الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس: في الحسبة على كل واحد من أهل كل حرفة وصناعة، ممن تقدم ذكرهم في الباب قبله
وبيان غشهم (فيها وتدليسهم) مفصلاً.
وهو باب مهم كثير الفوائد. فينبغي ضبطه وشدة العناية به، وخصوصًا للمحتسب. ولنقدم عليه الكلام على معرفة، القنطار، والرطل، والمثقال، والدرهم، والدينار ونحوها، من أصول المعاملات، لمسيس الحاجة إليها، إذ بها يعتبر سائر المبيعات، والمعاوضات، فإذا عرفها وتحقق كميتها واختلافهما بالزيادة والنقص في سائر البلاد، انتفى الغرر، الغبن الفاحش فيها.
فاعلم أن أهل كل إقليم، أو بلد اصطلحوا في معاملاتهم على قناطير، وأرطال تتفاوت بالزيادة، والنقص، سيما أهل (بلاد مصر)، والشام، أما القنطار الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، فنقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه: ألف
ومائتا أوقية، وعن أبي سعيد الخدري ذهباً.
وأما المتعرف في هذا الزمان: هو مائة رطل، وأما الرطل "فقال بعضهم:
اتفق الناس على أنه اثنا عشر أوقية، وإنما اختلفوا في تقدير الأوقية بالدراهم. فالرطل الشيرازي الذي وضعه بها "بنو منقذ" ستمائة وأربعة وثلاثون درهماً، والأوقية سبعة وخمسون درهماً، ورطل بغداد فهو نصف المن، والمن
رطلان، وأما رطل حلب (وغزة) فهو سبعمائة وأربعة وعشرون درهماً، وأوقيتها ستون درهماً وثلث درهم.
وأما رطل دمشق: فستمائة درهم، وأوقيتها خمسون درهماً، ورطل حمص ثمانمائة درهم وأربعة وتسعون درهماً، وأوقيتها سبعة وستون درهماً وحبة وثلث حبة والمشهور الآن أنه ثمان مائة درهم، / وأوقيتها ستة وستون
[درهماً] وثلثين، ورطل حماة ستمائة وستون درهماً، وأوقيتها خمسة وخمسون درهماً.
ورطل المعرة مثل الحمصي، ولكنه مائتا درهم، وستون درهماً، وأما رطل (بيت المقدس والرملة) ونابلس، وبلد الخليل عليه السلام، فكلها سواء
كالحمصي، وأما رطل مصر فهو مائة وأربعة، وأربعين درهماً، والأوقية اثنا عشر درهماً، وأما المثقال، قال ابن الرفعة المتفق عليه بين أصحابنا أن المثقال من حين وضع لم تختلف فيه جاهلية ولا إسلام.
قال النووي: إن زنته ثنتان وسبعون حبة من حب الشعير الممتلئ غير خارج عن مقادير الشعير غالباً، فهو درهم ودانقان ونصف، وهو أربعة وعشرون
قيراطًا، وهو خمسة وثمانون حبة، والدرهمُ الشامي ستون حبة، وكذلك القفيزان، والمكاكيك أيضًا مختلفة، فالقفيزُ مكيالُ معروف، وهو ثمانية مكاكيك.
وقال ابن الملقن: أنه يسعُ اثني عشر صاعًا، وهو بالشيزر ستة عشر سنبلًا، ويسع رطلًا ونصف بالشيزر، والقفيزُ الحمصي مثل الحموي، والمكوك
الحلبيُ يزيدُ علي القفيز الشيزري ثلاث سنابل، والمعري مثله، والغرارةُ الدمشقية ثلاثُ مكاكي بالحلبي ولكن جميع ذلك غير مستمر في كُل زمن، بل هو اصطلاح من أهل كُلٌ زمان بحسب سلطانهم، فإذا تغير ربما غيروه والأردب؛ المصري ست وبيات، والوبيةُ: أربعة أربع، والربع أربعة أقداح، والقدح مائتان اثنان، وثلاثون درهمًا، ويختلفُ الأردب في الأرياف، وأكثر ما يكون ثمان وبيات. وأما غرارة دمشق، فاثنا عشر كيلًا، كل كيل ستة أمداد،
والمُد ينقص قليلًا عن الربع المصري، ونسبة ما بين الغرارة والإردب، أن كل غرارة ومد ونصف ثلاثة أرادب بالمصري تحريرًا، أو الغرارة الدمشقية مكوكان ونصف بالحلبي.
وأما الدرهم الشرعيُ: فستةُ دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، فالدانقُ سدس الدرهم، وهو ثمان حبات، وخمسا حبة من الدرهم؛ خمسون حبة وخمسًا حبة بالشعير المتوسط، الذي لم يقشر، ولكن قطع من طرفيه ما دق وطال.
وأما الدينار: فهو معرب: وقالوا: إنه لم يختلف وزنه أصلا (في جاهلية،
ولا إسلام وهو أربعةُ وعشرون قيراطًا، كل قيراط ثلاثُ شعيرات معتلات، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرة.
وأما القبان، فالرُومي أصح من القبطي، ويسمى في هذي الديار بالهندي، وحسابه معروفٌ عند أهله، وعليه أن يعتبره عليهم بعد كلُ حين؛ فإنه ربما أعوج من شيل الأثقال، فيفسدُ ويضيع بذلك أموال الناس عليهم.
وأما "الميزانُ فأصحه وضعًا ما استوى جانباه، واعتدلت كفتاه، وكان ثقب علاقته في جانبي وسط القصبة في ثلث سمكها، فيكون تحت مرود العلاقة الثلث، ومن فوقه الثلثان. وهذا يعرف رجحانُهُ بخروج اللسان من قب العلامة، وهبط الكفة.
وأما الشواهينُ المشقية، فتوضعُ ثقب علاقتها بخلاف / ماذكرناه، [46/ب] ويعرفُ رجحانها بدخول اللسان في قب العلاقة من غير هبوط الكفة، وقد يكون مرود العلاقة مربعًا ومثلثًا ومدورًا، وأجودها المثلث، لأنه أسرع رجحانًا،
وينبغي أن الوزان يسكنُ الميزان عند الوزن ويضع فيه البضاعة برفق، ولا يرفع يديه في حال الوضع لها، ولا يلحق البضاعة في الكفة، ولا يهمز حافتها بإبهامه، فكل ذلك بخسُ.
ومن البخس الخفي في ميزان الذهب أن يرفعه تلقاء وجهه، ثم ينفخُ على الكفة التي فيها الذهب نفخًا خفيفًا، فيرجع ولهم في مسك الميزان صناعات يحصلُ بها ابخس فيلزم المحتسب مراعاة ذلك في كل وقت.
وأما الذراع فذراع الحديد الذي تقاس به الثياب أربعة وعشون أصبعًا، والأصبع ست حبات شعير مصفوفة بطون بعضها إلى بعض، وذراع اليد ينقص عنه بثلاثة قراريط، وهي ثمن ذراع.
وينبغي له أن يأمر المتقيسين باتخاذ الأرطال، والأواقي من الحديد، ويعيرها على الصنج الطيارة، ولا يتخذها من الحجارة، لأنها تنتحت بقرع بعضها بعضًا فتنقص، فإن الحاجةُ دعت إلى اتخاذها فيأمره المحتسب بتجليدها، ثم يختتمها بعد العيار، ويجدد
النظر فيها بعد كل حين، لئلا يتخذوا مثلها من الخشب.
ولا يكون في الحانوت الواحد دستان من أرطال، أو أواقي من غير حاجة، لأنها تهمة، ولا يتخذ ثلث رطل، ولا ثلث أوقية، ولا ثلث درهم لمقاربته بالنصف؛ فربما اشتبه عليه في حال الوزن. وأن يتفقد عيار الصنج، والحبات، ونحوها على حين غفلة من أصحابها؛ فإن منهم من يأخذ حبات الشعير أو الحنطة، فينقعها في بعض الأدهان، ثم يغرز فيها رؤوس الإبر، ثم يجففها في الظل، فتعود إلى سيرتها الأولى، ولا يظهر فيها شيء من ذلك.
وينبغي له أن يأمر أصحاب الموازين بمسحها وتنظيفها من الأوساخ، والأدهان في كل ساعة؛ فربما جمد ذلك فيها، فيظهر في الوزن، ويختبر القبانين أيضًا بعد كل حين؛ لأنه ربما أعوج شيء من شيل الأثقال فتفسد، وأما المكيال الصحيح فهو ما استوي أعلاه وأسفله في الفتح، والسعة من غير أن يكون فيه مخصرًا، ولا أزورارًا، ولا بعضه داخلاً وبعضه خارجًا، وإن كان في أعلاه طوق من حديد، كان أحفظ، وأن يشد بالمسامير، لئلا يصعد فيزيد، أو ينزل فينقص.
وأجود ما عيرت به المكاييل الحبوب الصغار التي لا تختلف في العادة، كالكسفرة، والخردل، وبزر القطونا ونحوها. وأن يكون في كل حانوت ثلاث مكاييل، كامل، ونصف، وثمن، لأن الحاجة تدعو إليها.
وينبغي له أن يجدد النظر في المكيال، والميزان بعد كل وقت؛ ويراعى ما يطففون به؛ فإن منهم من يصب في أسفل الكيل الجص فيلصق به، ولا يكاد يعرف، ومنهم من يلصق في جوانبه الكسب، أو خبز الفجل، أو يأخذ لبن التين، فيعجنه بالزيت، حتى يصير كالمرهم، ثم يلصقه في داخله. ولهم في مسكه صناعة عجيبة يحصل التطفيف، ولا يشعر بها صاحب الغلة فمنها: أنهم
/ ثم نقول وبالله المستعان:
أما الحسبة على أصحاب الغلال، والخبازين؛ فيعلمهم أولاً أن احتكار الأقوات حرام كما قدمنا، وأن لا يخلطوا أردأ الحنطة وغيرها بالجيد، ولا العتيق منها [47/أ]
بالجديد، وإن دعت الحاجة إلى غسلها جففت بعده تجفيفًا بليغًا، ثم تباع منفردةً، ويلزمهم بغربلتها، وتنقيتها قبل طحنها، وإن رشوا على الحنطة ماءً يسيرًا، فلا بأس، لأنه يقال: إنه يكسو الدقيق بياضًا، وجودة، ولا يخلطوا دقيق الشعير بالحنطة، ولا ما طحن على رحاه منفردة، أو ما خالطه زيوان أو غبار بغيره.
وإذا ارتاب منهم حلفهم أن لا يفعلوا شيئًا من ذلك. والمصلحة تقتضي أن يجعل عليهم وظائف يرفعونها إلى حوانيت الخبازين، في كل يومٍ.
وأما حوانيت الخبازين، فينبغي أن ترفع سقائفها، وتفتح أبوابها، ويجعل في السقائف منافس واسعة، يخرج منها الدخان، لئلا يتضرر بالصدر. وإذا فرغ من السجر مسح داخل التنور بخرقة، ثم شرع في الخبز.
وينبغي للمحتسب أن يكتب في دفتره أسماء الخبازين ومواضع حوانيتهم؛ ليعرفوا، ويأمرهم بنظافة أو عميتهم، وتغطيتها، وغسل المعاجن، ونظافتها، وما يغطى به الخبز، وما يحمل عليه، ولا يعجن بقدميه، ولا بركبتيه، ولا بمرفقيه، لما فيه من الإهانة، وربما قطر في العجين شيء من عرق إبطيه، ولا يعجن إلا وعليه
عرقشين أو بشت مقطوع الأكمام، مثلما إذ ربما عطس، أو تكلم، فيقطر شيء من بصاقه، أو مخاطه، ويشد على جبينه عصابة بيضاء؛ للعرق، ويحلق شعر ذراعيه؛ لئلا يسقط منه شيء في العجين، وإن عجن نهارًا يكون عنده إنسان بيده مذبة يطرد عنه الذباب، ونحوه، لئلا يسقط.
وأن يعتبر عليهم ما يغشون به الخبز، فإن منهم من يذر على وجهه الجلبان والبيسار، أو يغشه بدقيق الحمص، أو الأرز؛ لأنهما يثقلانه ويفتحانه، ومنهم من يعجن الخشكار، أو دقيق الشعير، ويبطن به الخبز، وكل ذلك لا يخفى على وجه الخبز، وفي منظره ومكسوه.
ويمنعهم أن يضعوا فيه البورق وهو لأنه مضر، وإن حسن وجه الخبز. ولا
يقللوا ملحه لثقل وزنه، ولا يخبزونه، حتى يختمر، فإن الفطير يثقل في الوزن، وعلى المعدة، وأن ينثروا على وجهه الأبازيز الطيبة الصالحة له، مثل الكمون الأبيض والشونيز والسمسم، ولا يخرجونه من التنور؛ حتى ينضج حق نضجه، من غير احتراق، ويوظف على كل حانوت، وفرن وظيفة ورسمًا يخبزونه كل يوم لئلا تتعطل البلد عند قلة الخبز، ولا يلزمهم ذلك إن امتنعوا منه.
