوصفان، وبعد هذا لا يضرّنا انتفاء الجزئية، كذا في «المبسوط»

(2)

.

(1)

سورة البقرة: 233.

(2)

المبسوط للسرخسي (7/ 71).

ص: 168

فإن قلت: أن حرمة النكاح أسرع ثبوتًا من العتق ألا ترى أن حرمة النكاح تثبت بالرضاع، ولا يثبت به العتق، فلم يلزم لذلك من ثبوت حرمة النكاح ثبوت العتق؟.

قلت: كلامنا في حرمة النكاح [398/ ب] الموجبة للصّلة، ولم ينشأ ذلك إلا من القرابة، وليس للرضاع أثر في وجوب الصّلة، إلا أنّه لا يجري التّوارث ولا وجوب النّفقة في الرضاع، فعلمنا أنّ حرمة النكاح لم يثبت في الرضاع صلة، بل النّص أثبت حرمته فيه.

كما أثبت حرمة نكاح المشركة، فإنّ حرمة النكّاح قد تثبت بأشياء غريبة غير القرابة، وليس كلامنا فيه، ولا فرق بين ما إذا كان المالك مسلمًا أو كافراً، فكذا لا فرق في عكسه

-أيضاً- بأن يكون المملوك مسلمًا أو كافراً يعتق عليه لعموم العلّة.

فإن قلت: العلّة هي وجوب الصّلة على ما ذكر في الكتاب بقوله: لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ، وفي القرابة التي تنازعنا فيها مع الخصوم وهي قرابة الأخوة والعمومة غير واجب الوصل عند اختلاف الدّين بالنّفقة على ما مرّ في النّفقات، فوجوب الوصل بالإعتاق يجري مجرى وجوب الوصل بالنفقة، وهي لا تجب عند اختلاف الدّين في القرابة المتوسطّة، فينبغي على هذا أن لا يجب وصلها بالإعتاق عند اختلاف الدّين كالنّفقة.

قلت: نعم كذلك، إلا أنّ تمام العلّة هنا الملك مع القرابة، وذلك يتحقّق مع اختلاف الدّين، بخلاف استحقاق النفقة، فإن الشرع أوجب ذلك بصفة الوراثة، بقوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}

(1)

معناه وعلى الوارث ذي الرحم المحرّم وبسبب اختلاف الدّين تنعدم صفة الوراثة فلهذا لا تستحق النّفقة.

بخلاف الآباء والأولاد فالاستحقاق هناك بالولاد، قال الله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}

(2)

وبسبب اختلاف الدّين لا ينعدم الولاد، كذا في «المبسوط»

(3)

.

قوله: أَوْ كَافِرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وإنّما قيّد به؛ لأنّ الحربي لو ملك في دار الحرب ذا رحم محرّم منه لم يعتق؛ لأنّه لو أعتقه لم ينفذ عتقه، فكذا لا يعتق عليه بالملك ولو أعتق الحربي عبدًا حربيًّا في دار الحرب لم يعتق عند أبي حنيفة ومحمّد -رحمهما الله-، خلافاً لأبي يوسف

رحمه الله، وكذا إذا أعتق المسلم عبدًا حربيًّا في دار الحرب لا يعتق -أيضاً-، كذا في «الإيضاح»

(4)

.

(1)

سورة البقرة: 233.

(2)

سورة البقرة: 233.

(3)

المبسوط للسرخسي (7/ 72).

(4)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 450).

ص: 169

قلت: وبهذا يعلم أن قوله: فِي دَارِ الْإِسْلَامِ في الكتاب متعلّق بمجموع ما ذكر قبله من قوله: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَالِكُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، لا أن ينحصر تعلّقه بقوله: أَوْ كَافِرًا؛ لأنّ المحرميّة ما تثبت بالقرابة، والأمة أجمعت على أنّ المراد بالمحرم المحرم بسبب القرابة، كذا في «مبسوط شيخ الإسلام» رحمه الله

(1)

، والصبي جعل أهلاً لهذا العتق؛ لأنّ العلة قد تمّت في حقّه -أيضاً- وهي الملك مع القرابة فإنّ الصّغير يملك حقيقة.