وأما الفرانين فيفرقهم في الدروب، والمحال، وأطراف البلد، لما فيهم من الرفق، وعظم (حاجة الناس) إليهم، ويأمرهم بإصلاح المداخن، وتنظيف بلاط الفرن في كل ساعة، ويجعل بين يديه أجانة نظيفة للماء، فإذا فرغ من الخبز أراق ما بقى فيها من الماء ثم يغسلها من الغد ويسكب فيها ماءً طريًا نظيفًا ويتعاهد جوف الدف الذي بين يديه، لأن العجين يلصق عليه / وإذا كثر عنده أطباق العجين [47/ب]
أخرج كل واحد بعلامةٍ يتميز بها على غيره، لئلا يختلط على الناس خبزهم.
وينبغي أن يكون له مخبزان، أحدهما: للخبز، والآخر: للسمك واللحم ونحوهما، أو يجعل السمك بمعزل، لئلا يسيل شيء من دهنه على الخبز، ولا يأخذ من دقيق الناس شيئًا، ولا من عجينهم.
وأما [القلايين والشوايين ونحوهم]، فقالي الزلانية ينبغي أن يكون مقلاه من النحاس الأحمر الجيد، وأول ما يحرق فهي النخالة، ثم يدلكه بورق السلق إذا برد، ثم يعاد إلى النار، ويجعل فيه قليل عسل ويوقد عليه حتى يحترق العسل.
(ثم يجلى بعد ذلك بدقيق الخزف)، ثم يغسل ويستعمل؛ لأنه ينقى بذلك من وسخه ونجاره، وأن يكون ثلث دقيق الزلابية ناعمًا، وثلثاه سميذًا خشخاشيا؛ لأنه إن أكثر السميذ زادت الزلابية بياضًا، وخفة في الوزن ونضجًا؛
غير أنه يشرب من الشيرج أكثر من الناعم، فلهذا يكرهونه.
ولا يسرع بالقلي؛ حتى يختمر العجين، وعلامته أنها تطفو على وجه الدهن، والفطير منها يرسب، والمختمرة تكون مثل الأنابيب، مجوفة، وإذا جمعتها في كفك اجتمعت، والفطيرة تكون مرصوصة، وليس فيها تجويف.
وسوادها يكون من وسخ المقلي، أو دقيقها ناعمًا لا سميذ فيه، أو يقلوه بالدهن المعاد، وربما جارت عليها النار، أو فطيرًا فتسود لسوء الصنعة.
وينبغي ألا يجعل في عجينها ملحًا؛ لأنها تؤكل بالحلو فإذا كانت مالحة غثت النفس، وأن تكون سنابلها صغارًا لطيفة كل أربعون منها رطل بالقدسي، ومتى حمص عجينها جعلها خميرًا وخبزها.
وأما قالي السمك: فيؤمر كل يوم بغسل أوانيه- من قفة وطبق- التي يحملون فيها السمك، وينثرون في الملح المسحوق، كل ليلة بعد الغسل، وكذا يفعلون بموازينهم الخوص؛ لأنهم إذا غفلوا عن غسلها فاح نتنها، وكثر وسخها، فإذا وضع فيه السمك الطري تغير ريحه، وفسد طعمه.
وأن يبالغ في غسل السمك، وتنظيفه، وتنقيته من جلده، وفلوسه، ثم يرش عليه الملح والدقيق، ثم يقلي بعد أن يجف من طراوته، ولا يخلط البائت منه بالطري، وعلامته أن خياشيمه محمرة، والبائت ليس كذلك.
وينبغي لعريف المحتسب أن يتفقد عليهم أوانيهم من المقلي وغيره؛ لئلا يقلونه بدهن الشحم المستخرج من بطون السمك، أو يخالطون هذا الدهن بالشيرج ولا يقلونه بالمعاد إذا كان متغير الرائحة، ولا يخرجون السمك حتى ينتهي نضجه من غير إحراق.
وإذا تغير السمك أو دود القديد منه وجب أن يرمى على الكيمان خارج البلد.
وأما قالي النقانق: فيتأكد عليهم ألا يعملوها إلا بقرب دكة المحتسب، ليراعيهم بعينه، فإن الغش فيها كبير لا يكاد يعرف. ويأمرهم بتنقية اللحم وجودته، واستسمانه ونعومة دقة على القدم النظيفة، وليكن عنده حال عمل ذلك واحد بمذبة يطرد عنه الذباب، ونحوه. ولا يخلطون باللحم البصل، والتوابل إلا بحضرة العريف ليعلم مقداره / بالوزن ثم يحشونه بعد ذلك في المصاريف النقية النظيفة. [48/أ].
وأما قالي الجبن والبيض: فقد تقدم الكلام عليهما.
وأما الشرايون: فينبغي للمحتسب أن يزن عليهم الخرفان قبل إنزالها في التنور ويكتبه في دفتره، ثم يعيدها إلى الوزن بعد إخراجها. فإن كان قد نقص منه الثلث، فقد تناهى نضجه، وإن كان دون ذلك أمره بإعادته إلى التنور، وعلامو نضجه أن ينجذب الكتف بسرعة؛ فإن جاءت فقد انتهى، وأن ينشق الورك؛ فإن ظهر فيها عروق حمر، ونزل منها ماء أحمر، فهو نيئ لم بنضج، ومنهم من يذبح خرافًا كثيرة؛ ثم يحمل بعضها إلى المتحسب، ويخفى الباقي.
وليحذر أن يغم الشواء حالة إخراجه من التنور، ولا يوضع في أواني الرصاص وهو حار.
وقد قال الأطباء إنه يستحيل سماً، ويأمرهم أن يطينوا التنانير بطين حر قد عجن بما طاهر، فربما أخذوا طيناً من أراضي حوانيتهم، مختلطاً بالدم، والفرث، فإذا فتحو التنور ربما انتثر فيه على الشواء، فينجس [ويتقذر].
ومنهم من يضع عنده إذا باع الشواء المرضوض الملح والماء في قدح، ويجعل عليه قليلًا من الليمون فكل ما باع شيئًا رش عليه منه، وبما فضل عندهم هذا الماء في ليالي الصيف؛ فيصبح متغيراً فيمزجوه بالليمون؛ ليخفي ريحه، ومنهم من يشتري الرؤوس المغمومة عند كسادها، ويقطع لحمها على القرمة، ثم يخلطه بالشواء قليلاً؛ وربما رضوا معه الكلى، والكبود عند غفلة المشتري. وكل ذلك من الغش، والتدليس المحرم.
وأما [الطباخون] فيؤمرون بتغطية أوانيهم، وحفظها من الذباب وهوام الأرض، بعد غسلها بالماء الحار والأشنان، وأن لا يخلطوا لحم ضأن بمعز، ولا بقر بإبل، فربما أكلها ناقة، من مرض فيكون سبباً لنكسته، ويأمرهم بكثرة تأديم طعامهم بالدهن وقلة اللحم، ويمنعهم من نزع الدهن [عن] وجه الطعان، وبيعه مفرداً. وبعضهم يصب قليلاً من الدهن المستعار على وجه الطعام؛ فيغتر به الناس، ويظنون
من كثرة اللحم.
وعلامة لحوم المعز في الدست سوادها، وزهومتها، ورقة عظامها.
ويمنعهم من الغش في الأطعمة، وهي أنواع كثيرة (لا نطول بها)، وذكر يعقوب الكندي في رسالته المعروفة بكيمياء الطبائخ – ألواناً لهم تطبخ من غير لحم، وقلايا كبود من غير كبود، ومخ من غير مخ، ونقانق وعجة من غير لحم وبيض، وجواديب من غير أرز، وحلاوة من غير عسل، ولا سكر، وألوان كثيرة من غير عناصر يطول شرحها، ولا ينبغي أن يهتدي إليها الطباخون، لئلا يعملونها للناس، فينتبه المحتسب لذلك ويعتبره عليهم بحدة نظره وحذقه.
وأما الهراسون فيعتبر عليهم أوسط عيار الهريسة من غير حيف، بأن يكون لكل صاع من القمح ثمانية أوراق من لحم الضأن، ورطل من لحم البقر، ويكون لحم الهريسة فتياً سميناً، نقياً من الدرن، والغدد والعروق والأعصاب، طرياً غير غث، [48/ب] ولا متغير الرائحة، ويجعله في الماء والملح ساعة، حتى يخرج ما فيه من الدم، ثم بغسل، وينزل في القدر بحضرة العريف، ويختم عليه بخاتم المحتسب، فإذا كان وقت السحر حضر للعريف، وكسر الختم، وهرسوها بحضرته؛ لئلا يسلون منها اللحم، ثم يعيدوه إليها من الغد، ومنهم من يغشها بالقلقاس المدبر، ومنهم من يأخذ رؤوس الغمة عند كسادها، ورخصها، ويهرسها.
ومنهم من يسلق لحم البقر أو الجمل، ثم يجففه، ويدخره لها، فإذا أمكنه العمل، نقعه بالماء الحار ساعة، ثم يضعه في الهريسة، وربما فضل عندهم في القدور فضلة، فيخلطوها من الغد، فيراعي المحتسب (عليهم ذلك) كله بالختم.
وينبغي أن يكون من دهن الهريسة خصوصاَ طرياً طيب الرائحة، بالمصطكا والدارصين، ونحوهما ويعتبر ما يغشون به من دهن عظام البقر وأقطابها ورؤوسها، والجمال، فإنهم يستخرجونه، ويمزجون به دهن الهريسة.
وعلامة معرفة ذلك أنك تقطر منه شيئا على بلاطة، فإن سال ولم يجمد، أو كان لونه يشف؛ فهو مغشوش.
وأما [الرواسيون] فيأمرهم بسمط الرؤوس والأكارع بالماء الشديد الحرارة، ويغسل داخلها بعد أن يدق مقدم الرأس، وينزل ما فيه من القذا، والوسخ، والدود المتولد، إن كان فيه شيء، ولا يخلطوا رؤوس المعز بالضأن، ويجعلون في أفواه المعز كرعها (لتتميز ولا تشتبه) على الجاهل. وعلامة رؤوس الضأن أن تحت كل عين ثقبا، وليس ذلك في المعز وخطمه دقيق من أصله، بخلاف الضأن، وربما
كسدت عندهم فيخلطونها من الغد بالطرية، وعلامة البائت أنك تسل العظم الرقيق الذي في المبلع المسمى بالشوكة، ثم تشم رائحته، فإن كان متغيرا فهو بائت، ومنهم من يأخذ دهن [القاطر] من الشواء، ويخلطه بدهن الكارع ويسقي به الخبز المترود.
وينبغي ألا تخرج الرؤوس من الغمة حتى ينتهي نضجها، وإذا باعها نثر عليها الملح والسماق مسحوقين مع الرائحة الطيبة.
وأما الجزارون: فيستحب أن يكون الجزار مسلما، (بالغا عاقلا)، يذكر اسم الله تعالى عند الذبح، ويستقبل بها القبلة، وينحر الإبل معقولة، والبقر والغنم مضجعة على الجنب الأيسر.
ولا يجر الشاة برجلها جرا عنيفا، ولا يذبح بسكين كالٍّ لما فيه من التعذيب المنهي عنه، ويلزمه أن يقطع الودجين والمريء والحلقوم، ولا يسرع في السلخ بعد الذبح حتى تبرد الشاة (ويخرج منها الروح، ولا ينفخوها بعد السلخ؛ لأن نكهة الآدمي تغير اللحم) وتزفره. ومنهم من يشق اللحم من الساقين، وينفخ فيه
الماء؛ ولهم أمكنة في اللحم غير ذلك ينفخونها بالماء؛ فيراعيهم في ذلك كله. ومنهم من يشهر في الأسواق البقر السمان ونحوها، ويذبح غيرها.
وأما القصابون فيمنعون من بروز اللحم عن حد مصاطب حوانيتها بل تكون متمكنة في / الدخول عن حد المصطبة [والركبتين]؛ لئلا يتأذى الناس بتنجيس ثيابهم، وأن يفردوا لحم المعز عن لحم الضأن، وغيرها، ولا يخلطوها، وينتقطوا لحم المعز بالزعفران، ليتميز، ويعلقوا أذنابها على لحومها إلى آخر البيع، ويعرف لحمها ببياض شحمه، وصفائه، وشحم الضأن يعلوه صفرة ويبيعوا اللوايا منفردة عن اللحم، لا يخالطها جلد، ولا لحم.
وإذا فرغ من البيع وأراد الانصراف، أخذ ملحاً مسحوقاً أو أشناناً ونثره على القرمة التي يقطع عليها [اللحم]؛ لئلا يلحسها كلب، أو يدب عليها شيء من هوام الأرض؛ والمصلحة تقتضي ألا يشارك بعضهم بعضاً؛ لئلا يتفقوا على لحم واحد، وسعر واحد.
ويمنعهم أن يبيعوا اللحم بالحيوان، وأن يشتري الشاة بأرطال من اللحم معلومة، يدفع إليه كل يوم ما يتفقان عليه، وهذا واقع فيه أكثر الناس اليوم.
وإذا شك المحتسب في الحيوان هل هو ميتة أو مذبوح، ألقاه في الماء؛ فإن رسب فمذبوح، وإن طفا فميتة. وكذا البيض إذا طرح في الماء، ما كان منه مذرًا يطفو، وما كان سليمًا رسب.
ويعتبر ذلك على صيادي الطير، فإن أكثرهم لا دين له، وكثيرًا ما تختنق معهم الطيور أو تموت فيبيعونها مع المذبوح.
وأما الزياتون ونحوهم، فيعتبر عليهم المكاييل والموازين والأرطال، على ما تقدم، وينهاهم عن خلط البضاعة الجيدة بالرديئة، وإلا يخلطوا عتيق التمر، والزبيب، ونحوهما بالجديد، وأن لا يرشوا الماء على التمر، والزبيب ليرطبه، ويزيد في وزنه، ولا يدهنوا الزبيب بالزيت، ليصفو لونه، ويحسن منظره، ومنهم من يمزج عسل القصب بالماء الحار، ويرشه على الرطب، ومنهم من يغش الزيت وقت نفاقه بزيت القرطم، ومعرفة غشه إذا ترك على النار يكون له دخان عظيم ويختنق.
ومنهم من يخلط الشيرج بالزيت الحلو لرقته وصفائه، والزيت الذي قد ترك فيه الجبن في الخوابي بالزيت الطيب الصافي، ويعرف غشه بنقعه في السراج وزفرته.
وبعضهم يغش الخل بالماء، وعلامة الخالص إذا صب منه شيء على الأرض نشر، والمغشوش لا ينشر، وأيضًا إذا وضع فيه حشيشة الطحلب يشرب الماء دون الخل، وكذا اللبن المشوب بالماء تطرح فيه هذه الحشيشة فتفصل بينهما.
ويعرف غش اللبن الحليب؛ بأن يغمس فيه شعرة، ثم تخرج، فإن علق عليها اللبن، وتكوكب كان خالصًا، وإلا فمغشوشاً.
ويعتبر عليهم المخلالات على اختلاف أجناسها، بأن يطرح عليه الكمرخ فما كان مجسه يابسًا قويًا أعيد إلى الخل الثقيف، وإذا لأن مجسه رمى به؛ لأنه قد فسد، ومتى حمضت عندهم الكوامخ أمرهم بإراقتها خارج البلد؛ لفسادها، وكذا كل ما تغير عندهم، ودود من الجبن وسائر البضائع، ولا يجوز لهم بيعه لما فيه من الضرر بالناس ويمنعهم من عمل المريء المطبوخ على النار، فإنه يورث الجذام.
ومنهم من يغش الدبس البعلبكي بدقيق الحوارة. والحوار وعسل حل بالماء، ومعرفة غشهما / إذا جعل شيئًا من الدبس في الماء رسبت الحوارة في [49/ب] نفل الإناء، وربما بقى [للماء] رغوة، وفي العسل أنه زمن الشتاء يبقى سببًا الكسميد، وفي الصيف يكون مائعًا.
وينبغي أن تكون بضائعهم مصونةً في البراني، والقطارميز، مغطأة، لئلا وصل إليها شيء من الذباب، والنمل، وغيرهما من تراب ونحوه، وأن تكون أسقاف مغطأة بالمبارز، ولم تزل المذبة بيده، يذب بها عن بضاعته، ويلزمهم نظافة أثوابهم، وغسل أوانيهم وأيديهم، ومسح مكايلهم، وموازينهم، خصوصاً الحوانيت المنفردة في الدروب الخارجة عن الأسواق.
وأما الحلوانيون: فصناعتهم تشتمل على أنواع كثيرة وأجناس مختلفة، ولا يمكن ضبطها بصفة وعيار أخلاطها على قدر أنواعها، مثل النشا، والدقيق، واللوز، والفستق، ونحوها، فقد يكون كثيرًا في نوع، قليلاً في آخر، ويرجع في معرفة ذلك (إلى العريف) العارف الناصح.
وينبغي أن تكون الحلوى تامة النضج، غير نيئة، ولا محترقة. ومن غشهم أنهم يمزجون العسل برب الكرم، (وعلامته: إذا غلى على النار ظهرت رائحته، والعسل القصب بالدبس)، وعلامته أنه يركد في أصل الإناء، وبالدقيق والنشا- ودقيق الأرز، والعدس، وقشر السمسم، وعلامته أن يطفو على وجه الماء والناطف بالسميد المقلو بالكشك، والناطف الأصفر
بالفتيت والخشكناك المقلو بالدقيق، وأما الخشكنانج الذي يخبز في التنور، فإنه إن غش فيه، وقع في التنور، وسقط منهم، فلما يفعلونه. وجميع غشوش الحلاوة لا يخفى في منظرها وذوقها، فليعتبر المحتسب عليهم جميع ذلك.
وأما الشرابيون: فينبغي ألا يعقد الأشربة ولا المعاجين والسفوفات ونحوها، إلا من اشتهرت معرفته وديانته، وظهرت مخبرته، وتجربته، وشاهد تجربة العقاقير ومقاديرها من أربابها وأهل الخبرة بها ولا يركبها إلا من الأقراباذنات المعروفة؛ كسابور، والمكي، ومنهاج الدكان، والقانون.
وعليه أن يتقي الله، ويخشى اليوم الآخر، ولا يتهاون ويفرط بأوزانها، وأن يدخل فيها ما ينافيها ويسلبها خاصيتها، فإن كثيراً منهم يغش في الأشربة؛ فيعمد إلى عسل القصب المدبر باللبن الحليب، والخل، والأسفيداج؛ فيخرج صافي اللون طيب الطعم، والرائحة، فيركب منه الأشربة، والمعاجين بدلاً من السكر وعسل
النحل، فيحلفهم المحتسب، ويكتب عليهم قسامة بان لا يعلمونه؛ لأنه يؤدي إلى فساد عظيم؛ فإنه يحزق الأمزجة، ويفسدها فيصبر الدواء داءً.
ومعرفة غشه أن يرجع إلى السوداء إذا أضيف إلى غيره من الشربة، ويظهر فيه رائحة الخل إذا مضت عليه مدة. ويطرح منه شيء في وسط الكف، ويقطر عليه الماء، ثم يحله بإصبعه، فيبيض مثل الفانيد، فيعتبر المحتسب عليهم أشربتهم في رأس كل شهر، فما وجده منها حامضاً لطول المدة عليه أو متغيراً؛ فيعلم فساده، ويمنع من بيعه للناس، ولو أراد صاحبه عوده إلى الطبخ ثانياً، فإنه لا يفيده، اللهم إلا أن يكون شراب الورد / أو البنفسج، فإن تغيرهما يكون سريعاً، وردهما إلى الطبخ، يزيدهما قوة ونقاءً للمعدة، والسكنجبيب البزوري، متى كان مائلاً إلى السواد، فهو مغشوشٌ بعسل القصب المذكور؛ وكذا المعاجين إذا تغربت في
البراني، وحمضت، أو يبست تكون مغشوشة.
ومنهم من يعجن عكر الخل بدبس، وشاد يروان ثم يقرصه، ويبيعه على أنه عصارة برباريس.
وينبغي للصانع أن يقوي عقد الأشربة، حتى يصير لها قوام، وإذا عقد من العناب مثلاً شراباً قواه بكثرته فيه، بحيث يظهر في طعمه، فإنه يراد لتطفئة زيادة الدم.
وكذا في سائر الأشربة.
وأما الصيادلة: وهم الذين يبيعون الأشربة والعقاقير ويسمون في زماننا هذا بالشراباتية والعطارين، وغش هؤلاء وتدليسهم كثير لا يمن حصره، فرحم الله من نظر في ذلك، وعرف استخراج غشوشهم، زيادة على ما ذكرت وكتبها في حواشي هذا الكتاب تقرباً إلى الله تعالى، لأنها أصر على الخلق من كل صناعة؛ لأن العقاقير والأشربة مختلفة الطبائع والمزحة، والتداوي بها بحسب ذلك، فإذا أضيف إليها غيرها أحرفها عن مزاجها، فأضربت بالمريض إضراراً ظاهراً.
وينبغي للمحتسب أن يعظهم، ويخوفهم وبنذرهم العقوبة والتعزيز، ويعتبر
عليهم عقاقيرهم في كل أسبوع، فمن غشوشهم المشهورة الأفيون المصري يغشونه بنشا مآميتا، وبعصارة ورق (الخص البري)، وبالصبر، وبالصمغ.
وعلامة غشه إذا [أذيب] بالماء، ظهرت له رائحة كرائحة الزعفران، إن غش بالماء ميتا، وإن غش بعصارة الخس، كان خشناً، ورائحته ضعيفة، وإن صفى لونه وضعفت قوته كان مغشوشاً بالصمغ، ويغشون الرواند بنبتة يقال لها رواند الدواب تنبت بالشام، وعلامته أن الجيد هو الأحمر الذي لا رائحة له، ويكون خفيفاً، وأقواه الذي يسلم من السوس، وإذا نقع كان في لونه صفرة، وما خالف هذا كان مغشوشاً.
والطباشير بالعظام المحترقة ومعرفته إذا طرح في الماء رسبت العظام وطفت الطباشير. واللبان الذكر بالقلفونية، والصمغ، ومعرفته إذا طرح في النار التهبت القلفونية، وظهرت رائحتها، ويغشون [التمر] هندي بلحم الأجاس. والحضض بعكر الزيت، ومرائر البقر؛ في وقت طبخه، ومعرفته إذا طرح منه شيء في النار يلتهب الخالص، وإذا طفيته بعد اللالتهاب يصير لونه رغوة كلون الدم؛ والجيد منه أسود، ويرى داخله ياقوتي اللون، وما لا يرغي ولا يلتهب؛ يكون مغشوشاً بما ذكرناه.
ويغشون القسط بأصول الرأس، ومعرفته أن القسط له رائحة، إذا
وضع على اللسان يكون له طعم، والرأس بخلاف ذلك، وزغب السنبل بزغب القلقاس، وعلامته أن يوضع في الفم فينعرف. والمصطكا بصمغ الأبهل. والمقل بالصبغ القوي، ومعرفته أن الهندى تكون له رائحة ظاهرة إذا بخر به، وليس فهي مرارة، والأفتيمون الأقريطشي، بالشامي / وبزغب السائح ويغشون المحمودة بلبن الملتوع المجمد، ومعرفته أن
توضع على اللسان، فإن قرصت فيه مغشوشة. وتغش أيضاً بنشارة القرون، يعجن بماء الصمغ: عمل على هيئة المحمودة؛ وبدقيق الباقلاء أو الحمص، ومعرفة ذلك أن الخالصة صافية اللون مثل الغري، والمغشوشة بخلافه، ويغشون المر بالصمغ المنقوع في الماء، والخالص يكون خفيفاً ولونه واحداً وإذا كسر ظهر فيه أشياء ككل الأظفار ملساء تشبه الحصا، وله رائحةٌ طيبة، وما كان ثقيلاً لونه مثل الزفت فلا خير فيه.
وقشر اللبان بقشر شجر الصنوبر، ومعرفته أن يلقى في النار، فإن النهب وفاحت له رائحة طيبة فخالص، وإلا فمغشوش، والمزر نجوش ببزر الحندقوق والزنجار بالرخام [والقلقند] ومعرفته أن تبل إبهامك وتغمسه فيه، ثم
تدلك بها السبابة، فغن نعم، واسود فهو خالصٌ، وإن ابيض وتحبب، فهو مغشوش، وأيضاً تحمى صفيحة في النار، ثم يدور عليها، فإن أحمر فمغشوش بالعلفت، وإن أسود فهو خالص وينفقون من الأهليج الأسود أهليجاً أصفر، ويبيعونه مع الكابلي يرشون الماء على الخيار شنبر، وهو ملفوف في الأكسية عند بيعه، فيزيد رطله نصفاً، ويغشون اللك فيسكبوه على النار، ويخلطون معه الآجر المسحوق، والغرة، ثم يعقده أقراصاً، ثم يكسره بعد جفافه، ويبيعه على أنه دم الأخوين.
ومنهم من يدق الكعك قاً جريشا، ثم يجعل شيئاً من الجاوشير على
النار في عسل النحل، ويلقى فيه شيئاً من الزعفران فإذا غلي وأرغى، طرح فيه الكعك، وحركه حتى يشتد، ثم يعمله أقراصاً، إذا برد، ويكسوه ويخلطه مع الجاوشير.