ألا ترى أنّه يثبت له صفة الغنى بملكه حتّى يحرم عليه أخذ الصّدقة، كذا في «المبسوط»

(2)

.

وصف القربة في اللّفظ الأول زيادة وهو قوله: لِوَجْهِ اللَّهِ.

وأمّا التّعليق بالشّرط فإنّه صحيح في الملك بيننا وبين الشافعي بلا خلاف، إلا أن الخلاف فيه -أيضاً- بيننا وبينه بوجه آخر، وهو أنّ زوال الملك عنده يبطل التّعليق، وعندنا لا يبطل، حتّى إذا قال لعبده: أنت حرّ إن دخلت الدّار، فباعه، ثم اشتراه، فدخل الدّار يعتق عندنا.

وعند الشّافعي رحمه الله لا يعتق؛ لأنّ الملك عنده كما يشترط لانعقاد اليمين يشترط لبقائها وبالبيع زال ملكه.

ولكنا نقول الملك لم يشترط لانعقاد اليمين، إنّما الشّرط وجود المحلوف به، فلهذا صحّحنا إضافة العتق إلى الملك، والمحلوف به هو العتق، ومحلية العبد للعتق بصفة الرّق، وذلك لا ينعدم بالبيع، إلا أنّه يشترط الملك عند وجود الشّرط ليزول العتق؛ لأنّ تصرّفه يتصل بالمحلّ عند وجود الشّرط.

وأمّا قبل ذلك فبقاء اليمين ببقاء ذمّته وبقاء المحلوف به؛ لكونه محلاً للعتق، فلا معنى لاشتراط الملك فيه، ذكره في باب جامع لوجوه العتاق من «المبسوط»

(3)

، وفي «فتاوى قاضي خان»

(4)

رحمه الله قال: لعبده أن بعتك فأنت حرّ، فباعه بيعًا صحيحًا لا يعتق؛ لأنّه كما حنث زال العبد عن ملكه، فلا يعتق فإن باعه بيعًا فاسدًا، إن سلّمه إلى المشتري أولاً، ثمّ باعه لا يعتق -أيضاً-؛ لأنّه كما تمّ البيع بينهما ملكه المشتري وإن باعه [399/ أ] بيعًا فاسدًا، ثمّ سلّمه إلى المشتري عتق؛ لأنّ شرط الحنث قد وجد والعبد باق على ملكه فيعتق.

قلت: وبهذا يعلم أن وجود المعلول عند وجود العلّة أسرع ثبوتًا من وجود المشروط عند وجود الشرط، وهو معنى قولهم العلّة مع المعلول يقترنان وجودًا من غير تراخ.

(1)

ينظر: البناية شرح الهداية (6/ 27).

(2)

المبسوط للسرخسي (7/ 72).

(3)

المبسوط للسرخسي (7/ 84).

(4)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (4/ 58).

ص: 170

وأمّا المشروط جامع الشّرط فإنّهما يتعاقبان وجودًا، أي: يوجد الشّرط أولاً ثمّ يوجد المشروط.

وَلَا اسْتِرْقَاقَ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً، قيّد بقوله: ابتداء احترازاً عن الاسترقاق بقاء؛ لأن ذلك بين الأمور الحكمية لا الجزائيّة، فيصحّ بقاء كما يصح بقاء الأملاك بعد وجود أسبابها.

(وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَمْلَ خَاصَّةً عَتَقَ دُونَهَا)، أي: يعتق الحمل [خاصة] لا الأمة التي هي أمّه، لأنّا لو قلنا بهذا اللفظ عتق الأمة، لا يخلو إمّا أن يقول: أنّها تعتق مقصودًا، فلا وجه له؛ لأنّه لم يعتقها مقصودًا؛ لأنّه أعتق الحمل لا غير، وأمّا أن يقول تعتق الأم باعتبار تبعية عتق الحمل، ولا وجه له -أيضاً-؛ لأنّه يلزم قلب الموضوع، وهو أن يكون المتبوع تبعًا والتبع متبوعًا، وفي أمّ الولد إنما يثبت استحقاق عتق الأمّ شرعًا لا قياساً.