وأما جميع الأدهان الطبية؛ فيغشونها بدهن الخل بعد أن يغلي على النار، ويطرح فيه جوز ولوز مرضوضان، تزيل رائحته، وطعمه، ثم تخلط بالأدهان.
ومنهم من ياخذ نوى المشمش، والسمسم، فيعجنها بعد دقهما، ويعصرهما، ويبيع دهنهما على أنه دهن لوز، ويغشون دهن البلسان بدهن السوسن، ومعرفته أن يقطر منه على خرقة صوف، ثم يغسل، فإن زال عنها ولم تؤثر فخالص، وإلا فمغشوش، وأيضاً الخالص إذا قطر في الماء الحل، ويصير في قوام اللبن، والمغشوش يطفو مثل الزيت، ويبقى كواكب فوق الماء. وهذا ما اشتهر غشه، ويتعاطاه كثير منهم.
وقد ذكر صاحب كيميا العطر، أشياء كثيرةٌ من ذلك غير مشهورة، فرحم الله من وقع هذا الكتاب، في يده فمزقه وغسله تقرباً إلى الله عز وجل، فربما يقع في يد غير أمين (فيدلس به على المسلمين).
وأما العطارون وهم الماورديون في هذا الزمان، فقد ذكرنا أن غشهم أيضًا كثير، مختلف لاختلاف أنواع العطر وأجناس الطيب، فمن غشوشهم المشهورة في المسك، أنهم يعملون نافجة مسكٍ من قشور الأملج الشيطرج الهندي ومثلها شاديروان، ويعجنونه / بماءً صمغ الصنوبر، ويجعلون مع كل أربعة من هذا واحد مسك، ويخشون به النافجة، ويسدون رأسها بالشمع، ثم يجففونها على رأس التنور. وخعرفة غشها أن يفتحها ويلثمها كالمحتسي للشيء، فإن طلع إلى فيه من المسك حدة كالنار، فهو فحل لا غش فيه، وإن كان بالضد فمغشوش.
ومنهم من يعمل نافجة من الأملج والشادوران الذي قد نزع صبغة بالماء الحار، ومعهما أنزروت، ويعجنه بماء الصمغ ويخدمه، ثم يجعل عليه لكل ثلاثة
واحداً من المسك، ويسحق الجميع، ثم تحشى النافجة، ثم تجفف على تنور، ومعرفة غشه بما ذكرنا.
ومنهم من يعمل نافجة من قشور البلوط المخدوم بالنار ويخلط فيه لكل ثلاثة واتحدًا [من المسك] ثم يحشىى كذلك.
ومنهم من يعمل مسكاً غير نافجة، من زرواند ورامك ودم الآخوين، ويعجن، ويجعل للواحد واحداً، ثم يعجن الجميع بماء ورد، ويخلطه بمثله، ويحشون جميع ذلك عنبراً؛ ومعرفة غش جميع هذه الأنواع، أن تضع منه شيئاً في فمك، ثم تنقله على قميص أبيض، ثم تنفضه، فإن انتفض ولم يصبغ فلا غش فيه، وإلا فمغشوش.
ومنهم من يلقي على المسك الخالص شيئاً من دم الأخوين أو دم الجدي؛ ومنهم من يستحقه بدم الغزال، ثم يحشيه في مصرانها، ويشده بخيط، ثم يجففه في الظل، ويخلطه مع غيره في القرارير، ومنهم من يغشه بالكبود المحرقة؛ أو يطرح معه رصاصاً على مقدار الفلفل أو أصغر مصبوغ بالحبر فلا يظهر إلا عند السحق.
وأما العنبر فمنهم من يغشه بزبد البحر والصمغ الأسود، والأبيض، والصندروس، وجوزة الطيب (ويخدمه بمثله، ومنهم من يضيف إلى زبد البحر، والسندروس العود والسنبل والصب)، ويخدمه في بطون الخيل ثمانية [أيام]، ثم يخرجه ويخلطه بمثله، وربما عملوه على هيئة تمثال أو قلائد أو غيرها. ومنهم من يعمله من المسك، والشمع، والعنبر.
ومعرفة غش ذلك أن يجعل شيئاً من في النار، فيظهر ولا يخفى رائحة الأخلاط
فيه، وأيضًا فأنه لا يجف، وإن كان فيه سندروس فإنه يتفتت.
وأما الكافور، فمنهم من يعمله من نخالة رخام الخراطين المدبر.
ومنهم من بعجن الكافور، والصمغ الأبيض، ثم ينجره على الغرابيل أو يعمله من حجارة النسار، ويكسره صغاراً، ثم يخلطه أو يعمله من ذريرة غير مفتوقة، وجبس غير مشوي. وصمغ أبيض، ومثل الجميع كافور أبيض وغير ذلك، ومعرفة غشه أن يلقى منه شيئاً في الماء، فإن رسب فمغشوش، وإن طفا فخالص، وأيضًا يلقى منه شيء على خرقة، ثم يجعلها على النار، فإن طار ولم يثبت فخالص، وإن احترق وصار رمادًا فمغشوش.
وأما الزعفران الشعر فمنهم من يغشه بصدور الدجاج ولحوم البقر، بعد سلقها
بالماء، ثم ينشر ويقدد ويصبغ ثم يجفف، ويجعله في السلال، ومعرفة غشه أن ينقع منه شيئاً في الخل، فإن تقلص، أو تغير لونه؛ فهو مغشوش.
ومنهم من يقطع الكشوت شعرة الزعفران. ثم يصبغه بالمطبوخ من البقم الطيب، / ويضيف إليه شيئاً مصبوغاً بماء الزعفران الخالص، ويذر عليه قليلاً من السكر، ليثقل، ويلصق بعضه ببعض، ثم يخلطه بمثله من الزعفران، ويرفعه في السلال، وبيان غشه أن تجعله في فيك، فإن كان خلواً فمغشوش، ومنهم من يأخذ من نبات حلبة، وينقعه في خمر عتيق قد ترك فيه فلفل، وكركم منخولين، وزعفران أياماً معلومة، ثم ينشر في الظل، ثم يجعل في السلال. وعلامة جميع غشوشه أنه يكون يابس الشعرة، فتأخذ من وسط السلة يظهر لك يبسة.
ومنهم من يطحن الزعفران المغشوش ناعماً، ويحنطه بدم الأخوين ليبقى لونه جيداً؛ فإن المغشوش إذا طحن أبيض لونه، ومعرفته أن يلقى منه شيئاً في الماء في قدح زجاج، فإن رسب فمغشوش، وإن طفا فخالص.
ومنهم من يغشه بسحاقه الزجاج وبالنشا.
وأما الغالية، فمنهم من يجعل أصلها من القطران المدبر، ثم يجعل لكل درهمين درهم مسك جيد، ودرهم عود مسحوق، (ودرهم مسك) مسبوك بالنار، ونصف مثقال عنبر، ويخلط الجميع في أربعة مثاقيل دهن بان فيجيء غاليه، لا تكاد تعرف.
ومنهم من يجعل جسدها من نخالة الرخام الرخو، والشادروان المدر، ويحمل على كل درهمين ما قدمنا ذكره.
ومنهم من يجعل جسدها من الفستق، ويحمل عليها لكل واحد واحد.
ومنهم من يجعله من السمسم الجديد المقشور، والقرطاس المحرق، ويحمل عليها الطيب المذكور.
ومنهم من يعمل جسدها من شمع وجميع هذه الغشوش لا يخفى على من له بصيرة، واللوله والرائحة والقوام.
أما الزباد فغشوشه أيضًا كثيرة ولا فرق بين جسده وجسد الغالية في الغش وإنما الاختلاف في وزن الخميرة.
وأما العود الهندي فيؤخذ الصندل فيبرد كالعود، وينقع في مطبوخ الكرم العتيق، ثم يروجه يخلطه بالعود الهندي، ومعرفة غشه أن يلقى منه شيء على النار فيظهر فيه رائحة الصندل.
ومنهم من يعمله من قشور خشب الزيتون.
واما دهن البان، فيغش من وهو حب القطر، او نوى المشمش، ويتبعه بشيء من المسك، والأفاوي.
ومنهم من يعمله من زيت الأنفاق ثم يعتقه، ويطرح فيه آطراف الآس، فيجيء فيه خضرة، أو يصعد عقد الصنوبر، وقشور الكندر، ولا يشك أنه من ماء الكافور؛ ومعرفته أن يقطر منه على خرقة بيضاء، ثم يغسلها، فإن علق فيها وأثر فمغشوش.
وأما الشمع فيغش بشحم المعز، والقلقونيا، وقد يذرون فيه عند [سبكه][دقيق] الباقلاء، والرمل الناعم، والكحل الأسود؛ ثم يجعل ذلك بطانة داخل الشمع، ثم يغشها بالشمع الخالص
"ومنهم من يغش الأبيض خاصة بالشحم وعلامته / لا تخفى عند إيقادها؛ فعلى المحتسب ظاو العريف يراعى ذلك كله، ويعتبره عليهم ولا يهمله، وأكثر من يتجاسر على عمل ما في هذا الباب. والذي قبله، الغرباء، والأعاجم، فعليه أن يشهر فاعله بالضرب، والتعزيز وغير ذلك" بما يراه.
وأما البزازون، فينبغي أولاً على صاحب هذا السبب، أن يتعلم أحكام البيع، وعقود المعاملات، وما يحل منها وما يحرم، وألا يقع في المحظورات والشبه وهو لا يعلم.
قال عمر رضي الله عنه: "لا يتجر في سوقنا إلا من تفقه في دينه، وإلا آكل الربا، شاء أو أبى" وقد ذكر الفقهاء في كتبهم ما فيه كفايةً من ذلك، وعلى المحتسب بعد ذلك أن يعتبر عليهم الصدق في القول في تخبير الشراء، أو مقدار رأس المال في بيع المرابحة، فإن أكثرهم يفعل أشياء لا تجوز، فيشتري أحدهم سلعة بثمن معلوم إلى أجل معلوم، ثم يخبر برأس المال، وهذا لا يجوز؛ لأن الأجل يقابله قسط من الثمن.
ومنهم من يماكس بعد انعقاد البيع، فينقص البائع شيئاً من الثمن، ومنهم من يشارك الدلال أو غيره، ليعينه على نقص السلعة عن قيمتها إذا اشتراها، وزيادتها إذا باعها، ومنهم من يشتري الثوب بثمن معلوم؛ فيحد به عيباً؛ فيأخذ أرشه من بائعه، ثم يخير برأس ماله في الثوب من غير أرش، ومنهم من يواطيء غلامه أو جاره؛ فيبيعه ثوباً بعشرة دراهم مثلاً، ثم يشتريه منه، بخمسة عشر، فيخبر به في بيع المرابحة، وهذا كله وأشباهه لا يجوز فعله، ويكون سبباً لذهاب البركة عنه، وركوب الدين عليه.
فعلى المحتسب أن يعتبر عليهم جميع ذلك، وينهاهم عن فعله، ويتفقد موازينهم وأذرعتهم (كل قليل).
وأما الدلالون: فينبغي أن يكونوا تقاة أمناء، عندهم صدق لهجة، ونصح للمسلم؛ لأنهم يتسلمون بضائع الناس، ويقلدوهم الأمانة في بيعها: فلا يجوز لأحدهم أن يزيد في السلعة من نفسه، ولا أن ينقص منها من غير أن يوكله صاحبها، ومتى علم الدلال أن في السلعة عيباً؛ وجب عليه أن يعلم المشتري، ويوقفه على العيب، وترى كثيراً منهم يرتكب أموراً، منها: أن يعطى القزازين وصناع البز ذهباً على سبيل القرض، ويشترط عليهم أن لا يبيع لهم أحد غيره، وهذا حرام؛ لأنه قرض جر منفعة.
ومنهم من يشتري السلعة لنفسه، ويوهم صاحبها أن التاجر اشتراها منه، أو يواطيء غيره على شرائها منه، ومنهم من تكون السلعة له، فينادى عليها ويزيد في ثمنها من عند نفسه، ويوهم التاجر أنها لغيره. ومنهم من يكون بينه، وبين البزاز شرط، ومواطأة على شيء معلوم من الأجرة، فإذا جاء بها إلى التاجر، وتأخر ومعه المتاع قليلاً؛ فيستدعى البزاز المنادي ليبيعه فإذا باعه وأخذ الأجرة، أعطى البزاز ما كان قد شرطه له وواطأة عليه؛ وكل ذلك حرام فعله، وعلى المحتسب أن يعتبر عليهم جميع ذلك.
وأما النخاسون: وهم دلالوون الرقيق، والدواب؛ فمن شرطه أيضًا يكون
/عدلاً، مشهوراً بالعفة، لأنه يتسلم جواري الناس وغلمانهم، وربما اختلى بهم في منزله. وينبغي ألا يبيع لأحدٍ عبداً، أو جارية، حتى يعرف البائع، أو يأتي بمن يعرفه، ويكتب اسمه وصفته في دفتره، لئلا يخرج المبيع حرًا أو مملوكاً لغيره، ولا يبيعهما إذا كانا مسلمين لكافر، إلا أن يعلم يقيناً أن المملوك ليس بمسلم، ومتى علم بالمبيع عيباً، وجب عليه بيانه للمشترى، كما قلنا. وأن يكون بصيراً بعيوب الرقيق، والدواب، خبيراً بإيتاء العلل والأمراض؛ فإذا أراد بيع غلام نظر إلى جميع جسده سوى عورته ويعتبر ذلك ويخبر به المشتري، فإن رأى وجهه حائل اللون إلى (الصفرة أو الغبرة)؛ دل على مرض، أو علة في الكبد، أو الطحال، أو بواسير أو غير ذلك.
وأما القزازون فيأمرهم بحوزتهم بجودة عمل الشقة وصفاقتها، ونهاية طولها المتعارف به، وعرضها ودقة غزلها، وتنقيتها من القشرة السوداء بالحجر الأسود الخشن: ويمنعهم من دلكها بالدقيق، أو الجبصين المشوي؛ ليظهر صفاقتها، فإنه تدليس.
وكذا يمنعهم من نسج وجه الشقة بالغزل الجيد والمصطحب، ثم ينسج باقيها من الغليظ، أو المعقود من الهذاب؛ ويكلفهم أن يجعلوا لأجرانهم التي ينقعوا فيها الغزل أغطيةً من خشب؛ لئلا يقع فيها الكلاب وتبول، أو يغسلوها في كل يوم سبع مرات إحداهن بالتراب، عند استعمالها، ولا يمدوا سيقانهم في طرقات المسلمين، فيضروا بها المارة.
وأما الخياطون: فيأمرهم بجودة التفصيل، وتحريره قبل القطع، وحسن فتح الجيب، وسعة التخاريس، واعتدال الكمين والأطراف، واستواء الذيل، والأجود أن تكون الخياطة درزاً لا شلاً، والإبرة دقيقة، والخيط يملأ الخرم قصير؛ لأنه إذا طال انتقض فيضعف، لكثرة نثره. ولا يفصل شيئاً حتى يحبسه، ويقدره، ثم يقطعه، فإن كان له قيمة كالحرير، والديباج، فلا يأخذه إلا بعد أن يزنه، وإذا خاطه رده إلى صاحبه بالوزن.
ويمنعهم من سرقة ما يخيطونه من قماش الناس، فإن نهم من يحشوه وقت كفه رملاً، أو سراساً، ويسرق بقدره من الحرير إذا كان موزوناً، وأن لا يعطلوا الناس بخياطة أمتعتهم، ويكذبون كثيراً، ويتضرروا بالترداد إليهم، ويحبسونها عنهم.
وإذا شرطوا علبهم زمنا معلوماً كأسبوع، ونحوه، لا يتعدوا الشرط، وعلى المحتسب أن يحلف الرفايين ألا يرفوا لأحد م الفصارين أو الدقاقين ثوباً مخرقاً، إلا بحضرة صاحبه، ويأمر القلانس أن يعملوها من الخرق الجديدة، وخيوط الحرير، أو الكتان المصبوغ؛ لا من الخرق البالية المصبوغة، ويشبعونها بالأشراس والسرافة فإن ذلك تدليس محرم.
وأما [القطانون]: فيأمرهم ألا يخلطوا جديد القطن بعتيقه، ولا أحمره بأبيضه، وأن يكرروا ندفه، حتى تطير منه القشرة السوداء والحب المكسر؛ لأن بقاء ذلك فيه؛ يزيد في وزنه، / وإذا طرح على لحاف، أو جبة قرضه الفأر، ولا يضعون القطن بعد ندفه في المواضع الندية، ليزيد في وزنه؛ فإذا جف قص وألا يجلسوا النساء على أبواب حوانيتهم، يتحدثون معهن لانتظار فراغ الندف، فيمنعهم من ذلك كله.
وأما الغزولية: فلا يخلطوا جيدها برديئها، ولا الكتان النابلسي بالمصري، فإن أجوده المصري الجيزي الناعم المورق، وأرادأه القصير الخشن، الذي يتعصف تحت الصدفة،: ويمنعهم من خلط القنداس وهو ما يخرج من السرافة الكتان الناعم بعد مشطه، فإن ذلك تدليس.
وأما الحريريون: فلا يصبغون القز قبل تبيضه لئلا يتغير بعد ذلك، ويفعلونه ليزيد لهم، ومنهم من يثقل الحرير بالنشا المدبر، أو بالسمن، أو الزيت، ومنهم من يجعل في ظفره عقداً من غيره. فيعتبر عليهم ذلك.
وأما الصباغون: فمنعهم من صبغ الحرير الأحمر، وغيره من الغزل، بالحنا عوضاً عن الفوة، فإنه يخرج مشرقاً، فإذا أصابته الشمس تغير لونه، وزال
إشراقه، ومنهم من يدلي الثياب بالعفص والزاج إذا أراد صبغها كحليا، ثم يلقيها في الخابية، فتخرج صافية اللون شديدة السواد، فإذا مضت عليها أقل مدة تغير لونها، ونقص صبغها، وأكثر الصباغين والمرندجين إذا كان في أيام اللأعياد والمواسم، يغيرون ثياب الناس، وربما يكرونها بالأجرة، لمن يلبسها ويتزين بها، وهذه خيانة وعدوان.
وينبغي أن يكتبوا على ثياب الناس أسماءهم [بالحبر] لئلا تبدل وأما الأساكفة: فلا يكثرون حشو النعال من الخرق وخبز الفجل بين البشتيك، والبطانة، والنعل، والظهارة ويشدون حشو الأعقاب، ولا يسدون نعلا قد اخترق بالدبع، ولا فطيراً لم ينضج، وأن يكموا إبرام الخيط، ولا يطولونه أكثر من
ذراع، لئلا ينتقض برمه، ويضعف عن الجذي، ولا يخرزون بشعر خنزير، بل يجعلون عوضه ليفاً، أو شارب الثعلب، فإنه يقوم مقامه ولا يمطلوا أحداً متاعه، إلا أن يشرطوا له يوماً معلوماً، وألا يعلموا الورق، أو اللبد، ونحوه في أخفاف النساء، فيضرهم عند المشي.
وأما الصيارف: فينبغي أن يعلموا أنهم على خطر عظيم في أديانهم، وإذا كان الصيرفي جاهلاً بالشريعة غير عالم بأحكام الربا، فيحرم عليه تعاطي ذلك قبل معرفته بالشرع وعلى المحتسب أن يتفقد سوقهم، ويعتبر عليهم موازينهم وصنجهم، ويتجسس عليهم فإن عثر باحد منهم رابى أو فعل في الصرف ما لا يجوز –عزره وأقامه من السوق، هذا بعد أن يعرفهم بأصول مسائل الربا، وأنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، إلا مثلا بمثل يداً بيد، فإن أخجذ زيادة على المثل، أو تفرقا قبل القبض، كان ذلك حراماً، أما بيع الذهب بالفضة، فيجوز فيه التفاضل، ويحرم فيه النسأ أي التأخير والتفرق قبل التقابض، ولا يجوز بيع الخالص بالمغشوش، ولا المغشوش بالمغشوش من الذهب والفضة كبيع / الدنانير الصورية مثلاً، أو الصورية بالصورية، أو الدراهم (الأحدية بالقروية) لوجود الجهل
بمقدارهما، وعدم التماثل بينهما، ولا يجوز بيع دينار صحيح بدينار قراضة قيمتيهما، ولا دينا قاساني سابوري؛ لاختلاف صنعتهما. ولا يجوز بيه دينار وثوب بدينارين. وقد يفعله بعض الصيارف والزازين على غير هذا الوجه، فيعطيه ديناراً ويجعله قرضاً، ثم يبيعه ثوباً بدينارين، فيصير له عنده ثلاثة دنانير إلى أجل معلوم، ويشهد عليه بجملتها وهذا حرام؛ لأنه قرض جر منفعة.
وأنا الصاغة فيجب عليهم أيضاً أن ألا يبيعوا أواني الذهب والفضة، والحلي المصنوعة إلا بغير جنسها، ليحل فيها التفاضل والنسأ، فإن باعها بجنسها حرم فيها التفاضل والنسأ والتفرق قبل القبض، كما قدمنا وإن باع بجنسها حرم فيها التفاضل والنسأ والتفرق قبل القبض، كما قدمنا وإن باع شيئاً من الحلي المغشوشة؛ لزمه أن يعرف المشتري بمقدار ما فيها من الغش، ليدخل على بصيرة.
وإذا أراد صياغة شيء فلا يسبكه في الكير إلا بحضرة صاحبه بعد تحقق وزنه، فإذا أخرجه أعاد الوزن.
وكذا يزن اللحام قبل إدخاله، وإذا أخرجه أعاد الوزن ولا يركب شيئاً من الفصوص على الخواتم، والحلي إلا بعد وزنها بحضرة صاحبها، "ولا يجوز بيع تراب دكاكين الصاغة ورمادها، إلا بالفلوس أو بعرض غير النقدين، فإنه لا يخلو من ذهب وفضة". وبالجملة فتدليس الصائغ وغشوشه خفية لا تكاد تعرف، ولا يصده عنها إلا أمانته ودينه، فإنهم يعرفون من الجلاوات والصباغ ما لا يعرفه غيرهم.
فمنهم من يصبغ الفضة صبغاً لا يفارق الجسد إلا بعد السبك الطويل في الرواباص ثم يمزجون بها الذهب للواحد اثنين. فمن ذلك صفة تصغيره، ذكرها صاحب كتاب "نهاية الرتبة" في طلب الحسبة وهو الشيخ الإمام عبد الرحمن ابن نصر الشيرازي الشافعي فقال: يؤخذ [ساذبخ] قد شويت ودهنت على الانفراد، وراسخت قد شوى بماء المرنج المدبر سبع
مرات، وزاج وزنجفر مشويان بماء العقاب المحلول في القارورة، ثم يجمع بين الجميع في السحق بعد ذلك، ثم يسوى بين قدحين بماء المرنج المذكور سبع مرات، ثم بالعقاب المحلول سبع مرات، فإنه ينعقد حجراً أحمر مثل، الدم يلقى منه درهماً لي عشرة (ثم يزده) شمساً في عيار ستة عشر، فإن حل هذا الحجر الأكسير أحمر، ثم عقد القمر في عيار ستة عشر، فإن حل هذا الحجر الأكسير أحمر، ثم عقد القمر في عيار عشرين، يفرغ دنانير ويعمل منه مصبوغاً، ومنهم من يأخذ (رأس أخت) يشويه بمرارة البقر سبعاً، ثم يضيفه إلى مثله ذهباً مكلساً بصفرة الكبريت المستخرجة بالجير والقلي، الجميع بماء العقاب
المحلول سبعاً، ثم يدهنه بدهن زعفران الطوب سبعاً، فإنه ينعقد حجراً مثل الأول، فإن حله، وعقده صار أبلغ من الأول، يقارب المعدني، والملقى منه قيراط على درهم قمر. انتهى.
فيجب على كل مسلم أن يخاف الله –عز وجل، ولا يزغل على المسلمين بهذا، ولا بغيره.
وأما النحاسون: فلا يجوز لهم أن يخلطوا النحاس بالحبق / الذي يخرج من الصاغة، وسباكين الفضة عند السبك، فإنه يصلب الحديد ويزده يبساً، ولكن إذا أفرغ منه هاون أو طائه ونحوها انكسر سريعاً، ويقصف كالزجاج.
وينبغي لهم (أن يمزجوا أيضًا) النحاس المكسور ومن الأواني ونحوها بالنحاس المعدني.
وأما الحدادون: فلا يضربون سكيناً ولا مقصاً ونحوهما من الصلب،
ويبيعونه على أنه فولاذ، ولا يخلطون المسامير المحماة المطرقة بالمسامير الجديدة الضرب، فكل ذلك تدليس.