فإن قلت: لو لم يعتق أمة لجاز بيعها، وقد ذكر في كتاب الهبة من «المبسوط» إذا أعتق ما في بطن أمته ثم وهبها جازت، بخلاف ما لو باعها فإنّه لا يجوز

(1)

.

قلت: الفرق بينهما يجيء في هبة هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وحاصل ذلك هو أنّه لما أعتق ما في بطنها لم يبق الجنين على ملكه، فهبة الأمة بعد ذلك صارت بمنزلة هبة الأمة مع استثناء الحمل، واستثناء الحمل في الهبة شرط فاسد، والهبة لا تبطل بالشّروط الفاسدة، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر»

(2)

.

بخلاف البيع فإنّه يفسد بالشرط الفاسد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن بيع وشرط»

(3)

، وذكر في «المبسوط» وفي البيع لو استثنى ما في البطن قصدًا لم يجز البيع

(4)

.

وكذلك إذا صار مستثنى حكمًا لتعود العتق فيه وفي الهبة لو استثنى ما في البطن قصدًا لم تبطل الهبة، فكذلك إذا صار مستثنى حكمًا والمعنى ما بيّنا.

وَإِنَّمَا يُعْرَفُ قِيَامُ الْحَبَلِ وَقْتَ الْعِتْقِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْهُ، أي: من وقت العتق حتّى لو ولدت بعد ذلك لستّة أشهر لا يعتق، وإن ولدت لأقلّ من ستّة أشهر عتق؛ لأنّه أوجب العتق لما هو موجود في بطنها، فإذا ولدت لأقلّ من ستّة أشهر فقد تيقنا بوجود الولد في بطنها وقت اليمين، وإن ولدت واحدًا لأقل منها بيوم وآخر لأكثر منها بيوم عتقا؛ لأنّا تيقنا بوجود الأول في بطنها وقت اليمين حين ولدته لأقلّ من ستة أشهر، وهما توأمان خلقا من ماء واحد، فالحكم بوجود أحدها في البطن في وقت حكم بوجودها، كذا في «المبسوط»

(5)

.

(1)

المبسوط للسرخسي (7/ 193).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1625).

(3)

أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (4361)، وأبي حنيفة في مسنده رواية أبي نعيم (ص 160)، والبغوي في شرح السنة (8/ 147)، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام (3/ 527)، وقال:"وعلته ضعف أبي حنيفة في الحديث".

(4)

المبسوط للسرخسي (12/ 72).

(5)

المبسوط للسرخسي (28/ 86).

ص: 171

واشتراط بدل العتق على غير المعتق لا يجوز.

فإن قلت: سلّمنا أنّ اشتراطه على غير المعتق لا يجوز، لكن ينبغي أن يتوقّف العتق إلى أن يبلغ الحمل إلى حد يكون من أهل القبول، وهو أن يكون عاقلاً يعقل العقد، كما مرّ في خلع الضفرة، فقال فيه: وإن شرط الألف عليها توقّف على قبولها إن كانت من أهل القبول بأن كانت عاقلة تعقل العقد.

قلت: ذلك في صريح الشّرط.

وأمّا ههنا فالمسألة مذكورة تكملة على فكان ذكر المال ههنا وصفاً للإعتاق، فلا يلزم من بطلان الوصف بطلان الأصل، فيثبت العتق ولا يجب المال، كما في طلاق الصّغيرة على مال.