وأما البياطرة: فينبغي أن يعلم أن البيطرة علم جليل سطرته الفلاسفة في كتبهم، ووضعوا فيها تصانيف، وهي أصعب علاجاً من أمراض الآدميين؛ لأن الدواب ليس لها ن
طق تعبر به عما نجد، وإنما يستدل على عللها بالجس والنظر، فيفتقر البيطار إلى حذقٍ وبصيرة بعلل الدواب، وعلاجاتها، ولا يتعاطاها إلا من له دين يصده عن الهجوم عليها [بفصد، أو قطع] أو كي، وما أشبهه بغير مخبرة؛ فيؤدي إلى هلاك الدابة أو عطبها، وأن يكون خبيراً بما حدث أو يحدث فيها من العيوب، يرجع الناس إليه في ذلك إذا اختلفوا، وقد ذكر بعض الحكماء في كتاب البيطرة أن علل الدواب ثلثمائة، وعشرين علة؛ ومنها: الخناق، والخنان الرطب، والخنان اليابس، والجنون، وفساد الدماغ، والصداع والحمرة،
والنفخة، والورم، والمرة الهائجة، [والدببة] والحام ووجع الكبد، ووجع القلب، والدول في البطن، والمغل، والمغس، وريح السوس، والقصاع، والصدام، والسعال البارد، والسعال الحار، وانفجار الدم من الدبر، والذكر، والبجل والخلد واللقوة، والماء الحادث في العين،
والمتاخويا، ورخاوة الأذنين، والضرس، وغير ذلك مما يطول شرحه، وهو مذكور في كتب القوم.
فتعين معرفة ذلك كله على البيطار ومعرفة علاجه، وسبب حدوث هذه العلل، فإن منها ما إذا حدث في الدابة صار عيباً دائماً، ومنها ما لم يصر عيباً دائماً، ويمكن زواله، ينبغي للبيطار أن ينظر أولاً رسغ الدابة، ويعتبر حافرها قبل تقليمه، فإن كان [أحنفاً] أو مائلاً، نسف من الجانب الآخر قدراً يحصل به الاعتدال وإن كانت الدابة قائمة يجعل المسامير المؤخرة صغاراً المقدمة كباراً، وإن كان يدها بالضد من ذلك صغر المقدمة وكبر المؤخرة، ولا يبالغ في تنسيف الحافر، فيعمر الدابة، ولا يرخي المسامير فيتحرك النعل ويدخل تحته الحصى والرمل، فيرهص، ولا يشدها على الحافر قوياً فيرص.
والعم أن النعال المطرقة ألزم للحافر، واللينة أثبت من الصلبة، والمسامير الرقيقة خير من الغليظة، وإذا احتاجت الدابة إلى تسريح أو فتح عرق أخذ المبضع بين إصبعه، وجعل نصابه في راحته، وأخرج من رأسه مقدار نصف ظفر، ثم يفتح العرق تعليقاً إلى فوق بخفة ورفق، ولا يضرب العرق حتى يحبسه بإصبعه، سيما عروق الأوداج، فإنها خطرة لأجل مجاورتها للمرئ فإن أراد فتح شيء من عروق الأوداج خنق الدابة خنقاً شديداً، حتى تبرز عروق / العنق، فيتمكن بعد ذلك فيما أراده. فعلى المحتسب امتحان البيطار في معرفة ذلك كله، ولا يهمله، ومراعاة فعله بدواب الناس، ولا يغفل عن ذلك.
وأما قومه الحمامات: فينبغي للمحتسب أن يأمرهم بكنس الحمام، وغسلها، وتنظيفها بالماء الطاهر، غير ماء الغسالة، ويفعلون ذلك مراراً في كل يوم، ويدلكون البلاط بالأشياء الخشنة، ليزول ما لصق بها من السدر، والصابون ونحوهما، ويغسلون الخزانة من الأوساخ المجتمعة في مجاريها، والعكر الراكد في أسفلها في كل شهر مرة، لأنها إن تركت أكثر من ذلك تغير الماء فيها في الطعم والرائحة.
وإذا أراد القيم الصعود إلى الخزانة ليفتح الماء إلى الأحواض يغسل رجليه بالماء
قبل صعوده؛ لئلا تكون رجلاه متنجسة، ولاا يسد الأنابيب بشعرالمشاطة، بل بالليف والخرق الطاهرة، ليخرج من الخلاف. ويطلق فيها البخور في كل يوم مرتين سيما وقت كنسها وغسلها.
وإذا بردت الحمام، فينبغي أن تبخر بالخزامى فإن بخاره، يحمي هواءها، ويطيب رائحتها، ولا يحبس ماء الغسالات في مسيل الحمام لئلا تقوح رائحتها، ولا يمكن الأساكفة، ونحوهم يدخلون بالجلود إلى الحمام، أو ما له رائحة كريهة، ولا يجوز أن يدخلها ذو عاهة من أجذم، وأبرص، وأجرب.
ويلزم الحارس فتحها وقت السحر، ليدخلها من يحتاج إلى التطهير لأجل الصلاة، وأن يحفظ ثياب الناس، فإنه إن ضاع منها شيء؛ لزمه ضمانه، على الصحيح من مذهب الشافعي إن قصر.
وينبغي للحلاق أن يكون خفيف اليد، [رشيقاً] بصيراً بالحلاقة، وحديدته رطبة قاطعة، ولا يستقبل الرأس، ومنابت الشعر استقبالاً، ولا يأكل ما يغير
نكهته كبصل وثوم، وكراث؛ لئلا يتضرر الناس بريحه، وأن يخفف الجبين والصدعين، ولا يحلق شعر صبي إلا بإذن وليه، ولا يحلق عذراً أسود، ولا لحية مخنث، ويمنع القيم من دلوك الباقلاء، والعدس في الحمام، لأنها طعام، ولا يجوز امتهانة، ويأمره أن يخشن يديه بقشور الرمان ونحوه؛ ليخرج بهما الوسخ عن البدن، ويستلذ بها الإنسان.
وعلى المحتسب لأن يتفقد الحمامات في كل يوم مراراً، ويعتبر عليهم ما ذكرناه؛ وإذا رأى أحداً قد كشف عورته عزره؛ لأن كشفها حرام، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الناظر والمنظور إليه".
فائدة:
قال بعض الحكماء: خير الحمامات ما قدم بناؤه، وامتنع هواءه، وعذب
ماؤه، وقدر الأنان وقوده، بقدر مزاج من أراد وروده، وينبغي أن يعلم أن الفعل الطبيعي للحمام هو التسخين بهوائه، والترطيب بمائه، والحمامات الموضوعة على قانون الحكمة هي حمامات بلاد الشام، فالبيت الأول منها: مبرد مرطب، والثاني: مسخن مرطب، والثالث: مسخنٌ مجففٌ.
والحمام فيه منافع ومضار: أما منافعه؛ فتوسيع المسام واستفراغ الفضلات، وتحليل الرياح، وحبس الطبع إذا كانت سهولة عن هيضة، وتنظيف الوسخ والعروق، وإذهاب الحكة، والجرب، والإعياء، وترطب البدن، وتجود الهضم، وتنضج النزلات، وتنفع من حمى يوم، ومن حمى الدق، والربع بعد نضج خلطها.
وأما مضارة: فترخي الجسد، وتضعف الحرارة عند طول المقام فيه /، وتسقط
شهوة الطعام، وتضعف الباء، وأعظم مضارها صب الماء الحار على الأعضاء الضعيفة، وقد تستعمل على الريق والخلاء، فتجفف، وتهزل، وتضعف، وقد تستعمل على قرب العهد بالشبع فتسمن، إلا أنه يحدث منه داء، وأجود ما استعمل على الشبع بعد الهضم الأول، فإنه يرطب البدن، ويسمنه، ويحسن بشرته.
وأما [الفصادون]: فينبغي ألا يتصدى للفصد إلا من اشتهرت معرفته بتشريح الأعضاء والعضل، والعروق والشرايين، وأحاط بمعرفة تراكيبها وكيفيتها، فربما يقع مبضعه في غير عرق مقصود، أو في عضلة أو شريان، فيؤدي إلى زمانة العضو وتعطيله، وربما هلك كثير من ذلك، فمن أراد تعلم الفصد فليدمن أولاً بفصد ورق السلق أعنى العروق التي في باطنها حتى تستقيم يده.
وينبغي له أن يمنع نفسه من علم صناعة مهينة، تكسب أنامله صلابة، وعسر جس، وأن يراعى بصره بالأكحال المقوية، والايارجات إن احتاج إليها، ولا
يفصد عبداً، ولا صبياً إلا بإذن وليه وسيده، ولا حاملاً، ولا طامثاً، ولا يفصد إلا في مكان مضيء، وبآلة ماضية؛ ولا هو منزعج الجنان.
وعلى المحتسب أن يأخذ عليهم العهد والميثاق أنهم لا يفصدون في عشرة أمزجة، إلا بعد مشاورة الأطباء، وهي: في السن القاصر عن الرابع عشرة، وفي سن الشيخوخة، وفي الأبدان الشديدة القصافة والشديدة السمن، والأبدان البيض المترهلة، والأبدان الصفر العديمة الدم، والتي طالت (بها الأمراض). وفي المزاج الشديد البرد، وعند الوجع الشديد.
وقد نهت الأطباء أيضًا عن الفصد في خمسة أحوال:
الأولى: عقب الجماع، وبعد الاستحمام. وفي حالة امتلاء المعدة والأمعاء من الثقل. وفي حال شدة الحر والبرد.
وله وقتان. وقت اختيار ووقت اضطرار. أما الاختيار فهو ضحوة النهار بعد تمام الهضم والنقص، وأما الاضطرار فهو الوقت الموجب الذي لا يسع تأخيره، ولا يلتفت فيه إلى سبب [مانع].
وينبغي للمفتصد ألا يمتلئ من الطعام بعده، بل يتدرج في الغداء ويلطفه، ولا
يرتاض بعده، بل يميل إلى الاستلقاء، ولا يجوز النوم عقبه فإنه يحدث انكسارًا في الأعضاء؛ ومن افتصد، وتورمت يده اقتصد في اليد الأخرى، بمقدار الاحتمال، وينبغي أن يكون مع الفاصد منافع كثيرة، من ذوات الشعيرة، وغيرها، وكبة من حرير، أو خز، وشيء من آلة السقي، من خشب أو ريش، ويكون معه وبر الأرنب، ودواء الصبر والكندر، وصفته أن ياخذ من الكندر والصبر والمر، ودم الأخوين، من كل واحد جزء ومن العلفطار والزاج من كل واحد نصف جزء، يخلط ويعمل كالمرهم، ويرفعه لوقت الحاجة ويكون معه أيضًا نافجة مسك، وأقراص المسك.
فإذا عرض للمفصود غش بادره فألقم البضع كبة الحرير وقياه بآلة القيء، وشممه النافجة، وجرعه من أقراص المسك لتنتعش قوته، وإن حدث له / فتوق دم، من عرق أو شريان، [بادر] فحشاه بوبر الأرنب ودواء الكندر، ولا يضرب ببضع كال، فإنه كثير المضرة؛ لأنه يخطئ فلا يلحق، ويورم ويمسح رأس مبضعه بالزيت، فإنه لا يؤلم غير أنه لا يلتحم سريعاً، ويأخذ المبضع بالإبهام والوسطى، ويترك السبابة للجس، ويكون الأخذ على النصف، لئلا تضطرب يده، ولا يرفع المبضع باليد غمراً، بل بالاختلاس، ليصل طرف المبضع حشو العرق، وتوسيع المبضع في الشتاء أولى لئلا يجمد الدم، وتضييقه في الصيف لئلا يسرع إليه الغثيان ويثبت الفصد بحفظ قوة المفصود، فمن أرادها في يومه فليشق العوق موارباً، ليستلحم سريعاً وأجود البقية ما أخر يومين أو ثلاث، ومتى تغير لون الدم، أو
حدث غشي، أو ضعف في النبض، فيلبادر إلى شده ومسكه.
قال صاحب كتاب الرتبة: لم أر في صناعة الفصد أحذق من رجلين رأيتهما بمدينة حلب، افتخر كل منهما على صاحبه.
أحدهما: ليس غلالته، وشديده من فوقها، وانغمس في بركة ثم فصد يده في قعر الماء من فوق الغلالة.
والثاني: مسك المبضع بإبهام رجله اليسرى، ثم فصد يده اليمنى.
قال: واعلم أن العروق المفصودة كثيرة متفرقة في البدن، فعلى المحتسب أن يمتحنهم بمعرفتها، وبما يجاورها من العضل والشرايين أما التي في الرأس فعرق الجبهة، وهو المنتصب بين الحاجبين، وفصده ينفع من ثقل الرأس وثقل العينين، والصداع الدائم؛ وعرق فوق الهامة ينفع الشقيقة وقروح الرأس، والعرقان الملويان على الصدغين ينفعان من الرمد والدمعة وقروح الرأس وجرب الأجفان
ونتوئهما، وعرقان خلف الأذنين، يفصدان لقطع النسل، فعلى المحتسب أن يحلفهم ألا يفصدوا أحداً فيهما؛ لأن قطع النسل حرام.