قوله: عَلَى مَا مَرَّ فِي الْخُلْعِ، هذه حوالة غير رابحة، ثم يحتمل أن يكون مراده أي مرّ في مسألة خلع «الجامع الصّغير» فإن في شروح «الجامع الصّغير»

(1)

في الخلع فرق بين وجوب المال على الأجنبي في الخلع، وبين وجوب المال على الأجنبي في الإعتاق، حيث يصحّ في الخلع ولا يصحّ في الإعتاق.

وذلك لمعنى؛ وهو أنّ الأجنبي في الخلع في معنى المرأة من حيث أنه لا يحصل لكلّ واحد منهما شيء بمقابلة المال، فلمّا جاز التزام المال في حق المرأة برضاها مع أنّه لا يحصل لها شيء، كذلك يجوز في حق الأجنبي لما أنّ البضع ليس بمتقوّم حال الخروج.

بخلاف الإعتاق فإن رقبة العبد متقوّمة في الدّخول والخروج، [399/ ب] وفي الإعتاق يثبت له القوة الحكميّة التي لم يكن قبل الإعتاق، فلما حصل للعبد بمقابلة المال شيء لم يجز وجوب المال على الأجنبي بمقابلة ما يحصل للعبد من القوّة الحكميّة بالإعتاق؛ لأنّه حينئذ يكون في معنى مشتر يشتري بشرط أن يكون الثمن على الأجنبي، وذلك لا يصحّ هكذا هذا، وولدها من زوجها مملوك لسيّدها، لما أنّ الأوصاف القادة الشرعية في الأمّهات تسري إلى الأولاد وذلك لمعان:

أحدها: أنا نتيقّن بأنّه مخلوقين مائها ولم يتيقن كونه مخلوقاً من ماء زوجها الحر، ويحتمل أنّه من ماء عبد وما قلناه الولد للفراش فهو حكميّ لا حقيقي، وفي الأمّ حقيقي وحكمي فكان ماء الأم أولى بالاختيار.

والثّاني: أن ماءه يستهلك بمائها؛ لأنّ مائها في موضعه ويزداد قوّة منها لأمنه.

والثالث: أن جانبها ترجح بواسطة الحصانة والتّربية على ما ذكر في الكتاب.

والرّابع: أنّ الولد مادام مجتنى في رحم المرأة فهو بمنزلة عضو من أعضائها كيدها ورجلها إلى أن ينفصل حسًا وشرعًا، أما حسًّا فإنّه يتنفس بنفسها ويتنقل بانتقالها حتّى تقرض بالمقراض عند انفصاله منها.

(1)

ينظر: العناية شرح الهداية (4/ 455).

ص: 172

وأمّا شرعًا: فإنّه يعتق بعتقها.

بخلاف الأب، فلما كان كذلك أخذ الجنين وصف أمه كجزء أمّه، فالحاصل أنّه يتبع الأم في الحريّة والرقية، والأب في النّسب، وخير الأبوين في الدّين.

وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ بِهِ، أي رضي برق الولد، حيث أقدم على تزوّج الأمة مع كونه عالماً أنّ الولد يكون رقيقاً، كما يتبعها في المملوكية والمرقوقية، إنّما أورد هذين اللفظين لتغايرهما من حيث الكمال والنّقصان؛ لأن في المدبّر وأم الولد الملك كامل والرق ناقص، وفي المكاتب على عكسه، أو لأن المملوكية عام فيكون في بني آدم وغيرهم، والمرقوقية خاص فيهم، فتبيّن به أنّ الولد يتبع الأم في العام والخاصّ.

وإنّما قلنا: أن في المملوكية العامة -أيضاً- يتبع الولد الأم بدليل أنّ البقر الوحشي والحمر الوحشية والظباء لا يجوز في الأضحيّة، وإذا كان الولدين الوحشي والأهلي، ينظر إن كانت الأمّ وحشيّة لا يجوز، وإن كانت أهليّة يجوز؛ لما أنّ الولد تابع للأمّ فيها -أيضاً-، كذا في «فتاوى الإمام الولوالجي» رحمه الله

(1)

.

انتهى بحمد الله تعالى

(1)

ينظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (5/ 69).

ص: 173