وعروق الشفة فصدها ينفع من قرح الفم، والقلاع وأوجاع اللثة وأورامها، والعرق الذي تحت اللسان ينفع الخوانيق وأورام اللوزتين، وأما عروق اليدين فستة، القيفال. والأكحل، والباسليق، وحبل الذراع، والأسليم، والإبطي - وهو شعبة الباسليق، وأسلم هذه العروق القيفال، ويجب أن يتنحى في فصده عن رأس العضلة إلى موضع لين ويسع بضعه إن أراد أنه بيني، أما الأكحل ففي فصده خطر عظيم، لأجل العصبة التي تحته، وربما وقعت بين عصيين، وربما كان فوقها عصبة دقيقة مدورة كالوتر؛ فيجب أن يعرف ذلك ويجتنيه.
وأما الباسليق: فعظيم الخطر أيضاً: لوقوع الشريان إذا بضع لم يرق دمه، وأما الأسيلم، فالأصوب أن يفصد طولاً، ويفصد حبل الذراع موارياً، وكلما انحدر في فصد الباسليق إلى الزراع كان أسلم، وأما عروق البدن، فعرقان على البطن، أحدهما موضوع على الكبد، والآخر على الطحال؛ ينفع فصد الأيمن منهما الاستسقاء والأيسر الطحال، وأما عروق الرجلين، فأربعة؛ منها عرق النساء، ويفصد / عند الجانب الوحشي من الكعب، فإن خفي (فلتفصد شعبته التي) بين الخنصر، والبنصر؛ ومنفعه فصده عظيمة سيما في النقرس، والدولي، وداء الغيل، ومنها عرق الصافن، وهو على الجانب الإنسي وهو أظهر من عروق النساء، وفصده ينفع من البواسير، ويدر دم الطمث، وينفع
الأعضاء التي تحت الكبد، ومنها عرق نابض الركبة، وهو مثل الصافن في النفع، ومنها العرق الذي خلف العرقوب، وكأنه شعبة من الصافن، ومنفعته مثل الصافن.
وأما الشرايين المقصودة: في الغالب، فيجوز فصدها، وهي الصغار، والبعيدة من القلب، فإن هذه هي التي [يرقى] دمها إذا فصدت، وأما الشرايين الكبار القريبة الوضع من القلب، فإنه لا يرقى دمها، والتي يحوز فصدها على الأكثر شريان الصدغين، والشريان بين الإبهام، والسبابة، وقد أمر جالينوس بفصدها في المنام.
وأما الحجامون: فالحجامة عظيمة المنفعة، وهي أقل خطراً من الفصد، وينبغي أن يكون الحجام خفيفاً رشيقاً، خبيراً يخف يده في الشرط، ثم يعلق المحجمة، تعليقاً خفيفاً سريع القلع، ثم يتدرج إلى إبطاء القلع والإمهال، ويمتحنه
المحتسب بوضع ورقة يلصقها على أخرى، ثم يأمره بشرطها، فإن تعدا المشراط كان ثقيل اليد، سيئ الصناعة؛ وعلامة حذقة وخفة يده ألا يؤلم المحجوم، وقد ذكر الحكماء أن الحجامة تكره في أول الشهر وفي آخره؛ لأنها في أوله لا (تكون الدماء) قد تحركت، ولا هاجت، وفي آخره نقصت، فلا يفيد شيئاً، ويستحب في وسط الشهر، إذا تكامل النور في حرم القمر، لأن الأخلاط تكون هائجة، والأدمغة زائدة في الإقحاف؛ وأفضلها الساعة الثانية، والثالثة من النهار، وأما منافعها على النقرة خليفة لفصد الأكحل، وتنفع من ثل الحاجبين، وجرب العينين، والبخر في الفم، غير أنها تورث النسيان، كما قال صلى الله عليه وسلم "إن موخر الدماغ موضع الحفظ، وتضعفه الحجامة"، وعلى الكاهل خليفة
فصد الباسليق، وينفع من وجع المنكب والحلق، غير أنها تضعف فم المعدة، والحجامة في الأخدعين حليفة فصد القيفال، وينفع من وجع الوجه، والأسنان، والضرس، والعينين والأذنين، والحلق والأنف، ورعشة الرأس، غير أنها تحدث رعشة في الرأس، وتحت الدقن تنفع الوجه والأسنان والحلقوم، [وتنفى] الرأس، وعلى الهامة تنفع من اختلاط العقل والدوار، وتبطئ بالشيب؛ غير أنها تضر الذهن، وتورث بلها، وعلى الفخذين تنفع من وجع الخصيتين، وجراحات الساقين، وعلى الفخذين من خلف ينفع من الجراحات والأورام الحادثة في الاليتين، وعلى الساقين يقوم مقام الفصد، وتنقى الدم، وتدر الطمث.
وأما المجبرون، فلا يحل لمجير يقدم ويتصدى للجبر إلا بعد أن يحكم له بمعرفة المقالة السادسة من كتاب قوانين في الجبر، / وأن يعلم عدد عظام الآدمي - وهي ماتتا [56 / ب
عظم، وثمانية وأربعون عظماً - وصورة كل عظم منها، وشكله وقدره، حتى إذا انكسر منها شيء رده إلى موضعه، على هيئته التي كان عليها، فيمتحنهم المحتسب بمعرفة جميع ذلك.
وأما الجرانحيون: فيجب عليهم معرفة كتابين عن جالينيوس أحدهما المعروف "بقاطايس" في الجراحات، والمراهم، وأن يعرفوا التشريح وأعضاء الإنسان، وما فيه من العضل، والعرق، والشرايين، والأعصاب، ليتجنب ذلك في فتح المواد وقطع البواسير، ويكون معه دست من المباضع، فيه كدورات الشعيرات، والموربات، والحرمان وفأس الجبهة، ومنشار القطع، ومجرفة الأذن، ودور السلع، ومر همدان المراهم، ودواء الكندر والقاطع للدم الذي قدمنا صفته، وقد يبهرجون على الناس بعظام تكون معهم فيدسونها في الجرح دكا، ثم يخرجونها بمحضر من الناس، ويزعمون أن أدويتهم القاطعة أخرجتها، ومنهم من يضع مراهما
من الكلس المغسول بالزيت، ثم يصبغ لونه أحمد بالمغرة، وأخضر بالكركم، والنيل، وأسود بالفحم المسحوق، فيعتبر عليهم العريف [جميع] ذلك.
وأما الأطباء: فينبغي أن يعلم أن الطب علم نظري وعملي، أباحته الشريفة المطهرة عمله وعمله، لما فه من حفظ الصحة ورفه العلل، والأمراض عن هذه البنية الشريفة، والطبيب هو العارف يتركب البدن، ومزاج الأعضاء، والأمراض الحادثة فيها، وأسبابها وأعراضها وعلاماتها، والأدوية فيها والاعتياض عما لم يوجد، والوجه في استخراجها، وطريق مداواتها، ليساوي بين الأمراض والأدوية في كمياتها، ويخالف بينهما وبين كيفياتها، فمن لم يكن بهذه الصفة، فلا يحل له مداواة المرضي ولا يجوز الإقدام على علاج تخاطر فيه، ولا أن يتسرع إلى ما لم يحكم عمله من جميع ما ذكرناه، فقد حكوا أن ملوك اليونان كانوا يجعلون في كل مدينة حكيماً مشهوراً بالحكمة، ثم يعرضون عليه بقية أطباء البلد ليمتحنهم، فمن وجده مقطراً في علمه أمره بالاشتغال بالعلم ونهاه عن المعالجة.
وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه، وعماً يجده من
الألم، ثم يرتب له قانوناً من الأشربة وغيرها؛ ثم يكتب نسخة بما ذكره المريض وبما رتبة له في مقابلة مرضه، ويسلم النسخة إلى أولياء المريض، بشهادة من حضر (معه عند) المريض، فإذا كان الغد حضره، ونظر إلى دائه، سأله ورتب له قانوناً على حسب مقتضى الحال، وكتب له نسخة أيضاً، ويسلمها إليهم، ثم في اليوم الثالث كذلك، ثم في الرابع وهكذا إلى أن يبرأ المريض، أو يموت فإن برئ أخذ الطبيب أجرته وكرامته، وإن مات حضر الطبيب وأولياء المريض عند الحكيم العالم المشهور في البلد، وعرضوا عليه النسخ التي كتبا لهم، فإن رآها على مقتضى الحكمة وصناعة الطب من غير تفريط، ولا تقصير من الطبيب حمدوه، وشكروا [عمله]، وأمانته، وإن رأى الأمر بخلاف ذلك، قال لهم: خذوا دية صاحبكم منه، فإنه هو الذي قتله بسوء صناعته وتفريطه.
وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد بقراط الذي أخذه على ساتر الأطباء،
ويحلفهم ألا يعطوا أحداً دواء مضراً، ولا يركبون له سما، ولا يصفون السمومات عند أحد من العامة، ولا يذكرون للنساء دواء يسقط الأجنة، ولا للرجال دواء يقطع النسل، ويمتحنهم بما ذكره حنين في كتابة المعروف محنة الطبيب.
وأما محنة الطبيب لجالينيوس، فلا يكاد أحد يقوم بما شرطه عليهم، [وليغضوا] أبصارهم عن المحارم إذا دخلوا على المريض، ولا يفشون الأسرار، ولا يهتكون الأستار، وأن يكون عنده جميع آلات الطب على الكمال، وهي كلبات الأضراس والعلق، ومكاري الطحال، وذرقات،
القولنج، وزراقات الذكر، وملزم البواسير، ومخرط المناخير، ومبخل البواسير وقالت التشمير، ورصاص التثقيل، ومفتاح الرحم، وبوار النساء، ومكمدة الحشا، وفدح الشوصة، وغير ذلك مما يحتاج إليه في صناعته.
وإما الكحالون: فيمتحنهم المحتسب بكتاب "حنين بن إسحاق أعني العشر مقالات في العين، فمن وجده قيما بها، عارفاً بتشريح طبقات العين السبعة، وعدد رطوباتها الثلاثة، وأمراضها الثلاثة، وما تفرع من ذلك من الأمراض، وكان خبيراً بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير، أذن له في التصدي لمداواة أعين الناس.
وينبغي له ألا يفرط بشيء من آلات صنعته؛ مثل السبل [والظفرة] ومحك الجرد، وجبهة القدح، ومباضع الفصد، ودرج المكاحل، وغير ذلك.
وأما كحالين الطرقات، فلا يوثق بأكثرهم، إذ لا دين لهم يصدهم عن الهجوم على أعين الناس بالقطع، والكحل، بغير علم، ومخبرة بالأمراض والعلل الحادثة؛ فلا ينبغي لأحد أن يركن إليهم، ولا يثق بأكحالهم واشيافاتهم فإن أكثرها غشٌ ضار غير نافع؛ فيحلفهم المحتسب على ذلك إذا لم يمكنه منعهم. والله سبحانه الموفق لكل خير ويقول الفقير إلى الله تعالى (جامعه رحم الله تعالى) من عرف قدراً زائداً من غشوشهم؛ أو اطلع على ما لم أذكره في هذا الكتاب من ذلك، فيلحقه بحواشيه تقرباً إلى الله تعالى جعله الله سبحانه خالصاً لوجهه الكريم، ونفعني بما جمعته فيه، وأحبائي وسائر المسلمين.
الخاتمة
في ذكر درر ملتقطة وأداب متفرقة
وختامه سؤال الله المغفرة وحسن الخاتمه
روي أنه عليه السلام قال: "انظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم".
وقال عليه السلام: "أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلا ويده بيد الله تعالى".
وقال عليه السلام: "لو أن الرجل كالقدح المقوم، لقال الناس فيه: لو، ولولا".
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "أفضل الصدقة جهد المقل، وأسوأ الناس حالاً من / لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحدٌ لسوء فعله، وأصبر الناس من لا يفشى سره إلى صديقه، مخافة التقلب يوماً ما، وأعجز الناس المفرط في طلب الأخوان.
وقال: "انتهزوا الفرص، فإنها تمر مر السحاب، ولا تطلبوا أثرًا بعد عينٍ".
وقال: "إذا أقبلت الدنيا على رجلٍ أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عن رجلٍ سلبته محاسن نفسه، قال: بين الحق والباطل أربع أصابع، فالحق أن يقول رأيت بعيني، والباطل أن يقول: سمعت بأذني وقال المستنصر بالله: والله ما ذل ذو حق، ولو اتفق العالم عليه، ولا عز ذو باطل، ولو طلع القمر في جبينه.
وسئل بعضهم عن أعدل الناس؟ فقال: "أعدلهم من أنصف من نفسه، وأجور الناس من ظلم لغيره، وأكيس الناس من أخذ أهبة الأمر قبل نزوله، وأحمق الناس من باع آخرته بدنيا غيره، وأسعد الناس من ختم له في عاقبته بخير، وأشقى الناس من اجتمع عليه فقر الدنيا، وعذاب الآخرة".
وقال حكيم: "لا يكون الرجل عاقلًا، حتى يكون عنده تعنيف الناصح، ألطف موقعًا، من ملق الكاشح".
وقال آخر: "اطلب في الدنيا العلم، والمال، تحيز الرئاسة على الناس؛ لأنهم بين خاص وعام، فالخاص: تفضله بالعلم، والعام يفضلك بالمال.
وقيل لحكيم: "ما يجمع القلوب على المودة؟ قال: كف بذول، وبشر جميل، ومتى يحمد الكذب؟، قال: إذا جمعت به بين متقاطعين، ومتى يذم الصدق]؟ قال: إذا كان غيبة، ومتى يكون الصمت خيرًا من النطق؟ قال: عند المراء.
وقال ابن المقفع: إن حاججت فلا تغضب فإن الغضب يقطع عنك الحجة، ويظهر عليك الخصم.
وقال أفلاطون: الملك كالنهر الأعظم، يستعمل منه الأنهار الصغار، (فلإن كان) عذبًا عذبت، وإن كان مالحًا ملحت.
وقال آخر: ولا ينبغي أن يكون كذابًا، ولا بخيلًا، ولا حسودًا، ولا جبانًا، فإنه إن كان كذابًا، ثم وعد خيرًا لم يرج، أو وعد شرًا لم يخش، وإن كان بخيلًا لم يناصحه أحد ولا يصلح الملك، إلا بالمناصحة، وإن كان حسودًا لم يشرف أحدًا، ولا تصلح الناس، إلا بأشرافهم. وإن كان جبانًا اجترأ عليه عدوه، وضاعت ثغوره.
وقال آخر: فضل الملوك في الإعطاء، وشرفهم في العفو، وعزهم في العدل.
وقال أبو مسلم الخراساني: خاطر من ركب البحر، وأشد منه مخاطرة، من داخل الملوك، ومن أوصاف الملك الجميلة: حسن العهد، ومراعاة سالف المعرفة".
دخل رجل من بني شيبان على معن بن زائدة فعاتبه على التأخر عنه بعد
الولاية، وكان صديقه قبل ذلك فقال الرجل: أبقى الله الأمير في نعمةٍ زائدةٍ، وكرامةٍ دائمةٍ، ما غاب عن العين من ذكره القلب، وما زال شوقي عظيم، وهو دون ما يجب لك علي، وذكري للكثير وهو دون قدرك، ولكن جفوة الحجاب، وقطوب الغلمان، وقلة بشرهم، يمنعني من إتيانك، فتقدم معن بتسهيل حجابه.
ينبغي لمسامر السلطان ومنادمه / أن يكون فصيحًا، بليغًا، عارفًا بما يورده من الأخبار والأحاديث، مقتصرًا على ما يفيد غير متجاوز لما يريد، فليست البلاغة بكثرة الكلام، ولكنها بإصابة المعنى.
قال الحجاج لابن القبعثري: ما أوجز الكلام؟ قال: أن يسرع فلا يبطئ، وأن يصيب فلا يخطئ".
وينبغي لمن آنسه السلطان بمؤاكلته، وشرفه بحضور مائدته ألا ينبسط في المطعم بين يديه، ولا يشره، ولا يشبع إلا أن يكون أخًا للملك، أو قريب له، أو صديق، ولا يضع يده معه في إناءٍ واحد، وليعلم أن حظه من مؤاكلة الملك، الرتبة، والشرف، لا غيره.
فإن موائد الملوك للتشرف لا للسرف، وينبغي لمن يساير السلطان، أن يكون عالمًا بالطرق والمنازل، فكه الحديث، عالمًا بأخبار الناس، شديد التحرز فيما يورده، من نادرةٍ، أو مثلٍ.
كان حارثة ابن زيد الغداني ذا بيان وفصاحة، وكان كثيرًا ما يساير زيادًا إذا ركب.
وكان حارثة منهومًا بالشراب فعوتب زياد على الاستئثار به، فقال: كيف أطرح رجلًا يسايرني منذ دخلت العراق، فلم يصكك ركابه ركابي قط [تقدمني] فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ الشمس علي في شتاء، ولا اظل والروح في صيف، ولا سألته عن شيءٍ من العلم إلا قدرت أنه لا يحسن غيره.
وينبغي للملك أن يكثر من فرش مرقده
…
كانت ملوك الفرس يجعلون للملك منهم أربعين فراشًا، في أربعين موضعًا مختلفةً، ليس فيها فراش يراه أحد إلا ويظن أنه فراش الملك، وأنه نائم فيه.
ولا ينبغي لأحد أن يطلع على الموضع الذي ينام فيه الملك إلا الوالدان خاصةً، أما الولد وسائر الأقارب فلا.
ومن كلام الفضل بن الربيع: "إياكم ومخاطبة الملوك بكلما يقتضي جوابًا؛ لأنهم إن أجابوكم اشتد عليهم، وإن لم يجيبوكم اشتد عليكم.
وقال معاوية لأبي الجهم العدوي: أنا أكبر أم أنت يا أبا الجهم؟ فقال: لقد أكلت في عرس أمك، قال: عند أي أزواجها؟.
قال في عرس حفص بن المغيرة، فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان، فإنه يغضب غضب الصغير، ويعاقب عقوبة الأسد، وأن قليله يغلب كثير الناس.
وقال عبد الله بن طاهر: من دخل إلى الملوك، فليدخل أعمى وليخرج
أخرس. وكان هرمز بن سابور يقول نحن كالنار من قاربها عظم عليه ضررها، ومن باعدها لم ينتفع بها. وقال أبو سلمة الخلال: وزير السفاح: خاطر من ركب البحر، وأشد منه مخاطرة من داخل الملوك".
وقال رستم: السيد إذا كلف عبده ما لا يطيقه، فقد أقام عذره في مخالفته، وقال سابور بن أزدشير: انحطاط ألف من علية الناس، أحمد عاقبةً من ارتفاع واحد من السفلة. وكان يقال: ينبغي على الملك أن يعنى بترفيه جسمه، وتحسين ذكره، وتنفيذ أمره.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن لله أقوامًا يختصهم بنعمه لمنافع العباد،
فيقرها في أيديهم ما بذلوها /، فإذا منعوها انتزعها منهم إلى غيرهم.
في كتب الفرس إن سألت فاسأل من كان في غنى، ثم افتقر، فإن عز الغني يبقى في قلبه أربعين سنة، ولا تسأل من كان في فقر ثم استغنى؛ فإن ذل الفقير يبقى في قلبه أربعين سنة.
وجد مكتوب على صنمٍ: حرامٌ على النفس الخبيثة أن تخرج من هذه الدنيا حتى تسئ إلى من أحسن إليها.
وقال عمر رضي الله عنه: أشقى الولاة من شقيت به رعيته، وكان يقول: لو ماتت سخلةٌ بشاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها.
وقال أبو مسلم الخولاني لمعاوية: يا معاوية إنك إن عملت خيرًا، جزيت خيرًا، وإن عملت شرًا، جزيت شرًا، إنك لو عدلت بين أهل الأرض، ثم جرت على واحدٍ منهم، لما وفي جورك بعدلك، ورأيت في سلوان المطاع.
روي أن سليمان بن عبد الملك قال لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين أعجبه ما صار إليه من الخلافة: يا عمر كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال عمر: يا أمير المؤمنين هذا سرورٌ لولا أنه غرور، ونعيمٌ لولا أنه عديمٌ، وملكٌ لولا أنه هلكٌ، وفرحٌ لو لم يعقبه ترحٌ، ولذات لو لم تقرن بآفات، وكرامة لو صحبتها سلامة، فبكى سليمان حتى اخضلت لحيته. وكان المنصور يقول: لذة العفو ألذ من لذة التشفي؛ لأن لذة العفو يتبعها حميد العاقبة، ولذة الانتقام يتبعها سوء العاقبة.
وكان المقتدر بالله يقول: لم يملكنا الله الدنيا لننسى نصيبنا منها، ولم يوسع علينا لنضيق على من في ظلالنا.
حكى أن ناصر الدولة الحمداني سخط على كاتب له، [وأمره بلزوم بيته، فاستؤذن في قطع معلومه، فقال: إن الملوك يؤدبون بالهجران، ولا يعاقبون بالحرمان، وخوطب خوارزم شاة في أسقاط جراية بعض خدمه، فقال: لا أحب توفير مالي بنقصان أتباعي.
وقال أنو شروان: مثل الملك الذي يعمر خزائنه بأموال رعيته، كمثل من يطين سطح بيته بالتراب الذي يقتلعه من أساسه وإذا رغبت الملوك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة.
وكان يقال: كيمياء الملوك العمارة، ولا تحسن لهم التجارة. وقال طهماسف: العمارة، كالحياة، والخراب كالموت، وبناء كل ملك على قدر همته، وأعقل الملوك أبصرهم بعواقب الأمور.
وقال بنو جمهر: الملك للرعية كالروح للجسد، والرأس للبدن. وقال خسرو ابن فيروز: قلوب الرعية خزائن ملكها، فما أودعه إياها وجده فيها.
وقال أفقور شاه: شجر الملك لا يثمر حتى يسقى بماء قلوب الرعية، وينبغي على الملك أن يعرف للناصح قدره، ويشكره ويظهر له بشره، فإن سمع فيه أقاويل الأعداء بطل نصحه، وكان له العذر، وقال أبو محمد العامري أحق الناس بالمودة، أبذلهم للنصيحة.
وقال الإسكندر: لا تستحقر بالرأي الجليل، يأتيك به الرجل الحقير؛ فإن الدرة الفائقة لا تستهان، لهوان غائصها.
وقال بطليموس الثاني: خذ الدرة من البحر، والذهب من الحجر، والمسك من الفارة، والحكمة ممن قالها.
وقال الأحنف: كل / ملكٍ غدار، وكل دابةٍ شرود، وكل امرأةٍ خؤون. وقال خاقان ملك الخرز: من طباع الملوك إنكارهم القبيح من غيرهم، واحتمالهم إياه من أنفسهم.
وقال خودرز: لا تثق بمودة الملوك؛ فإنهم يوحشونك من أنفسهم، أنس ما كنت منهم، وقال النعمان بن المنذر: الملك حلو المطعم، مر التكاليف.
وقال قابوس: لذة الملوك فيما لا يشاركهم فيه العامة من معالي الأمور.
وقال حكيمٌ: إذا ساوى (الوزير الملك) في زيه وماله وطاعة الناس له؛ فليصرعه، وإلا فليعلم أنه المصروع.
وقال آخر: من شارك السلطان في عز الدنيا، شاركه في ذل الآخرة.
وينبغي لمن خصه الله بمنصب الملك، أن يكون من (أشد الناس) خوفًا وإشفاقًا على نفسه، طويل الفكرة في عواقب الأمور، والنظر في مصالح المسلمين، ورفع الأذى عنهم؛ لأنه إمامهم وهم رعيته، وهو مسئول عنهم لا محالة.
روى أن لقمان عليه السلام: نودي إني جعلتك خليفة في الأرض. فقال: إن أجبرني ربي فسمعًا وطاعة، وإن خيرني اخترت العافية، (فأولاه الله العافية)، وصرف الخلافة عنه إلى داود عليه السلام، فكان إذا رآه داوود، يقول: وقيت الفتنة يا لقمان.
وروي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تضرعت إلى ربي سنة أن يريني أبي في النوم، حتى رأيته، وهو يمسح العرق عن جبينه، فسألته فقال: لولا رحمة ربي لهلك أبوك، إنه سألني عن عقال بعير الصدقة، وحياض الإبل، فكيف الناس؟ ".
ولما سمع بهذا عمر بن عبد العزيز صاح، وضرب يده على رأسه، وقال فعل هذا بالتقي الطاهر، فكيف بالمترف بن المترف عمر بن عبد العزيز.
تكون عاقبة أمره، وبماذا يختم به أجله؟، أخيرًا؟، أم شرًا والعياذ بالله تعالى؟، فهذه هي الليلة العظيمة التي تقصم الظهور، وتفتت القلوب، وتذيب الأكباد، وهي خوف نزع المعرفة من القلب، عند الخاتمة والعياذ بالله تعالى. فقد وقع ذلك لكثير من الأكابر المشهورين بالعلم والصلاح، نسأل الله السلامة.
ففي صحيح البخاري: ويذكر عن الحسن ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق.
روينا عن الحافظ أبي نعيم في كتابه الحلية، بسنده إلى وهب بن منبه، أنه قال في قوله تعالى:{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا ختم له بخير عمله، وإذا أراد به شرًا، ختم له بشر عمله نسأل الله حسن الخاتمة.
وحكى الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: في كتابه "منهاج العابدين"، وغيره عن يوسف بن أسباط. أنه قال: دخلت على سفيان الثوري. فبكى ليله